شرح التسهيل لابن مالك

ابن مالك

شرح التسهيل لابن مالك جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله الطائي الجياني الأندلسي (600 - 672هـ) تحقيق الدكتور عبد الرحمن السيد - الدكتور محمد بدوي المختون

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. قال الشيخ الإمام العلامة رئيس النحاة والأدباء جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي رحمه الله، حامدا الله ربه العليم، ومصليًا على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فإن بعض الفضلاء سألني أن أشفع كتابي المسمى بتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد بكتب تشتمل على ما خفى من مسائله، وتقرير ما اقتضى من دلائله، وعلى وجه يظفر معه بأتم البيان، ويستغنى فيه بالخبر عن العيان، فأحمدت ما أشار إليه، وعمدت إلى تحصيل ما نبه عليه، لأن الملتمس بعون الله هين، وإسعاف ذوي الأهلية متعين، والله المرجو لانقياد الحقائق، وإبعاد العوائق، لا اقتدار إلا بتقديره، ولا استبصار إلا بتبصيره، والله يحق الحق، وهو يهدي السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. باب شرح الكلمة والكلام وما يتعلق به ص: الكلمةُ لفظٌ مستقلٌّ دالٌّ بالوضع تحقيقا أو تقديرا، أو منوِيٌّ معه، كذلك وهي اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ. ش: الكلمة في اللغة عبارة عن كلام تام كقوله تعالى "وكلمة الله هي العليا" وكقوله عليه السلام "الكلمة الطيبة صدقة"، وعن اسم وحده، أو فعل وحده، أو حرف وحده. وهذا هو المصطلح عليه في النحو، وإياه قصد من تعرض لحد الكلمة.

فتصديره باللفظ مخرج للخط ونحوه مما هو كاللفظ في تأدية المعنى واللفظ أولى بالذكر من اللفظة، لأن اللفظ يقع على كل ملفوظ حرفًا كان أو أكثر، وحق اللفظة ألا تقع على حرف واحد، لأن نسبتها من اللفظ نسبة الضربة من الضرب. ولأن إطلاق اللفظ على الكلمة إنما هو من باب إطلاق المصدر على المفعول به كقولهم للمخلوق خلق، والمنسوج نسج، والمعهود في هذا استعمال المصدر غير المحدود بالتاء، ولذلك قلما يوجد في عبارة المتقدمين لفظة، بل الموجود في عباراتهم لفظ، كقول سيبويه في الباب الذي ترجمته: هذا باب اللفظ للمعاني: "واعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين" ثم قال: "فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين نحو: جلس وذهب". ولم يقل اختلاف اللفظتين، فتصدير حد الكلمة بلفظة مخل ومخالف للاستعمال المشهور، بخلاف تصديره بلفظ. والمراد ههنا بالمستقل ما ليس بعض اسم كياء زيد، وتاء مسلمة، ولا بعض فعل كهمزة أعلم، وألف ضارب. فإن كل واحد من هذه المذكورات لفظ دال بالوضع، وليس بكلمة لكونه غير مستقل. وقيدت الدلالة بالوضع احترازا من اللفظ المهمل كديز مقلوب زيد، فإنه يدل سامعه على حضور الناطق به وغير ذلك، دلالة عقلية لا وضعية. واحترز بذكر التقدير من أحد جزأي العلم المضاف كامرئ القيس، فإن مجموعه كلمة واحدة باعتبار المعنى، وكلمتان باعتبار اللفظ، لأن أحد جزأيه مضاف والآخر مضاف إليه، والمضاف والمضاف إليه لا يكونان إلا اسمين أو في تقدير اسمين، فامرؤ القيس اسم واحد تحقيقًا لأن مسماه لا يدرك بأحد جزأيه، وهو اسمان تقديرًا لأنه في اللفظ بمنزلة غلام زيد. وإنما ذكر التحقيق توطئة للتقدير.

والحاصل أن إطلاق الكلمة على ثلاثة أقسام: حقيقي وهو الذي لا بد من قصده. ومجازي مهمل في عرف النحاة وهو إطلاق الكلمة على الكلام التام، فلا يتعرض لهذا بوجه، ومجازي مستعمل في عرف النحاة وهو إطلاق الكلمة على أحد جزأي العلم المضاف، فترك التعرض له جائز، والتعرض له أجود لأن فيه مزيد فائدة. ولما كان الاسم بعض ما تتناوله الكلمة، وكان بعض الأسماء لا يلفظ بها كفاعل أفْعُل وتفْعَلُ، دعت الحاجة إلى زيادة في الرسم ليتناول بها ما لم يتناوله اللفظ فقيل "أو منوي معه" أي مع اللفظ، ومنوي صفة قامت مقام موصوفها والتقدير: الكلمة لفظ مقيد بما ذكر، أو غير لفظ منوي مع اللفظ، وأشير بكذلك إلى الدلالة والاستقلال المنبه عليهما، واحترز به من الإعراب المنوي في نحو: فتى، فإنه يصدق عليه أن منوي مع اللفظ المقيد إلا أنه غير مستقل ولا منزل منزلة مستقل، فإن الإعراب بعض الكلمة المعربة وإذا لفظ به لم يدخل في مدلولات الكلمة، فهو بأن لا يدخل حين لا يلفظ به أحق وأولى. ثم الكلمة إن لم تكن ركن الإسناد فهي حرف، وإن كانت ركنا له فإن قبلت الإسناد بطرفيه فهي اسم، وإلا فهي فعل. ص: والكلامُ ما تَضَمن من الكَلِم إسنادا مُفيدًا مَقْصُودًا لذاته. ش: صرح سيبويه في مواضع كثيرة من كتابه بما يدل على أن الكلام لا يطلق حقيقة إلا على الجمل المفيدة، فمن ذلك قوله: "واعلم أن قلتُ في كلام العرب إنما وقعت على أن يحكى بها ما كان كلاما لا قولا" عنى بالكلام الجمل، وبالقول المفردات، ولا يريد أن القول مخصوص بالمفردات، فإن إطلاقه على الجمل سائغ باتفاق. وقد سمى الاعتقاد قولا، لأن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره والقول قد لا يتم معناه إلا بغيره، بخلاف الكلام فإنه تام المعنى بنفسه، ولذلك أطلق على القرآن أنه كلام الله تعالى، ولم يطلق عليه أنه قول الله تعالى، وقد شاع إطلاق القول على ما لا يطلق عليه كلام كقول أبي النجم: قالت له الطير تَقَدَّمْ راشدًا ... إنك لا ترجع إلا حامدًا

وقال الآخر: فقالت له العينان سمعًا وطاعة ... وحدَّرتا كالدُّرِّ ما لم يثقَّب وبيَّن عنترة أن هذا الحال المعبر عنه بالقول ليس كلاما بقوله: لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ... ولكان لو علم الكلامَ مُكلمي وقد قسم سيبويه الكلام إلى: "مستقيم حسن نحو: أتيته أمس، وإلى مستقيم كذب نحو: حملت الجبل، وإلى مستقيم قبيح نحو: قد زيدًا رأيت، وإلى محال نحو: أتيتك غدًا، وإلى محال كذب نحو: سأحمل الجبل أمس". وزاد الأخفش الخطأ فقال: ومنه الخطأ نحو: ضربني زيد، وأنت تريد: ضربت زيدًا. والظاهر أن سيبويه لا يرى الخطأ كلامًا لخوه من القصد، ويؤيد رأيه قوله صلى الله عليه وسلم: "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو ذكرًا لله تعالى" فبين أن كل ما سوى هذه الثلاثة من كلام ابن آدم عليه، أي يؤاخذ به، وليس الخطأ أحد هذه الثلاثة، ولا يؤاخذ به لقوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) فليس بكلام، ولذلك لم يعتد بقول الذي غلبه الفرح فقال مخطئًا: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، بل عذره الرسول صلى الله عليه وسلم فقال (أخطأ من شدة الفرح) فإن أطلق على الخطأ كلام فعلى سبيل المجاز، وإطلاق سيبويه على نحو: حملت الجبل، كلاما أسهل من إطلاقه على الخطأ من وجهين: أحدهما كون أوله مستوفيا لقيود الكلام فلا يعتد بآخره بل يلغى، والثاني إمكان تأويله بالمبالغة في وصف

الجبل بالثقل في نحو: حملت الجبل، وبأن يكون التقدير في نحو: سآتيك أمس، سآتيك في مقابل أمس، لأن غدًا مقابل أمس، وكل ذلك مما قد يقصد، بخلاف الخطأ فإنه مناف للقصد. وقد صرح سيبويه وغيره من أئمة النحويين بأن ما لم يفد ليس بكلام مفردًا كان كزيد، أو مركبًا دون إسناد كعبدك وخير منك، أو مركبًا بإسناد مقصود لغيره نحو: إن قمت، أو مركبا بإسناد مقصود لا لغيره لكنه مما لا يجهله أحد نحو: النار حارة. فيلزم مَنْ تَعَرَّضَ لحدِّ الكلام أن يحترز من ذلك كله بإيجاز. فقولي: (ما تضمن من الكلم) إعلام بالجنس الذي منه الكلام، وأنه ليس خطًّا ولا رمزًا ولا نحو ذلك، وإنما هو لفظ أو قول أو كلم، فاللفظ أبعد الثلاثة لوقوعه على المهمل والمستعمل بخلاف القول والكلم، والقول مثل الكلم في القرب لتساويهما في عدم تناول المهمل، لكن قد يقع القول على الرأي والاعتقاد مجازًا، وشاع ذلك حتى صار كأنه حقيقة ثابتة، ولم يعرض هذا للكلم، فكان تصدير حد الكلام به أولى، لكن على وجه يعم المؤلف من كلمتين فصاعدًا، فلذلك لم أقل (الكلم المتضمن) لأن الكلم اسم جنس جمعي كالنبِق والطَرَف واللّبِن، وأقل ما يتناول ثلاث كلمات، وإنما قيل (ما تضمن من الكلم) فصدر الحد بما لصلاحيتها للواحد فما فوقه، ثم خرج الواحد بذكر تضمن الإسناد المفيد، فبقي الاثنان فصاعدا، وهو المراد. واحترز بمفيد مما لا فائدة فيه نحو: السماء فوق الأرض، وتكلم أمس. واحترز بمقصود من حديث النائم، ومحاكاة بعض الطيور الكلام. واحترز بأن قيل "مقصود لذاته" من المقصود لغيره كإسناد الجملة الموصول بها والمضاف إليها، فإنه إسناد لم يقصد هو ولا ما تضمنه لذاته بل قصد لغيره، فليس

كلاما بل هو جزء كلام، وذلك نحو: قاموا، من قولك: رأيت الذين قاموا، وقمت حين قاموا. وزاد بعض العلماء في حد الكلام "من ناطق واحد" احترازا من أن يصطلح رجلان على أن يذكر أحدهما فعلا أو مبتدأ، ويذكر الآخر فاعل الفعل، أوخبر المبتدأ، فإن مجموع النطقين مشتمل على ما اشتمل عليه مثله إذا نطق به واحد، وليس بكلام لعدم اتحاد الناطق، لأن الكلام عمل واحد، فلا يكون عامله إلا واحدا. وللمستغني عن هذه الزيادة جوابان: أحدهما أن يقول: لا نسلم أن مجموع النطقين ليس بكلام، بل هو كلام لاشتماله على قيود الكلام المعتبرة، وليس اتحاد الناطق معتبرًا، كما لم يكن اتحاد الكاتب معتبرًا في كون الخط خطا، فإنه لو اصطلح رجلان على أن يكتب أحدهما زيد، ويكتب الآخر فاضل، لكان المجموع خطا، فكذلك إذا نطق رجل بزيد، ونطق الآخر بفاضل، وجب أن يحكم على المجموع بأنه كلام، ولم يلزم من ذلك صدور عمل واحد من عاملين، لأن المخبر عنه غير المخبر به. فإن قيل: لو كان مثل ذلك كلاما كما هو الصادر من ناطق واحد لتساويا في الحكم، فكان يترتب على نطق المصطلحين ما يترتب على نطق الواحد من إقرار وتعديل وتجريح وقذف وغير ذلك، وذلك منتف، فبطل كون ذلك كلاما. فالجواب أن انتفاء ترتيب الحكم على الكلام لا يمنع كونه كلاما، فإن بعض الكلام صريح، وبعضه غير صريح، فنطق المصطلحين إن كان كلاما فهو غير صريح، لأن السامع لا يعلم ارتباط أحد جزأيه بالآخر، مكما يعلم ذلك من نطق الناطق الواحد، فلذلك اختلفا في الحكم. والثاني من جوابي المستغني عن تلك الزيادة أن يقال: كل واحد من المصطلحين المشار إليهما إنما اقتصر على كلمة واحدة اتكالا على نطق الآخر بالأخرى، فمعناهما مستحضر في ذهنه، فمجموع ذلك المعنى والكلمة التي نطق بها كلام، كما يكون كلاما قول القائل لقوم رأوا شبحًا: زيد، أي: المرئي زيد، فعلى هذا كل واحد

من المصطلحين متكلم بكلام، وقد تقدم أن من الكلام ما يكون أحد جزأيه غير منطوق به، فثبت أن الزيادة المذكورة مستغنى عنها. ص: فالاسمُ كلمةٌ يُسْنَدُ ما لمعناها إلى نفسِها أو نظيرِها. ش: الإسناد عبارة عن تعليق خبر بمخبر عنه، أو طلب بمطلوب منه، فإن كان باعتبار المعنى اختص بالأسماء، وقيل فيه: وضعي وحقيقي، كقولك: زيد فاضل. وإن كان باعتبار مجرد اللفظ صلح لاسم نحو: زيد معرب. ولفعل نحو: قام مبني على الفتح. ولحرف نحو: في حرف جر. ولجملة نحو: لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة. فقد ظهر بهذا لم قيل: "الاسم كلمة يسند ما لمعناها إلى نفسها"، فقيد الإسناد باعتبار المعنى لأنه خاص بالأسماء، بخلاف الإسناد باعتبار مجرد اللفظ فإنه عام. ولما كان من الأسماء ما لا يقبل الإسناد باعتبار المعنى كأسماء الأفعال والأسماء اللازمة للنداء والظرفية احتيج إلى زيادة في الرسم يتناول بها ما لا يتناول بدونها، فقيل "أو نظيرها" وليس المراد النظير ما وافق معنى دون نوع كالمصدر والصفة بالنسبة إلى الفعل، بل المراد ما وافق معنى ونوعا، كموافقة قول الآمر بالصمت سكوتا لقوله: صه. لكن صه لا يقبل الإسناد الوضعي ويقبله السكوت، فالمسند إلى السكوت بمنزلة المسند إلى صه لتوافقهما معنى ونوعا، وكذا المسند إلى كريم وفلان بمنزلة المسند إلى "مكْرَمان وفُلُ" وإن كان "مكرَمَان وفُلُ" لم يستعملا إلا في النداء، وهذا سبيل محاولة الإسناد إلى نظير ما تعذر الإسناد إليه بنفسه. ص: والفعلُ كلمةٌ تُسْنَدُ ابدا، قابلةٌ لعلامة فرعيَّة المسند إليه ش: صدر رسم الفعل "بكلمة" لأنه أقرب أجناسه كما في رسم الاسم، وخرج "بأبدا" ما يسند من الأسماء وقتا دون وقت، وذلك كثير. ولما كانت أسماء الأفعال

علامات الأسماء

مشاركة للأفعال في أنها تسند أبدًا احتيج في الرسم إلى زيادة مخرجة لما لم يخرج بدونها، فقيد الملازم للإسناد بكونه "قابلا لعلامة فرعية المسند إليه" كتاء التأنيث الساكنة، فإن عدم قبولها مميز لشتان من افترق مع توافقهما في المفهوم وملازمة الإسناد، وكياء المخاطبة فإن عدم قبولها مميز لدراكِ من أدرك مع توافقهما في المفهوم وملازمة الإسناد، ومثل الياء في الدلالة على فرعية المسند إليه وكون قبولها مميز الفعل الأمر من اسمه كالألف والواو والنون في: أدْرِكا وأدْرِكُوا وأدْرِكْن. وقد حكم سيبويه بفعلية هَلُمّ على لغة تميم لقولهم: هَلُمِّي وهَلُمَّا وهَلْمُمْنَ. وحكم باسميتها على لغة الحجازيين لأنهم يلزمونها التجريد، كلزومه عند الجميع في دراك وأخواتها. ص: والحرفُ كلمةٌ لا تقبل إسنادا وَضْعيا بنفسها ولا بنظير ش: صدر رسم الحرف "بكلمة" كما صدر رسم الاسم والفعل، ثم رسم الحرف بنفي قبوله للإسناد الوضعي احترازا من الإسناد غير الوضعي فإنه صالح لكل لفظ كما تقدم. وأطلق الإسناد لأن المراد نفي قبول الحرف له من طرفيه لأن الحرف لا يُسندُ ولا يُسنَد إليه، أعني إسنادًا وضعيا. ولما كان من الأسماء ما يشارك الحرف في كونه لا يسند ولا يسند إليه كالأسماء الملازمة للنداء احتيج في الرسم إلى زيادة تخرج ما لم يخرج بدونها. فقيل: "لا بنفسها ولا بنظير" لأن الأسماء المشار إليها لا تقبل الإسناد الوضعي بنفسها، ولكن تقبله بنظير كما تقدم، والحرف لا يقبله بنفسه ولا بنظير. ص: ويعتبر الاسم: بندائه، وتنوينه في غير رَوِيّ، وصلاحيته بلا تأويل لإخبار عنه أو إضافةٍ إليه، أو عودِ ضمير عليه، أو إبدال اسم صريح منه، وبالإخبار به مع مباشرة الفعل، وبموافقة ثابت الاسمية في لفظ أو معنى دون مُعارض. ش: يستدل بالنداء على اسميه ما له علامة غيره نحو: أيا زيد. وعلى اسمية ما لا علامة له غيره نحو: أيا مَكْرمان، واعتبار صحة النداء بأيا وهيا وأي وأي أولى من اعتبارها بيا، لأن يا قد كثرت مباشرتها الفعل والحرف نحو: يا حبذا، ويا ليتني.

وإنما اختص الاسم بالنداء لأن المنادى مفعول في المعنى، والمفعولية لا تليق بغير اسم. وأما التنوين فإما أن يدل على بقاء الأصالة، وهو تنوين الصرف كرجل وزيدٍ، فلا يلحق غير الاسم، إذ الأصالة له فيدل على بقائها. وإما أن يدل على تنكير ما هو صالح للتعريف كصه وأفّ فلا يلحق غير اسم لعدم الحاجة إليه. وإما أن يكون عوضًا عن مضاف إليه كحينئذ، فلا يلحق غير اسم لأن الإضافة من خصائصه. وإما أن يكون دليلا على مقابلة جمع مؤنث بجمع مذكر كمسلمات، فلا يلحق غير اسم لأن الجمع من خصائصه. وإما أن يكون عوضا من الإطلاق في رَويٍّ مطلق فلا يختص باسم، لأن الرَّوِي قد يكون بعض فعل، كما يكون بعض اسم، وذلك في لغة تميم، كإنشاد بعضهم: أقِلّي اللومَ عاذِلَ والعِتابنْ ... وقولي إنْ أصبت لقد أصابنْ وقد ذكِر أيضًا تنوينٌ سادس يسمى الغالي كإنشاد بعضهم: وقاتم الأعماق خاوي المخترقنْ ذكره الأخفش في كتب القوافي، وهو أيضًا غير خاص بالأسماء لأنه يلحق الروي المقيد سواء كان بعض اسم أو بعض فعل، فقد جاء الاحتراز بتقييد الخاص بالاسم بكونه في غير روي، وقد أنكر السيرافي الغالي، ونسب رواته إلى الوهم. ويتناول اعتبار الاسم بتعريفه التعريف بالأداة نحو: الرجل والغلام، وبالإضافة نحو: معاذ الله، ويا ويح من ليس له ناصر.

ولما كان في غير الأسماء لعلة ما يقبل الإضافة إليه والإخبار عنه بتأويل نحو قوله تعالى: (سواءٌ عليكم أدعوتموهم) (وأن تصوموا خير لكم) (ويومَ نسيِّر الجبال) لم يكن بُد من أن يقال: "بلا تأويل" ليعلم أن المحوج إلى التأويل حين يُخبر عنه أو يُضاف إليه ليس باسم، بل مؤول به. واعتبار الاسم بعود الضمير كالاستدلال على اسمية مهما بعود الضمير عليها في قوله تعالى "مهما تأتنا به من آية" وكالاستدلال على اسمية ما في: ما أحسن زيدا، بعود ضمير الفاعل المستكن في أحسن إلى ما، والضمير لا يعود إلى غير اسم. ومن دلائل الاسمية وقوع اسم صريح بدلا مما لم يتبين اسميته نحو: كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم؟ فصحيح اسم صريح لقبوله علامات الاسم كلها، وهو مبدل من كيف بدل الشي على سبيل التفصيل، ولا يبدل الاسم إلا من اسم، ولما كان بدلا من اسم مضمن معنى همزة الاستفهام وجب أن يقرن هو بها، كما يجب ذلك في المبدل من كل اسم مضمن معنى الاستفهام نحو: من عندك؟ أزيد أم عمرو؟ وأين خالد؟ أعندك أم في بيته؟ ومتى سفرك؟ أغدا أم بعد غد؟ وكم مالك؟ أعشرون أم ثلاثون؟ ومن دلائل الاسمية الإخبار بالكلمة مع مباشرة الفعل نحو: كيف كنت؟ وخروجُ زيد إذا خرجت، فكيف خبر كان، وإذا خبر المبتدأ الذي هو خروج زيد، وكلاهما مباشر لفعل، فالإخبار بهما ينفي الحرفية، ومباشرة الفعل تنفي الفعلية، فتعينت الاسمية. ومن دلائل الاسمية موافقة ثابت الاسمية في وزن يخص الاسم نحو: وَشكان، وبُطْآن، فإنهما من أسماء الأفعال، ويدل على اسميتهما كونهما على وزن يخص الأسماء مع انتفاء الحرفية لكونهما عمدتين، والحرف لا يكون عمدة.

ومن دلائل الاسمية موافقة ثابت الاسمية في معناه دون معارض، كموافقة قد لحسب في قولهم: قَدْك، وقَدْ زيدٍ درهمٌ، فقد بمعنى حسب دون معارض، وحسب ثابت الاسمية متمكن فيها، فوجب كون قد اسما، بخلاف واو المصاحبة في نحو: استوى الماء والخشبة، فإنها بمعنى مع، ولا تلحق بها في الاسمية لأن موافقة الاسمية عارضها كون الأسماء ليس فيها ما هو على حرف واحد إلا وموقعه موقع العجز لا موقع الصدر، كتاء الضمير ويائه وكافه، وإنما يقع موقع الصدر ما هو حرف كباء الجر ولامه وكافه، وفاء العطف وواوه، فلو حكم على واو المصاحبة بالاسمية لزم عدم النظير، بخلاف الحكم عليها بالحرفية، والعلامة اللفظية مرجحة على المعنوية، ولذا حكم على وَشْكان وبُطآن بالاسمية مع موافقتهما لوَشَك وبَطُؤَ في المعنى، وحكم على عسى بالفعلية لاتصالها بضمير الرفع البارز وتاء التأنيث الساكنة مع موافقتها لعل في المعنى، وأمثال ذلك كثير. ص: وهو لعَيْنٍ أو مَعْنَى اسما أو وصفا ش: هو من "وهو لعين أو معنى" راجع إلى الاسم المرتفع، فيعتبر. لما فرغ من ذكر علامات الاسم شرع في بيان ما وضع له على سبيل الإجمال، فقال: وهو لعين أو معنى، ثم بيّن أن الدال على عين إما دال عليه دون تَعَرُّض لقيد، وهو المعبر عنه باسم عين كرجل أو امرأة. وإما دال عليها مع قيد، وهو المعبر عنه بوصف العين كعالم وحاكم. وكذا الدال على معنى إما دال عليه دون تعرض لقيد وهو المعبر عنه باسم معنى كعِلْم وحِلم، وإما دال عليه مع قيد وهو المعبر عنه بوصف المعنى كجَليٍّ وخفِيّ، ولا يخرج عن هذا م الأوصاف ما يصلح للعين والمعنى كنافع وضار، ومن هذا القبيل ضمير الغائب، وبعض أسماء الإشارة والموصولات.

علامات الأفعال

ص: ويعتبر الفعل: بتاء التأنيث الساكنة، ونون التوكيد الشَّائع، ولزومه مع ياء المتكلم نون الوقاية، وباتصاله بضمير الرفع البارز. ش: تاء التأنيث الساكنة علامة تمييز الفعل الماضي متصرفا كان أو غير متصرف، ما لم يكن أفْعل التعجب نحو: زكت هند فعست أن تفلح، ونعمت المرأة هي. ونون التوكيد علامة للفعل، وتلحق منه المضارع والأمر نحو: لا نَفْعَلَنَّ واذكُرَنَّ الله. وقد تلحق الفعلَ الماضيَ وضعًا المستقبلَ معنًى نحو قوله صلى الله عليه وسلم "فإما أدْرَكَنَّ واحدٌ منكم الدجال" فلحقت أدرك وإن كان بلفظ الماضي لأن دخول إما عليه جعله مستقبل المعنى، وكذا قول الشاعر: دامَنَّ سعدُكِ إن رحِمْتِ متيّمًا ... لولاكِ لم يك للصبابة جانحا فلحقت دام لأنه دعاء، والدعاء لا يكون إلا بمعنى الاستقبال، وقد تلحق أفعل في التعجب كقول الشاعر: ومُسْتَبْدِلٍ من بعد غَضْيا صُرَيْمَة ... فأحْرِ به من طُول فَقرٍ وأحْرِيا أراد أحْرِيَنْ بنون التوكيد الخفيفة، فأبدلها للوقف ألفا. وقيد نون التوكيد بالشائع احترازا من شذوذ لحاقها اسم الفاعل في قول الراجز، أنشد ابن جني، أريْتَ إن جاءتْ به أُمْلُودا ... مُرَجّلاً ويلبَسُ البُرُودا ... أقائِلُنَّ أحْضِروا الشُّهودا

ونون الوقاية اللازمة علامة للفعل، وتلحق منه المتعدي ماضيا كان نحو: أكرمتني، أو مضارعا نحو: تكرمني، أو أمرا نحو: أكرمني. فإن كان اتصالها غير لازم لم يستدل به على الفعلية، لأنها تلحق على سبيل الجواز فعلا وغير فعل. ولا تلحق على سبيل اللزوم إلا فعلا، وسيأتي بيان ذلك في المضمرات. والاتصال بضمير الرفع البارز علامة قاطعة لا يشارك الفعلَ فيها غيره، وهي وتاء التأنيث الساكنة مميزان لأسماء الأفعال من الأفعال، فأي كلمة دلت بنفسها على حدث ماض وقبلت تاء التأنيث الساكنة فهي فعل ماض كبعد وافترق وإن لم تقبله ولم تكن أفعل تعجب فهي اسم كهَيْهات وشَتّان. وأي كلمة دلت على الأمر وقبلت الاتصال بضمير الرفع البارز فهي فعل كاسكت وأدْرِك، فإن لم تقبله فهي اسم كصه ودراك. ص: وأقسامه: ماضٍ، وأمرٌ، ومضارع ش: لما كَمَّل ما يُحْتاجُ إليه من علامة الفعل شرع في بيان أقسامه الأولية التي تترتب عليها معرفة ما هو منها مبني وما هو منها معرب، وما هو منها مبهم وما هو منها مختص بأحد الأزمنة. وجعل الماضي أولا في الذكر، والأمر ثانيا والمضارع ثالثا، كما فعل سيبويه رحمه الله حين قال: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ ثم أحداث الأسماء وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع" ثم مثل لما مضى بذهب، ولما يكون ولم يقع باذهب وتذهب ثم بين أن تذهب وشبهه يراد به الحال أيضا، وكأن سيبويه لحظ في هذا الترتيب أن المضارع لا يخلو من زيادة، وأن الماضي والأمر يخلوان منها كثيرا نحو: ضَرَب وشَرِب وقَرُب ودحرج، وخَفْ وبِعْ وقل ودحْرج، والتجرد من الزيادة متقدم على التلبس بها، فقدم ماله في التجرد نصيب على مالا نصيب له فيه، وتجرد الماضي أكثر من تجرد الأمر فقُدِّم عليه. وأيضا فإن كل واحد من الماضي والأمر إذا تجرد من القرائن وفى بما يقصد به على سبيل

التنصيص، بخلاف المضارع فإنه لا يفي ببيان ما قصد به على سبيل التنصيص إلا بقرينة، فكان أضعف منهما فأخر. وأيضا فإن كل حادث مسبوق بأراد، ثم بكُنْ، ثم يعبر عنه بيكون لقوله تعالى "إنما أمرُه إذا أراد شيئا أن يقولَ له كن فيكونُ"، فاستحق الماضي لشبهه بأراد التقدم، والأمر لشبهه بكُنْ التوسط، والمضارع لشبهه بيكون التأخر. ص: فيُمَيِّزُ الماضي التاءُ المذكورة، والأمرَ معناه ونون التوكيد، والمضارعَ افتتاحُه بهمزة المتكلم مجردًا، وبنون له معظّما أو مُشارَكا، وبتاء المخاطب مطلقا وللغائبة والغائبتين، وبياء المذكر الغائب مطلقا والغائبات ش: التاء المذكورة هي تاء التأنيث الساكنة، وقد تقدم الإعلام بأنها علامة تميز الفعل الموضوع للمضي متصرفا كان كضرب، أو غير متصرف كنعم. ولم تلحق فعل الأمر للاستغناء عنها بياء المخاطبة نحو: افعلي، ولا المضارع للاستغناء عنها بتاء المضارعة نحو: هي تفعل، ولأنها ساكنة والمضارع يسكن للجزم فلو لحقته التقى فيه ساكنان، ولأن لحاقها للاسم أصل إذ مدلولها فيه بخلاف مدلولها إذا لحقت الفعل فإنه في الفاعل، وفتح ما قبلها في الاسم لازم، فوجب ذلك في الفعل المفتوح الآخر وضعا وهو الماضي، وبهذه التاء يتميز ما يدل على حدث ماض وهو فعل كافترق، مما يدل على حدث ماض وهو اسم كشتان. ولما كانت الدلالة على الأمر تستفاد من فعل كانزل، ومن اسم كنزال، دعت الحاجة إلى ما يميز الفعل ونو نون التوكيد، فأي كلمة دلت على الأمر وصلحت لها فهي فعل، وإلا فهي اسم، فلذلك حكم باسمية نزال ودراك مع مساواتهما لانزل وأدرك في المعنى، وشارك فعل الأمر في لحاق نون التوكيد الفعلُ المضارع، لكن فعل الأمر يؤكد لهما لمجرد كونه على صيغة الأمر، ولا يؤكد بهما المضارع إلا بسبب عارض يسوغ له ذلك كوقوعه جواب قسم، واقترانه بحرف طلبي.

واعلم بأن المضارع يميزه من غيره صلاحيته لأن تدخل عليه السين أو سوف أو لم أو لن أو كي، وافتتاحه ببعض "نأتي" بشرط أن تشعر الهمزة بأنا، والنون بنحن، والتاء بحضور أو تأنيث، والياء بغيبة. والإحالة على الافتتاح بأحد هذه الأحرف المشعرة بما ذكر أولى من الإحالة على سوف وأخواتها، لأن افتتاحه بأحد الأحرف الأربعة لازم لكل مضارع، وليست الصلاحية لسوف وأخواتها لازمة، إذ من الأفعال المضارعة ما لا يدخله شيء منها كأهاء وأهلم، فإنهما فعلان مضارعان لافتتاحهما بالهمزة المشعرة بأنا، ولا يقعان في كلام العرب غالبا إلا بعد لا أو لم، كقول من قيل له: هأ وهلم: لا أهاء ولا أهاء، ولا أهلم ولا أهلم. وتقييد الأحرف الأربعة بالمعاني المذكورة واجب، لأن أمثالها في اللفظ قد يفتتح بها الماضي نحو: أكرَمَ وتَكَرَّم. ونَرْجَسَ الدواء إذ جعل فيه نرْجِسا، ويَرْنأ الشيب إذا خضبه باليُرنّاء وهو الحناء، ولكنها لا تشعر بالمعاني المذكورة، فلم يكن ما افتتح بها مضارعا بل ماضيا. ص: والأمر مستَقْبَلٌ أبدا، والمضارعُ صالح له وللحالِ، ولو نُفي بلا خلافا لمن خصهما بالمستقبل. ش: لما كان الأمر مطلوبا به حصول ما لم يحصل كقوله تعالى: "قمْ فأنذِر" ودوام ما حصل كقوله تعالى "يا أيُها النّبي اتقِ الله" لزم كونه مستقبلا، وامتنع اقترانه بما يخرجه عن ذلك. وأيضا فإن الفعل فعل بدلالته على الحدث والزمان المعين، وكون أمرا أو

خبرا معنى زائد على ذلك مطلوب بقاؤه، إذ لا يمتاز أحد النوعين من الآخر إلا به، والاستقبال لازم للأمرية، فلو انتفى بتبدله انتفت الأمرية، بخلاف الخبرية المستفادة من الماضي والمضارع فإنها لا تنتفي بتبديل المضي باستقبال، والاستقبال بمضي، وكون المضارع مستقبلا جَليٌّ، بخلاف كونه حالا فإن فيه إشكالا، لأن كثيرا من الناس يعتقدون أن الحال هو المقارن وجود معناه لوجود لفظه، وليس كذلك، لأن مدة وجود اللفظ لا تتسع لوجود معنى الفعل، ولاشترط ذلك في المضارع المراد به الحال، بل جوز في كل فعل طالت مدته أو قصرت. وأيضا فإن المخبر الفعل الماضي يتقدم شعوره بمضيه على التعبير عنه، والمخبر بالمستقبل يتقدم شعوره باستقباله على التعبير عنه، فكذا المخبر بالحال لا بد من تقدم شعوره بحاليته على التعبير عنه، وذلك موجب لعدم المقارنة المتوهمة، بل مقصود النحويين أن الحال ما قارن وجود لفظه لوجود جزء من معناه، كقولنا: هذا زيد يكتب، فيكتب هنا مضارع بمعنى الحال، ووجود لفظه مقارن لوجود بعض الكتابة لا جميعها، وعبر بالحال عن اللفظ الدال على الجميع لاتصال أجزاء الكتابة بعضها ببعض، لأن أجزاءه المستقبلة مَدَّة لجزئه المقارن، ولما كان بعض مدلول المضارع المسمى حالا مستأنفة الوجود أشبه المستقبل المحض في استئناف الوجود، فاشتركا في صيغة المضارع اشتراكا وضعيا لأن إطلاقه على كل واحد منهما لا يتوقف على مسوغ من خارج، بخلاف إطلاق المضارع مرادا به المُضيّ، وإطلاق الماضي مرادا به الاستقبال، فإن ذلك يتوقف على مسوِّغ من خارج نحو: لو تقوم أمس لقمت، وإن قمت غدا قمت، فلولا "لو" و"إن" ما ساغ إعمال تقوم في أمس، ولا قمت في "غدا". وإذا نفى المضارع بلا لم يتعين الحكم باستقباله بل صلاحية الحال باقية، رُوي ذلك عن الأخفش نصا، وهو لازم لسيبويه وغيره من القدماء لاجتماعهم على صحة

قول القائل: قاموا لا يكون زيدا، بمعنى: إلا زيدا. ومعلوم أن المستثني مُنْشِئٌ للاستثناء، والإنشاء لا بد من مقارنة معناه للفظه، و"لا يكون" هنا استثناء فمعناه مقارن للفظه، فلو كان النفي بلا مُخَلِّصا للاستقبال لم تستعمل العرب "لا يكون" في الاستثناء لمباينته الاستقبال. ومثل هذا الإجماع إجماعهم على إيقاع المضارع المنفي بلا في مواضع تنافي الاستقبال نحو: أتظن ذلك كائنا أم لا تظنه؟ وأتحبه أم لا تحبه؟ ومالك لا تقبل وأراك لا تبالي، وما شأنك لا توافق؟ ومثل ذلك في القرآن كثير كقوله تعالى "وما لنا لا نؤمن بالله" و"لا أجد ما أحملكم عليه" و"والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا" و"ومالكم لا تؤمنون" و"مالكم لا ترجون" و"مالي لا أرى الهدهد" و"مالي لا أعبد". وهو في غير القرآن أيضًا كثير، ومنه قول الشاعر: يرى الحاضرُ الشاهدُ المطمئن ... من الأمرِ ما لا يرى الغائب وقال آخر: إذا حاجةٌ وَلّتْك لا تستطيعها ... فَخُذْ طَرفًا من غيرِها حين تَسْبِق وقال آخر: كأن لم يكنْ بَينٌ إذا كان بعده ... تَلاقٍ ولكنْ لا إخالُ تلاقيا

والذي غَرّ الزمخشريَّ وغيرَه من المتأخرين قولُ سيبويه في باب نفي الفعل (وإذا قال: هو يفعل أي هو في حال فعل فإن نفيه ما يفعل. وإذا قال: هو يفعل، ولم يكن الفعل واقعًا فإن نفيه: لا يفعل) فاستعمل (ما) في نفي الحال و (لا) في نفي المستقبل، وهذا لا خلاف في جوازه، وليس في عبارته ما يمنع من إيقاع غثر (ما) موقع (ما) ولا من إيقاع غير (لا) موقع (لا) وقد بيَّن في موضع آخر أن (إنْ) النافية مساوية لما، فيلزم من ذلك أن تستعمل لنفي الحال كما تستعمل (ما) وبَين أيضًا أن (لن) لنفي سيفعل، فيلزم من ذلك موافقتها للا، ولم يتعرض لذلك في باب نفي الفعل، فلا يوجب ذلك عدم جوازه فكذا لا يجب من تخصيص ما يقع على الحال امتناع نفيه بغير (ما)، ولكنه قصد في باب نفي الفعل التنبيه على الأولى في رأيه، والأكثر في الاستعمال، وذلك أن استعمال (ما) في النفي أكثر من استعمال (إنْ)، ونفي الحال بها أكثر من نفيه بلا، وكذلك "لا" في المثال المذكور راجحة على "لن" من قبل مشاركة اللفظ، لأن الفعل المتقدم مرفوع، فإذا نفي الثاني بلا قوبل مرفوع بمرفوع، فيكون الفاعلان متشاكلينن وإذا نفي بلن قوبل مرفوع بمنصوب فتفوت المشاكلة وهي مهمة في كلامهم، حتى حملهم الاهتمام بها على إخراج الشي عن أصله نحو قولهم: أخذه ما قَدُم وما حَدُث، فضموا "دال" حدث لتشاكل "دال" قدم، ولو أفرد حدث تعين فتح داله، وقد قال سيبويه في باب عدة ما يكون عليه الكلم: "وتكون (لا) ضدًا لنعم، وهذا إشعار بعدم تقيدها في النفي بزمان دون زمان، كما لا يتقيد نعم، لأن نعم تصديق لما قبلها ماضيا كان أو حاضرًا أو مستقبلا نحو: أقام زيد؟ وأتظنه قائمًا؟ وأتسافر غدًا؟ فنعم بعد الثلاثة الأفعال مقتضية لثبوت القيام الماضي، والظن الحاضر، والسفر المستقبل، ولا بعدهن مقتضية لنفيهن، على أن كلام سيبويه لو كان صريحًا في أن

المضارع المنفي بلا لا يكون إلا مستقبلا لم يجز الأخذ به بعد وجود الأدلة القاطعة بخلاف ذلك كما قدمنا. ص: ويَترجّحُ الحالُ مع التجريد، ويتعين عند الأكثر بمصاحبة الآن وما في معناه، وبلام الابتداء، ونفيه بليس وما وإن. ش: لما كان للماضي في الوضع صيغة تخصه كفعَل، وللمستقبل صيغة تخصه كافْعَلْ ولم يكن للحال صيغة تخصه، بل اشترك مع المستقبل في المضارع، جعلت دلالته على الحال راجحة عند تجريده من القرائن، ليكون جابرًا لما فاته من الاختصاص بصيغة، وإذا كان التجرد من قرائن الحال وقرائن الاستقبال مرجحًا للحال، فوجدان قرينة من قرائنه تؤكد الترجيح، فيصير الحال بها متعينًا، كإعمال المضارع في الآن وما في معناه نحو: زيد يصلي الآن والساعة، وكذا اقترانه بلام الابتداء نحو: إني لأحبك، ونفيه بليس كقول الشاعر: فلست وبيتِ الله أرضى بمثلها ... ولكنَّ مَنْ يمشي سَيَرْضَى بما رَكِبْ ونفيه ما كقوله تعالى: (وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بي ولا بكم) وبإنْ كقوله تعالى: (وإن أدري أقريبٌ أم بعيدٌ ما تُوعَدُون). وبعض العلماء يجيز بقاء المقرون بالآن مستقبلا، لأن الآن قد تصحب فعل الأمر مع أن استقباله لازم كقوله تعالى (فالآن باشروهن) فعبر بالآن عن المدة التي رفع فيها الحرج عن المباشرين نساءهم في ليالي الصوم، وعن مدة بلوغ ذلك المخاطبين، وعن المدة التي تقع فيها المباشرة، لأن الآن ليس عبارة عن المدة المقارنة لنطق الناطق فحسب، بل الآن عبارة عن مدة ما حضر كونه، فلو أن الكائن لا يتم كونه إلا في شهر فصاعدا جاز أن يقال فيه: الآن هو كائن، ومنه

قوله تعالى (فمن يستمع الآن يجدْ له شهابًا رصدًا) ومنه قول علي رضي الله عنه في الخضاب: كان ذلك والإسلامُ قُلٌّ، فأما الآن فقد اتسع نطاق الإسلام، فامرؤ وما اختار. وإذا ثبت هذا فقد يقال: الآن يكون كذا، يقصد التعبير بالآن عن المدة التي يقع الكون في بعضها، أو يقصد المبالغة في القرب، إلا أن هذا خلاف الظاهر. وأما لام الابتداء فمُخلصةٌ للحال عند أكثرهم، وليس كما ظنوا، بل جائز أن يراد الاستقبال بالمقرون بها كقوله تعالى (وإن ربَّك ليحكمُ بينهم يومَ القيامة) و (إني لَيَحْزُنُني أن تذهبوا به) فيحزن مقرون بلام الابتداء وهو مستقبل، لأن فاعله الذهاب، وهو عند نطق يعقوب عليه السلام بيحزن غير موجود، فلو أريد بيحزن الحال لزم سبق معنى الفعل لمعنى الفاعل في الوجود، وهو محال. والأكثرون أيضا على أن النفي بليس وما وإنْ قرينة مخلصة للحال، مانعة من إرادة الاستقبال، وليس ذلك بلازم، بل الأكثر كون المنفي بها حالا، ولا يمتنع كونه مستقبلا، كما قال حسان في وصف الزبير رضي الله عنهما: وما مثلُه فيهم ولا كان قبله ... وليس يكونُ الدَّهرَ ما دام يَذْبُل أي ما في هذا العصر مثله، ولا كان فيما مضى، ولا يكون فيما يستقبل، وهذا جلِيٌّ غير خفي، ومثله قولُ الآخر: والمرءُ ساعٍ لأمرٍ ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاقٌ وتأميلُ

وقال تعالى في استقبال المنفي بما وإن (قل ما يكونُ لي أن أبَدِّلَهُ من تِلقاء نفسي إنْ أتَّبعُ إلا ما يُوحَى إلي) وقال أبو ذؤيب: أوْدَى بَنِيَّ وأعقبوني حسرةً ... عند الرُّقاد وعبرة ما تُقْلِع وقال النابغة الجعدي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: له نائلاتٌ ما يَغبُّ نوالُها ... وليس عطاءُ اليوم مانعه غدا وقال رجل من بني طيء: فإنك إن يعرُوك مَن أنت مُحْسِبٌ ... ليزدادَ إلا كان أظْفَرَ بالنُّجح أي ما ينزل بك من أحسبته بالعطاء، أي أعطيته عطاء كان كافيا ليزداد على الكفاية إلا كان أظفر بالنجح، فالمنفي بإن هنا مستقبل لا شك في استقباله. ص: ويَتَخَلَّصُ للاستقبال بظرفٍ مستَقبل، وبإسناده إلى مُتَوقَّع، وباقتضائه طلبا أو وعدا، وبمصاحبة ناصب، أو أداة ترج أو إشفاق أو مجازاة، أو لو المصدرية، أو نون توكيد، أو حرف تنفيس وهو السين أو سَوْف أو سَفْ أو سَوُ أو سَيْ. ش: تخلص الاستقبال بظرف مستقبل على ضربين: أحدهما أن يكون الفعل عاملا في الظرف، والثاني أن يكون الظرف مضافًا إلى الفعل نحو: أزورك إذا تزورني، فأزورك عامل في إذا، وهو ظرف مستقبل مضاف إلى تزورني، فتخلصا به للاستقبال.

وتخلص الاستقبال بإسناد الفعل إلى متوقع كقول الشاعر: يَهُولك أن تموتَ وأنت مُلْغٍ ... لما فيه النجاةُ من العذاب وباقتضائه طلبا كقوله تعالى (والوالداتُ يُرْضعنَ) أو وعدا كقوله تعالى (يُعَذِّبُ من يشاء ويرحم من يشاء). وبمصاحبة ناصب من نواصبه وهي: أن ولن وكي وإذن، وليست المصاحبة للناصب مقصورة على الظهور، بل تتناول المصاحبة ظهور الناصب نحو قوله تعالى: (وأن تصوموا خيرٌ لكم) وتقديره نحو (ليبين لكم ويهديكم) أي: لأن يبين وأن يهدي، فالاستقبال متخلص بمصاحبة ناصب مقدر كتخلصه بمصاحبة ناصب ظاهر. ويتخلص الاستقبال أيضا بأداة ترج نحو قوله تعالى: (لعلي أرجعُ إلى الناس لعلهم يعلمون) وكقول الشاعر: فقلتُ أعيروني القَدومَ لعلني ... أخُطُّ بها قبرا لأبيضَ ماجد وبأداة إشفاق كقوله: فأمّا كَيِّسٌ فَنَجا ولكنْ ... عَسَى يغترُّ بي حَمِقٌ لئيم ولا فرق بين الرجاء والإشفاق في اللفظ بل في المعنى، لأن المرجو محبوب، والمشفق منه مكروه.

وتخلص الاستقبال بالمجازاة كثير كقوله تعالى (إن يَشَا يُذْهِبْكم ويأت بخلق جديد) وبلو المصدرية كقوله تعالى (يوَدُّ أحدُهم لو يُعَمَّر ألف سنة) وعلامة المصدرية أن يحسن في موضعها أنن واحترز بتقييدها من لو الدالة على امتناع لامتناع، فإن تلك تؤثر ضد ما تؤثر هذه، وسنبين ذلك. والتخلص بنون التوكيد كقوله تعالى: (ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشِّر الصابرين). والتخلص بحرف التنفيس كقوله تعالى (ولسوف يعطيك ربُّك فترضى) و (سنقرئك فلا تنسى)، وجاء عن العرب: سف أفعل، وسَوْ أفعل، وسَيْ أفعل وهي أغربهن، حكاها صاحب المحكم. واتفقوا على أن أصل سف وسو وسَي سوف، وزعموا أن السين أصل برأسها غير مفرعة عن سوف، ولكنها منها كنون التوكيد الخفيفة من نون التوكيد الثقيلة وهذا عندي تكلف ودعوى مجردة عن الدليل، وليس كذلك القول بأن نون التوكيد الخفيفة أصل برأسها، لأن الذي حمل على ذلك أنا رأينا الخفيفة تنفرد بمعاملة لا تعامل بها الثقيلة، كحذفها عند ملاقاة ساكن نحو أن تصل "قُومَنْ" باليوم، فإنك تقول: قومَ اليوم، فتحذف النون لالتقاء الساكنين، ولو كانت مخففة من الثقيلة لكان حذفها بعد الحذف منها إجحافا، ومثل ذلك فيما شأنه أن يُعل ممتنع، فما ليس شأنه أن يعل أحق أن يمتنع ذلك فيه، فلما لم يمتنعوا من معاملة الخفيفة بهذه المعاملة علم أنها أصل برأسها. وبدليل آخر أيضًا وهو أن الخفيفة إذا انفتح ما قبلها وقف عليها مبدلة ألفا كقول القارئ في (لنسفعنْ): "لنسفعا" ولو كانت مخففة من الثقيلة لم يجز أن تبدل

ألفا، لأن إبدال الباقي بعد الحذف تغيير ثان، وذلك إجحاف أيضًا لا يسوغ مثله فيما هو من جنس ما يحذف منه ويزاد عليه، فكيف يسوغ فيما ليس كذلك؟ فلما كان القول بأن النون الخفيفة فرع الثقيلة مفضيا إلى هذا المحذور وجب اطراحهن والقول بأن السين فرع سوف لا يفضي إلى مثل ذلك فوجب قبوله والتمسك به لأنه أبعد من التكلف. وأيضًا فقد أجمعنا على أن: سَفْ وسَوْ وسَيْ عند من أثبتها فروع سوف، فلتكن السين أيضًا فرعها، لأن التخصيص دون مخصص مردود، ويكون هذا التصرف في سوف بالحذف شبيها بما فعل بأيمن الله في القسم حين قيل: ايْمُ الله، وامُ الله، ومُنُ الله، ومُ الله، وقريبًا من قولهم في حاشى: حاش، وحشا، وفي: أُفَّى: أُفَّهْ وافْ. وقال بعضهم: لو كانت السين فرع سوف كسف وسو لكانت أقل استعمالا منها لأنها أبعد من الأصل، وهما أقرب إليه إذ الحذف فيهما أقل، والأصل أحق بكثرة الاستعمال من الفرع، والفرع الأقرب أحق بها من الأبعد. قلت: هذا تعليل ضعيف لأن من الفرع ما يفوق الأصل بكثرة الاستعمال كنِعْم وبئس فإنهما فرعا نَعِم وبَئِس، وهما أكثر استعمالا. وكأخ وأب المنقوصين فإنهما فرعا المقصورين، والمنقوصان أكثر استعمالا، وأمثال ذلك كثيرة. وإذا جاز أن يفوق فرع أصلا بكثرة الاستعمال، فأن يفوق فرع فرعًا أولى. وقال بعضهم: لو كانت السين بعض سوف لكانت مُدَّةُ التسويف بهما سواء، وليس كذلك، بل هي بسوف أطول، فكانت كل واحدة منهما أصلا برأسها. قلت: وهذه دعوى مردودة بالقياس والسماع: فالقياس أن الماضي والمستقبل متقابلان، والماضي لا يقصد به إلا مطلق المضي دون تعرض لقرب الزمان وبعده، فينبغي ألا يقصد بالمستقبل إلا مطلق الاستقبال دون تعرض لقرب الزمان وبعده ليجري المتقابلان على سنن واحد، والقول بتوافق سيفعل وسوف يفعل مصحح لذلك، فكان المصير إليه أولى، وهذا قياس.

وأما السماع فإن العرب عبرت بسيفعل وسوف يفعل عن المعنى الواحد الواقع في وقت واحد، فصح بذلك توافقهما وعدم تخالفهما، فمن ذلك قوله تعالى (وسوف يُؤتِي الله المؤمنين أجرا عظيما) وقوله تعالى (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيُدخلهم في رحمة منه وفضل) وقوله تعالى (كلا سيعلمون) و (كلا سوف تعلمون) ومنه قول الشاعر: وما حالةٌ إلا سَيُصْرَفُ حالها ... إلى حالة أخرى وسوف تزول فهذا كله صريح في توافق سيفعل وسوف يفعل في الدلالة على مطلق الاستقبال دون تفاوت من قرب وبعد، إلا أن سيفعل أخف، فكان استعمالها أكثر. ص: وينصرف إلى المضي بلم، ولمّا الجازمة، ولو الشرطية غالبًا، وبإذ، وبربما، وقد في بعض المواضع. ش: المضارع المنفي بلم ولما ماضي المعنى بلا خلاف، وهل كان ماضي اللفظ فتغير لفظه دون معناه، أو لم يزل مضارعًا فتغير معناه دون لفظه ففي ذلك خلاف، والأول قول ضعيف لا نظير له، والثاني هو الصحيح لأنه نظير ما أجمع عليه في الواقع بعد لو وربما وإذا كقول الله تعالى (ولو يؤاخذُ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة) وكقول كثير: لو يَسمعون كما سمعتُ كلامَها ... خرُّوا لعزَّةَ رُكَّعًا وسجودا وكقول الشاعر في ربما: لا يُضيع الأمينُ سرًّا ولكنْ ... ربَّما يُحسبُ الخئون أمينا

وكقوله تعالى (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك) وقيدت (لما) بنسبة الجزم إليها، لأنها إذا لم تكن جازمة لا يليها فعل مضارع بل ماضي اللفظ والمعنى إن كانت بمعنى حين، أو ماضي اللفظ مستقبل المعنى إن كانت بمعنى إلا كقول الشاعر: قالت له بالله ياذا البُرْدَيْن ... لمّا غَنِثْت نَفَسا أو اثنين وأطلقت لم تنبيها على أنها صارفة إلى المضي أبدًا، ولو لم يكن الفعل بعدها مجزومًا كقول الشاعر: لولا فوارسُ من نُعْمٍ وأسرتَهم ... يوم الصُّليْفاء لم يُوفُون الجار فرفع الفعل بعد لم، وهي لغة القوم. وقيدت (لو) بالشرطية احترازا من المصدرية، واحترز بغالبا من ورود الشرطية بمعنى إن كقوله تعالى (وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) بمعنى إن تركوا، فلو وقع بعد (لو) هذه مضارع لكان مستقبل المعنى كما يكون بعد (إن) كقول الشاعر: لا يُلْفِك الرّاجيكَ إلا مُظهرًا ... خُلُق الكرامِ ولو تكونُ عديما والانصراف إلى المضي بإذ نحو قوله تعالى (وإذ تقولُ للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه) بمعنى وإذ قلت. وإنما كان ربما صارفة معنى المضارع إلى المضي لأن (رب) قبل اقترانها بما مستعملة في المضي، فاستصحب لها بعد الاقتران ما كان لها، بل هي بذلك أحق

لأن (ما) للتوكيد، فيتأكد بها معنى ما تتصل به، ما لم تقلبه من معنى إلى معنى كما فعلت بإذ حين قيل فيها (إذما) ففارقتها في الدلالة على المضي وحدث فيها معنى المجازاة، وما المتصلة برب غير قالبة معناها بل مؤكدة له، فاستصحب ما كان لها من المضي. وإذا دخلت (قد) على المضارع فهي كربما في التقليل والصرف إلى معنى المضي، وهذا ظاهر قول سيبويه، لأنه قال في باب عدة ما يكون عليه الكلم (وأما قد فجواب لقوله: لمّا يفعل، فتقول: قد فعل) ثم قال: (وتكون بمنزلة ربما قال الهذلي: قد أتركُ القِرْنَ مُصفّرًا أناملهُ ... كأنَّ أثوابَهُ مُجَّتْ بِفرْصاد كأنه قال: "ربما". هذا نصه، فإطلاقه القول بأنها بمنزلة ربما تصريح بالتسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي، فإن خلت من معنى التقليل خلت من الصرف إلى معنى المضي وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد كقوله تعالى (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) وكقول الشاعر: وقد تدرك الإنسانَ رحمةُ ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا وقد تخلو من التقليل وهي صارفة لمعنى المضي كقوله تعالى (قد نرى تقلُّب وجهك في السماء). ص: وينصرف الماضي إلى الحال بالإنشاء، وإلى الاستقبال بالطلب،

والوعد، وبالعطف على ما علم استقباله، وبالنفي بلا وإن بعد القسم. ش: الإنشاء في اللغة مصدر أنشأ فلان يفعل كذا، أي ابتدأ، ثم عُبِّر به عن إيقاع معنى بلفظ يقارنه في الوجود كإيقاع التزويج بزوجت، والتطليق بطلقت، والبيع والشراء ببعت واشتريت، فهذه الأفعال وأمثالها ماضية اللفظ حاضرة المعنى، لأنها قصد بها الإنشاء أي إيقاع معانيها حال النطق بها، فإلى هذه الأفعال ونحوها الإشارة بقولنا (وينصرف الماضي إلى الحال بالإنشاء). وانصرافه إلى الاستقبال بالطلب نحو: غفر الله لزيد، ونصر الله المسلمين وخذل الكافرين، وعزمت عليها إلا فعلت، ولما فعلت. ومن كلام العرب: اتقى الله امرؤ فعل خيرًا يثب عليه. وانصرافه إلى الاستقبال بالوعد كقوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر) و (أشرقت الأرض بنور ربها). وانصرافه بالعطف على ما علم استقباله كقوله تعالى (يقدُمُ قومه يوم القيامة فأوردهم النار) و (ويوم يُنْفَخُ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله). وانصرافه بعد القسم بالنفي بلا كقول الشاعر: رِدُوا فوالله لاذُدْناكم أبدًا ... ما دام في مائنا وِرْدٌ لنُزَّال وانصرافه بالنفي بإنْ كقوله تعالى (إنّ الله يُمسك السموات والأرضَ أن تزولا ولئن زالتا إنْ أمسكهما من أحدٍ من بعده) أي والله لئن زالتا ما يمسكهما.

ص: ويحتمل المضيَّ والاستقبالَ بعد همزة التَّسوية، وحرف التحضيض، وكلما، وحيث، وبكونه صلة أو صفة لنكرة عامة. ش: إذا ورد الفعل الماضي بعد همزة التسوية نحو: سواء عليَّ أقمت أم قعدت، احتمل أن يكون المراد: سواء على ما كان منك من قيام وقعود، وأن يكون المراد: سواء على ما يكون منك من قيام وقعود. وإن كانت لم بعد أم تعين المضي كقوله تعالى: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) فإن لم يكن لم بعد أم فالاحتمال باق كقوله تعالى (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون). وكذا الواقع بعد حرف التحضيض نحو: هلا فعلت، يحتمل أن يراد به المضي فيكون لمجرد التوبيخ، ولا يكون الاقتران بحرف التحضيض مغيرا للفعل عن موضعه. ويحتمل أن يراد به الاستقبال فيكون بمنزلة الأمر، ولذلك احتج العلماء على وجوب العمل بخبر الواحد بقوله تعالى (فلولا نَفرَ من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين) وجعلوه بمنزلة: لينفر من كل فرقة طائقة. وكذا الواقع بعد كلما يحتمل أن يراد به المضي كقوله تعالى: (كلما جاء أمةً رسولُها كذبوه). ويحتمل أن يراد به الاستقبال كقوله تعالى (كلما نَضِجت جلودهم بَدَّلناهم جلودا غيرها). وكذا الواقع بعد حيث يحتمل أن يراد به المضي كقوله تعالى (فأتوهن من حيث أمركم الله). ويحتمل أن يراد به الاستقبال كقوله تعالى (ومن حيثُ خرجت فوَلِّ وجهك شَطرَ المسجد الحرام).

وكذا الواقع صلة يحتمل المضي كقوله تعالى (الذين قال لهم الناسُ إنّ الناسَ قد جَمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا) والاستقبال كقوله تعالى (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) وقد اجتمع الأمران في قول الشاعر: وإني لآتيكم تذكُّرَ ما مضى ... من الأمر واسْتِيجابَ ما كان في غد وكذا الواقع صفة لنكرة عامة يحتمل المضي كقول الشاعر: رُبَّ رَفدٍ هرقته ذلك اليو ... مَ وأسرى من معشر أقتال ويحتمل الاستقبال كقول النبي صلى الله عليه وسلم "نَضَّرَ الله امرأ سمع مقالتي فأدّاها كما سمعها" فإن هذا منه صلى الله عليه وسلم ترغيب لمن أدركه في حفظ ما يسمعه منه صلى الله عليه وسلم، وذلك يقتضي أن يكون المعنى: نضر الله امرأ يسمع مقالتي فيؤديها كما يسمعها.

باب إعراب الصحيح الآخر

باب إعراب الصحيح الآخر ص: الإعرابُ ما جيء به لبيان مقتضى العامل من حركةٍ، أو حرف، أو سكون، أو حذف. وهو في الاسم أصلٌ، لوجوب قبوله بصيغة واحدة معاني مختلفة، والفعل والحرف ليسا كذلك فبنيا، إلا المضارع فإنه شابه الاسم بجواز شبه ما وجب له فأعرب، ما لم تتصل به نون توكيد أو إناث. ش: الإعراب في اللغة التبيين، يقال: أعرب فلان عما في نفسه إذا بينه، وهو عند المحققين من النحويين عبارة عن المجعول آخر الكلمة مبينا للمعنى الحادث فيها بالتركيب من حركة أو سكون أو ما يقوم مقامهما، وذلك المجعول قد يتغير لتغير مدلوله وهو الأكثر، كالضمة والفتحة والكسرة في نحو: ضرب زيدٌ غلامَ عمرو. وقد يلزم للزوم مدلوله كرفع: لا نَولُك أن تفعل، ولعمرك. وكنصب سبحانَ الله ورويدَك. وكجر الكُلاع وعِرْيَط من ذي الكلاع وأمِّ عريط. وبهذا الإعراب اللازم يعلم فساد قول من جعل الإعراب تغيرا، وقد اعتذر عن ذلك بوجهين: أحدهما أن ما لازم وجها واحدا من وجوه الإعراب فهو صالح للتغيير فيصدق عليه متغيِّر، وعلى الوجه الذي لازمه تغير. والثاني أن الإعراب تجدد في حال التركيب، فهو تَغير باعتبار كونه مُنتقلا إليه من السكون الذي كان قبل التركيب. والجواب عن الأول أن الصالح لمعنى لم يوجد بعد لا ينسب إليه ذلك المعنى حقيقة حتى يصير قائما به، ألا ترى أن رجلا صالح للبناء إذا ركب مع لا، وخمسة عشر صالح للإعراب إذا فك تركيبه، ومع ذلك لا ينسب إليهما إلا ما هو حاصل في الحال من إعراب رجل وبناء خمسة عشر، فكذا لا ينسب تغيير إلى ما لا تغير له في الحال. والجواب عن الثاني أن المبني على حركة مسبوق بأصالة السكون، فهو متغير أيضا، وحاله تغير، فلا يصلح أن يحدّ بالتغيير الإعراب لكونه غير مانع من مشاركة

البناء، ولا يخلص من هذا القدح قولهم: لتغير العامل، فإن زيادة ذلك توجب زيادة فساد، لأن ذلك يستلزم كون الحال المنتقل عنها حاصلة بعاملٍ تغير، ثم خلفه عامل آخر حال التركيب، وذلك باطل بيقين، إذ لا عامل قبل التركيب، وإذا لم يصح أن يعبَّر عن الإعراب بالتغيير صح التعبير عنه بأنه المجعول آخرا من حركة وغيرها على الوجه المذكور. وقال بعضهم: لو كانت الحركات وما جرى مجراها إعرابا لم تُضف إلى الإعراب، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، وهذا قول صادر عمن لا تأمل له، لأن إضافة أحد الاسمين إلى الآخر مع توافقهما معنى أو تقاربهما واقعة في كلامهم بإجماع، وأكثر ذلك فيما يقدر أولهما بعضا أو نوعا، والثاني كلا أو جِنْسا وكلا التقديرين في حركات الإعراب صالح فلا يلزم من استعماله خلاف ما ذكرنا. وينبغي أن تعلم أن المعاني التي تعرض للكلم على ضربين. أحدهما ما يعرض قبل التركيب كالتصغير والجمع والمبالغة والمفاعلة والمطاوعة والطلب، فهذا الضرب بإزاء كل معنى من معانيه صيغة تدل عليه، فلا حاجة إلى الإعراب بالنسبة إليه. والثاني من الضربين ما يعرض مع التركيب كالفاعلية والمفعولية والإضافة، وكون الفعل المضارع مأمورا به أو معطوفا أو علة أو مستأنفا، وهذا الضرب تتعاقب معانيه على صيغة واحدة فتفتقر إلى إعراب يميز بعضها عن بعض، والاسم والفعل المضارع شريكان في قبول ذلك مع التركيب، فاشتركا في الإعراب، لكن الاسم عند التباس بعض ما يعرض له ببعض ليس له ما يغنيه عن الإعراب، لأن معانيه مقصورة عليه، فجعل قبوله لها واجبا، لأن الواجب لا محيص عنه، والفعل المضارع وإن كان قابلا بالتركيب لمعان يخاف التباس بعضها ببعض فقد يغنيه عن الإعراب تقدير اسم مكانه نحو: لا تُعنَ بالجفاء وتمدح عمرا، فإنه يحتمل أن يكون نهيا عن الفعلين مطلقا، وعن الجمع بينهما، وعن الجفاء وحده مع استئناف الثاني، فالجزم دليل الأول، والنصب دليل الثاني، والرفع دليل الثالث، ويغني عن ذلك وضع اسم موضع كل واحد من المجزوم والمنصوب والمرفوع نحو أن تقول: لا تُعنَ بالجفاء ومدحؤ عمرٍو، ولا تعن بالجفاء مادحا عمرا، ولا تعن بالجفاء ولك مدحُ عمرو، فقد ظهر بهذا

تفاوت ما بين سببي إعراب الاسم وإعراب الفعل في القوة والضعف، فلذا جعل الاسم أصلا والفعل المضارع فرعا. والجمع بينهما بما ذكرته أولى من الجمع بينهما بالإبهام والتخصيص، ولام الابتداء، ومجاراة المضارع اسم الفاعل في الحركة والسكون، لأن المشابهة بهذه الأمور بمعزل عما جيء بالإعراب لأجله، بخلاف المشابهة التي اعتبرتها، ولأن في الفعل الماضي من مشابهة الاسم ما يقاوم المشابهة المعزوة للمضارع، ولعلها أكمل، فمن ذلك أن الماضي إذا ورد مجردا من قد كان مبهما من بُعْدِ الماضي وقربه، وإذا اقترن بقد فقد تخلص للقرب، فهذا شبيه بإبهام المضارع عند تجرده من القرائن، وتخلصه للاستقبال بحرف التنفيس. وأما لام الابتداء، وإن كان للمضارع بها مزيد شبه بالاسم، لكونها لا تدخل إلا عليهما، فتقاومها اللام الواقعة بعد لو، فإنها تصحب الاسم والفعل الماضي خاصة كقوله تعالى (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة) و (ولو أسمعهم لتولَّو) وليس الاعتبار بتلك أحق من الاعتبار بهذه، ولو لم يظفر بهذه لقاوم تلك تاء التأنيث فإنها تتصل بآخر الماضي كما تتصل بآخر الاسم، فحصل للماضي بذلك من مشابهة الاسم مثل ما حصل للمضارع بلام الابتداء. ويقاوم لام الابتداء أيضا مباشرة مذ ومنذ، فإن المضاي يشارك الاسم فيهما دون المضارع. وأما مجاراة المضارع اسم الفاعل في الحركة والسكون، فالماضي غير الثلاثي شريكه فيها، وإنما يختص بها المضارع إذا كان الماضي على فَعَل مطلقا، أو على فَعِل متعديا. وللماضي ما يقاوم الفائت من اتحاد وزنه ووزن الصفة والمصدر وتقاربهما، فالاتحاد نحو: طَلَبَ طَلَبا، وحَلب حلبا، وغلب غلبا، وفرِح وأشِر وبطر، فهو فرح وأشِر وبطر، والتقارب نحو: تَعب تَعبا وحسب حَسْبا، وكذب كذِبا.

ولا ريب في أن التوازن في هذا الضرب أكمل منه في: يضرب فهو ضارب، فبان بما ذكرناه تفضيل ما اعتبرناه. وفي قولنا في المضارع "فأعرب ما لم تتصل به نون توكيد أو إناث" إشعار بأن المضارع لا يُحكم ببنائه لتوكيده بالنون مطلقا، بل المؤكد بها معرب ومبني، فالمعرب ما أسند إلى ضمير اثنين أو جمع أو مخاطبة، نحو: هل تفعلانِّ، وهل تفْعَلُنّ، وهل تفعِلنَّ، والمبني ما ليس كذلك. وإنما كان الأمر كذلك لأن المؤكَد بالنون إنما بني لتركيبه معها وتنزُّله منها منزلة صدر المركب من عجزه، وذلك منتف من يفعلانِّ وأخويه. هذا مذهب المحققين، ويدل على صحته أن البناء المشار إليه إما بالتركيب، وإما لكون النون من خصائص الفعل، فضعف بلحاقها شَبَهُ الاسم، إذ لا قائل بغير ذلك، والثاني باطل لأنه مرتب على كون النون من خصائص الفعل، ولو كان ذلك مؤثرا لبنى المجزوم، والمقرون بحرف التنفيس، والمسند إلى ياء المخاطبة، لأنها مساوية للمؤكد في الاتصال بما يخص الفعل، بل ضَعف شبه هذه الثلاثة أشد من ضعف شبه المؤكد بالنون، لأن النون وإن لم يَلِقْ لفظها بالاسم فمعناها به لائق، بخلاف لم وحرف التنفيس وياء المخاطبة بالفعل لكان ما اتصل به أحد الثلاثة مبنيا، لأنها أمكن في الاختصاص، وفي عدم بناء ما اتصلت به دلالة على أن موجب البناء التركيب إذ لا ثالث لهما. وإذا ثبت أن موجب البناء هو التركيب لم يكن فيه لتفعلانِّ وأخويه نصيب، لأن الفاعل البارز حاجز، وثلاثة أشياء لا تركب. وأيضا فإن الوقف على نحو: هل تَفعلين، بحذف نون التوكيد وثبوت نون الرفع، فلو كان قبل الوقف مبنيا لبقي بناؤه، لأن الوقف عارض، فلا اعتداد بزوال ما زال لأجله، كما لا اعتداد بزوال ما زال لالتقاء الساكنين نحو: هل تذكر الله، والأصل: تذكرنْ، فحذفت النون الخفيفة لالتقاء الساكنين، وبقيت فتحة الراء الناشئة عن النون مع كونها زائلة، لأن زوالها عارض فلم يعتد به، ولا فرق بين العروضين، فلو كان لتفعلُنْ ونحوه قبل الوقف بناء لاستصحب عند عروض الوقف كما استصحب بناء هل تذكرَنْ عند عروض التقاء الساكنين.

وهذا منتهى القول في المؤكد بالنون بالنسبة إلى بنائه وإعرابه دون تعرض إلى ما سوى ذلك من أسباب توكيده بها. وسائر أسباب بنائه ما ذهب إليه سيبويه من أنه مبني حملا على الماضي المتصل بها، لأن أصل كل واحد منهما البناء على السكون، فأخرج عنه المضارع إلى الإعراب للمناسبة المتقدم ذكرها، وأخرج عنه الماضي إلى الفتح تفضيلا على الأمر لشبهه بالمضارع لوقوعه صفة وصلة وحالا وشرطا ومسندا بعد كان وإن وظن وأخواتها، بخلاف الأمر، فاشتركا في العود إلى الأصل بالنون، كما اشتركا في الخروج عنه بالمناسبتين المذكورتين. وقيل إنما بني المتصل بنون الإناث لتركيبه معها، لأن الفعل والفاعل كالشيء الواحد معنى وحكمًا، فإذا انضم إلى ذلك أن يكون مستحقًّا للاتصال لكونه على حرف واحد تأكد امتزاجه وجعله مع ما اتصل به شيئًا واحدًا. فمقتضى هذا أن يبنى المتصل بألف الضمير أو واوه أو يائه، لكن منع من ذلك شبهه بالاسم المثنى والمجموع على حده، كما منع من بناء "أي" مع ما فيها من تضمن معنى الحرف شبهها ببعض وكل معنى واستعمالا. وقيل إنما بني المتصل بنون الإناث لنقصان شبهه بالاسم لأنها لا تلحق الأسماء، وما لحقته من الأفعال إن باين الاسم ازدادت بها مباينته، وإن شابهه نقصت بها مشابهته. ص: ويَمْنَعُ إعرابَ الاسم مُشابهةُ الحرفِ بلا مُعارِض، والسَّلامةُ منها تَمَكُّن، وأنواعُ الإعراب رفعٌ ونصب وجر وجزم. ش: الحرف أمكن في عدم الإعراب من الفعل، لأن من الأفعال ما يعرب وليس من الحروف ما يعرب. وما لا يعرب من الأفعال شبيه بما يعرب: أما الماضي فلمشاركته المضارع في وقوعه مواقعه المذكورة، وفي كونهما مخرجين على الأصل،

مردودين بنون الإناث إليه، ولشبهه بالمعرب لم يجز أن تلحقه هاء السكت وقفا، إذ لا يلحق متحركا بحركة إعرابية ولا شبيهة بإعرابية، كاسم لا التبرئة، والمنادى المضموم. وأما الأمر فشَبَهُهُ بالمجزوم بَيِّن، لأنه يجرى مجراه في تسكين آخره إن كان صحيحًا، وفي حذفه إن كان معتلا، ولا يعامل هذه المعاملة غيره من المبنيات المعتلة، بل يكتفي بسكون آخره كالذي والتي. وإذا ثبت أن المبني من الأفعال يُشَبّه بالمعرب، ضعف جعل مناسبته سببًا لبناء بعض الأسماء، فهذا بيان ضعف القول بأن أسماء الأفعال بنيت لمناسبة الأفعال التي هي واقعة موقعها كنَزالِ وهَيْهات، فإنهما بمعنى أنزِل وبَعُد واقعان موقعهما، ويزيده ضعفًا أيضًا أن مثل هذه المناسبة موجودة في المصادر الواقعة دعاء، كسقْيًا له، فإنه بمعنى سقاه "الله" وفي الواقعة أمرًا كقوله تعالى (فضرب الرقاب) فإنه بمعنى اضربوا الرقاب، وهما معربان بإجماع. وأيضًا فمن أسماء الأفعال ما هو بمعنى المضارع وواقع موقعه، كأفٍّ وأوّه بمعنى أتضجر وأتوجع، فلو كان بناء نَزالِ وهيهات لوقوعهما موقع مبنيين، لكان أفّ وأوّه معربي لوقوعهما موقع مضارعين، فثبت بهذا وبما قبله أن بناء أسماء الأفعال ليس لمناسبتها الأفعال بل لمناسبتها الحروف لأنها شبيهة بالحروف الناسخة للابتداء في لزوم معنى الفعل والاختصاص بالاسم، وكونها عاملة غير معمولة، وسنذكر في مواضع الأسماء المبنية ما لكل منها من وجوه شبه الحرف. ومما يشكل أمره من الأسماء المبنية ما بني قبل التركيب كحروف التهجي المسرودة، وهي أيضًا غير خالية من شبه الحرف، لأنها كلها غير عاملة في شيء ولا معمولة لشيء، فأشبهت الحروف المهملة كهل ولو ولولا. وامتنع بعض النحويين من الحكم عليها بالبناء وقال: لو كانت مبنية لم تسكن أواخرها وصلا بعد ساكن نحو: سين قاف، إذ ليس في المبنيات ما يكون كذلك. ولا يلزم أصلا من عدم الإعراب لفظًا عدمه حكمًا، ولو لزم ذلك لم يقل في الإفراد: فتى ونحوه،

لأن سبب الإعلال في مثله فتح ما قبل آخره، مع تحركه أو تقدير تحركه، ولكان الموقوف عليه مبنيا، وكذا المحكي والمتبع، وهذا القول غير بعيد من الصواب. والإشارة بقولنا "بلا معارض" إلى نحو "أي" فإنها في جميع أحوالها تناسب الحروف، إلا أن هذه المناسبة تعارضها مخالفة "أي" لسائر الموصولات ولأدوات الاستفهام والشرط بإضافتها، وكونها بمعنى بعض إن أضيفت إلى معرفة، وبمعنى كل إن أضيفت إلى نكرة، فعارضت مناسبة أي للمعرب مناسبتها للحرف، فغلبت مناسبة المعرب لأنها داعية إلى ما هو مستحق للاسم بالأصالة، وليثبت بذلك مزية ما له جابر على ما لا جابر له، ولأن إلغاء شبه الحرف في أي لما فيها من شبه التمكن، كإلغاء عُجمة لِجامٍ ونحوه لما فيه من شبه الاسم العربي بقبول الألف واللام والإضافة. وقولنا "والسلامة منها تَمَكُّن" أي سلامة الاسم من مناسبة الحرف المؤثرة تمكن، أي تَثَبُّت في مقام الأصالة. فالاسم ضربان: متمكن وهو المعرب، وغير متمكن وهو المبني. والمتمكن ضربان: أمكن وهو المنصرف، وغير أمكن وهو ما لا ينصرف. ولما كان المضارع شريك الاسم في الإعراب، وكان الكلام في الإعراب عموما، لم يستغن عن ذكر الأنواع الأربعة، وقدم الرفع والنصب للاشتراك فيهما، وقدم الرفع لأن الكلام قد يستغنى به عن غيره، وقدم الجر لأنه خاص بما هو أصل، وأخر الجزم لأنه خاص بما هو فرع. ص: وخُصَّ الجرُّ بالاسم لأن عامله لا يستقل، فيحمل غيره عليه، بخلاف الرفع والنصب، وخُصَّ الجزم بالفعل لكونه فيه كالعوض من الجر. ش: لما كان الاسم في الإعراب أصلا للفعل، كانت عوامله أصلا لعوامله فقبل رافع الاسم وناصبه أن يُفرَّع عليهما، لاستقلالهما بالعمل وعدم تعلقهما بعامل آخر، بخلاف عامل الجر فإنه غير مستقل، لافتقاره إلى ما يتعلق به من فعل أو ما يقوم مقامه، فموضع المجرور نصب بما يتعلق به الجار، ولذلك إذا حذف الجار نصب معموله، وإذا عطف على المجرور جاز نصب المعطوف، وربما اختير النصب. فشارك المضارع الاسم في الرفع والنصب لقوة عامليهما بالاستقلال، وإمكان التفريع

عليهما، وضعف عامل الجر لعدم استقلاله عن تفريع غيره عليه، فانفرد به الاسم، وجعل جزم الفعل عوضا مما فاته من المشاركة في الجر فانفرد به ليكون كل واحد من صنفي المعرب ثلاثة أوجه من الإعراب بتعادل، وذلك أن الجزم راجح باستغناء عامله عن تعلق بغيره، والجر راجح بكونه ثبوتا، بخلاف الجزم فإنه بحذف حركة أو حرف فتعادلا بذلك. ص: والإعرابُ بالحركة والسكون أصلٌ، وينوب عنهما الحرفُ والحذفُ، فارفع بضمة، وانصب بفتحة، وجرّ بكسرة، واجزم بسكون، إلا في موضع النيابة. ش: أي إعراب غير المجزوم بحركة أصلٌ لإعرابه بحرف، وإعراب المجزوم بسكون أصل لإعرابه بحذف. والدليل على أن الحركة أصل للحرف أنها لا يصار إلى غيرها إلا عند تعذرها، ولذلك اشترك الاسم والفعل في الرفع بضمة، والنصب بفتحة، ولم يشتركا في الإعراب بحرف، وإنما كانت أصالة الإعراب في غير الجزم للحركة لأنها أخف من الحرف وأبين، أما رجحانها في الخفة فظاهر، وأما كونها أبين فلأنها لا تخفى زيادتها على بنية الكلمة لسقوطها وإدراك مفهوم الكلمة بدونها، بخلاف الحرف فإن سقوطه في الغالب مخل بمفهوم الكلمة، ولذلك اختلف في المعرب بحرف هل هو قائم مقام الحركة، أو الحركة مقدرة فيه أو فيما قبله؟ وإنما كان السكون في الجزم أصلا لأن بنية الفعل لا تنقص به، بخلاف حذف آخره، ولذلك قد يستغنى عن حذفه بتقديره ظاهر الحركة قبل الجزم كألم يأتيك.

ما لا ينصرف

ص: وتنوب الفتحة عن الكسرة في جر ما لا ينصرف، إلا أن يُضاف أو يَصْحب الألفَ واللام أو بدَلَها. ش: الذي لا ينصرف من الأسماء ما امتنع تنوينه لسببين كأحمد وإبراهيم وعمران وعمر وطلحة ومعد يكرب، وأحمر وسكران وثلاث، أو لسبب بمنزلة سببين كصحراء، ومساجد، فهذا النوع إذا جُرّ نابت الفتحة فيه عن الكسرة، لأنه لو جر بالكسرة مع عدم التنوين لتُوُهِّم أنه مضاف إلى ياء المتكلم، وقد حذفت لدلالة الكسرة عليها، أو مبني، لأن الكسرة لا تكون إعرابية إلا مع تنوين أو ما يعاقبه من الإضافة والألف واللام، ولذلك إذا أضيف أو دخل عليه الألف واللام جر بالكسرة لزوال التوهم. وقد تناول قولنا "أو يصحب الألف واللام" المعَرِّفةَ والزائدة والموصولة فإنهن متساويات في إيجاب جر ما لا ينصرف بالكسرة، بخلاف أن يقال حرف التعريف. فالمعرِّفة كقوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصمّ) والزائدة كقول الشاعر: رأيتُ الوليدَ بنَ اليزيد مُباركا ... شديدًا بأعباءِ الخلافةِ كاهِلُه والموصولة كقول الآخر: وما أنت باليقظانِ ناظِرُه إذا ... رَضيتَ بما يُنْسيكَ ذِكْرَ العَواقب والهاء من قولنا "أو بدلها" عائدة إلى اللام، وأشير بذلك إلى لغة من يجعل اللام ميما، فإن حكمها في ذلك حكم اللام، كقول بعضهم:

والجمع بالألف والتاء

أإنْ شِمتَ من نجد بُريْقَا تألّقا ... تُكابدُ ليلَ مأرْمَد اعتاد أولقا أراد: ليل الأرمد، فجرّ أرمد بكسرة مع الميم كما يجر بها مع اللام. ص: والكسرةُ عن الفتحة في نصب أولاتِ، والجمع بالألف والتاء الزائدتين، وإن سُمِّيَ به فكذاك، والأعرفُ حينئذ بقاء تنوينه، وقد يجعل كأرطاةَ علما. ش: أولو وأولات بمعنى ذوي وذوات، إلا أن هذين جمعان لأن مفرديهما من لفظيهما بخلاف أولو وأولات، فلذلك لم يغن عن ذكرهما ذكر جمعي التصحيح، بل أفردا بالذكر تنبيها على أن إعرابهما كإعراب جمعي التصحيح، وقيدت الألف والتاء بالزيادة احترازا من نحو قضاةٍ وأبيات، فإن كلا منهما يصدق عليه أنه جمع بألف وتاء، لكن ألف قضاة منقلبة عن أصل لا زائدة، وتاء أبيات أصل. ولم يتعرض لتأنيث الواحد ولا لسلامة نظمه لأن هذا الجمع قد يكون للمذكر كحمّامات ودريْهمات وأشهر معلومات. وسنبين المطرد من ذلك وغير المطرد، وقد يكون بغير سلامة النظم كتمرات وغرفات وكسرات. وقولنا: "وإن سمي به فكذلك" أي وإن سمي بهذا النوع الذي تنوب فيه الكسرة عن الفتحة فله بعد التسمية به من ثبوت التنوين ونيابة الكسرة عن الفتحة ما كان له قبل التسمية به، لأنه سُلك بمسلمات ونحوه سبيل مسلمين ونحوه، فقوبل بالتنوين النون، وبالكسرة الياء، ولولا قصد هذه المقابلة لساوى عرفات عرفة في منع التنوين والكسرة، لتساويهما في التعريف والتأنيث مع زيادة ثقل عرفات بعلامة الجمعية، ومن العرب من يكتفي بعد التسمية بتقابل الكسرة والياء ويسقط التنوين فيقول: هذه عرفاتُ، ورأيت عرفاتِ، ومررت بعرفاتِ. ومنهم من يقول: رأيت عرفاتَ، ومررت بعرفاتَ، فيلحق لفظه بلفظ ما لا ينصرف. وإلى هذه اللغة الإشارة بقولنا "وقد يجعل كأرْطاةَ علما" أي يجعل كواحد زيد في آخره ألف وتاء كأرطاة وسِعلاة وبهماة.

الأسماء الستة

ص: وتنوب الواو عن الضمة، والألف عن الفتحة، والياء عن الكسرة فيما أضيف إلى غير ياء المتكلم من أب وأخ وحم غير مماثل قَرْوًا وقَرْءًا وخَطَأ، وفمٍ بلا ميم، وفي ذي بمعنى صاحب، والتزام نقص هَنٍ أعرف من إلحاقه بهنّ. ش: في إعراب هذه الأسماء خلاف: فمن النحويين من زعم أن إعرابها مع الإضافة كإعرابها مجردة، وأن حروف المد بعد الحركات ناشئة عن إشباع الحركات، والحركات قبلها هي الإعراب. ومنهم من يجعل إعرابها بالحركات والحروف معا. ومنهم من زعم أن الحركات التي قبل حروف المد منقولة منها، فسلمت الواو في الرفع لوجود التجانس، وانقلبت في غيره بمقتضى الإعلال. ومنهم من جعل إعرابها منويا في حروف المد، وما قبلها حركات إتباع مدلول بها على الإعراب المنوي، وسيأتي الكلام على هذا الوجه. ومنهم من جعل إعرابها بحروف المد على سبيل النيابة عن الحركات، وهذا أسهل المذاهب وأبعدها عن التكلف، لأن الإعراب إنما جيء به لبيان مقتضى العامل، ولا فائدة في جعل مقدر متنازع فيه دليلا، وإلغاء ظاهر واف بالدلالة المطلوبة. ولا يمنع من ذلك أصالة الحروف، لأن الحرف المختلف البيان صالح للدلالة، أصلا كان أو زائدًا، مع أن في جعل الحروف المشار إليها نفس الإعراب مزيد فائدة، وهو كون ذلك توطئة لإعراب المثنى والمجموع على حده، لأنهما فرعان على الواحد، وإعرابهما بالحروف لا مندوحة عنه، فإذا سبق مثله في الآحاد أمن مِنَ استبعاد، ولم يحد عن المعتاد. فهذه خمسة أقوال، أضعفها الثالث، لأن فيه مخالفة النظائر من ثلاثة أوجه: أحدها النقل في غير وقف إلى متحرك، والثاني جعل حرف الإعراب غير آخر، والثالث التباس فتحة الإعراب بالفتحة التي تستحقها البنية. وهذا الوجه وارد على القول الثاني مع ما فيه من نسبة دلالة واحدة إلى شيئين. والأول أيضا ضعيف لا، هـ يلزم منه وجوب ما لا يجوز إلا في الضرورة أو الندرة.

والحم أبو زوج المرأة وغيره من أقاربه، هذا هو المشهور، وقد يطلق على أقارب الزوجة. وأشير بعدم مماثلة قروا وقرءًا وخطأ إلى ثلاث لغات يكون فيها معربًا بالحركات في حال إفراده وإضافته فيقال: هذا حَمْوٌ وحَمْوُك، وحَمْءٌ وحَمؤُكَ، وحَمَأ وحَمَؤُك، فيعامل معاملة قَرْوٍ وقَرءٍ وخَطأٍ وأشباهها. وقيل "وفم بلا ميم" ليعم صور الاستعمال كلها، بخلاف قول من يقول: فوك، فإنه يوهم كون الحكم مقصورا على المضاف إلى الضمير. وقيل لفظ "ذي بمعنى صاحب" لئلا يذهب الوهم إلى ذي المشاربه إلى مؤنث. ولما كان "ذو" لا يضاف إلى ياء المتكلم بخلاف ما ذكر قبله لم يجز أن يعطف على المجرور بمن، بل عطف على المجرور بفي وهو "ما" فلذلك أعيدت "في" فقيل "وفي ذي بمعنى صاحب" حرصًا على البيان. وقد جرت عادة أكثر النحويين أن يذكروا الهن مع هذه الأسماء فيوهم ذلك مساواته لهن في الاستعمال، وليس كذلك، بل المشهور فيه إجراؤه مجْرَى يدٍ في ملازمة النقص إفرادا وإضافة، وفي إعرابه بالحركات، كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تَعَزَّى بعزاء الجاهلية فأعضُّوه بهن أبيه ولا تَكْنُوا" وقال علي رضي الله عنه: من يَطُل هنُ أبيه ينتطق به. ومن ذلك قول الشاعر: رُحتِ وفي رجليكِ ما فيهما ... وقد بدا هنْك من المِئزَر أراد: قد بدا هنُك، فشبه بعضد فسكن النون كما تسكن الضاد. ومن العرب من يقول: هذا هنوك، ورأيت هناك، ومررت بهنيك، وهو قليل، فمن لم ينبه على قلته فليس بمصيب، وإن حظى من الفضائل بأوفر نصيب.

ص: وقد تشدد نونه، وخاء أخ، وباء أب، وقد يقال أخْوٌ، وقد يقصر حَمٌ وهما، أو يلزمهما النقص كيد ودم، وربما قصرا أو ضُعِّفَ دم. ش: ذكر الأزهري أن تشديد خاء أخ وباء أب لغة، وأنه يقال: استأببت فلانًا بباءين، أي اتخذته أبًا، وقال سُحيم عبد بني الحسحاس في تشديد نون هن: ألا ليتَ شِعْرِي هل أبيتن ليلة ... وهَنِّي جاذٍ بين لِهْمزمَتى هند وقال رجل من طيء في أخْو: ما المرءُ أخْوَك إن لم تُلْفِه وَزَرًا ... عند الكريهة مِعْوانًا على النُّوب وأنشد الفراء: لِأخْويْنِ كانا أحسنَ الناسِ شيمَةً ... وأنفعه في حاجةٍ لي أريدُها وقد يقصر حم وهما، أي الأب والأخ فيقال: هذا أباك، ومررت بأباك، وكذا الأخ والحم، وفي المثل: مُكرَهٌ أخاك لا بطلٌ، ويروى بالواو، وقال الشاعر: أخاك الذي إنْ تَدْعُه لِمُلمَّةٍ ... يُجبْك لما تبغى ويكفيك من يبغى وإن تَجْفُه يوما فليس بمكافئًا ... فيَطْمَعَ ذو التزوير والوشى أن يصغى وقال الراجز: إنّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها

واستعمال الحم مقصورًا مشهور على قلته، قالوا للمرأة حماة. والتزام نقص الثلاثة قليل، ومنه قول الراجز: بأبه اقتدى عَدِيٌّ في الكَرَم ... ومَنْ يُشابه أبَه فما ظَلَم وعلى هذه اللغة قيل في التثنية: أبان، قال الشاعر: بما عُنِيتَ به من سُودَدٍ ونَدَى ... يحيى أباك رَهِينَيْ ميتة وبلى ومثله: ولستَ وإنْ أعيَا أباك مَجادة ... إذا لم تَرُمْ ما أسْلَفاه بماجد ولما جرى ذكر يد ودم أشير غلى ما سمع فيهما من القصر كقول الراجز: يا رُبَّ سارٍ باتَ ما تَوَسَّدا ... إلا ذراعَ العَنْسِ أو كفّ اليَدَا وكقول الشاعر: كأَطُوم فقدت بُرْغُزَها ... أعْقَبَتْها الغُبْسُ منه عَدَما غَفَلتْ ثم أتَتْ تطلُبه ... فإذا هي بعظام ودما ومثل تضعيف الدم قول الشاعر:

أهانَ دَمَّك فرْغًا بعد عزته ... يا عَمْرُو بَغْيُك إصرارا على الحَسَد فقد شُفِيتَ شفاءً لا انقضاء له ... وسَعْدُ مُرْدِيك موفورٌ على الأَبَد وقال آخر: والدمُ يجري بينهما كالجدول ص: وقد تثلثُ فاء فم منقوصًا أو مقصورا، أو يضعّف مفتوح الفاء أو مضمومها، أو تَتْبَعُ فاؤه حرف إعرابه في الحركة كما فُعِل بفاء مَرْءٍ وعيني امرِئ، وابْنِم، ونحوُها فوك وأخواتُه على الأصح، وربما قيل "فا" دون إضافة صريحة نصبا، ولا يختص بالضرورة نحو: يصبح ظمآنَ وفي البحر فمُه خلافا لأبي علي. ش: في الفم تسع لغات: فتح الفاء وكسرها وضمها مع تخفيف الميم والنقص، وفتحها وضمها مع تشديد الميم، وفتحها وكسرها وضمها مع التخفيف والقصر، وأنشد الفراء: يا حَبَّذا عينا سُلَيمى والفَما

وحكى ابن الأعرابي في تثنيته فموان وفميان، وهذا يدل على أن الفرزدق ليس مضطرا في قوله: هما نَفَثا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهما بل هو مختار لأنه قد ثبت القصر في الإفراد، وثبت بنقل ابن الأعرابي رحمه الله أن العرب قالت في تثنيته: فموان وفميان، وأطلق القول. فعلم أن ذلك غير مختص بنظم دون نثر. وحكى اللحياني أنه يقال: فمّ وأفمام، فعلم بهذا النقل أن التشديد لغة صحيحة لثبوت الجمع على وفقها، فليس بمصيب من زعم أنّ التشديد لم يستعمل في غير ضرورة، بل الصحيح أن للفم ثلاث مواد: إحداها فَ مَ ى، والثانية ف م ووالثالثة ف م م، ومادة رابعة من ف وهـ، وكلها أصول متوافقة في المعنى، لا أن أصلها فَوه كما زعم الأكثرون، لأن ذلك مدَّعًى لا دليل عليه، مع ما فيه من الجمع بين البدل والمبدل منه في غير ضرورة، مع تصرف وتوسع، كما ثبت من اللغات المأثورة بالروايات المشهورة. واللغة التاسعة النقص وإتباع الفاء الميم في الحركة الإعرابية وغيرها. ولما أشير إلى هذه اللغة بُيِّنَ ما وافق الفمَ فيها فقيل: كما فعل بفاء مرء وعيني امرئ وابنم. ففي مرء لغتان: إحداهما فتح الميم مطلقا، وهي لغة القرآن، والثانية إتباعها الهمزة في حركات الإعراب. وفي امرئ وابنم أيضًا لغتان: إحداهما فتح راء امرأ ونون ابنم مطلقًا، والثانية إتباعهما الهمزة والميم في حركات الإعراب، وهذه أفصح اللغتين. ونحوهما فوك وأخواته عند سيبويه وأبي علي، وهو مذهب قوي من جهة القياس، لأن الأصل في الإعراب أن يكون بالحركات ظاهرة أو مقدرة، فإذا أمكن التقدير على وجه يوجد معه النظير فلا عدول عنه، وقد أمكن ذلك في هذه الأسماء فوجب

المصير إليه، واقتصر القول عليه. وإذا كان التقدير مرعيا في المقصور نحو: جاء الفتى، وفي المحكي كقولك: من زيدا؟ لقائل: رأيت زيدا، وفي المتبع كقراءة بعضهم (الحمد لله) وكقولهم: واغلام زيداه، مع عدم ظاهر تابع للمقدر، فهو عند وجود ذلك أحق بالرعاية وأولى، وهذا هو حال الأسماء الستة على القول المشار إليه. ولهذا القول أيضا مرجح آخر وهو أن من الأسماء الستة ما يعرض استعماله دون عامل فيكون بالواو كقولك: أبو جاد هواز، فلو كانت الواو من الأسماء المذكورة قائمة مقام ضمة الإعراب لساوتها في التوقف على عامل، وفي عدم ذلك دليل على أن الأمر بخلاف ذلك. وهذا الرد أيضا وارد على ادعاء أن الإعراب في الأسماء المذكورة هو الحروف مع الحركات، أو الحركات دون الحروف، لأن ذلك كله غير متوقف على عامل في المثال المذكور وما أشبهه. وإذا بطلت تلك الأقوال صح ما اختاره سيبويه وتعين المصير إليه، ومثل هذا قول الشاعر: وداهيةٍ من دواهي المَنُو ... نِ يَرْهَبُها الناسُ لا فَالها فأقحم اللام ونوى الإضافة، وكقولهم: لا أبالك. وزعم الفارسي أن قوله: يصبح ظمآن وفي البحر فمه من الضرورات، بناء على أن الميم حقها ألا تثبت في غير الشعر، وهذا من تحكماته العارية من الدليل، والصحيح أن ذلك جائز في النثر والنظم، وفي الحديث

الأفعال الخمسة

الصحيح "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". ومثال قولهم "فا" دون إضافة صريحة قول الراجز: خالط من سَلْمَى خَياشْيم وَفا أراد خياشيمها وفاها، فحذف المضاف إليه ونوى الثبوت، وأبقى المضاف على الحال التي كان عليها. ص: وتنوب النون عن الضمة في فعل اتصل به ألفُ اثنين، أو واو جمع، أو ياء مخاطبة، مكسورةً بعد الألف غالبا، مفتوحةً بعد أختيها، وليست دليل الإعراب خلافًا للأخفش. ش: قد علم بما تقدم أيُّ فعلٍ هو المعرب، فلم يحتج هنا إلى تقييد بمضارعة بل أطلق القول لأمن اللبس، ويتناول قولنا "ألف اثنين أو واو جمع" كونهما ضميرين نحو: أنتما تذهبان، وأنتم تذهبون. وكونهما علامتي تثنية الفاعل وجمعه كقوله صلى الله عليه وسلم "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار" فالنون الواقعة بعد الألف بحاليها، وبعد الواو بحاليها نائبة عن الضمة الإعرابية وكذلك النون المتصلة بياء المخاطبة نحو: أنت تفعلين. وقد كان ينبغي أن يستغنى بتقدير الإعراب قبل الحروف الثلاثة عن هذه النون، كما استغنى بتقديره قبل ياء المتكلم في نحو: غلامي، لكن سهل الاستغناء بالتقدير في نحو: غلامي، كونُ الاسم أصيلَ الإعراب فلا يذهب الوهم إلى بنائه دون سبب قوي، بخلاف الفعل، فإن أصله البناء فلم يستغن فيه متصلا بهذه الحروف بتقدير الإعراب لئلا يذهب الوهم إلى مراجعة الأصل، كما راجعه

مع نون الإناث، بل جيء بعد هذه الحروف بالنون المذكورة قائمة بثبوتها مقام الضمة، وبسقوطها مقام الفتحة والسكون، حملا للنصب على الجزم في الفعل لأن الجزم في الفعل نظير الجر في الاسم، وقد حملوا النصب على الجر في المثنى وجمعي التصحيح نحو: مررت بالزيدين والهندات، ورأيت الزيدين والهندات، فحمل أيضًا النصب على الجزم في نحو: لم يذهبا ولن يذهبا، ولم يذهبوا ولن يذهبوا، ولم تذهبي ولن تذهبي. وأشير بكسرة هذه النون بعد الألف غالبًا إلى فتح بعض العرب إياها كقراءة بعض القراء (أتعدانني أن أخرج). وزعم الأخفش أن هذه النون دليل إعراب مقدر قبل الثلاثة الأحرف، وهو قول ضعيف، لأن الإعراب مجتلب للدلالة على ما يحدث بالعامل، والنون وافية بذلك، فادعاء إعراب غيرها مدلول عليه بها مردود، لعدم الحاجة إليه، والدلالة عليه. ص: وتحذف جزما ونصبا، ولنون التوكيد، وقد تحذف لنون الوقاية، أو تدغم فيها، ونَدَر حذفها مفردة في الرفع نظما ونثرا. ش: قد تقدم الكلام على حذف النون جزمًا ونصبًا، وعلى حذفها لأجل نون التوكيد، عند الكلام على المؤكد بها متى يكون مبنيًّا ومتى يكون معربًا، وأما اجتماعها مع نون الوقاية فعلى ثلاثة أوجه: أحدها الفك نحو (أتعدانني أن أخرَج). والثاني الإدغام نحو "أتعدانِّي" وهي قراءة هشام عن ابن عامر. والثالث الحذف نحو (أين شركائي الذين كنتم تشاقُّون فيهم) قرأ بها نافع.

وقرأ غيره "تشاقُّونَ" وقرأ ابن عامر (أفغيرَ الله تأمرونني) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون بالإدغام. وفي المحذوف خلاف، فأكثر المتأخرين على أن المحذوفة في التخفيف نون الوقاية وأن الباقية نون الرفع. ومذهب سيبويه والأخفش عكس ذلك، وهو الصحيح لوجوه: أحدها أن نون الرفع قد تحذف دون سبب، مع عدم ملاقاتها لنون الوقاية، ولا تحذف نون الوقاية المتصلة بفعل محض غير مرفوع بالنون، وحذف ما عهد حذفه أولى من حذف ما لم يعهد حذفه. وأيضا فإن نون الرفع نائبة عن الضمة، وقد حذفت الضمة تخفيفًا في الفعل نحو قوله تعالى (إن الله يأمرْكم) و (وما يُشعرْكم) في قراءة للسوسي. وفي الاسم كقراءة بعض السلف (ورُسلْنا لديهم يكتبون) بسكون اللام و (وبُعولتْهن أحق) بسكون التاء، فحذف النون النائبة عنها تخفيفًا أولى، وليؤمن بذلك تفضيل الفرع على الأصل. وأيضا فإن حذف نون الرفع يؤمن معه حذف نون الوقاية إذ لا يعرض لها سبب آخر يدعو إلى حذفها، وحذف نون الوقاية أولا لا يؤمن معه حذف نون الرفع عند الجزم والنصب، وحذفُ ما يؤمَن بحذفه حذفٌ أولى من حذف ما لا يؤمن بحذفه حذف. وأيضًا لو حذفت نون الوقاية لاحتيج إلى كسر نون الرفع بعد الواو والياء، وإذا حذفت نون الرفع لم يحتج إلى تغيير ثان، وتغيير يؤمن معه تغيير أولى من تغيير لا يؤمن معه تغيير. ومثال حذفها مفردة في الرفع نظما قول الراجز:

البناء وأنواعه

أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتِي تَدلُكِي ... وَجهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْك الذكي وقال أبو طالب: فإن يَكُ قومٌ سَرَّهم ما صنعتم ... سَيَحتَلِبُوها لاقِحًا غير باهِل ومن حذفها في الرفع نثرًا قراءة أبي عمرو من بعض طُرُقه (قالوا ساحران تظّاهرا) بتشديد الظاء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا". ص: وما جِيء به لا لبيان مقتضى العامل من شبه الإعراب، وليس حكاية، أو إتباعا، أو نقلا، أو تخلّصا من سكونين فهو بناء. وأنواعه: ضم وفتح وكسر ووقف. ش: شبه الإعراب يعم البناء اللازم والعارض، والوارد منه بسكون كمن وقُمْ ولمْ، وبفتحة كأين وذهبَ وسوف، وبكسرة كأمس وجيرِ، وبضمة كنحنُ ومنذُ. وبنائب عن ضمة كيا زيدون ويا زيدان، وبنائب عن فتحة كلا رجلين، وبنائب عن سكون كاخش وافعلا. ويعم الحكاية نحو: مَنْ زيدٍ؟ لقائل: مررت بزيدٍ، ومنون؟ لقائل: جاء رجالٌ. ويعم الإتباع (كالحمدِ لله) و (للملائكةُ اسجدوا) والأولى قراءة

زيد بن علي، والثانية قراءة أبي جعفر المدني. والنقل نحو (ألم تعلمَ أن الله) وهي قراءة لورش. والتخلص من سكونين (من يشأِ الله يضلله) ولكلٍّ موضعٌ يُبَيّنُ فيه إن شاء الله تعالى.

باب إعراب المعتل الآخر

باب إعراب المعتل الآخر ص: يظهر الإعراب بالحركة والسكون، أو يقدر في حرفه وهو آخر المعرب، فإن كان ألفا قدر فيه غير الجزم، وإن كان واوا أو ياء يشبهانه قدر فيهما الرفع، وفي الياء الجر. ش: ظهور الإعراب بالحركة كيجيءُ زيدٌ، وإن زيدًا لن يجيءَ إلى عمرٍو. وظهوره بالسكون نحو: لم يفعلْ. ولما كان الألف صالحًا لكونه آخر اسم وآخر فعل، ولم يكن الكلام في إعراب أحدهما دون الآخر قيل "قدر فيه غير الجزم" أي الرفع والنصب والجر نحو: تعطَى المنى، ولن تلقى أذى من فتى، ولا يقدر فيها جزم بل يظهر بحذفها. ومشبه الألف من الياءات الخفيفة بعد كسرة، ومن الواوات الخفيفة بعد ضمة، ولا تقع الواو الخفيفة بعد ضمة حرف إعراب في غير الأفعال إلا في الأسماء الستة حال رفعها، فلذلك عزى تقدير الرفع للياء والواو، ولم يعز تقدير الجر من مشبهي الألف إلا للياء. ص: وينوب حذف الثلاثة عن السكون إلا في الضرورة، فيقدر لأجلها جزمها، ويظهر لأجلها جر الياء ورفعها ورفع الواو، ويقدر لأجلها كثيرا وفي السعة قليلا نصبها، ورفع الحرف الصحيح وجره، وربما قدر جزم الياء في السعة. ش: الثلاثة التي ينوب حذفها عن السكون هي الألف والياء والواو اللذان يشبهانه، نحو: من يهدِ الله يخشَه ويرجُه، فحذفت للجزم ياء يهدي، وألف يخشى، وواو يرجو، ويكتفى بتقدير طرآن للسكون مسبوقا بحركة في الضرورة كقول الراجز:

إذا العجوز غضبتْ فطَلِّق ... ولا تَرضَّاها ولا تَمَلَّقِ وكقول الشاعر: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقتْ لَبُونُ بني زياد وكقول الآخر: هجوتَ زبّان ثم جئت معتذرا ... من هَجْوِ زبانَ لم تهجو ولم تَدَع ويظهر لأجل الضرورة جر الياء، ورفعها، فظهور جرها كقوله: فيوما يُوافين الهوى غيرَ ماضي ... وطورا ترى منهن غولا تَغَوَّلُ وكقول أبي طالب: كذبتم وبيت الله نُبْزِي محمدا ... ولم تُخْتَضَب سُمْر العوالي بالدم وظهور رفع الياء كقول جرير:

وعرقُ الفرزدق شرُّ العُرُوق ... خبيثُ الثّرى كابى الأزنُد وظهور رفع الواو كقول رجل من طيئ: إذا قلتُ علَّ القلبَ يَسْلُوا قُيِّضَتْ ... هواجِسُ لا تَنْفَكُّ تُغْرِيه بالوجد ويقدر لأجل الضرورة كثيرًا نصب الياء والواو، كقول الراجز: كأن أيديهنّ في القاعِ القَرِق ... أيْدِي جَوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق وكقول زهير: ومَنْ يَعْصِ أطرافَ الزِّجاج فإنّه ... يطيعُ العَوالي رُكِّبَتْ كلّ لَهْذَم وكقول ابنه كعب: أرجُو وآمُلُ أن تدنُو مؤدَّنُها ... وما إخالُ لدينا منك تَنْوِيلُ ومن ورود ذلك في السعة قراءة جعفر بن محمد رضي الله عنه (من أوْسط ما تطعمون أهاليكم) بسكون الياء، وقراءة غيره (إلاّ أن يعْفُونَ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) بسكون الواو.

وتقدير رفع الصحيح كقراءة مسلمة بن محارب (وبُعُولتْهُن أحق بردهن) بسكون التاء، وحكى أبو زيد الأنصاري (ورُسلْنا لديهم يكتبون) بسكون اللام. وحكى أبو عمرو أن لغة بني تميم تسكين المرفوع من يعلمْهم ونحوه. وتقدير جر الحرف الصحيح كقراءة أبي عمرو (فتوبوا إلى بارئْكم) وقرأ حمزة (ومَكْرَ السيء). ومثال تقدير جزم الياء في السعة قراءة قنبل (إنه من يتقي ويصبرْ).

باب إعراب المثنى والمجموع على حده

باب إعراب المثنى والمجموع على حده ص: التثنيةُ جَعْلُ الاسم القابل دليلَ اثنين، متفقين في اللفظ غالبا، وفي المعنى على رأي، بزيادة ألف في آخره رفعا، وياء مفتوح ما قبلها جرا ونصبا، تليهما نون مكسورة، وفتحها لغة، وقد تضم، وتسقط للإضافة أو للضرورة أو لتقصير صلة، ولزوم الألف لغة حارثية. ش: "جعل الاسم" أولى من جعل الواحد، لأن المجعول مثنى يكون واحدا كرجل ورجلين، ويكون جمعًا كجِمال وجِمالين، ويكون اسم جمع كرَكب ورَكَبين. وليس المراد بالجعل وضع الواضع، فيدخل في الحد نحو: زكا من الموضوع لاثنين. بل الجعل تصرف الناطق بالاسم على ذلك الوجه. وقيد (بالزيادة) لئلا يدخل المصدر المجعول لاثنين خبرًا أووصفًا نحو: هذان رضا، ومررت برجلين رضا. وقيد الاسم (بالقابل) تنبيها على أن من الأسماء غير قابل للتثنية، كالمثنى والمجموع على حده للزوم الثقل بجمعه وتثنيته، والذي لا نظير له في الآحاد، وأسماء العدد غير مائة وألف. ولما كان من المثنى ما مفرداه متفقا اللفظ وهو المقيس كرجلين، وما مفرداه مختلفا اللفظ وهو محفوظ كالقمرين في الشمس والقمر، نَبَّهت على ذلك بقولي (متفقين في اللفظ غالبا)، وبقولي (وفي المعنى على رأي) على خلاف في المختلفي المعنى كعين ناظرة وعين نابعة، وأكثر المتأخرين على منع تثنية هذا النوع وجمعه، والأصح الجواز، لأن أصل التثنية والجمع العطف، وهو في القبيلين جائز باتفاق، والعدول

عنه اختصار، وقد أوثر استعماله في أحدهما فليجز في الآخر قياسًا، وإن خيف لبس أزيل بعد العدول عن العطف بما أزيل قبله، إذ لا فرق بين قولنا: رأيت ضاربا ضربا وضاربا ضربة، وبين قولنا: رأيت ضاربين ضربًا وضربة. وقال بعضهم: اختصار التثنية كاختصار الخبر، فكما جاز: زيد ضارب وعمرو، فحذف خبر عمرو اكتفاء بخبر زيد لتوافقهما معنى، كذلك جاز أن تقول: جاء الضاربان في المتوافقين معنى، وكما لم يجز أن يقال: زيد ضارب وعمرو، فتحذف خبر عمرو إذا خالف خبر زيد معنى وإن وافق لفظا، كذلك لا يجوز أن يقال: زيد وعمرو ضاربان مع مخالفة المعنى. والجواب من وجوه: أحدها: أن حذف الخبر المخالف معنى لم يجز لأنه حذف بلا عوض في اللفظ ولا دليل على معناه، وأحد مفردي المثنى معوض عنه بعلامة التثنية، ومقدور على الدلالة عليه بقرينة. الثاني: أن ذكر عمرو في المثال المذكور يوقع في محذورين: أحدهما توهم المحذوف مماثلا للمذكور، والآخر توهم إلغاء ذكر عمرو، والمثنى لا يتوهم فيه إلغاء. الثالث: أن التخالف في اللفظ لا بد معه من تخالف المعنى ولم يمنع من التثنية، فأن لا يمنع منها التخالف في المعنى مع عدم التخالف في اللفظ أحق وأولى. وممن صرح بجواز ذلك ابن الأنباري واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم "الأيدي ثلاث فيد الله تعالى العليا، ويد المعطي، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة" ويؤيد ذلك قوله تعالى "نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) ومما يؤيد ذلك قول أبي علي القالي: من كلام العرب: خِفَّة الظهر أحد اليسارين، والعُزْبة أحد السِّباءَيْن، واللبن أحد اللحمين، والحِمْيةُ إحدى الموتتين. وقولهم: القَلم أحد السِّنانين، والخال أحد الأبوين. ومن ذلك قول بعض الطائيين:

كم ليثٍ اغترّ بي ذا أشْبُلٍ غَرَثت ... فكأنني أعظْمُ الليثين إقداما ومثله: وكائن سفكْنا نفسَ نفس عزيزة ... فلم يُقْضَ للنفسينِ من سافِك ثأر ويمكن أن يكون منه قول الشاعر: يداك كَفَتْ إحداهما كلّ بائس ... وإحداهما كفّت أذى كلّ معتد ويؤيد ذلك قوله تعالى (إن الله وملائكته يصلون) فإن الواو إما عائدة على المعطوف وهذا ممتنع لأنه من الاستدلال بالثاني على الأول كقول الشاعر: نحنُ بما عندنا وأنتَ بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلف وهو ضعيف، وإنما الجيد الاستدلال بالأول على الثاني كقوله تعالى (والحافظين فروجهم والحافظات) وصون القرآن عن الوجوه الضعيفة واجب، ولو سلم استعمال هذا الوجه مع ضعفه لمنع من استعماله هنا تخالف المستدل به والمستدل عليه في المعنى، وذلك لا يجوز بإجماع. فتعين عود الواو إلى المعطوف والمعطوف عليه، وكون الصلاة معبرا بها عن حقيقتين مختلفتين، وهو المطلوب. ومثال فتح نون المثنى قول حميد بن ثور:

وَقَعْنَ بجوفِ الماء ثم تَصوَّبَتْ ... بهن قَلَوْلاةُ الغُدُو ضَرُوب على أحْوَذيَّينَ استَقَلَّت عشيةً ... فما هي إلا لَمحَةٌ وتغِيبُ أنشده الفراء بالفتح، وليس موضع ضرورة، وحكى أبو علي عن أبي عمرو الشيباني: هما خليلانُ، وقال: ضم نون التثنية لغة. وسقوطها للإضافة كثير، وللضرورة في قوله: هما خُطَّتا إما إسارٌ ومِنّة ... وإما دمٌ والقتل بالحر أجدرُ وأنشد ثعلب: لنا أَعْنُز لُبْن ثلاث فبعضها ... لأولادها ثِنتا وما بيننا عَنز وقال: لها مَتْنَتان خَظاتا كما ... أكبَّ على ساعديْه النمر وسقوطها لتقصير صلة كقول الشاعر: خليلَيَّ ما إن أنتما الصّادقا هوى ... إذا خِفتما فيه عَذُولا وواشيا وكقول الآخر: أبَنِي كُلَيْب إن عَمَّيَّ اللَّذا ... قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا ولغة بني الحارث بن كعب إلزام المثنى وما جرى مجراه الألف في كل حال. وبهذه اللغة قرأ نافع وابن عامر والكوفيون إلا حفصا قوله تعالى (إن هذان

لساحران) ووافق في ذلك الحارثيين بنو الهجَيْم وبنو العنبر، ومنه قول الشاعر: تزَودَ منّا بين أذناه ضربةً ... دعنه إلى هابى التراب عقيم وقال آخر: وأطرق إطراقَ الشُّجاع ولو رَأى ... مساغا لناباه الشُّجاعُ لصمَّما وأنشد أبو زيد: طارُوا عَلاهن فشُلْ علاها ... واشْدُد بِمَثْنَى حَقَب حَقْواها ... ناجِيَةٌ وناجيا أباها ص: وما أُعْرِب إعراب المثنى مُخالفا لمعناه، أو غيرَ صالح للتجريد وعطف مثله عليه فمُلحَقٌ به، وكلا وكلتا مضافين إلى مضمر، ومطلقا على لغة كنانة. ش: من المعرب إعراب المثنى وليس بمثنى ما يراد به التكثير كقوله تعالى (ثم ارجع البصر كرتين) بمعنى كرات، لأن بعده (ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) أي مزْدَجرا وهو كليل، ولا يكون ازدجار وكلال بكرتين فحسب،

بل بكرات. ومنه قولهم: سبحان الله وحنانيه، وقول الراجز: ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْن مَرتين قال الفراء: أراد: ومَهْمه بعد مهمه. وهذا النوع قد يغني عنه التجريد وعطف مثله عليه، وهو مع ذلك غير مثنى لأنه يدل على أكثر من اثنين. ومثال الاستغناء عنه بتجريده وعطف مثله عليه قول الشاعر: لو عُدَّ قبرٌ وقبر كنتَ أكرمهم ... ميتا وأبعدَهم عن منزلِ الذّام وكقول جرير: إنا أتيناك نرجو منك نافلةً ... من رَمْلٍ يَبرين إن الخير مطلوب تجري بنا نُجُبٌ أفنى عَرائِكها ... خمسٌ وخمسٌ وتأويبٌ وتأويب وكقول الآخر: إن النجاةَ إذا ما كنت ذا بَصَر ... من جانب الغَيِّ إبعادٌ وإبعاد وقد يغني في هذا النوع التكرير عن العطف كقوله تعالى (كلاّ إذا دكت الأرض دكا دكا* وجاء ربك والملك صفًّا صفا) أي: أي دكا بعد دك، وصفا بعد صف. ومن المعرب كمثنى وهو في المعنى جمع قوله تعالى (فأصلحوا بين

أخويكم) وقوله صلى الله عليه وسلم "البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا" ومنه قول الشاعر: تُلقَى الإوزُّون في أكْنافِ دارَتِها ... تمشي وبين يديْها البُرُّ مَنْثُور أراد بين أيديها. ومن المعرب إعراب المثنى ما هو مفرد ولا يصلح للتجريد وعطف مثله عليه وهو على ضربين: اسم جنس ككلبتي الحداد، وعلم كالبحرين والدونكين وكنانين وهي أسماء مواضع، قال الشاعر: يكادان بين الدَّوْنَكَيْن وألْوَة ... وذات القَتاد السُّمر ينسلخان وقال آخر: دعتنا بكهفٍ من كنانين دعوة ... على عجل والركبُ دهماء رائح ومن المعرب إعراب المثنى ما يصلح للتجريد ولا يختلف معناه كحوْل وحَوال فتجريدهما كقوله تعالى (فلما أضاءت ما حوله). وكقول الشاعر: أهَدَمُوا بيتَك لا أبالكا ... وزعموا أنّك لا أخالكا ... وأنا أمْشِي الدَّألَى حَوالكا

وتلبسهما بعلم التثنية كقول الراجز: يا إبلي ما ذامُه فَتأبَيَه ... ماءٌ رَواءٌ ونَصِيٌّ حَوْلَيْه وكقول النبي عليه السلام "اللهم حوالينا ولا علينا" ونزر هذا الاستعمال في متمحض الإفراد كقوله: على جَرْداءَ يقطعُ أبْهَراها ... حِزامُ السَّرْجِ في خيل سراع الأبهر عرق معروف فثناه مجازا، وكذا قيل في قول الشاعر: تربع وَعْسَ الأخْرَمَيْن وأرْبَلت ... له بعد ما ضاقت جِواء المَكامِن أراد الأخْرم، وهو موضع، فثناه مجازا، وأنشد ابن سيده في المحكم: فجَعَلْنَ مَدْفَع عاقِلين أيامِنا ... وجعلن أمْعَز رامتَيْن شِمالا وقال: أراد عاقلا وهو جبل. وأجاز الفراء أن يكون من هذا القبيل قوله تعالى (ولمن خاف مقام ربّه جنّتان).

ومما ينبغي أن يكون ملحقا بالمثنى نحو: القمرين في الشمس والقمر، فإنه غير صالح للتجريد وعطف مثله عليه، بل للتجريد وعطف مباينه عليه. فإن قيل فيه مثنى فبمقتضى اللغة لا الاصطلاح، كما يقال لاسم الجمع جمع. ومن المعرب إعراب المثنى وليس مثنى في الاصطلاح لعدم الصلاحية للتجريد اثنان واثنتان، والمذْروان وهما طرفا الألية وطرفا القوس وجانبا الرأس، ولا يستعمل مفردهما. ومثله: جاء فلان يضرب أصْدَرَيْهِ، إذا جاء فارغا. ومن هذا القبيل قولهم لعمرو ومعاوية ابني شرحبيل بن عمرو بن الجون: الجَونان. وقال أعرابي: جَنَّبك الله الأمرَّيْن وكفاك شَرَّ الأجْوَفَيْن، وأذاقك البرْديْن، أراد: الفقر والعُرْي، والبطن والفرج، والغنى والعافية. ومن هذا قولهم لما هو في وسط شيء: هو في ظهريْه وظهْرانيه، ولقيته بين الظهرين والظهرانيْن، أي في اليومين أو الثلاثة. وأما كلا وكلتا فمفردا اللفظ مثنيا المعنى، واعتبار اللفظ في خبرهما وضميرهما أكثر من اعتبار المعنى قال الله تعالى (كلتا الجنتين آتت أكُلَها) ولو اعتبر المعنى لقال "آتتا" وقد جمع الشاعر الاعتبارين في قوله: كلاهما حينَ جدّ الجريُ بينهما ... قد أقلَعا وكلا أنْفَيْهما رابى ولكونه مفرد اللفظ مثنى المعنى أعرب إعراب المفرد في موضع، وإعراب المثنى في موضع، إلا أن آخره معتل فلم يلق به من إعراب المفرد إلا المقدر، فجعل ذلك له مضافا إلى ظاهر، ليتخلص من اجتماع إعرابي تثنية في شيئين كشيء واحد، وجعل الآخر له مضافا إلى مضمرن لأن المحذور فيه مأمون، وقد أجرته كنانة مجرى المثنى مع الظاهر أيضا فيقولون: جاء كلا أخوَيك، ومررت بكليْ أخويك، ورأيت كِلَيْ أخويك، وهذه اللغة التي رواها الفراء معزوةً إلى كنانة تبين صحة قول من

جعل كلا من المعرب بحرف لا بحركة مقدرة، فإن القائل إن "كلا" معرب بحركة مقدرة يزعم أن انقلاب ألفه ياء مع الضمير هو كانقلاب ألف لدى وإلى وعلى، ولو كان الأمر كما قال لامتنع انقلاب ألفها مع الظاهر في لغة كنانة، كما يمتنع عندهم وعند غيرهم انقلاب ألف لدى وعلى وإلى مع الظاهر، على أن مناسبة كلا للمثنى أقوى من مناسبتها للدى وعلى وإلى، ومراعاة أقوى المناسبتين أولى من مراعاة أضعفهما، وأيضا فإنّ تغير ألف كلا حادث عند تغيير عامل، وتغير ألف لدى وإلى وعلى حادث بغير تغير عامل، فتباينا، وامتنع أن يلحق أحدهما بالآخر. وكلتا في المؤنث ككلا في المذكر. ص: ولا يُغْني العطف عن التثنية دون شذوذ أو اضطرار إلا مع قصد التكثير أو فَصْلٍ ظاهرٍ أو مُقَدَّرٍ. ش: استعمال التثنية بدلا من العطف تخفيف يشبه الإعلال الملتزم، فكما لا يرجع التصحيح في مثال: أعان واستعان إلا في شذوذ واضطرار كقول الراجز: كأنّ بينَ فَكِّها والفَكِّ ... فارةَ مِسْكٍ ذُبحَتْ في سُكِّ أراد بين فكيها، فجاء بالأصل المتروك، إما شذوذًا بحيث لو كان في غير شعر لم يمتنع، وإما لضرورة إقامة الوزن. ومثله قول الآخر: كأن بين خلفها والخلف ... كشَّة أفعى في يبيس قُفٍّ وأما استعمال العطف في موضع الجمع فلا سبيل إليه لأنه أشق من استعماله في موضع التثنية بأضعاف كثيرة. ولأنّ الجمع ليس محدودا فتذكر آحاده معطوفا بعضها

على بعض كما فعل بالمثنى. فلو كان الجمع مدلولا عليه ببعض ألفاظ العدد جاز استعمال العطف موضعه كقول الشاعر: ولقد شربتُ ثمانيا وثمانيا ... وثمانِ عَشْرَةَ واثنتين وأربعا وكقول الآخر: وردن اثنتين واثنتين وأربعا ... يبادرنَ تغليسا ثمال المداهن وقد تقدم بيان الاستغناء بالعطف عن التثنية المقصود بها التكثير، وأما الاستغناء به لفصل ظاهر فقولك: مررت بزيد الكريم وزيد البخيل، ولو ثنيت وأخرت الصفتين مفترقتين لجاز. وأما الاستغناء به بفصل مقدر فكقول الحجاج، وقد نعي له في يوم واحد محمدٌ أخوه ومحمد ابنه: سبحان الله، محمد ومحمد في يوم. وإياهما قصد الفرزدق بقوله: إن الرَّزِيَّة لا رَزِيَّة مثلُها ... فقدان مثل محمد ومحمد ص: والجمعُ جعلُ الاسم القابل دليل ما فوق الاثنين – كما سبق- بتغيير ظاهر أو مقدر وهو التكسير، أو بزيادة في الآخر مقدرٍ انفصالها لغير تعويض وهو التصحيح. ش: قد تقدم بيان المراد بالجعل وأن المعنى به تجديد الناطق حالة للاسم لم يوضع عليها ابتداء، فبذلك تخرج أسماء الجموع ونحوها. ونبه "بالقابل" على أن من الأسماء ما لا يجمع، كما أن منها ما لا يثنى.

وأشير بكون مدلوله فوق اثنين إلى أن أقل الجمع ثلاثة، فإن استعمل لفظ الجمع في أقل منه فليس جمعا بل هو مثنى أو مفرد استعير له لفظ الجمع نحو (فقد صغتْ قلوبكما) و (ونحن الوارثون). والباء من قولنا "بتغيير" متعلقة بدليل ما فوق اثنين؛ فلا تتناول تغيير نحو مصطفين ومصطفيات فإن مفرديهما مصطفى ومصطفاة، وقد غيرا إذا جمعا بحذف وقلب، إلا أن تغييرهما ليس هو المشعر بالجمعية، بل المشعر بها الزيادة اللاحقة، إذ لو قدر انفرادهما ولا حذف ولا قلب لم تجهل الجمعية ولو قدر العكس لجهلت الجمعية، بخلاف تغيير رجل حين قيل فيه رجال، فإن الجمعية لا تدرك إلا به. والتغيير الظاهر إما بزيادة كصِنْو وصنوان، أو بحذف كتُخَمة وتُخَم، أو بتبديل شكل كأَسَد وأُسْد، أو بزيادة وتبديل شكل كرجل ورجال، أو بنقص وتبديل شكل كقضيب وقُضُب، أو بزيادة ونقص وتبديل شكل كغلام وغلمان. والتغيير المقدر كفُلْك فإنه يقع على الواحد وعلى الجمع فإذا كان واحدا فهو كقُفل، وإذا كان جمعا فهو كبُدْن فيقدر زوال الضمة الكائنة في الواحد وتبدلها بضمة مشعرة بالجمع، هذا مذهب سيبويه، ودعاه إلى ذلك أنهم قالوا في تثنيته فلكان، فعلم بذلك أنهم لم يقصدوا به ما قصد بجُنُب ونحوه مما أشرك فيه بين الواحد وغيره حين قالوا: هذا جُنُب، وهذان جُنب، وهؤلاء جُنب. فالفارق عنده بين ما يقدر تغييره وبين ما لا يقدر تغييره مما لفظه في الإفراد والجمع واحد وجدان التثنية وعدمها. والإشارة بقولنا "كما سبق" إلى اتفاق اللفظ واتفاق المعنى على نحو مامر في التثنية، ونظير قولهم في الشمس والقمر: القمران قولهم: الخبيبون، يريد خبيبًا وأصحابه، وخُبَيْب لقب عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قال الراجز:

قَدْنى من نصر الخُبَيْبَيْنِ قَدِى يروى بكسر الباء على ما ذكرته، وبفتحها على أن يكون المراد خبيبًا وأخاه مصعبًا. واحترز بكون الزيادة في جمع التصحيح مقدرًا انفصالها من زيادة نحو: صنوان، فإنها كزيادة زَيْدين في سلامة النظم معها، إلا أن زيادة زيدين مقدرة الانفصال لوجهين: أحدهما أن نونه تسقط للإضافة، والثاني أنه لو سمي به ونسب إليه لحذفت المدة والنون، وزيادتا صنوان ونحوه بخلاف ذلك. وقولنا "لغير تعويض" احتراز من "سنين" ونحوه فإنه جمع تكسير جرى في الإعراب مجرى التصحيح، ومعنى التعويض فيه أن واحده منقوص يستحق أن يجبر بتكسير، كما جبر "يَدٌ" و"دَمٌ" حين قيل فيهما: يُدِيّ ودُمِيّ ودِماء، فزيدت آخره زيادتا جمع التصحيح عوضا من الجبر الفائت، لأنهما يجعلانه شبيها بفعول لو كسر عليه. ولكون هذا النوع مكسّرا في الحكم غير فاؤه غالبًا فقيل في سَنة: سِنون بكسر السين، وقد روي ضمها. ص: وإن كان لمذكر فالمَزيدُ في الرفع واو بعد ضمة، وفي النصب والجر ياءٌ بعد كسرة، تليهما نونٌ مفتوحة، تُكْسَر ضرورةً، وتسقط للإضافة، أو للضرورة، أو لتقصير صلة، وربما سقطت اختيارا قبل لام ساكنة غالبا. ش: "إن كان لمذكر" أي إن كان جمع التصحيح لمذكر فالمزيد الذي يلحق آخره دلالة على جمعيته في الرفع واو بعد ضمة نحو: جاء الزيدون. وفي الجر والنصب ياء بعد كسرة نحو: مررت بالزيدين، ورأيت الزيدين، ولا يخرج عن ذلك جمع المقصور نحو (وأنتم الأعلَوْن) و (إنهم عندنا لمن المصْطَفَيْن) لأن قبل

الواو والياء ضمة وكسرة مقدرتين في الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، كتقدير الضمة والكسرة الإعرابيتين في قولك: أسْنى الحُلَى العلم. وقولي (وتليهما) أي تلي الياء والواو المذكورتين نون مفتوحة كان السكون أحق لأنها لمنزلة التنوين، وكونها مسبوقة بالإعراب، فحركت لالتقاء الساكنين، فكان الفتح أولى لأنه أخف من الضم والكسر، ولأن توالي الأمثال لازم للكسر بعد الياء والضم بعد الواو، وأمر ذلك في الفتح مأمون فتعين. ومثال كسرها ضرورة قول الشاعر: عَرِينٌ من عُرَيْنَةَ ليس مِنَّا ... بَرِئْتُ إلى عُرَيْنَةَ من عَرِينِ عرفْنا جعفرا وبَني عَبيد ... وأنكرْنا زَعانِفَ آخرين وسقوطها للإضافة كثير كقوله تعالى (غيرَ مُحِلِّي الصيد) وللضرورة كقول الشاعر: ولسنا إذا تأبَون سلْما بمذعني ... لكم غير أنّا إن نُسالَم نُسالم وسقوطها لتقصير صلة كقوله: قتلنا ناجيًا بقتيل عمرٍو ... وخيرُ الطّالبِي التِّرَةَ الغَشُومُ كذا رواه ابن جني بنصب الترة، ومثله قراءة الحسن وبعض رواة أبي عمرو

(والمقيمي الصلاة) بالنصب، كقول الشاعر: الحافِظو عورةَ العشيرةِ لا ... يأتيهم من ورائهم نَطَف وكقول الآخر: وإنّ الذي حانتْ بفَلْجٍ دماؤهم ... هم القومُ كلُّ القوم يا أمَّ خالد وسقوطها اختيارا قبل لام ساكنة كقوله تعالى (واعلموا أنكم غير معجزي الله) بالنصب، حكاها أبو زيد: وحكى ابن جني (إنكم لذائقو العذابَ الأليم) بالنصب أيضًا، وهذا شبيه بقولهم في بني العنبر وأنشد ابن جني: ومساميح بماضُنّ به ... حابسو الأنفسَ عن سوء الطمع كذا رواه بفتح سين الأنفس، وحكى ابن جني أيضا عن الأعمش (وما هم بضارِّي به من أحد) وهذا في غاية من الشذوذ بخلاف الذي قبله، فلهذا قلت: قبل لام ساكنة غالبا، ومثل (بضاري به من أحد) لا يليق بالاختيار بل بالاضطرار نحو: بمذعني لكم. ص: وليس الإعرابُ انقلابَ الألف والواو ياء، ولا مُقَدَّرًا في الثلاثة، ولا مَدلولا بها عليه مقدرا في مَتْلُوِّها، ولا النونُ عوضا من حركة الواحدِ ولا من تنوينه ولا منهما، ولا من تنوينين فصاعدا خلافا لزاعمي ذلك، بل الأحرف الثلاثة إعرابٌ، والنون لرفع توهم الإضافة أو الإفراد.

ش: زعم قوم أن رفع المثنى والمجموع على حده بلا علامة، وأن ترك العلامة له علامة، وإذا حدث عامل جر أو نصب أوجب الانقلاب ياء كان إعرابا لحدوثه عن عامل، وهذا ظاهر قول الجرمي واختيار ابن عصفور، وهو مردود بوجوه: أحدها: أن ترك العلامة لو صح جعله علامة الإعراب لكان النصب به أولى لأن الجر له الياء وهي به لائقة لمجانسة الكسرة، والرفع له الواو وهي به لائقة لمجانسة الضمة، وهي أصل الألف في المثنى فأبدلت ألفا، كما قيل في: يَوْجل ياجل، وفي: يَوْتعد ياتعد، فلم يبق للنصب إلا مشاركة الجر أو الرفع. الثاني من وجوه الرد: أن القول بذلك يستلزم مخالفة النظائر، إذ ليس في المعربات غير المثنى والمجموع على حده ما ترك العلامة له علامة، وما أفضى إلى مخالفة النظائر دون ضرورة فمتروك. الثالث: أن الرفع أقوى وجوه الإعراب، فالاعتناء به أولى، وتخصيصه بجعل علامته عدمية مناف لذلك، فوجب اطراحه. الرابع: أن تقدير الإعراب إذا أمكن راجح على عدمه بإجماع، وقد أمكن فيما نحن بسبيله، فلا عدول عنه، وذلك إما بتقدير مغايرة الألف والواو في نحو: عندي اثنان وعشرون، للألف والواو فيهما قبل التركيب، كما تقدر مغايرة الألف والواو والياء في نحو: نعم الزيدان أنتما يا زيدان، ونعم الزيدون أنتم يا زيدون، ومررت برجلين لا رجلين مثلهما، وكما تقدر ضمة (حيثُ) مرفوعا بعد تسمية امرأة به، غير ضمته قبل التسمية به، وضمة يضربون غير ضمة يضرب، وفتحة يا هندَ بنة عاصم، غير فتحة يا هندا، وكسرة قمت أمس غير كسرة قمت بالأمسِ، وكما تقدر ضمةُ فلك في الجمع غير ضمته في الإفراد، وياء (بخاتي) مسمى به غير يائه منسوبا إليه، ولهذا صرف في النسب. وأمثال ذلك كثيرة. وأما كون الإعراب مقدرا في الثلاثة فمردود أيضا، إذ لازمُه ظهورُ الفتحة في نحو: رأيت بنيك، لأن ياءه كياء (جواريك) مع ما في جواريك من زيادة الثقل.

ولما انتفى اللازم وهو ظهور الفتحة علم انتفاء الملزوم وهو تقدير الضمة والكسرة. وأما القول الثالث وهو أن الإعراب مقدر في الحرف الذي كان حرف الإعراب قبل طروِّ التثنية والجمع، وأن حروف اللين المتجددة دلائل عليه، فهو قول الأخفش والمبرد، وهو مردود أيضا من ثلاثة أوجه: أحدها أن الحروف المتجددة للتثنية والجمع مكملة للاسم، إذ هي مزيدة في آخره لمعنى لا يفهم بدونها، كألف التأنيث وتائه وياء النسب، فكما لم يكن ما قبل هذه محلا للإعراب، كذلك لا يكون ما قبل الأحرف الثلاثة محلا له، إذ الإعراب لا يكون إلا آخرا. الثاني أن الإعراب لو كان مقدرا فيما قبلها لم يحتج إلى تغييرها، كما لم يحتج إلى تغيير بعد الإعراب المقدر قبل ياء المتكلم، وفي ألف المقصور. الثالث أن الإعراب إنما جيء به للدلالة على ما يحدث بالعامل، والحروف المذكورة محصلة لذلك فلا عدول عنها، وإذا بطلت الثلاثة تعين الحكم بصحة الرابع، وهو أن الحروف الثلاثة هي الإعراب. وأما النون فليست عوضا من حركة الواحد لأن الحروف الثلاثة نائبة عن الحركات قائمة مقامها في بيان مقتضى العامل فلا حاجة إلى التعويض، وليست عوضا من تنوينه لثبوتها فيما لا تنوينين في واحده نحو: يا زيدا، ولا رجلين فيها، وإذا لم تكن عوضا من أحدهما فأن لا تكون عوضا منهما أو من تنوينات فصاعدا أحق وأولى. وأشير بالعوض من تنوينين فصاعدا إلى ما رآه ثعلب من أن نون التثنية عوض من تنوينين، ونون الجمع عوض من تنوينات على حسب الآحاد، وضعف هذا القول غير خالف، عفا الله عن قائله وعنا. وإذا بطلت الأوجه الثلاثة ثبتت صحة ما قلنا، إذ لا مقول بعد ما تقدم غيره، مع سلامته من موجبات رد ما قبله، وهو كون النون رافعة لتوهم إضافة أو إفراد، ورفع توهم الإضافة بيِّن، وهو أنه لو لم يكن بعد الأحرف المذكورة نون لم تعلم إضافة من عدمها في نحو: رأيت بني كرماء، وعجبت من ناصري باغين، ورفع توهم الإفراد أيضا بَيِّن في مواضع منها: تثنية اسم الإشارة، وبعض المقصورات

نحو: هذان والخوزلان في تثنية بعض العرب الخوزلي، ومنها جمع المنقوص في حال الجر نحو: مررت بالمهتدين، وانتسبت إلى أبين كرام، فلولا النون في هذا وما أشبهه لكان لفظ الواحد كغيره. ص: وإن كان التصحيح لمؤنث أو محمولٍ عليه فالمزيدُ ألف وتاء. ش: تصحيح المؤنث على ضربين: مطرد وغير مطرد: فالمطرد جمع ما فيه تاء تأنيث علما كعمرة وحمزة، أو اسم جنس كنعجة وضَخمة. وجمع ذي ألف التأنيث وليس فعلى فعْلان كسكرى، أو فعلاء أفعل كحمراء. وجمع ما لا علامة فيه من أعلام المؤنث كزينب. ونحو: دريهمات من المصغرات. وأيام معدودات من صفات المذكرات. وغير المطرد ما سوى ذلك كجُرَذات وثَيِّبات وشمالات وحَمَّامات وحمَامات وحُسامات. وإلى نحو: دريهمات وما بعده أشير (بمحمول عليه)، لأنها مصححة تصحيح المؤنث وآحادها مذكرة. ص: وتصحيح المذكر مشروط بالخلو من تاء التأنيث المغايرة لما في نحو: عِدَة وثُبة علمين، ومن إعرابٍ بحرفين، ومن تركيب إسنادٍ أو مَزج، وبكونه لمن يعقل، أو مشَبَّه به علما أو مُصَغّرًا أو صفَة تقبَل تاء التأنيث إن قُصِد معناه، خلافا للكوفيين في الأول والآخر. ش: المراد بالمذكر هنا المسمى لا المذكر اللفظ، لأن تذكير اللفظ ليس شرطا في صحة هذا الجمع، بل الشرط خلوه من تاء التأنيث، ولذلك لو سمي رجل بزينب أو سُعدى أو أسْماء لجاز بإجماع أن يقال فيه: زينبون وسُعْدَوْن وأسماءون، بخلاف

المؤنث بالتاء المقيدة فإنه لا يجمع، علما كان كطلحة، أو غير علم كهَمزَة. ولأجل الحاجة في النوعين إلى الخلو من تاء التأنيث قدم على سائر الشروط، وعبر بتاء التأنيث دون هائه ليدخل في ذلك أخت ومسلمات علمي رجلين، فإنه لا يجمع بهذا الجمع، كما لا يجمع نحو: طلحة وهُمَزة. وقيدت التاء المانعة من هذا الجمع (بمغايرة ما في عدة وثبة علمين) تنبيها على ما صار علما من الثلاثي المعوّض من لامه أو فائه هاء التأنيث، فإنه يجمع بالواو والنون، وبالألف والتاء، فيقال فيمن اسمه عدة وثبة: جاء عدون وثبون، ورأيت عدين وثبين، ذكر ذلك ابن السراج في الأصول، وهو مأخوذ من كلام سيبويه. وأجاز سيبويه أيضا أن يقال في (ربت) مخففا علما: رُبُون وربات. وأشرت بقولي "ومن أعراب بحرفين" إلى ما جعل علما من نحو: زيديْن وزيدِين واثنين وعشرين. وبقولي "من تركيب إسناد أو مزج" إلى نحو: تأبط شرا وسيبويه. فإن هذه الأنواع لا تثنى ولا تجمع، فإن احتيج إلى تثنية شيء منها أضيف إليه ذوا، وإن احتيج إلى جمعه أضيف إليه ذوو. وبعض النحويين يعامل الممزوج في التثنية والجمع على حدها معاملته في النسب، فيحذف العجز ويولى آخر الصدر العلامة فيقول: جاءني السيبان، ومررت بالسيبين. ومن شروط هذا الجمع كون المسمى ممن يعقل أو شبيه به، فلا يقال في لاحق اسم فرس لاحقون، ولا في سابق صفة له سابقون، ولا حاجة إلى تنكب التعبير بمن يعقل واستبداله بمن يعلم كما فعل قوم، لأن باعثهم على ذلك قصدهم دخول أسماء الله تعالى فيما يجمع هذا الجمع، والعِلْم مما يخبر به عنه تعالى دون العقل، وباعثهم على ذلك غير مأخوذ به ولا معول عليه إلا فيما سمع، كقول تعالى (وإنا على

ذهاب به لقادرون) فليس لغير الله تعالى أن يجمع اسما من أسمائه، إذ لا يُثنى عليه ولا يُخبر عنه إلا بما اختاره لنفسه في كتابه العزيز أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقادرون ونحوه من المعبر به عن الله تعالى من المقصور على السماع، فإذا لم يدع إلى تنكب لفظ العقل داع فهو أولى من العلم، لأنه أدل على المقصود. والإشارة بقولنا "أو شبيه به" إلى نحو (رأيتهم لي ساجدين) لأن المراد به ما لا يعقل، إلا أنه بنسبة السجود إليه أشبه ما يعقل فعومل معاملته في الجمع، والإضمار مطرد فيما جرى هذا المجرى مما لا يعقل، ومنه قول الشاعر يصف قوسا ونبلا: فحالَفني دونَ الإخلاء نَبْعَةٌ ... تَرنُّ إذا ما حُرِّكَتْ وتَزَمْجِر لها فتيةٌ ماضُون حيث رَمت بهم ... شَرابهُم قانٍ من الدمِ أحمر ومن المشبه بما يعقل الدواهي والعجائب والأسماء المستعظمة نحو: أصابهم الأَمَرُّون والفتكرون والبُرحون، وعمل بهم العمِلِّين، أي الأعمال العجيبة التي كأنها تعلم غاية ما أريد منها فتوهمها منقادة، وقالوا للمطر الذي يعظم شأنه ويعم نفعه: وابلون، قال الشاعر: وأصبحتِ المذاهبُ قد أذاعت ... بها الإعصارَ بعد الوابلينا وقال أبو صخر الهذلي:

تُلاعبُ الريحُ بالعَصْرَيْنِ قَسْطَلَه ... والوابلون وتَهْتانُ التَّجاوِيد وقد يدعو إلى هذا الجمع تنزيل الشيء منزلة ما يعقل في الأنس به والحنو عليه كقول الراجز: قد رَوِيَتْ إلاَّ دُهيدِهِينا ... قُلَيِّصات وأبَيْكرِينا ومن شروط هذا الجمع كون الاسم علما كزيد، أو صفة قابلة لتاء التأنيث عند قصده كمسلم، فإن لم تقبلها لم يلق بها هذا الجمع كأحمر وسكران في لغة غير بني أسد، وكصبور وقتيل، ويقوم مقام الوصفية التصغير كقولك: غليم وغليمون، لأن التصغير وصف في المعنى. ولم يشترط الكوفيون الخلو من تاء التأنيث ولا قبولها عند قصد معناه، بل أجازوا أن يقال في هبيرة: الهبيرون، وفي أحمر: أحمرون. وإلى ذلك الإشارة بقولنا "خلافا للكوفيين في الأول والآخر" والبصريون لا يجيزون شيئا من ذلك، فإن سمع منه شيء عدوه نادرا ولم يقيسوا عليه، ومن النادر قول العرب: عَلانون في جمع علانية، قالها الفراء وهو الرجل المشهور. ومثله في الندور قولهم: رجل رَبْعة وربعون، في جمع ربعة وهو المعتدل القامة. ومن النادر أيضا قول الشاعر: فما وَجَدَتْ نساءُ بني نِزار ... حلائلَ أسودِين وأحْمَرِينا وأسود وأحمر من الصفات التي لا تقبل تاء التأنيث لأن مؤنثها ليس على بناء مذكرها. ص: وكونُ العقل لبعض مثَنَّى أو مجموع كافٍ، وكذا التذكير مع اتحاد المادة، وشذ ضَبُعان في ضَبُعٍ وضِبْعان. ش: أي إذا قصدت تثنية أو جمعا فيما لم يعمه العقل غلب ذو العقل وجُعِل ثبوته

له مغنيا عن ثبوته لما زاد عليه، فتقول في رجل سابق وفرسين سابقين: سابقون، وكذا يفعل إذا قُصِدت تثنية أو جمع فيما لم يعمه التذكير مع اتحاد المادة، فيقال في امرئ وامرأة، ومسلم ومسلمة، وأحمر وحمراء، وسكران وسكرى، وابن وابنة، وأخ وأخت، وفتى وفتاة: مسلمان، وأحمران، وسكرانان، وابنان، وأخوان، وفتيان. ولا يقال في رجل وامرأة: رجلان، ولا في ثور وبقرة: ثوران، ولا في غلام وجارية: غلامان، إلا في لغة من قال: رجلة وثورة وغلامة، لأن المادة واحدة. وأما من لم يقل إلا رجل وامرأة، وثور وبقرة، وغلام وجارية فلا يقول: رجلان ولا ثوران ولا غلامان إلا في: رجل ورجل، وثور وثور، وغلام وغلام. ويُفهَم الكلام على الجمع من الكلام على التثنية فيغلب التذكير والعقل مطلقًا، وإن ترك التغليب فهو أولى. وقالوا في ضَبُعٍ وضِبْعانٌ، ضَبُعان، شذوذًا. ص: وما أُعْرِب مثل هذا الجمع غيرَ مستوفٍ للشروط فمسموع، كنحن الوارثون، وأُولي، وعليين، وعالَمين، وأهلين، وأرَضين، وعشرين إلى تسعين. ش: هذا من قولنا "مثل هذا الجمع" إشارة إلى الجمع المعرب بالواو رفعا، وبالياء نصبا وجَرًّا. فمن المعرب بإعرابه الوارد كذلك من أسماء الله تعالى (ونحن الوارثون) و (وإنا لموسعون) و (فنعم الماهدون) وكذلك أولو وعليون وعالمون وأهلون وأرضون وعشرون وأخواته. فأما أسماء الله تعالى فمعنى الجمعية فيها ممتنع، وما ورد منها بلفظ الجمع فتعظيم يتوقف فيه على السماع أصلا، كما يتوقف عليه في غيره من الثناء والحمد، بل التوقف

على السماع في هذا أحق، لأن من الناس من أجاز اشتقاق الأسماء من أفعال الله تعالى على وجه يؤمَنُ معه إيهام ما لا يليق بجلاله تبارك وتعالى، ولا أعلم أحدًا يجيز للداعي أن يدعو الله بلفظ الجمع، لأن ذلك يوهم خلاف التوحيد، وقد تقدم التنبيه على ذلك، وعلى قولهم: أو لو كذا. وأما عليون فاسم لأعلى الجنة كأنه في الأصل فعيِّل من العلو، فجمع جمع ما يعقل وسمى به أعلى الجنة، جعلنا الله من أهله، وله نظائر من أسماء الأمكنة منها: صَرِفَون، وصِفُّون، ونِصِّيبُون، والسَّيْلَحُون، وقِنَّسْرُون، ويَبْرُون، ودارون، وفلسطون، قال الأعشى: ويُجْبَى إليه السَّيْلَحُون ودونَها ... صَرِيفُون في أنهارِها والخَورْنَق وقال زيد بن عدي بن حاتم: تركتُ أخا بكر يَنُوء بصدرِه ... بصِفِّين مخضوبَ الجُيُوبِ من الدم وأما عالَمون فاسم جمع مخصوص بمن يعقل وليس جمعَ عالم، لأن العالم عام والعالمين خاص، وليس ذلك شأن الجموع، ولذا أبى سيبويه أن يجعل الأعراب جمع عَرَب، لأن العَرَب يعم الحاضرين والبادين، والأعراب خاص بالبادين وقال بعضهم: العالمون جمع عالم مرادًا به ما يعقل، وفعل به ذلك لتقوم جمعيته مقام ذكره موصوفا بما يدل على عقله. وهذا لا يصح، إذ لو جاز في عالم هذا الذي زعم لجاز في غيره من أسماء الأجناس الواقعة على ما لا يعقل وعلى ما يعقل، فكنا نقول في جمع شيء أو شخص إذا أريد به ما يعقل: شيئون وشخصون، وفي امتناع ذلك دليل فساد ما أفضى إليه. أما أهلون فجمع أهل، وأهل غير مستوف لشروط هذا الجمع، إذ ليس علما

ولا صفة، فكان حقه ألا يجمع على هذا الجمع، كما لم يجمع عليه آل، لكن أهلا استعمل استعمال "مستحق" في قولهم: هو أهل كذا، وأهل له، فأجرى مُجراه في الجمع، قال الله تعالى (شغلتنا أموالنا وأهلونا) و (من أوسط ما تطعمون أهليكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن لله أهلين من الناس" ومثله قول الشاعر: وما رَحِمُ الأهلين إنْ سالموا العِدا ... بمجديةٍ إلا مضاعفةَ الكرب ولكن أخو المرء الذين إذا دعا ... أجابوا بما يرضيه في السلم والحرب ومثل أهلين في مخالفة القياس جمع مرء على مَرئين في قول الحسن البصري رضي الله عنه: أحسنوا أملاءكم أيها المرْءُون، ولم يُقل في رجل رجلون. أما أرَضون فخلوه من شروط هذا الجمع ظاهر، لأنه جمع أرض، وهو اسم جنس جامد مؤنث دال على ما لا يعقل، إلا أن هذا النوع من الجمع قد صار عندهم دليلا على ما يستعظم ويتعجب منه، لأن أعجب الأشياء ذو العقل، فألحق به في هذا الجمع الأشياء العجيبة في نفع أو ضر، تنبيها على مرتبتها واستعظامها، وبذا علل الفراء "عليين" وقول العرب: أطعمنا مَرَقة مَرَقيْن. ويؤيد هذا الاعتبار في أرضين حسن وروده في مقام التعجب والاستعظام كقول الشاعر: وأيَّة بلدةِ إلا أتينا ... من الأرَضين تعلمه نِزار وكقول الآخر:

لقد ضَجَّتِ الأرْضُونَ إذ قام من بَني ... هَدادٍ خطيبٌ فوق أعوادِ مِنْبر وقيل: إنما قالوا أرضون في أرض على سبيل التعويض، كما فعل في سنة ونحوها، لأن الأرض مثلها في التأنيث المجازي، وعدة الأصول، ونقصان ما حقه ألا ينقص، لأن الأرض اسم ثلاثي مؤنث، فحقه أن يكون بتاء التأنيث، فلما خلا منها نزل نقصها منزلة نقص لام سنة، واستويا في الجمعية تعويضا، ولذا غيرت راء أرضون كما غيرت سين سنة. وقيل أرضون نائب عن أرَضات معدول عنه، وسبب ذلك خوف الالتباس بجمع أرَضة. وأما عشرون فشذوذه بين لانتفاء الجمعية وشروطها، وكذلك أخواتها. وإن كانت بمعنى الجمعية. وقال بعضهم: ثلاثون وأخواته جموع على سبيل التعويض كما ذكر في أرض، لأن تاء التأنيث من مفرداتها سقطت حين عُدَّ بها المؤنث ولم يكن من حقها أن تسقط، فجمعت هذا الجمع تعويضا، وعوملت العشرة بذلك وإن لم يكن في عشرين معنى الجمعية، لأن المثنى قد يعرب إعراب الجمع، وغيرت عينها وشينها كما غيرت سين سنة وراء أرض. وهذا قول ضعيف، لأن ذلك لو كان مقصودا لم يكن واحد من هذه الأسماء مخصوصا بمقدار، ولا يعهد ذلك في شيء من الجموع قياسية كانت أو شاذة. ص: وشاع هذا الاستعمالُ فيما لم يُكسَّر من المُعَوَّض من لامه هاءُ التأنيث، بسلامة فاء المكسورها، وبكسر المفتوحها، وبالوجهين في مضمومها، وربما نال هذا الاستعمال ما كُسِّر، ونحو: رِقة، وأضاة، وإوَزَّة. ش: "هذا الاستعمال" إشارة إلى الرفع بالواو والنصب والجر بالياء وزيادة النون بعدهما، وخرج بما لم يكسر نحو: شفة وشاة، فإنهما استغنيا عن هذا الاستعمال بأن كسِّرا على شفاة وشياه، بخلاف سنة وثبة ونحوهما فإنهما لم يكسَّرا، فجعل لهما ولأمثالهما هذا الاستعمال عوضا. وخرج بذكر "الهاء" دون "التاء" بنت وأخت. وأشير "بكسر الفاء وفتحها وضمها" إلى ما حكى ابن كيسان عن الكسائي: أن المعوض من لامه هاء التأنيث إن كان مضموم الأول كقُلة وثُبة جاز في جمعه الضم

والكسر. وإن كان مفتوح الأول أو مكسورة كسنة ومائة لم يجز في جمعه إلا الكسر. والإشارة "بربما نال هذا الاستعمال ما كسِّر" إلى بُرَة فإنه قيل في جمعها بُرى وبَرات وبرون، وكذلك ظبة فإنه قيل في جمعها ظبا وظبات وظبون، وقال الشاعر يصف سيوفا: يرى الرَّاءُون في الشَّفَرات منها ... وَقُود أبي حُباحِب والظبينا ومثل هذا مما وجد له تكسير قليل. وكذا المعوَّض من فائه قليل أيضا، والمحفوظ منه: رِقة ورقون، ولِدة ولدون، وحِشة وحشون، والرِّقة الفضة، واللدة المساوي في السن، والحشة الأرض التي لا إنس فيها. ومن كلام العرب: وِجْدانُ الرِّقين يغطي أفَن الأفين. وقال الشاعر في جمع لِدة: رأيْن لداتهن مُؤَزَّراتٍ ... وشَرْخُ لِدِيّ أسنانُ الهِرام ومن الوارد بهذا الاستعمال على قلة نحو: أضاة وإضون؛ وإوَزَّة وإوزون، ونحوها، قال الشاعر: خلت إلا أيَاصر أو نُؤُيّا ... محافِرُها كأسْرية الإضينا وقال الشاعر: تُلْقَى الإوزّونَ في أكْنافِ دارَتها ... تمشي وبين يديها البُرّ منثور

ص: وقد يُجْعَلُ إعرابُ المعتلِّ اللام في النون منونةً غالبا، ولا تُسْقِطُها الإضافةُ، ويلزمه الياء. وينصب كائنا بالألف والتاء بالفتحة على لغة، ما لم يُرَدّ إليه المحذوفُ، وليس الواردُ من ذلك واحدا مردودَ اللام خلافا لأبي علي. ش: من العرب من شبه سنين ونحوه بغسلين، فتلزمه الياء ويعرب بالحركات فيقول: إن سنينا يطاع إليه فيها لسنينٌ، وسنينك أكثر من سنيني. وبعض هؤلاء لا ينون فيقول: مرت عليه سنينُ، فترك التنوين لازم لأن وجوده مع هذه النون كوجود تنوينين في حرف واحد، وإنما اختص هذا النوع بهذه المعاملة لأنه أعرب إعراب جمع التصحيح، وكان الأحق به إعراب جمع التكسير لخلو واحده من شروط جمع التصحيح، ولعدم سلامة نظمه، وكان جديرا بأن يجرى مجرى صنْوانٍ وقنوا، فلما كان له ذلك مستحقا ولم يأخذه نبه عليه بهذه المعاملة، وكان بها مختصا، ولو عومل بهذه المعاملة نحو رقين لجاز قياسا وإن لم يرد به سماع، وقد فعل ذلك ببنين كقول الشاعر: وكان لنا أبو حَسَنٍ عليٌّ ... أبا بَرَّا ونحنُ له بنينُ لأنه أشبه سنين في حذف اللام وتغيير نظم الواحد، ولتغيير نظم واحده قيل فيه: فعلت البنون، ولا يقال: فعلت المسلمون. ولو عومل بهذه المعاملة عشرون وأخواته لكان حسنا، لأنها ليست جموعا، فكان لها حق في الإعراب بالحركات كسنين. ويمكن أن يكون هذا معتبرا في الأربعين من قول جرير: عَرِينُ من عُرَيْنَةَ ليس مِنّا ... بَرِئْتُ إلى عُرَيْنَةَ من عَرِينِ عرفنا جعفرا وبني عَبِيد ... وأنْكَرْنا زعانفَ آخرينِ

وماذا يدَّرِي الشعراءُ مني ... وقد جاوزتُ حدَّ الأربعينِ فتكون الكسرة كسرة إعراب، ويمكن أن تكون كسرة ضرورة كما سبق في البيت قبله. ويجوز أن تكون كسرة نون الجمع وما حمل عليه لغة، كما أن فتح نون المثنى وما حمل عليه لغة، ومن كسر نون الجمع ما أنشد ثعلب من قول الشاعر: إنِّي أبِيٌّ أبِيٌّ ذو محافَظة ... وابنُ أبيٍّ أبِيٍّ من أبيينِ وإذا جاز لهم الانقياد إلى التشبيه اللفظي في الخروج عن أصل إلى فرع، فالانقياد إليه في الخروج عن فرع إلى أصل أحق بالجواز، وذلك أنهم قالوا في: ياسمين وسِرجين وشياطين، ياسمون وسرجون وشياطون، فأعربوها إعراب جمع التصحيح تشبيها للآخر بالآخر، وإن كان نون بعضها أصليا، مع أن هذا الإعراب فرع، والإعراب بالحركات أصل. فأنْ يشبه باب سنين وظبين بباب قَرين ومُبين أنسب وأقرب. وإنما ألزموه إذا أعربوه بالحركات الياء دون الواو لأنها أحق، ولأن باب غِسْلين أوسع مجالا من باب عَرَبُون، ولأن الواو كانت إعرابا صريحا إذ لم يشترك فيها شيئان، فلو لزمت عند الإعراب بالحركات لكان الرفع بالضمة معها كرفعين، وليست الياء كذلك إذ لم ينفرد بها شيء واحد. على أن المبرد قد أجاز لزوم الواو عند التسمية بهذا الجمع، فيقول في المسمى بزيدين: هذا زيدونٌ، ورأيت زيدونًا، ومررت بزيدونٍ. ويؤيد قوله قولُهم: الماطِرُون وسَيْلَحُون وناطرون وماعزون في أسماء أمكنة، والأجود إجراؤها مُجْرَى الجمع، ثم التزام الياء، وأما التزام الواو وجعل الإعراب في النون فقليل، والحمل عليه ضعيف.

وقد جعل أبو علي حمدون ونحوه أعجميا فمنعه من الصرف، وحمله على ذلك اعتقاده أن زيادة نون وواو بعد ضمة في آخر اسم ليس من وضع العرب، لعدم ذلك في النكرات التي هي الأصول، وهذا شبيه بقول سيبويه إن "حاميم" لو سمي به لم ينصرف للعلمية والعجمة، لأن "فاعيل" ليس من الأوزان العربية بل من الأوزان العجمية كهابيل، واعتبار سيبويه أقوى، لأن فاعيلا لم يوجد في لسان العرب نكرة ولا معرفة، بخلاف المزيد في آخره واو مضموم ما قبلها فإنه موجود في النوعين، فالنكرة كعَرَبُون وزَرَجُون، والمعرفة كَحَمْدُون وسَعْدُون. والضمير من قولي "وينصب كائنا بالألف والتاء" عائد إلى المعتل اللام المعوض منها تاء التأنيث، أي إذا جمع هذا النوع بالألف والتاء جاز عند بعض العرب أن ينصب بالفتحة، كقول بعضهم: سمعت لُغاتهم. وكقول الشاعر: فلمّا جَلاها بالأيام تَحَيَّزَت ... ثُباتًا عليها ذُلُّها واكتئابُها هكذا رواه الفراء بفتح التاء، ولا يعامل بهذه المعاملة إلا نحو لُغَة وثُبَه من المعتل اللام المعوض منها التاء، ما لم يرد إليه المحذوف، فإن رد كسنوات وعضوات رجع إلى ما هو به أولى وهو النصب بالكسرة، لأن نصبه بالفتحة قبل الرد كان لسببين: أحدهما: الشبه بباب قضاة في أنه جمعٌ آخرُه تاءٌ مزيدة بعد الألف في موضع لام معتلة، والثاني: ثُبات بإزاء ثبين، وكسرته بإزاء يائه، فكما جاز على لغة أن يراجع الأصل بثبين تشبيها بقرين، جازت مراجعته بثبات تشبيها ببنات، وكل واحد من السببين منتف مع رد المحذوف، فيبقى على الإعراب الذي هو به أولى.

ولا يعامل عدات من المعتل الفاء معاملة ثبات لانتفاء السببين المذكورين. وزعم أبو علي أن قول من قال: سمعت لُغاتَهم، بالفتح لا يحمل على أنه جمع بل على أنه مفرد رُدَّ لامه فقلب ألفا، وهذا الذي ذهب إليه مردود من أربعة أوجه: أحدهما: أن جمعية لغات في غير "سمعت لغاتَهم" ثابتة بإجماع، والأصل عدم الاشتراك لا سيما بين إفراد وجمع. الثاني: أن التاء في هذا الجمع عوض من اللام المحذوفة، فلو ردت لكان ذلك جمعا بين عوض ومعوض منه، وذلك ممنوع. الثالث: أن قائل "تحيزت ثباتا" يصف مشتار عسل من شق جبل، والعادة جارية بأن النحل التي تكون هناك إذا نُفِّرت بالإيام، وهو الدخان، اعتزلت مع يعاسيبها ثبة ثبة، فمعنى ثبات إذن جماعات، لا يستقيم المعنى بغير ذلك. الرابع: أن بعض العرب قال: رأيت ثباتك، بفتح التاء، حكاه ابن سيده، وهذا نص في الجمعية التي لا يمكن فيها ادعاء الإفراد، فبطل قول أبي علي بطلانا جليا غير خفي.

باب كيفية التثنية وجمعي التصحيح

باب كيفية التثنية وجمعي التصحيح ص: الاسمُ الذي حرفُ إعرابه ألف لازمةٌ مقصور، فإن كان ياء لازمةً تلي كسرةً فمنقوص، فإن كان همزة تلي ألفا زائدة فممدود. ش: تبيين كيفية التثنية وجمعي التصحيح مفتقر إلى معرفة المقصور والمنقوص والممدود، حتى إذا جرى في الباب ذكر بعضها لم يجهل المعنى به. فالمقصور هو الاسم الذي حرف إعرابه ألف لازمة. فذكر الاسم مخرج للفعل المضارع الذي حرف إعرابه ألف نحو: يَرْضى، وذكر حرف الإعراب مخرج لكل اسم مبني آخره ألف نحو: إذا وهما، وذكر اللزوم مخرج للمثنى المرفوع على اللغة المشهورة، وللأسماء الستة في حال النصب. والمنقوص العُرْفي الاسم الذي حرف إعرابه ياء لازمة تلي كسرة، فالاسم مخرج للمضارع الذي حرف إعرابه ياء تلي كسرة نحو: يُعطى، وحرف الإعراب مخرج لكل اسم مبني آخره ياء تلي كسرة نحو: هي، والذي. واللزوم مخرج لنحو الزيدين: وللأسماء الستة في حال الجر. ولما كان المنقوص في اللغة متناولا لكل ما حذف منه شيء كيدٍ وعِدَة، وكان المقصود هنا غير ذلك قيِّد بالعرفي، لأن العرف الصناعي قد غَلَّب إطلاق المنقوص على نحو: شَجٍ وقاضٍ. والممدود الاسم الذي حرف إعرابه همزة تلي ألفا زائدة، فذكر الاسم مستغْنًى عنه، لأن المخرَج به في رسم المقصور والمنقوص ما يشبههما من الأفعال المضارعة، إذ لو لم يذكر اسم في رسمهما لتناول رسم المقصور نحو: يَرْضَى، ورسمُ المنقوص نحو يُعطى. وههنا لو لم يذكر اسم لم يتناول رسمُ الممدود فعلا، إذ لا يوجد فعل آخره همزة تلي ألفا زائدة، وإنما تلي ألفا منقلبة كيشاء، ولكن ذكر الاسم ليعلم من أول وهلة أن الممدود ليس من أصنافه غيره. وذكر حرف الإعراب ليعلم من أول وهلة أن المقصود ممدود معرب.

وذكرت زيادة الألف احترازًا من: داء وماء ونحوهما، فإن الألف في مثل هذا لا تكون زائدة، لأن الحكم بزيادتها يوجب نقصا عن أقل الأصول، وإنما هي بدل من أصل. ص: فإذا ثُنِّي غيرُ المقصور والممدود الذي همزته بدل من أصل أو زائدة لَحِقَت العلامةُ دون تغيير، ما لم تَنُب عن تثنيته تثنية غيره غالبا. ش: غير المقصور والممدود المقيد يعم الصحيح الآخر كرجل وامرأة، والمعتل الآخر الجاري مجرى الصحيح كمَرميّ ورَمْي ومَغْزُوّ وغزْو، والمعتل المنقوص كشج وقاضٍ، والمهموز الذي ليس ممدودًا كرَشأ وماء ونَسِئ ومَكْلوء، والممدود الذي همزته أصل كقُرَّاء، وهو الكثير القراءة، فكل هذه وأشباهها لا تغير في التثنية بأكثر من فتح الآخر ولحاق العلامة التي سبق ذكرها. وأشرت بقولي "ما لم تنب عن تثنيته تثنية غيره" إلى نحو قولهم في تثنية سواء: سِيّان، فإنه تثنية سِيّ، واستغنوا به غالبا عن تثنية سواء. وقلت "غالبا" احترازا عن رواية أبي زيد عن بعض العرب: هذا سواءان. وكذلك استغنوا غالبا بألْيَيْن وخُصْيَيْن عن أليتين وخصيتين، وقد يقولون أليٌ وخُصْيٌ بمعنى خصية، وقد يقال في التثنية أليتان وخصيتان، قال عنترة: متى ما تَلقَني فَرْدَيْن تَرْجُف ... رَوانِف ألْيَتَيْك وتُسْتطَارا وقال طفيل الغنوي: وإنَّ الفحل تُنْزَعُ خُصْيتاه ... .فَيَصْبِحُ جافرا قَرِحَ العِجان ومن الاستغناء بتثنية عن تثنية قولهم في ضَبُع وضِبْعان: ضَبُعان، ولم يقولوا: ضبعانان، وهو القياس، كما يقال في: امرئ وامرأة، وابن وابنة: امرآن وابنان.

ص: وإذا ثُنِّيَ المقصورُ قلِبتْ ألفُه واوا إن كانت ثالثةً بدلا منها، أو أصلا، أو مجهولةً ولم تُمَلْ، وياء إن كانت بخلاف ذلك، لا إن كانت ثالثةَ واويٍّ مكسور الأول أو مضمومِه، خلافا للكسائي. والياءُ –في رَأيٍ- أولى بالأصل والمجهولة مطلقا. ش: لما كان آخر الاسم إذا ثني مستحقا لفتحة، وكانت الألف لا تقبل حركة، وجب لها عند لقاء علم التثنية أن تحذف أو تبدل حرفا قابلا للحركة، فامتنع الحذف لأنه كان يوقع في الالتباس بالمفرد حال الرفع والإضافة، فتعين القلب. فإن كانت رابعة فصاعدا قلبت ياء، سواء كانت بدل واو كمُعطًى، أو بدل ياء كمَرْمَى، أو زائدة كحُبْلَى وعَلقَى. وإن كانت ثالثة ردت إلى الواو إن كانت بدلها كقفًا، وإلى الياء إن كانت بدلها كهُدًى، وقد يكون لها أصلان فيجوز فيها الوجهان كرَحًى، فإنها يائية في لغة من قال: رَحَيْـ وواوِيّة في لغة من قال: رَحَوْت، فلمن ثناها أن يقول: رحيان ورحوان، والياء أكثر. وإن كانت الألف أصلا لكونها في حرف أو شبهه كألا الاستفتاحية ومَتَى، أو كانت مجهولة الأصل كخَسا بمعنى فرد، ولَقَى بمعنى ملْقًى لا يعبَأ به، فالمشهور فيما كان من هذين النوعين أن يعتبر حاله في الإمالة فإن أمالته العرب كبَلى ومَتَى ثُنِّيَ بالياء إذا سمِّي به، وإن لم تمله العرب كإلى وأمَا بمعنى حقا ثنِّيَ بالواو. ومن النحويين من لا يعدل عن الياء في النوعين ثَبتت الإمالة أو لم تثبتْ، ومفهوم قول سيبويه عاضِدٌ لهذا الرأي، لأنه أصَّل في الألف المجهولة أصلا يقتضي ردها إلى الواو إذا كانت موضع العين، وردها إلى الياء إذا كانت موضع اللام، وعلل ذلك بأن انقلابها ثانية عن واو أكثر من انقلابها عن ياء، وأمر الثالثة بالعكس.

وأجاز الكسائي في نحو: رضًى وعُلا من ذوات الواو المكسورة الفاء والمضمومة أن تثنى بالياء قياسًا على ما ندر، كقول بعض العرب: رضى ورضيان، وشذوذ هذا صارف عن إشارة إليه لقياس عليه. ص: وتبدل واوا همزةُ الممدودِ المبدلة من ألف التأنيث، وربما صُحِّحت أو قُلِبت ياءً، وربما قلبت الأصليةُ واوا، وفِعْل ذلك بالمُلحقة أوْلى من تصحيحها، والمبدلة من أصل بالعكس، وقد تقلب ياء، ولا يقاس عليه خلافا للكسائي. ش: الهمزة من: صَحْراء أو ثُلاثاء وأرْبعاء وقاصعاء ونُفساء، ونحوها من المؤنث مبدلة من ألف التأنيث لا موضوعة للتأنيث خلافًا للكوفيين والأخفش، ويدل على ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أن كون الألف حرف تأنيث ثابت في غير هذه الأمثلة بإجماع، وكون الهمزة للتأنيث في غير هذه الأمثلة منتف بإجماع، وإبدال همزة من حرف لين متطرف بعد ألف زائدة ثابت بإجماع، والحكم على الهمزة المشار إليها بأنها مبدلة من ألف مانع من مفارقة الإجماع المذكور، فيتعين الأخذ به. الوجه الثاني: أن القول بذلك مكمل لما قصد من توافق هاء التأنيث وألفه، وتركه مفوت لذلك، فوجب اجتنابه، وذلك أنهم ألحقوا هاء التأنيث بألفه في التزام فتح ما قبلها وجواز إمالته، فألحقوا ألفه بهائه في مباشرة المفتوح تارة، وانفصالها

بألف زائدة تارة، فسَكْرَى نظير تمرة، وصحراء نظير أرطاة، وتُوصِّل بذلك أيضًا إلى إبدال الألف همزة لتوافق الهاء بظهور حركة الإعراب وهذه حكمة لم يبدلها إلا القول بأن الهمزة المشار إليها بدل الألف فوجب اعتقاد صحته. الوجه الثالث: أن الهمزة لو كانت غير بدل لساوت الأصلية في استحقاق السلامة في التثنية والجمع والنسب فكان يقال بدلا من صَحْراوَيْن وصحرَاوات وصحراويّ: صحراءان وصحراءات وصحرائي، كما يقال: قثاءان وقثاءات وقثائي. بل كانت همزة صحراء أحق بالسلامة، لأن فيها ما في همزة قثاء من عدم البدلية كما زعموا، وتزيد عليها أنها دالة على معنى، وسلامة ما يدل على معنى أحق من سلامة ما لا يدل على معنى، فثبت ما أردناه والحمد لله. وبعد تقرير هذا فلتعلم أن الهمزة المشار إليها لما كانت بدل ألف كره بقاؤها في التثنية، لأن وقوعها بين ألفين كتوالي ثلاث ألفات، فتوقِّيَ ذلك ببدل مناسب، وهو إما واو وإما ياء، فكانت الواو أولى، لأنها أبعد شبها من الألف، وإنما تركت الهمزة لقربها من الألف، والياء مثلها في مقاربة الألف فتركت، وتعينت الواو. وبعض العرب يبقي الهمزة، وبعضهم يؤثر الياء لخفتها، وكلاهما نادر. ومثله في الندور إبدال الهمزة الأصلية واوا كقول بعضهم في تثنية قرّاء: قرَّاوان، وفِعْل ذلك بِعلْباء وقوباء ونحوهما أولى من التصحيح، والتصحيح في نحو كساء ورداء أولى من إبدال الهمزة واوا. وإلى همزة نحو: كساء ورداء أشير بقولنا "والمبدلة من أصل" وأن المقيس عليه قلبُ المبْدَلة من ألف التأنيث واوا كصحراوين، وسلامة الأصلية كقرّاءين، وإجازة وجهين في الملحقة مع ترجيح القلب كعلباوين وعلباءين، وإجازة الوجهين في المبدلة من أصل مع ترجيح السلامة ككساءين وكساوين ورداءين ورداوين، وما سوى ذلك يحفظ ولا يقاس عليه إلا على رأي الكسائي، وقد بُين.

ص: وصَحَّحُوا مِذرَوَيْنِ وثِنايَيْنِ تصحيحَ شَقاوة وسِقاية، للزوم عَلَمي التثنية والتأنيث. ش: المذْروان طرفا الألية، وطرفا القوس، وجانبا الرأس، ولا يستعمل مفردهما، كذا قال أبو علي القالي في كتاب الأمالي، والمشهور إطلاقه على طرفي الألية قال عنترة: أحَوْلِي تَنْفُض اسْتُكَ مِذْرَوَيْها ... لِتَقْتُلَني فهأنذا عُمارا وهو تثنية مذرى في الأصل، إلا أنه لا يفرد فشبه بمفرد في حشْوه واو مفتوحة كشقاوة، ولو أفرد لقيل في تثنيته مذريا، كما يقال في تثنية ملهى ملهيان، لأن ألف المقصور إذا كانت رابعة فصاعدا قلبت في التثنية ياء مطلقا. والثِّنايان طرفا العقال، لا يستعمل إلا بلفظ التثنية، هكذا قال الأئمة الموثوق بقولهم، ولو أفرد لقيل فيه ثناء، وفي تثنيته ثناءان وثناوان كما يفعل بكل ممدود همزته مبدلة من أصل، لكنه لم يفرد، فشبه بمفرد في حشوه ياء كسقاية. ص: وحُكْمُ ما أُلْحِقَ به علامةُ جمع التصحيح القياسيةُ حكم ما ألحق به علامةُ التثنية، إلا أن آخر المقصور والمنقوص يحذفان في جمع التذكير، وتلي علامتاه فتحة المقصور مطلقا، خلافا للكوفيين في إلحاق ذي الألف الزائدة بالمنقوص. ش: احترز بالقياسية من نحو: بنين وعلانين وربعين، في جمع ابن ورجل علانية وربعة، فإن مقتضى القياس أن يقال في ابن: ابنون، كما يقال في التثنية: ابنان. وأن يقال في علانية وربعة علانيات وربعات، كما يفعل بكل ما فيه تاء التأنيث. والحاصل أن الصحيح الآخر غير المؤنث بالتاء، والمعَلَّ الجاري مجرى الصحيح، والمهموز غير الممدود، والممدود الذي همزته أصل إذا جُمِع جَمْعَ التصحيح لحقته علامته دون تغيير، كما لحقته علامة التثنية، وأن الممدود الذي همزته

غير أصل ينال همزته في جمع التصحيح ما نالها في التثنية فيقال في: زيد وهند وعلي وأمر مقضيّ ومَحْبُوّ وأمْر مُرْجأ وأمر مَرْجُوّ وإرجاء وزكرياء وصحراء وعطاء علما لرجل: زيدون، وهندات، وعليون، وأمور مقضيات، ومحبوون، وأمور مرجُوّات، ورجال مرجُوون، وأمور مُرْجَآت وإرجاءات، وزكرياءون، وصحراوات، وعطاءون، وسماوات، فتصحح ما تصحح في التثنية وتعل ما أعل فيها. وأما المقصور فتحذف ألفه في جمع التذكير وتلي الواو والياء الفتحة، ويستوي في ذلك ما ألفه منقلبة عن أصل كالأعلى، وما ألف زائدة كحُبْلى اسم رجل فيقال: جاء الأعلَوْن والحُبْلَون، ومررت بالأعلَيْن والحبلَين. هذا مذهب البصريين. وأما الكوفيون فيحذفون الألف الزائدة، ويضمون ما قبلها مع الواو ويكسرونه مع الياء، فيقولون: جاء الحبلُون ومررت بالحبلِين، فإن كان المقصور أعجميًا أجازوا فيه الوجهين لاحتمال الزيادة وعدمها. وأما المنقوص فتحذف ياؤه في جمع التذكير، ويضم ما قبلها مع الواو، ويترك على حاله مع الياء، نحو: جاء القاضُون، ومررت بالقاضِين. وللمقصور والمنقوص مع ألف جمع التأنيث ما لهما مع ألف التثنية، كقولك في: حُبلى، وأمرٍ بادٍ: حبلَيات، وأمور بادِياتٌ. ص: وربما حُذِفت خامسةً فصاعدا في التثنية، والجمع بالألف والتاء، وكذا الألف والهمزة من قاصِعاء ونحوه، ولا يقاس عليه، خلافا للكوفيين. ش: الضمير في "حذفت" عائد على الألف الزائدة، والإشارة بذلك إلى ما روى الفراء من قول بعض العرب في تثنية الخوزلي وخنفساء وباقلاء وعاشوراء:

خوزلان وخنفسان وباقلان وعاشوران، وأنشد: تَرَوَّحَ في عُمِّية وأعانه ... على الماء قوم بالهَراوات هوج بفتح هاء الهَروات وهو جمع هَراوى، وهَراوى جمع هِراوَة. وهذا يدل على أن الألأف قد تحذف وإن لم تكن زائدة، لأن ألف هَراوى منقلبة عن لام الكلمة. والكوفيون يقيسون على هذا، والمنصفون من غيرهم يقلبون ما سمع منه ولا يقيسون عليه لقلته. ص: وتُحْذَف تاء التأنيث عند تصحيح ما هي فيه، فيعامل معاملة مؤنث عارٍ منها لو صُحِّحَ. ويقال في المراد به من يعقل من: ابن وأب وأخ وهَنٍ وذي: بنون وأبون وأخُون وهَنُون وذَوُو، وفي بِنْت وابنة وأخت وهنَة وذات: بنات وأخوات وهَنات وهنوات وذوات وأمهات في الأم من الناس أكثر من أُمّات، وغيرها بالعكس. ش: إذا جمع ما فيه تاء التأنيث بالألف والتاء حذفت التاء منه، ووليت ألف الجمع ما كان قبل التاء من تغيير إن لم يكن ألفا ولا همزة ممدود مبدلة كقولك في مسلمة وجارية وعرقوة وقارئة وقراءة: مسلمات وجاريات وعرقوات وقارئات وقراءات، فإن كان الذي قبل التاء المحذوفة ألفًا أو همزة ممدود مبدلة فعل به ما كان يفعل بمثله مباشرا لألف التثنية، فيقال في: فتاة فتيات، وفي قناة قنوات، وفي سماء سماءات وسماوات، وفي باقلاء باقلاوات. وكان حق ابن وابنة أن يقال في تصحيحهما: ابنون وابنات، كما قيل في تثنيتهما ابنان وابنتان، إلا أن المسموع ما ذكر من بنين وبنات، فنبه عليه. وحاملهم على ذلك الإشعار بأن أصل الباء في الإفراد الفتح. وأما قولهم في أب وأخ وهن: أبون وأخون وهَنون، فاصلة: أبُوُون وأخُوُون

وهنُوُون بالإتباع، ثم حذفت ضمة الواو تخفيفًا، فالتقى ساكنان فحذف سابقهما، وبقيت ضمة العين مباشرة في اللفظ لواو الجمع، ويقال في غير الرفع، أبِين، والأصل: أبِوِين، ثم عرض السكون والقلب والحذف. ومن شواهد أخين وأبين قراءة بعض السلف (قالوا نعبد إلهك وإله أبيك إبراهيم وإسماعيل وإسحق) وقال أبو طالب: ألم تَرَني من بعد هَمٍّ هَممْتُه ... لفرقَةِ حُرٍّ من أبين كرامِ وأنشد ابن دريد: كريمٌ طابت الأعراقُ منه ... وأشبه فعلُه فعلَ الأبينا كريم لا تُغَيِّرُه الليالي ... ولا اللاواء في عهد الأخينا فجمع أبا على أبين، وأخا على أخين، وقال آخر: فلما تَبَيَّنَّ أصواتَنا ... بكَيْنَ وفَدَّيْنَنا بالأبِينا وأنشد الفراء مستشهدًا على أخ وأخين: فقُلْنا أسْلِموا إنّا أخوكم ... وقد بَرِئت مِنَ الإحَن الصُّدور وأنشد غيره:

وما رحم الأهلين إنْ سالموا العدا ... بمجدية إلا مضاعفةَ الكرب ولكن أخو المرء الذين إذا دعا ... أجابوا بما يرضيه في السلم والحرب وقال آخر في هن وهنين: أريدُ هَناتٍ من هَنِينَ وتَلتَوي ... عَليَّ وآبى من هَنين هناتِ ولو قيل: حم وحمون لم يمتنع، ولكن لا أعلم أنه سمع. وأما ذو فقيل فيه ذوُو بتصحيح العين بعد فتحة، ولم يفعل به من الإتباع ما فعل بأخواته لإفضاء ذلك فيه إلى حذف عينه بعد حذف لامه، فتخلص من ذلك برد فائه إلى حركته الأصلية كما فعل في التثنية. وكان حق بنت وأخت أن يقال فيهما بنتات وأختات لأن تاءهما قد غيرت لأجلها البنية وسكن ما قبلها فأشبهت تاء ملكوت، ولأجل ذلك جمع يونس بينها وبين ياء النسب فقال: بِنتيّ وأخْتِيّ، لكنه وافق ههنا على الامتناع من بنتات وأختات لأن تاء بنت وأخت وإن خالف لحاقهما لحاق تاء التأنيث، فهي مخصوصة ببنية لا يراد بها إلا مؤنث، ولفظها كلفظ المستقلة بالدلالة على التأنيث، فكان اجتماعها مع تاء الجمع أثقل من اجتماعها مع ياء النسب، فلذلك اتفق على حذفها في الجمع، واستغنوا عن أبنات ببنات، كما استغنوا عن أبنين ببنين. ونظير هنات لثات وسنات، ونظير هَنَوات سَنوات وعِضوات. وأما ذات وذوات فكقناة وقنوات، لأن تاء ذات وجب لها من الحذف ما وجب لتاء قناة، فباشرت الألف المنقلبة عن العين ألف الجمع فاستحقت الفتح والرد إلى الأصل فقيل: ذوات بحذف اللام، ولو ردت اللام لقيل: ذويات وذايات. وكان حق "أم" ألا يجمع بالألف والتاء، لأن ذلك حكم ما لا علامة فيه من أسماء الأجناس المؤنثة كعنز وعناق، ولكن العرب جمعته بهما، فلحق بما بابه السماع كسماوات وأرَضات، وزادوا الهاء قبل العلامة في الأناسي غالبًا وفعلوا في البهائم

بالعكس، واجتمع الاستعمالان في قوله: إذا الأمّهاتُ قَبَحْنَ الوجوه ... فَرَجْتَ الظَّلامَ بأمّاتكا ومن ورود أمات في الأناسي قول كلثوم بن عياض: حماةُ الضيم آباءٌ كرام ... وأمّاتٌ فأنجدَ واستغارا وقول عبد الله بن عمرو اللخمي: أولئك أمّاتي رفعْنَ مقائمي ... إلى طالع في ذِرْوَةِ المجد صاعد ومن وروده في البهائم قول حميد بن ثور: وأمات إطلاءٍ صغارٍ كأنها ... دمالجُ يجلوها لينفق بائع وربما قيل في أم أمهة، قال قصي بن كلاب: إني لدى الحرب رَخِيٌّ لَبَبِي ... عند تناديهم بهالٍ وهَبِي مُعتزِم الضربة عال نسبي ... أُمَّهَتِي خندفُ والياس أبي ص: والمؤنثُ بهاءٍ، أو مجردا ثلاثيا صحيح العين ساكنةً غيرَ مضاعف ولا صفة تتبع عَيْنَه فاءه في الحركة مطلقا، وتفتح وتُسَكّن بعد الضمة والكسرة، وتُمْنَعُ

الضمةُ قبل الياء، والكسرةُ قبل الواو باتفاق، وقبلَ الياء بِخُلف، ومطلقا عند الفراء فيما لم يُسْمَع، وشذ جروَات. والتزم فَعْلات في لَجْبَة، وغُلِّبَ في رَبْعَة لقول بعضهم لَجَبة ورَبَعة، ولا يقاس على ما ندر من كَهَلات، خلافا لقطرب، ويسوغ في لَجْبَة القياس وفاقا لأبي العباس، ولا يقال فَعْلات اختيارا فيما استحق فَعَلات، إلا لاعتلال اللام، أو شبه الصفة. وتَفْتح هُذَيْل عين جَوزَات وبَيضات ونحوهما، واتّفق على عِيَرات شُذوذًا. ش: المراد بذي الهاء نحو: تَمْرَة وغَرْفَة وكِسرة، وبالمجرد نحو: دَعْد وجُمل وهِنْد، فإن سيبويه سوى بينهن فيما ذكرته، فلدعْد وجمْل وهنْد ما لتمرة وغرفة وكسرة إذا جمعن بالألف والتاء. واحترز بصحيح العين عن معتله نحو: جَوْزَة وديمة ودوْلة. وبساكن العين من متحركه كشجرة وسَمُرة ونَمِرة. وبنفي التضعيف من نحو: حَجَّة وحُجّة وحِجّة، وبنفي الوصفية من نحو: ضخْمة وجِلْفة وحُلوة. وأشير بإطلاق الإتباع إلى عدم الفرق فيه بين المفتوح الفاء والمضمومها والمكسورها من ذي الهاء والمجرد نحو: تَمَرات وغُرفات وكِسرات، ودَعَدات وجُمُلات وهِندات. والضمير في "تفتح وتسكن" عائد إلى العين، أي ويجوز مع ضم العين في المضموم الفاء الفتح والتسكين، وهما أيضًا جائزان في المكسور الفاء، فيكون في كل واحد منهما ثلاثة أوجه، وسكت عن ذكر عدم الإتباع في المفتوح الفاء، فعلم أن الإتباع فيه لازم فلا يعدل عن فتح عينه وهو مستوف للشروط، إلا إذا اعتلت لامه فإن ذلك يفتح عند قوم من العرب لتسكين العين في الاختيار، ومن ذلك: ظبِيات وشرْيات في جمع ظبية وشرية، حكاه أبو الفتح، واللغة المشهورة ظَبَيات وشرَيات. وربما عدل عن الفتح إلى السكون لشبه الصفة كقولهم: أهْل وأهْلات، وأهَلات بالفتح أشهر وأنشد سيبويه:

وهمْ أهَلات حولَ قيس بن عاصم ... إذا أدْلَجُوا باللّيل يَدعُونَ كَوثرا وقيل أيضًا: أهْلة بمعنى أهل، حكاه الفراء، فالأولى بأهْلات أن يكون جمعا له لا لأهل. وقد تسكن عين فعْلات جمع فعْلة إذا كان مصدرًا كحسْرات، تشبيها بجمع فعلة صفة، لأن المصدر قد يوصف به، قال أبو الفتح: ظبْيات أسهل من رفْضات لاعتلال اللام، ورفْضات أسهل من تمْرات لأن المصدر يشبه الصفة. قلت: فإذا قيل: امرأة كلبة، ففي جمعه الفتح باعتبار الأصل، والتسكين باعتبار العارض. ولا يُعْدل عن فعَلات إلى فعْلات فيما سوى ذلك إلا في ضرورة، وهو من أسهل الضرورات، لأن العين المفتوحة قد تسكن في الضرورة وإن لم تكن في جمع ولا ساكنة في الأصل، فلأن تسكن إذا كانت في جمع وكانت ساكنة في الأصل أحق وأولى، ومن تسكينها مع كونها غير جمع وغير ساكنة في الأصل قول الشاعر: وعَرْبة أرضٌ لا يُحِلُّ حرامها ... من الناسِ إلا اللوْذَعيٌّ الحُلاحِل أراد عَرَبة وهي أرض مكة. وقال آخر: الموتُ يأتي بمقدار خَواطِفُه ... وليس يُعْجزه هَلْكٌ ولا لُوح أراد هَلكا، والهَلك ما بين كل أرض إلى الأرض السابعة. واللوح ما بين السماء والأرض. وقال آخر: يا عَمْرُو يا بنَ الأكْرَمينَ نَسْبا ... قد نَحبَ المجد عليك نَحْبا

وقال آخر: وما كلُّ مبْتاع ولو سَلْفَ صَفْقُه ... يراجعُ ما قد فاته برَدادِ أراد: ولو سَلَف، فسكن اللام ضرورة. وحكى يونس في جمع جِرْوَة جرِوات بكسر الراء، وهي في غاية من الشذوذ. ويقال للشاة إذا قل لبنها: لجْبة بسكون الجيم وفتح اللام وكسرها وضمها، ويقال لها أيضًا: لجَبة بفتح الجيم واللام. وأكثر النحويين يظنون أنه جمع لجبة الساكن الجيم فيحكمون عليه بالشذوذ، لأن "فعْلة" صفة لا تجمع على فعَلات بل على فعْلات، وحملهم على ذلك عدم اطلاعهم على أن فتح الجيم في الإفراد ثابت. وكذا اعتقدوا أن "رَبعات" بفتح الباء جمع "ربْعة" بالسكون وإنما هو جمع رَبَعة بمعنى ربْعة للمعتدل القامة، ذكر ذلك ابن سيده. وأجاز أبو العباس المبرد أن يقال في جمع لجَبَة لجْبات بالسكون، وأجاز قطرب فَعَلات في فعْلة صفة كضخْمة وضخَمات قياسًا على ما ليس بصفة. ويعضد قوله ما روى أبو حاتم من قول بعض العرب: كَهْلة وكَهَلات بالفتح، والسكون أشهر. ونبهت بقولي "وتُمْنع الضمة قبل الياء والكسرة قبل الواو" على أن نحو: مُنْية لا يجوز ضم عينه، ونحو: ذِرْوة لا يجوز كسر عينه، بل يقتصر فيهما على التسكين أو الفتح تخييرا، لأن الضمة قبل الياء والكسرة قبل الواو مستثقلان، لا سيما إذا كانت الياء والواو لامين، مع وُجدان مندوحة عن ذلك. فلو كانت لام المكسور الفاء ياء كلِحية، ففي كسر عينه خلاف، فمن البصريين من منعه لاستثقال الياء بعد كسرتين، ومنهم من أجازه. ومنع الفراء فِعِلات مطلقًا، واحتج بأن فِعلات يتضمن فِعلا، وفِعِل وزن أهمل إلا فيما ندر كإبل وبِلز، ولم يُثْبت سيبويه منه إلا إبلا، وما استثقل في الإفراد

حتى كاد يكون هملا حقيق بأن يُهمل ما يتضمنه من أمثلة الجموع، لأن الجمع أثقل من المفرد. والجواب من أربعة أوجه: أحدها: أن المفرد وإن كان أخف من الجمع قد يستثقل فيه ما يستثقل في الجمع لأنه معرض لأن يتصرف فيه بتثنية وجمع ونسب، وإذا كان على هيئة مستثقلة يُضاعف استثقالها بتعرُّض ما هي فيه إلى استعمالات متعددة، بخلاف الجمع فإن ذلك فيه مأمون. الثاني: أن فِعِلا أخفُّ من فُعُل، فمقتضى الدليل أن تكن أمثلة فِعل أكثر من أمثلة فعُل، إلا أن الاستعمال اتفق وقوعه بخلاف ذلك، فأي تصرف أفضى إلى ما هو أحق بكثرة الاستعمال فلا ينبغي أن يجتنب، بل يجوز أن يؤثر جَبرا لما فات من كثرة الاستعمال، ويؤيد هذا أنهم لا يكادون يسكنون عين إبل، بخلاف فعُل فإنه يسكن كثيرا. الثالث: أن فُعُلات يتضمن فُعُلا وهو من أمثلة الجمع، وفِعِلات يتضمن فِعِلا وليس من أمثلة الجمع، وهو أحق بالجواز، لأنه جمع لا يشبه جمع الجمع، بخلاف فُعلات فإنه يشبه جمع الجمع، والأصل في جمع الجمع الامتناع، فما لا يشبهه أحق بالجواز مما يشبهه. الرابع: إن فعِلات قد استعملته العرب جمعا لفِعْلة كنعمة ونِعمات. وقد أشار سيبويه إلى أن العرب لم تجتنب استعماله كما لم تجتنب استعمال فِعْلات، وقد رجح بعض العرب فِعِلات على فُعُلات إذ قال في جمع جِرْوة: جرِوات، فاستهل النطق بكسر عين فِعلات فيما لامه واو، ولم يستسهل النطق بضم عين فعْلات فيما لامه ياء، فبان بما ذكرته إن فعِلات في جمع فِعلة كفُعُلات في جمع فُعْلة، أو أحق منه بالجواز. والتزم غير هذيل في نحو: جوزة وبيضة سكون العين، فسوَّوْا في ذلك الأسماء والصفات، وأما هذيل فسلكوا بهذا النوع سبيل ما صحت عينه، فقالوا: جوَزات وبَيضات، كما قال جميع العرب: تَمَرات وجَفَنات. وقالوا في الصفات: جوْنات

وغيْلات بالسكون، كما قال الجميع: ضخْمات وصعْبات. وأما عِيرات في جمع عِير فجائز عند جميع العرب مع شذوذه عن القياس، لأنه مؤنث مكسور الفاء، فلم يكن في تحريك يائه بفتحة بعد الكسرة ما في بَيضات بتحريك الياء، لأن تحرك الياء بعد فتحة يوجب إبدالها ألفا، فتحريكها إذا كان أصلها السكون بعد فتحة تعريض لها إلى الإبدال أو إلغاء سبب الإعلال، إلا أن هذيلا لم يكترثوا بذلك لعروضه، ومنه قول بعضهم: أخَو بَيضات رائح مُتأوِّب ... رفيقٌ بمسْح المَنكبين سَبُوح فصل: ص: يُتَم في التثنية من المحذوف اللام ما يتمُّ في الإضافة لا غير، وربما قيل: أبان وأخان ويدَيان ودَميان ودَمَوان وفَمَيان وفَمَوان. وقالوا في ذات: ذاتا على اللفظ، وذَواتا على الأصل. ش: المحذوف اللام يتناول المنقوص العرفي المنون في غير النصب، والأسماء الستة، واسما واستا وابنًا ويدًا ودمًا وفمًا وحِرًا وغَدًا وظبة وسنة ونحو ذلك، والذي يتم منها في الإضافة المنقوص العرفي، وأب وأخ وحم في أكثر الكلام وهن في لغة بعض العرب، ومن التزم النقص في الإفراد التزمه في التثنية، وعلى ذلك قيل: أبان وأخان، ومنه قول رجل من طيء. إذا كنت تهوى الحمدَ والمجد مُولَعا ... بأفعالِ ذي غيّ فلستَ براشد ولست وإن أعيا أباك مجادة ... إذا لم تَرُم ما أسلفاه بماجد وقد تقدم أن من العرب من قصر يدا ودما وفمًا، فعلى ذلك قيل في التثنية: يديان ودميان وفميان وفموان، والمشهور في تثنية ذات: ذواتا بالرد إلى الأصل،

وقد ثنى على لفظه بالنقص فقيل: ذاتا، قال الراجز: يا دارَ سلمى بين ذاتي عوج ص: ويثنى اسمُ الجمع والمُكسَّرُ بغير زنه منتهاه. ش: مقتضى الدليل ألا يثنى ما دل على جمع، لأن الجمع يتضمن التثنية، إلا أن الحاجة داعية إلى عطف جمع على جمع، كما كانت داعية إلى عطف واحد على واحد، فإذا اتفق لفظا جمعين مقصودٍ عطف أحدهما على الآخر استغنى فيهما بالتثنية عن العطف، كما استغنى بها عن عطف الواحد على الواحد، ما لم يمنع من ذلك عدم شبه الواحد، كما منع في نحو: مساجد ومصابيح. وفي المثنى والمجموع على حده مانع آخر وهو استلزام تثنيتهما اجتماع إعرابين في كلمة واحدة، ولأجل سلامة نحو: مساجد ومصابيح من هذا المانع الآخر جاز أن يجمع جمع تصحيح كقولهم في أيامن: أيامنون، وفي صواحب: صواحبات. وامتنع ذلك في المثنى والمجموع على حده. والمسوغ لتثنية الجمع مسوغ لتكسيره، والمانع من تثنيته مانع من تكسيره، ولما كان شبه الواحد شرطا في صحة ذلك كان ما هو أشبه بالواحد أولى به، فلذلك كانت تثنية اسم الجمع أكثر من تثنية الجمع، كقوله تعالى (قد كان لكم آية في فئتين التقتا) وكذا قوله تعالى (يوم التقى الجمعان) وكقول النبي صلى الله عليه وسلم "مَثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين". ص: ويُختار في المضافين لفظا أو معنى إلى مُتَضَمِّنَيْهما لفظُ الإفراد على لفظ التثنية، ولفظُ الجمع على لفظِ الإفراد. فإن فُرِّق مُتَضمِّناهما اختير الإفراد،

وربما جُمع المنفصلان إنْ أُمِنَ اللَّبْسُ، ويقاس عليه وفاقا للفراء، ومطابقةُ ما لهذا الجمع لمعناه أو لفظِه جائزة. ش: المضافان لفظًا إلى مُتضَمِّنَيْهما كقوله تعالى (فقد صَغَتْ قلوبُكما) والمضافان إليهما معنى كقول الشاعر: رأيْتُ ابني البَكْرِيِّ في حَوْمَةِ الوَغى ... كفاغِرَي الأفواه عند عرين وهذه العبارة متناولة ما أضيف فيه جزءان أو ما هما كجزأين إلى ما يتضمنهما من مثنى المعنى وإن لم يكن مثنى اللفظ. وسواء كانت الإضافة صريحة "كصغت قلوبكما" أو غير صريحة "كفاغري الأفواه" فإن الأفواه غير مضافة في اللفظ وهي في المعنى مضافة، والتقدير: كفاغِرَيْن أفواههما، يعني أسدين فاتحين أفواههما عند عَرِينِهما ذابَّيْن عن أشبالهما. فإذا وجدت الشروط في المضافين المذكورين فلفظ الجمع أولى به من لفظ الإفراد، ولفظ الإفراد أولى به من لفظ التثنية، وذلك أنهم استثقلوا تثنيتين في شيئين هما شيء واحد لفظا ومعنى، وعدلوا إلى غير لفظ التثنية، فكان الجمع أولى لأنه شريكهما في الضم، وفي مجاوزة الإفراد. وكان الإفراد أولى من التثنية لأنه أخف منها والمراد به حاصل، إذ لا يذهب وهم في نحو: أكلت رأس شاتين، إلى أن معنى الإفراد مقصود. ولكون الجمع به أولى جاء به الكتاب العزيز نحو (فقد صغت قلوبكما) و (فاقطعوا أيديهما) وفي قراءة ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما" وفي الحديث "إزْرَةُ المؤمن إلى أنصاف ساقيه" وجاء لفظ الإفراد أيضًا في الكلام الفصيح دون ضرورة، ومنه الحديث في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم

"ومسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما" ولم يجئ لفظ التثنية إلا في شعر كقوله: فتخالسا نفسَيْهما بنوافذ ... كنوافذ العُبط التي لا تُرْقَع ولما استقر التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع عند وجود الشرط المذكور، صارت إرادة الجمع به متوقفة على دليل من خارج، ولذلك انعقد الإجماع على ألا يقْطعَ في السرقة إلا يد من السارق ويد من السارقة. ولو قصد قاصد الإخبار عن يَدَيْ كل واحد من رجلين لم يكتف بلفظ الجمع، بل تضم إليه قرينة تزيل توهم غير مقصوده، كقوله: قطعت أيديهما الأربع. وإذا فرق المضاف إليه كان الإفراد مختارًا كقوله تعالى (لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داودَ وعيسى ابن مريم) وفي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: حتى شرح الله صدري لما شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ولو جيء في مثل هذا بلفظ الجمع أو لفظ التثنية لم يمتنع. وإن لم يكن المضاف جزأي المضاف إليه ولا كجزأيه لم يعدل عن لفظ التثنية غالبًا نحو: قضيت درهميكما، لأن العدول في مثل هذا عن لفظ التثنية إلى لفظ الجمع موقع في اللبس غالبًا، فإنْ أمن اللبسُ جاز العدول إلى الجمع سماعا عند غير الفراء، وقياسًا عنده، ورأيه في هذا أصح، لكونه مأمون اللبس، مع كثرة وروده في الكلام الفصيح، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما "ما أخرجكما من بيوتكما" وقوله لعلي وفاطمة رضي الله عنهما "إذا أويتما إلى مضاجعكما فسبحا الله تعالى ثلاثا وثلاثين الحديث" وفي حديث آخر "هذه فلانة وفلانة تسألانك عن إنفاقهما على أزواجهما ألهما فيه أجر" وفي حديث علي وحمزة رضي الله عنهما "فضرباه بأسيافهما" وأمثال ذلك كثيرة.

ومطابقة ما لهذا الجمع لمعناه دون لفظه كقول الشاعر: قلوبُكما يغشاهما الأمنُ عادةً ... إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر وقال آخر: وساقان كَعْباهما أصْمَعان ... أعاليهما لُكَّتا بالديم وقال آخر: رأوْا جَبَلا هَزَّ الجبالَ إذا التقت ... رُءوس كبيريهن ينتطحان وعلى هذا حمل أبو العباس المبرد قول الشاعر: أقامت على رَبْعَيهما جارتا صفا ... كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما فأعاد الضمير المضاف إليه المصطلى على الأعالي لأنها مثناة في المعنى، وهو توجيه حسن. ومطابقة ما لهذا الجمع للفظه دون معناه كقول الشاعر: خَلِيليَّ لا تهلك نفوسُكما أسى ... فإنْ لها فيما به دُهِيَتْ أسا فقال دهيت لأنه راعى مطابقة جمع اللفظ، ولو راعى مطابقة المعنى لقال: دهيتا، كما قال الآخر، لُكّتا.

ص: ويعاقبُ الإفرادُ التَّثنيةَ في كلِّ اثنين لا يُغْني أحدُهما عن الآخر، وربما تعاقبا مطلقا. وقد يقع افْعلا ونحوُه موقع افْعَل ونحوِه. ش: المراد بكل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر: العينان والأذنان والجفنان والجوربان ونحو ذلك، فيقال: عيناه حسنتان، وعيناه حسنة، وعينه حسنة، وعينه حسنتان. فالأول أكثر لأنه الأصل، ومنه قول الشاعر: وعينان قال اللهُ كُونا فكانتا ... فَعُولانِ بالألباب ما تفعل الخَمر وقال آخر: له أذنان تعرفُ العِتق فيهما ... كسامِعَتي مذعُورة وسطَ ربرب ومن الثاني قول امرئ القيس: لمن زُحلُوفَةٌ زُلُّ ... بها العينان تَنْهَلّ وقال آخر: وكأن في العينين حَبَّ قرَنْفل ... أو سُنبلا كُحِلت به فانهلت وقال آخر:

سأجزيك خذلانا بتقطيعي الصُّوَى ... إليك وخفا زاحفٍ تقطُر الدِّما ومن الثالث قول الشاعر: ألا إن عينا لم تَجُد يوم واسِط ... عليك بجاري دمعها لجمودُ وقال آخر: أظن انهمال الدَّمع ليس بمنته ... عن العينِ حتى يَضمَحِل سوادُها ومن الرابع قول الشاعر: إذا ذَكَرت عيني الزمانَ الذي مضى ... بصحراءِ فلجٍ ظلتا تكفان والمراد بتعاقب الإفراد والتثنية مطلقًا وقوع أحدهما موقع الآخر، وإن لم يكونا مما تقدم الكلام عليه كاليدين والخفين، ولا من المزال عن لفظ التثنية لأجل الإضافة، فمن وقوع المفرد موقع المثنى قوله تعالى (فاتيا فرعونَ فقولا إنا رسولُ ربّ العالمين) وقوله تعالى (عن اليمين وعن الشمال قعيد)، وشبيه به قول حسان رضي الله عنه: إنَّ شَرْخ الشباب والشَّعَر الأسْـ ... ــــوَد ما لمْ يُعاصَ كان جُنونا

ومن وقوع المثنى موقع المفرد قول الشاعر: إذا ما الغلامُ الأحمق الأم سامَني ... بأطراف أنفيه استمر مقَارعًا وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، وذكرت أيضا له شواهد. وقد يقع الفعل المسند إلى ضمير واحد مخاطب بلفظ المسند إلى ضمير مخاطبين، إذا كان أمرًا أو مضارعًا، والقصد بذلك التوكيد والإشعار بإرادة التكرار، ومن ذلك ما روى من قول الحجاج: يا حَرَسِيّ اضربَا عُنُقَه، ومنه قول الشاعر: فإنْ تَزْجُراني يابنَ عَفّانَ أزْدجر ... وإن تَدَعاني أحْمِ عِرْضا مُمَنَّعا وقال آخر: فقلتُ لصاحِبي لا تَحْبِسانا ... بِنَزْع أصولِه واجْتَز شِيحا وجعل بعض العلماء من ذلك قوله تعالى (ألقيا في جهنمَ كلَّ كفارٍ عنيد). ص: وقد تُقَدّرُ تسميةُ جُزْء باسم كُلٍّ فيقعُ الجمعُ موقعَ واحدِه أو مثناه. ش: وقوع الجمع موقع واحده على تقدير تسمية كلِّ جزء من أجزائه باسم

الجمع كقول الشاعر: قال العواذلُ ما لجهلِكَ بعدما ... شابَ المَفارِقُ واكتسين قَتِيرا وقال آخر: ولَقدْ أرُوحُ على التِّجار مُرَجَّلا ... مَذِلاً بمالِي لَيِّنًا أجْيادِي ووقوع الجمع موقع مثناه كقول الشاعر: فالعينُ بعدَهم كأنْ حِدَاقها ... سُمِلَتْ بِشوكٍ فهي عُورٌ تدْمَع أراد بالعين العينين، وبالحِداق الحَدَقتين، وأراد بقوله فهي عور: فهما عوراوان. ومن وقوع الجمع موقع المثنى قول الآخر: أشكُو إلى مَولايَ من مَوْلاتي ... تربط بالحبل أكَيْرِعاتي ومن كلام العرب: رَجُلٌ عظيم المناكب والهادي، وغليظ الحواجب والوجنات، وشديد المرافق، وماش على كراسيعه. فصل: ص: يُجْمَعُ بالألف والتاء قياسا، ذُو تاء التأنيث مطلقا، وعلمُ المؤنث مطلقا، وصفة المذكر الذي لا يعقِل، ومُصَغَّرُه، واسمُ الجنس المؤنث بالألف إن لم يكن فَعْلى فَعْلان أو فَعْلاء أفعل غير منقولين إلى الاسمية حقيقة أو حكما. وما سِوى ذلك مقصور على السماع. ش: ذو تاء التأنيث يعم ذا التاء المبدلة هاءً في الوقف كتمرة، وذا التاء السالمة من ذلك كبنت وأخت، فلا يقال في جمعها إلا بَنات وأخَوات، سمِّي بهما أو لم

يسَمَّ بهما. وكذلك ذَيْت وكيْتَ لو سمي بهما لقيل في جمعهما ذَيات وكيَات، مذكرًا كان المسمى بهما أو مؤنثًا، نص على ذلك سيبويه. وذكرت "مطلقًا" ليدخل في ذلك العلم واسم الجنس والمدلول فيه بالتاء على تأنيث أو مبالغة. وذكرت "مطلقًا" بعد علم المؤنث ليتناول العاري من علامة والمتلبس بعلامة كزينب وسَلَمةَ وسُعدَى وعفراء. وأشرت بصفة المذكر الذي لا يعقل إلى نحو: جبال راسيات، وأيام معدودات. وبمصغر المذكر الذي لا يعقل إلى نحو: دريهم ودريهمات، وكتيب وكتيبات. وأشرت باسم الجنس المؤنث بالألف إلى نحو: بُهْمى وبهميات، وحبلى وحبليات، وصحراء وصحراوات، وقاصعاء وقاصعاوات. واستثنيت فعلى وفعلاء المقابلين لفعلان وأفعل لأنهما لا يجمعان بالألف والتاء كما لم يجمع مذكراهما بالواو والنون. ولا يلزم هذا المنع فيما كان من الصفات على فعلاء ولا مذكر لها على أفعل نحو قولهم: امرأة عجْزاء، وديمة هطلاء، وحُلة شوْكاء، لأن منع الألف والتاء من نحو حمراء تابع لمنع الواو والنون من أحمر، وذلك مفقود في عجزاء وأخواتها، فلا منع من جمعهما بالألف والتاء، على أن الجمع بالألف والتاء مسموع في "خَيفاء" وهي الناقة التي خَيِفتْ أي اتسع جلد ضرعها، وكذا سمع في "دَكَّاء" وهي الأكمة المنبسطة، وكلاهما نظير ما ذكرت من عجزاء وهطلاء وشوكاء في أنهن صفات على فعلاء لا مقابل لها على أفعل، فثبت ما أشرت إليه والحمد لله. ونبهت بقولي "غير منقولين إلى الاسمية حقيقة أو حكمًا" على نحو: حوَّاء، فإن "حواء" علم امرأة منقول من "حواء" أنثى أحْوى، وبطحاء صفة مقابلة في الأصل لأبطح، إلا أنها غلب استعمالها مستغنية عن موصوف، فأشبهت

الأسماء، فجاز أن تعامل في الجمع معاملة صحراء. والمراد "بما سوى ذلك" ما لا علمية فيه ولا علامة من أسماء المؤنث وصفاته فتدخل في ذلك نحو: شمس ونفس، وأتان وعناق، وامرأة صبور، وكف خضيب، وجارية حائض ومعطار، فلا يجمع شيء من هذه الأسماء والصفات ونحوها بالألف والتاء إلا إذا سمع، فيعد من الشواذ عن القياس، ولا يُلْحقُ به غيره. فمن الشاذ: سماء وسماوات، وأرض وأرَضات وعُرُس وعُرُسات وعِير وعِيرات، وشمال وشمالات، وخَوْد وخَوْدات، وثيب وثيبات. وأشذ من هذا الجمع بعض المذكرات الجامدة المجردة كحسام وحسامات، وحمّام وحمامات، وسرادق وسرادقات، وكل هذا شاذ مقصور على السماع.

باب المعرفة والنكرة

باب المعرفة والنكرة ص: الاسم معرفة ونكرة. فالمعرفة: مُضْمرٌ، وعلم، ومشار به، ومُنادى، وموصول، ومضاف، وذو أداة. وأعرفُها ضميرُ المتكلم، ثم ضميرُ المخاطب، ثم العلم، ثم ضميرُ الغائب السالمُ من إبهام، ثم المشارُ به، والمنادى، ثم الموصول، وذو الأداة، والمضافُ بحسب المضاف إليه. وقد يَعْرِض للمفوق ما يجعله مساويا أو فائقا. والنكرة ما سوى المعرفة. وليس ذو الإشارة قبل العلم خلافا للكوفيين، ولا ذو الأداة قبل الموصول، ولا مَنْ وما المستفهمُ بهما معرفتين خلافا لابن كَيْسانَ في المسألتين. ش: من تعرض لحَدِّ المعرفة عجز عن الوصول إليه دون استدراك عليه، لأن من الأسماء ما هو معرفة معنى نكرة لفظا، وعكسه، وما هو في استعمالهم على وجهين. فالأول: نحو قولهم: كان ذلك عاما أول. وأول من أمس، فإن مدلول كل واحد معين لا شياع فيه، ولكنهما لم يستعملا إلا نكرتين. والثاني: نحو قولهم للأسد: أسامة، فإنه يجري في اللفظ مجرى حمزة في منع الصرف، والاستغناء عن الإضافة والألف واللام، وفي وصفه بالمعرفة دون النكرة، واستحسان مجيئه مبتدأ وصاحب حال، وهو في الشياع كأسد. والثالث: كواحد أمِّه وعبد بطنه، فإن بعض العرب يجريهما معرفتين بمقتضى الإضافة، وبعض العرب يجعلهما نكرتين، ويدخل عليهما رب، وينصبهما على الحال، ذكر ذلك أبو علي. ومثلهما في إعطاء حكم المعرفة تارة وحكم النكرة أخرى ذو الألف واللام

الجنسيتين، فإنه من قبل اللفظ معرفة، ومن قبل المعنى لشياعه نكرة، فلذلك يجوز أن يوصف بمعرفة اعتبارا بلفظه وهو الأكثر، ويجوز أن يوصف بنكرة اعتبارا بمعناه نحو: مررتُ بالرجل خيرٍ منك. وعلى ذلك حمل المحققون قوله تعالى (وآيةٌ لهم الليلُ نسلخ منه النهار) فجعلوا "نسلخ" صفة الليل، والجمل لا يوصف بها إلا النكرات. فإذا ثبت كون الاسم المعرفة بهذه المثابة، فأحسنُ ما يُبيَّن به ذكرُ أقسامه مستقصاة، ثم يقال: وما سِوى ذلك فهو نكرة. وأكثرهم يجعل أقسامه خمسة: فيغفلون المعرف بالنداء، ويعبرون بالمبهم عن اسم الإشارة والموصول، ثم يقولون: والمبهم على ضربين: اسم إشارة وموصول، فَيَئول ذلك إلى أن أقسامه ستة. واختلف فيما كان نكرة ثم تعرف بالنداء، فقال قوم: تعريفه بحرف حذف لفظا وبقي معنى، كما بقي معنى الإضافة في نحو قوله تعالى (وكُلاًّ ضربنا له الأمثال) وقال قوم: بل تعريفه بالمواجهة والإشارة إليه، وهذا المعنى مفهوم من ظاهر قول سيبويه. وإذا كانت الإشارة دون مواجهة مُعَرِّفة لاسم الإشارة، فأنْ تكونُ معرّفة ومعها مواجهة أولى وأحرى. وهذا أظهر وأبعد عن التكلف. وأمكنها في التعريف ضمير المتكلم، لأنه يدل على المراد بنفسه، وبمشاهدة مدلوله، وبعدم صلاحيته لغيره، وبتميز صوته. ثم ضمير المخاطب لأنه يدل على المراد بنفسه، وبمواجهة مدلوله. ثم العلم لأنه يدل على المراد به حاضرا وغائبًا على سبيل الاختصاص. ثم ضمير الغائب السالم من إبهام نحو: زيد رأيته. فلو تقدم اسمان وأكثر نحو: قام زيد وعمرو كلمته، لَتطرَّق إليه إبهام ونقص تَمَكُّنهُ في التعريف. ثم المشار به والمنادى وهما متقاربان. ثم الموصول، وهو بحسب صلته

فيكمل تعريفه بكمال وضوحها وينقص بنقصانها. ثم المعرَّفُ بالأداة، والمعرَّف بالإضافة بحسب المضاف إليه. وسيأتي عند ذكر كل واحد منها ما يختص به من بيان وتفصيل. وقد يعرض للمفوق ما يجعله مساويا أو فائقًا، كقولك لرجلين حضراك دون ثالث: لك مَبَرَّةٌ، بل لك، فإنهما لا يعرفان بمجرد هذا اللفظ المعطوف من المعطوف عليه ما لم يُعْضَد اللفظ بمواجهة أو نحوها. بخلاف قوله: للكبير منكما مبرة بل للصغير، أو بالعكس. أو يقول: للذي سبق منكما مبرة بل للذي تأخر، فإنهما لا يرتابان في مراده بالأول والثاني، فقد عرض لذي الأداة والموصول ما جعلهما فائقين في الوضوح لضمير الحاضر. وكذلك يعرض للعلم ما يجعله أعرف من ضمير المتكلم كقول من شُهرَ باسم لا شركة له فيه لمن قال له: من أنت؟ أنا فلان. ومنه قوله تعالى (أنا يوسف) فالبيان لم يستفد بأنا بل بالعلم بعده. وقد يعرض للموصول مثل الذي عرض للعلم كقول من شُهرَ بفعل لا شركة فيه لمن قال: من أنت؟ أنا الذي فعل كذا. ومن هذا القبيل: سلام الله على من أنْزِل عليه القرآن، وعلى من سجدت له الملائكة، ومن حفر بئر زمزماه. وتمييز النكرة بعد عَدِّ المعارف بأن يقال: وما سوى ذلك نكرة، أجود من تمييزها بدخول رُبَّ والألف واللام، لأن من المعارف ما تدخل عليه الألف واللام كفضل وعباس، ومن النكرات ما لا تدخل عليه رُبَّ ولا الألف واللام كأينَ وكيفَ وعَرِيبٍ ودَيّار. واسم الإشارة عند الكوفيين أعرف من العلم، ولهم في ذلك شبهتان: إحداهما: أن اسم الإشارة ملازم للتعريف غير قابل للتنكير، والعلم بخلاف ذلك، فكان تعريفه دون تعريف اسم الإشارة، والثانية: أن تعريف اسم الإشارة حسي وعقلي، وتعريف العلم عقلي لا غير، وتعريفٌ من جهتين أقوى من تعريف من جهة.

والجواب عن الأولى أن يقال: لزوم الشيء معنى لا يوجب له مزية، فيتعرف بالإضافة مع عدم لزومه لها، ولم يتعرف "غيرك" بها مع لزومه لها، كما ثبت للجميع على الجماء في قولهم: جاءوا الجماءَ الغفيرَ، بحيثُ عدَّ الجميع معرفة غير مؤولة بنكرة مع عدم لزوم الألف واللام، وأول الجماء الغَفير بنكرة مع لزوم الألف واللام. والجواب عن الثانية أن يقال: المعتبر في كون المعرفة معرفة الدلالة المانعة من الشياع، سواء حصل ذلك من جهة واحدة أو من جهتين. والمعتبر في ترجيح التعريف قوة منع الشياع وزيادة الوضوح، ومعلوم أن اسم الإشارة وإن عين المشار إليه حقيقته لا تستحضر به على التزام، ولذلك لا يستغني غالبا عن صفة تكمل دلالته، بخلاف العلم، لا سيما علم لم تعرض فيه شركة، كإسرائيل وطالوت وأُدَد ونِزار ومكة ويثرب. وذهب ابن كيسان إلى أن ذا الأداة أعرف من الموصول، وشبته أن ذا الأداة يوصف بالموصول كقوله تعالى (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) والموصوف به إما مساو وإما دون الموصوف، ولا قائل بالمساواة، فثبت كون الذي أقل تعريفا من الكتاب. والجواب أن نقول: لا نسلم كون الذي في الآية صفة، بل هو بدل أو مقطوع على إضمار فعل ناصب أو مبتدأ، وعلى تقدير كون الذي صفة فالكتاب علم بالغَلَبة، لأن المَعْنيِّين بالخطاب بنو إسرائيل، وقد غلب استعمال الكتاب عندهم مرادا به التوراة، فألحق في عرفهم بالأعلام، فلا يلزم من وصفه بالذي جواز وصف غيره مما لم يلحق بالأعلام. وبالجواب الأول يجاب من أورد نحو قوله تعالى (لا يصْلاها إلا الأشقى* الذي كذَّب وتولى* وسيُجنَّبها الأتقى* الذي يُؤتي ماله يتزكى) وقد تقدمت الإشارة إلى أن الموصول قد تتضح صلته وضوحا تجعله في رتبة العلم، ولا يكون ذلك في ذي

الأداة غالبا إلا إذا عرض له ما عرض "للنَّجم والصَّعِق" من الغلبة الملحقة بالأعلام الخاصة. وقد ألحق ابن كيسان بالمعارف "مَنْ وما" الاستفهاميتين، نظرا إلى أن جوابهما يكون معرفة، والجواب يكون مطابقا للسؤال، فإذا قيل: مَنْ عندَك؟ فجوابه: زيد، ونحوه. وإذا قيل: ما دعاك إلى كذا؟ فجوابه: لقاؤك، أو نحوه. فدل تعريف الجواب على تعريف المجاب. وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما: أن تعريف الجواب غير لازم، إذ لمن قيل له: من عندك؟ أن يقول: رجل من بني فلان. ولمن قيل له: ما دعاك إلى كذا؟ أن يقول: أمرٌ مهم. والثاني: أنّ "مَنْ وما" في السؤالين قائمان مقام: أي إنسان؟ وأي شيء؟ وهما نكرتان، فوجب تنكير ما قام مقامهما. والتمسك بهذا أقوى من التمسك بتعريف الجواب، لأن تطابق شيئين قائم أحدهما مقام الآخر ألزم وآكد من تطابق الجواب والسؤال. وأيضا فالتعريف فرع، فمن ادعاه فعليه الدليل بخلاف ادعاء التنكير.

باب المضمر

باب المضمَر ص: وهو الموضوع لتعيين مُسَمّاه مشعرا بتكَلُّمِه أو خطابه أو غَيْبَتِه. ش: المراد بالتعيين جعل المفهوم مُعاينًا للسامع أو في حكم المُعاين، فذكره مخرج للنكرات. وذكر الوضع مخرج للمنادى، والمضاف، وذي الأداة. وذكر الإشعار بالتكلم أو الخطاب أو الغيبة مخرج للعلم، واسم الإشارة، والموصول، لأن كل واحد منها لا يختص بواحدة من الأحوال الثلاث، بل هو صالح لكل واحدة منها على سبيل البدل، بخلاف المضمرات، فإن المشعر منها بإحدى الأحوال الثلاث لا يصلح لغيرها. ص: فمنه واجبُ الخفاء، وهو المرفوعُ بالمضارع ذي الهمزة والنون، وبفعل أمر المخاطب ومضارعِه، واسم فِعْل الأمر مطلقا. ش: الواجب الخفاء هو الذي لا يزال مستكنا، ولا يغني عنه ظاهر ولا مضمر بارز، كالمَنْوِيِّ في نحو: أفْعَلُ، ونَفْعَلُ، وافْعَلْ، وتَفْعَلُ، ونَزالِ، فكل واحد من هذه الأمثلة الخمسة رافع اسم استغنى بمعناه عن لفظه، فإن قصد توكيده جيء بالبارز المطابق وهو: أنا بعد أفعل، ونحن بعد نفعل، وأنت بعد البواقي. وذكرت" مطلقا" بعد اسم فعل الأمر تنبيها على أنه يستوي فيه خطاب الواحد المذكر وغيره، نحو: نزال يا زيد، ويا زيدان، ويا زيدون، ويا هند، ويا هندان، ويا هندات. ولم أذكر مطلقا مع فعل الأمر ومضارعه تنبيها على أن وجوب خفاء مرفوعهما مخصوص بالإفراد والتذكير.

ص: ومنه جائز الخفاء، وهو المرفوعُ بفعل الغائب والغائبة، وما في معناه من اسم فِعْل، وصفة، وظرف، وشبهه. ش: الجائز الخفاء هو الذي يخلفه ظاهر أو مضمر بارز، كقولك: زيدٌ حَسُنَ ففي حسن ضمير منوي مرفوع به، وليس خفاؤه واجبا بل جائزا، لأنه قد يخلفه ظاهر نحو: زيدٌ حَسُنَ وجهُه، ومضمر بارز نحو: زيد ما حَسُنَ إلا هو. وهكذا حكمه مع فعل الغائبة نحو: هند حَسُنَت، وحَسُنَت صورتُها، وما حَسُنَ إلا هي. ومثال المرفوع باسم الفعل المشار إليه: هند هَيْهات، فهَيهات رافعٌ ضميرا عائدا على هند، وليس خفاؤه واجبا وإن كان لا يثنى ولا يجمع، لكن قد يخلفه ظاهر نحو: هند هيهات دارُها. ومثال المرفوع بصفة وظرف وشبهه: زيدٌ حسنٌ، وعمرٌو عندك، أو في الدار، فحَسَنٌ وعندَك وفي الدار قد ارتفع بكل منها ضمير مستكن جائز الخفاء، لأنه قد يخلفه ظاهر أو ضمير بارز نحو: زيدٌ حَسَنٌ وجهُه أو ما حَسَنٌ إلا هو. وعمرٌو عندك مقامُه، أو ما عندك إلا هو. وبِشْرٌ في الدار شخصُه، أو ما فيها إلا هو. ص: ومنه بارزٌ مُتصل، وهو إن عُنِيَ به المَعْنِيٌّ بنفعل "نا" في الإعراب كلِّه. وإن رُفِعَ بفعل ماض "فتاء" تُضَم للمتكلم، وتفتح للمخاطَب، وتكسر للمخاطَبة، وتُوصلَ مضمومةً بميمٍ وألفٍ للمخاطَبَيْن والمخاطَبَتَيْن، وبميم مضمومة ممدودة للمخاطَبين، وبنون مشددة للمخاطبات، وتسكين ممي الجمع إنْ لم يلها ضميرٌ متصل أعرف، وإن وَلِيَها لم يجز التسكين، خلافا ليونس. وإن رُفِع بفعلٍ غيره فهو "نون" مفتوحة للمخاطبات أو الغائبات، و"ألف" لتثنية غير المتكلم، و"واو" للمخاطَبين أو الغائبين و"ياء" للمخاطَبة. وللغائب مطلقا مع الماضي ما له مع المضارع، وربما استُغْنِي معه بالضمة عن الواو، وليس الأربع علاماتٍ والفاعلُ مُسْتَكِنٌّ خلافا للمازني فيهنّ، وللأخفش في الياء. ش: البارز ضد المُسْتكن، وهو على ضربين: متصل ومنفصل: فالمتصل ما لا يقع أولا، ولا يَسْتغني عن مباشرة العامل لفظا وخطا، فمنه "نا"

للمتكلم المعظم نفسه، أو المبين كونه مشارَكا بواحد أو أكثر. وإلى هذا أشرت بقولي "نا في الإعراب كله". ومن البارز المتصل المرفوع "تاء" يشترك فيها المتكلم والمخاطب، فَضمُّها مجرَّدةً دليل على نفس المتكلم، وفتحُها مجردةً دليل على المخاطب المذكر، وكسرها مجردة دليل على المخاطبة الواحدة، وضمها متلوةً بما دليل على المخاطَبَيْن والمخاطَبَتَيْن، وضمها متلوة بنون مشددة دليل على المخاطبات، وضمها متلوة بميم ساكنةٍ أو مضمومة باختلاس أو إشباع دليل على ذكور مخاطَبِين، والإشباع هو الأصل، واستعماله أكثر من الاختلاس، وأقل من السكون، ولقلة الاختلاس لم يتعرض له في المتن وإذا ولى الميم ضميرٌ منصوب لزم الإشباع، كقوله تعالى (فقد رأيتموه وأنتم تَنْظُرون) وأجاز يونس السكون نحو "فقد رأيتُمْه" ولا أعلم في ذلك سماعا إلا ما رَوى ابن الأثير في غريب الحديث من قول عثمان رضي الله عنه: أراهُمْني الباطل شيطانا. والضمير في قولي "وإن رفع بفعل غيره" عائد إلى الضمير البارز، أي إن رُفِع الضمير البارز المتصل بفعل غير الماضي وقصد به إناث مخاطبات أو غائبات فصورته نون مفتوحة نحو: افعَلْنَ وتفعَلْنَ ويفعَلْنَ. وإن قصد به تثنية المخاطب أو المخاطبة، أو تثنية الغائب أو الغائبة، فصورته ألف نحو: افْعَلا وتَفْعَلان، والزيدان يَفْعَلان، والهندان تفْعَلان. وإن قصد به جمع مذكر مخاطب أو غائب فصورته واو نحو: افْعَلُوا، وتَفْعَلُون، ويَفْعَلُون. وإن قصد به مخاطبة واحدة فصورته ياء نحو: افْعَلِي، وتَفْعَلِين. وتُسنِدُ الماضي في الغيبة إلى ما تُسْنِد إليه المضارع فتقول: زيد فَعَل، وهند فَعَلتْ، والزيدان فَعَلا، والهندان فَعَلتا، والزيدون فَعَلوا، والهندات فَعَلن، وإلى هذا أشرت بقولي "وللغائب مطلقا مع الماضي ماله مع المضارع". ومن الاستغناء معه بالضمة عن الواو قول الشاعر:

يا رُبَّ ذي لُقُح ببابِك فاحشٍ ... هاعٍ إذ ما الناسُ جاعُ وأجْدَبُوا وأنشد السيرافي: لو أن قومي حين أدعوهم حَمَلْ ... على الجبال الصُّمِّ لانهد الجبلْ أراد: حملوا، فحذف الواو واكتفى بالضمة، ثم وقف فسكن، وربما فعل مثل هذا مع فعل الأمر كقوله: إن ابنَ الأحْوَصَ معروف فبلغُهُ ... في ساعِدَيه إذا رام العلا قِصَرُ الأصل فبلغوه. وزعم المازني أن النون والألف والياء المشار إليها حروف تدل على أحوال الفاعل كالتاء من فَعَلتْ، والفاعل مستكن كاستكنانه في: زيد فَعَل، وهند فَعَلَتْ. وما زعمه غير صحيح، وإنما هي أسماء أسند الفعل إليها ودلت على مسمياتها، كدلالة النون والألف من فعلنا، والتاء من فعلتُ وفعلتَ وفعلتِ، ولأن المراد مفهوم بها، والأصل عدم الزيادة. ولأنها لو كانت حروفا تدل على أحوال الفاعل المستكن كالتاء من: هي فعلتْ، لجاز حذفها في نحو: الزيدان قاما، والزيدون قاموا. كما جاز حذف التاء في نحو: فإن الحوادثَ أوْدَى بها ولا أرضَ أبقَل إبقالَها

بل كانت الألف وأخواتها أحق بجواز الحذف لأن معناها أظهر من معنى التأنيث، وذلك أن علامة التأنيث اللاحقة للأسماء لا يوثق بدلالتها على التأنيث إذ قد تلحق المذكرات كثيرا كراوية وعلاّمة وهُمزَة ولمزَة، فدعت الحاجة إلى التاء التي تلحق الفعل، وليس الأمر كذلك في علامتي التثنية والجمع، إذ لا يمكن أن يعتقد فيما اتصلتا به خلوه من مدلولهما، فذكر الفعل على إثر واحدٍ منهما مُغْنٍ عن علامة تلحق الفعل، ولما لم يستغنوا بما يلحق الاسم عما يلحق الفعل علم أن لهم داعيًا إلى التزامه غير كونه حرفا، وليس ذلك إلا كونه اسما مسندًا إليه الفعل، ولذلك لم يجز حذفه بوجه، إذ لو حذف لكان الفعل حديثا عن غير محدثٍ عنه، وذلك محال. ورُوِيَ عن الأخفش أن ياء المخاطبة حرف يدل على تأنيث الفعل، والفاعل مستكن كما هو مستكن في نحو: هند فعلت، وهذا القول مردود أيضًا بما رَدَّ قول المازني. وشيء آخر وهو أن الأخفش جعل "ياء" افعلى كتاء فَعَلَتْ، فيقال له: لو كانت الياء كالتاء لساوتها في الاجتماع مع ألف الاثنين، فكان يقال: افعليا كما يقال: فعلتا، لكنهم امتنعوا من ذلك، فعلم أن مانعهم كونُ ذلك مستلزما اجتماع مرفوعين بفعل واحد، وذلك لا يجوز. ص: ويُسَكَّنُ آخرُ المسنَدِ إلى التاء والنون ونا، ويحذف ما قبله من معتل، وتُنْقَل حركتُه إلى فاء الماضي الثلاثي، وإن كانت فتحةً أُبدِلت بمُجانسةِ المحذوفِ ونقلت، وربما نقل دون إسناد إلى أحد الثلاثة في: زال وكاد، أخْتَيْ كان وعسى، وحركة ما قبل الواو والياء مجانِسةٌ، فإن ماثلها أو كان ألفا حُذِف ووَلِيَ ما قبلَه بحاله. وإن كان الضمير واوا والآخِرُ ياء أو بالعكس، حُذِفَ الآخِرُ، وجعلت الحركةُ المجانِسةُ على ما قبله. ش: المسند إلى "نا والتاء" لا يكون إلا فعلا ماضيًا نحو: فَعَلْنا وفعلْت. والمسند إلى "النون" قد يكون ماضيا ومضارعا وأمرا نحو: فعلْنَ وتفعلْنَ وافْعَلْنَ. وقد تناول ذلك كله قولي "ويُسَكَّنُ آخر المسند إلى التاء والنون ونا". وأن يقال "آخر المَسْنَد" أولى من أن يقال "لام المسند" لأن المسكّن كما لكون لاما كضربْتُ، قد يكون حرفا زائدا كتسلقيْتُ. واختلف في سبب هذا السكون، فقال أكثرهم سببه اجتناب توالي أربع حركات

في شيئين هما كشيء واحد، لأن الفاعل كجزء من الفعل، وهذا السبب إنما هو في الماضي ثم حمل المضارع عليه. وأما الأمر فاستصحب له ما كان يستحقه من سكون، صحيح الآخر كان كاذْهبْن، أو معتلّه كاخشيْن. وهذا التعليل ضعيف من وجهين: أحدهما: أن التسكين عامّ، والعلة قاصرة عن أكثر الأفعال، لأن توالي الحركات إنما كان يوجد في الصحيح من: فَعَل وفَعِل وانْفَعَل وافْتَعل وفعُل، لا في غيرها ومعلوم أن غيرها أكثر، ومراعاة الأكثر أولى من مراعاة الأقل. والثاني: أن توالي أربع حركات ليس مهملا في كلامهم، بل مُسْتخف بالنسبة إلى بعض الأبنية. بدليل: عُلَبِط، وأصله: عُلابط. وعَرَتن وأصله: عَرَنْتن. وجنَدِل، وأصله: جَنادِل عند البصريين "وجَنْدِيل عند الكوفيين، وعلى كل تقدير فقد حذفوا مدة منه ومن علابط، ونونا من عَرَنتن، مع إفضاء ذلك إلى أربع حركات متوالية، فلو كان توالي أربع حركات منفورًا منه طبعًا، ومقصود الإهمال وضعا، لم يتعرضوا إليه دون ضرورة في الأمثلة المذكورة وأشباهها، ولسِدُّوا باب التأنيث بالتاء في نحو: بَركة، ومعدة، ولُمزة، فإنه موقع في توالي أربع حركات في كلمة واحدة، لا سيما كلمة تلازمها التاء كملازمتها هذه الثلاثة الأسماء. ومن العجب اعتذارهم عن تاء التأنيث بأنها في تقدير الانفصال، وأنها بمنزلة كلمة ثانية، مع أنها جزء كلمة مفردة لا يستغنى بها فيحسن السكوت عليها، ولا يستغنى عنها فيقوم غيرها مقامها، بخلاف تاء فعلتُ فإنها جزء كلام تام، وهي قابلة للاستغناء عنها بغيرها نحو: فعل زيد: وما فعل إلا أنا. فظهر بهذا ضعف القول بأن سبب سكون لام "فعلْتَ" خوف توالي أربع حركات. وإنما سببه تمييز الفاعل من المفعول في نحو: أكرمْنا وأكرَمَنا، ثم سلك بالمتصل بالتاء والنون هذا السبيل لمساواتهما لنا في الرفع، والاتصال، وعدم الاعتلال.

وإن كان ما قبل المسكن للسبب المذكور حرف علة ساكنا حذف لالتقاء الساكنين، واقتصر على ذلك في الأمر والمضارع نحو: خفْن ولا تخفن. وصحْن ولا تصحن، وقُلْن ولا تقلنَ. وإن كان حرف العلة في عين ماضٍ ثلاثي حرك ما قبله بحركته إن كانت كسرة أو ضمة نحو: جُدْتُ وخِفْتُ. فإن كانت الحركة فتحة أبدلت كسرة فيما عينه ياء، وضمة فيما عينه واو، ثم فُعِل بالكسرة والضمة المبدلتين ما فعل بالأصليتين نحو: بِعتَ وقُمْت، وإلى هذا أشرت بقولي "وإن كانت فتحة أبدلت بمجانِسة المحذوف ونقلت". وأشرت بقولي "وربما نقل دون إسناد إلى أحد الثلاثة في زال وكاد" إلى قول بعض العرب. ما زيل زيدٌ فاضلا، وكيد زيدٌ يفعل، قال أبو خراش الهذلي: وكيدَتْ ضِباعُ القُفِّ يأكلْنَ جُثَّتِي ... وكِيدَ خِراشٌ يومَ ذلك يَيْتَمُ واحترزت بقولي "أختي كان وعسى" من زال بمعنى ماز وذهب أو تحول، ومن كاد بمعنى احتال وأراد ومكر. ويجمعها أن يقال: التي مضارعها يكيد، فإن مضارع تلك يكاد. وحركة ما قبل الياء والواو مجانسة، أي ضمة قبل الواو، وكسرة قبل الياء، نحو: يفعلُون وتفعلين، فإن ماثلها، أي إن كان آخرُ المسند إلى الواو واوا، وآخر المسند إلى الياء ياء، أو كان ألفًا مطلقًا، حذفت الواو والياء والألف، واتصل بالمسند إليه -واوا كان أو ياء- ما كان متصلا بالمحذوف دون تبديل حركته نحو: أنتم تدعُون، وأنت ترمين، وأنتم تخشَوْن. وإن كان الضمير واوا والآخر ياء، أو بالعكس، أي إن كان المسند إليه واو الضمير وآخر الفعل المسند ياء، أو كان المسند إليه ياء الضمير وآخر الفعل المسند واوا، حذف آخر الفعل، وضم ما قبل المحذوف إن كان المسند إليه واوا نحو: أنتم

تَرْمُون، وكسر ما قبله إن كان المسند إليه ياء نحو: أنت تَعفين وتَرمين، والأصل: ترميُون تعفُوِين، واستثقل ضم الياء المكسور ما قبلها، وكسر الواو المضموم ما قبلها، فخففتا بالتسكين، وخيف انقلابهما فحرك ما قبلهما بما يجانسهما. ص: ويأتي ضميرُ الغائبين كضمير الغائبة كثيرا لتأَوُّلِهم بجماعة، وكضمير الغائب قليلا لتأولهم بواحد يُفْهِم الجمعَ أو لسَدِّ واحد مَسَدَّهم، ويُعاملُ بذلك ضميرُ الاثنين وضمير الإناث بعد أفعل التفضيل كثيرا، ودونه قليلا. ش: إتيان ضمير الغائبين كضمير الغائبة كقوله تعالى (وإذا الرُّسلُ أُقتت) وكقول الراجز: قد علمتْ والدَتِي ما ضَمَّت ... إذا الكماةُ بالكماةِ التفَّت فهذا كثير، بخلاف إتيانه كضمير الغائب فإنه قليل، ومنه قول الشاعر: وإنّي رأيتُ الصّامِرِين متاعَهم ... يموتُ ويَفْنَى فارْضَخِي من وِعائِيا أراد يموتون، فأفرد، كأنه قال: يموت مَنْ ثَمَّ، أو مَنْ ذكرت، وعلى ذلك يحمل قول الآخر: تَعَفَّقَ بالأرْطى لها وأرادها ... رِجالٌ فبذَّتْ نَبْلُهم وكَليبُ أي تعفق بالأرطى رجال، وأرادها جمعهم، فبهذا التوحيد يصعب الانتصار للكسائي بهذا البيت في حذف الفاعل، وللفراء نسبة العمل إلى العاملين، وقد أجاز سيبويه

أن يقال: ضربت وضربني قومَك، أراد: وضربوني، فأفرد على تقدير: وضربني مَنْ ثم، وأنشد أبو الحسن: وبالبدو منا أسرةٌ يحفظوننا ... سراع إلى الداعي عظام كرا كره فأفرد ضمير الأسرة، لأنهم نسب إليهم الحفظ، فصح تأولهم بحصن أو ملجأ، فجاء بالضمير على وفق ذلك، فكأنه قال: أسرة هم بحفظهم إيانا ملجأ عظيم كراكره. ومن كلام العرب: هو أحسن الفِتْيان وأجمله، لأنه بمعنى أحسن فتى، فأفرد الضمير حملا على المعنى. وإلى نحو هذا أشرت بقولي "أو لسَدِّ واحد مسدهم" ومثل هذا قوله تعالى (وإنَّ لكم في الأنعام لعِبرةً نُسْقِيكم مما في بطونه) وقال الراجز: وطابَ ألبانُ اللِّقاح وبَرَد لأنّ النَّعمَ واللبَن يَسُدَّان مسد الأنعام والألبان. ويعامل بذلك ضمير الاثنين وضمير الإناث بعد أفعل التفضيل كثيرا، مثال ذلك في ضمير الاثنين قول الشاعر: وميَّةُ أحْسَنُ الثَّقَلَين جيدا ... وسالِفَةً وأحسَنُه قَذالا وقال الآخر:

شرَّ يومَيْها وأغواه لها ... ركبَتْ عَنْزٌ بِحدْجٍ جَمَلا ومثال ذلك في ضمير الإناث (خيرُ النّساء صَوالحُ نساءِ قريش، أحْناه على ولد في صِغَره، وأرْعاه على زوجٍ في ذات يده) كأنه قال صلى الله عليه وسلم: أحق هذا الضرب، أو أحنى مَنْ ذكرت. فهذا بعد أفعل التفضيل وهو كثير. ومثال ذلك دون أفعل التفضيل قول الشاعر: أخُو الذَّئبِ يَعْوِي والغُرابِ ومَنْ يكن ... شَرِيكَيْه تَطْمَعْ نفسُه كُلَّ مَطْمَع أي ومن يكن الذئب والغراب شريكه، فأفرد الضمير مؤولا، كأنه قال: ومن يكن هذا النوع، أو ومن يكن مَنْ ذكرت، وإلى هذا أشرت بقولي (ودونه قليلا). ص: ولجمع الغائب غيرِ العاقل ما للغائبة أو الغائباتِ، و"فَعَلَتْ" ونحوُه أولى من "فَعَلْنَ" ونحوِه بأكثر جمعِه وأقله، والعاقلات مطلقا بالعكس. وقد يُوقِعُ "فَعَلْنَ" موقع "فعلوا" طَلبُ التشاكل، كما قد يُسَوِّغُ لكلماتٍ غيرَ مالها من حُكم ووزن. ش: إعطاء جمع الغائب غير العاقل ما للغائبة نحو قوله تعالى (وإذا الكواكبُ انْتَثرت) وإعطاؤه ما للغائبات كقوله تعالى (فأبَيْنَ أن يحملْنَها وأشْفَقْن منها) إلا أن الأكثر في الاستعمال أن يعطى الكثرة ما للغائبة، والقلة ما للغائبات، كقولهم: الجذوع انكسرت، والأجذاع انكسرن. قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشرَ شهرًا في كتاب الله يومَ خَلق السموات والأرض

منها أربعةٌ حُرُم، ذلك الدين القَيِّمُ فلا تظلموا فيهن أنفسَكم) فمنها عائد على "اثنا عشر" و"فيهن" على أربعة. وهذا إنما هو في غير العاقلات، وأما العاقلات "ففَعَلن" وشبْهه أولى من "فعلت" وشبهه، كقوله تعالى (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) وكقوله صلى الله عليه وسلم "استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهُن عوانٍ بينكم"، ولو قيل في الكلام موضع (فعلن في أنفسهن) فعلت في أنفسها، وموضع (فإنهن عوان) فإنها عوان لجاز، كقوله تعالى (ولهم فيها أزواج مطهرة) فهذا على طهُرتْ، ولو كان على طهرن لقيل مطهرات. ومن استعمال فَعَلتْ في ضمير العاقلات قول الشاعر: وإذا العَذارَى بالدُّخانِ تَلفَّعت ... واستعجلت نَصْب القدروو فملَّت دَرَّتَ بأرزاقِ العُفاة مَغالِقٌ ... بيدَيَّ من قَمَعِ العِشار الجِلَّة وقال آخر: ولوْ أنّ ما في بَطنِه بَيْن نِسوَة ... حَبِلْن وما كانت قَواعِد عُقَّرا وفي بعض الأحاديث المأثورة (اللهم ربَّ السموات وما أظللن، ورب الأرَضَين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضْللنَ) أراد: ومن أضَلوا، لكن إرادة التشاكل حملت على إيقاع النون موقع الواو. كما حملت على الخروج من حكم التصحيح إلى حكم الإعلال في قوله صلى الله عليه وسلم "لا دَريت ولا تلَيت" وإنما بابه

تلوت. ومن حكم الإدغام إلى حكم الفك في قوله صلى الله عليه وسلم "أيتكن صاحبة الجَمل الأدْبَب تَنْبحها كلاب الحوْأب" وإنما بابه الأدَبّ. وكما حملت على الخروج من وزن الكلمة إلى غيره، كقول العرب: أخذه ما قَدُم وما حدُث، وهَنَاه ومرَأه، وفعلته على ما يسُوءُك وينُوءُك. ولا يقولون في الإفراد إلا: حدَث، وأمرأه، وأناءهُ يُنِيئُه. وهذا ونحوه المراد بقولي (كما قد يسَوِّغ لكلمات غيرَ مالها من حكْم ووزن). ص: ومن البارز المتصل في الجرّ والنصب "ياء" للمتكلم، و"كاف" مفتوحة للمخاطب ومكسورة للمخاطبة، و"ها" للغائبة و"هاء" مضمومة للغائب، وإن ولِيَتْ ياءً ساكنةً أو كسرةً كسَرها غيرُ الحجازيين، وتُشْبَع، حرّكتها بعد مُتحرّك، ويختار الاختلاسُ بعد ساكن مطلقا وفاقا لأبي العباس، وقد تُسَكَّنُ أو تُخْتَلَس الحركة بعد مُتحرّك عند بني عُقَيل وكلابٍ اختيارا، وعند غيرهم اضطرارا، وإن فَصَل المتحركَ في الأصل ساكنٌ حذِفَ جَزْمًا أو وقْفًا جازت فيه الأوجه الثلاثةُ. ش: البارز خلاف المستكن، والمتصل خلاف المنفصل، وإضافة الياء إلى المتكلم لئلا يذهب الوهم إلى ياء المخاطبة. ولما كان سبب وضع الضمائر طلبَ الاختصار ناسب ذلك أن يُشْرَكَ بين الجر والنصب في الضمائر التي منها ياء المتكلم وكاف المخاطب والمخاطبة وها الغائبة وهاء الغائب وما يتفرع من ذلك، وسيأتي الجميعُ مبَيَّنا إن شاء الله تعالى. والمفْتَقَرُ إليه الآن مثُلٌ يستأنس بذكرها، فمثال ذلك في الياء (ربِّي أكْرَمَني) ومثاله في الكاف (ما ودّعك ربُّك) ومثاله في ها الغائبة (وتقْواها* قد أفلح من زكّاها) ومثاله في هاء الغائب (فقال لصاحبه وهو يُحاورُه).

ولغة الحجازيين في هاء الغائب الضم مطلقا، وهو الأصل، فيقولون: ضرته، ومررت بهُ، ونظرت إليهُ. ولغة غيرهم الكسر بعد الكسرة أو الياء الساكنة إتباعا، وبلغة غيرهم قرأ القرّاء إلا حَفْصًا في (وما أنْسانِيهِ إلا الشيطان) و (بما عاهد عليهِ الله) وحمزة في (لأهلِه امْكثوا) في الموضعين، فإنهما قرآن بالضم على لغة الحجازيين. وما ذكر من إشباع حركة الغائب فهو الأصل، إلا أنّ اللافظ بذلك بعد ساكن كالجامع بين ساكنين، فلذلك كثر اختلاس الضمة والكسرة في نحو: منه، وتأتيه، ونَرْجوه. ورجح سيبويه الإشباع إذا لم يكن الساكن حرف لين، ورَدَّ ذلك أبو العباس ويَعْضده السماع الشائع. ومن العرب من يكسر هاء الغائب بعد كسرة مفصولة بساكن، ومنه (أرْجِئه وأخاه) في قراءة ابن ذكوان. وأما اختلاس الضمة والكسرة بعد متحرك فلغة رواها الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب، وبهذه اللغة قرأ أبو جعفر "له وبه" وما أشبههما، قال الكسائي: سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون (إن الإنسانَ لربه لكَنود) بالجزم، و "لربه لكنود" بغير تمامن ولهْ مال وله مال. وغير بني عقيل وبني كلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في "له" وشبهه إلا في ضرورة كقول الشاعر وهو الشماخ: لَهُ زَجَل كأنَّهْ صَوْتُ حادٍ ... إذا طلبَ الوسيقةَ أو زميرُ وقال آخر:

وأشربُ الماءَ ما بي نحوَه عَطَش ... إلاّ لأنّ عُيُونَهْ سَيْلُ واديها فإن فَصَل المتحرك في الأصل ساكنٌ حذف جزما أو وقفًا جاز في الهاء التحريك مع الإشباع، والتحريك مع الاختلاس، والتسكين نحو قوله تعالى (وإن تشكروا يَرْضَه لكم) فمن أشبع نظر إلى اللفظ، ولأن الهاء متصلة بحركة، ومن اختلس استصحب ما كان للهاء قبل أن يحذف الألف لأن حذفها عارض، والعارض لا يعْتَد به غالبا. ومن سَكن نظر إلى أن الهاء قد وقعت موقع المحذوف الذي كان حقه، لو لم يكن حرف علة، أن يسَكَّن، فأعطيت الهاء ما يستحقه المحل من السكون. وهذه الأوجه الثلاثة المشار إليها. ص: ويَلي الكاف والهاءَ في التثنية والجمع ما وَلِيَ التاءَ، وربما كسِرت الكاف فيهما بعد ياء ساكنة أو كسرة. وكسْر ميم الجمع بعد الهاء المكسورة باختلاس قبل ساكنٍ وبإشباع دونه أقْيَسُ، وضمُّها قبل ساكنٍ وإسكانها قبل متحرك أشهر، وربما كُسِرَتْ قبل ساكنٍ مطلقا. ش: قد تقدم أن "تاء" الضمير تُوصَلُ مضمومة بميم وألف للمخاطَبَيْن والمخاطَبَتَيْن، وبميم مضمومة ممدودة للمخاطَبِين، وبنون مشددة للمخاطبات. وأنّ تسكين ميم الجمع إنْ لم يلها ضمير متصل أعرف، وإن وَليَها لم يجز التسكين خلافًا ليونس. فإلى جميع ذلك أشرت بقولي "ويلي الكافَ والهاء في التثنية والجمع ما ولى التاء" فكما قيل: فعلتُما، وفعلتُم، وفَعلْتن، يقال: إنّكما معهما، وإنّكم معهم، وإنَّكنّ معهن. ومَنْ كَسَرَ هاءَ المفرد إتْباعا للكسرة والياء الساكنة كَسَر هاء التثنية والجمع، ومن لم يكسر لم يكسر. وبعض العرب يكسر كاف التثنية والجمع بعد كسرة أو

ياء ساكنة إلحاقًا بالهاء نحو: مررتُ بِكِما وبِكِم وبِكِن، ورغبت فيكِما وفيكِم وفيكِنّ قال الشاعر: وإن قال موْلاهم على كلِّ حادثٍ ... من الدَّهرِ رُدُّوا بعضَ أحلامِكِم رَدُّوا كذا روى هذا البيت بكسر كاف أحلامكم على هذه اللغة. وكسر ميم الجمع بعد كسر الهاء أقيس من ضمها، لأن الخروج من الكسر إلى الضم ثقيل، وضمُّها قبل ساكن نحو (بهمُ الأسباب) أشهر، ولذلك قرأ به أكثر القراء، وقد تكسر الميم قبل ساكن وإن لم يكن قبلها كسرةٌ ولا ياءٌ ساكنة، نحو قوله: فَهُمُ بطانَتُهُم وَهم وزراؤهم ... وهمِ القضاةُ ومِنهمِ الحُكّامُ ومثله قول الآخر: ألا أن أصحابَ الكُنَيْفِ قصدتهم ... همِ الناسُ لما أخْصبُوا وتموَّلوا كذا أنشده ابن جني في المحتسب بكسر ميم "همِ القضاة" و"همِ الناس". ص: تَلْحَقُ قبل ياءِ المتكلم إن نُصِبَ بغيرِ صفةٍ، أو جُرَّ بمن أو عَنْ أو قد أو قطْ أو بَجَل أو لَدُن، نونٌ مكسورةٌ للوقاية، وحذفُها مع لَدُن وأخوات ليت جائز، وهو مع بَجَل ولعلّ أعرفُ من الثبوت، ومع ليس وليت ومِن وعَن وقط بالعكس.

وقد تلحق مع اسم الفاعل، وأفعل التفضيل، وهي الباقية في: فَلَيْنى، لا الأولى وفاقا لسيبويه. ش: تقدم في ذكر علامات الفعل أن هذه النون تصحب ياء المتكلم على سبيل اللزوم إذا عمل فيها فعل ماض كأكْرَمَني، أو مضارع كيكرمني، أو أمر كأكرِمْنِي. وينبغي الآن أن تعلم أنّ فعل الأمر أحق بها من غيره، لأنه لو اتصل بياء المتكلم دونها لزم محذوران: أحدهما التباس ياء المتكلم بياء المخاطبة. والثاني: التباس أمر المذكر بأمر المؤنثة. فبهذه النون تُوقِّي هذان المحذوران فسميت نون الوقاية لذلك، لا لأنها وقت الفعل من الكسر، إذ الكسر يلحق الفعل مع ياء المخاطبة لحاقا هو أثبت من لحاق الكسر لأجل ياء المتكلم، لأن ياء المتلكم فضلة فهي في تقدير الانفصال، بخلاف ياء المخاطبة لأنها عمدة، ولأن ياء المتكلم قد تغني عنها الكسرة التي قبلها، ثم يوقف على المكسور بالسكون نحو (فيقول ربي أكرمنْ) وياء المخاطبة لا يعرض لها ذلك. فلما صحبت النون الياء مع فعل الأمر صحبتها مع أخويه ومع اسم الفعل وجوبا، ليدل لحاقها على نصب الياء. ولحقت إنّ وأخواتها جوازا لشبهها بالأفعال. ولو جعل لحاقها مع المضارع أصلا لم يمتنع، لأنها صانتة من خفاء الإعراب وتَوَهُّم صيرورته مبنيا، فاحتُرِز بالنون من ذلك، كما احترز منه حين اتصل بالمضارع ألف الضمير وواوه وياؤه فجيء بالنون بعدهن نائبة عن الضمة، ولم يحتج إلى ذلك في نحو: غلامي، بل اكتفى بتقدير الإعراب لأصالته فيه، فلا يذهب الوهم إلى زواله دون سبب جلي، ثم صارت النون أولى بالياء من غيرها ? إذا عرض سبب كالمحافظة على بقاء سكون- من وأخواتها. وقد يؤيَّدُ اعتبارُ وقاية الفعل من الكسر بأن الكسر الذي وقى الفعل إنما هو كسر يلحق الاسم مثلُه، وهو كسر ما قبل ياء المتكلم، لا كسر ما قبل ياء المخاطبة فإنه خاص بالفعل، فلا حاجة إلى صون الفعل منه، وهذا فرق حسن، لكنه مرتب على ما لا أثر له في المعنى، بخلاف الذي اعتبرته فإنه مرتب على صون من خلل ولبس فكان أولى.

ولما كان للأمر والمضارع المستقبل الأصالة في لحاق النون لم يمنع عدم التصرف من وجوب اتصالها "بِهَبْ" أخت "ظن"، لأمريَّتها، ولا من وجوب اتصالها "بعسى" للزوم استقبال مصحوبها، ولقولهم في التعجب: أعْسِ به، ولفظه لفظ الأمر، وكذا فعل التعجب لم يمنع من وجوب اتصاله بالنون المشار إليها عدمُ تصرفه لعروضه، ولكون أحد مثاليه بلفظ الأمر. ولما عدمت "ليس" التصرف، ولزوم الاستقبال، ولم يكن لها في الأمرية نصيب، كمثل ما كان لعسى وفعل التعجب مع شبه لفظها بلفظ ليت، عوملت معاملة ليت في لحاق النون، فقيل: ليتني، كقول بعض العرب: عليه رجلا ليسنى. ولم يرد ليتي وليسي إلا في نظم قال زيد الخيل: كمُنْيَةِ جابِرٍ إذ قال لَيْتِي ... أصَادفُه ويتلفَ بعضُ مالي وقال الراجز: عددتُ قومي كعَديد الطَّيْس ... إذ ذَهَب القومُ الكرامُ ليسي ولحاق النون مع لدن أكثر من عدم لحاقها، وزعم سيبويه أن عدم لحاقها من الضرورات وليس كذلك، بل هو جائز في الكلام الفصيح، ومن ذلك قراءة نافع (من لدُنِي عُذرا) بتخفيف النون وضم الدال، ولا يجوز أن تكون نون لدني نون الوقاية، ويكون الاسم لدُ، لأن لد متحرك الآخر، والنون في لدن وأخواته إنما جيء بها لتصون أواخرها عن زوال السكون، فلا حظ فيها لما آخره متحرك، وإنما يقال في "لَدُ" مضافا إلى الياء "لِدى" نص على ذلك سيبويه. وقرأ أبو بكر مثل نافع، إلا أنه أشم الدال ضما، وقرأ الباقون بضم الدال وتشديد النون، مُدْغمين نون لدن في نون الوقاية. وكان مقتضى الدليل استواء "ليت" وأخواتها في لحاق النون لشبهها بالأفعال

المتعدية، لكن استثقل لحاقها بأواخر غير ليت لأجل التضعيف، فحسن حذفها تخفيفا، وثبوتها للشبه المذكور، ولم يكن في ليت معارض للشبه فلزمها ثبوتُها في غير ندور. ولما نقص شبه لعل بالفعل من أجل أنها تُعَلِّقُ في الغالب ما قبلها بما بعدها، ومن أجل أنها تجُر على لغة، ضعف وجوب لحاق النون المذكورة بها، فكثر "لَعَلِّي" كقوله تعالى (لعلي أبلغ الأسباب) و (لعلي أرجع إلى الناس) وقلَّ لعلني ومنه قول الشاعر: فقلت أعِيراني القَدُومَ لعلني ... أخُطُّ بها قَبْرا لأبيض ماجد والضمير من قولي "وهو مع بجل ولعل أعرف" عائد إلى الحذف، أي قول العرب: بَجَلي ولعلِّي أعرف من قولهم: لعلني وبجلني، ومعنى "بجل" حسب، وكذلك معنى "قد وقط" ومن قال: بجلي وقدي وقضي بلا نون شبهها بحسب، إلا أن بجل أشبه به لأنه ثلاثي مثله، ولمساواته في اشتقاق فعل منه إذا قيل: أبجله وأحسبه، بمعنى كفاه، فلذلك فاق عدمُ النون مع بجل ثبوتها، بخلاف قد وقط، وفي الحديث "قط قط بعزتك وكرمك" يروى بسكون الطاء وكسرها، مع ياء ودون ياء، وقطني بنون الوقاية، وقطٍ بالتنوين، وبالنون أشهر، قال الراجز: امْتَلأ الحوضُ وقال قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْدًا قدْ ملَأتَ بطني وقال آخر في قدنى وقدى: قَدْنى مِنْ نصرِ الخُبَيبَيْنِ قدى

وقال الشاعر في الحذف مع عن ومن: أيُّها السائلُ عَنْهم وعني ... لستُ من قيس ولا قيسُ مني وحكى سيبويه: عليكني، وعليك بي. وسمع الفراء بني سليم تقول: مكاني، يريد: انتظرني في مكانك. وإذا أعملت رويد في الياء قلت: رويدني، أي أمهلني. وكذلك تفعل بكل معتد من أسماء الأفعال. ومثال لحاقها الصفة قول الشاعر، أنشده الفراء: وما أدْري وَظني كلُّ ظن ... أمُسْلمُنِي إلى قومِي شَرّاح وأنشد ابن طاهر في تعليقه على كتاب سيبويه: وليس بمُعْيِيني وفي الناس مَمْتَع ... صديقٌ إذا أَعيا عَلَيّ صديقُ وأنشد غيرهما: وليس المُوافِيني ليُرفَدَ خائبا ... فإنّ له أضعافَ ما كان أَمَّلا ومعييني والموافيني يرفعان تَوَهُّم كون نون مسلمني تنوينا، لأن ياء المنقوص المنون لا ترد عند تحريك التنوين لملاقاة ساكن نحو: أغادٍ ابنُك أم رائح؟ وياء معييني الثانية ثابتة في: وليس بمعييني، فعلم أن النون الذي وليه ليس تنوينا وإنما هو نون

الوقاية، ولذلك ثبت مع الألف واللام في الموافيني. وأيضا فإن التنوين إذا اتصل بما معه كشيء واحد حذف تنوينه نحو: وابن زيدَاه، ولا يقال: وابن زيدَناه فتحرك التنوين، بل تحذف، لأن زيادة المندوب للندبة كشيء واحد. وكذا ياء المتكلم مع متلوها كشيء واحد، ولذا كسر ما قبلها كما كسر ما قبل ياء النسب. وأجاز الكوفيون تحريك التنوين لأجل ألف الندبة في نحو: وابن زيدناه. وأيضًا فمقتضى الدليل مصاحبة النون الياء مع الأسماء المعربة لتقيها خفي الإعراب، فلما منعوها ذلك كان كأصل متروك فنبهوا عليه في بعض أسماء الفاعلين كما مضى من: أمسلمني، ومعييني، والموافيني. ومن ذلك قراءة بعض القراء (هل أنتم مُطْلِعُون) بتخفيف الطاء وكسر النون. وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود "هل أنتم صادقوني" كذا في ثلاثة مواضع في أكثر النسخ المعتمد عليها. ولما كان لأفعل التفضيل شبه بالفعل معنى ووزنًا، وخصوصًا بفعل التعجب اتصلت به النون المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم "غيرُ الدّجّال أخوفني عليكم" والأصل: أخوف مخوفاتي عليكم، فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه، فاتصل أخوف بالياء معمودة بالنون كما فعل بأسماء الفاعلين المذكورة، وأخوف على هذا الوجه مصوغ من فعل المفعول كقولهم: أشْغَلُ من ذات النِّحْيَيْن، وأزْهى من دِيك. وكقوله صلى الله عليه وسلم "أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون" ويمكن أن يكون من "أخاف" فإنَّ صَوْغَ أفعل التفضيل وفعل التعجب من فِعْلٍ على أفْعَل مطرد عند سيبويه، فيكون المعنى على هذا: غير الدجال أشد إليَّ إخافة عليكم من الدَّجال. ويجوز أن يكون من باب وصف المعاني على سبيل المبالغة بما يوصف به الأعيان، فيقال: شِعْرٌ شاعرٌ، وخَوْفٌ خائفٌ، ومَوْت مائت، وعَجَبٌ عاجب، ثم يصاغ أفعل باعتبار ذلك المعنى فيقال: شعرك أشعر من شعره، وخوفي أخوف من خوفك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم" أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد".

ألا كُلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلٌ ومنه قول الشاعر: يداك يدٌ خيرُها يُرتَجى ... وأخْرَى لأعدائِها غائِظه فأمّا التي خيرُها يُرتجى .. فأجودُ جودًا منَ اللافِظه وأمّا التي يُتَّقى شرُّها ... فَنَفْسُ العدُوِّ بها فائظَه وتقديره الحديث مسلوكا به هذا السبيل: خوفُ غير الدجالِ أخوفُ خَوْفي عليكم، فحذف المضاف إلى غير وأقيم غير مقامه، وحذف المضاف إلى الياء وأقيمت الياء مقامه فاتصل أخوف بالياء معمودة بالنون على ما تقرر. ولما كان للفعل بهذه النون صون ووقاية مما ذكر حوفظ على بقائها مطلقا إذا لَقِيها مثلها ودعت الحاجة إلى حذف، فهي الباقية عند سيبويه في قول الشاعر: تَراه كالثَّغامِ يُعَلُّ مِسْكا ... يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْنِي أراد: إذا فلينني، فحذف الأولى وبقيت الثانية. كما أنها هي الباقية في (أفغَير الله تأمروني) وقد تقدم الكلام على ذلك. فصل: ص: من المُضَمَرِ مُنْفَصِل في الرفع، للمتكلم منه أنا، محذوف الألف في وصل عند غير تميم، وقد يقال هَنا، وأنَ وآنَ، ويتلوه في الخطاب "تاء" حرفية كالاسمية لفظا وتصرفا، ولفاعل نفعل "نحن" وللغيبة "هو" و"هي" و"هم" و"هن" ولميم الجمع في الانفصال ما لها في الاتصال. ش: زعم الأكثرون أن ألف "نا" زائدة للوقف كزيادة هاء السكت، وأيدوا

ذلك بأن الهاء تعاقبها، كقول حاتم، هذا فزدى أنه، والصحيح أنا (أنا) بثبوت الألف وقفا ووصلا هو الأصل، وهي لغة بني تميم، وبذلك قرأ نافع قبل همزة قطع (كأنا أحيي) و (إن ترن أنا أقل) وقرأ بها أيضا ابن عامر في قوله تعالى (لكنا هو الله ربي) والأصل: لكن أنا، ثم نقلت حركة الهمزة إلى النون، وأدغمت النون في النون. ولمراعاة الأصل كان نون أنا مفتوحا في لغة من لفظ به دون ألف وجعل الفتحة دليلا عليها، كما أنّ من حذف ألف "أما" في الاستفتاح قال: أمَ والله. ولو كان وضع أنا في الأصل من همزة ونون فحسب لكانت النون ساكنة، لأنها آخر مبني بناء لازما، وقبلها حركة، وما كان هكذا فحقه السكون كمن وعن وأن ولن، ولو حرك على سبيل الشذوذ لم يعبأ بحركته حيث يلزم صونها في الوقف بزيادة ألف أو هاء سكت، فإذا قيل: إن الألف أصل وحذفها عارض، وأبقيت الفتحة دليلا عليها، سلم من مخالفة النظير وتكلف التقدير، لكون "أنا" في تخفيفه بحذف ألفه وبقاء الفتحة دليلا مُذَكِّرا بِرَدِّ ما يوقف عليه، نظير "أما" حين قيل: "أمَ والله، ونظير "ما" الاستفهامية إذا حذف ألفها في الجر فقيل: لِمَ فعلت؟ وفي قول من قال في: أنا فعلت: أنْ فعلت من الشذوذ ما في قول من قال: لِمْ فعلت؟ كما قال الشاعر: يا أسَدِيًّا لِمْ أكلتَه لِمَه ... لو خافك اللهُ عليه حرّمه ومن قال: آنَ فعلت بالمد، فإنه قلب أنا كما قال بعض العرب في رأى راء،

ومنه قول الشاعر: وكلُّ خليلٍ راءني فهو قائل ... منَ اجْلك هذا هامةُ اليومِ أو غد ولا ينبغي أن يكون آن بالمد من الإشباع، لأن الإشباع لا يكون غالبا إلا في الضرورة. وأما من قال: هَنا فعلت، فمن إبدال الهمزة هاء، وهو كثير، وعكسه قليل. ويلتزم في الخطاب حذف الألف والتسكين، لأن الحاجة إلى تخفيف المركب أشد من الحاجة إلى تخفيف المفرد. وفاعل نفعل هو المتكلم العظيم أو المشارك، وقد تقدم بيان ما لميم الجمع من هيأتها حال التلفظ بها، فأغنى عن إعادته الإحالة عليه. ص: وتسكينُ هاء "هو" و"هي" بعد الواو والفاء والام وثمَّ جائزٌ، وقد تسَكَّنُ بعد همزة الاستفهام، وكافِ الجَرِّ، وتحذف الواو والياء اضطرارا، وتُسَكِنهما قيس وأسد، وتُشَدِّدهما هَمْدان. ش: في هو وهي مخالفة للنظائر من وجهين: أحدهما بناؤهما على حركة بعد حركة، وإنما يكون ذلك فيما بناؤه عارض كالمنادى واسم لا، أو فيما حذف منه حرف كأنا. والثاني سكون أولهما بعد الحروف المذكورة. فأما سبب بنائهما على حركة فقصد امتيازهما من ضمير الغائب المتصل، فإنه في اللفظ هاء مضمومة وواو ساكنة، أو هاء مكسورة وياء ساكنة، فلو سكن آخر هو وهِي لالتبس المنفصل بالمتصل، ولم يبال بذلك قيس وأسد حين قالوا: هُو قائم، وهي قائمة، لأن موضع المنفصل في الغالب يدل عليه فيؤمن التباسه بالمتصل. وإما قلت في الغالب، لأن من المواضع ما يصلح للمتصل والمنفصل نحو: من أعطيته زيد، ومن لم أعطه منه هند، فيجوز أن يراد بالضميرين الاتصال فيكونا مفعولين، وأن يراد بهما الانفصال على لغة قيس وأسد فيكونا مبتدأين، والعائد محذوف،

والأصل: من أعطيته هو زيد، ومن لم أعطها هي هند، ثم حذف العائدان لمفعوليتهما واتصالهما، وأسكن آخر هو وهي فأشبها متصلين. ويجوز أن يكون الأصل: هُوّ وهِيّ كما يقول همدان، ثم خففا وتركت الحركة مشعرة بالأصل. وأما تسكين الهاء ففرارا من مخالفة النظائر، وذلك لأنه ليس في الكلمات ما هو على حرفين متحركين ثانيهما حرف لين غيرهما، فقصد تسكين أحدهما، فكان ثانيهما أولى، إلا أنه لو سُكِّنَ وُقِعَ بتسكينه في التباس المنفصل بالمتصل، فعُدِل إلى تسكين الأول من الحروف المذكورة لأنها كثيرة الاستعمال، وبمنزلة الجزء مما يدخل عليه، أعني الواو والفاء واللام، وألحقت بها ثم. وبمقتضى ذلك قرأ قالون والكسائي ووافقهما أبو عمرو مع غير ثم، ولم يجئ السكون مع الهمزة والكاف إلا في الشعر، فمن ذلك قول الشاعر: فقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتاعا وأرَّقني ... فقلتُ أهْيَ سَرَت أم عادني حُلُم وقال آخر: وقالوا اسْلُ عن سَلْمَى برؤية شبهها ... من النَّيِّرات الزُّهر والعين كالدُّمى وقد علموا ما هُنَّ كهْيَ فكيف لي ... سُلُوٌّ ولا أنفَكُّ صَبّا مُتَيَّما ومثال حذف الواو والياء اضطرارا قول الشاعر: بَيْناهُ في دار صدق قد أقام بها ... حينا يُعَللنا وما نُعَلله وقال آخر في حذف ياء هي: سالمتُ من أجلِ سلمى قومها وهم ... عِدًى ولولاهِ كانوا في الفلا رِمما

ومثال تسكين الواو والياء على لغة قيس قول الشاعر: ورَكْضُكَ لولا هُو لقيتَ الذي لَقُوا ... فأصبحتَ قد جاوزت قومًا أعاديا وقال الآخر: إنَّ سَلمى هي التي لو تراءت ... حَبَّذا هي من خُلَّة لو تُخالى كأنه أراد تخالل، فأبدل لاياء من أحد حرفي التضعيف. ومثال التشديد على لغة هَمْدان قول الشاعر: وإنّ لساني شُهدةٌ يُشتَفى بها ... وهُوَّ على من صبّه الله عَلقَمُ وقال آخر في تشديد ياء هي: والنَّفْس إنْ دُعِيَتْ بالعُنْفِ آبيةٌ ... وهِيَّ ما أُمِرَتْ باللطفِ تَأتمر ص: ومن المُضْمَرات "إيّا" خلافا للزَّجَّاج، وهو في النصب كأنا في الرفع، لكن يليه دليل ما يُراد به من متكلم أو غيره، اسما مضافًا إليه وفاقا للخليل والأخفش والمازني، لا حرفًا خلافًا لسيبويه ومن وافقه، ويقال: إيّاكَ وأيّاك وهِيّاك وهَياك. ش:"إيَّا" ضمير لا ظاهر خلافا للزجاج أبي إسحق، والدليل على أنه ضمير أنه يخلف ضمير النصب المتصل عند تعذره، لتقديم على العامل نحو: إياك أكرمت، أو لإضماره نحو: إياك والأسدَ، أو لانفصاله بحصر أو غيرها نحو: ما أكْرِمُ إلا إياك،

وأكرمتُه وإياك، فَخَلَفَهُ كما يخلف ضمير الرفع المنفصل ضمير الرفع المتصل عند تعذره، فنسبة المنفصلين من المتصلين نسبة واحدة. ولأن بعض المرفوعات كجزء من رافعه، وقد ثبت لضميره منفصلٌ، فثبوت ذلك لضمير النصب أولى، إذ لا شيء من المنصوبات كجزء من ناصبه، ولأن "إيا" لا تقع دون ندور في موضع رفع، وكل اسم لا يقع في موضع رفع فهو مضمر أو مصدر أو ظرف أو حال أو منادى، ومُبايَنَةُ "إيّا" لغير المضمر متيقنة، فتعيَّن كونه مضمرا. ولأن "إيا" لو كان ظاهرا لكان تأخره عن العامل واتصاله به جائزا بل راجحا على انفصاله عنه وتقدمه عليه كحال غيره من المنصوبات الظاهرة. والأمر بخلاف ذلك، فامتنع كونه ظاهرا ولزم كونه ضميرا، لكنه وضع بلفظ واحد، فافتقر إلى وصله بما يبين المراد به من الكاف وأخواتها، وهي ضمائر مجرورة بالإضافة لا حروف. هذا هو مذهب الخليل والأخفش والمازني وهو الصحيح، لأن فيه سلامة من ستة أوجه مخالفة للأصل: أحدها: أن الكاف في "إياك" لو كانت حرفا كما هي في "ذلك" لاستعملت على وجهين: مجردة من لام، وتالية لها، كما استعملت مع "ذا" و"هُنا" ولحاقها مع "إيا" أولى لأنها ترفع توهم الإضافة، فإن ذهاب الوهم إليها مع "إيا" أمكن منه مع "ذا" لأن "إيا" قد يليها غير الكاف، ولذا لم يختلف في حرفية كاف "ذلك" بخلاف كاف "إياك". الثاني: أنها لو كانت حرفا لجاز تجريدها من الميم في الجمع كما جاز تجريدها مع "ذا" كقوله تعالى (فما جزاءُ من يفعلُ ذلك منكم) و (ذلك خير لكم وأطهر). الثالث: أنه لو كانت اللواحق "بإيا" حروفا لم يحتج إلى الياء في "إياي" كما لم يحتج إلى التاء المضمومة في "أنا". الرابع: أن غير الكاف من لواحق "إيا" مجمع على اسميته مع غير "إيا" مختلف

في اسميته معها، فلا يترك ما أجمع عليه لما اختلف فيه، ثم تلحق الكاف بأخواتها ليجرى الجميع على سنن واحد. الخامس: أن الأصل عدم اشتراك اسم وحرف في لفظ واحد، وفي القول باسمية اللواحق سلامة من ذلك، فوجب المصير إليه. السادس: أن هذه اللواحق لو لم تكن أسماءً مجرورةَ المحل لم يلحقها اسم مجرور بالإضافة فيما رواه الخليل من قول العرب: إذا بَلَغَ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشَّوابِّ، وروى: فإياه وإيا السَّوْءاتِ. وهذا مستند قوي، لأنه منقول بنقل العدل بعبارتين صحيحتي المعنى، ثم إن هذا الكلام يتضمن وعظا وترغيبا لمن بلغ الستين في ذكر الموت والإعراض عن الفتنة بالنساء الشواب فإنهن يلهينه ويعجز عما يبغينه، ومن رواه بالسِّين والتاء فقد أصاب أيضا، ومعناه النهي عن القبائح، فإن اجتنابها مأمور به عموما، والشيخ باجتنابها أحق لأن صدورها منه أقبح. فإن قيل: هذه الوجوه مؤدية إلى إضافة (إيا) وهي ممتنعة من وجهين: أحدهما: أن "إيا" لو كان مضافا لم تخل إضافته من قصد تخفيف أو تخصيص فقصد التخفيف ممتنع لأنه مخصوص بالأسماء العاملة عمل الأفعال، وإيا ليس منها وقصد التخصيص ممتنع أيضا لأن "إيا" أحد الضمائر، وهي أعرف المعارف، فلا حاجة بها إلى تخصيص. الثاني: أن "إيا" لو كان مضافا لكانت إضافته إضافة شيء إلى نفسه وهي ممتنعة. فالجواب أن يقال: أما إضافة التخفيف فمسلم امتناعها من "إيا" وأما إضافة التخصيص فغير ممتنعة، فإنها تصير المضاف معرفة إن كان قبلها نكرة، وإلا ازداد بها وضوحًا كما يزداد بالصفة كقول الشاعر:

علا زيدُنا يومَ النَّقا رأسَ زيدِكم ... بأبيضَ ماضِي الشَّفْرَتَيْنِ يَمانِي فإضافة زيد هنا أوجبت له من الزيادة الوضوح مثل ما يوجب وصفه إذا قيل: علا زيد الذي منا زيدا الذي منكم، فكما قبل زيادة الوضوح بالصفة قبل زيادة الوضوح بالإضافة من غير حاجة إلى انتزاع تعريفه. وقد يضاف عَلَمٌ لا اشتراك فيه على تقدير وقوع الاشتراك المحْوجِ إلى زيادة الوضوح، كقول وَرقَةَ بنِ نَوْفَل: وَلُوجا في الذي كَرِهت قريشٌ ... ولو عَجَّت بمكتها عَجيجا فإذا جازت إضافة مكة ونحوها مما لا اشتراك فيه، فإضافة ما فيه من الاشتراك أولى بالجواز كإيَّا، فإنه قَبْلَ ذكر ما يليه صالح أن يراد به واحد من اثني عشر معنى، فالإضافة إذا له صالحة، وحقيقته بها واضحة. وكان انفرادها بالإضافة دون غيرها من الضمائر كانفراد "أي" بها دون سائر الموصولات. ورفعوا تَوَهُّم حرفية ما يضاف إليه بإضافتها إلى الظاهر في قولهم: فإياه وإيا الشَّواب. والاحتجاج بهذا للخليل على سيبويه شبيه باحتجاج سيبويه على يونس بقول الشاعر: دَعَوْتُ لما نابَني مِسْوَرا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَر لأن يونس يرى أن ياء "لَبَّيْك" ليست للتثنية، بل هي كياء "لَدَيْك" فاحتج سيبويه بثبوت ياء لَبَّى مع الظاهر، ولو كانت كياء لَدَى لم تثبت إلا مع المضمر كما أن ياء "لدى" لا تثبت إلا مع المضمر، وأما إلزامهم بإضافته أيضا إضافة الشيء إلى نفسه فنلتزمها معتذرين بما اعتذر عنها في نحو: جاء زيد نفسه، وأشباه ذلك. والكلام على ما في إياك من اللغات غني عن التفسير، إذ ليس فيه إلا النقل، وأعرف لغاته تخفيف الياء. فصل: ص: يتعينُ انفصالُ الضمير إنْ حُصر بإنما، أو رُفِع بمصدر مضاف إلى المنصوب، أو صفةٍ جَرَتْ على غير صاحبها، أو أُضْمِرَ العاملُ، أو أخِّر،

أو كان حرف نفي، أو فَصله مَتْبُوعٌ، أو وَلِيَ واوَ المصاحبة، أو إلاّ، أو إمّا، أو اللامَ الفارقةَ، أو نَصَبَه عاملٌ في مضْمَر قبله غير مرفوع إن اتفقا رُتْبَة، وربما اتصلا غائبين، إن لم يشتبها لفظا. وإن اختلفا رُتْبةً جاز الأمران. ووجبَ في غير نُدُورِ تقديم الأسبق رتبةً مع الاتصال، خلافا لكثير من القدماء، وشذ "الاّكِ" فلا يقاس عليه. ش: يتعين انفصال الضمير لحصره بإنما كقوله: أنا الفارسُ الحامي الذِّمار وإنما ... يُدافِع عن أحْسابه أنا أو مثلي ومن ذلك قول الشاعر: كأنّا يومَ قُرَّا ... إنّما نَقْتُل إيانا وقد وَهم الزمخشري في قوله: إنما نقتل إيانا فظن أنه من وُقوع المنفصل موقع المتصل، وليس كذلك، لأنه لو أوقع هنا المتصل فقال: إنما نقتلنا، لجمع بين ضميرين متصلين أحدهما فاعل والآخر مفعول مع اتحاد المسمى، وذلك مما يختص به الأفعال القلبية: وغَرَّ الزمخشري ذكرُ سيبويه هذا البيتَ في باب: ما يجوز في الشعر من إيّا ولا يجوز في الكلام ثم قال: (فمن ذلك قول حُمَيد الأرقط:

إليك حتى بَلَغَت إياكا فهذا ونحوه مخصوص بالشعر، لأنه لولا انكسار الوزن لقال: (حتى بلغتك) ثم ذكر البيت الذي أوله: كأنا، لا لأن ما فيه لا يجوز إلا في الشعر، بل لأن "إيانا" مُوقَعٌ فيه موقع أنفسنا، فبينه وبين الأول مناسَبة من قِبَل أن "إيا" في الموضعين واقعٌ موقعا غيرُه به أولى، لكن في الثاني من معنى الحصر المستفاد بإنما ما جعله مساويًا للمقرون بإلا، فحسُنَ وقوع "إيا" فيه كما يحسن بعد إلا، وهذا مطرد "فمن اعتقد شذوذه فقد وهم". ومثال الانفصال لكون الضمير مرفوعا بمصدر مضاف إلى المنصوب قول الشاعر: بَنَصرِكم نحن كنْتُم ظافرين وقد ... أغْرى العِدا بكم اسْتِسْلامُكم فَشَلا ومثال انفصاله لكونه مرفوعا بصفة جرت على غير صاحبها قوله: غَيْلانُ ميَّةَ مَشْغُوفٌ بها هَوَ مُذْ ... بَدَتْ له فحِجاه بان أو كَربا ومثال انفصاله لإضمار العامل قوله: فإنْ أنتَ لم ينْفَعْكَ عِلمُك فانْتَسِب ... لعلّك تهديك القرونُ الأوائِل ومثال انفصاله لتأخير العامل قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين). ومثال انفصاله لكون العامل حرف نفي قوله تعالى (وما أنتم بمعجزين)

وقول الشاعر: إنْ هو مُسْتَوْلِيا على أحدٍ ... إلا على أضْعَفِ المجانين ومثال المفصول بالمتبوع قوله تعالى (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) وقول الشاعر: مُبَرَّأ من عُيوبِ الناس كلِّهم ... فاللهُ يرعى أبا حَرْب وإيّانا ومثال المفصول بواو المصاحبة قول الشاعر: فآلَيْتُ لا أنفَكُّ أحْذُو قصيدة ... تكونُ وإيّاها بها مثلا بعدى ومثال المفصول بإلا قوله تعالى (أمر ألا تعبدوا إلا إياه). ومثال المفصول بإما قول الشاعر: بكَ أو بي اسْتعانَ فليلِ إمّا ... أنا أو أنت ما ابتغى المستعينُ وقال الأخفش في كتاب المسائل بعد أن مثل بإن كان زيد لصالحا: فإن جئت في هذا القياس بفعل لا يحتاج إلى مفعول أوقعت اللام على الفاعل فقلت: إن قام لزيد، وإن كان الاسم مضمرا قلت: إن قعد لأنا، لأنك إذا لم تصل إلى التاء جعلتها أنا إذا عَنى بها المتكلم نفسه، وأنت إذا عَنى غيره، وكذلك: إن قام لنحن. هذا نصه. وإليه أشرت بقولي "أو ولى واو المصاحبة، أو إلا، أو إما، أو اللام الفارقة" ومن هذا النوع قول الشاعر.

إنْ وجدتُ الصديقَ حقًا لإيّا ... ك فَمُرْني فلن أزال مُطِيعا فوافق في الرتبة: علمتك إياك، أي أنت في علمي الآن كما كنت قبلُ. والمراد بالموافقة في الرتبة كونهما لمتكلم كعلمتني إياي، أو لمخاطب كعلمتك إياك، أو لغائب كزيد علمته إياه، أو لغائبين كقولك: مال زيد أعطيته إياه، فانفصال ثاني الحاضرين متعين أبدًا، لأنه لا يكون إلا مثل الأول لفظا ومتحدا به معنى فاستثقل اتصالهما، ولأن اتصالهما يوهم التكرار. وانفصال ثاني الغائبين متعين أيضا إن كان هو الأول في المعنى نحو: زيد علمته إياه. أو شبيها بما هو الأول في المعنى نحو: مال زيد أعطيته إياه. فإن غاير الأولَ لفظا جاز اتصاله على ضعف، فمن ذلك ما رَوى الكسائي من قول بعض العرب: هم أحسنُ الناسِ وجوها وأنْضَرهموها، ومنه قول مَغلس بن لقيط: وقد جَعَلَتْ نفسي تطيب لِضَغْمَة ... لضَغْمِهماها يقرعُ العظمَ نابُها ومثال جواز الأمرين لاختلاف الرتبة: الدرهم أعطيتكه، وأعطيتك إياه. فمع الانفصال لك أن تقدم الأسبق رتبة وأن تؤخره، نحو: أعطيته إياك. ومع الاتصال ليس لك إلا تقديمه سماعا على العرب، فلو قلت: أعطيتهوك أو نحوه لم يجز عند سيبويه وفاقا للمسموع واقتصارا عليه. وأجازه غيره قياسا، قال سيبويه: فإن بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال: أعطاكني، أو بدأ بالغائب قبل المخاطب فقال: أعطاهوك، فهذا قبيح لا تتكلم به العرب، ولكن النحويين قاسوه.

قلت: ولا يعضد قول من أجاز القياس في ذلك قولُ العرب: عليكني، لكون الكاف فيه متقدمة على الياء، لأن الكاف في عَليك فاعل في المعنى، فيتنزَّل تقدمها على الياء منزلة تقدم التاء في قولك: أكرمتني، فلا يجوز أن يجرى مُجْراها "كاف" ليس لها حظ في الفاعلية نحو" كاف" أعطاك، ولكن يعضد قولَ من أجاز القياس في ذلك ما روى ابن الأنباري في غريبه من قول عثمان رضي الله عنه: أراهُمني الباطل شيطانا، فقدم ضمير الغائب على ضمير المتكلم المتصل. وأشرت بقولي "وشذ إلاكِ" إلى قول الشاعر: وما نُبالي إذا ما كُنتِ جارتَنا ... ألا يُجاورَنا إلاَّكِ دَيّارُ والأكثرون على أن الاتصال فيه لم يستبح إلا للضرورة، لأن حق الضمير الواقع بعد إلا الانفصال اعتبارًا بأن إلا غير عاملة، ومن حكم على إلا بأنها عاملة لم يعدّ هذا من الضرورات، بل جعله مُراجعة لأصل متروك، ويعتذر عن مثل: قاموا إلا إياك، بكون الاستعمال استمر بالانفصال، والأولى به الاتصال، وهذا متعلق بالاستثناء، فأخّرْت استيفاء الكلام فيه إلى بابه حتى نأتيه إن شاء الله تعالى. وأما ما أجاز ابنُ الأنباري من أن يقال: حتاك، فلا مسموع له، إلا إن جعِلتْ حتى جارة وذلك أيضا مفتقر إلى نقل عن العرب، لأن العرب استغنت في المضمر بإلى عن حتى، كما استغنت بمثل عن كاف التشبيه، وقد يرد دخول الكاف على ضمير الغائب، ولم يرد دخول حتى على ضمير أصلا. ص: ويُخْتارُ اتصال نحو "هاء" أعطيتكه، وانفصال الآخر من نحو: فِرَاقيها ومَنْعُكها وخِلْتُكَه. وكهاء أعطيتكه هاء نحو: كُنته، وخَلَف ثاني مفعولي نحو: أعطيت زيدا درهمًا، في باب الإخبار. ونحو: ضَمِنَتْ إياهم الأرضُ، ويَزيدُهم حُبًّا إليَّ هُم، من الضرورات. ش: لما ذكرت ما يجوز فيه الاتصال والانفصالن وكان بعضُه مختارَ الاتصال،

وبعضه مختار الانفصال، أخذت في بيان ذلك فكل ضمير تراه كهاء أعطيتكه، في كونه ثاني منصوبين بفعل غير قلبي، فهو جائز الاتصال والانفصال، واتصاله أجود، ولذلك لم يأت في القرآن إلا متصلا كقوله تعالى (إذ يُريكهمُ اللهُ في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم) وظاهر كلام سيبويه أن الاتصال لازم، ويدل على عدم لزومه قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإن الله مَلّككم إياهم، ولو شاء ملكهم إياكم". وأشرت "بالآخر من نحو (ومنعكها) إلى ما كان من الضمائر منصوبا بمصدر مضاف إلى ضمير قبله وهو فاعل أو مفعول أول، أو باسم فاعل مضاف إلى ضمير هو مفعول أول. فالمنصوب بمصدر مضاف إلى ضمير هو فاعل كقول الشاعر: لَئِن كان حُبِّيكِ لي كاذبًا ... فقد كان حُبِّيكِ حقّا يقينا ومثله قول الآخر: تَعَزَّيْتُ عنها حِقْبَةً فتركتُها ... وكان فِراقيها أمرَّ من الصبر والمنصوب بمصدر مضاف إلى ضمير هو مفعول أوَّل كقوله: فلا تَطْمَعْ أبيتَ اللعنَ فيها ... ومَنعُكها بشيء يُسْتَطاع وإلى ذا البيت والأول الذي قبله أشرت بقولي "من نحو: فِراقيِها، ومنعكها". والمنصوب باسم فاعل مضاف إلى ضمير هو مفعول أول كقول الشاعر: لا تَرْجُ أو تَخْشَ غيرَ الله إنَّ أذًى ... واقيكه اللهُ لا يَنْفَكّ مأمونا

وإنما المختار في هذه الثلاثة وأمثالِها الانفصال، ولكنه تُرِك واستعمل الاتصال، لأن الوزن لم يتأت إلا به. وإذا كان الضمير كهاء "خِلتكه" في كونه ثاني مفعولي أحد أفعال القلوب، فالانفصال به أولى، لأنه خبر مبتدأ في الأصل، وقد حجزه عن الفعل منصوب آخر، بخلاف هاء كنته فإنه خبر مبتدأ في الأصل، ولكنه شبيه بهاء ضربته في أنه لم يحجزه إلا ضمير مرفوع، والمرفوع كجزء من الفعل، فكأن الفعل مباشر له، فكان مقتضى هذا ألا ينفصل كما لا ينفصل هاء ضربته، إلا أنه أجيز الانفصال به مرجوحا لا راجحا خلافا لسيبويه ومن تبعه. ودليلنا على ذلك من وجهين: أحدهما: أن المشار إليه ضمير منصوب بفعل لا حاجز له إلا ما هو كجزء منه، فأشبه مفعولا لم يحجزه من الفعل إلا الفاعل، فوجب له من الاتصال ما وجب للمفعول الأول، فإن لم يساوه في وجوب الاتصال فلا أقل من كون اتصاله راجحا. الوجه الثاني: أن الوجهين مسموعان فاشتركا في الجواز، إلا أن الاتصال ثابت في النظم والنثر، والانفصال لم يثبت في غير استثناء إلا في النظم، فرجح الاتصال لأنه أكثر في الاستعمال، ومن الوارد من ذلك في النظم دون ضرورة قول الشاعر: كم ليث اغترَّ بي ذا أشْبُلٍ غَرَثَت ... فكأنني أعْظمُ الليثين إقداما فقال فكأنني مع تمكنه أن يقول: فكنته أعظم الليثين إقداما، جعل أعظم بدلا من الضمير، كما قالوا: اللهم صل عليه الرءوفِ الرحيم. ومن الوارد منه في النثر قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها "إياكِ أن تكونيها يا حميراء" وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في ابن صياد "إن يكُنْه فلن تُسَلّط عليهن وإن لا يكنه فلا خير لك

في قتله" ومن ذلك قول بعض العرب: عليه رجلا ليسني. وقال سيبويه: بلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسني، وكذلك كأنني. هذا نَصُّه، ولم يحك في الانفصال نثرا إلا قولهم في الاستثناء: أتوني ليس إياك، ولا يكون إياك، وهذا يتعين انفصاله في غير الضرورة، لأن ليس ولا يكون فيه واقعان موقع إلا، فعومل الضمير بعدهما معاملته بعدها، فلا يقاس على ذلك ما ليس مثله، والاتصال في قوله: إذْ ذَهَب القومُ الكرامُ ليسي من الضرورات، لأنه استثناء، ولو لم يكن استثناء لكان الاتصال أولى من الانفصال كما تقرر. ومن انفصال ثاني مفعولي أفعال القلوب قول الشاعر: أخي حَسِبْتُكَ إياه وقد مُلِئَت ... أرجاءُ صدرِك بالأضْغانِ والإحَنِ ومن وروده متصلا قوله: بُلِّغْتُ صنعَ امرِئٍ بَرٍّ إخالكه ... إذ لم تزلْ لاكتساب الحمدِ مُبْتَدِرا ومثال الإخبار عن ثاني مفعولي أعطيت زيدا درهما: الذي أعطيته زيدا درهمٌ، هذا على أن تخبر بالضمير الذي هو خلف عن المخبر عنه متصلا، وإن جئت به منفصلا مراعاة للترتيب الأصلي قلت: الذي أعطيت زيدا إياه درهم. والاتصال رأي أبي عثمان المازني، وباختياره أقول، لأن الاتصال هو الأصل، فإذا أمكنَ بلا محذور فلا عدول عنه عند مراعاة الأولى، فلو كان بدل الدرهم مفعولا لا يعلم كونه ثانيًا إلا بالتأخير نحو: أعطيت زيدا عمرا، فأخبر عنه، تعين انفصاله، لأن وصله بالفعل يوهم كونه أولا، فلو عضد بهذا قول غير المازني لاعتضد، فيقال: إذا تعين

الانفصال في بعض صور الإخبار فيلتزم في جميعها، ليجري الباب على سنن واحد كما فعل في غيره. والإشارة بنحو: ضمنت إياهم الأرض، إلى قول الشاعر وهو الفرزدق: إني حَلَفْتُ ولم أحْلِفْ على فَنَدٍ ... فناءَ بيتٍ من السَّاعين معمور بالباعثِ الوارثِ الأموات قد ضمِنت ... إياهم الأرضُ في دهرِ الدَّهارير فأوقع الضمير المنفصل بغير سبب موقع المتصل، فلولا ضرورة إقامة الوزن لكان خطأ. وكذا قول الآخر: وما أصاحِبُ من قومٍ فأذكرهم ... إلا يزيدهم حُبًّا إليّ هُمُ فهم الأخير فاعل يزيد، وظن بعضهم أن هذا جائز في غير الشعر، لأن قائله لو قال: يزيدونهم، لصلح، فيجعل المتصل وهو الواو فاعلا، والمنفصل توكيدًا، وهذا وهم، لأن لك ضميرين متصلين لمسمى واحد أحدهما فاعل والآخر مفعول وذلك لا يكون في غير فعل قلبي. ص: الأصلُ تقديمُ مُفَسِّر ضميرِ الغائب، ولا يكون غيرَ الأقرب إلا بدليل، وهو إما مُصَرَّحٌ بلفظه، أو مُسْتَغنى عنه بحضور مدلوله حِسًا أو علْمًا، أو بِذِكْرِ ما هو له جزءٌ أو كلٌّ أو نظير، أو مُصاحِبٌ بوجهٍ ما. ش: لما كان ضميرُ الحاضر مُفسَّرًا لمشاهدة تقارنه، ولم يكن لضمير الغائب مشاهدة تقارنه، جعلوا تقديم مُفَسِّره خلفًا عما فاته من مُقارنةِ المشاهدة، ومقتضى هذا القصد تقديم الشعور بالمفسِّر كما يتقدم الشعور بذاتٍ يصلح أن يُعَبَّر عنها بضمير حاضر. واللائق بالمفسِّر لكونه جزءَ المفَسَّر في تكميل وضوحه أن يتصل به، فلذلك

إذا ذكر ضمير واحد بعد اثنين فصاعدا جُعل للأقرب، ولا يجعل لغيره إلا بدليل من خارج. وعَوْدُ هو من قولي: "وهو إما مصرح بلفظه" على المُفسَّر، أي المفسِّر إما مصرح بلفظ كزيد لقيته، وإما مستغنى عن لفظه بحضور معناه في الحس كقوله تعالى (هي راودتني عن نفسي) و (يا أبَتِ استأجره) أو بحضور معناه في العِلْم كقوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدْر) أو بذكر ما صاحب الضمير كقول الشاعر: أماوِيّ ما يُغْني الثَّراءُ عن الفتى ... إذا حشْرَجت يوما وضاق بها الصَّدْرُ فذكر الفتى مُغْنٍ عن ذكر النفس لأنها جزؤه، فعاد إليها فاعل حشرجت والضمير المجرور بالباء، ومن هذا قولهم: من كَذَب كان شرًّا له، فأُضْمِر في كان ضمير الكذب لأنه جزء مدلول كَذَب، ومثله قوله تعالى (اعدلوا هو أقربُ للتقوى) فهو عائد إلى العدل، لأنه جزء مدلول اعدلوا، ومن هذا أيضًا قول الشاعر: وإذا سُئِلت الخيرَ فاعلم أنها ... حُسْنى تُخَصُّ بها من الرحمن فأعاد الضمير على المسألة لأنها جزء من مدلول سئلت، ومن هذا أيضًا قول الشاعر: إذا نُهِيَ السَّفيه جَرَى إليه ... وخالفَ والسَّفِيهُ إلى خلاف

فالهاء من إليه عائدة على السَّفه، فإنه جزء مدلول السفيه. ويستغنى أيضا عن ذكر صاحب الضمير بكونه كُلاًّ وكون المذكور جزءا، فإن الجزء يدل على الكل، كما يدل الكل على الجزء، ومن ذلك قوله تعالى (ولا ينفقونها في سبيل الله) فإن الذهب والفضة بعض المكنوزات، فأغنى ذكرهما عن ذكر الجميع حتى كأنه قيل: والذين يكنزون أصناف ما يُكْنز ولا ينفقونها، ومن ذلك أيضا قول الشاعر: ولو حلفت بين الصَّفا أمُّ مَعْمَر ... ومروتها بالله بَرَّتْ يمينُها فأعاد الضمير إلى مكة لأن الصفا جزء منها، وذكر الجزء مُغْنٍ عن ذكر الكل في بعض الكلام. ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى (كلُّ من عليها فانٍ) فيكون الضمير للدنيا وإن لم يجرد ذكرها في هذه السورة، لأن ما جرى ذكره بعضها، والبعض يدل. وقد يستغنى عن ذكر صاحب الضمير بذكر ما لصاحبه بوجه ما كالاستغناء بمستلزِم عن مستلزَم، فمن ذلك قوله تعالى (فمن عُفِي له من أخيه شيء فاتِّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) فعُفي يستلزم عافِيًا فأغنى ذلك عن ذكره، وأعيد الهاء من إليه عليه. ومثال هذا أيضًا قول الشاعر: فإنَّك والتأبينَ عُرْوَة بعد ما ... دعاكَ وأيدينا إليه شوارعُ لكا لرَّجُل الحادي وقد تَلَع الضُّحى ... وطيرُ المنايا فوقهن أوَاقع فالحادي يستلزم إبلا مَحْدُوّة، فأغنى ذلك عن ذكرهن، وأعاد ضمير فوقهن عليهن، ومثل هذا قوله تعالى (حتى توارت بالحجاب) ففاعل توارت ضمير

الشمس ولم تذكر، لكن أغنى عن ذكرها ذكر العشي وأوله وقت الزوال، فذكره يستلزم معنى الشمس فكأنها مذكورة، ويجوز أن يكون فاعل توارت ضمير الصافنات. وقد يستغنى عن ذكر صاحب الضمير بذكر ما يصاحبه ذكْرًا أو استحضارا، كذكر الخير وحده متلوا بضمير اثنين مقصود بهما المذكور وضده، كقول الشاعر: وما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أمرا ... أريدُ الخيرَ أيُّهما يليني وقد يعاد الضمير على المسكوت عنه لاستحضاره بالمذكور وعدم صلاحيته له كقوله تعالى (إنا جعلنا في أعناقِهم أغلالا فهي إلى الأذقان) فهي عائد على الأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال، فأغنى ذكر الأعناق عن ذكرها، ومثله قوله تعالى (وما يُعَمَّرُ من مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ من عمره) أي من عمر غير المعمَّر، فأعيد الضمير على غير المعمر، لأن ذكر المعمَّر مُذَكّر به لتقابلهما، فكان مصاحبه في الاستحضار الذهني. ص: ويقدم الضمير المكمل معمول فعل على مُفَسِّرٍ صريح كثيرا إن كان المعمول مُؤخّر الرتبة، وقليلا إن كان مُقَدَّمهان وشاركه صاحب الضمير في عامله.

ش: مثال ما يقدم كثيرا اضرب غلامَه زيدٌ، وغلامَه ضربَ زيدٌ، وضربَ غلامَ أخيه زيدٌ، وغلامَ أخيه ضربَ زيدٌ، وما أراد أخذ زيدٌ، وضربَ جاريةً يحبُّها زيدٌ، وهذه الأمثلة وأشباهها مندرجة تحت قولي: المكمل معمول فعل، لأن المضاف إليه يكمل المضاف، ومعمول الصلة يكمل الموصول، كما يكمل "ما" بفاعل "أراد" الممثل به، ومعمول الصفة مكمل للموصوف كما تكمل جارية بفاعل يحبها. ومثل: ضرب غلامه زيدٌ، قوله تعالى (فأوْجَس في نفسه خيفةً موسى). ومثل: غلامَه ضرب زيدٌ، قول العرب: في بيته يُؤْتَى الحكم، وشَتَّى تَئُوبُ الحَلبَةُ، فإن بيته في موضع نصب بيؤتى والهاء عائدة على الحكم، وقد تقدما على العامل والمفسر، وشتّى حال من الحَلبَة وفيه ضمير عائد عليهم وقد تقدما على العامل والمفسِّر. والكوفيون لا يجيزون مثل هذا. وسماعه عن فصحاء العرب، وهو حجة عليهم. ومثال: غلامَ أخيه ضربَ زيدٌ قول الشاعر: شرَّ يَوْمَيْها وأغواه لها ... ركبتْ عَنْزٌ بِحِدْجٍ جَمَلا لأن شر يوميها ظرف لركبت. ومثل: ما أراد أخذ زيد، قول رجل من العرب: ما شاء أنشأ ربِّي والذي هو لم ... يشأ فلستَ تراه ناشئا أبدا ومثال الضمير الذي يتقدم قليلا قول حسان يرثي مطعم بن عدي جد نافع بن جبير:

ولو أن مَجْدًا أخْلَدَ الدهرَ واحدا ... من الناس أبقى مجدُه الدهرَ مُطْعِما وقال غيره: كَسا حِلْمُه ذا الحِلْمِ أثوابَ سُؤْدَدٍ ... ورَقَّى نداه ذا الندى في ذُرا المجد وقال: لما رأى طالِبُوه مُصْعَبا ذُعِرُوا ... وكاد لو ساعد المقْدُورُ ينتصر وقال: لقد جاز من يعني به الحمدُ إن أبَى ... مكافأة الباغين والسفهاء وأنشد أبو الفتح بن جني: ألا ليتَ شعري هل يَلُومَنَّ قومُه ... زُهَيْرًا على ما جَرَّ من كل جانب وأنشد أيضا: جَزَى بنوه أبا الغِيلان عن كِبَر ... وحُسْنِ فعل كما يُجْزى سِنِمَّارُ والنحويون إلا أبا الفتح يحكمون بمنع مثل هذا، والصحيح جوازه لوروده عن العرب في الأبيات المذكورة وغيرها، ولأن جواز نحو: ضرب غلامُه زيدا، أسهل من جواز: ضربوني وضربت الزيْدِين،، ونحو: ضربته زيدا، على إبدال زيد من الهاء. وقد أجاز الأولَ البصريون، وأُجيز الثاني بإجماع، حكاه ابن كيسان، وكلاهما فيه ما في: ضرب غلامُه زيدا من تقديم ضمير على مُفَسِّر مُؤَخر الرتبة، لأن مفسِّر واو ضربوني معمولُ معطوفٍ على عاملها، والمعطوف ومعمولهُ أمكن في استحقاق التأخير من المفعول بالنسبة إلى الفاعل، لأن تقدم المفعول على الفاعل

يجوز في الاختيار كثيرا، وقد يجب، وتقدم المعطوف وما يتعلق به على المعطوف عليه بخلاف ذلك، فيلزم من أجاز: ضربوني وضربت الزيدين أن يحكم بأولية جواز: ضربَ غلامُه زيدا، لما ذكرناه. وكذلك يلزم من أجاز إبدال ظاهر من مضمر لا مفسِّر له غيره نحو: ضربته زيدا، واللهم صل عليه الرءوف الرحيم، لأن البدل تابع، والتابع مؤخر بالرتبة، ومؤخر في الاستعمال على سبيل اللزوم، والمفعول ليس كذلك إذا لم يلزم تأخيره. ومما حكم بجوازه لشبهه بما نحن بصدده أن يقال: ضَرَبَتْ جاريةٌ يُحبُّها زيدا، فيتقدم "يحبها" وهو مسند إلى ضمير يعود إلى زيد وإن كان متأخرا لفظا ورتبة، لأن يحبها مكمل لجارية إذ هو صفتها، فجاز تأخر مفسِّر ضميرها، كما جاز تأخر مفسر ضمير المضاف إليه نحو: ضرب غلامُه زيدا. ولو لم يشارك صاحب الضمير المكمل به في عامله لم يجز التقديم نحو: ضربَ غلامُها جارَ هند، لأن "هند" مؤخر الرتبة من وجهين، ولا تعلق لها بضرب، بخلاف ضرب غلامُها هندًا. فمن مثل هذا احترزت بقولي: وشاركه صاحب الضمير في عامله، فإن صاحب الضمير في: ضربَ غلامُه زيدا قد شارك المكمل به الضمير في عامله، وصاحب الضمير في: ضرب غلامُها جارَ هند غير مشارك في العامل. ص: ويتقدم أيضا غيرَ مَنْويّ التأخير إن جُرَّ بِرُبَّ، أو رُفِعَ بِنِعْم أو شبهها أو بأول المتنازعين، أو أبدل منه المفسِّر، أو جُعِل خَبَرَه، أو كان المسَمَّى ضميرَ الشأنِ عند البصريين، وضمير المجهول عند الكوفيين. ش: مثال المتقدم المجرور برب قولُ الشاعر أنشده أبو العباس أحمد بن يحيى: واهٍ رَأبت وشيكا صَدْع أعظمِه ... ورُبّه عَطِبًا أنقذتُ من عَطَبه

ومثال المتقدم المرفوع بنعم قول الشاعر: نِعمَ امْرَأ هَرِمٌ لم تَعْرُ نائبة ... إلا وكان لمُرْتاع بها وَزَرا ومثال المتقدم المرفوع بأول المتنازعين قول الشاعر: جَفَوْني ولم أجْفُ الأخلاءَ إنني ... لغير جميلٍ من خَليلي مُهْمل ومثال المفسَّر ببدل: اللهم صل عليه الرءوفِ الرحيم، حكاه الكسائي. ومثال المفسَّر بخبره (إن هي إلا حياتنا الدنيا) قال الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به غلا بما يُتْلى به، وأصله، إن الحياة إلا حياتنا، ثم وضع هي موضع الحياة، لأن الخبر يدل عليها ويبينها. ومنه: هي النفس تحمل ما حملت، وهي العرب تقول ما شاءت، وهذا من جيد كلامه. وفي تنظيره بهي النفس وهي العرب ضعف، لإمكان جعل النفس والعرب بدلين. ومثال ضمير الشأن (قل هو الله أحد) ولكل واحد منها موضع يستوفى فيه ما يحتاج إليه من البيان إن شاء الله تعالى. ص: ولا يُفسَّر إلا بجملةٍ خبرية مُصَرَّج بجزأيها خلافا للكوفيين في نحو: ظننته قائما زيدٌ، وإنّه ضُرِب أو قام. ش: إذا قصد المتكلم أن يستعظم السامع حديثه فقبل الأخذ فيه افتتحه بالضمير المسمى ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين، وهو بمنزلة ضمير غائب تقدم ذكره، فلذلك استتر مرفوعا بكان أو كاد أو إحدى أخواتهما، ولا يجوز عند البصريين حذف بعض الجملة التي تفسره، لأنها مؤكدة به، ومدلول به على فخامة مدلولها، واختصارها مناف لذلك فلا يجوز، كما لا يجوز ترخيم

المندوب، ولا حذف حرف النداء قبله. فبهذا يعلم أن ما أجازه الكوفيون من: إنه ضرب، وإنه قام، ونحوهما غير مستقيم ولا سليم، لافتتاحه بمزيد الاعتناء بالمحدث عنه، واختتامه بحذف ما لا بد منه. وأما تجويزهم نحو: ظننته قائما زيد، على أن تكون الهاء ضمير الشأن، فمردود أيضا؛ لأن سامعه يسبق إلى فهمه كون زيد مبتدأ مؤخرا، وكون ظننت ومفعوليها خبرا مقدم، وذلك مفوت للغرض الذي لأجله جيء بضمير الشأن، لأن من شرطه عدم صلاحية الضمير لغير ذلك، حتى يحصل به من فخامة الأمر ما قصده المتكلم. ص: وإفرادُه لازمٌ، وكذا تذكيرُه، ما لم يله مؤنث، أو مذكر شُبِّه به مؤنث، أو فعلٌ بعلامة تأنيث فيرجَّح تأنيثه باعتبار القصة، على تذكيره باعتبار الشأن. ويبرز مبتدأ، واسم ما، ومنصوبا في بابي إنّ وظنّ، ويَسْتَكِنُّ في بابَيْ كان وكاد. ش: لا يجوز أن يكون ضمير الشأن مثنى ولا مجموعا، لأنه كناية عن الشأن في التذكير وعن القصة في التأنيث، وهما مفردان فوجب إفراد ما هو كناية عنهما، فيقال: إنه أخواك منطلقان، وإنها جاريتاك حسنتان، وإنه إخوتك صالحون، وإنها إماؤك مُطيعات، ولا يؤنث إلا إذا وليه مؤنث كقوله تعالى (فإذا هي شاخصةٌ أبصارُ الذين كفروا) أو مذكر شُبِّه به مؤنث نحو: إنها قمرٌ جاريتك، أو فعل بعلامة تأنيث مسندا إلى مؤنث كقوله تعالى (فإنها لا تعمى الأبصار) وقول الشاعر: على أنها تَعْفُو الكلومُ وإنما ... نُوكلُ بالأدنى وإنَ جَلْ ما يمضي فهذا وأمثاله التأنيث فيه أجود من التذكير، لأن مع التأنيث مشاكلة تحسن اللفظ

مع كون المعنى لا يختلف، إذ القصة والشأن بمعنى واحد، والتذكير مع ذلك جائز، كما قال أبو طالب: وإنْ لا يكنْ لحمٌ غَرِيض فإنه ... تُكَبُّ على أفواهِهن الغرائرُ وكما قال غيره: نَخَلَت له نَفْسِي النصيحةَ إنَّه ... عند الشدائد تذهبُ الأحقادُ فلو كان المؤنث الذي في الجملة بعد مذكر لم يُشبَّه به مؤنث فضلة أو كالفضلة لم يُكْتَرث بتأنيثه فيؤنث لأجله الضمير، بل حكمه حينئذ التذكير، كقول الشاعر: ألا إنّه من يلغ عاقِبة الهوى ... مطيع دواعيه يبؤ بهوان وكذلك لا يكترث بتأنيث ما هو كفضله، كقوله تعالى (إنّه من يأتِ ربَّه مُجرِما فإن له جهنم) فذكّر تعالى الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة، لأنها في حكم الفضلة، إذ المعنى: من يأت ربه مجرما فجزاؤه جهنم. وكذلك لا يُكْتَرَثُ بتأنيث ما ولِي الضمير من مؤنثٍ شبِّه به مذكر نحو: إنه شمس وجهك. ولا بتأنيث فاعل فعل وَلِي الضمير بلا علامة تأنيث نحو: إنه قام جاريتك.

وبروزه مبتدأ كقوله تعالى (قل هو الله أحد). وبروزه اسم ما كقول الشاعر: وما هو مَنْ يَأسُو الكُلُومَ ويُتَّقَى ... به نائباتُ الدهر كالدَّائم البخل وبروزه في باب إن كقوله تعالى (وإنه لما قام عبد الله يدعوه). وفي باب ظن كقول الشاعر: علمتُه الحقُّ لا يخفى على أحد ... فكُنْ مُحِقًّا تنل ما شئتَ من ظَفَر واستكنانه في باب كان كقول الشاعر: إذا مِتُّ كان الناسُ صنفان شامتٌ ... وآخرُ مثْن بالذي كنت أصنع واستكنانه في باب كاد كقوله تعالى (كاد يزيغُ قلوب فريق منهم) في قراءة حمزة وحفص. ص: ويُبْنى المُضْمَرُ لشبهه بالحرف وضعا وافتقارا وجُمودا، أو للاستغناء باختلاف صِيَغِه لاختلاف المعاني. وأعلاها اختصاصا ما للمُتكلم، وأدناها ما للغائب، ويُغَلَّبُ الأخص في الاجتماع. ش: المراد بشبه الحرف وضعا كون بعض المضمرات على حرف واحد كتاء فعلت، وكاف حدثتك. وعلى حرفين كنا، فبناء ما هو كذا واجب لخروجه عن وضع الأسماء المختصة والتحاقه بوضع الحروف، وحملت البواقي على هذه، لأن هذه أصول أو كالأصول، وليجري الباب على سنن واحد.

والمراد بالافتقار كون المضمر لا تتم دلالته على مسماه إلا بضميم من مشاهدة أو ما يقوم مقامها، فأشبه بذلك الحرف لأنه في الغالب لا يفهم معناه بنفسه بل مع ضميم. والمراد بالجمود عدم التصرف في لفظه بوجه من الوجوه حتى بالتصغير، وبأن يوصف أو يوصف به كما فعل بالمبهمات، وبأن يبنى منه مفعلة دالا على الكثرة كما فعل بالمتمكن من الأسماء، وإن لم يكن مشتقا، كمسْبعة لموضع كثرة السباع، ومَذْأبة لموضع كثرة الذئاب. والمراد باختلاف صيغه لاختلاف المعاني أن المتكلم إذا عبر عن نفسه خاصة فله تاء مضمومة في الرفع، وفي غيره ياء. وإذا عبر عن المخاطب فله تاء مفتوحة في الرفع، وفي غيره كاف مفتوحة في التذكير ومكسورة في التأنيث، فأغنى ذلك عن إعرابه، لأن الامتياز حاصل بدونه. وتغليب الأخص عند الاجتماع بأن يقال: أنا وأنت فعلنا، وأنت وهو فعلتما، ولا يغلب غير الأخص فيقال في الأولى: فعلتما، ولا في الثاني فعلا. فصل: ص: من المضمرات المسمَّى عند البصريين فَصْلا وعند الكوفيين عمادا، ويقع بلفظ المرفوع المنفصل، مطابقًا لمعرفةٍ قبلُ، باقي الابتداء أو منسوخه، ذي خبرٍ بعدُ، معرفة أو كمعرفة في امتناع دخول الألف واللام عليه. وأجاز بعضهم وقوعه بين نكرتين كمعرفتين، وربما وقع بين حال وصاحبها، وربما وقع بلفظ الغيبة بعد حاضرٍ قائمٍ مقامَ مُضاف. ش: الضمير المسمى فصلا وعمادا كهو من قولك: حسبت زيدا هو الكريم، فسمي فصلاً للفصل به بين شيئين لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولانفصال السامع عن توهم الخبر تابعًا. وسمي عمادًا لأنه معتمد عليه في تقرير المراد ومزيد البيان. وذكر التابع أولى من ذكر النعت، لأن الضمير المشار إليه قد يقع بعد ما لا ينعت، وقبل ما لا ينعت به. ولا بد من مطابقةٍ لما قبله في حضوره وغيبته وتذكيره وتأنيثه، وإفراده وتثنيته وجمعه. ولا يكون ما قبله عند غير الأخفش إلا مبتدأ أو ما كان مبتدأ، ثم دخل عليه بعض نواسخ الابتداء. وقد تناول هذا قولي "باقي الابتداء أو منسوخه". وقلت "مطابقًا لمعرفة قبلُ وذي خبر بعدُ" ليعلم أنه لو قدم الخبر لاستغنى عنه.

ولا يكون ما بعده إلا معرفة أو مضارعًا لها في عدم قبول حرف التعريف، كحسبتك أنت مثله أو خيرًا منه. ولو أوقع قبل نكرة تقبل حرف التعريف لم يجز. والإشارة بوقوعه بين نكرتين كمعرفتين إلى نحو: ما أظن أحدًا هو خيرا منك، فإن أحدًا بما فيه من العموم شبيه بالمعرف بالألف واللام الجنسية، وخيرًا منك شبيه بمعرفة في امتناع دخول حرف التعريف عليه. وقد حكى سيبويه أن أهل المدينة يجيزون وقوع الفصل بين نكرتين كهاتين. وروى عن يونس أن أبا عمرو رآه لحنا. ولم يجعلوه فصلا وقبله نكرة، كما أنه لا يكون وصفا ولا بدلا لنكرة. وحكى الأخفش أن بعض العرب يأتي بالفصل بين الحال وصاحبها فيقول: ضربت زيدًا هو ضاحكا، وعلى هذه اللغة قرأ بعضهم (هؤلاءُ بناتي هنَّ أطهرَ لكم) بنصب أطهر. وأشرت بقولي "وربما وقع بلفظ الغيبة بعد حاضر" إلى قول الشاعر: وكائِنْ بالأباطِح من صديقٍ ... يراني إنْ أُصِبْتُ هو المصابا تقديره عند أكثرهم: يرى مصابي إن أصبتُ هو المصاب، فحذف المضاف إلى الياء وأقامه في اللفظ مقامه، وطابق الفصل المحذوف لا الثابت. ويجوز أن يكون هو توكيدا لضمير الفاعل. ص: ولا يتقدَّمُ مع الخبر المُقَدَّم خلافا للكسائي، ولا موضع له من الإعراب على الأصح، وإنما تتعين فصليته إذا وليه منصوبٌ وقُرِنَ باللام، أو وَلِي ظاهرا، وهو مبتدأ مخبر عنه بما بعده عند كثير من العرب. ش: لما كانت فائدة الفصل صون الخبر من توهمه تابعًا لزم من ذلك الاستغناء عنه إذا قدم الخبر، لأن تقدمه يمنع من توهمه تابعًا، إذ التابع لا يتقدم على المتبوع، فلو قدم المفعول الثاني: في حسبت زيدًا هو خيرًا منك، لترك الفصل لعدم الحاجة

إليه مع كونه في محله، فلأن يترك ولا يجاء به بعد الخبر المقدم أحق وأولى. فظهر بهذا بطلان ما أجازه الكسائي رحمه الله من ذلك. ولا موضع له من الإعراب، خلافًا لقوم يجعلونه توكيدًا لما قبله، قال سيبويه: لو كان كذلك لجاز: مررت بعبد الله هو نفسه، ثم قال: "ويدخل عليهم: إن كان زيد لهو الظريف، وإن كنا لنحن الصالحين، فالعرب تنصب هذا، والنحويون أجمعون، ولا يكون هو ونحن صفة وفيهما اللام" يعني بالصفة التوكيد. ثم قال سيبويه "فصارت هو وأخواتها هنا بمنزلة ما إذا كانت لغوا، في أنها لا تغير ما بعدها عن حاله قبل أن تذكر". فكلام سيبويه مشعر بأن الفصل لا موضع له من الإعراب، ويؤيد ذلك عدم تغيره لتغيِّر ما قبله كقولك: زيدٌ هو الفاضلُ، وعلمت زيدًا هو الفاضلَ، فلو كان له موضع من الإعراب لقلت: علمت زيدا إياه الفاضل، كما تقول: ما أكرمني إلا أنت، وما أكرمت إلا إياي. والحاصل أن الضمير المشار إليه إذا وقع بين مخبر عنه وخبر متأخر، فإن كان الخبر نكرة لا تشبه المعرفة كشبه مثلك وخير منك امتنعت الفصلية، فإن كان معرفة أو شبهها ورفعته احتمل أن يكون الضمير فصلا وأن يكون مبتدأ، فإن نصبته وقرن الضمير باللام المفتوحة تعينت الفصلية ظاهرا كان ذو الخبر أو ضميرا. وإن نصبت الخبر ولم يقرن الضمير باللام تعينت الفصلية إن كان المخبر عنه ظاهرًا، وجاز التوكيد والفصلية إن كان المخبر عنه ضميرا. ومن العرب من يجعل الضمير المشار إليه مبتدأ ويرفع ما بعده بمقتضى الخبرية مطلقا، قال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول: أظن زيدًا هو خيرٌ منك، وحدثنا عيسى أنَّ ناسًا كثيرًا من العرب يقولون (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمون) وأنشد: تبكي على لُبْنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنتَ أقْدر

باب الاسم العلم

باب الاسم العلم ص: وهو المخصوصُ مطلقًا غَلَبةً أو تعليقا بمسمًّى غير مقدَّرِ الشياع، أو الشائع الجاري مجراه. ش: المخصوص مخرج لاسم الجنس فإنه شائع غير مخصوص. وقولنا "مطلقا" مخرج للمضمرات، فإن كل واحد منها مخصوص باعتبار، غير مخصوص باعتبار، وذلك أن لفظ "أنا" وضع ليخص به المتكلم نفسه، ولكل متكلم منه نصيب حين يقصد نفسه، فهو مخصوص باعتبار كونه لا يتناول غير الناطق به، وغير مخصوص باعتبار صلاحيته لكل مخبر عن نفسه. وكذا اسم الإشارة، فإن لفظة "ذا" وضع ليُخَصَّ به مشارٌ إليه مفردٌ مذكرٌ قريب. فهو مخصوص باعتبار الحال والمحل، غير مخصوص باعتبار صلاحيته لكل ما اتصف بالحال وحصل في المحل. وقولنا "تعليقا أو غلبة" بيان لصنفَيْ الأعلام، لا إخراج لشيءٍ خِيف دخولُه، ولا إدخال لشيء خيف خروجه، لأنّ ما سواهما مغن لكن بإجمال. والمراد بالتعليق تخصيص الشيء بالاسم قصدا، كتسمية المولود له ابنٌ زيدا. والمراد بالغلبة تخصيص أحد المشتركين أو المشتركات في شائع اتفاقا، كتخصيص عبد الله بابن عمر، ويثرب بالمدينة، ومصنف سيبويه بالكتاب. وقونا "غير مقدر الشياع" مخرج للشمس والقمر ونحوهما، فإنها مخصوصان بالفعل شائعان بالقوة. وقولنا "أو الشائع الجاري مجراه" أي الجاري مجرى المخصوص. والإشارة به إلى العلم الجنسي كأسامة للأسد، وذؤالة للذئب، وشبوة للعقرب، فإنها أعلام في اللفظ إذ لا تضاف، ولا يلحقها حرف التعريف، وتوصفُ بالمعرفة دون النكرة، وتجيء مبتدأ بلا شرط، وصاحب حال، ولا يصرف منها ذو سبب زائد على العلمية كثعالة للثعلب، وكيسان للغدر. وهي باعتبار المعنى شائعة غير مخصوصة، إلا أنها تستعمل استعمال ذي الألف

واللام المعهود، فيقال: هذا أسامة مفترسا، كما يقال: هذا الأسد منظورا إليه. ويقال: أسامة شرٌّ من ذؤالة، فتقصد بهما الشمول، كما تقصد إذا قيل: الأسد شر من الذئب. ص: وما استعمل قبل العلمية لغيرها، فمنقول منه، وما سواه مرتجل، وهو إما مقيس وإما شاذٌّ، بفكِّ ما يدْغَم، أو فتح ما يُكْسَر أو كسر ما يُفْتَح، أو بتصحيح ما يُعَلّ، أو إعلال ما يصحَّح، وما عَرِي من إضافة وإسناد ومزج مفرد، وما لم يَعْرَ مُرَكّب، فذو الإسناد جملة وغير جملة، وذو الإضافة كنْيةٌ وغيرُ كنْيَة، وذو المزج إن خُتِمَ بغير وَيْه أُعْرِب غير منصرف، وقد يضاف، وإن ختمَ بويه كسِر، وقد يعرب غيرَ منصرف، وربما أضيفَ صدر ذي الإسناد إلى عجُزه إن كان ظاهرا. ش: قولنا "وما استعمل قبل العلمية لغيرها" يتناول ما كان قبل النقل مصدرا كسَعْد وفَضْل، وما كان اسم فاعل كحارث وغالب، وما كان اسم مفعول كمسعود ومنصور، وما كان صفة مشبهة كحسن وسعيد، وما كان فعلا ماضيا كشَمَّرَ وكعْسَب، وما كان فعلا مضارعا كتغلب ويشكر، وما كان جملة من فعل وفاعل ظاهر أومضمر بارز أو مستتر كبَرَق نحرُه وأطْرقا في قول الشاعر: على أطْرِقا بالياتِ الخيا ... م إلاّ الثَّمام وإلا العِصِيّ وكقول الراجز: نُبِّئْتَ أخوالي بني يزيدُ ... ظُلْمًا علينا لهم فَدِيد ولم يرد عن العرب علم منقول من مبتدأ وخبر، ولا منقول من فعل أمر دون إسناد إلا إصْمِت اسما للفلاة الخالية، فإن من العلماء من زعم أنه منقول عن الأمر بالصمت، وذلك عندي غير صحيح لوجهين: أحدهما: أن الأمر بالصمت إما أن يكون من: أصْمَت، وإما أن يكون من: صَمَت، فالذي من أصْمت مفتوح

الهمزة، والذي من صمت مضمومها ومضموم الميم، وإصمت بخلاف ذلك والمنقول لا يغيَّر. والثاني: أنه قد قيل: إصمتة، بهاء التأنيث، ولو كان فعل أمر لم تلحقه هاء التأنيث. وإذا انتقى كونه منقولا من فعل أمر، ولم يثبت له استعمال في غير العلمية، تعين كونه مرتجلا. وزاد بعضهم في المنقول منقولا من صوت، وعَنى بذلك: بَبَّة، والصحيح أن بَبَّة منقول من قولهم للصبي السمين ببَّةٌ، وقد تَبَب، فهو: بَبٌّ وبَبة إذا سمن. وما سوى المنقول مرتجل، فإن سُلِك به سبيل نظيره من النكرات فهو مقيس، وإن عدِل به عن سبيل نظيره فهو شاذ بأحد الأوجه التي ذكرت. والشذوذ بفك كمَحْبب، فإنه من مفعل من الحب، فالقياس يقتضي أن يكون مَحَبّا بالإدغام، لأن ذلك حكم كل مفعل مما عينه ولامه صحيحان من مخرج واحد. والشذوذ بفتح ما يكسر كموهَب فإنه مفعل من وهب، فالقياس يقتضي أن يكون موهِبا بالكسر، لأن ذلك حكم كل مفعل مما فاؤه واو ولامه صحيحة. والشذوذ بكسر ما يفتح كمَعْدِي كرب، فإن القياس يقتضي أن يكون مَعْدَى، لأن نظيره من النكرات المعتلة اللام يلزمه الفتح كمَرمَى ومَسْعَى ومَوْلى ومأوى ومثْوَى. ومن الشذوذ بكسر ما حقه الفتح ما حكاه قطرب أن صَيْقِل بكسر القاف اسم امرأة من نساء العرب، فالقياس يقتضي أن يكون بفتح القاف، لأن نظيره من النكرات الصحيحة العين يلزمه الفتح كهَيْثَم وضَيْغَم وصَيْرَف. والشذوذ بتصحيح ما يعل كمَدْين ومَكْوَزَة، فإن القياس يقتضي إعلالهما بقلب الياء والواو ألفا كما فُعِل بنظائرهما، كمَنال ومَهابة ومفازة. والشذوذ بإعلال ما حقه التصحيح كداران وماهان، فإن القياس يقتضي تصحيحهما وأن يقال فيهما: دَوران ومَوَهان، كما يقال في نظائرهما من النكرات

كالجَوَلان والطوَفان والدَّوَران. وإذا لم يكن في العلم إضافة ولا إسناد ولا مزج فهو مفرد. والمراد بالمزج التركيب بتنزيل عجز المركب منزلة تاء التأنيث، فإن لم يكن عجزه ويه فهو معرب غير منصرف كحضرموت. وقد يضاف صدره إلى عجزه فيقال: هذا حَضْرُمَوْتٍ. وإن كان عجزه ويه بني على الكسر فقيل: هذا سيبويهِ، ورأيت سيبويهِ، ومررت بسيبويهِ. وبعض العرب يعربه ويمنعه من الصرف. وإذا كان المركب جملة وثاني جزأيها ظاهر فمن العرب من يضيف أول الجزأين إلى الثاني فيقول: جاء برقُ نحرِه. ص: ومن العَلم اللّقَبُ، ويتلو غالبا اسمَ ما لقب به بإتباع، أو قطعٍ مطلقا، وبإضافة أيضًا إن كانا مفردَيْن. ش: إذا كان للشخص اسم ولقب وجمع بينهما دون إسناد أحدهما إلى الآخر قدم الاسم، وجعل اللقب عطف بيان أو بدلا، أو قطع بنصب على إضمار أعني، أو برفع على إضمار مبتدأ. فهذه الأوجه الثلاثة جائزة فيهما على كل حال، مُركبين كانا كعبد الله أنف الناقة، أو مركبا ومفردا كعبد الله قفة، وزيد عائذ الكلب، أو مفردين كسعيد كرز. وهذا معنى قولي "بإتباع أو قطع مطلقا، وبإضافة أيضا إن كانا مفردين" فالمفردان يشاركان في الإتباع والقطع، وينفردان بالإضافة كسعيد كرز، ولم يذكر سيبويه فيهما إلا الإضافة، لأنها على خلاف الأصل، فبين استعمال العرب لها، إذ لا مستند لها إلا السماع، بخلاف الإتباع والقطع فإنهما على الأصل. وإنما كانت الإضافة على خلاف الأصل، لأن الاسم واللقب مدلولهما واحد، فيلزم من إضافة أحدهما إلى الآخر إضافة الشيء إلى نفسه، فيحتاج إلى تأويل الأول بالمسمى والثاني بالاسم، ليكون تقدير قول القائل: جاء سعيد كرزٍ، جاء مسمى هذا اللقب، فيخلص من إضافة الشيء إلى نفسه، والإتباع والقطع لا يحوجان

إلى تأول، ولا يوقعان في مخالفة الأصل، فاستغنى سيبويه عن التنبيه عليهما. وإنما يؤول الأول بالمسمى لأنه المعرض للإسناد إليه، والمسند إليه في الحقيقة إنما هو المسمى. وهذا أيضا موجب لتقديم الاسم على اللقب، لأن اللقب في الغالب منقول من اسم غير إنسان كبطة وقفة وكرز، فلو قدم لتوهم السامع أن المراد مسماه الأصلي، وذلك مأمون بتأخيره، فلم يعدل عنه إلا فيما ندر من الكلام، كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب: أبْلِغْ هُذَيْلا وأبْلِغْ من يُبْلِّغُها ... عني حديثا وبعضُ القول تكذيب بأنَّ ذا الكلب عمرًا خيرَهم حَسَبا ... ببطن شِرْيان يعوي حولَه الذِّيبُ قدمت اللقب على الاسم. ص: ويلزم ذا الغَلَبة، باقيا على حاله، ما عُرِف به قَبْلُ دائما إن كان مضافا، وغالبًا إن كان ذا أداة. ومثله ما قارنت الأداةُ نقله أو ارتجاله. وفي المنقول من مُجَرَّدٍ صالح لها مَلْمُوحٍ به الأصل وجهان. ش: ذو الغلبة من الأعلام هو كل اسم اشتهر به بعض ماله معناه اشتهارا تاما، وهو على ضربين: مضاف كابن عمر وابن رألان، وذو أداة كالأعشى والنابغة. فحق ابن عمر وابن رَألان أن يكون كل واحد منهما عند إطلاقه صالحا لكل أحد من أبناء أبيه، إلا أن الاستعمال جعل عبد الله مختصا بابن عمر. وجابرا مختصا بابن رألان، حتى إذا قصد غيرُهما لم يفهم إلا بقرينة. وكذلك الأعشى والنابغة حقهما إذا أطلقا أن يصلحا لكل ذي عشى ونبوغ، إلا أن الاستعمال صرفهما عن الشياع وجعلهما مختصين. وإن عرض لشيء من هذا القبيل اشتراك اغتفر كما يغتفر في الأعلام المُعَلَّقةِ، إما ردًّا للتنكير لحاجة تعرض، كقول الشاعر:

لا هَيْثَمَ الليلة للمطي وكقول الآخر: إن لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم ومثله قول الشاعر: إذا دَبَرانا منك يوما لقِيتُه ... أُؤمِّل أن ألقاك غَدْوًا بأسْعُد وإما اتكالا على تكميل الوضوح بنعت أو ما يقوم مقامه، كزيد القرشي، والأعشى الهمداني. وقد يقدر زوال اختصاصه فيجرد ويضاف ليصير مختصا، كقولهم: أعشى تغلب، وأعشى قيس، ونابغة بني ذبيان، ونابغة بني جعدة، ومثله قول الشاعر: الا أبْلِغْ بني خَلَفٍ رسولا ... أحقًا أنَّ أخطلكم هجاني وكقول الآخر: فلو بلغت عَوَّا السِّماكِ قبيلةٌ ... لزادت عليها نهشل وتَعَلَّت

ولذلك يقدر زوال اختصاص المضاف إليه ابن فيتغير حال المضاف كقولك: مَنْ ابن عمر كابن الفاروق، أو ابن خليفة الصديق. وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي "باقيا على حاله" فإن هذه العوارض وما أشبهها غيرت العلم ذا الغلبة عن حاله في المعنى، فجاز أن يتغير حاله لفظا. وأشرت أيضا إلى تغيير الحال بقصد النداء فيعرى عن الأداة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم "إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان" وكقول الشاعر: يا أقْرَعُ بنَ حابِسٍ يا أقْرَعُ ... إنّك إنْ يُصْرَع أخوك تُصْرَعُ والمراد بقولي "دائما" أن إضافة المضاف من هذا القبيل دائمة غير زائلة ما لم تتغير حاله. وأما المعرف بالأداة فقد يجرد منها وإن لم تتغير حاله، وذلك قليل، ومنه ما حكى سيبويه من قول بعض العرب: هذا يوم اثنين مباركا فيه. وحكى ابن الأعرابي أن من العرب من يقول: هذا عيوقٌ طالعا، والعيوق من الأعلام التي علميتها بالغلبة. وزعم ابن الأعرابي أن ذلك جائز في سائر النجوم، ومنه قول الشاعر: تَنَظّرتُ نَصْرا والسِّماكين أيْهما ... عليّ من الغيث استهلت مواطره ويشارك ذا الغلبة المصاحبُ للأداة فيما نسب إليه ما قارنت الأداة نقله كالنضر والنعمان، أو ارتجاله كالسموأل واليسع. فلا يجرد هذان النوعان إلا لنداء أو غيره من العوارض التي يجرد لها "الأعشى" ونحوه من الأعلام الغالبة، بل هذان النوعان أحق بعدم التجرد، لأن الأداة فيهما مقصودة في التسمية قصد همزة أحمد وياء يشكر وتاء تغلب، بخلاف الأداة في الأعشى فإنها مزيدة للتعريف، ثم عرض بعد زيادتها شهرة وغلبة أغنتا عنها، إلا أن الغلبة مسبوقة بوجودها وحاصلة بمصاحبتها، فلم

تنتزع ما دام التعريف مقصودًا، كما لا تنتزع المقارنة للنقل والارتجال. ومن الأعلام التي قارن وضعَها وجودُ الألف واللام الله تعالى المنفرد به، وليس أصله الإله كما زعم الأكثرون، بل هو علم دال على الإله الحق دلالة جامعة لمعنى الأسماء الحسنى كلها ما علم منها وما لم يعلم، ولذلك يقال: كل اسم سوى الله من الأسماء الكريمة هو من أسماء الله، ولا ينعكس، ولو لم يُرَدّ على من زعم أن أصل الله الإله إلا بكونه مدعيًا ما لا دليل عليه لكان ذلك كافيًا، لأن الله والإله مختلفان في اللفظ والمعنى: أما في اللفظ فلأن أحدهما في الظاهر الذي لا عدول عنه دون دليل مُعْتَلُّ العين، والثاني مهموز الفاء صحيح العين واللام، فهما من مادتين، ورَدُّهما إلى أصل واحد تحكم وزيغ عن سبيل التصريف. وأما اختلافهما في المعنى فلأن الله خاص بربنا تبارك وتعالى في الجاهلية والإسلام، والإله ليس كذلك، ولهذا يستحضر بذكر الله مدلولات جميع الأسماء، ولا يستحضر بالإله إلا ما يستحضر بالمعبود، وهذا بيّن من قول بعض الأنصار رضي الله عنهم: باسم الإله وبه بَدينا ... ولو عبدنا غيرَه شَقِينا ثم مراد من زعم أن أصل الله الإله لا يخلو من أحد أمرين: أحدهما أن تكون الهمزة حذفت ابتداء ثم أدغمت اللام في اللام. والثاني: أن تكون الهمزة نقلت حركتها إلى اللام الأولى، وحذفت هي على مقتضى النقل القياسي. فالأول باطل لأن حاصله ادّعاء حذف فاء بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من كلمة ثلاثية اللفظ، فذكر الفاء تنبيه على أن حذفها أشد استبعادا من حذف العين واللام، لأن الأواخر وما اتصل بها أحق بالتغيير من الأوائل. وقولي "بلا سبب" تنبيه على أن الفاء قد تحذف بسبب، كحذف واو عدة، فإنه مصدر يعد، فحمل المصدر على الفعل في الحذف طلبا للتشاكل. وقولي "ولا مشابهة ذي سبب" تنبيه على رِقَة بمعنى وَرِق، فحذفت فاؤه لا لسبب كما في عدة، بل لشبهه بعدة وزنا واعتلالا، ولولا أن رِقَة بمعنى وَرِق لتعين إلحاقه بالثنائي المحذوف اللام كشفة ولثة،

وهذا مع تحقق محذوف ككون الاسم ثنائيا لفظا كحرٍ، أو ثلاثيا مقطوعا بزيادة بعضه كلثة، وما نحن بسبيله ليس ثنائيا لفظا، ولا ثلاثيا مقطوعا بزيادة بعضه ولا مظنونا، فكان حذف فائه أشد استبعادا. فإن قيل: قد حذفت الفاء بلا سبب في الناس، فإن أصله أناس، فلنحكم بذلك فيما نحن بسبيله. قلنا: لو صحَّ كون الناس مُفَرَّعا على أناس لم يجز أن يحمل عليه غيره، لأن الحمل عليه زيادة في الشذوذ، وتكثُّرٌ من مخالفة الأصل دون سبب يلجئ إلى ذلك، فكيف والصحيح أنّ ناسا وأناسا لفظان بمعنى واحد من مادتين مختلفتين، إحداهما أنس، والأخرى نوس. كما أن ألوقة ولُوقة من مادتين مختلفتين، وهما اسمان لتمر معجون بزبد أو سمن. وكما أن أوقية ووقية بمعنى واحد وأحدهما من أوق، والآخر من وقى، وأمثال ذلك كثيرة. وأما ادّعاء نقل حركة همزة الإله إلى اللام فأحق بالبطلان لأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجوه: أحدها: نقل حركة همزة في كلمتين على سبيل اللزوم، ولا نظير لذلك. الثاني: نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها، وذلك يوجب اجتماع مثلين متحركين، وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن، لأن اجتنابه في اللام آكد، إذ هو ملتزم في: أوعَدَ وبابه، بخلاف النقل فإنه لم يلتزم إلا في أفعال الرؤية، مع أن من العرب من لا يلتزمه وهم تيم اللات، قال: أُرِي عَيْنَيَّ ما لم تَرْأياه ... كلانا عَالمٌ بالتُّرَّهات الثالث من وجوه: مخالفة الأصل من تسكين المنقول إليه الحركة، وذلك يوجب كون النقل عملا كلا عمل، لأن المنقول إليه كان ساكنا ثم حرك بحركة

الهمزة إبقاء عليها وصونا لها من محض الحذف، وإذا سكن فات ذكل، وعاد الحرف إلى ما كان عليه قبل النقل، فكأن النقل لم يكن، ومع هذا ففاعل هذا التسكين بعد النقل بمنزلة من نقل في يَئس فقال ييس، ثم سكن فقال: يَيْس، فلا يخفى ما في هذا من القبح مع كونه في كلمة واحدة، والمدعى في الله من كلمتين، فهو أمكن في الاستقباح، وأحق بالإصلاح. الرابع: إدغام المنقول إليه فيما بعد الهمزة، وذلك بمعزل عن القياس، لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت فإدغام ما قبلها فيما بعدها كإدغام أحد المنفصلين في الآخر، وقد اعتبر أبو عمرو بن العلاء في الإدغام الكبير الفصل بمحذوف واجب الحذف نحو (ومن يبتغ غير الإسلام) فلم يدغم الغين في الغين فلأن يعتبر الفصل بمحذوف غير واجب الحذف أحق وأولى. ولأجل الاعتداد بالمحذوف تحقيقًا جاز أن يقال في مثل: اغْدَودَن من وأل ووَل، بتصدير واوين، وأصله: أو أوأل، ثم نقلت حركتا الهمزتين إلى الواوين واعتبر بتصديرهما دون قلب أولاهما همزة لانفصالهما بالهمزة تقديرا. ومثل هذا المدعى في الله قد ندر في لكن أنا إذا قيل فيه: لكنا، إلا أن هذا ليس ملتزمًا. ثم إن الذي زعم أن أصل الله الإله يقول: إن الألف واللام عوض من الهمزة، ولو كان كذلك لم يجمع بينهما في الحذف في قولهم: لاهِ أبوك، يريدون لله أبوك، إذ لا يحذف عوض ومعوض منه في حال واحدة. وقالوا أيضًا: لَهْي أبوك، يريدون: لله أبوك، فحذفوا لام الجر والألف واللام، وقدموا الهاء وسكنوها، فصارت الألف ياء، وعلم بذلك أن الألف كانت منقلبة عنها لتحركها وانفتاح ما قبلها، فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها، وفتحتها فتحة بناء، وسبب البناء تضمن معنى حرف التعريف، هذا قول أبي علي، وهو عندي قول ضعيف، لأن الألف واللام في الله زائدة مع التسمية، مستغنى عن معناها بالعلميّة، فإذا حذفت لم يبق لها معنى يتضمن. والذي أراه أن لَهْي مبني لتضمن معنى حرف التعجب، وإن لم يكن للتعجب

حرف موضوع، كما قال الجمهور في اسم الإشارة إنه مبني لتضمن معنى حرف الإشارة، ومرادهم بذلك أن الإشارة معنى من المعاني النسبية الحقيقة بأن يوضع لها حروف، فاستغنى باسم الإشارة عن وضع حرف الإشارة، فلذلك قيل في حد اسم الإشارة: إنه الاسم الموضوع لمسمى وإشارة إليه. فكما بني اسم الإشارة لتضمن معنى الإشارة بنى لَهْي لتضمن معنى التعجب، إذ لا يقع لهَى في غير تعجب، كما لا يقع اسم الإشارة في غير إشارة. وهذا مع بنائه في موضع جر باللام المحذوفة، واللام والمجرور بها في موضع رفع بمقتضى الخبرية، وأبوك مرفوع بالابتداء. وإذا كان العلم منقولا من صفة أو مصدر أو اسم عين، وكان عند التسمية به مجردا من أداة التعريف جاز استعماله علمًا أن يلمح به الأصل فتدخل عليه الأداة، ولا يلمح فيستدام تجريده. وأكثر دخولها على المنقول من صفة كحسن وعباس وحارث، ويلي ذلك دخولها على منقول من مصدر كفضل وقيس، ويليه دخولها على منقول من اسم عين كليث وخِرْنق. وإلى هذا التفصيل أشرت بقولي: "وفي المنقول من مجرد صالح لها ملموح به الأصل وجهان" واحترزت بصالح لها من المنقول من فعل نحو: يزيد ويشكر فإنه لا تدخل عليه الأداة إلا لضرورة أو عروض تنكير. ص: وقد يُنَكَّر العلم تحقيقا أو تقديرًا فَيُجْرى مُجْرَى نكرة، ويُسْلَب التعيين بالتثنية والجمع، فَيْجْبَر بحرف التعريف إلا في نحو: جُمادَيَيْنِ، وعَمايتين، وعَرَفات. ش: كقولك: رأيت زيدًا من الزيدين، وما مِنْ زيد كزيد بن ثابت، وقضيةٌ ولا أبا حسن لها، وكقول نَوْف البِكالِيّ: ليس موسى بني إسرائيل، وإنما موسى آخر. وتنكيره تقديرا مثل قول أبي سفيان: لا قريش بعد اليوم، وكقول بعض العرب: لا بصرة لكم، وكقول الشاعر:

أزْمان سَلْمَى لا يرى مثلها الرّاءُون ... في شام ولا في عِراقْ وكقول الآخر: إذا دَبَرانًا منك يوما لَقِيته ... أُؤمل أن ألقاك غَدْوا بأسْعُد وإذا ثنى العلم أو جمع تنكر كقول الشاعر: رأيت سُعُودا من شعوبٍ كثيرة ... فلم أرَ سعدًا مثل سعدِ بن مالك فإن قصد تعريفه بعد تثنيته أو جمعه عرف بالأداة كقول الشاعر: وقَبلي مات الخالدان كلاهما ... عميدُ بني حَجْوان وابن المُضَلَّل وكقول الآخر: أخالِدَ قد عَلِقْتُكِ بعد هندٍ ... فشيّبني الخوالدُ والهنود فإن اشترك في العلم ما لا يفترق لم يحتج إلى الأداة في تثنية ولا جمع كجُمادَيين في الشهرين المعروفين، وعَمايتين في جبلين، وعرفات لمواقف الحج، واحدها عرفة، كقول الشاعر في جماديين: حتى إذا رجبٌ تَولّى وانقضى ... وجُمادَيان وجاء شهرٌ مقبل وقل آخر في عمايتين:

لو أنّ عُصْمَ عمايتين ويَذْيلٍ ... سَمِعا حديثك أنزلا الأوعالا ثم إن العلم المسمى به ما لا يفترق إن لازم لفظه التثنية كالفرقدين، أو الجمع كعرفات وأذرعات، فله من مصاحبة الألف واللام وعدمها ما لعلم مسمى به مفرد على حسب ما سبق، فللفرقدين ما للدبران، وكذا السّرطان غالبًا، وقُريْشيات وأذرعات بمنزلة المسمى به مجردا مع الإفراد لفظًا ومعنى. ص: ومُسمياتُ الأعلام أولو العلم، وما يحتاج إلى تعيينه من المألوفات، وأنواعُ معانٍ، وأعيانٌ لا تؤلف غالبًا. ومن النَّوْعِيِّ ما لا يلزم التَّعريف. ش: أولو العلم يعم الملائكة عليهم السلام، وأشخاص الإنس والجن، والقبائل، ويعمُّ ما يحتاج إلى تعيينه من المألوفات: السُّور، والكتب، والكواكب، والأمكنة، والخيلَ والبغالَ والحميرَ، والإبلَ، والبقرَ والغنمَ، والكلابَ، والسلاحَ، والملابسَ، فهذه وما أشبهها تدعو الحاجة إلى تعيين مسمياتها، فاستحقت أن توضع لأفرادها أسماءٌ تتميز بها. وأما ما لا يحتاج إلى تعيين فرد من أفراده كالمعاني والوحوش فلا يصلح أن يوضع له علم خاص، بل إن وضع لشيء منه علم فللنوع بأسرهن وليس بعض أشخاصه أولى به من بعض، فمثال ما وضع منه للنوع المعنوي: برَّةُ للمبرة، وفجارِ للفجْرة، وخيّاب بن هَيّاب للخسران، ووادي تخيّبَ للباطل. ومثال ما وضع للنوع العَيْني: أبو الحارث وأسامة للأسد، وأبو جَعْدة وذؤالة للذئب، قال سيبويه: إذا قلت: هذا أبو الحارث، فإنما تريد هذا الأسد، أي هذا الذي سمعت باسمه أو عرفت أشباهه، ولا تريد أن تشير إلى شيء قد عرفته بعينه كمعرفة زيد، ولكنه أراد هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم. هذا نصه

في باب ترجمته: هذا بابٌ من المعرفة يكون الاسم الخاص فيه شائعًا في أمته ليس واحد منها بأولى من الآخر. فجعله خاصا شائعا في حال واحدة، فخصوصه باعتبار تعيينه الحقيقة في الذهن، وشياعه باعتبار أن لكل شخص من أشخاص نوعه قسطا من تلك الحقيقة في الخارج. ولما كان لهذا الصنف من الأعلام خصوص من وجه، وشياع من وجه جاز في بعضها أن يستعمل تارة معرفة فيعطى لفظه ما تعطاه المعارف الشخصية، وأن يستعمل تارة نكرة فيعطى لفظه ما تعطى النكرات، والطريق في ذلك كله السماع. فمما جاء بالوجهين: فَيْنَة وغَدوَة وبُكرة وعَشِيّة، فلك أن تقول: يأتينا فينةً بتنوين، أي حينا دون حين. فتختلف التقديرات والمراد واحد. وكذلك فلان يتعهدنا غدوة وبكرة وعشية، أي الأوقات المعبر عنها بهذه الأسماء، فلا تنون إذا قصدت بها ما يقصد بالمقرون بالألف واللام عهديتين أو جنسيتين كما تفعل بأسامة وذؤالة، إلا أن لك في غدوة وبكرة وعشية أن تنونها مؤولا لها بمجرد من الألف واللام، وليس لك ذلك في أسامة وذؤالة. ولا علة لذلك إلا مجرد الاتّباع لما صحّ من السماع. وقد وضعوا لبعض المألوفات أعلاما نوعية، كقولهم للأحمق أبو الدَّغْفاء، وللمجهول شخصه ونسبه هَيّان بن بَيّان، والضَّلالُ بنُ بُهْلُل، وثهْلَل وفَهْلَل. ومن ذلك قولهم لنوع الأمَة: اقعُدي وقومِي. ولنوع العبد: قنَّور بن قنور. ولنوع الفرس أبو المضاء. ومن أبي الدغفاء وما بعده احترزت بقولي "لا تؤلف غالبًا" وإلى نحو فَيْنَة أشرت بقولي "ومن النوعي ما لا يلزم التعريف". ص: ومن الأعلام الأمثلةُ الموزونُ بها. فما كان منها بتاء تأنيثٍ أو على وزنٍ الفعلُ به أولى، أو مزيدًا آخره ألفٌ ونون، أو ألف إلحاقٍ مقصورة لم ينصرف إلا مُنَكّرا. وإن كان على زنة منتهى التكسير، أو ذا ألف تأنيثٍ لم ينصرف مطلقا، فإن صلحت الألف لتأنيثٍ وإلحاقٍ جاء في المثال اعتباران، وإن

قرن بما ينزله منزلة الموزون فحكمه حكمه. ش: الأمثلة الموزون بها كقولك: وزن عامِر وطلحة وأرْنب وعُمَر: فاعِل وفَعْلَة وأفعل وفُعَل، فهذه وأشباهها معارف لأن كل واحد منها يدل على المراد دلالة تتضمن الإشارة إلى حروفه وهَيْأته، ولذلك تقع المعرفة بعده صفة والنكرة حالا، كقولك: لا ينصرف فُعَلُ المعدول، بل ينصرف فُعَلٌ غير معدول. والأمثلة المشار إليها بالنسبة إلى الصرف ومنعه على أربعة أقسام: قسم ينصرف مطلقا، وقسم لا ينصرف مطلقا، وقسم لا ينصرف في التعريف دون التنكير، وقسم له اعتباران هو في أحدهما كالثاني، وفي الآخر كالثالث. فالأول كفُعَل، لأنه ليس فيه مع العلمية سبب ثان. والثاني كفعلاء وفعلى مما فيه ألف التأنيث ممدودة أو مقصورة، وكمفَاعِل ومفاعيل مما فيه زنة منتهى التكسير. والثالث كفَعْلة وأفعل وفعلان وفعلى، مما فيه التأنيث أو وزن الفعل أو الألف والنون المزيدتان أو ألف الإلحاق المقصورة، فهذه لا تنصرف ما دامت معارف، وتنصرف إذا وقعت موقعا يوجب تنكيرها، كقولك: كل فَعْلة صحيح العين فجمعه فَعَلات إن كان اسما، وفَعْلات إن كان صفة. وكل فعلان ذي مؤنث على فَعْلى لا ينصرف، وكل أفعل غير علم ولا صفة ينصرف. والرابع الذي له اعتباران فعلى بفتح الفاء وكسرها، فإن ألفه صالحة للتأنيث وصالحة للإلحاق، فإن حكم بتأنيثها كان ما هي فيه غير منصرف في تعريف ولا تنكير، وإن حكم بكونها للإلحاق كان ما هي فيه غير منصرف في التعريف منصرفا في التنكير. وإن قُرِن بالمثال ما ينزله منزلة الموزون، فحكمه حكم ما نزل منزلته، كقولك: هذا رجلٌ أفعل، فحكم أفعل هنا حكم أسود ونحوه من الصفات، لأن اقترانه برجل نزله منزلة الموزون، فتساويا في الحكم وامتناع الصرف. وخالف سيبويه المازنيُّ في هذا الأخير فقال: ينبغي أن يصرف. ورد المبرد عليه وصوب قول سيبويه.

ص: وكذا بعض الأعداد المطلقة. ش: المراد بالأعداد المطلقة المدلول بها على مجرد العدد دون تقييد بمعدود، كقولهم: ثلاثة نصف ستة، وأربعة نصف ثمانية. فهذه الأسماء قد حكم بعلميتها ومَنْع صرفها للتعريف والتأنيث، وهي جديرة بذلك، لأن كلّا منها يدل على حقيقة معَينة دلالة مانعة من الشركة، متضمنة الإشارة إلى ما ارتسم منها، ولو عومل هذه المعاملة كلُّ عدد مطلق لصح، ولو عومل بذلك غير المعدود من أسماء المقادير لم يجز، لأن الاختلاف في حقائقها واقع، بخلاف العدد فإن حقائقة لا تختلف بوجه. ص: وكَنَوْا بفلانٍ وفلانة عن نحو: زيد وهند، وبأبي فلانٍ وأمِّ فلانةَ عن أبي بكر وأم سَلَمَة، وبالفلانِ والفلانةِ عن نحو: لاحقٍ وسكاب وبهَنٍ وهَنَةٍ أو هَنْت عن اسم جنس غير علم، وبهَنيْتُ عن جامَعْت، وبكيْتَ أو كيَّة وبذَيْتَ أو ذَيَّة أو كذا عن الحديث، وقد تُكْسَرُ أو تضم تاء كيتَ وذيتَ. ش: فلانٌ وفلانة وأبو فلان وأم فلانة أسماءٌ يكْنى بها عن أعلام أولى العلم، إلا أن فلانا كناية عن اسم مذكر علم كزيد وعبد الله، وأبو فلان كناية عن كنية مذكر علم كأبي زيد وأبي عبد الله، وفلانة كناية عن اسم امرأة كهند وأمة الله، وأم فلان كناية عن كنية امرأة كأم خالد وأم سليم. ودعتهم الحاجة إلى الكناية عن أعلام البهائم المألوفة، فكنوا عن مذكرها كلاحق بالفلان، وعن مؤنثها كسكابِ بالفلانة، فزادوا الألف واللام فرقا بين الكنايتين. وكما كُنِي عن علم المذكر بفلان، وعن المؤنث بفلانة، كنى عن مذكر اسم الجنس بهَنٍ، وعن مؤنثة بهَنة أو هنت إذا كان للمتكلم غرض في السر. ولذاك كثرت الكناية به عن الفرج، وعن فعل الجماع بهَنيتُ. ويقال للمرسل بحديث قل: ذيْتَ وكيْتَ. أو قل: كيْتَ وذيت، بفتح التاء وكسرها وضمها، وليس مع التشديد إلا الفتح، وقد يقع مكانها كذا وكذا.

باب الموصول

باب الموصول ص: وهو من الأسماء ما افتقر أبدا إلى عائدٍ أو خَلَفه، وجملةٍ صريحة أو مؤولة غير طلبية ولا إنشائية. ش: نبهت بقولي "وهو من الأسماء" على أن الحرف الموصول لم يقْصد دخوله في الحد، بل قُصِد الاقتصارُ على حد الموصولات الاسمية. واحترزت "بالعائد" من: حيث وإذ وإذا، فإنها أسماء تفتقر إلى جملة لكنها مستغنية عن عائد. واحترزت "بأبدا" من النكرة الموصوفة بجملة فإنها على حال وصفها بها تفتقر إليها وإلى عائد، لكن الموضع بالأصالة لمفرد، وتؤول الجملة به، ويغني ذكره عنها، فالافتقار إلى ما تؤول به لا إليها، وإن صدق في الظاهر أنها مُفْتقرٌ إليها، فلا يصدق على الافتقار إليها أنه كائن أبدا. بخلاف الجملة الموصول بها فإن الافتقار إليها كائن أبدا عند ذكر الموصول، وإذا وقع موقعها ظرف أو حرف جر وجب تعليقه بفعل مسند إلى ضمير الموصول وإذا وقعت الصلة صفة موصولا بها الألف واللام يجب تأولها بفعل، ولذلك تعمل حينئذ ماضية المعنى وحاضرته ومستقبلته. وإذا لم تقع صلة فلا تعمل إلا في حضور أو استقبال. وإلى الصفة المشار إليها والظرف وحرف الجر أشرت بقولي "أو مؤولة". وأشرت بقولي "أو خَلَفه" إلى أن العائد قد يغني عنه قرينة تدل عليه، أو ظاهر يقوم مقامه كقوله: وأنت الذي في رحمة الله أطمع

أراد: وأنت الذي في رحمته أطمعُ وقيد الجملة الموصول بها بكونها غير طلبية ولا إنشائية لأن الغرض بالصلة تحصيل الوضوح للمحصول، والجملة الطلبية لم يتحصل معناها بعد، فهي أحرى بألا يتحصل بها وضوح غيرها، وأما الإنشائية فإن حصول معناها مقارن لحصول لفظها، فلا يصلح وقوعها صلة، لأن الصلة مُعَرِّفة، والموصولُ مُعَرَّف، فلا بد من تقدم الشعور بمعناها على الشعور بمعناه. والمشهور عند النحويين تقييد الجملة الموصول بها بكونها معهودة، وذلك غير لازم، لأن الموصول قد يراد به معهود، فتكون صلته معهودة، كقوله تعالى (وإذ تقولُ للذي أنْعَمَ الله عليه وأنعمت عليه) وكقول الشاعر: ألا أيُها القلبُ الذي قادَه الهوى ... أفقْ لا أقَرَّ اللهُ عينَك من قلب وقد يراد به الجنس فتوافقه صلته، كقوله تعالى (كمثل الذي ينعق بمالا يسمعُ إلا دعاءً ونداء) وكقول الشاعر: فيَسْعَى إذا أبْنِي ليهدمَ صالحي ... وليس الذي بيني كمَنْ شأنُه الهدْم وقد يُقْصدُ تعظيمُ الموصول فتبْهم صلته كقول الشاعر: فإنْ أستطعْ أغلبْ وإنْ يَغْلب الهوى ... فمثلُ الذي لا قيْتُ يُغْلَبُ صاحبُه

ومثله قوله عز وجل (فغشيهم من اليَمِّ ما غشيهم) وقال الشاعر: وكنتَ إذا أرْسَلْتَ رائدا ... لقلبك يوما أتْعَبَتْكَ المناظرُ رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر ص: ومن الحروف ما أُوِّل مع ما يليه بمصدر، ولم يَحْتَج إلى عائد. ش: لما كان الموصول على ضربين: أحدهما من الأسماء، والآخر من الحروف، وفرغت من حد الأول، شرعت في حد الثاني. فقولي "ما أوِّل بمصدر" يتناول: صه، أي سكوتا ونحوه، فإنه يؤول بمصدر معرفة إن لم ينون، وبمصدر نكرة إن نون. ويتناول أيضا الفعل المضاف إليه نحو: حين قمت، فإن معناه: حين قيامك. ويتناول أيضا نحو: هو، من قوله تعالى (هو أقرب للتقوى) فإنه بمعنى العدل. فاحترزت من هذه الأشياء ونحوها بقولي "مع ما يليه" فإن هذه الأشياء مؤولة بمصادر لا مع شيء يليها، بخلاف الحروف الموصولة فإنها تؤول بمصادر مع ما يليها من صلاتها. ولما كان "الذي" قد يوصف به مصدر ثم يحذف المصدر ويقام هو مقامه، فيصدق عليه حينئذ أنه مؤول مع ما يليه بمصدر، مع أنه ليس من الحروف الموصولة، احترزت منه بعدم الاحتياج إلى عائد، فإن "الذي" الموصوف به مصدر على ما قدر لا يستغني عن عائد، ومثال ذلك قوله تعالى (وخُضْتم كالذي خاضوا) أي كالخوض الذي خاضوه، فحذف الخوض وأقيم الذي مقامه، وحذف العائد إلى الذي لأنه منصوب متصل بفعل، وحذف مثله كثير. ص: فمن الأسماء: الذي والتي للواحد والواحدة، وقد تُشَدُّ ياءاهما

مكسورتين أو مضمومتين، أو تُحْذفان ساكنا ما قبلهما أو مكسورا، ويخلفهما في التثنية علامتُها مُجوَّزا شدُّ نونها وحذفها وإنْ عُنِيَ بالذي من يَعْلَم أو شِبْهُه فجمعه الذين مطلقا. ويُغْني عنه الذي في غير تخصيص كثيرا، وفيه للضرورة قليلا، وربما قيل: اللَّذُون رفعا، وقد يقال: لَذِي ولَذان ولَذين ولَتي ولاتي. ش: لما ثبت أن الموصول ضربان: أحدهما من الأسماء والآخر من الحروف، شرعت في ذكر الأسماء، فبدأت بالذي والتي لأنهما كالأصل لغيرهما، فإن غيرهما إذا أشكل أمره يستدل على موصوليته بصلاحية موضعه للذي إن كان مذكرا والتي إن كان مؤنثا. وفي الذي والتي ست لغات: الأولى: ما بدئ به. والثاني: حذف الياء مع بقاء الذال والتاء مكسورتين كقول الشاعر: لا تعذِل اللَّذِ لا ينفَكُّ محتسبا ... حمدا وإن كان لا يُبقي ولا يذَر والثالثة: حذف الياء وتسكين الذال والتاء كقول الشاعر: فلم أرَ بيْنا كان أحسنَ بهْجَةً ... من اللَّذْ له من آل عزَّةَ عامر وكقول الآخر: ما اللَّذْ يسوءك سوءًا بعد بَسْط يد ... بالبِرّ إلا كمثل البغي عدوانا ومثله: فما نحن إلا من أناس تحرّموا ... بأدنى من اللذ نحن فيه وأبرءوا والرابعة: تشديد الياء مكسورة كقول الشاعر:

وليسَ المال فاعلمهُ بمالٍ ... وإن أرضاك إلا للَّذيِّ ينالُ به العلاءَ ويمتهنْه ... لأقرَبِ أقْرَبيه وللقَصِيِّ والخامسة: تشديد الياء مضمومة كقول الشاعر: أغْضِ ما اسطعتَ فالكريمُ الذيُّ ... يألفُ الحِلمَ إن جفاهُ بذِيُّ السادسة: حذف الألف واللام وتخفيف الياء ساكنة، وبهذه اللغة قرأ بعض الأعراب، قال أبو عمرو بن العلاء: سمعتُ أعرابيا يقرأ بتخفيف اللام (صراط لذين). ومن استعمال اللَّتِ قوله: شُغِفَتْ بكَ اللَّتِ تَيَّمْتك فمثلُ ما ... بك ما بها من لَوْعَةٍ وغرام ومن استعمال اللتْ قوله: أرضنا اللَّتْ أوَتْ ذوي الفقرِ والذُّ ... لِّ فآضُوا ذوي غِنًى واعتزازِ ومثله: فقل لِلَّتْ تلومُك إن نفسي ... أراها لا تُعَوَّذ بالتَّميم

وقد استغنوا في التثنية بقولهم: اللذان واللتان عن اللذيين واللتيين، فاعتبروا أخف اللغات وإن كانت أقل من الذي والتي. وذلك أن المفرد أخف من المثنى، وخفف جوازا بحذف الياء، فلما قصدوا التثنية وهي أثقل من الإفراد وأحوج إلى التخفيف التزم فيها من حذف الياء ما كان في الإفراد جائزا. وجوز تشديد النون عوضا عن المحذوف. ولما كان الحذف مستعملا في الإفراد بوجه ما لم يكن التعويض لازما بل جائزا. ولما كانت التثنية من خصائص الأسماء المتمكنة ولحقت الذي والتي، وكان لحاقها لها معارضا لشبهها بالحروف أعربا في التثنية، كما جُعلت إضافة أي معارضة لشبهها بالحروف فأعربت. ولم يُعربْ أكثر العرب "الذين" وإن كان الجمع من خصائص الأسماء لأن الذين مخصوص بأولي العلم، والذي عام، فلم يجر على سنن الجموع المتمكنة، بخلاف اللَّذَين واللَّتين، فإنهما جرتا على سنن المثنيات المتمكنة لفظا ومعنى. وعلى كل حال ففي الذي والذين شبه بالشجى والشَّجين في اللفظ وبعض المعنى فلذلك لم تجمع العرب على ترك إعراب الذين، بل إعرابه في لغة هذيل مشهور، فيقولون: نصرت الذين آمنوا على الذين كفروا، ومن ذلك قول بعضهم: وبنو نويجية الَّذون كأنهم ... معط مخرمة من الخزان وإذا لم يقصد بالذي مخصص جاز أن يعبر به عن جمع حملا على مَنْ كقوله

تعالى (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) ولو لم يكن المراد به جمعا لم يشَر إليه بجمع ولا عاد عليه ضمير جمع، ومن ذلك أيضا قوله تعالى (كما يقومُ الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المسِّ) فلو لم يرَد به جمعٌ لم يضرب به مثل لجمع. فإن قُصِد بالذي مُخَصَّص فلا محيصَ عن اللَّذَيْن في التثنية، والذِين في الجمع، ما لم يضطر شاعر، كقوله: أبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذا ... قتلا الملوكَ وفَكَّكا الأغلالا وكقول الآخر: وإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دماؤهم ... هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالد ومن قال: الذون رفعًا والذين نصبا وجرا قال في اللاء إذا أريد به ما يراد بالذين: اللاءون رفعا، واللائين جرا ونصبا. ومن قال "الذين" مطلقا قال "اللائين" مطلقا. وقيل: اللاءون في الرفع واللائين في النصب والجر لغة هذيل. ويقال أيضا في اللاء بمعنى اللاتي إذا جمع اللاءات معربا ومبنيا على الكسر، ومنه قول الشاعر: أولئك إخواني الذين عرفتهم ... وأخْواتُكَ اللاءات زُيِّنَ بالكتَم

بضم التاء على الإعراب، وبكسرها على البناء. ص: وبمعنى الذين الألى والأُلاءِ والَّلاءِ والَّلائين مطلقا، أو جَرًّا ونصبا واللاؤون رفعا. وجمع التي اللائي واللاتي واللواتي. وبلا ياءات، واللَّا واللَّوا، واللاءات مكسورًا أو معربا إعراب أولات والألى. وقد ترادف التي واللاتي ذات وذوات مضمومتين مطلقا. ش: المشهور في الألى ورودها بمعنى الذين، وفي اللاء ورودها بمعنى اللاتي، وقد ترد الألى بمعنى اللاتي، واللائي بمعنى الذين، وقد جاءت الألى بالمعنيين في قول الشاعر: وتُفنى الألى يَسْتَلْئِمُون على الألى ... تَراهُنَّ يوم الرَّوْع كالحِدَأ القُبْل وقال آخر في ورود الألى بمعنى اللائي: وأمّا الأُلى يَسْكُنّ غَوْرَ تِهامةٍ ... فكلُّ فتاةٍ تتركُ الحِجْلَ أفصَما

وقال آخر في ورود اللاء بمعنى الذين: فما آباؤنا بأمَنَّ منه ... علينا اللاءِ قد مَهَدوا الحُجورا وقال ابن الزَّبِير: أرِحني من اللائي إذا حلّ بينهم ... يُمَشُّون في الدّارات مشي الأرامل وقال كثير: تَرُوق عيونَ اللاء لا يَطْعمونها ... ويروى بريّاها الضجيع المكافِح وله: من اللائي يعود الحلم فيهم ... ويعطون الجزيل بلا حساب وقال آخر في اللائين: وإنّا من اللائين إن قَدَرُوا عَفَوْا ... وإنْ أتْرَبُوا جادوا وإن تَرِبُوا عَفُّوا فقوله من اللائين يحتمل أن يكون على لغة من يبني، ويحتمل أن يكون على لغة من يعرب، فإن فيه لغتين كما في الذين، واللاءون رفعا لغة هذيل، ومنه قول بعضهم: هم اللاءُون فكُّوا الغُلَّ عني ... بمَرْوِ الشاهِجان وهُمْ جناحي

وقيل الأُلاء بمعنى الألي، قال كثير: أبى الله للشُّمِّ الأُلاء كأنهم ... سُيوفٌ أجادَ القَيْنُ يوما صِقالها والصحيح أن الذين جمع الذي مرادًا به من يعقل، وأن اللائين جمع اللاء مرادف الذين، وأن اللاءات جمع اللاء مرادف اللاتي. وكذلك اللوائي واللواتي هما جمعان للائي واللاتي، على حد قولهم في الهادِي وهو العنق هواد، وفي الهابي وهو الغبار هواب. وأما اللاتي فيحتمل أن يكون اسما للجمع، لأنه ليس على بناء من أبنية الجمع، ويحتمل أن يكون جمعا لأنه متضمن لحروف التي، ويغتفر كونه مخالفا لأبنية الجموع كما اغتفر في اللتيا كونه مخالفا لأبنية التصغير. وأما اللاء والألي وغيرهما من الموصولات الدالة على جمع فأسماء جموع، لأنها لا تتضمن حروف الواحد. وإثبات ياءات اللاتي واللائي واللواتي واللوائي هو الأصل، وحذفها تخفيف واجتناب للاستطالة، وقد بالغوا حتى حذفوا التاء والياء من اللاتي واللوائي فقالوا: اللا واللوا، قال الراجز: جمعتُها من أيْنُق غِزار ... من اللَّوا شُرِّفْن بالصِّرار وقال الكميت: وكانت من الَّلا لا يغيِّرُها ابنُها ... إذا ما الغلامُ الأحمقُ الأمَّ غيَّرا وقال آخر: فدومي على العهد الذي كان بيننا ... أم أنت من الَّلا ما لهُنّ عُهُود والأظهر عندي أن الأصل في: اللّوا، اللواء. وفي: اللا، اللاء، ثم قصرا. وروى الفراء عن بعض فصحاء العرب: بالفضل ذو فضلكم الله به، والكرامة ذاتُ

أكرمكم الله بَهْ، أراد: التي أكرمكم الله بها، فحذف الألف، وحرك الباء بحركة الهاء. وأنْشد في ذوات بمعنى اللاتي: جَمَعْتُها من أيْنَقٍ مَوارِقِ ... ذواتُ يَنْهَضْنَ بغير سائق أراد اللاتي ينهضن. وتاء ذات وذوات مضمومة أبدًا. ص: وبمعنى الذي وفُروعِه "مَنْ" و"ما" و"ذا" غيرَ مُلغى ولا مُشارٍ به بعد استفهام بما أو مَنْ، و"ذو" الطائيةُ مبنيةً غالبا، و"أيّ" مضافًا إلى معرفة لفظا أو نية، ولا يلزم استقبال عامله ولا تقديمُه خلافا للكوفيين، وقد يؤنث بالتاء موافِقا للتي، وبمعنى الذي وفروعه "الألف واللام" خلافا للمازني ومن وافقه في حرفيتها، وتُوصَل بصفةٍ مَحْضة، وقد تُوصَل بمضارع اختيارا، وبمبتدأ وخبر أو ظرف اضطرارا. ش: فروع الذي اللذان والذين والتي واللتان واللاتي، فمن وما صالحان لمواقعها كلها كقولك لمن قال: مررت برجل وبرجال وبامرأة وبنسوةٍ: عرفت مَن مررت به ومَن مررت بهم، ومن مررت بها، ومن مررت بهن. وكقولك لمن قال: اشتريت كتابا وثوبين وعمامة وملاحف، عرفت ما اشتريته، وما اشتريتهما، وما اشتريتها، وما اشتريتهن. وكذلك "ذا" بعد استفهام بما أو من يقع أيضا موقع الذي وموقع كل واحد من فروعه المبنية عليها، نحو: ماذا علمت أخير أم شرٌّ؟ وماذا أنفقت أدرهمان أم ديناران؟ وماذا صليت أركعةٌ أم تسليمةٌ؟ ومن ذا خطبت أهندٌ أم دعدٌ؟ فلو ألغيت (ذا) حقيقة بتقدير سقوطها، أو حكما بجعلها مع (ما) و (من) شيئا واحدا حكم للموضع بما يستحقه لفظ أي الاستفهامية لو وقعت فيه، ويظهر أثر ذلك في الجواب والتفصيل. فالجواب كقولك: خيرا، لمن قال لك: ماذا صنعت؟ والتفصيل كقولك: أخيرا أم شرا؟ وأزيدا أم عمرا؟ فلو جعل (ذا) بمعنى

الذي لكان الرفع أولى من الحالين، كما قال الشاعر: ألا تسألانِ المرءَ ماذا يحاول ... أنَحْبٌ فَيقْضى أم ضلالٌ وباطلُ وعلى هذا تحمل قراءة أبي عمرو (قل العفوُ) بالرفع، وقراءة غيره بالنصب محمولة على الوجه الآخر. ولو قصد "بذا" الإشارة، لكان "ماذا" و"من ذا" مبتدأ وخبرا واستغنى عن جواب وتفصيل. وقد تكون "ماذا" في غير الاستفهام والإشارة اسما واحدا بمعنى الذي، أو بمعنى شيء كقول الشاعر: دَعي ماذا علمتُ سأتَّقيه ... ولكن بالمُغَيَّبِ حَدِّثِيني وأنشد أبو علي قول الشاعر: أنَوْرًا سَرْعَ ماذا يا فَرُوق ... وحَبْلُ الوَصْلِ مُنْبَتٌّ حَذِيق وقال: فاعل سرع "ماذا" وما زائدة، ويجوز أن يكون "ماذا" اسما واحدا كما هما في قوله: دعي ماذا علمت ... أي دعي شيئا علمت، كذا قال أبو علي. وعندي أن جَعْلَ "ماذا" في البيت الذي أوله "دعى" بمعنى الذي أولى من جعلها بمعنى شيء. ومثل "ماذا" في احتمال معنى شيء ومعنى الذي في غير استفهام قول الشاعر: فلله ماذا هَيَّجَتْ من صبابة ... على هالِكٍ يَهْذِي بهند ولا يدري

ويتعين إلغاء "ذا" أو جعلها مركبة مع ما في قول جرير: يا خُزْرَ تَغْلبَ ماذا بالُ نِسْوَتكم ... لا يَسْتَفِقْن إلى الدَّيْرَيْنِ تحنانا ويترجح ذلك إذا كان بعدها الذي كقول ابن الدُميْنة: فماذا الذي يَشْفى من الحب بعدما ... تشربه بطنُ الفؤادِ وظاهره وقد تجعل "ذا" في هذا البيت بمعنى الذي، والذي بعدها توكيدا أو خبر مبتدأ مضمر، كقول معاوية رضي الله عنه: إنَّ الذين الألى أدخلتهم نَفرٌ ... لولا بوادر إرعاد وإبراق ويتعين أيضا التركيب والإلغاء في قول الشاعر: وأبلغ أبا سعد إذا ما لقيته ... نذيرا وماذا ينفعنَّ نذير لأنها لو جعلت (ذا) بمعنى الذي لم يؤكد الفعل بعدها بالنون لأنه موجب، وإذا لم يجعل بمعنى الذي كان الاستفهام مستوليا على الفعل بعدها فيسوغ توكيده بالنون. ومثال "ذا" الموصولة بعد مَن الاستفهامية قول الأعشى ميمون: وغريبة تأتي الملوك كريمة ... قد قُلْتُها لِيُقالَ مَنْ ذا قالها والاحتجاج بهذا البيت أولى من الاحتجاج بقول ابن أبي كاهل: ويحسب أنَّ النائباتِ تركنه ... ومن ذا الذي عَرينه فهو وازرُ لاستصعاب دخول موصول على موصول، إلا أن يجعل الثاني توكيدا لفظيا، أو خبر مبتدأ كما تقدم من قول ابن الدمينة:

فماذا الذي يشفي من الحب ومثل قول الأعشى قول أمية بن أبي عائذ الهذلي: ألا إنّ قلبي لدى الظاعِنين ... حزينٌ فَمَنْ ذا يُعَزِّي الحَزينا وبمعنى الذي وفروعه "ذو" في لغة طيء، قال حاتم: ومن حَسَدٍ يَجُورُ عَلَيّ قوم ... وأيُّ الدهر ذُو لم يحسدوني أراد، أي الدهر الذي لم يحسدوني فيه، ويتميز بعضها من بعض بالعائد أو بما هي له كقول الشاعر: فإن الماءَ ماءُ أبي وجدّي ... وبِئري ذو حفَرتُ وذو طويتُ أي التي حفرت والتي طويت. وبناؤها هو المشهور، وبعضهم يعربها بالحروف كما يعرب "ذو" بمعنى صاحب. ويروى بالوجهين قول الشاعر: وإما كرامٌ موسِرُون أتيتُهم ... فَحَسْبِيَ من ذي عندهم ما كَفانيا ومنهم من يقول: رأيت ذاتُ فعلت، وذواتُ فعلن، بمعنى التي فَعلت واللاتي فعلن. وقد تقدم التنبيه على ذلك. وأطلق ابن عصفور القول بتثنيتها وجمعها. وأظن حامله على ذلك قولهم: ذات وذوات بمعنى: التي واللاتي. فأضربت عنه لذلك. ومن المستعمل بمعنى الذي وفروعه "أيّ" مضافة إلى معرفة لفظا كقولك: أقصد أيَّهم هو أكرم. أو نية كقولك: سل منهم أيا تلقاه. ولا يلتزم استقبال عامله

ولا تقديمه كما لا يلزم مع غيره. وقال الكوفيون بلزوم ذلك، ولا حجة لهم إلا كون ما ورد على وفق ما قالوه. كقوله تعالى (ثم لننزِعَنّ من كلِّ شيعةٍ أيُّهم أشدُّ) وكقول الشاعر: فادْنُوا إلى حقكم يأخذْه أيكمُ ... شئتم وإلا فإياكم وإيانا وتقول في "أي" قاصدا بها معنى التي: عليك من النساء بأيِّهن تُرْضيك، وبأيتهن ترضيك، قال الشاعر: أمّا النّساء فأهوى أيْهن أرى ... للحب أهلا فلا أنْفَك مَشْغُوفا وقال آخر: إذا اشتبه الرُّشدُ في الحادثا ... ت فارْضَ بأيَّتها قد قُدِرْ ومن المستعمل بمعنى الذي وفروعه "الألف واللام" في نحو: رأيت الحسن وجهُه، والحسن وجهُها، والكريمَ أبوهما، والكريم أبوهم، والكريم أبوهن. وزعم المازني أن الألف واللام للتعريف، وأن الضمائر عائدة على موصوفات محذوفة. وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما أن ذلك لو جاء مع الألف واللام المعرفة لجاز مع التنكير، إذ لا فرق بين تقدير الموصوف منكرا وتقديره معرفا، بل كان ذلك مع التنكير أولى، لأن حذف المنكر أكثر من حذف المعرف. الثاني: أن الألف واللام لو كانت المعرفة لكان لحاقها اسم الفاعل قادحا في صحة عمله مع كونه بمعنى الحال والاستقبال، والأمر بخلاف ذلك، فإن لحاق الألف واللام به يوجب صحة عمله وإن كان ماضي المعنى، فعلم بذلك أن الألف واللام غير المعرفة، وأنها موصولة بالصفة، لأن الصفة بذلك يجب تأولها بفعل ليكون في حكم الجملة المصرح بجزأيها، ولأجل هذا التأويل وجب العمل مطلقا، وحسُن

أن يعطف على اسم الفاعل الموصول به فعل صريح، كقوله تعالى (فالمغيرات صبْحا* فأثرْن به نقعا) و (إن المصدقين والمصدّقات وأقرضوا الله قرضا حسنا). وعَنيْت بالصفة المحضة أسماء الفاعلين وأسماء المفعولين والصفات المشبهة بأسماء الفاعلين. ووصل الألف واللام بفعل مضارع نحو قول الشاعر: ما أنتَ بالحَكم الْتُرْضَى حكومَتُه ... ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجَدَل وكقول الآخر: يقولُ الخَنا وأبْغَضُ العُجْم ناطقا ... إلى ربِّنا صوتُ الحمار اليُجَدَّع وكذا قول الآخر: ما كاليرُوحُ ويَغْدُو لاهِيًا مَرِحا ... مُشَمِّرًا يستديمُ الحزمَ ذو رَشَد ومثله: وليس اليُرَى للخِلِّ مثل الذي يرى ... له الخِلُّ أهلا أن يُعَدّ خليلا واستدل ابن بَرهان على موصولية الألف واللام بدخولها على الفعل. واستدلاله قوي، لأن حرف التعريف في اختصاصه بالاسم كحرف التنفيس في اختصاصه

بالفعل، فكما لا يدخل حرف التنفيس على اسم، لا يدخل حرف التعريف على فعل، فوجب اعتقاد الألف واللام في: الترضى، واليجدع، واليرى، واليروح أسماء بمعنى الذي، لا حرف تعريف. وعندي أن مثل هذا غير مخصوص بالضرورة، لتمكن قائل الأول أن يقول: ما أنت بالحكم المرضي حكومته ولتمكن قائل الثاني من أن يقول: إلى ربنا صوت الحمارِ يُجدع ولتمكن الثالث من أن يقول: ما مَنْ يروح ولتمكن الرابع من أن يقول: وما من يري فإذ لم يفعلوا ذلك مع استطاعته ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار. وأيضا فمقتضى النظر وصل الألف واللام، إذ هما من الموصولات الاسمية، بما توصل به أخواتها من الجمل الاسمية والفعلية والظروف، فمنعوها ذلك حملا على المعرِّفة، لأنها مثلها في اللفظ، وجعلوا صلتها ما هو جملة في المعنى ومفرد في اللفظ صالح لدخول المعرفة عليه، وهو اسم الفاعل وشبهه من الصفات. ثم كان في التزام ذلك إيهام أن الألف واللام معرفة لا اسم موصول، فقصدوا التنصيص على مغايرة المعرفة، فأدخلوها على الفعل المشابه لاسم الفاعل وهو المضارع، فلما كان حاملهم على ذلك هو السبب، وفيه إبداء ما يحق إبداؤه، وكشف ما لا يصلح خفاؤه، استحق أن يجعل مما يحكم فيه بالاختيار ولا يخص بالاضطرار، ولذلك لم يقلّ في أشعارهم، كما قل الوصل بجملة من مبتدأ وخبر كقوله: مِنَ القومِ الرسُولُ اللهِ منهم ... له دانَتْ رِقابُ بني مَعَدّ

وبظرف كقول الراجز: مَنْ لا يزال شاكرا على المعه ... فهو حَرٍ بعِيشَةٍ ذاتِ سَعَة والتقدير: الذين رسول الله منهم، وعلى الذي معه. وقال متمم: وغَيَّرني ما غال سَعْدا ومالكا ... وعمرًا وحجرا بالمُشَقرّ ألْمَعا قال بعضهم: أراد الذين معا، وقال الكسائي: أراد معا فأدخل الألف واللام، والقولان متقاربان. وقال الشلوبين: الدليل على أن الألف واللام حرف قولك: جاء القائمُ، فلو كانت اسما لكانت فاعلا واستحق قائم البناء، لأنه على هذا التقدير مهمل، لأنه صلة، والصلة لا يتسلط عليها عامل الموصول. والجواب أن يقال: قد قام الدليل على أنها غير المعرفة بدخولها على الفعل، وتصحيحها عمل اسم الفاعل ذي المضي، فلم يبق إلا كونُها اسما موصولا إذ لا ثالث. والجواب عن شبهة الشلوبين أن يقال: مقتضى الدليل أن يظهر عمل عامل الموصول في آخر الصلة، لأن نسبتها منه نسبة أجزاء المركب منه، لكن منع من ذلك كون الصلة جملة، والجمل لا تتأثر بالعوامل، فلما كانت صلة الألف واللام في اللفظ غير جملة جيء بها على مقتضى الدليل لعدم المانع. ص: ويجوزُ حذفُ عائد غير الألف واللام إن كان متصلا منصوبا بفعل أو وصف، أو مجرورا بإضافة صفة ناصبة له تقديرا، أو بحرفٍ جُرَّ بمثله معنى ومَتَعَلَّقا الموصولُ أو موصوفٌ به. وقد يحذف منصوبُ صلة الألف واللام، والمجرور بحرف وإن لم يكمل شرط الحذف.

ولا يحذف المرفوع إلا مبتدأ ليس خبره جملة ولا ظرفا، بلا شرط عند الكوفيين، وعند البصريين بشرط الاستطالة في صلة غير "أيّ" غالبا، وبلا شرط في صلتها. ش: قيد العائد الذي يجوز حذفه بكونه لغير الألف واللام، لأن عائدهما عند الأكثر لا يحذف، لأنه يكمل صلتهما تكميل صلة غيرهما ويميزهما من المعرفتين، ويبدي من التأنيث والتثنية والجمع ما لا يبديانه. وقيد بالنصب احترازا من غير المنصوب، فإنه فيه تفصيل يأتي ذكره. وقيد المنصوب بالاتصال احترازا من المنفصل فإنه لا يجوز حذفه، إذ لو حذف جهل كونه منفصلا. واشترط في المتصل انتصابه بفعل أو وصف احترازا من نصبه بغيرهما، نحو: رأيت الذي كأنه أسد، فإن حذفه لا يجوز. ومثل الجائز الحذف لاتصاله بفعل كقوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلتُ مصدقا) ومنه قول الشاعر: كأنك لم تُسْبَقْ من الدهرِ ساعة ... إذا أنت أدركتَ الذي كنت تطلب وقال آخر: وحاجةٍ دون أخرى قد سمحت بها ... جعلتُها للتي أخْفَيْتُ عنوانا ومما جاء بوجهين قوله تعالى (وما عملته أيديهم) و (وفيها ما تشتهيه الأنفسُ) قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بالحذف فيهما، ووافقهم في "تشتهي"

ابن كثير وأبو عمرو. ومثال المتصل الجائز الحذف لنصبه بوصف قوله: ما الله مُوليكَ فضلٌ فاحْمَدَنْه به ... فما لدى غيرِه نفعٌ ولا ضرر وقوله: وليس من الراجي يخيب بما جد ... إذا عجزه لم يَسْتَبِن بدليل تقدير الأول: موليكه، وتقدير الثاني: من الراجيه. ومثال المجرور بالإضافة صفة ناصبة تقديرا قوله تعالى (وتُخْفي في نفسِك ما الله مبديه) فهذا مثال الإثبات. ومثال الحذف قوله تعالى (فاقض ما أنت قاض) ومثله قول الشاعر: ويَصْغُر في عيني تِلادي إذا انثنت ... يميني بإدراكِ الذي كنتُ طالبا ومثله: لَعَمْرُك ما تدري الضواربُ بالحصى ... ولا زاجراتُ الطير ما الله صانع ومثال المجرور بحرف جُرَّ بمثله الموصول أو موصوف به: مررت بالذي مررت به، أو بالرجل الذي مررت به، فهذا مثال الإثبات. ومثال الحذف قوله تعالى (ويشرب مما تشْربون) ومثله قول الشاعر: نُصلِّي لِلَّذي صَلَّتْ قريشٌ ... ونعبده وإن جَحَد العمومُ

أراد نصلي للذي صلت له، فحذف العائد المجرور باللام، لأن الموصول مجرور بمثلها معنى ومتعلقا، وكذا لو كان أحد المتعلقين فعلا والآخر صفة بمعناه كقوله: وقد كنتَ تُخْفي حُبَّ سمراءَ حِقبَةً ... فَبُحْ لان منها بالذي أنت بائح وكذا لو كان الموصوف مجرورا بها كقوله: إنْ تُعْن نفسُك بالأمرِ الذي عُنِيَت ... نفوسُ قوم سَمَوْا تَظْفَرْ بما ظَفِروا أراد الذي عنيت به فحذف المجرور بالباء لأن الموصوف بالموصول مجرور بمثلها. ولا يجوز حذف العائد المجرور إن خلا مما شرط في جواز حذفه إلا قليلا، ومنه قول حاتم: ومِنْ حَسَدٍ يَجُورُ عَلَيّ قومي ... وأيُّ الدهرِ ذو لم يَحْسَدُوني ومثله قول الفرزدق: لعل الذي أصْعَدْتِني أن يردَّني ... إلى الأرض إنْ لم يَقْدِر الحينَ قادر وربما حذف إن جر بمثل ما جر به الموصول معنى لا متعلقا كقول الشاعر: فأبلغ الحارث بن نضلة والـ ... مَرء معنى بلوم من يثق أراد من يثق به، ومثله:

وإنّ لساني شُهْدَةٌ يُشْتَفى بها ... وهُوَّ عَلى مَنْ صَبِّه اللهُ عَلْقَمُ أراد: من صبه الله عليه، وقد يحذف منصوب صلة الألف واللام كقوله: ما المستفِزُّ الهوى محمودَ عاقبة ... ولو أُتِيحَ له صفوٌ بلا كَدَرِ وقد يحذف العائد المجرور لوجود مثله بعد الصلة كقوله: لو أنَّ ما عالجتُ لين فؤادِها ... فقسا استُلِينَ به لَلان الجَنْدَل أراد: لو أن ما عالجت به لين فؤادها فقسا، فحذف به المتصل بعالجت استغناء عنه بالمتصل باستلين وإن كان بعد الصلة، لأنه عائد على ما، والكلام واحد، وإلى مثل هذين أشرت بقولي: وقد يحذف المجرور بحرف، وإن لم يكمل شرط الحذف. وقيدت جواز حذف العائد المرفوع بكونه مبتدأ احترازا من غير المبتدأ كالفاعل، فإن حذفه وحذف ما أشبهه لا يجوز، وأما المبتدأ فإن عاد على أيّ جاز حذفه بإجماع طالت الصلة أو لم تطل، ما لم يكن خبره جملة أو ظرفا. وإن عاد على غير أي ولم يكن خبره جملة ولا ظرفا جاز حذفه عند الكوفيين مطلقا كجوازه في صلة أي، ولم يجز حذفه عند البصريين دون استكراه إلا إذا طالت الصلة، كقول بعض العرب: ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءا، أراد: ما أنا بالذي هو قائل لك سوءا، فحسُن الحذف لطول الصلة بالمجرور والمنصوب. فإن زاد الطول ازداد الحذف حسنا كقوله تعالى (وهو الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إله) التقدير والله أعلم: وهو الذي في السماء إله، وهو في الأرض إله. فإن عدمت الاستطالة ضعف الحذف ولم يمتنع كقول الشاعر:

مَنْ يُعْنَ بالحمد لم يَنْطِق بما سَفَهٌ ... ولا يَحِد عن سبيل الحلم والكرم أراد: لا ينطق بما هو سفه. ومثله قراءة بعض السلف (تماما على الذي أحسنُ). واشترط في جواز الحذف كون الخبر غير جملة ولا ظرف، لأنه لو كان أحدهما ثم حذف المبتدأ لم يعلم حذفه، لأن ما بقي من الجملة أو الظرف، صالح للوصل به دون شيء آخر، فامتنع الحذف. ص: وهي حينئذ على موصوليتها مبنية على الضم غالبا، خلافا للخليل ويونس، وإن حُذِف ما تُضافُ إليه أعربت مطلقا، وإنْ أنثتْ بالتاء حينئذ لم تمنع الصرفَ خلافا لأبي عمرو. ش: مذهب الخليل ويونس أن "أيًّا" الموصولة معربةٌ أبدا، وما ورد عنهم مما يوهم البناء عند حذف شطر صلتها كقوله تعالى (ثم لَنَنْزِعَنّ من كلِّ شيعةٍ أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيًّا) جعله الخليل محكيا بقول مقدر. وحكم يونس بتعليق الفعل قبلها، لأن التعليق عنده غير مخصوص بأفعال القلوب، والحجة عليهما قول الشاعر: إذا ما لَقيتَ بَني مالِك ... فسَلِّم على أيُّهم أفضلُ لأن حروف الجر لا تعلق، ولا يضمر قول بينها وبين معمولها، وإذا بطل التعليق وإضمار القول تعين البناء، إذ لا قائل بخلاف ذلك. ونبهت بقولي "غالبا" على أن بناء أي عند حذف شطر صلتها غير لازم، وإنما هو أحق من الإعراب، ومن شواهد الإعراب قراءة طلحة بن مُصرِّف ومعاذ بن مسلم (لننزِعَنَّ من كلِّ شيعة أيَّهم) بالنصب، وإعرابها حينئذ مع قلته قوي،

لأنها في الشرط والاستفهام تعرب قولا واحدا لمخالفتها غيرها من أسماء الشرط والاستفهام، بإضافتها ووفاقها في المعنى لبعض إن أضيفت إلى معرفة، ولكلِّ إن أضيفت إلى نكرة. والموصولة أيضا مخالفة لغيرها من الأسماء الموصولة بإضافتها، إلا أنها لا تضاف إلا إلى معرفة، فوافقت في المعنى بعضا دون كلٍّ، فضعف بذلك مُوجِبُ إعرابها، فجعل لها حالان: حال بناء وحال إعراب، وكان أولى أحوالها بالبناء الحال التي يحذف فيها شطر صلتها مع التصريح بما تضاف إليه، لأن حذف شطر صلتها لم يستحسن فيها ولا في غيرها إلا لتنزيل ما تضاف إليه منزلته، وذلك يستلزم تنزُّلها حينئذ منزلة غير مضاف لفظا ولا نية، وإنما أعربت لإضافتها، فإذا صارت في تقدير ما لم يضف ضعف سبب إعرابها فبنيت غالبا. فإن حذف ما تضاف إليه أعربت على كل حال، لأن ذلك يبدي تمكنها في الإضافة لاستغنائها بمعناها عن لفظها، وإلحاق التنوين بها عوضا، فأشبهت بذلك كلاًّ، وفإن كُلَّا يحذف ما يضاف إليه كثيرا ويجاء بالتنوين عوضا منه. وإذا قيل في "أيّ" أية لإرادة معنى التي فإما أن يصرح بما تضاف إليه وإما أن يحذف وينوى، فإن صرح به فحكم "أية" معه حكم "أي" حين يصرح بما تضاف إليه بلا خلاف، وإن نوى فكذلك أيضا، وكان أبو عمرو يمنعها الصرف حينئذ للتأنيث والتعريف، لأن التعريف بالإضافة المنوية شبيه بالتعريف بالعلمية ولذلك منع من الصرف جُمعَ المؤكد به، لأن فيه عدلا وتعريفا بإضافة منوية فكان كالعلم المعدول، إلا أنَّ شَبَه جُمعَ بالعلم أشد من شبه أيَّة، لأن جُمع لا يستعمل ما يضاف إليه، بخلاف أية فإن استعمال ما تضاف إليه أكثر من عدمه، فلم تشبه العلم. ص: ويجوز الحضور أو الغيبة في ضمير المخبر به أو بموصوفه عن حاضر مقدم، ما لم يُقْصَد تشبيهه بالمخبر به فتَتعين الغيبة، ودون التشبيه يجوز الأمران إن وُجد ضميران. ش: الإشارة بهذا الكلام إلى نحو: أنت الذي فعل، وأنت فلان الذي فعل، وأنت رجل فعل، ففي فعل الأول ضمير عائد على موصول مخبر به، وفي فعل الثاني ضمير عائد على موصول موصوفُه مُخْبرٌ به، وفي فعل الثالث ضمير عائد على نكرة مخبر به، والمخبر عنه في الأمثلة الثلاثة حاضر مقدم، وقد جيء بمضمر خبره غائبًا

مُعتبرا به حال الخبر، ولو جيء به حاضرا معتبرا به حال المخبر عنه جاز، فكنت تقول: فعلتَ، في الأمثلة الثلاثة، لأن المخبر عنه والمخبر به شيء واحد في المعنى، وفي حديث محاجَّةِ موسى آدم عليهما السلام "أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته؟ " وفي رواية "أنت الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته؟ ومن اعتبار حال المخبر عنه قول الفرزدق: وأنتَ الذي تَلْوِي الجنودُ رءوسها ... إليك وللأيتامِ أنتَ طعامُها ومثله قول قيس العامري: وأنت الذي إن شئت نَعَّمتَ عيشتي ... وإن شئت بعد الله أنعمت باليا ومن اعتبار حال الخبر قول الفرزدق: وأنت الذي أمست نزار تَعُدُّه ... لدَفْعِ الأعادي والأمور الشدائِد فلو قصد تشبيه المخبر عنه بالمخبر به تعين كون العائد بلفظ الغيبة كقولك: أنت الذي فعل، بمعنى كالذي فعل. وكذلك تتعين الغيبة عند تأخر ما يدل على الحضور كقولك: الذي فعل أنت، فلذلك قلت في الأصل "عن حاضر مقدم".

ومثال ما يجوز فيه الأمران إن وجد ضميران مع عدم التشبيه قولُ بعض الأنصار رضي الله عنهم: نحن الذين بايَعُوا محمدا ... على الجهادِ ما بقينا أبدا ومثله: أأنت الهلاليُّ الذي كنتَ مرةً ... سمعنا به والأرحبيُّ المعَلَّقُ أي ومعه الأرحبي. ص: ويُغْني عن الجملة الموصول بها ظرفٌ أو جارٌ ومجرورٌ منْويٌّ معه استقَرَّ أو شبهُه، وفاعلٌ هو العائد أو ملابسٌ له، ولا يُفْعَل ذلك لذي حَدَث خاص ما لم يعمل مثله في الموصول أو موصوف به، وقد يغني عن عائد الجملة ظاهرٌ. ش: الظرفُ الموصول به جملةٌ في المعنى، لأنه لا بد من تعلقه بفعل لا يستغني عن فاعل، وكذا حرف الجر الموصول به، فلو استغنيت عن ذكرهما بذكر الجملة لكان الإلغاء، إلا أن التصريح بذكرهما أجود، وذلك نحو: عرفت الذي عندك، أي الذي استقر عندك، والذي في الدّار، أي الذي استقر فيها. وتقدير الفعل هنا مجمع عليه، بخلاف تقديره في غير صلة ففيه خلاف يذكر في باب المبتدأ إن شاء الله تعالى. ولو تعلق الظرف والجار بذي حدث خاص كجلس أو قام لم يجز الاستغناء بتقدير، إذ ليس بعض المقدرات أولى من بعض، فإن عمل مثلُه في الموصول أو موصوف به جاز الاستغناء به، فقد حكى الكسائي: نزلنا المنزل الذي البارحة، والمراد: نزلنا المنزل الذي نزلناه البارحة. ومثل ورود الظاهر مغنيا عن عائد الجملة قول الشاعر ? أنشده الكسائي:

فيا ربّ ليلى أنتَ في كلِّ موِطِن ... وأنتَ الذي في رحمةِ الله أطمع أراد: وأنت الذي في رحمته، فاستغنى بالظاهر عن الضمير، ومثله: إن جُملَ التي شغفت بجمل .. ففؤادي وإن نأت غيرُ سال ومثله: سعادُ التي أضناكَ حبُّ سعادا ... وإعراضُها عنك استمر وزادا أراد سعاد التي أضناك حبها، فاستغنى بظاهر سعاد عن ضميرها، ومن هذا القبيل: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري. ومثل هذا في الصلة نادر، وإنما يكثر الاستغناء بالظاهر عن المضمر في الإخبار، وله موضع يأتي إن شاء الله تعالى. فصل: ص: "مَنْ وما" في اللفظ مفردان مُذَكَّران، فإن عُنِي بهما غير ذلك فمراعاةُ اللفظ فيما اتصل بهما وبما أشْبَههُما أولى، ما لم يَعْضُد المعنى سابقٌ فيُخْتارُ مراعاتُه، أو يلزم بمراعاة اللفظ لَبْسٌ أو قُبْح فيجب مراعاة المعنى مطلقا، خلافا لابن السَّرَّاج في نحو: مَنْ هي مُحْسِنةٌ أمُّك، فإنْ حُذِفَ "هي" سَهل التذكير. ويُعْتَبَر المعنى بعد اعتبار اللفظ كثيرا، وقد يُعْتَبر اللفظ بعد ذلك. ش: قد تقدم أن "مَنْ" و"ما" يقع كل واحد منهما موقع الذي والتي وتثنيتهما وجمعهما، والكلام الآن في أنهما في اللفظ مفردان مذكران، فإن وافق معناهما لفظهما ... المتكلم واستوى العالم والمتعلم وإذا خالف معناهما لفظهما فلك فيما لهما من ضمير وغيره مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى لكن مراعاة اللفظ فيما اتصل بهما أولى كقوله تعالى (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله) و (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).

ومراعاة المعنى فيما اتصل بهما جائز، كقوله تعالى: (ومنهم من يستمعون إليك) و (ومن الشياطين من يَغُوصون له) ومنه قول امرئ القيس: فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يعفُ رسمُها ... لما نَسَجَتْها من يمين وشمأل أي للذي نسجتها، ومثله قول الآخر: تعشَّ فإن عاهدتَني لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان أي نكن مثل اللذين يصطحبان. هذا إذا لم يعضد المعنى سابق فيختار مراعاته كقول الشاعر: وإن من النِّسْوانِ مَنْ هي روضةٌ ... تَهِيجُ الرياضُ قبلها وتَصُوحُ فاعتضد اعتبار المعنى وهو التأنيث بسبق النسوان. والإشارة بقولي "أو بما أشبههما" إلى: كم وكأين. وأشرت بقولي "ما لم يلزم لبس" إلى نحو قولك: أعط من سألتْك لا مَنْ سألك، وأعرض عمن مررت بها، فهذا وأمثاله يجب فيه مراعاة المعنى لئلا يوقع في لبس وفهم غير المراد. وأشرت "بما يلزم منه قبح" إلى نحو: من هي حمراء أمتُك، فإن مراعاة المعنى فيه متعينة، إذ لو استعمل التذكير مراعاة للفظ (مَنْ) فقيل: مَنْ هو أحمر أمتك، لكان في غاية من القبح.

ووافق ابن السراج على منع التذكير في هذا وأمثاله. وأجاز في نحو: مَنْ هي محسنةٌ أمك، أن يقال: من هي محسن أمُّك، أو: منْ محسنٌ أمك. فأما: مَنّ محسن أمك، فغريب، وأما: من هي محسنٌ أمُّك، ففيه من القبح قريب ما في: من هي أحمر أمتك، فوجب اجتنابهما. والذي حمل ابنَ السراج على جواز: من هي محسن أمك، شبه محسن بمرضع ونحوه من الصفات الجارية على الإناث بلفظ خالٍ من علامة، بخلاف أحمر فإن إجراء مثله على مؤنث لم يقع، فلذلك اتفق على منع: من هي أحمر أمتك. واعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ كقوله تعالى (ومِن الناس من يقولُ آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين). فلو عُضِد المعنى بعد اعتبار اللفظ تعين اعتبار المعنى، ولذلك قرأ (ومن يَقنُت منكنّ لله ورسوله وتعمل) بالتأنيث الخمسةُ غير حمزة والكسائي، لأن معنى التأنيث قد اعتضد بسبق (من يقنت منكن) وهو نظير اعتضاد التأنيث في (من هي روضة) لسبق (وإن من النسوان). واعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى كقوله تعالى (ومنْ يؤمن بالله ويعمل صالحا يُدْخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) ومثله قول الشاعر: لست ممن يَكِعّ أو يستَكِينو ... ن إذا كافَحَتْه خيلُ الأعادي ص: وتقعُ "مَنْ وما" شرطِيَّتين واستفهاميتين، ونكرتين موصوفتين، ويُوصف بما على رأى. ولا تزاد "مَنْ" خلافا للكسائي، ولا تقع على غير من يعقل إلا مُنَزَّلا منزلتَه

أو مُجامِعا له بشُمُولٍ أو اقترانٍ خلافا لقطرب. و"ما" في الغالب لما لا يعقل وحدَه، وله مع من يعقل، ولصفات من يعقل، وللمُبْهَم أمرُه، وأفْرِدَت نكرة، وقد تساويها "مَنْ" عند أبي علي. وقد تقع "الذي" مصدريةن وموصوفة بمعرفة أو شبهها في امتناع لحاق أل. ش: مثال (من وما) في الشرط قوله تعالى (ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتِيَ خيرا كثيرا) و (وما يفعلوا من خير فلن يُكْفَروه) ومثالهما في الاستفهام قوله تعالى (ومَنْ أصدقُ من الله حديثا) و (وما تلك بيمينك يا موسى). ومثالهما نكرتين موصوفتين قول الشاعر: ألا رُبَّ من تَغْتَشُّه لك ناصحٌ ... ومُؤتَمنٍ بالغيبِ غيرُ أمين وقال آخر: ربما تكره النفوسُ من الأمـ ... ـــــر له فَرْجَةٌ كحلِّ العِقال وأجاز الأخفش تنكير (أيّ) ووصفها قياسا على (من وما) نظرا إلى أنها أمكن في الاسمية منهما، فهي أحق منهما بأن تستعمل معرفة ونكرة وموصوفة وغير موصوفة، وقد وصفت في النداء، فوصفها في غيره ليس بِبِدْع، إلا أن السماع بذلك مفقود.

واختُلفَ في (ما) من نحو قولهم: لِأمْر ما جَدَع قصيرٌ أنفه، فالمشهور أنها حرف زائد منبه على وصف مُراد لائق بالمحل، وقال قوم: هي اسم موصوف به. والأول أولى، لأن زيادة ما عوضا عن محذوف ثابت في كلامهم، من ذلك قولهم: أمّا أنت منطلقا انطلقت، فزادوا ما عوضا من كان، ومن ذلك قولهم: حيثما تكنْ أكنْ، فزادوا ما عوضا من الإضافة. وليس في كلامهم نكرةٌ موصوفٌ بها جامدةٌ كجمود ما إلا وهي مردفة بمُكَمِّل كقولهم: مررت برجل أيِّ رجل، وأطعمنا شاةً كلّ شاة، وهذا رجلٌ ما شئت من رجل، فالحكم على ما المذكورة بالاسمية واقتضاء الوصفية جاء بما لا نظير له، فوجب اجتنابه. وأجاز الكسائي وقوع مَن زائدة مستشهدا بقول الشاعر: يا شاةَ مَنْ قَنَصٍ لمن حَلَّت له ... حَرُمَت عليّ وليتها لم تحرم ولا حجة فيما استشهد به لوجهين: أحدهما: أن الرواية: يا شاة ما قنص، بزيادة ما. والثاني: أن (من) على تقدير صحة الرواية بها يحتمل أن تكون نكرة موصوفة بقنص، على تقدير: يا شاة رجل قنص، أي ذي قنص، والحمل على هذا راجح لأنه تقدير شائع أمثاله بإجماع، إذ ليس فيه إلا حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وأمثال ذلك كثيرة. بخلاف ما ذهب إليه الكسائي رحمه الله فإنه لم يثبت مثله دون احتمال فوجب اجتنابه. وزعم محمد بن المستنير الملقب قطْرُبًا أن (مَنْ) تقع على ما لا يعقل دون اشتراط ما يصحح ذلك، وجعل من ذلك قوله تعالى (ومَنْ لستم له برازقين) وهذا القول غير مرضي، إذ لا دليل عليه ولا محْوج إليه، وإنما تقع على ما لا يعقل إذا نزل منزلة من يعقل كقوله تعالى (ومَنْ أضلُّ مِمّن يدعو من دون الله مَنْ

لا يستجيب له) فعبر بمن عن الأصنام لتنزلها منزلة من يعقل، ومثله: بكيتُ على سِرْب القَطا إذ مَرَرْنَ بي ... فقلتُ ومثلي بالبكاء جديرُ أسِرْبَ القطا هَل مَنْ يعير جناحَه ... لعلي إلى مَنْ قد هَويتُ أطيرُ وكذا إذا جامع من يعقل بشمول كقوله تعالى (ألم ترَ أن الله يسبح له من في السموات والأرض) وباقتران كقوله تعالى (خلق كلَّ دابّة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين) وكقوله تعالى (أفمَنْ يخلق كمَنْ لا يخلق) ومثله ما حكى الفراء من قول بعض العرب: اشتبه عليَّ الراكب وجمله، فما أدري مَنْ ذا ومن ذا. وما في الغالب لما لا يعقل، واحترزت بقولي (في الغالب) من نحو قوله تعالى (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) ومن قول العرب: سبحان ما سخَّركن لنا، ومجيئها لما لا يعقل كثير. وله مع من يعقل كقوله تعالى (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة) ولصفات من يعقل كقوله تعالى (فانْكِحوا ما طاب لكم من النساء) وللمبهم أمره كقولك وأنت ترى شبحا تُقَدِّر إنسانيته وعدم إنسانيته أبصرت ما هناك. وكذا لو علمت إنسانيته ولم تدر أذكر هو أم أنثى، ومنه قوله تعالى (إني نذرتُ لك ما في بطني محررًا).

وأردت "بإفرادها نكرة" إخلاؤها من صفة ومن تضمين معنى شرط أو استفهام، وذلك في التعجب نحو: ما أحسن فلانا. وفي باب نعم وبئس كقوله تعالى (فنعماهي) على رأي. وفي نحو قولهم: إني مما أفعل، أي من أمر أن أفعل. وقد تساويها "مَنْ" في وقوعها نكرة غير موصوفة ولا مضمنة شرطًا ولا استفهاما، وهذا مما انفرد به أبو علي الفارسين وحجته في ذلك قول الشاعر: وكيفَ أرْهَبُ أمرا أو أراعُ به ... وقد زكاتُ إلى بِشْرِ بنِ مروان ونِعْمَ مَزْكَأ مَنْ ضاقَتْ مذاهبه ... ونِعْمَ مَنْ هو في سِرٍّ وإعلان فمن الثانية في موضع نصب على التمييز، وفاعل نعم مضمر مُفَسَّر بمَنْ كما فُسِّر بما في نعما، وهو مبتدأ خبره الجملة التي قبله، وفي سر وإعلان متعلق بنعم. والصحيح غير ما ذهب إليه، وبيان ذلك مستوفى في باب نعم وبئس. وحكى أبو علي في الشيرازيات عن أبي الحسن عن يونس وقوع الذي مصدريَّة غير محتاجة إلى عائد، وتأول على ذلك قوله تعالى (ذلك الذي يُبَشِّرُ الله عباده) قال أبو علي: ويقوي هذا أنها جاءت موصوفة غير موصولة، وأنشد الأصمعي: حتى إذا كانا هما اللذَيْن ... مثلَ الجَدِيلَيْن المُحَمْلَجَيْن فنصب مثل الجديلين وجعله صفة للذين. قال أبو علي: ويجيء قوله تعالى (كالذي خاضوا) على قياس، فيكون التقدير: وخضتم كخوضهم، فلا يعود

إلى الذي شيء، لأنها في مثل هذا حرف. قلت: حاصل كلام أبي على أن الذي على ثلاثة أقسام: موصولة، وموصوفة مستغنية بالصفة عن الصلة، ومصدرية محكوم بحرفيتها. وهذا المذهب أيضا هو مذهب الفراء رحمه الله، وهو الصحيح، وبه أقول. وأجاز الفراء في قوله تعالى (تمامًا على الذي أحسن) أن يكون الذي مصدرية والتقدير: تمامًا على إحسانه، أي على إحسان موسى عليه السلام. وأجاز أن تكون موصوفة بأحسن على أن أحسن أفعل تفضيل، قال: لأن العرب تقول: مررت بالذي خير منك، ولا تقول: مررت بالذي قائم، لأن خيرًا منك كالمعرفة إذ لم تدخل فيه الألف واللام. وكذا يقولون: مررت بالذي أخيك، وبالذي مثلك، إذا جعلوا صفة الذي معرفة أو نكرة لا تدخله الألف واللام، جعلوها تابعة للذي، أنشد الكسائي: إنّ الزُّبَيْرِيّ الذي مثلَ الجَلَم ... مشى بأسلافك في أهل الحرم قلت: وهذا الذي أنشد الكسائي مثل الذي أنشد الأصمعي: حتى إذا كانا ... البيت وحكى الفراء عن بعض العرب: أبوك بالجارية الذي يكفل، وبالجارية ما يكفل، والمعنى: أبوك بالجارية كفالته، وهذا صريح في ورود الذي مصدرية. ومنه قول عبد الله بن رواحة: فثبَّتَ الله ما أتاك من حسن ... في المُرْسَلين ونَصْرًا كالذي نُصِرُوا أي ونصرا كنصرهم، ومثله قول جرير:

يا أُمَّ عَمْرٍو جزاك الله مغفرة ... ردّي عليَّ فؤادي كالذي كانا ومثله قول ابن أبي ربيعة: لو أنّهم صبروا عنّا فنعرفه ... منهم إذا لصبرنا كالذي صبروا ومثله قول الآخر: دعاني أبو سعد وأهدى نصيحة ... إليّ ومما أن تغر النصائح لأجرر لحيى كلب نبهان كالذي ... دعا القاسطيَّ حَتفُه وهو نازح فصل: ص: وتقع "أيٌّ" شرطية، واستفهامية، وصفة لنكرة مذكورة غالبا، وحالا لمعرفة، ويلزمها في هذين الوجهين الإضافة لفظا ومعنى إلى ما يماثل الموصوف لفظا ومعنى، أو معنى لا لفظا. وقد يُسْتَغنى في الشرط والاستفهام بمعنى الإضافة إن علم المضاف إليه. وأيّ فيهما بمنزلة كلّ مع النكرة، وبمنزلة بعض مع المعرفة. ولا تقع نكرة موصوفة خلافا للأخفش. وقد يحذف ثالثُها في الاستفهام، وتضاف فيه إلى النكرة بلا شرط، وإلى المعرفةِ بشرطِ إفهام تثنيةٍ أو جمعٍ أو قصدِ أجزاءٍ أو تكريرها عطفا بالواو. ش: من شواهد أي الشرطية قول الشاعر: أيَّ حين تلمّ بي تَلْقَ ما شِئْـ ... ــــتَ من الخير فاتخذني خليلا ومن شواهد الاستفهامية قوله تعالى (فأيُّ الفريقين أحقُّ بالأمن) وقول

ابن مسعود رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم "أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاةُ على وقتها" ومن شواهد الواقعة صفة لنكرة قول الشاعر: دعوت امرأ أيَّ امرئ فأجابني ... وكنتُ وإيّاه ملاذًا وموْئِلا وأشرت بقولي "مذكورة غالبا" إلى ندور قول الفرزدق: إذا حاربَ الحجاجُ أيَّ منافق ... علاه بسيف كلّما هزّ يقطع أراد: منافقا أيَّ منافق. ومن شواهد الواقعة حالا لمعرفة قول الآخر: فأوْمَاتُ إيماءً خفِيًّا لِحَبْترٍ ... فلله عينا حَبْترِ أيّما فتى ولا تستغني في هذين الوجهين عن الإضافة معنى ولفظا إلى نكرة تماثل ما هي له لفظا ومعنى نحو: دعوت امرأ أي امرئ، أو معنى لا لفظا نحو: دعوت امرأ أي فتى. فأما في الشرط والاستفهام فيجوز استغناؤها بمعنى الإضافة عن لفظها إن كان المضاف إليه معلوما كقوله تعالى (أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) فهذا مثال حذف المضاف إليه في الشرط، ومن حذفه في الاستفهام قول ابن مسعود رضي الله عنه "ثم أيّ؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أيٌّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله" وهي فيهما مع النكرة بمنزلة كلِّ، ومع المعرفة بمنزلة بعض. ولهذا يقال في التنكير: أيُّ الرجلين أتيا؟ وأيُّ رجال ذهبوا؟ فتثنى الضمير وتجمعه كما تفعل حين تقول:

كل رجلين أتيا، وكل رجال ذهبوا. ويقال في التعريف: أيُّ الرجلين أتى؟ وأيُّ الرجال ذهب؟ وأجاز الأخفش وقوع أي نكرة موصوفة نحو قولك: مررت بأيِّ كريم، ولا حجة له إلا القياس على "ما" و"من" في قول العرب: رغبتُ فيما خيرٍ مما عندك، و: فكفى بنا فضلا على مَنْ غيرِنا والقياس في مثل هذا ضعيف. وأشرت بقولي "وقد يحذف ثالثها في الاستفهام" إلى قول الفرزدق: تنظرت نضرًا والسِّماكين أيْهما ... عليَّ من الغَيْث استهلت مواطره وتناول قولي "وإلى المعرفة بشرط إفهام تثنية أو جمع" ما أضيف إلى مثنى لفظا ومعنى، وإلى جمع لفظا ومعنى، وإلى مثنى معنى لا لفظا نحو: أيُّ الرجلين أفضل؟ وأيّ الرجال أفضل؟ وأيُّهما أكرم؟ وأيُّهم أكرم؟ فإن كانت المعرفة التي أضيف إليها أي مفردة اللفظ والمعنى لم يضف إليها إلا مقصودا أجزاؤها، نحو: أيُّ ثوبك بلى؟ أو معطوفا عليها بالواو، ومثله قول الشاعر: فلئن لقيتُك خالييْن لتعلمَنْ ... أيِّي وأيُّك فارس الأحزاب فصل: ص: من الموصولات الحرفية "أنْ" الناصبةُ مضارعا، وتوصَلُ بفعل متصرف مطلقا. ومنها "أنّ" وتوصل بمعموليها.

ومنها "كَيْ" وتوصل بمضارع مقرونةً بلام التعليل لفظا أو تقديرا. ومنها "ما" وتوصل بفعل متصرف غيرِ أمر، وتختص بنيابتها عن ظرف زمان، موصولةً في الغالب بفعل ماضي اللفظ، مثبتٍ أو منفيٍّ بلم، [وليست اسما فتفتقر إلى ضمير، خلافا لأبي الحسن وابن السراج،] وتُوصلُ بجملة اسمية على رأي. ومنها "لو" التاليةُ غالبا مُفْهِمَ تمنٍّ، وصلتها كصلة "ما" في غير نيابة، وتغني عن التمني فينتصب بعدها الفعلُ مقرونًا بالفاء]. ش: قد تبين من كلامي في أول هذا الباب أن الموصولات الحرفية هي التي تقوم بصلاتها مقام مصادر، والحاجة الآن داعية إلى تعيينها. فمنها "أنْ" وقيدت "بنصبها المضارع" احترازا من التي أصلها "أنّ" نحو (علم أن سيكون) ومن الزائدة نحو (فلما أن جاء البشير) ومن التفسيرية نحو (فأوْحيْنا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر) ولهن موضع يذكرن فيه، وكذا المصدرية لاستيفاء القول فيها موضع آخر. والذي دعت الحاجة إليه هنا كيفية وصلها وبيان ما توصل به، فذكر أنها توصل بفعل متصرف مطلقا، ليتناول ذلك الفعل المضارع المتصرف نحو: أريد أن تفعل، والماضي المتصرف نحو، عجبت من أن أتيت، والأمر المتصرف نحو: أرسلت إليه بأن افعلْ، وقرنت أن بالباء بعد: أرسلت، لئلا يوهم تجردها من الباء أنها التفسيرية. وعلم بذكر "التصرف" قيدا لما توصل به أنْ، أنها لا توصل بما لا تصرف له من مضارع كينبغي في الأشهر، ولا ماض كعسى، ولا أمر كهَلُمَّ في لغة بني تميم.

وإذا ثبت هذا فاعلم أن الواقعة في قوله تعالى (وأنْ عسى أنْ يكون قد اقترب أجلهم) (وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى) مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، والجملة بعدها خبرها. ومثال وصل "كي" مقرونة بلام التعليل لفظا، جئت لكي أراك. ومثالها مقرونة بها تقديرا: جئت كي أراك. ولا يتعين كون "كي" مصدرية إلا وهي مقرونة باللام لفظا، وأما إذا لم تقارنها اللام لفظا فيحتمل أن تكون مصدرية، واللام مقدرة كما تقدر مع "أن" في: جئت أنْ أراك. ويحتمل أن تكون حرف جر بمعنى اللام، ويكون الفعل بعدها منصوبا بأن مقدرة، فإذا لفظ باللام لم تكن بمعناها لئلا يلزم دخول حرف جر على حرف جر وأما قول الشاعر: فقالت أكلَّ الناسِ أصبحتَ مانحًا ... لسانَك كيما أن تَغُرّ وتخدعا فكي فيه حرفُ جرٍ لا حرفٌ مصدري، لئلا يلزم دخول حرف مصدري على حرف مصدري، وأجاز الفراء ذلك وجعل أحدهما مؤكدا للآخر، وأيّدَ مذهبه في ذلك بقول الشاعر: أردتُ لكيما أن تطيرَ بِقرْبَتي ... فتتركها شَنًّا ببيداء بَلْقَع فجمع بين اللام وكي وأن، فهذا لا محيص فيه من أحد أمرين مُسْتَغْرَبَيْن: إمّا أن تكون كي مصدرية فيلزم اجتماعها مع أنْ وهما حرفان مصدريان، وإمّا أن تكون حرف جر فيلزم اجتماعها مع اللام وهما حرفا جر. إلا أن اجتماع حرفين مصدريين أسهل

من اجتماع حرفي جر، لأن للحرف المصدري شبها للأسماء بوقوعه مواقعها، وتوكيد اسم بمثله جائز ولو كان موصولا كقراءة زيد بن علي رضي الله عنهما (خلقكم والذين مَنّ قبلكم) وكقول معاوية رضي الله عنه: إنّ الذين الألى أدخلتهم نفر ... .لولا بَوادِرُ إبْراق وإرْعاد وكذا توكيد ما له شبه بالأسماء من الحروف، بخلاف ما لا شبه له بها كحروف الجر. ويجوز جعل: مَنّ في الآية، والألى في البيت خبرَ مبتدأ مضمر، هو وخبره صلة الذين. وأشرت بالتنبيه على أن "كي" لا تخلو من لام التعليل إلى أنها لا تتصرف تصرف "أنْ" فإنَّ أنْ يبتدأ بها، وتكون فاعلة ومفعولة ومضافًا إليها ومجرورة بأكثر حروف الجر. وكي لا تقع إلا مجرورة باللام، أو مقدرًا معها اللام. وأما "ما" المصدرية فتوصل بفعل متصرف غير أمر، وأكثر ما يكون ماضيًا كقوله تعالى (وضاقت عليكم الأرضُ بما رَحُبَت) وكقول الشاعر: يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي ... وكان ذهابُهنّ له ذهابا وتقع هي وصلتها موقع ظرف الزمان كقولك: جُدْ ما دُمْتَ واجدا، أي مدة دوامك واجدا، ولا يشاركها في هذا الاستعمال غيرها. وقد أجاز الزمخشري مشاركة "أنْ" إياها في ذلك، وجعل من ذلك قوله تعالى (ألمْ تَرَ إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه أن آتاه الله الملك) والذي ذهب إليه غير جائز عندي؛ لأن استعمال أن في موضع التعليل مجمع عليه، وهو لائق في هذا الموضع فلا يعدل عنه. واستعمالها في موضع التوقيت لا يعترف به أكثر

النحويين، ولا ينبغي أن يعترف به، لأن كلّ موضع ادُّعي فيه ذلك صالح للتعليل، فالقول به موقع في لبس. وأجاز الزمخشري أيضًا في قوله تعالى (ودية مُسَلَّمَةٌ إلى أهله إلا أنْ يصدقوا) ما أجاز في (أن آتاه الله) وأن يكون حالا، كأنه قيل: مسلمة إليهم إلا حين يتصدقون على القاتل بالعفو، أو متصدقين بالعفو. وليس كما قال، بل التقدير: مسلمة إليهم إلا بأن يصدقوا بالعفو، وهذا التقدير موافق للمعنى والاستعمال المجمع على مثله، إذ ليس فيه إلا حذف حرف جر داخل على أن، وهو مطرد، بخلاف الوجهين اللذين ادعاهما الزمخشري. وقد استشهد بعضهم على وقوع أنْ وصلتها موقع ظرف الزمان بقول الشاعر: فقلتُ لها لا تَنْكِحِيه فإنه ... لأول سَهْمٍ أنْ يلاقِيَ مَجْمَعا وزعم المستشهد به أن معناه: لأول سهم زمان ملاقاته مجمعا، ولا حجة فيه لإمكان أن يكون التقدير: فإنه لأول سهم بأن يلاقى مَجْمَعًا، أي سبب ملاقاته مجمعًا، وهذا التقدير موافق للمعنى، مع الاتفاق على كثرة نظائره، فهو أولى. وإذا وقعت "ما" المصدرية موضع الظرف لم توصل في الغالب إلا بفعل ماضي اللفظ مثبت أو منفي بلم كقول الشاعر: ولن يلبث الجُهّالُ أنْ يَتَهَضَّمُوا ... أخا الحِلم ما لم يَسْتَعِنْ بجهول وقد توصل بمضارع خال من النفي بلم كقول الشاعر: نُطوِّف ما نُطَوِّف ثم يأوي ... ذوو الأموال منا والعديمُ

إلى حُفَر أسافِلُهن جُوفٌ ... وأعلاهن صُفَّاحٌ مُقيمُ وقد توصل بجملة اسمية كقول الشاعر: واصِلْ خليلَك ما التوصلُ ممكنٌ ... فَلأنتَ أو هو عن قريبٍ ذاهب وقال آخر: فعسْهُم أبا حسَّانَ ما أنت عائِسُ وقد توصل بمضارعٍ المصدريةُ غير الظرفية كقول الشاعر: وللمنية أسباب تُقَرِّبُها ... كما تقرب للوحْشية الذُّرُع وقد توصل بجملة اسمية كقول الشاعر: أحلامُكم لسقام الجهل شافيةٌ ... كما دماؤُكُم تشفى من الكَلَب وكذا قول الآخر: أعَلاقةً أمَّ الوُليدِ بعدما ... .أفنانُ رأسِكَ كالثِّغام المُخْلِس والحكم على "ما" هذه بالمصدرية أولى من جعلها كافة، لأنها إذا كانت مصدرية كانت هي وصلتها في موضع جر بالكاف في البيت الأول، وبإضافة الظرف في البيت الثاني، ولم يصرف شيء عما هو له ثابت، بخلاف الحكم بأن (ما) كافة.

وأيضًا فإن النظر يقتضي أن تكون (ما) مصدرية لكثرة استعمالها، وعملها غير مقصورة على الوصل بالفعل، بخلاف أنْ وكي، ولا تستحق ذلك (لو) المصدرية لقلة استعمالها، فإن الحاجة إلى اختلاف المصحوب في صلة وغيرها دون كثرة استعمال غير ماسة. وأيضًا فمن مواقع ما المصدرية النيابة عن وقت واقع ظرفا، والوقت الواقع ظرفًا يضاف إلى جملة اسمية كما يضاف إلى جملة فعلية، فإذا وصلت ما بكلتا الجملتين حين وقوعها موقع ذلك الوقت سلك بها سبيل ما وقعت موقعه، فكان الحكم بجواز وصلها بجملة اسمية راجحا على الحكم بمنعه، هذا على تقدير عدم ذلك مسموعًا، فكيف وقد ظفرت به في البيتين السابق ذكرهما: أعني: واصلْ خليلك، و: فعسهم أبا حسان. وإذا ثبت وصل ما المصدرية النائبة عن الظرف بجملة اسمية، لم يستبعد وصلها بها إذا لم تكن نائبة عن ظرف. وأما "لو" المصدرية فعلامتها أن تصلح في موضعها "أن"، وأكثر وقوعها بعد ما يدل على تمنٍّ كقوله تعالى (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) وقد تكون غير مسبوقة بتمنٍّ كقول قَتيلة أخت ضرار: ما كان ضَرَّك لو مننتَ وربما ... مَنْ الفتى وهو المَغيظُ المُحْنَق وقال آخر: لقد طَوَّفْتُ في الآفاق حتى ... بليت وقد أنَى لي لو أبيد وقال آخر: وربّما فاتَ قومًا جلُّ أمرِهم ... من التأنِّي وكان الحزمَ لو عَجِلوا

ولا توصل إلا بفعل متصرف ماض أو مضارع، وهذا المراد بقولي: "وصلتها كصلة ما في غير نيابة" وأكثر النحويين لا يذكرون "لو" في الحروف المصدرية، وممن ذكرها الفراء وأبو علي، ومن المتأخرين التبريزي وأبو البقاء. وقال أبو علي في التذكرة، وقد حكى قراءة بعض القراء (وَدُّوا لو تدهن فيدهنوا) بنصب فيدهنوا، حمله على المعنى كأنه قال: ودوا أنْ تدهن فيدهنوا كما حمل (أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر) على: أو ليس بقادر. وأشرت بقولي "وتغني عن التمني فينصب بعدها الفعل مقرونا بالفاء" إلى نحو قول الشاعر: سَرَيْنا إليهم في جموع كأنها ... جبالُ شَرَوْرَى لو نُعانُ فَنَنْهَدا فلك في نصب ننهد أن نقول: نصب لأنه جواب تَمن إنشائي كجواب ليت لأن الأصل: وددنا لو نعان، بحذف فعل التمني لدلالة لو عليه، فأشبهت ليت في الإشعار بمعنى التمني دون لفظه، فكان لها جواب كجواب ليت، وهذا عندي هو المختار. ولك أن تقول: ليس هذا من باب الجواب بالفاء بل من باب العطف على المصدر. لأن "لو" والفعل في تأويل مصدر، والمصدر قد يعطف عليه الفعل فينصب بإضمار أن، كقول الشاعر: لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويْتَه ... تَقَضِّي لُبانات ويسأمَ سائم

ومنه قراءة السبعة إلا نافعًا (إلا وَحْيا أو من وراء حجاب أو يرسلَ) بالنصب عطفا على "وحْيا". وذهب أبو علي في "لو" التي بعدها: نعان، وشبْهها إلى أنها بمعنى الأمر وأن النصب بعدها كالنصب بعد الأمر، قال في التذكرة بعد كلامه على قراءة من قرأ "فيدهنوا" بالنصب: يجوز أن تكون "لو" هذه أجريت مجرى (لو) التي بمعنى الأمر في قوله: (لو نعان فنَنهد) أي: أعنا يا الله (فننهد). وقال أيضا في قوله تعالى (فلو أنّ لنا كَرَّة فنكون من المؤمنين) أي: أحدِثْ لنا كرة فنكون. هذا نص كلامه في التذكرة. وأما الزمخشري فإنه قال: وقد يجيءُ (لو) في معنى التمني كقولك: لو تأتيني فتحدثني، كما تقول: ليتك تأتيني فتحدثني، فإن أراد بهذا الكلام ما أردته أنا فهو صحيح، وإن أراد أن (لو) حرف موضوع للتمني كليت فغير صحيح، لأن ذلك يستلزم منع الجمع بينها وبين فعل التمني كما لا يجمع بينه وبين ليت. وذلك أن حروف المعاني مقصودها النيابة عن أفعال على سبيل الإنشاء، فالجمع بينها وبين تلك الأفعال ممتنع لامتناع الجمع بين نائب ومنوب عنه، ولهذا امتنع الجمع بين لعلَّ وأترجى، وبين إلا وأستثني، فلو كانت (لو)) موضوعة للتمني كليت لساوتها في امتناع ذكر فعل التمني معها، فكان قول القائل: تمنيت لو تفعل، غير جائز، كما أن قولك: تمنيت ليتك تفعل غير جائز، والأمر بخلاف ذلك، فصح ما قلته والحمد لله. فإن قيل: كيف دخلت "لو" المصدرية على أنّ في نحو (فلو أن لنا كرة)؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن لو داخلة على (ثبت) مقدرا رافعا لأنَّ، فلا يلزم من ذلك مباشرة حرف مصدري لحرف مصدري. الثاني: أن يكون هذا من باب التوكيد اللفظي، وهو من أحسنه، لأنه توكيد كلمة بما يوافقها معنى دون لفظ، وهو أجود من التوكيد بإعادة اللفظ بعينه، ومنه

توكيد السبل بالفجاج في قوله تعالى (لتَسْلكوا منها سبلا فجاجا) ومنه توكيد الذين بمَنْ في قراءة زيد بن علي (والذين مَنْ قبلكم) ولتفضيل هذا النوع من التوكيد على إعادة اللفظ بعينه كان قولك: زيد كمثل عمرو، شائعا مستحسنا في النثر والنظم، بخلاف: زيد ككعمروا، فإنه مخصوص بالضرورة كقوله: ككما يُؤَثْفين، وقد اجتمعت أنْ ولو المصدرية في قول علي رضي الله عنه مخاطبا لعامله: ما كان عليك أن لو صمت لله أياما، وتصدقت بطائفة من طعامك محتسبا. فصل: ص: الموصول والصلة كجزأي اسم، فلهما ما لهما من ترتيب، ومَنْع فصل بأجنبي إلا ما شَذَّ، فلا يُتْبَع الموصولُ، ولا يُخْبَرُ عنه، ولا يُسْتثنى منه قبل تمام صلته أو تقدير تمامها. وقد تَرِدُ صلةٌ بعد موصولين أو أكثر مُشتَركا فيها، أو مَدْلولا بها على ما حذف إلا أل. وقد يُحْذَفُ ما عُلِم من موصولٍ غير الألف واللام، ومن صلة غيرهما. ولا تُحْذَفُ صلةُ حرفٍ إلاّ ومعمولُها باق، ولا موصولٌ حرْفيّ إلا "أنْ". وقد يلي معمولُ الصّلة الموصول إن لم يكن حرفا، أو الألف واللام. ويجوز تعليق حرف جر قبل الألف واللام بمحذوفٍ دَلُّ عليه صلتُها، ويندر ذلك في الشعر مع غيرها مطلقا، ومعها غير مجرورة بمن. ش: للموصول مع الصلة شبَه بشطري الاسم، وأشبَه الأسماء بهما المركبُ تركيب مَزْج كبعلبك، فإن المفرد مباين لهما بعدم التركيب، والمضاف والجملة

مباينان لهما بتأثير صدرهما في عجزيهما، والمركب تركيب مزج خال من تلك المباينات، فكان شبهه أولى بالاعتبار. والضمير من قولي (فلهما) عائد إلى الموصول والصلة، ومن قولي (ما لهما) عائد على جزأي الاسم، أي للموصول من التقدم ما لصدر الاسم المشار إليه، وللصلة من التأخر ما لعجزه، فهذا هو المراد بالترتيب، لأن الصلة لا يتقدم بعض أجزائها على بعض، كما لا يتقدم بعض أجزاء العجز على بعض، بل يجوز في الجملة الموصول بها من تقديم وتأخير ما يجوز فيها قبل كونها صلة، ما لم يعرض في الوصل مانع من بعض ما كان جائزا، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وكما وجب الترتيب وجب منع الفصل بأجنبي إلا ما شذ، ولا يدخل في الأجنبي القسم لأنه يؤكد الجملة الموصول بها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم "وأبنوهم بمَنْ والله ما علمت عليهم من سوء قط" ولا جملة الاعتراض كقول الشاعر: ماذا ولا عَتْبَ في المقدور رُمْتَ أما ... يَكْفيك بالنُّجْحِ أم خُسْرٌ وتضليل ففصل بين (ذا) و (رمت) بلا عتب في المقدور، لأن فيه توكيدا وتشديدا لمضمون الجملة الموصول بها. والجملة الحالية أولى ألا تعدَّ أجنبية كقول الشاعر: إنّ الذي وهو مُثْرٍ لا يَجود حَر ... بفاقةٍ تعتريه بعد إثراء فقوله: وهو مثر، جملةٌ حاليةٌ العاملُ فيها فعل الصلة وهو يجود، وما عَمِلَ فيه فعل الصلة فهو من الصلة، فلا يكون أجنبيا. ومما لا ينبغي أن يُعَدّ أجنبيا النداء الذي يليه مخاطَبٌ كقول الشاعر: وأنتَ الذي يا سعد بُؤْتَ بمَشْهَد ... كريم وأثوابِ المكارم والحمد

فلو لم يَله مخاطب عُدَّ أجنبيا ولم يجز إلا في ضرورة كقوله: تَعشَّ فإن عاهَدْتني لا تخونُني ... نكن مثل مَنْ يا ذئب يصطحبان ومن الفصل الذي يعد شاذا لكونه أجنبيا محضا قوله: وأبْغَضُ مَنْ وضعْت إليّ فيه ... لسانِيَ مَعشَرٌ عنهم أذُوذُ ففصل بين "فيه" و"لساني" وبين ما يتعلقان به وهو وضعت "بإليّ" وهو أجنبي، لأنه متعلق بما قبل الموصول وهو "أبغض" والأصل أن يقال: وأبغض من وضعت فيه لساني إليّ معشرٌ. ومثال ورود الصلة مشتركا فيها قول الشاعر: صِلِ الذي والتي مِنّا بآصرة ... وإن نأتْ عن مدى مرماهما الرحمُ ومثال ورودها مدلولا بها على ما حذف قوله: وعند الذي واللات عُدنك إحنة ... عليك فلا يغررك كيدُ العوائد ومثله قول الآخر: من اللواتي والتي واللاتي ... يزعمن أني كبرت لِداتي وإذا كان الموصول "الألف واللام" لم يجز حذفه ولا حذف صلته. وإذا كان حرفا مصدريا لم يجز حذفه أيضا، إلا إذا كان "أنْ" فإنها فاقت أخواتها بكثرة الاستعمال، فأوثِرَتْ بجواز الحذف، لأن الشعور بها عند حذفها ممكن، بخلاف أخواتها، وهي في حذفها على ضربين: أحدهما أن تحذف ويبقى عملها، والثاني أن تحذف ولا يبقى لها عمل: فأما الحذف الباقي معه عملها فيذكر إن شاء الله في باب إعراب الفعل.

وأما الثاني وهو الذي لا يبقى معه عملها فمنه قوله تعالى (ومن آياته يريكم البرق) فيريكم صلة (لأن) حذفت وبقي (يريكم) مرفوعا، وهذا هو القياس، لأن الحرف عامل ضعيف، فإذا حذف بطل عمله، ومن ذلك أيضا قول الشاعر: فجاءت به وهو في غربة ... فلولا تُجاذبُه قد غلب أراد: فلولا أن تجاذبه، ومثله قول الفرزدق: ألا إنّ هذا الموتَ أضحى مسَلَّطا ... وكلُّ امرئ لا بُدَّ يُرْمى مُقاتله وقال ذو الرمَّة: وحُقَّ لِمَنْ أبو موسى أبوه ... يُؤَفقُّه الذي نَصَب الجِبالا ومثله قول الآخر: أو ليس من عجب أسائلكم ... ما خطبُ عاذِلتي وما خطبي أراد أن أسائلكم، وقال الفرزدق: بحقِّ امرئٍ بين الأقارع بيتُه ... وصعْصَعَةَ البحرِ الجزيل المواهب يكون سبوقا للكرام إلى العلا ... إذا اتصل المقياس بين الحلائب المقياس الغاية والحلائب المسابقة ومثله: وقالوا ما تشاءُ فقلت ألهُو ... إلى الإصباح آثِرَ ذي أثير

أراد أن ألْهُوَ. ومن كلام بعض العرب: أذهبُ إلى البيت خيرٌ لي، وتزورني خيرٌ لك، وتسمعُ بالمعيدي خيرٌ لا أن تراه. وإذا كان الموصول اسما أجاز الكوفيون حذفه إذا علم، وبقولهم في ذلك أقول، وإن كان خلاف قول البصريين إلا الأخفش، لأن ذلك ثابت بالقياس والسماع، فالقياس على "أنْ" فإنَّ حذفها مكتفًى بصلتها جائز بإجماع مع أن دلالة صلتها عليها أضعف من دلالة صلة الموصول من الأسماء عليه، لأن صلة الاسم مشتملة على عائد يعود عليه ويميل المذهب إليه، وفي ذلك مزيد على ما يحصل بالصلة. وصلة الحرف لا مزيد فيها على ما يحصل بها، فكان الموصول الأسمى أولى بجواز الحذف من الموصول الحرفي. وأيضًا فإن الموصول الاسمي كالمضاف، وصلته كالمضاف إليه، وحذف المضاف إذا علم جائز، فكذلك ما أشبهه. وأما السماع فمنه قول حسان: فوالله ما نِلتُم ولا نِيلَ منكم ... بمُعْتَدلٍ وَفْقٍ ولا متقارِبِ أراد: ما الذي نلتم وما نيل منكم. ومنه قول بعض الطائيين: ما الذي دَأبُهُ احتياط وحزم ... وهواه أطاع يستويان أراد: والذي هواه أطاع، وأقوى الحجج قوله تعالى (وقُولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) أي: وبالذي أنزل إليكم، ليكون مثل (آمِنُوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزلَ من قبل). ومثال حذف صلة الاسم للعلم بها قول الشاعر:

أبِيدوا الألى شَبُّوا لَظى الحرب وادرَءُوا ... شذاها عن اللائي فَهُنّ لكم إما فحذف صلة اللائي للعلم بها، وهذا من الاستدلال بالمتقدم، وهو كثير في ذا الباب وغيره. ومثله قول الشاعر: أُصيب به فَرْعا سُلَيْمٍ كلاهما ... وعزّ علينا أن يُصابا وعَزَّما أي وعزَّ ما أصيبا به. ومن الاستدلال في هذا بالمتأخر قول الشاعر: نحنُ الألى فاجْمَعْ جمو ... عَك ثم وَجِّههم إلينا فحذف صلة الألى لدلالة ما بعده فكأنه قال: نحن الألى عرفت عدم مبالاتهم بأعدائهم، وفهم هذا بقوله: فاجمع جموعك ثم وجههم إلينا. ومثال حذف صلة الحرف باقيا معمولُها قول العرب: لا أفعل ذلك ما أنَّ حِراء مكانه، وما أن في السماء نجما، أي ما ثبت أن حراء مكانه، وما ثبت أن في السماء نجما فحذفوا الفعل الموصول به وأبقوا فاعله، وهو أنّ وما عملت فيه. ومن ذلك قولهم: أمّا أنت منطلقا، أي: لأن كنت، فحذفوا كان وهي صلة أنْ، وأبقوْا اسمها وهو أنت، وخبرها وهو المنصوب، وجعلوا ما عوضا من كان. ومن ذلك أيضا قول العرب: كلُّ شيء مَهَهٌ ما النساءَ وذكرَهن، أرادوا: ما عدا النساءَ وذكرهن، فحذفوا صلة "ما" وهو "عدا" وأبقَوْا المنصوب به والمعطوف عليه. وقد يلي الموصولَ معمولُ الصلة نحو قولك في: جاء الذي أعطى أبوه زيدا درهما:

جاء الذي زيدا درهما أعطى أبوه، فجاء هذا في صلة الذي، إذ لا ضرر في جوازه، بخلاف صلة الحرف وصلة "الألف واللام" فإن معمولها لا يتقدم عليها. فأمّا الحرف فلأن امتزاجه بصلته أشدُّ من امتزاج الاسم بصلته، لأن اسميته منتفية بدونها، فلو تقدم معموله كان تقدمه بمنزلة وقوع كلمة بين جزأي مصدر، وليس كذلك تقدم معمول صلة الاسم غير الألف واللام، لأن له تماما بدونها، ولذلك جعل إعرابه إن كان معربا قبلها، والإعراب الاسمي قبل تمام المعرب. ولما له من التمام بدونها جاز أن يستغنى عنها وعن معمولها إذا علمت، بخلاف الموصول الحرفي، فأما "الألف واللام" فامتزاجها بالصفة التي توصل بها أشد من امتزاج أنْ بالفعل الذي توصل به، لأن "أن" قد تفصل من الفعل بلا النافية كقوله تعالى (وحسبوا أن لا تكون فتنة) ولا تفصل الألف واللام من الصفة بلا ولا غيرها، لأنها أشبهت أداة التعريف، فعوملت معاملتها لفظا. ويجوز تعليق حرف جر قبل الألف واللام بمحذوف تدل عليه صلتها كقوله تعالى (وكانوا فيه من الزاهدين) و (إني لعملكم من القالين) و (إني لك من الناصحين) أي: كانوا زاهدين فيه من الزاهدين، وإني قال لعملكم من القالين، وإني ناصح لك من الناصحين. ويكثر هذا الحذف قبل الألف واللام داخلا عليه من التبعيضية، لأن في ذلك إشعارا بأن المحذوف بعض المذكورين بعد، فتقوى الدلالة عليه. ويقل إذا لم تدخل مِنْ على الألف واللام، ومنه قول الشاعر: تقول ودَقتْ صدرَها بيمينها ... أبَعْلِيَ هذا بالرَّحَى المتقاعسُ أراد: بعلي هذا كائنا بالرحى، ومتقاعسا بالرحا.

وكذلك يقل الحذف قبل غير الألف واللام، وُجِدَت مِنْ أو لم تُوجَد، ومثال ذلك مع وجود مِنْ قول الشاعر: لا تظلموا مِسْورا فإنه لكُمُ ... من الذين وَفوْا في السرِّ والعَلَن ومثاله مع كون الموصول لم يجر بمن قول الشاعر: وأهْجُو مَنْ هجاني مِنْ سِواهم ... وأُعْرِضُ منهم عمَّن هجاني أراد: وأعرض عمن هجاني منهم عمن هجاني منهم، على سبيل التوكيد، ثم حُذِف (منهم) من المُؤَكِّد، وحُذِف ما سواهما من المُؤكَّد، ومثال هذا والذي قبله لا يجوز إلا في الضرورة بخلاف ما تقدم.

باب اسم الإشارة ص: وهو في القُرب مفردا مذكرا "ذا" ثم "ذاك" ثم "ذلك" و"آلك". وللمؤنثة "تي" و"تا" و"تِهْ" و"ذي" و"ذِهْ" وتُكسَرُ الهاءان باختلاس وبإشباع. و"ذاتُ" ثم "تِيكَ" و"تَيْكَ" و"ذِيكَ" ثم "تِلك" و"تَلكَ" و"تَيْلِكَ" و"تالِكَ". ش: للنحويين في أسماء الإشارة مذهبان: أحدهما: أن لها مرتبتين، قريبة وبعيدة كالمنادى. والثاني: أن لها ثلاث مراتب، قريبة وبعيدة ومتوسطة، وهذا هو المشهور، وإن كان الأول أولى بالصواب، وسأبين ذلك إن شاء الله تعالى. وقد سردتها على وفق المشهور لأنه السابق إلى أكثر الأذهان، فما عطفته بالواو فهو لغة فيما عطف عليه وفي مرتبته، وما عطفته بثم فهو في المرتبة التي تلي. والحاصل أن المشار إليه في المرتبة الأولى إن كان مفردًا ولم يقصد معه تثنية فله في التذكير لفظ واحد وهو "ذا". وله في التأنيث عشرة ألفاظ، خمسة بتاء وخمسة بذال والتي بالتاء: تي، وتا، وتِهْ بسكون أو كسر مختلس أو كسر مشبع. والتي بالذال: ذي، وذات، وذِهْ بسكون أو كسر مختلس أو كسر مشبع. وإن كان المشار إليه المفرد في المرتبة الثانية، ولم يقصد معه تثنية فله في التذكير لفظ واحد وهو "ذاك" وله في التأنيث ثلاثة ألفاظ وهي: تيك وتَيْك وذِيك. وإن كان المشار إليه المفرد في المرتبة الثالثة فله في التذكير لفظان وهما: ذلك وآلك. وله في التأنيث أربعة ألفاظ وهي: تِلك وتَلك، وتِيلِك وتالِك، كلها مروية عن العرب إلا أن بعضها أشهر من بعض. ص: وتلي الذّالَ والتاءَ في التثنية علامتها مجوّزا تشديد نُونِها، وتليها الكاف وحدها في غير القرب، وقد يقال "ذانِيكَ" وفي الجمع مطلقا أولاء، وقد ينون،

ثم أولئك، وقد يقصران، ثم أولالِك على رأيٍ، وعلى رأيٍ أولاءِ، ثم أولاك، ثم أولئك وأولالِكَ. وقد يقال: هُلاءِ، وأولاءُ، وقد تُشْبَعُ الضمةُ قبل اللام، وقد يقال: هَوْلاءِ وألاَّك. ش: لما أنهيت القول في مفرد المشار إليه، شرعت في مثناه وجمعه باعتبار المراتب، وأشرت بقولي "وتلي الذالَ والتاءَ في التثنية علامتُها" إلى أن ألفي "ذاوتا" تحذفان في التثنية، وتتصل بالذال من "ذا" وبالتاء من" تا" ألف في الرفع، وياء في الجر والنصب، بعدهما نون مكسورة، كما يفعل بالأسماء المتمكنة إذا ثنيت، إلا أن هذه التثنية مخالفة لتثنية الأسماء المتمكنة بأمرين: أحدهما: حذف الألف التي كانت آخر المفرد لزوما، ومثل ذلك لا يفعل باسم متمكن إلا شذوذا. والثاني: أن نون هذه التثنية يجوز تشديدها، ونون تثنية الاسم المتمكن لا يجوز تشديدها، وقد مضى الكلام على مثل ذلك في باب الموصولات. والهاء من قولي "وتليها الكاف" عائدة على نونها. وقلت "وحدها في غير القرب" ليعلم أن اللام تجتمع مع الكاف في التثنية كما اجتمعت في الإفراد، وأنّ لِمُثَنَّى المشار إليه في البعد ما له في التوسط، لأنهم استثقلوا اللام بعد النون. وزعم قوم أن من قا ل "ذانِّك" بتشديد النون قصد تثنية "ذلك". ويبطل هذا القولَ جوازُ التشديد في نون "ذين وتين" بل التشديد جابر لما فات من بقاء

الألف التي حقها ألا تحذف كما لا تحذف ألف المقصور. ويؤيد صحة هذا الاعتبار جواز تشديد نون "اللذين واللتين" ليكون جابرا لما فات من بقاء ياء "الذي والتي" كما تبقى ياء المنقوص حين يثنى. وإذا جمع اسم الإشارة وهو في المرتبة الأولى قيل فيه "أُولاءِ" مطلقا، أي في التذكير والتأنيث، عاقلا كان المشار إليه أو غير عاقل. وحكى قطرب أن "أولاءٍ" بالتنوين لغة، وتسمية هذا تنوينا مجاز، لأنه غير مناسب لواحد من أقسام التنوين. والجيد أن يقال: أن صاحب هذه اللغة زاد بعد همزة "أولاء" نونا، كما زيد بعد فاء "ضيف" نون، إلا أن "ضيفا" معرب، فلما زيد آخرَه نونٌ صار حرف إعراب فتحرك، و"أولاء" مبني فلما زيد آخره نون سكن إذ لا موجب لتحركه، فإنه آخر مبني بحركة. وإذا كان جمع المشار إليه مجاوزا للمرتبة الأولى قيل فيه "أولئك" ثم "أولالك" على رأي قوم. وعلى رأي آخرين أن جمع المشار إليه في المرتبة الثالثة "أولئك وأولا لك" معا، وله في المرتبة المتوسطة "أولاك"، بالقصر. وقد حكى الفراء أن المدفى "أولاء وأولئك" لغة الحارثيين، وأن القصر فيهما لغة التميميين. وهذا هو المأخوذ به، لأن مستنده رواية، ومستند غيره رأي، والرواية أولى من الرأي. و"هُلاءِ" في "أولاء" من باب إبدال الهمزة هاء، وهو باب واسع. وأما "أولاءُ" بضم الهمزتين، و"وأولاءِ" و"أولئك" بإشباع الضمة فلغتان عربيتان ذكرهما قطرب.

وذكر أبو علي الشلوبين أن من العرب من يقول (هَوْلاءِ) وأنشد: تَجَلَّد لا يَقُلْ هَوْلاءِ هذا ... بَكَى لمَّا بَكَى حَذَرًا عليك وقال أبو علي أيضًا: حكى اللغويون (أولّاك) بالقَصْر والتشديد، وأنشد: مِنْ بين أولّاك إلى أولّاكا وقرأ ابن كثير في شاذ: (فذانِيك) بتخفيف النون وزيادة ياء. ص: ومن لم يرَ التوسط جعل المجرَّد للقرب، وغيرَه للبعد، وزعم الفرَّاء أنّ تركَ اللام لغة تميم. ش: المراد بالمجرد ما ليس معه كاف الخطاب، سواء كان معه التثنية أو لم تكن معه، وقد تقدم أن للنحويين في اسم الإشارة مذهبين: أحدهما أن له مرتبتين بعيدة وقريبة. والثاني: أن له ثلاث مراتب. والأول هو الصحيح، وهو الظاهر من كلام المتقدمين، ويدل على صحته أربعة أوجه: أحدها: أن النَّحويين مجمعون على أن المنادى ليس له إلا مرتبتان مرتبة للقرب تستعمل فيها الهمزة، ومرتبة للبعد وما هو في حكمه تستعمل فيها بقية الحروف. والمشار إليه شبيه بالمنادى، فليقتصر فيه على مرتبتين إلحاقا للنظير بالنظير. والثاني: أن المرجوع إليه في مثل هذا النقل لا العقل، وقد روى الفراء أن بني تميم يقولون: ذاك وتيك، بلا لام، حيث يقول الحجازيون: ذلك وتلك، باللام، وأن الحجازيين ليس من لغتهم استعمال الكاف بلا لام، وأن التميميين ليس من لغتهم استعمال الكاف مع اللام، فلزم من هذا أن اسم الإشارة على اللغتين ليس له

إلا مرتبتان: إحداهما للقرب، والأخرى لأدنى البعد وأقصاه. الثالث: أن القرآن العزيز ليس فيه إشارة إلا لمجرد من اللام والكاف معًا، أو لمصاحب لهما معًا. أعني غير المثنى والمجموع، فلو كانت الإشارة إلى المتوسط بكاف لا لام معها لكان القرآن العزيز غير جامع لوجوه الإشارة، وهذا مردود بقوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء). الرابع: أن التعبير "بذلك" عن مضمون كلام على إثر انقضائه شائع في القرآن وغيره ولا واسطة بين النطقين، كقوله تعالى (ذكل ما كنا نبغي) و (ذلك ليعلم أني لم أخُنْه) و (ذلك تأويلُ ما لم تسطع عليه صبرا) و (ذلكم حكم الله). الخامس: أنه لو كانت مراتب الإشارة ثلاثًا لم يكتف في باقي التثنية والجمع بلفظين، لأن في ذلك رجوعًا عن سبيل الإفراد، وفي اكتفائهم بقولهم "هذان وذانك" و"هؤلاء وأولئك" دليل على أن "ذاك وذلك" مستويان، وأن ليس للإشارة إلا مرتبتان. ولا التفات إلى قول من قال: إن تشديد نون ذانك دليل على البعد، وتخفيفها دليل على القرب، لأنه قد سبق الإعلام بأن التشديد عوض مما حذف من الواحد، لأنه يستعمل مع التجريد من الكاف كما يستعمل مع التلبس بها.

وكذلك لا يلتفت إلى قول من زعم أن "أولا لك" للبعد دون "أولئك" لقلة "أولا لك" وكثرة الحاجة إلى جمع "ذلك" لأنه يلزم منه خلو القرآن من إشارة إلى جماعة بعُداء، وذلك باطل بمواضع كثيرة من القرآن، فثبت ما أردناه والحمد لله. ص: وتصحَبُ هاءُ التنبيه المجرّد كثيرا، والمفردَ المقرونَ بالكاف دون اللام قليلا. وفَصْلها من المجرد "بأنا" وأخواتِه كثيرٌ، وبغيرها قليل، وقد تعاد بعد الفصل توكيدا. والكافُ حرف خطاب يُبَيِّن أحوال المُخاطَب بما يُبَيِّنُها إذا كان اسما. وقد يغني ذلك عن ذلكم، وربما استغني عن الميم بإشباع ضمة الكاف. ش: قد تقدم أن المراد بالمجرد ما لم تتصل به كاف الخطاب فيدخل في ذلك "ذا وذان وذي وأخواتها". و"تان وأولا وأولاء" فيقال: هذا، وهذان، وهذي إلى العاشرة، وهاتان وهؤلا وهؤلاء. ولا تلحق المقرون بكاف الخطاب إلا مجردًا من اللام، وعدم لحاقها إياه أكثر من لحاقها. ومن لحاقها إياه قول طرفة: رأيتُ بني غَبْراءَ لا يُنْكِرونني ... ولا أهلُ هذاكَ الطرافِ الممدد ومثله قول الآخر: ياما أُمَيْلح غِزلانا شَدَنْ لنا ... من هؤُليّائِكُن الضّالِ والسَّمُر ولا تلحق المقرون باللام فلا يقال هذالك، كرهوا كثرة الزوائد ولا تلحق أيضًا المقرون بالكاف في التثنية والجمع فلا يقال: هذانك، ولا هؤلائك لأن واحدهما ذاك وذلك، فحمل على ذلك مثناه وجمعه لأنهما فرعاه

وحمل عليهما مثنى ذاك وجمعه لتساويهما لفظًا ومعنى. وفصل هاء التثنية من اسم الإشارة المجرد بأنا وأخواته كقولك: هأنذا، وها نحن أولاء، إلى: هاهنّ أولاء. ومنه قول السائل عن وقت الصلاة: "هأنذا يا رسول الله" وقوله تعالى (ها أنتم أولاء تحبونهم) ومثل الفصل بغير ذلك قول الشاعر: ها إنّ ذي عِذْرَة إن لا تكنْ نَفَعت ... فإن صاحبَها مُشارك النَّكد وأنشد سيبويه: ونحنُ اقْتسمنا المالَ نصفين بيننا ... فقلتُ لهم هذا لها ها وذا لِيا قال سيبويه: كأنه أراد أن يقول: وهذا لي، فصير الواو بين "ها" و"ذا" وزعم الخليل أن مثل ذلك: أي ها الله ذا. وقال سيبويه: وقد تكون "ها" في: ها أنت ذا، غير مقدمة، ولكنها تكون للتنبيه بمنزلتها في "هذا" يدلك على ذلك قوله تعالى "ها أنتم هؤلاء" فلو كانت "ها" المتقدمة مصاحبة أولاء لم تعد مع أولاء. وإلى نحو "ها أنتم هؤلاء" أشرت بقولي "وقد تعاد بعد الفصل". والكاف حرف خطاب كتاء أنت، تدل على أحوال المخاطب في حرفيتها بما تدل في اسميتها، فيقال: ذاكَ وذاك وذاكم وذاكنّ، كما يقال: رأيتكَ ورأيتك ورأيتكما ورأيتكم ورأيتكنّ، فيستوي اللفظ بالحرفية والاسمية، كما استوى اللفظ بتاء أنت وتاء فعلت.

وقد يقال في خطاب جماعة الذكور كما يقال في خطاب الواحد، كقوله تعالى (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) و (ذلك خير لكم وأطهر) فأغنى ذلك عن ذلكم، ولم يُغن أنت عن أنتم. وذلك أن "الذال والألف" قد يستغنى بهما عن الكاف عند تقدير القرب أو قصد الحكاية كقوله تعالى (هذا ما توعدون ليوم الحساب) و (هذا من شيعته وهذا من عدوه) و (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) فجاز الاستغناء بالكاف عن مصحوبها، ولا يستغنى بالهمزة والنون عن التاء، فلم يجز الاستغناء بالتاء عن الميم. وأشرت بقولي "وربما استغنى عن الميم بإشباع ضمة الكاف" إلى ما أنشده بعض الكوفيين من قول الراجز: وإنما الهالك ثم التالكُ ... ذو حَيْرة ضاقت به المسالكُ ... كيف يكون النوْك إلا ذلكُ أراد: ذلكم فأشبع الضمة واستغنى عن الميم بالواو الناشئة عن الإشباع. ص: وتتَّصل "بأَرأَيت" موافقة "أخْبِرْني" هذه الكاف، مُغْنيًا لحاقُ علامات الفروع بها عن لحاقها بالتاء، وليس الإسنادُ إليها مُزالا عن التاء خلافا للفرّاء، وتتصل أيضا بحيَّهل، والنَّجاء، ورُوَيد، أسماء أفعال. وربما اتصلت بِبَلى، وأبْصَرَ، وكَلاّ، وليس، ونعْم، وبِئْس، وحسبت. ش: إذا أريد "بأرأيت" معنى "أخْبرني" جاز أن تتصل به كاف الخطاب وألا تتصل به، فإن لم تتصل به وجب للتاء ما يجب لها مع سائر الأفعال من تذكير

وتأنيث وتثنية وجمع، ومنه قوله تعالى (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم). وإن اتصلت به اسْتُغْنِيَ بما يلحق الكاف من علامة تأنيث وتثنية وجمع عما يلحق التاء، وألزمت التاء ما يلزمها في خطاب المفرد المذكر، ومنه قوله تعالى (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله). ولو كان الخطاب لاثنين بهذا المعنى لقيل: أرأيتَكما. ولو كان لأنثى لقيل: أرأيتَكِ. ولو كان لإناث لقيل: أرأيتَكنَّ. فيلزم التاء الفتح، ويلزم الكاف التحريك. والكاف في هذا كله حرف خطاب لا موضع له من الإعراب. واستدل سيبويه على ذلك بقول العرب: أريتَكَ فلانا ما حاله. ومنه قوله تعالى (أرأيتَك هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ). وزعم الفراء أن موضعه رفع بالفاعلية، وأن التاء حرف خطاب. والقول الأول أولى، لأن التاء لا يستغنى عنها والكاف يستغنى عنها، وما لا يستغنى عنه أولى بالفاعلية مما يستغنى عنه. ولأن التاء محكوم بفاعليتها على غير هذا الفعل بإجماع والكاف بخلاف ذلك، فلا يعدل عما ثبت لهما دون دليل. فلو لم يُرَد بأرأيت معنى أخبرني وجب للتاء والكاف مجتمعَيْن ما يجب لهما منفردين فيقال: أرأيتَكَ قادرًا، وأرأيتِكِ قادرة، وأرأيتكما قادرين، وأرأيتموكم قادرين، وأرأيتنكن قادرات، كما يقال أعلمتك قادرا وأعلمتماكما قادرين، وأعلمتموكم قادرين، وأعلمتك قادرة، وأعلمتماكما قادرتين وأعلمتنكن قادرات. ومثال اتصال الكاف المذكورة بحَيَّهَل، والنَّجاءن ورُوَيْد: حَيَّهلَك،

والنجاءَكَ ورُوَيْدَك، بمعنى: ائت، وأسرع، وأمهل. وروى أيضًا اتصالها ببلى، وأبصر، وكَلاّ، وليس، ونعم، وبئس، وحسِب، أنشد أبو علي: وحِنْتَ وما حَسِبْتُك أن تَحِينا وأجاز أن تكون فيه حرف خطاب، وحمله على ذلك وجود "أنْ" بعدها، فإنه إن يكن الأمر كما قال لزم الإخبار بأن والفعل عن اسم عين، وذلك لا سبيل إليه في موضع يخبر عنه فيه بمصدر صريح نحو: زيد رضًى، فكيف به في موضع بخلاف ذلك. ص: وقد ينوب ذو البعد عن ذي القرب لعظمة المشير أو المشار إليه، وذو القرب عن ذي البعد لحكاية الحال، وقد يتعاقبان مُشارا بهما إلى ما قد ولِياه، وقد يشار بما للواحد إلى الاثنين وإلى الجمع. ش: من نيابة ذي البعد عن ذي القرب لعظمة المشير قوله تعالى (وما تلك بيمينك يا موسى). ومن نيابته عنه لعظمة المشار إليه قوله تعالى (ذلكم الله ربي) ومنه قول امرأة العزيز مُشِيرةً إلى يوسف عليه السلام (فذلِكُنّ الذي لُمتُنَّنِي فيه) بعد أن أشارت إليه النسوة بهذا إذ قلن (ما هذا بَشَرًا) والمجلس واحد، إلا أن مَرْأى يوسف عند امرأة العزيز كان أعظمَ من مَرْآه عند النسوة، فأشارة إليه بما يشار به إلى البعيد إجلالا وإعظاما.

ومن نيابة ذي القرب عن ذي البعد لحكاية الحال قوله تعالى (كُلًّا نُمِدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) وقوله تعالى (فوَجد فيها رجلين يَقْتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه). وأما تعاقب ذي القرب وذي البعد على إثر ما الإشارة إليه فكقوله تعالى متصلا بقصة عيسى عليه السلام (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) ثم قال (إنّ هذا لهو القَصص الحق) ومنه قوله تعالى (لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين) وقوله تعالى (وعندهم قاصرات الطرف أتراب* هذا ما تُوعَدُون ليوم الحساب) ومنه (إن في ذلك لذكرى) و (إن في هذا لبلاغا). والإشارة بما للواحد إلى الاثنين كقوله تعالى (عَوانٌ بين ذلك) أي بين الفارض والبكر، ومنه قول الشاعر: إن الرَّشادَ وإن الغَيَّ في قَرَنٍ ... بكل ذلك يأتيك الجديدان والإشارة بما للواحد إلى الجمع كقول لبيد: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناسِ كيفَ لبيدُ

اسم الإشارة

ومثله قول مسكين الدارمي: وبينا الفتى يرجو أمورا كثيرة ... أتى قدر من دون ذاك مُتاح ص: ويشار إلى المكان "بهُنا" لازمَ الظرفية أو شِبْهها، معطى ما "لذا" من مُصاحبة وتجَرُّد، وكهنالك "ثَمَّ" و"هنّا" بفتح الهاء وكسرها، وقد يقال "هَنَّتْ" موضع "هنّا" وقد تصحبها الكاف. وقد يراد بهنالك وهناك وهَنّا الزمان. وبُني اسمُ الإشارة لتَضمّنِ معناها، أو لشَبَه الحرف وضعا وافتقارا. ش: من قال في الإشارة إلى الشخص القريب "ذا" قال في الإشارة إلى المكان القريب "هُنا" دون تنبيه ولا خطاب، ومن رأى مصاحبة التنبيه فقال: هذا، قال: "ههنا". ومن قال: ذاك، قال: هناك. ومن قال: ذلك، قال: هنالك. ومن سَوَّى: ذاك وذلك، مُلْغيا للتوسط، سَوَّى: هناك وهنالك ومن لم يُسَوِّهما معترفا بالتوسط، لزمه مثل ذلك في: هناك وهنالك: ومن قال: هذاك، جامعا بين التنبيه والخطاب، قال: ههناك. ولا يقال: ههنالك، كما لا يقال: هذا لك. ويشار أيضًا إلى المكان البعيد بثَمَّ، وهَنّا، وهِنّا، كما يشار إليه بهنالك، وقد يقال: هَنّاك وهِنّاك. وقد يقال: هَنَّتْ، موضع هنّا. ومن شواهد هنّا قول الشاعر: كأنّ وَرْسا خالطَ اليَرَنّا ... خالطه مِن هَهُنا وهِنّا ومن شواهد هَنَّتْ قول الآخر: وذكرها هَنّت ولات هنّتِ أراد: هنا، ولات هنا.

وكل هذه الأسماء المشار بها إلى المكان لا تفارق الظرفية إلا بدخول مِنْ أو إلى عليها، وإلى ذلك أشرت بقولي (لازم الظرفية أو شبهها) لأن حرف الجر والمجرور بمنزلة الظرف. وقد يشار بهناك وهنالك وهنا إلى الزمان، فمن الإشارة إليه بهناك قول الأفوه الأودى: وإذا الأمورُ تعاظمت وتَشابهت ... فهناك يعترفون أينَ المَفْزع ومن الإشارة بهنالك قوله تعالى (هناك ابتُلِي المؤمنون وزُلزلوا زلزالا شديدا) ومنه قول الشاعر: إذا هِيَ قامتْ حاسِرًا مُشْمَعِلَّةً ... نَخِيبَ الفُؤادِ رأسُها ما يُقَنَّع وقمتُ إليه باللِّجام مُيسِّرًا ... هنالِك يجزيني الذي كنتُ أصنع ومن الإشارة إلى الزمان بهَنّا قول الشاعر: حَنَّت نَوارِ ولات هَنّا حَنَّت ... وبدا الذي كانت نَوارِ أجَنَّت فهنّا إشارة إلى وقت، وهو منصوب على الظرفية، وحَنت في موضع رفع بالابتداء، والخبر الظرف، وهذا أحد المواضع المخبر فيها عن الفعل مؤولا بالمصدر. وزعم بعض المتأخرين أن "هنا" اسم لات، والتقدير: ليس ذلك الوقت وقت حنت، أي وقت حنان. وليس ما زعم صحيحا لأن هذا الاستعمال مخالف لاستعمال "لات" الملحقة بليس، ولاستعمال "هنا"، فإن "لات" إنما يكون

اسمها لحين محذوفا كقوله تعالى (ولاتَ حين مناص) أي: وليس الحين حين مناص، وهنا بخلاف ذلك، فلا يكون اسم لات. وأيضا فإن "هَنا" لا تفارق الظرفية إلا بدخول "من" أو "إلى" عليها، وارتفاعه على أن يكون اسم لات مناف لذلك، فلا يصح. والضمير من قولي "لتضمنِ معناها" عائد على الإشارة، فإن معناها حقيق بأن يوضع له حرف يدل عليه، كما وضع للتنبيه والاستفتاح وغيرهما من المعاني الزائدة على مدلولات الأسماء والأفعال، فاستغنوا عن وضع حرف إشارة بتضمُن أسماء لمعناها، فلذا يحد اسم الإشارة بأنه: الدال بالوضع على مسمى والإشارة إليه. واستحق البناء لتضمنه معنى من المعاني الحرفية، وإذا كان الاسم يستحق البناء لتضمن معنى حرف لم يستغن به عن وضعه كاسم الاستفهام، فبناء ما تضمن معنى حرف استغنى عنه به كاسم الإشارة أحق وأولى. وهذا السبب يقتضي بناء كل اسم إشارة. ولكن عارضه في ذين وتين شبههما بمثنيات الأسماء المتمكنة، فأعربا، وقد تقدم التنبيه على ذلك وشبهه. وأما الشبه في الافتقار فالمراد به هنا حاجة اسم الإشارة في إبانة مسماه إلى مواجهة أو ما يقوم مقامها مما يتنزل منه منزلة الصلة من الموصول، وهذا أيضا سبب عام. وأما الشبه في الوضع فالمراد به كون "ذا" و"ذي" وأخواتها موضوعة على حرفين. وذلك من وضع الحروف، فاستحقت البناء بذلك، وحملت البواقي عليها لأنها فروع أو كالفروع. وإنما قلت "أو كالفروع" لأن منها "هنا" وأخواتها، وليست فروعا "لذا" و"ذي" ولكنها كالفروع، ولإمكان الاستغناء عنها "بذا" أو "ذي" والمستغنى به أصل للمستغنى عنه.

باب المُعَرَّف بالأداة ص: وهي "أل" لا اللام وحدها، وفاقا للخليل وسيبويه، وقد تخلفها "أم" وليست الهمزة زائدة، خلافا لسيبويه. ش: قد اشتهر عند المتأخرين أن أداة التعريف هي اللام وحدها، وأن المعبِّر عنها "بالألف واللام" تارك لما هو أولى، وكذا المعبر عنها "بأل" حتى قال ابن جني "ذكر عن الخليل أنه كان يسميها "أل" ولم يكن يسميها "الألف واللام" كما لا يقال في قد: القاف والدال. قلت: قد عبر سيبويه عن أداة التعريف "بأل" كما فعل الخليل، فإنه قال في باب: عدة ما يكون عليه الكلم: "وقد جاء على حرفين ما ليس باسم ولا فعل" فذكر: أم وهل ولم ومن وما ولا وأن وكي وبل وقد وأو ويا، ومن ثم قال: "وأل تعرف الاسم كقولك: القوم والرجل" معبرا عنهما بأل، وجعلها من الحروف الجائية على حرفين كأم وأخواتها. وقال في موضع آخر: "وإنما هي حرف بمنزلة قولك قد" ثم قال: "ألا ترى أن الرجل يقول إذا نسي فتذكر، ولم يرد أن يقطع كلامه: ألى، كما يقول "قدى" ثم يقول: "كأل وكأل" وهذا نصه، وهو موافق لما روى عن الخليل، فلولا أنه نسبها إلى الزيادة في موضع آخر لحكمت بموافقته الخليل مطلقا، إلا أن الخليل يحكم بأصالة الهمزة، وأنها مقطوعة في الأصل كهمزة "أم" و"أن" و"أو".

وسيبويه مع حكمه بزيادتها يعتد بها كاعتداده بهمزة "اسمع" ونحوه بحيث لا يعده رباعيا فيعطى مضارعه من ضم الأول ما يعطى مضارعه الرباعي للاعتداد بهمزته وإن كانت همزة وصل زائدة، فكذا لا يعد لام التعريف وحدها مع القول بأن همزتها همزة وصل زائدة. على أن الصحيح عندي، قول الخليل لسلامته من وجوه كثيرة مخالفة للأصل، وموجبة لعدم النظائر: أحدها: تصدير الزيادة فيما لا أهلية فيه للزيادة وهو الحرف. الثاني: وضع كلمة مستحقة للتصدير على حرف واحد ساكن، ولا نظير لذلك. الثالث: افتتاح حرف بهمزة وصل ولا نظير لذلك أيضا. الرابع: لزوم فتح همزة وصل بلا سبب، ولا نظير لذلك أيضًا. واحترزت باللزوم ونفي السبب من همزة "أيمن" في القسم فإنها تفتح وتكسر، وكسرها هو الأصل، ففتحت لئلا ينتقل من كسر إلى ضم دون حاجز حصين، ولم تضم لئلا تتوالي الأمثال المستثقلة. فإن جعِلَ فتحُ همزة حرف التعريف طلب التخفيف لأجل الاستعمال لزم محذور آخر وهو أن التخفيف مصلحة تتعلق باللفظ فلا يترتب الحكم عليها إلا بشرط السلامة من مفسدة تتعلق بالمعنى كخوف اللبس، وهو هنا لازم، لأن همزة الوصل إذا فتحت التبست بهمزة الاستفهام، فيحتاج الناطق بها إلى معاملتها بما يليق بها من إبدال وتسهيل ليمتاز الاستفهام عن الخبر، وذلك يستلزم وقوع البدل حيث لا يقع المبدل منه، لأن همزة الوصل لا تثبت إذا ابتدئ بغيرهان فإذا أبدلت أو سهلت بعد همزة الاستفهام وقع بدلها حيث لا تقع هي، وذلك ترجيح فرع على اصل أفضى إليه القول بأن همزة "أل" همزة وصل زائدة فوجب اطراحه. الخامس: أن المعهود الاستغناء عن همزة الوصل بالحركة المنقولة إلى الساكن نحو: رَزيدا، والأصل: ارْءَ، فنقلت حركة الهمزة إلى الرَّاء، واستغنى عن همزة الوصل، ولم يفعل ذلك بلام التعريف المنقول إليه حركة إلا على شذوذ، بل يبتدأ بالهمزة

على المشهور من قراءة ورش في مثل: الإخوة، وذلك في مثل: رَزيدا، لا يجوز أصلا، فلو كانت همزة أداة التعريف همزة وصل زائدة له لم يبدأ بها مع النقل، كما لا يبدأ بها الفعل المذكور. السادس: أنه لو كانت همزة أداة التعريف همزة وصل لم تقطع في: يا ألله، ولا في قولهم: فألله لأفعلنّ، بالقطع تعويضا من حرف الجر، لأن همزة الوصل لا تقطع إلا في اضطرار، وهذا الذي ذكرته قطع في الاختيار، روجع به أصل متروك، ولو لم يكن مراجعة أصل لكان قولهم: فألله لأفعلن، أقرب إلى الإجحاف منه إلى التعويض، إذ في ذلك جمع بين ما أصله أن يثبت، وإثبات ما أصله أن يحذف، فصح أن الهمزة المذكورة كهمزة: أم، وأن، وأو، لكن التزم حذفها تخفيفا إذا لم يبدأ بها ولم تَل همزة استفهام، كما التزم أكثر العرب حذف عين المضارع والأمر من رأي، وحذف فاء الأمر من أخذ وأكل، وهمزة أمّ في: ويْلمّه. واحتج بعض النحويين لسيبويه بأن قال: قد قيل: مررت بالرجل، فتخطى العامل حرف التعريف، فلو كان الأصل "أل" لكان في تقدير الانفصالن وكان يجب أن يقع قبل الجار، كما أن الحروف التي لا تمتزج بالكلمة كذلك، ألا ترى أنك تقول: هل بزيد مررت؟ ولا تقول: بهل زيدٍ مررت؟ فلولا أن حرف التعريف بمنزلة الزاي من زيد ما تخطاه العامل. والجواب: أن تقدير الانفصال لا يترتب على كثرة الحروف، بل على إفادة معنى زائد على المعنى المصحوب ولو كان المشعر به حرفا واحدا كهمزة الاستفهام، فإنها وإن كانت حرفا واحدا في تقدير الانفصال، لكون ما تفيده من المعنى زائدا على مصحوبها، غير ممازج له. وعدم تقدير الانفصال يترتب على إفادة معنى ممازج لمعنى المصحوب كسوف، فإنها وإن كانت على ثلاثة أحرف غير مقدرة الانفصال، لكون ما تفيد من المعنى ممازجا لمعنى الفعل الذي تدخل عليه. فإنها تعينه للاستقبال، وذلك تكميل لدلالته. وهكذا حرف التعريف غير مقدر الانفصال، وإن كان على حرفين، لأن ما أفاده من المعنى تكميل ليعين الاسم مسماه، فتنزل منزلة الجزء من مصحوبه

لفظا كما تنزل منزلة الجزء معنى، إلا أن امتزاج حرف التعريف بالاسم أشد من امتزاج سوف بالفعل لوجهين: أحدهما: أن معنى حرف التعريف لا يختص به بعض مدلول الاسم بخلاف معنى سوف فإنه مختص بأحد جزأي مدلول الفعل. والثاني: أن حرف التعريف يجعل الاسم المقرون به، شبيها بمفرد قصد به التعيين وضعا كالمضمر واسم الإشارة والعلم المرتجل، فلا يقدح في الامتزاج المعنوي كون المتمازجين بحرفين أو أكثر. وسوف وإن مازج معناها معنى مصحوبها لكن لا تجعله شبيها بمفرد قصد به وضعا ما قصد بها وبمصحوبها، لأن ذلك غير موجود. وقد ترتب على هذا امتناع الفصل بين حرف التعريف والمعرف به، ووقوعُه بين سوف والفعل المصاحب لها كقول الشاعر: وما أدري وسوف إخالُ أدري ... أقومٌ آل حِصْنٍ أم نساءُ وفعل ذلك أيضا بقد كقول الشاعر: لقد أرسلُوني في الكواعبِ راعيا ... فقد وأبي راعي الكواعب أفْرِسُ أراد: فقد أفرس راعي الكواعب وحق أبي، فسكن الياء وفصل. واحتج قوم على الخليل بأن قالوا: لما كان التنكير مدلولا عليه بحرف واحد وهو التنوين، كان التعريف مدلولا عليه بحرف واحد كذلك وهو اللام، لأن الشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره. وهذا ضعيف جدا لأن الضدين قد يتفقان في العبارة مطلقا كصَعُب صُعُوبة فهو صَعْب، وسَهُل سُهُولة فهو سَهْل. وقد يختلفان مطلقا كشَبع شِبَعا فهو شَبْعان، وجاع جُوعا فهو جائِع. وقد يتفقان من وجه ويختلفان من وجه كرَضِيَ رِضًا فهو رَاض، وسخط سُخْطا فهو ساخِط، والاختلاف أولى بهما ليكون سبيلهما في المعنى واللفظ واحد.

وإن سُلِّم حمل الشيء على ضده فيشترط تعذر حمله على نِدِّه، وقد أمكن الحمل عليه، فتعين الجنوح إليه. ونقول: التعريف نظير التأنيث في الفرعية، فاشتركا في استحقاق علامة، والتنكير نظير التذكير في الأصالة، فينبغي أن يشتركا في الخلو من علامة. فإن وضع للتنكير علامة فحقها أن تنقص عن علامة التعريف، تنبيها على أنه أحق بالعلامة لفرعيته وأصالة التنكير، وذلك موجب لكون علامة التعريف حرفين وهو المطلوب. وأيضا فإن التعريف طارئ على التنكير كطُرُوّ التثنية على الإفراد فيُسَوَّى بينهما بجعل علامة لكل واحد منهما حرفين، أحدهما يحذف في حال دون حال. وأيضا لما كانت "مِنْ" ذاتَ حرفين، ومدلولها العموم في نحو: ما فيها مِنْ رجلٍ، وكان حرف التعريف نظيرها في العموم سُوِّي بينهما، فكان حرف التعريف حرفين، تسوية بين النظيرين. ولما كانت اللام تدغم في أربعة عشر حرفا فيصير المعرف بها كأنه من المضاعف العين الذي فاؤه همزة، جعل أهل اليمن ومن داناهم بدلها ميما، لأن الميم لا تدغم إلا في ميم، وقد تقدم الاستشهاد على ذلك. ص: فإنْ عُهدَ مَدْلول مصحوبها بحضور حِسِّيٍّ أو علمِيٍّ فهي عَهْدية، وإلاَّ فجِنْسيَّة. ش: أشرت بالحُضُور الحسي إلى حضور ما ذُكِرَ كقوله تعالى (كما أرسلنا إلى فِرْعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) وإلى حضور ما أُبْصِرَ كقولك لمن سدّد سهما: القرطاسَ والله. وبالحضور العلمي إلى نحو قوله تعالى (اليومَ أكملتُ لكم دينكم) و

(إذ هما في الغار) و (إذ ناداه ربُّه بالوادِ المقدسِ) و (إذْ يبايعونك تحت الشجرة). ثم قلت "وإلا فجنسية" أي إن لا يكن المدلول عليه بمصحوب الأداة معهودا بأحد الحضورين المبينين بالأداة فهي جنسية. ص: فإنْ خَلَفها كلٌّ دون تجَوُّز فهي للشُّمول مطلقا، ويُسْتَثْنى من مصحوبها. وإن أفرد فباعتبار لفظه فيما له من نعت وغيره أوْلى. فإن خلفها تجَوُّزا فهي لشمول خصائص الجنس على سبيل المبالغة. ش: مثال التي يخلفها كلٌّ دون تجوز قوله تعالى (وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفًا) والمراد بكون الشمول مطلقا عموم الأفراد والخصائص، بخلاف التي يخلفها كل على سبيل التجوز كقولك: زيد الرجل، بمعنى الكامل في الرجولية، الجامع لخصائصها، فإن هذا تجوز لأجل المبالغة. ويستعملون كلًّا بهذا المعنى تابعا وغير تابع فيقولون: زيد كل الرجل، وزيد الرجل كل الرجل، وحكى الفراء عن العرب: أطعمنا شاة كل شاة. والشمول الحقيقي هو الأصل، ولذلك اسْتَغْنى عن قرينة، ولم يسْتَغنِ الثاني عنها. ومثال الاستثناء من مصحوبها قوله تعالى (والعصر* إن الإنسانَ لفي خسْر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فلولا أن أداة التعريف اقتضت شمول الحقيقة والإحاطة بأفرادها، لم يستثن الذين آمنوا من المعرف بها وهو الإنسان. والأكثر في نعت مصحوب الإحاطية وخبره موافقةُ اللفظ كقوله تعالى

(والجار ذي القُرْبى والجار الجُنُب) وكقوله تعالى (لا يَصْلاها إلا الأشقى* الذي كذب وتوى* وسيُجَنَّبُها الأتقى* الذي يُؤْتي ماله يَتَزكى). وموافقة المعنى دون اللفظ كقوله تعالى (أو الطفلِ الذين لم يظهروا على عورات النساء) وحكى الأخفش: أهْلَكَ الناسَ الدينارُ الحُمْر والدرهمُ البيضُ. ومن موافقة المعنى دون اللفظ ما هو من الأحد، أي من الناس، أنشد اللحياني: وليس يظلمُني في وَصْل غانية ... إلا كعمرٍو وما عمرٌو من الأحدِ قال اللحياني: ولو قلت: ما هو من الإنسان تريد من الناس أصبت. ص: وقد تعرِضُ زيادتُها في عَلمٍ، وحالٍ، وتمييزٍ، ومضافٍ إليه تمييزٌ. وربما زيدت فلزمت. والبدلية في نحو: ما يحسُنُ بالرجل خيرٍ منك، أولى من النعت والزيادة. وقد تقوم في غير الصلة مقام الضمير. ش: عروض زيادتها في علم كقول الشاعر: وقد جَنَيْتُك أكْمُؤًا وعَساقِلا ... ولقد نهيتك عن بناتِ الأوْبَرِ أراد بنات أوبر، وهو علم لضرب من الكمأة. وقال آخر: أما ودماءٍ مائراتٍ تخالها ... على قُنْةِ العُزَّى والنَّسْر عندَما

أراد نَسْرًا وهم صنم. وعروض زيادتها في الحال كقراءة بعض القراء (ليَخْرُجَنَّ الأعزُّ منها الأذَلَّ) أي ليخرجن العزيز منها ذليلا. وكقول بعض العرب: ادخلوا الأول فالأول، أي: أولا فأولا. ومنه قول الشاعر: دُمْتَ الحميدَ فما تَنْفَكُ مُنْتَصِرا ... على العِدا في سبيل المجدِ والكرم وعروض زيادتها في التمييز كقول الشاعر: رأيتُك لَمّا أن عرفتَ وجوهنا ... صدَدْت وطبتَ النفسَ يا قيسُ عن عمرو ومنه الحديث: أن امرأة كانت تهراق الدماء، والأصل: تهراق دماؤها، فأسند الفعل إلى ضمير المرأة مبالغة، وصار المسند إليه منصوبا على التمييز، ثم أدخل عليه حرف التعريف زائدًا. وعروض زيادتها على ما أضيف إليه تمييز كقول الشاعر: إلى رُدُحٍ من الشِّيزَى مِلاءٍ ... لبابَ البُرِّ يُلْبَك بالشِّهادِ أراد: لبابَ بُرٍّ وأنشد أبو علي: تُولي الضَّجِيعَ إذا تَنَبَّه مَوْهِنا ... كالأقحُوانِ من الرَشاش المُسْتقى

وزعم أن قائله أراد: من رشاش المستقى، فزاد الألف واللام، ولم يعتد بهما فلذلك أضاف إلى ما هما فيه. وهذا الذي ذهب إليه بعيد، ولكن يوجه البيت على أن قائله أراد: كالأقحوان المستقى من الرشاش المستقى، فحذف من الأول، وأبقى الثاني دليلا عليه، كما فعل من قال: تقولُ ودَقَّتْ صدرها بيمينها ... أبَعْلِيَ هذا بالرَّحى المُتقاعِسُ أراد: بعلي هذا المتقاعس بالرحى المتقاعس، ثم حذف، وهذا التوجيه نظائره كثيرة، ولا نظير لما وجه به أبو علي، فلذلك لم أقل بقوله. وأشرت بقولي "وبما زيدت فلزمت" إلى نحو: اليسع، والآن، والذي. وأشرت بقولي "والبدلية في نحو: ما يحسنُ بالرجل خيرٍ منك، أولى من النعت" إلى قول سيبويه في باب: "مجرى نعت المعرفة عليها" ومن النعت: ما يحسن بالرجل مثلك أو خير منك أن يفعل ذاك. وزعم الخليل أنه إنما جر هذا على نية الألف واللام. ولكنه موضع لا تدخله الألف واللام، كما أن الجَمّاء الغفيرَ على نية إلغاء الألف واللام نحو: "طرا وقاطبة" فحكم الخليل في المقرون بالألف واللام المتبع بمثلك وخير منك بتعريف المنعوت والنعت. وذهب أبو الحسن إلى أنهما نكرتان، وأن الألف واللام زائدتان في نية الاطراح. وعندي أن أسهل مما ذهب إليه الحكم بالبدلية، وتقرير المتبوع والتابع على ظاهرهما. وأشرت بقولي: وقد تقوم في غير الصلة مقام ضمير إلى نحو: مررت برجل حسنٍ الوجهُ، بتنوين حسن ورفع الوجه، على معنى: حسنٍ وجهُه، فالألف واللام

عوض من الضمير، وبهذا التعويض قال الكوفيون وبعض البصريين، وإن كان بعض المتأخرين قد عد هذه المسألة من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين. وأنكر ذلك أبو الحسن علي بن محمد بن علي المعروف بابن خروف وقال: لا ينبغي أن يجعل بينهما خلافٌ، لأن سيبويه قد جعل الألف واللام عوضًا من الضمير في قوله في باب البدل: "ضُرِبَ زيدٌ الظَهرُ والبطنُ" وهو يريد: ظهره وبطنه، ولم يقل الظهر منه ولا البطن منه. قلت: لما كان حرف التعريف بإجماع مغنيا عن الضمير في نحو: مررت برجل فأكرمت الرجل، جاز أن يغني عنه في غير ذلك لاستوائهما في تعيين الأول، ولذلك لم يختلف في جواز مررت برجل حسنٍ وجهُ أبيه، واختلف في جواز نحو: مررت برجل حسنٍ وجهُ أب، إذ ليس فيه ضمير ولا حرف تعريف، والمنع به أولى، وهو مذهب سيبويه. ومن ورود الألف واللام عوضا من الضمير قوله تعالى (فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيمَ هي المأوى* وأما من خاف مقام ربِّه ونَهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى) ذكر ذلك الأستاذ أبو الحسن بن خروف، وعزاه إلى جماعة من أئمة النحو، وعلى ذلك يحمل قوله تعالى (جنات عدن مُفَتّحةً لهم الأبواب) وزعم أبو علي والزمخشري أن الأبواب بدل من ضمير مستكن بمفتحة، وهذا تكلف يوجب أن يكون الأبواب مرتفعًا بمفتحة المذكور، على القول بأن العامل في البدل والمبدل منه واحد، أو بمثله مقدرا، على القول بأن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه. وعلى كل حال قد صح أن "مفتحة" صالح للعمل في الأبواب، فلا حاجة إلى تكلف إبدال. وأيضا فالحاجة إلى الضمير في بدل البعض كالحاجة في السبى المرفوع بما جرى على ما هو من سببه، فقد قامت الألف واللام مقام الضمير على كل تقدير.

قال ابن خروف: "وحمل أبو علي وغيره من المتأخرين هذا المرفوع على البدل من ضمير في الصفة، ولا يطرد لهم ذلك في مثل: مررت برجل كريمٍ الأبُ، وحسن وجهُ الأخ، لا سبيل إلى البدل في هذا وأمثاله، فإذا امتنع البدل، فالباب كله على ما ذهب إليه الأئمة". فقد تضمن كلام ابن خروف رحمه الله أن الحكم على المرفوع المشار إليه بغير البدلية هو مذهب الأئمة، وكفى بنقله شاهدًا. وقد منع التعويضَ بعضُ المتأخرين وقال: لو كان حرف التعريف عوضًا من الضمير لم يجتمعا، إذ اجتماع العوض والمعوض منه ممتنع، وقد اجتمعا في قول طرفة: رَحيبُ قِطابُ الجيبِ منها رفيقةٌ ... بِجَسِّ النَّدامى بَضَّة المُتَجَرَّدِ والجواب من وجهين: أحدهما: أن نقول: لا نسلم أن حرف التعريف الذي في البيت عوض، بل جيء به لمجرد التعريف، فجمع بينه وبين الضمير إذ لا محذور في ذلك. ونظير هذا أن التاء في جهة، عوض من الواو التي هي فاء، وقد قالوا: وجهة، ولم يُجْعَلْ ذلك جمعا بين العوض والمعوض منه، بل حمل ذلك على أن التاء في وجهة لمجرد التأنيث بخلاف تاء جهة. الثاني: أن نقول: سلمنا كون حرف التعريف الذي في البيت عوضًا، إلا أنه جمع بينه وبين ما عوض منه اضطرارًا، كما جمع الراجز بين ياء النداء والمعوض منها في قوله:

إنِّي إذا ما حَدَثٌ ألَمَّا ... أقولُ يا اللهُمَّ يا اللهُمَّا ومما يقوي كون حرف التعريف عوضا قول الشاعر في صفة صقر: يأوِي إلى قُنَّة خَلقاء راسية ... حُجْنِ المخالِبِ لا يَغْتالُه الشِّبع أراد: حجن مخالبه، ولولا ذلك لقال: أحجن المخالب، كما يقال: رجل أحمر الثياب، وأنشد الكوفيون: أيا ليلةً خُرسَ الدجاجِ سَهِرْتُها ... ببغدادَ ما كادت عن الصُّبح تنجلي أراد: خرسا دجاجُها، ولولا ذلك لقال: خرساء الدجاج، كما يقال: امرأة حمراء الثياب. وإذا صح التعويض فلا يقاس عليه إلا ما سمع له نظير، ولا يقدح في صحته عدم استعماله في صلة وغيرها على سبيل الاطراد، كما لا يقدح في كون تنوين حينئدٍ عوضا من الإضافة امتناعُ ذلك في إذا وغيرها من الملازمات للإضافة. لكن شرط التعويض المشار إليه أن يكون فيما يُسْتقْبح خلوه من الضمير والألف واللام معا، فلا يجعل من ذلك نحو: البُرُّ الكُرُّ بستين، لأنك لو قلت: كُرٌّ بستين، فأخليته من الضمير والألف واللام معا لم يُسْتَقْبَح، بخلاف ما تقدم. فصل: ص: مدلولُ إعراب الاسم ما هو به عمدةٌ، أو به فَضْلةٌ، أو بينهما. فالرفع للعمدة، وهي مبتدأ، أو خبر، أو فاعل، أو نائبه، أو شبيه به لفظا.

وأصلها المبتدأ، أو الفاعل، أو كلاهما أصل. والنصب للفضلة وهي: مفعول مطلق، أو مقيد، أو مستثنى، أو حال، أو تمييز، أو مشبه بالمفعول به. والجر لما بين العمدة والفضلة، وهو المضاف إليه. وأُلْحِقَ من العمدة بالفضلات المنصوبُ في باب: كان، وإنَّ، ولا. ش: العمدة عبارة عما لا يجوز حذفه من أجزاء الكلام إلا بدليل يقوم مقام اللفظ به. والفضلة عبارة عما يسوغ حذفه مطلقا إلا لعارض، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى. ولما كان المضاف إليه في موضع يكمل العمدة نحو: جاء عبد الله، وفي موضع يكمل الفضلة نحو: أكرمت عبد الله، وفي موضع يقع فضلة نحو: زيد ضارب عمرٍو، حكم عليه بأنه بين العمدة والفضلة. ولما كان الاهتمام بالعمدة أشدَّ من الاهتمام بغيرها جعل إعرابه الرفع، لأن علامته الأصلية ضمة، وهي أظهر الحركات. وإنما قلنا: هي أظهر الحركات لوجهين: أحدهما: أنها من الواو، ومخرجها من الشفتين، وهو مخرج ظاهر، بخلاف الفتحة والكسرة فإنهما من الألف والياء، ومخرجاهما من باطن الفم. والثاني: أن الضمة يمكن الإشارة إليها بالإشمام عند سكون ما هي فيه وقفا وإدغاما بخلاف غيرها. ولما كانت الكسرة تشبه الضمة جعلت علما للمضاف إليه، لأنه قد يكمل العمدة، ولأن الكسرة متوسطة بين الثقل والخفة، فجعلت للمتوسط بين العمدة والفضلة. ولما جعلت الضمة للعمدة، والكسرة للمتوسط بين العمدة والفضلة، تعينت الفتحة للفضلة، وتبع كلَّ واحد من الحركات ما هو بالنيابة عنها، وقد تقدم بيان

ذلك في باب الإعراب. والمراد بالمفعول المطلق: المصدرُ الموكِّد، والمبيِّن للنوع، أو لعدد المرات. والمراد بالمُقَيَّد: المفعول به، والمفعول فيه، والمفعول له، والمفعول معه. ولما تقدَّم أن النصب إعراب الفضلات، وكان ما نصب في باب "كان" وباب "إن" وباب "لا" عمدة، لكونه أحد ركني الإسناد، نبهت على ذلك بقولي "وألحق من العُمَد بالفضلات" إلى آخره.

باب المبتدأ

باب المبتدأ ص: وهو ما عَدِم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا من مُخْبَر عنه، أو وصفٍ سابق رافع ما انفصل وأغنى. والابتداء كون ذلك كذلك، وهو يرفع المبتدأ، والمبتدأ الخبرَ، خلافا لمن رفعهما به، أو بتجرُّدِهما للإسناد، أو رفع بالابتداء المبتدأ، وبهما الخبر، أو قال: ترافعا. ش: قد تقدم ما يدل على أن الإخبار عن الشيء يكون باعتبار لفظه، كما يكون باعتبار معناه، وأن المخبر عنه بالاعتبارين يكون اسما، نحو: زيد كاتب، وزيد معرب. ويكون غير اسم نحو (وأن تصوموا خيرٌ لكم) فخير خبر عن "أن تصوموا" باعتبار المعنى. فلو قلت: أنْ وتصوموا، ناصب ومنصوب، لكان إخبارا باعتبار اللفظ، ومن الإخبار باعتبار المعنى والمُخْبَر عنه في اللفظ غير اسم قوله تعالى (سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنْذِرهم) أي سواء عليهم الإنذارُ وعدمه. ولذا لم أُصَدِّر حد المبتدأ بالاسم، لأنه بعض ما يكون مبتدأ، بل صَدّرته بما عدم عامِلا لفظيا ليتناول الاسم وغيره. واحترزت بقولي: أو حكما، من المبتدأ المجرور بحرف زائد نحو (هل من خالقٍ غيرُ الله) فإن "خالقا" مبتدأ، ولم يعدم عاملا لفظيا عدما حقيقًا، بل عدما حكميا، لأن "مِنْ" زائدة، فهي ? وإن وجدت لفظا ? معدومة حكما.

وقُيد العامل الذي عدمه المبتدأ بكونه لفظيا، إشعارا بأن للمبتدأ عاملا معنويا، وهو الابتداء. ولما كان ما عدم عاملا لفظيا صالحا لتناول أسماء الأفعال، ولتناول الفعل المضارع العاري من ناصب وجازم، وكان المبتدأ ينقسم إلى مُخْبَر عنه وغير مخبر عنه، ذكرت مخبرا عنه والوصف المقيد، منعا لدخول ما لا يقصد دخوله، وجمعا لنَوْعَيْ المبتدأ. والمراد هنا بالوصف ما كان كضارب أو مضروب من الأسماء المشتقة وما جرى مجراها باطراد. ومن الابتداء بالمشتق: أضاربٌ الزيدان؟ ومامضروبٌ الزيدان. وأذاهبةٌ جاريتاك؟ وأكريمة نساؤكم؟ ومثال الابتداء بما جرى مجرى المشتق باطراد: أقُرَشِيٌّ قومُك؟ وأقرشي أبواك؟ وهذه الأمثلة من أمثلة سيبويه ولو جعل مكان الهمزة منها حرف نفي لم يختلف الحكم، قال سيبويه: ومن قال: ذهب فلانة، قال: أذاهب فلانة؟ وأحاضر القاضي امرأة؟ وقُيِّد الوصف "بسابق" احترازا من نحو: الزيدان قائم أبواهما. وقيدته "برافع" دون إضافة إلى فاعل، لأعم بذلك الوصف الرافع فاعلا، والرافع مفعولا، نحو: ما مضروبٌ العمران. وأشرت بقولي "بتقييد المرفوع بالانفصال" إلى أن المرفوع بالوصف المذكور لا يسد مسد الخبر إذا كان متصلا، بل إذا كان منفصلا، وذكر الانفصال أولى من ذكر الظهور، فإن المنفصل يعم الظاهر والضمير غير المتصل، وكلاهما يسد مسد الخبر إذا ارتفع بالوصف المذكور، إذ لا فارق بين قولك: أضارب الزيدان؟ وما ضارب هما. قال الشاعر: أمُرْتَجِعٌ لي مثلَ أيام حَنَّةٍ ... وأيام ذي قارٍ عليَّ الرَّواجعُ

وقال آخر: أقاطِنٌ قومُ سلمى أم نَوَوْا ظَعَنًا ... إنْ يَظعَنُوا فعجيبٌ عيشُ مَنْ قَطَنا وقال آخر: خَليلَيَّ ما وافٍ بعهدي أنتما ... إذا لم تكونا لِي عَلَى مَنْ أقاطِعُ ومنه في أحد الوجهين: "أراغبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم". واحترزت بكون المرفوع مغنيا من نحو: أقائم أبوه زيد، فإن الفاعل فيه منفصل مرتفع بوصف سابق، إلا أنه غير مُغْن، إذ لا يحسن السكوت عليه، فليس مما نحن فيه، بل "زيد" مبتدأ، وقائم خبر مقدم، وأبوه مرتفع به. ويجوز كون قائم مبتدأ مخبرا عنه بزيدٍ، كما قال سيبويه في: "مررت برجل خير منه أبوه" فخير عنده مبتدأ وأبوه خبر، مع أن الأول نكرة، والثاني معرفة، وسيأتي بيان ذلك وأمثاله إن شاء الله تعالى. والإشارة "بذلك" إلى ما عدم عاملا لفظيا، و"بكذلك" إلى القيود التي قيد بها كل واحد من قسمي المبتدأ. والحاصل أن الابتداء هو تقديم الشيء في اللفظ والنية مجردا مسندا إليه خبر، ومسندا هو إلى ما يسد مسد الخبر. ومذهب سيبويه أن المبتدأ مرفوع بالابتداء، وأن الخبر مرفوع بالمبتدأ، صرح بذلك في مواضع كثيرة، منها قوله: "المبتدأ كل اسم ابتدئ به ليبنى عليه

كلام" ثم قال: "فالمبتدأ الأول، والمبني عليه ما بعده، فهو مسند ومسند إليه" ثم قال: "واعلم أن المبتدأ لا بد أن يكون المبني عليه شيئا هو هو، أو يكون في مكان أو زمان، وهذه الثلاثة يذكر كل واحد منها بعد ما يبتدأ به، فأما الذي بني عليه شيء هو هو فإن المبني يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق، ارتفع عبد الله لأنه ذكر ليبنى عليه المنطلق. وارتفع المنطلق لأن المبني على المبتدأ بمنزلته" هذا نصه، وقوله هو الصحيح، لسلامته مما يرد على غيره من موانع الصحة. فأشهر الأقوال المخالفة لقوله أن الابتداء رافع المبتدأ والخبر معا، وهذا لا يصح لأربعة أوجه: أحدها: أن الأفعال أقوى العوامل، وليس فيها ما يعمل رفعين دون إتباع، فالمعنى إذا جعل عاملا كان أضعف العوامل، وكان أحق بألا يعمل رفعين دون إتباع. الثاني: أن المعنى الذي ينسب إليه عمل ويمنع وجوده دخول عامل على مصحوبه كالتمني والتشبيه أقوى من الابتداء، لأنه لا يمنع وجوده دخول عامل على مصحوبه، والأقوى لا يعمل إلا في شيء واحد وهو الحال، فالابتداء الذي هو أضعف أحق بألا يعمل إلا في شيء واحد. الثالث: أن الابتداء معنى قائم بالمبتدأ، لأن المبتدأ مشتق منه، والمشتق يتضمن معنى ما اشتق منه، وتقديم الخبر على المبتدأ ما لم يعرض مانع جائز بإجماع من أصحابنا، فلو كان الابتداء عاملا في الخبر لزم من جواز تقديمه على المبتدأ تقديم معمول العامل المعنوي الأضعف، وتقديم معمول العامل المعنوي الأقوى ممتنع، فما ظنك بالأضعف؟ الرابع: أن رفع الخبر عمل وجد بعد معنى الابتداء ولفظ المبتدأ، فكان بمنزلة وجود الجزم بعد معنى الشرط والاسم الذي تضمنه، فكما لا ينسب الجزم لمعنى

الشرط بل للاسم الذي تضمنه، كذلك لا ينسب رفع الخبر للابتداء بل للمبتدأ. وأمثل من قول من قال: الابتداء رفع المبتدأ والخبر معا قول أبي العباس: "الابتداء رفع المبتدأ بنفسه، ورفع الخبر بواسطة المبتدأ" وهو أيضا مردود، لأنه قول يقتضي كون العامل معنى متقويا بلفظ، والمعروف كون العامل لفظا متقويا بلفظ، كتقوي الفعل بواو المصاحبة. أو كون العامل لفظا متقويا بمعن، كتقوي المضاف بمعنى اللام أو بمعنى مِن. فالقول بأن الابتداء عامل مُقَوًّى بالمبتدأ لا نظير له، فوجب رده. وقد جعل بعضهم نظير ذلك إعمال أداة الشرط بنفسها في الجواب بوساطة فعل الشرط، وليس كما زعم، لأن أداة الشرط وفعله لفظان، فإذا قوي أحدهما بالآخر لم يكن بدعا، وأما الابتداء والمبتدأ فمعنى ولفظ، فلو قوي اللفظ بالمعنى لكان قريبا، بخلاف ما يحاولونه من العكس، فإنه بعيد ولا نظير له. وقول من يقول: إنهما مرفوعان بالتجرد للإسناد مردود أيضا بما رد به قول من قال: هما مرفوعان بالابتداء، وفيه رداءة زائدة من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جعل التجرد عاملا، وإنما هو شرط في صحة عمل الابتداء، والابتداء هو العامل عند سيبويه وغيره من المحققين. والثاني: أنه جعل تجردهما واحدا، وليس كذلك، فإن تجرد المبتدأ تجرد الإسناد إلى ما يسد مسد مسند إليه، وتجرد الخبر إنما هو ليسند إلى المبتدأ، فبين التجريدين بَوْن، فكيف يتحدان؟ الثالث: أنه أطلق التجرد ولم يقيده، فلزم من ذلك ألا يكون مبتدأ ولا خبرا

ما جُرّ منهما بحرف زائد نحو: ما فيها من أحد، و: هل أخو عيشٍ لذيذ بدائم. وأما كون المبتدأ والخبر مرفوعا أحدهما بالآخر، فهو قول الكوفيين، وهو مردود أيضا، إذ لو كان الخبر رافعا للمبتدأ كما كان المبتدأ رافعا للخبر لكان لكل منهما في التقدم رتبة أصلية، لأن أصل كل عامل أن يتقدم على معموله، فكان لا يمتنع: صاحبها في الدار، كما لا يمتنع: في داره زيد، وامتناع الأول، وجواز الثاني دليل على أن التقدم لا أصلية للخبر فيه. ص: ولا خبر للوصف المذكور لشدة شبهه بالفعل، ولذا لا يُصَغّر، ولا يُوصَف، ولا يُعَرّف، ولا يُثنى، ولا يجمع، إلا على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة" ولا يجرى ذلك المجرى باستحسان إلا بعد استفهام أو نفي، خلافا للأخفش، وأُجري في ذلك "غير قائم" ونحوه مجرى: ما قائم. ش: قد تقدم أن أحد قسمي المبتدأ وصف يرفع ما يليه، ويسد مرفوعه مسد خبره، وإياه عنيت الآن بقولي: "ولا خبر للوصف المذكور" وبينت أن سبب استغنائه عن الخبر شدة شبهه بالفعل، لأن قولك: أضارب الزيدان؟ بمنزلة: أيضرب الزيدان؟ فكما لا يفتقر: أيضرب الزيدان، إلى مزيد في تمام الجملة، كذلك لا يفتقر ما هو بمنزلته. ولأن المطلوب من الخبر إنما هو تمام الفائدة بوجود مسند ومسند إليه، وذلك حاصل بالوصف المذكور ومرفوعه، فلم يحتج إلى خبر

لا في اللفظ ولا في التقدير، ولهذا خطئ من يعد هذا مع المبتدآت المحذوفة الأخبار، لأن المبتدأ المحذوف الخبر لو قدرت له خبرا لم يلزم من تقديره ذكر ما لا فائدة فيه، وهذا بخلاف ذلك. ولما كان الوصف المذكور منزلا منزلة الفعل لم يجز تصغيره، ولا وصفه، ولا تعريفه، ولا تثنيته، ولا جمعه، لأن ذلك كله من خصائص الأسماء المحضة. ومن قال من العرب: يفعلان الزيدان، ويفعلون الزيدون، قال هنا: أفاعلان الزيدان؟ وأفاعلون الزيدون؟ وكان الوصف مبتدأ، وما بعده فاعل سادٌّ مسد الخبر. وإلى نحو هذه الإشارة أشرت بقولي: "إلا على لغة يتعاقبون فيكم ملائكة" وقد أشرت إلى هذه اللغة في باب الإعراب، وسيأتي ذكرها مستوفى في باب الفاعل إن شاء الله تعالى. وأشرت بقولي: "ولا يجرى ذلك المجرى باستحسان" إلى أن الوصف المشار إليه لا يحسن عند سيبويه الابتداء به على الوجه الذي تقرر إلا بعد استفهام أو نفي، وإن فُعِل به ذلك دون استفهام أو نفي قبح عنده دون منع. هذا مفهوم كلامه في باب الابتداء، ولا معارض له في غيره. ومن زعم أن سيبويه لم يجز جعله مبتدأ إذا لم يل استفهاما أو نفيا فقد قوّله ما لم يقل. وأما أبو الحسن الأخفش فيرى ذلك حسنا، ويدل على صحة استعماله قول الشاعر: خَبيرٌ بنو لِهْبٍ فلاتك مُلْغيا ... مقالةَ لِهْبِيٍّ إذا الطيرُ مَرَّتِ ومنه قول الشاعر: فخيرٌ نحن عند الناس مِنكم ... إذا الدّاعي المُثَوِّبُ قال: يا لا

فخيرٌ مبتدأ، ونحن فاعل، ولا يكون "خير" خبرا مقدما، ونحن مبتدأ، لأنه يلزم في ذلك الفصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل ومِنْ، وهما كمضاف ومضاف إليه، فلا يقع بينهما مبتدأ، كما لا يقع بين مضاف ومضاف إليه، وإذا جعل "نحن" مرتفعا بخير على الفاعلية لم يلزم ذلك، لأن فاعل الشيء كجزء منه. والكوفيون كالأخفش في عدم اشتراط الاستفهام والنفي في الابتداء بالوصف المذكور، إلا أنهم يجعلونه مرفوعا بما بعد وما بعد مرفوعا به، على قاعدتهم، ويوافقونه في التزام إفراده وتجرده من ضمير، ويجيزون أيضا إجراءه مجرى اسم جامد فيطابق ما بعده، ويجيزون أيضا جعله نَعت منوي مطابق للآخر في إفراده وتثنيته وجمعه، ولا بد حينئذ من كون النعت مطابقا، ويسمونه خلفا. ولم أخص من الاستفهام همزة ولا غيرها، ليعلم أن أدوات الاستفهام كلها مستوية في تصحيح الابتداء بالوصف المذكور على الوجه المذكور، فكما يقال: أقائم الزيدان؟ يقال: هل مُعْتَقٌ العبدان؟ وما صانعٌ العُمَرَان؟ ومن خاطبٌ البكران؟ ومتى ذاهب العمران؟ وأين جالس صاحبانا؟ وكيف مصبح ابناك؛ وكم ماكث صديقاك؟ وأيان قادم رفيقاك؟ وكما أطلقت الاستفهام أطلقت النفي، ليتناول كل ناف يصلح لمباشرة الأسماء، وذلك: ما، ولا، وإنْ، وليس، إلا أن ليس يرتفع الوصف بعدها على أنه اسمها، ويرتفع به ما يليه فيسد مسد خبرها، كما سد مسد خبر المبتدأ. وكذلك الحكم بعد "ما" إن جُعِلتْ حجازية، ولم ينتقض النفي. فإن جعلت تميمية، أو انتقض النفي، فالوصف بعدها مبتدأ، والمرفوع به ساد مسد خبر المبتدأ. مثال ذلك بعد ليس: ليس قائم الزيدان، وليس منطلق إلا العمران. ومثال ذلك بعد "ما": ما ذاهب عبداك، وما مقيم إلا أخواك.

وإذا قصد النفي بغير مضافا إلى الوصف فيجعل غير مبتدأ، ويرتفع ما بعد الوصف به كما لو كان بعد نفي صريح، ويسد مسد خبر المبتدأ، وعلى ذلك وجه الزمخشري قول الشاعر: غيرُ مأسوفٍ على زمن ... ينقضي بالهم والحزَن ومثله قول الآخر: غيرُ لاهٍ عِداك فاطّرح الَّلهْـ ... ـــــــوَ ولا تَغْتَرِرْ بعارضِ سِلْم وإلى نحو هذا أشرت بقولي: وأُجْرِيَ في ذلك: غير قائم، مجرى: ما قائم. ص: ويحذف الخبر جوازا لقرينةن ووجوبا بعد لولا الامتناعية غالبا، أو قسم صريح، وبعد واو المصاحبة الصريحة، وقبل حال إن كان المبتدأ أو معموله مصدرا عاملا في مُفَسِّر صاحبها، أو مؤُولا بذلك. ش: من القرائن المجوزة لحذف الخبر الاستفهام عن المُخْبَر عنه، كقولك: زيدٌ، لمن قال: مَنْ عندك؟ أي: زيد عندي. والعطف عليه نحو: زيدٌ قائم وعمرو، أي وعمرو كذلك. فهذا وشبهه من الحذف الجائز، لأن المحذوف فيه لا يزيد ذكره على ما حصل بالقرينة التي دلت عليه، ولم يكن واجبا إذ ليس في محل المحذوف غيره فيسد مسده، كما في المواضع التي حكم فيها بوجوب الحذف. ومن الحذف الجائز الحذف بعد إذا المفاجأة، نحو: خرجت فإذا السبع. والحذف بعد إذا قليل، ولذا لم يرد في القرآن مبتدأ بعد إذا إلا وخبره ثابت غير محذوف. كقوله تعالى: (فإذا هي حيَّةٌ) و (فإذا هي بيضاءُ) و

(فإذا هم جميعٌ) و (فإذا هم قيامٌ). وإنما وجب حذف الخبر بعد لولا الامتناعية لأنه معلوم بمقتضى لولا، إذ هي دالة على الامتناع لوجود، والمدلول على امتناعه هو الجواب، والمدلول على وجوده هو المبتدأ. فإذا قيل: لولا زيدٌ لأكرمت عمرا، لم يشك في أن المراد: وجود زيد مانع من إكرام عمرو، فصح الحذف لتعيّن المحذوف، ووجب لسد الجواب مسده، وحلولِه محله. والمراد هنا بالثبوت الكون المطلق، ولو أريد كون مُقَيّد لا دليل عليه لم يجز الحذف، نحو: لولا زيد سالَمَنا ما سلم، ولولا عمرٌو عندنا لهلك. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "لولا قومُك حديثٌ عهدُهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم". فلو أريد كون مقيد مدلول عليه جاز الإثبات والحذف، نحو: لولا أنصار زَيد حموه لمْ ينج، فحموه خبر مفهوم المعنى، فيجوز إثباته وحذفه، ومن هذا القبيل قول المعري في صفة سيف: فلولا الغِمْدُ يُمْسِكه لسالا وهذا الذي ذهبت إليه هو مذهب الرماني والشجري والشلوبين وغفل عنه أكثر الناس. ومن ذكر الخبر بعد لولا قول أبي عطاء السندي:

لولا أبوك ولا بعده عمر ... ألقت إليك مَعَدٌّ بالمَقاليد وأما المبتدأ المقسم به فيجب حذف خبره بشرط كونه قسما صريحا، نحو: لعمرك، وايمن الله. وإنما وجب حذف خبره لأن فيه ما في خبر المبتدأ بعد لولا من كونه معلوما، مع سد الجواب مسده. فلو كان المبتدأ في القسم صالحا لغير القسم، نحو: عهد الله، لم يجب الحذف، فجائز أن يقال: عليّ عهد الله لأفعلن، فيؤتى بالخبر، وجائز أن يقال: عهد الله لأفعلن، فيحذف الخبر، لأن ذكر "لعمرك" و"ايمن الله" مشعر بالقسم قبل ذكر المقسم عليه، بخلاف عهد الله، فإنه لا يشعر حتى يذكر المقسم عليه، ففرق بينهما، وجعل أحدهما واجب الحذف، والآخر جائزه، فلذلك قلت: أو قسم صريح. ومن الحذف الواجب حذف خبر المبتدأ بعد واو المصاحبة الصريحة، كقولك: أنت ورأيت، وكلّ عمل وجزاؤه، وكل ثوب وقيمتُه. وإنما كان الحذف هنا واجبا لأن الواو وما بعدها قاما مقام "مع" وما ينجر بها، مع ظهور المعنى، فكما أنك لو جئت بمع موضع الواو لم تحتج إلى مزيد عليها وعلى ما يليها في حصول الفائدة، وكذلك لا يحتاج إليه في اللفظ مع الواو ومصحوبها، لكن بشرط أن يكون نصًّا في قصد المصاحبة، فينزل اللفظ بهذه الواو ومصحوبها في الاستغناء بهما عن الخبر منزلة "سقيا" وأمثاله في الاستغناء بها عن الأفعال، فكما أن الحذف هناك لازم كان هنا لازما. قال أبو الحسن بن خروف في هذا: ولا يحتاج فيه إلى حذف خبر لتمامه وصحة معناه، وإن قدر "مقرونان" فلبيان المعنى. قلت: يلزم ابنَ خروف أن يكون الأمر كذلك في كل موضع التزم فيه حذف الخبر، ولا نقول بذلك. فالقول ما قاله غيره: أن الخبر محذوف. فلو كان الكلام مع الواو محتملا لقصد المصاحبة ولمطلق العطف لم يجب الحذف، نحو قولك: زيد وعمرو، وأنت تريد: مع عمرو، فإنه غير صالحن فلك أن تأتي

بالخبر فتقول: زيد وعمرو مقترنان، ولك أن تستغني عن الخبر اتكالا على أن السامع يفهم من اقتصارك عليهما معنى الاقتران والاصطحاب. ومن الحذف الواجب حذف الخبر قبل الحال، إذا كان المبتدأ أو معموله عاملا في مفسر صاحبها، أو مؤولا بذلك، نحو: ضربي زيد قائما، وأصله عند أكثر البصريين: ضربي زيدا إذا كان قائما، فالمبتدأ "ضربي" وخبره "إذا" وكان تامة، لأنها لو كانت ناقصة لكان خبرها قائما، ولو كان خبرها لجاز أن يعرف، ولامتنع أن تقع موقعه الجملة الاسمية المقرونة بواو الحال، ولكن العرب التزمت تنكيره، وأوقعت موقعه الجملة الاسمية المقرونة بواو الحال، فعلم أنه حال لا خبر. ومثال وقوع الجملة المذكورة موقعه قول النبي عليه السلام: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" ومثله قول الشاعر: خيرُ اقترابي من المولى حليفَ رِضًى ... وشرُّ بُعْدي منه وهو غضبان ومثال كون المصدر العامل في مفسّر صاحب الحال معمولَ المبتدأ قولك: كلُّ شربي السَّويق مَلْتوتا، وبعضُ ضربك زيدا بريئا. وإلى نحو: أقربُ ما يكون العبد، وخير اقترابي من المولى، أشرت بقولي: "أو مؤولا بذلك" أي بالمصدر المقيد، لأن "ما يكون" مؤولا بالكون، وأقرب الكون كون، وخير الاقتراب اقتراب. واحترزت بأن يكون المصدر المشار إليه عاملا في مفسر صاحب الحال من مصدر لا يكون كذلك، كقولك: ضربي زيدا قائما شديد، فالمبتدأ فيه مصدر عامل في صاحب الحال وفيها، فلم يصح أن تغني عن خبره، لأنه من صلته. وكذا لو جعلت عاملها كان مقدرة مضافا إليها "إذا" أو "إذ" أو "ما" متعلقة

بالمصدر فإن الحال لا يغني عن الخبر، لأنها معمولة لما أضيف إليه معمول المصدر، فالجميع من الصلة، فلا يغني شيء منه عن الخبر. وتناول احترازي أيضا قولهم: "حكمك مُسَمّطا" فإن المبتدأ فيه مصدر مستغن عن خبره بحال استغناء شاذا، لأن صاحب الحال ضمير عائد على المبتدأ الذي هو حكمك، بخلاف: ضربي زيدا قائما، فإن صاحب الحال فيه فاعل كان المقدرة، وهو ضمير عائد على زيد، وزيد معمول المصدر المجعول مبتدأ. وإنما قلت: إن مسمطا حال من ضَمير عائد على المصدر، لأن التقدير: حكمك لك مسمطا، أي مثبتا، فصاحب الحال الضمير المستكن في "لك" وهو عائد على المصدر المجعول مبتدأ، فهذا ونحوه الحذف فيه شاذ غير لازم، ونحو: ضربي زيدا قائما، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، الحذف فيه ملتزم. وليس وجود المفعول في نحو: ضربي زيدا قائما، شرطا، بل يجوز سد الحال مسد خبر المصدر مع كونه من فعل لازم، كقولك: قيامك محسنا، وإحسانك قائما. وهذا النوع أيضا داخل تحت قولي: "إذا كان المبتدأ عاملا في مفسر صاحبها" فإن المضاف عامل في المضاف إليه. ص: والخبر الذي سدت مسده مصدر مضاف إلى صاحبها، لا زمان مضاف إلى فعله، وفاقا للأخفش، ورفعها خبرا بعد أفعل مضافا إلى ما موصولة بكان أو يكون جائز، وفعل ذلك بعد مصدر صريح دون ضرورة ممنوع. ش: فاعل سدّت من قولي: والخبرُ الذي سدّت مَسَدَّه ضمير عائد على الحال التي أغنت عن الخبر في: ضربي زيدا قائما، ونحوه، والغرض من هذا الكلام بيان ما هو أولى الوجوه في هذه المسألة، وينبغي أن يعلم أولا أن فيها ستة أوجه:

أحدها: أن يكون التقدير: ضربي زيدا إذا كان قائما، وهذا هو المشهور عند البصريين. الثاني: أن يكون التقدير: ضربي زيدا ضَرْبُه قائما، وهذا مذهب الأخفش. الثالث: أن يكون فاعل المصدر مغنيا عن الخبر كما أغنى عنه فاعل الوصف في نحو: قائم الزيدان. الرابع: أن تكون الحال مغنية عن الخبر لشبهها بالظرف، كما أغنى بالظرف عنه. الخامس: أن تكون الحال منصوبة بالمصدر، وقد حذف الخبر حذفا لأجل الاستطالة، كما حذف عند أبي علي الخبر في قولهم: أول ما أقول إني أحمد الله، بالكسر، والتقدير عنده: أول ما أقول إني أحمد الله ثابت. وكذلك يكون التقدير في هذه المسألة المشار إليها: ضربي زيدا قائما ثابت. السادس: أن يكون "ضربي" فاعل بثبت مضمرا، ويكون المسوغ لتقديره أولا كالمسوغ لتقديره "ثابت" آخرا. وأجود هذه الأقوال الأول والثاني، إلا أن الثاني أقل حذفا مع صحة المعنى، فكان أولى. وإنما قلت: إن الثاني أقل حذفا، لأنه لم يحذف فيه إلا خبر مضاف إلى مفرد، والأول حذف فيه خبر ثم نائب عن الخبر مع فعل وفاعل، لأن الأصل فيه عند من يراه: ضربي زيدا مستقر إذا كان قائما. وأيضا فإن الثاني حذف فيه خبر عامل بقي معموله، ودلالة المعمول على عامله قوية، والوجه الأول بقي فيه بعد الحذف معمول عامل أضيف إليه نائب عن الخبر الأصلي الذي هو مستقر، فضعفت الدلالة لبعد الأصل، وكثرة الوسائط. وأيضا فإن الحاذف على الوجه الثاني أبين عذرا في الحذف، لأن المحذوف لفظه مماثل للفظ المبتدأ، فيستثقل لذلك ويقوى الباعث على الحذف، وليس في قول القائل: ضربي زيدا ضربه قائما، تعرض لكون زيد وقع به غير الضرب المقارن لقيامه أو لم يقع به، بل تعرض به كما تعرض بقولك ضربته قائما.

وأما الوجه الثالث من الخمسة، وهو أن يغني فاعل المصدر عن الخبر إغناء الفاعل عنه في نحو: أقائم الزيدان، فضعفة بَيِّن، لأنه لو صح لصح الاقتصار على المصدر والفاعل، كما يصح الاقتصار على الوصف وفاعله، فكان يقال: ضربى، فيحسن السكوت عليه، لأن فيه معنى ضربت، كما يحسن السكوت على: أقائم الزيدان؟ لأن فيه معنى: أيقوم الزيدان؟ وفي امتناع ذلك، وجواز هذا، دليل على فساد القول بتساويهما. وأما الوجه الرابع، وهو أن تكون الحال مغنية عن الخبر لشبهها بالظرف فغير صحيح أيضا، لأن الحال إذا أقيمت مقام الخبر لشبهها بالظرف، فإما أن لا يقدر لها عامل أو يقدر، فإن لم يقدر لها عامل لزم من ذلك استغناؤها عما لا يستغنى عنه الظرف، مع أنه أصل بالنسبة إليها، ولو جاز ذلك مع المصدر لجاز مع غيره، فكان يقال: زيد قائما، لأنه بمعنى في حال قيام. وإن قدر لها عامل لم يكن ذلك العامل إلا مثل المقدر للظرف، فكما يقال في قولك: زيد في حال قيام، تقديره: زيد مستقر في حال قيام، كان يقال في: ضربى زيدا قائما، ضربى زيدا مستقر قائما، فيلزم من ذلك الإخبار عن الضرب بما للضارب، وذلك محال، وما أفضى إلى المحال محال. وصاحب هذا الوجه الرابع هو ابن كيسان، قال في كتابه: وقد يجعلون الحال خبرا للمصدر كالوقت، فيقولون: ضربك زيدا قائما، وخروجك معنا راكبا، قال: وقد يجعلون الواو خبرا للمصدر، لأنها تكون بمعنى الحال والوقت، كقولك: قيامك والناس قعود، وخروجك والركب يسير. وقال: المصدر يكون خبره الحال كقولك: قيامك محسنا، وإحسانك قائما، يريد: قيامك في إحسانك، وإحسانك في قيامك. وأما الخامس فإنه وجه يلزم أبا على القول به، لأنه أجاز في قولهم: أول ما أقول إني أحمد الله، بالكسر، أن يكون "إني" محكيا بالقول، فيكون من صلته، ويكون خبر المبتدأ الذي هو: أول ما أقول، محذوفا، كأنه قال: أول قولي

هذا الكلام ثابت. فكما جاز أن يحذف الخبر هناك بلا دليل زائد على الحاجة إليه، كذلك يلزمه تجويز حذف الخبر هنا، وتقديره بمثل ما قدَّره هناك، لأن الحاجة إليهما سواء، والمخبر عنه في الصورتين مصدر، لأن أول القول قولي. والصحيح في قولهم: أول ما أقول إني أحمد الله، بالكسر، أن يكون كلاما تاما، فيجعل "أول ما أقول" مبتدأ، و"إني أحمد الله" خبره. كأنه قال: مبتدأ كلامي هذا الكلام. ولا يصح أن يقدر "ثابت" خبرا، لأن ذلك يقتضي ثبوت أول هذا القول، وأول الشيء غير جميعه، فيكون الثابت أول حرف من الجملة، إن نويت حروفها، وأول كلمة منها إن نويت كلماتها، وكلاهما ليس مقصودا، فتعين كونه مردودا. وأيضا فإن تقدير "ثابت" خبرا بعد: إني أحمد الله، وبعد: ضربى زيدا قائما، وأمثالهما، تقدير ما لا دليل عليه، إذ ليس هو بالتقدير أولى من غيره من المقدرات الممكنة، وحذف ما كان في حذفه ذلك ممنوع. وفي رد هذا الوجه الخامس إشعار برد الوجه السادس، لأن مبناه على تقدير ما لا يتعين تقديره، وتقدير ما عدم نظيره. فثبت بمجموع ما ذكرته أن أولى الأوجه الستة بالصواب ما ذهب إليه الأخفش، ويليه الأول، وما سواهما ضعفه بيّن، واطراحه متعين. وأجاز الأخفش في نحو: أخطب ما يكون الأمير قائما، رفع قائم خبر أخطب، فيلزم من ذلك ارتكاب مجازين: أحدهما: إضافة "أخطب" مع أنه من صفات الأعيان إلى "ما يكون" وهو في تأويل الكون. والثاني: الإخبار بقائم مع أنه في الأصل من صفات الأعيان عن "أخطب ما يكون" مع أنه في المعنى كون، لأن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه، والحامل على ذلك قصد المبالغة، وقد فتح بابها بأول الجملة، فعضدت بآخرها مرفوعا. وإلى هذا أشرت بقولي: "ورفعها خبرا بعد أفعل مضافا إلى ما موصولة بكان أو يكون جائز. وقولي: وفعل ذلك بعد مصدر صريح دون ضرورة ممنوع" أشرت به إلى نحو قول القائل: ضربى زيدا قائم، على تقدير: وهو قائم، فحقه أن يمنع مطلقا،

لأنه شبيه بقولك: جاء زيد راكب، على تقدير: وهو راكب، لكن الضرورة أباحت حذف المبتدأ المقرون بالفاء في جواب الشرط وهو أضعف، فإجازة حذف مبتدأ مقرون بواو الحال أولى. ومثال حذف المبتدأ مقرونا بالفاء قول الشاعر: بني ثُعَل لا تَنْكِعُوا العَنْزَ شِرْبها ... بني ثُعَل مَنْ يَنْكَعِ العَنْزَ ظالم أراد فهو ظالم. ص: وليس التالي لولا مرفوعا بها، ولا بفعل مضمر، خلافا للكوفيين، ولا يغني فاعل المصدر المذكور عن تقدير الخبر إغناء المرفوع بالوصف المذكور، ولا الواو والحالُ المشار إليهما، خلافا لزاعمي ذلك. ولا يمتنع وقوع الحال المذكورة فعلا خلافا للفراء، ولا جملة اسمية بلا واو، وفاقا للكسائي، ويجوز إتباع المصدر المذكور، وفاقا له أيضا. ش: قد تقدم أن المرفوع بعد لولا الامتناعية مبتدأ ملتزم حذف خبره، وهو الصحيح، لأنه إذا كان مبتدأ محذوف الخبر كان نظير المقسم به في كونه مبتدأ محذوف الخبر للعلم به وسد الجواب مسده، بل يكون أولى بصحة حذف الخبر، لأن في لولا إشعارا بالوجود المانع من ثبوت معنى الجواب، والوجود الذي يشعر به هو المفاد بالخبر لو نطق به، ففي حذف الخبر بعد لولا من العذر ما في حذف خبر المقسم به وزيادة. وروي عن الفراء أن لولا الامتناعية هي الرافعة للاسم بعدها. وروى غيره من الكوفيين أنه مرفوع بفعل مضمر. والقولان مردودان، لأنهما مستلزمان ما لا نظير له، إذ ليس في الكلام حرف يرفع ولا ينصب، ولا حرف التزم بعده إضمار فعل رافع، ولا يقبل ما يستلزم عدم النظير، مع وجدان ما له نظير. وأيضا فإن المبتدأ أصل المرفوعات على ما بين في فصل إعراب الاسم، فأي

موضع وجد فيه اسم مرفوع محتمل للابتداء وغيره فالابتداء به أولى. وأيضا فإذا حكم بالابتداء على الاسم الواقع بعد لولا كان المحذوف من الجملة مؤخرا، وإذا حكم بفاعليته كان المحذوف منها مقدما، والأواخر بالحذف أولى من الأوائل. وإذا ثبت أن الابتداء به أولى، وأن موضعه لا يصلح للفعل، وجب التحيّل في تخريج ما وقع بخلاف ذلك، كقول الشاعر: ولولا يحسَبون الحلمَ جهلا ... لما عَدِم المسيئون احتمالي أراد: ولولا أن يحسبوا، فحذف أن، ورفع الفعل، والموضع موضع مبتدأ على تقدير أن، كما قالوا: "تسمع بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه". وقد تدخل "لو" على "لا" التي بمعنى "لم" فيليها الفعل لزوما، فيتخيل أنها لولا الامتناعية، وليست إياها، ومنه قول الشاعر: لا دَرَّ دَرُّكِ إني قد رَمَيْتُهم ... لولا حُدِدْتُ ولا عُذْرى لِمَحْدُود أراد: لو لم أحد، ومجيء "لا" بمعنى "لم" كثير، ومنه قول الراجز: لا هُمَّ إن الحارثَ بن جَبَلَه ... زنا على أبيه ثم قتله ... وأيُّ شيءٍ سَيِّءٍ لا فَعَله

وقد تقدم الكلام على مضمون قولي: "ولا يغني فاعل المصدر المذكور عن تقدير الخبر إغناء المرفوع بالوصف المذكور".وكذا تقدم الإعلام بقول ابن خروف في نحو: كلُّ رجلٍ وضيعتُه، لا يحتاج فيه إلى حذف خبر، لتمامه وصحة معناه، وإن قدر: مقرونان، فلبيان المعنى، وهذا الذي ذهب إليه ابن خروف هو مذهب مهجور. وكذا القول بأن الحال المذكورة في نحو: ضربى زيدا قائما، تغني عن الخبر لشبهها بالظرف، هو قول ضعيف، وقد بينت ضعفه من قبل. ومنع الفراء وقوع الحال المذكورة فعلا فرارا من كثرة مخالفة الأصل، وذلك أن الحال إذا سدّت مسدّ الخبر فهو على خلاف الأصل، وإذا وقع الفعل موقع الحال فهو على خلاف الأصل، فلا ينبغي أن يحكم بجوازه، فإنه مخالفة بعد مخالفة. وهذا الذي اعتبره قد دلت العرب على أنه غير معتبر، بوقوع الجملة الاسمية موقع الحال المذكورة، فلو لم تقع الجملة الفعلية موقع الحال المذكورة نقلا، لجاز وقوعها قياسا على وقوع الجملة الاسمية، ومع ذلك فقد سمع من العرب وقوع الجملة الفعلية موقع الحال المذكورة، ومن ذلك قول الشاعر، أنشده سيبويه: ورأيُ عَيْنَيّ الفتى أباكا ... يُعطِي الجزيلَ فعليك ذاكا والمشهور من قول النحويين غير الكسائي أن الحال التي تسد مسد الخبر إذا كانت

جملة اسمية لا تستغنى عن الواو، والذي حملهم على ذلك أن الاستعمال لم يرد بخلافه، فأفتوا بالتزامه، ولم ير الكسائي ذلك ملتزما بعد سدها مسد الخبر، كما لم يكن ملتزما قبله، وبقوله أقول. وقد كان مقتضى الدليل أن حذف الواو هنا أولى، لأنه موضع اختصار، لكن الواقع بخلاف ذلك، وباب القياس مفتوح، ومما حكى ابن كيسان: مسرتك، أخاك قائما أبوه، ثم قال: فإن قلت: مسرتك أخاك قائما أبوه، أو مسرتك أخاك هو قائم، جازت المسألتان عند الكسائي وحده، فإن جئت بالواو قبل "هو" جازت المسألة في كل الأقوال. ومما أجاز الكسائي وحده إتباع المصدر المذكور على وجه لا يقدح في البيان، كقولك: ضربي زيدا الشديدُ قائما، وشربي السَّويق كله ملتوتا. ومن منع احتج بكون الموضع موضِع اختِصار، وأنّ السماع لم يرد فيه إتباع، ومن أجازه تبع القياس، ولم يرد عدم السماع مانعا، لأن الحاجة داعية إلى استعمال ما منعوه في بعض المواضع، فإجازته توسعة، ومنعه تضييق. ص: ويحذف المبتدأ أيضا جوازا لقرينة، ووجوبا كالمُخْبَر عنه بنعت مقطوع لمجرد مدح أو ذم أو ترحم، أو بمصدر بدل من اللفظ بفعله، أو بمخصوص في باب نعم، أو بصريح في القسم، وإن ولى معطوفا على مبتدأ يليه فعلٌ لأحدهما واقعٌ على الآخر صحت المسألة، خلافا لمن منع. وقد يغني مضاف إليه المبتدأ عن معطوف فيطابقهما الخبر. ش: ومن حذف المبتدأ جوازا لقرينة حذفه بعد استفهام عن الخبر، كقولك: صحيح، وفي المسجد، وغدا، وعشرون، لمن قال: كيف أنت؟ وأين اعتكافك؟ ومتى سفرك؟ وكم دراهمك؟ ومن ذلك حذفه عند شم طيب، أو سمع صوت، أو رؤية شبح، فيقال: مسك، وقراءة، وإنسان، بإضمار: هذا، ونحوه. ولو كان المذكور من هذه الثلاثة ونحوها معرفة جاز جعله خبرا لمبتدأ محذوف، ومبتدأ لخبر محذوف.

ومن القرائن المحسنة لحذف المبتدأ وجود فاء الجزاء داخلة على ما لا يصلح أن يكون مبتدأ، كقوله تعالى: (مَنْ عَمِل صالحا فلنفسه ومَنْ أساء فعليها) أي: فصلاحه لنفسه، وإساءته عليها. فحذف المبتدأ لهذه القرائن وأشباهها جائز. وأما الحذف الواجب فكحذف المبتدأ المخبر عنه بنعت مقطوع لتعين المنعوت بدونه لكونه لمجرد مدح، كقولهم: الحمدُ للهِ الحميدُ، وصلى الله على محمدٍ سيدُ المرسلين. أو لمجرد ذم، كقولك: أعوذُ بالله من إبليس عَدُوُّ المؤمنين. أو لمجرد الترحم كقولك: مررت بغلامِك المسكينُ، فهذه ونحوها من النعوت المقطوعة للاستغناء عنها بحصول التعيين بدونها، لك فيها النصب بفعل ملتزم إضماره، والرفع بمقتضى الخبرية لمبتدأ لا يجوز إظهاره، وذلك أنهم قصدوا إنشاء المدح، فجعلوا إضمار الناصب أمارة على ذلك، كما فعلوا في النداء، إذ لو أظهر الناصب لخفي معنى الإنشاء وتوهم كونه خبرا مستأنف المعنى، فلما التزم الإضمار في النصب التزم أيضا في الرفع ليجرى الوجهان على سنن واحد. ومن التزام حذف المبتدأ أن يحذف لكون خبره مصدرا جيء به بدلا من اللفظ بفعله، كقول الشاعر: فقالتْ: حنانٌ ما أتى بك ههنا ... أذُو نَسَبٍ أم أنت بالحيِّ عارِف ومنه قولهم: سمع وطاعة، أي: أمري حنان، وأمري سمع وطاعة. والأصل في هذا النوع النصب، لأنه مصدر جيء به بدلا من اللفظ بفعله، فالتزم إضمار ناصبه لئلا يجتمع بدل ومبدل منه في غير إتباع، ثم حمل المرفوع على المنصوب في

التزام إضمار الرافع الذي هو المبتدأ، قال سيبويه: وسمعت من يوثق بعربيته يقال له: كيف أصبحت؟ فقال: حمدُ الله وثناء عليه، أي: أمري حمد الله. وأنشد قول الآخر: صبرٌ جميل فكلانا مُبْتَلى ثم قال سيبويه: "والذي يرفع عليه "حنان" و"صبر" وما أشبه ذلك لا يستعمل إظهاره كترك إظهار ما نصب به. قال: ومثله قول بعض العرب: من أنت؟ زيدٌ، أي: من أنت؟ كلامك زيد، فتركوا إظهار الرافع، كترك إظهار الناصب" هذا نصه. ومن الملتزم حذفه المخبر عنه بممدوح نعم، ومذموم بئس، إذا جعلا خبري مبتدأين، فإن للقائل: نعم الرجل زيد، أن يجعل "زيدا" خبر مبتدأ محذوف، وأن يجعله مبتدأ مخبرا عنه بنعم وفاعلها، فعلى القول بأنه خبر، يكون ما هو له خبر واجب الحذف. ومن المبتدأ الملتزم حذفه قول العرب: في ذمتي لأفعلن، يريدون: في ذمتي ميثاق، أو عهد، أو يمين، فاقتصروا في هذا القسم على خبر المبتدأ، والتزموا حذف المبتدأ، كما فعلوا عكس ذلك في قولهم: لعمرك لأفعلنّ. ذكر هذه المسألة أبو علي رحمه الله، ومن شواهد هذا الاستعمال قول الشاعر: تُساوِرُ سَوَّارا إلى المجد والعُلا ... وفي ذِمّتي لئن فعلت ليفعلا ومثال معطوف على مبتدأ يليه فعل لأحدهما قولهم: زيد والريح يباريها، وفي

هذه المسألة خلاف: فمن البصريين والكوفيين من لم يجزها، ومنهم من أجازها. فمن أجازها من البصريين جعل التقدير: زيد والريح يجريان يباريها، فيجريان خبر محذوف، ويباريها في موضع نصب على الحال، فاستغنى بها عن الخبر لدلالتها عليه. ومن أجازها من الكوفيين أجازها حملا على معنى يتباريان، ولم يحتج إلى تقدير محذوف. واستدل أبو بكر بن الأنباري على صحة هذا الاستعمال بقول الشاعر: واعلم بأنّك والمنيّسـ ... .ـــــــــــــــــــــــةَ شاربٌ بعُقارها وقد يقصد اشتراك المضاف والمضاف إليه في خبر، فيجيء الخبر مثنى، كقول بعض العرب: راكب البعير طليحان، والأصل: راكب البعير والبعير طليحان، فحذف المعطوف لوضوع المعنى. وإلى هذا وأمثاله أشرت بقولي: وقد يغني مضاف إليه المبتدأ عن معطوف فيطابقهما الخبر. ص: والأصل تعريف المبتدأ وتنكير الخبر، وقد يعرفان، وقد ينكران بشرط الفائدة، وحصولها في الغالب عند تنكير المبتدأ بأن يكون: وصفا، أو موصوفا بظاهر أو مقدر، أو عاملا، أو معطوفا، أو معطوفا عليه، أو مقصودا به العموم. أو الإبهام، أو تالي استفهام، أو نفي، أو لولا، أو واو الحال، أو فاء الجزاء، أو ظرف مختص أو لاحق به، أو بأن يكون دعاء، أو جوابا، أو واجب التصدير، أو مقدرا إيجابه بعد نفي. والمعرفة خبر النكرة عند سيبويه في نحو: كم مالك؟ ? واقصد رجلا خيرٌ منه أبوه. ش: لما كان الغرض بالكلام حصول فائدة، وكان الإخبار عن غير معين لا يفيد، كان أصل المبتدأ التعريف، ولذا إذا أخبر عن معرفة لم تتوقف الإفادة على زيادة، بخلاف النكرة فإن حصول الفائدة بالإخبار عنها يتوقف على قرينة لفظية أو معنوية. ويلزم من كون المبتدأ معرفة في الأصل كون الخبرة نكرة في الأصل،

لأنه إذا كان معرفة مسبوقا بمعرفة، توهم كونهما موصوفا وصفة، فمجيء الخبر نكرة يدفع ذلك التوهم، فكان أصلا. وأيضا فإن نسبة الخبر من المبتدأ كنسبة الفعل من فاعله، والفعل يلزمه التنكير، فاستحق الخبر لشبهه به أن يكون راجحا تنكيره على تعريفه. وقد يتعرفان، كقوله تعالى (الله ربنا وربكم) و (محمد رسول الله)، وقد ينكران، كقوله تعالى: (ولعبدٌ مؤمن خير من مشرك). ونبهت قائلا: "بشرط الفائدة" على أن عدم حصولها مانع من كون المبتدأ والخبر كلاما، سواء كانا معرفتين أو نكرتين، أو معرفة ونكرة. وقولي: وحصولها في الغالب بكذا وكذا" تنبيه على أن الفائدة قد يندر حصولها في الإخبار عن نكرة خالية من جميع ما ذكر، كقول من خرقت له العادة برؤية شجرة ساجدة، أو بسماع حصاة مسبحة: شجرة سجدت، وحصاة سبحت. ومثال الابتداء بنكرة موصوفة بظاهر قوله تعالى: (ولعبدٌ مؤمن خير من مشرك) وفي الحديث: "شوهاء ولود خير من حسناء عقيم". ومثال الابتداء بنكرة موصوفة بمقدر قولهم: السمن منوان بدرهم، أي: منوان منه بدرهم، فمنوان نكرة ابتدئ بها لأنها موصوفة بوصف مقدر، ومنه قوله تعالى (يَغْشى طائفة منكم وطائفةٌ قد أهمتهم أنفسهم) فالواو واو الحال، وطائفة مبتدأ خبره ما بعده، وجاز الابتداء بها لأنها موصوفة بمقدّر، كأنه قال: وطائفة من غيركم، وهم المنافقون. ومن هذا القبيل قول الشاعر:

إنّي لأكثر مما سُمْتِني عجبا ... يدٌ تَشُجُّ وأخرى منك تأسوني أي: يد منك تشج، فيد مبتدأ خبره تشج، ومنك صفة مخصصة حذفت للعلم بها، كما حذفت صفة طائفة في الآية، ومنه قول الآخر: وما برح الواشُون حتى ارتَموْا بنا ... وحتى قلوبٌ عن قلوب صوادفُ أي قلوب منا، عن قلوب منهم. ومثال الابتداء بنكرة عاملة قوله صلى الله عليه وسلم: "أمر بمعروف صدفة، ونهي عن منكر صدقة". ويدخل في هذا أيضا المضاف إلى نكرة كقوله: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد". ومثال الابتداء بنكرة لأجل عطفها قول الشاعر:

عندي اصطِبارٌ وشَكْوَى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ من هذا امرؤُ سمعا ومثله قول رؤبة: حتى ترامى بالظُّنون الظُّنَّنِ تَخْلِطُ قولِ الكاذبين المُيَّن ... إذ مِنْ هنٍ قولٌ وقولٌ من هنِ ومثال الابتداء بنكرة لأجل العطف عليها قوله تعالى: (طاعةٌ وقولٌ معروف) على أن يكون التقدير: طاعة وقول معروف أمثل، أو نحو ذلك، وهو أحد تقديري سيبويه. ومن الابتداء بالنكرة لأجل العطف عليها قول الشاعر: غرابٌ وظبيٌ أعْضَبُ القَرْنِ نادَيا ... بِصَرْمٍ وصْرْدانُ العَشِيِّ تصيح

وقول العرب: "شهرٌ ثَرَى، وشهرٌ تَرَى، شهر مَرْعَى" ومنه قول الشاعر: فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويوم نُساءُ ويوم نُسَرّ ومثال النكرة المبدوء بها لأجل العموم، وما روي من قول ابن عباس رضي الله عنهما: "تمرة خير من جرادة"، ومن كلام العرب: خُبَأَةُ صِدْق خيرٌ من يَفَعة سَوْء. ومثال المبتدأ بها لقصد الإبهام: ما أحسن زيدا. ومثال التالية استفهاما: أرجل في الدار؟ ومثال التالية نفيا: ما رجل في الدار. ومثال التالية لولا، قول الشاعر:

لولا اصطبارٌ لأودَى كلُّ ذي مِقة ... حين استقلتْ مطاياهن للظَّعَن ومثال التالية واو الحال قول الشاعر: عَرَضْنا فَسَلّمنا فسلّم كارها ... علينا وتَبْريحٌ من الوجد خانِقُه وقال آخر: سَرَينا ونَجْمٌ قد أضاء فمذ بَدا ... محَيّاك أخْفى ضوؤُه كلَّ شارق ومثال التالية فاء الجزاء قول العرب في مثل: إن ذهب عَيْرٌ فعيرٌ في الرباط. ومثال التالية ظرفا مختصا: عندك مال. وقُيّد بالاختصاص تنبيها على أنه لو جيء به غير مختص لم يفد الإخبار به، نحو: عند رجل مال. وأشرت بقولي: "أو لا حق به" إلى الجار والمجرور المختص، نحو: لك مال. وإلى الجملة المشتملة على فائدة، نحو: قصدك غلامه رجل، فإنه جائز

جواز: عندك رجل، لأن في تقديم هذه الجملة وشبهها خبرا ما في تقديم الظرف من رفع توهم الوصفية، مع عدم قبول الابتداء. ومثال الابتداء بنكرة لكونها دعاء قول الشاعر: لقد أَلَّبَ الواشون أَلبا بجمعهم ... فتُربٌ لأفواه الوشاة وجندلُ ومثال الابتداء بنكرة لكونها جوابا قولك ? لمن قال: ما عندك؟ - درهم، فدرهم مبتدأ، خبره محذوف، والتقدير: درهم عندي، ولا يجوز أن يكون التقدير: عندي درهم، إلا على ضعف، لأن الجواب ينبغي أن يسلك به سبيل السؤال، والمقدم في السؤال هو المبتدأ، فكان هو المقدم في الجواب. ولأن الأصل تأخير الخبر، فترك في مثل: عندي درهم، لأن التأخير يوهم الوصفية، وذلك مأمون فيما هو جواب، فلم يعدل عن الأصل بلا سبب. ومثال الابتداء بنكرة لأنها واجبة التصدير قولك: مَنْ عندك؟ وكم درهما مالُك؟ فمن وكم نكرتان، وجاز الابتداء بهما لأنهما بمنزلة نكرة مسبوقة باستفهام، لأنهما متضمنان معنى حرفه. ومثال النكرة المقدر إيجابها بعد نفي قولهم: شَرٌّ أهر ذا ناب، فإنه بمعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر. ومثله قول الشاعر: قَدَرٌ أحلَّكَ ذا المجاز وقد أرَى ... وأبيَّ مالَكَ ذو المجاز بدار أي ما أحلك ذا المجاز إلا قدر. ومثله:

قضاءٌ رمى الأشقى بسَهْم شقائه ... وأغْرى بسبل الخير كلَّ سعيد والمبتدأ عند سيبويه في نحو: كم مالك؟ "كم" مع أنه نكرة، والخبر "مالك" مع أنه معرفة، وكذا نحو: مررت برجل أفضلُ منه أبوه، أفضل عنده مبتدأ، وأبوه خبر، فجعل النكرة مبتدأ، والمعرفة خبرا، لأن وقوع ما بعد أسماء الاستفهام نكرة وجملة وظرفا أكثر من وقوعه معرفة، وعند وقوعه غير معرفة لا يكون إلا خبرا نحو: من قائم؟ ومن قام؟ ومن عندك؟ فحكم على المعرفة بالخبرية ليجرى الباب على سنن واحد، وليكون الأقل محمولا على الأكثر، والكلام على أفعل التفضيل كالكلام على أسماء الاستفهام. ص: والأصل تأخير الخبر، ويجوز تقديمه إن لم يوهم ابتدائية الخبر، أو فاعلية المبتدأ، أو يقرن بالفاء، أو بإلا لفظا أو معنى في الاختيار، أو يكنْ لمقرون بلام الابتداء، أو لضمير الشأن أو شبهه، أو لأداة استفهام، أو شرط، أو مضاف إلى إحداهما. ش: قد تقدم الإعلام بأن المبتدأ عامل في الخبر، وإذا كان عاملا فحقه أن يتقدم كما تتقدم سائر العوامل على معمولاتها، لا سيما عامل لا يتصرف، ومقتضى ذلك التزام تأخير الخبر، لكن أجيز تقديمه لشبهه بالفعل في كونه مسندا، ولشبه المبتدأ بالفاعل في كونه مسندا إليه. إلا أن جواز تقديمه مشروط بالسلامة من اللبس. فلو كان المبتدأ والخبر معرفتين أو نكرتين وجب تقديم المبتدأ، لأنه لا يتميز من الخبر إلا بذلك، فإن كان له قرينة معنوية يحصل بها التمييز لم يجب تقديم المبتدأ، وذلك نحو قول حسان رضي الله عنه: قبيلةٌ ألأَمُ الأحياء أكرمُها ... وأغْدَرُ الناس بالجيران وافيها

ونحو قول الآخر: وأغناهما أرضاهما بنصيبه ... وكلٌّ له رزقٌ من الله واجب فألأم الأحياء، وأغناهما خبران مقدمان، وأكرمها وأرضاهما مبتدآن مؤخران، مع التساوي في التعريف، لأن المعنى إنما يصح بذلك. ومثل ذلك قول الآخر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناءُ الرجال الأباعد فبنونا خبر مقدم، وبنو أبنائنا مبتدأ مؤخر، لأن مراد القائل الإعلام بأن بني أبنائهم كبنيهم، فالمؤخر مشبه، والمقدم مشبه به، لا يستقيم المعنى إلا بهذا التأويل، والأصْل تقديم المشبه وتأخير المشبه به، كقولك: زيد زهير شعرا، وعمرو عنترة شجاعة، وأبو يوسف أبو حنيفة فقها، وسهل في البيت العكس وضوح المعنى، والعلم بأن الأعلى لا يشبه بالأدنى عند قصد الحقيقة، فلو تقدم زهير على زيد، وعنترة على عمرو، وأبو حنيفة على أبي يوسف لم يمتنع، لأن المعنى لا يُجْهَل. ومن تقديم الخبر وهو معرفة للعلم بكونه خبرا قول الشاعر: جانيك مَنْ يجني عليك وقد ... تُعْدى الصحاحَ مَباركُ الجُرْبِ

أي جانيك الذي تعود جنايته عليك، يعني العاقلة، فمن يجني مبتدأ، لأن المعنى عليه. ومن تقديم الخبر لوضوح المعنى مع مساواته المبتدأ في التنكير قوله صلى الله عليه وسلم: "مسكين مسكين رجل لا زوج له". ولو كان المبتدأ مخبرا عنه بفعل فاعلُه ضمير مستتر نحو: زيد قام، لم يجز تقديم الخبر، لأن تقديمه يوهم كون الجملة مركبة من فعل وفاعل. فلو برز فاعل الفعل جاز التقديم، كقولك في: الزيدون قاموا: قاموا الزيدون، على أن يكون "قاموا" خبرا مقدما، ولا يمنع من ذلك احتمال كونه على لغة: أكلوني البراغيث، لأن تقديم الخبر أكثر في الكلام من تلك اللغة، والحمل على الأكثر راجح. ومما يمنع تقديم الخبر اقترانه بالفاء نحو: الذي يأتيني فله درهم، لأن سبب اقترانه بالفاء شبهه بجواب الشرط، فلم يجز تقديمه، كما لا يجوز تقديم جواب الشرط. ومما يمنع تقديم الخبر اقترانه بإلا لفظا أو معنى، كما في قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول) وكقوله تعالى (إنما أنت نذير) وأشرت بقولي: في "الاختيار" إلى أن تقديم الخبر المقترن بإلا قد يرد في الشعر، كقول الكميت: فيا ربِّ هل إلا بك النصرُ يُبْتَغى ... عليهم وهل إلا عليك المُعَوَّل ومما يمنع تقديم الخبر اقتران المبتدأ بلام الابتداء، لأن اقترانها به يؤكد الاهتمام بأوليته، وتقدم خبرها عليها مناف لذلك فمنع، ولأجل استحقاقها للتصدير امتنع تأثر مصحوبها بأفعال القلوب في نحو: علمت لزيدٌ كريم، فإن قوقع ما يوهم تقديم خبر مصحوبها حكم بزيادتها، أو بتقدير مبتدأ بينها وبين مصحوبها الظاهر، كقول الشاعر:

خالي لأنت ومَنْ جريرٌ خاله ... يَنَل العَلاء ويكرم الأخوالا فلك أن تجعل اللام من قوله: لأنت، زائدة كزيادتها في قول الراجز: أمُّ الحُلَيْس لَعَجوزٌ شَهْرَبَهْ ... ترضَى من اللحم بعظم الرَّقبه ولك أن تجعلها لام ابتداء داخلةعلى مبتدأ خبره أنت، كأنه قال: خالي لهو أنت. وزيادتها أولى، لأن مصحوب لام الابتداء مؤكَّد بها، وحذف المؤكَّد مناف لتوكيده. ومن زيادتها مع الخبر قول كثير: أصاب الرّدى مَنْ كان يهوى لكِ الرَّدى ... وجُنَّ اللواتي قُلْنَ عَزّةُ جُنَّتِ فهنّ لأولى بالجنون وبالجفا ... وبالسيئات ما حَيِين وحَيَّت ومن زيادتها قول الشاعر: وبنفسي لَهُمومٌ ... فهي حَرّى آسفة ومما يمنع تقديم الخبر كون المبتدأ ضمير الشأن، كقولك: هو زيد منطلق، لأنه لو قدم خبره عليه فقيل: زيد منطلق هو لم يعلم كونه ضمير الشأن، ولتوهم كونه مؤكدا للضمير المستكن في الخبر. وفي حكم ضمير الشأن قول القائل: كلامي زيد منطلق، فإن تأخير "كلامي" وتقديم: زيد منطلق، ممتنع، لأن سامع قولك: زيد منطلق، قد علم أنه كلامك، فيتنزل قولك "كلامي" بعد ذلك منزلة قولك: كلامي هو كلامي، ولا فائدة في ذلك. ومما يمنع تقديم الخبر كون المبتدأ بعض أسماء الاستفهام أو الشرط نحو: أيُّهم

أفضل؟ ومَنْ يقمْ أقمْ معه. وكذا الحكم في الابتداء بما أضيف إلى بعض أسماء الاستفهام والشرط. ص: ويجوز نحو: في داره زيدٌ، إجماعا، وكذا: في داره قيام زيد، وفي دارها عبدُ هند، عند الأخفش. ش: نحو في داره زيد، جائز بلا خلاف، إذ ليس فيه إلا تقديم خبر مشتمل على ضمير عائد على مبتدأ متأخر، ولا بأس بذلك، لأنه مقدم الرتبة، فأجمع على جوازه، كما أجمع في باب الفاعل على جواز نحو: ضرب غلامَه زيدٌ. وأجاز الأخفش تقديم خبر مشتمل على ضمير عائد على ما أضيف إليه المبتدأ، وسوَّى في ذلك بين الصالح للحذف، وإقامة المضاف إليه مقامه، نحو: في داره قيام زيد، وبين ما لا يصلح لذلك نحو: في دارها عبد هند، وبقوله أقول: لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد. فإذا كان المضاف مقدر التقديم بوجه ما كان المضاف إليه مقدرا معه، إلا أن تقديم ضمير ما يصلح أن يقام مقام المضاف أسهل، ومنه قول العرب: في أكفانه درج الميت، وقول الشاعر: بمَسْعاته هلكُ الفتى أو نجاتُه ... فنفسَك صُنْ عن غَيِّها تك ناجيا ص: ويجب تقديم الخبر إن كان أداة استفهام، أو مضافا إليها، أو مصحِّحا تقديمه الابتداء بنكرة، أو دالا بالتقديم على ما لا يُفهم بالتأخير، أو مسندا دون أمّا إلى أنّ وصلتها، أو إلى مقرون بإلا لفظا أو معنى، أو إلى ملتبس بضمير ما التبس بالخبر، وتقديم المفسِّر إن أمكن مُصَحِّح، خلافا للكوفيين إلا هشاما، ووافق الكسائي في جواز نحو: زيدا أجَلُه مُحْرِزٌ، لا في نحو: زيدا أجلُه أحرز. ش: قد تقدم التنبيه على أن الاستفهام له صدر الكلام، وأن المبتدأ يجب تقديمه إن كان بعض أدواته، نحو: مَنْ عندك؟ أو مضافا إلى بعض أدواته نحو، غلامُ مَنْ عندك؟

وكذلك يجب تقديم الخبر إذا كان مضافا إلى بعض أدواته، نحو: صبيحة أي يوم سفرُك؟ وقد تقدم أن من مُصَحِّحات الابتداء بنكرة أن تخبر عنها بظرف مقدم مختص، نحو: عندك رجل، وإنما كان تقديمه مصححا لأن تأخيره يوهم كونه نعتا، وتقديمه يؤمن معه ذلك. وكذلك النكرة المخبر عنها بجار ومجرور مختص نحو: لك مال، أو بجملة متضمنة لما تحصل به الفائدة، نحو: قصَدك غلامُه رجلٌ، فلولا الكاف من "قصدك" لم يفد الإخبار بالجملة، كما أنه لولا اختصاص الظرف والمجرور لم يفد الإخبار بهما. وإلى الظرف المختص واللاحق به من الجار والمجرور والجملة أشرت بقولي: "أو مصححا تقديمه الابتداء بنكرة" وأما قولي: "أو دالا بالتقديم على ما لا يفهم بالتأخير" فأشرت به إلى نحو: لله درك، من الجمل التعجبية، فإن تعجبها لا يفهم إلا بتقديم الخبر وتأخير المبتدأ، وكذلك نحو: (سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنْذِرهم) من الجمل الاستفهامية المقصود بها التسوية، فإن الخبر فيها لازم التقديم، وذلك أن المعنى: سواء عليهم الإنذار وعدمه، فلو قدم (أأنذرتهم) لتوهم السامع أن المتكلم مستفهم حقيقة، وذلك مأمون بتقديم الخبر، فكان ملتزما. ومن الأخبار اللازم تقديمها الخبر المسند إلى أنّ المفتوحة وصلتها، كقولك: معلوم أنك فاضل، وكقوله تعالى: (وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم) وسبب التزام ذلك خوف التباس المكسورة بالمفتوحة، أو خوف التباس أنْ المصدرية بالكائنة بمعنى لعل، أو خوف التعرض لدخول إنّ على أنّ مباشرة، وفي ذلك من الاستثقال ما لا يخفى، فلو ابتدئ بأنّ وصلتها بعد أمّا لم يلزم تقديم الخبر، لأن المحذورات الثلاثة مأمونة بعد أمّا، إذ لا يليها إنّ المكسورة، ولا أنّ التي بمعنى لعل، فجائز أن يقال:

أمّا معلوم فأنك فاضل، وأمّا أنّك فاضل فمعلوم، ومنه قول الشاعر: دَابي اصطبارٌ وأمّا أنّني جَزِع ... يوم النَّوَى فلِوَجْدٍ كاد يِبْرِيني ومن الأخبار اللازمة تقديمها الخبر المسند إلى مقرون بإلا لفظا أو معنى، نحو قولك: ما في الدار إلا زيدٌ، وإنما عندك عمرٌو. وكذلك الخبر المسند إلى ملتبس بضمير ما التبس بالخبر، كقول الشاعر: أهابُك إجلالا وما بك قُدْرةٌ ... عليَّ ولكنْ ملءُ عينِ حبيبُها فحبيبها مبتدأ ملتبس بضمير العين، وملء عين خبر واجب التقديم، لأنه لو أخر وقدم حبيبها لعاد الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة، فالتزم تقديم الخبر وتأخير المبتدأ، ليؤمن بذلك المحذور. وذكر الالتباس أولى من ذكر الإضافة، لأن الالتباس يعم الإضافة وغيرها، فمثال الالتباس بالإضافة ما في البيت من قول الشاعر: ولكن ملء عين حبيبها ومثال الالتباس بغير الإضافة قولك: معرض عن هند المرسل إليها. وإذا التبس المبتدأ بضمير اسم ملتبس بالخبر وأمكن تقديم صاحب الضمير صحت المسألة عند البصريين وهشام الكوفي، في نحو: زيدا أجَلُه مُحْرزٌ، لأنه لم يَفصِل بين المنصوب ناصبه أجنبي، بخلاف: زيدا أجلُه أحرز، فإن الأجل وإن كان الفعل خبره، فإن الإخبار بالفعل على خلاف الأصل، لأن الفعل وفاعله أصلهما أن يستقل بهما كلام، فعد المبتدأ قبلهما أجنبيا، بخلاف وقوعه قبل اسم الفاعل، فإن اتصال المبتدأ به على الأصل، لأنه مفرد. قلت: وقد يفرق بين الصورتين بأن اسم الفاعل لا يجب تأخيره فلا يمتنع

تقديم معموله، بخلاف الفعل فإن تأخيره إذا وقع خبر مبتدأ واجب، فلا يجوز تقديم معموله، لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل، وهذه شبهة شهرت عند النحويين، وفيها ? إذا لم تقيد ? ضعف، لأن تقديم معمول العامل العارض منع تقدمه منبه على ما كان له من جواز التقدم قبل عروض العارض، فالحكم بجوازه أولى من الحكم بمنعه، ما لم يكن في ذلك إخلال ملازم، لأن منعه مفوّت للتنبيه على الأصل، ولأجل ذلك جاز أن يقدّم على: لن، ولا واللام الطلبيتين معمولات معمولاتهن نحو: زيدا لن أضرب، وعمْرا لم أكرم، العلمَ لتطلبْ، والجاهل لا تصحبْ. وقول أبي علي: إن الفعل وفاعله أصلهما أن يستقل بهما كلام، فعدّ المبتدأ قبلهما أجنبيا، تخيّل جدلي لا ثبوت له عند التحقيق، لأن الجملة لا توقع موقع المفرد إلا لتؤدي معناه، وتقوم مقامه، فلا يعدّ ما هي له خبرا أجنبيا، كما لا يعد أجنبيا ما المفرد له خبر. فالحاصل أن الصحيح ما ذهب إليه البصريون من التسوية في الجواز بين: زيدا أجلُه محرزٌ، وزيدا أجلُه أحرز، بل الأخير أولى بالجواز، لأن العامل فيه فعل، وعامل المثال الأول اسم فاعل، فمن منع الآخر دون الأول فقد رجح فرعا على أصل، ومن منعهما فقد ضيق رحيبا، وبعد قريبا. ومن حجج البصريين قول الشاعر: خيرا المبتغية حاز وإن لم ... يقض فالسعي بالرشاد رشاد فهذا مثل: زيدا أجله أحرز. فصل: ص: الخبر مفرد وجملة، والمفرد مشتق وغيره، وكلاهما مغاير للمبتدأ لفظا، متحد به معنى، ومتحد به لفظا دال على الشهرة وعدم التغير، ومغاير له مطلقا دال على التساوي حقيقة أو مجازا، أو قائم مقام مضاف، أو مشعر بلزوم حالٍ تُلْحِق العين بالمعنى، والمعنى بالعين مجازا.

ش: المراد هنا بالمفرد ما لعوامل الأسماء تسلط على لفظه، عاريا كان من إضافة وشبهها، أو ملتبسا بأحدهما، نحو: زيد منطلق، وعمرو صاحبك، وبشر قائم أبوه. والجملة ما تضمن جزأين ليس لعوامل الأسماء تسلط على لفظهما أو لفظ أحدهما، نحو: زيد أبوه عمرو، وبشر حضر أخوه. فنحو: قائم أبوه من المثال الثالث ليس بجملة عند المحققين، لتسلط العوامل على أول جزأيه. والمراد هنا بالمشتق ما دل على متصف مصوغا من مصدر مستعمل أو مقدر، فذو المصدر المستعمل نحو: ضارب ومضروب وحسن وأحسن منه، وذو المصدر المقدر نحو: ربْعة وحَزَوّر وحَضاجِر، من الصفات التي لا مصادر لها ولا أفعال، فتقدر لها مصادر كما تقدر للأفعال التي لم تستعمل لها مصادر. وغير المشتق ما عُرِّي مما رسم به المشتق. وكل واحد من النوعين إذا أخبر به عن مبتدأ فالأكثر أن يغايره لفظا ويتحد به معنى، نحو: هذا زيد، وزيد فاضل. فالشخص المشار إليه بهذا هو المعبر عنه بزيد، فقد اتحدا معنى وتغايرا لفظا، وكذا زيد فاضل. وقد يقصد بالخبر المفرد بيان الشهرة وعدم التغيير، فيتحد بالمبتدأ به لفظا، ويكون أيضا على نوعين، مشتقا كقول رجل من طيء: خليلي خليلي دون رَيْبٍ وربّما ... ألان امْرُوٌ قولا فظُن خليلا وغير مشتق كقول أبي النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري أي خليلي من لا أشك في صحة خُلته، ولا يتغير في حضوره ولا غيبته، وشعري ما ثبت في النفوس من جزالته، والتوصل به من المراد إلى غايته. وقد يفعل مثل

هذا بجواب الشرط، كقولك: من قصدني فقد قصدني، أي فقد قصد من عرف نجاح قاصده. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله". وقد يكون الخبر المفرد مغايرا للمبتدأ في لفظه ومعناه، والحامل على ذلك الإعلام بالتساوي في الحكم حقيقة، كقوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم) أو مجازا كقول الشاعر: ومُجاشِعٌ قَصَبٌ هَوَتْ أجوافُها ... لو يُنفَخُون من الخُئُورة طاروا وقد يكون المغاير لفظا قائما مقام مضاف كقوله تعالى (هم درجات عند الله) وكقوله تعالى: (ولكنّ البرَّ من آمن بالله) أي: هم ذوو درجات، ولكن البرَّ برُّ من آمن. ويدخل في هذا الدال على التساوي مجازا، فيقدر "مثل" مضافا إلى الخبر في قولهم: زيد زهير، ومجاشع قصب، ونحو ذلك. وقد يكون المغاير لفظا ومعنى مشعرا بحال تلحق العين بالمعنى، والمعنى بالعين، فالأول كقولك: زيد صوم، تريد بذلك المبالغة، كأنك جعلته نفس الصوم، ولا يراد بذلك: ذو صوم، لأن ذلك الصوم يصدق على القليل والكثير، وهو صوم لا يصدق إلا على المدمن للصوم، وكذلك ما أشبهه. والثاني قولهم: نهار فلان صائم، وليله قائم، ومنه: (والنهار مبصرا) وقول الشاعر أنشده سيبويه:

أمّا النهارُ ففي قَيْد وسِلْسِلة ... والليلُ في جوف مَنْحُوتٍ من السّاج ومن هذا القبيل قولهم: شِعرٌ شاعر، ومَوتٌ مائت. ص: ولا يتحمل غير المشتق ضميرا ما لم يؤول بمشتق، خلافا للكسائي، ويتحمله المشتق خبرا أو نعتا أو حالا ما لم يرفع ظاهرا، لفظا أو محلا، ويستكنّ الضمير إن جرى متحملُه على صاحب معناه، وإلا برز، وقد يستكن إن أمن اللبْس وفاقا للكوفيين. ش: مثال الخبر الذي لا يتحمل ضميرا لكونه غير مشتق ولا مؤول بمشتق قولك مشيرا إلى الأسد المعروف: هذا أسد، فأسد لا ضمير فيه لأنه خال من معنى الفعل. فلو وقع موقع المشتق لجرى مجراه في تحمل الضمير، كقولك مشيرا إلى رجل شجاع: هذا أسد، ففي أسد حينئذ ضمير مرفوع به لأنه مؤول بما فيه من معنى الفعل، فلو أسند إلى ظاهر لرفعه كقولك: رأيت رجلا أسدا أبوه، ومنه قول الشاعر: وليلٍ يقول الناسُ من ظُلُماته ... سواءٌ صحيحاتُ العُيُونِ وعُورها كأنّ لنا منه بيوتا حصينة ... مُسُوحا أعاليها وساجا كُسُورها فرفع الأعالي والكسور بمسوح وساج، لإقامتها مقام سود، وإذا جاز ارتفاع الظاهر بالجامد لتأوله بمشتق، كان ارتفاع المضمر به أولى، لأنه قد يرفع المضمر ما لا يرفع الظاهر، كأفعل التفضيل في أكثر الكلام. وإذا رفع الجامد القائم مقام مشتق ضميرا أو ظاهرا، جاز أن ينصب بعد ذلك تمييزا وحالا، كقول الشاعر: تُخَبِّرنا بأنك أحْوَذِيٌّ ... وأنت البَلْسَكاءُ بنا لُصوقا

وإذا ثبت تحمل الجامد ضميرا، ورفعه ظاهرا لتأوله بمشتق، لم يرتب في أن المشتق أحق بذلك، وقد حكم الكسائي وحده بذلك للجامد المحض، كقولك: هذا زيد، وزيد أنت. وهذا القول وإن كان مشهورا انتسابه إلى الكسائي دون تقييد، فعندي استبعاد في إطلاقه، إذ هو مجرد عن دليل، ومقتحم بقائله أوعر سبيل. والأشبه أن يكون الكسائي قد حكم بذلك في جامد عرف لمسماه معنى لازم لا انفكاك عنه، ولا مندوحة منه، كالإقدام والقوة للأسد، والحرارة والحمرة للنار، فإن ثبت هذا المذكور فقد هان المحذور، وأمكن أن يقال معذور. وإلا فضعف رأيه في ذلك بين، واجتنابه متعين. وأما الخبر المشتق إذا لم يرتفع به ظاهر لا لفظا نحو: زيد قائم غلامُه، ولا محلا نحو: عمرو مرغوب فيه، فلا بد من رفعه ضميرا، فإن جرى رافعه على صاحب معناه استكن الضمير دون خلاف، فإن برز فالبارز مؤكد للمستكن. وإن جرى رافعه على غير صاحب معناه لزم إبرازه عند البصريين، والكوفيين عند خوف اللبس، كقولك: زيد عمرو ضاربه هو، والزيدان العمران ضاربهما هما، "فهو" فاعل مسند إليه ضاربه وهو عائد على زيد، والهاء عائدة على عمرو، و"هما" فاعل مسند إلى ضاربهما، وهو عائد على الزيدان، والمضاف إليه عائد على العمران، وأفرد "ضارب" المسند إليه المثنى، لأنه واقع موقع فعل مجرد مسند إلى فاعل بارز، فالإبراز في مثل هذا مجمع عليه، لكون المعنى ملتبسا بدونه، فلو كان المراد صدور الضرب من المبتدأ الثاني ووقوعه على الأول لاستكن الضمير بإجماع، لعدم الحاجة إلى إبرازه. ومثال الإبراز المجمع عليه قول الشاعر: لكلِّ إلفَيْن بَيْنٌ بعد وصلهما ... والفرقدان حِجاه مقتفيه هما والتزم البصريون الإبراز مع أمن اللبس عند جريان رافع الضمير على غير صاحب معناه، ليجرى الباب على سنن واحد. وخالفهم الكوفيون فلم يلتزموا الإبراز عند

أمن اللبس، وبقولهم أقول لورود ذلك في كلام العرب، كقول الشاعر: قومي ذُرا المجد بانُوها وقد علمت ... بكُنْهِ ذلك عدنانٌ وقحطان فقومي مبتدأ، وذرا المجد مبتدأ ثان، وبانوها خبر جار على ذرا المجد في اللفظ، وهو في المعنى لقومي، وقد استغنى باستكنان ضميره عن إبرازه لعدم اللبس، ومثله قول الشاعر أيضا: إن الذي لهواكِ آسَفَ رهطَه ... لجديرةٌ أن تصطفيه خليلا ومثله أيضا قول الآخر: ترى أرْباقَهم مُتَقَلِّدِيها ... إذا حَمِيَ الحديدُ على الكُماة وتكلف بعض المتعصبين فقال: تقدير البيت الأول: قومي بانو ذرا المجد بانوها، وتقدير البيت الثاني: لأنت جديرة أن تصطفيه، وتقدير البيت الثالث: ترى أصحابَ أرباقهم متقلديها. والصحيح حمل الأبيات على ظاهرها، دون تكلف ما يتم المعنى بعدمه. والكلام على المشتق الواقع نعتا وحالا كالكلام عليه إذا وقع خبرا، فمَنْ التزم إبراز الضمير عموما مع الخبر الجاري على غير صاحب معناه، التزمه مع النعت والحال الجاريين على غير ما هما له، أمن اللبس أو لم يؤمن، ومن لم يلتزم الإبراز في الخبر إلا عند خوف اللبس، لم يلتزمه في النعت والحال إلا عند خوف اللبس ومن النعت الجاري على غير ما هو له دون إبراز ضمير قراءة ابن أبي عبلة: (يُؤْذَنَ لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) بخفض "غير".

وإن كان الجاري على غير ما هو له من خبر ونعت وحال فعلا، وأمن اللبس، اغتفر ستر الضمير، كقولك: زيد الخبز يأكله. فلو خيف اللبس وجب الإبراز كقولك: غلام زيد يضربه هو، إذا كان المراد أن زيدا يضرب الغلام. ص: والجملة اسمية وفعلية، ولا يمتنع كونها طلبية خلافا لابن الأنباري وبعض الكوفيين، ولا قسمية خلافا لثعلب. ش: الجملة الواقعة خبرا إن كانت اسمية فمثالها: الله فضله عظيم، وإن كانت فعلية فمثالها: (الله يجتبي إليه من يشاء) ويدخل في الاسمية المصدرة بحرف عامل في المبتدأ، والشرطية المصدرة باسم غير معمول للشرط، ويدخل في الفعلية الشرطية المصدرة بحرف، أو باسم معمول للشرط، فمثال الإخبار بجملة مصدرة بحرف عامل في المبتدأ: (الله لا إله إلا هو) و (والذين يُمَسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نُضيع أجر المصلحين) ومثال الإخبار بشرطية مصدرة باسم غير معمول للشرط: الله مَنْ يطعه ينج. ومثال الإخبار بشرطية مصدرة بحرف: الله إن تسأله يعطك. ومثال الإخبار بجملة شرطية مصدرة باسم معمول للشرط: الله مَنْ يَهد فلا مضل له. ومنع أبو بكر بن الأنباري ومن وافقه الإخبار بجملة طلبية، نظرا إلى أن الخبر حقه أن يكون محتملا للصدق والكذب، والجملة الطلبية ليست كذلك. وهذا

نظر واه، لأن خبر المبتدأ لا خلاف في أن أصله أن يكون مفردا، والمفرد من حيث هو مفرد لا يحتمل الصدق والكذب، فالجملة الواقعة موقعه حقيقة بأن لا يشترط احتمالها للصدق والكذب، لأنها نائبة عما لا يحتملهما. وأيضا فإن وقوع الخبر مفردا طلبيا نحو: كيف أنت؟ ثابت باتفاق، فلا يمتنع ثبوته جملة طلبية بالقياس لو كان غير مسموع، ومع ذلك فهو مسموع شائع في كلام العرب، كقول رجل من طيء: قلتُ مَنْ عِيلَ صبرُه كيف يَسْلو ... صاليا نارَ لَوْعة وغرام وروى عن ثعلب منع الإخبار بجملة قسمية، وهو أيضا منع ضعيف إذ لا دليل عليه، مع ورود الاستعمال بخلافه، كقول الله تعالى: (والذين هاجروا في الله مِنْ بعد ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئنَّهم في الدنيا حسنة) وكقول الشاعر: جَشَأتْ فقلت اللّذْ خشيت ليأتِيَنْ ... وإذا أتاكِ فلاتَ حينَ مَناص ص: وإن اتحدت بالمبتدأ معنى هي أو بعضُها استغنت عن عائد، وإلا فلا، وقد يحذف إن علم ونصب بفعل أو صفة، لفظا أو محلا، ويجوز حذفه بإجماع إن كان مفعولا: [والمبتدأ كل أو شبهه في العموم والافتقار، ويضعف إن كان المبتدأ غير ذلك، ولا يخص جوازه بالشعر خلافا للكوفيين]. ش: فالجملة المتحدة بالمبتدأ معنى كحديث وكلام، ومنه ضمير الشأن والقصة كقوله تعالى: (قل هو الله أحد) وكقوله: (فإذا هي شاخصة أبصار

الذين كفروا) ومن الإخبار عن مفرد بجملة اتحدت به معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله". والجملة المتحد بعضها بالمبتدأ معنى كل جملة تتضمن ما يدل على ما يدل عليه المبتدأ بإشارة أو غيرها، كقوله تعالى: (ولباس التقوى ذلك خير) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة، وكقوله تعالى: (والذين يُمَسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين) لأن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، فيتحصل به ما كان يتحصل بضميره، مع تأكد الاعتناء، ومزيد الثناء. ويكثر الاتحاد لفظا ومعنى تعظيما لأمر المحدَّث به، كقوله تعالى: (وأصحابُ اليمين ما أصحاب اليمين). فإن لم يتحد بالمبتدأ معنى الجملة ولا بعضها لم تستغن عن ضمير، وإلى هذا أشرت بقولي: وإلا فلا، ونبهت بكون الجائز الحذف منصوب اللفظ والمحل بفعل أو صفة، على أن غير ذلك لا يحذف كالمرفوع مطلقا، وكالمنصوب بحرف، وكالمجرور بإضافة غير صفة. ثم بينت جواز حذف الضمير إذا علم، ونصب بفعل أو صفة لفظا أو محلا. فمثال المنصوب بفعل لفظا قول الشاعر: ثلاثٌ كلُّهن قتلتُ عمدا ... فأخزى الله رابعة تعود

ومثال المنصوب بفعل محلا قول الآخر: فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نساءُ ويوم نُسَرّ أراد الأول: ثلاث كلهن قتلتهن عمدا، وأراد الآخر: ويوم نساء فيه، ويوم نسر فيه. ومثال المنصوب بصفة لفظا قول الراجز: غَناءُ نفس العفافُ المغنى ... والخائفُ الإملاقِ لا يستغنى مثال المنصوب بصفة محلا قول الشاعر: سُبْلُ المعالي بنو الأعلين سالكة ... والإرثُ أجدرُ مَنْ يَحْظَى به الولدُ ومثال الجائز حذفه بإجماع لكونه مفعولا به والمبتدأ كل، قراءة ابن عامر: (وكلٌّ وعد الله الحسنى)، ومثال ذلك قول الراجز: قد أصبحتْ أمُّ الخيار تدّعي ... عليّ ذنبا كلُّه لم أصنع فلو كان المبتدأ غير كل، والضمير مفعول به، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلا في الاضطرار، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار، ويرونه ضعيفا، ومنه قراءة السلمي: (أفحكمُ الجاهلية يَبْغون) بالرفع. ومثل هذه القراءة

قول الشاعر: وخالدٌ يَحمدُ أصحابُه ... بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطل هكذا رواه أبو بكر بن الأنباري برفع خالد وأصحابه. ص: ويغني عن الخبر باطراد ظرف، أو جرف جر تامٌ معمول في الأجود لاسم فاعل كَوْنٍ مطلقا، وفاقا للأخفش تصريحا ولسيبويه إيماء، لا لفعله، ولا للمبتدأ، ولا للمخالفة، خلافا لزاعمي ذلك. وما يعزى للظرف من خبرية وعمل فالأصح كونه لعامله، وربما اجتمعا لفظا. ش: ذهب الكوفيون إلى أن الظرف من نحو: زيد خلفك، منصوب بمخالفته المبتدأ، حكاه ابن كيسان والسيرافي. وهذا القول فاسد من أربعة أوجه: أحدها: أن تخالف المتباينين في معنًى نسبته إلى كل واحد منهما كنسبته إلى الآخر، فإعماله في أحدهما ترجيح من غير مرجح. الثاني: أن المخالفة بين الجزأين محققة في مواضع كثيرة، ولم تعمل فيها بإجماع، نحو: أبو يوسف أبو حنيفة، وزيد زهير، ونهارك صائم. وأنت فطر، وهم درجات، فلو صلحت المخالفة للعمل في الظرف المذكور لعملت في هذه الأخبار ونحوها لتحقق المخالفة فيها. الثالث: أن المخالفة معنى لا تختص بالأسماء دون الأفعال، فلا يصح أن تكون عاملة، لأن العامل عملا مجمعا عليه لا يكون غير مختص، هذا إذا كان العامل لفظا، مع أنه أقوى من المعنى، فالمعنى إذا عدم الاختصاص أحق بعدم العمل لضعفه. الرابع: أن المخالفة لو كانت صالحة للعمل لزم على مذهب الكوفيين ألا تعمل في الظرف عند تأخره، لأن فيه عندهم عائدا هو رافع المبتدأ مع بعده بالتقدم،

فإعمال ذلك العائد في الظرف لقربه منه أحق. فبان بهذه الأوجه فساد ما ذهب إليه الكوفيون. وذهب ابن خروف إلى أن عامل النصب في الظرف المذكور المبتدأ نفسه، وقال: هو مذهب سيبويه، وحمله على ذلك أن سيبويه قال في باب ما ينتصب من الأماكن والوقت: قد تنتصب لأنها موقوع فيها، ومكون فيها، وعمل فيها ما قبلها، كما أن العِلْم إذا قلت: أنت الرجل علما، عمل فيه ما قبله، وكما عمل في الدرهم عشرون إذا قلت: عشرون درهما ثم قال سيبويه: "فالمكان هو خلفك" ثم أردفه بنظائر وقال: "فهذا كله انتصب على ما هو فيه وهو غيره، وصار بمنزلة المنون الذي عمل فيما بعده نحو العشرين، ونحو: خير منك عملا، فصار: زيد خلفك، بمنزلة ذلك، والعامل في خلف الذي هو في موضعه، والذي هو في موضع خبره، كما أنك إذا قلت: عبد الله أخوك، فالآخر رفعه الأول، وعمل فيه، وبه استغنى الكلام، وهو منفصل منه" هذا نصه، وهو يحتمل أربعة أوجه: أحدها: كون الظرف منصوبا بعامل معنوي، وهو حصول المبتدأ فيه، بقوله: فانتصبت لأنها موقوع فيها، ومكون فيها. ويحتمل قوله: عمل فيها ما قبلها على عمل المبتدأ في المحل. فيكون للظرف على هذا التقدير عامل نصب في لفظه وهو المعنى المذكور، وعامل رفع في محله وهو المبتدأ، وهذا الوجه باطل إذ لا قائل به، ولأن الحصول لو عمل في الظرف العرفي وهو الخلف وشبهه لعمل في الظرف اللغوي كالكِيس والكُوز، فكان يقال: المالُ الكيسَ، والماءُ الكوزَ، بالنصب، بل الحصول المنسوب إلى الكيس والكوز ونحوهما أولى بالعمل، لأنه حصول إحاطة وإحراز، وإذا لم يصلح للعمل وهو أقوى، فغيره بعدم العمل أولى. والوجه الثاني: "كون الظرف منصوبا بالمخالفة كقول الكوفيين، فإنه يوهمه سيبيوه بقوله في الباب المذكور: فهذا كله انتصب على ما هو فيه وهو غيره"

فظاهر هذا القول شبيه بما حكاه ابن كيسان من قول الكوفيين: إن الظرف منصوب بالمخالفة، لأنك إذا قلت: زيد أخوك، فالأخ هو زيد. وإذا قلت: زيد خلفك، فالخلف ليس بزيد، فمخالفته له عملت فيه النصب، وقد تقدم إبطال هذا القول. فسيبويه بريء ممن عوّل عليه، وجنح إليه، لأنه قال حين مثل بظروف بعد مبتدآت: "وعمل فيها ما قبلها" وهذه عبارة لا تصلح أن يراد بها إلا شيء متقدم على الظرف، والمخالفة بخلاف ذلك. فتيقن أن مراده غير مراد الكوفيين. الوجه الثالث: ما ذهب إليه ابن خروف من أن عامل النصب في الظرف المذكور المبتدأ نفسه، واحتماله أظهر من الوجهين المتقدمين، وهو أيضا مخالف لمراد سيبويه. وسأبين ذلك إن شاء الله تعالى، ولو قصد ذلك سيبيوه نصا لم يُعَوَّل عليهن لأنه يبطل من سبعة أوجه: أحدها أنه قول مخالف لما اشتهر عن البصريين والكوفيين، مع عدم دليل، فوجب اطراحه. الثاني: أن قائله يوافقنا على أن المبتدأ عامل رفع، ويخالفنا بادعاء كونه عامل نصب، وما اتفق عليه إذا أمكن أولى مما اختلف فيه، ولا ريب في إمكان تقدير خبر مرفوع ناصب للظرف، فلا عدول عنه. الثالث من مبطلات قول ابن خروف: أنه يستلزم تركيب كلام تام من لفظين: ناصب ومنصوب، لا ثالث لهما، ولا نظير له، فوجب اطراحه. الرابع: أنه قول يستلزم ارتباط متباينين دون رابط، ولا نظير لذلك، ومن ثمّ لم يكن كلاما نحو: زيد قام عمرو، حتى يقال: إليه، أو نحوه. الخامس: أن نسبة الخبر من المبتدأ كنسبة الفاعل من الفعل، والواقع موقع الفاعل من المنصوبات لا يغني عن تقدير الفاعل، فكذا الواقع موقع الخبر من المنصوبات لا يغني عن تقدير الخبر. السادس: أن الظرف الواقع موقع الخبر من نحو: زيد خلفك، نظير المصدر من نحو: ما أنت إلا سيرا، في أنه منصوب مغن عن مرفوع، والمصدر منصوب بغير المبتدأ، فوجب أن يكون الظرف كذلك، إلحاقا للنظير بالنظير. السابع: أن عامل النصب في غير الظرف المذكور بإجماع من ابن خروف ومنا لا يكون إلا فعلا أو شبيهه، أو شبيه شبيهه، والمبتدأ لا يشترط فيه ذلك، فلا يصح

انتصاب الظرف المذكور به. الوجه الرابع من محتملات كلام سيبويه: أن ينتصب الظرف المذكور بمستقر أواستقر أو شبههما، وكلام سيبويه قابل لاستنباط ذلك منه، لأنه قال قاصدا للظروف الواقعة بعد المبتدأ: وعمل فيها ما قبلها، كما أن العِلْمَ إذا قلت: أنت الرجل علما، عمل فيه ما قبله. فما قبلها يحتمل أن يريد به الذي قبلها في اللفظ وهو المبتدأ، ويحتمل أن يريد به الذي قبلها في التقدير وهو مستقر أو استقر أو شبههما، إلا أن الاحتمال الأول يفضي إلى المحذورات المتقدم ذكرها، والاحتمال الثاني لا يفضي إليها، فكان أولى بمراده، ويؤيد أولويته في إرادته أنه شبه ناصب الظرف بما نصب التمييز في قوله: خير عملا، وناصب التمييز خبر لا مبتدأ، فينبغي أن يكون ناصب الظرف خبرا لا مبتدأ، فإن ذلك أليق بالنظير، وأوفق في التقدير. وكذا قوله: "فهذا كله انتصب على ما هو فيه وهو غيره" يحتمل أن يريد بما هو فيه المبتدأ، ويحتمل أن يريد به ما حذف من مستقر ونحوه وهو الأولى، لما ذكرت من أن تقديره لا يفضي إلى المحذورات السالفة، ويؤيد ذلك أيضا قوله: "وهو غيره" أي ما هو في الظرف غير المبتدأ، واحتاج إلى هذه العبارة لينبه على أن بين الظرف والمبتدأ مقدرا، وهو خبر للمبتدأ، وعامل في الظرف، وأنه غير للمبتدأ، ولا يصح أن يعاد هو إلى المبتدأ، والهاء من غيره إلى الظرف، لأن الإعلام بذلك إعلام بما لا يجهل، بخلاف الإعلام بأن ثم مقدرا هو غير المبتدأ وعامل في الظرف، فإن الحاجة داعية إليه. ويتأيد ذلك أيضا بقوله: "وصار بمنزلة المنون الذي عمل فيما بعده، نحو العشرين، ونحو خير منك عملا" فإن في "صار" ضميرا عائدا على ما هو فيه وهو غيره، وقد ثبت أنه ما يقدر من مستقر ونحوه، وجعل نسبة هذا المقدر من الظرف كنسبة خير من عملا، وفيه أيضا إشعار بأنه لا يريد بما المبتدأ بل الخبر المقدر، لأن خيرا من قوله: "خير عملا" خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنت أو هو خير عملا، وجعل ما هو خبر نظيرا لخبر، أولى من جعله نظيرا لمبتدأ. ثم قال: "فصار زيد خلفك بمنزلة ذلك" أي صار زيد قبل خلفك بمنزلة مستقر، لأنه يدل عليه، ويجعله في الذهن مشارا إليه، ثم قال: والعامل في خلف الذي هو في موضعه"

أي الذي خلف في موضعه، والذي خلف في موضعه هو مستقر أو نحوه من أسماء الفاعلين، فإنه الخبر في الحقيقة، فالظرف في موضعه لأنه عمدة، والظرف فضلة، ثم قال: والذي هو في موضع خبره" يعني استقر ونحوه من الأفعال الدالة على كون مطلق، فإن الظرف إذا علق بفعل فذلك الفعل في موضع الخبر الأصلي، وهو اسم الفاعل، فأشار سيبويه بهذا إلى جواز تعليق الظرف باسم فاعل وبفعل، ونبه على أن تقدير اسم الفاعل أولى، بأن أضاف الموضع إلى ضميره، ولو قال: أو الذي هو في موضع خبره، لكان أبين، لكن من كلام العرب وقوع الواو موقع أو حيث لا تصلح الجمعية، كقوله تعالى: (مَثْنى وثُلاث ورُباع) ووقوع أو موقع الواو حيث تتعين الجمعية، كقول الشاعر: مِن بين مُلْجِم مُهْرِه أو سافِع ويدل على أن تقدير اسم الفاعل أولى أربعة أوجه: أحدها: أن اجتماع اسم الفاعل والظرف قد ورد، كقول الشاعر: لكَ العِزُّ إنْ مَوْلاك عَزَّ وإن يَهُن ... فأنت لدى بُحْبُوحَةَ الهُونِ كائن ولم يرد اجتماع الفعل والظرف في كلام يستشهد به، وإلى هذا البيت ونحوه أشرت بقولي: "وربما اجتمعا لفظًا". الثاني: أن الفعل لا يغني تقديره عن تقدير اسم الفاعل ليستدل على أنه في موضع رفع، واسم الفاعل مغن عن تقديره، وتقدير ما يغني أولى من تقدير ما لا يغني. الثالث: أن كل موضع وقع فيه الظرف المذكور صالح لوقوع اسم الفاعل، وبعض مواضعه غير صالح للفعل، نحو: أمّا عندك فزيد، وجئت فإذا عندك

زيد، لأن "أمّا" وإذا المفاجأة لا يليهما فعل. الرابع: أن الفعل المقدر جملة بإجماع، واسم الفاعل عند المحققين ليس بجملة، والمفرد أصل، وقد أمكن، فلا عدول عنه. فلهذه المرجحات وافقت الأخفش بقولي في الأصل: "معمول في الأجود لاسم فاعل كون مطلق، وفاقا للأخفش تصريحا، ولسيبويه إيماء" وخالفت ما ذهب إليه أبو علي والزمخشري من جعل الظرف جملة. ورجح بعضهم تقدير الفعل بأنه متعين في صلة الموصول، وهذا ليس بشيء، لأن الظرف الموصول به واقع موقعا لا يغني فيه المفرد، بل إذا وقع فيه مفرد تأول بالجملة، والظرف المخبر به واقع موقعا هو للمفرد بالأصالة، وإذا وقعت الجملة فيه تأولت بمفرد، فلا يصلح أن يعامل أحدهما معاملة الآخر. ونبهت بقولي: "لاسم فاعل كون مطلق" على أن اسم فاعل كون مقيد، كمعتكف، وقارئ لا يغني عنه مجرد ذكر الظرف إذا قصد البيان. والذي اخترته من تعرية الظرف من الخبرية والعمل هو مذهب أبي الحسن بن كيسان، وهو الظاهر من قول السيرافي، وتسميته خبرا على الحقيقة غير صحيح، وكذا إضافة العمل إليه لا تصح إلا على سبيل المجاز. وللكلام في هذا مواضع يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى معتضدا بعضها ببعض. والكلام على حرف الجر المستغنى به كالكلام على الظرف، وقيدته بالتمام تنبيها على أن الناقص لا يغني، وهو ما لا يفهم بمجرد ذكره وذكر معموله ما يتعلق به، نحو: زيد عنك، وعمرو بك، فلا بد لنحو هذين من ذكر المتعلق به نحو: زيد عنك معرض، وعمرو بك واثق، فإن فهم المراد بدليل جاز الحذف نحو قولك: "أما زيد فبعمرو مأخوذ، وأما بشر فبخالد، أي فبخالد مأخوذ، فحذف مأخوذ لدلالة الأول عليه. وحرف الجر التام ما يفهم ما تعلق به بمجرد ذكره نحو: (الحمد لله) و (والأمر إليك) و (مَثَلُ نوره كمِشْكاة).

ص: ولا يغني ظرف زمان غالبا عن خبر اسم عين، ما لم يشبه اسم المعنى بالحدوث وقتا دون وقت، أو تُعْنَ إضافة معنى إليه، أو يَعُمّ واسم الزمان خاص أو مسئول به عن خاص. ويغني عن خبر اسم معنى مطلقا، فإن وقع في جميعه أو أكثره وكان نكرة رفع غالبا، ولم يمتنع نصبه ولا جره بفي خلافا للكوفيين. وربما رفع خبرا الزمانُ الموقوعُ في بعضه. ش: لا يفيد الاستغناء بظرف زمان عن خبر اسم عين غالبا إلا إذا كان العين مثال المعنى في حدوثه وقتا دون وقت، كالرطب والكمأة، فإن الاستغناء عن خبر هذا النوع بظرف الزمان يفيد، كقولك: الرطب في شهر كذا، والكمأة في فصل الربيع. وكذلك إذا كان دليل على إضافة معنى إلى العين كقولك: "أكل يوم كذا ثوب تلبَسُه، وأكل ليلة ضيف يؤمك"، ومنه قول الراجز: أكُلَّ عام نَعَم تَحْوُونه ... يُلْقِحُه قوم وتُنْتِجُونه أي: أكل يوم تَجَدُّدُ ثوب تلبسه، وأكلَّ ليلة إتيانُ ضيف يؤمك، وأكل عام إحراز نعم.

وكذا إن عم المبتدأ وكان اسم الزمان خاصا، أو مسئولا به عن خاص، كقولك: نحن في شهر كذا، وفي أي الفصول نحن؟ وأشرت بقولي: "غالبا" إلى أنه قد يُخبَر عن اسم عين بظرف زمان في غير ذلك إذا ثبت دليل، كقول امرئ القيس: اليوم خمر، وغدا أمر، وكذا قول الشاعر: جارتي للخَبِيض والهِرُّ للفأ ... ر وشاتي إذا أردت مجيعا وأما اسم المعنى فيغني عن خبره ظرف الزمان الموقوع في بعضه، والموقوع في جميعه، لكن الموقوع في جميعه إن كان نكرة فرفعه أكثر من نصبه، كقوله تعالى: (وحمله وفِصاله ثلاثون شهرا) وكقوله تعالى: (غُدُوُّها شهر ورواحها شهر) وكذا الموقوع في أكثره كقوله تعالى: (الحجُّ أشهرٌ معلومات) ولو جُرّ هذا النوع بفي، أو نصب على مقتضى الظرفية لم يمتنع عند البصريين، وامتنع عند الكوفيين، وحجتهم في المنع من ذلك صون اللفظ عما يوهم التبعيض فيما يقصد به الاستغراق، وهذا مبني على قول بعضهم إن "في" للتبعيض، حكاه السيرافي. وليس ذلك بصحيح، وإنما "في" حرف مفهومه الظرفية بحسب الواقع في مصحوبها، فإن كان

الواقع يستلزم استغراقا كالصّوم بالنسبة إلى النهار، فلا يمنع منه معنى "في" ولا لفظها، وإن كان صالحا للاستغراق وغيره فصلاحيته لذلك موجودة قارنته "في" أو لم تقارنه، ولذلك صح في الاستعمال أن يقال: في الكيس درهم، وأن يقال: في الكيس ملؤه من الدراهم. فعلم بهذا أن القول ما قاله البصريون، والله أعلم. ومثال رفع الزمان الموقوع في بعضه قولك: الزيارة يوم الجمعة. ولا فرق في هذا بين المعرفة والنكرة، وروى قول النابغة: زعم البَوارحُ أن رحلتنا غدا ... وبذاك خبرنا الغُرابُ الأسود بنصب "غد" ورفعه، ذكر ذلك السيرافي، والوجهان في هذا النوع جائزان بإجماع، إلا أن النصب أجود، لأن الحذف معه أقيس، واستعماله أكثر، وإلى هذا أشرت بقولي: وربما رُفع الزمان الموقوع في بعضه. ص: ويُفْعَل ذلك بالمكان المتصرف بعد اسم عين، راجحا إن كان المكاني نكرة، ومرجوحا إن كان معرفة، ولا يخص رفع المعرفة بالشعر، أو بكونه بعد اسم مكان خلافا للكوفيين. ويكثر رفع الوقت المتصرف من الظرفين بعد اسم عين مقدّرا إضافة بُعْدٍ

إليه، ويتعين النصب في نحو: أنت مني فرسخين، بمعنى: أنت من أشياعي ما سرنا فرسخين. ش: "ذلك" من قولي: ويفعل ذلك "إشارة إلى الرفع المفهوم من قولي: وربما رفع خبرا الزمان الموقوع في بعضه" وراجحا ومرجوحا حالان من "ذلك" المشار به إلى الرفع. ومثال ما قصد مما يكون الرفع فيه راجحا لتنكير الظرف المكاني مع كونه مؤقتا متصرفا مخبرا به عن اسم عين قولهم: المسلمون جانب، والمشركون جانب، ونحن قدام، وأنتم خلف، والنصب جائز عند البصريين وعند الكوفيين، ومن زعم أن مذهب الكوفيين في مثل هذا التزام الرفع فقد وهم. فإن كان اسم المكان معرفة متصرفا اختير النصب، وجاز الرفع عند البصريين، ولم يجز عند الكوفيين إلا في الشعر إذا كان المخبر عنه اسم مكان كقولك: داري خلفك، ومنزلي أمامك. ويكثر رفع الظرف متصرفا مؤقتا إذا وقع بعد اسم عين مقدرٍ إضافة بُعْدٍ إليه، كقولك: زيد مني يومان أو فرسخان، أي: بعد زيد مني يومان أو فرسخان. وقريب منه: دارك من خلف داري فرسخان ونصب فرسخين وشبههما في مثل هذا الوجه أجود منه في نحو: زيد مني فرسخان، ونصب فرسخين في نحو: دراك خلف داري فرسخين، على التمييز، أجود من نصبه ظرفا. فإن قلت: أنت مني فرسخين، على تأويل: أنت من أشياعي ما سرنا فرسخين، تعين النصب، وكان "أنت" مبتدأ، ومني خبره، وفرسخين ظرفا، ومعنى"مني" من

أشياعي وأصحابي وأهلي، كقول الله تعالى ? حاكيا عن إبراهيم عليه السلام: (فمن تَبِعني فإنه مني). ص: ونصب اليوم إن ذكر مع الجمعة ونحوها ممّا يتضمن عملا جائز، إلا أن ذكر مع الأحد ونحوه مما لا يتضمن عملا، خلافا للفراء وهشام. وفي الخلْف مخبرا به عن الظَّهر رفعٌ ونصب، وما أشبههما كذلك، فإن لم يتصرف كالفوق والتحت لزم نصبه. ش: إذا قلت: اليومُ الجمعةُ، واليوم السبت، جاز نصب اليوم، لأن الجمعة بمعنى الاجتماع، والسبت بمعنى الراحة. وكذا اليوم العيد، واليوم الفطر، واليوم النّوروز، كل هذه يجوز معها نصب اليوم بلا خلاف، لأن ذكرها منبه على عمل يوقَع في اليوم، بخلاف قولك: اليومُ الأحدُ، واليوم الاثنان، واليوم الثلاثاء، واليوم الأربعاء، واليوم الخميس، فإنها بمنزلة اليوم الأول، واليوم الثاني، واليوم الثاث، واليوم الرابع، واليوم الخامس، فلذلك لايجوز في اليوم معها إلا الرفع، هذا مذهب النحويين إلا الفراء وهشاما، فإنهما أجازا النصب على معنى: الآن الأحد، والآن الاثنان، ومعنى هذا أن الآن أعم من الأحد والاثنين، فيجعل الأحد والاثنين واقعا في الآن، كما تقول: هذا الوقت، هذا اليوم، وقد قال سيبويه ما يقوي هذا، لأنه أجاز: اليومَ يومك، بنصب اليوم بمعنى الآن، وقال: "لأن الرجل قد يقول: أنا اليوم أفعل ذلك، ولا يريد يوما بعينه" فهذا مما يقوي قول الفراء. وللمحتج لسيبويه أن يقول: إن قول القائل: اليوم يومك، بمعنى: اليوم أمرك الذي تذكرته، فأجريا مجرى واقع وموقوع فيه، بخلاف: اليوم الأحد.

وتقول: ظهرك خلفَك، بنصب الخلف على الظرفية، ويجوز رفعه لأنه الظهر في المعنى، مع أنه متصرف. ومثله في جواز الوجهين: رجلاك أو نعلاك، أسفلَك وأسفلُك، وقرئ: (والركب أسفلُ منكم) وأسفل. فلو كان الظرف غير متصرف تعين نصبه، وإن كان هو الأول في المعنى، ولذلك قال أبو الحسن الأخفش: اعلم أن العرب تقول: فوقَك رأسك، فينصبون الفوق، لأنهم لم يستعملوه إلا ظرفا، والقياس أن يرفع لأنه هو الرأس، وهو جائز، غير أن العرب لم تقله، قال: وتقول: تحتَك رجلاك، لا يختلفون في نصب التحت. ص: ويغني عن خبر اسم عين باطراد مصدرٌ يؤكده مكرّرا أو محصورا، وقد يرفع خبرا وقد يغني عن الخبر غيرُ ما ذكر من مفعول به وحال. ش: الاستغناء عن خبر اسم عين بمصدر مكرر نحو قولهم: زيدٌ سيرا سيرا، وبمصدر محصور كقولهم: إنما أنت سيرا. والأصل: زيد يسير سيرا، فحذف الفعل واستغنى عنه بمصدره، وجعل تكرره بدلا من اللفظ بالفعل، فامتنع إظهاره، لئلا يجتمع عوض ومعوض منه. وكذلك الأصل: إنما أنت تسير سيرا، فحذف الفعل، واستغنى عنه بمصدره، وقام الحصر مقام التكرار في سببية التزام الإضمار. وقد يجعل هذا النوع من المصادر خبرا قصدا للمبالغة، فيرفع، نحو: فإنّما هي إقبالٌ وإدْبار وأشرت بقولي: "وقد يغني عن الخبر غيرُ ما ذكر من مفعول به وحال" إلى قول بعض العرب: إنما العامريُّ عمامتَه، ويروى: إنما العامرِي عمّتَه، فمن روى:

عمامته، جعله مفعولا به، كأنه قال: إنما العامري يتعهد عمامته، ومن روى: عمته، نصبه على المصدرية، كأنه قال: إنما العامري يتعمم عمَّته، فيكون نظير: إنما أنت سيرا، ولا يكون من القليل، بل من الكثير المطرد. ومن الاستغناء عن خبر المبتدأ بالمفعول به ما رواه الكوفيون من قول العرب: حسبت العقرب أشدَّ لسعة من الزُّنبور فإذا هو إياها. أي: فإذا هو يساويها. ومن الاستغناء عن خبر المبتدأ بالمفعول به أن يكون الخبر فعل قول، فيحذف ويستغنى بالمقول، كقوله تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى* إن الله يحكم بينهم) أي يقولون: ما نعبدهم: فيقولون خبر، وما نعبدهم في موضع نصب به، فأغنى عنه، وحذف. ومثله: (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) أي: فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم. ومن الاستغناء عن خبر المبتدأ بحال مغايرة لما تقدم ذكره ما روى الأخفش من قول بعض العرب: زيد قائما، والأصل: ثبت قائما، أو عرف قائما. وأسهل منه ما حكاه الأزهري من قول بعض العرب: "حكمك مُسَمَّطا" أي حكمك لك مُثَبِّنا، فحكمك مبتدأ، خبره لك، ومسمطا حال استغنى بها، وهي عارية من الشروط المعتبرة في نحو: ضربي زيدا قائما. وعلى مثل هذا يحمل في الأجود قول النابغة الجعدي رحمه الله تعالى: بَدَتْ فعلَ ذي وُدٍّ فلما تبعتها ... تَوَلَّتْ وأبقت حاجتي في فؤاديا وحَلّت سوادَ القلب لا أنا باغيا ... سِواها ولا في حبِّها متراخيا أي: لا أُرى باغيا، فحذف الفعل، وجعل "باغيا" دليلا عليه، وهو أولى

من جعل "لا" رافعة "لأنا" اسما، ناصبة باغيا خبرا، فإن إعمال "لا" في معرفة غير جائز بإجماع. ص: وقد يكون للمبتدأ خبران فصاعدا، بعطف وغير عطف، وليس من ذلك ما تعدد لفظا دون معنى، ولا ما تعدد صاحبه حقيقة أو حكما. ش: تعدد الخبر على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يتعدد لفظا ومعنى لا لتعدد المخبر عنه كقوله تعالى: (وهو الغفورُ الودودُ ذو العرش المجيدُ فعّالٌ لما يريد) وكقول الراجز: مَنْ كان ذابَتٍّ فهذا بَتِّي ... مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتِّي ومثله قول الشاعر: ينامُ بإحدى مُقْلتَيْه ويَتَّقي ... بأخرى المنايا فهو يَقْظانُ نائم وعلامة هذا النوع صحة الاقتصار على واحد من الخبرين أو الأخبار. والثاني: أن يتعدد لفظا ومعنى لتعدد المخبر عنه حقيقة كقولك: بنو زيد فقيه ونحوي وكاتب. ومنه قول الشاعر: يداك يدٌ خيرُها يُرْتَجى ... وأُخرى لأعدائها غائظة أو لتعدد المخبر عنه حكما، كقوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخر بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد) وكقول الشاعر: والمرءُ ساعٍ لأمرٍ ليس يدركُه ... والعيشُ شُحٌّ وإشفاقٌ وتأميل

والثالث: أن يتعدد لفظا دون معنى، لقيامه مقام خبر واحد في اللفظ، كقولك: هذا حامض حلو، بمعنى مُزٌّ، وكقولك: هو أعسر يسر، بمعنى: أضبط، أي: عامل بكلتا يديه. فما كان من النوع الأول صح أن يقال: فيه خبران وثلاثة بحسب عدده. وما كان من النوع الثاني والثالث فلا يعبر عنه بغير الوحدة إلا مجازا، لأن الإفادة لا تحصل فيه عند الاقتصار على بعض المجموع. ويجوز استعمال الأول بعطف ودون عطف، بخلاف الثاني فلا يستعمل دون عطف، وأما الثالث فلا يستعمل فيه العطف، لأن مجموعه بمنزلة مفرد، فلو استعمل فيه العطف لكان كعطف بعض كلمة على بعض. وقد أجاز العطف أبو علي، فعنده أن قول القائل: هذا حلو وحامض جائز، وليس كذلك، لما ذكرته. ص: وإن توالت مبتدآتٌ أُخْبِر عن آخرها مجعولا هو وخبره خبرَ متلوه، والمتلو مع ما بعده خبر متلوه، إلى أن تخبر عن الأول بتاليه مع ما بعده، ويضاف غيره إلى ضمير متلوه، أو يجاء بعد خبر الآخر بروابط المبتدآت أول لآخر، وتال لمتلو. ش: توالي المبتدآت على ضربين: أحدهما بتجرد، والآخر بإضافة. فمع التجرد يخبر عن آخرها، ويجعل هو وخبره خبر متلوه، والمتلو مع ما بعده خبر متلوه، إلى أن يخبر عن الأول بتاليه مع ما بعده، ويؤتى بعد خبر الآخر بروابط مجعولا أولها للأقرب، وتاليه لمتلو الأقرب، إلى أن يكون آخرها لأول المبتدآت، نحو: بنوك الزيدان هند عمرو الدراهم أحطته بها عندهما في دارهم. ومع الإضافة يخبر عن الآخر، ويجعل هو وخبره خبر متلوه، والمتلو مع ما بعده خبر متلوه، إلى أن يخبر عن الأول بتاليه مع ما بعده، نحو: زيد عمه خاله أخوه أبوه قائم، فقائم خبر الأب، والأب وخبره خبر الأخ، والأخ وخبره خبر الخال، والخال وخبره

خبر العم، والعم وخبره خبر زيد، والمعنى: أبو أخي خال عم زيد قائم. فصل: ص: تدخل الفاء على خبر المبتدأ وجوبا بعد أمّا، إلا في ضرورة أو مقارنة قولٍ أغنى عنه المقول، وجوازا بعد مبتدأ واقع موقع "مَنْ" الشرطية، أو "ما" أختها. وهو "ال" الموصولة بمستقبل عام، أو غيرها موصولا بظرف أو شبهه، أو بفعل صالح للشرطية. أو نكرةٌ عامة موصوفة بأحد الثلاثة، أو مضاف إليها مشعر بمجازاة، أو موصوف بالموصول المذكور، أو مضاف إليه. وقد تدخل على خبر كُلٍّ مضاف إلى غير موصوف، أو على موصوف بغير ما ذكر. ولا تدخل على خبر غير ذلك خلافا للأخفش، وتزيلها نواسخ الابتداء إلا إنّ وأنّ ولكن على الأصح. ش: نسبة خبر المبتدأ من المبتدأ كنسبة الفاعل من الفعل، لأنه معمول أول الجزأين وثانيهما، فحق الخبر ألا تدخل عليه الفاء، كما لا تدخل على الفاعل، فإذا دخلت فلا بد لدخولها من سبب، والسبب على ضربين، موجب ومجوز: فالموجب تقدم أمّا، كقوله تعالى (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحقٌّ من ربهم) ولا تحذف بعد "أمّا" إلا في ضرورة كقول الشاعر: فأمّا القتالُ لا قتالَ لديكم ... ولكن سيرٌ في عِراض المواكب أو مع قول مخبر به مستغنى عنه بمقوله، كقوله تعالى: (فأما الذين اسودت وجوهُهم أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي: فيقال لهم: أكفرتم.

والمجوز لدخول الفاء على الخبر كون المبتدأ واقعا موقع مَنْ الشرطية أو "ما" أختها، فيتناول ذلك "أل" الموصولة بما يقصد به الاستقبال والعموم، كقوله تعالى: (والسارقُ والسارقة فاقطعوا أيديهما) فلو قصد به مضى أو عهد فارق "أل" شبه من وما، فلم يؤت بالفاء. ومثال غير "أل" موصولا بظرف قول الشاعر: ما لدى الحازم اللبيب معارا ... فمصونٌ وما لَهُ قد يَضيع ومثال الموصول بشبه الظرف قول الله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله). ومثال الموصول بفعل صالح للشرطية قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) وقرأ نافع وابن عامر: "بما كسبت" بحذف الفاء، فدل ذلك على أمرين: أحدهما: أن ما هذه موصولة لا شرطية، إذ لو كانت شرطية للزمت الفاء، لأن بما كسبت لا يصلح أن يكون شرطا، فإن الفاء لا تفارقه إلا في ضرورة. والثاني: أن اقتران الفاء بخبر المبتدأ الذي نحن بصدده جائز لا لازم، لأنها لم تلحقه إلا لشبهه بالجواب، فلم تساوه في لزوم لحاقها، ليكون للأصل على الفرع مزية. وقد خلا الخبر المشار إليه من الفاء بإجماع القراء في قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدّق به أولئك هم المتقون). وقيدت الصلة التي تقع بعدها الفاء بكونها فعلا صالحا للشرطية، ليعلم أنها لو كانت فعلا خالص المضي لم تدخل الفاء، وكذلك لو قرن بما لا تدخل عليه "مَنْ" الشرطية، ولا "ما" أختها، نحو: الذي إنْ حدّث صَدقَ مكرمٌ، والذي ما يكذب

أو لن يكذب مفلحٌ. ومثال النكرة العامة الموصوفة بأحد الثلاثة: رجل عنده حزمٌ فسعيد، وعبدٌ لكريم فما يضيع، ونفس تسعى في نجاتها فلن تخيب. ومثال المضاف إلى النكرة المقيدة مشعرا بالمجازاة: كل رجل عنده حزم فسعيد، وكل عبد لكريم فما يضيع، وكل نفس تسعى لنجاتها فلن تخيب. ومثال دخول الفاء على خبر موصوفٍ بالموصول المذكور قول الشاعر: صِلُوا الحزم فالخطبُ الذي تحسبونه ... يسيرا فقد تَلْقَوْنَه متعسرا وقد دخلت على خبر الموصوف بعد دخول إنّ في قوله تعالى: (قُلْ إن الموتَ الذي تَفرُّون منه فإنه مُلاقيكم) فدخولها عليه مع عدم "إنّ" أحق. ومثال دخولها على خبر كلٍّ مضاف إلى غير موصوف ما جاء في بعض الأذكار المأثورة عن بعض السلف، وهو: بسم الله، ما شاء الله، كل نعمة فمن الله، ما شاء الله، الخير كله بيد الله، ما شاء الله، لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله. ومثال دُخُولها على خبر كلٍّ مضاف إلى الموصوف بغير ما ذكر، قول الشاعر: كلُّ أمرٍ مباعدٍ أو مُدانِ فمَنُوطٌ بحكمة المتعالي وأجاز الأخفش دخول الفاء على خبر المبتدأ الذي لا يشبه أداة الشرط نحو: زيد فمنطلق. ورأيه في ذلك ضعيف، لأنه لم يرد به سماع، ولا حجة له في قول الشاعر:

وقائلةٍ خَوْلانُ فانكح فتاتهم ... وأُكْرُومةُ الحَيَّيْن خِلْوٌ كما هيا ولا في قول الآخر: أرَواحٌ مودِّع أم بكور ... أنت فانظر لأيّ ذاك تصير لأن معنى الأول: هذه خولان، فخولان خبر مبتدأ محذوف. ومعنى الثاني: انظر أنت، فأنت فاعل فعل محذوف. على أن زيادة الفاء في مثل هذا قد سهلها كون الخبر أمرا، كما سهلها كون العامل مفرّغا في نحو: زيدا فاضرب، و: (إلى ربك فارغب) لأن الأمر يطرق إلى ما يعلق به معنى المجازاة، فالقائل: زيدا فاضرب، كأنه قال: ما يكون من شيء فزيدا اضرب، وما يكن من شيء فزيد اضربه، فلا يلزم من جواز هذا، جواز: زيد فمنطلق، إذ ليس الخبر أمرا، فيطرق إلى ما تعلق به معنى المجازاة. وإذا دخل بعض نواسخ الابتداء على مبتدأ دخلت الفاء على خبره أزال شبهه بأداة الشرط، فامتنع دخول الفاء على الخبر، ما لم يكن الناسخ إنّ وأنّ أو لكنّ، فإنها ضعيفة العمل، إذ لم يتغير بدخولها المعنى الذي كان مع الابتداء، ولذلك جاز العطف معها على معنى الابتداء، ولم يعمل في الحال. بخلاف كأنّ وليت ولعل، فإنها قوية العمل، مغيرة بدخولها المعنى الذي كان مع الابتداء، مانعة بدخولها من العطف على معنى الابتداء، صالحة للعمل في الحال، فقوى شبهها بالأفعال، فساوتها في المنع من الفاء المذكورة. ومن بقاء الفاء مع دخول إن قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يُقْبَل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهبا) و: (إن الذين كفروا وصدُّوا

عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) وقوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون). ومن شواهد بقائها مع أن المفتوحة قوله تعالى: (واعلموا أنّما غَنِمْتُم من شيء فأنّ لله خُمسَه) ومنه قول الشاعر: علمت يقينا أن ما حُمَّ كونُه ... فسَعْيُ امرِئ في صَرْفه غير نافع ومن شواهد بقائها بعد دخول لكن قول الشاعر: بكل داهية ألقى العُداة وقد ... يُظَن أنِّيَ في مكْرِي بهم فزِعُ كلّا ولكنّ ما أُبْديه من فَرَق ... فكَيْ يُغَرُّوا فيُغْريهم بي الطمعُ ومثله قول الآخر: ولكنّ ما يُقْضَى فسوف يكون

باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر

باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر ص: فبلا شَرْطٍ: كان، وأضحى، وأصبح، وأمسى، وظل، وبات، وليس، وصار. وصلة لما الظرفية دام. ومنفية بثابت، متصل النفي، مذكور غالبا، متصل لفظا أو تقديرا، أو مطلوبة النفي: زال ماضي يزال، وانفك، وبرح، وفتئ وفتأ وأفْتأ، ووَنى، ورام مُرادِفتاها. ش: شرط الفعل المنسوب إلى هذا الباب أن يدخل على جزأي إسناد، مباين ثانيهما للحالية بتمحض تعريف، أو بتمحض جمود، أو بعدم الاستغناء عنه دون عارض، نحو قولك: صار الذي آمَنَ أخانا بعد أن كان عدونا، وكان مالك فضة فصار ذهبا، ففي منصوبي كان وصار من مباينة الحال ما ذكرته، فمن ألحق بهما فعلا لا يساويهما في هذا الاعتبار فهو محجوج، وسيأتي القول في ذلك مبسوطا إن شاء الله تعالى. ولأفعال هذا الباب انقسامات بنسب مختلفة: فأول انقساماتها إلى ما يعمل بلا شرط، أي موجبا وغير موجب، وصلة وغير صلة، وهو الثمانية الأول. وإلى ما يعمل بشرط كونه صلة لما الظرفية المصدرية التي يقصد بها وبصلتها التوقيت كقولك: نجاتُك ما دام الله ملجأك. وإلى ما يعمل بشرط كونه منفيا أو منهيا عنه، وهو أربعة أفعال مشهورة ملحق بها اثنان. فالأربعة: زال، وانفك، وبرح، وفتئ، وقد يقال: فَتأ وأفتأ. والملحقات بهن: ونى ورام، التي مضارعها يَريم. ومعنى الستة إذا نفيت داخلة على الجملة، الإعلام بلزوم مضمون الجملة في المضي أو في الاستقبال نحو: ما زال العلم حسنا، ولن يزال الجهل قبيحا.

وقد تناول قولي: منفية، المنهي عنه، لأنه منفي في المعنى، والمنفي بليس، فالمنهي عنه كقول الشاعر: صاحِ شَمِّر ولا تزلْ ذاكر المو ... ت فنِسْيانُه ضلالٌ مُبين والمنفي بليس كقول الشاعر: ليس ينفكُّ ذا غِنًى واعتزازِ ... كلُّ ذي عِفَّةٍ مُقَلٍّ قَنُوع وقيدت "زال" بكون مضارعها يزال، احترازا من زال بمعنى تحول، فمضارعه يزول، وهو فعل لازم، احترازا من زال الشيء بمعنى عزله، فمضارعه يزيل. وقيد: وَنى ورام، الملحقتان بهن بمرادفتهما لهن، احترازا من ونى بمعنى فتر، ومن رام بمعنى حاول، وبمعنى تحوّل، ومضارع التي بمعنى حاول يروم، ومضارع التي بمعنى تحول يريم، وهكذا مضارع المرادفة زال، وهي وونى بمعنى زال غريبتان، ولا يكاد النحويون يعرفونهما، إلا من عُنِيَ باستقراء الغريب. ومن شواهد استعمالها قول الشاعر: لايَني الخِبُّ شِيمةَ الخَبِّ ما دا ... م فلا تحسبنَّه ذا ارعواءِ وقال آخر في إعمال يريم العمل المشار إليه: إذا رُمتَ ممن لا يَريم متيما ... سُلُوًّا فقد أبْعدتَ في رَوْمِك المرمي وأشرت بقولي فيهما وفي أخواتهما: "منفية بثابت متصل غالباً" إلى أن نافيهما قد يحذف، كقوله تعالى: (تَفْتَأ تذكر يوسف) أي لا تزال تذكر يوسف. ومن حذف لا فيهما قول الشاعر:

تَنْفكُّ تسمعُ ما حَيِيـ ... ـــــــــــت بهالكٍ حتى تكونَه ومنه قول امرأة من العرب: تزال حبالٌ مُبْرَماتٌ أعَدّها ... لها ما مشى منها على خُفِّه الجمل أي لا تزال. وأشرت بقولي: "متصل غالبا" إلى أن النافي قد يوجد منفصلا كقول الشاعر: ما خِلْتُني زِلتُ بعدكم ضَمِنًا ... أشكو إليكم حُمُوَّة الألم أراد: خلتني ما زلت بعدكم، وخلت جاءت هنا بمعنى أيقنت، وهو أيضا غريب. ومن الفصل بين النافي والمنفي في هذا الباب قول الآخر: ولا أُراها تزال ظالمةً ... تُحْدِثُ لي قُرْحةً وتَنْكَؤُها أراد: وأراها لا تزال. ص: وكلها تدخل على المبتدأ إن لم يخبر عنه بجملة طلبية، ولم يلزم التصدير، أو الحذف، أو عدم التصرف، أو الابتدائية لنفسه أو مصحوب لفظي أو معنوي، وندر: وكُوني بالمكارم ذَكِّرِيني. ش: جرت عادة النحويين بإطلاق القول في كون هذه الأفعال تدخل على المبتدأ، فلا يبينون امتناع بعض المبتدآت من دخولها عليها، وقد تعرض لذلك بعضهم دون حصر، وقد بينت ما أغفلوه من ذلك، فإن الحاجة داعية إلى معرفته.

فمن ذلك المبتدأ المخبر عنه بجملة طلبية، نحو: زيدٌ اضربه، وعمرٌو لا تصحبه، وبشْرٌ هل أتاك؟ لا تدخل عليه هذه الأفعال ولا غيرها من العوامل اللفظية، وقول من قال: وكُوني بالمكارم ذَكِّريني نادر لأن الخبر فيه جملة طلبية. ومن المبتدآت التي لا تدخل عليها هذه الأفعال كل مبتدأ تضمن معنى الاستفهام أو الشرط فاستحق لذلك أن يكون مُصَدَّرا نحو: أيُّ القوم أفضل؟ وأيُّهم يأت فله حق. وكذا المبتدأ المضاف إلى ما تضمن ذلك. ومما يجب تصديره فيمتنع دخول هذه الأفعال عليه المقرون بلام الابتداء، لأن لها صدر الكلام، فلا يعمل فيما اقترنت به غير الابتداء. ومما لا تدخل عليه هذه الأفعال ما لزم حذفه، كالمبتدأ المنوي قبل النعت المقطوع، كقولك: الحمدُ للهِ الحميدُ، بالرفع، وقد تقدم الإعلام بما يحذف من المبتدآت على سبيل اللزوم. ومما لا تدخل عليه هذه الأفعال ما لا يتصرف. نحو: طُوبَى للمؤمن، وسلامٌ عليك، وويلٌ للكافر. وما لزم الابتدائية بنفسه نحو قولك: أن تفعل، أقاموه مقام ينبغي لك أن تفعل، فلم تدخل الأفعال عليه، كما لا تدخل على ما أقيم مقامه. وكذا قولهم: أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدا، أقاموه مقام: ما يقول ذلك رجل إلا زيد، فعاملوه معاملته في امتناع دخول الفعل عليه، ومجيء إلا بعده. ومما لزم الابتدائية لمصحوب لفظي المبتدأ الواقع بعد لولا الامتناعية، والواقع بعد إذا المفاجأة. ومما لزم الابتداء لمصحوب معنوي "ما" التعجبية، وما بعد "لله" في التعجب، نحو: لله درك. ومن اللازم الابتدائية لمصحوب معنوي ما جرى مَثَلا،

نحو قولهم: الكلابُ على البقر، والعاشيةُ تهيج الآبية، والإيناسُ قبل الإبْساس. فهذه وأمثالها من المبتدآت التي وردت أمثالا لا تفارقها الابتدائية، لأن الأمثال لا تغير. ص: فترفعه ويسمى اسما وفاعلا، وتنصب خبره ويسمى خبرا ومفعولا، ويجوز تعدده خلافا لابن درستويه. ش: الشائع في عرف النحويين التعبير عن مرفوع هذا الباب ومنصوبه باسم وخبر، وعبر سيبويه عنهما باسم الفاعل واسم المفعول، فقال قاصدا هذا الباب: "هذا باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول، واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد" وكذا فعل المبرد، فإنه ذكر هذه الأفعال في بابها ثم قال: "وهذه أفعال صحيحة كضرب، ولكنا أفردنا لها بابا، إذ كان فاعلها ومفعولهما يرجعان إلى معنى واحد". فأيَّ التعبيرين استعمل النحوي أصاب، ولكن الاستعمال الأشهر أولى. وإذا دخل شيء من هذه الأفعال على خبر متعدد نصب الجميع، كما ينصب الخبر الذي لم يتعدد، فيقال في: هذا حلوٌ حامضٌ: كان هذا حلوا حامضا، وذلك أن ارتفاع الخبرين فصاعدا ثبت بعامل، أي بالابتداء، وكان وأخواتها أقوى منه، ولذلك انتسخ عمله بعملها، فكما جاز للعامل الأضعف أن يعمل في خبرين فصاعدا، كذلك يجوز للعامل الأقوى، بل هو بذلك أولى.

وذهب ابن درستويه إلى منع تعدد الخبر في هذا الباب، لأنه شبيه بمفعول ما يتعدى إلى مفعول واحد، فكما لا يتعدى الفعل المتعدي إلى واحد إلى أكثر من واحد، لا يُنْصَب بأفعال هذا الباب إلا خبر واحد، وهذا منع لا يلتفت إليه، ولا يُعَرَّج عليه. ص: وتسمى نواقص لعدم اكتفائها بمرفوع، لا لأنها تدل على زمن دون حدث، فالأصح دلالتها عليهما إلا ليس. ش: زعم جماعة منهم ابن جني وابن برهان والجرجاني أن كان وأخواتها تدل على زمن وقوع الحَدَث، ولا تدل على حدث، ودعواهم باطلة من عشرة أوجه: أحدها: أن مدعي ذلك معترف بفعلية هذه العوامل، والفعلية تستلزم الدلالة على الحدث والزمان معا، إذ الدال على الحدث وحده مصدر، والدال على الزمان وحده اسم زمان، والعوامل المذكورة ليست بمصادر ولا أسماء زمان، فبطل كونها دالة على أحد المعنيين دون الآخر. الثاني: أن مدعي ذلك معترف بأن الأصل في كل فعل الدلالة على المعنيين، فحكمه على العوامل المذكورة بما زعم إخراج لها عن الأصل، فلا يقبل إلا بدليل. الثالث: أن العوامل المذكورة لو كانت دلالتها مخصوصة بالزمان، لجاز أن تنعقد جملة تامة من بعضها ومن اسم معنى، كما ينعقد منه ومن اسم زمان، وفي عدم جواز ذلك دليل على بطلان دعواه. الرابع: أن الأفعال كلها إذا كانت على صيغة مختصة بزمان معين فلا يمتاز بعضها من بعض إلا بالحدث كقولنا: أهان وأكرم، فإنهما متساويان بالنسبة إلى الزمان، مفترقان بالنسبة إلى الحدث. فإذا فرض زوال ما به الافتراق، وبقاء ما به التساوي، لزم ألا يكون بين الأفعال المذكورة فرق ما دامت على صيغة واحدة، ولو كان الأمر كذلك، لم يكن فرق بين: كان زيد غنيا، وصار غنيا، والفرق حاصل، فبطل ما يوجب خلافه. ولو كان الأمر كذلك لزم تناقض قول من قال: أصبح زيد

ظاعنا وأمسى مقيما، لأنه على ذلك التقدير بمنزلة قوله: زيد قبل وقتنا ظاعن مقيم، وإنما يزول التناقض بمراعاة دلالة الفعلية على الإصباح والإمساء، وذلك هو المطلوب. الخامس: أن من جملة العوامل المذكورة انفك، ولا بد معها من ناف، فلو كانت لا تدل على الحدث الذي هو الانفكاك، بل على زمن الخبر، لزم أن يكون معنى: ما انفك زيد غنيا: ما زيد غنيا في وقت من الأوقات الماضية، وذلك نقيض المراد، فوجب بطلان ما أفضى إليه. السادس: أن من جملة العوامل المذكورة دام، ومن شرط إعمالها عمل كان كونها صلة لما المصدرية، ومن لوازم ذلك صحة تقدير المصدر في موضعها، كقولك: جُدْ ما دمت واجدا، أي: جد مدة دوامك واجدا، فلو كانت دام مجردة عن الحدث لم يقم مقامها اسم الحدث. السابع: أن هذه الأفعال لو لم يكن لها مصادر لم تدخل عليها أنْ، كقوله تعالى: (إلا أنْ تكونا ملكين) لأنّ أنْ هذه وما وصلت به في تأويل المصدر، وقد جاء مصدرها صريحا في قول الشاعر: ببذلٍ وحِلْم سادَ في قومه الفتى ... وكونُك إياه عليك يسيرُ وقد حكى أبو زيد في كتاب الهمزة مصدر فتئ مستعملا، وحكى غيره: ظللت أفعل كذا ظَلولا. وجاءوا بمصدر كاد في قولهم: لا أفعل ذلك ولا كيدا، أي ولا أكاد كيدا، وكاد فعل ناقص من باب كان، إلا أنها أضعف من كان، إذ لا يستعمل لها اسم فاعل، واسم فاعل كان مستعمل، ولا يستعمل منها أمر، والأمر من كان مستعمل، وإذا لم يمتنع استعمال مصدر كاد، وهي أضعف من كان، فأن لا يمتنع استعمال مصدر كان أحق وأولى.

الثامن: أن هذه الأفعال لو كانت لمجرد الزمان لم يغن عنها اسم الفاعل، كما جاء في الحديث: "إن هذا القرآن كائن لكم أجرا، وكائن عليكم وزرا" وقال سيبويه: "قال الخليل: هو كائنُ أخيك على الاستخفاف، والمعنى: كائنٌ أخاك" هذا نصه. وقال الشاعر: وما كلُّ مَنْ يُبْدِي البشاشة كائنا ... أخاك إذا لم تُلْفِه لك مُنْجِدا لأن اسم الفاعل لا دلالة فيه على الزمان، بل هو دال على الحَدث وما هو به قائم، أو ما هو عنه صادر. ومثل ذلك قول الآخر: قضى الله يا أسماءُ أنْ لستُ زائلا ... أحِبُّك حتى يُغْمِضَ العينَ مُغْمِضُ أراد: لست أزال أحبك، فأعمل اسم الفاعل عمل الفعل. التاسع: أن دلالة الفعل على الحدث أقوى من دلالته على الزمان، لأن دلالته على الحدث لا تتغير بقرائن، ودلالته على الزمان تتغير بالقرائن، فدلالته على الحدث أولى بالبقاء من دلالته على الزمان. العاشر: أن هذه الأفعال لو كانت مجردة عن الحدث، مخلصة للزمان لم يُبْن منها أمرن كقوله تعالى: (كونوا قَوّامين بالقسط) لأن الأمر لا يبنى مما لا دلالة فيه على الحدث. وما ذهبت إليه في هذه المسألة من كون هذه الأفعال دالة على مصادرها، هو الظاهر من قول سيبويه والمبرد والسيرافي. وأجاز السيرافي الجمع بين كان ومصدرها توكيدا، ذكر ذلك في شرح الكتاب. فإذا ثبت بالدلائل المذكورة أن هذه الأفعال غير ليس دالة على الحدث والزمان

كغيرها من الأفعال، فليعلم أن سبب تسميتها نواقص إنما هو عدم اكتفائها بمرفوع، وإنما لم تكتف بمرفوع، لأن حدثها مقصود إسناده إلى النسبة التي بين معموليها، فمعنى قولك: كان زيد عالما، وجد اتصاف زيد بالعلم، والاقتصار على المرفوع غير واف بذلك، فلهذا لم يستغن به عن الخبر التالي، وكان الفعل جديرا بأن ينسب إلى النقصان. وقد أشار إلى هذا المعنى سيبويه بقوله: "تقول: كان عبد الله أخاك، فإنما أردت أن تخبر عن الأخوّة" فبيّن أن كان مسندة إلى النسبة، فمن ثمّ بينا عدم الاكتفاء بالمرفوع. ص: وإنْ أريد بكان ثَبَت، أو كَفَل، أو غزل، وبتواليها الثلاثِ دخل في الضُّحى والصباح والمساء، وبظل دام أو طال، وببات نزل ليلا، وبصار رجع أو ضَمّ أو قطع، وبدام بقِي أو سكن، وببرح ذهب أوظهر، وبونى فتر، وبرام ذهب أو فارق، وبانفك خلص أو انفصل، وبفتأ سكّن أو أطْفأ، سميت تامة، وعملت عمل ما رادفت. وكلها تتصرف إلا ليس ودام، ولتصاريفها ما لها، وكذا سائر الأفعال. ش: جميع هذه الأفعال تكون ناقصة وتامة، إلا ليس، وزال التي مضارعها يزال، وفتِئ بكسر التاء مهموزا، وكذا فَتَأ وأفتأ مراد فتاها، وحكم ما ينسب إلى التمام حكم ما هو بمعناه. وأجاز أبو علي في الحلبيات وقوع زال تامة، وقد يعضد رأيه في ذلك بقول الراجز:

وفي حُمَيّا بَغْية تَفجُّسُ ... ولا يزال وهو ألْوَى ألْيَسُ فاستغنى بالجملة الحالية عن الخبر. ولنا أن نقول: الخبر محذوف، والتقدير: ولا يزال متفجسا، وهو ألوى أليس، والتفجس التكبر، والأليس الشجاع. وتتم كان بأن يراد بها معنى ثبت، وثبوت كل شيء بحسبه، فتارة يعبر عنه بالأزلية نحو: كان الله ولا شيء معه. وتارة يعبر عنه بحَدَث، كقوله: إذا كان الشتاءُ فأدْفِئوني ... فإنّ الشيخَ يُهرِمه الشتاءُ وتارة يعبر عنه بحضرن كقوله تعالى: (وإنْ كان ذو عُسْرة). وتارة يعبر عنه بقدر أو وَقَع نحو: ما شاء الله كان. وتتم كان أيضا بأن يراد بها معنى كفل، فتتعدى بعلى، ومصدرها كِيانة. وتتم كان أيضا مرادا بها معنى غزل، ذكر ذلك أبو محمد البطليوسي. وتتم توالي كان الثلاث وهن: أضحى وأصبح وأمسى، بأن يراد بهن الدخول في الضحى والصباح والمُسْي، كقوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) وكقول الشاعر: ومِنْ فَعَلاتي أنني أُحْسِنُ القِرَى ... إذا الليلةُ الشهباءُ أضْحَى جليدها وتتم ظل بأن يراد بها معنى دام أوطال. وتتم بات في قولهم: بات بالقوم، أو بات القومَ إذا نزل بهم ليلا، فتستعمل متعدية بالباء وبنفسها. وتتم صار بأن يراد بها معنى رجع فتتعدى بإلى، أو معنى ضم أو قطع فتتعدى

بنفسها إلى مفعول واحد. وتتم دام بأن يراد بها معنى بقي، كقوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) أو سكن، ومنه الحديث: (نَهى أن يُبال في الماء الدائم) أي الساكن. وتتم برح بأن يراد بها معنى ذهب، أو معنى ظهر، وقد فسر قولهم: برح الخفاء، بالوجهين. وتتم ونى بأن يراد بها معنى فتر، وهو أشهر من استعمالها بمعنى دام الناقصة. وتتم انفك بأن تكون مطاوع فك الخاتم وغيره إذا فصله، والأسير إذا خلصه. وتتم فتئ إذا أراد بها كسر وأطفأ، قال الفراء: فتأته عن الأمر كسرته، وفتأت النار أطفأتها. وما سوى ليس ودام من أفعال هذا الباب يتصرف، أي يستعمل منه ماض ومضارع وأمر واسم فاعل ومصدر، إلا أن الأمر لا يتأتى صوغه من ملازمات النفي، ولمضارعها والأمر ما لماضيها، وكذا جميع الأفعال المتصرفة. ص: ولا تدخل ليس وتوابعها على ما خبره مفرد استفهامي أو مضاف إليه، ويوافقهن في عدم الدخول على ما خبره فعل ماض صار باتفاق، والبواقي على رأي، وقد تخالفهن ليس. ش: المراد بتوابع ليس دام وزال وانفك وبرح وفتئ وونى ورام، لأنهن تبعن ليس حين ذكرت في أول الباب. والحاصل أن ليس والمذكورات بعدها متساويات في عدم الدخول على مبتدأ خبره مفرد استفهامي نحو: كيف زيد؟ وأين عمرو؟ أو مضاف إلى مفرد استفهامي، نحو: غلام من زيد؟

وصار مساوية لليس وتوابعها السبعة في عدم الدخول على مبتدأ خبره فعل ماض، وربما خالفتهن ليس فوليها فعل ماض، كما جاء في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس قد صليت معنا؟ " وحكى سيبويه عن بعض العرب: "ليس خلق الله أشعر منه، وليس قالها زيد" وإلى هذا وأمثاله أشرت بقولي: "وقد تخالفهن ليس" أي قد تخالف ليس صار ودام وما ذكر بعدها بالدخول على فعل ماض. وأشرت بقولي: "والبواقي على رأي" إلى ما ذهب إليه بعض النحويين من أن كان وأصبح وأمسى وأضحى وظل وبات لا تدخل على ما خبره فعل ماض، فلا يقال على هذا الرأي: كان زيد فعل، ولا أصبح عمرو قرأ. وهذا الرأي باطل، إذ ليس لصاحبه حجة مع الاستعمال لخلافه، كقول الشاعر: وكنّا حَسِبنا كلَّ بيضاءَ شحمةً ... لياليَ لاقَيْنا جُذام وحِمْيرا وكقول الآخر: أمست خلاءً وأمسى أهلُها احتملوا ... أخْنَى عليها الذي أخنى على لُبَد ص: وتَرِد الخمسة الأوائل بمعنى صار، ويلحقها ما رادفها من: آض، وعاد، وآل، ورجع، وحار، واستحال، وتحوّل، وارتد، وندر الإلحاق بصار في: ما جاءت حاجتك؟ وقعدت كأنها حربة، والأصح ألا تلحق بها آل ولا قعد مطلقا، وألا يجعل من هذا الباب غدا وراح، ولا أسحر وأفجر وأظهر.

ش: الخمسة الأوائل هي: كان وأضحى وأصبح وأمسى وظل. والأصل في كان الدلالة على دَوام مضمون الجملة إلى زمن النطق بها دون تعرض لانقطاع، ولذا قيل في قول الله تعالى: (وكان الله على كل شيء قديرا) أي: لم يزل على كل شيء قديرا، ومنه قول الشاعر: ولكني مضيت ولم أجَدِّف ... وكان الصبر عادةَ أولينا ومثله قول الآخر: وكنت إذا جاري دعا لمَضُوفةٍ ... أُشَمِّرُ حتى يُنْصِفَ الساقَ مئزري فإن قصد الانقطاع جيء بقرينة، كقوله تعالى: (إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم) وكقول الشاعر: وكانوا أناسا يَنْفَحُون فأصبحوا ... وأكثرُ ما يُعطُونك النَّظرُ الشَّزْرُ وتستعمل بمعنى صار دالة على التحول من وصف إلى آخر، كقوله تعالى: (وبُسَّت الجبال بَسًّا* فكانت هباءً مُنْبثا * وكنتم أزواجا ثلاثة). وكقول الشاعر: بتَيهاءَ فَقْرٍ والمطيُّ كأنها ... قَطا الحَزْن قد كانت فِراخا بُيُوضُها والأصل في: أضحى وأصبح وأمسى وظل النواقص الدلالة على ثبوت مضمونِ

الجملة في الضحى والصباح والمساء والنهار، وقد يَردْن بمعنى صار، كقول الشاعر: ثم أضْحَوْا كأنهم ورقٌ جَـ ... .ــــــــــــــفَّ فألْوَتْ به الصَّبا والدبورُ وكقوله تعالى: (فأصبحتم بنعمته إخوانا) وكقول الشاعر: أمست خلاءً وأمسى أهلُها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لُبَد وكقوله تعالى: (فظلت أعناقهم لها خاضعين) وزعم الزمخشري أن بات قد تستعمل بمعنى صار، وليس بصحيح، لعدم شاهد على ذلك، مع التتبع والاستقراء، وحمل بعض المتأخرين على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" ولا حاجة إلى ذلك، لإمكان حمل بات على المعنى المجمع عليه، وهو الدلالة على ثبوت مضمون الجملة ليلا، كما أن ظل غير المرادفة لصار لثبوت مضمون الجملة نهارا، كما قال الشاعر: أظلُّ أرعَى وأبيتُ أطحنُ ... الموتُ من بعضِ الحياة أهْوَنُ ومن أصلح ما يتمسّكُ به جاعلُ بات بمعنى صار قول الشاعر: أجِنِّي كُلَّما ذُكِرَتْ كليبٌ ... أبيت كأنني أُطْوَى بجمر

لأن كلما تدل على عموم الأوقات، وأبيت إذا كانت على أصلها مختصة بالليل. ومثال استحال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فاستحالت غَرْبا" ومثله قول الشاعر: إنّ العداوةَ تستحيلُ مودةً ... .بتدارُكِ الهَفَوات بالحسنات ومثال تحول قول امرئ القيس: فيالَكِ من نُعْمى تحوّلن أبْؤُسا ومثله قول الآخر: لا يُوئِسَنّكَ سُؤْل عِيقَ عنك فكم ... بُؤْسٍ تحوّل نُعْمَى أنست النِّقَما ومثال ارتد قول الله تعالى: (ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) وإنما استحق ارتد أن يكون بمعنى صار لأنه مطاوع ردّ بمعنى صيّر، كقوله تعالى: (وَدَّ كثير من أهل الكتاب لو يَرُدُّونكم من بعد إيمانكم كفارا) وكقول الشاعر: فردّ شعورَهن السُّود بيضا ... وردّ وجوهَهن البيضَ سودا وندر إلحاق جاء وقعد بصار في قولهم: ما جاءت حاجتك؟ وفي قولهم: أرهف شفرته، حتى قعدت كأنها حربة.

والفراء يرى استعمال قعد بمعنى صار مطردا، وجعل من ذلك قول الراجز: لا يُقْنعُ الجاريةَ الخضابُ ... ولا الوشاحان ولا الجلباب من دون أن تلتقي الأركاب ... ويقعدَ ... له لُعاب وحكى الكسائي: قعد لا يُسْألُ حاجة إلا قضاها، بمعنى: صار. ويمكن أن يكون من ذلك قول الشاعر: ما يَقْسِم اللهُ أقبلْ غيرَ مُبْتَئِسٍ ... منه وأقعد كريما ناعمَ البال وألحق قوم بأفعال هذا الباب: غدا وراح، وقد يستشهد على ذلك بقول ابن مسعود رضي الله عنه: "اغد عالما أو متعلما ولا تكن إمّعة". وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير، تغدو خِماصا، وتروح بِطانا" والصحيح أنهما ليسا من الباب، وإنما المنصوب بعدهما حال إذ لا يوجد إلا نكرة. ص: وتوسيط أخبارها كلها جائز، ما لم يعرض مانع أو موجِب، وكذا تقديم خبر صار وما قبلها، جوازا ومنعا ووجوبا. وقد يقدم خبر زال وما بعدها منفية بغير "ما" لا بها، خلافا لابن كيسان وللكوفيين إلا الفراء. ولا يتقدم خبر دام اتفاقا، ولا خبر ليس على الأصح. ش: وتوسيط الخبر كقوله تعالى: (فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا)

والاستشهاد بهذا أولى من الاستشهاد بقوله تعالى: (وكان حقا علينا نصرُ المؤمنين) لأن بعض القراء أجاز الوقف على "حقا" ناويا في كان ضميرا. وأمثلة التوسيط مع غير كان من أخواتها سهلة، فاستغنى عن ذكرها، والتوسيط أيضا جائز مع ليس ودام، وإن كانا لا يتصرفان، لأن الأقل محمول على الأكثر، ومثال ذلك مع ليس قول الشاعر: سَلِي إن جَهلتِ الناسَ عنا وعنهم ... فليس سواءً عالمٌ وجهولُ ومثال ذلك مع دام قول الآخر: لا طيبَ للعَيْشِ ما دامت مُنَغّصَةً ... لذّاتُه بادّكار الموتِ والهَرَم وإنما اختصت ليس ودام بالاستشهاد على توسيط خبرهما لأنهما ضعيفتان لعدم تصرفهما في أنفسهما، فربما اعتقد عدم تصرفهما في العمل مطلقا. وقد وقع في ذلك ابن معط رحمه الله فضمن ألفيته منع توسيط خبر ليس وما دام، وليس له في ذلك متبوع، بل هو مخالف للمقيس والمسموع، وأما مخالفته للمقيس فبيِّنة، لأن توسيط خبر ليس جائز بإجماع، مع أن فيها ما في دام من عدم التصرف، وتفوقها ضعفا بأن منع تصرفها لازم، ومنع تصرف دام عارض، ولأن ليس تشبه "ما" النافية معنى، وتشبه ليت لفظا، لأن وسطها ياء ساكنة سالمة، ومثل ذلك مفقود في الأفعال، فثبت بهذا زيادة ضعف ليس على ضعف دام، وتوسيط خبر ليس لم يمتنع، فأن لا يمتنع توسيط خبر دام لنقصان ضعفها أحق وأولى. ونبهت بقولي: "ما لم يمنع مانع" على أن توسيط الخبر قد يمتنع، وذلك إما لسبب يقتضي وجوب تقدمه نحو: كم كان مالك؟ وأين كنت؟ وإما لسبب يقتضي وجوب تأخيره نحو: كان فتاك مولاك، وما كان زيد إلا في الدار.

ونبهت بقولي: "أو موجب" على أن توسيط الخبر قد يجب، وذلك إذا كان الاسم مقصودا بحصر، نحو قوله تعالى: (وما كان حجتَهم إلا أن قالوا) وقد يحمل الموجب على موجب تقديم أو توسيط على سبيل التخيير، وذلك إذا اشتمل الاسم على ضمير ما اشتمل عليه الخبر نحو: كان شريكَ هند أخوها، ووليَّها كان أبوها، فواجب في هذه المسألة وشبهها تقديم الخبر أو توسيطه، وممتنع تأخيره لئلا يتقدم الضمير على مُفَسِّرٍ مؤخرٍ رتبة ولفظا. فلو كان في مثل هذه المسألة قبل الفعل ما له صدر الكلام تعيّن التوسيط، نحو قولك: هل كان شريكَ هند أخوها؟ وأشرت بقولي: "وكذا تقديم خبر صار وما قبلها" إلى أنه يجوز تقديم الأخبار المذكورة إن لم يعرض مانع ولا موجب، فمن أسباب عروض المانع خوف اللبس نحو: كان فتاك مولاك، فمثل هذا لا يتميز فيه الاسم إلا بالتقديم، ولا الخبر إلا بالتأخير، فالتزم، وكان غيره ممنوعا، وكذا نحو: صار عدوي صديقي. ومن أسباب عروض المانع حصر الخبر نحو: إنما كان زيد في المسجد، فتأخير الخبر في مثل هذا ملتزم، وغيره ممنوع، لأن حصر الخبر مقصود، ولا يفهم إلا بالتأخير. ومن أسباب عروض المانع اشتمال الخبر على ضمير ما اشتمل عليه الاسم نحو: كان بَعْلُ هند حبيبَها، فتأخير الخبر في مثل هذا ملتزم، وغيره ممنوع، لأنه لو توسط أو قدم لزم عود الضمير إلى متأخر لا يتعلق به العامل. وبعض النحويين لا يلتزم تأخير الخبر في مثل هذا، لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، فلو وسط الخبر فقيل: كان حبيبَها بعلُ هند، لم يضر، لأن الضمير عائد على ما هو كجزء مرفوع الفعل، ومرفوع الفعل مقدم التقديم، وما هو كجزئه معه، إذ لا يتم معناه إلا به. ويلزم من جواز هذا جواز كان حبيبَها الذي خطب هندا، لأن ما يتم به المضاف بمنزلة ما يتم به الموصول، وهذا لا يجوز، فكذلك ما أشبهه. وأما عروض موجب تقديم الخبر فإذا كان فيه معنى استفهام نحو: كم كان مالك؟

وكيف كان زيد؟ وكذا إذا كان مضافا إلى ما فيه معنى استفهام نحو: غلام من كان زيد؟ ولا حظّ لزال وما بعدها في وجوب تقديم الخبر، لأنهن لا يدخلن على مبتدأ مخبر عنه بأداة استفهام ولا مضاف إليها، وقد تقدم التنبيه على ذلك. وتشارك زال وأخواتها إذا نفيت بغير "ما" صار وأخواتها في جواز تقديم الخبر، نحو: قائما لم يزل زيد. وفي التخيير بين تقديمه وتوسيطه عند امتناع تأخيره، نحو: في الدار لم يبرح صاحبها، ولا ينفك مع هند أخوها. فلو كان النفي بما لم يجز التقديم، لأن لها صدر الكلام، ولذلك جرت مجرى حرف الاستفهام في تعليق أفعال القلوب. وقياس "إنْ" النافية أن تجرى مجراها في غير التعليق كما جرت فيه مجراها، كقوله: (وتظنون إنْ لبثتم إلا قليلا). وأجاز ابن كيسان التقديم مع النفي بما، مع أنه موافق للبصريين في أن "ما" لها صدر الكلام، لأنه نظر إلى أن: ما زال زيد فاضلا، بمنزلة: كان زيد فاضلا، في المعنى، فاستويا في جواز تقديم الخبر. وهذا الذي اعتبره ضعيف، لأن عروض تغير المعنى لا يغير له الحكم، ولذلك استصحب للاستفهام في نحو: علمت أزيد ثَمّ أم عمرو، ما كان له من التزام التصدير، مع أن معنى الاستفهام قد تغير. وأجاز الكوفيون إلا الفراء ما أجازه ابن كيسان، لأن "ما" عندهم ليس لها تصدير مستحق، حكى ذلك ابن كيسان. واختلف في تقديم خبر ليس عليها، فأجازه سيبويه، ووافقه السيرافي والفارسي وابن برهان والزمخشري. ومنعه الكوفيون وأبو العباس وابن السراج والجرجاني، وبه أقول، لأن ليس فعل لا يتصرف في نفسه، فلا يتصرف في عمله، كما وجب لغيره من الأفعال التي لا تتصرف كعسى ونعم وبئس وفعل التعجب، مع أن ليس شبيهة في المعنى بحرف لا يشبه الأفعال وهو "ما" بخلاف عسى، فإنها تشبه حرفا يشبه الأفعال وهو "لعل"، والوهن الحاصل بشبه الحرف لا يشبه الأفعال أشد

من الوهن الحاصل بشبه حرف يشبه الأفعال. وكان مقتضى شبه ليس بما وعسى بلعل امتناع توسيط خبريهما، كما امتنع توسيط خبري شبيهيهما، ولكن قصد ترجيح ما له فعلية على ما لا فعلية له، والتوسيط كاف في ذلك، فلم تجز الزيادة عليه تجنبا لكثرة مخالفة الأصل. قال السيرافي: بين ليس وفعل التعجب ونعم وبئس فرق، لأن ليس تدخل على الأسماء كلها مظهرها ومضمرها ومعرفتها ونكرتها، ويتقدم خبرها على اسمها، ونعم وبئس لا يتصل بهما ضمير المتكلم ولا العلم، وفعل التعجب يلزم طريقة واحدة، ولا يكون فاعله إلا ضمير ما، فكانت "ليس" أقوى منها. قلت: فعلية نعم وبئس أظهر من فعلية ليس من ثلاثة أوجه: أحدها: أن معنى نعم وبئس يستقل باسم واحد، لأن معنى نعم الرجل، مدح الرجل، أو كمل الرجل، إلا أن الرجل مبهم، والمراد تعيين ممدوح، فاحتيج إلى مخصوص بعد الفاعل، أو إلى ما يدل عليه قبل نعم، فالحاصل أن مطلوب نعم إنما هو الفاعل، والمخصوص بالمدح إنما يطلبه الفاعل لا نعم، لأنها غير عالمة فيه بإجماع، بخلاف الجزء الثاني من مصحوبي ليس، فإنه معمول لها، فمعنى ليس لا يستقل إلا بجزأين: مسند ومسند إليه، فكانت أشبه بالحروف، وكانت نعم وبئس أشبه بالأفعال. الثاني: أن نعم وبئس يقوم كل واحد منهما مقام فعل صريح، ويقوم الفعل الصريح مقامه، فمن كلام العرب الفصيح، عَلُم الرجل فلان، بمعنى نعم العالم فلان، وليس لا تقوم إلا مقام حرف، ولا يقوم مقامها إلا حرف. الثالث: أن ليس ونعم وبئس مشتركة في مفارقة الأصل، لأن أصل كل منها فعل، لكن لسي فارقت أصلها فراقا لازما على وجه عدم به النظير في الأفعال، وثبت به شبه الحرف، ونعم وبئس بخلاف ذلك، لأنهما لا يفارقان أصلهما فراقا لازما، بل أصلهما مستعمل، ولم يعدم بما فعل بهما النظير في الأفعال،

ولا ثبت به شبه الحرف، لأن الذي فعل بهما من كسر الفاء وسكون العين مطرد في كل فعل على فَعِل ثانيه حرف حلق، وفعلية ما روعي أصله، وسلك به سبيل مطردة في الأفعال أقوى من فعلية ما لم يعامل بهذه المعاملة. وأما تفضيل ليس على نعم وبئس بإعمالها في الظاهر والمضمر، والمعرفة والنكرة، فشيء ثبت على خلاف الأصل، لأن شبهها في اللفظ والمعنى بالحرف أقوى من شبهها بالفعل، فأن يسلك بها سبيل الأشبه بها أولى، ولكن لو فعل بها ذلك لم يبق ما يدل على فعليتها، فرفعت الضمائر المتصلة لذلك، وإذا كان هذا التفضيل محوجا إلى اعتذار، فلا يجعل سببا لتفضيل آخر، فيستباح من أجله تقديم الخبر، لأن ذلك تكثير لمخالفة الأصل، ومُحْوج إلى اعتذار ثان. ومع هذا فقد شاركتها نعم وبئس في رفع الضمير مستترا وبارزا، قال الكسائي: روي عن بعض العرب: الزيدان نِعْما رجلين، الزيدون نِعْموا رجالا. وقال الأخفش: ناس من العرب يرفعون النكرة بنعم مفردة ومضافة. وأما فعل التعجب فهو ? وإن لزم طريقة واحدة ? راجح على ليس من أربعة أوجه: أحدها: تمكنه في الفعلية لفظا ومعنى، لأنه على وزن أفعلَ، وهمزته معدية كأكرم وغيره من الأفعال المعداة بالهمزة، وهو مع ذلك متضمن لحروف مصدر، ودال على معناه، وليس بخلاف ذلك. الثاني: أن فعل التعجب تلزمه نون الوقاية مع ياء المتكلم، كما تلزم سائر الأفعال المتعدية، وليس بخلاف ذلك. الثالث: أن لفعل التعجب صيغتين: إحداهما كصيغة الماضي، والأخرى كصيغة الأمر، وذلك ضرب من التصرف. وليس بخلاف ذلك. الرابع: أن فعل التعجب يعمل في الظرف والحال والتمييز بخلاف ليس، فإنها لا تعمل إلا في جزأي إسناد. وأما عسى فشاركت ليس في إعمالها في الأسماء كلها، مظهراتها ومضمراتها، ومعارفها ونكراتها، وتفوقها بأشياء منها: إن فعليتها مجمع عليها، وفعلية ليس مختلف فيها. الثاني: أن ليس من الأفعال المعتلة العين، وعسى من الأفعال المعتلة اللام، وهي

جارية على ما يجب لنظائرها من اعتلال بالقلب كرمى، وليس جارية على خلاف ما يجب لنظائرها من اعتلال كاعتلال هاب، وسلامة كسلامة صَيِدَ البعير. الثالث: أن عسى وإن لم تتصرف بأن يجعل لها مضارع وأمر واسم فاعل، فقد جعل لها حظ من التصرف، بأن أجيز في عينها الفتح والكسر، فقيل: عَسَيت وعسِيت، وبنوا منها فعل تعجب فقالوا: ما أعساه بكذا، وأعس به أن يكون، وقالوا: هو عَسٍ بكذا، أي خليق، وبالعسى أن تفعل، وهو مصدر عسيت، وهذا كله موجب للمزية على ليس، فلو قدم خبر ليس مع كون هذه الأفعال لا يُقدَّم عليها شيء مما يتعلق بها لكان ذلك تفضيلا للأضعف على الأقوى، فوجب ألا يصار إليه. وعضد قوم جواز تقديم خبر ليس بـ: (ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفا عنهم) قالوا: لأن يوم معمول مصروفا، ولا يقع المعمول إلا حيث يقع العامل. ولنا ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعمول قد يقع حيث لا يقع العامل، نحو: أمّا زيدا فاضرب، وعمرا لاتهن، وحقك لن أضيع، فكما لم يلزم من تقديم معمول الفعل بعد أمّا تقديم الفعل، ولا من تقديم معمولي المجزوم والمنصوب عل "لا" و"لن" تقديمهما عليهما، كذا لا يلزم من تقديم معمول خبر ليس تقديم الخبر. الثاني: أن يجعل "يوما" منصوبا بفعل مضمر، لأن قبله "ما يَحْبِسُه" "فيوم يأتيهم" جواب، كأنه قيل: يعرفون يوم يأتيهم، و"ليس مصروفا" جملة حالية مؤكدة أو مستأنفة. الثالث: أن يكون "يوم" مبتدأ فبني لإضافته إلى الجملة، وذلك سائغ مع المضارع كسوغه مع الماضي، وللاحتجاج على بناء المضاف إلى المضارع موضع آخر.

ص: ولا يلزم تأخير الخبر إن كان جملة خلافا لقوم، ويمنع تقديم الخبر الجائز التقديم تأخرُ مرفوعه، ويُقَبِّحه تأخر منصوبه، ما لم يكن ظرفا أو شبهه. ولا يمتنع هنا تقديم خبرٍ مشارك في التعريف وعدمه إن ظهر الإعراب. وقد يخبر هنا وفي باب "إنّ" بمعرفة عن نكرة اختيارا. ش: ذكر ابن السراج أن قوما من النحويين لا يجيزون تقديم الخبر ولا توسيطه إذا كان جملة، والقياس جوازه وإن لم يسمع، فأجاز أن يقال: أبوه قائمٌ كان زيد، فهذا مثال التقديم، وأجاز أيضا أن يقال: كان أبوه قائمٌ زيد، وما ذهب إليه من الجواز هو الصحيح، لأنه وإن لم يسمع مع كان فقد سمع مع الابتداء، كقول الفرزدق: إلى ملكٍ ما أمُّه من محارب ... أبوه ولا كانت كليبٌ أقاربه أراد: أبوه ما أمه من محارب، فأبوه مبتدأ، وأمه مبتدأ ثان، ومن محارب خبره، وهما خبر المبتدأ الأول، فقدم الخبر وهو جملة، فلو دخلت كان لساغ التقديم أيضا، كقولك: ما أمه من محارب كان أبوه. والتوسيط أولى بالجواز كقولك: ما كان أمه من محارب أبوه. وإذا كان للخبر المقدم معمولٌ مؤخر امتنعت المسألة إن كان مرفوعا، مفردا أو مصحوبا بغيره، نحو: قائما كان زيد أبوه، وآكلا كان زيد أبوه طعامك. فإن كان المعمول منصوبا لا مرفوع معه، جازت المسألة على قبح، نحو: آكلا كان زيد طعامك. فإن كان المعمول ظرفا أو شبهه حسنت المسألة نحو: مقيما كان زيد عندك، وراغبا كان عمرو فيك. وسبب ذلك أن حق العامل ألا يفصل بينه وبين معموله، فإن كان مرفوعا كان فصله أصعب لكونه كجزء رافعه، فلم يجز بوجه. وإن كان مفعولا به قبح ولم

يمتنع، لأنه ليس كجزء ناصبه. فإن كان ظرفا أو شبهه حسن فصله، لاتساعهم في الظروف وشبهها. وإلى هذا أشرت بقولي: ويَمْنَعُ تقديمَ الخبر الجائز التقديم تأخرُ مرفوعه. وإذا اشترك في هذا الباب الخبر والمخبر عنه في تعريف أو تنكير، لم يلزم ما لزم في باب الابتداء من تأخر الخبر، إلا إذا لم يظهر الإعراب، نحو: كان فتاك مولاك، ولم يكن فتى أزكى منك. فإن ظهر الإعراب جاز التوسيط والتقديم نحو: كان أخاك زيد، وأخاك كان زيد، ولم يكن خيرا منك أحد، وخيرا منك لم يكن أحد. ولما كان المرفوع هنا مشبها بالفاعل، والمنصوب مشبها بالمفعول جاز أن يغني هنا تعريف المنصوب عن تعريف المرفوع، كما جاز ذلك في باب الفاعل، لكن بشرط الفائدة، وكون النكرة غير صفة محضة، فمن ذلك قول حسان رضي الله عنه: كأنّ سُلافةً في بيت رأس ... يكون مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ فجعل مزاجها وهو معرفة خبر كان، وعسل اسمها وهي نكرة، وليس القائل مضطرا لتمكنه من أن يقول: يكون مزاجُها عسلٌ وماءُ، فيجعل اسم كان ضمير سلافة، ومزاجها عسل، مبتدأ وخبر في موضع نصب بكان. ومثله قول القطامي: قِفى قبل التَفَرُّق يا ضُباعا ... ولايكُ موقفٌ منكِ الوَداعا فأخبر بالمعرفة عن النكرة مختارا لا مضطرا، لتمكنه من أن يقول: ولا يك موقفي منك الوداعا، أو: ولا يك موقفنا الوداعا. والمحسن لهذا مع حصول الفائدة شبه المرفوع بالفاعل والمنصوب بالمفعول، وقد حصل هذا الشبه في باب إنّ، على أنْ

جعل فيه الاسم نكرة، والخبر معرفة، كقول الشاعر: وإنّ حراما أن أسُبَّ مُجاشِعا ... بآبائيَ الشُّمِّ الكرام الخَضارِم فصل: ص: يقترن بإلا الخبرُ المنفيُّ إنْ قُصِد إيجابُه وكان قابلا، ولا يفعل ذلك بخبر برح وأخواتها، لا، نفيها إيجاب، وما ورد منه بإلا مؤول. ش: يتناول الخبر المنفي خبر ليس وما قبلها من أفعال هذا الباب إذا تلت نفيا، ويتناول أيضا ثاني مفعولي ظنَّ وأخواتها إذا تلت نفيا أيضا، فإن قصد إمضاء النفي جيء بالخبر مجردا، نحو: ليس زيد قائما، وما زال منطلقا، وما علمته عاجزا. وإن قصد إيجاب جيء بإلا، نحو: ليس زيد إلا قائما، وما كان إلا منطلقا، وما علمته إلا عاجزا. فإن كان الخبر مما لا يستعمل إلا في نفي لم يقترن بإلا نحو: ما كان مثلك أحدا، وما كنت تعيج، أي تنتفع. فلو قرنت أحدا أو تَعيج بإلا لم يجز، لأن إلا تنقض النفي، وأحد وتعيج من الكلم التي لا تستعمل إلا في النفي، فإليهما وإلى مثلهما أشرت بقولي: إن قُصِد إيجابه وكان قابلا" ثم قلت: "ولا يفعل ذلك بخبر برح وأخواتها" أي لا يقترن خبر برح وأخواتها بإلا، لأنه موجب، وإنما يجاء بإلا لإيجاب ما ليس موجبا، فكما لا يقال: كان زيد إلا قائما، لا يقال: ما زال زيد إلا قائما، لأن مقتضى كان وما زال واحد، فأما قول ذي الرمة: حَراجِيحُ ما تنفكّ إلا مُناخَة ... على الخَسْف أو نَرْمِي بها بلدا قفرا ففيه أربعة أقوال: أصَحها: أن تنفك فعل تام، وهو مطاوع فكه إذا خلصه

أو فصله، فكأنه قال: ما تتخلص من السير أو تنفصل منه إلا في حال إناختها على الخسف. الثاني: أن تكون "تنفك" ناقصة، والخبر على الخسف، ومناخة حال، فكأنه قال: ما تنفك كائنة على الخسف، أي الذل والتعب، أو مرميا بها بلد قفر إلا في حال إناختها. الثالث: أنّ غلا زائدة، قاله ابن جني في المحتسب، وحمل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: (وإن كلٌّ إلا ليوفينّهم). الرابع: أن ذا الرمة أخطأ بإيقاع إلا موقعا لا يصلح إيقاعها فيه، وهذا أضعف الأقوال. ص: وتختص ليس بكثرة مجيء اسمها نكرة محضة، وبجواز الاقتصار عليه دون قرينة، واقتران خبرها بواو إن كان جملة موجبة بإلا، وتشاركها في الأول كان بعد نفي أو شبهه، وفي الثالث بعد نفي، وربما شبهت الجملة المخبر بها في ذا الباب بالحال فوليت الواو مطلقا. ش: قد تقدم في باب الابتداء أن من أسباب تجويز كون المبتدأ نكرة وقوعه بعد نفي، واسم ليس لإفادتها النفي كالمبتدأ الواقع بعد نفي، فلذلك اختصت ليس بكثرة مجيء اسمها نكرة محضة كقول الشاعر: كم قد رأيتُ وليس شيءٌ باقيا ... من زائرٍ طُرُق الهوى ومَزُور ولإفادتها النفي أيضا اختصت من بين أخواتها بجواز الاقتصار على اسمها دون قرينة زائدة على كون الاسم نكرة عامة، لأنه بذلك يشبه اسم لا، فيجوز أن يساويه في الاستغناء به عن الخبر، كقول الشاعر:

ألا يا ليلُ وَيْحَكِ نَبِّئينا ... فأما الجودُ منكِ فليس جودُ أراد فليس منك جود، أو ليس عندك جود. ومثله قول الآخر: يَئِسْتم وخِلْتم أنه ليس ناصر ... فَبُوِّئْتُم من نصرنا خيرَ مَعْقِل وحكى سيبويه: "ليس أحدٌ" أي ليس هنا أحد. ومثال اقتران خبرها بواو لكونه جملة موجبة بإلا قول الشاعر: ليس شيءٌ إلا وفيه إذا ما ... قابَلَتْه عينُ البصير اعتبارُ ومثال ذلك في مجيء كان بعد نفي قول الشاعر: ما كان من بَشَرٍ إلا ومِيتَتُه ... مَحْتومَةٌ لكن الآجالُ تختلفُ وأما مشاركة كان بعد نفي ليس في مجيء اسمها نكرة محضة فكثير، ومنه قول الشاعر: إذا لم يكنْ أحدٌ باقيا ... فإنّ التأسِّي دواء الأسى ومثال ذلك بعد شبه النفي قول الشاعر: ولو كان حَيٌّ في الحياة مُخَلّدا ... خَلَدْتَ ولكنْ ليس حيٌّ بخالدِ ومثله قول الآخر: فإن يكُ شيءٌ خالدا أو مُعَمَّرا ... تأمَّلْ تَجِدْ من فوقه اللهَ غالبا ومثال تشبيه الجملة الخبرية بالحالية في اقترانها بالواو قول الشاعر:

فظلُّوا ومنهم سابِقٌ دَمْعة له ... وآخر يثْني دَمْعةَ العَيْنِ بالمَهْل ومثله قول الآخر: وكانوا أُناسا يَنْفَحُون فأصبحوا ... وأكثر ما يُعْطونك النَّظَرُ الشَّزْرُ ص: وتختص كان بمرادفة "لم يزل" كثيرا، وبجواز زيادتها وسطا باتفاق، وآخرا على رأي. وربما زيد أصبح وأمسى ومضارع كان، وكان مسندة إلى ضمير ما ذكر، وبين جار ومجرور. ش: الأصل في كان أن يدل بها على حصول معنى ما دخلت عليه فيما مضى، دون تعرض لأولية ولا انقطاع، كغيرها من الأفعال الماضية، فإن قصد الانقطاع ضمن الكلام ما يدل عليه، كقوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم). وكقول الشاعر: وتركى بلادي والحوادثُ جمةٌ ... طريدا وقِدْما كنتُ غير مُطرّد وقد يقصد بها الدوام كما يقصد بلم يزل، كقوله تعالى: (وكان الله على كل شيء قديرا) وكقول الشاعر: وكنتُ امرَأ لا أسمعُ الدهرَ سُبَّةً ... أُسَبُّ بها إلا كشفتُ غطاءها وتختص كان بجواز زيادتها بلفظ الماضي، متوسطة بين مسند ومسند إليه، نحو:

ما كان أحسنَ زيدا، أو: لم يُرَ كان مثلُهم. أو بين صفة وموصوف، كقول الشاعر: فكيف إذا مررتُ بدار قومٍ ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ ولا يمنع من زيادتها إسنادها إلى الضمير، كما لم يمنع من إلغاء ظن إسنادها في نحو: زيد ظننت قائم، هذا مذهب سيبويه. وشذت زيادتها بين على ومجرورها في قول الشاعر: سراةُ بني أبي بكرٍ تسامَوْا ... على كان المُطَهَّمةِ الصِّلاب وزعم السيرافي أن كان الزائدة مسندة إلى مصدر منوي، ولا حاجة إلى ذلك، ولا يُبالى بأن يقال: خلوُّها من الإسناد إلى منوي يلزم منه كونُ الفعل حديثا عن غير محدّث عنه، لأن كان المحكوم بزيادتها تشبه الحرف الزائد، فلا يُبالى بخلوها من الإسناد، كما أن الضمير الواقع فصلا لمّا قصد به ما يقصد بالحروف من الدلالة على معنى في غيرها استُجيز ألا يكون له موضع من الإعراب. وأيضا فإن كان قد زيدت بين على ومجرورها، فإذا نوى معها فاعل لزم الفصل بين جار ومجرور بجملة، ولا نظير لذلك، وإذا لم ينو معها ضمير فاعل كان الفصل بكلمة واحدة، فلا يمتنع، كما لم يمتنع في "ما" بين عن، ومن، والباء، ورب، والكاف ومجروراتها. وأجاز بعض النحويين زيادة كان آخرا قياسا على إلغاء ظن آخرا، والصحيح منع ذلك لعدم استعماله، ولأن الزيادة على خلاف الأصل، فلا تستباح في غير مواضعها المعتادة.

وشذت زيادة يكون في قول أم عقيل بن أبي طالب: أنت تكونُ ماجدٌ نبيل ... إذا تَهُبُّ شمأل بَلِيل وأجاز الفراء زيادة تكون بين "ما" وفعل التعجب، نحو: ما يكون أطولَ هذا الغلام، ويشهد لقوله قول رجل من طيء: صَدّقتَ قائلَ ما يكون أحقَّ ذا ... طفلا يَبُذُّ ذوي السيادة يافعا قال الفراء: وأخوات كان تجرى مجراها. قلت ولا خلفا في زيادة كان بعد "ما" التعجبية، كقول الشاعر: ما كان أسعدَ مَنْ أجابك آخِذا ... بِهُداك مُجْتنبا هوى وعنادا وشذت أيضا زيادة أصبح وأمسى في قول بعض العرب: ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها. وأجاز أبو علي زيادة أصبح في قول الشاعر: عَدُوُّ عَيْنَيْك وشانيهما ... أصبح مشغولٌ بمشغول وكذا أجاز زيادة أمسى في قول الآخر: أعاذِل قولي ما هوِيتِ فأوِّبي ... كثيرا أرى أمسى لَدَيْك ذُنُوبي ص: ويختص كان أيضا بعد "إنْ" أو "لو" بجواز حذفها مع اسمها، إن كان ضمير ما عُلِم من حاضر أو غائب، فإن حَسُن مع المحذوفة بعد "إنْ" تقدير: فيه أو معه أو نحو ذلك، جاز رفع ما وَليها، وإلا تعيّن نصبه، وربما جُرّ مقرونا

بإن لا، أو بإن وحدها، إن عاد اسم كان إلى مجرور بحرف. وجَعْلُ ما بعد الفاء الواقعة جواب "إنْ" المذكورة خبر مبتدأ، أولى من جعله خبر كان مضمرة، أو مفعولا بفعل لائق، أو حالا. وإضمار كان الناقصة قبل الفاء أولى من التامة. وربما أضمرت الناقصة بعد "لَدُن" وشبهها. والتزم حذفها معوضا منها "ما" بعد "أنْ" كثيرا، وبعد "إنْ" قليلا. ويجوز حذف لامِها الساكن جزما، ولا يمنع ذلك ملاقاةُ ساكن وفاقا ليونس. ش: مثال حذف كان بعد "إنْ" مع اسمها وهو ضمير غائب معلوم قول الشاعر: انطِقْ بحقٍّ وإنْ مستخرِجا إحَنا ... فإنّ ذا الحق غلّابٌ وإنْ غُلِبا ومثال الحذف مع كون الاسم ضمير حاضر قول الآخر: حَدبت عليَّ بُطونُ ضبّةَ كلُّها ... إن ظالما فيهم وإن مظلوما ومثال الحذف بعد لو والاسم ضمير غائب قول الشاعر: لا يأمنُ الدَّهر ذو بَغْي ولو ملِكا ... جنودُه ضاقَ عنها السهلُ والجبل ومثاله والاسم ضمير حاضر: علمتك منّانا فلستُ بآملٍ ... نداك ولو غَرْثانَ ظمآن عاريا فالنصب في مثل هذا متعين لعدم صلاحية تقدير ما يجعل خبرا من "فيه" أو "معه" أو نحوهما. فلو صلح تقدير شيء من ذلك لجاز الرفع نحو: الناس

مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ومثله: المرء مقتول بما قَتَل به إن سيفا فسيف، وإن خنجرا فخنجر. ومما مثل به سيبويه: مررت برجل صالح، إن لا صالحا فطالحٌ، وإلا صالحا فطالحا، أي: إن لم يكن صالحا فقد لقيته طالحا، هذا تقدير سيبويه، فنصب طالحا على الحال، وحكى يونس: إن لا صالحٍ فطالحٍ، والتقدير: إن لا أمر بصالح فقد مررت بطالح وأجاز: امرر بَأيُّهم أفضلُ، إن زيدٍ وإن عمرٍو، على تقدير: إن مررت بزيد وإن مررت بعمرو. وجعل سيبويه إضمار الباء بعد إنْ هذه أسهل من إضمار رب بعد الواو. وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي: وربما جُرَّ مقرونا بإن لا، أو بإن وحدها إن عاد اسم كان إلى مجرور بحرف. ثم بينت أن الاسم الواقع بعد الفاء في الحديثين المذكورين ونحوهما، يرفع على أنه خبر مبتدأ، وينصب على أنه خبر كان مضمرة، وقد يجعل مفعولا به، أو منصوبا على الحال، إلا أن رفعه أجود، لأن المحذوف معه شيء واحد، ومع النصب شيئان: فعل واسم مرفوع به. وأن وقوع الجملة الاسمية بعد الفاء المجاب بها الشرط أكثر من وقوع الجملة الفعلية. ويجوز جعل ما بعد الفاء مفعولا به، فيكون التقدير: إن كان عمله خيرا فيجزى خيرا، أو فيعطى خيرا. ويجوز جعله حالا، فيكون التقدير: إن كان عمله خيرا فيلقاه خيرا، ونحو ذلك. وقد أشار سيبويه إلى ذلك كله. ثم بينت أن ارتفاع الاسم قبل الفاء في مثل: إن خير فخير، بكان الناقصة أولى من ارتفاعه بكان التامة، وسبب ذلك أن إضمار الناقصة مع النصب

متعين، وهو مع الرفع ممكن، فوجب ترجيحه، ليجرى الاستعمالان على سنن واحد، ولا يختلف العامل. ولأن الفعل التام إذا أضمر بعد إن الشرطية لا يستغنى عن مفسر، نحو: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجِرْه) فخولف هذا في كان الناقصة، لوقوع ثاني جزأيها موقع المفسر، ولأنها تُوسع فيها بما لا يستعمل في غيرها، فمقتضى الدليل ألا تشاركها التامة في الإضمار المشار إليه، لكن أجيز فيها لشبهها بالناقصة، فلا يستويان في التقدير. ومثال إضمار كان الناقصة بعد لدن قول الشاعر: من لَدُ شَوْلا فإلى إتلائها يصف إبلا، والتقدير: من لد أن كانت شولا، كذا يقدره الجمهور، وعندي أن تقدير "أنْ "مستغنى عنه، كما يستغنى عنها بعد مُذْ. ومثال إضمار كان بعد شبه لدن قول الشاعر: أزمانَ قومي والجماعةَ كالذي ... لَزِم الرِّحالةَ أن تَميل مَمِيلا أراد: أزمان كان قومي مع الجماعة كالذي لزم الرحالة، كذا قال سيبويه. ومثال التزام إضمار كان بعد "أنْ" معوضا منها قول الشاعر: أبا خُراشَةَ أمّا أنت ذا نفرٍ ... فإن قومي لم تأكلهم الضّبع أراد: لأن كنت، فحذف اللام، فبقى "أنْ كنت" ثم حذف "كان" وجاء بالمنفصل خلفا عن المتصل، وبـ"ما" قبله عوضا من كان، فالتزم حذفها، لئلا يجتمع العوض والمعوض منه. ومثال: أما أنت ذا نفر: أمّا أنت مرتحلا، من قول

الشاعر: إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلا ... فالله يَكْلأ ما تأتي وما تذرُ ومثال إضمار كان معوضا منها "ما" بعد "إنْ" قول العرب: افعل هذا إما لا، أي: إن كنتَ لا تفعل غيره. ومثله قول الراجز: أمرعت الأرضُ لو أنّ ما لا ... لو أنّ نُوقا لك أو جِمالا ... أو ثَلَّةً من غَنَم إمّا لا أراد: إن كان لا يكون لك غيرها. وأمثال: أمّا أنت ذا نفر، كثيرة، بخلاف "إما لا" فإن استعماله قليل، لأن الحذف فيه أكثر. ومما تختص به كان جواز حذف لام مضارعها الساكن جزما، كقوله تعالى: (ولم يك من المشركين) وكقوله تعالى: (ولا تك في ضيق مما يمكرون) فإن ولى ساكن امتنع الحذف عند سيبويه، ولم يمتنع عند يونس، وبقوله أقول، لأن هذه النون إنما حذفت للتخفيف، وثقل اللفظ بثبوتها قبل ساكن أشد من ثقله بثبوتها دون ذلك، فالحذف حينئذ أولى. إلا أن الثبوت دون ساكن ومع ساكن أكثر من الحذف، فلذلك جاء القرآن بالثبوت مع الساكن في قوله تعالى: (ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم) وفي قوله: (لم يكن الذين كفروا) وقد استعملت العرب الحذف قبل الساكن كثيرا، ومنه قول الشاعر:

لم يكُ الحقُّ سِوى أنْ هاجَه ... رسْمُ دار قد تَعَفَّى بالسَّرَر ومنه قول الآخر: فإنْ لم تكُ المرآةُ أبدت وسامةً ... فقد أبدت المرآةُ جَبْهَة ضَيْغم ومنه قول الآخر: إذا لم تك الحاجاتُ من همة الفتى ... فليس بمُغْنٍ عنه عقد الرتائم ولا ضرورة في هذه الأبيات، لإمكان أن يقال في الأول: لم يكن حق سوى أن هاجه، وفي الثاني: فإن تكن المرآة أخفت وسامةن وفي الثالث: إذا لم يكن من همة المرء ما نوى. ص: ولا يلي عند البصريين كان وأخواتها غيرُ ظرف وشبهِه من معمول خبرها، واغْتَفر ذلك بعضُهم مع اتصال العامل، وما أوهم خلاف ذلك قُدّر فيه ضمير الشأن اسما، خلافا للكوفيين. ش: لا يجوز عند البصريين أن يفصل بمعمول خبر كان بينها وبين اسمها والخبر متأخر، نحو: كان طَعامَك زيدٌ يأكل، وكذل لو لم يتأخر الخبر نحو: كان طعامك يأكل زيدٌ، وهو أيضا غير جائز عند سيبويه كالأول. ومن الناس من أجاز الأخير دون الأول. وكلاهما عند الكوفيين جائز، ومن حجتهم قول الشاعر: قَنافِيذُ هَدَّاجُون حول بُيوتهم ... بما كان إياهم عطيَّةُ عوَّدا

ما النافية

ومثله قول الآخر: فأصبحوا والنَّوى عالى مُعَرّسِهم ... وليس كلَّ النوى يلقى المساكينُ وهذا وما أشبهه عند البصريين محمول على أن يُضْمر قبل المنصوب ضمير الشأن اسما فيندفع الإشكال. ويجوز جعل كان في البيت الأول زائدة، ويجوز جعل ما بمعنى الذي، وفي كان ضمير ما، وهو اسم كان، وعطية مبتدأ خبره عوّد، وهو ذو مفعولين: أحدهما إياهم، والثاني ها عائدة على ما، فحذفت وهي مقدرة. فلو كان المعمول الخبر ظرفا أو جارا ومجرورا، جاز بإجماع تقديمه على الاسم متصلا بالخبر نحو: كان عندك مقيما زيدٌ، ومنفصلا نحو: كان عندك زيدٌ مقيما، لأن الظرف والمجرور يتوسع فيهما توسعا لا يكون لغيرهما، ولذلك فصل بهما بين المضاف والمضاف إليه، كقول الشاعر: كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوما ... يَهُوديٍّ يُقاربُ أو يُزيلُ وبين الاستفهام والقول الجاري مجرى الظن، نحو: أغدا تقول زيدا منطلقا، ولو قلت: أأنت تقول، لبطل النصب، ولزمت الحكاية في اللغة المشهورة. وقد أجيز: ما غدًا زيد ذاهبا، بإيلاء الظرف "ما"، وهو معمول خبرهان فإجازة ذلك في كان أولى. فصل: ص: ألحق الحجازيون بليس "ما" النافية، بشرط تأخير الخبر، وبقاء نفيه، وفَقْدِ إنْ، وعدم تقدم غير ظرف أو شبهه من معمول الخبر. وإنْ المشار

إليها زائدة كافة لا نافية، خلافا للكوفيين. وقد تزاد قبل صلة ما الاسمية والحرفية، وبعد "ألا" الاستفتاحية، وقبل مَدَّة الإنكار. وليس النصب بعد "ما" لسقوط باء الجر، خلافا للكوفيين. ولا يغنى عن اسمها بدلٌ مُوجَب، خلافا للأخفش، وقد تعمل متوسطا خبرُها، وموجبا بإلا، وفاقا لسيبويه في الأول، وليونس في الثاني. والمعطوف على خبرها ببل ولكن موجب فيتعين رفعه. ش: للعرب في "ما" النافية الداخلة على المبتدأ والخبر مذهبان: أحدهما: مذهب أهل الحجاز، وهو إلحاقها في العمل بليس، وعلى مذهبهم نزل القرآن، قوله تعالى: (ما هذا بشرا) وقوله تعالى: (ما هن أمهاتِهم). والثاني: مذهب غير أهل الحجاز، وهو إهمالها، وهو مقتضى القياس، لأنها غير مختصة، فلا تستحق عملا، كما لا تستحقه هل وغيرها من الحروف التي ليست بمختصة. وذكر الفراء أن أهل نجد يَجُرُّون الخبر بعدها بالباء كثيرا، ويدعون الباء فيرفعونه. فجعل بعض النحويين هذا مذهبا ثالثا في "ما". وضعف هذا الرأي بيِّن، لأن دخول الباء على الخبر بعد "ما" في لغة بني تميم معروف، لكنه أقل منه في لغة أهل نجد فمذهبهما واحد. ولما كان عمل "ما" استحسانيا لا قياسيا اشترط فيه تأخر الخبر، وتأخر معموله، وبقاء النفي، وخلوها من مقارنة إنْ، لأن كل واحد من هذه الأربعة حال أصلي، فالبقاء عليها تقوية، والتخلي عنها أو عن بعضها توهين، وأحق هذه الأربعة بلزوم الوهن عند عدمه الخلو من مقارنة إنْ، لأن مقارنته "لما" يزيل شبهها بليس، لأن ليس لا تليها إنْ، فإذا وليت "ما" تباينا في الاستعمال، وبطل الإعمال دون خلاف. ولا يلزم مثل هذه المباينة بنقض النفي، ولا بتوسط الخبر، كما سيأتي ذلك مبينا إن شاء الله تعالى.

ومثال إبطال العمل لنقض النفي قوله تعالى: (وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل). ومثال إبطال لتوسط الخبر قول الشاعر: وما خُذَّل قومي فأخضع للعدا ... ولكنْ إذا أدعوهُمُ فهمُ همُ ومثال إبطاله لتوسط معمول الخبر قول الشاعر: وقالوا تَعَرَّفْها المنازلَ من منى ... وما كلَّ من وافى مِنًى أنا عارفُ على رواية من روى: كلَّ، بالنصب، وأما على رواية الرفع فكل اسم "ما"، وأنا عارف خبرها، وكان ينبغي أن يقول: أنا عارفه، لكنه حذف الضمير ونواه، كما فعل من قال: كلُهْ لم أصنع. فلو كان معمول الخبر ظرفا أو جارا ومجرورا لم يبطل عمل "ما" كقولك: ما عندك زيد مقيما، وكقول الشاعر: بأُهْبة حرب كُن وإن كنت آمنا ... فما كلَّ حين مَنْ تُوالي مواليا ومثال إبطال العمل لاقتران "ما" بإنْ قول الشاعر: بني غُدانةَ ما إنْ أنتم ذهبٌ ... ولا صريفٌ ولكن أنتم الخزف ومثله قول الآخر:

فما إن طِبُّنا جُبْن ولكنْ ... .منايانا ودولة آخرينا وإن هذه زائدة كافة لما، كما هي "ما" كافة لإنّ وأخواتها في نحو: (إنما اللهُ إلهٌ واحد). وزعم الكوفيون أنَّ إنْ المقترنة بما هي النافية جيء بها بعد ما توكيدا، والذي زعموه مردود بوجهين: أحدهما: أنها لو كانت نافية مؤكدة لم تغير العمل، كما لا يتغير لتكرير ما، إذا قيل: ما من زيد قائما، كما قال الراجز: لا يُنْسِك الأسى تأسِّيًا فما ... ما مِنْ حِمامٍ أحدٌ معتصما فكرر ما النافية توكيدا وأبقى عملها. الثاني: أن العرب قد استعملت إنْ زائدة بعد ما التي بمعنى الذي، وبعد ما المصدرية التوقيتية، لشبههما في اللفظ بما النافية، فلو لم تكن زائدة المقترنة بما النافية، لم يكن لزيادتها بعد الموصولتين مسوغ. ومثال زيادتها بعد الموصولتين قول الشاعر: يُرَجِّي المرْءُ ما إنْ لا يراه ... وتعرِض دون أدناه الخطوبُ أراد: يرجى المرء الذي لا يراه. ومثله قول الآخر: ورَجِّ الفتى للخير ما إنْ رأيته ... على السِّنِّ خيرا لا يزال يزيد فما في هذا البيت مصدرية توقيتية، فزادوا إن بعدها لشبهها في اللفظ بما النافية، فتعين الحكم بالزيادة على التي بعد النافية، وزيدت أيضا إن بعد ألا الاستفتاحية،

كقول الشاعر: ألا إنْ سَرَى لَيْلي فبِتُّ كئيبا ... أُحاذر أن تَنْأى النَّوَى بِغَضُوبا وزيدت أيضا قبل مدة الإنكار، كقول رجل من العرب لِمن قال له: أتخرج إن أخْصَبت البادية؟ - أأنا إنيه. وزعم الكوفيون أن "ما" لا عمل لها، وأن نصب ما ينتصب بعدها بسقوط الباء. وما قالوه لا يصح، لأن الباء قد تدخل بعد هل، وبعد ما المكفوفة بإنْ، وإذا سقطت الباء تعين الرفع، بإجماع، فلو كان سقوط الباء ناصبا لنصبه في هذين الموضعين. ومثل تعين الرفع في هذين الموضعين عند سقوط الباء تعينه عند سقوطها في نحو: كفى بزيد رجلا، وبحسب عمرو درهم. وتعينه عند سقوط مِنْ في نحو: ما فيه من رجل. وأجاز الأخفش في نحو: ما أحد قائما إلا زيد، أن يقال: ما قائما إلا زيد، بحذف اسم ما، والاستغناء عنه ببدله الموجب بإلا. ومثل هذا لو سمع من العرب لكان جديرا بالرد، لأن المراد فيه مجهول، لاحتمال أن يكون أصله: ما أحد قائما إلا زيد، وأن يكون أصله: ما كان قائما إلا زيد، وما كان هكذا فالحكم بمنعه أولى من الحكم بجوازه، لأن شرط جواز الحذف أن يكون المحذوف متعين لا محتملا. ولذلك لا يجوز لمن قال: تمرون الديار، أن يقول: رغبت زيدا، لأن المراد مجهول، لاحتمال أن يكون أراد: رغبت في زيد، وأن يكون أراد: رغبت عن زيد. ومن العرب من ينصب خبر ما متوسطا بينها وبين اسمها، أشار إلى ذلك سيبويه،

وسوى بينه وبين قول من قال: ملحفة جديدة، بالتاء، وبين من قال: ولات حينُ مناص، بالرفع. فإن المشهور: ملحفة جديد، بلا تاء، ولات حينَ مناص، بالنصب. وأنشد سيبويه على نصب الخبر متوسطا قول الفرزدق: فأصبحوا قد أعاد اللهُ نعمتَهم ... إذ هم قريش وإذا ما مثلَهم بشرُ واستشهد أبو علي في التذكرة على نصب خبر ما مقدما على اسمها بقول الشاعر: أما واللهِ عالم كلِّ غَيْب ... ورب الحجر والبيت العتيقِ لو انّك يا حُسَيْن خُلِقْت حرا ... وما بالحُرِّ أنت ولا الخليقِ بناء على أن الباء لا تدخل على الخبر إلا وهو مستحق للنصب، وسيأتي الكلام على هذه المسألة إن شاء الله تعالى. ورد على سيبويه الاستدلال ببيت الفرزدق، لأنه سمع من لغتهم منع نصب الخبر مطلقا. لكنه رفع بشرا بالابتداء، وحذف الخبر، ونصب مثلهم على الحال. أو يكون تكلم الفرزدق بهذا معتقدا جوازه عند الحجازيين فلم يصب. والجواب عن الأول أن الحال فضلة، فحق الكلام أن يتم بدونها، ومعلوم أن الكلام هنا لا يتم بدون مثلهم، فلا يكون حالا، وإذا انتفت الحالية تعينت الخبرية. والجواب عن الثاني أن الفرزدق كان له أضداد من الحجازيين والتميميين، ومن مناهم أن يظفروا بزلة منه يشنعون بها عليه، مبادرين إلى تخطئته، ولو جرى شيء من ذلك لنقل، لتوفر الدواعي على التحدث بمثل ذلك لو اتفق، ففي عدم ذلك دليل على إجماع أضداده الحجازيين والتميميين على تصويب قوله، فثبت بهذا صحة استشهاد سيبويه بما أنشده، والله أعلم. وروى عن يونس من غير طريق سيبويه إعمال "ما" في الخبر الموجب بإلا،

إن ولا ولات

واستشهد على ذلك بعض النحويين بقول الشاعر: وما الدهرُ إلا مَنْجَنُونا بأهله ... وما صاحبُ الحاجات إلا معذبا وتكلف في توجيه هذا البيت بأن قال: منجنونا منصوب نصب المصدر الذي يستغنى به عن خبر المبتدأ المقصود حصر خبره، فكأنه قال: وما الدهر إلا يدور بأهله دوران منجنون، أي: دولاب، ثم حذف الفعل على حد تسير إذا قيل: ما أنت إلا سير البريد، ثم حذف المضاف وهو دوران، وأقيم المضاف إليه مقامه وهو منجنون. وأما إلا معذبا فمثل: إلا تعذيبا، لأن مُفَعّلا من فَعّل بمنزلة تفعيل، ومنه قوله تعالى: (ومَزّقناهم كل مُمَزَّق). وهذا عندي تكلف لا حاجة إليه، فالأولى أن يجعل منجنونا ومعذبا خبرين لما منصوبين بها، إلحاقا لها بليس في نقض النفي، كما ألحقت بها في عدم النقض. وأقوى من الاستشهاد بهذا البيت الاستشهاد بقول مغلس: وما حقُّ الذي يعثُو نهارا ... ويسرقُ ليله إلا نَكالا وإذا عطف على خبر ما المنصوب ببل ولكنْ لم يجز في المعطوف إلا الرفع، كقولك: ما زيدٌ قائما بل قاعدٌ، وما خالد مقيما بل ظاعن، وإنما لم يجز ههنا في المعطوف إلا الرفع لأنه بمنزلة الموجب بإلا. وقياس مذهب يونس ألا يمتنع نصب المعطوف ببل ولكن. ص: وتُلحق بها "إنْ" النافية قليلا، و"لا" كثيرا، ورفعها معرفة نادر، وتُكْسَعُ بالتاء فتختص بالحين أو مرادفه، مُقْتَصرا على منصوبها بكثرة، وعلى مرفوعها بقلة، وقد يضاف إليها "حين" لفظا أو تقديرا، وربما استغنى مع التقدير عن "لا" بالتاء. وتهمل "لات" على الأصح إن وليها هَنّا.

ش: مقتضى النظر أن يكون إلحاق "إنْ" النافية بليس راجحا على إلحاق "لا" لمشابهتها لها في الدخول على المعرفة، وعلى الظرف والجار والمجرور، وعلى المخبر عنه بمحصور، فيقال: إنْ زيد فيها، وإن زيد إلا فيها، و: (إنْ عندكم من سلطان) كما يقال بما. ولو استعملت "لا" هذا الاستعمال لم يجز. ومقتضى النظر أيضا أن يكون إلحاق لات بليس راجحا على إلحاق "ما" و"إن" و"لا"، لأن اتصال التاء بها جعلها مختصة بالاسم، وشبيهة بليس في اللفظ، إذ صارت بها على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن كليس، إلا أن الاستعمال اقتضى تقليل الإلحاق في "إنْ" وكثرته في "لا" مجردة، وقصره في "لا" مكسوعة بالتاء على الحين أو مرادفه. وذكر السيرافي أن المرفوع بعد لات في مذهب الأخفش مرفوع بالابتداء، وأن المنصوب بعدها منصوب بإضمار فعل. وكلام الأخفش في كتابه المترجم "بمعاني القرآن" موافق كلام سيبويه في أنّ لات تعمل عمل ليس على الوجه المذكور. وأكثر النحويين يزعمون أن مذهب سيبويه في إنْ النافية الإهمال، وكلامه مشعر بأن مذهبه فيها الإعمال، وذلك أنه قال في باب عدة ما يكون عليه الكلم: "وأما إنْ مع ما في لغة أهل الحجاز، فهي بمنزلة ما مع إنّ الثقيلة تجعلها من حروف الابتداء، وتمنعها أن تكون من حروف ليس" فعلم بهذه العبارة أن في الكلام حروفا مناسبة لليس من جملتها ما، ولا شيء من الحروف يصلح لمشاركة ما في هذه المناسبة إلا إنْ ولا فتعين كونهما مقصودين. وصرح أبو العباس المبرد بإعمال إنْ عمل ليس، وتابعه أبو علي وأبو الفتح بن جني، ومن شواهد ذلك ما أنشد الكسائي من قول الشاعر: إنْ هو مستوليا على أحد ... إلا على أضعف المجانين

وقال آخر: إن المرءُ ميتا بانقضاء حياته ... ولكن بأن يُبْغى عليه فيُخْذلا وذكر أبو الفتح في المحتسب أن سعيد بن جبير رضي الله عنه قرأ: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) على أنَّ إنْ نافية، والذين اسمها، وعبادا خبرها، وأمثالكم صفة، وقال: معناه: ما الذين تدعون من دون الله أمثالكم في الإنسانية، وإنما هي حجارة ونحوها مما لا حياة له ولا عقل، فضلا لكم بعبادتهم أشد من ضلالكم لو عبدتم أمثالكم. ومن عمل "لا" مجردة من التاء عمل ليس قول الشاعر: تعزَّ فلا شيءٌ على الأرض باقيا ... ولا وَزَرٌ مما قضى الله واقيا ومثله قوله: نصرتُك إذ لا صاحبٌ غيرَ خاذل ... فبُؤِّئت حصنا بالكُماة حصينا ومثله قول سواد بن قارب رضي الله عنه: وكن لي شفيعا يومَ لا ذو شفاعةٍ ... بمُغْنٍ فتيلا عن سواد بن قارب ومثله قول الآخر: من صدَّ عن نيرانها ... فأنا ابن قيسٍ لا بَراح

فحذف الخبر، ومثله قول الراجز: والله لولا أن يَحُشَّ الطُّبَّخُ ... بيَ الجحيمَ حين لا مُسْتَصْرَخُ فهذا وأمثاله مشهور، أعني إعمال لا في نكرة عمل ليس. وشذ إعمالها في معرفة في قول النابغة الجعدي رضي الله عنه: بَدَت فعلَ ذي وُدٍّ فلما تبعتُها ... تولّت وخلَّت حاجتي في فؤاديا وحلّت سوادَ القلب لا أنا باغيا ... سواها ولا في حبها متراخيا وقد حذا المتنبي حذو النابغة فقال: إذا الجودُ لم يُرْزَق خلاصا من الأذى ... فلا المجدُ مكسوبا ولا المال باقيا والقياس على هذا شائع عندي. ولم تستعمل لات إلا في الحين أو مرادفه مقتصرا بها على الحين كله، كقوله تعالى: (ولات حين مناص) وكقول الشاعر: غافلا تعرضُ المنيةُ للمر ... .ء فيُدْعَى ولات حين إباء ومثال إعمالها في مرادف الحين قول رجل من طيء: ندم البغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم وأنشد أبو الحسن الأخفش، وأبو زكريا الفراء:

طلبوا صُلْحَنا ولات أوانِ ... فأجبنا أن ليس حين بقاء أراد: ولات أوان صلح، فقطع أوانا عن الإضافة ونواها، وبنى أوانا على الكسر تشبيها بفعالِ. وإضافة حين إلى لات لفظا كقول الشاعر: لعل حلومَكم تأوي إليكم ... إذا شمَّرْتُ واضطرت شذاتي وذلك حين لات أوانِ حلم ... ولكن قبلها اجتنبوا أذاتي وإضافة حين إليها تقديرا كقول الآخر: تذكر حُبَّ ليلى لات حينا ... وأمسى الشيب قد قطع القرينا وأشرت بقولي: وربما استغنى مع التقدير عن لا "بالتاء" إلى قول الشاعر: العاطفونَ تحين لا من عاطف ... والمنعمون يدا إذا ما أنْعَموا أراد: هم العاطفون حين لات حين ما من عاطف، فحذف حين مع لا، وهذا أولى من قول من قال: إنه أراد "العاطفونَهْ" بهاء السكت، ثم أثبتها وأبدلها تاء. وقد تجيء لات وبعدها هَنّا، كقول الشاعر: حنّتْ نوارِ ولات هَنّا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أجَنّت ولا عمل للات في هذا وأشباهه، ولكنها مهملة، وهنّا في موضع نصب على الظرفية، والفعل بعده صلة لأنْ محذوفة، وأن وصلتها في موضع رفع بالابتداء، والخبر هنّا، كأنه قال: ولا هنالك حنين، هكذا قال أبو علي.

وزعم ابن عصفور أن "هنّا" اسم لات، وما قاله غير صحيح، لأن هنا ظرف غير متصرف فلا يخلو من معنى "في". ص: ورفع ما بعد "إلا" في نحو: ليس الطيبُ إلا المسكُ، لغة تميم، ولا ضمير في ليس خلافا لأبي علي. ش: روى أبو عمرو بن العلاء في نحو: ليس الطيب إلا المسك، وليس البِرّ إلا العمل الصالح، النصب عن الحجازيين، والرفع عن بني تميم. فأما النصب فعلى ما تستحقه ليس من رفع الاسم ونصب الخبر، وأما الرفع فعلى إهمال ليس وجعلها حرفا. وقد أشار سيبويه إلى جواز ذلك في بعض الكلام، وأجاز في قول من قال: ليس خلق الله أشعر منه، كون ليس فعلا متحملا ضمير الشأن اسما، وكونها حرفا مهملا. واضطرب قول أبي علي في ليس، فرجح في بعض تصانيفها حرفيتها مع ظهور عملها، والتزم في موضع آخر فعليتها وإبقاء عملها في نحو: ليس الطيب إلا المسك، وذهب إلى أنها متحملة ضمير الشأن اسما، وما بعد ذلك خبرها. وما ذهب إليه غير صحيح، لأن الجملة المخبر بها عن ضمير الشأن في حكم مفرد هو المخبر عنه في المعنى، ولذلك استغنى عن عود ضمير منها إلى صاحب الخبر. فإذا قصد إيجابها بإلا لزم تقدمها على جزأيها وامتنع توسطها، كما امتنع توسطها بين جزأي خبر مفرد قصد إيجابه، فلو كان اسم ليس في: ليس الطيب إلا المسك، ضمير الشأن، لزم أن يقال: ليس إلا الطيب المسك، كما يلزم أن يقال في: كلامي زيد قائم، عند حصر الخبر: ليس كلامي إلا زيد قائم، ولو وسط إلا فقيل: ليس كلامي زيد إلا قائم، لم يجز، فكذا لا يجوز: ليس الطيب إلا المسك، على تقدير: ليس الشأن الطيب إلا المسك، بل الواجب إذا قصد الحصر في خبر ضمير الشأن

أن يجاء بإلا مقدمة على جزأي الجملة، كما قال الشاعر: ألا ليس إلا ما قضى اللهُ كائن ... وما يستطيع المرء نفعا ولا ضرا ويمكن في: ليس الطيب إلا المسك، إبقاء العمل على وجه لا محذور فيه، وهو أن يجعل "الطيب" اسم ليس، والمسك بدل منه، والخبر محذوف، والتقدير: ليس الطيب في الوجود إلا المسك، ويكون الاستغناء هنا بالبدل عن الخبر، كالاستغناء به في نحو: لا فتى إلا على، ولا سيف إلا ذو الفقار. ص: ولا تلزم حاليةُ المنفي "بليس" و"ما" على الأصح. ش: وزعم قوم من النحويين أن "ليس وما" مخصوصان بنفي ما في الحال، والصحيح أنهما ينفيان ما في الحال، وما في الماضي، وما في الاستقبال. وقد تنبه أبو موسى الجزولي إلى ذلك، فقال في كتابه المسمى بالقانون: وليس لانتفاء الصفة عن الموصوف مطلقا. قال أبو علي الشلوبين: قال أبو موسى ذلك، وإن كان الأضهر عند النحويين أن ليس إنما هي لانتفاء الصفة عن الموصوف في الحال، لأن سيبويه حكى: ليس خلق الله مثله، وأجاز: ما زيد ضربته، على أن تكون "ما" حجازية. ثم بين الشلوبين أن مراد القائلين: إن ليس لانتفاء الصفة في الحال، أن الخبر إذا لم يكن مخصوصا بزمان دون زمان، ونفى بليس، فإنه يحمل نفيها على الحال، كما يحمل الإيجاب عليه أيضا. فإن اقترن الخبر بالزمان أو ما يدل عليه فهو بحسب المقترن به، موجبا كان أو منفيا بليس. قلت: قد ورد استقبال المنفي بليس في القرآن العزيز وأشعار العرب كثيرا، وكذا ورد استقبال المنفي بما. فمن استقبال المنفي بليس قوله تعالى: (ألا يومَ يأتيهم ليس مصروفا عنهم) وقوله تعالى: (ولستم بآخذيه إلا أن تُغْمِضُوا فيه)

وقوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) ومثله قول حسان: وما مثلُه فيهم ولا كان قبله ... وليس يكون الدهرَ ما دام يَذْبُل ومثله قول زهير: بدا لي أني لستُ مُدركَ ما مضى ... ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا ومثله: إني على العهد لست أنْقُضُه ... ما اخضر في رأس نخلة سَعَف ومثله: ولست بمُسْتَبقٍ أخا لا تَلُمُّه ... على شَعَث أيُّ الرجالِ المهذبُ ومثله: هَوِّنْ عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها فليس بآتيك مَنْهِيُّها ... ولا قاصرٍ عنك مأمورها ومثله: ولستَ لما لم يقضِه الله واجدا ... ولا عادما ما الله حَمّ وقدّرا ومن استقبال المنفي بما قول الله تعالى: (وما هو بمُزَحْزحه من العذاب أن يُعَمّر) و (وما هم بخارجين من النار) (وما هم بخارجين منها)

زيادة الباء في الخبر المنفي

(لا يمسهم فيها نَصَب وما هم منها بمخرجين) (يَصلَوْنها يوم الدين وما هم عنها بغائبين) ومن ورود ذلك في غير القرآن قول الشاعر: وما الدنيا بباقية لحيٍّ ... ولا أحدٌ على الدنيا بباق ومثله قول امرئ القيس: وما المرء ما دامت حُشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آل وشواهد ذلك شائعة ذائعة. ص: وتزاد الباء كثيرا في الخبر المنفي بليس وما أختها، وقد تزاد بعد نفي فعل ناسخ للابتداء، وبعد: أو لم يروا أنّ، وشبهه، وبعد "لا" التبرئة، وهل، وما المكفوفة بإنْ، والتميمية، خلافا لأبي علي والزمخشري، وربما زيدت في الحال المنفية، وخبر إنّ ولكنّ. ش: زيادة الباء في الخبر المنفي بليس قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبدَه) وفي الخبر المنفي بما قوله تعالى: (وما ربك بغافل عما تعملون) وقلت: في الخبر المنفي، ولم أقل في خبر ليس، ليعلم أن الموجب بعد ليس وغيرها لا تدخله الباء. ومثال دخولها بعد نفي فعل ناسخ للابتداء قول الشاعر: وإنْ مُدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشعُ القوم أعجلُ

ومثله: دعاني أخي والخيل بيني وبينه ... فلما دعاني لم يجبرني بأقْعَد ومثال دخولها بعد أنَّ المسبوقة بأوَ لمْ يَرَوْا، قوله تعالى: (أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يَعْيَ بخلقهن بقادر) وهذا من إجراء الشيء على ما هو في معناه، لأن معنى: أو لم يروا أن الله، أو ليس الله. ومثال دخول الباء بعد "لا" التبرئة قول العرب: لا خير بخير بعده النار، إذا لم تجعل الباء بمعنى في. ومثال دخولها بعد هل قول الشاعر: يقول إذا اقْلَوْلَى عليها وأقْرَدَت ... ألا هل أخو عيش لذيد بدائم ومثال دخولها بعد ما المكفوفة بإنْ قول الشاعر: لعَمْرُك ما إن أبو مالك ... بواهٍ ولا بضعيف قواه ومثال دخولها بعد ما التميمية قول الفرزدق: لعمرك ما مَعْنٌ بتارك حقه ... ولا مُنْسِئٌ معْنٌ ولا مُتَيسِّرُ وزعم أبو علي أن دخول الباء على الخبر بعد ما مخصوص بلغة أهل الحجاز، وتبعه في ذلك الزمخشري، وهو بخلاف ما زعماه لوجوه: أحدها: أن أشعار بني تميم تتضمن الباء كثيرا بعد ما، كقول الفرزدق المتقدم.

الثاني: أن الباء إنما دخلت على الخبر بعد ما لكونه منفيا، لا كونه خبرا منصوبا، ولذلك دخلت على خبر لم أكن، وامتنع دخولها على خبر كنت. وإذا ثبت أن كون المسوغ لدخولها النفي، فلا فرق بين منفي منصوب المحل ومنفي مرفوع المحل. الثالث: أن الباء المذكورة قد ثبت دخولها بعد بطلان العمل، وبعد هل، كقوله: بواه ولا بضعيف قواه وقوله: ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم وإنما دخلت على الخبر بعد هل لشبه هل بحرف نفي، فلأن تدخل على ما التميمية أحق وأولى، لأن شبه ما بما، أكمل من شبه هل بما، وقد تقدم أن الفراء حكى أن أهل نجد كثيرا ما يجرون الخبر بعد ما بالباء، وإذا أسقطوا الباء رفعوا، وهذا دليل واضح على أن وجود الباء جارة للخبر بعد ما لا يلزم منه كون الخبر منصوب المحل، بل جائز أن يقال: هو منصوب المحل، وأن يقال هو مرفوع المحل، وإن كان المتكلم به حجازيا، فإن الحجازي قد يتكلم بلغة غيره، وغيره قد يتكلم بلغته، إلا أن الظاهر أن محل المجرور نصب إن كان المتكلم حجازيا، ورفع إن كان المتكلم تميميا أو نجديا. فمن دخول اللغة التميمية في الحجازية كسر هاء الغائب بعد كسرة أو ياء ساكنة، وإدغام نحو: (ولا يضار كاتب ولا شهيد) ورفع الله من قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللهُ) لأن اللغة الحجازية بهُ وفيهُ بالضم، ولا يضارر بالفك، وإلا اللهَ بالنصب، لأن الاستثناء منقطع. وإذا جاز للحجازي أن يتكلم باللغة التميمية، جاز للتميمي أن يتكلم باللغة الحجازية، بل التميمي بذلك أولى لوجهين: أحدهما: أن الحجازية أفصح، وانقياد الفصيح

لموافقة الأفصح أكثر وقوعا من العكس. الثاني أن معظم القرآن حجازي، والتميميون يتعبدون بتلاوته كما أنزل، ولذلك لا يقرأ أحد منهم: (ما هذا بشرا) بالرفع إلا من جهل كونه منزلا بالنصب. ومثال دخول الباء على حال منفية قول الشاعر: فما رجعتْ بخائبة ركابُ ... حكيمُ بنُ المُسَيَّب منتهاها ومثله: كائن دُعيت إلى بأساءَ داهمةٍ ... فما انبعثتُ بمَزْءُود ولا وَكَل ومثال دخولها على خبر إنّ قول امرئ القيس: فإنْ تَنأَ عنها حِقْبة لا تُلاقها ... فإنك مما أحدثت بالمجرِّب ومثال دخولها على خبر لكن قول الشاعر: ولكنّ أجْرًا لو فعلتِ بهين ... وهل ينكرُ المعروف في الناس والأجرُ ص: وقد يجر المعطوف على الخبر الصالح للباء مع سقوطها، ويندر ذلك مع غير ليس وما، وقد يفعل ذلك في المعطوف على منصوب اسم الفاعل المتصل. ش: لما كثر دخول الباء على خبر ليس وخبر ما، جاز للمتكلم أن يجر المعطوف بعدهما على الخبر المنصوب كقول الشاعر: مشائِيمُ ليسُوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعبٍ إلا ببَيْنٍ غرابُها

وقال آخر في جر المعطوف على المنصوب بما: ما الحازمُ الشهمُ مِقداما ولا بطلٍ ... إنْ لم يكنْ للهوى بالعقل غلّابا فكأنه قال: ما الحازم بمقدام ولا بطل. وقد عومل بهذه المعاملة المعطوف على منصوب كان المنفية، كقول الشاعر: وما كنتُ ذا نَيْرَبٍ فيهمُ ... ولا مُنْمِشٍ فيهم مُنْملِ وإلى هذا أشرت بقولي: ويندر ذلك بعد خبر غير ليس وما. فجر منمشا لعطفه على منصوب كان المنفية لشبهه بمنصوب ليس في صلاحيته للباء، حتى كأنه قال: وما كنت بذي نيرب ولا منمش، والنيرب النميمة، والمنمش المفسد ذات البين، والمنمل كذلك. ونبهت بقولي: "الصالح للباء" على أن المعطوف على خبر لا يصلح للباء لا يجوز جره، نحو: لست تفعل ولا مقاربا. وقد يجر المعطوف على المنصوب باسم الفاعل كقول امرئ القيس: فظلّ طُهاةُ اللحم من بين مُنْضِج ... صَفِيفَ شِواء أو قديرٍ مُعَجَّل لأن المنصوب باسم الفاعل يجر كثيرا بإضافته إليه، فكأنه إذا انتصب مجرور، وجواز جر المعطوف على منصوب اسم الفاعل مشروط بالاتصال، كاتصال منضج بالمنصوب، فلو كان منفصلا لم يجز الجر، نحو أن يقال: من بين منضج بالنار صفيف شواء، لأن الانفصال يزيل تصور الإضافة المقتضية للجر، فلذلك لا يجوز جر المعطوف مع انفصال اسم الفاعل من معموله. ص: وإن وَلِيَ العاطفَ بعد خبر ليس أو ما وصفٌ يتلوه سببي، أعْطِيَ الوصفُ

ما له مفردا، ورفع السببي، أو جعلا مبتدأ وخبرا. وإن تلاه أجنبي عُطف بعد ليس على اسمها، والوصف على خبرها. وإن جُرَّ بالباء جاز على الأصح جرُّ الوصف المذكور، ويتعين رفعه بعد ما. ش: إذا وقع بعد معمولي ليس أو ما عاطفٌ يليه وصف بعده سببي نحو: ليس زيد قائما ولا ذاهبا أبوه، وما عمرو مقيما ولا ظاعنا أخوه، فلك أن تعطي الوصف من النصب والجر ما كنت تعطيه دون مذكور بعده، وترفع به السببي، أو ترفعهما مبتدأ وخبرا فتقول: ليس زيد قائما، ولا ذاهب أبوه، وما عمرو مقيما، ولا ظاعنٌ أخوه. وإن تلا الوصفَ أجنبيٌّ والعامل ليس، جاز رفعه عطفا على اسمها ونصب الوصف عطفا على الخبر، وجاز جعلهما مبتدأ وخبرا، نحو: ليس زيد قائما ولا ذاهبا عمرو، وليس زيد قائما ولا ذاهبٌ عمرٌو. وإن كان خبر ليس مجرورا بالباء جاز جر الوصف المذكور بباب مقدرة مدلول عليها بالمتقدمة، وهو كثير في الكلام، ومنه قول الشاعر: وليس بمُدْنٍ حَتْفه ذو تقدم ... لحرب ولا مُسْتَنْسِئ العُمر مُحْجِم ومنه قول الآخر: فليس بآتيك مَنْهيُّها ... ولا قاصرٍ عنك مأمورُها ومنه قول الآخر: وليس بمعروف لنا أنْ تَرُدَّها ... صِحاحا ولا مُسْتنكرٍ أن تُعَقّرا وليس هذا من العطف على عاملين، بل من حذف عامل لدلالة عامل مثله عليه، وحذف حرف الجر من المعطوف لدلالة مثله عليه كثير، ومنه قوله تعالى:

(وفي خلقكم وما يَبُثُّ من دابة آياتٌ لقوم يوقِنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آياتٌ لقوم يعقلون) فحذف في الجارة لاختلاف الليل والنهار لدلالة الجارة لخلقكم عليها. ومثله قول الشاعر: أخْلِقْ بذي الصَّبْر أن يحظى بحاجته ... ومُدْمِن القَرْع للأبواب أن يَلجا وإذا استسهل بقاء الجر بمضاف حذف لدلالة مثله عليه، كان بقاء الجر بحرف الجر المحذوف لدلالة مثله عليه أحق وأولى، لأن حرف الجر في عمل الجر أمكن من الاسم المضاف. ومن حذف المضاف وبقاء المضاف إليه قول الشاعر: أكلَّ امرْئ تحسبين امرَأ ... ونارٍ تَوقّدُ بالليل نارا ومثله قراءة بعض القراء: (تُريدون عَرَض الدنيا والله يريد الآخرةِ) على تقدير: عرض الآخرة. ويستقصى الكلام على نظائر هذه المسألة إن شاء الله تعالى. وليس بعد "ما" في الوصف التاليه أجنبيٌّ بعد عاطف إلا الرفع كقولك: ما زيد قائما ولا ذاهب عمرو، لأن المعطوف عليه مع قربه من العامل لو قدم فيه الخبر لبطل العمل، فبطلانه بالتقديم في المعطوف لبعده من العامل أحق وأولى، ومثال ذلك قول الشاعر: لعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتاركِ حقه ... ولا مُنْسِئٌ معنٌ ولا مُتَيَسِّر

باب أفعال المقاربة

باب أفعال المقاربة ص: منها للشروع في الفعل: طَفِق، وطبق، وجعل، وأخذ، وعلق، وأنشأ، وهبَّ. ولمقاربته: هلهل، وكاد، وكرب، وأوشك، وأولى. ولرجائه: عسى، وحرى، واخلولق. وقد ترد عسى إشفاقا. ويلازمهن لفظ المضي إلا كاد وأوشك. وعملها في الأصل عمل كان، لكن التزم كون خبرها مضارعا مجردا مع هلهل وما قبلها. ومقرونا بأن مع أوْلى وما بعدها. وبالوجهين مع البواقي، والتجريد مع كاد وكرب أعرف، وعسى بالعكس. ش: حق أفعال هذا الباب أن تذكر في باب كان، لمساواتها لها في الدخول على مبتدأ وخبر، ورفع الاسم ونصب الخبر، إلا أن هذه الأفعال رفض فيها غالبا ترك الإخبار بجملة فعلية، فلذلك أفردت بباب. وجملتها ستة عشر فعلا: ثمانية منها للشروع، وهي: طفق وهبّ وما بينهما، نحو: طفق زيد يقرأ، وهبّ عمرو يصلى. والأصل: طفق زيد قارئا، وهب عمرو مصليا، إلا أنه من الأصول المرفوضة. وأغرب الثمانية عَلِق وهبَّ. وخمسة منها للدنو من الفعل حقيقة، وأشهرها كاد، وأغربها أولى، كقول الشاعر: فعادَى بين هادِيَتَيْن منها ... وأولى أن يزيدَ على الثلاث والثلاثة البواقي للإعلام بالمقاربة على سبيل الرجاء، وأغربها حرى، يقال: حرى زيد أن يجيء، بمعنى: عسى زيد أن يجيء.

والتزم في غير ندور كون خبر جميعها مضارعا مجردا من أن مع القسم الأول، لأن أنْ تقتضي الاستقبال، والشروع ينافيه. ولا بد من مقارنة أن للمضارع المخبر به بعد أولى وحرى واخلولق. وترك ذلك بعد كاد وكرب أولى من فعله، وفعله بعد عسى أولى من تركه، والأمر بعد أوشك سواء. وورود عسى في الرجاء كثير، وورودها في الإشفاق قليل، وقد اجتمعا في قول الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) ومن ورودها إشفاقا قول الشاعر: عسيتم لدى الهيجاء تلقَوْن دوننا ... تضافر أعداء وضعف نصير وقال الشاعر في طفق: طفق الخَلِيّ بقسوة يلحى الشجى ... ونصيحة اللاحي الخلي عناء وقال آخر في جعل: وقد جعلت إذا ما قمتُ يُثْقلني ... ثوبي فأنهضُ نهش الشّارب الثَّمِل وقال آخر في علق: أراك عَلِقْت تظْلم من أجرنا ... وظلمُ الجار إذلالُ المجير

وقال آخر في أنشأ: لمّا تبيّن مَيْن الكاشِحين لكم ... أنشأت أعربُ عما كان مكتوما وقال آخر في هب: هَبَبْتُ ألومُ القلب في طاعة الهوى ... فلجّ كأني كنت باللوم مُغْريا وقال آخر في هلهل: وطئنا بلاد المعتدين فهلهلتْ ... نفوسُهم قبل الإماتة تزهق أي كادت. والشائع في خبر كاد وروده مضارعا غير مقرون بأن كقوله تعالى: (كادوا يكونون عليه لبَدا) ووروده مقرونا بأن قليل، ومنه جاء في حديث عمر رضي الله عنه: "ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب" ومثله قول الآخر: أبَيْتم قبولَ السّلم منا فكدتم ... لدى الحرب أن تُغْنوا السيوف عن السَّل وقال الشاعر في خبر كرب غير مقرون بأن: وما أنت أمْ مارُسُوم الديار ... وسِتُّوك قد كرَبَت تكمُلُ

وقال آخر: كرب القلب من جواه يذوب ... حين قال الوُشاة هند غَضُوب وقال في اقترانه بأن: وقد كَرَبَت أعناقُها أن تقطعا وقال آخر: قد بُرْتَ أو كَرَبْتَ أن تبورا ... لمّا رأيت بَيْهَسًا مَتْبُورا وقال في خبر أوشك غير مقرون بأن: يوشك من فرّ من منيته ... في بعض غِرّاته يوافقها وقال آخر في الاقتران بأن: ولو سُئِل الناسُ التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملُّوا ويمنعوا ص: وربما جاء خبراهما مفردين منصوبين، وخبر جعل جملة اسمية أو فعلية مصدرة بإذا وليس المقرون بأن خبرا عند سيبويه. ولا يتقدم هنا الخبر، وقد يتوسط، وقد يحذف إن علم، ولا يخلو الاسم من اختصاص غالبا. ويسند أوشك وعسى واخلولق لأن يفعل فيغنى عن الخبر، ولا يختلف لفظ المسند لاختلاف ما قبله، فإن أسند إلى ضميره اسما أو فاعلا طابق صاحبَه معها،

كما يطابق مع غيرها. وإن كان لحاضر أو غائبات جاز كسر سين عسى. ش: من عادة العرب في بعض ماله أصل متروك، وقد استمر الاستعمال بخلافه، أن ينبهوا على ذلك الأصل لئلا يجهل، فمن ذلك جعل بعض العرب خبر كاد وعسى مفردا منصوبا، كقول الشاعر في أصح الروايتين: فأُبْتُ إلى فَهْم وما كدت آئبا ... وكم مثلِها فارقتها وهي تَصْفِر فبقوله: ما كدت آيبا، علم أن أصل: كادوا يكونون، كادوا كائنين، كما علم بالقَوَد واستحوذ، أن أصل: قال، واستعاد، قَوَل واستَعْوَد. ومثال جعل خبر عسى مفردا منصوبا قول العرب: عسى الغُوَيْر أبْؤُسا، وقال الراجز: أكثرتَ في العَذْل مُلِحّا دائما ... لا تَلْحَني إني عسيت صائما وقد يجيء خبر جعل جملة اسمية، كقول الشاعر: وقد جعلتْ قَلُوصُ بني سُهَيل ... من الأكْوار مرتعُها قريب وقد يجيء جملة فعلية ماضوية، كقول ابن عباس رضي الله عنه: فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا.

وليس المقرون بأن في هذا الباب خبرا عند سيبويه، بل هو منصوب بإسقاط حرف الجر، أو بتضمين الفعل معنى قارَبَ، قال سيبويه: تقول: عسيت أن تفعل، فأن هنا بمنزلتها في قولك: قاربت أن تفعل، أي: قاربت ذلك، وبمنزلة: دنوت أن تفعل. واخلولقت السماء أن تمطر، أي: لأن تمطر. وعست بمنزلة اخلولقت السماء، ولا يستعمل المصدر هنا كما لم يستعمل الاسم الذي الفعل في موضعه في قولك: "بذي تسلم" هذا نصه. قلت: والوجه عندي أن تجعل عسى ناقصة أبدا، فإذا أسندت إلى أن والفعل وجه بما يوجه وقوع حسب عليها في نحو: (أحسب الناس أن يُتركوا) فلما لم تخرج حسب بهذا عن أصلها، لا تخرج عسى عن أصلها بمثل: (وعسى أن تكرهوا شيئا) بل يقال في الموضعين: سدَّت أن والفعل مسد الجزأين. ويوجه نحو: (عسى الله أن يأتي بالفتح) بأن المرفوع اسم عسى، وأن والفعل بدل سدّ مسد جزأي الإسناد، كما كان يسد مسدهما لو لم يوجد المبدل منه، فإن المبدل في حكم الاستقلال في أكثر الكلام، ومنه قراءة حمزة: (ولا تَحْسَبن الذين كفروا أنما نُملي لهم) بالخطاب على جعل أنّ بدلا من الذين، وسدّت مسد المفعولين في البدلية، كما سدت مسدهما في قراءة الباقين (ولا يحسبن) بالياء، على جعل (الذين كفروا) فاعلا ومثله: "حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل" على رواية من رواه بالفتح في صحيح مسلم. ولا تتقدم أخبار هذه الأفعال، فلا يقال في: طفقت أفعل: أفعل طفقت.

والسبب في ذلك أن أخبار هذه الأفعال خالفت أصلها بلزوم كونها أفعالا، فلو قدمت لازدادت مخالفتها للأصل. وأيضا فإنها أفعال ضعيفة لا تصرف لها، إذ لا تَرِد إلا بلفظ الماضي إلا كاد وأوشك، فإن المضارع منهما مستعمل، فلهن حال ضعف بالنسبة إلى الأفعال الكاملة التصرف، وحال قوة بالنسبة إلى الحروف، فلم تتقدم أخبارها لتَفْضُلَها كان وأخواتها المتصرفة، وأجيز توسيطها تفضيلا لها على إن وأخواتها، فيقال: طفق يصليان الزيدان، وكاد يطيرون المنهزمون. وحكى الجوهري مضارع طفق. ويجوز في هذا الباب حذف الخبر إن علم، كقوله: "من تأنَّى أصاب أو كاد، ومن عجل أخطأ أو كاد". ومنه قول المرقش: وإذا ما سمعتِ من نحو أرض ... بمُحِبٍّ قد مات أو قيل كادا فاعلمي غيرَ علم شك بأني ... ذاكِ وابكى لمُقْصَدٍ لن يُقادا أي لن يؤخذ له بقَوَد. وقال آخر: قد هاج سارٍ لسارٍ ليلةً طربا ... وقد تَصَرَّم أو قد كاد أو ذهبا الساري الأول البرق. ومن حذف الخبر لدليل قوله تعالى: (فطَفِق مَسْحا بالسُّوق والأعناق) فحذف الخبر وهو يمسح، وترك مصدره دليلا عليه. وحق الاسم في هذا الباب أن يكون معرفة أو مقاربا لها، كما يحق ذلك لاسم كان، وقد يرد نكرة محضة كقول الشاعر: عسى فرجٌ يأتي به الله إنه ... له كلَّ يوم في خليقته أمرُ

وقد يسند أوشك وعسى واخلولق لأن يفعل، فيغني عن الخبر، كقوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) فلو وقعت عسى وأن يفعل خبر اسم قبلها، فللمتكلم بذلك أن يضمر في عسى ضميرا هو اسمها أو فاعلها، ويحكم على موضع أن يفعل بالنصب، وله أن يجرد عسى من الضمير، ويحكم على موضع أن يفعل بالرفع مستغنى به عن زائد، كما استغنى به بعد حسب عن مفعول ثان. وأوشك واخلولق مثل عسى في هذين الاستعمالين، فيقال: الزيدان أوشكا أن يفعلا، وأوشك أن يفعلا، والعمران اخلولقا أن يفوزا، واخلولق أن يفوزا، أشار إلى ذلك في الثلاثة سيبويه رحمه الله تعالى. وإن أسندت عسى إلى ضمير متكلم أو مخاطب أو إناث غائبات جاز كسر سينها وفتحها، والفتح أشهر، ولذلك قرأ به ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكوفيون، ولم يقرأ بالكسر إلا نافع. ص: وقد يتصل بها الضمير الموضوع للنصب اسما عند سيبويه حملا على لعل، وخبرا مقدما عند المبرد، ونائبا عن المرفوع عند الأخفش، وربما اقتصر عليه. ويتعين عود الضمير من الخبر إلى الاسم، وكون الفاعل غيره قليل. وتُنْفى كاد إعلاما بوقوع الفعل عسيرا، أوبعدمه وعدم مقاربته. ولا تُزاد كاد خلافا للأخفش. واستعمل مضارع كاد وأوشك خصوصا، وندر اسم فاعل أوشك. ش: إذا كان المعمول عسى ضميرا، فحقه أن يكون بلفظ الموضوع للرفع، نحو: عسيتُ وعسينا وعسيتَ وعسيتُم، كما يقال كنتُ وكنا وكنتَ وكنتم. وهذا الاستعمال هو المشهور، وبه نزل القرآن، قال الله تعالى: (قال هل عسَيْتُم إن كُتِب عليكم القتالُ ألا تقاتلوا) ومن العرب من يقول: عساني وعساك وعساه،

فيكتفى بالموضوع للنصب عن الموضوع للرفع، كقول الشاعر: ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ... تُنازعني لعلي أو عساني وكقول الآخر: أصِخْ فعساك أن تُهْدَى ارعواء ... لقلبِك بالإصاخة مستفاد فالتكلم بهذا وأمثاله جائز بإجماع، ولكن اختلف في الضمير: أهو منصوب المحل أم مرفوعه؟ فاتفق سيبويه والمبرد على أنه منصوب المحل، وأن الفعل في موضع رفع، إلا أن سيبويه يجعل المنصوب اسما والمرفوع خبرا حملا على لعل. والمبرد يجعل المنصوب خبرا مقدما، وأن والفعل اسما مؤخرا. وذهب الأخفض إلى أن الضمير ? وإن كان بلفظ الموضوع للنصب ? محله رفع بعسى نيابة عن الضمير الموضوع للرفع، كما ناب الموضوع للرفع عن الموضوع للنصب في نحو: مررت بك أنت، وأكرمته هو. وقول الأخفش هو الصحيح عندي لسلامته عن عدم النظير، إذ ليس فيه إلا نيابة ضمير غير موضوع للرفع عن موضوع له، وذلك موجود كقول الراجز: يابنَ الزُّبير طالما عصيكا ... وطالما عَنَّيْتَنا إليكا أراد عصيت، فجعل الكاف نائبة عن التاء. ولأن نيابة الموضوع للرفع موجودة في نحو: ما أنا كأنت، ومررت بك أنت، فلا استبعاد في نيابة غيره عنه. ولأن العرب قد تقتصر على عساك ونحوه، فول كان الضمير في موضع نصب لزم منه الاستغناء بفعل ومنصوبه عن مرفوعه، ولا نظير لذلك. بخلاف كونه في موضع

رفع، فإن الاستغناء به نظير الاستغناء بمرفوع كاد في نحو: "من تأنى أصاب أو كاد، ومن عجل أخطأ أو كاد". ولأن قول سيبويه يلزم منه حمل فعل على حرف في العمل، ولا نظير لذلك. وقال السيرافي: وأما عساك وعساني ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: قول سيبويه وهو أن عسى حرف بمنزلة لعل، وذكر القولين الأخيرين. وفي هذا القول أيضا ضعف، لتضمنه اشتراك فعل وحرف في لفظ واحد بلا دليل، إلا أن فيه تخلصا من الاكتفاء بمنصوب فعل عن مرفوعه في نحو: علك أو عساك، في نحو: عساك تفعل بغير أن، ولا مخلص للمبرد من ذلك. ويلزم المبرد أيضا مخالفة النظائر من وجهين آخرين: أحدهما: الإخبار باسم عين جامد عن اسم معنى. والثاني: وقوع خبر في غير موقعه بصورة لا تجوز فيه إذا وقع موقعه، وذلك أنك إذا قلت في: عساك أن تفعل، عسى أن تفعل إياك لم يجز، وما لم يجز في الحالة الأصلية حقيق بألا يجوز في الحالة الفرعية. فتبين أن قول أبي الحسن في هذه المسألة هو الصحيح والله أعلم. ولا بد من عود ضمير من الخبر في هذا الباب إلى الاسم، كما لا بد منه في غير هذا الباب، ولكن الضمير في غير هذا الباب لا يشترط كونه فاعلا، بخلاف الضمير في هذا الباب فإن الفاعل لا يكون غيره إلا على قلة، ولا يكون ما ورد على قلة إلا مؤولا بأنه هو، فمن ذلك قول الشاعر: وقد جعلتُ إذا ما قمتُ يُثقلني ... ثوبي فأنهضُ نَهْضَ الشارب الثَّمِل فجاء فاعل الفعل المخبر به غير ضمير الاسم، لأن المعنى: وقد جعلت إذا

ما قمت أثقل وأضعف، فصح لذلك. وكذا قول الآخر: وَقَفْتُ على رَبْع لميةَ ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبُثُّه ... يكلمني أحجاره وملاعبُه فجاز هذا لأن معناه: كاد يكلمني. وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي: "وكون الفاعل غيره قليل". وزعم قوم أن كاد ويكاد إذا دخل عليهما نفي فالخبر مثبت، وإذا لم يدخل عليهما نفي فالخبر منفي، والصحيح أن إثباتهما إثبات للمقاربة، ونفيهما نفي للمقاربة، فإذا قيل: كاد فلان يموت، فمقاربة الموت ثابتة، والموت لم يقع. وإذا قيل: لم يكد يموت، فمقاربة الموت منفية، ويلزم من نفي مقاربة الموت نفي وقوعه بزيادة مبالغة، كأن قائلا قال: كاد فلان يموت، فرد عليه بأن قيل: لم يكد يموت. وقولك: لم يكد يموت أبلغ في إثبات الحياة من قولك: لم يمت، ولهذا قيل في قوله تعالى: (إذا أخرج يده لم يكد يراها) إن معناه: لم يرها ولم يقارب أن يراها. وفي قوله تعالى: (يتجرعه ولا يكاد يسيغه) إن معناه: لا يسيغه ولا يقارب إساغته. وقد يقول القائل: لم يكد زيد يفعل، ويكون مراده أنه فعل بعسر لا بسهولة، وهو خلاف الظاهر الذي وضع له اللفظ أولا. ولإمكان هذا، رجع ذو الرمة في قوله:

إذا غيرُ النَّايُ المحبين لم يكد ... رسيسُ الهوى من حبِّ ميةَ يبرحُ إلى أن جعل بدل: يكد، يجد، وإن كان في يكد من المبالغة والجزالة ما ليس في يجد. وأما قوله تعالى: (وما كادوا يفعلون) فمحمول على وقتين، وقت عدم الذبح وعدم مقاربته، ووقت وقوع الذبح، كما يقول القائل: خلص فلان وما كاد يخلص. وأجاز الأخفش استعمال كاد زائدة، ومما استشهد به قوله تعالى: (إنّ الساعة آتية أكاد أخفيها) وقول حسان: وتكادُ تكسَل أن تجيء فِراشها ... في حسم خَرْعَبَة وحُسن قوام والصحيح أنها لا تزاد، وأما قوله تعالى: (أكاد أخفيها) فقيل معناه: إن الساعة آتية أكاد أخفيها فلا أقول: هي آتية. وقيل معناه: أكاد أخفيها عن نفسي. وقراءة أبي الدرداء وسعيد بن جبير: (أكاد أَخفيها) بفتح الهمزة، من خَفَيْتُ الشيء أخفيه إذا أظهرته، وبه فُسِّر قول امرئ القيس: فإن تدفنوا الداء لا نَخْفِه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد وأما قول حسان فالمعنى فيه وصف المذكورة بمقاربة الكسل دون حصوله، وذلك بين. ولازمت أفعال هذا الباب لفظ المضي إلا كاد وأوشك، فإنهما اختصا باستعمال

مضارعيهما، وشذ استعمال اسم فاعل أوشك في قول الشاعر: فموشِكةٌ أرضنا أن تعود ... خلافَ الخليط وحُوشا يَبابا وذكر الجوهري: يَطْفَق، ولم أره لغيره، والله أعلم.

باب الأحرف الناصبة الاسم الرافعة الخبر

باب الأحرف الناصبة الاسم الرافعة الخبر ص: وهي: إنّ للتوكيد، ولكنّ للاستدراك، وكأنّ للتشبيه، وللتحقيق أيضا على رأي، وليت للتمني، ولعل للترجي والإشفاق والتعليل والاستفهام. ولهن شَبَه بكان الناقصة في لزوم المبتدأ والخبر والاستغناء بهما، فعملت عملها معكوسا، ليكونا معهن كمفعول قدم وفاعل أخر، تنبيها على الفرعية، ولأن معانيها في الأخبار فكانت كالعمد، والأسماء كالفضلات، فأعطيا إعرابهما. ويجوز نصبهما بليت عند الفراء، وبالخمسة عند بعض أصحابه، وما استشهد به محمول على الحال، أو على إضمار فعل، وهو رأي الكسائي. ش: اعتبار الأصل يقتضي كون أحرف هذا الباب خمسة لا ست كما يقول أكثر المصنفين، ويكملون الستة بأنّ المفتوحة، ولا حاجة إلى ذلك، فإنها فرع المكسورة، وسأبين ذلك إن شاء الله تعالى. ومتبوعي فيما اعتبرته سيبويه، فإنه قال: هذا باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده". وكذا قال المبرد في المقتضب، وابن السراج في الأصول. ولو قال: باب الأحرف، لكان أولى من قوله: باب الحروف، لأن أحرفا جمع قلة، وحروفا جمع كثرة، والموضع موضع قلة، ألا أن كل واحد من جمع القلة والكثرة قد يقع موقع الآخر، ومنه قوله تعالى: (والمطلقات يتبرصْن بأنفسهن ثلاثة قُروء). وقد قيل: إن المسوغ لوقوع قروء موقع أقراء اختلاف عوائد النساء،

وباعتبار هذا يلزم حصول الكثرة، وكذا ما قال سيبويه يحمل على أنه ملحوظ به ما يعرض لإنّ من فتح همزتها، ومن تخفيف نونها في الحالين، ومن تخفيف نون كأنّ، وما يستعمل في لعل من لغات. فإن قيل: إذا كان تفريع أنّ سببا لعدم الاعتداد بها، فينبغي ألا يعتبر بكأنّ، فإن أصل: كأنّ زيدا أسد، إنّ زيدا كالأسد. فالجواب: أن أصل كأن منسوخ لاستغناء الكاف عن متعلق به، بخلاف أن فليس أصلها منسوخا، بدلالة جواز العطف بعدها على معنى الابتداء، كما يعطف عليه بعد المكسورة، فاعتبرت فرعية أن لذلك دون كأن. وقد قرنْتُ كل واحد من هذه الأحرف بمعناه، فمعنى إنّ التوكيد، ولذلك أجيب بها القسم نحو: والله إنك لفطن. ومعنى لكن الاستدراك. ولذلك لا يكون إلا بعد كلام، نحو: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم). وكأن للتشبيه المؤكد نحو: كأن زيدا أسد، فإن أصله: إن زيدا كالأسد، فقدمت الكاف، وفتحت الهمزة، وصار الحرفان حرفا واحدا مدلولا به على التشبيه والتوكيد. وزعم بعضهم أن كأن قد تكون للتحقيق دون تشبيه، واستشهد على ذلك بقول الشاعر: وأصبحَ بطنُ مكة مُقْشَعِرًّا ... كأنّ الأرض ليس بها هشامُ واستشهد أيضا بقول الآخر: كأني حين أمسي لا تُكَلمني ... ذو بُغية يبتغي ما ليس موجودًا

والصحيح أن كأن لا يفارقها التشبيه، ويخرج البيت الأول على أن هشاما وإن مات فهو باق ببقاء من يخلفه بسيره، وأجود من هذا أن تجعل الكاف من كأن في هذا الموضع كاف التعليل المرادفة اللام، كأنه قال: وأصبح بطن مكة مقشعرا ... لأن الأرض ليس بها هشام وعلى هذا حمل قوله تعالى: (ويكأنه لا يفلح الكافرون). وأكثر ما تزاد الكاف بهذا المعنى مقرونة بما كقوله تعالى: (واذكروه كما هداكم). ومنه ما حكاه سيبويه من قول بعضهم: كما أنه لا يعلم فغفر الله له، وأما البيت الثاني فلا حجة فيه، لأن التشبيه فيه يتبين بأدنى تأمل. وكون ليت للتمني، ولعل للترجي ظاهر، والفرق بينهما أن التمني يكون في الممكن وغير الممكن، والرجاء لا يكون إلا في الممكن. وتكون لعل للإشفاق كقوله تعالى: (فعلك باخعٌ نفسك). وكقول الشاعر: أتَوْني فقالوا يا جميل تَبدّلت ... بُثَينةُ أبدالا فقلت لعلها وعلّ حِبالا كنتُ أحكمتُ فتْلَها ... أُتيحَ لها واشٍ رفيقٌ فحلها وتكون لعل أيضا للتعليل كقوله تعالى: "فقولا له قولا لَيّنا لعله يتذكر أو يخشى). وكقول الشاعر: وقلتم لنا كُفُّوا الحروب لعلنا ... نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودُكم ... كلَمْع سَرَابٍ في الملا متألق قال الأخفش في المعاني "لعله يتذكر" نحو قول الرجل لصاحبه: افرغ لعلنا

نتغدى، والمعنى: لنتغدى. ويقول الرجل: اعمل عملك لعلك تأخذ أجرك، أي لتأخذه، وهذا نصه. وتكون لعل أيضا للاستفهام كقوله تعالى: (وما يدريك لعله يَزّكَّى). وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الأنصار رضي الله عنهم وقد خرج إليه مستعجلا: "لعلنا أعجلناك". وسبب إعمال هذه الحروف اختصاصها بمشابهة كان الناقصة في لزوم المبتدأ والخبر، والاستغناء بهما، فاللزوم مخرج لما يدخل عليهما وعلى غيرهما كألا وأما الاستفتاحيتين، والاستغناء بهما مخرج للولا ولوما الامتناعيتين، ولإذا المفاجأة، فإنهن يشبهن كان في لزوم المبتدأ والخبر، ويفارقنها بافتقار لولا ولوما إلى الجواب، وافتقار إذا إلى كلام سابق. وضم أكثر النحويين إلى المشابهة من الوجه المذكور المشابهة بسكون الوسط وفتح الآخر، والصحيح عدم اعتبار ذلك، إذ لو كان سكون الوسط معتبرا لم يعتد بلكن لأن وسطها متحرك، ولو كان فتح الآخر معتبرا لزم إبطال عمل إن وأن وكأن عند التخفيف. وزاد الزجاجي في المشابهة المعتبرة الاتصال بالضمائر المنصوبة، وهذا عجيب، فإن الضمائر المنصوبة لم تتصل بهذه الأحرف إلا بعد استحقاق العمل، فصح أن المعتبر من المشابهة ما اقتصرت على ذكره من لزوم المبتدأ والخبر والاستغناء بهما. إلا أن هذه الأحرف لما كانت فروع كان في عمل الرفع والنصب، قدم معهن عمل النصب على الرفع تنبيها على الفرعية، لأن الأصل تقديم الرفع، ولم يحتج إلى ذلك في "ما" المحمولة على ليس لأن فرعيتها ثابتة بيّنة الثبوت لعدم اتفاق العرب على إعمالها، وببطلان عملها عند نقض النفي بإلا، أو تقدم الخبر، أو وجود إنْ، فاستغنت عن جعل عملها عكس عمل كان.

وقيل: لما كان معنى كل واحد من هذه الأحرف لا يتحقق حصوله إلا في الأخبار، تنزلت منهن منزلة العمد من الأفعال، فأعطيت إعراب الفاعل وهو الرفع، وتنزلت الأسماء منها منزلة الفضلات، فأعطيت إعراب المفعول وهو النصب. وأجاز الفراء نصب الاسم والخبر معا بليت، ومن حجته على ذلك قول الشاعر: ليت الشبابَ هو الرجيعَ على الفتى ... والشيب كان هو البدى الأول وأجاز بعض الكوفيين ذلك في كل واحد من الخمسة، ومن حجج صاحب هذا المذهب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قعر جهنم لسبعين خريفا". ومن حججه قول الشاعر: إذا اسودّ جُنْحُ الليل فلْتأتِ ولتكُن ... خطاك خِفافا إنّ حُرّاسنا أسْدا ومنه قول الراجز: إن العجوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تأكلُ كلَّ ليلة قفيزا ومثله: كأنّ أذْنَيه إذا تشَوّفا ... قادمةً أو قلما محرفا ولا حجة في شيء من ذلك لإمكان رده إلى ما أجمع على جوازه. أما البيت الأول فيحمل على تقدير كان، والأصل: ليت الشباب كان الرجيع، فحذفت كان، وأبرز الضمير، وبقي النصب بعده دليلا، ومثل هذا من الحذف ليس ببدع، وقد

روى عن الكسائي أنه كان يوجه هذا التوجيه في كل موضع نصب فيه بعد شيء من هذه الأحرف، ويقوي ما ذهب إليه إظهار كان بعد ليت وإن كثيرا، كقوله تعالى: (يا ليتني كنت معهم) و: (يا ليتني كنت ترابا) و: (إن الله كان بكم رحيما)، و: (إن الله كان على كل شيء حسيبا) و: (وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما) و: (إنك كنت بنا بصيرا) و: (إنه كان بي حفيا). فجاز إضمار كان هنا لكثرة إظهارها، كما جاز ذلك في: ما أنت وزيدا، وكيف أنت وقصعة من ثريد. ويحمل الحديث على أن القعر فيه مصدر قَعَرت الشيء إذا بلغت قعره، وهو اسم إن، و"لسبعين خريفا" ظرف مخبر به، لأن الاسم مصدر، وظروف الزمان يخبر بها عن المصادر كثيرا. ويقدر: إن حراسنا أسدا، كأنه قال: إن حراسنا يشبهون أسدا، أو كانوا. وأما قول الراجز فمحمول على أن تأكل خبر إنّ، وخبة جروزا حالان من فاعل تأكل، ولا تكلف في هذا التوجيه. وأما قول الآخر فمحمول على أن قادمة وقلما منصوبان بفعل مضمر، والتقدير: كأن أذنيه إذا تشوفا يخلفان قادمة. وزعم أبو محمد بن السيد أن لغة بعض العرب نصب خبر إن وأخواتها. ص: وما لا تدخل عليه دام لا تدخل عليه هذه الأحرف، وربما دخلت إن على ما خبره نهي، وللجزأين من بعد دخولهن ما لهما مجردين، لكن يجب هنا تأخير الخبر، ما لم يكن ظرفا أو شبهه فيجوز توسيطه، ولا يخص حذف الاسم

المفهوم معناه بالشعر، وقلما يكون إلا ضمير الشأن، وعليه يحمل: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" لا على زيادة من، خلافا للكسائي. وإذا علم الخبر جاز حذفه مطلقا، خلافا لمن اشترط تنكير الاسم. وقد يسد مسده واو المصاحبة، والحال، والتزم الحذف في "ليت شعري" مُرْدَفا باستفهام. وقد يخبر هنا – بشرط الإفادة – عن نكرة بنكرة أو بمعرفة، ولا يجوز نحو: إن قائما الزيدان، خلافا للأخفش والفراء. ولا نحو: ظننت قائما الزيدان، خلافا للكوفيين. ش: قد تقدم في باب كان الإعلام بالمبتدآت التي تدخل عليها كان وأخواتها، وبيان أن دام تشارك في ذلك وتزيد بأنها لا تدخل على مبتدأ خبره مفرد طلبي، فلذلك خصصتها بالإحالة عليها هنا فقلت: "وما لا تدخل عليه دام لا تدخل عليه هذه الأحرف" فعلم بهذا أن هذه الأحرف لا تدخل على ما خبره جملة طلبية نحو: زيد هل قام؟ وعمرو أكرمْه، وخالد لا تهنه. ثم نبهت على ما شذ من دخول إن على ما خبره نهي كقول الشاعر: إنّ الذين قتلتُم أمسِ سيدَهم ... لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما ثم أشرت إلى أن للجزأين من الأحوال والأقسام بعد دخول هذه الأحرف ما كان لهما قبل دخولهن. فكما انقسم المبتدأ إلى اسم عين وإلى اسم معنى، كذلك ينقسم مع إن وأخواتها نحو: إن العالم فاضل، وإن العلم فضل. وكما انقسم الخبر في باب الابتداء إلى الأقسام المتقدم ذكرها ثم، كذلك ينقسم إليها في هذا الباب. وكما استصحبت الأقسام تستصحب الأحوال والشروط، ومن الشروط عود ضمير من

الجملة المخبر بها، ومن الأحوال جواز حذف الضمير لدليل، كقول الشاعر: وإن الذي بيني وبينك لا يفي ... بأرض أبا عمرو لك الدهر شاكر أراد: لا يفي به أو من أجله. وقد تقدم بيان موجب تقديم منصوب هذا الباب وتأخير مرفوعه فلا يجوز الإخلال بمقتضاه. فإن كان الخبر ظرفا أو مجرورا جاز تقديمه، لأنه في الحقيقة معمول الخبر، وكان حقه ألا يتقدم على الاسم كما لا يتقدم الخبر، إلا أن الظرف والجار والمجرور يتوسع فيهما ما لا يتوسع في غيرهما، فلذلك فصل بهما بين المضاف والمضاف إليه، وبين كان واسمها وخبرها، وبين الاستفهام والقول الجاري مجرى الظن، نحو: أغدا تقول زيدا قائما. ولم يبطل عمل "ما" تقديمهما على اسمها، نحو: ما غدا زيد راحلا. واغتفر تقديمهما على العامل المعنوي، نحو: أكل يوم لك درهم، وعلى المنفي بما، نحو قول الصحابة رضي الله عنهم: ونحن عن فضلك ما استغنينا ولو عومل غيرهما معاملتهما في ذلك لم يجز. والأصل في الظرف الذي يلي إنّ أو إحدى أخواتها أن يكون ملغًى، أي غير قائم مقام الخبر، نحو: إنّ عندك زيدا مقيم، وكقول الشاعر: فلا تَلْحَني فيها فإن بحُبِّها ... أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بلابلُه فأما القائم مقام الخبر فجدير بألا يليها لقيامه مقام ما لا يليها ولكن اغتفر إيلاؤه إياها التفاتا إلى الأصل. وقد عاملوا الحال معاملة الظرف فأوْلَوْها كأنّ، ومنه قول الشاعر:

كأنّ وقد أتى حَوْلَ كَمِيل ... أثافيَها حماماتٌ مثولُ ويجوز حذف الاسم إذا فهم معناه، ولا يخص ذلك بالشعر، بل وقوعه فيه أكثر، وحذفه وهو ضمير الشأن أكثر من حذفه وهو غيره، ومن وقوع ذلك في غير الشعر قول بعضهم: إنّ بك زيدٌ مأخوذٌ، حكاه سيبويه عن الخليل مريدا به: إنه بك زيدٌ مأخوذ، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون". هكذا رواه الثقات بالرفع. وحمله الكسائي على زيادة من، وجعل أشد الناس اسما، والمصورون خبرا، والصحيح أن الاسم ضمير الشأن، وقد حذف كما حذف في: إن بك زيد مأخوذ، لأن زيادة من مع اسم إن غير معروفة. وحكى الأخفش: إن بك مأخوذ أخواك، وتقديره: إنك بك مأخوذ أخواك، فحذف الاسم، وهو ضمير المخاطب، وجعل "مأخوذ" خبرا مرتفعا به أخواك، كما كان يرتفع بيؤخذ، ولا يجوز أن يكون التقدير: إنه بك مأخوذ أخواك، لأن الصفة المرتفع بها ظاهر بمنزلة الصفة المرتفع بها مضمر في أنها لا تسد مسد جملة، ولا يكون مفسر ضمير الشأن إلا جملة محضة مصرحا بجزأيها، ومن حذف الاسم في الشعر قول الشاعر: فلو كنتَ ضبِّيّا عَرَفت قرابتي ... ولكنّ زنجيٌ عظيم المَشافر رواه سيبويه برفع زنجي ونصبه، وجعل تقديره في الرفع: ولكنك زنجي، وتقديره في النصب: ولكن زنجيا عظيم المشافر لا يعرف قرابتي. ومن حذف الاسم قول الشاعر: فليتَ دفعتَ الهمَّ عني ساعةً ... فبتنا على ما خيلتْ ناعِمَيْ بال فيحتمل هذا أن يكون تقديره: فليتك، ويحتمل أن يكون تقديره: فليته، وكذا

قول الآخر: فلا تَخْذُلِ المولى وإن كان ظالما ... فإنّ به تُثْأَى الأمورُ وتُرْأب تقديره: فإنه به تثأى الأمور، والهاء إما للمولى، وإما ضمير الشأن، ومما لا يكون المحذوف فيه إلا ضمير الشأن قول الشاعر: ولكنّ مَنْ لا يَلْقَ أمرا ينوبُه ... بعُدَّته ينزل به وهو أعزلُ ومثله قول الشاعر: فلو أنّ حُقَّ اليومَ منكم إقامةٌ ... .وإن كان سرحٌ قد مضى فتَسَرّعا ومثله: إنّ مَنْ لامَ في بني بنت حَسّا ... نَ ألُمْه وأعْصِه في الخُطُوب وذكر سيبويه: إنّ إياك رأيت، وإن أفضلهم لقيت، ثم قال: فأفضلهم منتصب بلقيت، وهو قول الخليل، وهو في هذا ضعيف لأنه يريد: إنه إياك رأيت، فترك الهاء، وهذا تصريح بالجواز دون ضرورة. وحذف الخبر للعلم به أكثر من حذف الاسم. ونبهت بقولي: "جاز حذفه مطلقا" على أن ذاك لا يتقيد بكون الاسم نكرة أو معرفة، ولا بكون الخبر ظرفا أو غير ظرف، ومثال حذفه وهو ظرف قول

الشاعر: ولو أنّ مِنْ حَتْفِه ناجيا ... لكان هو الصَّدَعَ الأعْصَما أراد: لو أن على الأرض، أو في الدنيا، فحذف ذلك للعلم به وأنشد سيبويه: وما كنت ضَفَّاطا ولكنّ طالبا ... أناخ قليلا فوق ظهر سبيل أي: ولكن طالبا مُنيخا أنا، هذا تقدير سيبويه، وزعم قوم أن شرط حذفه كون الاسم نكرة، كقول الشاعر: إنّ مَحَلًّا وإنّ مُرْتَحلا ... وإن في السَّفْر إذ مضوا مَهَلا واشتراط ذلك غير صحيح، لأن الحذف مع تعريف الاسم كثير، فمن ذلك قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد). ومثله قوله تعالى: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز). ومنه قول عمر بن عبد العزيز لرجل ذكره بقرابته منه: إن ذلك. ثم ذكر له حاجة فقال: لعل ذلك، أراد: إن ذلك حق، ولعل حاجتك مقضية. ومن ذلك قول الشاعر: سوى أن حيا من قريش تفضلوا ... على الناس أو إن للأكارم نهشلا

وقد يحذف الخبر وجوبا لسد واو المصاحبة مسده، كما كان ذلك في الابتداء، ومن ذلك ما حكاه سيبويه من قول بعض العرب: إنك ما وخيرا، يريد: مع خير، وما زائدة. ومثله قول الشاعر: فدَعْ عنك ليلى إن ليلى وشأنَها ... وإن وعدتك الوعد لا يتيسر وحكى الكسائي: إن كل ثوب لو ثمنه، بإدخال اللام على الواو لسد مسد مع. وقد يحذف أيضا وجوبا لسد الحال مسده كما كان ذلك في الابتداء، فيقال في: ضربي زيدا قائما، وأكثر شربي السويق ملتوتا: إن ضربي زيدا قائما، وإن أكثر شربي السويق ملتوتا. والكلام هنا على تقدير المحذوف كالكلام عليه في باب المبتدأ، ومن سد الحال مسد خبر إن قول الشاعر: إن احتيازَك ما تبغيه ذا ثقة ... بالله مُسْتَظهِرا بالحزم والجلد والتزمت العرب حذف خبر ليت في قولهم: ليت شِعْري، لأنه بمعنى: ليتني أشعر، ولا بد معه من استفهام يسد مسد المحذوف، متصلا بشعري، أو منفصلا باعتراض، فالمتصل كقول الشاعر: ألا ليتَ شِعْري هل أبيتنَّ ليلةً ... بوادٍ وحولي إذْخرٌ وجليل والانفصال بالاعتراض كقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو: ليتَ شِعْري مسافرَ بن أبي عَمْـ ... .ـــــرٍو وليْتٌ يقولُها المحزونُ

أيُّ شيء دَهاك أم غال مَرْآ ... ك وهل أقدمتْ عليك المَنُون ويجوز هنا الإخبار بالنكرة عن النكرة، وبالمعرفة، بشرط الإفادة، فالإخبار عن النكرة بالنكرة كقول امرئ القيس في رواية سيبويه: وإنّ شِفاءً عَبْرةٌ مُهَرَاقة ... وهل عند رَسْم دارسٍ من مُعَوَّل والإخبار بالمعرفة مثل قول القائل: إن قريبًا منك زيد، وهو من أمثلة كتاب سيبويه، ومن ذلك قول الشاعر: وإن حراما أن أسُبَّ مجاشِعا ... بآبائي الشمِّ الكرام الخضارمِ وأنشد سيبويه: وما كنت ضفّاطا ولكنّ طالبا ... أناخ قليلا فوق ظهر سبيل أراد: ولكن طالبا أنا، هكذا قال سيبويه، وحسن هذا في الباب لشبه المنصوب بالمفعول، وشبه المرفوع بالفاعل. وقال سيبويه: لو قلت: إن من خيارهم رجلا، ثم سكت، كان قبيحا حتى تعرفه بشيء، أو تقول: إن رجلا من أمره كذا وكذا. وأجاز الأخفش والفراء جعل اسم إن صفة رافعة لظاهر مغن عن الخبر، فيقولان: إنّ قائما الزيدان، وجواز هذا مبني على جواز: قائم الزيدان، ونحوه دون استفهام ولا نفي، وقد تقدم تنبيهي في باب المبتدأ على أن نحو هذا يستقبحه سيبويه ويستحسنه الأخفش. واستشهد على جوازه بقول الشاعر: خبيرٌ بنو لهْب فلا تكُ مُلْغيا ... مقالة لِهْبيٍّ إذا الطير مرت فمن قاس على هذا في باب الابتداء أجاز دخول إنّ عليه، فيقول: إن خبيرا بنو لهب. ويلزم من أجاز هذا من البصريين أن يجيز دخول ظننت، كما فعل الكوفيون،

فيقول: ظننت خبيرا بنو لهب. والصحيح أن يقال: إعمال الصفة عمل الفعل فرع إعمال الفعل، فلا يستباح إلا في موضع يقع فيه الفعل، فلا يلزم من تجويز: قائم الزيدان، جواز: إن قائما الزيدان، ولا: ظننت قائما الزيدان، لصحة وقوع الفعل موقع المجرد من إنّ وظننت، وامتناع وقوعه بعدهما. واستبدل الكوفيون على: ظننت قائما الزيدان، ونحوه بقول الشاعر: أظن ابن طرثوت عتيبةُ ذاهبا ... بعاديتي تكذابه وجعائله ولا حجة فيه، لاحتمال أن يريد: أظن ابن طرثوت عتيبة شخصا ذاهبا، حذف المفعول الأول للعلم به، وترك الثاني، كقوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم). والأصل: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله بخلهم هو خيرا لهم، فحذف المفعول الأول وترك الثاني. فصل: ص: يستدام كسر إنّ ما لم تؤول هي ومعمولها بمصدر، فإن لزم التأويل لزم الفتح، وإلا فوجهان. فلامتناع التأويل كسرت مبتدأة، وموصولا بها، وجواب قسم، ومحكية بقول، وواقعة موقع الحال أو موقع خبر اسم عين، أو قبل لام معلقة. وللزوم التأويل فتحت بعد لو، ولولا، وما التوقيتية، وفي موضع مجرور، أو مرفوع فعل أو منصوبه غير خبر. ولإمكان الحالين أجيز الوجهان بعد: أول قولي، وإذا المفاجأة، وفاء الجواب. وتفتح بعد أمَا بمعنى حقا، وبعد حتى غير الابتدائية، وبعد لا جرَم غالبا، وقد تفتح عند الكوفيين بعد قسم، ما لم توجد اللام.

ش: إنّ بالكسر أصل لأنّ الكلام معها غير مؤول بمفرد، وأن بالفتح فرع لأن الكلام معها مؤول بمفرد، وكون المنطوق به جملة من كل وجه، أو مفردا من كل وجه، أصل لكونه جملة من وجه. ولأن المكسورة مستغنية بمعموليها عن زيادة، والمفتوحة لا تستغني عن زيادة، والمجرد من الزيادة أصل للمزيد فيه. ولأن المفتوحة تصير مكسورة بحذف ما يتعلق به، كقولك في: عرفت أنك بَرّ: إنك بر. ولا تصير المكسورة مفتوحة إلا بزيادة، كقولك في: إنك بر: عرفت أنك بر. والمرجوع إليه بحذفٍ أصل للمتوصل إليه بزيادة. ولكون المكسورة أصلا قلت: يستدام كسر إن ما لم تؤول هي ومعمولها بمصدر" فعلم بذلك أن الكسر لازم للمبدوء بها لفظا ومعنى نحو: "إنا أعطيناك الكوثر". والمبدوء بها معنى لا لفظا نحو: "ألا إنهم هم السفهاء". وللموصول بها نحو: "ما إن مفاتحه لَتَنُوءُ بالعصبة". والمجاب بها قسم نحو: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" وللمحكية بالقول نحو: "قال إني عبد الله" وللواقعة موقع الحال نحو: "وإن فريقا من المؤمنين لكارهون". وكقول الشاعر: ما أعطياني ولا سألْتُهما ... إلا وإني لحاجِزي كرمي وكقول الآخر: سئلتُ وإني مُوسر غيرُ باخل ... فجدت بما أغنى الذي جاء سائلا

والواقعة موقع خبر اسم عين نحو: (إن الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة). وكقول الشاعر: منا الأناةُ وبعضُ القوم يحسبنا ... إنا بِطاءٌ وفي إبطائنا سَرَعُ ومثله قول الآخر: إن الخليفة إنّ الله سَرْبَلة ... سربال مُلك ... ... ... ... ... ... ... ... ... . والواقعة قبل لام مُعَلَّقة نحو: "قد نعلم إنه ليحزنك". فعدم وقوع المصدرية في هذه المواضع بيّن، فلذلك استديم فيها كسر إن. واللام المعلقة هي المسبوقة بفعل قلبي أو جار مجراه نحو: (والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون). وأنشد سيبويه: ألم تر إني وابنَ أسودَ ليلةً ... لَنَسْري إلى نارين يعلو سَناهما فلولا اللام لفتحت إن، كما فتحت في قوله تعالى: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم). وفي: (شهد الله أنه لا إله إلا هو). وفي: (ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض). ولو لم يسبق اللام فعل قلبي ولا جار مجراه لم يكن فرق بين وجود اللام وعدمها، فلذلك استحق الكسر بعد القسم

مع عدمِها في: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة). كما استحق مع وجودها في: (قل إي وربِّي إنه لحق). وكذا سائر المواضع الخمسة. وأشرت بقولي: "فإن لزم التأويل لزم الفتح" إلى لزومه في موضع القائم مقامه نحو: (قل أوحي إليَّ أنه استمع). وفي موضع ما ليس خبر اسم عين من منصوب فعل نحو: (ولا تخافون أنكم أشركتم). أو معطوف على منصوب بفعل نحو: (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم). وفي موضع مجرور بحرف أو بإضافة نحو: (ذلك بأن الله هو الحق) و: (إنه لحقٌ مثلَ ما أنكم تنطقون). وأنشد سيبويه: تظلُّ الشمس كاسفةً عليه ... كآبةَ أنها فقدت عَقِيلا فتأويل المصدر في هذه المواضع وأشباهها لازم، فلذلك لزم الفتح. وذكر المصدر أولى من ذكر الاسم المفرد ليسلم من نحو: يحسبنا إنا بطاء، لأن إنّ فيه واقعة موقع مفرد، وفتحها ممتنع لامتناع قيام المصدر مقامها. وللزوم تأويل المصدر بعد لو ولولا لزم الفتح نحو: (ولو أنهم صبروا). ونحو: (فلولا أنه كان من المسبحين). ومنه قول الشاعر:

ولو أن قومي أنطقتني رماحُهم ... نطقتُ ولكنّ الرماح أجَرّت وقال آخر في لولا: لكم أمانٌ ولولا أننا حُرُم ... لم تُلْفِ أنفُسكم من حتفها وزرا وللزوم تأويل المصدر لزم الفتح بعد ما التوقيتية في قول العرب: لا أكلمه ما أن في السماء نجما، ولا أفعل ما أن حراء مكانه. الأول عن يعقوب، والثاني عن اللحياني، والتقدير: ما ثبت أن في السماء نجما، وما ثبت أن حراء مكانه. وأشرت بقولي: "وإلا فوجهان" إلى المواضع الصالحة لتقدير المصدر باعتبار، ولتقدير جملة باعتبار، فباعتبار تقدير المصدر تفتح، وباعتبار تقدير الجملة تكسر، فمن ذلك: أول قولي أني أحمد الله، يجوز أن يراد به: أول قولي حمد الله، فيلزم الفتح لتقدير المصدر. ويجوز أن يراد به: أول كلام أتكلم به هذا الكلام المفتتح بإني، فيلزم الكسر لثبوت تقدير الجملة، وعدم تقدير المصدر. ولا تصدق هذه العبارة بهذا القصد على حمد بغير هذا اللفظ الذي أوله إني. بخلاف عبارة الفتح فإنها تصدق على كل لفظ تضمن حمدا. ومن المستعمل بوجهين لإمكان تقديرين إنّ الواقعة بعد إذا المفاجأة كقول الشاعر: وكنت أُرَى زيدا كما قيل سيدا ... إذا إنه عبدُ القفا واللهازم روي بالكسر على عدم التأويل بمصدر، وبالفتح على تأويل أن ومعمولها بمصدر مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف. والأول أولى لأنه لا يحوج إلى تقدير محذوف. ومن المستعمل بوجهين لإمكان تقديرين إنّ الواقعة بعد فاء الجواب نحو: من يأتني فإنه مكرم، من كسر جعل ما بعد الفاء جملة غير مؤولة بمصدر، كما لو قال: من يأتني فهو مكرم. ومن فتح جعل ما بعد الفاء في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء،

والخبر محذوف. والأول أولى لأنه لا يحوج إلى تقدير محذوف كالواقعة بعد إذا، ولذلك لم يجئ في القرآن فتحٌ إلا مسبوق بأن المفتوحة، نحو: (ألم يعلموا أنه مَنْ يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم). فإذا لم تسبق أن المفتوحة فكسر إن بعد الفاء مجمع عليه من القراء السبعة نحو: (إنه مَنْ يأتِ ربه مجرما فإن له نار جهنم) و: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). و: (ومن يعص الله ورسوله فإنه له نار جهنم). ومن المقروء بوجهين باعتبار التقدير مع تقدم أنّ المفتوحة قوله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم). قرأ بفتح الأولى والثانية ابن عامر وعاصم، وقرأ بفتح الأولى وكسر الثانية نافع، وقرأ بكسرهما ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي. وروى سيبويه في نحو: أما إنك ذاهب، الكسر على جعل أما استفتاحية بمنزلة ألا، والفتح على جعل أما بمعنى حقا. وإذا وليت أن حقا فتحت لأنها مؤولة هي وصلتها بمصدر مبتدأ، وحقا مصدر واقع ظرفا مخبرا به، ومنه قول الشاعر: أحقا أنّ جيرَتنا استقلوا ... فنِيَّتُنا ونيَّتُهم فريق تقديره عند سيبويه: أفي حقٍ أن جيرتنا استقلوا، فأما المفتوح بعدها أن كذلك. قلت: ويحتمل عندي أن يكونوا نصبوا حقا نصب المصدر الواقع بدلا من اللفظ

بفعله، وأنّ ما في موضع رفع بالفاعلية، كأنه قال: أحق حقا أن جيرتنا استقلوا، وتكون أما مع الفتح للاستفتاح أيضا، وأن تكون هي وما بعدها مبتدأ وخبر محذوف، كأنه قال: أما معلوم أنك ذاهب. وقد يقع بين أما وإنّ يمين، فيجوز أيضا الفتح على مرادفة أما حقا، والكسر على مرادفتها ألا ذكر ذلك سيبويه. وإذا وقعت بعد حتى كسرت إذا كانت حرف ابتداء، لامتناع تقدير مصدر في موضعها نحو قولك: مرض زيد حتى إنه لا يرجى. وإن كانت عاطفة أو جارة لزم الفتح لصحة تقدير مصدر مكانها نحو قولك: عرفت أمورك حتى أنك فاضل، فلك أن تقدر موضع أن مصدرا منصوبا على أن تكون حتى عاطفة، ومجرورا على أن تكون جارة. وإذا وقعت بعد لا جَرَم فالمشهور الفتح، وبه قرأ القراء. قال الفراء: لا جرم، كلمة كثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة حقا، وبذلك فسرها المفسرون، وأصلها من جرمت أي كسبت. وتقول العرب: لا جرم لآتينّك، ولا جرم لقد أحسنت، فتراها بمنزلة اليمين. قلت: ولإجرائهم إياها مجرى اليمين، حكى عن بعض العرب كسر إن بعدها. وذكر ابن كيسان في نحو: والله إن زيدا كريم، بلا لام، أن الكوفيين يفتحون ويكسرون، والفتح عندهم أكثر. وقال الزجاجي في جمله: وقد أجاز بعض النحويين فتحها بعد اليمين، واختاره بعضهم على الكسر، والكسر أجود وأكثر في كلام العرب، والفتح جائز قياسا، كذا قال أبو القاسم. قلت: قد تقدم قوله: والكسر أجود وأكثر في كلام العرب، وهذه العبارة تقتضي أن يكون الفتح مستعملا في كلامهم استعمالا أقل من استعمال الكسر، ثم أشار إلى أن الفتح جائز قياسا. وليس كما قال، فإن الفتح يتوقف على كون المحل مغنيا فيه المصدر عن العامل والمعمول. وجواب القسم ليس كذلك. والكسر يتوقف على كون المحل محل جملة لا يغني عنها مفرد، وجواب القسم كذلك،

فوجب لأن الواقعة فيه الكسر قياسا، ولذلك اجتمعت القراء على كسر: (إنا أنزلناه) في أول الدخان، و: (إنا جعلناه) في أول الزخرف، مع عدم اللام، فإن ورد أن بالفتح في جواب قسم حكم بشذوذه، وحمل على إرادة على، وعلى ذلك يحمل قول الراجز: لتقْعُدِنّ مقعد القصيِّ ... مِنِّيَ ذي القاذورة المَقْلِيِّ أو تحلفي بربك العَلِيِّ ... أني أبو ذيّالك الصبي في رواية من رواه بالفتح، كأنه قال: على أني أبو ذيالك الصبي. فصل: ص: يجوز دخولُ لام الابتداء بعد إنّ المكسورة على اسمها المفصول، وعلى خبرها المؤخر عن الاسم، وعلى معموله مقدما عليه بعد الاسم، وعلى الفصل المسمى عمادا. وأول جزأي الجملة الاسمية المخبر بها أولى من ثانيهما. ولا تدخل على حرف نفي إلا في ندور، ولا تدخل على أداة شرط، ولا فعل ماض متصرف خال من قد، ولا على معموله المتقدم خلافا للأخفش. وربما دخلت على خبر كان الواقعة خبرا لإن، ولا على جواب الشرط خلافا لابن الأنباري، ولا على واو المصاحبة المغنية عن الخبر خلافا للكسائي. وقد يليها حرف التنفيس خلافا للكوفيين، وأجازوا دخولها بعد لكنّ، ولا حجة فيما أوردوه لشذوذه، وإمكان الزيادة كما زيدت مع الخبر مجردا، أو معمولا لأمسى أو زال أو رأى أو أنّ أو ما. وربما زيدت بعد إن قبل الخبر المؤكد بها، وقبل همزتها مبدلة هاء مع تأكيد الخبر أو تجريده. فإن صحبت بعد إنَّ نونَ توكيد أو ماضيا متصرفا عاريا من قد نوى قسم وامتنع الكسر. ش: لام الابتداء هي المصاحبة للمبتدأ توكيدا نحو: لزيد منطلق، وهي غير

المصاحبة جواب القسم لدخولها على المقسم به في نحو: لعمرك، وليمن الله، والمقسم به لا يكون جواب قسم. ولاستغنائها عن نون التوكيد في نحو: (وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة). والمصاحبة جواب القسم لا تستغني في مثل: ليحكم، عن نون التوكيد إلا قليلا. ولما كان مصحوب اللام في الأصل المبتدأ، وكان معنى الابتداء باقيا مع دخول إن، اختصت بدخولها معها لذلك، ولتساويهما في التوكيد، وحَسُن اجتماع توكيدين بحرفين كما حسن اجتماعهما باسمين في نحو: (فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون). وموضعها في الأصل قبل إن، لأنها تعلق أفعال القلوب، وهي أقوى عملا من إن، فلو أخرت ولم ينو تقديمها لعلقت إن، وإلا لزم ترجيحها على أفعال القلوب. وأزيلت لفظا عن موضعها الأصلي، فأوْلَوْها إنّ مجعولا همزتها هاء. ولكون اللام في الأصل للمبتدأ قدم اتصالها به عن اتصالها بغيره، وبينت أن ذلك مشروط بفصل الاسم من إن، ولا فرق بين الفصل بالخبر نحو: إن عندك لزيدا، وبين الفصل بمعمول الخبر نحو: إن فيك لزيدا راغب. ولم أقيد تأخير الخبر بقرب ليعلم أن بعده لا يضر، كقول الشاعر: وإني على أن قد تجشمت هجرها ... لِما ضَمِنَتْني أمُّ سَحْر لَضامن وكقول الآخر: وإن امرأ أمسى ودون حبيبه ... سواسٌ فوادي الرسِّ فالهَمَيان لمُعْتَرِفٌ بالناي بعد اقترابه ... ومعذورة عيناه بالهَمَلان فلو كان الخبر منفيا لم يجز اتصالها به، لأن أكثر النفي بما أوله لام، فكره دخول

لام على لام، ثم جرى النفي على سنن واحد، فلم يؤكد بلام خبر منفي إلا في نادر من الكلام، كقول الشاعر: وأعلم إن تسليما وتركا ... للا متشابهان ولا سواءُ أنشده أبو الفتح بن جني في المحتسب. وقيدت دخولها على الخبر بكونه مؤخرا عن الاسم تنبيها على امتناع: إن لعندك زيدا، وإن غدا لعندنا زيدا. وقيدت دخولها على معمول الخبر بكونه مؤخرا عن الاسم مقدما عن الخبر، لأن المعمول كجزء من العامل، فإذا قدم كان كالجزء الأول، وإذا أخر كان كالجزء الآخر، فلذلك جاز: إن زيدا لطعامك آكل، وامتنع: إن زيدا آكل لطعامك. ومثال: إن زيدا لطعامك آكل، قول الشاعر: إن امرأ خصني عَمْدًا مودّته ... على التنائي لعندي غير مكفور ومن مواضع هذه اللام الفصل المسمى عمادا، كقوله تعالى: (إن هذا لهو القصص الحق). وجاز أن تدخل عليه لأنه مقو للخبر، برفعه توهم السامع كون الخبر تابعا، فنزل منزلة الجزء الأول من الخبر، فحسن دخولها عليه لذلك. وإذا كان الخبر المؤكد بها جملة اسمية فمحل اللام منها صدرها، كقول الشاعر: إنّ الكريم لَمَنْ يرجوه ذو جِدَة ... وإن تعذر إيسار وتنويل وهذا هو القياس، لأن صدر الجملة الاسمية كصدر الجملة الفعلية، ومحل اللام في الجملة الفعلية صدرها، فكذا من الجملة الاسمية، وقد شذ دخولها على ثاني جزأي الجملة الاسمية في قوله:

فإنك مَنْ حاربته لمُحارَبٌ ... شقيٌّ ومن سالمْتَه لسعيد ومثله: إن الأُلى وُصِفوا قومي لهم فبهم ... هذا اعتصم تَلْقَ مَنْ عاداك مخذولا وإلى مثل هذا أشرت بقولي: وأول جزأي الجملة الاسمية المخبر بها أولى من ثانيهما. وأشرت بقولي: وربما دخلت على خبر كان الواقعة خبرا لإنّ إلى ما في بعض نسخ البخاري من قول أم حبيبة رضي الله عنها: "إني كنت عن هذا لغنية". ثم بينت أن الخبر إذا كان جملة شرطية لم تدخل عليه اللام لا في صدره ولا في عجزه، ونبهت على أن أبا بكر الأنباري أجاز دخولها على جواب الشرط، والمانع من دخولها على أداة الشرط خوف التباسها بالموطئة للقسم فإنها تصحب أداة الشرط كثيرا، نحو: (لئن لم يرحمْنا ربُّنا ويغفرْ لنا لنكونن من الخاسرين). فلو لحقت لام الابتداء أداة الشرط لذهب الوهم إلى أنها الموطئة، وحق المؤكِّد ألا يلبس بغير مؤكد. ولما كان الجواب غير صالح للموطئة أجاز ابن الأنباري أن تلحقه لام الابتداء، إلا أن ذلك غير مستعمل، فالأجود ألا يحكم بجوازه. ولا تدخل هذه اللام على فعل ماض إلا إن كان مقرونا بقد، أو كان غير متصرف، وذلك لأنها في الأصل للاسم، فدخلت على الفعل المضارع لشبهه به، ولم تدخل على الماضي لعدم الشبه، فإن قرن بقد قربته من الحال فأشبه المضارع، فجاز أن تلحقه نحو: إنك لقد قمت. وإن كان الماضي غير متصرف كنعم جاز أن تلحقه، لأنه يفيد الإنشاء، والإنشاء

يستلزم الحضور، فيحصل بذلك شبه المضارع، فجاز أن يقال: إن زيدا لنعم الرجل. وأجاز الأخفش دخول هذه اللام على معمول الفعل الماضي مقدما عليه نحو: إن زيدا لطعامَك أكل. ومنعُ ذلك أولى، لأن دخول اللام على معمول الخبر فرع دخولها على الخبر، فلو دخلت على معموله مع أنها لا تدخل عليه بنفسه لزم ترجيح الفرع على الأصل. وحكى ابن كيسان عن الكسائي: إن كل ثوب لو ثمنه. وأجاز البصريون: إن زيدا لسوف يقوم، ولم يجزه الكوفيون، ولا مانع من ذلك فجوازه أولى. وأجاز الكوفيون دخول هذه اللام بعد لكن اعتبارا ببقاء معنى الابتداء معها، كما بقي مع إنّ، واحتجوا بقول بعض العرب: ولكنني من حُبِّها لعَمِيد ولا حجة لهم في ذلك، أما الأولى فلأن اللام لم تدخل بعد إن لبقاء معنى الابتداء فحسب، بل لأنها مثلها في التوكيد، ولكن بخلاف ذلك. ولأن معنى الابتداء مع لكن لم يبق كبقائه مع إن، لأن الكلام الذي فيه إن غير مفتقر إلى شيء قبله، بخلاف الذي فيه لكن فإنه مفتقر إلى الكلام قبله. فأشبهت أن المفتوحة المجمع على امتناع دخول اللام بعدها. وأما: ولكنني من حبها لعميد فلا حجة فيه لشذوذه، إذ لا يعلم له تتمة، ولا قائل، ولا راو عدل يقول: سمعت من يوثق بعربيته، والاستدلال بما هو هكذا في غاية من الضعف. ولو صح إسناده إلى من يوثق بعربيته لوجه، فجعل أصله: ولكن إنني، ثم حذفت همزة إن ونون لكن، وجيء باللام في الخبر لأنه خبر إن، أو حمل على أن لامه زائدة كما زيدت

في الخبر قبل انتساخ الابتداء كقول الراجز: أمُّ الحُلَيْس لعجوزٌ شَهْرَبه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبه وكما زادها الشاعر بعد أمسى في قوله: مَرُّوا عجالى فقالوا كيف سيدُكم ... فقال من سألوا أمسى لمجهودا وكما زادها الآخر بعدما زلت في قوله: وما زلتُ من ليلى لَدُنُ أن عَرَفْتُها ... لكالهائم المُقْصَى بكل مَرادَ وكما زادها الآخر بعد رأى في قوله: رأوْك لفي ضَرّاء أعْيت فثبتوا ... بكفَّيْك أسبابَ المُنى والمآرب وربما زيدت بعد أنّ المفتوحة كقراءة بعضهم: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام). وربما زيدت في الخبر بعد ما النافية، كقول الشاعر: أمس أبانُ ذليلا بعد عزّته ... وما أبان لَمِن أعْلاج سودان

وأحسن ما زيدت في خبر المبتدأ المعطوف بعد إنّ المؤكَّد خبرها بها، كقول الشاعر: إن الخلافةَ بعدهم لذميمةٌ ... وخلائفٌ ظُرُفٌ لمما أحْقِرُ وفيما قدم من معمول خبر إن المؤكد بها في قول الشاعر: إني لعِند أذى المولى لذُو حَنَق ... يُخْشَى وحِلمي إن أوذيتُ معتادُ وحكى الفراء أن أبا الجراح سُمع يقول: إني لبحمد الله صالح، فعلم أن هذا جائز في الاختيار، غير مختص بالاضطرار. وذكر السيرافي أن المبرد كان لا يرى تكرار اللام، وأن الزجاج أجاز ذلك، واختار السيرافي قول المبرد، وليس بمختار، للشواهد المذكورة. ومثال التنبيه بها على موضعها الأصلي مع توكيد الخبر قول الشاعر: لهِنّك من عَبْسية لو سِيمة ... على هَنَواتٍ كاذبٍ من يقولها ومثال ذلك مع تجرد الخبر قول الشاعر: ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَل الحمى ... لَهِنَّكَ من برقٍ عليّ كريم وإن وقع موقع خبر إن نحو: لَنَفْعَلَنّ، أو نحو: لَفَعل، على أن هناك قسما منويا فتحت الهمزة. قال ابن السراج: تقول: قد علمت أن زيدا ليقومنّ، وأن زيدا

لقام. فلا تكسر إن كما تكسرها في: أشهد إن محمدا لرسول الله، وأعلم إن بكرا ليعلم. وقد تقدم في أول كتابي هذا أن لام الابتداء لا تختص بالحال، وإنما الأكثر كون مصحوبها حالا، وليس ذلك من أجل اللام، بل من أجل أن الجملة المجردة من دليل مضى واستقبال أكثر ما يكون مضمونها مرادا به الحال. ومن ورودها مع ما يراد به الاستقبال قول الشاعر: وإني لأحمي الأنف من دون ذمتي ... إذا الدنس الواهي الأمانة أهمدا فأعمل أحمي في إذا، وهو مستقبل المعنى. فصل: ص: ترادف إنّ نعم فلا إعمال، وتخفف فيبطل الاختصاص، ويغلب الإهمال، وتلزم اللام بعدها فارقةً إنْ خيف لبس بإنْ النافية، ولم يكن بعدها نفي، وليست غير الابتدائية خلافا لأبي علي، ولا يليها غالبا من الأفعال إلا ماضٍ ناسخٌ للابتداء، ويقاس على نحو: إنْ قتلت لمسلما وفاقا للكوفيين والأخفش، ولا تعمل عندهم ولا تؤكّد بل تفيد النفي، واللام للإيجاب. وموقع لكنّ بين متنافيين بوجه ما، ويمنع إعمالها مخففة خلافا ليونس والأخفش. وتلي "ما" ليت فتعمل وتهمل. وقل الإعمال في إنما، وعُدِم سماعُه في كأنما ولعلما ولكنما، والقياس سائغ. ش: أنكر بعض العلماء كون إنّ بمعنى نعم، وزعم أنّ إنّ في قوله: بكَرَ العواذِلُ في الصَّبُو ... ح يَلُمْنَنِي وألومُهُنَّه

ويَقُلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنّه مؤكدة ناصبة للاسم رافعة للخبر، وجعل الهاء اسمها، والخبر محذوفا، كأنه قال: إن الذي ذكرتن واقع كما وصفتن، فحذف الخبر للعلم به، واقتصر على الاسم. والذي زعم هذا القائل ممكن في البيت المذكور، فلو لم يوجد شاهد غيره لرجح قوله، ولكن الشواهد على كون إن بمعنى نعم مؤيدها ظاهر، ودافعها مكابر، فلزم الانقياد إليها، والاعتماد عليها. فمنها قول عبد الله بن الزُّبَيْر رضي الله عنه لابن الزَّبير الأسدي لما قال له: لعَنَ الله ناقة حملتني إليك: إنّ وراكبها. أراد: نعم، ولعن راكبها. ومنها قول حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه: يقولون أعمى قلتُ إنّ وربما ... أكون وإني من فتى لبصير ومنها ما أنشده أحمد بن يحيى من قول الشاعر: ليت شِعْري هل للمحب شفاءٌ ... من جَوَى حبهن إن اللقاءُ ومنها قول بعض الطائيين: قالوا أخِفْتَ فقلت إنّ وخيفتي ... ما إنْ تزالُ مَنُوطة برجاء ونبهت في هذا الباب على ورود إنّ بمعنى نعم ليعلم بها، فتعامل بما تعامل نعم من عدم الاختصاص، وعدم الإعمال، وجواز الوقف عليها. ومذهب البصريين أنّ إنّ تخفف فيقال فيها إنْ، فيبطل اختصاصها بالاسم، ويجوز عندهم إعمالها إذا وليها اسم، وعلى ذلك يحملون قوله تعالى: (وإنْ كلّا لما ليُوَفِّيَنَّهم ربُّك أعمالهم). في رواية نافع وابن كثير. وإهمالها أكثر. كقوله

تعالى: (وإنْ كلٌّ لما جميعٌ لدينا مُحْضرون). و: (وإنْ كلُّ ذلك لما متاعُ الحياة الدنيا). و: (إنْ كلُّ نفس لما عليها حافظ). ومذهبهم أن اللام التي بعد إنْ هذه هي التي كانت مع التشديد، إلا أنها مع التخفيف والإهمال تلزم فارقة بين المخففة والنافية، ولا تلزم مع الإعمال لعدم الالتباس. وكذلك لا تلزم مع الإهمال في موضع لا يصلح للنفي، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وايم الله لقد كان خليقا للإمارة، وإنْ كان من أحب الناس إليّ). وكقول معاوية في كعب الأحبار: "إنْ كان من أصدق هؤلاء". أخرجه البخاري. ومثله ما حكى ابن جني في المحتسب من قراءة أبي رجاء: "وإنْ كلُّ ذلك لِما متاع الحياة الدنيا" بكسر اللام وتخفيف الميم، على معنى: وإنْ كل ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا. ومثل ذلك قول الطرماح: أنا ابنُ أُباة الضَّيْم من آلِ مالك ... وإنْ مالكٌ كانت كرامَ المعادِن وقول الآخر: إنْ وَجدتُ الكريمَ يمنعُ أحيا ... نا وما إنْ بذا يُعَد بخيلا ويلزم ترك اللام إن أمن اللبس، وكان في الموضع اللائق بها نفي، كقول الشاعر: أما إنْ علمتُ الله ليس بغافل ... فهان اصطباري إنْ بليت بظالم ومذهب الكوفيين أنّ إنْ المشار إليها لا عمل لها، ولا هي مخففة من إنّ، بل هي

النافية، واللام بعدها بمعنى إلا، ويجعلون النصب في: (وإنْ كلّا). بفعل يفسره ليوفينهم، أو بليوفينهم نفسه، وبه قال الفراء. وكلا القولين محكوم على أصولهم بمنعه في هذا المحل، أو بضعفه، لأنهم يوافقون في أن ما بعد إلا لا يعمل فيما قبلها، ولا يفسر عاملا فيما قبلها، ولذلك قال الفراء في كتاب المعاني: وأما الذين خففوا إنّ فإنهم نصبوا "كلا" بليوفينّهم، وهو وجه لا أشتهيه، لأن اللام لا يقع الفعل الذي بعدها على شيء قبله، فلو رفعت "كلا" لصلح ذلك كما يصلح: إن زيد لقائم. ولا يصلح أن تقول: إن زيدا لأضرب، لأن تأويله بقولك: ما زيدا إلا أضرب، وهذا خطأ في اللام وإلا فهذا نصه. فقد أقر بأن حمل القراءة على جعل إنْ نافية واللام بمعنى إلا خطأ، ولا شك في صحة القراءة، فإنها بقراءة المدنيين والمكيين، ولا توجيه لها إلا توجيه البصريين، وتوجيه الكوفيين خطأ بشهادة الفراء، فلم يبق إلا توجيه البصريين، فتعين الحكم بصحته. ويؤيد ما ذهب إليه البصريون قول سيبويه: وحدثنا من نثق به أنه سمع من يقول: "إنْ عمرا لمنطلق". وهذا نص لا احتمال فيه. وقال الأخفش: زعموا أن بعضهم يقول: إنْ زيدا لمنطلق، وهي مثل: (إنْ كل نفس لما عليها حافظ). يقرأ بالنصب والرفع، وأما قولهم: إنّ اللام بمعنى إلا فدعوى لا دليل عليها، ولو كانت بمعنى إلا لكان استعمالها بعد غير إنْ من حروف النفي أولى، لأنها أنص على النفي من إنْ، فكان يقال: لم يقم لزيد، ولن يقعد لعمرو، بمعنى لم يقم إلا زيد، ولن يقعد إلا عمرو، وفي عدم ذلك دليل على أن اللام لم يقصد بها إيجاب، وإنما قصد بها التوكيد، كما قصد مع التشديد. وزعم أبو علي الفارسي أن اللام التي بعد المخففة غير التي بعد المشددة، واستدل بأن ما بعد هذه ينتصب بما قبلها من الأفعال نحو: (وإن كنا عن

دراستهم لغافلين). و: (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين). وكقول امرأة الزبير رضي الله عنهما: شَلَّت يمينُك إنْ قتلتَ لمُسْلما وما بعد تلك لا ينتصب بما قبلها، لو قلت: إنك قتلت لمسلما، لم يجز، فعلم بهذا أن التي بعد المخففة غير التي بعد المشددة. هذا حاصل قول أبي علي في البغداديات، وهو مخالف لقول أبي الحسن الأخفش في كتاب المسائل الكبير، فإنه نص فيه على أن اللام الواقعة بعد المخففة هي الواقعة بعد المشددة، وهو الصحيح عندي، والجواب عن شبهة أبي علي أن يقال: إنما جاز أن يكون مصحوب ما بعد المخففة معمولا لما قبلها من الأفعال، لأن الفعل بعد المخففة في موضع الخبر الذي كان يلي المشددة، فكان لما بعده ما كان لما بعد تاليها، لأن من قال: إنْ قتلت لمسلما، بمنزلة من قال: إن قتيلك لمسلم. وإن شئت أن تقول: لمّا بطل عمل إنْ بالتخفيف، وقصد بقاؤها توكيدا على وجه لا لبس فيه استحقت ما يميزها من النافية، فكان الأولى بذلك اللام التي كانت تصحب حال التشديد، فسلك بها مع التخفيف ما كان لها مع التشديد، من التأخر في اللفظ، والتقدم في النية، فلم يمنع إعمال ما قبلها فيما بعدها، كما لم يمنع مع التشديد، لأن النية بها التقديم، وبما تقدم عليها التأخير. وإذا أوْلت العرب إنْ المخففة فعلا لم يكن في الغالب إلا فعلا ماضيا من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر، نحو قوله تعالى: (وإنْ كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله) و: (إنْ كدت لتردين). و: (وإنْ وجدنا أكثرهم

لفاسقين). وذلك أنها كانت قبل التخفيف مختصة بالمبتدأ والخبر، فلما خففت وضعت شبهها بالفعل جاز دخولها على الفعل، وكان الفعل من الأفعال المشاركة لها في الدخول على المبتدأ والخبر. كي لا تفارق محلها بالكلية. ولا يكون ذلك الفعل غالبا إلا بلفظ الماضي، فإن كان مضارعا حفظ، كقوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليُزْلقونك بأبصارهم). وكقراءة أبيّ بن كعب: (وإنْ إخالك يا فرعون لمثبورا). وكذا إن وليها فعل من غير الأفعال المختصة بالمبتدأ والخبر، كقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: "قال إن لبثتم إلا قليلا". ذكرها الأخفش في المعاني، وكقول امرأة: والذي يُحْلَف به إنْ جاء لخاطبا، تعني النبي صلى الله عليه وسلم. وكقول بعض العرب: إنْ يَزينُك لنفسك، وإن يَشِينُك لهيه. وكقول امرأة الزبير رضي الله عنهما: ثَكَلتْكَ أمُّك إنْ قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبةُ المتعمد ويروى: هبلتك أمك. وأجاز الأخفش أن يقال: إنْ قعد لأنا، وإن كان صالحا لزيد، وإن ضرب زيد لعمرا، وإنْ ظننت عمرا لصالحا، صرح بذلك كله في كتاب المسائل، وبقوله أقول، لصحة الشواهد على ذلك نظما ونثرا. وموقع لكنّ بين كلامين متنافيين بوجه ما، كقوله تعالى: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا). وكقوله تعالى: (ولو أراكهم كثيرا لفشِلتم ولتنازَعْتم في الأمر، ولكنّ الله سلم).

ولضعفها بمباينة لفظها لفظ الفعل، لم يسمع من العرب إعمالها مع التخفيف، وأجاز يونس والأخفش إعمالها قياسا على ما خفف من إنّ وأنّ وكأنّ، ورأيهما في ذلك ضعيف. وتتصل ما الزائدة بليت فيجوز حينئذ إعمالها وإهمالها بإجماع، وشاهد الوجهين قول النابغة: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد قال ابن برهان مشيرا إلى هذا البيت: الجميع رووه عن العرب بالإلغاء والإعمال. قلت: من رفع جعل ما كافة ليت كما كفت إنْ ما الحجازية، ومن نصب جعلها زائدة غير معتد بها، كما لم يعتد بها بين حرف الجر والمجرور به في نحو: (عما قليلٍ) و: (فبما رحمة من الله). وأجاز سيبويه كون ليت في بيت النابغة عاملة على رواية الرفع، وذلك بأن تجعل ما موصولة أو نكرة موصوفة، والتقدير: ليت ما هو هذا الحمام لنا، فما اسم ليت، وهو مبتدأ محذوف، وخبره هذا، والجملة صلة ما أوصفتها، فليت بهذا التوجيه عاملة في الروايتين. هي حقيقة بذلك، لأن اتصال ما بها لم يزل اختصاصها بالأسماء بخلاف أخواتها فإن اتصال ما بها أزال اختصاصها بالأسماء، فاستحقت ليتما بقاء العمل دون إنما وكأنما ولكنما ولعلما، وهذا هو مذهب سيبويه. وأجرى ابن السراج غير ليتما مجراها قياسا. وذكر ابن برهان أن أبا الحسن الأخفش روى عن العرب: إنما زيدا قائم، فأعمل مع زيادة ما، وعزا مثل ذلك إلى الكسائي عن العرب. وهذا النقل الذي ذكره ابن برهان رحمه الله يؤيد ما ذهب إليه ابن السراج من إجراء عوامل هذا الباب على سنن واحد قياسا، وإن لم يثبت سماع في إعمال جميعها. وبقوله أقول في هذه المسألة، ومن أجل ذلك قلت: القياس سائغ.

فصل: ص: لتأوُّل أنّ ومعموليها بمصدر، قد تقع اسما لعوامل هذا الباب مفصولا بالخبرن وقد تتصل بليت سادة مسد معموليها، ويمنع ذلك في لعلّ خلافا للأخفش. ويخفف أن فينوى فيها اسم لا يَبْرُز إلا اضطرارا، والخبر جملة اسمية مجردة، أو مصدرة بلا، أو بأداة شرط، أو برب، أو بفعل يقترن غالبا إنْ تصرف ولم يكن دعاء بقد، أو بلو، أو بحرف تنفيس، أو نفي. وتخفف كأن فتعمل في اسم كاسم أن المقدر، والخبر جملة اسمية، أو فعلية مبدوأة بلم، أو قد، أو مفرد. وقد يبرز اسمها في الشعر. ويقال: أما إن جزاك الله خيرا، وربما قيل: أن جزاك الله عنه، والأصل: أنه. وقد يقال في لعلّ: علّ، ولعنّ، وعنّ، ولأنّ، وأنّ، ورعَنّ، ورغَنّ، ولغنّ ولعلّت. وقد يقع خبرها "أن يَفعِل". بعد اسم عين حملا على عسى. والجر بلعل ثابتة الأوّل أو محذوفته، مفتوحة الآخِر أو مكسورته لغة عُقَيْلِية. ش: قد أشير في باب الابتداء إلى أن من المبتدآت الواجب تقدم أخبارها أن وصلتها، نحو: عندي أنك فاضل، وقد تدخل عليها إنّ أو إحدى أخواتها فيلزم الفصل بالخبر، نحو: إنّ عندي أنك فاضل، وكأن في نفسي أني سائل، وقد تدخل ليت بلا فصل، كقول الشاعر: فيا ليت أن الظّاعنين تلفتوا ... فيُعْلمَ ما بي من جَوًى وغرام فسدت أنّ وصلتها مسد جزأي الإسناد بعد ليت، كما سدت مسدهما في باب ظن، كقوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون). وكما سدت مسدهما على نحو: (ولو أنهم آمنوا واتقوا). فإن مذهب سيبويه في الواقعة بعد لو أنها مرفوعة بالابتداء، سادة بصلتها مسد الجزأين، واختصت أنّ بهذا

بعد لو، كما اختصت غدوة بالنصب بعد لدن. ورأى سيبويه هذا أسهل من إضمار ثبت بعد لو رافعا لأن، وما ذهب إليه هو الصحيح، فإن إضمار فعل دون مفسر ولا عوض لا نظير له، بخلاف جعل أن بصلتها سادة مسد جزأي الإسناد بعد ليت وظن، فلم يكن بدعا. فإن قيل: لم لا يكون المفسر لثبت المضمر ما تقتضيه أنّ من معنى الثبوت؟ فالجواب أن يقال: لا نسلم اقتضاء أن لثبوت، ولو سلمنا اقتضاءها لثبوت، لم يساو اقتضاء لفظ الثبوت لمعناه، ولو وقع لفظ الثبوت بعد "لو" لم يغن عن مفسر فعل يرفعه، فألا يستغنى عنه بأنّ أحق وأولى. ونظير جعل أنّ بعد لو مبتدأ مستغنيا عن خبر، ما حكاه سيبويه من قول بعض العرب: لحقُّ أنه ذاهب، بالإضافة إلى أنّ، قال سيبويه: كأنه قال: ليقين ذاك أمرك، فأمرك خبر هذا الكلام، لأنه إذا أضاف لم يكن بد لقولك: "لحق ذاك". من خبر، هذا نص سيبويه. وأجاز الأخفش أن تعامل لعل معاملة ليت في الدخول على أنّ بلا فاصل، فيقال: لعل أنّ الله يرحمنا. ورأيه في هذا ضعيف، لأن مقتضى الدليل ألا يكتفي بأن وصلتها إلا حيث يكتفى بمصدر صريح، والمصدر الصريح لا يكتفى به بعد ليت، فحق ألا يكتفى بها بعدها، لكن سمع، فقبل في هذه المسألة مع مخالفته الأصل، فلا يزاد عليه دون سماع. وتخفف أنّ فلا تلغى كما تلغى إن المخففة، إلا أن اسمها لا يلفظ به إلا في الضرورة، كقول الشاعر: لقد علم الضيف والمرملون ... إذا اغبر أفق وهبت شِمالا بأنْك ربيع وغَيْث مَريع ... وأنْك هناك تكون الثِّمالا

ولا يكون غير الملفوظ به إلا ضميرا، ولا يلزم كونه ضمير الشأن كما زعم بعضهم. بل إذا أمكن عوده على حاضر أو غائب معلوم فهو أولى، ولذلك قال سيبويه حين مثل بقوله تعالى: (أنْ يا إبراهيم قد صَدّقت الرُّؤيا). كأنه قال عز وجل: أنك قد صدقت الرؤيا. ذكر ذلك في باب ما تكون أن بمنزلة أي. وقال في الباب الذي بعده: وتقول: كتبت إليه أن لا تقلْ ذلك، وأن لا تقولَ ذلك، وأن لا تقولُ ذلك؛ فأما الجزم فعلى الأمر، عبر بالأمر عن النهي. وأما النصب فعلى قولك: لئلا، وأما الرفع فعلى: لأنك لا تقول ذلك، أو بأنك لا تقول ذلك. تخبره بأن ذلك قد وقع من أمره. هذا نصه. ولا يكون الخبر بعد الاسم المنوي إلا جملة مصدرة بمبتدأ نحو: (وآخرُ دَعْواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين). أو بخبر كقول الأعشى: في فتيةٍ كسيوف الهند قد عَلِموا ... أنْ هالكٌ كلُّ من يحْفى وينتعل أو بحرف نفي كقوله تعالى: (وأنْ لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون). أو بأداة شرط نحو: فعلمت أنْ من تَثْقَفُوه فإنه ... جزرٌ لخامعة وفرخ عُقاب أو برب نحو قول الآخر:

تَيَقَّنْت أن رُبَّ امرئ خِيلَ خائنا ... أمينٌ وخَوّانٍ يُخال أمينا أو بفعل مباشر إن كان دعاء نحو: (والخامسةَ أن غضِبَ الله عليها). أو غير متصرف كقوله تعالى: (وأنْ عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم). فإن كان الفعل متصرفا ولم يكن دعاء وُقِيَ مباشرة أنْ في الغالب بقد، كقوله تعالى: (ونعلمَ أنْ قد صدقتنا). وكقول الشاعر: ألم تعلمي أنْ قد تجشمتُ في الهوى ... من أجلك أمرا لم يكن يُتَجَشَّمُ أو بلو كقوله تعالى: (تَبَيَّنت الجنُّ أنْ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المُهين). أو بحرف تنفيس نحو: (علم أنْ سيكونُ منكم مرضى). أو بحرف نفي نحو: (أفلا يرون أنْ لا يرجعُ إليهم قولا). و: (أيحسب الإنسان أنْ لن نجمعَ عظامه). وقال سيبويه مشيرا إلى قول الأعشى: أن هالك كلُّ من يحفى وينتعل ومثل ذلك: "أول ما أقول أنْ بسم الله". كأنه قال: بسم الله. وقال سيبويه: واعلم أنه ضعيف في الكلام أن تقول: قد علمت أنْ تفعلُ، وقد علمت أنْ فَعَلَ، حتى تأتي بالسين أو قد أو بنفي، لأنهم جعلوا ذلك عوضا مما حذفوا من أنّه، فكرهوا ترك العوض".

قال شيخنا: ومن شواهد علمت أن فعل قول امرئ القيس: وحدِّثْ بأنْ زالت بليل حمولهم ... كنخل من الأعراض غير مُنَبّقِ وقال سيبويه: وأما قولهم: "أما أنْ جزاك الله خيرا، فإنهم إنما أجازون لأنه دعاء، ولا يصلون ههنا إلى قد والسين، ولو قلت: أما أنْ يغفرُ الله لك، جاز لأنه دعاء، قال: وسمعناهم يقولون: أما أنْ جزاك الله خيرا، شبهوه بأنه". وأما قبل أنْ المخففة المفتوحة بمعنى حقا، كما هي قبل المشددة، وهي بمعنى "ألا" قبل إنْ المخففة المكسورة، هذا هو مذهب سيبويه رحمه الله. ويجوز عندي أن يكون أما في الوجهين بمعنى ألا، وتكون إنْ المكسورة زائدة، كما زادها الشاعر في قوله: ألا إنْ سَرَى لَيلي فبتُّ كئيبا ... أُحاذر أن تنأى النَّوَى بغضُوبا وفي المفتوحة على هذا وجهان: أحدهما: أن تكون المخففة، وتكون هي وصلتها في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، كما تقدر في أنْ الواقعة بعد لو، على مذهب سيبويه، ويكون التقدير: أما من دعائي أنْ جزاك الله خيرا، ثم حذف الخبر للعلم به. والوجه الثاني من وجهي الفتح مع كون أما بمعنى ألا، أن تكون أنْ زائدة، كما زيدت بعد لمّا، وقبل لو، وبعد كاف الجر في قوله: كأن ظبيةٍ تَعْطو على رواية الجر. ويجوز أن تكون في قول الشاعر:

ألا أن سَرَى ليلي فبت مخففة من أن، ويكون الأصل: ألا أنه سرى ليلي، ثم فعل به ما فعل بأما أن جزاك الله خيرا في قول سيبويه. وقد تباشر أن المخففة فعلا متصرفا غير مقصود به الدعاء، وعليه نبهت بقولي: "غالبا" فإن كان ذلك بعد فعل قلبي أو ما معناه فهو أسهل من أن يكون بغير ذلك، فالأول كقول الشاعر: عَلِموا أن يُؤَمَّلون فجادوا ... قبل أن يُسْألوا بأعظم سُؤْل وأنشد الفراء: إني زَعيم يا نُوَيْقَةُ ... إن أمنت من الرَّزاح ونجوتِ من عَرض المَنون ... من الغُدُوِّ إلى الرَّواح أن تَهْبِطين بلاد قومٍ ... يرتعون من الطِّلاح والثاني كقراءة بعض القراء: "لمن أراد أن يتمُّ الرَّضاعة". ومثله قول الشاعر: يا صاحِبَيَّ فدتْ نفسي نفوسكما ... وحيثما كنتما لاقيتما رَشَدا أن تحملا حاجةً لي خف مَحْمَلُها ... تستوجيبا منَّةً عندي بها ويدا أن تَقْرَآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وألا تُشْعِرا أحدا وأن في هذين الموضعين وأشباههما هي الناصبة للمضارع عند البصريين، وترك إعمالها حملا على "ما" أختها، وهي عند الكوفيين المخففة. وشذ وقوعها موقع الناصبة، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير:

نرضى عن الله إن الناس قد علموا ... أنْ لا يدانِينا في خلقه بشرُ وقول الكوفيين عندي أولى بالصواب، فإنه لا يلزم منه إهمال ما وجب له الإعمال، ومما يؤيده قول الشاعر: رأيتك أحييت النَّدى بعد موته ... فعاش الندى من بعد أنْ هو خامل فوصل أنْ بجملة اسمية، وليس قبلها فعل قلبي ولا معناه، وكل موضع هو هكذا فهو لأن الناصبة الفعل، وأن الناصبة الفعل لا توصل بجملة اسمية، فصح وقوع المخففة موقع الناصبة. وقريب من قوله: أنْ هو خامل، قول الآخر: فلا تُلْهك الدُّنيا عن الدين واعْتَمِل ... لآخرة لا بد عن ستصيرها أبدل همزة أن عينا، وحسن وقوع المخففة هنا، لأن لا بد تجري مجرى تيقن. وتخفف كأنّ فلا تلغى، بل تعمل عمل أنَّ المخففة، إلا أن خبرها إذا قدر اسمها لا يلزم كونه جملة، بل قد يكون مفردا، بخلاف خبر أنّ إذا قدر اسمها. وإن كان جملة جاز كونها فعلية مبدوأة بلم كقوله تعالى: (كأنْ لم تَغْن بالأمس). وبقد كقول الشاعر: لا يهولنّك اصطلاءُ لظى الحر ... ب فمحذورُها كأن قد ألمّا وابتدائية كقول الشاعر: ووجهٌ مشرقُ النَّحْر ... كأنْ ثدياه حُقّان

وشرطية كقول الآخر: وَيْ كأنْ مَنْ يكُمْ له نَشَبٌ يُحْـ ... ــــببْ ومن يَفْتَقِر يعش عيش ضُرّ ومثال إفراد الخبر مع تقدير الاسم قول الشاعر: ويوما تُوافينا بوجه مُقَسَّم ... كأنْ ظبيةٌ تعطُو إلى وارِق السَّلم أي كأنها ظبية، ويروى بالنصب على حذف الخبر، والتقدير: كأن ظبيةً عاطيةً المذكورة، وهذا من عكس التشبيه، ويروى بالجر على زيادة أن شذوذا. وفي لعل عَشر لغات: لعلّ، علّ، لعنّ، عن، لأنّ، أنّ، رعَنّ، رغَنّ، لغَنّ، لعلّت. فالستة المتقدمة مشهورة، والأربعة الباقية قليلة. وأقلها استعمالا لعلت. ذكرها أبو علي في التذكرة. ومن ورود أنّ بمعنى لعل ما حكاه الخليل من قول بعض العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا، واستشهد الأخفش على ذلك بقول الراجز: قلت لشَيْبان ادنُ من لِقائِه ... أنا نُغَدّى القوم من شوائه ومن قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو: (أنها إذا جاءت لا يؤمنون). بالفتح. وقال امرؤ القيس في لأنّ: عُوجا على الطّلَل المُحيل لأننا ... نبكي الديارَ كما بكى ابن حِذام وقال الفرزدق في لَعَنّ:

ألستم عالجين بنا لعنّا ... نرى العرصاتِ أو أثر الخيام وإذا كان الاسم في هذا الباب وغيره اسم معنًى جاز كون الخبر فعلا مقرونا بأن كقولك: إنّ الصلاح أن يعصى الهوى. فلو كان الاسم اسم عين امتنع ذلك كما يمتنع في الابتداء، وقد يُسْتباح في لعل حملا على عسى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعلك أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضرّ بك آخرون". وروى أبو زيد أن بني عقيل يجرون بلعل مفتوحة الآخر ومكسورته، ومن شواهد ذلك: لعل اللهِ يُمكنني عليها ... جهارا من زهير أو أَسِيد وروى الفراء أيضا الجر بلعل، وأنشد: علّ صروفِ الدهر أو دُولاتها ... تدلننا اللّمّةَ من لمّاتها وزعم أبو علي أن لعل خففت وأعملت في ضمير الشأن محذوفا، ووليها في اللفظ لام الجر مفتوحا تارة ومكسورا تارة، والجر به، ولعل على أصلها. ولا يخفى ما في هذا من التكلف. فصل: ص: يجوز رفع المعطوف على اسم إن، ولكن بعد الخبر بإجماع، لا قبله مطلقا، خلافا للكسائي. ولا يشترط خفاء إعراب الاسم خلافا للفراء، وإن تُوُهِّم ما رأياه قُدِّر تأخير المعطوف أو حذفُ خبرٍ قبله، وأنّ في ذلك كإنّ على الأصح، وكذا البواقي عند الفراء. والنعت وعطف البيان والتوكيد كالمنسوق عند الجرمي والزجاج والفراء. وندر: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان. وأجاز الكسائي رفع المعطوف على أول مفعولي ظن إنْ خَفِي إعراب الثاني.

ش: نصب المعطوف على اسم إن مستغن عن التنبيه عليه، لأنه كالعطف على سائر المعمولات. ولا فرق في ذلك بين إن وأخواتها، ولا بين وقوعه قبل الخبر [ووقوعه بعده، ومثال وقوعه قبل الخبر] قوله تعالى: (إنّ المسلمين والمسلمات). الآية، ومثال وقوعه بعد الخبر قول الراجز: إنّ الربيعَ الجودَ والخريفا ... بدا أبي العباس والصيوفا أراد: إن الربيع الجود والخريف والصيوف بدا أبي العباس. والذي لا يستغنى عن التنبيه رفع المعطوف، وهو على ضربين: أحدهما مشترك فيه، وهو العطف على الضمير المرفوع بالخبر، والثاني العطف على معنى الابتداء، وهو عند البصريين مخصوص بإنّ ولكن، ومشروط بتمام الجملة قبله، ومثاله مع إنّ قول الشاعر: إن الخلافة والنبوةَ فيهم ... والمكرماتُ وسادةٌ أطهار ومثله قول الآخر: فمن يكُ لم ينجب أبوه وأمُّه ... فإنّ لنا الأمَّ النجيبةَ والأبُ ومثاله مع لكن قول الآخر: وما زلتُ سباقا إلى كل غاية ... بها يُقْتضَى في الناس مجدٌ وإجلالُ وما قَصّرت بي في التَّسامي خُئُولةٌ ... ولكنّ عمي الطيبُ الأصل والخالُ وهذا العطف المشار إليه ليس من عطف المفردات كما ظن بعضهم، بل هو من عطف الجمل، ولذلك لم يستعمل إلا بعد تمام الجملة، أو تقدير تمامها، ولو كان

من عطف المفردات لكان وقوعه قبل التمام أولى، لأن وصل المعطوف بالمعطوف عليه أجود من فصله. ولو كان من عطف المفردات لجاز رفع غيره من التوابع، ولم يحتج سيبويه في قوله تعالى: (قل إن ربي يقذف بالحق علامُ الغيوب). إلى أن يجعله خبر مبتدأ أو بدلا من فاعل يقذف. وأيضا فإن وأخواتها مشبهة بالأفعال لفظا ومعنى واختصاصًا فلا عمل للابتداء بعد دخولها، كما لا عمل له بعد دخول الأفعال الناسخة. ولقوة شبهها بالأفعال لم يبطل عملها بالفصل في نحو: إن فيك زيدا راغب، ولا بتقديم المسند في نحو: إن عندك زيدا، ولا بالحذف مع دليل كقراءة حمزة والكسائي: (وفي خلقكم وما يَبُثّ من دابة آيات). بخلاف "ما" المشبهة بليس، و"لا" المشبهة بإنّ، فإنها ضعيفة الشبه وضعيفة العمل، ولذا لا تعمل في الخبر عند سيبويه، ويُبْطِل عملَها الفصلُ بإجماع، فلضعفها لم تنسخ عمل الابتداء لفظا ومحلا، بل هو باق تقديرا بعد دخولها، ولهذا ينعت اسمها باعتبار المحل رفعا، ولم يفعل ذلك باسم إنّ. والحاصل أن عمل الابتداء بعد إنّ منسوخ لفظا ومحلا كانتساخه بكان وظن، إلا أنّ وإنّ ولكنّ لم يتغير بدخولهما معنى الجملة، ويتغير بدخول كأن وليت ولعل، فجاز أن يعطف بعد مصحوبي إن ولكن مبتدأ مصرح بخبره، ومحذوف خبره، كما يجوز ذلك بعد المبتدأ والخبر لبقاء المعنى على ما كان عليه. ولكون الخبر الموجود صالحا للدلالة على المحذوف، إذ لا تخالف بينهما، بخلاف خبر كأن وليت ولعل فإنه مخالف لخبر المبتدأ المجرد، فلا يغني أحدهما عن الآخر. فلو كان خبر المعطوف مخالفا لزم ثبوته نحو: (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين). ومثله: (إن وعْدَ الله حق والساعة لا ريب فيها).

وقرأ حمزة بنصب "الساعة" ولم يختلف في رفع "والله ولي المتقين". وحمل سيبويه ما أوهم العطف قبل التمام على التقديم والتأخير فالتقدير عنده في: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى). إن الذين آمنوا والذين هادوا مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك. وأسهل من التقديم والتأخير تقدير خبر قبل العطف مدلول عليه بخبر ما بعده، كأنه قيل: إن الذين آمنوا فرحون، والذين هادوا والصائبون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فإنّ حذْف ما قبل العطف لدلالة ما بعده مقطوع بثبوته في كلام العرب قبل دخول إن، كقول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلف وبعد دخولها، كقول الآخر: خليليّ هل طبٌّ فإني وأنتما ... وإن لم تبُوحا الهوى دَنِفان وأنشد سيبويه قول الفرزدق: إني ضَمنتُ لمن أتاني ما جَنى ... وأبى فكان وكنت غيرَ غَدورِ ثم قال: ترك أن يكون للأول خبر حين استغنى بالآخر. ومثل إنّ ولكنّ في رفع المعطوف على معنى الابتداء أنّ إذا تقدمها عِلْم أو معناه، فمعناه كقوله تعالى: (وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُه). وصريح العلم كقول الشاعر:

وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاةٌ ما بقينا في شقاق تقديره عند سيبويه: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك، حمله على التقديم والتأخير، كما حمل آية المائدة، فسوَّى بين إنّ وأنّ، فصح أن من فرّق بينهما على الإطلاق مخالف لسيبويه. وجعل من هذا القبيل قوله تعالى: (أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُه). وزعم قوم أنه إنما أورده بكسر الهمزة، وهي قراءة الحسن، وهو بعيد من عادة سيبويه، فإنه إذا استدل بقراءة تخالف المشهور لا يستغنى عما يشعر بذلك، كما فعل إذ أورد: (وإذا لا يلبثوا خلفك إلا قليلا). وأجاز الكسائي رفع المعطوف بعد إن قبل الخبر مطلقا، فيقول: إن زيدا وعمرٌو قائمان، وإنك وزيدٌ ذاهبان. ووافقه الفراء إن خفي إعراب الاسم نحو: إنك وزيدٌ ذاهبان، وكلا المذهبين ضعيف، لأن إنّ وأخواتها، فكما امتنع بكان أن يكون للجزأين إعراب في المحل يخالف إعراب اللفظ يمتنع بإنّ، ولو جاز أن يكون اسم إن مرفوع المحل باعتبار عروض العامل، لجاز أن يكون خبر كان مرفوع المحل بذلك، ولا اعتبار لتساويهما في أصالة الرفع وعروض النصب، ولا حجة لهما فيما حكى سيبويه من قول بعض العرب: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان. لأن الأول يخرج على أن أصله: إنهم هم أجمعون ذاهبون، فهم مبتدأ، وأجمعون توكيد، وذاهبون خبر المبتدأ، وهو وخبره خبر إن. وأصل الثاني: إنك أنت وزيد ذاهبان، فأنت مبتدأ، وزيد معطوف، وذاهبان خبر المبتدأ، والجملة خبر إن. وحذف المتبوع وإبقاء التابع عند فهم المعنى جائز بإجماع، فالقول به راجح. وغَلَّط سيبويه من قال: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان، فقال: واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد

ذاهبان، وذلك أن معناه معنى الابتداء، فيرى أنه قال "هم" كما قال: لستُ مدركَ ما مضى ... ولا سابقٍ شيئا وهذا غير مرضي منه رحمه الله، فإن المطبوع على العربية كزهير قائل البيت لو جاز غلطه في هذا لم يوثق بشيء من كلامه، بل يجب أن يعتقد الصواب في كل ما نطقت به العرب المأمون حدوث لحنهم بتغير الطباع، وسيبويه موافق على هذا، ولولا ذلك ما قبل نادرا كلدُن غدوةً، وهذا حجرُ ضبٍّ خربٍ. وأجاز الفراء في المعطوف على اسم غير إن ما أجاز في المعطوف على اسم إن، واستشهد بقول الراجز: يا ليتني وأنت يا لميسُ ... في بلدة ليس بها أنيسُ ولا حجة له فيه لأن تقديره: يا ليتني وأنت معي يالميس، فحذف "مع" وهو خبر أنت، والجملة حالية واقعة بين اسم ليت وخبرها. وأجاز الجرمي والزجاج والفراء رفع نعت الاسم بعد الخبر، وبمثل ذلك حكموا للتوكيد وعطف البيان، وأجازوا أن يكون من ذلك: (قل إن ربي يقذف بالحق علامُ الغيوب). وأجاز الكسائي رفع المعطوف على أول مفعولي ظن إن خفي إعراب ثانيهما، نحو: ظننت زيدا صديقي وعمرٌو.

باب لا العاملة عمل إن

باب لا العاملة عمل إن ص: إذا لم تكرر "لا" وقُصِد خلوصُ العموم باسم نكرة يليها، غير معمول لغيرها، عملت عمل إنّ، إلا أن الاسم إنْ لم يكن مضافا، ولا شبيها به، رُكِّبَ معها، وبني على ما ينصب به، والفتح في نحو: ولا لذّاتَ للشيب. أولى من الكسر، ورفع الخبر -إن لم يركب الاسم مع لا- بها عند الجميع، وكذا مع التركيب على الأصح. وإذا علم كثر حذفه عند الحجازيين، ولم يُلْفَظ به عند التميميين، وربما أُبقي وحُذف الاسم. ولا عمل للافي لفظ المثنى من نحو: لا رجلين فيها خلافا للمبرد. وليست الفتحة في نحو: لا أحدَ فيها، إعرابية خلافا للزجاج والسيرافي. ودخول الباء على لا يمتنع التركيب غالبا، وربما ركبت النكرة مع "لا" الزائدة. وقد يعامل غير المضاف معاملته في الإعراب ونَزْع التنوين والنون إنْ وليه مجرور بلام معلقة بمحذوف غير خبر، فإن فصلها جارٌّ آخر أو ظرف امتنعت المسألة في الاختيار خلافا ليونس. وقد يقال في الشعر: لا أباك، وقد يُحْمَل على المضاف مُشابهه بالعمل فينزع تنوينه. ش: إذا قصد بلا نفي الجنس على سبيل الاستغراق ورفع احتمال الخصوص اختصت بالأسماء، لأن قصد ذلك يسلتزم وجود من الجنسية لفظا أو معنى، ولا يليق ذلك إلا بالأسماء النكرات، فوجب للا عند ذلك القصد عملٌ فيما يليها من نكرة، وذلك العمل إما جر وإما نصب وإما رفع، فلم يكن جرا لئلا يتوهم أنه

بمن المنوية، فإنها في حكم الموجودة لظهورها في بعض الأحيان، كقول الشاعر: فقام يذود الناسَ عنها بسيفه ... وقال ألا لا مِنْ سبيل إلى هند ولأن عامل الجر لا يستقل كلام به وبمعموله ولا يستحق التصدير، ولا المذكورة بخلاف ذلك. ولم يكن عملها فيما يليها رفعا لئلا يتوهم أن عامله الابتداء، فإن موضعها موضع المبتدأ، ولأنها لو رفعت ما يليها عند قصد التنصيص على العموم لم يحصل الغرض، لأنها على ذلك التقدير بمنزلة المحمولة على ليس، وهي لا تنصيص فيها على العموم. فلما امتنع أن تعمل فيما وليها جرا أو رفعا - مع استحقاقها عملا - تعين أن يكون نصبا، ولما لم تستغن بما يليها عن جزء ثان عملت فيه رفعا، لأنه عمل لا يستغنى بغيره عنه في شيء من الجمل. وأيضا فإن إعمال لا هذا العمل إلحاق لها بإنّ، لمشابهتها لها في التصدير، والدخول على المبتدأ والخبر، وإفادة التوكيد، فإن لا لتوكيد النفي، وإنّ لتوكيد الإثبات، ولفظ لا مساو للفظ إن ذا خففت. وأيضا فإن لا تقترن بهمزة الاستفهام ويراد بها التمني. ولا يجب أن تعمل لا هذا العمل من القصد المذكور إذا كررت، بل إذا كررت جاز إعمالها وإلغاؤها. فجواز إعمالها لعدم تغير حالها وحال مصحوبها، وجواز إلغائها لشبهها بالمكررة مع المعرفة، فلجواز الوجهين مع التكرر، شرطت انتفاءه في وجوب العمل فقلت: إذا لم تكرر "لا" وقصد خلوص العموم في اسم نكرة يليها فعلم بهذا أنها لا تعمل في معرفة ولا في منفصل. واحترزت بقولي: غير معمول لغيرها من نحو قوله تعالى: (لا مرحبا بهم). ثم أشرت إلى أن اسمها ينقسم إلى مفرد وإلى مضاف وإلى شبيه به، وخصصت

المفرد بالتركيب والبناء، فعلم بذلك أن الآخريْن منصوبان نصبا صريحا، نحو: لا صاحب بِرٍّ مذموم، ولا راغبا في الشر محمود. ويتناول قولي في المركب: ويبنى على ما كان ينصب به، المبني على فتحة نحو: "لا إلهَ إلا الله" و: (فقاتلوا أئكمة الكفر إنهم لا أيمانَ لهم). والمبني على ياء مفتوح ما قبلها، كقول الشاعر: تَعَزّ فلا إلفَيْن بالعين مُتِّعا ... ولكن لوُرّاد المَنون تتابُعُ والمبني على ياء مكسورة ما قبلها، كقول الشاعر: يُحْشَرُ الناسُ لا بنينَ ولا آبا ... ءَ إلا وقد عَنَتْهم شُئُونُ والمبني على كسرة، كقول سلامة بن جندل: إن الشباب الذي مجدٌ عواقبُه ... فيه نَلَذُّ ولا لذاتِ للشيب يروى بكسر التاء وفتحها، والفتح أشهر، وبالوجهين أيضا أنشد قول الشاعر: لا سابغات ولا جاواءَ باسلةً ... تقى المنون لدى استيفاء آجال وزعم أبو الحسن بن عصفور أن الفتح في مثل هذا لازم، والصحيح جواز الفتح والكسر. ثم أشرت إلى أنه لا خلاف في كون الخبر مرفوعا بلا إذا لم يركب الاسم معها، ثم قلت: "وكذا مع التركيب على الأصح" فنبهت بذلك على ما ذهب إليه سيبويه من أن الخبر مع التركيب مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخول لا، لأن شبهها بإن ضعف حين تركبت وصارت كجزء كلمة، وجزء كلمة لا يعمل، فمقتضى هذا أن يبطل عملها في الاسم والخبر، لكن عملها أبقى في أقرب المعمولين، وجعلت

هي ومعمولها بمنزلة مبتدأ، والخبر بعدها على ما كان عليه من التجرد. وغير ما ذهب إليه سيبويه أولى، لأن كل ما استحقت "لا" به العمل من المناسبات السابق ذكرها باق، فليبق ما ثبت بسببه، ولا يضر التركيب، كما لم يضر أنّ صيرورتها بفتح الهمزة مع معمولها كشيء واحده، ولو كان جعل لا مع اسمها كشيء واحد مانعها من العمل في الخبر لمنعها من العمل في الاسم، لأن أحد جزأي الكلمة لا يعمل في الآخرن ولا خلاف في أن التركيب لم يمنع عملها في الاسم، فلا يمنع عملها في الخبر. وأيضا فإن عمل لا في الخبر أولى من عملها في الاسم، لأن تأثيرها في معناه أشد من تأثيرها في معنى الاسم، والإعراب إنما جيء به في الأصل للدلالة على المعنى الحادث بالعامل، وإنما لم يكن خلاف في ارتفاع الخبر بلا غير المركبة، لأن مانع التركيب هو كون اسم إنّ صالح للابتداء به مجردا عن إنّ، وليس كذلك مصحوب لا المركب، فإن تجرده من لا مبطل للابتداء به، لأنه نكرة لا مسوغ معها، فإذا قرنت بلا كانت بمنزلة نكرة ابتدئ بها لاعتمادها على نفي. ثم أشرت إلى حذف الخبر، وهو على ثلاثة أقسام: ممتنع وجائز وواجب. فالممتنع حذفه في موضع لا دليل فيه من لفظ ولا معنى، كقولك مبتدئا مقتصرا: لا رجلَ، فمثل هذا لا يعد كلاما عند أحد من العرب، لأن المخاطب لا يستفيد منه شيئا. وأما الجائز والواجب فحذف ما دل عليه دليل، كقولك: لا رجلَ، لمن قال: هل في الدار من رجل؟ وكقولك للشاكي: لا بأسَ، تحذف، فيها من الأول، و: عليك، من الآخر، فمثل هذا يجوز فيه الحذف والإثبات عند الحجازيين، ولا يلفظ به التميميون ولا الطائيون، بل الحذف عندهم واجب بشرط ظهور المعنى، ومن نسب إليهم التزام الحذف مطلقا أو بشرط كونه ظرفا فليس بمصيب، وإنْ رُزق من الشهرة أوفر نصيب. وأكثر ما يحذفه الحجازيون مع إلا نحو: لا إله إلا الله. ومن حذفه دون

إلا قوله تعالى: (قالوا لا ضيرَ). وقوله تعالى: (ولو ترى إذْ فزِعوا فلا فَوْتَ). ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضررَ ولا ضرارَ ولا عدوى ولا طِيَرَةَ). ومن استعمال الخبر منطوقا به في لغة غير الحجازيين قول حاتم: ورَدَّ جازُرهم حَرْفا مُصَرَّمةً ... ولا كريمَ من الوِلدان مَصْبُوحُ فمصبوح خبر لا صفة لعدم الحاجة إلى مقدر. وربما حذف الاسم للعلم به وبقي الخبر، كقولهم: لا عليك، أي: لا بأس عليك. وخالف المبرد سيبويه في اسم لا المثنى نحو: لا رجلين فيها، فزعم أنه معرب، واحتج له بأمرين: أحدهما: أنه بزيادة الياء والنون أشبه المطول المستحق للنصب، نحو: لا خيرا من زيد هنا. والثاني: أن العرب تقول: أعجبني يومَ زرتني، فتفتح، وأعجبني يومُ زرتني فتعرب. وكلتا الحجتين ضعيفة، أما الأولى فمعارضة بأن شبه "لا رجلين" بيا رجلان، أقوى من شبهه بلا خيرا من زيد، وقد سوى بين يا رجلان ويا رجلُ، فلْيُسَوِّ بين لا رجلين ولا رجلَ. وأما الثانية فضعفها بيّن أيضا، وذلك أن بناء يوم وشبهه حين أضيف إلى الجملة إنما كان لشبهه بإذ لفظا ومعنى، فلما بنى خالفه بلحاق

علامة التثنية، وبكون اليوم إذا بني يصير مؤقتا، والمحمول على إذ لا يكون مؤقتا، وإنما يكون مبهما أي صالحا لنهار وليلة وللقليل والكثير، واليوم المفرد بهذه المنزلة، كقوله تعالى: (ويوم يقول كن فيكون* قوله الحق). وقوله تعالى: (كل يوم هو في شأن). والحاصل أن يوما لإبهامه أشبه إذ فحمل عليه في البناء إذا استعمل استعماله، فإذا ثنى زال إبهامه. فلم يصلح أن يحمل على إذ للزوم إبهامها وصلاحيتها لكل زمان ماض ليلا كان أو نهارا، قليلا كان أو كثيرا. وزعم أبو إسحاق الزجاج والسيرافي أن فتحة: لا رجلَ، وشبهه فتحة إعراب، وأن التنوين حذف منه تخفيفا، ولشبهه بالمركب. وهذا الرأي لو لم يكن في كلام العرب ما يبطله لبطل بكونه مستلزما مخالفة النظائر، فإن الاستقراء قد أطلعنا على أن حذف التنوين من الأسماء المتمكنة لا يكون إلا لمنع صرف، أو للإضافة، أو لدخول الألف واللام، أو لكونه في علم موصوف بابن مضاف إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو لوقف، أو لبناء، والاسم المشار إليه ليس ممنوعا من الصرف، ولا مضافا، ولا ذا ألف ولام، ولا علما موصوفا بابن، ولا ذا التقاء ساكنين، ولا موقوفا عليه، فتعين كونه مبنيا، كيف وقد روي عن العرب: جئتَ بلا شيءَ، بالفتح وسقوط التنوين، كما قالوا: جئت بخمسةَ عشرَ، والجار لا يلغى ولا يعلق، فثبت البناء بذلك يقينا. والعجب من الزجاج والسيرافي في زعمهما أن ما ذهبا إليه من أن فتحة: لا رجلَ، وشبهه، فتحة إعراب هو مذهب سيبويه، استنادا إلى قوله في الباب الأول من أبواب لا: "ولا تعمل فيما بعدها منتصبة بغير تنوين" وغفلا عن قوله في الباب الثاني: واعم أن المنفي الواحد إذا لم يل "لك" فإنما يُذْهَب منه التنوين كما أُذْهِب من خمسةَ عشرَ، لا كما أذهب من المضاف". فهذا نص لا احتمال فيه.

قلت: ومما يدل على أن الفتحة المشار إليها فتحة بناء لا فتحة إعراب ثبوتها في: ولا لذاتَ للشيب، في الرواية المشهورة، وتوجيه رواية الكسر على أن يكون لذات منصوبة لكونه مضافا أو شبيها بالمضاف، على نحو ما يوجه به: لا أبا لك، ولا يدي لك، وسيأتي بيان ذلك مستوفى بعون الله تعالى. وقد قال سيبويه في الثاني من أبواب لا في النفي: اعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت: لا غلام لك، كما يقع من المضاف إلى اسم، ذلك إذا قلت: "لا مثل زيد" فعلم بهذا أن فتحة ميم: لا غلام لك، كفتحة: لا مثلَ زيد، لأنهما عنده سيان في الإضافة، فعلى هذا تكون كسرة تاء: لا لذات، كسرة إعراب، لكونه مضافا واللام مقحمة، وهذا واضح بلا تكلف. وندر تركيب النكرة مع لا الزائدة كقول الشاعر: لو لم تكن غَطفان لا ذنوبَ لها ... إذن للام ذوو أحسابها عُمَرا وهذه من التشبيه الملحوظ فيه مجرد اللفظ، وهو نظير تشبيه ما الموصولة بما النافية في قول الشاعر: يُرَجِّي المرءُ ما إنْ لا يراه ... وتعرضُ دون أدناه الخطوبُ فزاد إنْ بعد الموصولة، وإنما تزاد بعد النافية، لكن سوغ ذلك كون اللفظ واحدا. والمشهور الوارد على القياس أن يقال في اسم "لا" إذا كان أبا أو أخا: لا أب له، ولا أخ لك، كما قال نهار اليشكري: أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم وأن يقال فيه إذا كان مثنى أو شبهه كما قال الشاعر:

تأملْ فلا عَيْنَيْن للمرء صارفا ... عنايته عن مضمر العِبَرات وكما قال: أرى الرَّبع لا أهلين في عَرَصاتِه ... ومن قبلُ عن أهليه كان يضيق وقد كثر في الكلام مخالفة القياس نحو: لا أبالك، ولا أخالك، ولا غلامي لك، فمن ذلك قول الراجز: أهَدَموا بيتك لا أبا لكا ... وزعموا أنك لا أخا لكا ... وأنا أمشي الدَّألى حوالكا ومثال: لا غلامي لك، قول الشاعر: لا تُعْنَيَنَّ بما أسبابه عسرت ... فلا يَدَيْ لامرئٍ إلا بما قُدِرا ولم يرد هذا الاستعمال في غير ضرورة إلا مع اللام، وقد يحذف في الضرورة، كقول الشاعر: وقد مات شَمَّاخٌ ومات مُزَرّد ... وأيُّ كريم لا أباك بخالد وقال آخر: أبالموتِ الذي لا بُدَّ أني ... مُلاقٍ لا أباك تُخَوِّفيني ومذهب أكثر النحويين في هذا النوع أنه مضاف إلى المجرور باللام، وأن اللام مقحمة لا اعتداد بها، كما لا اعتداد باللام في قول الشاعر: يا بُؤْس للحرب التي ... وَضَعتْ أراهِط فاستراحوا وهذا القول وإن كان قول أكثر النحاة فلا أرتضيه، لأن الإضافة التي ادعيت في الأمثلة المشار إليها إما محضة وإما غير محضة، فإن كانت محضة لزم كون اسم

لا معرفة، وهو غير جائز، ولا عذر في الانفصال باللام، لأن نية الإضافة محضة كافية في التعريف، مع كونه غير مهيأ للإضافة، نحو: (وكُلًّا ضربنا له الأمثال) و: (لله الأمر من قبل ومن بعد). وما نحن بسبيله مهيأ للإضافة، فهو أحق بتأثير نية الإضافة. وإن كانت الإضافة المدعاة غير محضة لزم من ذلك مخالفة النظائر، لأن المضاف إضافة غير محضة لا بد من كونه عاملا عمل الفعل، لشبهه به لفظا ومعنى، نحو: هذا ضارب زيدٍ الآن، وحسن الوجه. أو معطوفا على ما لا يكون إلا نكرة نحو: رب رجل وأخيه، وكم ناقة وفصليها ملكت، والأسماء المشار إليها بخلاف ذلك، فلا تكون إضافتها غير محضة، فلو كانت مضافة وإضافتها غير محضة، لم يَلِقْ بهما أن يؤكد معناها بإقحام اللام، لأن المؤكَّد معتنى به، وما ليس محضا لا يُعتنى به فيؤكد، فلذلك قبح توكيد الفعل الملغى، لأنه مذكور في حكم المسكوت عنه، وقول من قال: يا بؤسَ للحرب وهو يريد: يا بؤس الحرب، سهله كون إضافته محضة، على أن للقائل أن يجعل أصله: يا بؤسا للحرب، ثم حذفت الألف للضرورة وهي مرادة، فلا إضافة ولا إقحام. وأيضا لو كانت إضافة الأسماء المشار إليها غير محضة لكانت كذلك مع غيرها، إذ لا شيء مما يضاف إضافة غير محضة إلا وهو كذلك مع كل عامل، ومعلوم أن إضافتها في غير هذا الباب محضة، فيجب أن تكون كذلك في هذا الباب، وإلا لزم عدم النظير. ومما يدل على ضعف القول، بكون الأسماء المشار إليها مضافة قولهم: لا أبالي، ولا أخالي، فلو كانوا قاصدين الإضافة لقالوا: لا أبِ لي، ولا أخِ لي، فيكسرون الباء والخاء إشعارا بأنها متصلة بالياء تقديرا، فإن اللام لا اعتداد بها على ذلك التقدير، وإذ لم يفعلوا ذلك فلا ارتياب في كونهم لم يقصدوا الإضافة، ولكنهم

قصدوا إعطاء الأسماء المذكورة حكم المضاف إذا كانت موصوفة بلام الجر ومجرورها، ولم يفصل بينهما، وذلك أن الصفة يتكمل بها الموصوف كما يتكمل المضاف بالمضاف إليه، فإذا انضم إلى ذلك كون الموصوف معلوم الافتقار إلى المضاف إليه، وكون الصفة متصلة بالموصوف، وكونها باللام التي يلازم معناها الإضافة غالبا، وكون المجرور صالحا أن يضاف إليه الأول، تأكد شبه الموصوف بالمضاف، فجاز أن يجرى مجراه فيما ذكر من الحذف والإثبات، فمن ثم لم يبالوا بفيك أن يجرى هذا المجرى، كقول الشاعر: وداهية من دواهي المَنُو ... ن يرهبُها الناس لا فالها فنصبه بالألف كما ينصبه في الإضافة. ومن ذهب في هذه المسألة إلى ما ذهب إليه ابن كيسان وهشام الكوفي شرط كون اللام ومجرورها غير خبر، فإن كان هو الخبر تعين إثبات النون وحذف الألف بإجماع. وكذا إن لم تل اللام ومجرورها، أو كان في موضع اللام حرف جر غيرها. وأجاز يونس المعاملة المذكورة مطلقا مع فصل اللام بظرف أو جار غيرها نحو: لا يَدَيْ بها لك، ولا غلامين عندك لزيد. وأشار سيبويه إلى جواز ذلك في الضرورة. ولا تختص هذه المعاملة بالمثنى وأخ وأب وأخواتها، بل هي الجائزة في كل ما وليه لام جر معلقة بمحذوف غير خبر، حتى في: لا غلام لك، ولا بني لك، ولا بنات لك، ولا عشرى لك، وقد فهم ذلك من قولي: وقد يعامل غير المضاف معاملته في الإعراب ونزع التنوين، فدل ذكر الإعراب على أن فتحة: لا غلام لك، قد تكون إعرابا، وأنه يقال: لا أبًا لك، ولا أخًا لك، ولا غلامين لك، ولا بنين لك، ولا بناتٍ لك. ودل ذكر التنوين والنون على أن تنوين: لا غلام لك، أزيل لما أزيل له نون: لا غلامي لك، وذلك كله مفهوم من قول سيبويه: فلو جعل

اللام ومجرورها خبرا تعين البناء وتوابعه. ولو تعلقت اللام بالاسم تعين الإعراب وتوابعه غالبا نحو: لا واهبا لك درهما. واحترزت بغالبا من قول الشاعر: أراني ولا كُفران لله أيَّةً ... لنفسيَ قد طالبْتُ غير مُنيل أنشده أبو علي في التذكرة، وقال: أيّه منصوب بكفران، أي لا أكفر لله رحمة لنفسي، ولا يجوز نصب أية بأويت مضمرا، لئلا يلزم من ذلك اعتراض بين مفعولي أرى بجملتين، إحداهما: لا واسمها وخبرها، والثانية: أويت، ومعناه رققت. وإلى: ولا كفران لله أية، أشرت بقولي: وقد يحمل على المضاف مشابهه بالعمل. ويمكن أن يكون هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صَمْت يومٌ إلى الليل" على رفع يوم بالمصدر على تقديره: بأنْ وفعل ما لم يسم فاعله. ولا يستغنى عن اللام بعد ما أعطى حكم المضاف من الأسماء المذكورة إلا بعد أب في الضرورة، كقول الشاعر: وقد مات شَمَّاخ ومات مُزَرّدٌ ... وأيُّ كريم لا أباكَ بخالد وقول الآخر: أبا لموتِ الذي لا بد أني ... مُلاقٍ لا أباك تخوفيني أراد: لا أبالكَ، ولا أبالكِ، كذا زعموا، وهو عندي بعيد، لأنه إن كان الأمر كذلك لم يخل من أن يكون أب مضافا إلى الكاف عاملا فيها، أو يكون مقدر الانفصال

باللام وهي العاملة في الكاف مع حذفها. فالأول ممنوع لاستلزامه تعريف اسم لا، أو تقدير عدم تمحض الإضافة فيما إضافته محضة، والثاني ممنوع لاستلزامه وجود ضمير متصل معمول لعامل غير منطوق به، وهو شيء لا يعلم له نظير، فوجب الإعراض عنه، والتبرؤ منه. والوجه عندي في: لا أبالك، ولا أباك، أن يكون دعاء على المخاطب بأن لا يأباه الموت. وهذا توجيه ليس فيه من التكلف شيء والحمد لله. فصل: ص: إذا انفصل مصحوب لا، أو كان معرفة، بطل العمل بإجماع، ويلزم حينئذ التكرار في غير ضرورة، خلافا للمبرد وابن كيسان، وكذا التاليها خبرٌ مفردٌ وشبهُه. وأُفْرِدَتْ في: لا نَوْلُك أن تفعل، لتأوله بلا ينبغي. وقد يؤول غير عبد الله وعبد الرحمن من الأعلام بنكرة، فيعامل معاملتها بعد نزع ما فيه أو فيما أضيف إليه من ألف ولام، ولا يعامل بهذه المعاملة ضمير ولا اسم إشارة خلافا للفراء. ويُفْتح أو يرفع الأول من نحو: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن فتح فتح الثاني أو نصب أو رفع. وإن رفع رفع الثاني أو فتح. وإن سقطت لا الثانية فتح الأول ورفع الثاني أو نصب، وربما فتح منويا معه لا. وتنصب صفة اسم لا أو ترفع مطلقا، وقد تجعل مع الموصوف كخمسةَ عشرَ إن أفردا واتصلا، وليس رفعهما مقصورا على تركيب الموصوف، ولا دليلا على إلغاء لا، خلافا لابن برهان في المسألتين. وللبدل الصالح لعمل لا النصبُ والرفع، فإن لم يصلح لعملها تعين رفعه، وكذا المعطوف نسقا. وإن كرر اسم لا المفرد دون فصل فُتح الثاني أو نُصب. وللا مقرونة بهمزة الاستفهام في غير تمن وعَرْض ما لها مجردة، ولها في التمني من لزوم العمل ومنع الإلغاء واعتبار الابتداء ما لليت، خلافا للمازني والمبرد في جعلها كالمجردة. ويجوز إلحاق لا العاملة بليس فيما لا تمني فيه من جميع مواضعها، إن لم تقصد الدلالة بعملها على نصوصية العموم.

ش: لما كان شبه لا بإنّ أضعف من شبه ما بليس، جعل لما مزية بأن لم يبطل عملها بالفصل مطلقا، بل إذا كان الفصل نحو: ما قائم زيد، أو لمعمول خبرٍ غير ظرف ولا جار ومجرور نحو: ما طعامك زيد آكل. فلو فصل بمعمول وهو ظرف أو جار ومجرور لم يبطل العمل، نحو: ما غدا زيد مسافرا، وما فيها أحد مقيما. وأبطل عمل لا بالفصل مطلقا نحو: لا في الدار رجل مقيم، ولا غدا أحد راحل، فانحطت بذلك "لا" عن رتبة "ما" ليكون لقوة الشبه أثر. وإذا كان مصحوب لا معرفة لم تعمل فيه، لأنها إنما عملت العمل المذكور ليدل به على العموم على سبيل التنصيص، والمعرفة ليست كذلك، ولو كان تعريفها بالألف واللام الاستغراقية لأنها بلفظ العهدية، فليس التنصيص بها على العموم كالتنصيص عليه بمن الجنسية مذكورة أو منوية. لكن إذا وليتها المعرفة لزمها التكرار، ليكون عوضا مما فاتها من مصاحبة ذوي العموم، فإن في التكرار زيادة كما في العموم زيادة، ثم حمل في لزوم التكرار المفصولة على التي تليها معرفة، لتساويهما في وجوب الإهمال، وأيضا فإن العرب في الغالب تنفي الجملة المبتدوأة بمعرفة أو ظرف أو شبهه بما أو ليس، نحو: ما زيد عندك، وما عندك زيد، وليس عمرو في الدار، فإذا وقعت لا في نحو هذا من الكلام وقعت في موضع غيرها، فقويت بالتكرار، ولم تخل منه إلا في اضطرار. وكذا إذا ولي "لا" خبر مفرد يلزم التكرار أيضا نحو: زيد لا قائم ولا قاعد، وكذا إذا ولي "لا" نعت أو حال، نحو: مررت برجل لا قائمٍ ولا قاعدٍ، ونظرت إليه لا قائما ولا قاعدا. وإلى هذين المثالين وأشباههما أشرت بقولي: "وكذا التاليها خبر مفرد أو شبهه" فتكرار لا في هذه المواضع لازم إلا في الضرورة، كقول الشاعر: بَكَتْ جَزَعا واسترجعت ثم آذنت ... ركائبها أن لا إلينا رجوعها

وقال آخر: أشاءُ ما شئتِ حتى لا أزالَ لما ... لا أنت شائيةٌ من شأننا شانى وكقول الآخر: وأنت امرُؤ منا خلقت لغيرنا ... حياتُك لا نفعٌ وموتُك فاجعُ وكقول الآخر: إني تركتك لاذا عسرة تربا ... فاستعففن واكف من وافاك ذا أمل ومثله: قهَرتُ العدا لامستعينا بعصبة ... ولكن بأنواع الخدائع والمكر ولم يقصر المبرد ترك التكرار على الضرورة، بل أجازه في السعة، ووافقه ابن كيسان، ولا حجة لهما في قول العرب: لا نولك أن تفعل، فإنهم أوقعوه موقع: لا ينبغي لك أن تفعل، فاستغنوا فيه عن تكرار لا، كما يستغنون فيما هو واقع موقعه. وقد يؤول العلم بنكرة، فيركب مع لا إن كان مفردا، وينصب بها إن لم يكن مفردا، فالأول كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده". وكقول الشاعر: أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ ولا أميّةَ بالبلاد

وكقول الراجز: إنّ لنا عُزّى ولا عزى لكم والثاني كقول العرب: قضية ولا أبا حسن لها. لما أوقعوا العلم موقع نكرة جردوه من الألف واللام واللتين كانتا فيه كقوله: ولا عزى لكم، أو فيما أضيف إليه كقولكم: ولا أبا حسن. فلو كان العلم عبد الله لم يعامل بهذه المعاملة للزوم الألف واللام، وكذا عبد الرحمن على الأصح، لأن الألف واللام لا تنزعان منه إلا في النداء. وقدر قوم المعامل بهذه المعاملة مضافا إليه "مثل" ثم حذف وأقيم العلم مقامه في الإعراب والتنكير، كما فعل بأيدي سبا في قولهم: تفرقوا أيدي سبا، يريدون مثل أيدي سبا، فحذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه في النصب على الحال. وقدره آخرون بلا مسمى بهذا الاسم، وبلا واحد من مسميات هذا الاسم. ولا يصح واحد من التقديرات الثلاثة على الإطلاق: أما الأول فممنوع من ثلاثة أوجه: أحدها: ذكر مثل بعده كقول الشاعر: تبكي على زيد ولا زيد مثلُه فتقدير "مثل" قبل زيد مع ذكر مثله بعده وصفا أو خبرا، يستلزم وصف الشيء بنفسه، أو الإخبار عنه بنفسه، وكلاهما ممتنع. الثاني: أن المتكلم بذلك إنما يقصد نفي مسمى العَلم المقرون بلا، فإذا قدر مثل لزم خلاف المقصود، لأن نفي مثل الشيء لا تعرض فيه لنفي ذي المثل. الثالث: أن العلم المعامل بها قد يكون انتفاء مثله معلوما لكل أحد، فلا يكون في نفيه فائدة نحو: لا بصرة لكم، ولا أبا حسن لها، ولا قريش بعد اليوم.

وأما التقدير الثاني والثالث فلا يصح اعتبارهما مطلقا، فإن من الأعلام ما له مسميات كثيرة كأبي حسن وقيصر. فتقدير ما كان هكذا بلا مسمى بهذا الاسم، أو بلا واحد من مسمياته لا يصح، لأنه كذب، فالصحيح أن لا يقدر هذا النوع بتقدير واحد، بل يقدر ما ورد فيه بما يليق به، وبما يصلح له. فيقدر: لا زيد مثله، بلا واحد من مسميات هذا الاسم مثله، ويقدر: لا أبا حسن لها، ولا كسرى بعده، ولا قيصر بعده، بلا مثل أبي حسن، ولا مثل كسرى، ولا مثل قيصر. وكذا: لا بصرة، ولا أمية، ولا عزى. ولا يضر في ذلك عدم التعرض لنفي المنكر، فإن سياق الكلام يدل على القصد. وأجاز الفراء أن يقال: لا هو، ولا هي، على أن يكون الضمير اسم لا محكوما بتنكيره ونصبه. وأجاز: لا هذين لك، ولا هاتين لك، على أن يكون اسم الإشارة اسم لا محكوما بتنكيره. وفي الأول من نحو: لا حول ولا قوة إلا بالله، الفتح بمقتضى التركيب، والرفع على إلغاء لا، أو على إعمالها عمل ليس. وفي الثانية عند فتح الأول الفتح بمقتضى التركيب، وجعل الكلام في تقدير جملتين، والنصب عطفا على موضع اسم لا، باعتبار عملها، وتقدير زيادة لا الثانية، والرفع عطفا على موضع اسمها، فإنها في موضع رفع بالابتداء، ولا الثانية على هذا زائدة للتوكيد، ويجوز إعمالها عمل ليس. وفي الثاني عند رفع الأول الرفع عطفا على اللفظ وزيادة لا الثانية، أو على إعمالها عمل ليس، والفتح بمقتضى التركيب وجعل الكلام في تقدير جملتين. وإن سقطت الثانية فتح الأول ورفع الثاني عطفا على معنى الابتداء، أو نصب عطفا على عمل لا، وحكى الأخفش: لا رجلَ وامرأةَ فيها، بفتح المعطوف دون تنوين، على تقدير: ولا امرأة، فحذفت لا وأبقى البناء مع نيتها، كما كان مع وجودها. وتنصب صفة اسم لا أو ترفع مطلقا، أي في التركيب وعدمه، وفي اتصال الصفة وانفصالها، نحو: لا رجل ظريفا وظريف، ولا غلام رجل عندنا ذكيا أو ذكي، وكذا مع الانفصال، فالنصب باعتبار عمل لا، والرفع بتقدير عمل الابتداء، وجاز

اعتباره بعد دخول لا في التابع، صفة كان أو غيرها، وإن كان ذلك لا يجوز بعد دخول إنّ، لأن إنّ شبيهة بالأفعال الناسخة للابتداء في الاختصاص بالمبتدأ والخبر دون عروض، وفي كون ما دخلت عليه مفيدا بدون دخولها، ولقوتها لا يبطل عملها بالانفصال في نحو: إن فيها زيدا، بخلاف لا فإنها ضعيفة العمل بكونها فرعا، وكونها عارضة الاختصاص بالمبتدأ والخبر، وكون ما تدخل عليه في الأكثر لا يفيد بدون دخولها، نحو: لا رجل في الدار، فلو قيل: رجل في الدار، لم يفد، فلتوقف الإفادة على دخول لا، كانت هي واسمها بمنزلة مبتدأ، فجاز لذلك أن يعتبر عمل الابتداء بعد دخولها في الصفة وغيرها من التوابع المستعملة، وشُبّه اعتبار الابتداء في ذلك باعتباره في نحو: هل من رجل كريم في الدار، وما لكم من إله غيره. وقد تجعل الصفة والموصوف كخمسة عشر، فيبنيان على الفتح، إن كانا مفردين متصلين نحو: لا رجلَ ظريفَ فيها. وزعم ابن برهان أن صفة اسم "لا" لا ترفع إلا إذا كان الموصوف مركبا مع لا، وأن رفعها دليل على إلغاء لا، وحمله على ذلك أن العامل في الصفة هو العامل في الموصوف، والاسم المنصوب لا عمل للابتداء فيه، فلا عمل له في صفته، والاسم المبني على الفتح إن نصبت صفته دل ذلك عنده على الإعمال، وإذا رفعت دل ذلك عنده على الإلغاء. وما ذهب إليه غير صحيح، لأن إعمال لا المشار إليها عند استكمال شروطها جائز بإجماع العرب، والحكم عليها بالإلغاء دون نقصان الشروط حكم بما لا نظير له. وقوله: لا عمل للابتداء في الاسم المنصوب غير مسلم، بل له عمل في موضعه، كما له بإجماع عمل في موضع المجرور بمن في نحو: هل من رجل في الدار؟ فصح ما قلنا، وبطل ما ادعاه، ولا قوة إلا بالله. وللبدل في هذا الباب النصب باعتبار عمل لا إن كان صالحا لعملها، نحو: لا أحد فيها رجلا ولا امرأة، ولا مال له دينارا ولا درهما. والرفع باعتبار عمل الابتداء نحو: لا أحد فيها رجلٌ ولا امرأة، ولا مال له دينارٌ ولا درهم. فلو لم يصلح البدل لعمل لا تعين الرفع نحو: لا أحد فيها زيد ولا عمرو.

وإذا كرر اسم لا المركب معها دون فصل جاز تركيب الأول والثاني كما ركب الموصوف والصفة، وجاز فيه النصب، وذلك كقولك: لا ماءَ ماءَ باردا لنا، ولا ماءَ ماءً باردا. وإذا اقترنت همزة الاستفهام بلا في غير تمن وعرض، فللا مع مصحوبها من تركيب وعمل وإلغاء ما كان لها قبل الاقتران، فيقال: ألا رجلَ في الدار، بالفتح وحده، وألا صاحبَ معروفٍ فيها بالنصب وحده، وألا ارعواء ولا حياء لمن شاب قذاله، بالأوجه الخمسة كما كان يقال مع عدم الهمزة، فمن ذلك قول حسان رضي الله عنه: ألا طِعانَ ألا فُرسانَ عاديةٌ ... إلا تجَشُّوُكم حولَ التَّنانير وقال آخر: ألا ارعواءَ لمنْ ولّتْ شبيبَتُه ... وآذنت بمشيب بعده هَرَمُ وأكثر وقوع هذا النوع إذا لم يقصد تمَن ولا عرض في توبيخ وإنكار، كما سبق في بيت حسان والبيت الذي بعده. وزعم أبو علي الشلوبين أنه لا يقع لمجرد الاستفهام عن النفي دون إنكار وتوبيخ، ورد على الجزولي إجازة ذلك. والصحيح أن ذلك جائز، ولكنه قليل، ومنه قول الشاعر: ألا اصطبار لسلمى أمْ لها جَلَد ... إذا أُلاقي الذي لاقاه أمثالي وإذا قصد بألا العرض فلا يليها إلا فعل ظاهر أو مقدر، أو معمول فعل مؤخر، فمن إيلائها فعلا ظاهرا قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) و:

(ألا تحبون أن يغفر الله لكم). ومن إيلائها معمول فعل مقدر قول الشاعر: ألا رجلا جزاه اللهُ خيرا ... يدل على مُحَصِّلة تَبِيت أراد: ألا تروني، وهذا تقدير الخليل، وجعله يونس مبنيا، وفتحته فتحة بناء، وتنوينه اضطرار. وإذا قصد بألا معنى التمني فهي عند المازني والمبرد كألا المقصود بها الإنكار والتوبيخ، أعني أن لها مع مصحوبها في التمني من تركيب وعمل وإلغاء ما كان للا مجردة من الهمزة. ومذهب سيبويه أن لها في التمني مع مصحوبها ما كان لها مجردة إلا أنها لا تلغى، ولا يعتبر في تابع اسمها معنى الابتداء كما لا يعتبر مع ليت، ومثال ووردها في تمن قول الشاعر: ألا عُمْرَ ولّى مستطاع رجوعُه ... فيرْأبَ ما أثْأت يد الغفلات فنصب يرأب لأنه جواب تمَن مقرون بالفاء. ويجوز إجراء "لا" مجرى ليس فيما لا يقصد به تمَن من مواضع إعمالها إن لم يقصد التنصيص على العموم بلفظ ما وليها، فعند ذلك لا يجوز إجراؤها مجرى ليس، لأنها إذا جرت مجرى ليس جاز أن يكون العموم مقصودا وغير مقصود.

باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر

باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر ص: الداخل عليهما كان، والممتنع دخولها عليهما، لاشتمال المبتدأ على الاستفهام، فتنصبهما مفعولين. ولا يحذفان معا أو أحدهما إلا بدليل، ولهما من التقديم والتأخير ما لهما مجردين، ولثانيهما من الأقسام والأحوال ما لخبر كان، فإن وقع موقعهما ظرف أو شبهه أو ضمير أو اسم إشارة امتنع الاقتصار عليه إن كان أحدهما، لا إن لم يكن ولم يعلم المحذوف. ش: أفعال هذا الباب هي النوع الثالث من نواسخ الابتداء، وأخر بابها لأن جزأي الإسناد فيه مستويان في النصب، كما هما في باب الابتداء مستويان في الرفع، فجعلا طرفين في الترتيب، واكتنفا بأبى كان وإن، لأن أحد الجزأين فيهما مرفوع والآخر منصوب فلم يفترقا. وقد تقدم بيان ما تدخل عليه كان وما لا تدخل عليه، فلذلك أحلت عليه، إلا أن مما لا تدخل عليه كان ما اشتمل من المبتدآت على استفهام نحو: أيهم أفضل؟ وغلام من عنده؟ فهذا النوع لا يمتنع دخول أفعال هذا الباب عليه كما امتنع دخول كان عليه، فلذلك قلت بعد الداخل عليهما كان والممتنع دخولها عليهما: لاشتمال المبتدأ على استفهام" فيقال في: أيهم أفضل؟ وغلام من عنده؟ أيهم ظننت أفضل؟ وغلام من ظننت عنده؟ ولا يحذف أحدهما إلا بدليل، لا يجوز لك في: ظننت زيدا منطلقا، أن تقتصر على منطلق، ولا على زيد، لئلا تذكر خبرا دون مخبر عنه، أو مخبرا عنه دون خبر. فإن دل دليل على المحذوف جاز الحذف. كقولك: قائما، لمن قال: ما ظننت زيدا؟ وزيدا، لمن قال: من ظننت قائما؟ قال عنترة:

ولقد نزلتِ فلا تظُنِّي غيره ... مني بمنزلة المُحَبِّ المكرم أي: فلا تظني غيره كائنا، وقال آخر: كأن لم يكنْ بين إذا كان بعده ... تلاقٍ ولكن لا إخال تلاقيا أي لا إخال الكائن تلاقيا، أو لا إخال بعد البين تلاقيا. ومن المحذوف لدليل قول الشاعر: وأنتِ غريمٌ لا أظن قضاءه ... ولا العَنَزِيُّ القارِظُ الدهرَ جائيا وقد يحذفان معا إن وجدت فائدة، كقوله تعالى: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون). وكقوله تعالى: (أعنده علم الغيب فهو يرى). وكقولهم: من يسمع يخل. وكقوله: بأيِّ كتابٍ أم بأيّةِ سُنّةٍ ... ترى حبَّهم عارا عليّ وتحسب فلو لم تقارن الحذف قرينة تحصل بسببها فائدة لم يجز الحذف، كاقتصارك على: أظن، من قولك: أظن زيدا منطلقا، فإنه غير جائز، فإن غرضك الإعلام بأن إدراكك لمضمون الجملة بظَنٍّ لا بيقين، فتنزل الظن من جملة الحديث منزلة: في ظني، فكما لا يجوز لمن قال: زيد منطلق في ظنِّي، أن يقتصر على: في ظنِّي، كذا لا يجوز لمن قال: أظن زيدا منطلقا، أن يقتصر على أظن. ولأن قائل: أظن أو أعلم دون قرينة تدل على تحدد ظن أو علم، بمنزلة قائل: النار حارة، في عدم الفائدة، إذ لا يخلو إنسان من ظن ما، ولا عِلْم ما. ومنع الاقتصار على أظن ونحوه

على الوجه المذكور هو مذهب سيبويه والمحققين ممن تدبر كلامه، كأبي الحسن بن خروف، ابن طاهر، وأبي علي الشلوبين. ومما يدل على ذلك من كلام سيبويه قوله في باب إضمار المفعولين اللذين تعدى إليهما فعل الفاعل: وذلك أن حسبت بمنزلة كان، إنما تدخلان على المبتدأ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال، ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي بعدهما، كما لا تقتصر عليه مبتدأ، فالمنصوبان بعد حسب بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان في احتياجهما إلى المرفوع والمنصوب فكما لا يقتصر على ليس وكان دون المرفوع والمنصوب، لا يقتصر على حسب ومرفوعها دون المنصوبين، وهذا واضح، ويؤيده قوله في آخر الباب الذي يلي الباب المشار إليه، بعد ذكر حسب وأخواتها: والأفعال الأُخر إنما هي بمنزلة اسم مبتدأ، والأسماء مبنية عليها، ألا ترى أنك تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبني على المبتدأ" يريد أنك تقتصر على ضربت، كما تقتصر على المبتدأ وخبره. ثم قال: فلما صارت حسب وأخواتها بتلك المنزلة جعلت بمنزلة إنّ وأخواتها إذا قلت: أني، ولعلي؛ لأن إن وأخواتها لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدها"، فجعل افتقار حسب وأخواتها مع فاعلها إلى الجزأين كافتقار إنّ ولعل ومع منصوبيها إلى الخبر، وهذا أيضا واضح، وفي هذا الكلام تسوية بين حسبت وأخواتها، فعلم أنه حين قال: لأنك قد تقول: ظننت فتقتصر، لم يقصد الإطلاق ولا الاختصاص، بل قصد التنبيه على أن بعض المواضع قد يقتصر فيه على الفعل ومرفوعه لقرينة تحصل بها الفائدة، واكتفى بظننت اختصارا واتكالا على العلم بمساواة غير ظننت بظننت. وذهب ابن السراج والسيرافي إلى جواز الاقتصار على مرفوع هذه الأفعال مطلقا، وكأن الذي دعاهما لهذا أن الأخفش قال في كتابه المسمى بالمسائل الصغرى: تقول: ضربَ عبد الله، وظن عبد الله، وأعلم عبد الله، إذا كنت تخبر عن الفعل" هذا نصه. والذي عندي في هذا أن الأخفش لم يقصد جواز الاقتصار مطلقا، بل

مع قرينة محصلة للفائدة، كقولك لمن قال: من ظنني ذاهبا؟ ظن عبد الله. ولمن قال: من أعلمك أني ذاهب؟ أعلم عبد الله. ولذلك قال: إذا كنت تخبر، فإن الناطق بما لا فائدة فيه ليس بمخبر. وأشرت بقولي: "ولهما من التقديم والتأخير ما لهما مجردين". إلى أن الأصل تقديم المفعول الأول وتأخير المفعول الثاني، وأنه قد يعرض ما يوجب البقاء على الأصل، وما يوجب الخروج عنه، كما يعرض في باب الابتداء، فإن لم يعرض موجب لأحد الأمرين جاز التقديم والتأخير. فمن موجبات البقاء على الأصل تساويهما في تعريف أو تنكير نحو: ظننت زيدا صديقك، وعلمت خيرا منك فقيرًا إليك. ومن موجبات الخروج عن الأصل حصر المفعول الثاني نحو: ما ظننت زيدا إلا بخيلا. وقد بينت أسباب البقاء على الأصل والخروج عنه في باب الابتداء مستوفاة، فأغنى ذلك عن استيفائها هنا، واكتفى بالإحالة عليها. ثم قلت: "ولثانيهما من الأقسام والأحوال ما لخبر كان" أي لثاني مفعولي هذه الأفعال من ذلك ما لخبر كان، وإنما كان له ما قرر كذلك لتساويهما في الخبرية واستحقاق النصب. وقد ذكرت الأقسام والأحوال هناك، فلم تكن هنا حاجة إلى ذكرها. وقد يقع بعد إسناد هذه الأفعال إلى فاعلها ظرف أو جار ومجرور أو ضمير أو اسم إشارة، فيمتنع الاقتصار عليه، إن كان أحد المفعولين لا إن لم يكن أحدهما، فالاقتصار على "عندك" إذا قلت: ظننت عندك، جائز إن جعل ظرفا لحصول الظن، وغير جائز إن جعل مفعولا ثانيا والآخر محذوف. والاقتصار على "لك" إذا قلت: ظننت لك، جائز إن جعل علة لحصول الظن، وغير جائز أن جعل مفعولا ثانيا والآخر محذوف. وكذا لو قلت: ظننته، أو ظننت ذاك مقتصرا، جاز إن عنى بالضمير واسم الإشارة المصدر، ولم يجز أن عنى أحد المفعولين ولم يفهم الآخر بدليل، كقول من قيل له: أظننته صديقك؟ نعم ظننته. وقال الفراء في: ظننته ذاك، ذاك إشارة إلى الحديث، أجرته العرب مجرى المفعولين، يقول القائل: كان من الأمر كذا كذا، فيقول المخبر: قد ظننت ذاك. قال ابن خروف: وهو قول لا بأس به. وقال أبو زيد في مصادره: خلت ذاك إخاله خالا. والأظهر أن يكون ذاك إشارة إلى الحديث لذكره المصدر بعد.

ص: وفائدة هذه الأفعال في الخبر ظَنٌّ أو يقين أو كلاهما، أو تحويل. فالأول: حَجا يحجو، لا لغَلَبة ولا قصد ولا ردٍّ ولا سوق ولولا كتْم ولا حِفْظ ولا إقامة ولا بُخْل. وعدَّ، لا لحسبان، وزَعَم، لا لكفالة ولا رياسة ولا سِمَن ولا هُزال. وجعل، لا لتصيير ولا إيجاد ولا إيجاب ولا ترتيب ولا مقاربة. وهَبْ غير متصرف. وللثاني: عَلِم، لا لعُلْمَة ولا عِرْفان. ووجد، لا لإصابة ولا استغناء ولا حزن ولا حِقْد. وألفى مرادفتها. ودرى لا لخَتْل، وتَعَلّمْ بمعنى اعلم غير متصرف. وللثالث: ظن، لا لتُهْمة. وحسب، لا للون. وخال يَخال، لا لِعُجْب ولا ظَلَع. ورأى، لا لإبصار ولا رأيٍ ولا ضرب. وللرابع: صَيّر وما رادفها من جعل، ووَهَب غير متصرف، ورَدّ، وتَرَك، وتَخِذ، واتَّخذ، وأكان. وألحقوا برأي العلمية الحُلمية، وسَمِع المعلقة بعين، ولا يخبر بعدها إلا بفعل دال على صوت، ولا تُلْحَق ضَرَب مع المَثل على الأصح، ولا عَرَف وأبْصَر خلافا لهشام، ولا أصاب وصادف وغادر خلافا لابن درستويه. ش: كل فعل لا يغني مرفوعه عن مخبر به صالح للتعريف والتنكير، أو جملة تقوم مقامه، فهو من باب كان. وكل فعل لا يغني منصوبه عن ثان مخبر به صالح للتعريف والتنكير، أو جملة تقوم مقامه، فهو من باب ظن. ويميز النوعين وقوعُ ثاني المعمولين بعد الضمير المسمى فصلا، أو اللام المسماة فارقة. فالوقوع بعد الفصل نحو: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق). و: (تجدوه عند الله هو خيرا). و: (وجعلنا ذريته هم الباقين) والوقوع بعد

اللام الفارقة نحو: (وإنْ كانت لكبيرة) و: (وإنْ كادوا ليفتنونك) و: (وإنْ وجدنا أكثرهم لفاسقين). وأفعال هذا الباب أربعة أنواع: نوع مختص بالظن، ونوع باليقين، ونوع صالح للظن وصالح لليقين، ونوع للتحويل من وصف إلى وصف. فمن الأول حجا كقوله: قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة ... حتى ألمت بنا يوما مُلِمّات أراد: قد كنت أظن، فعداه إلى مفعولين هما في الأصل مبتدأ وخبر كما يفعل بأظن. ولحجا استعمالان آخران هي في أحدهما متعدية إلى مفعول واحد، وفي الآخر لازمة، فالأول أن يكون بمعنى غلب في المحاجاة، وبمعنى قصد، وبمعنى رد، وبمعنى ساق، وبمعنى كتم، وبمعنى حفظ. والثاني أن يكون بمعنى أقام، وبمعنى بخل. ومن أخوات حجا الظنية عدّ لا بمعنى حسب، كقول الشاعر: فلا تَعْدُد المولى شريكَك في الغنى ... ولكنما المولى شريكُك في العُدم وكقول الآخر: لا أعُد الإقتار عُدْما ولكن ... فَقْدُ مَنْ قد فقدتُه الإعدام ومن أخوات حجا الظنية زعم الاعتقادية، كقول الشاعر: فإن تَزْعُميني كنتُ أجهلُ فيكم ... فإني شَرَيْت الحلمَ بعدك بالجهل

ومصدر زعم هذه: زَعْم وزُعْم وزِعْم، ويقال زعم بمعنى كفل، وبمعنى رأس فيتعدى إلى مفعول واحد مرة وبحرف جر مرة أخرى. ويقال: زعمت الشاة بمعنى سمنت، وبمعنى هزلت فلا يتعدى. ومن أخوات حجا الظنية جعل الاعتقادية كقوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) أي: اعتقدوهم. وهذه غير التي للتصيير وسيأتي ذكرها، وغير التي بمعنى أوجد كقوله تعالى: (وجعل الظلمات والنورَ) وغير التي بمعنى أوجب كقولهم: جعلت للعامل كذا، وغير التي بمعنى ألقى كجعلت بعض متاعي على بعض، وغير التي للمقاربة وقد ذكرت في بابها. ومن أخوات حجا الظنية هَبْ كقول الشاعر: فقلت أجِرْني أبا خالد ... وإلا فَهَبْني أمرأ هالكا ومن النوع الثاني علم كقول الشاعر: علمتك الباذل المعروف فانبعثت ... إليك بي واجفاتُ الشوق والأمل واحترزت بقولي: لا لعُلْمة ولا عرفان، من عَلِم عُلْمَة فهو أعلم أي مشقوق الشفة العليا، ومن عَلِم الموافق عرف نحو: "لا يعلمون شيئا". ومن أخوات علم ذات المفعولين وَجَد نحو: (تجدوه عند الله هو خيرا) وكقول الشاعر: فلما بلغْنا الأمهاتِ وجدتُمُ ... بني عمِّكم كانوا كرامَ المضاجع

ومصدرها وِجدان عن ابن برهان عن الأخفش، ووُجود عن السيرافي. ولوجد استعمالان آخران، هي في أحدهما ذات مفعول، وفي الآخر لازمة، فالأول: بمعنى أصاب، وكوجد فلان ضالته وجدانا ووجودا. والثانية بمعنى استغنى ومصدرها وَجْد ووُجْد وجِدَة، وبمعنى غضب ومصدرها مَوْجدة، وبمعنى حزن ومصدرها وَجْد. ومثل وجد ذات المفعولين ألفى مرادفتها، كقول الشاعر: قد جرّبوه فألَوْه المغيث إذا ... ما الرَّوْعُ عمَّ فلا يُلْوَى على أحد وكقول الآخر: إذا أنتِ أُعْطِيت الغنى ثم لم تَجُد ... بفضلِ الغنى أُلْفِيت مالك حامدُ ومن ذوات المفعولين درى بمعنى علم كقول الشاعر: دُرِيت الوفيَّ العهد يا عُرْوَ فاغتبط ... فإن اغتباطا بالوفاء حميدُ وأكثر ما تستعمل معداة بالباء كقولك: دريت به، فإذا دخلت عليها همزة النقل، تعدت إلى واحدٍ بنفسها، وإلى الثاني بالباء، كقوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تَلَوْتُه عليكم ولا أدراكم به) ويقال: درى الذئب الصيد إذا استخفى له ليفترسه، فتتعدى إلى مفعول واحد، وإليه أشرت بقولي: لا لختل. ومن أخوات علم ذات المفعولين تَعَلَّمْ بمعنى اعلم، ولم يستعمل لها ماض ولا مضارع، والمشهور إعمالها في أنّ كقول الشاعر: تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا ... على مُتَطَيِّر وهي الثُّبورُ

وقد نصبت مفعولين في قول الآخر: تَعَلّمْ شِفاءَ النفس قَهْرَ عَدُوِّها ... فبالغ بلُطف في التَّحَيُّلِ والمكر ومن النوع الثالث ظن وحسب وخال، واستعمالها في غير متيقن مشهور، كقوله تعالى: (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) وكقوله تعالى: (ويحسبون أنهم على شيء) وكقول الشاعر: ظننتك إنْ شُبَّتْ لظى الحرب صاليا ... فَعَرَّدتَ فيمن كان عنها مُعَرِّدا وكقول الآخر: وكنّا حسبنا كلّ بيضاءَ شَحْمةً ... ليالي لاقينا جُذامَ وحِمْيرا وكقول الآخر: إخالك إنْ لم تَغْضضِ الطَرْفَ ذا هوى ... يَسُومُك ما لا تستطيع من الوجد والمصدر من حسب حُسبان، ومن خال خَيْلا وخالا وخِيلة ومَخالة وخَيَلانا وخيلانا. وتستعمل ظن في المتيقن كثيرا، كقوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربِّهم) ويقل ذلك في حسب وخال، كقول الشاعر:

حسبت التُقى والمجدَ خيرَ تجارة ... رباحًا إذا ما المرء أصبح ثاقلا ومثله: شهدتُ وفاتوني وكنت حسبتني ... فقيرا إلى أن يشهدوا وتغييبي ومثال ذلك في خال قول الشاعر: دعاني الغواني عمهن وخِلْتُني ... لي اسمٌ فلا أدعى به وهو أول ومثله: ما خِلتُني زلتُ بعدكم ضَمِنا ... أشكو إليكم خُمُوَّة الألم أراد: ما زلت بعدكم ضمنا خلتني كذلك. وإن أريد بظن معنى اتهم تعدت إلى واحد. ويقال: حسبَ الرجل إذا حمّر لونه وابيض كالبرص، وكذا إذا كان ذا شُقْرة، فذا فعل لازم، وكذا خال بمعنى تكبر، والفرس ظَلَع، والمضارع منهما ومن المتعدي إلى اثنين يَخال، ومن أجل هذه قلت: لا لتهمة ولا للون ولا لعجب ولا ظلع. ومن المستعمل للظن واليقين رأى، كقوله تعالى: (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) أي يظنونه ونعلمه، وأنشد أبو زيد: تَقُوه أيها الفتيان إني ... رأيت الله قد غلب الجدودا رأيتُ الله أكبرَ كل شيء ... محاولةً وأكثرهم جنودا ويقال: رأيت الشيء بمعنى أبصرته، ورأيت رأى فلان بمعنى اعتقدته، ورأيت الصيد بمعنى أصبته في رئته، فهذه متعدية إلى واحد. وإليها أشرت بقولي: "لا لإبصار ولا رأي ولا ضرب".

والنوع الرابع صير وأصار وما وافقهما، كجعل في قوله تعالى: (فجعلناه هباء منثورا) ووهب في قولهم: وهبني الله فداءك، أي جعلني، ذكره الأزهري عن ابن الأعرابي. وردّ كقوله تعالى: (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا). وكقول الشاعر: رمى الحِدْثانُ نِسْوة آل سعد ... بمِقْدار سَمَدْنَ له سُمودا فرد شُعُورهن السود بيضا ... وردَّ وجوههن البيض سودا وترك كقول الشاعر: وربّيْتُه حتى إذا ما تركتُه ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربُه وتخذ كقوله تعالى: (لتخذتَ عليه أجرا) وكقول الشاعر: تَخِذتُ غُراز إثْرَهم دليلا ... وقَرُّوا في الحجاز ليُعْجزوني واتخذ كقوله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) وقوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدُوّ فاتَّخذوه عدوّا) قال ابن برهان: ذهب أبو علي في قوله

تعالى: (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) وقوله تعالى: (لو أردنا أن نتَّخِذ لهوا) ونحوهما، إلى أن اتخذ في جميعه متعد إلى واحد، قال: وتعدى إلى اثنين في: (اتَّخذوا أيمانَهم جُنَّة) و: (لا تتخذوا عَدُوّي وعدوَّكم أولياء) ونحوهما. قال ابن برهان: يقال لأبي علي: ألم تقل في قوله تعالى: (اتخذوه وكانوا ظالمين) إن التقدير: اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني للدليل، فكذا التقدير في "اتخذت بيتا" اتخذت من نسجِاه بيتا، وفي: "أن نَتخذ لهوا" لو أردنا أن نتخذ شيئا لهوا. ولا أعلم اتخذ إلا يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بمعنى الأول. وألحق ابن أفلح بأصار أكان المنقولة من كان بمعنى صار، وما حكم به جائز قياسا، لكني لا أعلمه مسموعا. وقد ألحقت العرب رأي الحُلمية برأي العلمية فأدخلتها على المبتدأ والخبر ونصبتهما مفعولين، ومنه قول الشاعر: يُؤَرِّقُني أبو حَنَش وطَلْقٌ ... وعمّارٌ وآوِنةً أُثالا أراهم رُفْقَتي حتى إذا ما ... تَفَرّى الليل وانخزل انخزالا إذا أنا كالذي أجرى لورد ... إلى آل فلم يدرك بلالا فنصب بها اسمين معرفتين هما مبتدأ وخبر في الأصل، كما يفعل برأى بمعنى علم وبمعنى ظن.

ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى: (إني أراني أعصر خمرا) فأعمل مضارع رأى الحلمية في ضميرين متصلين بمسمى واحد، وذلك مما يختص به علم ذات المفعولين وما جرى مجراها. وألحق الأخفش والفارسي بعلم ذات المفعولين سمع الواقعة على اسم عين، ولا يكون ثاني مفعوليها إلا فعلا يدل على صوت، كقوله تعالى: (سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) ويجوز حذفه إن علم كقوله تعالى: (هل يسمعونكم إذ تَدْعون) أي: هل يسمعونكم تدعون إذ تدعون؟ ويجوز أن يكون مما حذف فيه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيكون التقدير: هل يسمعون دعاءكم؟ ولا يقال على هذا الحذف بلا دليل نحو أن يقال: سمعت زيدا، على تقدير: سمعت دعاء زيد، إذ ليس تقدير الدعاء بأولى من تقدير غيره. فلو وجد دليل على تعيين المحذوف كما في الآية حسن الحذف. وقد تضمن سمع معنى أصغى فتتعدى تعديته، نحو: (لا يَسَّمَّعُون إلى الملأ الأعلى). ومعنى استجاب فيعدى تعديته، نحو: سمع الله لمن حمده. فإن وقعت سمع على اسم ما يسمع لم تتعد إلا إليه نحو: (إنْ تدعُوهم لا يسمعوا دعاءكم) و: (يوم يسمعون الصيحة بالحق) ومن هذا القبيل قول الشاعر: سمعتُ الناس ينتجعون غَيْثا ... فقلت لصيدَحَ انتجعي بلالا لأنه أراد: سمعت هذا الكلام.

وألحق قوم بأفعال هذا الباب ضرب المتعلقة بالمثل، والصواب أن لا تلحق بها لقوله تعالى: (ضُرِبَ مثلٌ فاستمعوا له) فبنى ضرب المذكورة لما لم يسم فاعله واكتفت بمرفوعها، ولا يفعل ذلك بشيء من أفعال هذا الباب. وألحق هشام الكوفي عرف وأبصر، وألحق ابن درستويه أصاب وصادف وغادر، ولا دليل على شيء من ذلك، فلا يلتفت إليه. ص: وتسمى المتقدمة على صيّر قلبية، وتختص متصرفاتها بقبح الإلغاء في نحو: ظننت زيدٌ قائمٌ، وبضعفه في نحو: متى ظننت زيدٌ قائمٌ. وزيدٌ أظنُّ أبوه قائم. وبجوازه بلا قبح ولا ضعف في نحو: زيد قائم ظننت، زيد ظننت قائم، وتقدير ضمير الشأن أو اللام المعلّقة في نحو: ظننت زيدٌ قائمٌ، أولى من الإلغاء. وقد يقع المُلْغى بين معمولي "إنّ" وبين سوف ومصحوبها، وبين معطوف ومعطوف عليه، وإلغاء ما بين الفعل ومرفوعه جائز لا واجب خلافا للكوفيين، وتوكيد الملغى بمصدر منصوب قبيح، وبمضاف إلى الياء ضعيف، وبضمير أو اسم إشارة أقل ضعفا. وتؤكد الجملة بمصدر الفعل بدلا من لفظه منصوبا فيلغى وجوبا، ويقبح تقديمه، ويقل القبح في نحو: متى ظنَّك زيد ذاهب؟ وإن جُعِل متى خبرا لظن رُفِع وعمل وجوبا. وأجاز الأخفش والفراء إعمال المنصوب في الأمر والاستفهام. ش: المتقدمة على صير: رأى وحجا وما بينهما، وجملتها أربعة عشر فعلا، وسميت قلبية لقيام معانيها بالقلب، وقد نبهت على أن هَبْ وتَعَلَّمْ غير متصرفين، فإذا خص جواز الإلغاء بمتصرفاتها، علم أن هب وتعلم لا يلغيان، ولا يلغى ما يلغى غالبا إلا متوسطا أو متأخرا، ومن الإلغاء مع التوسط قول الشاعر: أبالأراجيز يابنَ اللُّوْم تُوعدني ... وفي الأراجيزِ خِلتُ اللؤمُ والخور

كذا رواه سيبويه رائية، والمشهور من رواية غيره: وفي الأراجيز خلت اللؤم والفشل على أن القصيدة لامية، قال ابن برهان: قال اللعين المنقري: إني أنا ابنُ جَلا إن كنت تُنْكرني ... يا رؤبُ والحيةُ الصماءُ والجبلُ أبالأراجيز يابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيز خلت اللؤم والفشل ومن الإلغاء مع التأخير قول الشاعر: آتٍ الموتُ تعلمون فلا يُرْ ... هِبْكم مِنْ لظى الحروب اضطرامُ ومثله: هما سيدانا يَزْعُمان وإنما ... يَسُودانِنا إنْ يَسَّرَتْ غنماهما وحكم سيبويه بقبح إلغاء المتقدم نحو: ظننت زيدٌ قائمٌ، وبتقليل قبحه بعد معمول الخبر نحو: متى ظننت زيدٌ قائمٌ؟ وفي درجته الإلغاء في نحو: زيد أظن أبوه قائمٌ. وأجاز سيبويه أن يقال: أظن زيد قائم، على تقدير: أظن لزيد قائم، على التعليق لام الابتداء مقدرة، وعلى ذلك حمل قول الشاعر: وإخال إنِّيَ لاحقٌ مستَتْبَع فالكسر على تقدير: إني للاحق. ويجوز أن يحمل ما جاء من هذا على تقدير ضمير الشأن مفعولا أول، وما بعده في موضع المفعول الثاني. فيكون هذا نظير قول بعض العرب: إن بك زيدٌ مأخوذ، على تقدير: إنه بك زيد مأخوذ. ومما ينبغي أن يحمل على هذا قول كعب بن زهير رحم الله كعبا: أرجو وآمُل أن تدنو مَوَدَّتُها ... وما إخال لدينا منك تنويلُ التقدير: وما إخاله لدينا منك تنويل.

ومثال وقوع الملغى بين معمولي إنّ قول الشاعر: إنّ المحب علمت مصطبر ... ولديه ذنبث الحبِّ مُغْتَفَرُ وقد تقع بين سوف ومصحوبها كقول الشاعر: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ وقد تقع بين معطوف ومعطوف عليه، كقول الشاعر: فما جنّةَ الفردوسِ أقبلت تبتغي ... ولكن دعاك الخبزُ أحسب والتمرُ وزعم الكوفيون أن إلغاء ما وقع من أفعال هذا الباب بين فعل ومرفوعه واجب، فلا يجوز عندهم نصب زيد في قولك: قام أظن زيدٌ، ويقوم أظن زيدٌ. والصحيح جواز النصب والرفع، فإذا نصبت فالفعل المتقدم مفعول ثان، وإذا رفعت فظاهر، وينشد بالنصب والرفع قول الشاعر: شجاك أظنُّ رَبْعُ الظاعنينا ... ولم تَعْبأ بعذل العاذلينا ويقبح توكيد الملغى بمصدر صريح، نحو: زيد ظننت ظنا منطلقٌ، ويزيل بعض القبح عدمُ ظهور النصب نحو: زيد ظننت ظني منطلقٌ، ويكتسي بعض الحسن بكون المصدر ضميرا أو اسم إشارة نحو: زيد ظننته أو ظننت ذاك منطلق. وقد ينوب عن الفعل مصدرُه منتصبا انتصاب المصدر المؤكد للجمل، فيجب إلغاؤه نحو: زيد منطلق ظنَّك، أو زيد ظنَّك منطلق، ويقبح تقديمه لأن ناصبه فعل يدل عليه الجملة، فقبح تقديمه، كما قبح تقديم حقا من قولك: زيد قائم حقا، ولذلك لم يعمل، لأنه لو عمل وهو مؤكد لاستحق التقديم بالعمل، والتأخير بالتأكيد، واستحقاق شيئين تقديما وتأخيرا في حال واحد محال، وكما قل القبح في تقديم: متى

تظن زيدٌ ذاهبٌ، يقل في: متى ظنك زيد ذاهب. فإن جعلت متى خبرا، وظنك مبتدأ، رفعته ووجب إعماله. وأجاز الأخفش والفراء النصب والإعمال في الأمر والاستفهام، لأنهما يطلبان الفعل مطلقا نحو: ظنّك زيدا منطلقا، ومتى ظنَّك زيدا منطلقا، بمعنى ظُنّ ظنّك زيدا منطلقا، ومتى ظننت ظنَّك زيدا منطلقا؟ ص: وتختص أيضا القلبية المتصرفة بتعديها معنًى لا لفظا إلى ذي استفهام أو مضاف إليه، أو تالي لام الابتداء، أو القسم، أو "ما" أو "إن" النافيتين، أو "لا" ويسمى تعليقا، ويشاركهن فيه مع الاستفهام نظر وأبصر وتفكَّر وسأل وما وافقهن أو قاربهن، لا ما لم يقاربهن خلافا ليونس، وقد تعلق نسى. ونصب مفعول نحو: علمت زيدا أبو مَنْ هو، أولى من رفعه، ورفعه ممتنع بعد: أرأيت، بمعنى أخبرني. وللاسم المستفهم به والمضاف إليه مما بعدهما ما لهما دون الأفعال المذكورة. ش: التعليق عبارة عن إبطال العمل لفظا لا محلا على سبيل الوجوب، بخلاف الإلغاء فهو إبطاله لفظا ومحلا على سبيل الجواز، ولا يكونان إلا في فعل قلبي متصرف، وقد ألحق في التعليق بالقلبية ما يأتي ذكره. وسبب التعليق كون المعمول تالي استفهام أو متضمنا معناه، أو مضافا إلى مُضَمَّنه، أو تالي لام الابتداء أو القسم أو ما أو إن النافيتين أولا، نحو: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) و: (ولتعلَمُنَّ أيُّنا أشدُّ عذابا) ونحو: علمت غلام من أنت. و: (ولقد علموا لَمَن اشتراه) وكقول الشاعر: ولقد علمتُ لتأتِيَنَّ مَنِيَّتي ... إنّ المنايا لا تطيشُ سهامُها

وكقول الآخر: وقد علم الأقوامُ لو أن حاتما ... يريدُ ثراء المال أمسى له وفرُ وكقوله تعالى: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) وكقوله تعالى: (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) ومن أمثلة ابن السراج: أحسب لا يقوم زيد. وسمى الإبطال على ذلك الوجه تعليقا لأنه إبطال في اللفظ مع تعليق العامل بالمحل وتقدير إعماله فيه، ويظهر ذلك في المعطوف نحو: علمت لزيدٌ صديقك وغيرَ ذلك من أمورك. وعلق أيضا مع الاستفهام نَظَر بالعين أو القلب، وأبصر، وتفكر، وسأل، نحو: (فلينظر أيُّها أزكى طعاما) و: (فانظري ماذا تأمرين) و: (فستبصر ويبصرون بأيِّكم المفتون) و: (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) وكقول الشاعر: حُزُقٌّ إذا ما القوم أبْدَوْا فُكاهة ... تَفَكّر آإياه يَعْنُون أم قِرْدا وكقوله تعالى: (يسألون أيانَ يومُ الدين). وأشرت بما وافقهن إلى نحو: أما ترى أيُّ برق ههنا؟ بمعنى: أما تبصر،

حكاه سيبويه. وإلى نحو: (ويستنبئونك أحق هو) وأشرت بما قاربهن إلى نحو: (لنبلوهم أيهم أحسن عملا). وأجاز يونس تعليق ما لم يوافقهن ولم يقاربهن، وجعل من ذلك قوله تعالى: (ثم لننزِعَنّ من كل شيعة أيُّهم أشد) فضمة الياء عنده ضمة إعراب، وعند سيبويه ضمة بناء، وأي موصولة. وقد مضى ذلك. وعلق نسى لأنه ضد علم، والضد قد يحمل على الضد، ومنه قول الشاعر: ومَنْ أنتمُ إنا نسينا من انتمُ ... وريحكمُ من أيِّ ريح الأعاصر ومثله قول الشاعر على أحد الوجهين: لم أرَ مثل الفِتْيان في غَبَن الـ ... .ـــــأيَّام ينْسَوْن ما عواقبُها وإن تقدم على الاستفهام أحد المفعولين نحو: علمت زيدا أبو مَنْ هو، اختير نصبه، لأن العامل متسلط عليه بلا مانع، ويجوز رفعه لأنه والذي بعد الاستفهام شيء واحد في المعنى، فكأنه في حيز الاستفهام، والاستفهام مشتمل عليه، وهو نظير قولهم: إنّ أحدا لا يقول ذلك، وأحدٌ هذا لا يقع إلا بعد نفي، ولكن لما كان هنا هو والمضمر المرفوع بالقول المنفي شيئا واحدا في المعنى، فتنزل بمنزلة واقع بعد النفي، ومثله قول الشاعر: ولو سُئِلت عني نوار وأهلها ... إذا أحد لم ينطق الشفتان

ومثال: علمت زيدٌ أبو مَنْ هو، بالرفع، قول الشاعر: فوالله ما أدرى غريمٌ لويته ... أيشتدُّ إن قاضاكِ أم يتضرع الرواية: غريم بالرفع لما ذكرته، ولو نصب لكان أجود. فلو كان الاسم المتقدم على الاستفهام بعد أرأيت بمعنى أخبرني تعين نصبه نحو: أرأيت زيدا أبو مَنْ هو؟ لأنه بمعنى ما لا يُعَلق. قال أبو علي في التذكرة: أنبأ ونَبّأ ضمنا معنى أعلم فيوافقانه، ولا يمتنع بعد التضمين تَعديتهما بحرف الجر على الأصل، كما لا تمتنع الحكاية بمعنى تقول، وكما لا يمتنع أرأيت بمعنى أخبرني عن نصب مفعولين، لكن منع من التعليق، لا تقول: أرأيت زيدا أبو من هو، لأنه بمعنى أخبرني، فحفظ له من الحكمين أقواهما وهو الإعمال، فتقول: علمت أيَّ يوم زيدٌ قادم، فتنصب أيّ يوم بقادم على الظرفية، كما كنت تفعل لو لم تذكر علمت، لأن الاستفهام وما في حيزه في حكم المستأنف. وكذا تقول: علمت غلامَ من ضربت، فتنصب غلام من بضربت، لأن المضاف إلى المستفهم به مساو له في استحقاق التصدير، وتسلط ما بعده عليه. وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي: "وللاسم المستفهم به والمضاف إليه مما بعدهما ما لهما دون الأفعال المذكورة" ومنه قوله تعالى: (وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون) فنصب ينقلبون "أي منقلب" بعد سيعلم، كما ينصبه لو لم يكن بعده. ص: والجملة بعد المعلَّق في موضع نصب بإسقاط حرف الجر إن تعدى به، وفي موضع مفعوله إن تعدى إلى واحد، وسادة مسد مفعوليه إن تعدى إلى اثنين، وبدل من المتوسط بينه وبينها إن تعدى إلى واحد، وفي موضع الثاني إن تعدى إلى اثنين ووجد الأول.

ش: مثال الكائنة في موضع نصب بإسقاط حرف الجر: (فلينظر أيُّها أزكى طعاما) ومثال الكائنة في موضع مفعول به ما يتعدى إلى مفعول واحد: أما ترى أيُّ برق ههنا. ومثال السادة مسد مفعولي ما يتعدى إلى اثنين: (ولتعلمن أيُّنا أشدُّ عذابا وأبقى) ومثال الواقعة بدلا من المتوسط بينها وبين المتعدي إلى واحد: عرفت زيدا أبو من هو. ومثال الكائنة في موضع ثاني مفعولي ما يتعدى إلى اثنين: علمت زيدا أبو من هو. ص: وتختص القلبية المتصرفة، ورأى الحُلْمية والبصرية بجواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متصلين متحدي المعنى، وقد يعامل بذلك عَدِم، وفَقَد. ويمتنع الاتحاد عموما إن أُضْمِر الفاعل متصلا مُفَسَّرا بالمفعول. ش: مما تختص به أفعال القلوب غير: هبْ، وتعلمْ، إعمالها في ضميرين متصلين لمسمى واحد، كعلمتُني فقيرا إلى العفو والرحمة، وظننتك مهملا، وكقوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) ولا يُجرى غيرها مجراها، فلا يقال: ظلمتُني، ولا ظلمَه، موضع: ظلمت نفسي، وظلم نفسه. وألحقت بأفعال القلوب في هذا الاستعمال رأي الحُلمية، كما ألحقت بها في نصب المبتدأ والخبر مفعولين، كقوله تعالى: (إني أراني أعصر خمرا) و: (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا) وفُعِل ذلك أيضا برأى البصرية، كقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا من طعام إلا الأسودان" ومنه قول قطرى:

لا يركنَنْ أحدٌ إلى الإحجامِ ... يوم الوغى مُتَخَوِّفا لِحمام فلقد أراني للرماح دريئةً ... من عن يميني تارة وأمامي وقال عنترة: فرأيتُنا ما بيننا من حاجز ... إلا المِجنُّ ونصلُ أبيضَ مِقْصَل وهذا في عدم وفقد شاذ، قال جران العود: لقد كان لي عن ضربتين عَدِمْتُني ... وعمّا ألاقي منهما متزحزح وقال آخر: ندمت على ما فات مني فقدتُني ... كما يندم المغبونث حين يبيع فلو اتحد مسمى الضميرين وأحدهما منفصل لم يخص اجتماعهما بفعل دون فعل نحو: إياك ظلمتَ، وما ظلمتَ إلا إياك. فإن كان الفاعل ضميرا والمفعول ظاهرا واتحد المسمى حكم بالمنع مطلقا نحو: زيدا ظنّ ناجيا، وزيدا ضرب، تريد: ظنَّ نفسه، وضرب نفسه، فأضمرت الفاعل وفسرته بالمفعول. وإلى هذا أشرت بقولي: "ويمنع الاتحاد عموما إن أضمر الفاعل متصلا مفسرا بالمفعول" فلو انفصل الضمير جاز الاتحاد مطلقا نحو: ما ظنَّ زيدا ناجيا إلا هو، وما ظن زيدٌ ناجيا إلا إياه، وما ضَرَب زيدا إلا هو، وما ضرب زيدٌ إلا إياه. فصل: ص: يحكى بالقول وفروعه الجُمَل، وينصب به المفرد المؤدي معناها، والمراد به مجرد اللفظ، وإلحاقه في العمل بالظن مطلقا لُغة سُلَيم، ويَخُص أكثرُ العرب هذا الإلحاق بمضارع الحاضر المخاطب، بعد استفهام متصل أو منفصل بظرف أو جار ومجرور، أو أحد المفعولين، فإن عُدِم شرط رُجع إلى الحكاية ويجوز إن لم يعدم.

ش: المراد بالقول نفس المصدر وحكاية الجملة به، كقوله تعالى: (وإن تَعْجَب فعَجبٌ قولهم: أئذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد) والمراد بفروعه الفعل الماضي وفعل الأمر والفعل المضارع واسم الفاعل واسم المفعول، لأنها كلها مشتقة من المصدر على الأصح، فكلها فروعه، وحكاية الجملة بالماضي كقوله تعالى: (وقالوا: سمعنا وأطعنا) وحكايتها بالأمر كقوله تعالى: (قولوا: آمنا بالله) وحكايتها بالمضارع كقوله تعالى: (يقولون: ربَّنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) وحكايتها باسم الفاعل كقوله تعالى: (قد يعلمُ الله المعوِّقين منكم والقائلين لإخوانهم: هَلُمَّ إلينا) وحكايتها باسم المفعول كقول الشاعر: نَواصَوْا بحُكْم الجود حتى عبيدُهم ... مَقُول لديهم: لا زكا مالُ ذي بُخل وينصب بالقول وفرعه المفرد الذي هو جملة في المعنى، كالحديث والقصة والشعر والخطبة. فيقال: قلت حديثا، وأقول قصة، وهذا قائل شعرا وخطبة. وينصب أيضا بالقول وفروعه المفرد المراد به مجرد اللفظ، كقولك: قلت كلمة، ومن ذلك قوله تعالى: (سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) أي يطلق عليه هذا الاسم. ولو كان يقال مسمى الفاعل لنصب إبراهيم. وممن اختار هذا الوجه صاحب الكشاف ورجحه على قول من قال: التقدير: يقال له: هذا إبراهيم، أو يقال له: يا إبراهيم. ومن إعمال القول في المفرد المراد به مجرد اللفظ قول أبي القاسم الزجاج في

الجمل: وإنما قلنا البعض والكل. قال ابن خروف: ونصب الكل والبعض على تقدير: وإنما قلنا هاتين الكلمتين، لأنك تقول: قلت كلمة، كما تقول: "قلت قولا. والقول يقع على ما يفيد وعلى ما لا يفيد" انتهى كلامه. قال الشيخ رحمه الله: وبنو سليم يجرون القول وفروعه مُجْرى الظن وفروعه في نصب المبتدأ والخبر، وفتح أنّ الواقعة بعده، فمن نصب المبتدأ والخبر على لغة بني سليم قول الراجز: قالت وكنتُ رجلا فطينا ... هذا لعمر الله إسرائينا فنصب إسرائين بقالت مفعولا ثانيا، وجعل هذا مفعولا أول، وإسرائين لغة في إسرائيل. ومن فتح أنّ بعد القول على لغة سليم قول الشاعر: إذا قلت أني آيب أهلَ بلدة ... وضعت بها عنه الوّلِيّة بالهَجْر هكذا أنشده أبو علي في التذكرة بالفتح على ما ذكرت لك. وهذا الاستعمال عند غير بني سليم لا يكون إلا في المضارع، المسند إلى المخاطب، مقصودا به الحال، بعد استفهام متصل، نحو قول الراجز: متى تقولُ القُلُص الرَّواسِما ... يَحْمِلن أمَّ قاسم وقاسما ومثله قول عمرو بن معد يكرب: علام تقول الرمحَ يُثْقِل عاتقي ... إذا أنا لم أطعُن إذا الخيل كرّت فلو انفصل الاستفهام بأنت ونحوه بطل الإلحاق ورجع إلى الحكاية، نحو: أأنت تقول: زيدٌ منطلق؟ فلو كان الفصل بظرف أو جار ومجرور لم يبطل الإلحاق،

كقول الشاعر: أبَعْدَ بُعْد تقول الدارَ جامعةً ... شملى بهم أم دوام البعد محتوما وكذا الفصل بأحد المفعولين مغتفر أيضا، كقول الشاعر: أجُهّالا تقولُ بني لُؤَيٍّ ... لعَمْر أبيك أم متجاهلينا والحكاية جائزة مع استيفاء شروط الإلحاق لأنها الأصل، ولذلك ينشد بيت عمرو بن معد يكرب الذي سبق بنصب الرمح ورفعه، فمن نصب فعلى الإلحاق، ومن رفع فعلى الحكاية. ص: ولا يُلْحَق في الحكاية بالقول ما في معناه، بل ينوى معه القول خلافا للكوفيين، وقد يضاف قولٌ وقائلٌ إلى الكلام المحكي، وقد يغني القول في صلةٍ وغيرها عن المحكي لظهوره، والعكس كثير. وإن تعلق بالقول مفرد لا يؤدي معنى جملة، ولا يراد به مجردُ اللفظ، حُكِيَ مُقَدّرا معه ما هو به جملة، وكذا إن تعلق بغير القول. ش: المراد بما في معنى القول النداء والدعاء ونحوهما، فإذا جاء بعد شيء منهما مقول ففيه مذهبان: أحدهما: أن يقدّر قول يكون به المقول محكيا. والآخر: أن يحكى المقول بما قبله إجراء له مجرى القول دون حاجة إلى تقدير، وهو قول الكوفيين، والأول قول البصريين وهو الصحيح، لأن حذف القول استغناء عنه بالمقول مجمع عليه في غير محل النزاع، كقوله تعالى: (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) أي فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم، فحذف القول لدلالة المعنى عليه، فحذفه في محل النزاع أولى: لأنه مدلول عليه بدلالتين: معنوية ولفظية، وأيضا بقاء المحكي وحذف القول نظير بقاء المفعول وحذف الفعل، وذلك في الكلام

كثير، فيلحق به النظير. وأيضا قد جاء بعد النداء وشبه ما نحن بصدده القول مصرحا به، فدل ذلك على صحة التقدير عند عدم التصريح. فمن مواضع التقدير قوله تعالى: (ونادى نوح ابنه وكان في مَعْزِل: يا بني اركب معنا) وقوله تعالى: (فأوحى إليهم ربُّهم: لنُهْلِكنَّ الظالمين) وقوله تعالى: (دعَوُا الله مخلصين له الدين: لئن أنجتنا من هذه لنكونَنّ من الشاكرين) وقوله تعالى: (ونادَوْا يا مالك: ليقض علينا ربك) ومنه قول الراجز أنشده الفراء: إني سأُبْدي لك فيما أبدي ... لك شجَنان شَجَنٌ في نجد ... وشجن لي في بلاد الهند ومن مواضع التصريح قوله تعالى: (ونادى أصحابُ الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا: ما أغنى عنكم جمعكم) وقوله تعالى: (ونادى نوح ربه، فقال: ربِّ انّ ابني من أهلي) وقوله تعالى: (إذ نادى ربه نداء خفيا، قال: رب إني وهن العظم مني). ومثال إضافة قول وقائل إلى الكلام المحكي قول الشاعر: قَوْلُ يا لَلرِّجال ينهض منا ... مسرعين الكهولَ والشُّبَّانا وقول الآخر:

وأجبتُ قائلَ كيف أنتَ بصالحٌ ... حتى مللتُ ومَلَّني عُوَّادي ينشد بخفض صالح ورفعه، فمن خفضه فظاهر، ومن رفع فعلى تقدير: بقول أنا صالح، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو: أنا صالح، ثم حذف صدر الجملة وبقى عجزها. ومثال إغناء القول عن المحكي قول الشاعر: لنحن الألى قلتم فأنّى ملئتم ... برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا أراد: نحن الذين قلتم تقاتلونهم، فاستغنى بالقول وحذف المحكي لدلالة ما بعده عليه، ولو فعل ذلك بغير صلة لجاز، كقولك: أنا قال زيد، ولو رآني لفر، تريد: أنا قال زيد يغلبني، ولو رآني لفر. ومن الاستغناء في الصلة بالقول عن المحكي قول الشاعر: لِمَ يا عمرو لم تَعُد بالذي قلـ ... ــــت فتلقاه إذ خذلت نصيرا وأما الاستغناء بالمحكي عن القول فكثير، وقد تقدمت الإشارة إليه بقوله تعالى: (فأمّا الذين اسودت وجوههم: أكفرتم) ومثله: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم) ومثله: (والذين اتخذوا من دونه أولياء: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي يقولون: ما نعبدهم، وإلى نحو هذا أشرت بقولي: والعكس كثير. وقد تقدم التنبيه على أن المفرد ينتصب بالقول وفروعه في موضعين، أحدهما: إذا كان بمعنى جملة كقلت حديثا. والثاني: إذا أريد به مجرد اللفظ كقلت لزيد عمرا، بمعنى أطلقت عمرا على المسمى بزيد. فإن علق بالقول مفرد بخلاف ذينك

فهو جزء جملة، فإما أن ينصب بفعل مقدر، وإما أن يرفع مبتدأ، ويجعل الخبر محذوفا، كقوله تعالى: (قالوا سلاما، قال سلام) فتقدير الأول: سلمنا سلاما. وتقدير الثاني: عليكم سلام. ويجوز في العربية رفعهما، ونصبهما، ورفع الأول ونصب الثاني، قال الشاعر: مررنا فقلنا إيهِ سلْمٌ فسَلّمت ... كما اكْتَلَّ بالبرق الغمامُ اللوائح ولو تعلق المفرد الذي هو في التقدير بعض الجملة بغير القول ونوى تمام الجملة، لجيء به أيضا محكيا، كقولك قاصدَ محمدٍ منقوش على خاتم: قرأت محمدٌ، لأن مراد الناقش: صاحبه محمد، أو نحو ذلك، فإذا أوقعت عليه أو غيره مراعيا للقصد الأول، فإنما تحكي مقصوده. ولو علقت به رافعا وهو منصوب لجئت به منصوبا، لأن الحكاية مستولية عليه وعلى ناصبه المنوي، ومنه قول الشاعر يصف دينارا نقش فيه اسم جعفر البرمكي منصوبا: وأصفرَ من ضربِ دار الملوك ... يلوحُ على وجهه جعفرا أراد الناقش: اذكر جعفرا، أو نحو ذلك. فأسند الشاعر يلوح إلى الجملة مراعيا لقصد الناقش. فصل: ص: تدخل همزةُ النقل على عَلِمَ ذات المفعولين، ورأى أختها، فينصبان ثلاثة مفاعيل، أولها الذي كان فاعلا، ويجوز حذفه والاقتصار عليه على الأصح، وللثاني والثالث بعد النقل ما لهما قبله مطلقا، خلافا لمن منع الإلغاء والتعليق. وألحق بهما سيبويه: نبّأ، وزاد غيره: أنبأ وخَبّر وأخبر وحدّث. وزاد الأخفش: أظن وأحسب وأخال وأزعم وأوجد. وألحق غيرهم أرى الحلمية سماعا. وما وضع للمفعول من ذي ثلاثة فحكمه حكم ظن إلا في الاقتصار على المرفوع.

ش: همزة النقل هي الداخلة على الثلاثي لتعديه إلى واحد إن كان دونها غير متعد، كجلس وأجلسه. ولتعديه إلى اثنين إن كان دونها متعديا إلى واحد، كلبست ثوبا، وألبسني إياه. ولتعديه إلى ثلاثة إن كان دونها متعديا إلى اثنين، كعَلِم زيد عمرا فاضلا، وأعلمته إياه فاضلا. فأول الثلاثة هو الذي كان فاعلا قبل النقل، والثاني والثالث هما اللذان كانا قبله أولا وثانيا، فلأول الثلاثة ما لأول مفعولي كسوت من جواز الاقتصار عليه والاستغناء عنه، لأن الفعل مؤثر فيه، فجاز فيه ما يجوز في كل مفعول أثر فيه فعله، ولأن الفائدة لا تعدم بالاقتصار عليه كما تعدم بالاقتصار على أول مفعولي ظننت، ولا تعدم بالاستغناء عنه كما تعدم بالاستغناء عن أحد مفعولي ظننت، فمثال الاقتصار عليه: أعلمت زيدا، إذا قصدت الإخبار بإيصالك إلى زيد علما ما. ومثال الاستغناء عنه: أعلمت دارك طيبة، إذا قصدت الإخبار بإعلامك أن داره طيبة دون غرض في تسمية من أعلمت. وزعم ابن خروف أنه لا يجوز حذف أول الثلاثة ولا الاقتصار عليه، ولا حجة له على ذلك إلا اتباع ظاهر كلام سيبويه في ترجمة تأولها الأكثرون. والمجمع على تعديته إلى ثلاثة أعلم وأرى المتعديتان بدون الهمزة إلى اثنين. وألحق سيبويه نبّأ. وزاد غيره أنبأ وخبّر وأخبر وحدّث، ولا بد من تضمينها عند الإلحاق معنى أعلم، ولم يذكر أبو علي إلا أعلم وأرى ونبأ وأنبأ، وتابعه الجرجاني. وألحق الأخفش أظن وأخواتها المذكورة بعدها. ورد مذهب الأخفش بأن قيل: حق همزة التعدية أن تلحق بها ما لا يتعدى بما يتعدى إلى واحد بنفسه، وما يتعدى إلى واحد بما يتعدى إلى اثنين بنفسه، وليس في الكلام ما يتعدى إلى ثلاثة فيلحق بها متعد إلى اثنين، فمقتضى هذا ألا يعدى بالهمزة متعد إلى اثنين لعدم أصل ملحق به، لكن سمع تعدى أعلم وأرى إلى ثلاثة على خلاف القياس فقبل، ولم يلحق بعلم ورأى شيء من أخواتهما، لأن المسموع المخالف للقياس لا يقاس عليه. وكذلك وافق الأخفش على منع: أكسيت عمرا ثوبا، ومستند هذا الرد قوي، ويلزم منه ألا تلحق نبأ وأخواتها، فإن ادُّعِيَ سماع بنحو قول الشاعر:

نُبِّئْت زُرْعةَ والسَّفاهةُ كاسمها ... يهدى إليّ غرائب الأشعار وبنحو قول الحارث بن حلزة اليشكري: أو منعتم ما تُسألون فمن حِدِّثْتَموه له علينا العلاءُ وبقول الآخر: وخُبِّرتْ سوداء الغميم مريضةً ... فأقبلت من أهلي بمصر أعودُها فوالله ما أدري إذا أنا جئتُها ... أَؤُبرئُها من دائها أم أزيدها وبقول الآخر: ماذا عليك إذا أُخْبِرتني دَنِفًا ... وغاب بعلُك يوما أن تَعُوديني أجيب بأنه من باب النَصب لإسقاط حرف الجر، كما حكى سيبويه: نُبِّئتُ زيدا، وقال: يريد: نبئت عن زيد. وكما قال تعالى: (من أنبأك هذا) وقدر: من أنبأك بهذا. وقد حمل سيبويه على حذف حرفا الجر قول الشاعر: نُبِّئت عبدَ الله بالجو أصبحت ... كراما مواليها لئيما صَمِيمُها أي: نبئت عن عبد الله، مع إمكان إجرائه مجرى أعلمت، فدل ذلك على أن تقدير حذف حرف الجر بعد نبأ راجح عنده، إذ ليس فيه إخراج شيء عن أصله، ولا تضمين شيء معنى غيره. وأيضا فإن النصب لحذف حرف الجر بعد نبأ مقطوع بثبوته فيما حكى من قول بعض العرب: نُبِّئت زيدا، مقتصرا عليه. وبعد أنبأ في قوله تعالى: (مَنْ أنبأكَ هذا) ولم يثبت الإجراء مجرى أعلم إلا حيث حذف حرف الجر، فكان الحمل عليه أولى. هذا في نَبَّأ مع كثرة استعمالها بالصورة

المحتملة، وأما أخواتها فيندر استعمالها بتلك الصورة، كقول الحارث بن حلزة في البيت السابق، فليجعل التقدير فيه: فمن حُدِّثتم عنه له علينا العلاء، والجملة بعد المنصوب حالية أو محكية بقول مقدر، وكذا يفعل بغيره. هذا أراه أظهر إن كان غيره أشهر، وأنشد ابن خروف في شرح كتاب سيبويه: ونُبِّئت قيسا ولم أبله ... كما زعموا خير أهل اليمن ومما ينبغي أن يلحق بأعلم وأرى أرى الحُلمية كقوله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) فإنه قد ثبت إجراء رأى الحلمية مجرى رأى العلمية، واستدللت على ذلك فيما سلف، فلزم من ذلك تعديتها إلى ثلاثة بهمزة النقل مع مساعدة الاستعمال، كما لزم ذلك في الفعلين الآخرين لصحة الاستعمال، وكان التنبيه عليها لثبوتها سماعا دون معارض أولى من التنبيه على ما لم يثبت إلا بما فيه معارضة واحتمال. وأما أرى المنقولة من متعد إلى واحد فمتعدية إلى اثنين ثانيهما غير الأول، وهي على ضربين: أحدهما من الرأي كقوله تعالى: (لتحكم بين الناس بما أراك الله) والثاني من رؤية البصر، كقوله تعالى: (من بعد ما أراكم ما تحبون). ونبهت بقولي: "وللثاني والثالث بعد النقل ما لهما قبله" على أنه لا غنى لأحدهما عن الآخر بعد أن صارا ثانيا وثالثا. كما لم يكن لأحدهما غنى عن الآخر إذا كانا أولا وثانيا، مراعاة لكونهما في الأصل مبتدأ وخبرا، فإن دل دليل على أحدهما جاز حذفه، كما كان يجوز في الحال الأول. ومثال الحذف لدليل قولك لمن قال: من أعلمك زيد فاضلا؟ أعلمني عمرا، تريد: أعلمني زيد عمرا فاضلا، فأضمرت الفاعل عائدا إلى زيد، وحذفت فاضلا لدلالة ما تقدم عليه، كما كنت تحذف في قولك: علمت عمرا، إذا أجبت من قال: مَنْ علمت فاضلا؟ وللثاني والثالث أيضا من الإلغاء والتعليق بعد النقل ما لهما قبله، فمن الإلغاء

بعد النقل قول الشاعر: وكيف أُبالي بالعدا ووعيدهم ... وأخشى مُلِمّات الخُطُوب الصوايب وأنت أراني الله أمنعُ عاصم ... وأمنحُ مُسْتكفًى وأسمح واهب فألغى أراني متوسطا. ومثله قول بعض من وثق بعربيته: البركةُ أعلمنا الله مع الأكابر. ومن التعليق قوله تعالى: (هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزِّقتم كل ممزَّق إنكم لفي خلق جديد) وقوله تعالى: (وما أدراك ما يومُ الدين) فعلق ينبئ وأدرى لأنهما بمعنى يعلم وأعلم، فتعليقهما لمعنى حروف يعلم وأعلم ومعناهما أحق وأولى. ومن تعليق أفعال هذا الباب قول الشاعر: حَذارِ فقد نُبِّئت إنك لَلّذي ... سَتُجزى بما تسعى فتسعدَ أو تشقى ومنع قوم الإلغاء والتعليق في أعلم وأرى وأخواتهما مطلقا، وخص بعضهم ذلك بالمبني للفاعل وهو اختيار الجزولي، والصحيح الجواز مطلقا للدلائل المذكورة، قال الشلوبين في شرح قول الجزولي: "وحكم الثاني والثالث معا حكم الثاني من باب كسوت" يعني في الاقتصار عليهما، وفي ألا يلغى الفعل عنهما ولا يعلق، وهذا الذي قاله هنا هو المذهب الصحيح، وإن كان فيه خلاف لبعضهم، فقد منع بعضهم الاقتصار على المفعول الأول، وأجاز بعضهم الإلغاء عن المبتدأ والخبر، وليس هذان المذهبان مرضيين عند المحققين، هكذا زعم، ثم قال شارحا لقول الجزولي: وإذا بُنِيت للمفعول فحكم منصوبيها ما ذكر في منصوبيْ ظننت مطلقا، يعني في ألا يقتصر على أحدهما، وفيما ذكر في ظننت من الإعمال والإلغاء، قال: وليس

هذا الذي ذهب إليه من جواز الإلغاء في هذا الباب إذا بنيت أفعاله للمفعول بصحيح، لأن العلة في أن لم تلغ هذه الأفعال إذا بنيت للفاعل من كونها أفعالا مؤثرة، بخلاف ظننت وبابه، موجودة فيها إذا بنيت للمفعول كوجودها إذا بنيت للفاعل، فكيف توجد العلة ثم لا يوجد حكمها؟ ولكن غرّه ذكر سيبويه أرى وهو مضارع أرأيت بمعنى أظننت، فتخيل أن باقي أفعال الباب كأرى، قال: وإنما جاز إلغاء أرى وحدها لأنها بمعنى أظن. وأظن غير مؤثر، فجرت مجراها في الإلغاء، كما جرت مجراها في المعنى. وحاصل قوله أمران: أحدهما: أن أعلم مؤثر، فلا يلغى، كما لا تلغى الأفعال المؤثرة. والثاني: أن أرى ألغى لأنه بمعنى أظن، فوافقه في الإلغاء كما وافقه في المعنى. والجواب عن الأول أن يقال: من أجاز إلغاء أعلم لم يجزه بالنسبة إلى المعلِم، فيكون في إلغائها محذور، وإنما إجازه بالنسبة إلى المسند والمسند إليه، وهما غير متأثرين بأعلمن كما هما غير متأثرين بعلم، فلا يمتنع إلغاء أعلم عنهما، كما لم يمتنع إلغاء علم. والجواب عن الثاني أن يقال: إلحاق أرى بأظن لأنه بمعناه ليس بأولى من إلحاق أعلمت بعلمت، بل الأمر بالعكس، لأن مفهوم علمت مستفاد من أعلمت كاستفادة مفهوم أظن من أرى، فالمناسبتان مستويتان، وبين أعلمت وعلمت مناسبتان أخريان وهما: رجوعهما إلى مادة واحدة، واستواؤهما في التصرف، بخلاف أرى وأظن فإنهما مختلفتان في المادة والتصرف. أما التخالف في المادة فظاهر، وأما في التصرف فلأن أرى لم يستعمل له ماض. فقد بان أن مناسبة أرى لأظن أضعف من مناسبة أعلمت لعلمت، وأرى قد جرت مجرى أظن، فإذا جرت أعلمت مجرى عملت كان ذلك أحق وأولى. فقد ظهر أن المحقق من أجاز الإلغاء والتعليق في هذا الباب لا من منعه، والله أعلم. فالصحيح أن أعلم وأخواتها مما يبنى للمفعول مساوية لظن وأخواتها، إلا في الاقتصار على المرفوع فإنه غير جائز في ظن وأخواتها لعدم الفائدة، وجائز في أعلم وأخواتها لحصول الفائدة.

باب الفاعل

باب الفاعل ص: وهو المسند إليه فعل، أو مضمَّن معناه تام مقدّم فارغ غير مصوغ للمفعول. وهو مرفوع بالمسند حقيقة إنْ خلا من "من" و"الباء" الزائدتين. وحكما إن جرّ بأحدهما، أو بإضافة المسند. وليس رافعه الإسناد خلافا لخلف. وإنْ قُدّم ولم يل ما يطلب الفعل فهو مبتدأ، وإن وليه ففاعل فعل مضمر يفسّره الظاهر خلافا لمن خالَفَ. ش: الفاعل يكون اسما نحو (تباركَ اللهُ) وغير اسم نحو (ألَمْ يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) و (ألم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد). وكقول الشاعر: يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي ... وكان ذهابُهنَّ له ذهابا وكقول الآخر: ما ضَرَّ تَغْلبَ وائِل أهَجَوْتَها ... أم بتَّ حَيْثُ تلاطمَ البَحْرانِ فلذلك قلتُ المسند إليه، ولم أقل الاسم المسند إليه. والمسند إلى الفاعل فعل ومضمّن معناه؛ فالفعل نحو: (يغفرُ الله لكم) والمضمّن نحو: (مختلفًا

ألوانُها) و: هَيْهات العقيقُ وأهلُه ونحو: أمِنْ رسم دارٍ مربعٌ ومَصيفُ و (أو كصَيِّبٍ من السماءِ فيه ظُلُماتٌ) على أحسن الوجهين. ولما كان المسند شاملا للفاعل وغيره ذكرتُ قيودا تُخرج غيرَه؛ فخرج بتام اسم كان فإنه ليس فاعلا، لكون المسند إليه ناقصا، وقد سمّاه سيبويه فاعلا والخبر مفعولا على سبيل التوسع. وخرج بفارغ المبتدأ إذا قدّم خبره وفيه ضمير نحو قائم زيد، و (أسَرُّوا النجوى الذين ظلموا) على القول بأن الذين ظلموا مبتدأ مقدم خبره. وخرج بغير مصوغ للمفعول المفعول النائب عن الفاعل نحو ضُرب زيدٌ مَنْزوعا ثوبه؛ لأنه ليس فاعلا عند أكثر النحويين. وقد اضطر الزمخشري إلى تسميته مفعولا بعد أن جعله فاعلا. ثم ذكرت أن الفاعل مرفوع حقيقة، أي لفظا ومعنى نحو: صَدَقَ اللهُ، ومرفوع حكما، أي في المعنى دون اللفظ، وذلك في ثلاثة مواضع أحدها: إذا جُر بمن الزائدة نحو: (ما يأتيهم مِنْ رسولٍ إلا كانوا به يستهزئون) والثاني إذا جُر بالياء الزائدة نحو: (وكفى بالله شهيدًا) والثالث إذا أضيف إليه المسند

نحو: (ولولا دفاعُ الله الناسَ) وقلت بإضافة المسند ولم أقل بإضافة المصدر، لأن المسند الصالح للإضافة قد يكون اسم مصدر كما يكون مصدرا، فالمصدر ظاهر، واسم المصدر كقوله صلى الله عليه وسلم: "من قُبْلة الرجل امرأتَه الوضوءُ" فالرجل مجرور اللفظ مرفوع المعنى بإسناد ما قبلةَ إليه فإنها قائمة مقام تَقْبيل، ولذا انتصب بها المفعول. وكذا المجرور بمن والباء مرفوع معنى. ولو عطف عليه أو نعتَ لجاز في المعطوف والنعت الجر باعتبار اللفظ، والرفع باعتبار المعنى. ثم تبينت أن رافع الفاعل هو ما أسند إليه من فعل أو مضمن معناه، لا الإسناد كما يقول خلف؛ لأن الإسناد نسبة بين المسند والمسند إليه، وليس عملها في أحدهما بأولى من عملها في الآخر، ولأن العمل لا ينسب إلى المعنى إلا إذا لم يوجد لفظ صالح للعمل، والفعل موجود فلا عدول عنه. وإن قُدّم الاسم على الفعل أو ما ضُمّن معناه صار مرفوعا بالابتداء وبطل عمل ما تأخر فيه؛ لأنه تعرض بالتقدم لتسلط العوامل عليه كقولك في: زيد قام، إنّ زيدا قام. فتأثر زيد بإن دليل على أن الفعل شغل عنه بفاعل مضمر، وأن رفع زيد إنما كان بالابتداء وهو عامل ضعيف فلذلك انتسخ عمله بعمل إن، ولأن اللفظ أقوى من المعنى. ولو كان الفعل غير مشغول بمضمر حين أخّر كان حين قُدّم لم يلحقه ألف الضمير ولا واوه ولا نونه في نحو: الزيدان قاما، والزيدون قاموا، والهندات قمن، كما لا يلحقه في نحو: قام الزيدان، وقام الزيدون وقامت الهندات إلا في لغة ضعيفة. وإن كان الاسم المقدم عليه مسبوقا بما يطلب الفعل فهو فاعل فعل مضمر يفسِّره الظاهر المتأخر نحو (وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك) وكقول

الشاعر: فمتى واغِلٌ ينبهم يُحَيُّو ... هُ وتُعْطف عليه كأسُ السَّاقي وزعم بعض الكوفيين أن تأخر المسند لا يخل برفعه المسند إليه، واستدل من ذهب إلى هذا بقول امرئ القيس: فَقِلْ في مَقيل نَحْسُهُ مُتَغيبِ وبقول الزباء: ما للجمالِ سَيْرُها وَئيدا وزعم أن التقدير: فقل في مقيل متغيِّب نحسُهُ. وما للجمال وئيدا سيرُها. والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما أن يكون قائله أراد نخسه متغيّبي بياء المبالغة كقولهم في أحمر: أحمريّ، وفي دَوّار دَوّاريّ، وخفف الياء في الوقف كما قال الآخر في إحدى الروايتين: زَعم الغُداف بأن رحلتنا غدا ... وبذاك خَبَّرَنا الغُدافُ الأسودي لا مرحبا بغد ولا أهلًا به ... إنْ كان تفريقُ الأحبَّة في غَد ويُروى: الغُداف الأسودُ على الإقواء. والثاني أن "مقيلا" اسم مفعول من قِلْتُه بمعنى أقلته، أي فسخْت عقد مُبايعته، فاستعمله في موضع متروك مجازا، وهو قول ابن كيسان. والجواب عن الثاني بأن يجعل سيرها مبتدأ ويضمر خبر ناصب وئيد. كأنه قال

ما للجمال سيرها ظهر وئيدا، أو ثبت وئيدا، فيكون حَذْفَ الخبر هنا والاكتفاء بالحال نظير قولهم: "حُكْمُكَ مُسَمَّطا". وقد ينتصر لمجيز ارتفاع الفاعل بعامل متأخر بمثل قول الشاعر: فمتى واغِلٌ يَنُبْهُم يُحَيُّو ... هْ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي فيقال واغِلٌ إما مرفوع بمضمر يدل عليه المتأخر، أو بالمتأخر، وارتفاعه بمضمر ممتنع؛ لاستلزامه إعمال أداة الشرط في فعلين قبل الجواب وليس الثاني تابعا للأول فتعيّن ارتفاعه بالمتأخر. والجواب أن المحذوف في مثل هذا لما التُزم حذفُه وجُعل المتأخر عوضا منه صار نسيا منسيا، فلم يلزمه من نسبة العمل إليه وجودُ جَزْمين قبل الجواب؛ على أنه لو جمع بينهما على سبيل التوكيد لم يكن في ذلك محذور فألا يكون محذور في تعليق الذهن بهما وأحدهما غير منطوق به ولا محكوم بجواز النطق به أحق وأولى. وأجاز الأعلم وابن عصفور رفع وصال بيدوم في قول الشاعر: وقَلَّما وِصالٌ على طُول الصُّدُودِ يَدُومُ لا بفعل مضمر ويكون هذا من الضرورات. وأجاز الأخفش رفع الاسم المتقدم بعد إنْ بالابتداء وقال في قوله تعالى: (وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك) فابتدأ بعد إنْ، وأن يكون رفع أحد على فعل مضمر أقيس الوجهين. قال: وقد زعموا أن قول الشاعر:

أتَجْزَعُ إنْ نفسٌ أتاها حمامُها لا يُنشد إلا رفعا. وقد سقط الفعل على شيء من سببه، وهذا قد ابتدئ بعد إنْ. وإنْ شئت جعلته رفعا بفعل مضمر". هذا نصه. وقد أشرت إلى هذا وغيره بقولي في آخر الفصل: "خلافًا لمن خالف". ص: وتلحق الماضي المسند إلى مؤنث أو مؤول به أو مخبر به عنه أومضاف إليه مقدر الحذف تاء ساكنة، ولا تحذف غالبا إن كان ضميرا متصلا مطلقا أو ظاهرا متصلا حقيقي التأنيث غير مكسّر ولا اسم جمع ولا جنس. ولحاقها مع الحقيقي المقيد المفصول بغير إلا أجود، وإن فصل بها فبالعكس. وحكمها مع جمع التكسير وشبهه وجمع المذكر بالألف والتاء حكمها مع الواحد المجازي التأنيث. وحكمها مع جمع التصحيح غير المذكور آنفا حكمها مع واحده. وحكمها مع البنين والبنات حكمها مع الأبناء والإماء. وتساويها في اللزوم وعدمه تاء مضارع الغائبة ونون التأنيث الحرفية". تاء التأنيث الساكنة مختصة من الأفعال بالماضي وضعا، لأن الأمر مستغن بالياء، والمضارع مستغن بها إن أسند إلى مخاطبة، وبتاء المضارعة إن أسند إلى غائبة أو غائبتين. وكان حق تاء فَعلتْ ألا تلحق الفعل، لأن معناها للفاعل إلا أنه كجزء من الفعل، فجاز أن يدل على معنى فيه ما اتصل بما هو كجزء منه، كما جاز أن تتصل بالفاعل علامة رفع الفعل في يفعلان وتفعلون وتفعلين؛ ولأن تأنيث لفظ الفاعل غير موثوق به، لجواز اشتراك المذكر والمؤنث في لفظ واحد كجُنب ورَبْعَة وهُمزَة وضُحَكة وفَروقه ورواية وصَبور ومذْكار وقتيل، ولأن المذكر قد يُسمّى بمؤنث وبالعكس، فاحتاطت العرب في الدلالة على تأنيث الفاعل بوصل الفعل بالتاء المذكورة، ليُعلم من أوّل وَهلة أن الفاعل وما جرى مجراه مؤنث كقولك طَهُرتْ الجنُبُ، وكانت الرَّبْعة حائضا وشنئت الهُمَزةُ.

وجعلوا إلحاقها في اللغة المشهورة لازما إن كان المسند إليه ضميرا متصلا حقيقي التأنيث أو مجازيّه كهند قامتْ والدار حَسُنتْ، أو كان ظاهرا متصلا حقيقي التأنيث مفردا أو مثنى أو مجموعا جمع تصحيح كقامتْ هندُ وقعدتْ بنتاها وذهبتْ عمّاتُها. وأشرت "بمؤول به" إلى نحو: أتته كتابي، على تأويل كتاب بصحيفة. وأشرت "بمخبر به عنه" إلى نحو قول الشاعر: ألمْ يكُ عُذْرًا ما فَعلتم بِشَمْعل ... وقد خابَ من كانت سريرته الغَدْرُ فوصل كان بالتاء وهي مسندة إلى الغدر، لأن الخبر مؤنث فسرى منه التأنيث إلى المخبر عنه، لأن كلا منهما عبارة عن الآخر. ومثله قراءة نافع وأبي عمرو وأبي بكر: "ثُمّ لم تكنْ فِتنتَهم إلّا أن قالوا" فألحق تاء التأنيث بالفعل وهو مسند إلى القول، لأن الخبر مؤنث. وأشرت بـ"مضاف إليه مقدر الحذف" إلى قول الشاعر: مَشَيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تسفّهتْ ... أعاليَها مَرُّ الرياحِ النواسمِ فألحق التاء بتسفهت وهو مسند إلى "مرّ" لإضافتها إلى مؤنث لاستقامة الكلام بحذفه، فلو لم يستقم الكلام بالحذف لم يجز التأنيث نحو قام غلام هند. واحترزت بقولي "ولا تحذف غالبا" من نحو قول بعض العرب قال فلانة، وذهب فلانة، حكاهما سيبويه. وعلى هذه اللغة جاء قول لبيد: تمَنَّى ابنتايَ أنْ يعيشَ أبُوهما ... وهلْ أنا إلا من رَبيعةَ أو مضرْ

لأن الإسناد إلى المثنى كالإسناد إلى المفرد بلا خلاف. واحترزت أيضا من حذف بعض الشعراء التاء من المسند إلى ضمير المؤنث، كقول الشاعر: فلا مُزْنَةٌ ودَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أبقَلَ إبْقالَها وكقول الآخر: فإمّا تَرَيْني ولِي لمَّةٌ ... فإن الحوادثَ أوْدى بها وبعض النحويين يحملون ما ورد من هذا على التأويل بمذكر، فيتأول "أرض" بمكان والحوادث بالحدثان: وقيدت الضمير بالاتصال احترازا من نحو ما قام إلا أنت، فإن إلحاق التاء في هذا ضعيف. وقيّدت الظاهر الحقيقي التأنيث بالاتصال تنبيها على نحو قول الشاعر: إنّ أمرَأ غرّه منكنّ واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرورُ وليس مخصوصا بالشعر؛ فإن سيبويه حكى: حضر القاضيَ امرأةٌ وقال: "إذا طال الكلام كان الحذف أجمل". ونبّهت بقولي "غير مكسّر" على أن حكم التاء في جمع تصحيح المؤنث كحكمها في مفرده ومثناه، فلا يقال قام الهندات، وإلا على لغة من قال: قال فلانة، لأن لفظ الواحد وجمع التصحيح على الحال التي كان عليها في الإفراد والتثنية، فيتنزّل قولك: قامتْ الهنداتُ، منزلة قولك: قامتْ هند وهند وهند، هذا هو الصحيح. وعلى هذا لا يجوز: قامت الزيدون، لأنه بمنزلة قام زيد وزيد وزيد،

ولا يُستباح" قامتْ الزيدون، بقول الشاعر: قالت بنو عامر خالوا بني أسد ولا يُستباح قال الهندات بقول الآخر: فبكى بناتي شَجْوَهنَّ وقُلْنَ لي لأن بنين وبنات لم يسلَم فيهما نظم الواحد، فجريا مجرى جمع التكسير. وظاهر قول الجزولي جواز قامت الزيدون، وقام الهندات، لأنه قال قاصدا للتاء: ولا تلزم في الجمع مطلقا. قال الشلوبين: يعني بقوله مطلقا سواء كان جمع تكسير أو جمع سلامة وسواء كان جمع مؤنث حقيقي أو غير حقيقي، وسواء كان جمع مذكر أو مؤنث، جمع تكسير كان ذلك أو جمع سلامة. ثم قال الشلوبين: ليس كما ذكره المؤلف في مذهب المحققين، إلا في جمع التكسير واسم الجمع. أما جمع المؤنث السالم نحو قامتْ الهندات فحكمه حكم المفرد والمثنى، وكذلك حكم جمع المذكر السالم حكم المفرد منه أيضا. قلتُ: لا عدولَ عمّا ذهب إليه الشيخ أبو علي الشلوبين في هذه المسألة، من أنه لا يجوز قامت الزيدون ولا قام الهندات إلا على لغة من قال: قال فلانة. وأما قوله تعالى: (إذا جاءكم المؤمناتُ) فمن أجل الفصل بالمفعول، مع أن

مؤمنات صلة الألف واللام، والألف واللام بمعنى التي وهي اسم جمع والفعل مسند إليه فلا تلزم التاء، ولا خلاف في أن المثنى كالواحد، ولذلك جُعل قول لبيد: تمنّى ابنتايَ، مثل: قال فلانة، ولا خلاف أيضا في أن جمع التكسير كالواحد المجازي التأنيث وإن كان واحده حقيقي التأنيث كجوارٍ، واسم الجمع كفَوْج، واسم الجنس كنسْوة. ويدخل في اسم الجنس فاعل نعم، فلذلك يقول: نعْم المرأةُ من لا يقول: قام المرأة. وقولي "ولحاقها مع الحقيقي المقيد" نبهت به على أن الفصل بين الفعل والفاعل يبيح حذف التاء من فعل ما حقه أن يلازم فعله التاء، وأن الفصل إن كان بغير "إلا" فلحاق التاء أجود، وإن كان بإلا فإسقاطها أجود. وبعض النحويين لا يجيزون ثبوت التاء مع الفصل بإلا إلا في الشعر كقول الراجز: ما برئتْ من ريبة وذمِّ ... في حربنا إلا بناتُ العمِّ والصحيح جوازها في غير الشعر، ولكن على ضعف. ومنه قراءة مالك بن دينار وأبي رجاء والجحدري بخلاف عنه "فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنُهم" ذكرها أبو الفتح بن جني وقال إنها ضعيفة في العربية. وإلى نحو هذا أشرت بقولي "وإن فصل بها فبالعكس"، أي إن فصل بإلا فالحذف أجود من لحاقها. ثم بينت أن حكمها مع جمع التكسير ومع جمع المذكر بالألف والتاء حكمها مع الواحد المجازي التأنيث، ولا اعتبار بواحده، بلى يستوي ما واحده مذكر كغلمان وبيوت، وما واحده مؤنث كإماء ودور، وكذا حكمها مع جمع المذكر بالألف والتاء كطلحات

ودريهمات وحسامات وحمّامات. ثم بينت أن حكمها مع جمع التصحيح الذي ليس كطلحات ولا دريهمات ولا حسامات حكمها مع واحده، فعلى هذا لا تلحق في قام الزيدون كما لا تلحق في قام زيد، ولا تحذف في قامت الهندات كما لا تحذف في قامت هند، إلا على لغة من قال: قال فلانة. وقد تقدم بسط القول في ذلك. ثم بيّنت أن البنين والبنات حكم التاء معهما حكمها مع الأبناء والإماء فيقال: جاء البنون، وجاءت البنات، وجاء البنات، كما يقال جاء الأبناء وجاءت الأبناء وجاءت الإماء وجاء الإماء؛ لأن نظم الواحد لم يسلم فيهما فجريا مجرى الجمع المكسّر. ثم بينت أن التاء الصفة الفارقة حكمها حكم تاء فعلتْ في اللزوم وعدمه، فكما تلزم تاء ذهبتْ جاريتاك، والشمسُ طلعت، كذلك تلزم تاء أذاهبة جاريتاك والشمس طالعة. وكما جاز الوجهان في: سمعت أذناك كذلك يجوز الوجهان في أسامعة أذناك. ثم بينت أن تاء المضارعة الدالة على التأنيث حكمها حكم تاء فعلتْ في جميع ما ذكر، فكما قيل قامت هند والنار اضطرمتْ، بلزوم التأنيث في اللغة المشهورة كذلك يقال تقوم هند والنار تضطرم، وكما جاز اضطرم النار واضطرمت النار، يجوز اضطرم النار وتضطرم النار، وكما جاز للفصل حضر القاضيَ امرأةٌ، يجوز للفصل يحضر القاضي امرأةٌ. وكما ضعف. ما برئت من ريبة وذمّ ... في حربنا إلا بنات العمّ ضعف نحو "لا تُرى إلا مساكنُهم". وما عومل به: ولا أرض أبقل إبقالها – يعامل بمثله أحد المضارعين في قول ذي الرمة:

وهل يَرجعُ التسلمُ أو يكشفُ العمى ... ثلاثُ الأثافي والرسوم البلاقعُ لأن أحدهما مسند إلى ثلاث والآخر مسند إلى ضميره، والرواية فيهما بالياء. ص: وقد يلحق الفعل المسند إلى ما ليس واحدا من ظاهر أو ضمير منفصل علامة كضميره. ش: إذا تقدم الفعل على المسند إليه فاللغة المشهورة ألا تلحقه علامة تثنية ولا جمع بل يكون لفظه قبل غير الواحد والواحدة كلفظه قبلهما. ومن العرب من يوليه قبل الاثنين ألفا، وقبل المذكرين واوا، وقبل الإناث نونا مدلولا بها على حال الفاعل الآتي قبل أن يأتي، كما دلتْ تاء فعلتْ هند على تأنيث الفاعلة قبل أن يذكر اسمها. والعلم على هذه اللغة قول بعض العرب: أكلوني البراغيث. وقد تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار" وعلى هذه اللغة قول الشاعر يرثي مصعب بن الزبير رضي الله عنهما: لقد أوْرث المِصْرَيْن خِزْيا وذلةً ... قتيلٌ بدَيْر الجاثَليق مُقيمُ تولَّى قتال المارِقين بنفسِه ... وقد أسْلماه مُبْعَدٌ وحَميمُ

ومثله قول الآخر: بني الأرض قد كانوا بَنِيَّ فعَزَّني ... عليهم لآجال المنايا كتابُها ومثله: نصرُوكَ قومي فاعتززتَ بنصْرهم ... ولو أنّهم خذلوك كنتَ ذليلا ومثله: نُسِيا حاتمٌ وأوسٌ لدُنْ فا ... ضتْ عطاياك يا ابن عبد العزيز ومثله: نُتِج الربيعُ محاسنا ... ألقحنها غُرُّ السحائبْ ومثله: رأينَ الغواني الشيبَ لاح بمفرقي ... فأعرضْنَ عنّي بالخدود النواضِرِ وبعض النحويين يجعل ما ورد من هذا خبرا مقدما ومبتدأ مؤخرا، وبعضهم يبدل ما بعد الألف والواو والنون منهنّ، على أنها أسماء مسند إليها. وهذا غير ممتنع إن كان من سُمع ذلك منه من أهل غير اللغة المذكورة. وأما أن يُحمل جميع ما ورد من ذلك على أن الألف والواو والنون فيه ضمائر فغير صحيح، لأن أئمة هذا العلم متفقون على أن ذلك لغة لقوم من العرب مخصوصين فوجب تصديقهم في ذلك كما تصدقهم في غيره، والله أعلم. ومن التزم التاء في قامت هند، وهي اللغة المشهورة

فلا يستغنى في نحو قامت الهندات عن التاء والنون الحرفية. وإلى ذلك أشرت بقولي: "وتساويها في اللزوم وعدمه تاء مضارع الغائبة ونون التأنيث الحرفية". ص: "ويضمر جوازا فعل الفاعل المشعر به ما قبله، والمجاب به نفي أو استفهام، ولا يحذف الفاعل إلا مع رافعه المدلول عليه، ويرفع توهم الحذف إن خفي الفاعل جعله مصدرا منويا أو نحو ذلك". ش: حق الفعل والفاعل أن يكونا كالمبتدأ والخبر في منع حذف أحدهما بلا دليل، وجواز حذفه بدليل؛ لأن الفعل كالمبتدأ في كونه أول الجزءين، والفاعل كالخبر في كونه ثاني الجزءين فسلك بالفعل سبيل المبتدأ في جواز الحذف، وعرض للفاعل مانع من مفارقته الخبر في جواز الحذف، وهو كونه كعجز المركب في الامتزاج بمتلوّه ولزوم تأخره، وكونه كالصلة في عدم تأثره بعامل متلوه، وكالمضاف إليه في أنه معتمد البيان بخلاف خبر المبتدأ فإنه مباين لعجز المركب وللصلة وللمضاف إليه فيما ذكر، لأنه غير ممتزج بمتلوه ولا لازم التأخر ويتأثر بعامل متلوه وهو معتمد الفائدة لا معتمد البيان. وأيضا فإن من الفاعل ما يستتر، فلو حذف في بعض المواضع لالتبس الحذف بالاستتار، والخبر لا يستتر، وإذا حذف لدليل أُمِنَ التباس كونه مستترا. ومن إضمار فعل الفاعل لكون ما قبله مشعرا به قراءة ابن عامر وأبي بكر: (يُسَبَّحُ له فيها بالغدون والآصالِ رجالٌ)؟ فرجال فاعل يُسَبِّحُ مضمرا لإشعار يُسَبَّحُ به مع عدم صلاحية إسناده هو إليهم، لأن الرجال لا يكونون مُسَبَّحين بل مُسَبِّحين، فلا يجوز هذا الاستعمال إلا فيما كان هكذا. فلو قيل يُوعَظ في المسجد رجالٌ جازَ لعدم اللبس. ومن الجائز لعدم اللبس قول الشاعر:

لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصُومة ... ومُخْتبطٌ مِمّا تُطيحُ الطوائحُ ومثله قول الآخر: حمامةَ بَطْنِ الوادِيَيْن ترنمى ... سُقيتِ من الغُرّ الغوادِيَ مطيرُها هكذا رواه الحفّاظ. ومن قال: سَقاكِ فتاركٌ للرواية آخذٌ بالرأي. ومن حذف فعل الفاعل قول عائشة رضي الله عنها: "فما أستطيعُ أنْ أقضيَه إلا في شعبان الشُغْلُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم". أي يمنعني الشغل من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن إضمار فعل الفاعل لكون ما قبله يشعر به قول الشاعر: أرى الأيامَ لا تُبقي كريما ... ولا العُصْمَ الأوابدَ والنّعاما ولا عِلْجانِ ينتابان رَوْضا ... نضيرا نبتُه عُمّا تؤاما فعلجان فاعل يبقى مضمرا لإشعار تُبقى به. ومثله: غَداةَ أحلّتْ لابن أصْرمَ طعنةٌ ... حُصَينٍ عَبيطاتِ السدائف والخمرُ فالخمر فاعل حَلَّتْ مضمرا لإشعار أحلت به. ومثله:

ولم يُبْق أنْواء الثماني بقيَّةً ... من الرَّطْب إلّا بَطْنُ وادٍ وحاجِرُ أنشده أبو علي في التذكرة وقال: رفع على معنى بَقى بطنُ واد وحاجر. ومن إضمار فعل الفاعل المجاب به [نفى] قولك: ما جاء أحد: بلى زيدٌ، تريد بلى جاء زيد. ومثله قول الشاعر: تجلّدتُ حتى قيل لم يَعْرُ قلبَه ... من الوجد شيء، قلتُ: بل أعظمُ الوَجدِ أراد بل عزاه أعظم الوجد. ومثال إضمار فعل الفاعل المجاب به استفهام ظاهر قولك: نعم زيد لمن قال: هل جاءك زيد؟. ومثله قول الشاعر: ألا هل أتى أمَّ الحُويرث مُرسلي ... نعمْ خالدٌ، إن لم تَعُقْه العوائقُ أراد نعم أتاها خالد. فمثل هذا لا يرتاب في أن المجاب به مرفوع بفعل مقدر، لأنه جواب جملة قدم فيها الفعل، وحق الجواب أن يشاكل ما هو له جواب. فإن كانت جملة الاستفهام مؤخرا فيها الفعل فحق المجاب به من جهة القياس أن يؤخر فيه الفعل لتتشاكل الجملتان. هذا مقتضى النظر لولا أن الاستعمال بخلافه، وذلك أن جواب الاستفهام المقدم فيه الاسم لا يجيء مكملا إلا والفعل فيه مقدم على الاسم كقوله تعالى: (ولئنْ سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنَّ خلقهنّ العزيز العليم). وكقوله تعالى: (يسألونكَ ماذا أُحِلَّ لهم قلْ أحِل لكم الطيبات). وكقوله تعالى: (قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرّة).

وينبغي إذا اقتصر في الجواب على الاسم أن يقدر الفعل متقدما، لأن المكمل أصل والمختصر فرع، فتسلك بالفرع سبيل الأصل، ولأن موافقة العرب بتقدير تقديم الفعل متيقنة وموافقتهم بتقدير تأخيره مشكوك فيها، فلا عدول عن تقدير التقديم. ولما جرى به الاستعمال من تقديم الفعل في الجواب المكمل وجه من النظر، وهو أن حق الجملة الاستفهامية إذا كان فيها فعل أن يقدم لأنه بمباشرة الاستفهام أولى من الاسم، فلما لم يكن ذلك في نحو من فعل لاتحاد المستفهم به والمستفهم عنه جيء بالجواب مقدما فيه الفعل، تنبيها على أن أصل ما هو له جواب أن يكون كذلك، ومع هذا فالحكم بالابتداء على الاسم المجاب به نفي أو استفهام غير ممتنع، لأن مشاكلة الجواب لما هو له جواب في اللفظ غير لازمة، بل قد يكتفى فيه بمراعاة المعنى. ومنه قراءة غير أبي عمرو من السبعة: (قل من ربُّ السمواتِ السبع وربُّ العرش العظيم * سيقولون الله قل أفلا تتقون *قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله). وقد تقدم السبب في منع حذف الفاعل وبقاء فعله. وأما حذفه وحذف فعله فكثير كقولك: زيدا، لمن قال: من أكرمُ؟ فحذفت أكرم وهو فعل أمر مسند إلى ضمير المخاطب فاشتمل الحذف عليهما ونظائر ذلك كثيرة. وإذا توهم حذف فاعل فعل موجود فلا سبيل إلى الحكم بحذفه، بل يقدر إسناده إلى مدلول عليه من اللفظ والمعنى كقول الشاعر: تمشي تَبَخْتَرث حول البيت مُنتَخِيا ... لو كنتَ عمَّ ابنِ عبد الله لم يَزِد

أي لم يزد انتخاؤك. كذا قال أبو علي، وكقوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما رأو الآيات ليسجُنُنَّهُ). قيل إن المعنى: بدا لهم بداء. كما قال: بدا لك في تلك القَلوص بداءُ أي ظهر لك فيها رأي. ولا يجوز مثل هذا الإسناد إلى مصدر الفعل حتى يشعر برأى مثل ظهر وبان وتبيّن، أو يكون الفعل فعل استثناء كقاموا ما عدا زيدا وخلا عمرا وحشا بكرا. ومن الإسناد إلى مدلول عليه قول الشاعر: أقولُ إذا ما الطيرُ مرّت مخيلةً ... لعلك يوما فانتظرْ أنْ تنالها أأدرك من أمِّ الحُويرث غبطةً ... بها خَبَّرتْني الطيرُ أم قد أنى لها أي أنى لها ألَّا أدرك، لأن ذكر أم بعد الهمزة التي وليها أحد الضدين مشعر بأن ثانيهما مراد. وهذا شبيه بقوله تعالى: (وما يُعَمَّرُ من معمر ولا ينقص من عمره) لأن ذكر المعمّر مشعر بمقابله وهو القصير العمر، فأعيدت هاء عمره إليه ولم يذكر لإشعار مقابله. ومثله قول الآخر: وما أدري إذا يمَّمْتُ أرضا ... أريدُ الخيرَ أيُّهما يلِيني

فثنى الضمير قاصدا للخير والشر ولم يجر إلا ذكر أحدهما، ولكن الإشعار بما لم يذكره بمنزلة ذكره. ومن الإسناد إلى مدلول عليه قول بعض العرب: إذا كان غدا فائتني، أي إذا كان غدا ما نحن عليه الآن فائتني. ومثله قول الشاعر: فإنْ كان لا يُرضيكَ حتّى ترُدّني ... إلى قَطَرِيّ لا إخالَك راضِيا أي إن كان لا يرضيك ما تشاهده منّي ... ومن الفاعل المؤول قوله تعالى: (وتبَيَّنَ لكم كيف فعلنا بهم) ففاعل تبين مضمون كيف فعلنا كأنه قال وتبيّن لكم كيفيةُ فعلنا بهم. وجاز الإسناد في هذا الباب باعتبار التأويل، كما جاز في باب الابتداء نحو: (سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) فإنه أُوّل سواء عليهم الإنذارُ وعدمه كما جاز في هذا الباب أن يقال: ما ضَرَّ تغلبَ وائلٍ أهَجَوْتَها على تأويل ما ضرّها هَجْوُك إياها. ومثل (وتبين لكم كيف فعلنا بهم): (أفلم يهد لهم كم أهلكنا) على تأويل أو لم يَهْد لهم كثرةُ إهلاكنا. ومن الإسناد إلى مدلول عليه قوله تعالى (إذا أخرج يده لم يكد يراها) ففاعل أخرج ضمير الواقع في البحر الموصوف ولم يجر له ذكر، لكن سياق الكلام يدل عليه. ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو

باب النائب عن الفاعل

مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" ففاعل يشربها غير مذكور، ولكنه مفهوم، كأنه قيل: ولا يشرب الخمر شاربُها. وقد يغني عن الفاعل استحضاره في الذهن بذكر فعل ناصب لما لا يصح إلّا له، كقول الشاعر: لقد عَلِمَ الضيفُ والمُرْمِلون ... إذا اغْبَرَّ أفْقٌ وهَبّتْ شمالا فأغنى عن إظهار الريح استحضارُها في الذهن بهبت ونصبه شمالا على الحال، فكان ذلك بمنزلة التصريح بالريح. ومثله قول الآخر: وأُكْرِمُ الضيفَ والجارَ الغريبَ إذا ... هَبَّتْ شآميةً واشْتَدَّتْ القررُ فنصب شآمية وأضمر الريح. وإلى هذا الموضع وأشباهه أشرت بقولي "ويرفع توهم الحذف إن خفى الفاعل جعلُه مصدرا منويّا ونحو ذلك". باب النائب عن الفاعل ص: قد يُترك الفاعل لغرض لفظي أو معنوي جوازا أو وجوبا، فينوب عنه جاريا مجراه في كل ماله مفعول به، أو جار ومجرور أو مصدر لغير مجرد التوكيد ملفوظ به أو مدلول عليه بغير العامل، أو ظرف مختص متصرف، وفي نيابة غير متصرف أو غير ملفوظ به خلاف. ولا يمتنع نيابة المنصوب بسقوط الجار مع وجود المنصوب بنفس الفعل، ولا نيابة غير المفعول به وهو موجود، وفاقا للأخفش والكوفيين. ش: نيابة غير الفاعل عن الفاعل لغرض لفظي أشير بها إلى قصد الإيجاز كقوله

تعالى: (ومن عاقب بمثل ما عُوقب به ثم بُغي عليه)، وإلى موافقة المسبوق السابق كقول بعض الفصحاء: مَن طابتْ سريرتُه حُمِدتْ سيرتُه، وإصلاح النُظْم كقول الأعشى: عُلّقتُها عَرَضا وعُلِّقَتْ رجُلا ... غيري وعُلِّق أخرى غيرها الرجلُ وكقول عنترة: فإذا شربْتُ فإنّني مُسْتهلكٌ ... مالي وعرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ ونيابة غير الفاعل عنه لغرض معنوي كقوله تعالى: (وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفا) وكقوله تعالى: (ضُرِبَ مثلٌ فاستعموا له) فترك الفاعل لكونه معلوما وناب عنه المفعول به. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْتُ بالرُّعب مسيرة شهر، ونُصِرتُ بالصَّبا وأُهلكتْ عادٌ بالدَّبور". ومن النيابة عنه لغرض معنوي قول الرجل: نبّئت بكذا إذا لم يعرف من نبأه. ومنه ما يرد من قول بعض الرواة: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كَيْت وكَيْت: ومن الأغراض المعنوية أيضا ألّا يتعلّق مراد المتكلم بتعيين فاعل كقوله تعالى: (فإنْ أحْصِرتُم فما اسْتَيْسَر من الهدي)، و: (إذا حُيّيتُم بتحيّةٍ فحَيُّوا بأحسن منها) و: (إذا قيل

لكم تفسَّحوا في المجالس فافسحوا)، وكقول الشاعر: وإنْ مُدَّت الأيدي إلى الزّاد لم أكن ... بأعْجلهم إذْ أجْشَعُ القوم أعْجَلُ ومنها تعظيم الفاعل بصون اسمه عن مقارنة اسم المفعول كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بُلي منكم بهذه القاذورة فليستتر" ومنها تعظيم المفعول بصون اسمه عن مقارنة اسم الفاعل كقولك أُوذِي فلانٌ، إذا عظّمته واحتقرت من آذاه. ومنها الستر على الفاعل خوفا منه أو خوفا عليه. وأشرت بقولي "جاريا مجراه في كل ماله" إلى أن النائب عن الفاعل يخلفه في الرفع ووجوب التأخر عن الرافع والتنزل منزلة الجزء منه وعدم الاستغناء عنه. ثم نبّهت على أن النائب عن الفاعل إما مفعول به نحو ضُرِبَ زيد، وإما جارٌ ومجرور نحو غُضِب عليه، ولم يلزم من نيابة الجار والمجرور مخالفة، لأن الفاعل قد يكون مجرورا نحو: (كفى بالله شهيدا) وقيّدت المصدر الذي ينوب بكونه لغير مجرد التوكيد تنبيها على أن المصدر المسوق لمجرد التوكيد لا يقام مقام الفاعل، فلا يقال في مثل: ضلّ زيدٌ ضلالا: ضُلَّ ضلال، لعدم الفائدة بخلاف قام في الدار زيد قياما طويلا أو قومةً أو قومتين، فإن المصدر فيه مسوق لغير مجرد التوكيد فلا يخلو الإسناد إليه من فائدة. ونبّهت بقولي: "ملفوظ به أو مدلول عليه بغير العامل" على أن المنويّ مدلولا عليه بالعامل لا ينوب. وقد أجاز ذلك قوم من المتأخرين. ولا سبيل إليه، لأن الفعل لا يدل على المصدر المختص ولا المحدود، وإنما يدل على الذي لمجرد التوكيد، والذي لمجرد التوكيد لا فائدة في الإسناد إليه وهو ملفوظ به، فكيف إذا نُوي ولم يلفظ به.

فإن كان المصدر المنوي مدلولا عليه بغير الفعل جاز الإسناد إليه كقولك: بلى سير سيْرٌ لمن قال: ما سِير سَيْرٌ. ولو جاز الإسناد إلى المصدر المنوي مطلقا لم يمتنع أن يقال ابتداء ضُرِب أو نحو ذلك. وفي كلام الزجاجي إشعار بأن سيبويه يجيز ذلك، لأنه قال: وقد أجازه بعضهم على إضمار المصدر وهو مذهب سيبويه. قال ابن خروف: لا يجيز أحد من النحويين ردّ الفعل إلى ما لم يُسمَّ فاعله على إضمار المصدر المؤكد، لا يجيز أحد قُعِد، وضُحِك من غير شيء يكون بعد هذا الفعل، ثم ادّعاؤه - يعني الزجاجي - أنه مذهب سيبويه (فاسد لأن سيبويه لا يجيز إضمار المصدر المؤكد في هذا الباب والذي أجاز سيبويه) لا يمنع بَشَر، وهو إضمار المصدر المقصود، مثل أن يقال لمتوقع القعود: قد قُعِد ولمتوقع السفر قد سُوفِر، أي قد قُعِد القعود وقد سُوفر السفر الذي ينتظر وقوعه، والفعل لا يدل على هذا النوع من المصادر والدال عليه فعل آخر. هكذا قال ابن خروف وهو الصحيح. وقيدت الظرف الصالح للنيابة بكونه مختصا تنبيها على أن غير المختص لا يصلح للنيابة كوقت وزمن ومدة، فلا يقال في سرت وقتا: سير وقتٌ لعدم الفائدة، بخلاف سرت وقتا معينا وزمنا طويلا ومدة من النهار، فإن الظرف فيه مختص والإسناد إليه مفيد. وقيدته بالتصرف تنبيها على أن ما لا يتصرف لا يصلح للنيابة كسَحَر معينا، وثَمّ فلا يقال في أتيت سحرَ وجلست ثَمَّ: أُتي سحر وجُلس ثم؛ لأن الظرفية لا تفارقهما ولا يسند إليهما منصوبين حكما لمحلهما بالرفع، لأن الفاعل لم يُحكم له بمثل ذلك، وليس كذلك الحكم على المجرور بالرفع فإنه ثابت للفاعل كما سبق، فلم يلزم من معاملة النائب فيه محذور. وأجاز ابن السراج نيابة الظرف

المنوي وأجاز الأخفش نيابة الظرف الذي لا يتصرف نحو أن تقول جُلس عندك، ومذهبه في هذه المسألة ضعيف. وأجاز هو والكوفيون نيابة غير المفعول به مع وجوده، وبقولهم أقول، إذ لا مانع من ذلك مع أنه وارد عن العرب، ومنه قراءة أبي جعفر: (ليُجزَى قومًا بما كانوا يكسبون) فأقام الجار والمجرور مقام الفاعل وترك قوما منصوبا وهو مفعول به، ومثل هذا القراءة قول الشاعر: ولو وَلَدتْ قُفَيرةُ جَرْوَ كلبٍ ... لسُبَّ بذلك الجرو الكلابا فأقام الجار والمجرور مقام الفاعل ونصب الكلاب وهو مفعول به. ومثله قول الراجز: أُتيح لي من العِدَى نذيرا ... به وُقيتُ الشرَّ مُسْتطيرا ومثله: وإنما يُرضي المُنيبُ ربَّه ... ما دام مَعْنيّا بذكرٍ قلبَهُ ومثله في أحد الوجهين: لم يُعْنَ بالعلياء إلا سيْدا ... ولا شَفَى ذا الغَيِّ إلا ذو الهدى وزعم ابن بابشاذ أن جرو كلب منادى والكلاب منصوب بولدتْ. قال ابن

خروف: فقد أفسد اللفظ والمعنى، وقال الأخفش في "المسائل" تقول ضُرب الضربُ الشديدُ زيدا وضُرب اليومان زيدا وضُرب مكانُك زيدا ووُضع موضعُك المتاعَ. ومن مسائله: أُعطِي إعطاءٌ حسنٌ أخاك درهما، ويا مضروبا عنده زيدا. ص: ولا يمتنع نيابة غير الأول من المفعولات مطلقا إن أُمن اللبسُ ولم يكن جملة أو شبهها خلافا لمن أطلق المنع في باب ظن وأعلم. ولا ينوب خبر كان المفرد خلافا للفراء، ولا مميز خلافا للكسائي، ولا يجوز كين يقام ولا جُعل يفعل، خلافا له وللفراء. ش: لا خلاف في جواز نيابة ثاني المفعولين من باب أعطى إذا أمن اللبس نحو أعطيت زيدا درهما، ولا في منعها إن خيف اللبس نحو أعطيت زيدا عمرا، فيجوز في المثال الأول أن يقال أعطى درهمٌ زيدا، لأن اللبس فيه مأمون. ولا يجوز في المثال الثاني أن يقال أُعطِي عمروا زيدا، لأن عمرا مأخوذ فيتوهم كونه آخذا. ومنع الأكثرون نيابة ثاني المفعولين جملة ولا ظرفا ولا جارا ومجرورا، وذلك مثل قولنا: في ظننت الشمس بازغة: ظُنّتْ بازغةٌ الشمسَ، وفي علمت قمر الليلة بدرا: عُلم بدرٌ قمرَ الليلة، وفي اتخذ الناس مقام إبراهيم موضع صلاة: اتُّخذ موضعُ صلاة مقامَ إبراهيم، فيجوز هذا وأمثاله، كما يجوز أُعطي درهمٌ زيدا وأُدخِلَ القبرُ الميتَ وكُسيت الجبة عمرا، لأن المعنى مفهوم واللبس مأمون. وإذا كان أمن اللبس مسوّغا لجعل الفاعل مفعولا والمفعول فاعلا في كلام واحد نحو خرق الثوبُ المسمارَ - وبلغتْ سوءاتِهم هجرُ - فجواز هذه المسائل وأشباهها أحق وأولى. فلو خيف اللبس لم ينب إلا الأول نحو علم صديقُك عدوَّ زيد، فإن معناه عُلم المعروف بصداقتك أنه عدو زيد، فصداقة المخاطب مستغنية عن الإخبار بها وعداوة زيد مفتقرة إلى الإخبار بها فلو عكست لانعكس المعنى. وأكثر مسائل هذا الباب هكذا، ولذا منع الأكثرون نيابة الثاني مطلقا. ويجوز أيضا أن يقال في أعلمت زيدا كبشك سمينا: أُعلم كبشُك سمينا زيدا، لأن زيدا والكبش مستويان في المفعولية ومباينة الفاعلية فتساويا في قبول النيابة عن الفاعل على وجه لا يخل بفهم ولا يوقع في وهم.

وحكى السيرافي في شرح الكتاب أن الفراء يجيز كين أخوك في كان زيد أخاك، وزعم أنه ليس من كلام العرب. ورُد عليه بأن قيل هو فاسد لعدم الفائدة ولاستلزام وجود خبر عن غير مذكور ولا مقدر. وأجاز الكسائي في امتلأت الدار رجالا: امتلئ رجالٌ. وحكى خُذه مطيوبة به نفسٌ، ومَن الموجوع رأسُه والمسفوهُ رأيُه والموقوف أمره. وأجاز هو والفراء في كان زيد يقوم وجعل عمرو يفعل: كين يقام وجُعل يفعل، والمسند إليه ضمير المجهول عند الكسائي، ومستغنى عنه عند الفراء. فصل: ص: يُضم مطلقا أول فعل النائب، ومع ثانيه إن كان ماضيا مزيدا أوله تاء، ومع ثالثه إن افتتح بهمزة وصل. ويحرك ما قبل الآخر لفظا إن سلم من إعلال وإدغام، وإلا فتقديرا بكسر إن كان الفعل ماضيا وبفتح إن كان مضارعا. وإن اعتلت عين الماضي ثلاثيا أو على انْفعل أو افْتَعل كُسر ما قبلها بإخلاص أو إشمام ضم وربما أخلص ضما، ويمنع الإخلاص عند خوف اللبس. وكسر فاء فعِل ساكن العين لتخفيف أو إدغام لغة، وقد تشم فاء المدغم، وشذ في تُفوعل تِفِيعلِ. وما تعلق بالفعل غير فاعل أو مشبه به أو نائب عنه منصوب لفظا أو محلا، وربما رفع مفعول به ونصب فاعل لأمن اللبس". ش: النائب هو ما يسند إليه فعل ما لم يُسمّ فاعله، وكيفية صوغه لما لم يسم فاعله أن يُضم أوّله مطلقا، أي في مضيّ ومضارعة. وإن كان الماضي مفتتحا بتاء مزيدة ضم أوله وثانيه، وإن كان مفتتحا بهمزة وصل ضم أوله وثالثه، ويزاد إلى ذلك تحريك ما قبل الآخر لفظا أو تقديرا بكسر في الماضي وفتح في المضارع كقولك في ضَرب وتَعلّم واستخرَجَ: ضُرِب وتُعُلّم واستُخْرج. وفي يُضرب ويتعلّم ويستخرج: يُضرب ويتعلّم ويُسْتخرَج. فهذه أمثلة المحرك ما قبل آخره لفظا، وأمثلة المحرك ما قبل آخره تقديرا قيلَ وأُقيم واستُقيم ورُدَّ الشيءُ وأعدّ واستُعدّ ويقال ويقام ويستقام ويُرَدّ ويُعَدّ ويُستَعدُّ. وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي: "ويحرك ما قبل الآخر لفظا إن سلم من إعلال وإدغام، وإلا فتقديرا".

ثم بنيت أن الحركة الملفوظة والمقدرة كسرة في الماضي وفتحة في المضارع. ثم بينت أن ما قبل العين المعتلة من الماضي الثلاثي الموازن لانفعل أو افتعل يكسر كسرة خالصة أو مشمة بضم نحو بيع المتاعُ وسيق الثمنُ وانقِيد إلى الحق واختير الصواب، فيحرك ما قبل العين بالكسرة التي كانت لها في الأصل، فإن كانت العين ياء سلمت لسكونها بعد ما يجانسها، وإن كانت واوا انقلبت ياء لسكونها بعد كسرة. ومن أشم الكسرة ضمة لم يغير الياء وهي ولغة إخلاص الكسر لغتان فصيحتان مقروء بهما. وبعض العرب يخلص الضمة، فإن كانت العين واوا سلمت لسكونها بعد ما يجانسها، وإن كانت ياء انقلبت واوا لسكونها بعد ضمة، وعلى هذه اللغة قول الراجز: ليْتَ وهل يَنفعُ شيئا ليتُ ... ليتَ شبابا بُوعَ فاشتريتُ ومنه قول الآخر: حُوكتْ على نيربن إذ تُحاكُ ... تَخْتبطُ الشَّوكَ ولا تُشاكُ ولا يجوز إخلاص الكسر ولا إخلاص الضم إذا أُسند الفعل إلى تاء الضمير ونونه إلا بشرط ألا يلتبس فعل المفعول بفعل الفاعل. بل يتعين عند خوف الالتباس إشمام الكسرة ضما، ومثال ما يخاف الالتباس فيه قولك في بيع العبد بِعْت يا عبد، وفي عُوق الطالب عقت يا طالب. فإن هذا ونحوه لا يعلم كون المخاطب فيه مفعولا إذا أخلصت الكسرة مما عينه ياء، والضمة مما عينه واو، بل الذي يتبادر إلى ذهن السامع كون المسند إليه فاعلا والمراد كونه مفعولا، ولا يفهم ذلك إلا بالإشمام فيهما وبإخلاص الضمة في نحو بُعْتَ يا عبد، وبإخلاص الكسرة في نحو عِقْتَ يا طالب، فوجب اجتناب ما يوقع في اللبس. وإلى هذا أشرت بقولي "ويمنع الإخلاص عند خوف اللبس".

ومن العرب من يكسر فاء رُدَّ ونحوه بإخلاص وإشمام. وحكى الأخفش أن من العرب من يقول في تُعولِم تُعيلم، وهو في الشذوذ مشبه بقول بعض في ابنك وأخيك ابنؤك وأخْؤُكَ. وقد يقال في فُعِل فُعْل تخفيفا دون نقل. وربما نقلوا فقالوا في عَلِم عِلْم. وإلى هذا أشرت بقولي "وكسر فاء فعل ساكن العين لإدغام أو تخفيف لغة". وما تعلق بالفعل وليس بفاعل ولا شبيه به ولا بنائب عنه فمنصوب لفظا إن لم يدخل عليه حرف جر، ومحلا إن دخل عليه، وأمثلة ذلك بيّنة، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها. وقد يحملهم ظهور المعنى والعلم بأمن اللبس مع ألا يجهل المراد على الإتيان في جملة واحدة بفاعل منصوب ومفعول مرفوع كقولهم: خرق الثوبُ المسمارَ، وكسَر الزجاجُ الحجرَ، وكقول الشاعر: مثلُ القنافد هدَّاجونَ قد بلغتْ ... نجرانَ أو بلغتْ سوءاتهم هجرُ فرفع هجر ونصب السوءات وهي البالغة وهجر مبلوغة، كما رُفع الثوب وهو

المخروق ونصب المسمار وهو الخارق. ومن هذا القبيل قول الراجز: إنَّ سِراجا لكريمٌ مَفْخَرُهْ ... تَحْلَى به العينُ إذا ما تَحْقِرُهْ وحقه أن يقول يحلى بالعين، وقد حمل بعض النحويين على هذا قوله تعالى: (ما إنَّ مفاتِحه لَتَنوءُ بالعُصْبة) حكى ذلك الفراء ورجح كون الباء معدّية كما هي في قوله تعالى: (ذهب الله بنورهم) أي أذهب الله نورهم، وكما هي في قول الشاعر: ديارَ التي كادتْ ونحنُ على منى ... تَحِلُّ بنا لولا نجاءُ الركائِبِ فصل: ص: يجب وصل الفعل بمرفوعه إن خيف التباسه بالمنصوب، أو كان ضميرا غير محصور وكذا الحكم عند غير الكسائي وابن الأنباري في نحو ما ضرب عمرو إلا زيدا، فإن كان المرفوع ظاهرا والمنصوب ضمير لم يسبق الفعل ولم يحصر فبالعكس، وكذا الحكم عند غير الكسائي في نحو ما ضرب عمرا إلا زيد، وعند الأكثرين في نحو ضرب غُلامُه زيدا، والصحيح جوازه على قلة". ش: المرفوع بالفعل كجزئه، فالأصل أن يليه بلا فصل، وانفصاله بالمنصوب جائز ما لم يعرض موجب للبقاء على الأصل أو للخروج عنه، فيجب البقاء على الأصل عند خوف التباس المرفوع بالمنصوب نحو ضرب هذا ذاك، فالمرفوع في مثل هذا هو الأول إذ لا يتميز من المنصوب إلا بالتقديم، فلو تميز بقرينة لفظية أو معنوية لجاز التقديم والتأخير نحو ضرب موسى سلمى ولحقت الأولى الأخرى. ويجب أيضا البقاء على الأصل إذا كان المرفوع ضميرا غير محصور نحو ضربت زيدا وأكرمتك،

فتقديم المرفوع أيضا في مثل هذا واجب. وعبرت بالمرفوع ليدخل الفاعل واسم كان والنائب عن الفاعل. وإذا كان مرفوع الفعل محصورا وجب تأخيره وتقديم المنصوب عند البصريين والكوفيين إلا الكسائي. ويستوي في ذلك المضمر والظاهر، فالمضمر كقوله تعالى: (لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو) والظاهر نحو لا يصرف السوءَ إلا اللهُ. فلو قلت لا يصرف إلا اللهُ السوءَ امتنع عند غير الكسائي فلو كان الحصر في غير المرفوع لزم أيضا تأخير المحصور إلا عند الكسائي وأبي بكر بن الأنباري نحو لا يرحم اللهُ إلا الرحماءَ، فلو قلت لا يرحم الرحماء إلا اللهُ لم يجز إلا عندهما. وحجة من منع تقديم المحصور مطلقا حمل الحصر بإلا على الحصر بإنما، وذلك أن الاسمين بعد إنما لا يعرف متعلق الحصر منهما إلا بتأخره كقولك قاصدا لحصر المفعولية في زيد إنما يضرب عمرو زيدا، فالمراد كون الضرب الصادر من عمرو مخصوصا به زيد، ولا يُعلَم هذا إلا بتأخير زيد فامتنع تقديمه، وجعل المقرون بإلا متأخرا وإن كان لا يخفى كونه محصورا لو لم يتأخر ليجرى الحصر على سنن واحد. ولم يلزم الكسائي ذلك، لأن الاقتران بإلا يدل على المعنى، والتوسع عند وضوح المعنى أولى من التضييق بمنع أحد الاستعمالين. واعتبر ابن الأنباري تأخر المقرون بإلا لفظا أو تقديرا فأجاز تقديمه إذا لم يكن مرفوعا، لأنه وإن تقدم لفظا فهو مؤخر معنى، ولم يُجِز تقديمه إذا كان مرفوعا، لأنه إذا تقدم لفظا تقدم معنى فيلزم من تقديمه فوات تأخر المحصور لفظا أو تقديرا وذلك غير جائز. ويؤيد ما ذهب إليه أبو بكر قول الشاعر: تَزَوّدتُ من ليلى بتَكليم ساعةٍ ... فما زاد إلَّا ضِعْفَ ما بي كلامُها ومثله في مفعول ما لم يُسمّ فاعله قول زهير:

وهلْ ينبتُ الخِطّيَّ إلّا وشيجُهُ ... وتُغْرَسُ إلّا في منابتها النخلُ ومما يجب فيه الخروج عن الأصل أن يكون المرفوع ظاهرا والمنصوب ضميرا غير محصور نحو أكرمك زيد والثوبُ كُسيَهُ زيد. فلو قصد حصر المنصوب تأخر وتقدم المرفوع نحو ما أكرم زيد إلا إيّاك والثوبُ ما كُسيَ زيدٌ إلا إياه، فلو قصد تقديم المنصوب على الفعل اهتماما به لقيل إياك أكرمَ زيدٌ، والثوب إياه كُسِيَ زيدٌ. وإلى هذا كله أشرت بقولي "فإن كان المرفوع ظاهرا والمنصوب ضمير لم يسبق الفعل ولم يحصر فبالعكس". ومنع أكثر النحويين تقديم المرفوع الملابس ضميرا عائدا على المنصوب نحو ضربَ غلامُه زيدا، والصحيح جوازه لوروده في كلام العرب الفصحاء كقول حسان رضي الله عنه: ولو أنَّ مَجْدا أخْلدَ الدهرَ واحدا ... مِن الناس أبقى مَجدُه الدهرَ مُطْعِما وكقول الآخر: كسا حِلْمُه ذا الحلمَ أثواب سؤدد ... ورَقَّى نداه ذا الندى في ذُرَى المجْد فقدّم فاعل كسا وفاعل رقّى، وكلاهما مضاف إلى ضمير مفعول متأخر. وكقول الآخر: ألا ليتَ شعري هل يلومَنَّ قومُه ... زُهيرًا على ما جَرَّ مِن كلّ جانب وكقول الآخر: جزى بنُوه أبا الغيلان عن كِبَرٍ ... وحُسنِ فعلٍ كما يُجزى سِنِمّارُ وكقول الآخر:

باب اشتغال العامل عن الاسم بضميره أو ملابسه

لمّا رأى طالبوه مُصْعبًا ذُعِروا ... وكاد لو ساعدَ المقدور ينتصرُ وكقوله: يُغنى حلاها هند عن حِلْيتي ... وترى البذاذة أحسن الزِّيّ وقد سبق الكلام عن هذه المسألة مستوفى في باب الضمائر. باب اشتغال العامل عن الاسم بضميره أو ملابسه ص: إذا انتصب لفظا أو تقديرا ضمير اسم سابق مفتقر لما بعده أو ملابس ضميره بجائز العمل فيما قبله غير صلة ولا مشبه بها، ولا شرط مفصول بأداته، ولا جواب مجزوم ولا مسند إلى ضمير للسابق متصل ولا تالي استثناء أو معلق أو حرف ناسخ أو كم الخبرية أو حرف تحضيض أو عَرْض أو تمنّ بألا وجب نصب الاسم السابق إن تلاما يختص بالفعل أو استفهام ما بغير الهمزة بعامل لا يظهر موافق للظاهر أو مقارب، وقد يضمر مطاوع للظاهر فيرفع السابق. ش: اشتغال العامل عبارة عن أخذه معموله، واشتغال العامل بتناول اشتغال الفعل نحو أزيدا ضربته، واشتغال غير الفعل نحو أزيدا أنت ضاربه. وتقييدي المشتغل عنه بسابق مخرج للمشتغل عنه متأخرا نحو ضربته زيدا، على إبدال الظاهر من المضمر، وضربته زيد على الابتداء وتقديم الجملة خبرا، وملابس الضمير هو العامل فيه بإضافة نحو أزيدا ضربت غلامه؟ أو بغير إضافة نحو أزيدا ضربت راغبا فيه؟ وقيّد السابق بمفتقر لما بعده ليخرج المستغني عما بعده كزيد من قولك: في الدار زيد فاضربه، وكقوله تعالى: (والسَّارقُ والسَّارقُ فاقطعوا أيديهما) على

تقدير سيبويه، فإن تقديره عنده: وفيما يُتلى عليكم السارق والسارقة، ولولا ذلك لكان النصب مختارا، لأن الفعل المشتغل إذا كان أمرا أو نهيا ترجح النصب. والباء من قولي "بجائز العمل" متعلقة بقولي "انتصب". ونبّهت بذلك على أن شرط انتصاب المشتغل عنه بالعامل صحة تسلطه عليه لو عدم الشاغل. فخرج بذلك فعل التعجب نحو زيد ما أحسنه، وأسماء الأفعال نحو زيد تراكه، وأفعل التفضيل نحو زيد أكرم منه عمرو، فليس للاسم المتقدم على هذه إلا الرفع، لأنها لا تعمل فيما تقدم، وما لا يعمل لا يُفسّر عاملا على الوجه المعتبر في هذا الباب. والوجه المعتبر في هذا الباب كون العامل المشغول عوضا في اللفظ من العامل المضمر دليلا عليه، ولكونه عوضا امتنع الإظهار، إذ لا يجمع بين العوض والمعوض منه، ولكونه دليلا لزم أن يكون موافقا في المعنى أو مقاربا، فلو قصدت الدلالة دون التعويض لم تكن المسألة من باب الاشتغال كقول الشاعر: يأيُّها المائحُ دَلْوِي دُونَكا فدلوي منصوب بعامل مقدر مدلول عليه بالملفوظ، نص على ذلك سيبويه. وليس الملفوظ به عوضا من المقدر، فلو جمع بينهما لم يمتنع، فالحاصل أن المجعول دليلا دون تعويض لا تلزم صلاحيته للعمل في موضع دلالته، بخلاف المجعول دليلا وعوضا. ومن كلام العرب: البَهْمَ أين هو؟ فنصب قائل هذا "البَهْمَ" بفعل مضمر وجعل هو دليلا عليه مع عدم صلاحيته للعمل. ونبّهت أيضا على ما يعرض للعامل الجائز العمل فيما قبله مما يجعله ممنوع العمل

وممنوع الصلاحية للتفسير، فمن ذلك وقوعه صلة نحو زيد أنا الضاربه، وأذكرق إن تلدْه ناقتُك أحبُّ إليك أم أنثى. ومن ذلك شَبَهه بصلة نحو ما شيءٌ تحبّه يُكرَه، وزيدٌ حين ألقاه يُسَرّ، فإن الصفة والمضاف إليه يشبهان الصلة في تتميم ما قبلهما بهما فلا عمل لهما فيما تقدم مع التفريغ ولا يفسّران عاملا فيه مع الاشتغال. ومن موانع العمل والتفسير وقوع الفعل شرطا مفصولا بأداته نحو زيدٌ إنْ زُرْتَه يكرمْك، فإن أداة الشرط لها صدر الكلام فلا يؤثر معمولها فيما قبلها عملا ولا تفسيرا. واحترزت بقولي "مفصول بأداته" من نحو إنْ زيدا أكرمته نصرك، فإنّ له حُكْما يأتي ذكرُه. ومن الموانع للعمل والتفسير وقوع الفعل جوابا مجزوما نحو زيدٌ إنْ يقُمْ أكرمه، فلو كان الفعل الواقع موقع الجواب مرفوعا جاز عند سيبويه إعماله في الاسم السابق مع التفريغ وتفسيره عاملا فيه مع الاشتغال، لأنه عنده مقدر التقديم مدلول به على جواب محذوف. ومن موانع العمل والتفسير إسناد الفعل إلى ضمير الاسم السابق مع كون الضمير متصلا نحو أزيد ظنّه ناجيا، بمعنى ظن نفسه، وذلك ممتنع لاستلزامه كون الفاعل الذي هو عمدة مفسرا بالمفعول الذي حقه أن يكون فضلة، فلو كان الضمير منفصلا جازت المسألة نحو زيدا لم يظنه ناجيا إلا هو، لأن الضمير المنفصل كالظاهر، فيتنزل هذا منزلة زيدا لم يظنه ناجيا إلا عمرو، لأن أصل لم يظنه ناجيا إلا هو: لم يظنه أحد ناجيا فصحت المسألة، ولم يلزم كون العمدة متوقفا في معموليته على الفضلة كما لزم إذا كان المسند إليه ضميرا متصلا مفسرا بالمعمول. ومن موانع العمل في السابق والتفسير لعامل فيه وقوع الفعل بعد استثناء نحو ما زيدٌ إلا يضربه عمرو، فلا يجوز في زيد وما وقع موقعه إلا الرفع، لأنما بعد إلا لا يعمل فيما قبلها ولا يفسر عاملا فيه. وكذلك ما وقع بعد معلق والمراد بالمعلق الاستفهام والنفي بما ولا ما الابتداء والقسم نحو زيد هل ضربته وعمرو كيف وجدته وخالد ما لمسته وعمرو لمَحُبّه بشر، والمحسن ليَجزينّه اللهُ، فلا يجوز في زيد وعمرو وخالد والمحسن وما وقع مواقعها إلا الرفع، لأنَّ ما بعد الاستفهام

وما النافية ولامي الابتداء والقسم لا يعمل فيما قبلها ولا يفسر عاملا فيه. وكذلك ما وقع بعد حرف ناسخ للابتداء نحو زيدٌ إني أضربه وعمرو ليتني ألقاه، وكذا الواقع بعد كم الخبرية نحو زيد كم لقيته فإنها أجريت مجرى الاستفهامية، وكذا الواقع بعد التحضيض نحو زيد هلَّا ضربته، وبعد العَرْض نحو عمر ألا تكرمه، وبعد التمني نحو العَوْن على الخير ألا أجده. هذا مذهب المحققين العارفين بكتاب سيبويه أعني إجراء التحضيض والعرض والتمني بألا مجرى الاستفهام في منع تأثر ما قبلها بما بعدها. وإنما أجريت مجراه لأن معنى هلَّا فعلت وهلا تفعل: لِمَ لمْ تفعلْ ولمَ لا تفعل. ومعنى ألَا تفعل أتَفعل، مع أن هلّا مركبة من هل ولا، وألا مركبة من الهمزة ولا، فوجب مع التركيب ما وجب قبله. وقد عكس قوم الأمر فجعلوا توسيط التحضيض وإخوته قرينة يرجح بها نصب الاسم السابق. وممن ذهب إلى هذا أبو موسى الجزولي وهو ضد مذهب سيبويه. ومن موانع نصب الاسم السابق بالفعل المشغول وقوعه بعد إذا المفاجأة نحو خرجت فإذا زيد يضربه عمرو، ولا يجوز عندي في زيد وما وقع موقعه إلا الرفع، لأن العرب ألزمت "إذا" هذه ألا يليها إلا مبتدأ بعده خبر، أو خبر بعده مبتدأ، فمن نصب ما بعدها فقد استعمل ما لم تستعمل العرب في نثر ولا نظم. وقد ألحقها سيبويه بأمّا قياسا، فأجاز نصب الاسم الذي يليها بفعل مضمر يفسره المشغول بعده نحو خرجت فإذا زيد يضربه عمرو، كما يقال أمّا زيدا فيضربه عمرو. ولا ينبغي أن تلحق إذا بأمّا، لأن أمّا وإن لم يلها فعل فقد يليها معمول الفعل المفرغ كثيرا كقوله تعالى: (فأمّا اليتيمَ فلا تقهرْ وأمّا السائلَ فلا تنهرْ) وقد يليها معمول مقدر بعده مفسر مشغول كقراءة بعض السلف: (وأمّا ثمودَ فهديناهم) ولم يل

إذا فعل ظاهر ولا معمول فعل إنما يليها أبدا في النثر والنظم مبتدأ وخبر منطوق بهما، أو مبتدأ محذوف الخبر، فمن أولاها غير ذلك فقد خالف كلام العرب فلا يُلتفت إليه ولو كان سيبويه. وقولي "وجب نصب السابق" أي إذا انتصب الضمير أو ملابسه على الوجه المذكور وعدمت موانع نصب صاحب الضمير وجب نصبه إن كان بعدها ما يختص بالفعل نحو إنْ زيدا ضربته عقل، أو كان بعد استفهام بغير الهمزة نحو هل مرادَك نلْتِه؛ فالنصب في هذين وشبههما واجب. ولا يجب مع الهمزة بل يكون مختارًا نحو أزيدا لقيته؟ ثم نبهت على أن ناصب الاسم السابق عامل لا يظهر موافق للعامل المشغول لفظا ومعنى إنْ أمكن وإلّا فمقارب له في المعنى، فالموافق كقولنا في أزيدا ضربته أضربت زيدا ضربته، والمقارب كقولنا أزيدا مررت به وأعمرا كلمت أخاه: أجزت زيدا مررت به، وألابسْت عمرا كلمت أخاه. وقلت بعامل ليعم الفعل وشبهه نحو أزيدا أنت ضاربه والتقدير أضارب زيدا أنت ضاربه. وإن كان للفعل المشتغل مطاوع جاز أن يُضمر ويرفع به السابق كقول لبيد: فإنْ أنتَ لم ينفعْكَ عِلْمك فانتسِبْ ... لعلّك تَهديكَ القرونُ الأوائلُ فأنت فاعل تنتفع مضمرا، وجاز إضماره لأنه مطاوع ينفع، والمطاوع يستلزم المطاوع ويدل عليه. ولو أضمر الموافق لنصب وجاء بإياك. وفي مثل هذا البيت ما أنشد الأخفش من قول الشاعر: أتجزَعُ إنْ نفسٌ أتاها حِمامُها ... فهلّا التي عن بين جنبيكَ تدفَعُ

فرفع نفسا بمات مقدرا لأنه لازم لأتاها حِمامها كلزوم انتفع لنفع. وروى قول الشاعر: لا تجزعي إن مُنفِسٌ أهلكتُه ... وإذا هلكتُ فعند ذلك فاجزعي بنصب المنفس على إضمار الموافق وبرفعه على إضمار المطاوع. وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي "وقد يضمر مطاوع للسابق فيرفع السابق". ص: ويرجح نصبه على رفعه بالابتداء إن أجيب به استفهام بمفعول ما يليه أو بمضاف إليه مفعول ما يليه، أو وليه فعل أمر أو نهي أو دعاء أو ولي همزة استفهام أو حرف نفي لا يختص، أو حيث أو عاطفا على جملة فعلية تحقيقا أو تشبيها أو كان الرفع يوهم وصفا مخلّا". ش: لمّا فرغ من تبيين مواقع نصب الاسم وتبيين موجبات نصبه شرع في تبيين مرجحات نصبه على رفعه بالابتداء، فمن ذلك أن يجاب به استفهام بمفعول ما يليه أو بمضاف إليه مفعول ما يليه، فالأول كقولك زيدا ضربته، في جواب مَن قال: أيَّهم ضربت. والثاني كقولك ثوب زيد لبسته في جواب مَن قال: ثوب أيّهم لبست. ومنها أن يلي الاسم السابق فعل أمر أو نهي أو دعاء كقولك: زيدا زرْهُ وعمرا لا تقربْه وذنوبنا اللهمّ اغفرها. ومنها أن يلي الاسم السابق همزة استفهام أو حرف نفي لا يختص نحو أزيدا ضربته وما عمرا أهنته. وخُصّت بذكرها مع مرجحات النصب لأن غيرها من أدوات الاستفهام من موجبات النصب. وقيل حرف نفي احترازا من النفي بليس فإنها فعل وإذا وليها الاسم السابق كان اسمَها فتعيّن رفعه نحو ليس زيد أبغضه. وقيد حرف النفي بكونه لا يختص احترازا من "لن" ولم ولما الجازمة، لأن الاسم لا يلي واحدا منها إلا في الضرورة. وحكمه حينئذ أن يضمر له على سبيل الوجوب فعل يفسّره المشغول كما قال الشاعر:

ظُننتُ فقيرا ذا غنى ثم نلتُهز ... فلَمْ ذا رجاءٍ ألقَه غير واهبِ أراد فلم ألق ذا رجاء ألقه غير واهب. ومن مرجحات النصب أن يلي الاسم السابق حيث كقولك حيث زيدا تلقاه يكرمك. ومنها أن يلي الاسم حرف عطف قبله جملة فعلية، متعديا كان فعلها أو غير متعد، فالمتعدي نحو لقيت زيدا وعمرا كلّمته، وغير المتعدي نحو جاء سعد وسعيدا زرته، فنصب عمرو وسعيد راجح على رفعهما، لأنك في نصبهما عاطف جملة فعلية على جملة فعلية، وأنت في رفعهما عاطف جملة ابتدائية على جملة فعلية، والمشاكلة في عطف الجمل راجحة. وليس الغرض في ترجيح نصب ما بعد العطف إلّا تعادُلَ اللفظ ظاهرا. ولولا ذلك لم يرجح بعد حتى لأنها لا تعطف بها جملة بل مفرد على كل، فإذا قلت ضربت القوم حتى زيدا ضربت أخاه، فحتى حرف ابتداء. ولكن لمّا وليها في اللفظ بعض ما قبلها أشبهت العاطفة فأعطى تاليها ما يعطى تالي الواو، فإن قلت ضربتهم حتى زيدا ضربته فالأجود أن تنصب زيدا بمقتضى العطف وتجعل ضربته توكيدا، فلو قلت ضربت زيدا حتى عمرو ضربته تعين رفع عمرو لزوال شبه حتى الابتدائية بالعاطفة، إذ لا تقع العاطفة إلّا بين كلّ وبعض. ومن مرجحات النصب أن يكون مخلّصا من إيهام غير الصواب والرفع بخلاف ذلك كقوله تعالى: (إنّا كلَّ شيء خلقناه بقَدَرٍ) فنصْب كل شيء يرفع توهم كون خلقناه صفة لشيء إذ لو كان صفة له لم يفسّر ناصبا لما قبله. وإذا لم يكن صفة كان خبرا، فتعين عموم خلق الأشياء بقدر خيرا كانت أو شرا وهو قول أهل السنّة. ولو قرئ كلُّ شيء بالرفع لاحتمل أن يكون خلقناه صفة مخصصة وأن

يكون خبرا، فكان النصب لرفعه احتمال غير الصواب راجحا. وإلى هذا أشرت بقولي "أو كان الرفع يوهم وصفا مخلا". ص: وإن ولى العاطف جملة ذات وجهين، أي اسميّة الصدر فعليّة العجز استوى الرفع والنصب مطلقا خلافا للأخفش ومَن وافقه في ترجيح الرفع إن لم يصلح جعل ما بعد العاطف خبرا. ولا أثر للعاطف أن وليه "أمّا" وابتداءُ المسبوق باستفهام أولى من نصبه إن ولى فصلا بغير ظرف أو شبهه خلافا للأخفش، وكذا ابتداء المتلوّ بلم أو لن أولا أولى خلافا لابن السيِّد. وإن عدم المانع والموجب والمرجّح والمسوّى ترجّح الابتداء خلافا للكسائي في ترجيح نصب تالي ما هو فاعل في المعنى نحو أنا زيد ضربته وأنت عمرو كلّمته. ش: تسمى الجملة ذات وجهين إذا ابتدئت بمبتدأ وختمت بمعمول فعل، لأنها اسمية من جهتها الأولى فعلية من جهتها الأخرى. فإذا توسط عاطف بينها وبين الاسم المشتغل عنه جاز رفعه ونصبه جوازا حسنا دون ترجيح، لأنه إذا رفع كان مبتدأ مخبرا عنه بجملة فعلية معطوفة على مبتدأ مخبر عنه بجملة فعلية، وإذا نصب كان معمول فعل معطوفا في اللفظ على معمول فعل، فمع كل واحد من العملين مشاكلة توجب عدم المفاضلة، ولكل منهما ضعف وقوة، فضعف الرفع لترتبه على أبعد المشاكلتين وقوته لصلاحية الثاني فيه لأن يسد مسدّ الأوّل. وضعف النصْب لعدم صلاحية الثاني فيه أن يسد مسدَّ المحمول عليه وقوته لترتبه على أقوى المشاكلتين، فحصل بذلك تعادل في مراعاة التشاكل، وشهد لحسن الوجهين قوله تعالى: (والقمرَ قدَّرْناه منازلَ حتّى عاد) قرأه الحرميان وأبو عمرو بالرفع والباقون

بالنصب، واتفقوا على نصب (والسماءَ رفعها ووضع الميزان) وكلاهما من العطف على جملة ذات وجهين، وفيهما ردّ على الأخفش لأنه يستضعف النصب بعد العاطف على جملة ذات وجهين ما لم تتضمن الجملة المعطوفة ذكْرا يرجع إلى المبتدأ نحو زيد لقيته وعمرو رأيته معه. ففي مثل هذا استوى عنده الرفع والنصب. وأما في مثل زيد لقيته وعمرو رأيته فلا يستحسن نصب ما بعد العاطف، لأن ذلك يستلزم عطف جملة لا محل لها من الإعراب على جملة لها محل من الإعراب، وهذا ساقط عند سيبويه، لأن ما للجمل من الإعراب لمّا لم يظهر في اللفظ سقط حكمه، وجرت الجملة ذات المحل والتي لا محل لها مجرى واحدا، كما أن اسم الفاعل حين لم يظهر الضمير المرتفع به جرى مجرى ما لا ضمير فيه فقيل في تثنيته قائمان كما قيل فرسان. وإذا كان اسم الفاعل قد ظهر ضميره إذا جرى على غير من هو له ثم أجرى مع ذلك مجرى ما لا ضمير فيه لعدم ظهوره في بعض المواضع كان ما لا يظهر إعرابه أصلا أحق ألّا يعتدّ به. وإن وقعت بعد العاطف أمّا أبطلت حكم العطف فكان للاسم بعدها ما له مفتتحا به. فإن كان معه سوى العطف ما يرجح النصب حكم بمقتضاه وإلا فالرفع راجح. وإن حال بين الاستفهام وبين الاسم المشتغل عنه اسم آخر نحو أأنت زيد ضربته" بطل حكم الاستفهام عند سيبويه لبعده من الهمزة، ولا يبطل عند الأخفش وإن جاء في أول الكلام والفعل في آخره فيرفع أنت بضرب مقدرا وينصب زيدا، ويرى هذا أولى من جَعْل أنت مبتدأ أوّلا وزيدا مبتدأ ثانيا خبره ما بعده وهو خبر الأول. وهذا عند سيبويه أولى من الوجه الأول.

فلو كان الحائل ظرفا أو شبهه اتفقا على ترجيح النصب، لأن الفصل بهما مغتفر في مواضع كثيرة. وزعم أبو محمد بن السيِّد أن نصب الاسم قبل المنفي بلم أو لن أولا راجح على الرفع، وليس بصحيح، لأن تقديم الاسم على فعل منفي بغير ما كتقدمه على فعل مثبت، فإنهما متقابلان كتقابل الأمر والنهي، فكما يستوي المتقدم على فعل الأمر والنهي كذلك يستوي المتقدم على فعلي الإثبات والنفي بغير ما، فلو كان النفي بما لم يجز النصب لأنها من بين حروف النفي مخصوصة بالتصدير. ولما تقدم التنبيه على مواضع النصب وموجباته ومرجحاته، نعلم من هذا أن رفع زيد أجود من نصبه في قولك زيد ضربته وزيد لقيته وعمرو هجوته وزيد أحببته وشبه ذلك مما لا قرينة فيه من القرائن المقدم ذكرها. وإذا تقدم على المشتغل عنه اسم هو وفاعل المشغول دالان على شيء واحد نحو أنا زيد ضربته وأنت عمرو أهنته رجح نصب المشتغل عنه عند الكسائي، لأن تقديمه وهو الفاعل في المعنى منبّه على مزيد العناية بالحديث عنه، فكأن المسند إليه متقدم، ولا اكتراث بذلك عند غير الكسائي، لأن الاسم المشار إليه لا يدل على فعل ولا يقتضيه فوجوده وعدمه سيّان. ص: وملابسة الضمير بنعت أو معطوف بالواو غير مُعادٍ معه العامل كملابسته بدونهما وكذا الملابسة بالعطف في غير ذا الباب، ولا يمنع نصب المشتغل عنه مجرورٌ حقّق فاعلية ما علق به خلافا لابن كيسان. وإن رفع المشغول عنه شاغله لفظا أو تقديرا فحكمه في تفسير رافع الاسم السابق حكمه في تفسير ناصبه.

ولا يجوز في نحو أزيد ذُهب به الاشتغال بمصدر منويّ ونصبُ صاحب الضمير خلافا للسيرافي وابن السراج". ش: ملابسة الضمير بنعت نحو أزيدا رأيت رجلا يحبه، وملابسته بمعطوف على الوجه المذكور نحو أزيدا رأيت عمرا وأخاه، فيحبه صفة لرجل، وأخاه معطوف على زيد والهاء منهما عائدة على المنعوت والمعطوف عليه، وبهما حصلت السببية وارتفعت الأجنبية فتنزل الكلام منزلة لو قيل: زيدا رأيت محبه وأزيدا رأيت أخاه. فلو كان العاطف غيرا لواو لم تجز المسألة، وكذا لو أعيد العامل، وحكم الملابسة في غير هذا الباب في العطف كحكمها فيه كقولك: مررت برجل قائم زيد وأخوه، ولا يجوز مررت برجل قائم زيدٌ أو أخوه، لأن العاطف غير الواو، ولا مررت برجل قائم زيد وقائم أخوه، لإعادة العامل، كما لم يجز مثل ذلك في غير هذا الباب، ولا يمتنع نصب الاسم في نحو زيد ظفرت به إذا كان المراد أن زيدا سبب الظفر. ومنع ذلك ابن كيسان لكون المجرور فاعلا في المعنى. وإليه أشرت بقولي "ولا يمتنع نصب المشتغل عنه بمجرور". وإذا كان المشغول رافعا لشاغله لفظا أو تقديرا فسّر رافعا لصاحب الضمير، وينقسم ذلك الرفع إلى واجب وراجح ومرجوح ومساوٍ كما انقسم النصب. فمثال الواجب رفع زيد في قولك: إن زيد قائم قمت. ومثال الراجح رفعه نحو قولك أزيد قام. ومثال المرجوح رفعه في نحو: زيد قائم، ومثال المساوي رفعه في نحو أنا قمت وزيد قعد، وسبب كون الرفع واجبا وراجحا ومرجوحا ومساويا مفهوم ببيان مثال ذلك في النصب. وذكر السيرافي أن الفاعلية في نحو أزيد قام راجحة على الابتداء عند الأخفش

مرجوحة عند الجرمي، وفي قول سيبويه احتمال. كذا زعم السيرافي وليس كما زعم، بل صرح بوجوب الفاعلية فإنه قال: وتقول أعبدُ الله ضرب أخوه زيدا لا يكون إلا الرفع، لأن الذي من سبب عبد الله فاعل والذي ليس من سببه مفعول فيرفع إذا ارتفع الذي من سببه كما ينصب إذا انتصب، ويكون المضمر ما يرفع كما أضمرت في الأول ما ينصب. فإنما جعل هذا المضمر بيان ما هو مثله. هذا نصه، فبان به خلاف ما زعم السيرافي، ولم يجز سيبويه في نحو أزيد ذهب به إلا الرفع بالابتداء أو بفعل مضمر كأنه قيل أذهب زيد به. وأجاز السيرافي النصب على إسناد ذهب إلى مصدر ذهب منويا وجعل المجرور في موضع نصب، وزعم أنه مذهب المبرد وأجاز ذلك أيضا ابن السراج، وهو رأي ضعيف، لأنه مبني على الإسناد إلى المصدر الذي تضمنه الفعل ولا يتضمن الفعل إلا مصدرا غير مختص، والإسناد إليه منطوقا به غير مفيد فكيف إذا لم يكن منطوقا به. ص: وقد يفسر عامل الاسم المشغول عنه العامل الظاهر عاملا فيما قبله إن كان من سببه وكان المشغول مسندا إلى غير ضميريهما، فإن أسند إلى أحدهما فصاحبه مرفوع بمفسر المشغول وصاحب الآخر منصوب به". ش: تقول أزيدا أخاه تضربه أو يضربه عمرو، فينصب الأخ بفعل مضمر مفسر بتضربه وتنصب زيدا بفعل آخر مفسرا بالمضمر الذي نصب الأخ، لأن المضمر الذي نصب الأخ قد فسره بالفعل الظاهر وعُرف واستبان حتى صار كالظاهر فهو مفسر بما بعده ومفسر للمضمر قبله. هذا الحكم فيما أسند فيه المشغول إلى غير ضميري الاسمين المتقدمين، فلو أسند إلى أحدهما نحو أزيد أخاه يضربه، رفع صاحب المضمر المرفوع بفعل مفسر بالظاهر ناصب لصاحب المضمر المنصوب.

باب تعدي الفعل ولزومه

باب تعدّي الفعل ولزومه ص: إن اقتضى فعل مصوغا له باطراد اسم مفعول تام نصبه مفعولا به وسمي متعديا وواقعا ومجاوزا، وإلا فلازما. وقد يشهر بالاستعمالين فيصلح للاسمين، وإن علق اللازم بمفعول به معنى عدي بحر فجر، وقد يجرى مجرى المتعدي شذوذا أو لكثرة الاستعمال، أو لتضمن معنى يوجب ذلك. واطّرد الاستغناء عن حرف الجر المتعين مع أنَّ وأنْ محكوما على موضعهما بالنصب لا بالجر خلافا للخليل والكسائي. ولا يعامل بذلك لتعين الجار غيرهما خلافا للأخفش الأصغر، ولا خلاف في شذوذ بقاء الجر في: أشارت كليب بالأكف الأصابع. ش: الفعل المتعدي هو الناصب مفعولا به دون حاجة إلى تقدير حرف جر. فإن حسن تقدير حرف جر معدّ مع منصوبه بلا تأول قيل فيه متعدّ بإسقاط حرف الجر نحو قوله تعالى: (لأقْعُدَنَّ لهم صراطك المستقيم) وقوله تعالى: (أعَجِلْتُم أمرَ ربِّكم) وكقول الشاعر: كأنِّي إذا أسْعَى لأظفرَ طائِرا ... مع النَّجْم في جوِّ السماء يَصُوبُ وكقول الآخر: تَحِنَّ فتُبدي ما بها من صَبابةٍ ... وأُخْفِي الذي لولا الأسى لقضاني

والأصل: على صراطك المستقيم، وعن أمر ربكم، ولأظفر بطائر، ولقضى عليّ، وإلى قضاني ونحوه أشرت بقولي "وقد يجرى مجرى المتعدي شذوذا" وإذا استعمل الفعل متعديا بنفسه تارة وبحرف جر تارة، ولم يكن أحد الاستعمالين مشهورا قيل فيه متعد بوجهين. ولم يحكم بتقدير الحرف عند سقوطه ولا بزيادة عند ثبوته نحو شكرته وشكرت له ونصحته ونصحت له. ويسمى أيضا المتعدي بنفسه مجاوزا وواقعا. وما لا بد له من حرف الجر فهو لازم. ولا يتميز المتعدي من اللازم بالمعنى والتعلق، فإن الفعلين قد يتحدان معنى وأحدهما متعد والآخر لازم كصدقته وآمنت به ونسيته وذهلت عنه وحببته ورغبت فيه واستطعته وقدرت عليه ورجوته وطمعت فيه وتجنبته وأعرضت عنه. وإنما تميّزُ المتعدي بأن يتصل به كاف الضمير أو هاؤه أو ياؤه باطراد، وبأن يصاغ منه اسم مفعول تام باطراد نحو صدقته وحببته وأردته ورجوته فهو مصدّق ومحبوب ومراد ومرجوّ. وبهذا عُلم أن قال متعدّ لاطراد نحو قلته فهو مَقول. ولو قُصد هذان الأمران من ذهلت ورغبت وطمعت وأعرضت لم يُستغن عن الحرف كقولك ذهلت عنه ورغبت فيه وطمعت فيه وأعرضت عنه، فهو مذهول عنه ومرغوب فيه ومطموع فيه ومعرَض عنه، فلا يتأتى صوغ المفعول تاما بل ناقصا، أي مفتقرا إلى حرف الجر، فتعلم بذلك لزومه وعدم تعدّيه كما علمت بالتمام التعدي. وبهذا يُعلم صحة تقدير حرف الجر في قوله: "لأظفر طائرا"، لأنك لا تقول ظفرته فهو مظفور. وكذلك لا يقال في الصراط إلا قعدت عليه، لأن الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، وإذا ثبت أن اللازم هو المفتقر إلى حرف جر فليعلم أن الأصل ألّا يحذف حرف الجر. فإن ورد حذفه وكثر قُبل وقِيس عليه، وإن لم يكثر قُبل ولم يُقس عليه، فمن الذي كثر قولهم: دخلت الدار والمسجد ونحو ذلك، فيقاس على هذا دخلتَ البلد والبيت وغير ذلك من الأمكنة. ومن المقتصر فيه على السماع توجّه مكةَ وذهب الشامَ، ومُطرنا السهلَ والجبلَ، وضُرِب فلانٌ الظهرَ والبَطْنَ فلا يقاس على هذه الأسماء وما أشبهها غيرها. وإلى دخلت البلد ونحوه أشرت بقولي "أو لكثرة الاستعمال". وأشرت بقولي "أو لتضمن معنى يوجب ذلك" إلى قول بعضهم: رَحُبكمُ الدخول، فإنه ضمّنه معنى وَسع فأجراه مجراه.

واطرد حذف حرف الجر مع أنّ وأنْ وإن تعيّن عند حذفه نحو عجبتُ أنْ يُبغَض ناصحٌ وطمعت أنّك تُقبل. فلو لم يتعيّن الحرف عند حذفه مع أنّ وأنْ لامتنع الحذف نحو رغبت أن يكون كذا، فإنه لا يُدرى هل المراد رغبت في أن يكون أو عن أن يكون، والمرادان متضادان معنى فيمتنع الحذف في مثل هذا. ومذهب الخليل والكسائي في "أنّ وأنْ" عند حذف حرف الجر المطرد حذفه أنهما في محل جر، ومذهب سيبويه والفراء أنهما في محل نصب وهو الأصح، لأن بقاء الجر بعد حذف عامله قليل والنصب كثير، والحمل على الكثير أولى من الحمل على القليل. وقد يستشهد لمذهب الخليل والكسائي بما أنشده الأخفش من قول الشاعر: وما زُرتُ ليلى أنْ تكون حبيبةً ... إليَّ ولا دَيْنٍ بها أنا طالِبُهْ وأجاز علي بن سليمان الأخفش أن يحكم باطراد حذف حرف الجر والنصب فيما لا لبس فيه كقول الشاعر: وأُخفي الذي لولا الأسى لقضاني والصحيح أن يتوقف فيه على السماع. قال سيبويه بعد أن حكى قولهم: عددتك ووزنتُك وكِلْتُك: ولا تقول وهبتُك، لئلا يتوهم كون المخاطب موهوبا، فإذا زال الإشكال نحو وهبتك الغلام جاز. وحكى أبو عمرو الشيباني: انطلقْ معي أهَبْك نَبْلا، يريد أهبُ لك. ولا خلاف في شذوذ حرف الجر وبقاء عمله كقول الشاعر:

إذا قِيلَ أيُّ الناسِ شَرّ قبيلةٍ ... أشارتْ كُليبٍ بالأكُفِّ الأصابعُ أراد أشارت إلى كليب فحذف إلى وأبقى عملها. ومثله: وكريمةٍ من آل قيس ألفتُه ... حتّى تبذّخ فارتقى الأعْلامِ فحذف إلى وأبقى الجر. فصل: ص: المتعدي من غير بابي ظن وأعلم متعد إلى واحد ومتعد إلى اثنين والأول متعد بنفسه وجوبا، وجائز التعدي واللزوم، وكذا الثاني بالنسبة إلى أحد المفعولين، والأصل تقديم ما هو فاعل معنى على ما ليس كذلك. وتقديم ما لا يُجر على ما قد يُجَر. وترك هذا الأصل واجب وجائز وممتنع، لمثل القرائن المذكورة فيما مضى". ش: لما تقدم الكلام على ظن وأعلم وأخواتهما استثنيتهما بقولي "المتعدي من غير بابي ظن وأعلم" وبينت أن المتعدي مما سواهما لا يوجد منه متعد إلى أكثر من اثنين، بل هو إما متعد إلى واحد بنفسه أبدا كضرب وأكل مما لا يحتاج إلى حرف جر، وإما متعدّ بنفسه تارة وبحرف جر تارة كشكر ونصح، مما يقال له متعد بوجهين. وقد أشرت إلى ذلك من قبل هذا مجملا. ثم أشرت إليه الآن مفصلا. ثم بينت أن المتعدي إلى اثنين من هذا الباب إما متعد إليهما بنفسه نحو كسا وأعطى. وإما متعدّ إلى أحدهما بنفسه أبدا وإلى الآخر بوجهين نحو اختار وأمر تقول: كسوت زيدا ثوبا وأعطيته درهما، فلا تحتاج إلى حرف جر، ولا يجوز لك أن تأتي به. وتقول اخترت زيدا قومه وأمرته الخير، واخترته من قومه وأمرته بالخير. ومأخذ هذا النوع السماع.

والأصل تقديم المفعول الذي هو فاعل معنى على المفعول الذي ليس كذلك كزيد من مسألة أعطيت زيدا درهما، فإنه مفعول في اللفظ فاعل في المعنى لكونه آخذا ومتناولا، بخلاف الدرهم فإنه مفعول في اللفظ والمعنى فأصله أن يتأخر وأصل الآخر أن يتقدم. وكذا الأصل تقديم ما يتعدى إليه الفعل بنفسه أبدا وتأخير ما يتعدى إليه بوجهين، لأن علقة ما لا يحتاج إلى واسطة أقوى من علقة ما يحتاج إليها، فلذلك يقال أعطيت درهمه زيدا واخترت قومَه عمرا، ولا يقال أعطيت صاحبَه الدرهم ولا اخترت أحدهم القومَ، إلا على قول من قال ضرب غلامُه زيدا. ومثال وجوب ترك الأصل ما أعطيت درهما إلا زيدا وأعطيت الدرهم صاحبه. ومثال امتناع ترك الأصل ما أعطيت زيدا إلا عمرا وأعطيت زيدا عمرا، فالأول والثاني نظيرا ما ضرب عمرا إلا زيد، وضرب زيدا غلامُه، والثالث والرابع نظيرا ما ضرب زيد إلا عمرا، وضرب موسى وعيسى. وإلى هذا أشرت بقولي "واجب وجائز وممتنع لمثل القرائن المذكورة فيما مضى". وما خلا من سبب الوجوب، وسبب الامتناع فجائز بقاؤه على الأصل نحو كسوت زيدا ثوبا، ومخالفته للأصل نحو كسوت ثوبا زيدا. فصل: ص: يجب تأخير منصوب الفعل إن كان أنّ مشددة أو مخففة، وتقديمه إن تضمن معنى استفهام أو شرط أو أضيف إلى ما تضمنهما أو نصبه جواب أما. ويجوز في غير ذلك إن علم النصب تأخير الفعل غير تعجيبي ولا موصول به حرف ولا مقرون بلام ابتداء أو قسم مطلقا خلافا للكوفيين في منع نحو زيدا غلامُه ضرب، وغلامَه أو غلامَ أخيه ضرب زيد، وما أراد أخذ زيدٌ وما طعامك أكل إلا زيدٌ، ولا يُوقَع فعلُ مضمرٍ متصل على مفسره الظاهر، وقد يُوقَع على مضاف إليه أو موصول بفعله. ش: لا يجوز في علمت أنّكَ منطلقٌ، ولا خِلت أن ستفعل: أنك منطلق علمتُ، ولا أن ستفعل خلتُ، لأن أن المشدّدة والمخفّفة منها لا يبتدأ بهما كلام. وعلى هذا نبهت بقولي "يجب تأخير منصوب الفعل إن كان أنّ مشددة

أو مخففة" ولا يعترض على هذا بقوله تعالى (إنَّ هذه أمّتكم أمةً واحدةً)، و: (أنَّ المساجد لله)، لأن الأخفش جعل تقديرهما: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. فإن جواز هذا مرتب على تقدير اللام وتقدير الجر بها، وهي عند سيبويه أقوى من جعل أن في موضع نصب كما يراه الخليل، ولو قُدِّر نصبا لم يجز تقديمها كما لا يقدم في علمت أن زيدا منطلق، فإن المنصوب بحذف حرف الجر فرع المنصوب بمتعدّ، فلا يقع إلا حيث يقع، ومنصوب الفعل يعم المفعول به والظرف وغيرهما، فإذا كان أحد أسماء الاستفهام أو الشرط وجب تقديمه على الفعل نحو مَن رأيتَ؟ وأيَّهم لقيتَ، ومتى قدمتَ وأين قُمتَ؟ ومَن تكرمْ يكرمْك وأيَّهم تدْعُ يُجبْكَ ومتى تُعنْ تُعَنْ. وكذا المضاف إلى شيء منها نحو غلامَ من رأيتَ، وفعْلِ أيهم استحسنت؟ وكذا المنصوب بفعل وقع جوابا لأمّا نحو (فأمّا اليتيمَ فلا تقهرْ). وما سوى ذلك من منصوب بفعل متصرّف فجائز تقديمه عليه، إن ظهر النصبُ، أو أغنى عن ظهوره قرينة نحو زيدا ضرب عمرو، وحبارى صاد موسى. فإن كان الفعل صلة حرف أو مقرونا بلام الابتداء أو القسم وجب تأخير ما يتعلق به نحو من البِرّ أن تكُفَّ لسانَك وإن اللهَ ليُحبُّ المحسنين، ووالله لأقولنّ الحقَّ. فإن خلا الفعل من ذلك جاز تقديم منصوبه عليه مطلقا خلافا للكوفيين في منع زيدا غلامُه ضربَ وغلامَه ضرب زيدٌ وغلامَ أخيه ضرب زيد، وما أراد أخذ زيدٌ، وما طعامَك أكل إلا زيدٌ. فإن الكوفيين يمنعون هذه المسائل وأشباهها، وهي جائزة لثبوت استعمالها، فمثال زيدا غلامُه ضرب قول رجل من طيّء في كعب بن زهير وأخيه رضي الله عنه ورحم كعبا: كعبًا أخوه نهى فانقاد مُنْتهيا ... ولو أبى باءَ بالتخليد في سَقَرا

ومثال غلامَه ضرب زيدٌ قول الشاعر: رأيَه يَحمدُ الذي ألفَ الحزْ ... مَ ويشْقى بسعيه المغرورُ ومثال غلام أخيه ضرب زيد قول الآخر: شر يومَيْها وأغواه لها ... رَكِبتْ عَنْزٌ بِحِدْج جَمَلا ومثال ما أراد أخذ زيد قول الشاعر: ما شاء أنشأ ربّي والذي هو لم ... يشأ فلستَ تراه ناشئا أبدا ومثال ما طعامَك أكل إلا زيد قول الشاعر: ما المرءَ ينفعُ إلا ربُّه فعلا ... مَ تُستمالُ بغير الله آمالُ ولا يوقع فعل مضمر متصل على مفسّره الظاهر نحو زيدا ضرب، على أن يكون زيد ضرب نفسه فيسندض رب غلى ضمير يفسره لفظ زيد منصوب به، فلا يجوز هذا، لأن جوازه يستلزم توقف مفهومية ما لا يُستغنى عنه وهو الفاعل على مفهومية ما يُستغنى عنه وهو المفعول. فلو كان الفاعل ضميرا منفصلا جاز إيقاع فعله على مفسره الظاهر نحو ما ضرب زيدا إلا هو، لأن الضمير المنفصل فيما نحن بسبيله مقدر قبل ظاهر مبدل منه الضمير، فتقدير ما ضرب زيدا إلا هو: ما ضرب زيدا أحدٌ إلا هو، فقيام الضمير المنفصل مقام الظاهر المقدّر سَهَّلَ إيقاعَ فعلِه على مفسره الظاهر فحُكِم بالجواز. وقد يُوقَع فعل ضمير متصل على مضاف إلى مفسر الضمير نحو غلام هند ضَرَبتْ، ففاعل ضَرَبَتْ ضمير هند وجاز هذا لأنه في تقدير ضربتْ هند غلامَها، ومثله قول الشاعر: أجَلَ المرء يَسْتحثُّ ولا يَدْ ... رِي إذا يبتغي حصولَ الأماني

يريد المرء في وقت ابتغاء الأماني يستحثّ أجله ولا يشْعر. وقد يوقع فعل ضمير متصل على موصول بفعل مسند إلى مفسر الضمير نحو ما أراد زيد أخذه، فما في موضع نصب بأخذ، وزيد فاعل أراد وهما صلة لما، وفاعل أخذ ضمير زيد، وجاز هذا لأن التقدير أخذ زيد ما أراد. ومثله قول الشاعر: ما جَنت النفسُ مما راقَ منظره ... رامتْ ولم يَنْهَها بأسٌ ولا حَذَرُ ص: يجوز الاقتصار قياسا على منصوب الفعل مستغنى عنه بحضور معناه أو سببه أو مقارنه أو الوعد أو السؤال عنه بلفظه (أو معناه) وعن متعلقه، وبطلبه وبالرد على نافيه أو الناهي عنه أو على مثبته أو الآمر به. فإن كان الاقتصار في مثل أو شبهه في كثرة الاستعمال فهو لازم. وقد يجعل المنصوب مبتدأ أو خبرا فيلزم حذف ثاني الجزءين. ش: المقصود هنا التنبيه على حذف الفعل وفاعله والاقتصار على المفعول به، لأن الباب له، لكني ذكرت لفظا صالحا للمفعول به وغيره من منصوبات الفعل، لأنها كلها متساوية في صحة النصب بفعل محذوف كقولك: زيدا، لمن قال: مَن ضربت؟ وكقولك: حين ظلم، لمن قال: متى، وكقولك: ضربا يردعه، لمن قال أيّ ضرب ضربته، وكقولك تأديبا، لمن قال: لمَ ضربته، وكقولك مكتوفا، لمن قال كيف ضربته؟ ولغير المفعول به مواضع يستوفى فيها بعون الله بيان ما يحتاج إليه. ومثال الاستغناء عن لفظ الفعل بحضور معناه قولك لمن شرع في إعطاء: زيدا بإضمار أعْطِ، ولمن شرع في ذكر رؤيا: خيرا لنا وشرّا لعدونا، بإضمار رأيت، ولمن قطع حديثا: حديثك بإضمار تمّم أو نحو ذلك. ومثال الاستغناء بسبب الفعل قول الشاعر:

إذا تَغَنّى الحمامُ الوُرْقُ هَيَّجَني ... ولو تَسلّيتُ عنها أمَّ عمّارِ بإضمار ذكرت، لأن التهيج سبب التذكر وباعث عليه. ومثال الاستغناء بحضور مقارنة قولك لمَن تأهب للحجّ: مكة بإضمار أراد مكة، ولمن سدّد سهما: القرطاسَ، بإضمار تصيب، وللمواجهين مطلع الهلال إذا كبّروا: الهلالَ، بإضمار رأوا. ومن هذا القبيل قول الشاعر: لنْ تراها ولو تأمّلْت إلا ... ولها في مَفارِقِ الرأسِ طيبا بإضمار ترى، لأن رؤية الشخص مقارنة لرؤية ما يشتمل عليه، فاستغنى بفعل إحداهما عن الأخرى. وينبغي أن يكون ترى المضمر بمعنى تَعْلم، لأنه إذا كان بمعنى تُبصر يلزم من ذلك كون الموصوفة مكشوفة الرأس. وينبغي أيضا أن تجعل الفعل المضمر خبر مبتدأ محذوف لئلا تكون واو الحال داخلة على مضارع مثبت، وذلك غير جائز عند الأكثرين. وما أوهمه قُدّر قبله مبتدأ. ومثل هذا البيت قول الآخر: وجَدنا الصالحينَ لهم جزاءٌ ... وجَنّاتٍ وعَيْنا سَلْسَبيلا أي لهم جزاء ووجدانا لهم جنات، فأضمر، لأن الموجودين متقارنان فاستغنى بفعل أحدهما عن الفعل الآخر. ومن هذا القبيل قول الآخر: فكَرّتْ تبْتغيه فوافَقَتْه ... على دمِه ومصرعِه السباعا

أي ووافقت على دمه فأضمر، لأن الموافقتين مقترنان فاستغنى بفعل أحدهما عن فعل الأخرى. ويروى فصادفته. ومن هذا القبيل قول الآخر: تذكّرتْ أرضا بها أهلُها ... أخوالَها فيها وأعمامَها أي وتذكرت أخوالها فيها وأعمامها، فأضمر لأن التذكرين مقترنان فاستغنى بفعل أحدهما عن فعل الآخر. ومن هذا القبيل قول الآخر: قد سالَم الحياتُ منه القدما ... الأفْعُوان والشُجاعَ الشجعما أراد قد سالم الحيات منه القدم وسالمت القدم الأفعوان الشجاع الشجعم فحذف لأن المسالمتين مقترنتان فاستغنى بفعل إحداهما عن الأخرى. ويروى: قد سالم الحياتِ منه القدما – على جعل الحيات مفعولا والقدمان فاعلا، وحذفت النون كما حذفت نون: هما خُطَّتا إمّا إسارٌ ومنَّةٌ – بالرفع. ومثال الاستغناء بالوعد قولك زيدا لمن قال سأطعمُ من احتاج، بإضمار أطْعِمْ. ومثال الاستغناء بالسؤال عن الفعل بلفظه قولك لمن قال: هل رأيت أحدا، بلى زيدا بإضمار رأيت. ومثال الاستغناء بمعناه دون

لفظه قول من قال: بلى وجاذا، حين قيل له أفي مكان كذا وجذ بإضمار أعرف، لأن قوله أفي مكان كذا وَجْذ بمعنى أتعرف فيه وجذا. ومثال الاستغناء عن الفعل المسئول عن متعلقه قوله تعالى (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربُّكم قالوا خيرا) فنصب خيرا بأنزل مضمرا. ومثال الاستغناء عن الفعل في طلب قولهم: ألا رجل إما زيدا وإما عمرا، يريدون اجعله زيدا أو عمرا. ومنه قولهم: "اللهمَّ ضَبُعا وذِئْبا" بمعنى اجمع فيها ضبعا وذئبا. ومثال الاستغناء عن الفعل في الرد على نافيه قولك لمن قال ما لقيت أحدا: بلى زيدا بإضمار لقيت. ومثال الاستغناء عن الفعل في الرد عن الناهي عنه قولك لمن قال لا تضرب أحدا: بلى من أساء بإضمار أضرب. ومثال الاستغناء عن الفعل في الرد على الأمر به قولك لمن قال تعلّمْ لغة: لا بل نَحْوا بإضمار تعلّمْ. ومثال الاستغناء عن الفعل في الردّ على مثبته قولك لمن قال ضرب زيد عمرا: لا بل عامرا بإضمار ضربَ، فهو ردّ على وفق اللفظ. وأما الردّ على وفق المعنى دون اللفظ فكقوله تعالى: (وقالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيمَ) أي بل نتبع ملة إبراهيم، فأضمر نتبع لأن معنى كونوا هودا أو نصارى اتبعوا ملة اليهود وملة النصارى، فالإظهار والإضمار جائزان في أمثال هذه المسائل قياسا. فإن كان الذي اقتصر فيه على المفعول مَثَلا أو جاريا مجرى المثل في كثرة الاستعمال امتنع الإظهار ولزم الاقتصار، والمثل كقولهم "كلَّ شيء ولا شتيمةَ حُرّ" أي ايت ولا ترتكب، و"هذا ولا زَعماتك" أي ولا أتوهم. و"كليهما

وتَمْرا" أي أعطني وزدْني. والجاري مجرى المثل قولهم حسبك خيرا لك، ووراءك أوسع لك، وقوله تعالى (فآمنوا خيرا لكم) و (انتهوا خيرا لكم) قال سيبويه: وحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه في الكلام، ولعلم المخاطب أنه محمول على أمر حين قال انته فصار بدلا من قوله: ائت خيرا. قال ونظير ذلك من الكلام: ائته أمرًا قاصدا، فإنما قلت: ائته وائت أمرا قاصدا، إلّا أن هذا يجوز فيه إضمار الفعل يعني أن قول من قال ائته أمرا قاصدا ليس مثال ائته خيرا لك في كثرة الاستعمال فيلزم إضمار الفعل فيه كما التزم إضمار الفعل في ذلك. وقد غفل الزمخشري عن كلام سيبويه فجعل "انتهوا خيرا لكم" وائته أمرا قاصدا سواء. ومذهب الكسائي أن "خيْرا" منصوب بيكُنْ محذوفا والتقدير: يكن الانتهاء خيرا لكم. ورد عليه الفرّاء بأن قال: لو صحّ هذا التقدير لجاز أن يقال ائته أخانا على تقدير تكُنْ أخانا. وزعم هو أن التقدير: ائته انتهاءً خيرا، فحُذف المصدرُ وأقيمتْ صفتُه مقامه. وهذا القول مردود بقولهم: حَسْبُك خيرا لك: فإن تقدير مصدر ههنا لا يَحْسن، وبقولهم وراءَك أوسع لك فإن أوسع صفة لمكان لا لمصدر. ومثله ما أنشد سيبويه من قول الشاعر: فواعديه سرحتى مالكٍ ... أو الرُّبا بينهما أسْهلا وأسهل بمعنى مكان سهل. وأجاز السيرافي أن يكونا مكانا بعينه، وعلى كل حال لا يصلح أن يراد به المصدر ولا أن يراد به ما قدّر الكسائي. وإذا بطل قول

الكسائي وقول الفراء تعيّن الحكم بصحة القول المذكور وهو قول الخليل وسيبويه. وقد جعل سيبويه من المنصوب باللازم إضماره قول ذي الرمة: ديارَ ميّةَ إذ ميٌّ تُساعِدنا ... ولا يُرى مثلها عُرْبٌ ولا عَجَم قال سيبويه: كأنه قال: اذكر ديارَ ميّة، ولكنه لا يذكر "اذكر" لكثرة ذلك في كلامهم. وقال سيبويه: "ومن العرب من يرفع الديار كأنه يقول تلك ديار فلانة" وقال أيضا "ومن العرب من يقول "كلاهما وتَمْرا" كأنه قال كلاهما لي وزدْني تمرا، وكلُّ شيءٍ ولا شتيمةَ حُرّ" كأنه قال: كل شيء أمَمٌ ولا شتيمةَ حُرّ، وترك ذكر الفعل بعد لا". هذا نصه. وإلى هذا أشرت بقولي "وقد يجعل المنصوب مبتدأ وخبرا". وقد تناول قولي "فإن كان الاقتصار في مثل أو شبهه في كثرة الاستعمال" نحو إيّاي وكذا بإضمار نَحِّ ونحو إيّاك وكذا بإضمار اتّق، وهذا المسمَّى تحذيرا، ولا يلزم إضمار الناصب فيه إلّا مع إيّاك وأخواتها، ومع مكرّر نحو الأسَدَ الأسَدَ، ومع معطوف ومعطوف عليه نحو: "مازِ رأسك والسيف" ولا يحذف العاطف بعد إياك إلا والمحذور مجرور بمن نحو إياك من الشرِّ، وتقديرها مع أنْ كافٍ نحو إياك أن تسيء، على تقدير إياك من أن تسيء، وحذفت "من" لأن مثل هذا في أن مطرد فلو وقعت الإساءة موقع أن تسيء لم يجز حذف من إلا في الضرورة كقول الشاعر: وإياك إياكَ المِراءَ فإنَّه ... إلى الشَّرِّ دَعّاءٌ وللشَّرِّ آمِرُ أراد إيّاك أنْ تُمارِي، ثم أوقع موقع أن تمارى المراء فعامله معاملة ما هو واقع

موقعه. ويجوز أن يكون نصب المراء بفعل مضمر غير الذي نصب إياك، وعلى كل حال فلا يجوز مثل هذا إلا في الشعر. وليس العطف بعد إياك من عطف الجمل خلافا لابن طاهر وابن خروف، ولا من عطف المفرد على تقدير: اتّق نفسَك أن تدْنوَ من الشر، والشرَّ أن يدنو منك، بل هو من عطف المفرد على تقدير: اتَّق تلاقي نفسِك والشرَّ، فحُذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا شك أنّ هذا أقلُّ تكلّفا فكان أولى. ويساوي التحذير في كل ما ذكرته الإغراء نحو: أخاك، بإضمار الزم وشبهه. فصل: ص: يُحذف كثيرا المفعول به غير المخبر عنه والمخبر به والمتعجب منه والمجاب به والمحصور والباقي محذوفا عامله، وما حذف من مفعول به فمنوي لدليل أو غير منويّ، وذلك إمّا لتضمين الفعل معنى يقتضي اللزوم أو للمبالغة بترك التقييد، وإمّا لبعض أسباب النيابة عن الفاعل". ش: الغرض الآن بيان ما يجوز حذفه وما لا يجوز (حذفه) من المفاعيل، فاسثنيت المخبر عنه قاصدا المفعول القائم مقام الفاعل، والأول من مفعولي ظنّ وأخواتها والثاني من مفاعيل أعلم وأخواتها، فإن الكلام على ذلك قد تقدّم. واستثنيت أيضا المفعول المتعجب منه كزيد من قولك: ما أحْسنَ زيدا: فإن بيان ما يحتاج إليه يأتي في بابه إن شاء الله تعالى. وما سوى ذلك من المفاعيل يجوز حذفه إن لم يكن جوابا كقولك زيدا، لمن قال مَن رأيتَ، ولا محصورا كقولك ما رأيتُ إلا زيدا، ولا محذوفا عامله كقولك خيرا لنا وشرّا لعدوّنا، فهذه الأنواع الثلاثة من المفاعيل لا يجوز حذفها، وما سواها يجوز حذفه، والمحذوف على ضربين: أحدهما ما حذف لفظا ويراد معنى كالعائد إلى الموصول في قوله تعالى: (فَعّالٌ لما يريد). والثاني ما يحذف لفظا ومعنى، والباعث على ذلك إما تضمين الفعل معنى يقتضي اللزوم، وإمّا قصد المبالغة، وإما بعض أسباب النيابة عن الفاعل.

فالأول كتضمين جرح معنى غاب. ومنه قول الشاعر: فإنْ تعتذر بالمَحْل من ذي ضُروعها ... إلى الضَّيْف يَجْرِحْ من عراقيبها نَصْلِي وكتضمين أصلح معنى لطف في قولك أصلح اللهُ في نفسك وأهلك، ولو لم يُضَمَّن معنى لَطف لقبل أصلح الله نفسك وأهلك. ومنه – والله أعلم- قوله تعالى: (وأصلحْ لي في ذرَّتي) والثاني كقولك فلان يُعطي ويَمنع ويصل ويَقطع. فإن حذف المفعول في هذا وأمثاله مبالغة تُشعر بكمال الاقتدار وتحكيم الاختيار. ومنه – والله أعلم – قوله تعالى: (له ملك السموات والأرض يحيي ويُميتُ) والثالث مرتّب على الأسباب الداعية إلى حذف الفاعل وإقامة غيره مقامه فمن ذلك الإيجاز كقوله تعالى: (واسمعوا وأطيعوا) ومن ذلك مشاكلة المجاور كقوله تعالى: (وأنَّ إلى ربِّك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا). ومن ذلك إصلاح النظم كقول الشاعر: وخالدٌ يَحْمدُ ساداتُنا ... بالحق لا يُحْمَدُ بالباطِلِ أرادوا خالدٌ تحمدُه ساداتُنا فحذف الهاء ليستقيم الوزن. ومن ذلك حذف المفعول لكونه معلوما وهو كثير كقوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) وكقوله

تعالى: (وإنْ تفعلوا فإنّه فسوقٌ بكم) وكقوله تعالى (مَن اتَّقى وأصلح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) وكقوله تعالى (إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يُضيع أجر المحسنين) وكقوله تعالى: (فلا صدَّق ولا صلَّى ولكن كذَّب وتَولَّى). ومن ذلك حذفه لكونه مجهولا كقولك ولدتْ فلانة إذا عرفتَ ولادتها وجهلت ما ولدته. ومن ذلك الحذف لكون التعيين غير مقصود كقوله تعالى: (ومَنْ يظلم منكم نُذِقْه عذابا كبيرا). وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ذبحتُم فأحْسنوا الذِبْحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة". ومن ذلك حذفه تعظيما للفاعل كقوله تعالى: (كتب اللهُ لأغلبنَّ أنا ورُسلي). وعكس ذلك قولهم شُتِم فلان إذا كان المشتوم عظيما والشاتم حقيرا. وقد يُحذف المفعول خوفا منه كقولك أبغضتُ والله ولا تذكر المُبْغَض خوفا منه. فصل: ص: تدخل في هذا الباب على الثلاثي غير المتعدي إلى اثنين همزة النقل فيُزاد مفعولا إن كان متعديا، ويصير متعديا إن كان لازما، ويُعاقب الهمزة كثيرا ويُغني عنها قليلا تضعيفُ العين ما لم تكن همزة. وقلّ ذلك في غيرها من حروف الحلق". ش: احترزت بقولي "في هذا الباب علم، لأن همزة النقل فيه أوصلت علم ورأى إلى مفعول ثالث، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى. والغرض الآن

باب تنازع العاملين فصاعدا معمولا واحدا

تبيين دخول الهمزة على أفعال غير ذلك الباب. وبيّنت باستثناء المتعدي إلى اثنين أن كسوت ونحوه من الثلاثي المتعدي إلى اثنين لا تدخل عليه همزة النقل ولا يضعّف عينه على الفصل المشار إليه. وقد تقدم الكلام بأن امتناع هذا في غير باب علم مُجْمَع عليه. ومثال ما ازداد مفعولا بعد تعدّيه إلى واحد أكفلتُ زيدا عمرا وكفّلته إيّاه، وأغشيتُ الشيءَ الشيءَ وغشّيته إياه. ومثال الصائر متديا بعد أن كان لازما أنزلت الشيء ونزلته، وأبنته وبيّنته وهذا من التعاقب الكثير بين الهمزة وتضعيف العين. ومن التضعيف المغني عن الهمزة قرّبتُ الشيءَ وهيَّاته وحَكّمت فلانا وطهّرت الشيءَ ونظّفته وسلّمته وأخّرته وحصّلته. وهذا النوع المستغنى فيه عن أفْعَل بفعّل مع كثرة مثله قليل بالنسبة إلى النوع المستغنى فيه عن فعّل بأفعل، ولذلك وجد في أفعل ما يتعدّى إلى ثلاثة دون حَمْل على غيره، ولم يوجد ذلك في فعّلَ إلّا نبّأ وحَدَّث وهما محمولان على أعلم بتضمين معناها. ومما يبين لك أن أفعل أمكن من فعّل فيما اشتركا فيه استغناؤهم بأفعل لزوما فيما عينه همزة كأمأيت وأثأيت، وغلبت فيما عينه حرف حلق غير همزة كأذهبته وأوهبته وأرهقته وأزهقته وأصحرته وألحمته وأسعده وأسعفه وأوغره وأوغله وأدخله وأسخنه. وقد يتعاقب في هذا النوع أفعل وفعّل نحو أوهنه ووهّنه، وأمهله ومهّله، وأنعمه ونعّمه وأبعدَه وبعّده، وأضعفه وضعفّه. باب تنازع العاملين فصاعدا معمولا واحدا ص: إذا تعلّق عاملان من الفعل وشبهه متفقان لغير توكيد، أو مختلفان بما تأخر غير سببيّ مرفوع عمل فيه أحدهما لا كلاهما خلافًا للفراء في نحو قام وقعد زيدٌ. والأحقُّ بالعمل الأقربُ لا الأسْبقُ خلافا للكوفيين. ش: العامل من الفعل وشبهه يتناول المتنازعين بعطف وغير عطف، فعلين

كانا نحو (آتوني أُفْرِغْ عليه قطرا) أو فعلا واسما نحو (هاؤُمُ اقرءوا كتابيه) أو اسمين نحو أنا مكرم ومفضِّل زيدا. والعاملان في هذه الأمثلة متفقان في العمل. ومثال اختلافهما فعلين أكرمتُ ويُكرمني زيدٌ. ومثال اختلافهما اسمين أنا مُكرم ومحسنٌ إلى زيد. ومثال اختلافهما فعلا واسما أنت مكرم فيشكرك زيد. وهذا كله على إعمال الثاني. ولو أعملت الأول لقلت أكرمتُ ويكرمني زيدا، وهل أنت مكرم فيشكرك زيدا بإضمار فاعلي مكرِم ويشكُر. ولو أعملت الأول في مسألة أنا مكرم لقلت أنا مكرِم ومحسن إليه زيدا. ومن إعمال الأول والعاملان اسمان قول الشاعر: وإنّي وإنْ صَدَّتْ لمَثْنٍ وصادِقٌ ... عليها بما كانت إلينا أزلّتِ فلو كان ثاني العاملين مؤكدا لكان في حكم الساقط كقول الشاعر: أتاك أتاك اللاحقون احْبِسِ احْبِسِ فأتاك الثاني توكيدا للأول، فلذلك لك أن تنسب العمل إليهما لكونهما شيئا واحدا في اللفظ والمعنى، ولك أن تنسبه للأول وتُلغي الثاني لفظا ومعنى لتنزّله منزلة حرف زيد للتوكيد، فلا اعتداد به على التقديرين. ولولا عدم الاعتداد به لقيل أتاك أتوك اللاحقون، أو أتوك أتاك اللاحقون وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي "متفقان لغير توكيد". وفي قولي "بما تأخر" تنبيه على أن مطلوب المتنازعين لا يكون إلا متأخرا، لأنك إذا قلت زيد أكرمته ويكرمني، وزيد هل أنت مكرمه فيشكرك، وزيد أنا مكرمه ومُحسن إليه أخذ كل واحد من العاملين مطلوبه ولم يتنازعا. ونبهت بقولي "غير سببي مَرفوع" على أن نحو زيد منطلق مسرع أخوه لا يجوز

فيه تنازع، لأنك لو قصدت فيه التنازع أسندت أحد العاملين إلى السّببيّ وهو الأخ وأسندت الآخر إلى ضميره فيلزم عدم ارتباطه بالمبتدأ، لأنه لم يرفع ضميره ولاما التبس بضميره، ولا سبيل إلى إجازة ذلك. فإن سمع مثله حُمل على أن المتأخر مبتدأ مخبر عنه بالعاملين المتقدمين عليه، وفي كل واحد منهما ضمير مرفوع وهما وما بعدهما خبر عن الأول. ومنه قول كثير: قضى كلُّ ذي دَيْنٍ فوَفَّى غَريمَه ... وعَزَّةُ مَمْطولٌ مُعَنّى غريمُها أراد: وعزة غريمها ممطول معنى. وفي تقييد السببي بمرفوع تنبه على أن السببي غير المرفوع لا يمتنع من التنازع كقولك زيد أكرمَ وأفضلَ أخاه. وجعل الفراء الرفع في نحو قام وقعد زيد بالفعلين معا. والذي ذهب إليه غير مستبعد فإنه نظير قولك زيد وعمرو منطلقان، على مذهب سيبويه، فإن خبر المبتدأ عنده مرفوع بما هو له خبر، فيلزمه أن يكون منطلقان مرفوعا بالمعطوف والمعطوف عليه، لأنهما يقتضيانه معا. ويمكن أن يكون على مذهبه قول الشاعر: إنَّ الرِغاث إذا تكون وديعةً ... يُمْسِي ويُصْبح دَرُّها ممحوقا فلو كان العطف بأو ونحوها مما لا يجمع بين الشيئين لم يجز أن يشترك العاملان في العمل كقول الشاعر: وهل يَرجعُ التسليمَ أو يكشفُ العمى ... ثلاثُ الأثافي والرسومُ البَلاقعُ وليس هذا من التنازع. ولو كان منه لكان أحد الفعلين بتاء، لأن فاعله على ذلك التقدير ضمير مؤنث، وإنما عمل على أنه أراد وهل يرجع التسليم ما أشاهد،

واستغنى بالإشارة كما قالوا إذا كان غدا فائتني، أي إذا كان ما نحن عليه فأتني، ثم أبدل ثلاث الأثافي من المضير المنويّ. ومذهب البصريين ترجيح إعمال الثاني على الأول. ومذهب الكوفيين العكس، وما ذهب إليه البصريون هو الصحيح، لأن إعمال الثاني أكثر في الكلام من إعمال الأول، وموافقة الأكثر أولى من موافقة الأقل. ومما يبين لك أن إعمال الأول قليل قول سيبويه: ولو لم تجعل الكلام على الآخر لقلت ضربت وضربوني قومك وإنما كلامهم ضربت وضربني قومك. وهذا حكاية عن العرب بالحصر بإنما وظاهره أنهم يلتزمون ذلك دون إجازة غيره. لكنه قال في الباب بعد هذه العبارة بأسطار: وقد يجوز ضربت وضربني زيدا لأن بعضهم قد يقول متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا، والوجه متى رأيت أو قلت زيد منطلق، فدل نقل سيبويه مجردا عن الرأي على أن إعمال الثاني هو الكثير في كلام العرب، وأن إعمال الأول قليل، ومع قلته لا يكاد يوجد في غير الشعر بخلاف إعمال الثاني فإنه كثير الاستعمال في النثر والنظم، وقد تضمنه القرآن المجيد في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) وقوله تعالى (آتوني أفرغ عليه قطرا) وقوله تعالى: (و [أمّا] الذين كفروا وكذَّبوا بآياتنا) وقوله تعالى: (تعالوا يستغفر لكم رسولُ الله) وقوله تعالى: (هاؤُمُ اقرءوا كتابِيَهْ) وقوله تعالى: (وأنهم ظَنُّوا كما ظننتم أنْ لن يبعث الله أحدا) وهذا كله من إعمال الثاني.

ولو كان في غير القرآن لقيل: قل الله يفتيكم فيها في الكلالة، وآتوني أفرغه عليه قطرا، والذين كفروا وكذبوا بها بآياتنا، وتعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله، وهاؤم اقرءوهُ كتابيه، وأنهم ظنوا كما ظننتموه أن لن يبعث الله أحدا، لأن المعمول مقدر الاتصال بعامله فيلزم من ذلك تقدير تقدمه على العامل الثاني، ولو كان في اللفظ كذلك لاتصل به ضمير المفعول على الأجود نحو آتوني أفرغه عليه. وإذا نوى ذلك كان إبراز الضمير (أولى) لأن الحاجة أدعى. وفي الحديث: "لعَنَ أو غَضب على سِبْط من بني إسرائيلَ فَمَسَخَهم". وهذا من أفصح الكلام وقد أعمل فيه الثاني، ولو أعمل الأولى لقيل: إن الله لعن أو غضب عليهم سبطا. ومما يدل على ترجيح إعمال الأقرب إذا كان ثانيا التزام إعماله إذا كان ثالثا أو فوق ذلك بالاستقراء، ولا يوجد إعمال غيره، ومن أجازه فمستنده الرأي. ومنه: اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، وباركْ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت ورحِمت وباركْتَ على إبراهيم. ولو أعمل الأول لقيل كما صلّيت ورحمتهم وباركت عليهم على آل إبراهيم. ومثله قول الشاعر: جِئ ثم حالِف وثِق بالقوم إنَّهم ... لِمَنْ أجاروا ذوُو عزٍّ بلا هُونِ وفي لزوم إعمال الأقرب إذا كان ثالثا دلالة بيّنة على رجحان إعماله إذا كان ثانيا. ومما يدل على رجحان إعمال الثاني أنه مخلّص من ثلاثة أشياء منفّرة يستلزمها إعمال الأول أحدها كثرة الضمير كما رأيت في مسألة "صليت ورحمتهم وباركت عليهم". الثاني توالي حروف الجر نحو نبئت كما نبئت عنه عن زيد بخير. الثالث الفصل بين الفعل العامل والمعمول، والعطف على العامل قبل ذكر معموله.

ومما يدل على رجحان الثاني أنه موافق لما تؤثره العرب من التعليق بالأقرب والحمل عليه، وإن لزم من ذلك تفضيل زائد على غير زائد نحو خشّنت بصدره وصدر زيد، ففضّلوا جرّ المعطوف حملا على عمل الباء لقربها وإن كانت زائدة على نصبه حملا على خشّنت لبعده وإن لم يكن زائدا. ومما يدل على رجحان إعمال الثاني أن فيه تخلصا من الإخلال بحقّ ذي حقّ، وذلك أن لكل واحد من العاملين قسطا من عناية المتكلم، فإذا قدّم أحدهما وأعمل الآخر عدل بينهما، لأن التقديم اعتناء، والإعمال اعتناء، وإذا أعمل المتقدّم لم يبقِ للمؤخّر قسط من العناية، فكان المخلّص من ذلك راجحا. ورجح بعض الناس إعمال السابق بثلاثة أشياء أحدها أن ترجيحه موافق لما أجمعت العرب عليه من مراعاة السابق في قولهم: ثلاث من البطّ ذكور، وثلاثة ذكور من البط، فآثروا مقتضى البط لسبقه فأسقطوا التاء، وآثروا مقتضى الذكور لسبقه فأثبتوا التاء. الثاني أن إعمال السابق مخلّص من تقديم ضمير على مفسّر مؤخر لفظا ورتبة في نحو ضربوني وضربت قومك. الثالث أن إعمال السابق موافق لما أجمع عليه في اجتماع القسم والشرط، فإن جواب السابق منهما مُغْنٍ عن جواب الثاني، فلْيكن عمل السابق من المتنازعين مغنيا عن عمل الثاني. والجواب عن الأول أن يُقال لم يُعتبر في ترجيح ثاني المتنازعين كونه ثانيا، بل كونه قريبا من محل التأثير. ومسألة العدد المذكورة معتبر فيها أيضا القرب، واتفق مع القُرب سبقٌ فالأثر له، ولا يلزم منه مراعاة سابق بعيد. وعن الثاني أن تقديم الضمير إذا كان على شريطة التفسير مجمع على جوازه في باب نعم كقول الشاعر. نِعْم امرأ هَرِمٌ لم تَعْرُ نائبةٌ ... إلّا وكان لمُرْتاعٍ بها وَزَرا وفي باب رُبَّ كقول الشاعر: واهٍ رأبتُ وشيكا صَدْعَ أعْظُمِه ... ورُبَّه عاطِبا أنْقذتُ مِن عَطَبِهْ

وفي باب البدل كقول بعض العرب: اللهم صلّ عليه الرءوف الرحيم، وفي باب الابتداء ونواسخه نحو: (قل هو الله أحدٌ) و: (إنّه مَن يأتِ ربَّه مجرما فإنّ له جهنّم) فلجوازه في باب مسائل التنازع أسوةٌ بتلك المواضع قياسا لو لم يثبت به سماع. فكيف وقد سمع في الكلام الفصيح كقول الشاعر: جَفوني ولم أجْفُ الأخِلّاءَ إنَّني ... لغيرِ جميلٍ مِن خليلَي مُهْمِلُ وكقوله: هَوِينني وهوِيتُ الخُرَّدَ العُرُبا ... أزمانَ كنتُ مَنوطا في هَوًى وصِبا ومثله: خالفاني ولم أخالِفْ خَليلي ... يَ فلا خيرَ في خلافِ الخليلِ والجواب عن الثالث أن يقال كان مقتضى الدليل أن يستغنى بجواب المتأخر منهما لقربه من محل الجواب إلا أن المتأخر منهما إذا كان هو القسم كان مؤكّدت للشرط غير مقصود لنفسه بدلالة عدم نقصان الفائدة بتقديره حذفه. وإذا كان مؤكدا غير مقصود لنفسه فلا اعتداد به، ولا صلاحية فيه لجعله ذا جواب منطوق به، بخلاف المؤكَّد فإنه مقصود لنفسه، ولذلك لا تتمّ الفائدة بتقدير حذفه، فأغنى عما هو من تمام معناه، فلما وجب هذا الاعتبار أغنى جعل الجواب للأول فيما إذا تأخر القسم وأجرى هذا المجرى ما أخّر فيه الشرط ليُسلك في اجتماعهما سبيل واحدة، لكن الشرط لعدم صلاحيته للسقوط أبدا فُضِّل على القَسَم لأمرين: أحدهما أنهما إذا اجتمعا بعد مبتدأ استغنى بجوابه، تقدّم على القسَم أو تقدّم القسم عليه. والثاني أن الشرط قد يغني جوابه بعد قَسَم لا مبتدأ قبله كقول الشاعر:

لئِنْ كان ما حُدِّثته اليومَ صادقا ... أصُمْ في نهارِ القيْظ للشمسِ باديا ولا يستغنى بجواب قسم متأخر أصلا. فقد علم بهذا الفرقُ بين اجتماع الشرط والقسم وبين تنازع العاملين وصح ما اخترناه والحمد لله تعالى. ص: وتعمل الملغَى في ضمير المتنازع غالبا، فإن أدّت مطابقته إلى تخالف خبر ومخبر عنه فالإظهار. ويجوز حذف المضمر غير المرفوع ما لم يمنع مانع ولا يلزم حذفه أو تأخيره معمولا للأول خلافا لأكثرهم. بل حذفه إن لم يمنع مانع أولى من إبقائه متقدما ولا يحتاج غالبا إلى تأخره إلا في باب ظن. ش: تناول قولي "ويعمل الملغَى في ضمير المتنازع" أن يكون أوّلا وأن يكون ثانيا وأن يكون المضمر مرفوعا ومنصوبا ومجرورا. فمثال ذلك في إلغاء الأول والمضمر مرفوع قول الشاعر: جَفوني ولم أجفُ الأخلاءَ إنني ... لغيرِ جميل من خليلي مهمِلُ ومثال ذلك والمضمر منصوب قول الشاعر: إذا كنتَ تُرضيه ويُرضيكَ صاحبٌ ... جهارا فكنْ في الغيب أحفظ للعَهْدِ وألْغ أحاديثَ الوُشاة فقلَّما ... يُحاوِلُ واشٍ غير تغييرَ ذي وُدّ ومثال ذلك والمضمر مجرور قول الشاعر: وثقتُ بها وأخلفتْ أمُّ جُنْدُب ... فزاد غرامَ القلبِ إخلافُها الوَعْدا ومثال ذلك في إلغاء الثاني والضمير مرفوع قول الشاعر:

وقد نَغْنى بها ونرى عُصورا ... بها يقْتَدْننا الخُرُدَ الخِدالا ومثال ذلك والضمير منصوب قول الشاعر: أساء ولم أجْزه عامر ... فعاد بحِلمي له مُحْسِنا ومثال ذلك والضمير مجرور قول الشاعر: إذا هي لم تسْتَكْ بعود أراكةٍ ... تُنُخِّلَ فاستاكتْ به عودُ إسْحِلِ ومن المحتمل لإعمال الأول والثاني قول الشاعر: على مثل أُهْبان تشقُّ جُيوبَها ... وتُعْلِنُ بالنَّوحِ النساءُ الفواقدُ وأكثر النحويين لا يجيزون ضربته وضربني زيد، ومررت به ولقيني عمرو، لاشتماله على تقديم ضمير هو فضلة على مفسر متأخر لفظا ورتبة. وإنما يغتفر ذلك في ضمير مرفوع لكونه عمدة غير صالح للاستغناء عنه. هذا تعليل المبرد ومَن وافقه من البصريين. وأما الكوفيون فلا فرق عندهم بين الفضلة والعمدة في المنع، فلا يجيزون ضربوني وضربت قومك، ولا ضربته وضربني زيد. والصحيح جوازهما لثبوت السماع بذلك في الأبيات المتقدمة الذكر، إلا أن تقديم المرفوع أسوغ لكونه غير صالح للحذف، وقلّ تقديم غيره. وقد تقدّم في كتابي هذا بيان ما يدل على صحة ما ذهبتُ إليه في هذه المسألة فلا حاجة إلى إعادته وبعض من لا يجيز تقديم الضمير يلتزم تأخيره وإظهاره إن لم يستغن عنه نحو ظنني وظننت زيدا فاضلا وظنني وظننت زيدا فاضلا إياه. ومثال ما يُؤدي فيه مطابقة الضمير مفسره إلى تخالف خبر ومخبر عنه قولك: ظناني وظننت الزيدين

منطلقين، تريد ظناني منطلقا، وظننت الزيدين منطلقين. فإذا قلت كذا بإظهار ثاني مفعولي ظناني خلصت من أمرين ممتنعين، وذلك أنك إذا أضمرت فإما أن تراعي جانب المفسَّر فتثنى فتكون قد أخبرت بمثنى عن مفرد. وإما إن تراعي جانب المخبر عنه وهو ياء ظناني فتفرد فتكون قد أعدت ضميرا واحدا إلى مثنى، وكلاهما ممتنع فتعين الإظهار لتخلصه من ممتنع. ووافق الكوفيون على جواز الإضمار، وأجازوا أيضا الإضمار مراعًى به جانب المخبر عنه كقولك: ظننت وظناني الزيدين قائمين إياه، لأن المثنى والجمع يتضمنان الواحد فعود الضمير إلى ما تضمنه جائز. وأجازوا أيضا الحذف كقولك ظننت وظناني الزيدين قائمين، تريد ظننت وظناني قائما الزيدين قائمين. فحذفت ثاني مفعولي ظناني لدلالة ثاني مفعولي ظننت عليه، كما جاز مثل ذلك في باب الابتداء. وأشرت بقولي "ويجوز حذف الضمير غير المرفوع" إلى جواز حذف الهاء ونحوها من نحو قولك ضربني وضربته زيد، ومرّ بي ومررت به زيد فيقال ضربني وضربت زيد، ومرّ بي ومررت زيد كم قال الشاعر: يَرنو إليّ وأرْنو مَن أصادِقُه ... في النائباتِ فأرضيه ويُرْضيني وأشرت بقولي "ما لم يمنع مانع" إلى مثل مال عني وملت إليه زيد، فإن حذف الضمير منه غير جائز لإيهامه أن يكون المراد مال عنّي ومِلت عنه زيد. ومثل ذلك قول الشاعر: مال عنّي تيهًا وملْتُ إليه ... مُسْتعينا عمرو فكان مُعينا وحذف الضمير غير المرفوع إن تقدم أحسن من بقائه، ما لم يكن عامله من باب ظن فيظهر مؤخرا، وكذا إن لم يكن من باب ظن وكان الحذف موقعا في لبس. ومثال ذلك والفعل من باب ظن حسبني وحسبت عمرا كريما إياه.

ومثاله والفعل من غير باب ظن استعنت واستعان عليّ به زيد. وإلى هذين وأمثالهما أشرت بقولي "ولا يحتاج غالبا إلى تأخيره إلا في باب ظن". ص: وإنْ أُلغي الأول رافعا صح دون اشتراط تأخر الضمير خلافا للفراء، ولا حذفه خلافا للكسائي. ونحو ما قام وقعد إلّا زيد محمول على الحذف لا على التنازع خلافا لبعضهم. ش: إلغاء العامل الأول وهو مُقتضٍ للرفع كقولك ضربوني وضربت قومك، فهذا الاستعمال جائز في مذهب البصريين ممتنع في مذهب الكوفيين، وتصحيحه عند الفراء بتأخير الضمير منفصلا كقولك ضربني وضربت قومك هم، وتصحيحه عند الكسائي بالحذف كقولك ضربني وضربت قومك، وربما استدل بقول الشاعر: تعفّقَ بالأرْطى لها وأرادها ... رجالٌ فبذَّتْ نَبْلَهم وكَلِيبُ ولا دلالة فيه لإمكان جعله من باب إفراد ضمير الجماعة مؤولة بمفرد اللفظ مجموع المعنى قال سيبويه: فإن قلت ضربني وضربت قومك فجائز وهو قبيح أن تجعل اللفظ كالواحد كما تقول هو أجمل الفتيان وأحسنه، وأكرم بنيه وأنبلُه. ثم قال: كأنك قلت ضربني مَن ثَمّ وضربت قومك. وما جاء من نحو ما قام وقعد إلا زيد، فليس من باب التنازع، وإنما هو من باب حذف المنفي العام بدلالة القرائن اللفظية عليه كقوله تعالى: (وإنْ من أهل

الكتاب إلّا لَيُؤمِنَنَّ به قبل موته) وكقوله تعالى: (وما منّا إلّا له مقامٌ معلومٌ) و: (وإنْ منكم إلّا ورادُها) وكقول الشاعر: نجا سالمٌ والروحُ منه بشدقِه ... ولم ينجُ إلّا جَفْن سَيْفٍ ومِئْزَرا فالظاهر أنه أراد ولم ينج بشيء، فحذف لدلالة النفي والاستثناء بعده على منفيّ عامّ للمستثنى وغيره. ومن هذا القبيل (نحو) ما قام وقعد إلا زيد، على تأويل ما قام أحد ولا قعد إلا زيد، فحذف أحد لفظا واكتفى بقَصْده ودلالة النفي والاستثناء عليه، كما كان ذلك في الأبيات المذكورة، وفاعل قعد ضميرا لأحد المقدر ولذلك لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث وإن كان ما بعد إلا مثنى أو مجموعا أو مؤنثا. ولو كان من باب التنازع لزم مطابقة الضمير في أحد الفعلين. ولو كان أيضا من باب التنازع لزم في نحو ما قام وقعد إلا أنا إعادة ضمير غائب على حاضر، ولزم أن يقال على إعمال الثاني ما قاموا وقعد إلا نحن. وعلى إعمال الأول ما قام وقعدوا إلا نحن. وكان يلزم من ذلك، إخلاء الفعل الملغَى من الإيجاب، لأن الفعل المنفي إنما يصير موجبا بمقارنة إلا معموله لفظا أو معنى، وعلى تقدير التنازع لم تقارن إلا معمول الملغَى لفظا ولا معنى فيلزم بقاؤه على النفي، والمقصود خلاف ذلك، فلا يصح الحكم بما أفضى إليه. ويتعين الاعتراف بصحة الوجه الآخر لموافقته نظائر لا يشك في صحتها، ومن أظهر الشواهد على صحة الاستعمال المشار إليه قول الشاعر: ما جاد رأيا ولا أجْدى محاولةً ... إلا امرُؤٌ لم يضع دُنيا ولا دينا

ومثله: ما صابَ قلبي وأصماه وتَيَّمهُ ... إلّا كواكبُ من ذُهْلَ بن شيبانا ص: ويُحكم في تنازع أكثر من عاملين بما تقدم من ترجيح بالقرب أو السبق، وبإعمال الملغى في ضمير وغير ذلك. ولا يمنع التنازع تعدّ إلى أكثر من واحد، ولا كون المتنازعين فعلَيْ تعجّب خلافا لمن منع. ش: قد تقدمت الإشارة إلى تنازع أكثر من عاملين في ترجمة الباب، وفي الشرح لا في المتن، فنبه الآن عليه في هذا المكان. وما ورد منه فإنما ورد بإعمال الآخر وإلغاء ما قبله كقول الشاعر: سُئِلْتُ فلم تبخلْ ولم تُعْطِ نائلا ... فسِيّان لاذَمٌّ عليك ولا حمدُ وكقول الآخر: جئ ثم حالفْ وثقْ بالقوم إنّهم ... لمنْ أجاروا ذوو عزٍّ بلا هُونِ وكقول الآخر: أرجو وأخشى وأدعو الله مُبْتغيا ... عَفْوا وعافيةً في الرُّوح والجسد فهذه الأبيات الثلاثة قد تنازع في كل واحد منها ثلاثة عوامل أعمل آخرها وألغى أوّلها وثانيها وعلى هذا استقر الاستعمال. ومن أجاز إعمال غير الثالث فمستنده

الرأي، إذ لا سماع في ذلك. وقد أشار إلى ذلك أبو الحسن بن خروف في شرح كتاب سيبويه. واستقرأت الكلام فوجدت الأمر كما أشار إليه. ومنع بعض النحويين التنازع في متعديين إلى اثنين أو ثلاثة بناء على أن العرب لم تستعمله. وما زعمه غير صحيح، فإن سيبويه حكى عن العرب: متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا، على إعمال رأيت، ومتى رأيتَ أو قلت زيد منطلق على إعمال قلت، أعني بإعمالها حكاية الجملة ههنا. ومنع أيضا بعض النحويين تنازع فعلَيْ تعجّب، والصحيح عندي جوازه لكن بشرط إعمال الثاني كقولك ما أحْسَن وأعْقل زيدا، تنصب زيدا بأعقلَ لا بأحْسنَ، لأنك لو نصبته بأحسن لفصلت ما لا يجوز فصله. وكذلك تقول أحْسنْ به وأعقلْ بزيد بإعمال الثاني ولا تعمل الأول فتقول أحسنْ وأعقل بزيد فلزمك فصل ما لا يجوز فصله ويجوز على أصل مذهب الفراء أن يقال أحسِنْ وأعقِلْ بزيد، فتكون الباء متعلقة بأحسن وأعقلْ معا، كما يكون عنده فاعل قام وقعد عنده مرفوعا بالفعلين معا، ولا يمتنع على مذهب البصريين أن يقال أحسنْ وأعقِلْ بزيد، على أن يكون الأصل أحسنْ به وأعقِلْ بزيد، ثم حذفت الباء لدلالة الثانية عليها ثم اتصل الضمير واستتر، كما استتر في الثاني من قوله تعالى: (أسمعْ بهم وأبْصِرْ) فإن الثاني مستدَلٌّ به على الأول، كما يستدل بالأول على الثاني، إلّا أن الاستدلال بالأوّل على الثاني أكثر من العكس.

باب الواقع مفعولا مطلقا من مصدر وما جرى مجراه

باب الواقع مفعولا مطلقا من مصدر وما جرى مجراه ص: المصدر اسم دالّ بالأصالة على معنى قائم بفاعل، أو صادر عنه حقيقة أو مجازا أو واقع على مفعول. وقد يُسَمّى فعلا وحدثا وحدْثانا. وهو أصل الفعل لا فرعه خلافا للكوفيين، وكذا الصفة خلافا لبعض أصحابنا. ويُنصب بمثله أو فرعه أو بقائم مقام أحدهما. فإن ساوى معناه معنى عامله فهو لمجرد التوكيد ويُسمَّى مُبْهما، ولا يُثنّى ولا يُجمع. وإن زاد عليه فهو لبيان النوع أو العدد، ويُسمّى مُختَصّا ومُؤقّتا ويُثنّى ويجمع. ويقوم مقام المؤكّد مصدر مرادف واسم مصدر غير عَلَم. ومقام المبيّن نوع أو وصف أو هَيْئة أو آلة أو كل أو بعض أو ضمير أو اسم إشارة أو وقت. ش: تقييد الدلالة بالأصالة مخرج لأسماء المصادر، وهي عبارة عن كل اسم يساوي المصدر في الدلالة، ويُخالفه بعلميّة كحمادِ وجمادِ، أو لتجرّده دون عِوَض من زيادة في فعله كاغتسل غسلا وتوضأ وضوءا، فهذه وأمثالها إذا عُبّر عنها بمصادر فإنما ذلك مجاز، والحقيقة أن يُعبّر عنها بأسماء المصادر. والدال على معنى قائم بفاعل كحُسْن وفَهْم، والدال على معنى صادر عن فاعل كخط وخياطة، وقيام الحُسْن والفهْم بالفاعل حقيقة، وكذا صدور الخط والخياطة من فاعلهما بخلاف نسبة العدَم إلى المعدوم والموت للميت فإنها مجاز والواقع على مفعول مصدرُ ما لم يُسم فاعله. والمراد بالفاعل هنا الاصطلاحيّ وكذلك المفعول فبهذا يَعُمّ الحدّ مصدر كل فِعْل. وإطلاق المصدر على ما تناوله الحدّ إطلاق مُتّفق عليه. وقد يُعبَّر بالفعل والحدَث والحِدْثان، من التعبير عن الشيء بلفظ مدلوله. واتفق البصريون والكوفيون على أن الفعل والمصدر مشتق أحدهما من الآخر، لكن البصريون جعلوا الأصالة للمصدر، وجعلها الكوفيون للفعل. والصحيح مذهب البصريين، ويدل على صحته ستة أمور: أحدها أن المصدر كثر كونه واحدًا

لأفعال ثلاثة، ماض ومضارع وأمر، فلو اشتُقَّ المصدر من الفعل لم يخل من أن يُشتق من الثلاثة أو من بعضها، واشتقاقه من الثلاثة محال، واشتقاقه من واحد منهما يستلزم ترجيحا من دون مرجّح، فيتعَّن اطّراح ما أفضى إلى ذلك. الثاني أن المصدر معناه مفرد ومعنى الفعل مركّب من حدث وزمان والمفرد سابق للمركب، والدال عليه أولى بالأصالة من الدال على المركب. الثالث أن مفهوم المصدر عام ومفهوم الفعل خاص، والدال على العام أولى بالأصالة من الدال على خاص. الرابع أن كل ما سوى الفعل والمصدر من شيئين، أحدهما أصل والآخر فرع فإن في الفرع منهما معنى الأصل وزيادة كالتثنية والجمع بالنسبة إلى الواحد، وكالعدد المعدول بالنسبة إلى المعدول عنه، والفعل فيه معنى المصدر وزيادة تعيين الزمان فكان فرعا والمصدر أصلا. الخامس أن من المصادر ما لا فعل له لفظا ولا تقديرا وذلك ويْحَ ووَيْل وويْس وويْب، فلو كان الفعل أصلا لكانت هذه المصادر فروعا لا أصول لها وذلك محال. وإنما قلنا إن هذه المصادر لا أفعال لها تقديرا، لأنها لو صيغ من بعضها فعل لاستحق فاؤه في المضارع من الحذف ما استحقّ فاءُ يَعدُ، ولاستحقّ عينُه من السكون ما استحق عين يبيع فيتوالى إعلال الفاء والعين، وذلك مرفوض في كلامهم، فوجب إهمال ما يؤدي إليه، وليس في الأفعال ما لا مصدر له مستعمل إلا وتقديره ممكن كتبارك وفعل التعجب، إذ لا مانع في اللفظ. وتقابل تلك الأفعال مصادر كثيرة تزيد على الأفعال كالبنوَّة والأبوّة والخُئولة والعُمومة والعُبوديّة واللُّصُوصية، وقِعْدكَ الله، وبله زيدا وبَهْله، فبطلت المعارضة بتبارك ونحوه وخلص الاستدلال بويح وأخواته. وإعلاله نحو لاوَذَ لِواذا، ولاذَ لياذا لأن الشيئين قد يحمل أحدهما على الآخر وليس أحدهما أصلا للآخر كحمل يرضيان على رضيا وأعطيا على تعطيان والأصل يرضوان

وأعطوا، لأن حكم الواو بين فتحة وألف التصحيح، لكن حمل ذو الفتحة على ذي الكسرة ليجريا على سَنن واحدن فلذلك فُعل بالمصدرين من لاوذ ولاذ. ولا حجة أيضا في توكيد الفعل بالمصدر لأن الشيء قد يؤكد بنفسه نحو زيد زيد قام، فلو دل التوكيد على فرعية المؤكد لزم كون الشيء فرع نفسه وذلك محال. ولا حجة أيضا في إعمال المصدر لأن الحرف يعمل في الاسم والفعل ولا حظ له في الأصالة. وببعض ما استدللنا به على فرعية الفعل بالنسبة إلى المصدر يستدل على فرعية الصفة بالنسبة إليه، لأن كل صفة تضمّنت حروف الفعل فيها ما في المصدر من الدلالة على الحدث وتزيد بالدلالة على ما هي له، كما زاد الفعل بالدلالة على الزمن المعيّن، فيجب كون الصفة مشتقة من المصدر لا من الفعل، إذ ليس فيها ما في الفعل من الدلالة على زمن معيّن فبطل اشتقاقها من الفعل وتعين اشتقاقها من المصدر كما قلنا. ونصب المصدر بمثله كقولك عجبت من قيامك قياما. ونصبه بفرعه كقولك طلبتك طلبا، وأنا طالبك طَلَبا وأنت مطلوب طلبا. ونصبه بقائم مقام أحدهما كقولك عجبت من إيمانك تصديقا، وأنا مؤمن تصديقا، ولقاء الله مؤمَن به تصديقا. والمصدر المنصوب في جميع هذه الأمثة قد ساوى معناه معنى عامله فهو لمجرد التوكيد، ويسمى الواقع هكذا مُبْهما ولا يُثنَّى ولا يجمع لأنه بمنزلة تكرير الفعل فعُومِل معاملته في عدم التثنية والجمع، إذ هو صالح للقليل والكثير. وإن زاد معناه على معنى عامله فهو لبيان النوع نحو سرت خَبَبا وعَدْوا ورَجعت القهْقَرى وقعدت القُرْفُصاء أو لعدد المرات نحو قمت قومتين وضربته ضربات. وقد يكون المبيّن للنوع بلفظ المؤكد فيُستقاد التنويع بوصفه أو إضافته أو إدخال حرف التعريف عليه أو بتثنيته أو بجمعه. ويقوم مقام المؤكد مصدر مرادفٌ نحو جلست قُعودا، أو اسمُ مصدر غير عَلَم نحو اغتسلت غُسلا وتوضّأت وضوءا. ولا يستعمل اسم المصدر العلم المؤكد ولا مبيّنا فلا يقال حمدت حمادِ ونحو

ذلك أن العَلَم زائد معناه على معنى العامل فلا ينزل منزلة تكرار العامل، ولأنه كاسم الفعل فلا يُجمع بينه وبين الفعل ولا ما يقوم مقامه. ومن قيام أحد المترادفين مقام الآخر قول امرئ القيس: ويوما على ظهر الكَثيب تعذّرت ... عليّ وآلتْ حَلْفةً لم تحلّل وقول رؤبة: لوَّحها مِن بَعْد بُدن وسَنَقْ تضميرَك السابق يُطوى للسَبَقْ لَوَّحها: ضمّرها، والبُدْن السَمن، والسنق: البشم، والسبق الخطر. ويقوم مقام المبيّن للنوع اسم نوع كالقهقرى والقرفصاء وكقوله تعالى: (والنازعاتِ غرقا)، أو وصف نحو: (واذكر ربَّك كثيرا) أو هيئة نحو يموت الكافر ميتة سوء، ويعيش المؤمن عيشة مَرْضيّة. أو آلة نحو ضرب المؤدب الصبيّ قضيبا أو سوطا. أو كل نحو قوله تعالى: (فلا تَميلوا كُلَّ الميل) أو بعض كقوله تعالى: (ولا تَضُرُّوه شيئا) أو ضمير كقوله تعالى: (فإنّي أعذِّبُه عذابًا لا أعذِّبُه أحدا من العالمين) أو اسم إشارة نحو لآخذنّ ذلك الحقّ، ولا بد من جعل المصدر تابعا لاسم الإشارة والمقصود به المصدرية،

ولذلك خطِّئ من حَمَل قول المتنبي: هذي بَرزْتِ لنا فهجْت رَسيسا على أنه أراد هذه البَرزة بَرزتِ، لأن مثل ذلك لا تستعمله العرب. وقد يُقام مقام المصدر المبيّن زمان مضاف إليه المصدر تقديرا كقول الشاعر: ألم تغتمض عيناك ليلةَ أرْمَدا أراد ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة أرمد، فحذف المصدر وأقام الزمان مقامه، كما عكس من قال: كان ذلك طلوعَ الشمس، إلا أن ذلك قليل وهذا كثير. ومن قيام النوع مقام المصدر قول الشاعر: على كلِّ موّارٍ أفانينُ جِرْيه ... شاوٍ لأبْواعِ الجمالِ الرَّواتِكِ ومن قيام الصفة مقامه قول الآخر: وضابغٌ أنْ جرى أيّا أردْتَ به ... لا الشَّدُّ شَدٌّ ولا التقريبُ تقريبُ أي لا الشد شد معتاد ولا التقريب تقريب معتاد، بل هما خارقا العادة. والصحيح في المصدر الموافق معنى لا لفظا كونه معمولا لموافقه معنى، فحلفة من قوله وآلت حلفة لم تحلّل منصوب بآلت لا بحلفت مقدرا لعدم الحاجة إلى ذلك؛

ولأنه لو كان المخالف لفظا لا ينتصب إلا بفعل من لفظه لم يجز أن يقع موقعه ما لا فعل له من لفظه نحو حلفت يمينا (فلا تميلوا كلَّ الميل) و (فاجْلدوهم ثمانينَ جلدةً) و (ولا تضرُّونه شيئا). فهذه وأمثالها لا يمكن أن يقدر لها عامل من لفظها، بل لا بد من كون العامل فيما وقع منها ما قبله مما هو موافق معنى لا لفظا. ووجب اطراد هذا الحكم فيما له فعل من لفظه ليجري الباب على سَنن واحد. وهذا الذي اخترته هو اختيار المبرد والسيرافي. ص: ويُحذف عامل المصدر جوازا لقرينة لفظية أو معنوية. ووُجوبا لكونه بدلا من اللفظ بفعل مهمل، أو لكونه بدلا من اللفظ بفعل مستعمل في طلب أو خبر، إنشائي أو غير إنشائي أو في توبيخ مع استفهام ودونه. للنفس أو لمخاطب أو لغائب في حكم حاضر، أو لكونه تفصيل عاقبة طلب أو خبر، أو نائبا عن خبر اسم عين بتكرار أو حصر، أو مؤكد جملة ناصّة على معناه، وهو مؤكد نفسه، أو صائرة به نصّا وهو مؤكد غيره، والأصح منع تقديمها. ومن الملتزم إضمار ناصبه المشبهُ به مشعرا بحدوث بعد جملة حاوية فعله وفاعله معنى دون لفظ ولا صلاحية للعمل فيه. وإتباعه جائزٌ وإن وقعت صفة موقعه فإتباعها أولى من نصبها. وكذا التالي جملة خالية مما هو له، وقد يرفع مبتدأ المفيد طلبا وخبر المكرر والمحصور، والمؤكد نفسه، والمفيد خبرا إنشائيا وغير إنشائي. ش: حذف عامل المصدر جوازا لقرينة لفظية كقولك لمَن قال: أيَّ سَيْر: سَيْرا حثيثا، ولمن قال ما قمت: بلى قياما طويلا. وحذفه لقرينة معنوية كقولك لمن تأهب لسفر: تأهبا مباركا وسفرا مأمونا، ولمن قدم من الحجّ: حجّا مبرورا وسَعْيا مشكورا. والمحذوف العامل وجوبا لكونه بدلا من اللفظ بفعل مهمل إما مفرد كقولهم أُفَّةَ وتُفَّةَ ودَفْرا بمعنى نتنا، وبهرا بمعنى تبّا كقول الشاعر:

تفاقد قومي إذ يبيعون مُهْجَتي ... بجاريةٍ بَهْرا لهم بعدها بَهْرا وبمعنى عجبا كقول عمر بن أبي ربيعة: ثم قالوا تُحبّها قلتُ بَهْرا ... عَدَد الرمْل والحصى والتراب وإما مضاف كقول الشاعر: تَذَرُ الجماجِمَ ضاحِيا هاماتُها ... بَلْهَ الأكُفِّ كأنّها لم تُخْلَقِ أي تترك الأكف تركا كأنها لم تخلق. وروى بله الأكفَّ بالنصب على أنّه اسم فعل بمعنى اترك. ومن المهمل الفعل اللازم للإضافة قولهم في القسم الاستعطافي: قعْدَك الله إلّا فعلت، أي تثبيتك الله. ومثله عَمْرَكَ اللهُ في لزوم الإضافة والاستعطافَ، إلا أن هذا مختصر من التعمير مصدر عمّرتك الله بمعنى نشدتُكِ اللهَ. ومنه قول الشاعر: عَمَّرْتُك الله إلّا ما ذكرتِ لنا ... هل كنتِ جارتنا أيّامَ ذي سَلَمِ وأصله من العُمْرِ وهو البقاء؛ فالمتكلم به متوسّل باعتقاد البقاء لله تعالى. ومن المهمل الفعل ما يُضاف ويُفرد كقولهم للمصاب المرحوم: وَيْحَه وويحَ فلان وويحٌ له. وفي الحديث "وَيْحَ عمّارٍ تقتلُه الفئةُ الباغيةُ". وللمتعجب منه: وَيْبا له ووَيْبَك وويبَ غيرِك. قال الشاعر:

فلا تجْبَهيه ويْب غيرك إنّه ... فتًى عن دَنيّاتِ الخلائق نازِحُ وكذا يقال لويْح غيرك ووَيْسه، مثلُه أو قريب منه. ويقال للمصاب المغضوب عليه: ويْلَه وويلٌ له، وويل له ويلٌ طويل، ووَيل له ويلا طويلا، وويل له ويْلا كَيْلا، وويل له وعَوْل، ووَيْلَك وعَوْلك، ولا يفرد عَوْل، وقد يفرد ويْل منصوبا كقول الشاعر: كسا اللؤمُ تَيْمًا خُضرةً في جُلودها ... فوَيْلاً لتيم من سرابيلها الخُضْرِ ومن المهمل الفعل اللازم للإضافة سُبْحان الله، أي براءةً له من السوء، وليس بمصدر لسبّح، بل سبّح مشتق منه كاشتقاق حاشيْت من حاشى، إذا نطق بلفظها، وكاشتقاق لولَيْتُ وصَهْصَيْتَ وافّفت وسوّفت وبأبَأت ولبَّيت من: لولا، وصه، واف، وسوف، وبأى، ولبّيك. وقالوا أيضا سَبْحَل إذا قال سبحان الله. وقد تفرد في الشعر سُبْحان منوّنة إن لم تُنو الإضافة كقول الشاعر: سُبحانَه ثم سُبْحانًا نَعوذ به ... وقبلنا سبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ وغير منون إن نُويت الإضافة، كقول الآخر: أقولُ لمّا جاءني فخْرُه ... سُبْحان من عَلْقَمةً الفاخِرِ أراد سبحان الله فحذف المضاف إليه وترك المضاف بهيئته التي كان عليها قبل الحذف كما قال الراجز: خالطَ من سَلْمى خياشيمَ وَفا

يريد: وفاها. وهذا التوجيه أولى من جعل سبحان عَلَما. ومثل سبحانك في المعنى وإهمال الفعل سَلامك في قول الشاعر: سلامَك ربَّنا في كلِّ فَجْرٍ ... بَريئا ما تَغَنَّثُك الذُمومُ ومن المهمل الفعل اللازم للإضافة قولهم في إجابة الداعي: لبَّيْك، ومعناه لزوما لطاعتك بعد لزوم. قال سيبويه: أراد بقوله لبّيك وسَعْدَيْك إجابة بعد إجابة، كأنه قال كلّما أجبتك في أمر فأنا في الآخر مجيب، وهو مثنى اللفظ. وزعم "يونس" أنه مفرد اللفظ وأن ياءه منقلبة عن ألف إجراء له مجرى "على" وردّ عليه "سيبويه" بقول الشاعر: دَعَوت لِما نابني مِسْورا ... فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ فأثبت الياء في إضافته إلى الظاهر، ولو كان جاريا مجرى "على" لم يفعل به ذلك، كما لا يفعل بعلى. وفي قول الشاعر إضافة "لبَّيْ" إلى الظاهر، والمعروف إضافته إلى ضمير المخاطب، فشذت إضافته إلى ظاهر كما شذت إضافته إلى ضمير الغائب في قول الراجز: إنَّك لو دَعوتني ودُوني ... زوْراء ذات مُتْرع بَيُونِ ... لقُلتُ لبَّيه لمن يَدعوني وقد يغني عن لبيك لبّ مفردا مكسورا جعلوه اسم فعل بمعنى أجبت. والمحذوف العامل وجوبا لكونه بدلا من اللفظ بفعل مستعمل في طلب منه مضاف نحو غفرانك، و: "ضرْبَ الرِقاب" ومنه مفرد وهو أكثر من المضاف.

وليس مقيسا عند سيبويه مع كثرته، وهو عند الفراء والأخفش مقيس بشرط إفراده وتنكيره نحو سَقْيا له ورَعْيا، وجَوْعا لعدوّك وتعْسا، ومنه قول الشاعر: سَقْيا لقومٍ لدَيْنا هُم وإنْ بَعدوا ... وخيبةً للأولى وجْدانُهم عَدَمُ ومثله في الأمر: فصَبْرا في مجال الموتِ صَبْرا ... فما نَيْلُ الخُلودِ بمُسْتطاعِ ومثله في النهي: قد زادَ حُزنُكَ لمّا قيل لا حَزَنا ... حتى كأنّ الذي ينهاكَ يُغْريكا والوارد منه في خبر إنشائي: حمْدًا وشُكْرًا لا جَزَعا، وعَجَبا، وقَسَمًا لأفعلنَّ. قال سيبويه: ومما ينتصب فيه المصدر على إضمار الفعل المتروك إظهاره ولكنه في معنى التعجب قوله كَرَما وصلفا كأنه يقول أكرمك الله، ثم قال: لأنه صار بدلا من قولك أكرِمْ به وأصْلِفْ. قلت: وهذا أيضا مما يتناوله الخبر الإنشائي. وأما الخبر غير الإنشائي فكقولك في وَعْد من يَعزُّ عليك: أفعلُ وكَرامةً ومَسَرَّةً، وكقولك للمغضوب عليه لا أفعل ولا كَيْدا ولا هَمًّا، ولأفعلنّ ما يسوؤك، ورَغْما وهَوانًا. وأما الوارد في التوبيخ مع استفهام فكقول الشاعر: أذُلًّا إذا شبَّ العدى نارَ حَرْبهم ... وزَهْوا إذا ما يَجْنحون إلى السَّلْمِ

وفي توبيخ دون استفهام كقولك: خمُولًا وإهمالًا وغيرُك مُولعٌ ... بتَثْبيتِ أسبابِ السيادةِ والمجدِ وقد يفعل هذا من يخاطب نفسه كقول عامر بن الطفيل "أغُدةً كغُدَّة البعير ومَوْتًا في بيت سَلُولِيَّة". وقد يقصد بمثل هذا غائب في حُكم حاضر كقولك وقد بلغك أن شيْخا يُكثر اللهو واللعب: ألَعبًا وقد علاه الشيبُ? ومثال الكائن في تفصيل عاقبة طلب قوله تعالى: (حتّى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا الوثاقَ فإمّا مَنًّا بعدُ وإمّا فداءً) ومثال المفصل به عاقبة خبر قول الشاعر: لأجْهدنَّ فإمّا درْءَ واقعةٍ ... تُخْشى وإمّا بُلوغَ السُّؤْلِ والأملِ ومثال النائب عن خبر اسم عين بتكرير قول الشاعر: أنا جِدًّا جدّا ولَهْوُك يَزْدا ... دُ إذنْ ما إلى اتّفاقٍ سَبِيلُ ومثال النائب بحصر قول الشاعر: ألا إنّما المُسْتوجِبون تفضُّلا ... بدارا إلى نَيْل التقدُّمِ في الفضلِ واشترط كون هذا بتكرير ليكون أحد اللفظين عوضا من ظهور الفعل فثبت بذلك سبب التزام إضمار الفعل، وقام الحصر مقام التكرير، لأنه لا يخلو من لفظ يدل عليه وهو إلا بعد نفي، أو إنما فجعل ذلك أيضا عوضا، ولأن في الحصر من تقوية المعنى ما يقوم مقام التكرير واشترط كون المخبر عنه اسم عين، لأنه لو كان اسم معنى لكان المصدر خبرا فيرتفع كقولك جِدُّك جِدٌّ عظيمٌ، وإنما بدارُه

بدارُ حريصٍ. وإذا كان اسم عين لم يصلح جعل المصدر خبرا له إلا على سبيل المجاز. وإذا لم يصلح جعلُه خبرًا تعيّن نصبُه بفعل هو الخبر، فتقدير جدًّا جِدًّا: أنا أجِدُّ جِدًّا. وتقدير (إنما المستوجبون بدارا) إنما المستوجبون تفضلا يبادرون بِدارا. ولو عُدِم الحصر والتكرير لم يلزم الإضمار، بل يكون جائزا هو والإظهار. ومن المضمر عامله وجوبا المصدر المؤكد مضمون الجملة، فإن كان لا يتطرق إليها احتمال يزول بالمصدر سُمّي مؤكدا لنفسه، لأنه بمنزلة تكرير الجملة، فكأنه نفس الجملة، وكأن الجملة نفسه، وهو كقولك: له عليّ دينارٌ اعترافا. فإن كان مفهوم الجملة يتطرق إليه احتمال يزول بالمصدر فتصير الجملة به نصا سُمّي مؤكدا لغيره؛ لأنه ليس بمنزلة تكرير الجملة فهو غيرها لفظا ومعنى، وذلك كقولك: هو ابني حقا. ولا يجوز تقديمهما على الجملة لأن مضمونهما يدل على العامل فيهما، ولا يتأتى ذلك إلا بعد تمام الجملة. وأما قوهم أجدَّك لا تفعل فأجاز فيه أبو علي الفارسي تقديرين: أحدهما أن تكون "لا تفعل" في موضع الحال. والثاني أن تكون صلة أجدك أن لا تفعل ثم حذفت أن وبطل عملها. وزعم أبو علي الشلوبين أن فيه معنى القسم ولذلك قُدّم. ومن الملتزم إضمار ناصبه المصدر المشبه به بعد جملة مشتملة على معناه وعلى ما هو فاعل في المعنى، ولا بد من دلالته على الحدوث فمن ذلك قولهم: "له دقٌّ دَقَّكَ بالمِنْحازِ حَبَّ القِلْقِلِ" وله صوت صوت حمار. ومنه قول الشاعر

يصف طعنة: لها بعدَ إسنادِ الكليم وهَدْئه ... ورَنّة مَن يبكي إذا كان باكيا هديرٌ هديرَ الثَّور يَنفُض رأسَه ... يَذُبُّ برَوقَيْهِ الكلابَ الضواريا فلو لم يكن بعد جملة لم يجز النصب كقولك: دَقُّه دَقُّك بالمنحاز، وصوتُه صوتُ حمار، وهديرُها هديرُ الثور. فلو كان بعد جملة تضمنت الحدث دون معنى الفاعل لم يجز النصب، إلا على ضعف كقولك فيها صوتٌ صوت حمار، فتجعل صوت حمار بدلا؛ لأنه إنما استجيز في له صَوتٌ صوتَ حمارٍ، لأن له صوت بمنزلة هو يصوّت، لاشتماله على صاحب الصوت، فجاز أن يجعل بدلا من اللَّفظ بيصوّت مسندا إلى ضمير بخلاف فيها صوت فإنه لم يتضمن إلا الصوت فلم يَحسن أنْ يُجعل بدلا من اللفظ بيصوّت. ومع ذلك فالنصب جائز على ضعف، لأن الكلام الذي قبله وإن لم يتضمن اسم ما هو فاعل في المعنى، فكونه جملة متضمنة للصوت كاف، فإنك إذا قلت فيها صوت ع لم أن فيها مصوتا، لاستحالة صوت بلا مصوّت. ولو كان المصدر غير دال على حدوث لم يجز النصْب كقولك له ذكاءٌ ذكاءُ الحكماء، لأن نصب صوته وشبهه لم يثبت إلا لكون ما قبله بمنزلة يفعل مسندا إلى فاعل، فقولك مررت بزيد وله صوت بمنزلة قولك مررت به وهو يصوّت، فاستقام نصب ما بعده لاستقامة تقدير الفعل في موضعه. وإذا قلت مررت بزيد وله ذكاء فلست تريد (أنك مررت به) وهو يفعل، لكنك أخبرت عنه بأنه ذو ذكاء، فنزل ذلك منزلة مررت به وله يدٌ يدُ أسدٍ فكما يلا ينتصب يد أسد لا ينتصب ما هو بمنزلته. فإن عبرت بالذكاء عن عمل دل على الذكاء جاز النصب.

وإن وقع موقع المصدر المشار إليه صفة ضعف النصب ورجح الإتباع كقولك له صوت أيُّ صوت، ولو نصب لجاز على تقدير يصوت أيَّ تصويت. ومنه قول رؤبة بن العجاج: قولك أقوالا مع التِّحْلافِ ... فيه ازدهافٌ أيَّما ازدهاف ولا يغني المصدر الذي تضمنته الجملة عن إضمار فعل لعدم صلاحيته للعمل، فإن شرط عمل المصدر إذا لم يكن بدلا من اللفظ بالفعل صلاحية تقديره بحرف مصدري وفعل، والمصدر المشار إليه بخلاف ذلك، فلو تضمنت الجملة ما فيه معنى الفعل والصلاحية للعمل لكان هو العامل نحو هو مصوّت تصويت حمارٍ. ومن هذا ونحوه احترزت بقولي: "دون لفظ ولا صلاحية للعمل فيه". ويلحق بله صوت صوت حمار قول أبي كبير الهذلي: ما إنْ يَمَسُّ الأرضَ إلّا منكِبٌ ... منه وحرفُ الساقِ طَيَّ المِحْمَلِ ولذلك قال سيبويه بعد إنشاد هذا البيت: صار ما إن يمس الأرض بمنزلة له طيّ. ويجوز في نحو إنما أنت سيرا الرفع، على أن تجعل المعنى خبرا عن اسم العين مبالغة، ومنه قول الخنساء: تَرْتَعُ ما غفَلتْ حتّى إذا ادَّكَرتْ ... فإنما هي إقبالٌ وإدْبارُ وكذلك يجوز في نحو له عليّ دينار اعترافا رفع اعتراف على تقدير: هذا الكلام اعتراف. وإذا استوفيت شروط نصب المشبه به فرفعه على الإتباع جائز، وكذا نصبه على الحال، والعامل بيديه أو نحوه. ومثال رفع المفيد طلبا قول حسان رضي

الله عنه: أهاجَيْتُمْ حسّان عند ذكائِه ... فغيٌّ لأولاد الحِماسِ طويلُ ومثله: يشكو إليَّ جَمَلي طولَ السُّرى ... صبرٌ جميلٌ فكِلانا مُبتلى قال سيبويه بعد إنشاد هذا البيت: والنصب أجود وأكثر لأنه يأمره. ومثال رفع المفيد إنشاء قول الشاعر: عَجَبٌ لتلك قضية وإقامتي ... فيكم على تلك القضِيَّة أعْجَبُ ومثال المفيد خبرا غير إنشائي قول الشاعر يصف أسدا: أقام وأقْوى ذات يوم وخَيْبةٌ ... لأوَّلِ مَن يلقى وشَرُّ مُيَسَّرُ ص: وقد ينوب عن المصدر اللازم إضمار ناصبه صفاته كعائذا بك وهنيئا لك، وأقائما وقعد الناس، وأقاعدا وقد سار الركب، وأقائما علم الله وقد قعد الناس، وأسماء أعيان كتُربا وجندلا، و"فاها لفيك" و"أأعْور وذا ناب" والأصح كون الأسماء مفعُولات، والصفات أحوالا. ش: الأصل في الدعاء والإنشاء والتوبيخ والاستفهام أن يكون بالفعل، وكثرت نيابة المصدر عنه في ذلك، لقوة دلالته عليه نحو مَعاذَ الله وغُفْرانَه و.

أذُلّا إذا شَبّ العدَى نارَ حَرْبهم وقُعودا يعلم اللهُ وقد سار الركبُ. وقد يقوم مقام المصادر صفات مقصود بها الحالية على سبيل التوكيد نحو عائذا بالله من شرها، وهنيئا لك، وأقاعدا وقد سار الركبُ، وقائما علم الله وقد قعد الناس، فوقعت الصفات في مواقع المصادر لتضمنها إياها، وجعلت أحوالا مؤكدة لعواملها المقدرة واستغنى بها عن المؤكد، كما استغنى عن المصادر، ولا يستبعد كون الحال مؤكدة لعاملها مع كونه من لفظها، فإن ذلك واقع في أفصح الكلام، كقوله تعالى: (وأرسلناك للناس رسولا) وقوله تعالى: (وسَخَّرَ لكم الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والنجومُ مسخَّراتٌ بأمره). ومن نيابة الحال عن المصدر في الإنشاء قول عبدا لله بن الحارث السهمي من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. ألحَقْ غذابَكَ بالقومِ الذين طَغَوا ... وعائِذا بك أن يَعْلُو فيُطْغُوني أراد وأعوذ عائذا بك، فحذف الفعل وأقام الحال، كما كان يفعل بالمصدر لو قال عياذا بك. ومن نيابتها في التوبيخ قول الآخر: أراكَ جمعْتَ مسألةً وحِرْصا ... وعندَ الحقِّ زَحّارا أُنانا الأُنان: الأنين. والعامل فيه زحارا لأن زحَر قريب المعنى من أنَّ. ومن نيابتها في الاستفهام قول الذبياني: أتارِكةً تَدَلُّلَها قَطامِ ... وضَنّا بالتحيّة والكَلامِ فهذا كقولك أقائما زيد وقد قعد الناس.

وقد حمل المبرد عائذا بك وأقاعدا وقد سار الركب ونحوهما على أنها مصادر جاءت على وزن فاعل كقولهم فُلِج فالِجا. وما ذهب إليه غير صحيح، لأنه يوافقنا على أن عائذا وقاعدا ونحوه لا يدل على المصدرية في غير الأمكنة التي ادّعى فيها المصدرية، فدلالتها عليها في هذه الأمكنة اشتراك ومخالفة للاستعمال المجمع عليه فلا يقبل مجرد الدعوى. ولو سلّم الاشتراك لكانت المصدرية مرجوحة في الصفات المشار إليها، لأن استعمالها في غير المصدرية أكثر من استعمالها في المصدرية عند مَن يرى صلاحيتها، فكان الحكم بعدم مصدريتها أولى. ومما يدل على أن عائذا وقاعدا ونحوهما ليست بمصادر في الأمكنة المذكورة امتناع مجيئها في الأمكنة المتمحضة للمصدرية نحو قعدت قعودا طويلا، وقعدت قعودَ خاشع، والقعود المعروف، فلو جعلت قاعدا في أحد هذه الأمكنة لم يجز، فدل ذلك على انتفاء مصدريته وثبوت حاليته، ولذلك لا يجيء هذا النوع إلا نكرة، ولو كان مصدرا لجاز وقوعه معرفة كما جاز تعريف المصدر. قال سيبويه: "ومن العرب من ينصب بالألف واللام، من ذلك قول: الحمدَ لله، فينصبها عامة بني تميم وناس من العرب كثير. وسمعنا العرب الموثوق بهم يقولون: العَجَب لك". قلت فعلى هذا لو قيل العياذَ بك موضع عياذا بك لجاز، ولو عرّف عائذ من قولهم: عائذا بك [لم يجز]، فدل ذلك على أنه حال لا مصدر. وفي بعض ما ذكرته كفاية والحمد لله تعالى. وكلا التقديرين قول سيبويه. ومثله قولهم: "فاها لفيك" والضمير ضمير الداهية. ومثله قول الشاعر: تحَسَّبَ هَوّاسٌ وأقبلَ أنني ... بها مُفْتَدٍ من واحدٍ لا أغامِرُه

فقلتُ له "فاها لفيك" فإنها ... قَلُوصُ امرئ قاريكَ ما أنت حاذِرُهْ ومن حكم على هذه الأسماء بالمصدرية فليس بمصيب ولو نال من الشهرة أوفر نصيب. لكن الموضع بالأصالة للفعل ثم للمصدر ثم للحال ثم للمفعول به، فمن قال تُرْبا لك وجَنْدَلا فكأنه قال ترِبت وجُنْدلتَ، ومن قال فاها لفيك فكأنه قال دُهيت، فلو رُوعي في النيابة الدرجة الأولى لقيل تُربا لك، وجَنْدلةً ودهيا. ولو رُوعيت الدرجة الثانية لقيل متروبا ومجندلا ومدّهيا، لكنهم راعوا الدرجة الثالثة فجيء بأسماء الأعيان. ومن نيابة المفعول به عن فعل الإنكار قول رجل من بني أسد: يا بني أسد "أعْوَرَ وذانابٍ". يريد أتَستقبلون أعْورَ وذاناب. وذلك في يوم التقى أسد وبنو عامر، فرأى بعض الأسديين بعيرا أعور فتطيّر وقال لقومه هذا الكلام، فقَضى أن قومه هُزموا وقُتِل منهم.

باب المفعول له

باب المفعول له ص: وهو المصدر المعلَّل به حدث شاركه في الوقت والفاعل تحقيقا أو تقديرا، وينصبه مفهم الحدث ظاهرا أو مقدرا نصب المفعول به المصاحب في الأصل حرف جرّ، لا نصبَ نوع المصدر خلافا للزجاج. وإن تغاير الوقت أو الفاعل أو عدمت المصدرية جُرَّ باللام أو ما في معناها. وجرُّ المستوفِي لشروط النصب مقرونا بألْ أكثر من نصْبه، والمجرّد بالعكس، ويستوي الأمران في المضاف. ومنهم مَن لا يشترط اتحاد الفاعل. ش: المفعول له هو ما دلّ على مراد الفاعل من الفعل كدلالة التأديب من قولك ضربته تأديبا. فإن لم يكن مصدرا ولا أنْ وأنَّ ظاهرة فلا بد من لام الجر أو ما في معناها نحو (خلق لكم ما في الأرض جميعا) و (أنزلنا إليك الذكر لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم)، وكذا إن كان مصدرا ووقته غير وقت المعلّل به كقول امرئ القيس: فجئتُ وقد نَضَّتْ لِنوم ثيابَها ... لدى الستر إلَّا لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ وكذا إن كان مصدرا وفاعله غير فاعل المعلَّل به كقول الشاعر: وإني لَتَعْوني لذِكراكِ هزَّةٌ ... كما انْتفض العصفورُ بَلّلهُ القَطْرُ فلو كان الفاعل واحدا ولم يذكر لكان الحكم مثل ما هو مع وحدته إذا ذكر، وذلك نحو: ضُرب الصبيُّ تأديبا. وكذا لو كان الفاعل غير واحد في اللفظ وواحدا

في التقدير كقول النابغة: وحَلّتْ بُيوتي في يَفاع ممنَّعٍ ... يُخالُ به راعي الحمولة طائرا حِذارا على ألّا تنال مَقادتي ... ولا نِسْوتي حتّى يَمُتْنَ حرائرا فإن فاعل حلّت في الظاهر غير فاعل حذارا وهو في التقدير واحد، لأن المعنى وأحْلَلتُ بيوتي حذارا. وكذا قوله تعالى (يُريكم البرقَ خوفا وطمعا) لأن معنى يُريكم يجعلكم تَرون، ففاعل الرؤية فاعل الخوف والطمع في التقدير، فلا يلزم جعل خوفا وطمعا حالين كما زعم الزمخشري، ولا كون التقدير يريكم البرق إراءة خوف وطمع. وقد يكون عامل المفعول محذوفا، ومنه حديث محمود بن لبيد الأشهلي "قالوا ما جاء بك يا عمرو؟ أحَرْبا على قومك أم رغبةً في الإسلام" أي جئت حربا أو رغبة. وأجاز ابن خروف حذف الجار مع عدم اتحاد الفاعل من كل وجه نحو جئتك حذر زيد الشرّ، وزعم أنه لم ينصّ على منعه أحد من المتقدمين، قال ومن حجة مَن أجازه شبهه في عدم اتخاذ الفاعل بقولهم ضربته ضربَ الأمير اللصّ، فكما نصب الفعل في هذا المصدر وفاعلهما غيران، إذ لا محذور في ذلك من لَبْس ولا غيره. وظاهر كلام سيبويه يشعر بالجواز، لأنه قال بعد أمثلة المفعول له: فهذا كله ينتصب لأنه مفعول له، كأنه قيل له: لمَ فعلتَ كذا؟ فقال: لكذا، ولكنه لمّا طرح اللام عمل فيه ما قبله كما عمل في "دَأبَ بكارٍ" ما قبله حين طرح "مثل". يشير إلى قول الراجز: إذا رأتني سَقطت أبصارُها ... دأبَ بِكارٍ شايحتْ بكارُها

فشبّه انتصاب المفعول له بانتصاب المصدر المشبّه به، وفاعل المشبّه به غير فاعل ناصبه، فكذلك لا يمتنع أن يكون فاعل المفعول له غير فاعل ناصبه. وهذا بيّن والله أعلم. وأجاز ابن خروف في قول الشاعر: مَدَّتْ عليك المُلكَ أطنابَها ... كأسٌ رَنَوْناةٌ وطِرْفٌ طِمِرَّ على أن يكون نصب الملك على أنه مفعول له وأطنابها على أن يكون مفعولا به. والمعنى أن هذا المخاطب تكون همته مقصورة على الأكل والشرب وشبههما. ورجح هذا الوجه على وجه غيره، وهو أن يكون الملك مفعولا به وأطنابها بدل والضمير عائد على الملك بتأويل الخلافة. وزعم الزجاج أن المفعول له منصوب نصب نوع المصدر، ولو كان كذلك لم يجز دخول لام الجر عليه كما لا يدخل على الأنواع نحو سار الجمَزَى وعَدا البشَكَى، ولأن نوع المصدر يصح أن يضاف إليه كل ويخبر عنه بما هو نوع له كقولك كل جَمزَى سَيْرٌ، ولو فعل ذلك بالتأديب والضرب من قولك ضربته تأديبا لم يصح، فثبت بذلك فساد مذهب الزجاج. وانجرار المستوفي لشروط النصب جائز مختصا كان بالألف واللام كقول الراجز: لا أقْعُدُ الجُبْنَ عن الهَيْجاءِ ... ولو توالتْ زُمَرُ الأعداءِ أو مضافا كقول حاتم: وأغْفِرُ عَوْراءَ الكريم ادّخاره ? أو غير مختص كقوله أعني حاتما: وأُعرِضُ عن شَتْم اللئيم تكرُّما إلا أن انجرار المختص بالألف واللام أكثر من نصبه، ونصب غير المختص أكثر من انجراره، ويستوي الأمران في المختص بالإضافة.

وزعم الجزولي أنه لا يكون المنجرّ إلا مختصّا، يعني أنه لا يقال جئته لإعظام لك. قال أبو علي الشلوبين: وهذا غير صحيح، بل هو جائز لأنه لا مانع يمنع منه ولا أعرف له سلفا في هذا القول. قلت ويمكن أن يكون القسط في قوله تعالى: (ونَضَعُ الموازينَ القِسْطَ) مفعولا له لأنه مستوفٍ للشروط. والجر في هذا الباب إما باللام وهو الكثير، وإما بمن كقوله تعالى: (خاشِعا متصدِّعا من خشية الله) وإما بالباء كقوله (فبِظُلم من الذين هادوا حَرّمنا)، وبفي كقوله صلى الله عليه وسلم "إنَّ امرأةً دخلتْ النارَ في هِرَّة" أي من أجل هرَّة.

باب المفعول المسمى ظرفا ومفعولا فيه

باب المفعول المسمَّى ظرفا ومفعولا فيه ص: هو ما ضُمّن من اسم وقت أو مكان معنى في باطّراد، لواقع فيه مذكور أو مقدّر ناصب له. ومبهم الزمان ومختصه لذلك صالح. فإن جاز أن يخبر عنه أو يجرّ بغير من فمتصرّف، وإلا فغير متصرّف. وكلاهما منصرف وغير منصرف، فالمتصرّف المنصرف كحين ووقت، والذي لا يتصرف ولا ينصرف ما عُيّن من سَحَر مجرد. والذي يتصرّف ولا ينصرف كغُدوة وبُكْرة عَلَمين. والذي ينصرف ولا يتصرف بُعَيْداتِ بين، وما عُيِّن من ضحى وضحوة وبكرة وسُحير وصباح ومساء ونهار وليل وعَتمة وعِشاء وعُشيّة. وربما مُنِعت الصرف والتصرّف. وألحق بالممنوع التصرف ما لم يضف من مركب الأحيان كصباحَ مساءَ ويومَ يومَ. وألحق غير خَثْعَم ذا وذات مضافين إلى زمان. واستقبح الجميع التصرّف في صفة حين عرض قيامها مقامه ولم توصف. ش: ما ضُمّن معنى في يتناول الحال والظرف ونحو السهل والجبل من قول العرب: مطرنا السهل والجبل. فخرج الحال بقولي "من اسم وقت أو مكان" وخرج السهل والجبل ونحوهما بقولي "باطراد" فإنه لا يقاس عليهما؛ إذ لا يقال مطرنا القيعان والتلول، ولا أخصبنا السهل والجبل بل يقتصر على ما سمع ولا يزاد عليه إلا ما عُضد بسماع ممن يوثق به، بخلاف المنصوب على الظرفية نحو جلست أمامَك فإنه مطرد، لجواز أن يخلف فيه الفعل والاسم غيرهما، ويتناول أيضا قولي "ما ضمن في" ما نصب بدخل من مكان مختص، وخرج بذكر الاطراد، فإن المطرد لا يختص بعامل دون عامل، ولا باستعمال دون استعمال، فلو نصب المكان المختص بدخل على الظرفية لم ينفرد به دخل. بل كان يقال مكثت البيت كما يقال دخلت البيت، وكان يقال زيد البيت فينصَب بمقدر كما يفعل بما تحققت ظرفيته، لأن كل ما ينتصب على الظرفية بعامل ظاهر يجوز وقوعه خبرا فينتصب

بعامل مقدر. ولذا قال سيبويه بعد أن مثّل بقُلب زيد الظهر والبطن ودخلت البيت: "وليس المنتصب هنا بمنزلة الظروف، لأنك لو قلت هو ظهره وبطنه وأنت تريد شيئا على ظهره وبطنه لم يجز" هذا نصّه. وقد غفل عن الموضع الشلوبين فجعل أن نصب المكان المختص بدخل عند سيبويه على الظرفية. وهذا عجب من الشلوبين مع اعتنائه بجمع متفرقات الكتاب وتبيين بعضها من بعض. ونبهت بقولي "لواقع فيه ناصب له مذكور أو مقدر" أن الظرف منصوب بما دل على المعنى الواقع فيه وأن الدال على الواقع فيه قد يكون مقدران فالمذكور ظاهر، والمقدر كالعامل فيما وقع خبرا كزيد عندك. ومبهم الزمان ومختصه صالحان للنصب على الظرفية، فمبهمه نحو صمت يوما، ومختصه نحو صمت الجمعة. وظرف الزمان ينقسم إلى متصرف وغير متصرف، فالمتصرف ما يجوز أن يخبر عنه أو يجرّ بغير "من". وغير المتصرف ما لا يعامل بذلك، فالإخبار عنه نحو العام سعيد، واليوم مبارك. والجر بغير من نحو: (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) ونحو: (عن اليمين وعن الشمال قَعيدٌ) ونحو: "وعلى يمينه أسْوِدة وعلى يساره أسْودة". وبدخول إلى على متى يعلم أنها ظرف متصرف. فلذلك أجاز سيبويه أن يقال يومُ كذا بالرفع لمن قال متى سير عليه على تقدير أيُّ الأحيان سير عليه برفع أي. وقال سيبويه "والرفع في جميع هذا عربي كثير في لغات جميع العرب يكون على كم غير ظرف وعلى متى غير ظرف". هذا نصه.

ولا يحكم بتصرف ما جر بمن وحدها كعند وقبل وبعد، لأن من كثرت زيادتها فلم يُعتدّ بدخولها على الظرف الذي لا يتصرف بخلاف غيرها كمذ وحتّى وفي وإلى وعن وعلى. فلما بيّنت أن بعض الظروف متصرف وبعضها غير متصرف قلت "وكلاهما منصرف وغير منصرف" أي المتصرّف على ضربين: منصرف وغير منصرف، وغير المتصرّف كذلك، فالأقسام إذن أربعة. فالمتصرف المنصرف كثير، لأنه على الأصل، وذلك كساعة وشهر وعام ودهر وحين وحينئذ ويومئذ، يقال سير عليه حينئذ ويومئذ، حكاهما سيبويه. والذي لا يتصرف ولا ينصرف "سحر" إذا جُرّد من الإضافة والألف واللام وقصد به معيَّن من ليلة معيّنة كقولك لأستغفرنّ هذه الليلة سحر. وكذا إن قصدا لتعيين ولم يذكر الليلة. والذي يتصرف ولا ينصرف غُدْوة وبُكرة علمين قصد بهما التعيين أو لم يقصد، لأن علميتهما جنسية فيستعملان استعمال أسامة وذُؤالة، فكما يقال عند قصد التعميم أسامة شر السباع، وعند التعيين هذا أسامة فاحذره تقول قاصدا التعميم غُدوة وقت نشاط، وقاصدا التعيين لا أشرب الليلة إلى غُدوة. وبُكرة في ذلك كغُدوة. وقد يخلوان من العلمية فينصرفان ويتصرفان، ومنه قوله تعالى: (ولهم رزْقُهم بُكرةً وعَشيَّا). والذي ينصرف ولا يتصرف ما عينَ من سحر وبكرة وضحى وضحوة وصباح ومُسْي وليل ونهار وعَتمة وعشاء وعشيّة. وربما منعت عشية في التعيين الصرف والتصرف فساوت سحر. ذكر ذلك كله سيبويه في الباب المترجم بهذا ما يكون فيه المصدر حينا. وقال بعد أن ذكر ليلا ونهارا: إذا أردت ليل ليلتك ونهار نهارك تريد بليل ليلتك ظلامها وبنهار نهارك ضوءه. وكذلك قال في تفسير تعيين البواقي: إذا أردت سحر ليلتك وضحى يومك وصباحه ومساءه وعشاءه وبكرة يومك وضحوته وعتمة ليلتك. وذكر ما لا يتصرف بُعَيدات بين أي أوقاتا غير متصلة.

ومن الظروف التي لا تتصرف ما ركب نحو خمسة عشر كقولك فلان يتعهّدنا يومَ يومَ وصباحَ مساءَ أي كل يوم وكل صباح ومساء، فمثل هذا لا يستعمل إلا ظرفا. ومنه قول الشاعر: ومَن لا يَصْرِف الواشينَ عنه ... صباحَ مساءَ يضنوه خبالا ومثله قول الآخر: آت الرزقُ يومَ يومَ فأجْملْ ... طَلَبا وابْغِ للقيامة زادا فلو أضيف صدره إلى عجزه جاز استعماله ظرفا وغير ظَرف فمثال استعماله ظَرفا قول الشاعر: ما بالُ جهلِك بعد الحِلْم والدّين ... وقد علاك مَشيبٌ حينَ لا حينِ أنشده سيبويه وقال: إنما هو حينَ حين، "ولا بمنزلة" "ما" إذا ألغيتَ. ومثال استعماله غير ظرف قول الآخر أنشده سيبويه أيضا: ولولا يومُ يومٍ ما أرَدْنا ... جَزاءكَ والقُروضُ لها جزاءُ واعلم أنّ من الظروف التي لا تتصرف ذُو وذات مضافين إلى وقت كقولهم لقيته ذا صباح وذات مرّة وذات مرّة وذات يوم أو ليلة. وهذا النوع عند غير "خَثْعَم" لا يستعمل إلا ظرفا، وقد يستعمل عند خثعم غير ظرف كقول بعضهم: عَزَمتُ على إقامةِ ذي صباح ... لأمْرٍ ما يُسَوَّدُ مَن يَسُودُ

فلو قيل على هذه اللغة: سرى عليها ذاتُ ليلة، بالرفع لجاز، ولا يقال على لغة غيرهم من العرب إلا سرى عليها ذاتَ ليلة، بالنصب. ويقبح عند جميع العرب ترك الظرفية في صفة "حين" حين حذف وأقيمت مقامه نحو سير قديما وحديثا، فلو قلت سير عليه قديمٌ أو حديثٌ لم يختلف في قبحه. فلو كان قيام الصفة مقام الموصوف غير عارض كقريب حسن ترك الظرفية. وكذا لو وصفت الصفة كقولك سير عليه قديمٌ أو حديثٌ لم يختلف في قبحه. فلو كان قيام الصفة مقام الموصوف غير عارض كقريب حسن ترك الظرفية. وكذا لو وصفت الصفة كقولك سير عليه طويل من الدهر، لأن وصفها يعطيها شبها بالاسم الجامد، كما أن كثرة جريانها مجرى الأسماء الجامدة تلحقها بها فلك أن تقول في سير عليه طويلا من الدهر وفي مرّ به قريبا: سير عليه طويل من الدهر ومرّ به قريب، فإن قريبا من الصفات التي كثر جريانها مجرى الأسماء، قال سيبويه بعد أن مثّل بسير عليه طويلا وحديثا وكثيرا وقليلا: ولم يجز الرفع لأن الصفة لا تقع موقع الاسم. ثم قال: وقد يحسن أن يقال سير عليه قريب، لأنك تقول لقيته مذ قريب، وربما جرت الصفة في كلامهم مجرى الاسم فإذا كان كذلك حسن. ثم قال: فإن قلت سير عليه طويل من الدهر كان أحسن. وإنما حسن بالوصف لأنه ضارع الأسماء، لأن الموصوفة في الأصل هي الأسماء. هذا نصه. وإلى هذا أشرت بقولي "واستقبح الجميع التصرف في صفة حين عرض قيامها مقامه ولم توصف" فعلم عدم القبح في تصرّف قريب من المثال المذكور، لأن إقامته مقام الموصوف غير عارضة بخلاف طويل وشديد ونحوهما، وعلم عدم القبح في تصرف ما وصف نحو سير عليه طويل من الدهر، لأن وصفه بالجار والمجرور أعطاه شبها بالأسماء المحضة كما تقدم. ص: ومظروف ما يصلح جوابا لكم واقع في جميعه تعميما أو تقسيطا، وكذا

مظروف ما يصلح جوابا لمتى إن كان اسم شهر غير مضاف إليه شهر، وكذا مظروف الأبد والدهر والليل والنهار مقرونة بالألف واللام. وقد يقصد التكثير مبالغة فيعامل المنقطع معاملة المتصل. وما سوى ما ذكر من جواب متى فجائز فيه التعميم والتبعيض إن صلح المظروف لهما. ش: المظروف هو ما يفعل في الظرف، فمنه ما يقع في جميعه ومنه ما يقع في بعضه، كما أن المُوعَى في الوعاء منه ما يملأ الوعاء ومنه ما لا يملؤه. فإن كان الظرف معدودا وهو المعبر عنه بجواب كم فلكل واحد من أفراده أو فرديه قسط من العمل إما في جميعه وهو المعبّر عنه بالتعميم وإما في بعضه وهو المعبّر عنه بالتقسيط؛ فالتعميم كقولك صمت ثلاثة أيام، والتقسيط كقولك أذّنت ثلاثة أيام، فهذان مثالان لما لا يصلح من العمل إلا لأحد القصدين. وقد يكون العمل صالحا للتعميم والتقسيط. فيجوز للمتكلم أن يقصد به ما شاء من المعنيين كقولك تهجدت ثلاث ليال، فمن الجائز أن يريد استيعابهنّ بالتهجُّد، وأن يريد إيقاع تهجد في بعض كل واحدة منهن. وإذا كان الظرف اسم شهر غير مضاف إليه شهر كقولك اعتكفت رمضان فلجميع أجزائه قسط من العمل، لأن كل واحد من أعلام الشهور إذا أطلق فهو بمنزلة ثلاثين يوما، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر". ولم يقل من صام شهر رمضان، إذ لو قال ذلك لاحتمل أن يريد جميع الشهر وأن يريد بعضه، كما قال تعالى: (شهرُ رمضانَ الذي أُنْزِل فيه القرآنُ) وإنما كان الإنزال في ليلة منه وهي ليلة القدر.

وأجرى أبو الحسن بن خروف أعلام الأيام مجرى أعلام الشهور، فجعل قول القائل سير عليه الخميس مقصورا على التعميم، وقوله سير عليه يوم الخميس محتملا للتعميم والتبعيض. وفيما رآه نظر. ومثل رمضان وغيره من أعلام الشهور المجردة في استحقاق التعميم الأبد والدهر، والليل والنهار مقرونة بالألف واللام، فإذا قيل كان ذلك الأبد أو الدهر فلا يصلح أن يراد به غير التعميم إلا في قصد المبالغة مجازا، كما يقول القائل أتاني أهل الدنيا، وإنما أتاه ناس منهم. قال سيبويه: "ومما لا يكون العمل فيه من الظروف إلا متصلا في الظرف كله كقولك سير عليه الليل والنهار والدهر والأبد. ثم قال: لا تقول لقيته الدهر والأبد وأنت تريد يوما فيه، ولا لقيته الليل وأنت تريد لقاءه في ساعة دون الساعات" هذا نصّه. فصل: ص: وفي الظروف ظروف مبنية لا لتركيب، فمنها إذْ للوقت الماضي لازمة الظرفية، إلا أن يضاف إليها زمان، أو تقع مفعولا به وتلزمها الإضافة إلى جملة وإن علمت حذفت وعوض تنوين وكسرت الذال لالتقاء الساكنين لا للجر خلافا للأخفش. ويقبح أن يليها اسم بعده وفعل ماض. وتجيء للتعليل وللمفاجأة [وليست حينئذ ظرف مكان ولا زائدة خلافا لبعضهم]. وتركها بعد بينا وبينما أقيس من ذكرها وكلاهما عربي. ويلزم بينما وبينا الظرفية الزمانية والإضافة إلى جملة، وقد تضاف بينا إلى مصدر". ش: لما فرغ من الكلام على معربات ظروف الزمان ومبنياتها المركبة شرع في بيان مبنياتها غير المركبة، فمنها "إذْ" ويدلّ على اسميّتها أنها تدل على الزمان دلالة لا تعرض فيها للحدث، وأنها يخبر بها مع دخولها على الأفعال نحو قدوم زيد إذ قدم

عمرو، وأنها تبدل من اسم نحو رأيتك أمس إذ جئت، وأنها تنون في غير ترنم. ويضاف إليها بلا تأويل نحو (يومئذ تُحَدِّثُ أخبارَها) وأنها تقع مفعولا بها نحو قوله تعالى: (واذكُروا إذ أنتم قليلٌ مُسْتَضْعفون في الأرض). ولبنائها سببان كل واحد منهما كاف لو انفرد، أحدهما وضعها على حرفين لا ثالث لهما بوجه. الثاني لزوم افتقارها إلى جملة أو عِوَض منها وهو التنوين اللاحق في نحو يومئذ وحقّ تنوين العوض أن يكون عوضا من بعض كلمة: كتنوين يُعَيل مصغّر يَعْلَى فإنه عوض من لام الكلمة، وكتنوين جندل فإنه عوض من ألف جنادل، فلما كانت الجملة التي يضاف إليها إذ بمنزلة الجزء منها، وحذفت عوملت في التعويض منها معاملة جزء حقيقي، وفعل بذال "إذ" مع هذا التنوين ما فُعل بهاء صه مع تنوين التنكير فقيل إذٍ كما قيل صَهٍ. وزعم الأخفش أن كسرة إذ كسرة إعراب بالإضافة، وأظن حامله على ذلك أنه جعل بناءها ناشئا عن إضافتها إلى الجملة، فلما زالت من اللفظ صارت معربة. وردّ بعض النحويين عليه بقول العرب: كان ذلك إذٍ، بالكسر دون مضاف إلى إذ، ولم يغفل الأخفش هذا، بل ذكره وأنشد: نَهْيتكَ عن طِلابِكَ أمَّ عَمْرو ... بعافيةٍ وأنت إذٍ صحيحُ ثم قال: أراد وأنت حينئذ صحيح، فحذف المضاف وأبقى الجر. وهذا منه غير مرضيّ لأن المضاف لا يُحذف ويبقى الجر به إلا إذا كان المحذوف معطوفا على مثله كقولهم: ما مثل أبيك وأخيك يقولان ذلك و"ما كل بيضاءَ شحمة، ولا سوداء تمرة"، فحذف "مثل" المضاف إليه أخيك، و"كل" المضاف إلى سوداء

لدلالة ما قبلها عليها، وإذ في البيت المذكور بخلاف ذلك فلا يحكم لها بحكمه. وأيضا فإن حذف المضاف وإعراب المضاف إليه بإعرابه أكثر من حذف المضاف وجرّ المضاف إليه، ومع أنه أكثر مشروط بعدم صلاحية الباقي لما صلح له المحذوف، كالقرية بالنسبة إلى الأهل. فلو صلح الباقي لما صلح له المحذوف امتنع الحذف، فلأن يمتنع عند ذلك حذف المضاف وبقاء المضاف إليه مجرورا أحق وأولى. ومعلوم أن "إذ" من قولك حينئذ صالح لما يصلح له حينن فلا يجوز فيهما الحذف المذكور كما لا يجوز في غلام زيد. وأيضا فإن المضاف إلى إذ قد يبنى كقراءة نافع (وهم مِن فَزَعِ يومئذٍ آمنونَ) ولا علة لبنائِه إلا إضافته إلى مبني، فبطل قول من قال إن كسرة إذ كسرة إعراب. ولم أقيد الجملة التي تضاف إليها إذ بكونها اسمية أو فعلية ليشعر بذلك أن للمتكلم أن يضيفها إلى ما شاء منهما. ثم أشرت إلى استقباح تقديم اسم بعدها على فعل ماض نحو كان ذلك إذ زيد قام، فعُلم أن غير ذلك حسن نحو كان ذلك إذ قام زيد، وإذ زيد يقوم، وإذ يقوم زيد، كل ذلك حسن إذ لا محذور فيه، بخلاف إذ زيد قام فإنه قبيح، لأن مدلول غذ وقام من الزمان واحد، وقد اجتمعا في كلام فلم يحسن الفصل بينهما بخلاف ما سواه، فإن الذي يعد إذ في جميعه غير موافق لاذ في مدلولها، فاستوى اتصالها به وانفصالها عنه. وتجيء إذ للتعليل كقوله تعالى (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلّا الله فأووا إلى الكهف ينشرْ لكم رَبُّكم من رحمته) وكقوله تعالى: (وإذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفكٌ قديمٌ). وكقوله تعالى: (ولن ينفعكم اليومَ إذْ

ظلمتم). ومثله قول الشاعر: فأصبحوا قد أعاد اللهُ نعمتهم ... إذْ هم قريشٌ وإذ ما مثلَهُمْ بَشَرُ وأشار إليها سيبويه فقال في باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي إنَّ أنْ في قولهم: أمّا أنتَ مُنطلِقا انطلقتُ بمعنى إذ، وإذ بمعنى أنْ إلا أن إذ لا يحذف فيها الفعل، وأما لا يذكر بعدها الفعل المضمر، هذا نصه. وتجيء إذ أيضا للمفاجأة كقول عمر رضي الله عنه: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ طلع علنا رجلٌ" فهذا مثال وقوعها بعد بينما. ومثله قول الشاعر: بينما هُنَّ بالأراكِ معًا ... إذْ أتى راكبٌ على جَمَلِهْ ومثله: استَقْدر اللهَ خيرا وارضينَّ به ... فبينما العُسْرُ إذ دارتْ مياسيرُ ومثال تركها قول الشاعر: بينا نحن نَرْقُبُه أتانا ... معلِّقَ وفْضَة وزنادَ راعي وتركها أقيس؛ لأن المعنى المستفاد معها مستفاد بتركها، وكلاهما مرويّ عن العرب نثرا ونظما. وكان الأصمعي يؤثر تركها على ذكرها. وحكى السيرافي أن

بعضهم يجعلها ظرف مكان، وأن بعضهم يجعلها زائدة والمختار عندي الحكم بحرفيّتها. وقد حدث لـ"بَيْن" إذ قيل فيها: بينما الاختصاص بالزمان والظرفية والإضافة إلى الجمل. وقد تضاف بينا إلى مصدر كقوله: بَيْنا تعنّقه الكماة وروغه ... يومًا أُتِيحَ له كمِيّ سَلْفَعُ ويروى تعنّقه بالرفع على الابتداء والخبر محذوف. ص: ومنها إذا للوقت المستقبل مضمنة معنى الشرط غالبا، لكنها لما يُتيقن كونُه أرجحُ بخلاف إنْ، فلذلك لم تجزم إلا في شعر، وربما وقعت موقع إذ، وإذ موقعها، وتضاف أبدا إلى جملة مصدّرة بفعل ظاهر أو مقدر قبل اسم يليه فعل، وقد تُغني ابتدائية اسم بعدها عن تقدير فعل وفاقا للأخفش. وقد تفارقها الظرفية مفعولا بها أو مجرورة بحتى، وتدل على المفاجأة حرفا لا ظرف زمان خلافا للزجاج ولا ظرف مكان خلافا للمبرد، ولا يليها في المفاجأة إلا جملة اسمية. وقد تقع بعد بينا وبينما". ش: يدل على اسمية إذا أن فيها ما في إذ من الدلالة على الزمان دون تعرّض لحدَث، ومن الإخبار بها مع دخولها على الأفعال نحو قولك: راحة المؤمن إذا دخل الجنة. ومن وقوعها بدلا من اسم صريح نحو أكرمك الله غدا إذا جئتني. ومن وقوعها مفعولا به كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إني لأعلم إذا كنت عنّي راضية، وإذا كنت عليّ غَضبَى" وانفردت بدخول حتى الجارة عليها كقوله تعالى: (حتّى إذا جاءوها) كما انفرد "إذْ" بلحاق التنوين والإضافة إليها.

وإلى الحديث والآية أشرت بقولي: "وقد تفارقها الظرفية مفعولا بها أو مجرورة بحتى" وأكثر وقوع "إذا" مضمنة معنى الشرط ولذلك تقع الفاء بعدها على حدّ وقوعها بعد إنْ كقوله تعالى (إذا لقيتُم فئةً فاثْبُتوا) ولذلك أيضا كثر وقوع الفعل بعدها ماضي اللفظ مستقبل المعنى نحو إذا جئتني أكرمك. ولو جعلت مكان إذا حينا أو غيره قاصدا للاستقبال لم يجز أن تأتي بلفظ الماضي. وكان مقتضى تضمنها معنى الشرط أن يجزم بها، لكن منع من ذلك ثلاثة أمور: أحدها أن تضمنها معنى الشرط ليس بلازم، فإنها قد تتجرد منه كقوله تعالى: (ويقول الإنسان أئذا ما متُّ لسوف أُخْرَجُ حيّا) وقوله تعالى (والنجمِ إذا هوى) وقد تتجرد من الظرفية مع تجردها من الشرط نحو إنني لأعلم إذا كنت عني راضية. الثاني أنها مضافة إلى ما يليها والمضاف يقتضي جرّا لا جزْما. وإذا جُزم بها في الشعر فليست مضافة إلى الجملة، وبناؤها حينئذ لتضمنها معنى إنْ. الثالث أن ما يليها متيقِّن الكون أو في حكم المتيقن نحو آتيك إذا انتصف النهارُ، وأجيئُك إذا دعوتني، بخلاف ما يلي إنْ فإنّ كونه وعدم كونه لا رجحانَ لأحدهما على الآخر، فلما خالفتها إذا لم يُجزم بها إلا في الشعر. وإنما جاز أن يُجزم بها في الشعر لأن فيها ما في إنْ من ربْط جملة بجملة وإن لم يكن ذلك لها لازما. ومن الجزم بها قول الشاعر: ترفعُ لي خِنْدفٌ، واللهُ يرفعُ لي ... نارًا إذا خَمدتْ نيرانُهم تَقِدِ ومثله: استغنِ ما أغناكَ ربُّك بالغنى ... وإذا تُصِبْك خَصاصةٌ فتَجَمَّل ومثله:

وإذا تُصبكَ خصاصةٌ فارْجُ الغنى ... وإلى الذي يُعْطي الرغائبَ فارْغَبِ وقد يراد بها المضي فتقع موقع إذ كقوله تعالى (ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم* ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) وكقوله تعالى: (وإذا رأوا تجارةً أو لهوًا انفضُّوا إليها). ومن ذلك قول الشاعر: حلَلتُ بها وِتْرِي وأدركتُ تُؤْرَتِي ... إذا ما تناسى ذَحْلَهُ كلُّ [غَيْهَبِ] ومثله قول الآخر: ما ذاقَ بُؤْسَ مَعيشةٍ ونَعيمَها ... فيما مَضى أحدٌ إذا لم يَعْشَقِ وقد تقع إذ موقع إذا كقوله تعالى: (يوم يجمع اللهُ الرُسُلَ فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علمَ لنا إنك أنت علَّامُ الغيوب * إذ قال اللهُ يا عيسى) فإذ هذه بدل من يوم يجمع (ويوم يجمع) مستقبل المعنى فيتعين كون المبدل منه مثله في الاستقبال. ومثله قوله تعالى: (فسوف يعلمون إذ الأغلالُ في أعناقهم)

ومثله قوله تعالى (يومئذ) و (بعد إذ أُنْزِلَتْ). ومن وقوع إذ موقع إذا قول الشاعر: متى ينالُ الفتى اليقظانُ حاجتَه ... إذ المُقامُ بأرضِ اللَّهْو والغَزَل ولا يليها عند سيبويه إلا فعل ومعمول فعل، فإن كان اسما مرفوعا وجب عنده أن يرفع بفعل مقدر موافق لفعل ظاهر بعده كقوله تعالى: (إذا الشمسُ كُوّرتْ * وإذا النجومُ انكدرتْ) فالشمس مرفوع بكُوّرتْ مضمرا، والنجوم مرفوع بانكدرتْ مضمرا وكذا ما أشبههما، لا يجيز سيبويه غير ذلك. واختار الأخفش ما أوجبه سيبويه، وأجاز مع ذلك جعل المرفوع بعد إذا مبتدأ، وبقوله أقول، لأن طلب إذا للفعل ليس كطلب إنْ، بل طلبها له كطلب ما هو بالفعل أولى مما لا عمل له فيه كهمزة الاستفهام، فكما لا يلزم فاعلية الاسم بعد الهمزة لا يلزم بعد إذا. ولذلك جاز أن يقال إذا الرجل في المسجد فظُنّ به خيرا. ومنه قول الشاعر: إذا باهليٌّ تحتَه حَنْظَلِيّةٌ ... له ولدٌ منها فذاكَ المُذَرّعُ فجعل بعد الاسم الذي ولى إذا ظرفا واستغنى به عن الفعل، ولا يفعل ذلك بمختص بالفعل. ومما يدل على صحة مذهب الأخفش قول الشاعر: فأمْهلَه حتّى إذا أنْ كأنّه ... مُعاطِي يدٍ في لُجّة الماءِ غامِرُ فأوْلى إذا أنْ الزائدة وبعدها جملة اسمية، ولا يفعل ذلك بما هو مختص بالفعل، وأنشد ابن جني لضيغم الأسديّ: إذا هو لم يَخَفْنِي في ابن عمِّي ... وإنْ لم ألقَهُ الرجلُ الظلومُ

وقال: في هذا دليل على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء، لأن هو مضمر الأمر والشأن وضمير الشأن لا يرتفع بفعل يفسره ما بعده. قلت ومثل ما أنشده ابن جني قول الآخر: وأنتَ امرؤٌ جَلْط إذا هي أرسلت ... يمينُك شيئا أمسكَتْه شِمالُكا لأن هي ضمير القصة. ولما أنهيت الكلام على "إذا" الدالة على زمن مستقبل أخذت في الكلام على "إذا" المفاجأة، وقد اجتمعا في قوله تعالى: (ثُمَّ إذا دعاكم دعوةً من الأرض إذا أنتم تخرجون) فالأولى الدالة على وقت الاستقبال، والثانية الدالة على المفاجأة. وهي عند المبرد والسيرافي ظرف مكان، وعند الزجاج وأبي علي الشلوبين ظرف زمان حاضر، وهذا هو ظاهر قول سيبويه، فإنه قال حين قصدها: وتكون للشيء توافقه في حال أنت فيها، وذلك قولك مررت به فإذا زيد قائم. هذا نصه. وروى عن الأخفش أنها حرف دال على المفاجأة وهو الصحيح عندي ويدل على صحته ثمانية أوجه: أحدها أنها كلمة تدلّ على معنى في غيرها غير صالحة لشيء من علامات الأسماء والأفعال. الثاني أنها كلمة لا تقع إلا بين جملتين، وذلك لا يوجد إلا في الحروف كلكن وحتى الابتدائية. الثالث أنها كلمة لا يليها إلا جملة ابتدائية مع انتفاء علامات الأفعال ولا يكون ذلك إلا في الحروف. الرابع أنها لو كانت ظرفا لم يختلف من حكم بظرفيتها في كونها مكانية أو زمانية، إذ ليس في الظروف ما هو كذلك. الخامس أنها لو كانت ظرفا لم تربط بين جملة الشرط والجزاء في نحو (وإنْ تُصِبْهم سَيِّئةٌ بما قدَّمتْ أيديهم إذا هم يَقْنَطُونَ) إذ لا تكون كذلك إلا حرفا. السادس أنها لو

كانت ظرفا فالواجب اقترانها بالفاء إذا صدر بها جواب الشرط، فإن ذلك لازم لكل ظرف صدر به الجواب نحو إنْ تقم فحينئذ أقوم، فإنْ لم تقم فعند مقامك أقوم. السابع أنها لو كانت ظرفا لأغنت عن خبر ما بعدها، ولكثر نصب ما بعده على الحال كما كان مع الظروف المجمع على ظرفيتها، كقولك عندي زيد مقيما وهناك بشرٌ جالسا، والاستعمال في نحو مررت فإذا زيد قائم بخلاف ذلك. الثامن أنها لو كانت ظرفا لم تقع بعدها إنّ المكسورة غير مقترنة بالفاء كما لا تقع بعد سائر الظروف نحو عندي أنك فاضل، وأمر إنّ بعد إذا المفاجأة بخلاف ذلك كقوله: إذا إنَّه عبد القَفا واللَّهازم فتعيّن الاعتراف بثبوت الحرفية وانتفاء الظرفية. ومثال وقُوعها بعد بَيْنا قول الشاعر: وبَيْنا نَسوسُ الناسَ والأمرُ أمرُنا ... إذا نحن فيهم سُوقةٌ نَتَنَصَّفُ ومثال وقوعها بعد بينما قول الآخر: بينما المرْءُ في فُنون الأماني ... إذا زائِرُ المَنُونِ مُوافِي ص: ومنها مُذ ومُنذ وهي الأصل. وقد تكسر ميمهما ويضافان إلى جملة مصرّح بجزأيها أو محذوف فعلها بشرط كون الفاعل وقتا يجاب به متى أو كم. وقد يجران الوقت أو ما يستفهم به عنه حرفين بمعنى من إنْ صلح جوابا لمتى، وإلّا فبمعنى في. وقد يُغني عن جواب متى في الحالين مصدر معيّن الزمان أو أنّ وصلتها، وليسا قبل المرفوع مبتدأين بل ظرفين خلافا للبصريين. وسكون دال مُذ قبل

متحرك أعرف من ضمها، وضمها قبل ساكن أعرف من كسرها". ش: منذُ أصل مُذْ بدليلين: أحدهما أن ذال مذ تضم لملاقاة ساكن كما يفعل بميم هم وليس ذلك إلا لأن أصلها منذُ، بالضم، فرُوجِع بها الأصل حين احتيج إلى تحريكها فقيل لم أره مُذ الجمعة، كما روجع الأصل في نحوهمُ القوم، ولو لم يكن الأصل الضم لقيل مذِ الجمعة كما قيل "قُمِ الليلَ" وقد يقال: وهُمِ القضاة ومنهُمِ الحكّامُ والثاني أن "بني غنيّ" يضمون الذال قبل متحرك باعتبار أن النون محذوفة لفظا لانية. فلو لم يكن الأصل منذ لم يصح هذا الاعتبار. ونظير هذا قولهم في لدن وقط بضم الدال والطاء بعد الحذف على تقدير ثبوت المحذوف. وبنو سليم يقولون منذ ومِذْ بكسر الميم. وهما اسمان في موضع، وحرفا جرّ في موضع، ويتعيّن اسميتهما إن وليهما مرفوع أو جملة تامة، وتتعيّن حرفيتهما إن وليهما مجرور، ويجوز الأمران قبل أنّ وصلتها. وإذا وَليهما جملة تامة فهما عند سيبويه ظرفان مضافان إليها فإنه قال في باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء: ومما يضاف أيضا (إلى) الفعل (مذ) في قولهم ما رأيته مذ كان عندي ومنذ جاءني: وقال ابن خروف في الشرح: وأما مذ ومنذ فمن الظروف. وهما مضافان إلى الفعل عنده لا على حذف مضاف، ولولا ذلك لم يدخلهما في الباب. وقول السيرافي موافق لقوله، فمن زعم خلاف ذلك فقد خالف سيبويه بما لا دليل عليه. وزعم الأكثرون أن الواقع منهما قبل المرفوع مبتدأ بمعنى أول المدة في مثل لم أره

مذ الجمعة، وبمعنى جميعها في مثل لم أره مذ يومان، وما بعده خبر، والصحيح عندي أنهما ظرفان مضافان إلى جملة حذف صدرها، والتقدير: مذ كان يوم الجمعة ومذ كان يومان، وهو قول المحققين من الكوفيين. وإنما اخترته لأن فيه إجراء مذ ومنذ في الاسمية على طريقة واحدة مع صحة المعنى فهو أولَى من اختلاف الاستعمال، وفيه تخلص من ابتداء نكرة بلا مسوغ إن ادُّعي التنكير، ومن تعريف غير معتاد إن ادُّعِي التعريف. وفيه أيضا تخلّص من جعل جملتين في حكم جملة واحدة من غير رابط ظاهر ولا مقدر. ويعامل المصدر المعين زمانه بعد مذ ومنذ معاملة الزمان المعين في الرفع والجر فيقال ما رأيته مذ قدوم زيد، والأصل مذ زمن قدوم زيد، ومنذ زمان قدوم زيد، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما فعل في غير هذا المكان. وأجاز ابن كيسان أن يقال منذ جئت زيد غائب، كما يقال حين جئت زيد غائب. وقد يجران المستفهم به عن الوقت نحو مذ متى رأيته ومذ كم فقدته؟ وقد تقع أنّ وصلتها بعد مذ فيحكم لموضعها بما حكم للفظ المصدر لأنها مؤولة بمصدر. ومثال الإضافة إلى جملة مصرّح بجزأيها قول الشاعر: ما زال مذ عقدتْ يداه إزارَه ... فسَما فأدركَ خمْسَة الأشْبار يُدْني خوافِقَ من خوافق تَلْتقِي ... في ظِلّ مُعْتَرَكِ العَجاجِ مُثارِ ومنه قول الآخر في منذ: قالت أمامةُ ما لجِسْمك شاحِبا ... منذُ ابتُذلْتَ ومثل مالك يَنْفَعُ ومثله قول الآخر في الجملة الاسمية:

وما زلْتُ مَحمولا عليَّ ضغينةٌ ... ومُضْطلِعَ الأضْغانِ مُذ أنا يافِعُ وروى الكوفيون مذ ومِنذ بكسر الميم وجعلوا ذلك حجة على تركيبها من "مِنْ" و"ذو" الطائية؛ ولا حجة فيه لأن الأصل عدم التركيب. وإذا ولى مذ ساكن ضمت ذالها كقولك لم أر فلانا مذُ اليوم لأن أصلها منذ، محرك لالتقاء الساكنين ومضموم للإتباع، فلما حذفت النون سكنت الذال لئلا يلتقي في الوصل ساكنان، وكان أولى الحركات بها الضمة لأنها حركتها قبل أن تحذف النون. وبعض العرب يقولون مذِ اليوم بالكسر على أصل التقاء الساكنين. وقد تقدم الكلام على ذلك. ص: ومنها الآن لوقت حضر جميعه أو بعضه، وظرفيته غالبة لا لازمة؛ وبني لتضمنها معنى الإشارة أو لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد. وقد يعرب على رأي. وليس منقولا من فعل خلافا للفراء". ش: مسمَّى الآن الوقت الحاضر جميعه كوقت فعل الإنشاء حال النطق به أو الحاضر بعضه كقوله تعالى: (فمَن يَسْتَمِعْ الآن يجدْ له شهابا رَصَدا) وكقوله تعالى: (الآن خفَّفَ اللهُ عنكم) وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقوا فيُوشِكُ الرجلُ أنْ يَمشي بصدقته فيقول الذي أعطيها لو جئتنا بالأمس لأخذتها، وأما الآن فلا حاجة لي بها" ومثله قول علي رضي الله عنه "كان ذلك والإسلام قُلٌّ، فأما الآن فقد اتّسع نِطاقُ الإسلام فامرؤ وما اختار" ومثله قول الشاعر:

فلو أنها إحْدى يَدِيَّ رُزئتُها ... ولكن يدِي ماتتْ على إثرها يَدِي وليست ظرفيته بلازمة، بل وقوعه ظرفا أكثر من وقوعه غير ظرف، كقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع وجْبَة: "هذا حجر قد رُمِيَ به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوى في النار. الآن حين انتهى إلى قعرها". فالآن هنا في موضع رفع بالابتداء وحين انتهى خبره. وهو مبني لإضافته إلى جملة مصدرة بفعل ماض. ومن وقوع الآن غير ظرف قول الشاعر: أإلى الآنَ لا يَبين ارعوا ... ؤكَ بعد المشيب عن ذا التصابي وبُني لتضمنه معنى الإشارة، فإن معنى قولك أفعل الآن: أفعل في هذا الوقت. وجائز أن يقال بُني لشبهه بالحروف في ملازمة لفظ واحد، فإنه لا يثنى ولا يجمع ولا يُصغّر، بخلاف حين ووقت وزمان ومدة. وقيل بُني لتضمن معنى حَرف التعريف والحرف الموجود غير معتدّ به. وضعف هذا القول بيّن، لأن تضمين اسم معنى اختصارٌ ينافي زيادة ما لا يعتدّ به، هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه فكيف إذا كان إياه? وجعل الزمخشري سبب بنائه وقوعه في أول أحواله بالألف واللام، لأن حق الاسم في أول أحواله التجرد منهما ثم يعرض تعريفه فيلحقانه كقولك مررت برجل فأكرمني الرجلُ، فلما وقع الآن في أول أحواله بالألف واللام خالف الأسماء وأشبه الحروف. ولو كان هذا سبب بنائه لبني الجماء الغفير واللات ونحوهما مما وقع في أول أحواله بالألف واللام. ولو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحروف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيرهن وعدم ذلك مجمع عليه فوجب اطراح ما أفضى إليه.

وزعم بعض النحويين أن بعض العرب يُعرب الآن، واحتجّ على ذلك بقول الشاعر: كأنهما مِلآنِ لم يَتَغَيَّرا ... وقد مرّ للدارَيْنِ من بعدنا عصر أراد من الآن. فحذف نون من لالتقاء الساكنين كقول الآخر: ليس بين الحيّ والميْت سَبَبْ ... إنّما للحيّ ملْمَيْت النَصبْ وكسر نون الآن لدخول مِن عليها، فعلم أن الآن عند هذا الشاعر معربة. قلت: وفي الاستدلال بهذا ضعف لاحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء، ويكون في بناء الآن لغتان بالفتح والكسر كما في "شَتّانَ" إلا أن الفتح أكثر وأشهر. وزعم الفراء أن الآن منقول من آنَ بمعنى حانَ ثم استصحب فيه الفتحة التي كانت فيه إذ كان فعلا، وجعله نظير: "أعييتني مِن شَبَّ إلى دَبَّ" ونظير قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنهاكم عن قيل وقال" ولو كان الآن مثل هذه لم تدخل عليه الألف واللام كما لا يدخلان عليهما، ولاشتهر فيه الإعراب والبناء كما اشتهرا فيهما، فإنه يقال "من شُبٍّ إلى دُبٍّ"، وعن قيلٍ وقال، كما قيل من شبَّ إلى دبَّ، وعن قيلَ وقالَ. ص: ومنها قط للوقت الماضي عموما ويقابله عَوْضُ ويختصّان بالنفي. وربما

استُغني قط دونه لفظا ومعنى، أو لفظا لا معنى. وقد ترد عوضُ للمضيّ، وقد تضاف إلى العائضَيْن أو يضاف إليه فيعرب. ويقال قَطُّ وقُطّ وقَطٍ وقَطْ. وعوضُ وعوِضَ. ش: إذا قصد عموم وقت الفعل الماضي المنفي جيء بعد نفي الفعل بقَطُ أو قطٍ أو قطْن وإن قصد ذلك في الاستقبال جيء بعد نفي الفعل بعَوْضُ أو عوْضِ أو عوضَ، قال الشاعر: يَرضى الخليطُ ويَرضى الجارُ منزلَه ... ولا يُرى عَوْضُ صَلْدا يَرصدُ العِلَلا وقد يضاف أو يضاف إليه فيعرب بإضافته كقولهم: لا أفعل ذلك "عوض العائضين" أي دهر الداهرين، والإضافة إليه كقول الشاعر: ولولا نبلُ عوْضٍ في ... خُظُبّايَ فأَوْصالِي وقد تقع عوض موقع قط كقول الشاعر: فلم أرَ عاما عوضُ أكثرَ هالِكا ... ووجهَ غُلام يُشْتَرى وغُلامَهْ وقد يقع قط مع فعل غير منفي لفظا ولا معنى كقول بعض الصحابة رضي الله عنهم: "قَصَرنا بالصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما كنّا قط وآمنه". وقد يخلو من

النفي لفظا لا معنى، وأشير بذلك إلى ما في الحديث أن أبيّا قال: كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ فقال عبد الله: ثلاثا وسبعين. فقال: "قط" أي ما كانت كذا قط. وبني قطّ لتضمن معنى في ومن الاستغراقية على سبيل اللزوم، أو لشبه الحروف في الافتقار إلى جملة، وعدم الصلاحية لأن يضاف أو يضاف إليه، أو يسند أو يسند إليه. ويُبنى في التضعيف على حركة لئلا يلتقي ساكنان، وكانت ضمة حملا على قبلُ المنويّ الإضافة، أو لأنه لو فُتح لتوهّم النصب بمقتضى الظرفية، ولو كُسر لتوهم الجرّ بمن المضمن معناها، أو كان يعتذر عن زوال التنوين بكثرة الاستعمال. ومَن بناه على الكسر راعى أصل التقاء الساكنين ولم يلتفت إلى توهم الجرّ، لأن الكسرة لا تكون علامة جرّ إلا مع تنوين أو إضافة أو ألف ولام. ولا واحد منها في قط فلا إيهام. ومن قال قَطُ بالضم والتخفيف، فمخفّف ناوٍ للتضعيف فلذلك استصحب ما كان معه من الحركة. ومَن قال قَطْ بالتسكين خفّف ولم يَنْو التضعيف فعامله معاملة منذُ إذا قيل فيه مُذْ. وبُني "عَوضُ" لأنه مثل "قط" فيما نسب إليه مما سوى الصلاحية لأن يضاف ويضاف إليه، وبني على حركة لئلا يلتقي ساكنان. ومن ضم فحملا على بَعْدُ، أو بتحريك آخره بحركة تجانس ما قبله. ومن فتح كره اجتماع مُستثقلَيْن: الضمة والواو. ومَن كسرَ راعى أصل التقاء الساكنين. وأعرب حين يضاف ويضاف إليه لأنه عومل بما لم يعامل مُقابِله مما هو خاصّ بالأسماء فاستحق مزيّة عليه. ص: ومنها أمسِ مبنيا على الكسر بلا استثناء عند الحجازيين، وباستثناء المرفوع

ممنوع الصرف عند التميميين، ومنهم من يجعل كالمرفوع غيره. وليس بناؤه على الفتح لغة خلافا للزجاجيّ فإن نكر أو كسر أو صغر أو أضيف أو قارن الألف واللام أعرب باتفاق، وربما بني المقارن لهما. ش: إذا قصد بأمس اليوم الذي وليه اليوم الذي أنت فيه بناه الحجازيون في موضع الرفع والنصب والجر على الكسر، لتضمنه معنى الألف واللام، ولشبهه بضمير الغائب في التعريف بغير أداة ظاهرة، وكون حضور مسمّاه مانعا من إطلاق لفظه عليه ولشبهه بغاقِ وحَوْبِ في الانفراد بمادة مع التوافق في الوزن ? كذا- ووافق فيه الحجازيين أكثر التميميين في موضعيْ النصب والجر، ويختلفون في موضع الرفع. ومن لغة الحجازيين قول الشاعر: اليومَ أعلمُ ما يَجيء به ... ومضَى بفصْل قضائِه أمسِ ومن لغة بني تميم قول الآخر: اعتصِمْ بالرجاءِ إنْ عَنَّ يأسُ ... وتناسَ الذي تضمَّنَ أمسُ ومن بني تميم من يُسوّي المجرور والمنصوب بالمرفوع في الإعراب ومنع الصرف، وعليه قول الراجز: لقد رأيتُ عجَبا مذ أمسا ... عجائِزا مثلَ السعالِي خمْسا وزعم أبو القاسم الزجاجي أن من العرب من يبني أمس على الفتح واستشهد بهذا الرجز، ومدّعاه غير صحيح، لامتناع الفتح في موضع الرفع. ولأن سيبويه

استشهد بالرجز على أن الفتحة في "مذ أمسَ" فتحة إعراب، وأبو القاسم لم يأخذ البيت من غير كتاب سيبويه، فقد غلط فيما ذهب إليه واستحق ألّا يُعوَّل عليه. وإذا نكر أمس أو أضيف أو قارن الألف واللام أعرب بلا خلاف، لزوال سبب البناء، أعني تضمّن معنى حرف التعريف وشبه الضمير من الوجه المذكور. ومن العرب من يستصحب البناء مع مقارنة الألف واللام كقول الشاعر: وإنّي وقفتُ اليومَ والأمسِ قبْله ... ببابك حتى كادت الشمسُ تَغْرُبُ فكسر السين وهو في موضع نصب، والوجه فيه أن يكون زاد الألف واللام بغير تعريف واستصحب معنى المعرفة واستدام البناء، أو تكون هي المعرفة وقد زال البناء لزوال التضمن ومشابهة ضمير الغائب فتكون الكسرة كسرة إعراب على تقدير باء حذفت كما حذفت مِن وبقي عملها في رواية من روى: ألا رجلٍ جَزاهُ الله خيرا وكما حذفت إلى وبقي عمَلها في قول الآخر: إذا قيل أيُّ الناسِ شرُّ عصابة ... أشارتْ كُلَيبٍ بالأكُفّ الأصابِعُ فصل: ص: الصالح للظرفية القياسية من أسماء الأمكنة ما دلَّ على مقدار أو مسمّى إضافيّ محض أو جارٍ باطراد مجرى ما هو كذلك. فإن جيء بغير ذلك لظرفية لازمت غالبا لفظ في، أو ما في معناها ما لم يكن كمقعد في الاشتقاق من اسم الواقع فيه فيلحق بالظرف قياسا إن عمل فيه أصله أو مشارك له في الفرعية، وسماعا إن دلّ على قرب أو بعد نحو: هو منّي منزلة الشغاف، ومناط الثريا.

ش: قد تقدم الإعلام بأن المسمى ظرفا في النحو هو ما استغى فيه بمعنى في عن لفظها استغناء مطردا من اسم زمان أو مكان، وأن ذلك واقع من أسماء الزمان كلها مختصها ومبهمها. فلما استوفيت الكلام على أسماء الأزمنة أخذت في أسماء الأمكنة وبيان ما يصلح منها للظرفية القياسية وما لا يصلح، فبينت أن الصالح لها أربعة أنواع: أحدها ما دل على مقدار كميل وفرسخ وبريد. والثاني ما دل على مسمّى إضافيّ محض، أي على مسمّى لا تعرفه حقيقة بنفسه، بل بما يضاف إليه كمكان وناحية وأمام ووراء وكجنابَتَيْ في قول العرب: هما خطّان جنابَتَيْ أنفها. يعنون خطين اكتنفا أنف الظبية، وكجنبَي في قول الشاعر: نحنُ الفوارسُ يومَ الحنْو ضاحية ... جَنْبَيْ فُطَيْمَةَ لا مِيلٌ ولا عُزُلُ وكأقطار في قولهم: قومك أقطارَ البلاد، وكمسالَيْه في قول الشاعر: إذا ما نَعَشْناه على الرَّحْل يَنثني ... مُساليه عنه من وراء ومقدمِ قال سيبويه: مسالاه: عطفاه، فصار كجنبَي فُطيمة. والثالث ما جرى باطراد مجرى ما هو كذلك، وذلك صفة المكان الغالبة نحوهم قريبا منك، وشرقِيَّ المسجد، قال الشاعر: هَبَّتْ جَنوبا فذِكْرى ما ذكرتُكم ... عند الصفاةِ التي شَرْقيَّ حوْرانا ومن الجاري مجرى ما هو كذلك مصادر قامت مقام مكان مضاف إليها تقديرا

نحو قولهم هو قرب الدار ووزنَ الجبل. أي مكان مسامتته. والمراد هنا بالاطراد ألّا تختصّ ظرفيّته بعامل ما، كاختصاص ظرفية المشتق من اسم الواقع فيه. الرابع ما دل على محلّ الحَدث المشتقّ هو من اسمه كمَقْعَد ومَرْقَعد ومصلّى ومعتكف، ولا يعمل في هذا النوع إلّا أصله كقولك قُعودي مَقْعَدَ زيد، أو مشارك له في الفرعية كقولك قعدت مقعد زيد، فلو قلت اعتكفت مقعد زيد أو قعدت معتكفك لم يَجُز، لأن العامل ليس أصلا للمذكور كقعود بالنسبة إلى مقعَد، ولا مشاركا له في الفرعية كاعتكفت بالنسبة إلى معتكَف. ولذلك عُدّ من الشواذّ هو مني مقعدَ القابلة ومعقد الإزار ومناط الثريّا ونحو ذلك، لأن العامل ليس أصلا للفعل ولا شريكا له في الرجوع إلى أصل واحد. وأما الأول والثاني والثالث فظرفيتها غير مقيدة بعامل دون عامل، فيقال سرت ميلا، وعدوت فرسخا وسرت بريدا وجلست يمين الكعبة وأمام زيد وعند خالد ومع محمد وتلقاء بِشر ونحو ذلك. ومن العلماء من حكم باطراد ما دل على بعد أو قُرْب من نحو هو منّي منزلة الشغاف، ونحو قول الشاعر: وإنّ بني حَرْب كما قد عَلمتُم ... مناطَ الثُّريّا قد تعلّتْ نجومُها على تقدير مكان موصوف بمثل مضاف إلى شغاف ومناط، ثم فُعل به ما فُعل بضربته ضَرْبَ الأمير اللصَّ، من حذف الموصوف وصفته وإقامة الثالث مقامهما، وهذا تقدير لائق ولكن القياس على نوعه لا يتّجه لقلّة نظائره، ومغايرة لفظ باقيه للفظ محذوفه، بخلاف ضربته ضرب الأمير اللص، فإن نظائره كثيرة ولفظ باقيه مماثل للفظ محذوفه. ولكون هذا النوع مقصُورا على السماع قال سيبويه: وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت هو منّي مجلسك ومتّكأ زيد ومَربط الفرس لم يجز" وإلى المسموع

من هذا النوع أشرت بقولي "وسماعا إن دلّ على قُرْب أو بُعْد نحو هو منّي بمنزلة الشغاف". وقيدت الإضافي بمحض احترازا من الإضافي الذي يدلّ بنفسه على معنى لا يصلح لكل مكان نحو جَوْف وباطِن وظاهر وداخل وخارج فإن هذه وما أشبهها من أسماء المكان المختصة إذا قصد بشيء منها معنى الظرفية لازَمَتْ لفظ في أو ما في معناها، إلّا أنْ يرد شيء بخلاف ذلك فيُحفظ كقوله تعالى: (لأقْعُدَنَّ لهم صراطَك المستقيم) و (اقعُدوا لهم كلَّ مَرْصَدٍ) وكقول العرب: "رجع فلانٌ أدراجَه" أي في الطريق الذي جاء فيه. وهم دَرج السَّيُول أي في حجارتها. قال الشاعر في المعنى الأول: لمّا دعا الدَّعْوةَ الأولى فأسْمَعني ... أخذتُ بُرْدَيَّ واسْتَمررْتُ أدراجي وقال في المعنى الثاني: أنَصْبٌ للمنيّة تَعْتَريهم ... رجالي أم همُ دَرَجَ السُّيُّولِ فهذا مما حفظ في الاختيار ولا يقاس عليه. وأما قوله: لدْنٌ بهزّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فيه كما عَسَل الطريقَ الثَّعْلَبُ وقوله: فَلَأبغَينكم قَنًا وعُوارِضا ... ولأُقْبِلَنَّ الخيلَ لابَةَ ضَرْغَدِ

وقوله: قِلْنَ عُسْفانَ ثم رُحْن سِراعًا. وقنا وعوارض وعسفان أمكنة مخصوصة. وزعم قوم أن الطريق من الظروف القياسية، لأن لفظه صادِق على كل مكان، فإن كل مكان صالح أن يجعل طريقا، ولذلك عبر عن القفر الذي يعسل فيه الثعلب بطريق. وهذا الاعتبار فاسد لأن الطريق اسم لمكان مرور وذهاب ولا يطلق على المكان طريق لمجرد صلاحيته أن يكون طريقا كما لا يطلق عليه بيت لمجرد صلاحيته أن يكون بيتا، فالطريق إذن مكان مختص، كما أن البيت مختص. وممن قال إن الطريق حقيق بالظرفية القياسية ابن الطراوة، وزعم أنه يقال ذهبت طريقي، ومُرُّوا طرقاتكم، وقال أبو علي الشلوبين والردُّ عليه تكذيبه. قلت: ويناسب قول ابن الطراوة في الطريق حكاية السيرافي عن بعض النحويين أنه قال إنما قالت العرب ذهبت الشام؛ لأن الشام بمعنى اليسار فإنه يقال شامه إذا قابل يساره. وأجاز هذا القائل أن يقال ذهبت اليمن لأن اليمن بمعنى اليمين. ولم يُجز أن يقال في عُمان ومكة لأنه ليس فيهما ذلك المعنى. ويلزم هذا أن يجيز ذلك في العالية لأن فيها معنى فوق. هذا معنى قول السيرافي. قلت: ولو كان قولهم ذهبت الشام لكونه بمعنى يسار لكان غير ذهبت أولى بذلك من ذهبت فكان يقال أقمت الشام كما يقال أقمت يسار الكعبة، ففي عدم معاملة غير ذهبت بهذه المعاملة دلالة على أن باعثهم على ذلك إنما هو كثرة الاستعمال، ولذلك شبهه سيبويه بدخلت البيت، وقال الفراء: العرب تعدّي ذهب وانطلق إلى جميع البلدان فيقال ذهبت الكوفة وانطلقت الغَوْرَ فعلى قول الفراء لا يختص ذهب بنصب الشام بل ينصب به كل بلد وكذا انطلق، ولا علّة لذلك إلا كثرة الاستعمال

كما فعل بدخل مع جميع الأمكنة المختصة، وفي فعل هذا بانطلق دلالة واضحة على أن الأصل في هذه الأفعال الثلاثة التعدي بحرف جر، إذ لا يوجد الفعل متعديا بنفسه. فصل: ص: من الظروف المكانية كثير التصرف كمكان لا بمعنى بدل، ويمين وشمال وذات اليمين وذات الشمال. ومتوسّط التصرّف كغيْر فوق وتحت من أسماء الجهات وبَيْن مجرّدا. ونادر التصرف كحيث ووسْط ودُونَ لا بمعنى رديء. وعادم التصرف كفوق وتحت وعند ولدُن ومع وبَيْن بَيْنَ دون إضافة، وحوال وحول وحوالَي وحوليّ وأحوال وهُنا وأخواته. وبَدَل لا بمعنى بديل وما رادفه من مكان. فحيث مبنية على الضم وقد تفتح أو تكسر، وقد تخلف ياءها واو، وإعرابها لغة فقعسية، وندرت إضافتها إلى مفرد، وعدم إضافتها لفظا أندر. وقد يراد بها الحين عند الأخفش. وعند للحضور أو القرب حسّا أو معنى، وربما فتحت عينها أو ضمت. ولدن لأول غاية زمان أو مكان، وقلّما تعدم من. وقد يقال لدُنْ ولَدَن ولدنُ ولدْنِ ولُدْنِ ولُدْ ولد. (ولدًا ولُدُن) وإعراب اللغة الأولى لغة قيسية، وتجبر المنقوصة مضافة إلى مضمر ويجبر ما يليها بالإضافة لفظا إن كان مفردا، وتقديرا إن كان جملة. وإن كان "غدوة" نصب أيضا، وقد يُرفع، وليست لدى بمعناها بل بمعنى عند على الأصح: وتعاملَ ألفها معاملة ألف إلى وعلى فتسلم مع الظاهر وتقلب ياء مع المضمر غالبا. و"مع" للصحبة اللائقة بالمذكور وتسكينها قبل حركة وكسرها قبل سكون لغة رَبَعيّة، واسميتها حينئذ باقية على الأصح. وتفرد فتساوى جميعا معنى وتبنى (لفظا) وفاقا ليونس والأخفش، وغير

حاليتها حينئذ قليل. ش: كما انقسم ظرف الزمان إلى متصرف وغير متصرف انقسم ظرف المكان إليهما، فمن المتصرف ما كثر وقوعه ظرفا وغير ظرف كمكان. فإنك تقول إذا نويت ظرفيته اجلس مكانك. وتقول إذا لم تنو ظرفيته مكانك لائق بك. ومثل "مكان" في التصرف بكثرة "يمين وشمال وذات اليمين وذات الشمال" يقال في الظرفية: جلست يمينه وشماله وذهبت به ذات اليمين وذات الشمال. قال الله تعالى (وترى الشمسَ إذا طَلَعَتْ تزاورُ عن كهفِهم ذات اليمين وإذا غربتْ تقْرِضُهم ذات الشمال" ويقال في المجرد من الظرفية يمين الطريق أسهل وشماله أقرب، ودارُك ذات اليمين ومنازلهم ذات الشمال، قال الله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال قعيدٌ). ومن المتصرف ما يكثر مجرده دون كثرة ظرفيته كأمام وقدام ووراء وخلف وأسفل، وهو المعنى بقولي: "متوسط التصرف" أي متوسط بين الكثرة والقلة، يقال في الظرفية كُنْ أمامَهم وقُدّامهم لا وراءَهم ولا خَلْفَهم ولا أسفلَ منهم. ويقال في التجرد من الظرفية أمامهم آمَنُ من ورائِهم، ويقال هم خَلْفٌ وأنت قُدّامٌ. وقال الشاعر: فغَدَتْ كِلا الفَرجَين تحسِبُ أنه ... مولى المخافةِ خلْفُها وأمامُها وقرأ بعض القرّاء (والرّكبُ أسفلُ منكم) بالرفع. ويساوي أماما وما ذكره بعده "بَيْن" يقال في الظرفية جلست بين زيد وعمرو، قال الله تعالى

(لِيَحْكُمَ بين الناسِ فيما اختلفوا فيه) و (أنْ احكُم بينهم بما أنزل اللهُ) و (جعل بينكم مودّةً ورحمةً) و (ياليْتَ بيني وبينك بُعْدَ المشرقين). ويقال في التجرد من الظرفية هو بعيدُ بين المنكبين نقيّ بين الحاجبين. ومنه قول الشاعر: يُديرونَني عن سالِم وأُديرُهم ... وجِلْدَةُ بين العين والأنف سالمُ ومنه قوله تعالى: (هذا فِراقُ بيني وبينك) وقوله تعالى: (لقدْ تَقَطَّعَ بينِكم) في قراءة غير نافع وحفص والكسائي، ومنه قوله تعالى: (إنما اتّخذتم من دون الله أوثانا مودّةٌ بينِكم) و (مودّةَ بينكم) قرأ الأولى أبو عمرو وابن كثير والكسائي، وقرأ الثانية حمزة وحفص، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر (مَوَدَّةً بينَكم). ومن تجرد بين عن الظرفية قول الشاعر: لم يَتْرك النبل المخالف بينها ... أخًا لأخ يُرْجى ومأثورة الهِنْد بينها في موضع رفع بإسناد المخالف إليه، إلا أنه بني لإضافته إلى مبنيّ مع إبهامه.

وقد يكون بين ظرف زمان كما يكون ظرف مكان، فمن ذلك حديث ساعة الجمعة "وهي ما بين خروج الإمام وانقضاء الصلاة". ومن الظروف المكانية ما يندر تجرده من الظرفية، فمن ذلك "حَيْثُ" فكونه ظرفا هو الشائع كقوله تعالى (وامْضُوا حيثُ تُؤْمَرونَ) وكونه مجردا عن الظرفية قول زهير: فشَدَّ ولم يَنْظُر بُيوتا كثيرةً ... لدى حيثُ ألقتْ رحلها أمُّ قَشْعَمِ وكقول الآخر: إنَّ حيثُ استقلَّ مَن أنتَ راعيـ ... ــــــــــهِ حمًى فيه عِزَّةٌ وأمانُ وهو مبني على الضم في أكثر الكلام، وقد يفتح وقد يكسر، وقد يقال حوث، وسبب بنائه لزوم اقترانه إلى جملة يضاف إليها، وندرت إضافتها إلى مفرد كقول الراجز: أما ترى حيثُ سُهَيْلٍ طالِعا وكقول الآخر: ونَطْعَنُهم تحتَ الحُبا بعد ضرْبَهم ... ببيض المواضِي حيثُ ليّ العمائِمِ وأندر من إضافته إلى مفرد إضافته إلى جملة مقدّرة، كقول الشاعر:

إذا رَيْدةٌ من حيثُ ما نفحَتْ له ... أتاه برَيّاها خليلٌ يُواصلُهْ أراد إذا ريدة نفحت من حيث ما هبّتْ له أتاه بريّاها خليل، فحذف هبتْ للعلم به وجعل ما عوضا كما جعل التنوين في حينئذ عوضا. وروى إعراب حيث عن فقعس فيقولون جلست حيثَ كنت وجئت من حيثِ جئت. وأجاز الأخفش استعمالها بمعنى حين، وحمل على ذلك قول الشاعر: لِلفتى عقلٌ يعيشُ به ... حيثُ تَهْدِي ساقَه قَدَمُهْ ولا حجة فيه لإمكان إرادة المكان. ومثل حيث في ندور التجرد عن الظرفية وسْط بالسكون كقولك جلست وسْط القوم. فهذا كثير، أعني وقوعه ظرفا. وأما تجرده عن الظرفية فقليل لا يكاد يُعرَفِ. ومنه قول الشاعر يصف سحابا: وَسْطُه كاليَراع أو سُرُج المَجْـ ... ــدَلِ طوْرًا يَخْبُو وطورًا يُنيرُ فوسطه مبتدأ خبره كاليراع. ويروى بالنصب على الظرفية ويحكم بأن وسْطه خبر مقدم، والكاف اسم في موضع رفع بالابتداء. ومثل حيث في ندور التجرد عن الظرفية "دونَ" نحو قولك جلست دونَ موضع كذا، وزيدٌ دونَ عمرو قدْرا. قال سيبويه: وأما دونك فإنه لا يرفع أبدا، وإن قلت هو دونكَ في الشرف، لأن هذا إنما هو مثل يعني أنه حين أريد به الانحطاط من علو الشرف تلازمه الظرفية لأن

استعماله بذلك المعنى مثل استعماله في المكان الأدنى، وقد جاء والمقصود به المكان خاليا عن الظرفية، وذلك نادر كقول الشاعر: ألمُ تَريا أني حميتُ حَقيقتي ... وباشرْتُ حَدَّ الموتِ والموتُ دونُها بالرفع. وظاهر كلام الأخفش يقتضي اطراد ذلك، فإنه حَكَم بأن "دونَ" من قوله تعالى (ومنّا دون ذلك) مبتدأ، ولكنه بُني لإضافته إلى مبنيّ. وغيره جعل التقدير: ومنّا ما دون ذلك، وقول الأخفش أولى بالصواب. وحكى سيبويه أنه يقال هذا ثوب دونٌ إذا كان رديئا. فمن هذا احترزت بقولي "ودون لا بمعنى رديء". ومن الظروف العادمة التصرف فوق وتحت، نص على ذلك الأخفش، فقال: اعلم أن العرب تقول فوقَك رأسُك فينصبون الفَوْق، لأنهم لم يستعملوه إلا ظرفا. ثم قال: وتقول تَحْتك رِجْلاك لا يختلفون في نصب التَّحْت. هذا نصه. وقد جاء جر فوق بعلى في قول أبي صخر الهذلي: فأقْسمُ بالله الذي اهتزَّ عرشُه ... على فوق سَبْع لا أعلّمه بُطْلا وهذا نادر. ومن الظروف العادمة التصرف "عند" ولا تستعمل إلا مضافة، ولا يفارقها النصب على الظرفية إلا مجرورا بمن، وهي لبيانِ كون مظروفها حاضرا

حِسّا أو معنى، وقد اجتمع الحضور الحسّي والمعنوي في قوله تعالى: (قال الذي عندَه علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبلَ أنْ يَرتدَّ إليكَ طَرْفُكَ * فلمّا رآه مُسْتقرّا عنده قال هذا من فضل ربّي). ومثال القرب الحسّيّ "ولقد رآه نزلةً أخرى عند سِدْرة المنتهى عندها جَنَّةُ المأوى". ومثال القرب المعنوي: (وإنَّهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) و (رَبّ ابن لي عندك بيتا في الجنّة) ومن القرب المعنوي قول الرجل عندي مائة، يريد أنه مالكها وإن كان موضعها بعيدا ومنه قوله تعالى: (ما عندَكم ينفَدُ). وقد يكون مظروفها معنى فيراد بها الزمان كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الصبر عند الصَّدمةِ الأولى" وكسر عينها هو المشهور، ومن العرب من يفتحها، ومنهم مَن يضمّها. ويُرادِفُها "لدَى" في قول سيبويه، وهو الصحيح لا قول مَن زعم أنها بمعنى لَدن لأن لدُنْ مخصوصة بما هو مبتدأ غاية، بخلاف لدى فإنها يراد بها ما يراد بعند كقوله تعالى: (وما كنتَ لديهم إذ يُلْقون أقلامهم أيُّهم

يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) فهذا موضع صالح لعند وللدى وغير صالح للدن. ولدُنْ لا تَصلح من مواضعها إلا فيما هو مبتدأ غاية. ولذلك اجتمعت عند ولدُن في قوله تعالى: (آتيناهُ رحمة من عندنا وعلَّمناه من لدُنّا عِلْما). وبنيت "لدُن" (في أكثر اللغات) لشبهها بالحروف في لزوم استعمال واحد، وامتناع الإخبار بها وعنها بخلاف عند ولدى، فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا، فإنهما يكونان لابتداء الغاية ولغير ذلك، ويستعملان فضلة وعمدة، فاستعمالهما فضلة كثير، واستعمالهما عُمْدة كقوله تعالى (وعنده مفاتِحُ الغيب) و (عنده علم الساعة) و (ولدينا كتابٌ ينطِقُ بالحقِّ) و (ولدَيْنا مزيدٌ). ولكون موضع لدُن صالحا لعِنْد شبّهتها قيسُ بها فأعربتها، وبلغتهم قراءة أبي بكر عن عاصم: "ليُنْذرَ بأسا شديدا من لدُنْه" إلا أنه سكَّن النون

وأشمّها ضما "من لدُنِه" ويقال في النصب على هذه اللغة "لَدْنَه ولَدُنَهْ، ويمكن أن يكون من هذه اللغة قول الراجز: تنتهضُ الرِعدةُ في ظُهَيْرى ... من لدُنِ الظُهْرِ إلى العصَيْر قال أبو الفتح ابن جني: استعمال لدن دون "من" قليل. قلت: ولذلك لم تَخْلُ في القرآن من "مِن" وإلى ذلك أشرت بقولي "وقلّما تَعْدم مِن". وفيها على غير اللغة القيسية تسع لغات: سكون النون مع ضم الدال أو فتحها أو كسرها. وكسر النون مع سكون الدال وفتح اللام أو ضمها، وفتح النون مع سكون الدال وضم اللام، وحذف النون مع سكون الدال وفتح اللام أو ضمها. وحذف النون مع ضم الدال وفتح اللام. قال سيبويه: "وأما لدُ فهي لدُنْ محذوفة النون كما حذفوا من يكن، ألا ترى أنك إذا أضفته إلى مضمر رددته إلى أصله، تقول مِن لدُنه ومن لدُني. وإلى هذا أشرت بقولي "وتجبر المنقوصة مضافة إلى مضمر". ثم بينت أنها تلازم الإضافة فتجر ما يليها لفظا إن كان مفردا أو تقديرا إن كان جملة كقول الشاعر: صَرِيعُ غَوانٍ راقَهُنَّ ورُقْنَه ... لَدُنْ شَبَّ حتى شابَ سُودُ الذوائب

وإن كان ما وليها غُدْوة جاز الجر على القياس، والنصب على التمييز، أو على إضمار كان مضمَرا فيها اسمها كما قال سيبويه في قول الراجز: من لدُ شَوْلًا فإلى إتْلائِها وحكى الكوفيون رفع غدوة على تقدير لدن كان غدوة، وكل ذلك منبّه عليه. ومثال نصب "غُدْوة" قول الشاعر: وما زالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الكلب منهم ... لدُنْ غُدوةً حتى دَنتْ لغُروب ثم بيّنت أن "لدى" لا ترادفَها، بل ترادف عند، صرّح بذلك سيبويه. ثم بيّنت أن ألفَ لدى تقلب ياء مع المضمر وتسلم مع الظاهر كما يفعل بألف إلى وعلى، وقرنت بذلك "غالبا" ليعلم أن بعض العرب يستغني عن هذا القَلْب مع المضمر كما يستغني عنه الجميع مع الظاهر، ومن ذلك قول الشاعر: إلاكُم يا خُناعَةُ لا إلانا ... عَزا الناسُ الضراعةَ والهوانا فلو بَرّتْ عقولُكم نُصِرْتم ... فإن دواءَ دائكم لدَانا وذلكم إذا واثقتمونا ... على قصْر اعتمادكم عَلانا أراد إليكم لا إلينا، ولدينا وعلينا. ومن الظروف العادمة التصرف "مَعَ" وهي اسم لمكان الاصطحاب أو وقته على حسب ما يليق بالمصاحب. ويدل على اسميته دخول مِن عليه في

قولهم ذهب من معه، حكاه سيبويه، ومنه قراءة بعض القراء (هذا ذِكْرٌ من معي وذكرٌ مِن قبلي). وكان حقه أن يبنى لشبهه بالحروف في الجمود المحض والوضع الناقص، إذ هو على حرفين بلا ثالث محقق العود. والمراد بالجمود المحض ملازمة وجه واحد من الاستعمال، إلا أنه أعرب في أكثر اللغات لمشابهته عند في وقوعه خبرا وصفة وحالا وصلة، ودالّا على حضور وعلى قرب، فالحضور كـ "نجِني ومَن مَعِيَ" والقرب (فإن مع العُسْرِ يُسْرا) وكقول الراجز: إنَّ مع اليومِ أخاهُ غَدْوا وهو فائقه بتمام الوضع، فقد فاق هو بوجه من التمكن وهو الإفراد وتضمن معنى جميع في نحو. جاء الزيدان معًا، ورأيتُ العُمَرين معا، واختلف في فتحة العين من "معًا" قيل هي فتحة إعراب كفتحة دال رأيت يدًا، فيكون الاسم ثنائي اللفظ في حالي الإضافة والإفراد (أم) كفتحة تاء فتى، فيكون الاسم قد جبر ونقص حين أفرد، فالأول مذهب سيبويه والخليل، والثاني مذهب يونس والأخفش، وهو الصحيح، لأنهم يقولون الزيدان معا والعمرون معا فيوقعون "معًا" في موقع رفع كما ترفع الأسماء المقصورة، كقولهم فتى وهم عِدًى، ولو كان باقيا

على النقص لقيل الزيدان مع، كما قال هم يدٌ واحدة على مَن سواهم، وهم جميع. ومن شواهد وقوع معا في موضع رفع قول الشاعر: أفيقُوا بني حَرْبٍ وأهواؤنا معًا ... وأرحامُنا موصولةٌ لم تُقَضَّبِ ومثله قول الآخر: حننْت إلى رَيّا ونفسُكَ باعدتْ ... مَزارك من رَيّا وشَعْباكما معا وإلى نحو هذين البيتين أشرت بقولي "وغير حاليتها حينئذ قليل"، وانتُصر للمذهب الأول بأن قيل لا نُسلّم بأن معًا في البيتين في موضع رفع، بل هو منصوب على الحال بعامل محذوف هو الخبر، والتقدير وأهواؤنا كائنة معا، وشعباكما كائنان معا. وهذا التقدير باطل بالإجماع على بطلان نظيره وهو أن يقال زيد قائما، على تقدير زيد كائن قائما. وانتُصر له أيضا بأن قيل القول بلزوم النقص هو الصحيح لأنه مسلتزم لموافقة النظائر. فإن حاصله حكم بنقصان اسم في الإفراد كما هو في الإضافة ونظائر ذلك موجودة كيد ودم وغد. والقول بكون "معا" مقصورا في الإفراد ثنائيًا في الإضافة مستلزم لما لا نظيرَ له، فلا يُصار إليه، فإن الثنائي المعرب إما منقوص في الإفراد والإضافة كيد، وإما متمّم في الإضافة وحدها كأب، فإن حُكم بأن "معا" مقصور في الإفراد منقوص في الإضافة لزم عدم النظير وثبوت ما هو بالنفي جدير. والجواب أن يقال: مقتضى الدليل كون الإفراد مظنة جبر ما غيّر من الثنائيّات في إحدى حالتيه، لأن ثاني جزءَي ذي الإضافة متمّم لأولهما، ولذلك عاقب التنوين ونوني التثنية والجمع، بخلاف المنقوص المفرد فلا متمم له إلّا ما يُجبر به من ردّ ما كان محذوفا، فإذا جعلناه منقوصا في الإضافة مقصورا في الإفراد فعلنا بمقتضى

الدليل وسلكنا سواء السبيل، بخلاف باب أب فإن فيه شذوذا، ولذلك لم تجر العرب فيه إلا على سَنَن واحد، فمنهم مَن يُلزمه الجبر ويلحقه بباب عصا، ومنهم مَن يُلزمه النقص ويلحقه بباب يد، وأيضا ففي الحكم بأن معا غير ملازم النقص بيان لاستحقاق الإعراب إذ لا يكون بذلك موضوعا موضع الحروف الثنائية، بخلاف الحكم عليه بالنقص في حالتي إفراده وإضافته فإنه يلزم منه استحقاق البناء كسائر الأسماء الثنائية دائما دون جابر. ومع ذلك قد ألغت "ربيعةُ" جبره في الإفراد لأنه جَبْر لمْ يتمحَض، ولذلك لم يُتّفَقْ على الاعتراف به بخلاف جبر باب يد، فيقال على اللغة الربعية ذهبت مع أخيك ومع ابنك بالسكون قبل حركة وبالكسر قبل سكون. وبعضهم يفتح قبل السكون، هكذا روى الكسائيُّ عن ربيعة، ولولا الكسر قبل السكون لأمكن أن يقال إن السكون سكون تخفيف لا سكون بناء. ومن الوارد بالسكون قول الشاعر: فَرِيشى منكمُ وهوايَ مَعْكم ... وإنْ كانتْ زيارتَكم لِماما وقد خفى على سيبويه أن السكون لغة لأنه قال: وسألت الخليل ? رحمه الله ? عن معكم لأيّ شيء نصبتها؟ فقال: لأنها استعملت غير مضافة اسما كجميع ووقعت نكرة كقولك جاءا معا وذهبا معا وقد ذهبا معه، ومن معه، صارت ظرفا فجعلوها بمنزلة أمام وقدّام، قال الشاعر فجعلها كهلْ حين اضطر وأنشد لأعرابي: "ريشى منكم البيت". فذكر سبب إعرابها وتضمن كلامه أنها اسم على كل حال، وأن نقصها لم يزل بالإفراد ولذلك بيّن من كلامه الذي ذكرته. وزعم قوم أن الساكن العين حرف، وليس بصحيح، لأن المعنى مع الحركة والسكون واحد فلا سبيل إلى الحرفية. وزعم النحاس أن النحويين مجمعون على

أن الساكن العين حرف. وهذا منه عجب، لأنَّ كلام سيبويه مشعر بلزوم الاسمية على كل حال، وأن الشاعر إنما سكّنها اضطرارا. ومن الظروف العادمة التصرف "بَيْنَ بَيْنَ" كقول الشاعر: نَحْمي حقيقتَنا وبَعْـ ... ـــضُ القوم يَسْقُط بين بَيْنا والأصل بين هؤلاء وبين هؤلاء، فأزيلت الإضافة ورُكّب الاسمان تركيب خمسةَ عشرَ، فلو أُضيف الصدرُ إلى العجُز جاز بقاء الظرفية وزوالها، فبقاؤها كقولك: من أحكام الهمزة التسهيل بينَ بينَ، وزوالها كقولك: بَيْنَ بَيْنَ أقيس من الإبدال. فإن أضيف إليهما تعين زوال الظرفية ولذلك خطأ ابنُ جنّي مضن قال همزةُ بينَ بينَ بالفتح، وقال: الصواب أن يقال همزة بين بينٍ بالإضافة. والأصل وقوع "بين" مفردا ظرفا لمتوسط في مكان أو زمان ملازما للإضافة إلى ما يتوسط فيه منهما. وإذا خلا من التركيب والوصل بما والألف لم يلازم الإضافة والظرفية. وقد تقدم التنبيه على ذلك. ومن ظروف المكان العادمة التصرف الملازمة للإضافة حوال وتثنيته، وحول وتثنيته وجمعه، فالأول كقول الشاعر: أهَدَموا بَيْتكَ لا أبا لكا ... وأنا أمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا والثاني كقول النبي صلى الله عليه وسلم "حَوالَيْنا ولا عَلينا" والثالث كقوله تعالى: (فلمّا أضاءتْ ما حوْلَهُ) والرابع كقول الراجز: يا إبلي ما ذامُه فتابَيهْ ... ماءٌ رواء ونَصِيُّ حَوْلَيهْ

والخامس كقول امرئ القيس: فقالتْ سباكَ اللهُ إنّك فاضِحي ... ألَسْتَ ترى السُّمّارَ والناسَ أحْوالي ومن ظروف المكان العادمة التصرف "بَدَل" لا بمعنى بديل كقولك هذا بدل ذلك، أي هذا مكان ذلك، فلا يجوز حينئذ أن تستعمل غير ظرف، وكذا مكان إذا أردت به بدل. قال ابن خروف في شرح كتاب سيبويه: البدل والمكان إذا استعملا بمعنى واحد لا يرفعان. فإن ذكر كل واحد منهما في موضعه ولم يحمل أحدهما على الآخر في المعنى رفعا نحو قولك: هذا مكانُك، يشير إلى المكان، وهذا بدلٌ من هذا فترفع، لأنك أشرت بهذا إلى البدل وهو هو. وإنما نصب البدل والمكان ولم يجز فيهما الاتساع حتى إذا أخرج كل واحد منهما عن موضعه فلزما طريقة واحدة. هذا نص ابن خروف. ص: ويتوسع في الظرف المتصرف فيجعل مفعولا به مجازا، ويجوز حينئذ إضماره غير مقرون بفي والإضافة والإسناد إليه، ويمنع من هذا التوسع على الأصح تعدّي الفعل إلى ثلاثة. ش: من ضروب المجاز التوسع بإقامة الظرف المتصرف مقام فاعل الحدث الواقع فيه مقام المفعول المُوقع به الحدث كقول تعالى: (اشْتَدَّتْ به الريحُ في يومٍ عاصفٍ) وقوله تعالى: (إنّا نخافُ مِن ربّنا يوما عَبوسًا قمطريرا) وكقول الشاعر: أقول للحْيانٍ وقد صَفِرتْ لهم ... وطابِي ويومِي ضِيّقُ الحَجْر مُعْوِرُ والثاني كقولهم: وُلد له ستّون عاما، وصِيدَ عليه الليل والنهار كقول

الشاعر: أما النهارُ ففي قَيْدٍ وسلْسلَةٍ ... والليلُ في جوفٍ مَنْحوتٍ من الساجِ يعني نفسه وكان مأسورا، فأخبر أن نهاره مقيد وليله مسجون مبالغة. ويضاف المصدر إلى الظرف المتوسَّع فيه على الوجهين، فإضافته على تقديره فاعلا كقوله تعالى: (بل مكرُ الليلِ والنهارِ إذْ تأمروننا) كان الأصل ليلكم ونهاركم ماكران ثم أضيف المصدر إلى المخبر عنه بمعناه مجازا، كما يضاف إلى المخبر عنه بمعناه حقيقة، وإضافته إليه على تقديره مفعولا به كقوله تعالى (للذين يُؤْلون من نسائِهم تربُّصُ أربعةِ أشهُر) أي إمضاء أربعة أشهر بتربّص. وكما أضيفَ إليه المصدر على تأويل الفاعلية وعلى تأويل المفعولية أضيف إليه بلفظ اسم الفاعل واسم المفعول، فمن الأول: يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدارِ ومن الثاني: يا مسروق الليلة أهل الدار ? ذكرها سيبويه. وإذا ثبت من كلامهم التوسع بجعل الظرف المتصرف فاعلا ومفعولا به ومضافا إليه على معنى الفاعلية والمفعولية لزم من ذلك جواز الحكم عليه في حال النصب بأنه مفعول به تجوّزا ما لم يمنع من ذلك مانع. وتظهر فائدة ذلك في إضماره مستغنيا عن لفظ "في" فإن الظرف أصله أن يكون مظروفا بلفظها فاستغنى عن لفظها بمعناها مع الظاهر، ولزوم الرجوع إلى الأصل مع الضمير، لأن الإضمار يردّ الشيء إلى أصله، ولذلك لزم مَن يقول: لدُ زيد أن يقول من لدنه، بردّ النون، ولزم

مَن يقول لم يكن صديقنا أن يقول أما الصديق فإن لا يكنه فمن يكنه، فيرد النون أيضا. ولزم من يقول قعدت حينا: الحين قعدت له فيرد اللام، ولا يستغني مع المضمر بمعناها كما استغنى مع الظاهر. ولزم مَن يقول المال لزيد بكسر اللام أن يقول له فيفتح، لأن فتحها هو الأصل. فعلى هذا يلزم من أضمر الظرف مقصودا به معنى الظرفية أنْ يقرنه بفي كقولك في: صمت اليوم: اليوم صمت فيه، فمن قال صمته علم أنه لم يقصد الظرفية وإنما قصد جعله مفعولا به توسّعا، فمن ذلك قول الشاعر: ويومًا شَهِدْناه سُلَيْما وعامِرا ... قليلا سِوى الطعْنِ النِهالِ نوافِلُهْ ومنه: فإنْ أنتَ لم تقدِرْ على أنْ تُهِينه ... فدَعْهُ إلى اليوم الذي أنتَ قادِرُهْ يا رُبَّ يومٍ لي لا أظَلّله ... أرْمَضُ من تحتُ وأضْحى من عَلُهْ وهذا التوسع في باب أعلم جائز على ظاهر قول سيبويه، فإنه قال في باب المفعول الذي يتعداه فعله إلى مفعول بعد أن مثل بأرى عبدُ الله أبا فلان، لو أدخلت في هذا الفعل الفاعل وبنيتَه له لتعداه فعله إلى ثلاثة مفعولين. ثم قال: واعلم أن الأفعال إذا انتهت ههنا فلم تجاوز تعدت إلى جميع ما تعدّى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل، وذلك قولك: أعطى عبدُ الله الثوبَ إعطاء جميلا، ونُبّئت زيدا أبا فلان تنْبيئا، وسرق عبد الله الثوبَ الليلةَ، لا تجعله ظرفا، لكن تجعله على قولك يا مسروق الليلة الثوبَ. هذا نصه.

قال ابن خروف في شرحه: أجاز سيبويه نصب الظرف مفعولا به بالمتعدي إلى ثلاثة، وإنما قاسه ولم يقس النقل، لأن النقل فيه نصب الفاعل ولا ينصب الفاعل إلا تشبيها بما ثبت أصله في الكلام، كما نصب الفاعل في حسن الوجه، تشبيها بضارب زيدا. ونصب الظرف على الاتساع ليس فيه تغيير عما كان عليه، وجميعه مجاز في متعدّ لواحد وأكثر. والنقل كله حقيقة فاقتصر فيه على السماع، بخلاف نصب الظرف على الاتساع فإنه مجاز فلا معنى لمراعاة التعدي وغير التعدي فيه. ومنعه قوم في باب أعلم قياسا على النقل. قلت: جواز تعدي ذي ثلاثة إلى ظرف على أنه مفعول به يستلزم مشبّها دون مشبَّه به لأنه إذا فعل ذلك بما له مفعول واحد ومفعولان لم يعدم أصلا يحمل عليه بخلاف نصبه ما له ثلاثة، فإنه يلزم منه فرع لا أصل له ومشبَّه دون مشبَّه به فوجب منعه. ولأن جواز ذلك في باب أعلم مرتب على ما سمع من إقامة الظرف مقام فاعل الحدث الواقع فيه، ومقام ما يقع به إخبار عنه وإضافة إليه، ولم يسمع من ذلك شيء في باب أعلم، فلا يحكم فيه بجواز ذلك المجاز لعدم سماع ما يرتّب عليه.

باب المفعول معه

باب المفعول معه ص: وهو الاسم التالي واوا تجعله بنفسها في المعنى كمجرور مع، وفي اللفظ كمنصوب معدَّى بالهمزة، وانتصابه بما عمل في السابق من فعل أو عامل عمله، لا بمضمر بعد الواو خلافا للزّجاج، ولا بها خلافا للجرجاني، ولا بالخلاف خلافا للكوفيين. وقد تقع هذه الواو قبل ما لا يصلح عطفه خلافا لابن جني. ش: وقد يطلق المفعول معه في اللغة على المجرور بمع أو بالباء التي للمصاحبة، وعلى المعطوف المراد به المصاحبة، وعلى المنصوب بعد الواو بالشرط المذكورة، فالأول نحو جلست مع زيد، والثاني نحو وصلت هذا بذاك، والثالث نحو مزجت عسلا وماء، والرابع نحو ما صنعت وأباك، واستوى الماء والخشبة، وما زلت وزيدا حتى فعل، ولو تركت الناقة وفصيلَها لرَضعها. إلا أن عُرْف النحاة قد قَصَر المفعولَ معه على الرابع، وربما سمّاه سيبويه مفعولا به، فمن ذلك قوله في أول أبوابه: "هذا باب ما يظهر فيه الفعل وينتصب فيه الاسم لأنه مفعول معه ومفعول به". هذا نصه. وقوله: بعد أن مثّل بما زلْت وزيدا أي ما زلت بزيد حتى فعَل، ثم قال: وهو مفعول به. قلت: وهذا من أجل أن الباء تساوي "مع" في الدلالة على المصاحبة كقولك بعت الفرس بسَرْجه ولجامِه، والدارَ بأثاثِها، أي مع سراجه ولجامه، ومع أثاثها. ومن أجل قصْر النحاة اسم "المفعول معه" على القسم الرابع قلت في حدّه: "والتالي واوا" ليخرج التالي غيرها، وقيدت الواو بأن تجعله في المعنى كمجرور "مع"

ليخرج المعطوف بالواو المفيدة مطلق الجمع، وذكرت بنفسها ليخرج المعطوف بعد ما يفهم منه المصاحبة نحو أشركت زيدا وعمرا، ومزجتُ العسلَ والماء، فإن المصاحبة في مثل هذا مفهومة قبل ذكر الواو، بخلاف قولك: سرتُ والنيلَ، فإن المصاحبة لا تفهم فيه إلا بالواو. ثم قلت: "وفي اللفظ كمنصوب معدى بالهمزة" فنبهت بذلك على أن الواو معدّية ما قبلها من العوامل إلى ما بعدها فينتصب به بواسطة الواو فعلا كان ما عدّته، أو عاملا عمل الفعل نحو عرفت استواء الماء والخشبة، والناقة متروكة وفصيلها، ولست زائلا وزيدا حتى يفعل، وأنشد أبو علي: لا تَحْبِسَنَّك أثوابي فقد جُمِعتْ ... هذا ردائي مَطْويًّا وسِرْبالا وجعل "سربالا" مفعولا معه، وعامله مَطويا. وأجاز أن يكون عامله هذا. وظاهر كلام سيبويه المنع من إعمال هذا في مفعول معه، لأنه قال في آخر أبوابه "وأمّا مالكَ وأباكَ فقبيح، لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل" أراد بقبيح ممنوعا، وبالحرف الذي فيه معنى الفعل حسبك وكفوك وما ذكر بعدهما في الباب، فلو كان اسم الإشارة عنده مثلها لم يحكم بقبح هذا لك وأباك، بل كان يحكم فيه بما بحكم في وَيْله وأباه، وهذا واضح والله أعلم. فالواو التي يليها المفعول معه معدّية لا عاملة، هذا هو المذهب الصحيح، قال سيبويه بعد تمثيله بما صنعت وأباك، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها: إنما أردت ما صنعت مع أبيك، ولو تركت الناقة مع فصيلها، فالفصيل مفعول معه والأب كذلك، "والواو لم تغير المعنى، ولكنها تُعْمِل في الاسم ما قبلها" هذا نصه. وينبغي أن تعلم أن مذهبه عدم الاكتفاء في نصب المفعول معه بما يكتفى به في نصب الحال، فلا ينصبه العامل المعنوي كحرف التشبيه والظرف المخبر به، ولذلك لم ينصب بلك في هذا لك وأباك، ولا بحسبك في حسبك وزيدا درهم. وأكثر المتأخرين يغفلون عن هذا.

قلت: وكان حق الواو إذ هي معدية أن تجرّ ما عدّت العامل إليه كما فعلت حروف الجر. إلا أنها أشبهت الواو العاطفة لفظا ومعنى فلم تُعط عملا، بل أُعطيتْ مثل ما أعطيت العاطفة في اتصال عمل ما قبلها إلى ما بعدها لا على سبيل الإتباع. وكان في ذلك أيضا تنبيه على أن أصل المجرور بحرف أن يكون منصوبا ولكنه جُرّ لفظا. فحكم على موضع مجروره بالنصب إذا لم تتمحض فاعليته فإنه معدّ ليظهر بذلك مزية المتعدي بنفسه على المتعدي بواسطة. وقد ترتّب على شبه الواو المرادفة لمع بالواو العاطفة ما ذكرته، وأمر آخر وهو أنها لم تجرِ مجرى "مع" في جواز التقديم بل جرت مجرى العاطفة في التأخّر، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وكان الزجاج يقول: إذا قلنا ما صنعت وأباك، فالنصب بإضمار كأنه قال ما صنعت ولابَسْتَ أباك لأنه لا يعمل الفعل في المفعول وبينهما الواو، وهذا غير صحيح، لأن الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يصح به الارتباط، فإن ارتبطا بلا واسطة فلا معنى لدخول حرف بينهما. وإن لم يرتبطا إلا بواسطة فلا بد منها، فلذلك تقول ضربت زيدا وعمرا فتنصب عمرا بضربت كما تنصب به زيدا، لكن استغنينا في تعليق زيد بالعامل عن واسطة واحتجنا إليها في تعليق عمرو فأتينا بها. ومثله في الحاجة إلى واسطة ما ضربت إلا زيدا، وضربت إمّا زيدا وإمّا عمرا، فينتصب ما بعد إلّا وإمّا بالفعل ولا يمنع من ذلك الواسطة، لأن المعنى لا يصح إلا بها. ومما يبين فساد تقدير الزجاج أنه إمّا أن يُقصد تشريك صنعت ولابست في الاستفهام، وإمّا ألّا يقصده، فإن قصده لم يصح، لأن شرط صحة عطف الفعل على الفعل بعد اسم الاستفهام جواز الاستغناء بالثاني عن الأول، والأمر بخلاف ذلك في التقدير المذكور، إذ لا معنى لقول القائل ما لابست أباك، وإن لم يقصد التشريك

لم يصح أيضا، إذ لا يُعطف جملة خبرية على جملة استفهامية مع استقلال كل واحدة منهما، فألّا يجوز ذلك مع الاستقلال كما في المثال المذكور أحق وأولى. وأيضا لو كان ما بعد الواو منصوبا بفعل مضمر لم يحتج إلى الواو كما لا يحتاج إليها مع إظهاره، ألا ترى أنك لو أظهرت فعل الملابسة في ما شأنك وزيدا قلت ما شأنك تلابس زيدا دون واو فيلزم من حكم بإضمار تلابس الاستغناء عن الواو كما يستغنى عنها مع الإظهار، فالاستغناء فيها باطل وما أفضى إلى الباطل باطل. وزعم الجرجاني أن الواو هي الناصبة بنفسها، وما ذهب إليه باطل من ثلاثة أوجه: أحدها أنها لو كان النصب بها نفسها لم يشترط في وجوده وجود فعل قبلها أو معنى فعل، كما لا يشترط في غيرها من النواصب، ولجاز أن يقال كلُّ رجل وضيعته، بالنصب كما يقال عندي كل رجل وضيعته. الثاني أن الحكم بكون الواو ناصبة حكم بما لا نظير له إذ ليس في الكلام حرف ينصب الاسم إلا وهو يشبه الفعل كإن وأخواتها، أو يشبه ما يشبه الفعل كلا المشبهة بإنّ، والواو المرادفة "مع" لا تشبه الفعل ولا ما أشبه الفعل، فلا يصح جعلها ناصبة للاسم. الثالث أنها لو كانت هي الناصبة لوجب اتصال الضمير إذا وقع مفعولا معه ويُعدّ من الضرورات قول الشاعر: فآليتُ لا أنفكُّ أحْذو قصيدةً ... تكونُ وإيّاها بها مَثَلا بعدي ولا خلاف في وجوب الانفصال في مثل هذا، فعُلم بذلك أن الواو غير عاملة، إذ ليس في الكلام ضمير نصب يجب انفصاله مع مباشرة الناصب. وذهب الكوفيون إلى أن المفعول معه منصوب بالمخالفة، وقد تقدم في باب الابتداء إبطال نسبة العمل إلى المخالفة بدلائلَ أغنى ذكرُها ثَمَّ عن ذكرها ههنا. وإذا بطلت الأقوال الثلاثة تعين الحكم بالقول الأول وهو قول سيبويه وأكثر البصريين. وذكر ابن خروف أن أبا الفتح بن جني قال إن العرب لم تستعمل الواو بمعنى

مع إلا في موضع يصح أن تقع فيه عاطفة وأنكر قوله ابن خروف وهو بالإنكار حقيق، فإن العرب استعملت الواو بمعنى مع في مواضع لا يصلح فيها العطف وفي مواضع يصلح فيها. والمواضع التي لا يصلح فيها العطف على ضربين: أحدهما ترك فيه العطف لفظا ومعنى، والثاني استعمل فيه العطف لمجرد اللفظ، كاستعمال النعت على الجوار، فمن الأول قولهم استوى الماء والخشبة، وما زلتُ أسيرُ والنيلَ. ومنه قول الشاعر في وصف رجل مات معانق امرأة لقيها بعد فراق: فكان وإياها كحرّان لم يُفقْ ... عن الماءِ إذا لاقاهُ حتى تقدّدا ومن الثاني قولهم أنت أعلم ومالُكَ، أي أنت أعلم مع مالك كيف تدبره ومالك معطوف في اللفظ ولا يجوز رفعه على القطع وإضمار الخبر، لأن المال لا يخبر عنه بأعلم. وشرط عطف المبتدأ المضمر خبره أن يكون خبره مثل خبر المعطوف عليه. وأما قولهم: أنت أعلم وعبد الله فيحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون الواو بمعنى "مع" وعطف بها في اللفظ مبتدأ حذف خبره وجوبا لوقوعه موقع المجرور بمع وللاستطالة. والثاني أن تكون الواو لمجرد العطف وعبد الله مبتدأ محذوف الخبر جواز، والتقدير أنت أعلم بعبد الله وعبد الله أعلم بك، ثم دخله الحذف كما دخل في نحو أأنت خير أم زيد؟ والأصل أأنت خير من زيد أم زيد خير منك. والثالث أن يكون عبد الله معطوفا على أنت وأعلم خبر عنهما كأنه قال: أنت وعبد الله أعلم من غيركما. وأما وقوع الواو بمعنى "مع" في موضع يصلح للعطف فكثير، وفيه تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى. ص: ولا يتقدم المفعول معه على عامل المصاحب باتفاق ولا عليه خلافا لابن جني. ويجب العطف في نحو أنت ورأيُك، وأنت أعلمُ ومالُك. والنصب عند الأكثر في نحو مالك وما شأنك وعمرا، والنصب في هذين ونحوهما بكان مضمرة قبل الجار أو بمصدر "لابس" منويا بعد الواو. ولا بلابس خلافا

للسيرافي وابن خروف. فإن كان المجرور ظاهرا رجح العطف، وربما نصب بفعل مقدر بعد ما أو كيف، أو زمن مضاف أو قبل خبر ظاهر في نحو: ما أنت والسيرَ، وكيف أنت وقصْعةً ? وأزمانَ قومي والجماعةَ- و"أنا وإياه في لحاف". ويتَرجّح العطف إن كان بلا تكلف ولا مانع ولا موهن. فإن خيف به فوات ما يضرّ فواتُه رجح النصبُ على المعية، فإنْ لم يلِقِ الفعلُ بتالي الواو جاز النصب على المعية، وعلى إضمار الفعل اللائق إنْ حسن "مع" موضع الواو، وإلا تعيّن الإضمار والنصب في نحو حَسْبُك وزيدا درهم بيحسب منويا، وبعد وَيْلَه وويْلا بناصب المصدر. وبعد ويلٌ له بالْزَم مضمرا، وفي رأسه والحائظ وامرأ ونفسَه وشأنك والحج على المعية أو العطف بعد إضمار "دَعْ" في الأول والثاني، و"عليك" في الثالث. ونحو هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار. وفي كون هذا الباب مقيسا خلاف. ولما بعد المفعول معه من خبر ما قبله أو حاله ماله متقدما. وقد يُعطى حكم ما بعد المعطوف خلافا لابن كيسان. ش: قد تقدم بيان كون الواو التي بمعنى "مع" معدّية، وأن لها شبها بالواو العاطفة في اللفظ والمعنى، ولذلك لم تعمل عمل حروف الجر في لفظ ما عدّت إليه العامل، بل أوصلت إليه عمل العامل لفظا ومحلا، ولازمت محلا واحدا لشبهها بهمزة التعدية فلا تتقدم على عامل المصاحب كما تتقدم "مع" في قولهم مع الخشبة استوى الماءُ، وكذا لا يقال استوى والخشبة الماءُ، فالأول مجمع على منعه، والثاني ممنوع إلّا عند ابن جني، فإنه أشار في الخصائص إلى جوازه، وله شبهتان: إحداهما أنه قد أجاز ذلك في العاطفة فلْيَجُزْ فيها، لأنها محمولة عليها. والثانية أن ذلك قد

ورد في كلامهم فينبغي أن يُحكم بذلك، ومن الوارد في ذلك قول الشاعر: أكْنِيه حين أُناديه لأكرمَهُ ... ولا أُلَقِّبُهُ والسَّوْأةَ اللَّقَبا ومثله قول الآخر: جَمعتَ وفُحْشا غيبةً ونَميمةً ... خصالا ثلاثا لستَ عنها بمُرْعَوي ولا حجة له في الشبهتين، أمّا الأولى فالجواب عنها من وجهين: أحدهما أن العاطفةَ أقوى وأوسع مجالا فحصل لها مزيَّةٌ بتجويز التقديم كقول الشاعر: كأنّا على أولادِ أحْقبَ لاحَها ... ورَمْي السفا أنفاسها بسهام جَنوبٌ ذوتْ عند التناهي وأنزلتْ ... بها يوم ذَبّابِ السَّبِيب صيامِ والأصل لاحها جنوبٌ ورمى السفا، فقدم المعطوف على المعطوف عليه، لأن المعطوف بالواو تابع، نسبة العامل إليه كنسبته إلى المتبوع، فلم يكن في تقديمه محذور، بل كان فيه إبداء مزيّة للأقوى على الأضعف، فإن أشرك بينهما في الجواز خفيتْ المزيةُ. والثاني أن واو "مع" وإنْ أشبهت العاطفة فلها شبه يقتضي لها اللزوم مكان واحد كما لزمت الهمزة مكانا واحدا. وأما الشبهة الثانية عن احتجاجه بالبيتين فضعيفة أيضا، إذ لا يتعيّن جعل ما فيهما من المنصوبين من باب المفعول معه، بل جعله من باب العطف ممكن وهو أولى، لأن القول بتقديم المعطوف في الضرورة مجمع عليه، وليس كذلك القول بتقديم المفعول معه. أما البيت الأول فالعطف فيه ظاهر، لأن تقديره جمعت غيبة ونميمة وفحشا،

وبهذا وجّه أكثر النحويين. وأما البيت الثاني فهو من باب: - وزجّجن الحواجِبَ والعُيونا- فنصب العين دالّ عليه زجّجن، تقديره: وكحّلْنَ العيونَ، فلو دعتْ ضرورة إلى التقديم لم يختلف التقدير، فكذلك أصل ولا ألقبه والسّوأة اللقبا، ولا ألقبه اللقب ولا أسوؤه السوأة فحذف أسوؤه لدلالة "اللّقبا" عليه، ثم قدّم مُضْطَرّا، وبقي التقدير على ما كان عليه. وأشرت بقولي "ويجب العطف في نحو أنت ورأيك" إلى أن كل موضع كانت الواو فيه بمعنى "مع" بعد ذي خبر لم يذكر أو ذُكر أو هو أفعل تفضيل فالعطف فيه لازم، لعدم فعل وما يَعْمل عمله، والمراد بعمله أن يكون من جنس ما ينصب مفعولا به، ولا خلاف في وجوب الرفع فيما أشبه المثالين المذكورين. ومَن ادّعى جواز النصب في نحو كل رجل وضيعته على تقدير كل رجل كائن وضيعته فقد ادّعى ما لم يقله عربيّ فلا التفات إليه ولا تعريج عليه. ومما ورد مثل كل رجل وضيعتهن وأنت ورأيك قول العرب: الرجل وأعضادُها والنساء وأعجازُها، حكاه الأخفش، ومثله إنك ما وخيْرا، حكاه سيبويه، ومثله قول شداد أبي عنترة: فمَن يكُ سائِلا عنّي فإنّي ... وجرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ ولمجيء هذه الواو بعد مبتدأ أو بعد اسم إنّ قلت: "ويجب العطف" ولم أقل ويجب الرفع، فإن العطف بعد مبتدأ يرفع، وبعد اسم إن ينصب فعمّتهما العبارة. ثم قلت والنصب عند الأكثر أي ويجب النصب عند الأكثر في نحو مالك وزيدا،

وما شأنك وعمرا، والإشارة إلى كل جملة آخرها واو المصاحبة وتاليها، وأوّلها "ما" المستفهم بها على سبيل الإنكار، قبل ضمير مجرور باللام، أو الشأن أو ما يؤدي ما يؤديانه. ولسيبويه في هذين المثالين وشبههما مذهبان: أحدهما أن يقدّر "كان" بعد "ما" فيكون المنصوبُ مفعولا معه، والثاني أن يقدر بعد الواو مصدر لابس منويا أو مضافا إلى ضمير المخاطب، صرّح بالتقديرين في متن الباب الثالث، وبإضمار الفعل في ترجمته فقال: "هذا باب ما يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام إذا حمل آخره على أوّله، وذلك قولك: مالك وزيدا وما شأنك وعمرا. ثم قال في متن الباب: فإذا ظهر الاسم فقال ما شأن عبد الله وأخيه يشتمه فليس إلا الجرُّ. ثم قال: فإذا أضمرت فكأنك قلت: ما شأنك وملابسةٌ زيدا أو ملابستك زيدا، فكان أن يكون زيد على فعل وتكون الملابسة على الشأن، لأن الشأن معه ملابسة أحسن من أن يُجْروا المظهر على المضمر". هذا نصه. فحمل أبو علي الشلوبين كلامه على ظاهره واعتذر عن إعمال المصدر مضمرا بأنه هنا في قوة الملفوظ به، لوضوح الدلالة عليه، ودعاه إلى الاعتذار أن سيبويه منع في باب الوصف بإلّا حذف أن يكون وارتفاع "الفرقدان" فقال بعد إنشاده: وكلُّ أخٍ مُفارِقه أخُوه ... لعَمْرُ أبيك إلّا الفرقدانِ كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين يفارقه أخوه. ثم قال: ولا يجوز على إلا أن يكون لأنك لا تضمر الاسم الذي هذا من تمامه لأن "أن يكون" اسم فظاهر كلامه أن المصدر العامل لا يضمر فحمل كلامه ثمّ على أنه لا يضمر لضعف الدليل ووجود مندوحة عن حذفه، وحكم هنا بجواز الحذف لقوة الدلالة عليه. وما ذهب إليه الشيخ أبو علي

هو الصحيح لا ما ذهب إليه من منع حذف المصدر مطلقا فإن حذفه إذا قويت الدلالة عليه وارد في الكلام الفصيح كقوله تعالى: (قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ عن سبيلِ الله وكفرٌ به والمسجد الحرام) أي وصد عن سبيل المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، فحذف صَدّ عن سبيل المسجد لدلالة مثلهما من قبلُ عليهما. ولا يجوز عطف المسجد على الهاء من "به" لأن العطف على ضمير الجر لا يجوز عند الأكثر إلّا إذا أعيد الجار، ولا يصح أيضا من جهة المعنى، لأن المشركين كانوا يعظّمون المسجد الحرام فلا يصح أن ينسب الكفر إليهم إلا لكونهم لا يعظمونه تعظيما مستندا إلى أمر الله، بل إلى أهوائهم فهو حقيق بإطلاق الكفر عليه. ومن حذف المصدر وبقاء ما يتعلق به قول الشاعر: لَصَوْنُكَ مَن تعولُ أعمُّ نفعا ... لهم عن ضَلّةِ وهوى مُطاعِ ومثله: المنُّ للذَّمِّ داعٍ بالعطاء فلا ... تَمْنُنْ فتُلْفى بلا حمدٍ ولا مال فعن من البيت الأول متعلق بصون المحذوف، وبالعطاء من البيت الثاني متعلق بمَنّ محذوف والمحذوفان بدلان من الموجودَين، فاستغنى بمعمول البدل كما استغنى في الآية بمعمول المعطوف. وذهب السيرافي وابن خروف إلى أن قول سيبويه: ما شأنك وملابستك زيدا مؤول، قال ابن خروف قوله فكأنك قلت ما شأنك وملابسة زيدا، إنما قدّر المصدر حين أظهر ليكون محمولا على الشأن والمضمر الفعل، لأنه لا يجوز أن يعمل

المصدر مضمرا، والكوفيون يعملونه مضمرا غير ملفوظ به. ثم قال ابن خروف: يريد بهذا ما أراد بقوله: - من لد أن كانت شولا ? لأنه لا يضمر الموصول مع بعض الصلة، فكلامه هنا محمول على المعنى. وجاز إضمار الفعل هنا وهو لا يحمل على الأول من حيث لم يصرّح بظهوره، فإن أظهرته على جهة التقدير جئت بالمصدر. قلت يكفي من الردّ على ابن خروف اعترافه بأن الموضع لا يصلح لفعل، واعترافه بأن سيبويه حمل قول الراجز: - من لد شولا فإلى إتلائها ? على أن أصله: من لله أنْ كانت شولا، فحكم بحذف أن والفعل في هذا الرجز لقوة الدلالة، وحكم بمنع ذلك في: - لعمر أبيك إلا الفرقدان ? لضعف الدلالة. ولو صرّح سيبويه بمنع حذف المصدر مطلقا لكان محجوجا بثبوت ذلك عن العرب، فإن كلامهم هو المأخوذ به. وقد تقدمت الشواهد على إضمار المصدر وإبقاء ما يتعلق به، وأمكن حمل كلام سيبويه على وفق ذلك، فقوى الاستشهاد وتأكّد الاعتضاد. ونسبت وجوب النصب في نحو مالك وزيدا، أو ما شأنك وعمرا إلى الأكثر، لأن ابن خروف حكى عن الكسائي أنه قال: إذا أوقعت ما بال وما شأن ومالِ على اسم مضمر ثم عطفت عليه باسم ظاهر كان الوجه في المعطوف النصب والخفض، تقول: ما بالك وزيدا تنصب زيدا بإضمار الفعل وإضمار المصدر ويعمل عمل الفعل، كأنك قلت وتلابس زيدا وتذكر زيدا أو كأنك قلت ما بالك وملابستك زيدا وذكرك زيدا، فصرّح الكسائي بجواز الجر وبه أقول، لا على العطف، بل على حذف مثل ما جرّ به الضمير لدلالة السابق عليه، وسيأتي الكلام على هذا في باب العطف إن شاء الله تعالى. فإن كان ظاهرا المجرور باللام والشأن ونحوه فالمختار العطف نحو ما لزيد وأخيك وما شأن عبد الله وعمرو، ويجوز النصب على إضمار كان بعدما. قال سيبويه بعد إنشاد قول الشاعر:

فمالَك والتَلدُّدَ حول نَجْد ... وقد غَصّتْ تهامةُ بالرجال "فإذا أظهر الاسم فقال ما شأن عبد الله وأخيه يشتمه فليس إلا الجرّ". فأوهم أن النصب ممتنع وهو لا يريد ذلك، لأنه قال بعد ذلك بقليل: "ومن قال ما أنت وزيدا قال ما شأن عبد الله وزيدا، كأنه قال ما كان شأن عبد الله وزيدا" فعلم بهذا أن مذهبه جواز النصب لكنه غير الوجه المختار. وتبيّن أنه أراد بقوله أوّلا: فليس إلا الجرّ ما أريد بنحو: لا فتى إلا على، ولا سيف إلا ذو الفقار. وقد حكم بعض المتأخرين بمنع النصب أخذا بظاهر قوله الأول، ولو قرأ ما بعده من كلام سيبويه لم يقع فيما وقع. ومثل هذا اتفق للزمخشري في: أنته أمرا قاصدا، حين جعله من المنصوبات باللازم إضماره لأن سيبويه ذكر بعده أمثلة التزم إضمار ناصبها، ثم بيّن بعد ذلك بقليل أن الذي نصب أمرا قاصدا يجوز إظهاره، وغفل الزمخشري عن ذلك فاعتقد ما ليس بصواب. والرفع في ما أنت وزيدا، وكيف أنت وقصعة من ثريد هو الجيد، لعدم الفعل وما يعمل عمله. قال سيبويه: وزعموا أن ناسا يقولون كيف أنت وزيدا، وما أنت وزيدا، وهو قليل في كلام العرب، ولم يحملوا الكلام على "ما" و"كيف" ولكنهم حملوه على الفعل، لأن كنت وتكون يقعان ههنا كثيرا، وأنشد سيبويه: وما أنت والسيْرَ في مَتْلَف ... يُبَرِّحُ بالذكر الضابِطِ

وأنشد أيضا: أتُوعِدُوني بقومِكَ يابن حَجْل ... أشاباتٍ يخالُونَ العِبادا بما جَمَّعْتَ من حَضَن وعمرو ... وما حَضَنٌ وعمرٌو والجيادا ثم قال: وزعموا أن الراعي كان ينشد هذا البيت: أزْمانَ قومي والجماعة كالذي ... لزِمَ الرِحالةَ أنْ تميلَ مَمِيلا كأنه قال: أزمان كان قومي، والجماعة محمولة على كان لأنها تقع في هذا الموضع كثيرا، ثم قال: وما أنت وشأنك وكل رجل وضيعته، وأنت أعلم وربك وأشباه ذلك، فكله رفع لا يكون فيه النصْب، لأنك إنما تريد أن تخبر بالحال التي فيها المحدَّث عنه في حال حديثك، ولم تُرد أن تجعل ذلك فيما مضى ولا فيما يستقبل، وليس موضعا يستعمل فيه الفعل. وأما الاستفهام فإنهم أجازوا فيه النصب لأنهم يستعملون الفعل في ذلك الموضع كثيرا، يقولون ما كنت وكيف تكون، إذا أرادوا معنى "مع"، ومن ثم قالوا ? أزمان قومي والجماعة ? لأنه موضع يدخل فيه الفعل كثيرا، يقولون: أزمان كان قومي، وحين كان. هذا نصه. وإليه أشرت بقولي "وربما نصب بفعل مقدر بعد ما، أو كيف، أو زمن مضاف". ثم قلت: "أو قبل خبر ظاهر" والإشارة به إلى قول ابن خروف في شرح الكتاب قاصدا سيبويه: ولم يذكر في قولهم أنت وشأنك، وكل رجل وضيعته وما أشبهه إلا الرفع. ثم قال ابن خروف: وبعض العرب ينصب إذا كان معه خبر، وجعل من ذلك قول عائشة ? رضي الله عنها -: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي وأنا وإياه في لِحافٍ" كأنها قالت: وكنت وإيّاه في لحاف، ويجوز

عندي أن يكون إياه في موضع رفع عطفا على "أنا" على سبيل النيابة عن ضمير الرفع، كما ناب عن ضمير الجر فيما حكى الفراء من قول العرب مررت بإيّاك قال وأنشد الكسائي: فأحسِنْ وأجملْ في أسيركَ إنه ... ضعيفٌ ولم يأسرْ كإياكَ آسِرُ وكما ناب ضمير الرفع عن ضمير الجر في قول بعض العرب وقد سئل عن الصعلوك: هو الغداةَ كأنا، وهذا ليس ببدع، لأن أصل المبني ألّا يخصّ بموضع من الإعراب دون موضع، والمضمرات من المبنيات فلا يستبعد ذلك فيها إلا أنّ حمْل "أنا وإياه في لحاف" على باب المفعول معه أولى، لأنه قد روى في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبشِروا فوالله لأنا وكثرة الشيء أخْوفُ عليكم من قلّته" بنصب وكثرة، ذكره أبو علي الشلوبين وعضّد به ما حكاه عن الصيمري من جواز النصب في أنت وشأنك، وكل رجل وضيعته. وأشرت بقولي "ويترجح العطف إن كان بلا تكلف" إلى نحو: فكُونوا أنتم وبني أبيكُم ... مكانَ الكُلْيَتَيْنِ من الطِحالِ فإن العطف فيه حسن من جهة اللفظ، وفيه تكلف من جهة المعنى، لأن مراد الشاعر كونوا لبني أبيكم فالمخاطبون هم المأمورون، فإذا عطف يكون التقدير: كونوا وليكونوا لكم، وذلك خلاف المقصود، وكذا قول الآخر: إذا أعْجَبَتْكَ الدهرَ حالٌ من امرئٍ ... فدَعْهُ وواكِلْ أمرَهُ واللّياليا

معناه واكل أمره إلى الليالي، وتقدير العطف فيه تكلّف بيّن. وأشرت بقولي "ولا مانع" إلى نحو: لاتَنْه عن القبيح وإتيانَه أي مع إتيانه، فالعطف هنا ممتنع بيّن الامتناع. وكذا في استوى الماء والخشبة، وما زلت أسير والنيل ونحوهما مما سبق الكلام عليه في شرح صدر الباب. وأشرت بقولي "ولاموهِم" إلى نحو ما صنعت وأباك، فإن نصبه على المعيّة مختار وعطفه جائز على ضعف، لأن المعطوف عليه ضمير رفع متصل غير مفصول بينه وبين العاطف، وما كان كذلك فعطفه ضعيف، وأكثر ما يكون في الشعر كقول الشاعر: ورَجا الأخَيطِلُ من سفاهةِ رأيِه ... ما لم يكن وأبٌ له لينالا فلو نصب الأب لكان أجود لما تبين من ضعف العطف. وأشرت بقولي "خيف به، أي بالعطف فوات ما يضر فواته رجح النصب على المعيّة" إلى نحو لا تَغْتَذ بالسَمك واللّبن، ولا يُعجبك الأكل والشبَع بمعىن لا تغتذ بالسمك مع اللبن، ولا يعجبك الأكل مع الشبع، فالنصب على المعية في هذين المثالين وأمثالهما يبيّن مراد المتكلم، والعطف لا يبيّنه فتعيّن رجحان النصب للسلامة به عن فوات ما يضر فواته، وضَعُف العطف إذ هو بخلاف ذلك. فإن كان الفعل الذي قبل الواو غير صالح للعمل فيما بعدها وحسن في موضعها "مع" جاز فيما بعدها أن يجعل مفعولا معه، وأن ينصب بفعل صالح للعمل فيه، مثاله قوله تعالى (فأجْمِعوا أمرَكم وشركاءَكم) فلا يجوز أن يجعل "شركاءكم" معطوفا، لأن أجمع لا ينصب إلّا الأمرَ والكيد ونحوهما، ولك أن تجعل شركاءكم مفعولا معه، وأن تجعله مفعولا بأجمعوا مقدرا كأنه قيل فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم. ومثله (والذين تبوّءوا الدارَ والإيمانَ) فلك أن تجعل الإيمان مفعولا معه، ولك أن تنصبه باعتقدوا مقدّرا.

فإن كان الفعل غير صالح للعمل فيما بعد الواو ولم تصلح "مع" في موضعها تعيّن إضمار فعل صالح للعمل، فمن ذلك قول الشاعر: إذا ما الغانياتُ بَرزْنَ يوما ... وزجَّجْن الحواجبَ والعُيُونا تنصب العيون بكحّلْن مقدّرا ولا يجوز غير ذلك لأن زججن غير صالح للعمل في العيون، وموضع الواو غير صالح لمع. وهذا معنى قولي "فإن لم يلق الفعل بتالي الواو جاز النصب على المعية، وعلى إضمار الفعل اللائق إن حسن "مع" في موضع الواو، وإلا تعيّن الإضمار". وممّا يشبه المفعول معه ? وهو عند سيبويه مفعول به ? المنصوبُ بعد "حسبُك" وكفؤك وأخواتهما وبعد ويله وويلا له. قال سيبويه: "قالوا حسبك وزيدا درهم، لما كان فيه معنى كفاك وقبُح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال حسبك ويحسِب أخاك درهم، وكذلك كفؤك، وأمّا ويلا له وأخاه، وويله وأباه، فانتصب على معنى الفعل الذي نصبه كأنك قلت: ألزمه الله ويله وأباه. وإن قلت ويلٌ له وأباه، نصبت لأن فيه ذلك المعنى، كما أن حسبك ترتفع بالابتداء، وجُعل لما فيه من معنى كفاك دليلا على فعل يوافقه معنى وهو يحسب. فكذا ويل له مرتفع بالابتداء وفيه معنى ألزمه الله ويلا، فجعل دليلا على فعل يوافقه معنى وينصُب أباه (ثم قال سيبويه) وأما هذا لك وأباك فقبيح، لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل". قال محمد: كثر في كلام سيبويه التعبير بالقبح على عدم الجواز وقد استعمله قبلُ إذ قال في حسبك وزيدا درهم لما كان فيه معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل، واستعمله أيضا في قوله: وأما هذا لك وأباك فقبيح. والحاصل أن سيبويه قد أفصح بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى

الاستقرار لا يعملان في المفعول معه، لأنه حكم على أن "هذا لك وأباك"، قبيح، ومراده أنه غير جائز، ولو كان اسم الإشارة صالحا عنده لنصب المفعول معه وما تضمن حرف الاستقرار من ظرف أو حرف جرّ لأجاز أن يقال هذا لك وأباك مخيّرا بين العمل لهذا أو للك. وقد أجاز أبو علي في قوله الشاعر: هذا ردائي مطويا وسربالا أن تنصب السربال بهذا مفعولا معه، وأجاز بعض النحويين أن يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر. وبعض النحويين يقتصر في مسائل هذا الباب على السماع، والصحيح استعمال القياس فيها على الشروط المذكورة. وأجاز الأخفش أن يقال كنت زيدا مذكورين، كما يقال مع العطف، والإفراد أولى كما يكون بمع. وهذا عند ابن كيسان لازم، أعني مطابقة ما قبل الواو. ومما يدل على أن "مع" يكون ما بعدها بمنزلة المعطوف بالواو قول الشاعر: مَشَقَ الهواجِرُ لحَمَنَّ مع السُّرى ... حتّى ذهبْنَ كلاكِلا وصُدورا أراد مزّقت الهواجر والسرى لحمهنّ، وأقام "مع" مقام الواو.

باب الاستثناء

باب الاستثناء ص: وهو المخرج تحقيقا أو تقديرا من مذكور أو متروك بإلّا أو ما بمعناها بشرط الفائدة. فإن كان بعض المستثنى منه حقيقة فمتصل، وإلّا فمنفصل مقدر الوقوع بعد لكن عند البصريين، وبعد سوى عند الكوفيين. وله بعد إلّا من الإعراب إن تُرك المستثنى منه وفرّغ العامل له ماله مع عدمها، ولا يفعل ذلك دون نهي أو نفي صريح أو مؤوّل. وقد يحذف على رأي عامل المتروك. وإن لم يُترك المستثنى منه فللمستثنى بإلّا النصب مطلقا، بها لا بما قبلها معدّى بها، ولا به مستقلا، ولا بأستثني مضمرا، ولا بأنّ مقدرة بعدها، ولا بإنْ مخففة مركبا منها ومن لا خلافا لزاعمي ذلك، وفاقا لسيبويه والمبرد. ش: المخرج يتناول المستثنى وغيره كالمخرج بالتخصيص. وتقييد الإخراج بإلا أو ما في معناها مانع من تناول غير المستثنى، وذكر المخرج والإخراج في حد المستثنى والاستثناء مغن عن ذكر المُدْخل والإدخال، فإن المستثنى بعد النفي وإن كان مُدخَلا فيما خرج منه غيره فهو مخرج مما دخل فيه غيره باعتبار آخر. ولمّا كان المستثنى يطلق على المتصل وهو ما لو يُسْتَثن لدخل نحو (فسوف يلقون غَيًّا إلّا مَن تاب) وعلى المنقطع وهو ما لو يُستثن لم يدخل نحو "ما لهم به مِن علْم إلّا اتّباعَ الظَّنِّ" ذكرت بعد المخرج تحقيقا أو تقديرا فإن الظن وإن لم يدخل في العلم تحقيقا فهو في تقدير الداخل فيه، إذ هو مستحضر بذكره لقيامه مقامه في كثير من المواضع، فهو حين استثنى يخرج مما قبله تقديرا، وكذا الفائق ما قبله مع اتحاد الجنس نحو له عليّ ألف إلا ألفَيْن، ذكره الفرّاء فمثل هذا لم يكن داخلا فيخرج بإلا ولكنه في التقدير مخرج، لأن المقر إذا اقتصر على مقدار بمنزلة المنكر لغيره، فكأن قائل "له ألف إلا ألفين" قد قال: له على ألف لا غير

إلا ألفين، فبان بهذا أن ألفين مخرج تقديرا. ومن هذا القبيل قوله تعالى: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلّا مَن اتّبعك من الغاوين) لأن العباد الذين أضافهم تبارك وتعالى إليه هم المخلصون الذين لا سلطان للشيطان عليهم، فلم يكن الغاوون فيهم فيخرجهم الاستثناء، وتفاوُت ما بينهم وبين المخلصين أعظم من تفاوت ما بين ألفين وألف بكثير، دليل ذلك حديث: "بعث النار" أعاذنا الله منها. فمعنى الآية والله أعلم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا على غيرهم، إلا مَن اتبعك من الغاوين. ومنهم من تجعل "من اتبعك" متصلا على أن يراد بالعباد المخلصون وغيرهم، والانقطاع مذهب ابن خروف، والاتصال مذهب الزمخشري. ذكره الكشاف. ومن المخرج تقديرا قوله تعالى (لا عاصِم اليوم من أمر الله إلّا مَن رحِم) على إرادة لا من يعصم من أمر الله إلا من رحم، وهو أصحّ الوجوه، فمن رحم مستثنى منقطع لم يدخل فيما قبله فيخرج بإلا. لكن يقدّر كونه مخرجا بتقدير لا أحد يعصم من أمر الله، وبأن العاصم يستدعي معصوما فكان بمنزلة المذكور فكأنه مثل لا معصوم عاصم من أمر الله إلا من رحمه الله والله أعلم. ومن المخرج تقديرا المستثنى السابق زمانه زمان المستثنى منه كقوله تعالى: (ولا تَنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) فما قد سلف وإن لم يدخل في المنهي عن نكاحِه فمن الجائز أن تكون المؤاخذة به باقية فبيّن تعالى بالاستثناء عدم بقائها، فكأنه قيل الناكح ما نكح أبوه مؤاخذ بفعله إلا ما قد سلف فيتناوله

المخرج تقديرا. ومن المخرج تقديرا قولك لأفعلنّ كذا وكذا إلا حلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا مثل به سيبويه. ثم قال: فإن أفعل كذا وكذا بمنزلة فعل كذا وكذا (وهو مبنيّ) على، حِلّ، وحِلّ مبتدأ كأنه قال ولكن حلّ ذلك أن أفعل كذا وكذا. قال السيرافي: إلا بمعنى لكن، لأن ما بعدها مخالف لما قبلها، وذلك أن أقوله والله لأفعلنّ كذا وكذا عقد يمين عقده على نفسه، وحلّه إبطاله ونقضه، فكأنه قال عليّ فعل كذا معقودا، لكن إبطال هذا العقد فعل كذا. قلت وتقدير الإخراج في هذا أن يجعل قوله لأفعلنّ كذا بمنزلة لا أرى لهذا العقد مبطلا إلا فعل كذا، فهذا الاستثناء منقطع عمله. وجعل ابن خروف من هذا القبيل: (لست عليهم بمصيطر إلّا مَن تولّى وكفر فيُعذِّبه الله). على أن يكون "من" مبتدأ، ويعذبه الله خبر، ودخلت عليه الفاء لتضمن المبتدأ معنى الجزاء، وجعل الفراء من هذا قراءة بعض السلف: (فشَرِبوا منه إلا قليلٌ منهم) على تقدير إلا قليل منهم لم يشربوا واستحسن ابن خروف هذا الوجه. قلت: ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه وسلم: "ما للشيطان من سلاح أبلغ من النساء إلا المتزوّجون أولئك المطهّرون المبرّءون من الخنا" ويمكن أن يكون من هذا قراءة ابن كثير وأبي عمرو "إلّا امرأتُك إنّه مُصيبها ما أصابهم" على أن تكون

"امرأتك" مبتدأ وخبرها "إنه مصيبها ما أصابهم"، وبهذا التوجيه يكون الاستثناء في النصب والرفع من "فأسْر بأهلك" وهو أولى من أن يستثنى المنصوبُ من أهلِك والمرفوع من أحد. ومن المخرج تقديرا: إن لفلان مالًا، إلّا أنه شقيّ، وما زاد إلّا ما نقص، وما نفع إلّا ما ضَرَّ ولا تكوننّ من فلان في شيء إلّا سلاما بسلام، وهي من أمثلة سيبويه. ومن أمثلة غيره جاء الصالحون إلّا الطالحين، وجاء زيد إلا عمرا، وما في الأرض أخبث منه إلا إياه. فالمستثنى في هذه الأمثلة ليس مخرجا تحقيقا بل تقديرا، فكأنك قلت إنّ لفلان مالا فكأنك قلت عدم البؤس، ثم استثنيت من البؤس كونه شقيا، وإذا قلت ما زاد فكأنك قلت ما عرض له عارض، ثم استثنيت من العارض النقص، وإذا قلت ما نفع، فكأنك قلت ما أفاد شيئا إلا ضرّا. وإذا قلت لا تكون من فلان في شيء إلا سلاما بسلام، فكأنك قلت لا تعامله بشيء إلا متاركة. وإذا قلت جاء الصالحون فكأن السامع توهّم مجيء غيرهم ولم يعبأ بهم، فأزلت توهمه بهذا الاستثناء. وإذا قلت جاء زيد إلا عمرا فكأنك عرفت علم السامع مرافقة زيد لعمرو وقدّرت أنه توهّم أنك اقتصرت على زيد اتكالا على علم السامع بترافقهما فأزلت توهمه بالاستثناء. وإذا قلت ما في الأرض أخبث منه إلا إياه، فكأنك قلت ما يليق خبثه بأحد إلا إياه، وأسلك هذا السبيل فيما يرد من أمثال هذا. قال ابن السرّاج: "إذا كان الاستثناء منقطعا فلا بدّ من أن يكون الكلام

الذي قبل إلّا قد دلّ على ما يستثنى فتأمل هذا فإنه يدِقُّ. فمن ذلك قوله عز وجل: (لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلا من رحم) فالعاصم الفاعل، ومن رحم قد دلَّ على العصمة والنجاة، فكأنه تعالى قال والله أعلم، لكن مَن رحِمَ يُعصم أو معصوم وقال في ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضرّ، وإنما حسن هذا الكلام لأنه لما قال ما زاد دلّ على قوله هو على حاله، فكأنه قال هو على حاله إلا ما نقص، وكذلك قوله ما نقع هو على أمره إلا ما ضر". والباء من قولي "بإلّا" متعلقة بالمخرج. واحترز بذلك من "إلّا" بمعنى "غير" كقوله تعالى (لو كان فيهما آلهةٌ إلا اللهُ) والتي بمعنى الواو كقوله تعالى (لئلا يكونَ للناس عليكم حُجّةٌ إلّا الذين ظلموا) أي ولا الذين ظلموا قاله الأخفش. والتي بمعنى "إنْ لم" كقوله تعالى: (إلّا تفعلوه تكن فتنةٌ)، والزائدة كالأولى من اللتين في قول الشاعر، أنشده ابن جني: أرى الدهرَ إلّا مَنْجنونا بأهله ... وما صاحِبُ الحاجاتِ إلّا مُعَلَّلا أي أرى الدهر منجنونا بأهله يتقلب بهم فتارة يرفعهم وأخرى يخفضهم، كذا قال ابن جني. ثم قال: وعلى ذلك تأولوا قول ذي الرمة: حراجيجُ لا تَنْفَكُّ إلّا مُناخةً ... على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلدا قَفْرا أي ما تنفك مناخة، وإلّا زائدة. كل هذا قول ابن جني رحمه الله. فإلّا في هذه المواضع غير مخرجة شيئا. ونبّهت "بأو ما بمعناها" على أن لإلّا أخوات تبيّن إن شاء الله تعالى. ثم بيّنت

أن المستثنى إن كان بعض ما استثني منه حقيقة فهو متصل نحو قام الرجال إلا زيدا، وإن لم يكن كذلك فهو منقطع ومنفصل، وقيّدت البعض بحقيقة احترازا من المنقطع المستعمل فإنه لا يكون إلا أن يُستحضر بوجه ما عند ذكر المستثنى منه، أو ذكر ما نسب إليه نحو (فإنَّهم عَدُوٌّ لي إلّا رَبَّ العالمين) لأن عبّاد الأصنام كانوا معترفين به لقوله (إنْ كنّا لفي ضلالٍ مُبين إذ نُسوِّيكم بربّ العالمين). ولأن ذكر العبادة مذكّر بالإله الحقّ. فبذا الاعتبار لا يكون المنقطع غير بعض، إلا أن المستثنى منه لا يتناولة وَضْعا، فإن تناوله بغير ذلك فله حظّ من البعضية مجازا. ولذلك قيل له مستثنى، فإن لم يتناوله بوجه من الوجوه لم يصحّ استعماله لعدم الفائدة كقول القائل: صهلت الخيلُ إلّا البعير ورغت الإبل إلّا الفرس، فلو قال: صوّتتْ الخيل إلّا البعير لجاز؛ لأن التصويت يُستحضر بذكره الخيل وغيرها من المصوِّتات، فكان ذلك بمنزلة الداخل فيما قبله. ونبّهت باشتراط الفائدة على أن النكرة لا يستثنى منها في الموجب ما لم تُفِد، فلا يقال: جاء قوم إلا رجلا، لعدم الفائدة، فإن دخلت فائدة جاز كقوله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما). والضمير من قولي "وله بعد إلا من الإعراب" عائد على المستثنى منه إذا لم يذكر وفرّغ العامل لما بعد إلا نحو مما جاءني إلا زيد وما لقيت إلا عمرا، وما مررت إلا بعامر، فيعرب ما بعد إلا بما كان يُعرب به دونها، لأنه صار خلفا عن المستثنى منه حين تُرك وفرّغ عامله لما بعد إلا. واحترز بالتفريغ من نحو ما قام إلا زيدٌ غلا عمرا، وما قام زيد إلا عمرا، فإن الأصل فيهما ما قام أحد إلا زيدا إلا عمرا، وما قام زيد ولا غيره إلا عمرا. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. ثم أشرت إلى أنه لا يترك المستثنى منه ويفرّغ عامله لما بعد إلّا دون نهي أو نفي صريح أو مؤول، والنهي كقوله تعالى (ولا تقولوا على الله إلا الحقّ) والنفي الصريح كقوله تعالى (وما محمدٌ إلّا رسولٌ قد خلت

من قبله الرسلُ) ويدخل في النفي المؤول الاستفهام كقوله تعالى (هل يُهلكُ إلّا القومُ الظالمون) والشرط الذي فيه معنى النهي كقوله تعالى (ومَن يُوَلِّهم يومئذٍ دُبُرَهُ إلّا مُتحرِّفًا لقتال أو مُتحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) فإن معناه: لا تُولّوا الأدبار إلا متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة. ومن النفي المؤول: زيدٌ غيرُ آكلٍ إلا الخبزَ، وقوله تعالى (ويأبى الله إلا أن يُتِمَّ نورَه) لأن يأبى بمعنى لا يريد. ومنه (وإنّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين) لأن المراد بالكبيرة هنا الصعوبة، فكأنه قيل لا تسهل إلا على الخاشعين. والحاصل أن المستثنى منه لا يحذف مع إيجاب محض، لأنه يلزم منه الكذب، ألا ترى أن حقيقة قولك رأيت إلا زيدا: عمَّ نظري الناس إلا زيدا وذلك غير جائز. بخلاف لم أر إلا زيدا فإن حقيقته لم أر من الناس إلا زيدا وذلك جائز. فإن كان في الإيجاب معنى النفي لعومل معاملته نحو: عدمتُ إلا زيدا، وصمت إلا يومَ الجمعة، فإنهما بمعنى لم أجد ولم أفطر. ومن النفي بالمؤوّل قولهم: قلّ رجلٌ يقول ذلك إلا زيدا، وأقل رجل يقول ذلك إلا زيدا. وأشرت بقولي "وربما حُذف عامل متروك" إلى قول الشاعر: تَنُوطُ التَّميمَ وتأبى الغَبُو ... ق من سنة النوْمِ إلّا نهارا يصف امرأة بالتنعّم وكثرة الراحة، فهي تأبى أن تغتبق، أي تغتذي بالعشيّ لئلا يعوقها عن الاضطجاع للراحة. ثم قال: إلا نهارا، يريد لا تغتذي الدهر إلا نهارا. هذا معنى قول الفارسي. وأولى من هذا التقدير أن يكون أراد، وتأبى الغبوق والصبوح إلا نهارا، فحذف المعطوف وأبقى المعطوف عليه وهو كثير. ومما حمل على ذلك قوله تعالى (سرابيلَ تقيكم الحَرّ) أي الحرّ والبرد وقول امرئ القيس:

كأنّ الحصا مِن خَلْفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أعْسَرا أراد إذا نجلته رجلها ويدها. وقولي "وإن لم يترك المستثنى منه فللمستثنى بإلا النصب مطلقا" نبّهت به على أن المستثنى بإلا إذا ذُكر المستثنى منه يُنصب في الموجب وغيره، لكن في الموجب لا يشارك النصب، وفي غير الموجب يشاركه البدل راجحا، أو مرجوحا. والمراد بالموجب ما لم يشتمل عليه نهي أو نفي صريح أو مؤول، وغير الموجب ما اشتمل عليه بعض ذلك، وسيأتي الجميع مفصّلا إن شاء الله تعالى. ثم قلت: "بها لا بما قبلها" مشيرا إلى الخلاف في ناصب المستثنى بإلّا، واخترت نصبه بها نفسها، وزعمت أني في ذلك موافق لسيبويه وللمبرد وللجرجاني وقد خفي كون هذا مذهب سيبويه على جمهور الشراح لكتابه. وأنا أستعين الله على بيان ما خَفى عليهم من ذلك بنصوص يعضد بعضُها بعضا، وبعد استيفاء ذلك أقيم الدلالة على صحته وفساد ما سواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فمن ذلك قوله في الباب الثاني من أبواب الاستثناء بإلا يكون الاسم بعدها على وجهين: أحدهما ألّا تغيّر الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق، كما أن "لا" حين قلت: لا مرحبًا ولا سلامةً، لم تغيّر الاسم عن حاله قبل أن تلحق، فكذلك إلّا، ولكنها تجيء لمعنى كما تجيء لا لمعنى. والوجه الآخر أن يكون الاسم بعدها خارجا مما دخل فيه (عاملا فيه) ما قبله من الكلام، كما تعمل "عشرون" فيما بعدها إذا قلت: "عشرون درهما". فجعل إلا نظيرة "لا" المحمولة على "إنّ" في أنّ ما تدخل عليه تارة تصادفه

مشغولا بعامل غيرها فتؤثر في معناه دون لفظه، وتارة تصادفه غير مشغول بعامل غيرها فتؤثر في لفظه ومعناه ثم صرّح بأن العامل في زيد من نحو قاموا إلا زيدا ما قبله من الكلام، فإما أن يريد بما قبله إلا وحدها أو الفعل وحده أو كليهما، فدخول "من" مانعٌ من أن يريد كليهما، لأنها للتبعيض لا لبيان الجنس. فإن التي لبيان الجنس لا تدخل بعد "ما" إلا على نكرة كقوله تعالى (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء) وقوله تعالى: (واعملوا أن ما غنمتم من شيء) وقوله تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله) فلو كانت "من" في قول سيبويه لبيان الجنس لم تدخل على الكلام معرفا، بل كانت تدخل عليه منكرا، وإذا لم تدخل عليه إلا معرّفا فهي للتبعيض. ويلزم من ذلك انتفاء أن يريد ثبوت كليهما وثبوت إرادة الفعل وحده أو إلّا وحدها. وإرادة إلّا أولى لأنها قبل المستثنى لا قبل غيره والفعل قبله وقبل غيره فإرادته مرجوحة وإرادة إلّا راجحة، ولأنّ ما قبل الشيء إذا لم يُرَد به الجميع حمل على الذي يلي، ولهذا إذا قال النحوي: ياء التثنية مفتوح ما قبلها، وياء الجميع مكسور ما قبلها علم محل الفتحة والكسرة. ويعضد إرادة إلّا قوله: "تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت عشرون درهما" فجعل موقع المستثنى من عامله كموقع الدرهم من العشرين، فعُلِم أنه لم يُرد الفعل لأنه منفصل مُكتف بخلاف إلّا فإنها مثل العشرين في الاتصال وعدم الاكتفاء فكانت مرادة. وأظهر من هذا قوله في خامس أبواب الاستثناء: "حدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بعربيته يقول مررت بأحد إلا زيدا، وما أتاني أحد إلا زيدا، ثم قال سيبويه: وعلى هذا ما رأيت أحدا إلا زيدا، فتنصب زيدا على غير رأيت، وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلا من الأول، ولكنك جعلته منقطعا مما عمل في الأول، وعمل

فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم". فصرّح بأن نصب زيد في المثال المذكور على لغة مَن لا يُبْدِل، إنما هو بغير رأيت فتعيّن نصبه بإلا. ولم يكتف بذلك التصريح حتى قال: "ولكنك جعلته منقطعا عما عمل في الأول" فهذان تصريحان لا يتطرق إليهما احتمال غير ما قلنا إلا بمكابرة وعناد. وقال في تاسع أبواب الاستثناء بعد أن مثل بأتاني القوم إلا أباك: "وانتصب الأب إذ لم يكن داخلا فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة، وكان العامل فيه ما قبله من الكلام". قلت: فقد جعل علة نصب الأب عدم دخوله فيما دخل فيه ما قبله، والذي دخل فيه ما قبله إسناد المعنى إلى المعنى وتأثر اللفظ باللفظ، فلزم من ذلك ألا يكون لفظ الأب منصوبا بلفظ أتى، كما لم يكن لمعناه حظّ في معناه، وإذا لم يكن النصب بأتى تعيّن أن يكون بإلّا. فحاصل كلام سيبويه أن إلّا هي الناصبة لما استثني بها إذا لم يكن بدلا ولا مشغولا عنها بما هو أقوى. ومن نسب إليه خلافَ هذا فقد تقوّل أو غلط فيما تأول، تغمّدنا الله وإياهم برحمته وأوزعنا شكر نعمته. وأمّا المبرّد فحكى عنه السيرافي أن نصب المستثنى بعد إلّا بأستثني مضمرا، وكلامه في المقتضب بخلاف ذلك، فإنه قال في أبواب الاستثناء: "وذلك أنك إذا قلت جاءني القوم وقع عند السامع أن زيدا فيهم، فلما قلت إلا زيدا كانت إلا بدلا من قولك لا أعني زيدا أو استثنى ممن جاءني زيدا فكانت بدلا من الفعل" فهذا نصه. بينا أن العامل "إلّا" وأنها بدل من الفعل، ولو كان الفعل عاملا لكان في حكم الموجود ولزم من ذلك جمع بين البدل والمبدل منه في غير إتباع ولا ضرورة. وممن قال بهذا القول من المتأخرين عبد القاهر الجرجاني وإذ قد بيّنت النصوص الشاهدة بأني فيما اخترته موافق لسيبويه، فلم يبق إلّا تبيين ما يدل على صحة ذلك فأقول مستعينا بالله تعالى:

العامل في الاسم على ضربين: قياسيّ واستحسانيّ، فالقياسي ما اختص به ولم يكن كجزء منه، وإلّا كذلك فيجب لها العمل، كوجوبه لسائر الحروف التي هي كذلك، ما لم تتوسط بين عامل مفرغ ومعمول فتلغى وجوبا إن كان التفريغ محققا نحو ما قام إلا زيد، وجوازا إن كان مقدرا نحو ما قام أحد إلا زيد، فإنه في تقدير ما قام إلا زيد، لأن أحدا مبدل منه والمبدل منه غالبا في حكم الساقط. وقد شبه سيبويه إلا فيما قام إلا زيد بلا في لا مرحبا، لأن كل واحدة منهما دخلت على كلام عمله بعضه في بعض فلم تغيّر منه شيئا، فكما لم يلزم من كون لا غير عاملة في لا مرحبا إبطال عملها في لا مرحبا بك عندنا، لا يلزم من كون إلا غير عاملة في ما قام إلا زيد إبطال عملها في ما قاموا إلا زيدا. فإن قيل قاعدة الدلالة على إلحاق إلا بالعوامل إنما هي دعوى اختصاصها بالاسم قلت ودخولها على الفعل ليس مانعا من اختصاصها بالاسم لأن كل فعل دخلت عليه مؤول باسم، ولذا قالوا في نشدتك اللهَ إلّا فعلت معناه ما أسألك إلا فِعْلك. وقال سيبويه بعد أن ذكر قول العرب: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضرّ: "فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان والضرر، كما أنك إذا قلت ما أحسنَ ما كلّم زيدا فهو بمنزلة ما أحسن كلامه زيدا، ولولا "ما" لم يجز الفعل بعد إلا في ذا الموضع كما لم يجز بعدما أحسن بغير ما". فشبه إلا في طلبها الاسم ومابينتها الفعل المحض بفعل التعجب. قال ابن خروف: ومنعه لوقوع الفعل بعد إلا من غير ذكر "ما" حسن، وهو في الاستثناء بإلا يقبح، ولذلك قال في ذا الموضع. قلت فات ابن خروف أن يقول وذلك في موضع النصب، لأن كل مثال ذكره من الأمثلة التي دخلت فيها إلا على فعل مجرّد من "ما" فهو من باب الاستثناء، لكن الواقع فيه بعد إلا ليس في موضع نصب على الاستثناء. ثم قال ابن خروف: وقد قالت العرب: ما تأتيني إلا قلت حقا،

وما أتيتني إلا تكلمت بالجميل، وما زاد إلا نفع، وما قلّ إلا ضرَّ، وما تكلّم إلا ضحك، وما جاء إلا أكرمته كأنهم قالوا ما تأتيني إلا قائلا حقا، وما أتيتني إلا متكلما بالجميل، وما زاد إلا نافعا، وما قلّ إلا ضارا، وما تكلم إلا ضاحكا، وما جاء إلا مكرَما، فجميع هذه أحوال. فهذا نص سيبويه. ونص أبو الحسن بن خروف في شرح الكتاب مبينا بأن الفعل لا يقع بعد إلا حتى يكون مؤولا باسم. ولو كان مطلق الدخول على الفعل مبطلا للاختصاص بالاسم ما أضيف الاسم إلى فعل، ولا وقع الفعل حالا، ولا مفعولا ثانيا لظنّ، ولا خبر كان أو "إنّ" لأن مواضع كل واحد من هذه المذكورات متسلط عليه عامل من عوامل الأسماء، فكما لم يبطل اختصاص هذه العوامل بالأسماء وقوع الأفعال في مواضع معمولاتها لتأوّلها بأسماء كذلك لا يُبْطل اختصاص إلّا بالأسماء دخولها على فعل مؤوّل باسم. فإن قيل لو كانت إلا عاملة لم يقع الضمير بعدها إلا متصلا كما يقع بعد إنّ وأخواتها والأمر بخلاف ذلك قال الله تعالى (ضلَّ مَن تدعون إلّا إيّاه) وقد مضى أنهم قالوا في الاستثناء المنقطع ما في الأرض أخبث منه إلا إياه، فالجواب من خمسة أوجه: أحدها أن المنصوب بإلا لما كان منصوبا لا مرفوعَ معه أشبه المنصوب على التحذير والنداء، فاستحق الانفصال إن كان مضمرا، كما استحق شبيهه. الثاني لما كان الانفصال ملتزما في التفريغ المحقق والمقدر التزم مع عدم التفريغ، ليجري البابُ على سَنَن واحد. الثالث أنّ "إلّا" لو استثنى بها في حكم جملة مختصر فكُرِه وقوعُه ضميرا متصلا لأنه مختصر بالنسبة إلى المنفصل، والاختصار بعد الاختصار إحجاف. الرابع أن إلا تشبه ما النافية في مرافقة الفعل معنى لا لفظا، وفي الإعمال تارة والإهمال تارة، ومعمول ما إذا كان مضمرا لا يكون إلا منفصلا، فألحقت بها

إلا الخامس أن إلا تشبه لا العاطفة في لزوم التوسط، وجعل ما بعدها مخالفا لما قبلها، ولا العاطفة لا يليها المضمر إلا منفصلا فجرت في ذلك مجراها، ومع ذلك فالمستحق بعد إلا النصب على الاستثناء شُبِّه بالمفعول المباشر عامله فكان له بذلك حظ في الاتصال إذا كان مضمرا فنبّهوا على ذلك بقول الشاعر: وما أُبالي إذا ما كنتِ جارتَنا ... ألّا يُجاورنا إلّاكِ دَيّارُ وقول الآخر: أعوذ بربّ العرش من فِئةٍ بَغَتْ ... عليَّ فما لي عَوْضُ إلّاهُ ناصِرُ وليس هذا ضرورة لتمكّن قائل الأول من أن يقول: وما أبالي إذا ما كنتِ جارتنا ... ألا يكونَ لنا خِلٌّ ولا جارُ ولتمكّن قائل الثاني من أن يقول: أعوذ برب العرش من فئة بغت ... عليّ فما لي غيرُه عوضُ ناصرُ وأيضا فإن المعروف في كلام العرب إيقاع المنفصل موقع المتّصل للاضطرار كقول الشاعر: بالوارث الباعث الأمواتِ قد ضمِنَتْ ... إيّاهم الأرضُ في دَهْر الدهارير وأما وقوع المتصل موقع المنفصل للاضطرار فغير معروف. فلو لم يكن الأصل في الضمير المنصوب على الاستثناء بعد إلا الاتصال لم يَسُغ لقائلَيْ البيتين المذكورين أن يفعلا ما فَعَلا، كما لا يسوغ في المعطوف ولا في المفعول معه. فإن قيل: لو كانت إلا عاملة لجرّت، لأن الجرّ هو اللائق بعمل الاسم الذي لا يشبه الفعل، ولذا حكم لعدا وخلا وحاشى بالحرفية إذا جَرَّتْ، وبالفعليّة إذا نصبَتْ.

فالجواب لا نسلّم أن اللائق بعامل الاسم الذي لا يشبه الفعل هو الجر خاصة، بل اللائق به عمل لا يصلح للفعل، وهو جر أو نصب لا رفع معه، فكان النصب أولى بالأربعة لأنه أخف من الجر، لكن منعت منه عدا وأختاها، لأنهن يكنّ أفعالا فيستوْجبْنَ النصب حينئذ، فلو عملته وهنّ أحرف لجُهلتْ الحرفية فتعين (الجر) بهنّ إذا كنَّ أحرفا، ولم يمنع من النصب بإلا مانع فعملت، وأيضا فإن إلا مخصوصة بكثرة الاستعمال والتعرض للتكرار، فأُوثِرتْ من بين أخواتها الحرفية بأخف الإعرابين. وإذ قد بيّنت أن الصحيح كون إلا عاملة نَقْلا واستدلالا فأذكر ما سوى ذلك من المذاهب مقرونةً بشُبهِها وبالحجج الواضحة والله المستعان. وجملتها خمسة: أولها مذهب السيرافي، وهو أن النصب بما قبل إلا من فعل أو غيره بتعدية إلا. ويُبطل هذا المذهب صحة تكرير الاستثناء نحو قبضت عشرة إلا أربعة إلا درهما إلا ربعا، إذ لا فعل في المثال المذكور إلا قبضت، فإذا جُعل معدّى بإلا لزم تعديته إلى أربعة بمعنى الحطَّ، وإلى الدرهم بمعنى الجَبْر، وإلى الربع بمعنى الحطّ، وذلك حكم بما لا نظير له، فإنه استعمال فعل واحد معدّى بحرف واحد على معنيين متضادين. وكذا لو كررت إلا دون عطف في المعنى نحو قاموا إلا زيدا إلا عمرا فإن الثاني موافق للأول في المعنى، فلو جُعلا منصوبين بالفعل معدّى إليهما بإلا لزم من ذلك عدم النظير، إذ ليس في الكلام فعل معدّى بحرف واحد إلى شيئين دون عطف فوجب اجتنابه. الثاني أن الناصب ما قبل إلا على سبيل الاستقلال ? وهو قول ابن خروف ? وهو أيضا حكم بما لا نظير له، وذلك أن المنصوب على الاستثناء بعد إلا لا مقتضى له غيرُها لأنها لو حذفتْ لم يكن لذكره معنى، فلو لم تكن عاملة فيه ولا موصلة عمل ما قبلها إليه مع اقتضائها إياه لزم عدم النظير فوجب اجتنابه. والذي دعا ابن خروف إلى هذا الرأي انتصاب "غير" إذا وقعت موقع إلا المنتصب ما بعدها نحو قاموا غيرَ زيد، فنصبوها على الاستثناء بلا واسطة، قال فلو كان

المنصوب على الاستثناء مفتقرا إلى واسطة لم تنصب غير بلا واسطة، وجرَّأه على هذا أيضا قول سيبويه في باب غير: "ولو جاز أن تقول أتاني القوم زيدا تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصبا". والجواب عن نصب غير بلا واسطة أنه منصوب على الحال وفيه معنى الاستثناء، كما أن ما وصلتها في نحو قاموا ما عدا زيدا مصدر بمعنى الحال وفيه معنى الاستثناء. هذا هو اختيار السيرافي في ما عدا وما خلا، وهو الصحيح، ولا يمنع من ذلك كونه معرفة، فإن وقوع المعرفة حالا لتأوّلها بنكرة سائغ شائع. وذهب ابن خروف والشلوبين إلى نصْب ما وصلتها على الاستثناء، وهو غلط منهما، لأن المنصوب على معنى لا يقوم ذلك المعنى بغيره، ومعنى الاستثناء قائم بما بعد ما وصلتها، لا بها كما هو قائم بما بعد غير، فلا يصح القول بأنهما منصوبان على الاستثناء، لأنهما مستثنى بهما لا مستثنيان. وقد ذهب أبو علي في التذكرة إلى ما ذهبت إليه من أنّ "غير" في قاموا غير زيد حال، وهو الظاهر من قول سيبويه في باب غير، بعد تمثيله بأتاني القوم غير زيد، فغير الزيدين جاءوا ولكنه فيه معنى إلا. هذا نصه. والجواب عن قوله لو جاز أن يقول أتاني القوم زيدا تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصبا أن يحمل على حذف إلا وإبقاء عملها، أو على حذف غير وإقامة زيد مقامها في الإعراب كما فُعِل بكل مضاف إليه إذا حذف المضاف وأقيم هو مقامه. الثالث أن الناصب بعد إلا مضمرا ? وهو قول الزجاج- عزاه إليه وإلى المبرد السيرافي. وهذا أيضا مردود، لمخالفته النظائر، إذ لا يجمع بين فعل وحرف يدل

على معناه لا بإضمار ولا بإظهار. ولو جاء ذلك لنصب ما ولى "ليت وكأن ولا" بأتمنّى وأشبّه وأنفي، وفي الإجماع على امتناع ذلك دلالة على فساد إضمار استثنى. الرابع قول الفراء، عزاه إليه السيرافي، وهو إلّا مركبة من لا وإنْ المخففة من إنّن وهو قول فاسد من أربعة أوجه: أحدها أنه مبنيّ على ادّعاء التركيب، ولا دليل عليه فلا يلتفت إليه. الثاني أنه لو صح التركيب لم يصح العمل الذي كان قبله، لأن المعنى قد تغيّر معه، وكل تركيب يتغير معه المعنى يتغير معه الحكم، كتركيب إذ ما وحيثما، فإنه أحدث معنى المجازاة والعمل اللائق بها وأزال معنى الإضافة والعمل اللائق بها، فلو كانت إلا مركبة لم يبق عمل ما رُكِّبت منه لزوال معناه وتجدّد معنى الاستثناء. الثالث أنه لو صح التركيب من لا وإن المخففة لم يلزم نصب ما ولى إلا في موضع ما ولكان غير النصب به أولى كما كان قبل التركيب، بل كان اللائق به بعد التركيب امتناع النصب، لازدياد الضعف بالتركيب، وأمر ما ولى إلا بخلاف ذلك فبطل التركيب: الرابع لو صح التركيب وكون المنصوب منصوبا بعد إلا بإن على حد نصبه بإنّ لوجب ألا يتم الكلام بالمنصوب مقتصرا عليه كما لا يتم بعد إنّ، لأن العامل المنقوص لا ينتقص عمله. وعزا السيرافي مذهبا خامسا إلى الكسائي، وهو نصب ما بعد إلا بأنّ مقدّرة، وهو قول في غاية من الضعف، لأنه مبني على ادّعاء تقدير ما لا دليل عليه ولا حاجة إليه. ولأنه لو سلّم تقدير أن يلزم أن يكون لها عامل يعمل فيها، لأنها مع ما تعمل فيه في تأويل مصدر فيجعل الذي عمل فيها عاملا فيما قدّرت من أجله ويستغنى عنها. وأيضا لو كانت أنّ مقدرة لم يتم الكلام بمنصوبها مقتصرا عليه كما لا يتم به إذا ذكرت، لأن العامل إذا حذف لا يختصر عمله. ص: فإن كان المستثنى بإلا متصلا مؤخرا عن المستثنى منه المشتمل عليه نهي أو معناه أو نفي صريح أو مؤول غير مردود به كلام تضمن الاستثناء اختير فيه متراخيا النصب، وغير متراخ الإتباع إبدالا عند البصريين وعطفا عند الكوفيين. ولا يشترط في جواز نصبه تعريف المستثنى منه خلافا للفراء، ولا في جواز الإبدال عدم الصلاحية للإيجاب خلافا لبعض القدماء. وإتباع المتوسط بين المستثنى منه وصفته أولى من النصب خلافا للمازني في العكس. ولا يتبع المجرور بمن والباء الزائدتين ولا اسم لا الجنسية إلا باعتبار المحل.

ش: قد تقدم أن حكم المستثنى بإلا إذا ذكرتَ المستثنى منه النصب مطلقا، وأن المراد بالإطلاق الموجب وغير الموجب. والغرض الآن تبيين المواضع التي يشرك فيها بين النصب والبدل، فإذا أحصيت علم أن لما سواها النّصب متعيّنا. وبدأت من المواضع المشاركة بما يكون فيه البدل راجحا، فلذلك قلت: "فإن كان المستثنى بإلا متصلا" فأخرت الكلام على المستثنى المنقطع، فإن النصب فيه راجح أو واجب، وكذلك المستثنى المقدَّم، ولذلك قلت "متصلا مؤخرا" وسنين ذلك (كله) إن شاء الله تعالى. وقيّدت المستثنى منه المجوّز فيه النصب والبدل، بالمشتمل عليه نهي أو معناه أو نفي صريح احترازا من الموجب نحو ذهبوا إلا زيدا، وستظفرون إلا عمرا، وقلت المشتمل عليه ولم أقل الكائن معه أو نحو ذلك تنبيها على أن النهي أو النفي قد يوجد ولا يكون له حكم، لكونه منقوضا نحو: لا تأكلوا إلا اللحم إلا زيدا، وما شرب أحد إلا الماء إلا عمرا، فإن هذا وأمثاله بمنزلة ما لا نهي فيه، إذ المراد كلوا اللحم إلا زيد، وشربوا الماء إلا عمرا. ومن هذا القبيل ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخاك، ذكره أبو علي في التذكرة، وقال: لا يجوز كون قائم صفة لأحد، لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف، ولا كونه حالا من التاء، لأن معنى ما مررت إلا قائما: مررت بقائما، ولو قلت مررت قائما بأحد لم يجز فكذا ما في معناه. وإذا بطل هذا نسب إلى أن قائما حال من أحد، وأخاك منصوب به لأنه بعد إيجاب. وأشرت بالمشتمل عليه نهي أو معناه إلى قول عائشة رضي الله عنها "نهى عن قتل جِنّان البيوت الأبتر وذو الطُّفيتين" فغنه محمل على تقدير لا يقتل جنان البيوت إلا الأبتر. والنفي الصريح الظاهر، والمؤول كقوله تعالى (ومَنْ يغفر الذنوب

إلا اللهُ) و (مَن يقنطُ من رحمة ربِّه إلا الضّالُّون) فهذا وأمثاله استفهام في اللفظ ونفي في المعنى. فالله بدل من الضمير في يغفر، والضالون بدل من الضمير في يقنط. وأكثر ما يكون معنى النفي في الاستفهام إذا كان بهل أو مَن، وقد يكون الاستفهام بأيّ، ولذلك عطف بعدها بولا في قول الشاعر: فاذهب فأيُّ فتًى في الناسِ أحْرَزَهُ ... عن حتفه ظلمٌ دُعْجٌ ولا جَبَلُ فلو قيل على هذا أيُّ الناس يَبْطَر بالغِنى إلا الجاهلون على الإبدال من فاعل يبطر لحسُنَ. ومن النفي المؤول: قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد، بمعنى ما رجل يقول ذلك إلا زيد، وكذا أقلّ رجل (يقول) ذلك إذا قُصِد به النفي. ومن النفي المؤول قراءة بعض السلف "فشربوا منه إلا قليلٌ" لأن قبله: "فمَن شَرَب منه فليس مني" فبذلك صار شربوا منه بمعنى لم يكونوا منه. ومن النفي المؤول ما أنشد الأخفش من قول الشاعر: لِدمٍ ضائعٍ تَغَيَّبَ عنه ... أقْربُوهُ إلا الصَّبا والجَنُوبُ ومن قول الآخر: وبالصَّريمة منهم منزلٌ خَلَقٌ ... عافٍ تغيَّر إلا النُّؤْيُ والوَتَدُ لأن تغيّب بمعنى لم يحضر، وتغيّر بمعنى لم يبق على حاله. وقولي "غير مردود به كلام تضمن الاستثناء" أشرت به إلى نحو أن يقول قائل: قاموا إلا زيدا، وأنت

تعلم أن الأمر بخلاف ذلك، فتدخل النفي وتأتي بالكلام مثل ما كان نطق به المردود عليه، فتنصب زيدا ولا ترفعه، لأنك لم تقصد معنى ما قام إلا زيد. وكذلك إذا قال: لي عندك مائةٌ إلّا درهمين، فأردت جحد ما ادّعاه فإنك تقول: مالك عندي مائة إلا درهمين، فيكون هذا بمنزلة قولك مالك عندي الذي ادّعيته. ولو رفعت الدرهمين مقرّا بهما جاحدا الثمانية والتسعين، لأن المستثنى المبدل مما قبله في حكم الاستقلال فكأنك قلت إذا رفعت مالك عندي إلا درهمان. وإذا اجتمع في المستثنى بإلا جميع ما أشير إليه من الاتصال والتأخر وكونه مشتملا عليه نهي أو نفي صريح أو مؤوّل وكونه غير مردود به كلام وغير متراخٍ اختير إتباعه بدلا عند البصريين وعطفا عند الكوفيين. قال أبو العباس ثعلب: كيف يكون بدلا وهو موجب ومتبوعه منفيّ؟ وأجاب السيرافي بأن قال: هو بدل منه عمل العامل فيه وتخالفهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البدلية، لأن مذهب البدل فيه أن يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه، وقد يتخالف الموصوف والصفة نفيا وإثباتا نحو: مررت برجل لا كريم ولا لبيب. قلت: ولمقوّى العطف أن يقول تخالف الموصوف والصفة كما لو لم يتخالف، لأن نفي الكرم واللَّبابة إثبات لضدَّيهما، وليس لضدّيهما تخالف المستثنى والمستثنى منه، فإن جعل زيد بدلا من أحد إذا قيل ما فيها أحدٌ إلا زيد يلزم منه عدم النظير، إذ لا بدل في غير محل النزاع إلا وتعلّق العامل به مساوٍ لتعلقه بالمبدل منه، والأمر في زيد وأحد بخلاف ذلك فيضعف كونه بدلا، إذ ليس في الإبدال ما يشبهه. وإن جُعل معطوفا لم يلزم من ذلك مخالفة المعطوفات، بل يكون نظيرا لمعطوف بلا وبل ولكن، فكان جعلُه معطوفا أولى من جعله بدلا. وإنما رجح الإتباع في غير الإيجاب على النصب لأن معناه ومعنى النصب واحد، وفي الإتباع تشاكل اللفظين. فإن تباعَدا تباعُدا بيّنا رَجَح النصب كقولك ما ثبت أحد في الحرب ثباتا نفع الناسَ إلا زيدا، ولا تنزلْ على أحد من بني تميم إن وافيتهم إلا قيْسا، لأن سبب ترجيح الإتباع طلب التشاكل وقد ضعف داعيه بالتباعُد.

والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يختلي خَلاها ولا يُعْضَد شوكُها" فقال له العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فقال: إلا الإذْخِر" وقد يكون من هذا "ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيُه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" وإليه الإشارة بقولي "اختير متراخيا النصب وغير متراخ الإتباع". وعلّل قوم هذا النوع بعروض الاستثناء. قال ابن السراج: فإن لم تقدر البدل وجعلته كقولك ما قام أحد، كلاما تاما لا يُنوى فيه الإبدال من أحد ثم استثنيت نصبت فقلت ما قام أحد إلا زيدا، يكون للزوم النصب بعد النفي سببان، التراخي وعروض الاستثناء. وجواز النصب عند الفراء مع صحة الإتباع مشروط بتعريف المستثنى منه كقوله تعالى (ما فعلوه إلا قليل منهم)، فالنصب في مثل هذا جائز بإجماع، لأن المستثنى منه معرفة بخلاف قوله تعالى (ولم يكن لهم شهداءُ إلّا أنفسهم) فإن الاستثناء فيه من نكرة، فيلزم فيه على مذهب الفراء الإتباع، ولا حجة له لأن النصب هو الأصل، والإتباع داخل عليه، وقد رجح عليه لطلب المشاكلة، فلو جُعل بعد ترجيحه عليه مانعا منه لكان ذلك إجحافا بالأصل، فضعف بهذا الاعتبار قول الفراء. وقد يرد عليه أيضا قوله تعالى (ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك) في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، على أن يجعل امرأتك مستثنى من أحد لا من الأهل لتتفق القراءتان في الاستثناء من شيء واحد، ولأنه قد قد قيل إنه أخرجها معهم وأمر ألا يلتفت أحد منهم إلا هي فلما سمعت هوة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه فأدركاه حجر فقتلها. ويمكن في قراءة ابن كثير وأبي عمرو أن يجعل امرأتك مبتدأ، وأنه مصيبها

ما أصابهم خبره، والاستثناء منقطع. وقد روى سيبويه عن يونس وعيسى جميعا أن بعض العرب الموثوق بعربيتهم يقول: ما مررت بأحد إلا زيدا، وما أتاني أحد إلا زيدا بالنصب بعد النكرة. وهذا يقتضي جواز ما ادّعى الفراء امتناعه، فرأيه في المسألة مردود، وباب الإصابة عنه مسدود. وحكى سيبويه عمّن لم يسمّه أن المنفي إذا جاز في لفظه الإيجاب لم يجز فيه إلا النصب على الاستثناء نحو ما أتاني القوم إلا أباك، لأنه بمنزلة أتاني القوم إلا أباك. وردّ ذلك سيبويه وهو بالردّ حقيق خالفه السماع والقياس، فمن السماع الدال على البدل قوله تعالى (ما فعلوه إلا قليل منهم) وفعلوه يقع في الإيجاب. وأما القياس فإنه يقتضي جواز البدل أيضا، وذلك لأن المسوغ للبدل فيما أجمع على جواز البدل فيه الصلاحية لحذف المستثنى منه وإقامة المستثنى مقامه، وذلك موجود في نحو: ما أتاني القوم إلا أبوك كما هو موجود في ما أتى أحد إلا أبوك، فوجب تساويهما في الحكم بجواز البدل، كما تساويا في تضمن المتبوع. وإذا توسّط المستثنى بين المستثنى منه وصفته نحو ما فيها أحد إلا زيد خير من عمرو فالإتباع عند سيبويه والمبرد أولى من النصب. ومذهب المازني عكس ذلك، والصحيح ما ذهب إليه سيبويه، لأن الصفة فضلة فلا اعتداد بالمقدم عليها، ولأن المستثنى في نحو ما جاء أحد إلا زيد إنما رجح اتباعه على نصبه، لأنه إذا أتبع تشاكل ما قبله لفظا ولم يختلف المعنى، فإذا أتبع وبعده صفة متبعة شاكل ما قبله ما بعده، فكان إتباعه متوسطا أولى من إتباعه غير متوسط. قال المبرد: وكان المازني يختار النصب ويقول: إذا أبدلت من الشيء فقد طرحته من لفظي وإن كان في المعنى

موجودا، فكيف أنعتُ ما قد سَقط. قال المبرد: "والقياس عندي قول سيبويه، لأن الكلام إنما يراد لمعناه، والمعنى الصحيح أن البدل والمبدل منه موجودان معا، لم يُوضعا على أن يسقط أحدهما إلا في بدل الغلط، فإن المبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام". ولا يتبع المستثنى منه إن كان مجرورا بمن الزائدة على اللفظ، بل على المحلّ، وكذا المجرور بالباء الزائدة، وكذا اسم "لا" المحمولة على إنّ، فمثال الأول ما فيها من أحد إلا زيد، ومثال الثاني ليس زيد بشيء إلا شيئا لا يُعبأ به، ومثال الثالث لا إله إلا الله. فرفعت البدل من أحد لأنه في موضع رفع بالابتداء، ولم تحمله على اللفظ فتجرَّه، لأنه معرفة موجب، ومن الزائدة لا تجرّ إلا منكّرا غير موجب. ونصبت المبدل من شيء، لأنه في موضع نصب بليس، ولم تحمله على اللفظ فتجرَّه لأنه خبر موجب، ولا عمل للباء الزائدة في خبر موجب. ورفعت المبدَل من اسم "لا" لأنه في موضع رفع بالابتداء، ولم تحمله على اللفظ فتنصبَه لأنه معرفة موجب، ولا إنما تعمل في منكّر منفيّ. ومن الاتباع على محلّ المجرور بالباء الزائدة قول الشاعر: أبَنِي لبينى لستمُ بيَد ... إلا يدًا ليست لها عَضُدُ ص: وأجاز التميميون إتباع المنقطع المتأخّر إنْ صحّ إغناؤه عن المستثنى منه وليس من تغليب العاقل على غيره فيخص بأحد وشبهه خلافا للمازني. وإن عاد ضمير قبل المستثنى بإلا الصالح للإتباع على المستثنى منه العامل فيه ابتداء أو أحد نواسخه أتْبع الضمير جوازا وصاحبه اختيارا، وفي حكمهما المضاف والمضاف إليه في نحو ما جاء أحد إلا زيد: وقد يجعل المستثنى متبوعا والمستثنى منه تابعا. ولا يقدم دون شذوذ المستثنى على المستثنى منه والمنسوب إليه معًا، بل على أحدهما. وما شذ عن ذلك فلا يُقاس عليه خلافا للكسائي.

ش: لغة بني تميم إعطاء المنقطع المؤخّر من مستثنيات إلّا في غير الإيجاب من الإتباع ما للمتصل فيقولون: ما فيها أحد إلا وتدٌ، كما يقول الجميع ما فيها أحد إلا زيد، ويقرءون (ما لهم به من علم إلّا اتّباعُ الظَّنّ) بالرفع، إلا مَن لُقِّن النصب. وعلى لغتهم قول الراجز: وبلدةٍ ليس بها أنيسُ ... إلّا أليعافيرُ وإلا العيسُ ومثله قول الفرزدق: وبنتَ كريم قد نَكحنا ولم يكنْ ... لنا خاطِبٌ إلا السِنانُ وعامِلُهْ ويلحق بهذا الإتباع إتباع أحد المتباينين للآخر نحو: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. وهما من أمثلة سيبويه، وما أتاني أحد إلا عمرو، وما أعانه إخوانه إلا أنا. فجعل مكان أحد بعض مدلوله وهو زيد وإخوانكم. ولو لم يذكر الرجلان فيمن نفى عنه الإتيان والإعانة، لكن ذكرا توكيدا لقسطهما من النفي ورفعا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يعرض له هذا الذي أكد به فذكره توكيدا، واستشهد سيبويه بقول الشاعر: والحربُ لا يبقى لِجا ... حِمها التخيّلُ والمَراحُ إلّا الفتى الصبَّارُ في النْـ ... نَجداتِ والفرسُ الوَقاحُ

وبقول الآخر: عشيّةَ لا تُغْني الرماحُ مكانَها ... ولا النبلُ إلا المشرفِيُّ المُصَمِّمُ وشرط الإتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه والاستغناء عنه بالمستثنى. وهذا الشرط موجود في كل ما مثَّلتُ به. فإن لم يوجد الشرط تعيّن النصب عند الجميع كقوله تعالى (لا عاصِمَ اليومَ من أمر الله إلّا مَن رحم). فمن رحم في موضع نصب على الاستثناء، ولا يجوز فيه الإتباع، لأن الاستغناء به عما سبقه متكلف. ومن هذا القبيل قول الشاعر: ألا لا مُجيرَ اليومَ ممّا قضتْ به ... صوارمُنا إلا امرأ دانَ مُذْعِنا وما أتبع من المنقطع عند التميميين ملتزم النصب عند الحجازيين. ولهذا أجمع القراء على نصب إلا اتباع الظن كما أجمعوا على نصب "ما هذا بشرا"، لأنه نزل بلغة الحجازيين إلا قليلا، فمن القليل المنزل بلغة التميميين (ومن يشاقّ الله) في سورة الحشر. و (مَن يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم) في قراءة غير نافع وابن عامر، فإن الإدغام في المجزوم والأمر لغة تميم، والفك لغة الحجاز ولذلك كثر نحو (ومَن يرتدد منكم عن دينه فيَمُتْ) و (وليُمْلِل الذي

عليه الحقُّ) و (ولْيُملل وَليُّهُ) و (يُحْبِبكم الله) و (يُمْددكم ربُّكم) و (مَن يغللْ يأت بما غلَّ) و (ومَن يشاقق) في النساء و (ومَن يُحادِدْ) و (ومَن يُضْلِل) و (استفْزِز) و (فلْيَمْدُدْ) و (واحْلُل عُقْدةً) و (اشْدُدْ به أزرِي) و (ومَن يحلل عليه غضبي) وهو كثير. وزعم الزمخشري أن قوله تعالى (لا يعلمُ من في السموات والأرض الغيبَ إلا اللهُ) استثناء منقطع جاء على لغة تميم: لأن الله تعالى وإن صحّ الإخبار عنه بأنه في السموات والأرض فإنما ذلك على المجاز لأنه مقدّس عن الكون في مكان بخلاف غيره، فإذ أُخبر عنه بأنه في السموات أو في الأرض فإنه كائن فيهما حقيقة، ولا يصح حمل اللفظ في حال واحد على الحقيقة والمجاز. والصحيح عندي أن الاستثناء في الآية متصل، وفي متعلقة بغير استقرّ من الأفعال المنسوبة على الحقيقة إلى الله تعالى، وإلى المخلوقين بذكر ويُذْكر، فكأنه قيل لا يعلم مَن يذكر في السموات والأرض الغيب إلا الله. ويجوز تعليق في باستقر مسندا إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، والتقدير لا يعلم من استقرّ ذكره في السموات والأرض الغيب إلا الله،

ثم حُذِف الفعل والمضاف واستتر الضمير لأنه مرفوع. هذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حال واحدة، وليس عندي ممتنعا، لقولهم: القلم أحد اللسانين، والخال أحد الأبوين، وقوله تعالى (إنَّ الله وملائكتَه يُصَلُّون على النبيّ)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "الأيدي ثلاثة يدُ الله ويد المعطي ويد السائل). وزعم المازني أن إتباع المنقطع من تغليب ما يعقل على ما لا يعقل. قال ابن خروف قاصدا هذا المذهب: "وهو فاسد، لأنه لا يتوهم ذلك إلا في لفظ أحد، والذي يبدل منه في هذا الباب وليس بلفظ أحد أكثر من أنْ يُحصى" انقضى كلامه. قلت: وقد يكون قبل المستثنى بإلا الصالح للإتباع اسم ظاهر ومضمر يعود إليه فيُخيَّر المستثنى بين إتباع الظاهر وإتباع المضمر مع ترجيح إتباع الظاهر وذلك في نحو ما أحد يقول ذلك إلا زيد، وما حسبتُ أحدا يفعل ذلك إلا زيدا، وما كان أحد يجترِئ عليك إلا زيد، فلك أن تجعل زيدا تابعا للمضمر ولك أن تجعله تابعا لما يعود إليه المضمر وهو أولى، لأن المسوِّغ للإتباع هو النفي وهو أقرب إلى المعود إليه منه إلى العائد، وجاز إتباع العائد لأن الذي عمل فيه خبر ما دخل عليه النفي، وإذا دخل نفي على ذي خبر فالخبر هو المنفي. ومما أُتبع فيه الضمير مع كون الاستثناء منقطعا قول الشاعر: في ليلةٍ لا نرى بها أحدا ... يحكي علينا إلّا كواكبُها فكواكبها تابع لفاعل يحكى، ونرى بمعنى نعلم، ويحكى بجملة وقعت مفعولا ثانيا، ولذلك جاز اتباع فاعلها. ومعنى يحكى علينا يخبر عنا، وحكم صفة المخبر

عنه بعد النفي حكم الخبر، أعني في التأثر بالنافي. وصحة إتباع ضمير يشتمل عليه كقولك: ما فيهم أحد تُحدِث عنده يدا إلا زيد، بالرفع على إتباع المبتدأ، وإلا زيد بالخفض على إتباع الضمير الذي اشتملت عليه الصفة، لأن المعنى ما اتخذت عنه أحد إلا زيد فلو كان الضمير في غير خبر وغير صفة مخبر عنه امتنع إتباعه، ولزم إتباع الظاهر كقولك ما شكر رجل أكرمته إلا زيدن وما مررت برجل أعرفه إلا عمرو، لأن المعنى ما شكر ممن أكرمتهم إلا زيد، وما مررت بمن أعرفهم إلا بعمرو، فلا تأثير للنفي في أكرمت ولا في أعرفه فهما متباينان، فلذلك امتنع اتباع معموليهما. وهذا فصّلته منبها عليه بقولي "وإن عاد ضمير قبل المستثنى بإلا الصالح للإتباع على المستثنى منه العامل فيه ابتداء أو أحد نواسخه أتْبع الضمير جوازا وصاحبه اختيارا" ثم قلت: "وفي حكمهما المضاف والمضاف إليه في نحو ما جاء أخو أحد إلا زيد" أي في حكم الظاهر والمضمر المتقدم ذكرهما المضافُ والمضاف إليه. كما قلت ما فيهم أحد تخذت عنده يدا إلا زيدٌ وإلا زيدٍ. ثم قلت: "وقد يجعل المستثنى متبوعا والمستثنى منه تابعًا" فنبّهت بذلك على قول سيبويه: حدّثني يونسُ أنّ قوما يوثَق بعربيّتهم يقولون مالي إلا أبوكَ ناصرٌ فيجعلون ناصرا بدلا. قال سيبويه: "وهذا مثل قولك ما مررت بمثلك أحدٍ" قلت: ومثل ما حكى يونس قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: لأنّهمُ يرجونَ منه شفاعةً ... إذا لم يكنْ إلّا النبيونَ شافِعُ وأنشد الفراء:

مقَزَّعٌ أطلسُ الأطْمار ليس له ... إلا الضّراءُ وإلّا صيدُها نَشَبُ ثم قلت: "ولا يُقدّم المستثنى دون شذوذ على المستثنى منه والمنسوب إليه معا بل على أحدهما" فنبهت بذلك على جواز قام إلا زيدا القومُ، والقومُ إلا زيدا ذاهبون، وفي الدار إلا عمرا أصحابُك، وضربت إلا زيدا القومَ. ولهذا قلت والمنسوب إليه، لأن المنسوب إليه يتناول المسند نحو قام إلا زيدا القوم، والواقع نحو ضربت. وفُهم من ذلك امتناع إلا زيدا قام القومُ ونحوه، وذلك أن المستثنى جارٍ من المستثنى منه مجرى الصفة المخصصة (من) الموصوف بها، ومجرى المعطوف بلا من المعطوف عليه، فكما لا يتقدمان على متبوعهما كذا لا يتقدم المستثنى على المستثنى منه إلا إذا تقدّم ما يُشعر به مما هو المسند إليه، أو واقع عليه كقولك ضربت إلا زيدا القومَ وهو ضعيف لأن طلب الفعل لما هو فضلة ليس كطلبه لما هو عمدة، فتقدم ما يطلب المستثنى منه وهو عمدة بمنزلة تقدمه بنفسه، وليس كذلك ما يطلب المستثنى منه وهو فضلة. وقال الأخفش: لو قلت أيْنَ إلا زيدا قومك، وكيف إلا زيدا قومك لجاز، لأن هذا بمنزلة أههنا إلا زيدا قومك. قلت: وقد يكون المستثنى منه جائز التقديم فيقدّر وقوعه مقدّما ويقدّم لذلك المستثنى عليه وعلى ما عمل فيه وأسند إليه، فمن ذلك قول الشاعر: خلا اللهِ لا أرجو سواك وإنما ... أعدُّ عيالي شُعْبةً من عيالكا قدّر أنه قال: سواك خلا اللهِ لا أرجو، فاستجاز مع المقدّر ما استجاز مع المحقّق. ومثله قول الآخر: وبَلْدةٍ ليس بها طُوريّ ... ولا خلا الجنِّ بها إنْسِيُّ

فقدّر أنه قال: ولا بها إنسيٌّ خلا الجن. وهو استثناء منقطع. وفي تقديم "خلا" إشعار بتقديم إلّا لأنها الأصلُ، ولا يقع الفرعُ في موضع لا يقع فيه الأصل. وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي: "دون شذوذ". فصل: ص: لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان، وموهم ذلك بدل ومعمول عامل مضمر، لا بدلان خلافا لقوم. ولا يمتنع استثناء النصف خلافا لبعض البصريين، ولا استثناء الأكثر وفاقا للكوفيين، والسابق بالاستثناء منه أولى من المتأخر عند توسّط المستثنى، وإن تأخّر عنهما فالثاني أولى مطلقا، وإن تقدّم فالأوّل أولى إن لم يكن أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى، وإن يكنه فهو أولى مطلقا إن لم يمنع مانع. وإذا أمكن أن يشترك في حكم الاستثناء مع ما يليه غيره لم يُقتصَر عليه إن كان العامل واحدا، وكذا إن كان غير واحد والمعمول واحد في المعنى. ش: قال ابن السّراج: "فإن استثنيت بعد الأفعال التي تتعدّى إلى مفعولين نحو أعطيت قلت أعطيت الناس دراهم إلا عمرا، ولا يجوز أن يقول إلا عمرا الدنانير، لأن حرف الاستثناء إنما يستثنى به واحد. فإن قلت ما أعطيت أحدا درهما إلا عمرا دانقا، وأردت الاستثناء لم يجز، فإن أردت البدل جاز، فأبدلت عمرا من أحد، ودانقا من درهم، كأنك قلت ما أعطيت إلا عمرا دانقا". قلت وحاصل كلامه جواز أن يقال ما أعطيت أحدا درهما إلا عمرا دانقا، على أن يكون الاسمان اللذان هما بعد إلّا بدلين منصوبين على الاستثناء. وفي هذا ضعف بيّن، لأن البدل في الاستثناء لا بُدَّ من اقترانه بإلا، فكان بذلك أشبه شيء بالمعطوف بحرف. فكما لا يقع بعد حرف معطوفان كذلك لا يقع بعد حرف الاستثناء بدلان. فإن ورد ما يوهم ذلك قُدِّر ناصب للثاني، كما يُقدّر خافض للثاني في نحو:

أكُلَّ امرئٍ تَحْسبين امرأ ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا واشترط بعض البصريين نقصان المخرج بالاستثناء عن الباقي، واشترط أكثرهم عدم الزيادة على الباقي فلا يجوز على القولين: عندي عشرة إلا ستة، ولا على الأول عندي عشرة إلا خمسة وهو على القول الثاني جائز، وكلاهما جائز عند الكوفيين، وهو الصحيح. وممن وافقهم ابن خروف واستدلّ بقوله تعالى: (قم الليلَ إلا قليلا نصفَه) قال فالقليل هو المستثنى وليس معلوم القدْر، فأبدل منه النصف على جهة البيان لمقدار القليل، والضمير عائد إلى الليل والمعنى قم نصْف الليل وأقلّ منه وأكثر منه. قال يخرج من هذا أن المستثنى النصف أو أقل منه أو أكثر منه (عائد إلى ضمير هذا المتقدم ... أو الأقلّ) ولا محيص. قلت ومن استثناء الأكثر قوله تعالى: (ومَن يرغبُ عن ملَّة إبراهيم إلّا مَن سَفِه نفسه) (ومن سفه نفسه) أكثر ممن لم يسفه، فإن المراد بمن سفه المخالفون لملّة إبراهيم وهم أكثر من الذين يتبعونها. ومن استثناء الأكثر قوله تعالى (فلا يأمنُ مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون) لأن القوم الخاسرين هم غير المؤمنين لقوله تعالى: (إنّ الإنسانَ لفي خسر إلّا الذين آمنوا). وإذا توسّط مستثنى بين شيئين يصلح استثناؤه منهما، فالاستثناء من السابق أولى، لأن تأخّر المستثنى عن المستثنى منه هو الأصل فلا يُعدل عنه إلا بدليل. فمن ذلك قوله تعالى (قم الليل إلا قليلا) فالقليل مستثنى من الليل لا من النصف لما ذكرته. والنصف بدل من القليل، وبذلك تبيّن مقدارُ المستثنى واستفيد من الخطاب التخيير

بين قيام النصف أو أقل منه أو أكثر منه، فلو قيل غَلبَ مائةُ مؤمن مائتيْ كافر إلا اثنين لجعل الاستثناء من الآخر مطلقا، أي فاعلا كان أو مفعولا مراعاة للقُرب. وإلى نحو هذا أشرت بقولي: "فإن تأخر عنهما فالثاني أولى مطلقا". فإن تقدم المستثنى على شيئين يصلح للاستثناء من كل واحد منهما ولم يكن أحدهما مرفوعا ولا في معنى مرفوع فالاستثناء من الأول أولى، لأنه أقرب، وذلك نحو استبدلتُ إلا زيدا من أصحابنا بأصحابكم. فإن كان أحدهما مرفوعا فالاستثناء منه أولى وإن تأخر نحو ضرب إلا زيدا أصحابَنا أصحابُكم، وكذا إنْ كان أحدهما مرفوعا في المعنى دون اللفظ نحو مَلَّكتُ إلا الأصاغرَ عبيدَنا أبناءَنا. وإلى نحو هذا أشرت بقولي "فإن تقدم فالأول أولى إن لم يكن أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى وإن يكنه فهو أولى مطلقا". ثم قلت: "إن لم يمنع مانع" فنبّهت بذلك أيضا على نحو ضرب إلا هندا بنونا بناتنا، فتركت القرينة اللفظية في هذه الأمثة ونحوها لمنع المعنى من الحمل عليها. وإذا ذكر شيئان أو أكثر والعامل واحد فالاستثناء معلّق بالجميع إن لم يمنع مانع نحو اهجر بني فلان وبني فلان إلا مَن صلح؛ فمَن صلح مستثنى من الجميع إذ لا موجب للاختصاص. فلو ثبت موجب عمل بمقتضاه نحو لا تحدّث النساء ولا الرجال إلا زيدا. وقد تضمنت الأمرين آية المائدة (حُرّمتْ عليكم الميتةُ) إلى (إلا ما ذكَّيْتُم) فاشتملت على ما فيه مانع وهو ما أهلّ وما قبله، وعلى ما لا مانع فيه وهو ما بين به وإلّا، فما ذكيتهم مستثنى من الخمسة إذا كانت سببا لموته. ويعلق الاستثناء أيضا بالجميع إن كان قبله جملتان أو أكثر والعامل غير واحد والمعمول واحد في المعنى نحو قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) إلى (إلّا الذينَ

تابوا) وإلى القسمين ونحوهما أشرت بقولي: "وإذا أمكن أن يشرك في حكم الاستثناء مع ما يليه غيره لم يقتصر عليه" إلى آخر الكلام. واتفق العلماء على تعليق الشرط بالجميع في نحو لا تصحبْ زيدا ولا تَزُرْه ولا تُكلِّمْه إنْ ظَلمني. واختُلف في الاستثناء نحو لا تصحبْ زيدا ولا تزره ولا تكلمه إلا تائبا من الظلم، فمذهب مالك والشافعي تساوى الاستثناء والشرط في التعليق بالجميع، وهو الصحيح للإجماع على سدّ كل منهما مسدَّ الآخر في نحو اقْتُل الكافرَ إنْ لم يُسْلم، واقتلْهُ إلّا أن يُسْلِم. فصل: ص: تكرّر إلا بعد المستثنى بها توكيدا فيبدل ما يليها مما يليه إن كان مغنيا عنه، وإلا عطف بالواو. وإن كُرّرت لغير توكيد ولم يمكن استثناء بعض المستثنات من بعض شغل العاملُ ببعضها إن كان مفرّغا ونصب ما سواه، وإن لم يكن مفرّغا فالنصب لجميعها إن تقدّمت، وإن تأخّرت فلأحدها ما له مفردا وللبواقي النصب، وحكمها في المعنى حكم المستثنى الأول. وإن أمكن استثناء بعضها من بعض استثنى كلٌّ مِن متلوّه وجُعِل كلُّ وتْر خارجا وكل شَفْع داخلا، وما اجتمع فهو الحاصل. وكذا الحكم في نحو له عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة خلافا لمَن يُخرِج الأول والثاني. وإن قُدِّر المستثنى الأوّل صفة لم يعتدَّ به وجَعل الثاني أوّلا. ش: تكرر إلا بعد المستثنى بها لتوكيد ولغير توكيد، وتكريرها للتوكيد إما مع بدل، وإمّا مع معطوف بالواو، فالأول كقولك ما مررت إلا بأخيك إلا زيد، تريد ما مررت إلا بأخيك زيدٍ، فأكّدت إلا الأولى بالثانية داخلة بين البدل والمبدل منه. والثاني كقولك ما قام إلا زيد وإلا عمرو. ومن الأول قول الراجز:

مالكَ من شيخِك إلّا عملُهْ ... إلّا رسيمُهُ وإلا رَمَلُهْ وقد يكون مثل إلا رسيمه وإلا رمله قول الفرزدق: ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفةِ إلا دارُ مَرْوانا ومن الثاني قول الشاعر: وما الدهرُ إلا ليلةٌ ونهارُها ... وإلا طلوعُ الشمسِ ثم غيارُها وإن كُرّرتْ مقصُودا بها استثناء بعد استثناء، فإما أن يكون المستثنى بها مباينا لما قبلها، وإمّا أن يكون بعضا له، فإن كان مباينا فإما أن يكون ما قبله من العوامل مفرّغا، وإما أن يكون مشغولا، فإن كان مفرّغا شغل بأحد المستثنيين أو المستثنيات ونصب ما سواه، نحو ما قام إلا زيدٌ إلا عمرا إلا خالدا، والأقرب بعمل العامل المفرّغ أولى. وإن كان مشغولا بالمستثنى منه فللمستثنيين والمستثنيات النصب إن تأخر المستثنى منه نحو ما قام إلا زيدا إلا عمرا إلا خالدا أحدٌ. وإن لم يتأخر فلأحد المستثنيين أو المستثنيات من الإتباع والنصب ماله ما لم يُستثنَ غيره، ولما سواه النصب كقولك ما جاء أحد إلا زيدا إلا عمرا إلا خالدا، وما بعد الأول من هذا النوع مساوٍ له في الدخول إن كان الاستثناء من غير موجب، وفي الخروج إن كان من موجب. وإن كان ما وَلى إلا المكرّرة بعضا لما قبلها نحو عندي مائة إلا خمسين إلا عشرين إلا عشرة إلا خمسة أخْرِج أولٌ وثالثٌ وما أشبههما في الوتْريّة، وأُدخل ثانٍ ورابعٍ وما أشبههما في الشفعية، فالباقي بعد الاستثناء في المثال المذكور بالعامل المذكور خمسةٌ وستّونَ، لأنا أخرجنا من المائة خمسين لأنها أول المستثنيات، فهي إذن وتر، وأدخلنا

عشرين لأنها ثانية المستثنيات فهي إذن شَفْع فصار الباقي سبعين، ثم أخرجنا عشرة لأنها ثالثة المستثنيات فهي إذن وتر فصار الباقي ستين، ثم أدخلنا خمسة لأنها رابع المستثنيات فهي إذن شفع فصار الباقي خمسة وستّين. وما زاد من المستثنيات عُومل بهذه المعاملة. وإلى نحو هذه الإشارة بقولي "استثنى كل من متلوه وجعل كل وتر خارجا وكل شفع داخلا وما اجتمع فهو الحاصل. ثم قلت: وكذا الحكم في نحو له عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة فأشرت بذلك إلى قول السيرافي: فإن كان بعض المستثنيات أكثر من الذي قبله نحو له عليّ عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة، فالفرّاء يستثني الثلاثة ويزيد على السبعة الباقية أربعة فيكون المقرّ به أحدَ عَشرَ. وغير الفراء يستثني من العشرة الأربعة بعد استثناء الثلاثة فيكون المقرّ به ثلاثة، وقول الفراء عندي هو الصحيح، فإنه جار على القاعدة السابقة، أعني جعل الاستثناء الأول إخراجا والثاني إدخالا. ثم قلت وإن قدّر الاستثناء الأول صفة لم يعتدّ به وجُعل الثاني أوّلا، فنبّهت بذلك على أن للمتكلم بذلك المثال أن يجعل إلا الأولى وما وليها مقصودا بها الوصف لا الاستثناء كالتي في قوله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسدتا) فعلى هذا التقدير يكونان في حكم المسكوت عنه، ويكون المستثنى الأول العشرين فكأنه قال عندي مائة إلا عشرين إلا عشرة إلا خمسة، والعشرون خارجة من المائة فتصير ثمانين والعشرة داخلة فتصير تسعين والخمسة خارجة، فالباقي إذن خمسة وثمانون. فصل: ص: تؤوّل إلا بغير فيوصف بها وبتاليها جمع أو شبهه منكر أو معرّف بأداة جنسية، ولا يكون كذلك دون متبوع ولا حيث لا يصلح الاستثناء، ولا يليها نعت ما قبلها وما أوهم ذلك فحال أو صفة بدل محذوف خلافا لبعضهم. ويليها في النفي فعل مضارع بلا شرط، وماض مسبوق بفعل أو مقرون بقد. ومعنى أنشدك الله إلا فعلت: ما أسألك إلا فعلك.

ش: أصل "غير" أن تقع صفة، وأصل "إلا" أن يستثنى بها، ثم حُملت كل واحدة منهما على الأخرى فيما هي أصل فيه، ولأصالة غير في الوصفية جاز أن يوصف بها جمع وشبه جمع وما ليس جمعا ولا شبه جمع، كقولك جاء رجال غيرُ زيدٍ، وكقوله: فكفى بنا فضلا على مَن غيرنا ... حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيّانا ورجل غيرُك أحبُّ إليّ. ولأصالته أيضا في الوصفية جاز أن يحذف الموصوف بها وتقام مقامه كما يحذف الموصوف بمثل وتقام مقامه. ولا يعامل بهذه المعاملة "إلا" الموصوف بها، فلا يوصف بها إلا جمع أو شبه جمع منكر أو معرف بالألف واللام الجنسية؛ فمثال الجمع المنكّر قوله تعالى (لو كان فيهما آلهةٌ إلا اللهُ لفَسَدَتا) فإلا الله صفة لآلهة، ومعنى الصفة في هذا الباب التوكيد لا التخصيص، فلا فرق في المعنى بين ثبوتها وسقوطها، ولذلك إذا قال المقِرُّ: له عندي عشرة إلا درهم، حكم عليه بعشرة كاملة، ولا يجوز أن يجعل إلا الله بدلا، لأن شرط البدل في الاستثناء صحةُ الاستغناء به عن الأول، وذلك ممتنع بعد "لو" كما يمتنع بعد "إنْ" لأنهما حرفا شرط والكلام معهما موجب. ولذا قال سيبويه: "لو قلت لو كان معنا إلا زيد لهَلَكْنا لكنت قد أحَلْتَ" أي أتيت بممنوع، فصح قول سيبويه أن "لو" لم يفرّغ العامل بعدها لما بعد إلا كما فرّغ بعد النفي، وإن كان ما يدلّ عليه من الامتناع شبيها بالنفي، ولو كانت مستحقة لتفريغ ما يليها من العوامل لكانت مستحقة لغير ذلك، ممّا يختص بحروف النفي كزيادة من في معمول ما يليها وإعماله في أحد وشفر ونحوهما، وكنصب جواب المقرون بالفاء. وقال السيرافيّ شارحا لقول

سيبويه "لكنت قد أحَلْتَ" لأنه يصير في معنى: لو كان معنا زيد لهلكنا، لأن البدل بعد إلا في الاستثناء موجب. وكذا "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" لو كان على البدل، لأن التقدير: لو كان فيهما الله لفسدتا. وحكى ابن السراج أن أبا العباس المبرد قال "لو كان معنا إلا زيد أجود كلام وأحسنه" وكلام المبرد في المقتضب مثل كلام سيبويه. أعني أن التفريغ والبدل بعد "لو" غير جائز، وأن "إلا" لا يوصف بها إلا حيث يصح بها الاستثناء، ولا يوصف بها إلا ما يُوصف بغير، وذلك النكرة والمعرفة التي بالألف واللام على غير معهود، نحو ما يحسن مثلك أن يفعل ذلك، وقد أمُرُّ بالرجل غيرِك فيكرمني. هذا كلام المبرد وهو موافق لكلام سيبويه ولكلام أبي الحسن الأخفش في كتابه. وقد قبل ما نَسَبَ ابنُ السرّاج إلى المبرد ابنُ ولّاد وردّ عليه. وقبله أيضا أبو علي الشلوبين قبول راض به. وأما ابن خروف فأنكر ثبوت ذلك عن المبرد وأنكر على ابن ولاد الاشتغال بردّ ما لم يصح ثبوته.

ومن شواهد الوصف بإلا وما بعدها قول الشاعر: أُنِيختْ فألقتْ بلدَةً فوقَ بلدةٍ ... قليل بها الأصواتُ إلا بغامُها كأنه قال قليل بها الأصوات غير بغامها. قال السيرافي: وأما قوله قليل بها الأصوات إلا بغامُها ففيه وجهان: أحدهما قال سيبويه: وإذا كان على معناه فقد أثبت بها أصواتا قليلة وجعل إلا بغامها نعتا للأصوات. والوجه الثاني أن يكون "قليل" بمعنى النفي كأنه قال: ما بها أصوات إلا بغامها، وهو استثناء وبدل صحيح، كما تقول قلّ رجل يقول ذلك إلا زَيد. قال الشلوبين: لا يتصور البدل في هذا لأنه يئول إلى التفريغ وذلك فاسد؛ ألا ترى أنه لم يُرد أنْ يقول ما بها إلا بغامها، وكيف يقول ذلك وبها القائل والراحلة ورَحْلها، وإنما أراد ما بها صوت مغاير لبغامها، وقليل بها الأصوات في معنى النفي، وإنما وصفت الأصوات وهي معرفة ما في معنى غير وغير نكرة لأن التعريف بالألف واللام الجنسية وتعريفها كلا تعريف. وكذلك ما هما فيه وصف بالجملة في قوله تعالى (وآيةٌ لهم الليلُ نسلخُ منه النهارَ) وكما وُصف ما هما فيه بغير في قولهم: إني لأمُرُّ بالرجل غيرك فيكرمني، وُصِفَ بإلّا الواقِعة موقعها وبما بعدها. ومن وَصْف ما فيه الألف واللام الجنسية وما بعدها قول الشاعر: ويوم الحزن إذ حُشرتْ معدٌّ ... وكان الناسِ إلا نحن دينا أراد وكان الناس المغايرون لنا دينا. ومن وقوعها صفة لشبه الجمع المنكر معنى الشبيه بالمعرفة لفظا قول الشاعر:

لو كان غيري سُلَيمى الدهرَ غَيَّره ... وقعُ الحوادثِ إلا الصارِمُ الذَكَرُ أراد لو كان غيري غير الصارم الذكر غيّره وقع الحوادث. ومن وَصف ذي الألف واللام الجنسية بغير قوله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر) فغير أولي الضرر بالرفع صفة "للقاعدون" وبالجر صفة للمؤمنين، ولا يَصح جعله بدلا لأنه لا يستثنى به غير ما قبله. ومن وصف ذي الألف واللام بغير قول لبيد: وإذا أُقْرِضتَ خَيْرا فاجْزِه ... إنما يجزى الفتى غيرُ الجَمَلْ وحاصل هذا الفصل أن "إلا" الموصوف بها لا يُوصف بها مفرد محض ولا معرفة محضة، ولا تقع في غير موضع صالح للاستثناء، إلا أن يمنع منه مانعٌ من خارِج، فلا يجوز أن يقال: قام رجل إلا زيد، لأن "رجلا" مفرد محض، ولا يجوز جاء الرجال إلا زيد، على أن يكون الرجال مَعهودين لأن تعريفهم حينئذ محض، فلو قُصد الجنس ولم يمتنع وصفهم بإلا كما لا يمتنع وصفهم بغير كقوله تعالى (غير أولي الضرر). وقولي "ولا يليها نعت ما قبلها" أشرت به إلى قول أبي الحسن في كتاب المسائل. لا يفصل بين الموصوف والصفة بإلا. ثم قال: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب، تقديره: إلا رجل راكب، وفيه قُبْح لجَعْلِك الصفة كالاسم. وقال أبو علي في التذكرة: تقول ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخاك، لا يجوز كون قائما صفة لأن المعنى ما مررت قائما، ولو قلت مررت قائما بأحد لم يجز، وكذا ما في معناه. وإذا بطل هذا ثبت أن قائما حال من أحد وإذا ثبت ذلك تعيّن أن ينصب أخاك لأنه بعد إيجاب صحيح. وقد صرّح أبو الحسن وأبو علي بأن "إلا" لا تفصل بين موصوف وصفة. وما ذهبا إليه هو الصحيح، لأن الموصوف والصفة كشيء

واحد، وشيئان هنا كشيء واحد لا يختلفان بنفي الحكم عن أحدهما وإثباته للآخر كالمتوسّط بينهما "إلا"، ولأن الصفة توضّح موصوفها كما توضح الصلة الموصول، وكما يوضح المضاف إليه المضاف، فكما لا يقع "إلا" بين الموصول والصلة، ولا بين المضاف والمضاف إليه، كذا لا تقع بين الموصوف والصفة، ولأن إلا وما بعدها في حكم جملة مستأنفة والصفة لا تُستأنف فلا تكون في حكم مستأنف. وقال الزمخشري: وإذا قلت ما مررت بأحد إلا زيد خير منه كان ما بعد إلا جملة ابتدائية واقعة صفة لأحد. وزعم في الكشاف أن (ولها كتابٌ معلومٌ) جملة واقعة صفة لقرية، ووُسّطت الواو بينهما لتوكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب. وما ذهب إليه من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد من خمسة أوجه: أحدها أنه قاس في ذلك الصفة على الحال، وبين الصفة والحال فروق كثيرة، كجواز تقدّمها على صاحبها وجواز تخالفهما بالإعراب وجواز تخالفهما بالتعريف والتنكير وجواز إغناء الواو عن الضمير في الجملة الحالية، وامتناع ذلك في الواقع نعتا، فكما ثبت مخالفة الحال الصفة في هذه الأشياء ثبت مخالفتها إياها بمقارنة الواو الجملة الحالية وامتناع ذلك في الجملة النعتية. الثاني أن مذهبه في هذه المسألة مذهب لا يُعرف من البصريين والكوفيين مُعَوّل عليه فوجب ألا يلتفت إليه. الثالث أنه مُعَلَّل بما لا يناسب، وذلك أن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها وذلك مستلزم لتغايرهما، وهو ضدّ لما يُراد من التوكيد فلا يصح أن يقال العاطف مؤكِّد. الرابع أن الواو فصلت الأول عن الثاني، ولولا هي لتلاصقا فكيف يقال إنها أكدت لصوقهما؟

الخامس أن الواو لو صلحت لتوكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أوْلى المواضع بها موضع لا يصلح للحال نحو "إنّ رجلا رأيُه سديدٌ لسعيدٌ" فرأيه سديد جملة نُعت بها ولا يجوز اقترانها بالواو لعدم صلاحيتها للحال بخلاف "ولها كتابٌ معلومٌ" فإنها جملة يصلح في موضعها الحال لأنها بعد نفي، والمنفيّ صالح لأن يُجعل صاحب حال، كما هو صالح لأن يجعل مبتدأ. وإنما جاز أن يجعل صاحب الحال نكرة بعد النهي لشبهه بالنفي كقول قطريّ: لا يَرْكَنَنْ أحدٌ إلى الإحْجامِ ... .يومَ الوغى مُتَخَوِّفا لحِمامِ فلْيجزْ ذلك بعد النفي فهو أولى وأحرى، لأن النهي لا يصحب المبتدأ ويصحبه النفي. ومن أمثلة أبي علي في التذكرة: ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخاك، فجعل الحال من أحد لاعتماده على النفي، وقد تقدّم الكلام على هذه المسألة، فلو كانت الواو تصلح لتوكيد لصوق الصفة بالموصوف لكان أولى المواضع بها ما لا يصلح للحال نحو إنّ رجلا رأيُه سديد لَسعيد، لأن المؤكد به حقيق بألا يصلح لغير توكيد. وقولي "ويليها في النفي فعل مضارع بلا شرط" نبهت به على أنه لا يشترط في وقوع الفعل المضارع بعد إلا تقدم فعْل، بل وجود نفي قبلها كافٍ، فعلا كان ما ولى النفي أو اسما، فيقال ما زيد إلا يفعل، وما زيد إلا فاعل. ويشترط في وقوع الفعل الماضي بعدها تقدم نفي أو معناه وكون ما ولي النفي فعلا، فلفظ النفي كقوله تعالى (وما يأتيهم من رسول إلّا كانوا به يستهزئون) ومعنى النفي كقولهم: أنشدك اللهَ إلّا فعلتَ، بمعنى ما أسألك إلا فعلك. وقد يُغني اقتران الماضي بقد عن تقدم فعل كقول الشاعر:

ما المجدُ إلا قد تبيَّن أنه ... بندًى وحِلْمٍ لا يزالُ مُؤَثّلا وإنما أغنى اقتران الماضي بقد عن تقدم فعل لأن اقترانه بها يقرّبه من الحال فيكون ذلك شبيها بالمضارع. وإنما كان المضارع مستغنيا عن شرط في وقوعه بعد إلا لشبهه بالاسم، والاسم بإلا أولى لأن المستثنى لا يكون إلا اسما أو مؤوّلا باسم. وإنما أساغ تقدم الفعل وقوع الماضي بعد إلا لأن تقدم الفعل مقرونا بالنفي يجعل الكلام بمعنى كلّما كان كذا وكذا كان كذا وكذا فكان فيه فعلان كما كانا مع "كُلّما". ص: ولا يعمل ما بعد إلا فيما قبلها مطلقا، ولا ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا به، وما ظُن من غير الثلاثة معمولا لما قبلها قدّر له عامل خلافا للكسائي في منصوب ومخفوض، وله ولابن الأنباري في مرفوع. ش: الاستثناء في حكم جملة مستأنفة، لأنك إذا قلت جاء القوم إلا زيدان فكأنك قلت جاء القوم ما فيهم زيد، فمقتضى هذا ألا يعمل ما بعد "إلا" فيما قبلها، ولا ما قبلها فيما بعدها على الإطلاق، كما لا يعمل ما بعد ما فيما قبلها ولا ما قبلها فيما بعدها، واستمرّ على ما اقتضته هذه المسألة في منع إعمال ما بعدها فيما قبلها نحو ما زيد إلا أنا ضارب، فلا يجوز إعمال ضارب في زيد لما ذكرت لك. بل تقدّر هاء عائدة إلى زيد ويرتفع هو بالابتداء. وكذا استمر على ما اقتضته المناسبة من عدم إعمال ما قبلها فيما بعدها إلا فيما لا مندوحة عنه من إعمال ما قبلها في مستثنى منه نحو ما قام إلا زيد أحد، أو تابع له نحو ما مررت بأحد إلا زيدا خير من عمرو، أو مستثنى فرّغ له العامل نحو ما قام إلا زيدٌ. ولم تجُز الزيادة على هذه الثلاثة لئلا تكثر مخالفة الأصل ويترك مقتضى الدليل دون ضرورة، فلا يقال ما ضرب إلا زيد عمرا، ولا ما ضرب إلا زيدا عمرو ولا سار إلا زيد بعمرو. بل الواجب أن يؤخر المقرون بإلا استمرارا على مقتضى الدليل المذكور. فإن ورد ما يخالف ذلك قدّر له عامل بعد إلا كقوله تعالى (وما أرسلنا من

قبلك إلا رجالا نُوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزّبر) أي أرسلناهم بالبيّنات فهذا مثال تأخر المجرور، ومثال تأخر المنصوب قول الشاعر: وما كَفَّ إلا ماجدٌ ضَيْرَ بائِسِ ... أمانيُّه منه أُتيحتْ بلا مَنِّ أي إلا ماجد كفّ ضير بائس. ومثال تأخر المرفوع قول الشاعر: تزَوّدت من ليلى بتكليم ساعةٍ ... فما زادني إلا غراما كلامُها ومثله قول الآخر: وهل يُنبت الخَطّيَّ إلا وَشيجُه ... وتُغرسُ إلا في منابتها النَّخْلُ ومثله ما أنشد سيبويه من قول الآخر: مَشائِيمُ ليسوا مصلحين عشيرةَ ... ولا ناعبٍ إلا ببيْن غُرابها وأجاز الكسائي الأوجه الثلاثة على تعليق المعمولات بما قبل إلا، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع خاصة. وفرّق بينه وبين غيره بأن قال: الدليل يقتضي ألا يتأخر مرفوع ولا غيره، لأن مسائل الاستثناء المفرَّغ فيها العامل لما بعد إلا حقيقة بأن تختم بالمستثنى. فإن كان الواقع بعده مرفوعا نُوي تقديمه واتصاله برافعه لأنه كجزء منه، وتأخره لفظا لا يمنع أن ينوى تقديمه فإنه الأصل. ويلزم من ذلك تقدير المستثنى مختوما به، وإن كان الواقع بعد المستثنى غير مرفوع لم يجز أن ينوى تقديمه، لأنه

متأخر بالأصالة وقد وقع في موضعه فيلزم من تجويزه منع كون المستثنى المفرغ له العامل غير مختوم به لفظا ولا تقديرا. فصل: ص: يستثنى بحاشا وخلا وعدا، فيجررن المستثنى أحرفا، وينصبنه أفعالا. ويتعيّن الثاني، لخلا وعدا بعد "ما" عند غير الجرمي. والتزم سيبويه فعلية عدا وحرفية حاشا. فإن وليها مجرور باللام لم تتعين فعليتها خلافا للمبرد، بل اسميتُها لجواز تنوينها وكثر فيها حاشا وقلّ حشا وحاشْ. وربما قيل ما حاشى، وليس أحاشي مضارع حاشا المستثنى بها خلافا للمبرد. والنصب في (ما النساءَ وذكرَهُنَّ) بعدا مضمرة خلافا لمن أوّل "ما" بإلا. ويستثنى بليس ولا يكون فينصبان المستثنى خبرا واسمها وبعض مضاف إلى ضمير المستثنى منه لازم الحذف، وكذا فاعل الأفعال الثلاثة. وقد يوصف على رأي المستثنى منه منكرا أو مصوب "أل الجنسية" بليس ولا يكون، فيلحقهما ما يلحق الأفعال الموصوف بها من ضمير وعلامة. ش: من أدوات الاستثناء "حاشا وعدا وخلا" والمستثنى بهن منصوب أو مجرور، فإن كان منصوبا فهن أفعال مستحقة منع التصرّف لوقوعها موقع الحروف وتأديتها معناها. وإن كان المستثنى بهنّ مجرورا فهن أحرف جر. وكون "حاشا" حرفا جارا هو المشهور، ولذلك لم يتعرّض سيبويه لفعليتها والنصب بها، إلا أنّ ذلك ثابت بالنقل الصحيح عمّن يوثق بعربيته، فمن ذلك قول بعضهم: "اللهم اغفر لي ولمن سمعني حاشا الشيطان وأبا الأصبغ". رواه أبو

عمرو الشيباني وغيره. وقال الأخفش: وأما حاشا فقد سمعت من ينصب بها، وأنشد ابن خروف في شرح الكتاب: حاشا قُرَيْشًا فإن اللهَ فضّلهم ... على البريّة بالإسلام والدِّين وتعصّب بعض المتأخرين مانعا فعلية حاشا بقول بعض العرب: حاشاي ولم يقل حاشاني وأنشد: في فتيةٍ جعلوا الصليب إلههم ... حاشايَ إنِّي مسلمٌ معذورُ والجواب أن هذا ورد على استعمالها حرفا، لأنه أكثر من استعمالها فعلا. ولو أن من قال حاشا الشطان فنصب بها دعته حاجة إلى استثنائه نفسه قاصدا للنصب لقال حاشاني كما يقال عساني. وإنما نظرت حاشا بعسى لتساويهما في عدم التصرّف وتأدية كل واحد منهما معنى حرف، وكما قيل في عدا عداني كقوله: تملُّ الندامَى ما عداني لأنّني ... بكلِّ الذي يهوى نَديمي مُولَعُ وأجاز الفراء نصب المستثنى بحاشا وخفضه وقال: إذا استثنيت بما عدا وما خلا ضميرا لمتكلم قلت: ما عداني وما خلاني. ومن نصب بحاشا قال حاشاني، ومن خفض قال حاشايَ. وهذا نصّه. وقال بعض المتعصبين أيضا: لو كانت حاشا فعلا لجاز أن يوصل بها "ما" كما وُصلت بعدا وخلا. وهذا غير لازم، فإن من أفعال هذا الباب "ليس ولا يكون" ولم توصل "ما" بهما، وأيضا فإن الدليل يقتضي ألا توصل "ما" وغيرها من الحروف الموصولة بالأفعال إلا بفعل له مصدر مستعمل حتى يُقَدَّر الحرف وصلته واقعين موقع ذلك المصدر. ومعلوم أن أفعال هذا الباب ليس لها مصادر مستعملة. فإذا وُصل ببعضها حرف مصدري فهو على خلاف الأصل فلا يُبالى بانفراده بذلك، فيقال لمَ لمْ يوافقْه غيره، فإن موافقته تكثير

للشذوذ، ومخالفته استمرار على مقتضى الدليل، على أنه قد قيل ما حاشا في حديث ابن عمر من مسند أبي أمية الطرسُوسيّ عن ابن عمر قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسامةُ أحبُّ الناسِ إليّ ما حاشا فاطمةَ". ومن ورود الجر بحاشا وإن كان هو المجمع عليه قول الشاعر: حاشا أبي ثوبان إنَّ به ... ضَنًّا عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ كذا أنشده أكثر النحويين والصحيح: حاشا أبي ثوبان إن أبا ... ثوبان ليس ببكمةَ فَدْمِ عمرو بن عبد الله إن به ... ضنا عن الملحاة والشتم والبيتان للجميح الأسديّ، وقبلهما: وبنو رواحة ينظرون إذا ... نظر النديُّ بآنف خُثْم ثم استثنى فقال حاشا أبي ثوبان. وقال المرزوقي رواه الضَّبيّ: حاشا أبا ثوبان، بالنصب. وإذا وليها مجرور باللام فارقت الحرفية بلا خلاف، إذ لا يدخل حرفُ جر على حرف جرّ. وإذا لم تكن حرفا فهي إما فعل وإما اسم، فمذهب المبرد أنها حينئذ فعل والصحيح أنها اسم، فينتصب انتصاب المصدر الواقع بدلا من اللفظ بالفعل. فمن قال "حاشى الله" فكأنه قال تنزيها لله. ويؤيد هذا قراءة أبي السمّال "حاشًى لله" بالتنوين، فهذا مِثل قولهم رعْيًا

لزيد. وقرأ ابن مسعود "حاشى الله" بالإضافة، فهذا مثل سُبْحانَ الله ومعاذَ اللهِ. وأما القراءة المشهورة "حاشى لله" بلا تنوين. فالوجه فيها أن يكون حاشا مبنيا لشبهه بحاشى الذي هو حرف، فإنه شبيه به لفظا ومعنى فجرى مجراه في البناء كما جرى "عن" في قوله: - من عن يميني تارة وأمامي ? مجرى عن في نحو رويت عن زيد وأعرضت عن عمرو. وقيل حاشا كثيرا وحاشا قليلا. واستدل المبرد على فعلية حاشا بقول النابغة: ولا أحاشِي من الأقوام من أحد وهذا منه غلط لأن حاشا إذا كانت فعلا وقُصد بها الاستثناء فهي واقعة موقع إلا ومؤدية معناها، فلا تتصرف كما لا تتصرف عدا وخلا وليس ولا يكون، بل هي أحق بمنع التصرف، لأن فيها مع مساواتها الأربع شبها بحاشا الحرفية لفظا ومعنى. وأما أحاشي فمضارع حاشيت بمعنى استثنيت وهو فعل متصرف مشتق من لفظ حاشى المستثنى بها كما اشتق سوّفت من لفظ سوف، ولويت من لفظ لولا، ولاليت من لفظ لا، وأيّهت من لفظ أيّها، وأمثال ذلك كثيرة. وفعلية عدا أشهر من حرفيتها ولذلك قال سيبويه: "وما جاء من الأفعال فيه معنى إلا فلا يكون وليس وعدا وخلا" ثم قال: وما فيه ذلك المعنى من حروف الإضافة وليس باسم فحاشا وخلا في بعض اللغات. وسوَّى المبرّد بين خلا وعدا في الفعلية ثم قال: وقد تكون خلا حرف خفض فتقول حاشى القوم خلا زيد مثل سوى زيد. وأنشد غيرهما في حرفية عدا والخفض بها:

تركنا في الحضيض بنات عَوْجٍ ... عواكفَ قد خَضَعن إلى النُسورِ أبحنا حَيَّهم، قَتْلا وأسْرا ... عدا الشَّمْطاءِ والطفلِ الصغيرِ ومن النصب بها وإن كان هو المشهور قول الراجز: يا مَن دحا الأرضَ ومن طحاها ... أنزِلْ بهم صاعقةً أراها تحرّق الأحشاءَ من لظاها ... عدا سُلَيْمى وعدا أباها ومن الجر بخلا قول الشاعر: خلا اللهِ لا أرجو سواكَ وإنما ... أعُدُّ عيالي شُعْبةَ من عيالكا هكذا رواه من يوثق بعربيته خلا الله، بالجر. واتفق النحويون إلا أبا عمرو والجرمي على وجوب نصب المستثنى بما عدا وما خلا كقول لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللهَ باطلُ ... وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ لأن "ما" مصدرية، ولا يليها حرف جر، وإنما توصل بجملة فعلية، وقد توصل بجملة من مبتدأ وخبر. وروى الجرميّ عن بعض العرب جرّ ما استثني بما عدا وما خلا، والوجه فيه أن تُجعل ما زائدة وعدا وخلا في حرفي الجرّ، وفيه شذوذ، لأنّ ما إذا زيدت مع حرف جر لا تتقدّم عليه، بل تتأخّر عنه نحو (فبِما رحمةٍ) و (عمّا قليل). ومن كلام العرب: "كل شيء مهه ما النساءَ وذَكرهن" ومعناه: كل شيء يسير ما عدا النساء وذكرهن. فحذفوا عدا وأبقوا عملها. وزعم بعض الناس أن "ما" ههنا بمعنى إلا وليس بشيء.

وليس ولا يكون المستثنى بهما هما الرافعان الاسم الناصبان الخبر، فلذا يجب نصب ما استثنى بهما لأنه الخبر، ولوقوعهما موقع إلا التزم حذف اسمهما لئلا يفصلهما من المستثنى فيجهل قصد الاستثناء. ومن شواهد الاستثناء بليس قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يُطْبع المؤمنُ على كل خُلُق ليس الخيانة والكذبَ" أراد إلا الخيانة والكذب، فأوقع ليس موقع إلا، [وتقول قام القوم ليس زيدا] وأصله: ليس بعضهم زيدا، وكذلك إذا قلت قاموا لا يكون زيدا، معناه إلا زيدا، وأصله لا يكون بعضهم زيدا. وكذا يقدّر أكثر النحويين فاعل عدا وخلا، وفيه ضعف؛ لأن قولك قاموا عدا زيدا إن جُعل تقديره جاوز بعضهم زيدا لم يستقم، إلا بأن يراد بالبعض مَن سوى زيد، وهذا وإن صحّ إطلاق البعض على الكل إلا واحدا فلا يحسن لقلته في الاستعمال. فالأجود أن يجعل الفاعل مصدر ما عمل في المستثنى منه، فيقدّر قاموا عدا زيدا، جاوز قيامهم زيدا ويستمرّ على هذا السنن أبدا إذا دعتْ إليه حاجة. وأما المرفوع بليس ولا يكون فلا يقدّر إلا بعضا مضافا إلى ضمير المستثنى منه، فلذلك لا يختلف اللفظ بهما، فيقال جاءني القوم لا يكون زيدا وأتوني ليس عمرا، ومررت بالنساء لا يكون فلانة وليس فلانة، والتقدير لا يكون بعضهم زيدا وليس بعضهم عمرا، ولا يكون بعضهم فلانة وليس بعضهم فلانة. وهذا هو القياس؛ ألا يتحمّل ليس ولا يكون ضميرا يطابق ما تقدّم، لأن الاستثناء مقدّر الاستئناف. وإن جعلتهما وصفا للمستثنى منه ألحقتهما ما يلحق الأفعال المتصرفة إذا وصفت بها من ضمير يطابق الموصوف ومن علامة تأنيث إن كان مؤنثا، ولا يكون الموصوف إلا نكرة أو معرّفا تعريف الجنس لا تعريف العهد، وذلك قولك أتتني امرأة لا تكون فلانة، وأتاني القوم ليسوا إخوتك، وهما من أمثلة أبي العباس مثّل بهما بعد أن قال: وإن جعلته وصفا فجيّد. وكان الجرميّ يختاره. فصل: ص: يستثنى بغير، فتجرّ المستثنى معربةً بما له بعد إلا، ولا يجوز فتحها مطلقا لتضمّن معنى إلا خلافا للفراء. بل قد تفتح في الرفع والجر لإضافتها إلى

مبنيّ واعتبار المعنى في المعطوف على المستثنى بها جائز. ويساويها في الاستثناء المنقطع "بَيْدَ" مضافا إلى أنّ وصلتها وتساويها مطلقا سوى، وينفرد بلزوم الإضافة لفظا، وبوقوعه صلة دون شيء قبله. والأصحّ عدم ظرفيته ولزومه النصب، وقد تضم سينُه. وقد تفتح ويمد وقد يقال ليس إلّا، وليس غيرُ، وغيرَ، إذا فهم المعنى، وقد ينوّن، وقد يقال ليس غيرُه وغيرَه ولم تكن غيره وغيره وفاقا للأخفش. والمذكور بعد "لا سيَّما" منبّه على أولويته بالحكم لا مستثنى. فإن جُرّ فبالإضافة وما زائدة، وإن رُفع فخبر مبتدأ محذوف، وما بمعنى الذي، وقد توصل بظرف أو جملة فعلية. وقد يقال لا سيما بالتخفيف، ولا سواء ما. ش: الاستثناء بغير حُمل على إلّا، والوصف بها هو الأصل. والاستثناء بإلا هو الأصل. والوصف بها وما بعدها حمل على غير، ولذلك لا يحكم على غير بأنها مستثنى بها حتى يكون موضعها صالحا لإلّا، فتقدّر إلا في موضعها وتنظر ما يستحقه الواقع بعدها من نصب لازم أو نصب مرجَّح عليه الإتباع، أو تأثر بعامل مفرّغ فتعطاه غير ويجرى هو على مقتضى الإضافة، فتقول جاءني القوم غيرَ زيد، بنصب لازم، وما جاءني أحد غيرُ زيد بنصب مرجح عليه الإتباع، وما لزيد علم غير ظنّ، بنصب مرجّح على الإتباع. وما جاءني غيرُ زيد بإيجاب التأثر بالعامل. فتفعل بغير ما كنت تفعل بالواقع بعد إلا. وقد سبق تبيين الخلاف في نصب "غير" وترجيح كونها إذا نصبت حالا يؤدى معنى الاستثناء فأغنى ذكرُه ثَمَّ عن إعادته هنا. وأجاز الفراء بناء "غير" على الفتح عند تفريغ العامل، سواء كان المضاف إليه معربا أو مبنيا، فيقال على رأيه: ما جاء غيرَ زيد وما جاءك أحد غيرَك ولم يذكر في الاحتجاج لذلك من كلام العرب غير مضاف إلى مبني، وكان حامله على العموم جعل سبب البناء تضمّن غير معنى إلّا، وذلك عارض فلا يُجعل وحده سببا. بل إذا أضيف غير إلى مبني جاز بناؤها، صلح موضعها لإلا أو لم يصلح، لكن بناءها إذا أضيفت إلى مبني وصلح موضعها لإلا أقوى من بنائها إذا أضيفت إلى مبني ولم يصلح موضعها لإلا، فمثال الأول قول

الشاعر: لم يَمْنعْ الشرْب منها غيرَ أنْ نطقتْ ... حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أوقالِ ومثال الثاني قول الشاعر: لُذْ بقَيْسٍ حين يأبى غيرَه ... تُلْفِه بَحْرًا مُفِيضا خَيْرَه وقولي "واعتبار المعنى في المعطوف على المستثنى بها جائز" أشرت به إلى قول سيبويه: زعم الخليل ويونس أنه يجوز ما أتاني غير زيدٍ وعمرٌو، والوجه الجرّ، وذلك أن غير زيد في موضع إلا زيد وفي معناه محمولة على الموضع كما قال: فلَسْنا بالجبال ولا الحديدا فلما كان في موضع إلا زيد وكان معناه كمعناه حملوه على الموضع. والدليل على أنك إذا قلت غير زيد فكأنك قلت إلا زيد أنك تقول ما أتاني غير زيد وإلا عمرو. قلت إذا قيل ما أتاني غير زيد وعمرو بالرفع فلا يخلو أن يحكم لغير هنا بحكم إلا وتنزل منزلتها أوْلا. فإن لم يحكم لها بحكم إلا فسد المعنى المراد، وذلك أن المراد

إدخال زيد وعمرو في الإتيان، وأن يقال ما أتاني غير هذين، فإن لم تجعل غير بمنزلة إلا ورفع عمرو كان المعنى إخراجه من الإتيان وكأنه قيل ما أتاني غير زيد، وما أتاني عمرو. والمراد خلاف ذلك، فلزم ألا يصح المعنى حتى تنزّل "غير" منزلة "إلا" ويُعرب "عمرو" بإعراب ما بعد إلا وبإعراب ما بعد غير لا بإعرابها نفسه. ومثال مساواة "بَيْدَ" لغير في الاستثناء المنقطع قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنا أفْصَح من نطق بالضاد بَيْد أني من قريش، واستُرضعت في بني سَعْد". وقولي "وتساويها مطلقا "سوى" أردت بذلك أن سوى يستثنى به كما يستثنى بغير استثناء متصلا نحو قاموا سوى زيد، ونحو قول الشاعر: كلُّ سعيٍ سوى الذي يُورث الفَوْ ... زَ فعُقْباه حسرةٌ وخَسارُ واستثناء منقطعا كقوله: لم ألْف في الدار ذا نُطْقٍ سوى طَلَلٍ ... قد كاد يعفو وما بالعهد مِن قِدَمِ وتُساويها أيضا في الوصف بها كقول الشاعر: أصابَهم بَلاءٌ كان فيهم ... سوى ما قد أصاب بني النَّضيرِ وتساويها أيضا في قبول تأثير العوامل المفرَّغة رافعةً وناصبةً وخافضةً في نثر ونظم كقول النبي صلى الله عليه وسلم "دعوتُ ربّي ألا يُسَلِّط على أمّتي عدوّا من سِوى أنفسهم" وقوله "ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشَعرة البيضاء في جلد الثور الأسود

وكالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض". وكقول بعض العرب: أتاني سواكَ، رواه الفراء. ومن أمثلته أتيت سواك أي غيرِك، وكقول أبي دواد: وكلُّ مَن ظنَّ أنّ الموتَ مُخطِئُه ... معلَّلُ بسواء الحقِ مَكْذُوبُ وكقول الآخر: أأتركُ ليلى ليسَ بيني وبينها ... سوى ليلةٍ إنّي إذَنْ لصَبُورُ وكقول الآخر: ولديك كفيلٌ بالمنى لمؤمِّل ... وإن سواكَ مَن يُؤمِّلُه يَشْقَى وكقول الآخر: وإذا تُباع كريمةٌ أو تُشتَرى ... فسواك بائِعُها وأنت المُشتري وكقول الآخر: ذِكْرك اللهَ عند ذكرِ سواه ... صارفٌ عن فؤادِك الغفلاتِ وكقول الآخر: فلمّا صَرَّح الشَّرُّ ... فأمْسَى وهْو عُرْيانُ ولم يَبْقَ سوى العُدْوا ... نِ دِنّاهُم كما دانُوا وجعل سيبويه سوى ظرفا غير متصرف فقال في باب ما يحتمل الشعرُ مما لا يُحتمل في غيره: "وجعلوا ما لا يجري من الكلام إلا ظرفا بمنزلة غيره من الأسماء

وذلك قول المرار العجليّ: ولا يَنْطقُ الفحشاءَ مَن كان منهم ... إذا جلسوا مِنّا ولا مِن سوائنا ثم قال: "فعلوا ذلك لأن معنى سواء معنى غير". قلت: قد صرّح سيبويه بأن معنى سواء معنى غير، فلذلك يستلزم انتفاء الظرفية كما هي منتفية عن غير، فإن الظرف في العُرْف ما ضُمّن معنى "في" من أسماء الزمان أو المكان، وسوى ليس كذلك فلا يصح كونه ظرفا. وإن سُلِّم كونه ظرفا لم يُسلَّم لزوم الظرفية للشواهد التي تقدّم ذكرها نثرا ونظما، فإن تعلّق في ادعاء الظرفية بقول العرب: رأيت الذي سواك، فوصلوا الموصول بسواك وَحْدَه كما وصلوه بعِنْدي ونحوه من الظروف. فالجواب أن يقال لا يلزم من معاملته معاملة الظرف كونه ظرفا، فإن حرف الجر يعامل معاملة الظرف ولم يكن بذلك ظرفا، وإن سُمّي ظرفا فمجاز، وإن أُطلق على "سوى" ظرف إطلاقا مجازيا لم يمتنع. وإنما يمتنع تسميته ظرفا بقصد الحقيقة. وإن كان ذلك مع عدم التصرف فامتناعه أحقُّ. فإن قيل فلِمَ استُجيز الوصل بسوى ولم يُستجر بغير وهما بمعنى واحد، فعن ذلك جوابان: أحدهما أن هذا من النوادر كنصب "غُدْوةً" بعد "لدُنْ" وكإضافة "ذي" إلى تسلم في قولهم: اذهبْ بذي تَسْلَم. والثاني أن سوى لازمة الإضافة لفظا ومعنى فشبّه بعند وَلدي في ذلك مع كثرة الاستعمال، فعُومِل بالوصل به معاملتهما، ولم تعامل "غير" هذه المعاملة، لأنها قد تنفك عن الإضافة لفظا. فإن قيل: فما موضع سوى من الإعراب بعد الموصول؟ قلت يحتمل أن يكون موضعه رفعا على أنه خبر مبتدأ مضمر، ويحتمل أن يكون موضعه نصبا على أنه حال، وقبله ثبت مضمرا، كما أضمر قبل أنّ في قولهم: "لا أفعل ذلك ما أنّ حِراء مكانه". ويقوّي هذا الوجه قول مَن قال: رأيت الذي سواكَ، بالنصب، ونظيره أيضا

قولهم: "كل شيء مههٌ ما النساءَ وذِكْرهنّ" ولنا أن نجعل سواك بعد الموصول خبر مبتدأ محذوف، على أن يكون مبنيا لإبهامه وإضافته إلى مبني كما فعل ذلك بغير في قوله: لُذْ بقيْس حين يأبَى غيره ... تلْفه بحرا مفيضا خيره وقد يكتفى بإلا وبغير عن المستثنى إذا عُرف المعنى. ولم تستعمل العرب ذلك بعد غير "ليس" فيقال: قبضت عشرة ليس إلا، وليس غيرُ وغيرَ: فالأول على تقدير ليس غيرُ ذلك مقبوضا، والثاني على تقدير: ليس المقبوض غيرَ ذلك. ومن هذا القبيل قول سيبويه في باب مجاري أواخر الكلم من العربية: "وأما الفتح والكسر [والضم] والوقف فللأسماء [غير] المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم [ولا فعل] مما جاء لمعنى ليس غير" وذكر ابن خروف أنه رُوي مضموم الراء ومفتوحها، والأخفش يراه معربا في الحالين، ويرى أن التنوين نُزع للإضافة، لأن المضاف إليه ثابت في التقدير، وذكر أن بعض العرب ينوّن غيرا لأنه في اللفظ غير مضاف. قال السيرافي: وينبغي أن يكون تنوينه على وجهين: الرفع والنصب. قلت: تنوين "غير" يؤول على أنه معرب، لأن تنوينه إما للصرف، وإما للتعويض من المضاف إليه. وأيهما كان لزم كون ما هو فيه معربا، لأن تنوين الصرف لم يلحق مبنيّا، وتنوين العِوَض يوجب للمنوّن ماله مع المضاف إليه من بناء أو إعراب، لأنه قام مقامه، ولذلك حُكم ببناء "إذْ" وإعراب "كل وبعض". وذهب المبرد وأكثر المتأخرين إلى بناء غير في: ليس غير، لشبهها بقبْلُ وبعْدُ

في الإبهام والقطع عن الإضافة ونية المضاف إليه. وأجاز الأخفش أن يقال ليس غيرُه وغيرَه، ولم يكن غيرُه وغيرَه في موضع ليس غيرُ، وماله على ذلك دليل غير القياس. قال السيرافي: الحذف الذي استعملوه بعد إلا وغير إنما يستعمل إذا كانت إلا وغير بعد ليس ولو كان مكان ليس غيرها من ألفاظ الجحد لم يجز الحذف. ومن النحويين من جعل "لا سيّما" من أدوات الاستثناء. وذلك عندي غير صحيح، لأن أصل أدوات الاستثناء هو إلا، فما وقع موقعه وأغنى عنه فهو من أدواته، وما لم يكن كذلك فليس منها. ومعلوم أن إلا تقع موقع حاشا وعدا وخلا وليس ولا يكون وغير وسوى وغير ذلك مما لم يختلف في الاستثناء به. فوجب الاعتراف بأنه من أدواته، ولا سيّما بخلاف ذلك فلا يعدّ من أدواته، بل هو مضادّ لها، فإن الذي يلي لا سيما داخل فيما قبله ومشهود له بأنه أحق بذلك من غيره، وهذا المعنى مفوهم بالبديهة من قول امرئ القيس: ألا رُبَّ يومٍ صالحٍ لكَ منهما ... ولا سيَّما يومٌ بدارة جُلْجُل فلا تردّد في أن مراده دخول يوم "دارة جلجل" فيما دخلت فيه الأيام الأخر من الصلاح وأنّ له مزية. وهذا ضد المستفاد بإلا. فلا سبيل إلى إلحاق "لا سيما" بأدوات الاستثناء. وإذا ثبت هذا فلْتعلمْ أن "لا" من لا سيما هي العاملة عمل إنّ وسيّ اسمها وهو نكرة وإن أضيف إلى معرفة لأنه كمثل معنى وحكما و"ما" بعده زائدة إن جُرّ ما يليها.

وبمعنى الذي إن رُفع، وهو حين يُرفع خبر مبتدأ محذوف، والمبتدأ وخبره صلة "ما". وحسّن حذف هذا المبتدأ ما حصل من الاستطالة بذكر دارة جلجل. ويجوز أن تجعل "ما" عوضا من المضاف إليه، ويوما منصوبا على التمييز، كما كان ينتصب بعد ذكر مضاف إليه كقولك لي مثلُه يوما وكقولهم على التمرة مثلُها زُبْدا. أشار إلى هذا الوجه الفارسيّ واستحسنه أبو علي الشلوبين ولا بأس به في كل ما وقع بعد لا سيما من صالح للتميز. ويجوز أن يجعل "يوما" من البيت المذكور منصوبا على الظرف ويكون صلة لما، وبدارة جلجل صفة ليوما أو متعلقا به لما فيه من معنى الاستقرار. ويجوز أن يجعل بدارة جلجل صلة ما ويوما منصوبا لما فيه من معنى الاستقرار، فإن ما المذكورة قد توصل بظرف كقولك يعجبني الاعتكافُ ولا سيّما عند الكعبة، والتهجّد ولا سيّما قربَ الصبح. وقد توصل بجملة فعلية كقولك: يعجبني كلامُك لا سيما تَعِظُ به، فمن الأول قول الشاعر: يَسُرُّ الكريمَ الحمدُ لا سيَّما لدى ... شهادةِ مَن في خيره يَتقلَّبُ ومن الثاني قوله: فُقِ الناس في الحمْد لا سِيّما ... يُنيلُك من ذي الجلال الرِضا وقد تخفف "لا سيَّما" كقول الشاعر: فِهْ بالعقود وبالأيمانِ لا سِيَما ... عَقْدٌ وفاءٌ به من أعظمِ القُرَبِ

وقد يقال: لا سواما، بمعنى لا سيِّما. كمل السِّفر الأول من شرح تسهيل الفوائد لمصنّفه جمال الدين بن مالك رحمة الله عليه. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا كثيرا

باب الحال

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يا رب باب الحال ص: وهو ما دل على هيئة وصاحبها، متضمنا ما فيه معنى "في" غير تابع ولا عمدة، وحقه النصب، وقد يجر بباء زائدة. ش: ما دل على هيئة يعم الحال نحو: جئت ماشيا، وبعض الأفعال نحو تربّعت وبعض أسماء المعاني نحو: رجعت القهقرى، وبعض الأخبار نحو زيد متكئ، وبعض النُعوت نحو مررت برجل راكب. فخرج بعطف صاحبها الفعل وأسماء المعاني وخرج بتضمن معنى "في" ما ليس معناها في نفسه، ولا في جزء مفهومه، مما هو دال على هيئة وصاحبها نحو بنيت صومعة. وخرج بتخصيص معنى في مما تضمنه المذكور، ما معنى في لمجموعه لا لجزء مفهومه نحو دخلت الحمام، فإن معناه دخلت في الحمام، فليس بعض الحمام أولى بفي من بعض، بخلاف قولك جئت ماشيا، وزيد متكئ، ومررت برجل متكئ، فإن معناه جئت في حال مشي، وزيد في حال اتكاء، ومررت برجل في حال اتكاء، فمعنى في مختص بجزء مفهوم المذكور، فشارك الحال في هذا المعنى بعض الأخبار وبعض النُعوت، فأخرجتهما بقولي "غير تابع ولا عمدة". ولا يعترض على هذا بما لا يجوز حذفه من الأحوال نحو ضربي زيدا قائما، فيظن أنه قد صار بذلك عمدة، فإن العمدة في الاصطلاح ما عدمُ الاستغناء عنه أصيلٌ لا عارض، كالمبتدأ والخبر. والفضلة في الاصطلاح ما جواز الاستغناء عنه أصيل لا عارض كالمفعول والحال. وإن عرض للعمدة جواز الاستغناء عنها لم تخرج بذلك

عن كونها عمدة. وإن عرض للفضلة امتناع الاستغناء عنها لم تخرج بذلك عن كونها فضلة. وأشرت بقولي: "وقد يجر بباء زائدة" إلى قول رجل من فصحاء طيء: كائِنْ دُعيتُ إلى بأساءَ داهمةٍ ... فما انبعثتُ بمَزْءُود ولا وَكِل ص: واشتقاقه وانتقاله غالبان لا لازمان، ويغني عن اشتقاقه وصفه أو تقدير مضاف قبله أو دلالته على مفاعلة أو سعر أو ترتيب، أو أصالة أو تفريع أو تنويع أو طور واقع فيه تفضيل. وجعل "فاه" حالا من كلمته فاه إلى فيّ أولى من أن يكون أصله جاعلا فاه إلى فيّ، أو من فيه إلى فيّ. ولا يقاس عليه خلافا لهشام. ش: كون الحال بلفظ مشتق، وبمعنى منتقل كجئت راكبا وذهبت مسرعا أكثر من كونه بلفظ جامد، أو معنى غير منتقل، لأن اللفظ المشتق الدال على معنى منتقل أكثر في الكلام مما ليس كذلك. ومن ورودِ الحال بلفظ غير مشتق قوله تعالى (فانْفِروا ثُباتٍ) و (فما لكم في المنافقين فئتين) و (فتمَّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً) و (هذه ناقةُ الله لكم آيةً). ومن ورودها دالة على غير معنى منتقل قوله تعالى (وهو الذي أنزل إليكم

الكتاب مُفصَّلا) و (خُلِق الإنسانُ ضعيفا) و (يوم أُبعثُ حَيّا) و (طِبتم فادخلوها خالدين). ومن كلام العرب: خلق الله تعالى الزرافةَ يديها أطولَ من رجليها. وقد اجتمع الجمود وعدم الانتقال في قولهم: هذا خاتمك حديدا، وهذه جُبّتك خَزّا، وهما من أمثلة سيبويه. وإنما كان الحال جديرا بوروده مشتقا وغير مشتق، ومنتقلا وغير منتقل، لأنه خبر في المعنى والخبر لا حجر فيه، بل يرد مشتقا وجامدا، ومنتقلا ولازما، فكان الحال كذلك، وكثيرا ما يسميه سيبويه خبرا وقد يسميه مفعولا وصفة؛ فمن تسميته خبرا قوله: هذا باب ما ينتصب لأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء قدمته أو أخرته، وذلك فيها عبد الله قائما، وعبد الله فيها قائما. ومن ذلك قوله: هذا باب ما ينتصب خبره وهي معرفة لا توصف ولا تكون وصفا وذلك قولك مررت بكلٍّ قائما. ومن ذلك قوله في باب ما يختار فيه الرفع والنصب لقبحه أن يكون صفة، ألا ترى أنك تقول: هذا مالُك درهما، وهذا خاتمك حديدا، ولا يحسن أن تجعله صفة، فقد يكون الشيء حسنا إذا كان خبرا، وقبيحا إذا كان صفة. ومن تسميته مفعولا فيه قوله: هذا باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست صفات ولا مصادر لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول فيه، وذلك قولك: كلمته فاه إلى فيّ، وبايعته يدًا بيد. ومن تسميته صفة قوله بعد أن مثل بأما صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف: والرفع لا يجوز هنا، لأنك قد أضمرت

صاحب الصفة وحيث قلت أما العلم فعالم لمْ يتضمن مذكورا قبل كلامك هو العلم، فمن ثَم حسن في هذا الرفع ولم يجز الرفع في الصفة، ولا يكون في الصفة الألف واللام. ومراده بالصفة هنا الحال. وأكثر ورود الحال مستغنيا عن الاشتقاق إذا كان موصوفا كقوله تعالى: (فتمثَّلَ لها بشرًا سَوِيًّا). أو مقدرا قبله مضاف كقول بعض العرب "وقع المُصْطرعان عِدْلَيْ عَيْر". وكقول الشاعر: تضوّعَ مِسْكا بطنُ نَعْمان أنْ مَشَتْ ... به زينبٌ في نِسْوة خَفِرات أو دالا على مفاعلة كقولهم: كلمته فاه إلى فيّ، أو بايتعه يدا بيد، أو دالا على سعر كقولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، والبر قفيزا بدرهم، والدار ذراعا بدرهم. أو دالّا على ترتيب نحو ادخلوا رجلا رجال، وتعلم الحساب بابا بابا. أو دالا على أصالة الشيء كقوله تعالى: (أأسْجُد لمَنْ خلقت طينا) ونحوه هذا خاتمك حديدا، وهو من أمثلة سيبويه. أو دالا على فرعية الشيء كقوله هذا حديدك خاتما. أو دالا على نوعه هذا تمرك شهريزا، وهذا مالك ذهبا. أو دالا على طَوْر واقع فيه تفضيل نحو ذا بُسْرا أطيب منه رطبا. ومذهب سيبويه في كلمته فاه إلى فيّ أنه نصب نصب الحال، لأنه واقع موقع مشافها ومؤد معناه. ومذهب الكوفيين أن أصله كلمته جاعلا فاه إلى فيّ. ومذهب الأخفش أن أصله كلمته من فيه إلى فيّ. وأولى الثلاثة أوّلها، لأنه قول يقتضي تنزيل جامد منزلة مشتق على وجه لا يلزم منه لبس ولا عدم للنظير، وذلك موجود بإجماع

في هذا الباب وغيره فوجب الحكم بصحته. ومن نظائره المستعملة في هذا الباب بايعته يدا بيد، وبعت الشاء شاة ودرهما، والبرّ قفيزا بدرهم، والدار ذراعا بدرهم. فلا خلاف في أن يدا وشاة قفيزا وذراعا منصوبة الحال لا نصب المفعول به، ولا نصب المسقط منه حرف الجر، فإذا أجري ذلك المجرى كلمته فاه إلى فيّ توافقت النظائر وأُمن الضائر، بخلاف تقديرنا جاعلا أو من فلا نظير له في هذا الباب، وفي التقدير ضعف زائد، وهو أنه يلزم منه تقدير من في موضع إلى، ودخول إلى في موضع مِن، لأن مبدأ غاية كلام المتكلم فمه لا فم [غيره] المخاطب. فلو كان معنى من مقصودا لقيل كلمته من فيّ إلى فيه، على إظهار مِن، وكلمته فيّ إلى فيه على تقديرها. وأجاز القياس عليه هشام الكوفي، فيقال على رأيه ماشيته قدمه إلى قدمي، وكافحته وجهه إلى وجهي. وذكر ابن خروف أن الفراء حكى حاذيته ركبته إلى ركبتي، وجاورته بيته إلى بيتي، وصارعته جبهته إلى جبهتي، بالرفع والنصب، ولا يرد شيء من ذلك، ولكن الاقتصار فيه على السماع أولى، لأن فيه إيقاع جامد موقع مشتق، وإيقاع معرفة موقع نكرة، وإيقاع مركب موقع مفرد. وأجاز أكثر البصريين بعد سيبويه تقديم فاه على كلمته لتصرّفه، ومنع ذلك الكوفيون وبعض المتأخرين من البصريين. فصل: ص: الحال واجب التنكير، وقد يجيء معرفا بالأداة والإضافة. ومنه عند الحجازيين العدد من ثلاثة إلى عشرة مضافا إلى ضمير ما تقدم. ويجعله التميميون توكيدا، وربما عومل بالمعاملتين مركب العدد، وقضهم بقضيضهم. وقد يجيء المؤول بنكرة علما. ش: لما كان الغالب اشتقاق الحال وتعريف صاحبه، لأنه مخبر عنه به ألزموه

التنكير، لئلا يتوهم كونهما نعتا ومنعُوتا. وأيضا فإن الحال فضلة ملازم للفضلية فاستثقل واستحق التخفيف بلزوم التنكير. وليس غيره من الفضلات ملازما للفضلية، لجواز صيرورته عمدة بقيامه مقام الفاعل كقولك في ضربت زيدا: ضُرِب زيدٌ. وفي اعتكفتُ يومَ الجمعة: اعتُكِف يوم الجمعة وفي اعتكفت اعتكافا مباركا: اعتُكف اعتكافٌ مبارك. وفي قمت إجلالا لك: قيم إجلال لك، فلصلاحية ما سوى الحال من الفضلات لصيرورته عمدة جاز تعريفه بخلاف الحال. فإن قيل بعض التمييز بعد فعل قد يدخل عليه مِن فيصلح حينئذ أن يقام مقام الفاعل كقولك امتلأ الكوز من ماء: امتلئ من ماء، ومع ذلك لا يجوز تعريف التمييز. قيل مثل هذا في التمييز نادر فلا يعتد به فيحكم بجواز تعريفه. على أن الكسائي حكى عن العرب مطيوبَة بها نفسي فأقاموا التمييز مقام الفاعل. وإذا كان التمييز مستحقا للزوم التنكير مع أنه قد ندر قيامه مقام الفاعل فالحال بلزوم التنكير أحق، إذ لا تفارقه الفضلية بوجه. وقد يجيء الحال معرفا بالألف واللام أو بالإضافة، فيحكم بشذوذه وتأوله بنكرة، فمن المعرف بالألف واللام قولهم: ادخلوا الأول فالأول، أي مترتبين، وجاءوا الجماء الغفير أي جميعا، وأرسلها العراك أي معتركة. ومنه قراءة بعضهم (ليُخرجَنّ الأعزُّ منها الأذلَّ). ومن المعرف بالإضافة قولهم: رجع عوده على بدئه، وجلس وحده، وفعل ذلك جهدَه وطاقته، والمعنى رجع عائدا وجلس منفردا وفعل جاهدا ومطيقا. ومن المعرف بالإضافة مؤولا بنكرة قولهم تفرقوا أيدي

سبا أي متبددين تبددا لا بقاء معه. ومن هذا القبيل قول بعض نساء الصحابة رضي الله عنهم: "وما لنا أكثر أهل النار" فإن أفعل التفضيل عند سيبويه إذا أضيف إلى معرفة تعرف. نص على ذلك في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة وذلك قولك: "هذا أول فارسٍ مقبلٌ". وقد وقع هنا حالا مع أنه مضاف إلى معرفة فيتأول بنكرة كما فعل بغيره من المعارف المتضمنة أحوالا. ويجوز أن تكون المرأة أرادت: وما لنا ترانا أكثر أهل، فحذفت لأنها قالت ذلك بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم "تصدّقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" والرؤية هنا كانت بصرية فضمنها معنى العلم فتتعدى إلى مفعولين. ومن وقوع المعرف بالإضافة حالا لتأوله بنكرة قول أهل الحجاز: جاء القوم ثلاثتهم وأربعتَهم، والنساء ثلاثهن وأربعهن إلى عشرتهم وعشرهن؛ النصب عند الحجازيين على تقدير جميعا، ورفعه التميميون توكيدا على تقدير جميعهم. وذكر الأخفش في "الأوسط" أن من العرب من يقول جاءوا خمسة عشرهم وجئن خمسة عشرتهن. وحكى سيبويه النصب والرفع في جاءوا قضَّهم بقضيضهم، ومعناه جاءوا جميعا. ومن وقوع الحال معرفة مؤولة بنكرة قول العرب: جاءت الخيل بدادِ، فبدادِ علم جنسي وقع حالا لتأوله بنكرة كأنهم قالوا: جاءت الخيل متبددة. فصل: ص: إن وقع مصدر موقع الحال فهو حال لا معمول حال محذوف، خلافا للمبرد والأخفش، ولا يطرد فيما هو نوع للعامل نحو أتيته سرعة خلافا للمبرد، بل يقتصر فيه وفي غيره على السماع إلا في نحو أنت الرجل علما، وهو

زهير شعيرا، وأما عِلْما فعالم. وترفع تميم المصدر التالي أما في التنكير جوازا مرجوحا، وفي التعريف وجوبا. وللحجازيين في المعرّف رفع ونصب. وهو في النصب مفعول له عند سيبويه. وهو والمنكّر مفعول مطلق عند الأخفش. ش: قد تقدم التنبيه على أن الحال خبر في المعنى، وأن صاحبه مخبر عنه، فحق الحال أن يدل على نفس ما يدل عليه صاحبه كخبر المبتدأ بالنسبة إلى المبتدأ. وهذا يقتضي ألا يكون المصدر حالا لئلا يلزم الإخبار بمعنى عن جثة، فإن ورد عن العرب شيء منه حُفظ ولم يُقس عليه، كما لا يقاس على وقوع المصدر نعتا. فمن ورود المصدر حالا قوله تعالى (ثم ادْعُهنّ يأتينك سَعْيًا) و (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سِرًّا وعلانيةً) و (ادْعوه خوفًا وطمعًا) و (إنّي دعوتهم جهارًا)، وقتلته صبرا، ولقيته فُجاءه، وكلمته مشافهة، وأتيته ركضا ومشيا. فهذه في عدم القياس عليها بمنزلة الواردة نُعوتا في نحو رجل رضًى وعدْل وصوْم وفِطْر وزور، إلا أن جعل المصدر حالا أكثر من جعله نعتا. والأخفش والمبرد يريان أن المصادر الواقعة مواقع الأحوال مفاعيل مطلقة، وأن قبل كل واحد منها فعلا مقدرا هو الحال، وليس بصحيح، لأنه إن كان الدليل على الفعل المضمر نفس المصدر المنصوب فينبغي أن يجيزوا ذلك في كل مصدر له فعل ولا يقتصروا على السماع، ولا يمكن أن يفسره الفعل الأول، لأن القتل لا يدل على الصبر، ولا اللقاء على الفجاءة، ولا الإتيان على الركوب. وقد اطرد ورود المصدر حالا في نحو هو الرجل علما وأدبا ونبلا، أي الكامل في حال علم وحال أدب وحال نبل. ومذهب ثعلب في هو الرجل علما ونحوه أن المصدر فيه مؤكد على تأول الرجل باسم فاعل من معناه. واطرد أيضا ورود المصدر

حالا في نحو هو زهير شعرا، وحاتم جودا، والأحنف حلما، ويوسف حسنا، أي مثل زهير في حال شعر، ومثل حاتم في حال جود ومثل الأحنف في حال حلم، ومثل يوسف في حال حسن. ومن هذا القبيل قول الشاعر: تخبّرنا بأنك أحوذِيٌّ ... وأنت البْسكاءُ بنا لُصُوقا واطرد أيضا ورود المصدر حالا عند سيبويه في نحو أما علما فعالم يريد مهما يذكر إنسان في حال علم فالذي وصفت عالم، كأنه مُنكِر ما وصفه به من غير العلم، فصاحب الحال على هذا التقدير المرفوع بفعل الشرط المحذوف، وفعل الشرط المحذوف هو ناصب الحال. ويجوز أن يكون ناصبه ما بعد الفاء وصاحبه ما فيه من ضمير، والحال على هذا مؤكدة، والتقدير مهما يكن من شيء فالمذكور عالم في حال علم. فلو كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله تعين نصب ما ولى أمّا بفعل الشرط المقدّر نحو قولك أما علما فلا علم له، وأما علما فإن له علما، وأما علما فهو ذو علم. وبنو تميم يلتزمون رفع المصدر بعد أمّا إذا كان معرفة، ويجيزون رفعه ونصبه إذا كان نكرة، والنصب عندهم أكثر. والحجازيون يجيزون نصب المعرفة ورفعه، ويلتزمون نصب المنكّر. وسيبويه يجعل المنصوب المعرف مفعولا له. والأخفش يجعل المنصوب مصدرا مؤكدا في التنكير والتعريف، ويجعل العامل فيه ما بعد الفاء إن لم يقترن بما لا يعمل ما بعده فيما قبله، فتقدير أمّا علما فعالم في مذهب الأخفش: مهما يكن من شيء فالمذكور عالم علما، فلزم القائل أن يقدم علما والعامل فيه ما بعد الفاء، كما لزم تقدم المفعول به في (فأمّا اليتيمَ فلا تقهر)، والتقدير مهما يكن من شيء فاليتيم لا تقهر، أو فلا تقهر اليتيم. وقال سيبويه في أما الضرب فضارب مثل قول الأخفش في أما علما فعالم. وأجاز بعض النحويين أن يكون

المنصوب بعد أما من المصادر مفعولا به في التنكير والتعريف، والعامل فيه فعل الشرط المقدر فيقدر متعديا على حسب المعنى، فتقدير أما علما فعالم على هذا: مهما تذكر علما فالذي وصفت عالم. قلت: وهذا القول عندي أولى بالصواب، وأحق ما اعتمد عليه في الجواب: لأنه لا يخرج فيه شيء عن أصله، ولا يمنع من اطراده مانع، بخلاف الحكم بالحالية، فإن فيه إخراج المصدر عن أصله بوضعه موضع اسم فاعل، وفيه عدم الاطراد لجواز تعريفه، وبخلاف الحكم بأنه مصدر مؤكد فإنه يمتنع إذا كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله. وأما الحكم بأنه مفعول به فلا يعرض مانع يمنع منه في لفظ ولا في معنى، فكان أولى من غيره، ومما يؤيده الرجوع إليه على أحسن الوجهين في قول الشاعر: ألا ليت شعري هل إلى أمّ مالك ... سبيلٌ فأما الصبرُ عنها فلا صبرا فيروى بالرفع على الابتداء، وبالنصب على تقدير مهما تذم الصبر عنها فلا صبر، هذا تقدير السيرافي وهو أسهل من جعل الصبر مفعولا له، وإن كان هو قول سيبويه. والنصب لغة الحجازيين والرفع لغة تميم. ويؤيده في المصدر مجيئه فيما ليس مصدرا نحو أما قريشا فأنا أفضلها، رواه الفراء عن الكسائي عن العرب. وتقديره مهما تذكر قريشا فأنا أفضلها، أو تصف قريشا فأنا أفضلها. ومثله ما رواه يونس عن قوم من العرب أنهم يقولون: أما العبيدَ فذو عبيد، بالنصب وتقديره عندي: مهما تذكر العبيد فهو ذو عبيد، ومهما تذكر العبد فهو ذو عبد، فلو كان تالي أما صفة منكرة نحو أما صديقا فصديق تعيّنت الحالية وكان العامل فعل الشرط المقدر، ويجوز أن يكون العامل الصفة التي بعد الفاء، ويكون الحال مؤكدا، وكذلك يجوز الوجهان في أما صديقا فليس بصديق. ومنع المبرد في هذا إعمال صديق، لاقترانه بالباء، وغيره لا يمنع ذلك، لأن الباء زائدة فوجودها كعدمها. وزعم الأخفش أن صديقا

منصوب بيكون والتقدير أما أن يكون إنسان صديقا فالمذكور صديق. وردّ المبرد قوله، ولم يذكر حجة الرّدّ. والحجة أنا إذا قدرنا أن يكون لزم كون أن وصلتها في موضع نصب على المذهب المختار. وينبغي أن يقدر قبلها أن يكون آخر ويؤدي إلى التسلسل والتسلسل محال. فصل: ص: لا يكون صاحب الحال في الغالب نكرة ما لم يختصّ أو يسبقه نفي أو شبهه، أو تتقدم الحال، أو تكن جملة مقرونة بالواو، أو يكن الوصف به على خلاف الأصل، أو يشاركه فيه معرفة. ش: قد تقدم أن الحال خبر في المعنى وأن صاحبه مخبر عنه، فأصله أن يكون معرفة كما أن أصل المبتدأ أن يكون معرفة. وكما جاز أن يبتدأ بنكرة بشرط حصول الفائدة وأمن اللبس، كذلك يكون صاحب الحال نكرة بشرط وضوح المعنى وأمن اللبس. ولا يكون ذلك في الأكثر إلا بمسوّغ؛ فمن المسوغات تخصّص صاحب الحال بوصف كقوله تعالى (فيها يُفْرق كل أمرٍ حكيم* أمرًا من عندنا) وكقول الشاعر: نجّيت يا ربِّ نُوحًا واستجبت له ... في فُلْك ماخرٍ في اليمّ مشحونا وعاشَ يدعو بآياتٍ مُبَيَّنَةٍ ... في قومه ألفَ عامٍ غير خَمسينا وتخصّصه بالإضافة كقوله تعالى (وقدَّر فيها أقْواتها في أربعة أيّام سواءً للسائلين) ومثله (وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلا) في قراءة غير نافع وابن عامر.

ومن المسوغات أن يكون قبل صاحب الحال نفي كقوله تعالى (وما أهلكنا من قريةٍ إلّا ولها كتابٌ معلومٌ)، فلها كتاب معلوم جملة حالية مقرونة بواو الحال، وصاحب الحال قرية، وحسن جعله صاحب حال مع أنه نكرة محضة تقدم النفي عليه، كما حسّن الابتداء به في نحو: ما قرية إلا لها كتاب معلوم. وقد مضى في باب الاستثناء الكلام على هذه الآية، وإبطال رأي الزمخشري فيها. وأن من أمثال أبي علي في التذكرة: ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخاك، فجعل قائما حالا من أحد لاعتماده على المنفي، وأبطل جعله صفة بعد أحد، لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف. ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة وقوعه بعد نهي أو استفهام، وإليهما أشرت بقولي "ما لم يختص أو يسبقه نفي أو شبهه". ومن مجيء ذلك بعد النهي قول قطري: لا يَركنَنْ أحدٌ إلى الإحجام ... يومَ الوغى مُتخوِّفا لحِمامِ ومن مجيء ذلك بعد الاستفهام: يا صاحِ هل حُمّ عيش باقيا فترى ... لنفسك العذرَ في إبعادها الأملا ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة تقدم الحال كقولك: هذا قائما رجل. قال سيبويه بعد تمثيله بهذا المثال: (لما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقبح أن تقول فيها قائم فتضع الصفة موضع الاسم كما قبح مررت بقائم وأتاني قائم، جعلت

القائم حالا وكان المبني على الكلام الأول ما بعده. ثم قال: وحمل هذا على جواز فيها رجل قائما، وصار حين أُخّر وجه الكلام فرارا من القبح. وأنشد لذي الرمة: وتحت العوالي في القَنا مُسْتَظِلَّةً ... ظباءٌ أعارَتْها العُيونَ الجآذرُ وأنشد لغيره: وبالجسم منّي بيّنا لو علمته ... شحوبٌ وإنْ تستشهدي العينَ تَشْهَدِ وأنشد غير سيبويه: وما لام نفسي مثلَها لي لائمٌ ... ولا سَدَّ فقْري مثلُ ما ملكتْ يدي قلت: أشار سيبويه بقوله: حمل هذا على جواز فيها رجل قائما، أي أن صاحب الحال قد يكون نكرة دون مسوغ. ومن المسوغات التي ذكرتها نحو قوله فيها رجل قائما، لكن على ضعف لإمكان الإتباع فإذا قدم الحال زال الضعف لتعذر الإتباع، وكان هذا بمنزلة قولنا في الاستثناء: ما قام أحد إلا زيد. فإن النصب مع تأخر المستثنى ضعيف لإمكان الإتباع. فإذا قدم المستثنى لزم النصب في المشهور من كلامهم لتعذر الإتباع. فظهر من كلام سيبويه أن صاحب الحال الكائن في نحو فيها رجل قائما هو المبتدأ. وذهب قوم إلى أن صاحبه الضمير المستكن في الخبر. وقول سيبويه هو الصحيح، لأن الحال خبر في المعنى، فجعله لأظهر الاسمين أولى من جعله لأغمضهما. وزعم ابن خروف أن الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا لا ضمير فيه عند سيبويه والفراء، إلا إذا تأخر، وأما إذا تقدم فلا ضمير فيه؛ واستدل على ذلك بأنه لو كان فيه ضمير إذا تقدم لجاز أن يؤكد وأن يعطف عليه وأن يبدل منه، كما فعل ذلك مع التأخر.

ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة كون الجملة مقرونة بالواو كقوله تعالى (أوْ كالذي مَرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها)، وكقول الشاعر: مضى زمنٌ والناسُ يستشفعون بي ... فهلْ لي إلى ليلى الغداةَ شفيعُ لأن الواو رفعت توهم كون الجملة نعتا. ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة توقي الوصف بما لا يصلح للوصفية كقولهم: هذا خاتم حديدا، وعندي راقود خلا. ظاهر كلام سيبويه أن المنصوب في هذين المثالين وأشباههما منصوب على الحال، وأن الذي سوغ ذلك مع تنكير ما قبله التخلص من جعله نعتا مع كونه جامدا غير مؤول بمشتق، وقد تقدم أن ذلك يغتفر في الحال، لأنه بالإخبار أشبه منه بالنعوت. والمشهور في غير كلام سيبويه نصب ما بعد خاتم وراقود وشبههما على التمييز، فلو كان ما قبله معرفة لم يكن إلا حالا نحو هذا خاتمك حديدا وهذه جبتك خزا. ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة اشتراكها مع المعرفة نحو قولك هؤلاء ناس وعبد الله منطلقين وقد جعل سيبويه لهذه المسألة بابا فقال: هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة، ثم قال: وذلك قولك هذان رجلان وعبد الله منطلقين. فنصب منطلقين على الحال والعامل فيه التنبيه. ص: ويجوز تقديم الحال على صاحبه وتأخيره إن لم يعرض مانع من التقديم، كالإضافة إلى صاحبه، أو من التأخير كاقترانه بإلا على رأي، وكإضافته إلى ضمير ما لابس الحال، وتقديمه على صاحبه المجرور بحرف ضعيف على الأصح لا ممتنع.

ولا يمنع تقديمه على المرفوع والمنصوب خلافا للكوفيين في المنصوب الظاهر مطلقا، وفي المرفوع الظاهر المؤخر رافعه عن الحال. واستثنى بعضهم من حال المنصوب ما كان فعلا، ولا يضاف غير عامل الحال إلى صاحبه إلا أن يكون المضاف جزأه أو كجزئه. ش: نسبة الحال من صاحبه نسبة الخبر من المبتدأ، فالأصل تأخيره وتقديم صاحبه، كما أن الأصل تأخير الخبر وتقديم المبتدأ. وجواز مخالفة الأصل ثابت في الحال، كما كان ثابتا في الخبر ما لم يعرض موجب للبقاء على الأصل أو الخروج عنه. فمما يوجب البقاء على الأصل الإضافة إلى صاحب الحال مع كون الإضافة مخصّصة نحو عرفت قيام زيد مسرعا. ومما يوجب الخروج عن الأصل اقتران صاحب الحال بإلا نحو ما قام مسرعا إلّا زيد، فإن ورد نحو ما قام إلّا زيد مسرعا أضمر ناصب الحال بعد صاحبها كقول الراجز: ما راعني إلّا جناحٌ هابِطا ... حول البيوت قَوْطَهُ العُلابِطا أراد ما راعني إلا جناح راعني هابطا، وجناح اسم رجل، ومما يوجب الخروج عن الأصل إضافة صاحب الحال إلى ضمير يعود إلى ملابس الحال بإضافة نحو جاء زائر هند أخوها، أو بغير إضافة نحو جاء منقاد العمرو صاحبه. وإذا كان صاحب الحال مجرورا بإضافة محضة لم يجز تقديم الحال عليه بإجماع، لأن نسبة المضاف إليه من المضاف كنسبة الصلة من الموصول. فإن كانت الإضافة غير محضة جاز تقديم الحال على المضاف كقولك: هذا شارب السويق ملتوتا الآن أو غدا، لأن الإضافة في نية الانفصال فلا يعتدّ بها. فإن ورد تقديم حال ما جر بإضافة محضة حمل على وجه لا خلاف في جوازه كقول الراجز:

نحنُ وطِئْنا خُسَّئًا دِياركم ... إذْ أسْلمتْ كُماتُكم ذِمارَكم فقد يتوهم سامع هذا أن خسّأ بمعنى بعداء مزدجرين كقوله تعالى (كُونوا قِرَدةً خاسئين) فيجعله حالا من ضمير المخاطبين، ويقول قد تقدم حال المضاف إليه على المضاف وليس كذلك. ولكن خسّأ جمع خاسِئ بمعنى زاجر من قولهم خسأتُ الكلب، أي أبعدته وزجرته، فهو حال وصاحبه الفاعل من وطئنا. وقد يتوهم أن فُرَّارا من قول الشاعر: ليستْ تُجرِّحُ فُرَّارًا ظُهورُهم ... وفي النُّحورِ كُلُومٌ ذاتُ أبْلادِ حال من الهاء والميم، وظهورهم مرفوعة بتجرّح على أنه مفرغ وليس كذلك، بل تجرح مسند إلى ضمير الجماعة الموصوفة وهو صاحب الحال، وظهورهم بدل بعض من كل. وهذا توجيه لا تكلف فيه. وإذا كان صاحب الحال مجرورا بحرف لم يجز عند أكثر النحويين نحو مررت بهند قائمة فيخطئون مَن يقول مررت قائمة بهند، ودليلهم في منع ذلك، أن تعلق العامل بالحال ثان لتعلقه بصاحبه، فحقه إذا تعدى لصاحبه بواسطة أن يتعدى إليه بتلك الواسطة، لكن منع من ذلك خوف التباس الحال بالبدل، وأن فعلا واحدا لا يتعدى بحرف واحد إلى شيئين، فجعلوا عوضا من الاشتراك في الواسطة التزام التأخير. وبعضهم يعلل منع التقدم بالحمل على حال المجرور بالإضافة. وبعضهم يعلل بأن حال المجرور شبيه بحال عمل فيه حرف جر مضمن معنى الاستقرار نحو زيد في الدار متكئا، فكما لا يتقدم الحال على حرف الجر في هذا وأمثاله، لا يتقدم عليه نحو: مررت بهند جالسة. وهذه شبه وتخيلات لا تستميل إلّا نفس مَن لا تثبّت له، بل الصحيح جواز التقديم في نحو مررت بهند جالسة، وإنما حكمت بالجواز لثبوته سماعا، ولضعف

دليل المنع. أما ثبوته سماعا ففي قوله تعالى (وما أرْسلناك إلا كافّة للناس) وفيه ثلاثة أقوال: أحدها أن كافة صفة لإرسالة فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وهو قول الزمخشري. والثاني أن كافة حال من الكاف وهو قول الزجاج والتاء فيه للمبالغة. والثالث أن كافة حال من الناس، والأصل للناس كافة، أي جميعا، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب أبي علي وابن كيسان، أعني تقديم حال المجرور بحرف، حكاه ابن برهان وقال: "وإليه نذهب، كقوله تعالى (وما أرسلناك إلا كافّةً للناس) وكافة حال من الناس وقد تقدم على المجرور باللام، وما استعملت العرب كافة قط إلا حالا". كذا قال ابن برهان. وكذلك أقول، ولا يلتفت إلى قول الزمخشري والزجاج؛ أما الزمخشري فلأنه جعل كافة صفة ولم تستعمله العرب إلا حالا، وهذا شبيه بما فعل في خطبة المفصل من إدخال باء الجر عليه. وإضافته، والتعبير به عما لا يعقل. وليته إذ أخرج كافة عن استعمال العرب سلك به سبيل القياس، بل جعله صفة موصوف محذوف، ولم تستعمله العرب مفردا ولا مقرونا بالصفة أعني إرسالة، وحق الموصوف المستغنى بصفته أن يعاد ذكره مع صفته قبل الحذف، وألا تصلح الصفة لغيره، والمشار إليه بخلاف ذلك فوجب الإعراض عما أفضى إليه. وأما الزجاج فبطلان قوله بيّن أيضا؛ لأنه جعل كافة حالا مفردا ولا يعرف ذلك من غير محل النزاع، وجعله من مذكر مع كونه مؤنثا، ولا يتأتى ذلك إلا بجعل تائه للمبالغة وبابه مقصور على السماع، ولا يتأتي غالبا ما هي فيه إلا على أحد أمثله المبالغة كنسّابة وفَروقة ومِهذارة، وكافة بخلاف ذلك، فبطل أن تكون منها،

لكونها على فاعلة. فإن حملت على رواية حملت على شاذ الشاذ، لأن لحاق تاء المبالغة لأحد أمثلة المبالغة شاذ ولما لا مبالغة فيه أشذ فيعبر عنه بشاذ الشاذ، والحمل على الشاذ مكروه فكيف على شاذ الشاذ. وإذا بطل القولان تعين الحكم بصحة القول الثالث وهو أن يكون الأصل (وما أرسلناك إلا للناس كافة) فقدم الحال على صاحبه مع كونه مجرورا. ومن أمثلة أبي علي في التذكرة زيدٌ خيرَ ما تكون خيرٌ منك، على أن المراد زيد خير منك خيرَ ما تكون، فجعل خير ما تكون حالا من الكاف المجرورة وقدّمها، وهذا موافق لقول ابن برهان. ومن تقدم الحال على صاحبه المجرور بحرف قول الشاعر: فإنْ تكُ أذْوادٌ أُصِبْنَ ونسوةٌ ... فلن يذهبوا فِرْغًا بقتل حبالِ أراد فلن يذهبوا بدم حبال فرغا. وحبال اسم رجل. ومن ذلك قول الشاعر: لئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صاديًا ... إليَّ حبيبًا إنّها لحَبيبُ أراد لئن كان برد الماء حبيبا إليّ هيمان صاديا. ومن ذلك قول الآخر: تسَلّيت طُرًّا عنكم بعدَ بينكم ... بذِكْراكُم حتّى كأنكمُ عندي أراد تسليت عنكم طرا. وربما قدم الحال على صاحبه المجرور وعلى ما يتعلق به الجار، كقول الشاعر: غافِلا تعْرِضُ المنيَّة للمرْ ... ء فيُدعَى ولاتَ حين إباءِ أراد تعرض المنية للمرء غافلا. ومثله:

مَشغوفةً بك قد شُغِفتُ وإنّما ... حُتم الفراقُ فما إليك سبيلُ أراد شغفت بك مشغوفة. وإذ قد بيّنت دلائل السماع مستوفاة، فلْأبيّن ضعف شبه المنع، فمن ذلك ادعاء أن حق الحال إذا عُدي العامل لصاحبه بواسطة أن يُعدّى إليه بتلك الواسطة، فيقال لمدّعي ذلك: لا نسلم هذا الحق حتى يترتب عليه التزام التأخير تعويضا، بل حق الحال لشبهه بالظرف أن يستغنى عن واسطة، على أن الحال أشد استغناء عن الواسطة، ولذلك يعمل فيها ما لا يعدى بحرف الجر كاسم الإشارة وحرف التنبيه والتشبيه والتمني. ومن الشُّبَه التزام التأخير إجراء لحال المجرور بحرف مجرى حال المجرور بإضافة فيقال لصاحب هذه الشبهة المجرور بحرف كالأصل للمجرور بالإضافة، فلا يصلح أن يحمل المجرور بحرف عليه، لئلا يكون الأصل تابعا والفرع متبوعا، وأيضا فالمضاف بمنزلة موصول والمضاف إليه بمنزلة صلة، والحال منه بمنزلة جزء صلة، فوجب تأخيره، كما يجب تأخير أجزاء الصلة، وحال المجرور بحرف لا يشبه جزء صلة فأجيز تقديمه إذ لا محذور في ذلك. ومن الشبه تشبيه مررت بهند جالسة بباب زيد في الدار متكئا، وإلحاق أحدهما بالآخر، فيقال للمعتمد على هذا: بين البناءين بَون بعيد، وتفاوت شديد، فإن جالسة من قولنا مررت بهند جالسة منصوب بمررت وهو فعل متصرف لا يفتقر في نصب الحال إلى واسطة، كما لا يفتقر إليها في نصب ظرف أو مفعول له أو مفعول مطلق، وحرف الجر الذي عداه لا عمل له إلا الجر ولا جيء به إلا لتعدية مررت، والمجرور به بمنزلة منصوب فيتقدم حاله، كما يتقدم حال المنصوب، ولكونه بمنزلة المنصوب أجرى في اختيار النصب "أزيدا مررت به" مجرى أزيدا لقيته. وأما متكئا في المسألة الثانية فمنصوب بفي لتضمنها معنى الاستقرار، وهي أيضا رافعة ضميرا عائدا على زيد وهو صاحب الحال فلم يجز لنا أن نقدم متكئا على في لأن العمل لها وهي عامل ضعيف متضمن معنى الفعل دون حروفه، فمانع التقديم في نحو زيد

في الدار متكئا غير موجود في نحو مررت بهند جالسة. وربما قدم الحال في نحو زيد في الدار متكئا. وإذا كان صاحب الحال منصوبا أو مرفوعا جاز تقديم الحال عليه ظاهرا كان أو مضمرا عند البصريين نحو لقيت راكبة هندا، وجاء مسرعا زيد. ومنع الكوفيون تقديم حال المنصوب إذا كان ظاهرا لئلا يتوهم كون الحال مفعولا وكون صاحبه بدلا. فإن كان الحال فعلا لم يمنع بعضهم تقديمه لزوال المحذور، أعني توهم المفعولية والبدلية. والصحيح جواز التقديم مطلقا، لأن راكبة من قولنا لقيت راكبة هندا يتبادر الذهن إلى حاليته، فلا يلتفت إلى عارض توهم المفعولية. ومن شواهد تقديم حال المنصوب قول الشاعر: وصلتُ ولم أَصْرِم مُسِئينَ أسْرتي ... وأعْتَبْتُهم حتى يُلاقوا وَلائيا أراد وصلت أسرتي مسيئين. ومثله قول الحارث بن ظالم: وقطّع وصلها سَيْفي وإنّي ... فجَعْتُ بخالدٍ طُرًّا كِلابا ومن تقديم المنصوب فعلا قول الشاعر: لن يراني حتى يرى صاحبٌ لي ... أجْتَني سُخْطَهُ يشيبُ الغُرابا أراد لن يراني صاحب لي أجتني سخطه حتى يرى الغراب يشيب. وأجمعوا على جواز تقديم حال المرفوع إذا كان ضميرا كقوله تعالى (خُشَّعًا أبصارُهم يخرجون من الأجداثِ) وكقول الشاعر:

مُزْبِدًا يَخْطِرُ ما لم يرَني ... وإذا يخلو له لحْمِي رَتَعْ فإن كان المرفوع ظاهرا لم يجز عند الكوفيين تقديم حاله. وبعض العلماء يزعم أن الكوفيين لا يمنعون تقديم حال المرفوع الظاهر إذا كان الفعل متقدما نحو قام مسرعا زيد، وإنما يمنعون تقديم حال المرفوع إذا كان الفعل متأخرا نحو مسرعا قام زيد. والصحيح جواز تقديم حال المرفوع مطلقا، فمن تقديمه والفعل متقدم قول الشاعر: يطيرُ فِظاظا بيْنهم كلُّ قَوْنَس ... وتَتْبَعُها منهم فَراشُ الحواجبِ ومثله: فسقى بلادَك غيرَ مُفسِدها ... صَوْبُ الغمام وديمةٌ تَهْمى ومثله: تَرحَّلَ من أرض العراق مُرقّشٌ ... على طَرَبٍ تَهوي سِراعًا رواحِلُهْ ومثله: فما كان بين الخير لو جاء سالمًا ... أبو حَجر إلا ليالٍ قلائلُ ومن تقديمه والفعل متأخر قول العرب: "شَتَّى تَئُوبُ الحَلَبَةُ" أي متفرقين

يرجع الحالبون. ومثله قول الشاعر: سريعًا يهونُ الصعْبُ عند أولي النّهى ... إذا برجاءٍ صادقٍ قابَلوا اليَأسا وحق المجرور بالإضافة ألا يكون صاحب حال كما لا يكون صاحب خبر، لأنه مكمل للمضاف وواقع منه موقع التنوين. فإن كان المضاف بمعنى الفعل حسن جعل المضاف إليه صاحب حال نحو عرفت قيام زيد مسرعا، وهو راكب الفرس عريا. وإلى هذين المثالين ونحوهما أشرت بقولي "ولا يضاف غير عامل الحال إلى صاحبه" فعلم أن إضافة عامل الحال إلى صاحب الحال جائزة، وأن إضافة ما ليس عاملا في الحال إلى صاحبها غير جائزة، إلا ما استثني. ومن إضافة عامل الحال إلى صاحبها قوله تعالى (إلى الله مرجعُكم جميعا) ومثله قول الشاعر: تقول أبنتي إنّ انطلاقَك واحدًا ... إلى الرَّوْع يومًا تاركي لا أباليا قلت إلا أن يكون المضاف جزءه أو كجزئه. فأشرت بكون المضاف جزء ما أضيف إليه إلى نحو قوله تعالى (ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخوانا) وأشرت بكون المضاف كجزء ما أضيف إليه إلى نحو قوله تعالى (أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حنيفًا) وإنما حسن جعل الذي أضيف إليه جزؤه أو كجزئه صاحب حال، لأنه قد يستغنى به عن المضاف، ألا ترى أنه لو قيل في الكلام: نزعنا ما فيهم من غل إخوانا، واتبع إبراهيم حنيفا لحسُنَ، بخلاف الذي يضاف إليه ما ليس بمعنى الفعل وما ليس جزءا ولا كجزء، فإنه لا سبيل إلى جعله صاحب حال، لو قلت ضربت غلام هند جالسة أو نحو ذلك لم يجز بلا خلاف. فصل: ص: يجوز تقديم الحال على عاملها إن كان فعلا متصرفا، أو صفة

تشبهه، ولم يكن نعتا ولا صلة لأل أو حرف مصدري، ولا مصدرا مقدرا بحرف مصدري، ولا مقرونا بلام الابتداء أو القسم. ويلزم تقديم عاملها إن كان فعلا غير متصرف أو صلة لأل أو حرفا مصدريا أو مصدرا مقدرا بحرف مصدري أو مقرونا بلام الابتداء أو القسم أو جامدا ضمن معنى مشتق أو أفعل تفضيل أو مفهم تشبيه. واغتفر توسيط ذي التفضيل بين حالين. وقد يفعل ذلك بذي التشبيه. فإن كان الجامد ظرفا أو حرف جر مسبوقا بمخبر عنه جاز على الأصح توسيط الحال بقوة إن كانت ظرفا أو حرف جر. وبضعف إن كانت غير ذلك. ولا تلزم الحالية في نحو: فيها زيد قائما، بل تترجح على الخبرية. وتلزم هي في نحو: فيك زيد راغب، خلافا للكوفيين في المسألتين. ش: تقدم الحال على عاملها إذا كان فعلا متصرفا نحو مسرعا أتيت، وإذا كان صفة تشبهه تتضمن معنى الفعل وحروفه وقبول علامات الفرعية، فهو في قوة الفعل، ويستوي في ذلك اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة كقول الشاعر: لَهِيّك سَمْحٌ ذا يسارٍ ومُعْدِما ... كما قد ألِفْتَ الحِلْم مُرْضًى ومُغْضَبا فلو قيل في الكلام إنك ذا يسار ومعدما سمح لجاز، لأن سمحا عامل قوي بالنسبة إلى أفعل التفضيل لتضمنه حروف الفعل ومعناه مع قبوله لعلامات التأنيث والتثنية والجمع. فلو كان العامل القوي نعتا لم يجز تقديمه نحو مررت برجل ذاهبة فرسه مكسورا سرجها. وكذا لو كان صلة لأل أو أنّ أو إحدى أخواتها لم يجز أن يتقدم عليه ما يتعلق به من حال وغيره. فلو كان العامل صلة اسم غير أل لم يمنع تقديم الحال عليه كما لا يمتنع تقديم غيرها، مثال ذلك مَن الذي خائفا جاء. ومن العوامل التي لا يتقدم عليها الحال ولا غيرها المصدر المقدر بأنْ أو ما أختها نحو سرني ذهابك غدا غازيا، ولأجزينّك بودّك إياي مخلصا. والفعل المقرون بلام الابتداء أو القسم نحو لأصبر محتسبا. ولأقومنّ طائعا، ويلزم تقديم عاملها إن كان فعلا غير متصرف نحو ما أكرمك مُستنجدا، أو صلة لأل نحو أنت المصلّى فذّا، أو بحرف مصدري

نحو لك أن تتنفّل قاعدا، أو مصدرا مقدرا بأنْ أو ما أختها، أو فعلا مقرونا بلام الابتداء أو قسم، وقد تقدمت أمثلة ذلك. ومن العوامل التي لا يتقدم الحال عليها الجامد المضمّن معنى مشتق كأمّا وحرف التنبيه والتمنّي والترجّي واسم الإشارة والاستفهام المقصود به التعظيم نحو: يا جارَتا ما أنْتِ جارَهْ والجنس المقصود به الكمال نحو أنت الرجل عِلْما، والمشبّه به نحو هو زهير شعرا، وأفعل التفضيل نحو هو أكفاهم ناصرا. وكان حق أفعل التفضيل أن يجعل له مزيّة على الجوامد المضمنة معنى الفعل، لأن فيه ما فيهن من معنى الفعل ويفوقهن بتضمن حروف الفعل ووزنه ومشابهة أبنية المبالغة في اقتضاء زيادة المعنى، وفيه من الضعف بعدم قبول علامة التأنيث والجمع ما اقتضى انحطاطه عن درجة اسم الفاعل والصفة المشبهة فيجعل موافقا للجوامد إذا لم يتوسط بين حالين نحو هو أكفاهم ناصرا، وجعل موافقة للصفة المشبهة إذا توسط نحو تمرنا بُسرا أطيب منه رُطبا، ومررت برجل خيرَ ما يكون خيرٍ منك خيرَ ما تكون، فنصب أطيب بُسرا ورطبا ونصب خيرا منك خير ما يكون وخير ما تكون. وليس هذا على إضمار كان كما ذهب إليه السيرافي ومن وافقه، لأنه خلاف قول سيبويه، وفيه تكلف إضمار ستة أشياء من غير حاجة، ولأن أفعل هناك أفعل في قوله تعالى: (هم للكفر يومئذ أقربُ منهم للإيمان) في أن القصد بهما تفضيل شيء على نفسه باعتبار متعلقين؛ فكما اتحد هنا المتعلق به كذا يتحد في الأمثلة المشار إليها. وبعد تسليم يلزم إعمال أفعل في إذ وإذا فيكون ما وقع فيه شبيها بما فُرّ منه. وللحال هنا زيادة شبه بالظرف. ثم قال

سيبويه وإنما قال الناس هذا منصوب على إضمار "إذا كان فيما يستقبل، وإذا كان فيما مضى" لأن هذا لما كان معناه أشبه عندهم أن ينتصب على إذا كان وإذ كان. فهذا نص على تقدير "أن كان" لم تدع إليه حاجة من قِبَل العمل، بل من قبل تقريب المعنى. والعامل إنما هو أفعل وقد تقدم دليل ذلك. وإنما ذكرت نصّ سيبويه لئلا يظن مَن لا يعرف كلامه أن مذهبه مخالفا لما ذهبت إليه. وغير السيرافي من الشارحين لكتاب سيبويه مخالفون للسيرافي وذاهبون إلى ما ذهبت إليه. قال أبو علي في التذكرة مررت برجل خير ما تكون خير منك، العامل في خير ما تكون خير منك لا مررت، بدلالة زيد خير ما تكون خير منك. وصحح أبو الفتح قول أبي عليّ في ذلك. وقال أبو الحسن بن كيسان: تقول زيد قائما أحسن منه قاعدا، والمراد يزيد حسنه في قيامه على حسنه في قعُوده، فلما وقع التفضيل في شيء على شيء وضع كل واحد منهما في الموضع الذي يدل فيه على الزيادة ولم يجمع بينهما. ومثال هذا أن تقول: حمل نخلتنا بُسْرا أطيب منه رُطبا. ومما يعمل في الحال ولا يتقدم الحال عليه لضعفه الصفة المشبهة به ونحو زيد مثلك شجاعا وليس مثلك جوادا وكذا إذا حذف مثل وضمن المشبه به معناه كقولك زيد زهير شعرا، وأبو يوسف وأبو حنيفة فقها. ومنه. فإنّي الليثُ مَرهُوبًا حماهُ ... وعندي زاجِرٌ دون افتراسي وقد يتوسط هذا النوع بين حالين فيعمل في أحدهما متأخرا وفي الآخر متقدما قول الشاعر: أنا فَذَّاكهم جميعًا فإنْ أمـ ... ـــــــدُدْ أُبِدْهم ولاتَ حين بقاءِ

ومنه: تُعَيِّرُنا أنَّنا عالةٌ ... ونحنُ صعاليك أنتم ملوكا أراد ونحن في حال تصعلكنا مثلكم في حال ملككم، فحذف مثلا وأقام المضاف إليه مقامه مضمنا معناه وأعمله بما فيه من معنى التشبيه. فإن كان العامل المتضمن معنى الفعل دون حروفه ظرفا أو حرف جر مسبوقا باسم ما الحال له جاز توسيط الحال عند الأخفش صريحة كانت الحال نحو زيد متكئا في الدار، وبلفظ ظرف أو حرف جر كقول الشاعر: ونحنُ مَنَعْنا البحرَ أنْ تشربوا به ... وقد كان منكم ماؤه بمكانِ ويضعف القياس على الصريحة لضعف العامل وظهور العمل. ومن شواهد إجازته قراءة بعض السلف (والسمواتُ مَطْويّاتٍ بيمينه) وقول ابن عباس رضي الله عنه: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متواريا بمكة. وقول الشاعر: رَهْطُ ابنِ كُوزٍ مُحْقِبي أدْراعِهم ... فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بن جِذار ولا يضعف القياس على تقديم غير الصريحة كشبه الحال فيه بخبر إن إذا كان ظرفا، فكما استحسن القياس على إنّ عندك زيدا، لكون الخبر فيه بلفظ الظرف الملغى، ولتوسعهم في الظروف بما لا يتوسع في غيرها بمثله، كذا يستحسن القياس على: وقد كان منكم ماؤُه بمكانِ وغير الأخفش يمنع تقديم الحال الصريحة على العامل الظرفي مطلقا. والصحيح جوازه محكوما بضعفه.

ولا يجرى مجرى العامل الظرفي غيره من العوامل المعنوية باتفاق، لأن في العامل الظرفي ما ليس في غيره، من كون الفعل الذي ضمن معناه في حكم المنطوق به، لصلاحية أن يجمع بينه وبين الظرف دون استقباح بخلاف غيره فإنه لازم التضمن غير صالح للجمع بينه وبين لفظ ما تضمن معناه، فكان للعامل الظرفي بهذا مزية على غيره من العوامل المعنوية أوجبت له الاختصاص بجواز تقديم الحال عليه. وأجاز الأخفش في الجملة الحالية المقرونة بالواو إذا كان العامل ظرفا ما أجاز في الحال الواقعة ظرفا أو حرف جر، فيستحسن أن يقال زيد وماله كثير في البصرة. ذكر هذه المسألة في كتاب المسائل. وإذا وقع اسم يحسن السكوت عليه مع ظرف أو جار ومجرور ومعه ما يصلح للخبرية وللحالية جاز جعله خبرا وحالا بلا خلاف، إن لم يكرر ما في الجملة من ظرف أو حرف جر نحو في الدار زيد قائم وقائما. فإن كرر الظرف أو حرف الجر جاز الوجهان أيضا وحكم برجحان النصب، لنزول القرآن به. كقوله تعالى (وأمّا الذين سُعِدوا ففي الجنّة خالدين فيها) وكقوله تعالى (فكان عاقبتَهُما أنّهما في النار خالدين فيها). وادعى الكوفيون أن النصب في مثل هذا لازم، لأن القرآن نزل به لا بالرفع. وهذا لا يدل على أن الرفع لا يجوز، بل يدل على أن النصب أجود منه. فلو كرر الظرف والمخبر عنه لجاز الوجهان أيضا وحكم برجحان الرفع، لنزول القرآن به في قوله تعالى (وأمّا الذين ابْيضَّتْ وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) فإن كان ما تضمن الكلام من ظرف أو حرف جر غير مستغنى

به تعين المخيّل للحالية والخبرية خبرا مع التكرار ودونه نحو: فيك زيد راغب، وفيك زيد راغب فيك. وأجاز الكوفيون نصب راغب وشبهه على الحال وأنشدوا: فلا تَلْحَني فيها فإنَّ بحبِّها ... أخاك مُصابَ القلبِ جَمًّا بَلابلُهْ والرواية المشهورة: مصابُ القلب جمٌّ، بالرفع، على أنّا لا نمنع رواية النصب، بل نجوّزها على أن يكون التقدير: فإن بحبها أخاك شغف أو فتن مصاب القلب. فإن ذِكْر الباء داخلة على الحب يدل على معنى شُغف أو فُتن، كما أن ذِكْر في داخلة على زمان أو مكان يدل على معنى استقر، وليس كذِكْر في داخلة على الكاف كقولك فيك زيد راغب. فلا يلزم من جواز نصب مصابَ القلب جما الحكم بجواز نصب راغب ونحوه. وإلى هاتين المسألتين أشرت بقولي: ولا تلزم الحالية في نحو فيها زيد قائما إلى قولي خلافا للكوفيين في المسألتين. فصل: ص: يجوز اتحاد عامل الحال مع تعددها واتحاد صاحبها أو تعدده بجمع وتفريق. ولا تكون لغير الأقرب إلا لمانع. وإفرادها بعد إمّا ممنوع، وبعد "لا" نادر، ويضمر عاملها جوازا لحضور معناه، أو تقدم ذكره في استفهام أو غيره، ووجوبا إن جَرَت مَثَلا، أو بيّنت ازدياد ثمن أو غيره شيئا فشيئا مقرونة بالفاء أو ثم، أو نابت عن خبر أو وقعت بدلا من اللفظ بالفعل في توبيخ وغيره. ويجوز حذف الحال ما لم تنُب عن غيرها، أو يتوقف المراد على ذكرها. وقد يعمل فيها غير عامل صاحبها، خلافا لمن منع. ش: قد تقدم أن للحال شبها بالخبر وشبها بالنعت، فكما جاز أن يكون للمبتدأ الواحد والنعت الواحد خبران فصاعدا ونعتان فصاعدا، فكذلك يجوز أن يكون للاسم الواحد حالان فصاعدا فيقال: جاء زيد راكبا مفارقا عامرا مصاحبا عمرا،

كما يقال في الأخبار زيد راكب مفارق عامرا مصاحب عمرا. وفي النعت مررت برجل راكب مفارق زيدا مصاحب عمرا. وزعم ابن عصفور أن فعلا واحدا لا ينصب أكثر من حال واحد لصاحب واحد قياسا على الظرف وقال: كما لا يقال قمت يوم الخميس يوم الجمعة، لا يقال جاء زيد ضاحكا مسرعا. واستثنى الحال المنصوبة بأفعل التفضيل نحو زيد راكبا أحسن منه ماشيا. قال: فجاز هذا كما جاز في الظرف زيد اليوم أفضل منه غدا، وزيد خلفك أسرع منه أمامك. ثم قال: وصح ذلك في أفعل التفضيل، لأنه قام مقام فعلين. ألا ترى أن معنى قولك زيد اليوم أفضل منه غدا: زيد يزيد فضله اليوم على فضله غدا. قلت: تنظير ابن عصفور جاء زيد ضاحكا مسرعا بقمت يوم الخميس يوم الجمعة لا يليق بفضله، ولا يقبل من مثله، لأن وقوع قيام واحد في يوم الخميس ويوم الجمعة محال، ووقوع مجيء واحد في حال ضحك وحال إسراع غير محال. وإنما نظير قمت يوم الخميس يوم الجمعة جاء زيد ضاحكا باكيا، لأن وقوع مجيء واحد في حال ضحك وحال بكاء محال، كما أن وقوع قيام واحد في يوم الخميس ويوم الجمعة محال. ولكن المشرفي قد ينبو واللاحقي قد يكبو. على أنه يجوز أن يقال جاء زيد ضاحكا باكيا إذا قصد أن بعض مجيئه في حال ضحك وبعضه في حال بكاء. ومثال تعدد الحال مع تعدد صاحبها بجمع جاء زيد وعمرو مسرعين، ولقى بشر عمرا راكبين، فالأول مثال تعدد الحال بجمع لتعدد صاحبها مع اتحاد إعرابيهما، والثاني مثال التعدد والجمع مع اختلاف الإعرابين. ومن الأول قوله تعالى (وسَخّر لكم الشمسَ والقمرَ دائبين). ومنه هذه ناقة وفصيلها راتعَيْن، على قول من جعل فصيلها معرفة وهي أفصح اللغتين، ومن جعله نكرة على تقدير الانفصال قال هذه ناقة وفصيلها راتعان، على النعت. ومن الثاني قول عنترة:

متى ما تَلْقني فَردَيْنِ تَرْجُفْ ... رَوانِفُ ألْيتيكَ وتُسْتطارا ومثال تعدد الحال بتفريق لتعدد صاحبها قول الآخر: عهدتُ سُعادَ ذات هوى مُعَنّى ... فزِدتُ وعاد سُلْوانًا هَواها وينبغي عند التفريق أن تجعل أول الحالين لثاني الاسمين وآخرهما لأولهما، ويتعين ذلك إن خيف اللبس لأنه إذا فعل ذلك اتصل أحد الوصفين بصاحبه وعاد ما فيه من ضمير إلى أقرب المذكورين واغتفر انفصال الثاني وعود ما فيه من ضمير إلى أبعد المذكورين، إذ لا يستطاع غير ذلك مع أن اللبس مأمون حينئذ. وأمّا إذا جعل أولى الحالين لأول الاسمين وأخراهما لثانيهما، فإنه يلزم انفصال الموضعين معا والأصل اتصالهما معا، لكنه متعذر فيهما ممكن في أحدهما، فلم يعدل عن الممكن مما يقتضيه الأصل إلا إذا منع مانع وأمن اللبس كقول امرئ القيس: خرجتُ بها أمشي تَجُرُّ وراءَنا ... على أثَرَيْنا ذيلَ مِرْط مُرحَّل ومثله: لقي ابني أخويه خائِفًا ... مُنجِدَيْه فأصابوا مَغْنما ومن الجائي على ما ينبغي قول عمرو بن كلثوم: وإنّا سوف تُدركنا المنايا ... مقدّرةً لنا ومُقَدَّرينا ويجب للحال إذا وقعت بعد إمّا أن تُردَف بأخرى معادا معها إمَّا، كقوله تعالى (إنّا هديناهُ السبيلَ إمّا شاكرًا وإمّا كفورًا) وإذا وقعت بعد "لا" وجب لها أيضا أن تردف بأخرى معادا معها "لا" كقولك: مَن وجد فلْيُنْفِقْ لا مسرفا ولا مُقترا، إلا أن الإفراد بعد إمّا ممنوع مطلقا، أعني في النثر والنظم، وأما

الإفراد بعد "لا" فمستباح في الشعر كقول الشاعر: قَهرت العِدَى لا مُسْتعينا بعُصْبةٍ ... ولكنْ بأنواعِ الخدائع والمكرِ ويضمر عامل الحال جوازا لحضور معناه، أو لتقدم ذكره، والأول كقولك للراحل: راشدا مهديّا، وللقادم: مَبرورا مأجورا، وللمحدث: صادِقا، بإضمار: تذهب، ورجعت، وتقول. والثاني كقولك: راكبا، لمن قال: كيف جئت؟، وبلى مُسرعا، لمن قال: لم تنطلقْ، بإضمار جئت وانطلقت. ومنه قوله تعالى (بلى قادرين) بإضمار نجمع. ويضمر عاملها وجوبا، فمن ذلك الجارية مَثَلا كقولهم "حظيين بناتٍ صلفين كنّاتٍ" بإضمار عرفتم أو نحو ذلك. ومن المضمر عاملها وجوبا المبيّن بها ازدياد ثمن شيئا فشيئا أو غير ذلك كقولك: بعته بدرهم فصاعدا، تريد فذهب الثمن صاعدا، أو تصدّقْ بدينار فسافلا، تريد فانحطّ سافلا. ومن المضمر عاملها وجوبا الحال السادة مسدّ خبر نحو: ضرْبي زيدا قائما. وقد سبق بيان هذا النوع في باب المبتدأ. ومن المضمر عاملها وجوبا الواقعة بدلا من اللفظ بالفعل في توبيخ وغير توبيخ؛ فالتوبيخ كقولك أقائما وقد قعد الناس، وأقاعدا وقد سار الركب? وكذلك إن أردت ذلك المعنى ولم تستفهم، تقول قاعدا قد علم الله وقد سار الركب قال سيبويه: "وذلك أنه رأى رجلا في حال قيام أو حال قعود وأراد أن ينبهه" ومن التوبيخ قولهم لمن لا يثبت على حال أتميميا مرة وقيسيّا أخرى، بإضمار أتتحول، وكقولك لمن يلهو وقرناؤه يجدّون ألاهيا وقد جدّ قرناؤك بإضمار أتثبت ونحوه.

ومن التوبيخ قول الشاعر: أراك جَمَعْتَ مسألةً وحرْصًا ... وعندَ الحقِّ زَحّارًا أُنانا الأُنان الأنين والعامل فيه زحّارا، لأن زحَر قريب المعنى من أنَّ. وغيرُ التوبيخ كقولك هنيئا مريئا قال سيبويه: "وإنما نصبته لأنه ذكر خيرا أصابه إنسان فقلت هنيئا مريئا كأنك قلت ثبت له هنيئا مريئا أو هنأه ذلك هناء". قلت: فقد أجاز سيبويه أن يكون الناصب هنيئا ثبت، وأن يكون الناصب هنأه على أن تكون الحال مؤكدة التي في (وأرسلناك للناس رسولا) وفي [قراءة غير حفص] (وسَخَّر لكم الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره). ويتناول غير التوبيخ المضمر عاملها في الإنشاء كقول الشاعر: ألحِقْ عذابك بالقوم الذين طغوا ... وعائذا بك أنْ يعلوا فيُطْغوني أراد وأعوذ بك، فحذف الفعل وأقام الحال مقامه، كما يفعل بالمصدر لو قيل عياذا منك. ويتناول غير التوبيخ قول النابغة الذبياني: أتاركةً تَدَلُّلَها قَطامِ ... وضَنًّا بالتحيّة والكلامِ

وقد تقدم في باب المفعول المطلق الإعلام بأن المبرد يحمل عائذا بك وأقاعدا وقد سار الركب وأشباه ذلك على أنها مصادر جاءت على وزن فاعل. وبُيّن هناك ضعف مذهبه بالدليل، فلا حاجة إلى إعادته هنا. ويجوز حذف الحال ما لم تنب عما لا يستغنى عنه كالتي سدت مسدّ الخبر، وما لم تقع بدلا من اللفظ بالفعل. وقد تقدم ذكرهما. ومن الأحوال التي لا يجوز حذفها التي لا يفهم المراد إلا بها كحال ما نفى عامله أو نهى عنه كقوله تعالى (وما خلقنا السَّماء والأرض وما بينهما لاعبين) وكقوله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) و (ولا تمش في الأرض مرحا). ومن الأحوال التي لا تُحذف لكون المراد لا يُفهم إلا بثبوتها المجابُ بها استفهام كقولك جئتُ راكبا، لمن قال: كيف جئتَ؟، والمقصود بها حَصْر كقوله تعالى (وما أرسلناك إلّا مبشرًّا ونذيرا) ومن الأحوال التي لا تحذف لكون المراد لا يفهم إلا بثبوتها قوله تعالى (وهذا بَعْلي شيخا)، وقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان اثنين بواحد) أي متفاضلا. وقول الشاعر: إنَّما المَيْتُ من يعيشُ ذَليلا

وقول الآخر: عدوُّك مَن يُرضيك مُبْطِنَ إحْنةٍ ... ومُبدي دليل البُغض مثلُ صديقِ ومنه قول امرئ القيس: فجُزيتِ خير جزاء ناقة واحدٍ ... ورجعتِ سالمة القَرى بسلامِ ولا ينكر كون الحال في الأصل جائزة الحذف، ثم يعرض ما يجعلها بمنزلة العمدة، فإن ذلك يعرض لغيرها كقوله تعالى (ولم يكن له كُفُوا أحدٌ) فإن "له" فضلة، ولو قدر حذفه انتفت الفائدة. ونظيره من الصفات كقولك: ما في الدنيا رجل يبغضك، فيبغضك نعت للمبتدأ ولو حذف انتفت الفائدة، ومثل ذلك كثير. والأكثر أن يكون العامل في الحال هو العامل في صاحبها، لأنها وإياه كالصفة والموصوف، ولكنهما أيضا كالمميّز والمميز، وكالخبر والمخبر عنه، ومعلوم أن ما يعمل في المميز والمميز قد يكون واحدا وغير واحد، وكذا ما يعمل في الخبر والمخبر عنه، فكذا الحال وصاحبها قد يعمل فيهما عامل واحد، وقد يعمل فيهما عاملان، ومثال اتحاد العامل في الأبواب الثلاثة: طاب زيد نفسا، وإن زيدا قائم، وجاء زيد راكبا. ومثال عدم الاتحاد في الثلاثة: لي عشرون درهما، وزيد منطلق، على مذهب سيبويه ومن وافقه، و (إنَّ هذه أمَّتَكم أمَّةً واحدةً) فأمة حال والعامل فيها اسم الإشارة، وأمتكم صاحب الحال والعامل فيها إنّ. قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة انتصابه إذا كان ما قبله مبنيا على الابتداء، لأن المعنى واحد في أنه حال وأن ما قبله قد عمل فيه، ومنعه الاسم الذي قبله أن يكون محمولا على إن: وذلك إن هذا عبد الله منطلقا، وقال جل ذكره: "إن

هذه أمتُكم أمَّةً واحدةً". وقد تقدم من كلامه ما يدل على أن صاحب الحال في: لِعَزة مُوحشًا طَلَلُ هو المبتدأ لا الضمير المستكن في الخبر. وبينت رجحان قوله على قول مَن زعم أن صاحب الحال هو الضمير. ومن ورود الحال وعاملها غير عامل صاحبها قولهم: ها قائما ذا زيد، فنصب الحال حرف التنبيه وليس له عمل في صاحبها. ومنه قول الشاعر: ها بيّنًا ذا صريحُ النصْح فاصْغُ له ... وطِع فطاعةُ مُهْدٍ نُصحَهُ رَشَدُ فصل: ص: يؤكد بالحال ما نصبها من فعل أو اسم يشبهه. وتخالفهما لفظا أكثر من توافقهما، ويؤكد بها أيضا في بيان يقين أو فخر أو تعظيم أو تصاغر أو تحقير أو وعيد خبر جملة جزءاها معرفتان جامدان جمودا محضا، وعاملها أحقّ أو نحوه مضمرا بعدهما، لا الخبر مؤولا بمسمى، خلافا للزجاج، ولا المبتدأ مضمنا تنبيها خلافا لابن خروف. ش: الحال المؤكدة ضربان: أحدهما ما يؤكد عامله، والثاني ما يؤكد خبر جملة لا عمل لجزءيها فيه، فالأول ضربان: ضرب يوافق عامله معنى لا لفظا وهو كثير، وضرب يوافق عامله لفظا ومعنى وهو قليل. فمن الأول قوله تعالى (ولا تعْثَوا في الأرض مفسدين) وقوله تعالى (ثُمَّ وليْتُم مُدْبرين) وقوله

تعالى (ويوم أُبعثُ حيًّا)، وقوله تعالى (ولو شاء ربُّكَ لآمن مَن في الأرضِ كُلُّهم جميعا) وقوله تعالى (فتَبسَّم ضاحِكًا من قولها). ومن هذا القبيل قول لبيد: وتضيءُ في وجه الظلام مُنيرةً ... كجُمانةِ البَحْرِيِّ سُلَّ نِظامُها ومثله قول لبيد أيضا: فعَلَوْت مُرتقبًا على ذي هَبْوَةٍ ... حرجٍ إلى أعلامِهنَّ قَتامُها ومنه قول الشاعر: فإنِّي اللَّيْثُ مَرْهُوبًا حِماهُ ... وعندي زاجرٌ دون افتراسي فمرهوبا حماه حال مؤكدة للخبر وهو العامل فيها بما تضمن من معنى التشبيه. ومن هذا القبيل أيضا ما مثّل به سيبويه من قولهم: هو رجل صدق معلوما ذلك، أي معلوما صلاحه، كذا قدّر سيبويه، ورجل صدق بمعنى صالح فأجرى مجراه إذا قيل هو صالح معلوما صلاحه. ومن هذا القبيل قول أمية بن أبي الصلت: سلامَكَ رَبَّنا في كُلِّ فجرٍ ... بَريئًا ما تَغَنَّثُكَ الذُّمومُ

فبريئا حال مؤكدة لسلامك، ومعناه البراءة مما لا يليق بجلالك، وهو العامل في الحال؛ لأنه من المصادر المجعولة بدلا من اللفظ بالفعل. ومن هذا القبيل ? عندي -: هو أبوك عطوفا، وهو الحق بيّنا، لأن الأب والحق صالحان للعمل، فلا حاجة إلى تكلف إضمار عامل بعدهما. ومن الثاني قوله تعالى (وأرسلناك للناس رسولا) وقوله تعالى (وسخَّر لكم الليلَ والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخراتٍ بأمره) [في غير قراءة حفص]. ومنه قول امرأة من العرب: قُمْ قائِمًا قُمْ قائما ... صادَفْتَ عَبْدًا نائِما ... وعُشراءَ رائِما ومثله قول الشاعر: أصِخْ مُصيخًا لمَن أبدى نصيحتَه ... والزمْ توَفِّي خَلْط الجِد باللَّعب وأما الحال المؤكد بها خبر جملة جزءاها معرفتان جامدان، فمنها المؤكدة بيان اليقين نحو هو زيد معلوما ومنه قول سالم بن دارة: أنا ابنُ دارةَ معروفًا بها نَسَبِي ... وهل بِدارَةَ يا للنَّاسِ مِنْ عارِ كأنه قال هو زيد لا شك فيه، وأنا ابن دارة لا شك فيّ. ومنها المؤكدة بيان فخر نحو أنا فلان شجاعا أو كريما. ومنها المؤكدة بيان تعظيم نحو [هو] فلان

جليلا. ومنها المؤكدة بيان تصاغر نحو أنا عبدك فقيرا إلى عفوك. ومنها المؤكدة بيان تحقير نحو هو فلان مأخوذا مقهورا. ومنها المؤكدة بيان وعيد نحو أنا فلان متمكنا منك فاتَّق غضبي. ومنه قول الراجز: أنا أبو المِرْقالِ عَفًّا بَطْنًا ... لمَن أُعادِي مِدْسَرًا دَلنْظا ولا تكون هذه الحال أعني المؤكدة لهذه المعاني إلا بلفظ دال على معنى ملازم أو شبيه بالملازم في تقدم العلم به، وتقدير عاملها بعد الخبر أحقه أو أعرفه إن كان المخبر عنه غير أنا، وإن كان أنا فالتقدير أحق أو أعرف أو اعرفني. وهذا أولى من قول الزجاج هو الخبر لتأوله بمسمى، وأولى من قول ابن خروف إن العامل هو المبتدأ لتضمنه معنى تنبه. وأشرت بقولي أو شبيه بالملازم في تقدم العلم به إلى قول سيبويه وذلك أن رجلا من إخوانك ومعرفتك لو أراد أن يخبرك عن نفسه أو غيره بأمر فقال أنا عبد الله منطلقا، أو هو زيد منطلقا كان محالا، لأنه إنما أراد أن يخبر بالانطلاق ولم يقل هو لا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية، لأن هو وأنا علامتان للمضمر، وإنما يضمر إذا علم أنك قد عرفت مَن يعني. ثم قال: إلا أن رجلا لو كان خلف حائط أو في موضع تجهله فيه فقلت مَن أنت؟ فقال أنا عبد الله منطلقا في حاجتك كان حسنا. قلت الانطلاق في الأول مجهول والإعلام به مقصود غير مستغنى عنه، فحقه أن يرفع بمقتضى الخبرية. فالاسم الذي قبله معلوم مستغنى عن ذكره، فحقه ألا يجعل خبرا، وإذا جعل خبرا ما حقه ألا يكون خبرا، وجعل فضلة ما حقه أن يكون عمدة لزم كون الناطق بذلك مجهولا، وكون المنطوق به محالا عما هو به أولى. فهذا معنى قول سيبويه: كان محالا، وإنما استحسن قول من قال أنا عبد الله منطلقا في حاجتك، لأن السائل كان عنده منطلقا في حاجته من قبل أن يقول له: من أنت؟

فصار ما عهده بمنزلة شيء ثبت له في نفسه، كشجاع وكريم فأجراه مجراه. فصل: ص: تقع الحال جملة خبرية غير مفتتحة بدليل استقبال، متضمنة ضمير صاحبها، ويغني عنه في غير مؤكدة ولا مصدرة بمضارع مثبت أو منفي بلا أو ما، أو بماضي اللفظ تال لإلّا أو متلوّ بأو ? واو تسمى واو الحال وواو الابتداء. وقد تجامع الضمير في العارية من التصدير المذكور، واجتماعهما في الاسمية والمصدرة بليس أكثر من انفراد الضمير. وقد تخلو منهما الاسمية عند ظهور الملابسة، وقد تصحب الواو المضارع المثبت أو المنفي بلا، فيجعل على الأصح خبر مبتدأ مقدر. وثبوت قد قبل الماضي غير التالي لإلا والمتلو بأو أكثر من تركها إن وجد الضمير. وانفراد الواو حينئذ أقل من انفراد قد. وإن عدم الضمير لزمتا. ش: قيدت الجملة الواقعة حالا بخبرية احترازا من الطلبية، فإنها لا تقع حالا، وكذلك المصدرة بفعل مقرون بحرف تنفيس أو منفي بلن. وإلى ذلك أشرت بقولي "غير مفتتحة بدليل استقبال" وبعد استثناء الجملة الطلبية والمفتتحة بدليل استقبال يعلم أن الجملة التي تقع حالا جملة ابتدائية نحو (وقلنا اهبطوا بعضُكم لبعضٍ عَدُوٌّ)، أو مصدرة بإنّ نحو قوله تعالى (وما أرسلنا قبلَك من المرسلين إلّا إنهم ليأكلون الطعامَ)، أو مصدرة بكأنّ كقوله تعالى (نبذ فريقٌ من الذين أُتوا الكتاب كتابَ الله وراءَ ظهورهم كأنّهم لا يعلمون). وقول زهير: يَلُحْن كأنَّهُنَّ يدا فتاةٍ ... تُرَجَّع في معاصِمها الوُشومُ وكقول ربيعة بن مقروم: فدارَتْ رَحاها بفُرْسانهم ... فعادوا كأنْ لم يكونوا رَميما

وكقول امرئ القيس: فظللْتُ في دِمَنِ الديارِ كأنني ... نَشْوانُ باكَرَه صَبوحُ مُدامِ أو مصدره بلا التبرئة نحو: (واللهُ يحكم لا مُعقِّبَ لحكمه) وكقول بعض الطائيين: مَن جادَ لا مَنَّ يَقْفُو جُودَه حُمِدا ... وذو ندًى مَنَّ مذمومٌ وإنْ مَجُدا ومثله: نَصَبْتُ له وجهي ولا كِنَّ دونَهُ أو مصدرة بما كقول عنترة: فرأيْتُنا ما بيننا مِن حاجز ... إلّا المِجَنُّ وحدُّ أبيضَ مفْصِل أو مصدّرة بمضارع مثبت نحو (ويَمُدُّهم في طُغيانهم يعمهون) أو مصدرة بمضارع منفي بلا نحو (وما لنا لا نؤمن بالله)، أو مصدرة بمضارع منفي بما كقوله: عَهِدتُكَ ما تَصْبوا وَفيكَ شبيبةٌ ... فما لك بعد الشَّيْب صَبًّا مُتَّيما

وكقول امرئ القيس: ظللْتُ ردائي فوق رأسي قاعدًا ... أعدُّ الحصى ما تنقضي عبراتي أو مصدرة بلم كقوله تعالى (فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسْهم سوءٌ) وكقوله تعالى: (وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا). وكقول زهير: كأنَّ فُتات العِهْن في كلِّ مَنزلِ ... نَزَلْنَ به حَبُّ الفَنا لم يُحطَّمِ أو مصدرة بماض تال لإلّا نحو (ما يأتيهم من رسولٍ إلّا كانوا به يستهزئون) أو مصدرة بماض متلو بأو كقول الشاعر: كُنْ للخليل نصيرًا جارَ أو عَدَلا ... ولا تشحَّ عليه جاد أو بَخِلا أو مصدرة بماض مخالف لذينك كقوله تعالى (أو جاءوكم حَصِرتْ صدورهم) فكل واحدة من هذه الجمل في موضع نصب على الحال، ومتضمنة لضمير يعود على صاحب الحال يربطها به، وقد تجامعه واو الحال، أو تغني عنه في غير مؤكدة ولا مصدرة بمضارع مثبت أو منفي بلا أو ماض تال لإلّا أو متلو بأو. ومجامعته الواو في الجملة الاسمية أكثر من انفراده. فمن مجامعته الواو (فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون) و (وتنسونَ

أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) و (ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد) و (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ) و (لِمَ تكفرون بآياتِ الله واللهُ شهيدٌ على ما تعملون) و (فلا تموتُنَّ إلّا وأنتم مسلمون). ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" ومنه قول امرئ القيس: نظرتُ إليها والنجومُ كأنَّها ... مصابيحُ رُهْبان تُشَبُّ لقُفّالِ وقوله: أيَقْتُلُني والمشرِفيُّ مُضاجِعي ... ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأنيابِ أغوال وقوله: لياليَ يَدعوني الهوى فأُجيبُه ... وأعْيُن مَن أهوى إليَّ روانِ ومن الاستغناء بالواو عن الضمير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغمِّ أمنةً نعاسًا يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفُسُهم)، وقوله تعالى: (لئِنْ أكله الذئبُ ونحن عُصْبةٌ) وقوله تعالى (كما أخرجك ربُّكَ مِن بيتِك

بالحقِّ وإنَّ فريقًا من المؤمنين لكارهون) وكقوله صلى الله عليه وسلم "كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماء والطين". ومنه قول امرئ القيس: وقد أغتدي والطَّيْرُ في وُكُناتِها ... بمُنْجرد قَيْد الأوابد هَيْكلِ وقوله أيضا: إذا ركبوا الخيلَ واستلأموا ... تَحَرَّقَتِ الأرضُ واليومُ قُرُّ وقوله: بَعثتُ إليها والنجومُ طوالعٌ ... حِذارًا عليها أن تقومَ فَتُسْمَعا وقوله: لك الويلُ إنْ أمْسى ولا أمُّ هاشِم ... قريبٌ ولا البَسْباسةُ ابنةُ يَشْكُرا ومنه قول طرفة: أرَقَّ العينَ خَيالٌ لم يَقِر ... طاف والرَّكْبُ بصَحْراءَ يُسْرُ ومنه قول عنترة: يَدْعونَ عنْتَر والرماحُ كأنّها ... أشْطانُ بئْرٍ في لَبانِ الأدْهم

ومن الاستغناء عن الواو بالضمير قوله تعالى: (وقلنا اهبطوا بعضهم لبعض عدو) وقوله تعالى: (اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدوّ) وقوله تعالى (ولمّا جاءهم رسول من عند الله مصدِّقٌ لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) وقوله تعالى (والله يحكم لا معقِّب لحكمه) وقوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنّهم ليأكلون الطعام) وقوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوهُهم مُسوَدّة). ومنه قول الشاعر: وتشربُ أسارِي القطا الكُدْرُ بعدما ... سَرَتْ أحْناؤُها تَتَصَلْصُلُ ومثله: حتى تركناهم لدى مَعْركٍ ... أرْجُلُهم كالخشبِ الشّائل ومثله: لهم لواءٌ بكفَّي ماجدٍ بطلٍ ... لا يقطعُ الخِرْقَ إلّا طرْفُه سامِ ومثله: راحُوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وَأَى ومثله:

ثم راحوا عبَقُ المِسْكِ بهم ... يُلْحِفون الأرضَ هُدّابَ الأُزُرْ ومثهل: فغَدَتْ كِلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافةِ خلفُها وأمامُها ومثله: ما بالُ عينك دمعُها لا يَرْقأ ... وحَشاك مِن خَفقانه لا يَهْدأُ ومثله: ظعنتْ أمامةُ قلبُها بك هائمٌ ... فاعصِ الذي يُغريك بالسلوان ومثله: أتاني المعليَّ عذرُه مُتبيِّنٌ ... فمنَ يعزُه للبغي فهْوَ ظلومُ ومثله: الذئبُ يَطْرُقها في الدهر واحدةً ... وكلَّ يومٍ تراني مُدْيةٌ بيدي وروى سيبويه: كلمته فوه إلى فيّ، و"رجع عوده على بدئه". وزعم الزمخشري أن قولهم كلمته فوه إلي فيّ نادر. وهو من المسائل التي حرفته عن الصواب، وعجزتْ ناصره عن الجواب. وقد تنبه في الكشاف فجعل قوله تعالى (بعضكم لبعض عدوّ) في موضع نصب على الحال، وكذا فعل بـ "لا

معقب لحكمه"، فقال: هو جملة محلها النصب على الحال، كأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة، يريد حاسرا. هذا نصه في الكشاف. وعندي أن إفراد الضمير أقيس من إفراد الواو، لأن إفراد الضمير وُجد في الحال وشبهها وهما الخبر والنعت، وإفراد الواو مستغنى بها عن الضمير لم يوجد إلا في الحال، فكان لإفراد الضمير مزية على إفراد الواو. ومن اجتماع الواو والضمير في المصدرة بليس قوله تعالى (ولا تيَّمَموا الخبيثَ منه تنفقون ولستم بآخذيه إلّا أن تغمضوا فيه) ومنه قول الشاعر: أعَنْ سيِّء تنهى ولست بمُنتَهٍ ... وتُدْعى بخَيْر أنتَ عنه بمَعْزِلِ ومثله: وقد علمتْ سلمى وإنْ كان بعلها ... فإنّ الفتى يهذي وليس بفَعّال ومثله: صرفتُ الهوى عنهنّ مِن خشية الرّدى ... ولستْ بمقْلِيّ الخِلال ولا قالي ومن انفراد الواو قول الشاعر: دهم الشتاءُ ولستُ أمْلِكُ عُدّة ... والصَّبرُ في السَّبَرات غيرُ مُطيع ومثله:

تسلّت عماياتُ الرجالِ عن الصِّبا ... وليس صبايَ عن هواها بمُنْسَلِ ومن إفراد الضمير قول الراجز: إذا جرى في كفّه الرشاءُ ... جرى القَليب ليس فيه ماءُ وحكى سيبويه الاستغناء عن الواو بنية الضمير إذا كان معلوما كقولك مررت بالبر قفيز بدرهم، أي قفيز منه بدرهم، وجاز هذا كما جاز في الابتداء السمن منوان بدرهم، على تقدير منوان منه بدرهم. فلو قيل بيع السمن منوان بدرهم على تقدير منه وجعل الجملة حالا لجاز وحسن. وإلى هذا وأمثاله أشرت بقولي "وقد تخلو منهما عند ظهور الملابسة". ثم قلت "وقد تصحب الواو المضارع المثبت أو المنفي بلا فيجعل على الأصح خبر مبتدأ مقدر" فأشرت بذلك إلى قول بعض العرب: قمت وأصك عينه، رواه الأصمعي، وإلى قول عنترة: عُلِّقْتُها عَرَضا وأقْتُلُ قومَها ... زَعْمًا ورَبِّ البيتِ ليس بمَزعَم وإلى قول زهير: بَلينَ وتحسَبُ آياتهنْـ ... ــــنَ عَن فرْط حوْلَيْن رِقًّا مُحيلا وإلى قول الآخر: فلمَّا خَشيتُ أظافيرَهم ... نجوْتُ وأرْهَنُهم مالِكا ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى (قالوا نُؤمنُ بما أُنزِل علينا ويكفرون

بما وراءَه) وقوله تعالى (إنّ الذين كفروا ويصُدُون عن سبيل الله) وقراءة غير نافع (ولا تُسْأَلُ عن أصحاب الجحيم) وقراءة ابن ذكوان (فاستقيما ولا تَتَّبِعانِ) تخفيف النون. والتقدير: قمت وأنا أصكّ، وعلقتها عرضا وأنا أقتل قومها" وبَلين أنت تحسب آياتهن، ونجوت وأنا أرهنهم، وقالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفرون وإن الذين كفروا وهم يصدون وإنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وأنت لا تسأل عن أصحاب الجحيم، وفاستقيما وأنتما لا تتبعان. فإن كانت الجملة مصدرة بمضارع منفي بلم جاز فيها ما يجوز في الجملة الاسمية من إفراد الضمير كقوله تعالى (فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ) وكقوله تعالى (وردَّ اللهُ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) وكقول زهير: كأنَّ فُتاتَ العِهْنِ في كُلِ منزل ... نزلْنَ به حَبُّ الفَنا لم يُحطَّم وكقول امرئ القيس:

فأدْرَكَ لم يَجْهدْ ولم يَثْنِ شأوَه ... يَمُرُّ كخُذرُوف الوليد المثقَّبِ وكقول أبي القيس بن الأسلت: وأضْرِب القَوْنَس يومَ الوغى ... بالسَّيفِ لم يَقْصُرْ به باعِي وكقول عنترة: إذ يتَّقون بي الأسِنَّة لم أخِم ... عنها ولكنّي تَضايَقَ مُقْدَمِي ومن إفراد الواو قول عنترة: ولقد خَشيتُ بأنْ أموتَ ولم تكنْ ... للحرْب دائرةٌ على ابنَي ضَمْضَم وكقوله: وقد كنتُ أخشى أن أموتَ ولم تكنْ ... قرائبُ عَمرو وسْط نَوْح مُسَلّب ومن اجتماع الواو والضمير قوله تعالى: (أو قال أُوحِي إليّ ولم يُوحَ إليه شيء) وقوله تعالى (أنّى يكون لي غُلام ولم يمسسني بَشَرٌ) وكقول كعب: لا تأخذنّي بأقوال الوُشاةِ ولم ... أُذنبْ وإن كثرتْ فيَّ الأقاويلُ وكقول الآخر:

سقط النصيفُ ولم تُرِد إسقاطَه ... فتناولتْه واتَّقَتنا باليد ومثله: بأيدي رجالٍ لم يَشيمُوا سُيُوفهم ... ولم تكثُرِ القتلى بها يومَ سُلَّتِ وكثرت شواهد لم، لأن ابن خروف قال: فإن كانت ماضية معنى لا لفظا احتاجت إلى الواو، كان فيها ضميرا أو لم يكن، والمستعمل بخلاف ما قال. والمنفي بلما كالمنفيّ بلم في القياس، إلا أنّي لم أجده مستعملا إلا بالواو كقوله تعالى (ولمّا يأتِكُم مَثَلُ الذين خَلَوا مِن قبلكم) وكقول الشاعر: بانتْ قَطامِ ولمّا يَحْظَ ذومِقَة ... منها بوصْل ولا إنجازِ مِيعادِ فإن صُدّرت الجملة بفعل ماض لفظا وليس قبله إلا ولا بعده أو، فإما أن يتضمن ضمير صاحب الحال أو لا يتضمنه، فإن تضمنه فالأكثر أن يكون الفعل مقرونا بالواو وقد كقوله تعالى (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلامَ الله ثم يحرِّفُونه) وكقوله تعالى (أنَّى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبرُ) وكقوله تعالى (وما لكم ألّا تأكلوا ممّا ذُكِر اسم الله عليه وقد فَصَّل لكم ما حَرَّم عليكم)، وكقوله تعالى (الآن وقد عَصَيْتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين) وكقول امرئ القيس:

أيقتُلُني وقد شَغَفْتُ فُؤادَها ... كما شَغَف المهنوءةَ الرجُلُ الطّالي وكقول زهير: كأنّي وقد خلّفْتُ تسعين حجّة ... خَلَعْتُ بها عن مَنكبِيَّ رِدائيا وكقول علقمة: يكلّفُني ليلى وقد شَطَّ وَليُها ... وعادتْ عوادٍ بيننا وخُطوبُ وانفراد الضمير مع التجرد من قد والواو أكثر من اجتماعه مع أحدهما، واجتماعه مع الواو وحدها أكثر من اجتماعه مع قد وحدها. فمن انفراد الضمير قوله تعالى (أوْ جاءوكم حَصِرَتْ صدورُهم) وقوله تعالى: (هذه بضاعتُنا رُدَّتْ إلينا) وقوله تعالى (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تَولَّوا) وقوله تعالى (وجاءوا أباهم عشاءً يبكون قالوا) ومنه قول امرئ القيس: له كَفل كالدِعْص لبَّدَه الندى ... إلى حارك مثلِ الغَبيط المُذَأبِ وقوله أيضا: دَريرٍ كخُذروف الوليد أمرّه ... تقلُّبُ كَفَّيْه بخيطٍ مُوَصّل وقول طرفة: وكرِّي إذا نادى المضافُ مُحنّبا ... كسِيد الغَضا نبّهته المتورِّد

وقال الذبياني: سبقت الرجال الباهشين إلى العُلا ... كسَبْق الجواد اصطاد قبل الطوارد ومثله: وإني لتعروني لذكراك هِزّة ... كما انتفضَ العصفورُ بلَّلَه القطرُ ومثال اجتماع الضمير مع الواو وحدها قوله تعالى (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) وقوله تعالى (الَّذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتِلوا) وقوله تعالى (ونادى نوحٌ ابنه وكان في مَعْزِلٍ). وقوله تعالى (وقال الذي نجا منهما وادَّكر بعد أُمّةٍ) وقوله تعالى (قال ربِّ أنَّى يكون لي غلامٌ وكانت امرأتي عاقرا). ومثال اجتماع الضمير مع قد وحدها قول الشاعر: أتيناكم قد عمّكم حَذَرُ العِدى ... فنِلتم بنا أمْنا ولم تَعْدموا نصْرا ومثله: بَصرتْ بي قد لاح شيبي فصدّتْ ... فتسلَّيْتُ واكتَسيتُ وقارا وقال النابغة: وقفتُ بربْع الدار قد غَيَّر البِلى ... معارِفَها والسارياتُ الهواطِلُ وزعم قوم أن الفعل الماضي لفظا لا يقع حالا وليس قبله قد ظاهرة إلا وهي

قبله مقدرة. وهذه دعوى لا تقوم عليها حجة، لأن الأصل عدم التقدير، ولأن وجود قد مع الفعل المشار إليه لا يزيد معنى على ما يفهم به إذا لم توجد. وحق المحذوف المقدر ثبوته أن يدل على معنى لا يدرك بدونه. فإن قيل قد تدل على التقريب، قلنا دلالتها على التقريب مستغنى عنها بدلالة سياق الكلام على الحالية، كما أغنى عن تقدير السين وسوف سياق الكلام في مثل قوله تعالى (وكذلك يجتبيك ربُّك ويُعلّمُك من تأويل الأحاديث). بل كما استغنى عن تقدير قد مع الماضي القريب الوقوع إذا وقع نعتا أو خبرا. ولو كان الماضي معنى لا يقع حالا إلا وقبله قد مقدرة لامتنع وقوع المنفي بلم حالا، ولكان المنفي بلما أولى منه بذلك، لأن لم تنفي فَعل، ولمّا تنفي قد فعل، وهذا واضح لا ريب فيه. وأجاز بعض من قَدّر قبل الفعل الماضي الاستغناء عن تقديرها بجعل الفعل صفة لموصوف مقدّر، وهو أيضا تكلّف شيء لا حاجة إليه. قال أبو الحسن بن خروف: وزعم ابن بابشاذ أن سيبويه رحمه الله يجعل حصرت صدورهم صفة لقوم. ولم يفعل ذلك سيبويه. قلت صدق أبو الحسن رحمه الله وغفر لابن بابشاذ. وقال الزمخشري في الكشاف عند كلامه على قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) الواو في قوله تعالى وكنتم أمواتا للحال (فإن) قلت فكيف يصح أن يكون حالا وهو ماض ولا يقال جئت وقام الأمير، ولكن وقد قام الأمير، إلا أن تضمر قد. قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتا وحده، ولكن على جملة قوله تعالى (كنتم أمواتا) إلى (ترجعون) كأنه قيل كيف تكفرون وقصتكم هذه. قلت: حاصل كلام الزمخشري أن وقوع الفعل الماضي لفظا ومعنى حالا جائز لكن بشرط تقدم قد عليه ظاهرة أو مقدرة. وقد تقدم الرد على من اشترط ذلك.

فإن قيل فبأي اعتبار جاز أن يعمل تكفرون وهو حاضر المعنى في مضمون وكنتم أمواتا وهو ماضي المعنى، وحق الحال وعاملها أن يقترنا في الوجود؟ فالجواب أن الاقتران يقنع منه بالتقدير هنا كما قنع منه بالتقدير في نحو زيد اليوم في يده صقر صائدا به غدا. فالحال كنتم أمواتا ماضية مقدرة الحضور، وفي "صائدا به غدا" مستقبلة مقدرة الحضور، فإن لم تتضمن الجملة الحالية ضميرا يعود إلى صاحب الحال لزمت الواو وقد كقول امرئ القيس: فجِئْتُ وقد نَضَّتْ لنَوْم ثيابَها ... لدى الستْر إلّا لِبْسة المتفضِّل وكقول النابغة: فلو كانت غداة البين مَنَّتْ ... وقد رَفعوا الخُدورَ على الخيام سمحتُ بنظرة فرأيتُ منها ... تُحَيت الخِدر واضعةَ القِرام وكقول علقمة: فجالدتَهم حتى اتّقوْك بكبْشهم ... وقد حان من شمس النهارِ غُروب وكقول امرئ القيس: أيقتُلني وقد شَغَفْتُ فؤادَها ... كما شغف المهنوءةَ الرجلُ الطَّالِي وإن كانت الجملة الحالية مؤكدة منعت الواو اسمية كانت أو فعلية نحو هو الحق لا ريب فيه، وكقول امرئ القيس: خالي ابنُ كَبْشَةَ قد علمتَ مكانَه ... وأبو يزيدَ ورهْطُه أعمامي وخلت هذه من الواو لاتحادها بصاحبها من وجهين: أحدهما كونها حالا والحال

وصاحبها شيء واحد في المعنى، والثاني كونها مؤكدة، والمؤكد هو المؤكد في المعنى. وقد لزم من الاتحاد من وجه في غير المؤكدة تغليب عدم الواو على وجودها، فليترتب على الاتحاد من وجهين لزوم عدم الواو. فصل: ص: لا محل إعراب للجملة المفسرة، وهي الكاشفة حقيقة ما تلته مما يفتقر إلى ذلك، ولا للاعتراضية وهي المفيدة تقوية بين جزءي صلة أو إسناد أو مجازاة أو نحو ذلك، ويميزها من الحالية امتناع قيام مفرد مقامها، وجواز اقترانها بالفاء ولن وحرف تنفيس وكونها طلبية، وقد تعترض جملتان خلافا لأبي علي. ش: لما انقضى الكلام على الجملة الحالية، وكان من الجمل جملتان تشابهانها وتغايرانها وجب التنبيه عليهما، وعلى ما يتميزان به، فالجملتان هما المفسرة والاعتراضية، وكلتاهما لا موضع لها من الإعراب، فالمفسرة كقوله تعالى (خلقه من تراب) بعد قوله تعالى (إنَّ مثل عيسى عند الله) وكقول النابغة: يكوى غيره وهو راتع، من قوله: تكلّفني ذنب امرئ وتركْتَه ... كذِي العُرّ يُكْوَى غيرُه وهْو راتِعُ والاعتراضية الواقعة بين موصول وصلة، كقول الشاعر: ماذا ولا عَتّبَ في المقدورِ رُمت أمَا ... يُحظيك بالنّجْح أمْ خُسْرٌ وتضليلُ وكقول الآخر: وتركي بلادي والحوادثُ جمةٌ ... طريدًا وقِدْمَا كنتُ غيرَ مطّرِد وكقول الآخر:

ذاك الذي وأبيك يعرف مالِكًا ... والحقُّ يدفعُ ترّهاتِ الباطِل وبين مسند ومسند إليه كقول الشاعر: وقد أدْركتني والحوادث جمةٌ ... أسنةُ قوم لا ضِعافٍ ولا عُزْلِ وبين شرط وجواب كقوله تعالى (إنْ يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللهُ أولى بهما فلا تَتَّبِعوا الهوى أنْ تعدِلوا). وكقول الشاعر: إمّا تَرَيني قد نَخِلتُ ومَن يكُنْ ... غَرضًا لأطْراف الأسنَّة يَنْحل فَلَربَّ أبلجَ مثلَ بِعْلِكِ بادِنٍ ... ضَخْمٍ على ظهر الجوادِ مهبّل غادَرْتهُ متعفِّرًا أوصالُه ... والقومُ بين مُجرَّح ومُجدّلِ وبين قسم وجوابه كقوله تعالى (فلا أقسم بمواقع النُّجوم* وإنّه لقسمٌ لو تعلمون عظيمٌ * إنّه لقرآنٌ كريمٌ). وكقول الشاعر: لعمري وما عَمْري عليّ بهيّن ... لقد نطقت بُطْلًا عليّ الأقارِعُ وبين فعل ومفعول كقول الراجز: وبَدّلتُ والدهرُ ذو تبدُّلِ ... هَيفا دَبُورا بالصَّبا والشمأل أو أبين كأن واسمها كقول الشاعر:

كأنّ وقد أتى حوْلٌ جديدٌ ... أثافِيها حماماتٌ مُثُولُ فلو أقمت مفردا مقام ولا عتب في المقدور، أو مقام والحوادث جمة، أو مقام وأبيك، أو مقام فالله أولى بهما، أو مقام ومن يكن غرضا لأطراف الأسنة ينحل، أو مقام وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، أو مقام وما عمري عليّ بهيّن، أو مقام والدهر ذو تبدّل، لوجدته ممتنعا، فدل ذلك على أنها جمل اعتراضية لا حالية، لأن الجملة الحالية لا يمتنع أن يقام مفرد مقامها، فهذا أحد الأمور الفارقة بين الجملة الاعتراضية والحالية. ومنها اقترانها بلن كقوله تعالى (فإنْ لم تفعلوا ولنْ تفعلوا) وبحرف تنفيس كقول زهير: وما أدري وسوف إخالُ أدْري ... أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ أو بالفاء كقوله تعالى (فاللهُ أولى بهما). وكقول الشاعر: ألا أبلغُ بَنيَّ بني رَبيع ... فأشرارُ البنينَ لهم فداءُ بأنّي قد كبرت وطال عُمْري ... فلا تَشْغَلْهُم عنّي النساءُ وكقول الآخر: واعلمْ فعِلْمُ المرءِ يَنْفَعُه ... أنْ سوفَ يأتي كلُّ ما قُدِرا ومن الأمور الفارقة التي تتميز بها الجملة الاعتراضية كونها طلبية، كقول تعالى (ولا تؤمنوا إلّا لِمن تبع دينكم قلْ إنّ الهدى هدى اللهِ أن يُؤتى أحدٌ مثل ما أُوتِيتم) فقل إن الهدى هدى الله جملة معترضة بين "تؤمنوا" و"أن يؤتى أحد"

ومن الجملة الطلبية المعترضة قوله تعالى (ومن يغفر الذنوبَ إلا اللهُ) اعترضت بين) استغفروا ولم يُصرُّوا) وهما جملتان معطوف إحداهما على الأخرى في صفة الذين. ومن الجمل الطلبية المعترضة قول الشاعر: إنَّ سُلَيْمى ? واللهُ يكلؤُها- ... ضنّتْ بشيءٍ ما كان يَرْزَؤُها فقوله والله يكلؤها جملة ابتدائية بمعنى الدعاء، وقد اعترضت بين اسم إنّ وخبرها. وزعم أبو علي أن الاعتراض لا يكون إلا بجملة واحدة، وليس بصحيح ما زعم، بل الاعتراض يكون بجملتين كثيرا، ومن ذلك قول زهير: لعَمرُ أبيكَ والأنباءُ تَنْمِي ... وفي طُول المُعاشرةِ التقالي لقد باليت مظعنَ أمِّ أوفى ... ولكنْ أمُّ أوْفى لا تُبالي ومنه قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلّا رجالًا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزُّبر) قال الزمخشري في الكشاف: (ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتَّقَوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض، ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما "فأخذناهم بغتة" و (أفأمن أهل القرى) وهذا اعتراض بكلام تضمن سبع جمل:

باب التمييز

باب التمييز ص: وهو ما فيه معنى "من" الجنسية، من نكرة منصوبة فضلة غير تابع، وتميّز إمّا جملة وستبيّن، وإمّا مفردا عددا، أو مفهم مقدار، أو مثلية أو غيرية، أو تعجب بالنص على جنس المراد بعد تمام بإضافة أو تنوين أو نون تثنية أو جمع أو شبهه. وينصبه مميزه لشبهه بالفعل أو شبهه. ويجره بالإضافة إن حذف ما به التمام. ولا يحذف إلا أن يكون تنوينًا ظاهرا في غير ممتلئ ماء ونحوه، أو مقدرا في غير ملآن ماء وأحد عشر درهما، وأنا أكثر مالا ونحوهن، أو يكون نون تثنية أو جمع تصحيح، أو مضافا إليه صالحا لقيام التمييز مقامه في غير ممتلئَين، ممتلئين غضبا. ش: التمييز والتبيين والتفسير والمميز والمبين والمفسر أسماء للنكرة الرافعة للإبهام في نحو: امتلأ الإناء ماء، وزيد حسن وجها، وله رطل زيتا، ومُدبّرًا وذراعان حريرا وعشرون درهما. وحُدِّد جره بما فيه معنى من احترازا من الحال فإنها تشاركه فيما سوى ذلك من القيود، وقيدت بالجنسية ليخرج ما فيه معنى مِن وليست جنسية كذنبا من قول الشاعر: أسْتغفِر اللهَ ذنبا لستُ مُحصيه ... ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ فإن فيه ما في التمييز من التنكير والنصب والفضلية وعدم التابعية ووجود معنى من إلا أنها غير جنسية فلذلك لم يجعلوا ذنبا تمييزا، بل مفعولا به. وقيدت التمييز بنكرة احترازا من المعرفة المنتصبة على التشبيه بالمفعول به في نحو حسن وجهه، فإن فيه ما في حسن وجها إلا التنكير، فبذلك افترقا ولم ينتصبا من وجه واحد وذكر النصب احترازا من النكرة المضاف إليها وفيها معنى من الجنسية نحو له رطل زيتٍ. وخرج بفضلة اسم لا المحمولة على إنّ نحو لا خيرا من زيد فيها، فإن فيه ما في التمييز إلا الفضلية ففيه ضدها. وخرج بغير تابع ما جعل تابعا للعدد من جنس المعدود نحو قبضت

عشرة دراهم، فإن دراهم فيه معنى الجنسية وهو نكرة منصوبة فضلة، لكنه تابع فلم يتناوله التمييز. ومثل هذا أسباطا في قوله تعالى (وقَطَّعْناهم اثنتَيْ عشْرةَ أسْباطا) وخرج أيضا بغير تابع صفة اسم لا المنصوبة، فإنها نكرة منصوبة فضلة بمعنى من الجنسية لكنها تابع ففارقت التمييز. ويتناول المفهم مقدار الكيل والوزن والمساحة وما أشبههما كمثقال ذرة خيرا، وذنوب ماء وحُب بُرّا ونحْي سمنا ومِسْأب عسلا وراقود خلّا وجمام المكوك دقيقا. ويتناول المفهم مثلية وغيرية نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "دَعُوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدُكم مثل أُحد ذهبا ما بلَغَ مُدَّ أحدِهم ولا نصِيفَه" ونحو قول بعضهم: ما لنا مثله رجلا، ولنا بأمثالها إبلا وغيرها شاء. ومن مجيئه بعد مثل قول الشاعر: فإنْ خِفْتَ يومًا أن يلجَّ بك الهوى ... فإنّ الهوى يكْفيكَه مثلُه صبرا ويتناول مفهم التعجب نحو ويحه رجلا، وحسبك به فارسا، ولله دره إنسانا، وأبرحت جارا. ويا جارَتا ما أنتِ جارَهْ ومتعلق الباء من قولي بالنص على جنس المراد بتميز، وتمام المميز بإضافة نحو لله دره إنسانا وملء الأرض ذهبا، و (عدْلُ ذلك صياما)، وتمامه بتنوين نحو رطلٌ زيتا، ومُدٌّ بُرّا، وتمامه بنون نحو منوان عسلا، وتمامه بنون جمع نحو (قلْ هل نُنَبِّئكم بالأخسرين أعمالا). وتمامه بنون شبه الجمع نحو (وواعدْنا موسى ثلاثين ليلةً). وفهم من

سكوتي عن نون شبه المثنى أن التمييز لا يقع بعده. ثم قلت وينصبه مميزه لشبهه بالفعل أو شبهه، فمثال ما ينصبه لشبهه بشبه الفعل مميز المقادير وما ذكر بعده، إلا أبرحت جارا فإن حذف من المميز ما به تمامه جر مميزه بالإضافة، ولا يفعل ذلك بتنوين ظاهر إن كان ما هو فيه مقدر الإضافة إلى غير التمييز نحو البيت ممتلئ بُرّا، فإن تقديره البيت ممتلئ الأقطار بُرا، فلما كان المميز في هذا المثال ونحوه مضافا إلى غير التمييز تقديرا امتنع أن يضاف إلى التمييز، كما لا يضاف إلى المضاف صريحا فإن كان التنوين الظاهر فيما لا يقدر بذلك جاز بقاء التنوين ونصب المميز بالمييز. وزوال التنوين وإضافة المميز إلى المميز. ومما لا يضاف من المميزات المنون تقديرا في نحو ملآن ماء. فإن تقديره هو ملآن الأقطار ماء، فمنع تقدير الإضافة إلى التمييز، كما كان يمتنع اللفظ بها، فلو لم يكن المنون تقديرا مقدر الإضافة إلى غير التمييز جاز النصب على تقدير بقاء التنوين والجر بالإضافة على تقدير زواله كقولك: هند شنباء أنيابا. وشنباء أنياب. ومن الممنوع الإضافة إلى التمييز للزوم تنوينه تقديرا أحد عشر وبابه، وكذلك أفعل التفضيل المميز بسببي نحو زيد أكثر مالا، وعلامة السببي صلاحيته للفاعلية بعد تصيير أفعل فعلا كقولك في زيد أكثر مالا: زيد كثُر مالُه. فإن لم يصلح ذلك تعنيت الإضافة كقولك زيد أكرم رجل فإن كان أفعل مضافا إلى جمع بعده تمييز لا يمتنع جعله مكان أفعل جاز بقاؤهما على ما كانا عليه وجاز حذف الجمع والإضافة إلى ما كان تمييزا كقولك زيد أشجع الناس رجلا، وأشجع رجل. وإلى هذا الإشارة بقولي "أو مضافا إليه صالحا لقيام التمييز مقامه". ومما لا يضاف إلى مميزه عشرون وأخواته، لا يقول عشرو درهم بل عشرون درهما، هذا هو المشهور. وحكى الكسائي أن بعض العرب يقول عشرو درهم. ومن هذا احترزت بقولي

"غالبا". ومما لا يضاف ممتلئان وممتلئون ونحوهما، والعلة في ذلك مفهومة مما ذكرنا في ممتلئ وملآن. ص: وتجب إضافة مفهم المقدار إن كان في الثاني معنى اللام، وكذا إضافة بعض لم تتغير تسميته بالتبعيض، فإن تغيرت به رجحت الإضافة والجر، على التنوين والنصب. وكون المنصوب حينئذ تمييزا أولى من كونه حالا، وفاقا لأبي العباس. ويجوز إظهار من مع ما ذكر في هذا الفصل إن لم يميز عددا ولم يكن فاعل المعنى. ش: مثال مفهم المقدار الواجب الإضافة لكون معنى اللام فيما بعده: لي ظرف عسل، وكيس دراهم، تريد ظرفا يصلح للعسل، وكيسا يصلح للدراهم، فالإضافة في هذا النوع متعينة، فلو أردت عسلا يملأ ظرفا، ودراهم تملأ كيسا، جاز لك أن تضيف وتجر، وأن تنون وتنصب. ومثال واجب الإضافة لكونه بعضا لم تغير تسميته بالتبعيض قولك عندي جوز قطن وحب رمان وغصن ريحان وتمرة نخلة وسعف مقل. فهذا النوع أيضا إذا ميز بما هو منه فلا بد من إضافته إليه، لأن اسمه الذي كان له غير مستبدل به، بخلاف قولك جُبَة خزّ وخاتم فضة وسوار ذهب فإن أسماءها حادثة بعد التبعيض، والعمل الذي هيّأها بالهيئات اللائقة بها. فلك في هذا النوع الجر بالإضافة والنصب على التمييز أو على الحال. والثاني هو ظاهر قول سيبويه. وقد تقدم في باب الحال بيان شبه سيبويه رحمه الله في جعله حالا. والأول قول أبي العباس، وهو أولى، لأنه لا يُحوج إلى تأويل. مع أن فيه ما في المجمع على كونه تمييزا، بخلاف الحكم بالحالية فإنه يحوج إلى تأويل بمشتق مع الاستغناء عن ذلك. ويحوج إلى كثرة تنكير صاحب الحال، وكثرة وقوع الحال غير منتقلة. وكل ذلك على خلاف الأصل فاجتنابه أولى. فلو كان ما قبل خَزّ وفضّة وشبههما معرفة رجحت الحالية. وقد تقدم ذلك في باب الحال. وقولي ويجوز إظهار "من" مع ما ذكر في هذا الأصل إن لم يميز

عددا ولم يكن فاعل المعنى أشرت به إلى أن للقائل: لي ملء الكيس ذهبا، وإردب قمحا، وجمام المكوك دقيقا، وأمثالها إبلا وغيرها شاء، وويحه رجلا. وحسبُك به أمرأ، ولله دره فارسا، وأبرحت جارا وأمثال ذلك أن يجر المميز بمن ظاهرة فيقول: من ذهب ومن قمح ومن دقيق ومن إبل ومن شاء ومن رجل ومن امرئ ومن فارس ومن جارٍ. وكذلك ما أشبهه. وليس له أن يفعل ذلك في مميز العدد نحو أحد عشر دينارا وعشرين دينارا. ولا فيما هو فاعل في المعنى نحو زيد أكثر مالا وطيب نفسا بتفجير أرضه عيونا. فصل: ص: مميز الجملة منصوب منها بفعل يُقَدّر غالبا إسناده إليه مضافا إلى الأول، فإن صح الإخبار به عن الأول فهو له، أو لملابسه المقدر. وإن دل الثاني على هيئة وعُني به الأول جاز كونه حالا، والأجود استعمال "من" معه عند قصد التمييز. ولمميز الجملة من مطابقة ما قبله إن اتحدا معنى ماله خبرا، وكذا إن لم يتحدا ولم يلزم إفراد المميز، لإفراد معناه أو كونه مصدرا لم يقصد اختلاف أنواعه. وإفراد المباين بعد جمع إن لم يوقع في محذور أولى. ش: المراد بمميز الجملة ما ذكر بعد جملة فعلية مبهمة النسبة نحو طبتُ نفسا. واشتعل رأسي شيبا، وفجرنا الأرض عيونا، وامتلأ الكوز ماء، وكفى الشيب ناهيا. وإنما أطلق مميز الجملة على هذا النوع خصوصا، مع أن كل تمييز فضلة على جملة، لأن لكل واحد من جزءَيْ الجملة في هذا النوع قسطا من الإبهام يرتفع بالتمييز، بخلاف غيره، فإن الإبهام في جزء من جملته، فأطلق على مميزه مميز مفرد، وعلى مميز هذا النوع مميز جملة. فالأكثر أن يصلح لإسناد الفعل إليه مضافا إلى المجعول فاعلا كقولك طابت نفسي، واشتعل شيب رأسي. ومنه (وسع كلَّ شيء علمًا)، لأن الأصل فيه: وسع علمُه كلَّ شيء. ومن هذا النوع قول الشاعر: تلفتُّ نحوَ الحيِّ حتّى وَجدْتُني ... وَجِعْتُ من الإصْغاء لِيتًا وأخْدعا

وقد يصلح لإيقاع الفعل عليه مضافا إلى المجعول مفعولا كقوله تعالى (وفَجَّرْنا الأرضَ عيونا) فإن أصله وفجرنا عيونَ الأرض. وقد يكون مميز الجملة بعد فعل ولا يصلح الإسناد إليه، ولا لإيقاعه عليه نحو امتلأ الكوزُ ماء، (وكفى بالله شهيدا)، وما أحسن الحليم رجلا. ومن نحو وفجرنا الأرض عيونا وما بعده احترزت بقولي "يقدر غالبا إسناده إليه" ثم قلت "فإن صح الإخبار به عن الأول فهو له أو لملابسه المقدر" فنبهت بذلك على أنه إذا قيل كرُم زيد أبا فيحتمل أن يكون المراد كرم زيد نفسه أبا، أي ما أكرمه من أب، ويحتمل أن يكون المراد كرُم أبو زيد أبا. أي ما أكرم أباه من أب، فالتمييز في الاحتمال المتقدم للأول، أي هما في الحقيقة شيء واحد، وهو في الاحتمال المتأخر لملابس الأول أي المضاف إليه تقديرا. وليس تقدير الإضافة شرطا، وإنما ذكرته تقريبا: ثم قلت: "وإن دل الثاني على هيئة وغنى به الأول جاز كونه حالا" فنبهت بذلك على أنه إذا قيل كرُم زيد ضيفا، والمراد أنه ضيف كريم جاز لك أن تجعل ضيفا حالا لدلالته على هيئة، وجاز أن تجعله تمييزا لصلاحيته أن يقترن بمن. والأجود عند قصد التمييز أن يجاء بمن رفعا لتوهم الحالية. ثم قلت: "ولمميز الجملة من مطابقة ما قبله إن اتحدا معنى ماله خبرا" ففهم من ذلك أن يقال كرُم زيد رجلا وكرُم الزيدون رجالا وكرُم الزيدان رجلَيْن، فتجعل المميز مطابقا لما قبله في الإفراد والتثنية والجمع لاتحاده بما قبله في المعنى، كما كان يجعل مطابقا له في الإخبار به عنه. ولا يعترض على هذا بقوله تعالى (وحَسُنَ أولئك رفيقا) فإن الرفيق والصديق والخليل والعدوّ يستغني بمفردها عن جمعها كثيرا في الإخبار وغيره، ويزيده هنا حُسنا أنه تمييز، والتمييز قد اطرد في كثير منه الاستغناء بالمفرد عن الجمع نحوهم عشرون رجلا. ويمكن أن يكون الإفراد في حسُن أولئك رفيقا، لأن الأصل وحسُن رفيق أولئك رفيقا، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه

مقامه، وجاء التمييز على وفق المحذوف. ثم قلت: "وكذا إن لم يتحدا" ففهم من هذا أنه يقال حسُن الزيدون وجوها وطهروا أعراضا، وجعلت ذلك مشروطا بألّا يلزم إفراد لفظه لإفراد معناه أو لكونه مصدرا لم يقصد اختلاف أنواعه. ففهم من ذلك أن من المميزات المباينة لما قبلها في المعنى ما يلزم إفراد لفظه لإفراد معناه، كقولك في أبناء رجل واحد: طاب بنو فلان أصلا، وكرُموا أبا، وكذا إفراد التمييز إذا كان مصدرا ولم يقصد اختلاف أنواعه كقولك: زكا الأتقياء سعيا، وجادت الأتقياء وَعْيا. فلو قصد اختلاف أنواع المصدر لاختلاف محالّه لجاز فيه ما جاز في أسماء الأشخاص كقولك: تخالف الناس أغراضا، وتفاوتوا أذهانا. ثم قلت "وإفراد المباين بعد جمع إن لم يوقع في محذور أولى" وأشرت بذلك إلى أن المميز الذي لم يتحد بالأول معنى قد يكون بعد جمع، فيختار إفراده إذا لم يوقع في محذور كقوله تعالى (فإنْ طِبْنَ لكم عن شيء منه نفْسا) فالإفراد في هذا النوع أولى من الجمع، لأنه أخف والجمعية مفهومة مما قبلُ، فأشبه مميز عشرين وأخواته. فإن أوقع الإفراد في محذور لزمت المطابقة كقولك كرم الزيدون آباء، بمعنى ما أكرمهم من آباء، فلا بد من كون مميز هذا النوع جمعا، لأنه لو أفرد لتوهم أن المراد كون أبيهم واحدا موصوفا بالكرم. وفي الجمع أيضا احتمال أن يكون المراد كرُم آباء الزيدين، ولكنه مغتفر، لأن اعتقاده لا يمنع من ثبوت المعنى الآخر. ص: ويعرض لمميز الجملة تعريفه لفظا فيقدر تنكيره، أو يؤوّل ناصبه بمتعدّ بنفسه أو بحرف جر محذوف، أو ينصب على التشبيه بالمفعول به لا على التمييز محكوما بتعريفه خلافا للكوفيين. ش: قد يرد مميز الجملة مقرونا بالألف واللام فيحكم بزيادتها وبقاء التنكير كقول

الشاعر: رأيتُك لمّا أنْ عرفتَ وُجوهَنا ... صدَدْتَ وطِبتَ النفسَ ياقيسُ عن عمرو أراد: وطبت نفسا. ومثله قول الآخر: على مه مُلئت الرعبَ والحربُ لم تقِد ... لظاها ولم تُستعمل البيضُ والسُّمْرُ أراد: ملئت رعبا، فزاد الألف واللام. كما زيدتا في رواية البغداديين أن مِن العرب مَن يقول: قبضت الأحدَ عشر درهما، ومَن يقول: قبضت الأحد العشر الدرهم. وكما زيدتا مع المضاف فيما أنشد أبو علي من قول الشاعر: تُولي الضجيعَ إذا تنبّه مَوْهِنا ... كالأقْحُوانِ من الرَّشاشِ المُسْتقِي أراد من رشاش المستقي. وقد يرد مميز الجملة مضافا إلى معرفة كقول العرب: غُبن فلان رأيَه، ووجِع بطنَه، وإلم رأسَه. وفيه توجيهات: أحدها أن تجعل الإضافة فيه منوية الانفصال ويحكم بتنكير المضاف، كما فُعل في قولهم: كم ناقة وفصيلها لك، فقدّر بكم ناقة وفصيلا لها، وكما فعل سيبويه في قوله: كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، فقال: "وإنما يريد كل شاة وسخلة لها بدرهم". وحكى عن بعضهم: هذه ناقة وفصيلها راتعان، على تقدير هذه ناقة وفصيل لها راتعان. ثم قال: "والوجه كل شاة وسخلتها بدرهم، وهذه ناقة وفصيلها راتعين، لأن هذا كثر في كلامهم وهو القياس. والوجه الآخر قاله بعض العرب".

والتوجيه الثاني أن ينصب رأيه وما كان مثله مفعولا به بالفعل الذي قبله مضمنا معنى فعل متعدّ كأنه قيل: سوأ رأيه وشكا بطنه ورأسه. وبهذا الاعتبار قال بعضهم في سفِه نفسَه أن معناه أهلك نفسه. وقال المبرد: معناه ضيّع نفسه. وقال الزمخشري: معناه امتهن نفسه، وجعله نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم "الكبر أنْ يَسْفَه الحقَّ". وقال صاحب "العجائب والغرائب": مَن سفه في موضع نصب بالاستثناء مِن مَن يرغب، ونفسه توكيد للمستثنى، كما يقال ما قام أحد إلا زيد نفسَه. التوجيه الثالث: أن تنصب رأيه وما كان مثله بإسقاط حرف الجر، كأنه قيل غبن في رأيه ووجع في بطنه وألم في رأسه، ثم أسقط حرف الجر فتعدى الفعل فنصب. التوجيه الرابع من التوجيهات: أن ينصب رأيه وما كان مثله على التشبيه بالمفعول به، ويحمل الفعل اللازم على الفعل المتعدي، كما حملت الصفة اللازمة على الصفة المتعدية في قولهم: هو حسن وجهه والوجه، وغبن رأيه والرأي ووجع بطنه والبطن. ومن ذلك قراءة بعضهم "إنّه آثمٌ قلبَه" ومنه قول الشاعر: وما قومي بثَعْلبةَ بن سَعْد ... ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرِقابا إلا أن النصب على التشبيه بالمفعول به شاذ في الأفعال مطرد في الصفات. وإنما كان الأمر كذلك لوجهين: أحدهما أن الصفة اللازمة تساوي الصفة المتعدية في عمل الجر بالإضافة بعد رفعهما ضميرا والجر أخو النصب وشريكه في الفضلية، فجاز أن يساويها في استبدال النصب بالجر والفعل بخلاف ذلك. الثاني أن المنصوب على التشبيه بالمفعول به لو حكم باطراده في الفعل اللازم كما حكم باطراده في الصفة

اللازمة لم يتميز لازم الأفعال من متعدّيها، بل كان اللازم يظن متعدّيا، ولا يعرض مثل ذلك إذا كان النصب على التشبيه بالمفعول به مقصور الاطراد على الصفات، شاذا في الأفعال: فإن في ذلك إشعارا بيّنا بالفرق بين المتعدي واللازم. ومما شذ وروده في الفعل ما في الحديث من قول راويه "إنّ امرأة تُهراق الدماء"أراد تُهراق دماؤها، وأسند الفعل إلى ضمير المرأة مبالغة، ثم نصب الدماء على التشبيه بالمفعول به أو على التمييز وإلغاء الألف واللام. ويجوز أن يكون أراد تهريق ثم فتح الراء وقلب الياء ألفا، لا لأنه فعل ما لم يسم فاعله، بل على لغة طيئ، كما قال شاعرهم: نَسْتوقِدُ النَّبلَ بالحضيضِ ونَصْـ ... ــطادُ نُفوسًا بُنَتْ على الكَرمِ وكما قال الآخر: أفي كُلِّ عام ماتَم تَبعثُونه ... على مِحْمرَ ثوَّبتُموه وما رَضا أراد في الأول بُنيتِ، وفي الثاني رَضِي. إلا أن المشهور من لغة طيئ أن يفعل هذا بلام الفعل لا بعينه وحرف العلة في تهراق عين، فمعاملته معاملة اللام على خلاف المعهود. ومن المنصوب بفعل على التشبيه بالمفعول به قوله تعالى (وكمْ أهْلكنا مِن قرية بَطِرتْ معيشَتها) ويحتمل أن يكون تمييزا على تقدير الانفصال والتنكير، ويحتمل أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجر، ويحتمل أن يكون الأصل بطرت مدة معيشتها، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب على الظرفية

نحو (وإدبارَ النُّجومِ). ص: ولا يمنع تقديم المميز على عامله إن كان فعلا متصرفا وفاقا للكسائي والمازني والمبرد، ويمتنع إن لم يكنه بإجماع، وقد يستباح في الضرورة. ش: أجمع النحويون على منع تقديم التمييز على عامله إذا لم يكن فعلا متصرفا، فإن كان إياه نحو طاب زيد نفسا، ففيه خلاف، والمنع مذهب سيبويه، والجواز مذهب الكسائي والمازني والمبرد، وبقولهم أقول: قياسا على سائر الفضلات المنصوبة بفعل متصرف، ولصحة ورود ذلك في الكلام الفصيح بالنقل الصحيح، كقول ربيعة بن مقروم الضبي: وواردةٍ كأنها عُصبُ القطا ... تُثير عجاجًا بالسَّنابك أصْهبا رددتُ بمثلِ السِيدِ نَهْدٍ مقلّص ... كميشٍ إذا عِطْفاه ماءً تَحلّبا وكقول الآخر: أتَهْجُر ليلى بالفراق حبيبَها ... وما كان نفْسا بالفراق تَطيبُ وكقول الآخر: ضيّعت حزْمي في إبعادي الأملا ... وما ارعويتُ ورأسي شيْبا اشتعلا ومثله: ولستُ إذا ذرْعا أضيقُ بضارِع ... ولا يائسٍ عند التعسُّر من يُسر ومثله: أنفسًا تطيب بِنَيْلِ المُنى ... وداعِي المَنون يُنادي جِهارا

وانتُصر لسيبويه أن مميز هذا النوع فاعل في الأصل، وقد أوهن بجعله كبعض الفضلات فلو قدّم لازداد إلى وهنه وهنا فمنع ذلك لأنه إجحاف. قلت: وهذا الاحتجاج مردود بوجوه: أحدها أنه دفع روايات برأي لا دليل عليه، فلا يلتفت إليه. الثاني أن جعل التمييز كبعض الفضلات محصل لضرب من المبالغة ففيه تقوية لا توهين، فإذا حكم بعد ذلك بجواز التقديم ازدادت التقوية وتأكدت المبالغة فاندفع الإشكال. الثلاث أن أصالة فاعلية التمييز المذكور كأصالة فاعلية الحال في نحو جاء زيد راكبا رجل فإن أصله جاء راكب، على الاستغناء بالصفة، وجاء رجل راكب، على عدم الاستغناء بها، والصفة والموصوف شيء واحد في المعنى، فقدم راكب ونصب بمقتضى الحالية ولم يمنع ذلك تقديمه على جاء مع أنه يزال عن إعرابه الأصلي وعن صلاحية الاستغناء به عن الموصوف، وكما تنوسي الأصل في الحال، كذلك تنوسي في التمييز. الرابع أنه لو صح اعتبار الأصالة في عمدة جعلت فضلة لصح اعتبارها في فضلة جعلت عمدة، فكان يجوز للنائب عن الفاعل من التقديم على رافعه ما كان يجوز له قبل النيابة، والأمر بخلاف ذلك، لأن حكم النائب فيه حكم المنوب عنه، ولا يعتبر حاله التي انتقل عنها التمييز المذكور. الخامس أن منع تقديم التمييز المذكور عند مَن منعه مرتّب على كونه فاعلا في الأصل، وذلك إنما هو في بعض الصور. وفي غيرها هو بخلاف ذلك نحو امتلأ الكوز ماء، وفجّرنا الأرض عيونا. وفي هذا دلالة على ضعف علة المنع، بقصورها عن جميع الصور. السادس أن اعتبار أصالة الفاعلية في منع التقديم على العامل متروك في نحو: أعطيت زيدا درهما، فإن زيدا في الأصل فاعل وبعد جعله مفعولا لم يعتبر ما كان له من منع التقديم، بل أجيز فيه ما يجوز فيما لا فاعلية له في الأصل، فكذلك ينبغي أن يفعل بالتمييز المذكور. فثبت بما بيّنته أن تقديم التمييز على عامله إذا كان فعلا متصرفا جائز وإن كان سيبويه لم يجزه. وحكى ابن كيسان أن الكسائي أجاز نفسَه طاب زيد، وأن الفراء منع ذلك. فإن كان عامل التمييز غير فعل أو فعلا غير متصرف لم يجز التقديم بإجماع، فإن استجيز في ضرورة عُدَّ نادرا، كقول الراجز:

ونارُنا لم يُرَ نارًا مثلها ... قد علمتْ ذاك مَعَدٌّ كلُّها أراد لم ير مثلها نارا، فنصب نارا بعد مثل، كما نصبوا زُبدا في قولهم: على التمرة مثلها زُبْدا ثم قدم نارا على مثل مع كونه عاملا لا يتصرف، ولوا الضرورة لم يُستَبح.

باب العدد

باب العدد ص: مفسّر ما بين عشرة ومائة واحد منصوب على التمييز، ويضاف غيره إلى مفسره مجموعا ما بين اثنين وأحد عشر، ما لم يكن مائة فيفرد غالبا. ومفردا مع مائة فصاعدا، وقد يجمع معها وقد يفرد تمييزا. وربما قيل عشرو درهم وأربعو ثوبه وخمسة أثوابا ونحو ذلك. ولا يفسّر واحد واثنان، وثنتا حنظل ضرورة. ولا يجمع المفسر جمع تصحيح، ولا بمثال كثرة من غير باب مفاعل إن كثر استعمال غيرهما إلا قليلا. ولا يسوغ ثلاثة كلاب ونحوه، تؤوّله بثلاثة من كذا خلافا للمبرد. وإن كان المفسر اسم جنس أو جمع فصل بمن. وإن ندر مضافا إليه لم يقس عليه. ويغني عن تمييز العدد إضافته إلى غيره. ش: لما كان بعض المفسرات للعدد جعلت بابه متصلا ببابه. وقدمت فيه الكلام على العدد المميز بمنصوب فقلت "مفسر [ما بين] عشرة ومائة واحد منصوب على التمييز، فيتناول هذا القول أحد عشر وإحدى عشرة وتسعة وتسعين وتسعا وتسعين وما بينهما، كقوله تعالى (إنّي رأيتُ أحدَ عشَرَ كوكبا) وكقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ لله تسعةً وتسعين اسمًا" ودل قولي بواحد على أن جمعه وهو تمييز لا يجوز مطلقا. وزعم الزمخشري في الكشاف أن أسباطا من قوله تعالى (وقطَّعْناهم اثْنَتي عشرةَ أسْباطا) تمييز، ثم قال: فإن قلت مميز ما عدا العشرة

مفرد فما وجه مجيئه مجموعا فالجواب أن المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وأن كل قبيلة أسباط لا سبط فأوقع أسباطا موقع قبيلة كما قال: بين رِماحَيْ مالكٍ ونَهْشَل فمقتضى ما ذهب إليه أن يقال رأيت أحد عشر أنعاما، إذا أريد إحدى عشرة جماعة كل واحدة منها أنعام. ولا بأس برأيه في هذا لو ساعده استعمال. لكن قوله كل قبيلة أسباط لا سبط مخالف لما يقوله أهل اللغة أن السبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب. فعلى هذا معنى قطعناهم اثنتي عشرة أسباطا قطعناهم اثنتي عشرة قبائل، فأسباط واقع موقع قبائل لا موقع قبيلة، فلا يصح كونه تمييزا، وإنما هو بدل والتمييز محذوف. وأجاز بعض العلماء أن يقول القائل عندي عشرون دراهم لعشرين رجلا، قاصدا أن لكل منهم عشرين درهما. قلت: وهذا إذا دعت الحاجة إليه فاستعماله حسن، وإن لم تستعمله العرب، لأنه استعمال لا يفهم معناه بغيره. ولا يجمع مميز عشرين وبابه في غير هذا النوع. فإن وقع موقع تمييز شيء منها جمع فهو حال أو تابع كبني مخاض في قول ابن مسعود رضي الله عنه "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دِيَةِ الخطأ عشرين بنت مخاض وعشرين بني مخاض وعشرين ابنة لبون وعشرين حِقّة وعشرين جَذَعة". فبني مخاض نعت أو حال. والضمير من قولي "ويضاف غيره إلى مفسره" عائد على ما بين عشرة ومائة، فعلم بهذا تساوي المائة فما فوقها والعشرة فما دونها في الإضافة إلى المفسر. ثم قلت "مجموعا مع ما بين اثنين وأحد عشر ومفردا مع مائة فصاعدا" فعلم بذلك

أنه يقال ثلاثة أيام وثلاث ليال وعشرة أشهر وعشر سنين ومائة دينار وألف درهم وكذلك ما أشبهه. وأشرت بقولي "ما لم يكن مائة فيفرد غالبا" إلى أن مفسر الثلاثة وأخواتها إذا كان غير المائة جمع، وإذا كان إياها في الأكثر فيقال ثلاثمائة بالإفراد، والقياس يقتضي أن يقال ثلاث مائات أو مئين، كما يقال ثلاثة آلاف، إلا أن العرب لا تجمع المائة إذا أضيف إليها عدد إلا قليلا كقول الشاعر: ثلاثُ مئين للملوكِ وفى بها ... ردائي وجَلّت عن وجوه الأهاتم ومن أجل هذا الوارد بجمع قلت "فيفرد غالبا" وأول الضميرين من قولي "ويجمع معها" عائد إلى المفسر وثانيهما عائد إلى المائة، أي حق مفسر المائة فما فوقها أن يفرد نحو مائة دينار، وألف درهم. وقد يكون مع المائة مجموعا. والإشارة بذلك إلى قراءة حمزة والكسائي "ثلاث مائةِ سنينَ" بإضافة مائة. وأشرت بقولي "وقد يفرد تمييزا" إلى قول الربيع بن ضبع الفزاري: إذا عاش الفتى مائتين عامًا ... فقد ذهب اللذاذةُ والفَتاءُ ومثله في رواية من نصب مائة قول حذيفة رضي الله عنه: "فقلنا يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين مائةَ إلى السبع مائةً" فأجرى الألف واللام في تصحيح نصب التمييز مجرى النون من مائتين عاما لاستوائهما في المنع من الإضافة.

كما ذهب إليه ابن كيسان من الألف درهما والمائة دينارا. ويروى ما بين الستمائة إلى السبعمائة بجر مائة وفيه ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون أراد مئات على أن أبدل ثم استعمل المفرد مكان الجمع اتكالا على مفهم المعنى، كما قيل في قوله تعالى (إنّ المتقين في جنّات ونهر). والثاني أن يجعل الألف واللام زائدتين فلم يمنعا من الإضافة، كما لم تمنعا في قول الشاعر: تُولي الضجيعَ إذا تنبَّه مَوْهنا ... كالأُقْحُوان مِن الرشاش المستقِي الثالث أن يكون (أراد ما بين*) الست ست مائة. ثم حذف المضاف وأبقى عمله كقراءة بعض القراء (واللهُ يريدُ الآخرةِ) أي عرض الآخرة، فحذف المضاف وأبقى عمله. وحكى الكسائي أن من العرب مَن يُضيف العشرين وأخواته إلى المفرد منكرا ومعرفا، وإليه الإشارة بقولي. وربما قيل عشرو درهم وأربعو ثوب. وفسر بعضهم الثلاثة وأخواتها بمنصوب على التمييز كقولك لي خمسة أثوابا وهذا نظير قول الربيع: إذا عاش الفتى مائتين عامًا ونظير "ونحن ما بين الستمائةً" بالنصب. واستغنى عن تفسير الواحد والاثنين، لأن الشيء إذا اقتصر على واحده أو مثناه عُرف جنسه فلذلك افتقر في الثلاثة فما فوقها إلى عدد مفسر، واقتصر على ذكر الواحد والمثنى فقيل: درهم ودرهمان، ولم يقل واحد دراهم، ولا اثنا دراهم،

بل جُعل من الضرورة قول الراجز: كأنَّ خُصْيَيْه من التَّدَلْدُل ... ظَرْفُ عَجوزٍ فيه ثِنْتا حَنظل ولا تضاف الثلاثة وأخواتها إلى جمع تصحيح، إلا إن أهمل غيره، أو جاور ما أهمل غيره، فالأول نحو سبع سماوات وسبع بقرات وتسع آيات وخمس صلوات. والثاني نحو (وسبعَ سُنْبلاتٍ خُضْرٍ) فإنه حقيق بأن يجيء على نحو مفاعل لأنه أولى بما واحده صالح له من جمع التصحيح كقوله تعالى (أنْبتتْ سبعَ سنابلَ) وقوله تعالى (ولقد خلقنا فوقكم سبعَ طرائق) و (سخَّرها عليهم سبعَ ليالٍ) و (فكفارتُه إطعامُ عشْرةِ مساكينَ) وقد يُؤثر ما يماثل مفاعل من أمثلة الكثرة على جمع التصحيح دون مجاز يقصد مشاكلته نحو (على أنْ تأجُرني ثمانيَ حِجَجٍ). وقد يؤثر مثال كثرة على مثال قلة لخروجه عن القياس، أو لقلة استعماله، فالأول نحو (ثلاثةَ قروء) والثاني نحو ثلاثة شسوع فأوثر قروء على أقراء؛ لأن واحده قرء كفلس وجمع مثله على أفعال شاذ. وأوثر شسوع على أشساع لقلة استعماله وإن لم يكن شاذا؛ لأن واحده شِسع وجمع مثله على أفعال مطرد، لكن أكثر العرب يستغنون في جمع شسع بفُعول عن غيره. ومثال إيثار قروء على أقراء لخروجه عن القياس إيثار شهداء على أشهاد في

(لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) لأن واحد شهداء إمّا شهيد وإمّا شاهد، ولكل واحد منهما نصيب في أفعال كشريف وأشراف، وصاحب وأصحاب فعُدل شهيد عن أفعال إلى فُعَلاء كما عُدل عن أقراء إلى قروء. وقال المبرد في المقتضب: فإن قلت ثلاثة حمير وخمسة كلاب جاز على أنك تريد ثلاثة من الحمير وخمسة من الكلاب، وجعل من ذلك "ثلاثة قروء". ولو جاز هذا لم يكن معنى في الحجر بجمع القلة، لأن كل جمع كثرة صالح لأن يراد به مثل هذا وإن كان يقال ثلاثة فلوس وثلاثة دور، على تقدير ثلاثة من فلوس وثلاثة مندور. وإلى هذا أشرت بقولي "ولا ثلاثة كلاب ونحوه تؤوله بثلاثة من كذا خلافا للمبرد. وإن فسر عدد باسم جنس أو باسم جمع لم يضف إليه إلا سماعا كقوله تعالى (وكان في المدينة تسعةُ رهطٍ) وكقوله صلى الله عليه وسلم "ليس فيما دون خمسِ ذَوْدٍ من الإبل صدقة" وكقول العرب: خمسة رَجْلة. والأصل أن يجاء بمفسر هذا النوع مقرونا بمن نحو ثلاثة من القوم وأربعة من الحيّ وخمسة من الركب، وعشر من البط، قال الله تعالى (فخذْ أربعةً من الطّيْر) ويستغنى العدد عن مفسر بإضافته إلى غيره كقولك اقبض عشرتك وعشرى زيد لأنك لم تضفه إلا وهو عند السامع معلوم الجنس فاستغنى عن مفسّره. فصل: ص: تحذف تاء الثلاثة وأخواتها إن كان واحد المعدود مؤنث المعنى حقيقة أو مجازا، أو كان المعدود اسم جنس أو جمعا مؤنثا غير نائب عن جمع مذكر ولا مسبوق بوصف يدل على التذكير. وربما أول مذكر بمؤنث، ومؤنث بمذكر،

فجيء بالعدد على حسب التأويل، وإن كان في المذكور لغتان فالحذف والإثبات سيان. وإن كان المذكور صفة نابت عن الموصوف اعتبر غالبا حاله لا حالها. ش: الثلاثة وأخواتها أسماء جماعات كزمرة وأمّة وفِرقة وعُصبة وصُحبة وسَريّة وفِئة وعشيرة وقبيلة وفصيلة؛ فالأصل أن تكون بالتاء لتوافق الأسماء التي هي بمنزلتها فاستصحب الأصل مع المعدود المذكر لتقدم رتبته. وحذفت التاء مع المعدود المؤنث لتأخر رتبته فقيل ثلاثة أعبد وثلاث جوارٍ. والمعتبر من التأنيث تأنيث المفرد لا تأنيث الجمع فلذلك يقال: ثلاثة سجلّات وعشرة دنينيرات، بثبوت التاء. لأن مفرديهما مذكران. ولا يعتبر تأنيث المفرد إذا كان علما لمذكر نحو طلحة وسلمة، لأنه تأنيث لا تعلق له بالمعنى لا حقيقة ولا مجازا، ولذلك لا يؤنث ضميره ولا ما يشار به إليه، بخلاف ما يتعلق تأنيثه بالمعنى حقيقة أو مجازا، فإن تأنيث ضميره وما يشار به إليه، بخلاف ما يتعلق تأنيثه بالمعنى حقيقة أو مجازا، فإن تأنيث ضميره وما يشار به إليه لازم، فيقال في الأول ثلاثة الطلحات لقيهم ثلاثة السلمات فتثبت التاء، لأن تأنيثه لمجرد اللفظ، ولذلك لا يؤنث ضميره ولا ما يشار به إليه كقولك: الطلحات ذهبوا والسلمات أتوا. ويقال في الثاني وهو الذي يتعين تأنيثه بالمعنى حقيقة أو مجازا ثلاث الفتيات رَقين عشر الدرجات. وإن كان مفسر الثلاثة وأخواتها اسم جنس أو جمع مؤنث جيء بالمفسر مقرونا بمن وحذفت التاء إن ولى المفسر موصوفا نحو لي ثلاث من البط ذكور، أو غير موصوف كله ثلاث من الإبل فإن توسط دليل تذكير لزم بقاء التاء نحو لي ثلاثة ذكور من البط، وأربعة فحول من الإبل. وإلى نحو هذا أشرت بقولي: "ولا مسبوق بوصف يدل على التذكير". والحاصل أن تاء نحو ثلاثة وأخواتها تسقط لتأنيث واحد مفسرها لا لتأنيثه إن كان جمعا، ولتأنيثه نفسه دون تعرض لواحده إن كان اسم جنس أو جمع. وأما قولهم ثلاثة أشياء وثلاثة رَجْلة ففيهما شذوذان: أحدهما الإضافة إلى المفسر وحقه أن ينفصل مقرونا بمن كسائر أسماء الأجناس. الثاني ثبوت التاء في عددهما والقياس الحذف لأن اسم الجنس أو الجمع لا يعتبر في التأنيث والتذكير حال واحده، وإنما يعتبر فيهما حاله، ولذلك يقال ثلاثة من البط ذكور، وواحدة بطة ذكر، ومع ذلك لم يقل ثلاثة بل ثلاث. وقد وُجّه ثبوت

التاء في عدد أشياء ورجلة بأنهما نائبان عن جمع مفرديههما على أفعال وإن واحد أشياء شيء كفى فقياسه أن يساويه في جمعه، وواحد رجلة راجل، فكان له نصيب من الجمع على أفعال كما قيل صاحب وأصحاب، فعدل في جمع شيء من أفعال إلى فعلاء، ثم قدمت لامه على فائه فصار الوزن لفعاء واستصحب منع صرفه للتأنيث ولزوم التأنيث، وثبتت في عدده كما كانت تثبت مع المنوب عنه وهو أفعال. وعدل في جمع راجل من أفعال إلى فعلة وثبتت تاء عدده أيضا كما كانت تثبت مع المنوب عنه وقد يؤول مذكر بمؤنث فتسقط التاء، ومؤنث بمذكر فتثبت التاء. فالأول كقول الشاعر: وإنّ كِلابا هذه عَشْرُ أبْطُن ... وأنت بريءٌ من قبائلها العَشْرِ ومثله قول الآخر: فكان مَجِنّي دون مَن كنتُ أتّقي ... ثلاث شُخوص كاعِبان ومُعْصِرُ ومثال الثاني قول الشاعر: ثلاثة أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... لقد جارَ الزمانُ على عيالي ومثله قول الآخر: وقائعُ في مُضَر تسعةٌ ... وفي وائل كانت العاشرة أوّل الأبطن بالقبائل، والشخوص بالجواري، فأسقط تاءَي عشرة وثلاثة، وأوّل الأنفس بأشخاص والوقائع بمشاهد فأثبتت التاء. وقد يكون في المعدود لغتان، فيجوز في عدده وجهان كحال وعضد ولسان،

فإنها تذكر وتؤنث فيقال على لغة من ذكّر ثلاثة أحوال وثلاثة أعضاد، وثلاثة ألسنة، ويقال على لغة من يؤنث ثلاث أحوال وثلاث أعضاد وثلاث ألسن. ويكثر الوجهان في أسماء الأجناس المميز واحدها بالتاء كبقر ونخل وسحاب، فيقال على لغة مَن ذكّر لزيد ثلاثة من البقر وثلاثة من النخل وسُقيت أرضنا بثلاثة من السحاب. ويقال على لغة مَن أنّث: ثلاث. فإن كان المذكور بعد العدد صفة قامت مقام موصوفها اعتبر في الغالب حال موصوفها لا حالها فتقول رأيت ثلاثة ربعات بثبوت التاء إذا أردت رجالا، وثلاث ربعات بسقوطها إذا أردت نساء. ومن اعتبار حال الموصوف قوله تعالى (مَن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) أي فله عشر حسنات أمثالها، فلولا قصد الحسنات لقيل عشرة أمثالها، لأن واحد الأمثال مذكر. ومن العرب مَن يسقط تاء العدد المضاف إلى دوابّ لتأنيث لفظها مع قصد تذكير الموصوف، لأن الدابة صفة جرت مجرى الأسماء الجامدة، فاعتبر في العدد لفظها. ومنها احترزت بقولي "اعتبر غالبا حاله لا حالها". فصل: ص: يعطف العشرون وأخواته على النيّف وهو إن قصد التعيين واحد أو أحد، واثنان وثلاثة، وواحدة وإحدى، واثنتان وثلاث إلى تسعة في التذكير وتسع في التأنيث. وإن لم يقصد التعيين فيهما فبضعة وبضع، ويستعملان أيضا دون تنييف، وتجعل العشرة مع النيّف اسما واحدا مبنيّا على الفتح ما لم يظهر العاطف. ولتاء الثلاثة والتسعة وما بينهما عند عطف العشرين وأخواتها على النيّف ما لها قبل التنييف. ولتاء العشرة في التركيب عكس ما لها قبله. ويسكن شينها في التأنيث الحجازيون، ويكسرها التميميون، وقد تفتح، وربما سكن عين عشرة. ش: يقال عند قصد التعيين تسعة فما دونها، وعند عدم قصد التعيين بضعة في التذكير وبضع في التأنيث، ولا يقال لشيء منها نيّف إلا وبعده عشرة أو عشرون

أو بعض أخواتها فيقال في تعيين المعطوف ثلاثة وعشرون رجلا، وثلاث وعشرون امرأة، ويقال في تعيين المركب: ثلاثة عشر وثلاث عشرة، وبضع عشرة إلى بضعة وتسعين. وقد تستعمل بضعة وبضع دون تنييف كقوله تعالى (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) وقد تناول قولي "وقد تجعل العشرة مع النيف اسما واحدا" أحد عشر وتسعة عشر وما بينهما. ونبهت بقولي "ما لم يظهر العاطف" على أن ظهور العاطف مانع من البناء والتركيب. ومنه قول الشاعر: كأنَّ بها البدرَ ابن عَشْر وأرْبع ... إذا هَبَوات الصَّيف عنه تجلّت وللنيف المعطوف عليه العشرون وأخواته من ثبوت التاء وسقوطها ماله لو استعمل وحده، فيقال في الذكور ثلاثة وعشرون، وفي الإناث ثلاث وعشرون، كما يقال عند عدم العطف ثلاثة وثلاث. ثم قلت: ولتاء العشرة في التركيب عكس ما لها قبله. ثم أشرت إلى أن شين عشرة في التأنيث ساكنة عند الحجازيين ومكسورة عند التميميين. وعلى لغتهم قرأ بعض القراء "فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا"، وقرأ الأعمش "اثنتا عشرة" بالفتح، وهذا أشذ من قراءة من قرأ بالكسر. وقرأ يزيد بن القعقاع "أحد عشْر" بسكون العين، وقرأ هبيرة صاحب حفص بسكون. "اثنتا عشر" وهي أشد من قراءة يزيد. وكل هذه الأحوال مشار إليها في متن الكتاب. ص: ويقال في مذكر ما دون ثلاثة عشر أحد عشر واثنا عشر، وفي مؤنثه إحدى عشرة واثنتا عشرة، وربما قيل وحد عشر وواحد عشر وواحدة عشر وإعراب اثنا واثنتا باق لوقوع ما بعدها موقع النون، ولذلك لا يضافان بخلاف أخواتهما وقد يجرى ما أضيف منهما مجرى بعلبك، أو ابن عُرْس، ولا يقاس على الأول خلافا للأخفش ولا على الثاني خلافا للفراء.

ش: أصل أحد عشر وإحدى عشرة وَحَد عشر ووحدى عشرة، فأبدلت واوهما همزة على غير قياس. ومن العرب مَن يقول واحد عشر وواحدة عشرة. ويبنى عجز هذا المركب لتضمنه معنى الواو، وبنى صدره لوقوع العجز منه موقع تاء التأنيث في ثلاث عشرة وأخواته ولشبهه بما هو كذلك في البواقي، إلا في صدرَي اثنتي عشرة فإنهما أعربا لوقوع العجز منهما موقع النون، وما قبل النون محل إعراب لا بناء، ولوقوع العجز منهما موقع النون لم يضافا، كما لا يضاف ما فيه النون، بخلاف أخواتهما، فيقال أحد عشرك ولا يقال اثنا عشرك واستثقل اجتماع علامتي تأنيث في ثلاثة عشر ونحوه لأنهما بلفظ واحد وبمعنى واحد، فإن مدلول تاء ثلاثة وعشرة تذكير المعدود فاتحدا لفظا وحكما، فكره اجتماعهما في شيئين كشيء واحد، بخلاف إحدى عشرة. فإن علامتيه مختلفتا اللفظ والمعنى، أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأن ألف إحدى دالة على التأنيث، وتاء عشرة دالة على التذكير وكذا واحدة عشرة، فإن علامتيه وإن اتحدتا لفظا قد اختلفتا معنى، لأن مدلول تاء واحدة تأنيث، ومدلول تاء عشرة تذكير، فلم يكن اجتماعهما كاجتماع تاءي ثلاثة عشرة، والأجود فيما أضيف من هذا المركب أن يبقى مبنيا، كما يبقى مع دخول الألف واللام عليه، لاستواء الألف واللام والإضافة في الاختصاص بالأسماء، فيقال أحدَ عشرَك مع أحدَ عشرَ زيد، بالبناء كما يقال الأحد عَشرَ مع الأحدَ عشرَ، إلا أن العرب مجمعون على بقاء البناء مع الألف واللام. وحكى سيبويه عن بعض العرب إعراب المضاف مع بقاء التراكيب، كقولك أحد عشرك مع أحد عشر زيد فيبقى الصدر مفتوحا ويتغير آخر العجز بالعوامل، كما يفعل ببعلبك إذا دعت حاجة إلى إضافته. والقياس على هذا جائز عند الأخفش، وأجاز الفراء إضافة صدر العدد المركب إلى عجزه مُزالا بناؤهما وأنشد: كُلِّف مِن عَنائه وشِقْوته ... بنتَ ثماني عَشْرة مِن حجّته

ولم ير ذلك مخصوصا بالشعر، بل أجازه في النثر والنظم. وإلى هذين الوجهين أشرت بقولي: "وقد يجرى ما أضيف منهما مجرى بعلبك أو ابن عرس". ص: وياء الثماني في التركيب مفتوحة، أو ساكنة، أو محذوفة بعد كسرة أو فتحة. وقد تحذف في الإفراد، ويجعل الإعراب في متلوها. وقد يفعل ذلك برباع وشناح وجوار وشبهها. وقد يستعمل أحد استعمال واحد في غير تنييف. وقد يغني بعد نفي أو استفهام عن قوم أو نسوة، وتعريفه حينئذ نادر. ولا يستعمل إحدى في تنييف وغيره دون إضافة. وقد يقال لما يُستعظم مما لا نظير له هو أحد الأحدين. وإحدى الإحد. ش: يقال في تركيب ثمانية وعشرة ثمانية عشر في التذكير، وثمانيَ عشرة في التأنيث، بفتح الياء وثماني عشرة بسكونها، وثمانِ عشرة بحذفها وبقاء الكسرة دالة عليها، وثمانَ عشرة بحذفها لفظا ونية. ومن العرب من يفعل ذلك في الإفراد ويحرك النون بحركات الإعراب. ومن ذلك قول الراجز: لها ثنايا أربعٌ حسانُ ... وأربعٌ فتغرها ثمانُ ومثل قوله في ثمانٍ ثمانٌ قول بعض العرب رباع في الرَّباعي من الحيوان، وهو ما فوق الثني، ومثله شناح في الشناحي، وهو الطويل. ومثله قراءة بعض السلف (ومن فوقهم غواشٌ) بضم الشين. وروي أن عبد الله بن مسعود قرأ (وله الجوارُ المنشآتُ) بضم الراء. وكل هذا مشار إليه في متن الكتاب.

وقد يستعمل أحد استعمال واحد في غير تنييف، ومن ذلك قوله تعالى (وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) ومنه قوله تعالى (قل هو الله أحد) ومنه قول الشاعر: وقد ظهرتَ فلا تَخْفى على أحد ... إلّا على أحد لا يَعرف القمرا أراد على واحد لا يعرف القمرا. ومثله قول الآخر: إذا ناقةٌ شُدّتْ برَحْل ونُمْرق ... إلى أحد بَعْدي فضّل ضلالها وقد يغني أحد بعد [نفي أو] استفهام عن قوم أو نسوة، فإغناؤه بعد نفي عن قوم كقوله تعالى (فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين)، وإغناؤه بعد استفهام عن قوم ما جاء في الحديث من قول أبي عبيدة رضي الله عنه: (يا رسول الله أحدَ خيرٌ منّا) أصله أأحد، فحذف همزة الاستفهام وأوقع أحدا موقع قوم. وإغناؤه عن نسوة كقوله تعالى (يا نساءَ النّبيِّ لستنَّ كأحدٍ من النّساء إن اتّقيتنّ). وحقه إذا أغنى عن قوم أو نسوة أن يكون مذكرا، وقد ندر تعريفه في قول الشاعر:

وليس يَظْلِمُني في أمر غانية ... إلّا كعمرٍو وما عمرٌو من الأحَدِ قال اللحياني: قالوا: ما أنت من الأحد، أي من الناس، وأنشد هذا البيت. ويقال للموصوف بعدم النظير هو أحد الأحدين، وإحدى الإحد، أي الدواهي المقول لكل واحدة منها لا نظير لها، قال الراجز: حتى استَثاروا بي إحْدى الإحَد ... ليْثًا هِزَبْرًا ذا سِلاح مُعْتدِ ص: ويختص أحد بعد نفي محض أو نهي أو شبههما بعموم مَن يعقل لازم الإفراد والتذكير ولا يقع في إيجاب يراد به العموم خلافا للمبرد. ومثله عريب وديّار وشَفر وكتيع وكرّاب ودُعْويّ ونُمّيّ وداريّ ودُورى، وطُوريّ وطوشى ودُبِّي ودُبيح ودَبيج وأريم وأرَم ووابر وواتن وتامور وتُؤْمور. وقد يغني عن نفي ما قبل أحد نفي ما بعده إن تضمن ضميره أو ما يقوم مقامه، وقد لا يصحب "شفر" نفيا، وقد تضم شينه. ش: لا يراد بأحد في نحو ما فيها أحد إلا مَن يعقل على سبيل الشمول والإحاطة، ولذلك لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ولا يعرّف، لأنه قصد به حالة واحدة، فاستغنى عن علامة تدل على غيرها، ولا يكون إلا بعد نفي محض نحو (ولم يكن له كُفُوا أحد) أو نهي نحو (ولا يلتفتْ منكم أحدٌ) أو ما يشبه النفي المحض نحو (هل تُحِس منهم من أحد) ونحو: قلّ ما يقول ذلك أحد إلا زيد، وليتني أسمع أحدا

يتكلم. لأن المعنى لا أسمع أحدا يتكلم. ذكره الفراء في كتاب "الحدّ". وقيدت المنفي بالمحض احترازا من أليس وما زال ونحوهما. وأشرت بشبه النهي إلى قول الفراء في كتاب الحد: لأضربنّ أحدا يقول ذلك، وساقه سياقا يشعر بشهرته. والمعنى فيه لا يقل أحد ذلك. وأجاز المبرد إيقاعه في الإيجاب المراد به العموم نحو كل أحد. ومنع ذلك غيره، ذكر ذلك السيرافي في باب "كان" من شرح الكتاب. ويساوي أحدا في جميع ما نُسب إليه عريب وما ذكر بعده. ومن شواهدها قول الشاعر: ليتَ هذا الليلَ شَهْرٌ ... لا نرى فيه عَريبا ليس إيّايَ وإيّا ... كَ ولا نخشى رقيبا وقول العجاج: وبلدةٍ ليس بها طُورِيُّ ... ولا خلا الجن بها إنْسيُّ ويروى طوئي. ومن شواهد إرم: تلك القرونَ ورِثنا الأرض بعدهم ... فما يُحس عليها منهم أرم وأنشد ابن الأعرابي: يمينًا أرى من آل شيْبان وابِرا ... فيفلت منّي دون مُنْقَطَع الحبل وأنشده غيره: أجدَّ الحيُّ فاحتملُوا سراعا ... فما بالدار بعدهم كتِيعُ ومثال ما أغنى فيه نفي ما بعد أحد عن نفي ما قبله لتضمن ضمير أحد قول الشاعر:

إذا أحدٌ لم يَعْنِه شأنُ طارِق ... لعُدْم فإنا مؤثروه على الأهل ومثال ما أغنى فيه عن تقدم المنفي تضمن ما بعد أحد لقائم مقام ضميره قوله: ولو سُئلت عنا نوار وقومها ... إذا أحدٌ لم تنطِق الشفتان أراد لم تنطق شفتاه، فأقام الألف واللام مقام الضمير. ومثال استعمال "شفر" في جملة خالية من نفي قول الشاعر: فواللهِ ما تنفكُّ منّا عداوةٌ ... ولا منهم ما دامَ مِن نسلنا شَفْرُ فصل: ص: لا يثنى ولا يجمع من أسماء العدد المفتقر إلى تمييز إلا مائة وألف. واختص الألف بالتمييز به مطلقا، ولم يميز بالمائة إلا ثلاث وإحدى عشرة وأخواتها. ش: انفرد الألف من أسماء العدد المفتقرة إلى التمييز بأن لم توضع لشيء من مجموعاتها لفظ يغني عن جمعه، فجرى عن قياس الأسماء في الجمعية مفسرا كان نحو ثلاثة آلاف، أو غير مفسر نحو (وهم ألوفٌ) وشاركته المائة في وضع ما يغني عن التثنية فقيل مائتان كما قيل ألفان، واستغنى في الثلاثة وأخواتها عن التثنية والجمع، لأن لكل واحد منها لفظا يغني عن التثنية إن قصدت، وعن الجمع إن قُصد كالعشرة والعشرين عن تثنية عشرة وجمعها. وللمائة شبه بالثلاثة وأخواتها في أن لها لفظا يغني عن جمعها، وذلك اللفظ هو الألف في إهمال ما يغني عن جمعها إن لم تكن عشرة، فإن كانت عشرة فله ألف، فألف من مائة كمائة من عشرة. فلما لم تكن المائة كالألف في عموم إهمال ما يغني عن الجمع، ولا كعشرة في عموم وضع ذلك وُسِّط أمرها، فأفردت كخمس مائة، وجمعت كثلاث مئين.

واختص الألف بأن تميز به الثلاثة وأخواتها وكأحد عشر ألفا، وعشرين ألفا، ومائة ألف، وما تفرع منهما كمائة ألف ومائتي ألف، وألف ألف. ومائة ألف ألف. وإلى هذا وأمثاله أشرت بقولي "واختص الألف بالتمييز به مطلقا" ثم قلت: "ولم يميز بالمائة إلّا ثلاث وإحدى عشرة وأخواتها" فنبهت بذلك على أنه يقال إحدى عشرة مائة واثنتا عشرة مائة إلى تسع عشرة مائة، ولا يقال عشر مائة ولا عشرون مائة، استغناء بالألف والألفين. ومن تمييز المركب بمائة قول جابر رضي الله عنه "كنّا خمس عشرة مائة" يعني أهل الحديبية. وفي حديث البراء رضي الله عنه: "كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة". ص: وإذا قصد تعريف العدد أدخل حرفه عليه إن كان مفردا غير مفسر أو مفسرا بتمييز. وعلى الآخر إن كان مضافا، أو عليهما شذوذا لا قياسا، خلافا للكوفيين. وتدخل على الأول والثاني إن كان معطوفا ومعطوفا عليه، وعلى الأول إن كان مركبا. وقد يدخل على جزءيه بضعف، وعليهما وعلى التمييز يقبح. ش: دخول حرف التعريف على العدد المفرد غير مفسر أو مفسرا بتمييز نحو خُذ المائة ودَع الألف درهما، وهذا على لغة من لا يضيف، عومل فيهما ذو الألف واللام معاملة المنون. ذكر ذلك ابن كيسان. وعليه ورد قول حذيفة رضي الله عنه "يا رسول الله أتخاف علينا ونحو ما بين الستمائة إلى السبعمائة" ومثال دخول حرف التعريف على الآخر إن كان العدد مضافا قول ذي الرمة: وهل يَرجِعُ التسليمَ أو يكشفُ العمى ... ثلاثُ الأثافي والرسومُ البلاقِعُ وقلت على الآخر ولم أقل على الثاني ليتناول ذلك ما تضمن إضافة واحدة

وما تضمن إضافتين أو أكثر نحو قبضت خمس مائة ألف دينار. وروى الكوفيون إدخال حرف التعريف على العدد المضاف إلى ما فيه الألف واللام كقولك: قبضت العشرة الدنانير، واشتريت الخمسة الأثواب. وهذا شاذ فيحفظ ولا يقاس عليه. ومثال دخول حرف التعريف على المعطوف والمعطوف عليه قول الشاعر: إذا الخمسَ والخمسين جاوزْتَ فارتقبْ ... قُدوما على الأموات غيرَ بعيد ومثال دخوله على أول جزءي المركب قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه "إنْ كنت صائما فصُم الثلاث عشرة والأربع عشرة والخمس عشرة" أي صم يوم الثلاث عشرة ليلة ويوم الأربع عشرة ليلة، ويوم الخمس عشرة ليلة. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ولولا ذلك لقال: صم الثلاثة عشر والأربعة عشر والخمسة عشر، لأن المصوم فيه اليوم والليلة. وروى بعض الكوفيين دخول حرف التعريف على جزءي المركب وهو ضعيف، وتوجيهه أن يجعل الداخل على العجز زائدا. وروى بعضهم أيضا دخوله عليهما وعلى التمييز، وهو أبعد من الذي قبله، ويوجه أيضا بزيادة حرف التعريف مرّتين. ولا يستعمل منه إلا ما سُمع فيُجاء به منبّها على ضعفه وقبحه. فصل: ص: العدد المميز بشيئين في التركيب لمذكرهما مطلقا إن وجد العقل، وإلّا فلسابقهما بشرط الاتصال. ولمؤنثهما إن فصلا ببَيْن وعدم العقل. ولسابقهما في الإضافة مطلقا. والمراد بكتب لعشرين يوم وليلة عشر ليال وعشرة أيام، وباشتريت عشرة بين عبد وأمة خمسة أعبد وخمس آم.

ش: تقول عندي خمسة عشر عبدا وجارية، وخمسة عشر جارية وعبدا، فتجعل الحكم للمذكر قدّمته أو أخّرته. وكذا تفعل أبدا بكل مركب بعدد من يعقل إذا مُيّز بمذكر ومؤنث متصلا كان المميز كما هو في المثال المذكور، أو منفصلا ببين كقولك عندي خمسة عشر بين رجل وامرأة، وخمسة عشر بين امرأة ورجل. وتقول نحرت خمسة عشر جملا وناقة في خمسة عشر يوما وليلة، وركبت خمس عشرة ناقة وجملا في خمس عشرة ليلة ويوما، فتجعل الحكم لسابقهما مذكرا كان أو مؤنثا، وكذا تفعل أبدا بكل مركب من عدد ما لا يعقل إذا اتصل بمميزه والمميز مذكر ومؤنث. وتقول عندي ست عشرة بين ناقة وجمل، واشتريت ست عشرة بين كبش ونعجة، فتجعل الحكم لمؤنثها قدّمته أو أخّرته. إذا انفصل المميز وكان مما لا يعقل. والمراد في الحالين أن نصف العدد المذكور ذكور ونصفه إناث. وهكذا أبدا في غير الليالي والأيام. فأمّا فيهنّ فالعدد المذكور لليالي والأيام مثله، فإذا قلت: كتب لعشر بين يوم وليلة، فالمراد عشر ليال وعشرة أيام. هذا كله معنى كلام سيبويه. وتقول عندي عشرة أعبد وجوار، وعشر جوار وأعبد، فتجعل الحكم عند الإضافة للسابق من المميزين، مذكرا كان أو مؤنثا، عاقلا أو غير عاقل. ولا يكون مميز هذا النوع أقل من ستة لأنهما إذا كان أقل من سنة كان أحدهما أقل من ثلاثة. والخمسة وأخواتها لا تضاف إلى أقل من ثلاثة. ولا فرق في ذلك بين أن يتصل المضاف إليه بالمضاف، أو ينفصل بعطف. فصل: ص: يؤرخ بالليالي لسبقها، فيقال أول الشهر كتب لأول ليلة منه، أو لغرّته، أو مهلّه أو مستهلّه ثم لليلة خلت، ثم خلتا، ثم خلون إلى العشر، ثم خلت إلى النصف من كذا وهو أجود من لخمس عشرة خلت، أو بقيت، ثم لأربع عشرة بقيت إلى عشر بقين إلى ليلة بقيت، ثم لآخر ليلة منه أو سلخه أو انسلاخه. وقد تخلف التاء النون أو بالعكس. ش: لا ريب في أن أول الشهر ليلة وآخره يوم. وقد علم أن لكل ليلة يوما يتلوها، فلذلك استغنى في التاريخ بالليالي عن الأيام. فإذا قيل كتب لخمس خلون، فمعناه لخمس ليال خلون، فقصدت الليالي وسكت عن الأيام لعدم الحاجة إلى ذكرها.

وقد توهم قوم أن هذا الكلام قد غلب فيه المؤنث على المذكر، وليس ما توهموه بصحيح، لأن التغليب إنما هو لفظ يعم القبيلتين ويجرى عليهما معا حكم أحدهما كقوله تعالى (قالوا أتعجبين من أمر الله رحمةُ الله وبركاته عليكم أهل البيت) وكقوله تعالى بعد خطاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم (إنما يريد الله ليُذْهب عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهّركم تطهيرا) وكقوله تعالى (خلق كلَّ دابّةٍ من ماء فمنهم) فأعاد ضمير الذكور العقلاء على كل دابة على سبيل التغليب. وقالوا فيما فوق العشرة خلت وبقيت، لأن مميزه ليلة مقدّرة، ولو ذكر لكان الفعل بعدها هكذا، فجيء به مع تقديرها على ما كان ينبغي له مع ذكرها. وقالوا في العشر وأخواتها خلون وبقين لأن مميزها في التقدير جمع مؤنث، ولو ظهر لكان خلون وبقين أولى من خلت وبقيت، لأن النون نصّ في الجمعية والتأنيث والتاء ليست كذلك. ولما استمر هذا الاستعمال في التاريخ حمل غيره عليه فقيل في الكثرة الجذوع انكسرت حملا على لإحدى عشرة خلت. وقيل في القلّة الأجذاع انكسرن حملا على لعشر خلون، وهذا إنما هو على مراعاة الأحسن، ولو عكس العمل في التاريخ وغيره لجاز. فصل: ص: يصاغ موازن فاعل من اثنين إلى عشرة بمعنى بعض أصله فيفرد أو يضاف إلى أصله، وينصب إن كان اثنين لا مطلقا خلافا للأخفش. ويضاف المصوغ من تسعة فما دونها إلى المركب المصدر بأصله، أو يعطف عليه العشرون وأخواته، أو تركب معه العشرة تركيبها مع النيف مقتصرا عليه أو مضافا إلى المركب المطابق له. وقد يعرب الأول مضافا إلى الثاني مبنيا عند الاقتصار على ثالث عشر ونحوه. ويستعمل الاستعمال المذكور في الزائد على عشرة الواحد مجعولا حاديا.

ش: صوغ موازن فاعل من ثلاثة إلى عشرة بمعنيين أحدهما أن يكون بمعنى بعض أصله أي بمعنى بعض ما صيغ منه، ويستعمل مفردا كثالث إلى عاشر. ومضافا إلى أصله كثالث ثلاثة وعاشر عشرة. وأجاز الأخفش تنوينه والنصب به، وما ذهب إليه غير مرضيّ، لأن موازن فاعل المشار إليه إذا أريد به معنى بعض لا فعل له، إلا أن يكون ثانيا، فإن العرب تقول ثنيت الرجلين إذا كنت الثاني منهما، فمن قال ثانٍ اثنين بهذا المعنى عُذر، لأن له فعلا. ومن قال ثالثٌ ثلاثة لم يُعذر، لأنه لا فعل له. والمعنى الثاني يكون موازن فاعل المصوغ من ثلاثة إلى عشرة بمعنى جاعل ما تحت أصله معدودا به. نحو هذا ثالث اثنين، أي جاعل اثنين بنفسه ثلاثة، فلك في هذا أن تضيفه وأن تنوّنه وتنصب به لأنه اسم فاعل فعل مستعمل، فإنه يقال ثلثت الاثنين إلى عشرت التسعة. ومضارع ربعَ وسبع وتسعَ مفتوح العين، ومضارع البواقي مكسورها. ولم يستعمل بهذا ثان فيقال هذا ثان واحدا بمعنى جاعل واحدا بنفسه اثنين، بل استعمل ثان بمعنى بعض اثنين. ويقال تاسع تسعة عشر وتاسعة تسع عشرة إلى حادي أحد عشر وحادية إحدى عشرة. وإلى هذا أشرت بقولي "ويضاف المصوغ من تسعة فما دونها إلى المركب المصدّر بأصله" أي يضاف تاسع إلى المركب المصدر بتسعة. وحاد إلى المصدّر بأحد، وكذلك ما بينهما. ثم قلت "أو يعطف عليه العشرون وأخواته" فأشرت إلى أنه يقال التاسع والعشرون والحادي والعشرون والتاسع والتسعون والحادي والتسعون وكذا ما بين التاسع والحادي فيما بين التسعين والعشرين. ثم قلت "أو تركب معه العشرة تركيبها مع النيّف مقتصرا عليه" فأشرت إلى أنه يقال التاسع عشر والحادي عشر، فيبنى الصدر والعجز، كما بني الصدر والعجز من سبعة عشر، ويجعل عجز هذا المركب في التذكير والتأنيث كما كان مع أحد وإحدى وأخواتهما. ويعطى صدره ما لاسم فاعل من لحاق التاء في التأنيث وسقوطها في التذكير. ثم إن هذا المركب يقتصر عليه غالبا كما يقتصر غالبا على ثالث ونحوه. وقد يضاف هذا المركب إلى المركب المصدّر بأصل ما صُدّر به المضاف فيقال هذا حادي عشر أحد عشر، وثاني عشر اثني عشر إلى تاسع عشر تسعة عشر. وإلى هذا أشرت بقولي "أو مضافا إلى المركب المطابق له" فأول هذين المركبين مضاف إلى ثانيهما وكلاهما مبني.

وقد يقتصر على صيغة فاعل وتاليه مضافا ومضافا إليه مع إعراب الأول وبناء الثاني على تقدير تركيبه مع ما صيغ منه فاعل فيقال هذا ثالثُ عشر ورأيت ثالثَ عشرَ، ومررت بثالثِ عشرَ، برفع ثالث ونصبه وجرّه وبناء عشر، على تقدير ثالث ثلاثة عشر فحذف الصدر ونوى بقاؤه، فاستصحب البقاء بناء العجز. وهذا شبيه بقول من قال: لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم، على تقدير ولا قوةَ بالبناء ثم حذف لا ونوى بقاءها فاستصحب البناء. ويستعمل استعمال فاعل المصوغ من اثنين وأخواته واحد مجعولا حاديا وواحدة مجعولة حادية فيقال في التركيب حادي عشر وحادية عشرة. ومع عطف عشرين وأخواته الحادي والعشرون والحادية والعشرون وهذا زيادة بيان لما تقدّم من ذكر ذلك. ص: وإن قصد بفاعل المصوغ من ثلاثة إلى عشرة جَعْل الذي تحت أصله معدودا به استعمل مع المجعول استعمال جاعل، لأن له فعلا، وقد يجاوز به العشرة فيقال رابع ثلاثة عشرة أو رابع عشر ثلاثة عشر ونحو ذلك، وفاقا لسيبويه بشرط الإضافة. وحكم فاعل المذكور في الأحوال كلها بالنسبة إلى التذكير والتأنيث حكم اسم الفاعل. ش: قد تقدم في شرح أول سطر في الفصل أن موازن فاعل يصاغ من ثلاثة إلى عشرة بمعنى جاعل وأن المصوغ بهذا المعنى اسم فاعل فعل مستعمل. وفي ذلك الكلام غنى عن إعادة معناه هنا. وقولي "المصوغ من ثلاثة" تقريب على المتعلم، والحقيقة أن يقال من الثَّلْث والرَّبْع والتَّسْع والعَشْر، والمراد به الثلث وما عطف عليه مصادر ثَلثْت الاثنين وربعت الثلاثة إلى عَشرات التسعة. وإنما كانت الحقيقة هذا لأن فاعلا المشار إليه اسم فاعل، واسم الفاعل مشتق من المصدر إلا أن في هذا غموضا، وفي الأول وضوح وسهولة، فكان التعبير به أولى. والهاء من قولي "تحت أصله" عائدة إلى فاعل المصوغ، والمراد أنك إذا قلت هذا ثالث اثنين، فمعناه جاعل اثنين ثلاثة بانضمامه إليهما (فهو فاعل)، لأن مصوغ من لفظها، والذي تحتها

الثلاثة الاثنان، فالقائل هذا ثالث اثنين قاصد جعل اثنين معدودا بثلاثة. وفي استعمل من قولي استعمل مع المجعول ضمير يعود على فاعل المصوغ والمراد بالمجعول الذي تحت المصوغ منه فاعل كالاثنين بالنسبة إلى ثالث وكالثلاثة بالنسبة إلى رابع. وأشرت باستعمال جاعل إلى أنه إن كان بمعنى المضي وجبت إضافته. وإن كان بمعنى الاستقبال جازت إضافته وإعماله على نحو ما يفعل بجاعل وغيره من أسماء الفاعلين. وكان ذكر جاعل أولى لأنه موافق لفاعل المذكور وزنا ومعنى. ونبهت على سبب إعماله بقولي "لأن له فعلا"، فيفهم من هذا أن ما لا فعل له لا ينصب تاليه كثالث ثلاثة. وأن ماله فعل ينصب تاليه كثالث اثنين ورابع ثلاثة. وينبغي أن يتنبه بهذا إلى جواز قول القائل هذا ثالث تسعة وعشرين، لأنه يقال كانوا تسعة وعشرين فثلثتهم، أي صيّرتهم ثلاثين، ورابع عشر ثلاثة عشر إلى تاسع ثمانية عشر وتاسع عشر ثمانية عشر بإضافة فاعل مفردا أو مركّبا إلى المركّب يليه. فصل: ص: استعمل كخمسة عشرَ ظُروف كيومَ يومَ، وصباحَ مساءَ، وبينَ بينَ، وأحوال أصلها العطف كتفرقوا شَغَر بغَر، وشذَر مَذَر، وخذعَ مذعَ، وأخولَ أخولَ، وتركت البلاد حيثَ بيثَ، وهو جاري بيتَ بيتَ، ولقيته كفّةَ كفّةَ، وأخبرته صحرةَ بحرةَ، وأحوال أصلها الإضافة كبادي بدا أو بادي بدى، وأيدي سبا وأيادي سبا. وقد يجر بالإضافة الثاني من مركب الظروف، ومن بيتَ بيتَ وتالييه. ويتعين كل ذلك للخلو من الظرفية. وقد يقال بادِئَ بدْءٍ، وبادِئ بَداءٍ، وبَدِي أو بَدْءٍ وبَدْءة ذِي بَدْء أو ذي بَدْأة أو ذي بَداءة. وقد يقال سبًا، بالتنوين، وحاثِّ باثِ، وحَوْثًا بوْثًا، وكفّة عن كفّة. وألحق بهذا وقعوا في حيْص بَيْص، وحِيصَ بيصَ، والخازَبازَ. ش: قد تقدم في باب الظروف أن من الظروف التي لا تتصرف ما ركب تركيب خمسة عشر كقولك فلان يتعهّدنا يومَ يومَ وصباحَ مساءَ، أي كل يوم وكل صباح ومساء، واستشهدت على ذلك بقول الشاعر:

ومَن لا يصرف الواشين عنه ... صباحَ مساءَ يَبْغوه خَبالا وقول الآخر: آتٍ الرزقُ يومَ يومَ فأجْملْ ... طَلَبا وابْغ للقيامة زادا إلا أنه ذكر هناك لكونه من الظروف التي لا تتصرف. وذكر هنا لكونه من المركب الجاري مجرى خمسة عشر، ولا يستعمل منه إلا ما سمع. فمن المستعمل منه حديث نقادة الأسدي رضي الله عنه "اللهم اجعل قوتَ فلانٍ يومَ يومَ" ومنه قول الشاعر: إذ نحن في غرّة الدنيا وبَهْجتها ... والدارُ جامعةٌ أزمانَ أزْماننا ومن المسموع في بين قول الشاعر: نَحمِي حقيقتنا وبَعْـ ... ـــــضُ القوم يَسقِط بين بينا ولا يقاس على شيء منه، كما لا يقاس على خمسة عشر وأخواته غيرها من الأعداد. ولو جاز القياس على ما سمع لقيل فلان يأتينا وقتَ وقتَ، ونهارَ ليلَ وعامَ عامَ، قياسا على يأتينا يوم يوم وصباح مساء وإذا لم يقس على أسماء الزمان مع أن فيها كثرة ما، فألا يقيس على اسم المكان الذي هو بينَ بينَ أحرى وأولى. فإن الظروف المكانية أقل من الظروف الزمانية، وهي تبع لها في هذا الاستعمال كما هي تبع لها في الإضافة إلى الجمل. ولذلك لم يضف من أسماء المكان إلى الجمل إلا "حيث". وأضيف لها من أسماء الزمان إذ وإذا وما أشبهها في المعنى.

والحاصل أنه لو ساغ أنْ يقاس على يومَ يومَ لم يَسغ أن يقاس على بين بين. وأما ما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه من قول إبراهيم عليه السلام "إنما كنتُ خليلاث منْ وراءُ وراءُ" فقد روي بالضم، على أن يكون مبنيا على الضم، لقطعه عن الإضافة وجعل الثاني تأكيدا للأول. والجيد أن يقال من وراء وراءٍ بإضافة الأول إلى الثاني، فإن هذا حكم ما خرج عن الظرفية مما ركب من الظرف تركيب خمسة عشر. وعلى هذا أنشد سيبويه: ولولا يومُ يومٍ ما أرَدْنا ... جزاءكَ والقروضُ لها جزاءُ وأنشد أيضا: ما بال جهْلكَ بعدَ الحِلم والدِّين ... وقد علاكَ مَشيبٌ حينَ لا حينِ أنشده وقال: إنما هو حينَ حينٍ و"لا" بمنزلة "ما" إذا ألغيتْ. ولشبه الحال بالظرف أشرك بينهما في الجريان مجرى خمسة عشر في ألفاظ محفوظة، إلا أن الغلبة للحال، ولذلك كان منه ما أصله العطف وما أصله الإضافة، وليس في مركب الظروف ما أصله الإضافة. وكان الحال جديرا بالغلبة، لأن الواقع حالا من هذا النوع قائم مقام مفرد ومغْنٍ عنه، كما أن مركب العدد قائم مقام مفرد مغن عنه. وذلك أن ما دون العشرة إذا زيد عليه واحد استحق مفردا يدل على الزائد والمزيد عليه كقولنا للاثنين مزيدا عليها واحد ثلاثة وهكذا إلى التسعة المزيد عليها واحد، وأما العشرة المزيد عليها فترك فيها هذا الأصل واستغنى بالتركيب عنه، ثم رجع إليه في تضعيف العشرة وما فوقه. والأحوال المشار إليها بمنزلة مركب العدد في القيام مقام مفرد، لأن شغرَ يغرَ بمعنى منتشرين، وشذَرَ مَذَرَ بمعنى متفرقين، وخذع مذع بمعنى منقطعين، وأخول أخول في قوله:

سقاطَ شَرارِ القَيْن أخْوَلَ أخولا بمعنى متفرقا، وحيث يبث بمعنى مبحوثة، وبيت بيت بمعنى متقاربا، وكفة كفة بمعنى مواجها، وصحرة بحرة بمعنى منكشفا، وبادي بدا أو بدى بمعنى مبدوءا به. وسبب بناء ما أصله العطف كسبب بناء العدد، وهو في مركب الأحوال آكد، لأن تركيبه ألزم. وأما ما أصله الإضافة فسبب بنائه تشبيهه بما أصله العطف في التركيب من شيئين يؤديان معنى واحدا. وفي لزوم معنى في، وامتناع الألف واللام والإضافة والتصغير. وبنيا على حركة لأن لهما أصلا في التمكن. وكانت الحركة فتحة لأن مع التركيب ثقلا وكثرة واجتماع ثقيلين لو جيء معه بكسرة أو ضمة. ومن قال حاث باث وخاز باز بالكسر دون الفتح فإنه فرّ من ست فتحات تقديرا لأن الألفين بمنزلة فتحتين وقبلهما فتحتان. فإذا فتح تالياهما اجتمعت ست فتحات تقديرا، فأوثر الكسر مخلّصا من توالي الأمثال. ومعنى وقعوا في حيص بيص: وقعوا في شدة ذات تقدّم وتأخّر، وهو من حاص عن الشيء يحيص إذا تأخر عنه خوفا منه، وباص يبوص بوصا إذا تقدّم، فأبدلت واو بوص ياء لتشاكل حيصا، كما فعلوا بواو تلوت حين قيل لا دريت ولا تليت وقد عكس من قال في حوص وبوص، فجاء ببوص على أصله وأبدل ياء حيص واوا وهذا من إتباع الأول الثاني. وهو نظير مأزورات غير مأجورات، فإنه من الوزر فحقه موزورات إلا أن واوه جعلت ألفا لتشاكل ما بعده. والخاز باز عشب، وذباب، وصوت الذباب، وداء في اللهازم، وبعض أسماء السِّنّور. ومن فتح زاييه أجراه مجرى خمسة عشر. ومن كسرهما أجراه مجرى بعلبك ? كذا ? ومن قال خازُ بازٍ أضاف صدره إلى عجزه، ومن قال خِزْباز وخازباء أفردهما كقرطاس وقاصعاء.

باب كم وكأين وكذا

باب كم وكأيّن وكذا ص: كم اسم لعدد مبهم فيتفتقر إلى مميز لا يحذف إلا بدليل، وهو إن استفهم به كمميز عشرين وأخواته، لكن فصله جدير هنا في الاختيار، وهناك في الاضطرار. وإن دخل عليها حرف جر فجره جائز بمن مضمرة، لا بإضافتها إليه خلافا لأبي إسحاق. ولا يكون مميزها جمعا خلافا للكوفيين. وما أوهم ذلك فحال والمميز محذوف. وإن أخبر بكم قصدا للتكثير فمميزها كمميز عشرة أو مائة مجرور بإضافتها إليه لا بمن محذوفة خلافا للفراء. وإن فصل نصب حملا على الاستفهامية، وربما نصب غير مفصول. وقد يجر في الشعر مفصولا بظرف أو جار ومجرور لا بجملة ولا بهما معا. ش: يدل على اسمية كم الإسناد إليها، وعود الضمير عليها في نحوكم رجلا جاءك، ودخول حرف الجر عليها والإضافة إليها في نحو بكم رجلا مررت، ورزق كم نفسا ضمِنت، وتسليط عوامل النصب عليها نحو كم يوما صمت، وكم فرسخا سرت، وكم كانت دراهمك؟ وهي في الكلام على ضربين: استفهامية كالمذكور آنفا. وخبرية يقصد بها التكثير كقوله تعالى (كم مِنْ فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئة كثيرةً بإذن الله). وهي في حالتيها أشدّ إبهاما من أسماء العدد، لأن أسماء العدد تدل على العدد دلالة تنصيص ولا تدل على جنس المعدود، والأمران بذكر "كم" مبهمان، فكان افتقارها إلى مميز أشد من افتقار أسماء العدد. ولما كانت الاستفهامية بمنزلة عدد مقرون بهمزة الاستفهام أشبهت العدد المركب فأجريت مجراه، بأن جُعل مميزها كمميزه في النصب والإفراد، فقيل كم درهما لك؟ كما قيل لك خمسة عشر درهما، ثم قصد امتياز الخبرية فحملت من العدد على ما يضاف

إلى مميزه، وهو ضربان مميز بجمع كعشرة دراهم، ومميز بمفرد كمائة دينار، ولم يكن حملها على أحد الضربين بأولى من حملها على الضرب الآخر، فحملت عليهما معا، فتارة تضاف إلى جمع حملا على عشرة، وتارة تضاف إلى مفرد حملا على مائة، فيقال كم رجال صحبت، وكم بلد دخلت، كما تقول عشرة رجال صحبت، ومائة بلد دخلت. ويجوز حذف مميز "كم" كما يجوز حذف مميز العدد، فحذف مميز "كم" كقوله تعالى (كم لبِثْتُم) وحذف مميز العدد كقوله تعالى (عليها تسعةَ عَشَرَ) ويجوز الفصل بين الاستفهامية ومميزها في السعة، ولا يجوز الفصل بين العدد ومميزه إلا في ضرورة كقول الشاعر: على أنَّني بعدَ ما قد مضى ... ثلاثون للهَجْر حَوْلا كمِيلا ولو استعمل هذا في غير ضرورة شعر لم يجز، بخلاف "كم" فلك أن تفصل بينها وبين مميزها دون ضرورة، فتقول: كم لك درهما. وإنما كان الأمر كذلك لأن العدد مميز بمنصوب مستطال بالتركيب إن كان مركبا وبالزيادتين في آخره إن كان للعشرين أو إحدى أخواتها، فموضع التمييز منه بعيد دون فصل، فلو فصل بشيء لازداد بُعْدا، فمنع الانفصال إلا في الضرورة. وكم بخلاف ذلك فلم يلزم اتصال مميزها. وإن دخل على الاستفهامية حرف جر جاز بقاء مميزها منصوبا كقولك بكم رجلا مررت، وجاز أن يجر بمن مقدرة كقولك بكم درهم تصدقت، تريد بكم من درهم، فحذفت مِن وأبقيت عملها. قال ابن خروف قاصدا إلى حذف من وإبقاء عملها: هو مذهب الخليل وسيبويه والجماعة، وزعم ابن بابشاذ أنه ليس مذهب المحققين. وقوله فاسد، وإضمار الحرف نص من كلامهم إلا الزجاج وحده، فإن النحاس حكى عنه أنه كان يخفض هذا بكم ولا يحذف شيئا. قال ابن خروف:

ولا يمكن الخفض بها لأنها بمنزلة عدد ينصب ما بعده قولا واحدا، فيجب لما حمل عليه ونزل منزلته أن يكون كذلك. قلت: الأمر على ما أشار إليه أبو الحسن بن خروف، أعني كون المميز في نحو بكم درهم تصدقت مجرورا بمن مقدرة لا بكم، لأنها بمنزلة عدد ينصب ما بعده ولا يخفضه، فلو خفضت ما بعدها مرة ونصبته مرة لزم تفضيل الفرع على الأصل، وأيضا لو كانت صالحة للجر بها إذا دخل عليها حرف جر لصلحت للجر بها إذا عريت من حرف الجر، إذ لا شيء من المميزات الصالحة ينصب مميزها ويجر بإضافتها إليه، فيشترط في إضافتها أن يكون هو مجرورا، فالحكم بما حكم به الزجاج ومن وافقه حكم بما لا نظير له، فخولف مقتفيه ورُغب عنه لا فيه. ولا يجوز جمع مميز الاستفهامية، كما لا يجوز جمع مميز العدد الذي أجريت مجراه. وأجاز ذلك الكوفيون ولا حجة لهم، وإن ورد ما يوهم جواز ذلك حمل على أن المميز محذوف. وأن الجمع الموجود منصوب على الحال نحو أن يقال: كم لك شهودا وكم نفسا عليك رقباء. وإن قُصد بكم الإخبار على سبيل التكثير جرت مجرى عشرة مرة، ومجرى مائة أخرى. وقد سبق الكلام على ذلك تبيينا وتمثيلا. ومميزها مجرور بإضافتها إليه كمميز ما حملت عليه. وزعم الفراء أن الجر بعدها بمن مقدرة، ولا سبيل إلى ذلك كما لا سبيل إليه فيما حملت عليه، ولأن الجر بعدها لو كان بمن مقدرة لكان جوازه مع الفصل مساويا لجوازه بلا فصل، لأن معنى "من" مراد، واستعمالها سائغ مع الاتصال، فلو كان عملها بعد الحذف جائز البقاء مع الاتصال لكان جائز البقاء مع الانفصال في النثر والنظم. وفي كون الواقع بخلاف ذلك دليل على أن الجر بالإضافة لا بمن مقدرة. وإذا فصل مميز كم الخبرية بجملة أو ظرف أو جار ومجرور معا وجب نصبه مطلقا حملا على الاستفهامية، فالأول كقول الشاعر: كمْ نالَني منهم فَضْلا على عدَم ... إذْ لا أكادُ من الإقتار أحتمل

والثاني كقول الآخر: تؤمُّ سِنانا وكم دونَه ... من الأرض مُحْدَوْدِبًا غارُها ولو كان الفاصل ظرفا أو جارا ومجرورا لجاز النصب والجر، إلا أن الجر مخصوص بالشعر، كقول الشاعر: كم دون مية موماة يُهال لها ... إذا تيممها الخريت ذو الجلد وكقول الآخر: كم بجود مقرفٍ نال العلا ... وكريمٍ بخله قد وضعه وربما نصب مميز الخبرية متصلا بها، وزعم بعضهم أنه لغة تميم. ومنه قول الفرزدق: كم عمةَ لك يا جريرُ وخالةً ... فدْعاءَ قد حلبتْ عليَّ عِشاري فصل: ص: لزمت كم التصدير وبنيت في الاستفهام لتضمنها معنى حرفه، وفي الخبرية لشبهها بالاستفهامية لفظا ومعنى. وتقع في حالتيها مبتدأ ومفعولا ومضافا إليها وظرفا ومصدرا. ش: أداة الاستفهام منبهة للمستفهم ومؤذنة بحاجة المستفهم إلى إبداء ما عنده، فنزلت مما في خيرها منزلة حرف النداء من المنادى في استحقاق التقدم، فلذلك امتنع

تأخيرها ولزم تصديرها ولا فرق في ذلك بين كم وغيرها، فلذلك وجب رفع صاحب الضمير في نحو زيد كم ضربته، كما وجب في نحو زيد أين لقيته، وبشر متى رأيته. والخبرية جارية مجرى الاستفهامية في وجوب التصدير فلذلك لا يجوز في نحو زيدكم دراهم أعطيته إلا الرفع، وهي أيضا مساوية لها في وجوب البناء لتساويهما في مشابهة الحرف وضعا وإبهاما. وتنفرد الاستفهامية بتضمن معنى حرف الاستفهام، والخبرية بمناسبة رُبَّ إن قصدَ بها التقليل وهو الغالِب على رُبٍّ. ووقوع كم في حاليها مبتدأ ومفعولا ومضافا إليها كقولك كم درهما لك، و (كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ) وكم جزءا قرأت، وكم رجال صحبت، وحاجة كم قضيت وتعليم كم من المشتغلين توليت. ووقوعها في حاليها ظرفا ومصدرا كقولك: كم فرسخا سرت، وكم فراسخ سرت، وكم طعنة طعنت وكم طعنات طعنت. فصل: ص: معنى كأيّن وكذا كمعنى الخبرية، ويقتضيان مميزا منصوبا، والأكثر جره بمن بعد كأيّن. وتنفرد من كذا بلزوم التصدير وأنها قد يستفهم بها. وقد يقال كيءٍ وكاءٍ وكأيٍّ. وقد ورد كذا مفردا ومكررا بلا واو. وكنى بعضهم بالمفرد المميز بجمع عن ثلاثة وبابه، وبالمفرد المفسر بمفرد عن مائة وبابه، وبالمكرر دون عطف عن أحد عشر وبابه، وبالمكرر مع عطف عن أحد وعشرين وبابه. ش: قد تقدم أن كم الخبرية اسم يقصد به الإخبار على سبيل التكثير، وأنها مفتقرة إلى مميز كمميز عشرة مرة وكمميز مائة أخرى. وذكرت الآن أن معنى كأيّن وكذا كمعناها، فكان حقهما أن يضافا إلى مميزهما كما تضاف كم التي تساويها في المعنى، لكن منع من إضافة كأين أنها لو أضيفت لزم نزع تنوينها وهي مستحقة للحكاية، لأنها مركبة من كاف التشبيه وأيّ، فكانت بمنزلة بزيد مسمى به، فإنه يلزم أن يجرى مجرى الجملة المسمى بها في لزوم الحكاية والمحافظة على كل جزء من أجزائها، فيقال فيمن اسمه بزيد هذا بزيد ونظرت إلى بزيد، وكذا يقال في كزيد لو سمي به،

فلو جعل من زيد اسما لجاز فيه ما جاز في بزيد من الحكاية، وجاز أيضا أن تحرك نون من بحركات الإعراب. ويضاف إلى زيد، ولاستيفاء الكلام عن هذا وشبهه موضع هو به أولى. وأما كذا ففيها ما في كأين من التركيب الموجب للحكاية، وفيها زيادة مانعة من الإضافة، وذلك أن عجزها اسم لم يكن له قبل التركيب نصيب في الإضافة، فأبقى على ما كان عليه. والأكثر جز مميز كأيّن بمن كقوله تعالى (وكأين من آية في السموات والأرض). ومن نصب مميزها قول الشاعر: اطرُدِ اليأسَ بالرجا فكأين ... آلما حُم أمرُه بعد يُسْر وأما كذا فلم يجئ مميزها إلا منصوبا كقول الشاعر: عِدِ النفس نُعْمَى بعدَ بُؤساكَ ذاكِرا ... كذا وكذا لُطْفا به نُسيَ الجهد وانفردت كأين بموافقة "كم" في لزوم التصدير فلا يعمل فيها ما قبلها بخلاف كذا فإنها يعمل فيها ما قبلها وما بعدها، وانفردت كأيّن أيضا بأنها قد يستفهم بها كقول أبيّ بن كعب رضي الله عنه لعبد الله: "كأيِّنْ تقرأُ سورةَ الأحزاب، أو كأين تعدُّ سورة الأحزاب؟ فقال عبد الله: ثلاثا وتسعين. فقال أبي: قط" أراد ما كانت كذا قط. ويقال كيء وأصله كيّيء، بتقديم الياء على الهمزة، ثم عومل معاملة ميت فقيل

كيْء، ثم أبدلت ياؤه ألفا فقيل كاءٍ، وبه قرأ ابن كثير، ثم حذفت الألف فقيل كأ. وأما كأي فمقلوب كييء، وبه قرأ ابن محيصن والأشهب. واستعمال كذا دون تكرار قليل، وكذا استعماله مكررا بلا عطف، وجعل بعضهم كذا مميز بجمع كناية عن ثلاثة فما قولها. وبكذا كذا عن أحد عشر وأخواته، وبكذا وكذا عن أحد وعشرين وأخواته. ومستند هذا التفصيل الرأي لا الرواية.

باب نعم وبئس

باب نِعْم وبئْس ص: وليسا باسمين فيليا عوامل الأسماء خلافا للفراء، بل فعلان لا يتصرفان للزومهما إنشاء المدح والذم على سبيل المبالغة، وأصلهما فَعِل. وقد يردان كذلك. أو بسكون العين أو فتح الفاء أو كسرها، أو بكسرهما، وكذا كل ذي عين حلقية من فَعِل فِعْلا أو اسما. وقد تجعل العين الحلقية متبوعة للفاء في فعيل وتابعتها في فَعْل. وقد يتبع الثاني الأول في مثل نَحَو ومَحموم. وقد يقال في بِئس بَيْس. ش: يدلُ على فعلية نعم وبئس اتصال تاء التأنيث بهما ساكنة في كل اللغات، واتصال ضمير الرفع البارز بهما في لغة حكاها الكسائي نحو أخواك نعما رجلين، وإخوتك نعموا رجالا، والهندات نعمن هندات. وقال ابن برهان: الدليل على أن نعم فعل ماض رفعه الظاهر وتضمنه الضمير ودخول لام القسم عليه. وعطفه على الفعل الماضي. قلت: والحكم بفعليتهما هو مذهب البصريين والكسائي. وزعم الفراء وأكثر الكوفيين أنهما اسمان، واستدلوا على ذلك بدخول حرف الجر عليهما كقول بعض العرب، وقد قيل في بنت له: نعم الولد هي، فقال: والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرّها سرقة، وكقول بعضهم: نعم السيرُ على بئس العَيْر، وكقول الراجز: صبَّحك الله بخيْر باكر ... بنعم طير وشباب فاخِر ولا حجة في ذلك، أما الأول والثاني فيتعتذر عنهما بما اعتذر عن قول الآخر:

عَمْركَ ما ليلى بنامَ صاحبُهْ فقيل أراد ما ليلى بليل مقول فيه [نام صاحبه: وبولد مقول فيه نعم الولد، وبعَيْر مقول فيه] بئس العَيْر. وأما قول الآخر: بنعم طير وشباب فاخر فيحمل على أنه جعل "نعم" اسما أضيف إلى طير. وحكى لفظه الذي كان عليه قبل عروض الاسمية، كما قال الشاعر: بثين الزمي "لا" إنّ "لا" إن لزمته ... على كثرة الواشين أيُّ مَعُون فأوقع الزمي على "لا" ثم أدخل عليها إنّ فأجراها مجرى اسم حين دعت الحاجة إلى أن يعامل لفظها معاملة الأسماء، ولم يلزم من ذلك أن يحكم باسميتها إذا لم تستعمل هذا الاستعمال، وكذلك القول في نعم في قوله بنعم طير وفيها أربع لغات: نَعِم وبَئس وهما الأصل، ونَعْم وبَئْس بالتخفيف، ونِعِم وبِئِس بالإتباع، ونِعْم وبِئْس بالتخفيف بعد الإتباع، وهذه اللغة أبعد من الأصل، وأكثر في الاستعمال. وحكى أبو علي بَيْس، بياء ساكنة بعد فتحة وهو غريب. وأما اللغات المتقدمة فجائزة في كل ما كان من الأفعال والأسماء ثلاثيا أوله مفتوح وثانيه حرف حلقي مكسور، فيقال في شَهِد شَهْد وشِهِد وشِهْد. وكذا يقال في فَخذ: فَخْذ وفِخِذ. قال الشاعر: إذا غابَ عنّا غابَ عنّا ربيعُنا ... وإن شَهْد أجدى خيرُه ونوافلُهْ وقد تجعل العين الحلقية متبوعة للفاء في فَعيل فيقال في شهيد شِهِيد، وفي ضَئيل ضِئيل وفي بَعير بِعير وفي صَغير صِغير وفي نَحيف نِحِيف وفي بَخيل

بِخِيل. وقد تجعل العين الحلقية الساكنة تابعة للفاء المفتوحة فتفتح وإن لم يكن لها أصل في الفتح كقوله في قَحْم قَحَم، وفي قَعْر قَعَر وفي دَهْر دَهَر. ومذهب البصريين أن الفتح فيما ثبت سكونه من هذا النوع مقصور على السماع، وأن الوارد منه بوجهين ليس أصله السكون ثم فُتح ولا هو بالعكس، وإنما هو مما وضع على لغتين. ومذهب الكوفيين أن بعضه ذو لغتين وبعضه أصله السكون ثم فتح، لأن الفتحة من الألف وهو من حروف الحلق، فكان في جعلها على العين والعين حلقية مسبوقة بفتحة مشاكلة ظاهرة ومناسبات متجاورة. واختار ابن جني مذهب الكوفيين مستدلا بقول بعض العرب في نَحْو نَحَو وفي مَحْموم مَحَموم، فقال: لو لم تكن الفتحة عارضة في نَحَو لزم انقلاب الواو ألفا، لكنها فتحة عرضت في محل سكون فعومل ما جاورها بما كان يعامل به مع السكون ولم يعتدّ بها، وكذا فتحة محموم لو لم تكن عارضة لزم ثبوت مَفَعول أصلا ولا سبيل إلى ذلك، لكن فتحة الحاء منه في محل سكون فأمن بذلك عدم النظير وكان هذا التقدير أحسن التقدير. قلت: هذا معنى قول ابن جني، واعتبار ما اعتبره حسَن بيّن الحُسْن، وهو نظير قولنا في يَسَع أن الفتحة في محل كسرة، ولولا ذلك لقيل يَوْسع كما قيل في يَوْجع، لكنه عومل معاملة يَعِد فحذفت واوه لوقوعها بين ياء وكسرة، إلا أن كسرة بعد ملفوظ بها وكسرة يسع مقدرة في محل الفتحة كتقدير السكون في محل فتحة نَحَو ومَحَموم. وشبيه بهذا قولهم في جَيْأل وتوْءم جَيَل وتَوَم، فصححوا الياء والواو مع تحركهما وانفتاح ما قبلهما، لأن تحركهما عارض منوي في محله السكون. وشبيه بهذا أيضا قولهم في بُيوت بِيوت، فافتتحوا الجمع مع أنه أثقل من المفرد بكسرة تليها ضمة، وقد رفضوا ذلك مع المفرد مع أنه أخف، إلا أن الكسرة عارضة للإتباع، والضمة منوية في محلها، فعاد الصعب هينا والعذر بيّنا. وما حكى أبو علي من قولهم بَيْس فالوجه فيه أن أصله بِئس فخفف بِيس ثم فتحت الباء التفاتا

إلى الأصل، وترك ما نشأ عن الكسرة لأن استعمالها أكثر فكانت جديرة بأن تنوى مع رجوع الفتحة، لشبهها بالعارضة في قلة الاستعمال. ومعنى نعم وبئس المبالغة في المدح والذم، وربما توهم غير ذلك. وروي أن شريك بن عبد الله النخعي ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال جليس له: "نعم الرجل علي" فغضب وقال ألعليّ تقول نعم الرجل، فأمسك القائل عن شريك حتى سكن غضبه، ثم قال له: يا أبا عبد الله ألم يقل الله تعالى: (ولقد نادانا نوحٌ فلَنِعم المجيبون) (فقدّرنا فنِعم القادرون) (نعْم العبدُ إنّه أوّابٌ) قال شريك: بلى، فقال: ألا ترضى لعليّ ما رضى الله لنفسه ولأنبيائه فنبهه على موضع غلطه. ص: فاعل نعم وبئس في الغالب ظاهر بالألف واللام، أو مضاف إلى المعرف بهما مباشرا أو بواسطة. وقد يقوم مقام ذي الألف واللام "ما" معرفة تامة وفاقا لسيبويه والكسائي، لا موصولة خلافا للفراء والفارسي. وليست بنكرة مميزة خلافا للزمخشري والفارسي في أحد قوليه. ولا يؤكد فاعلهما توكيدا معنويا باتفاق. وقد يوصف خلافا لابن السراج والفارسي. وقد ينكر مفردا أو مضافا، ويضمر ممنوع الإتباع مفسرا بتمييز مؤخر مطابق قابل "أل" لازم غالبا. وقد يرد بعد الفاعل الظاهر مؤكدا وفاقا للمبرد، ولا يمتنع عنده وعند الفارسي إسناد نعم وبئس إلى الذي الجنسية وندر نحو نعم زيد رجلا، ومُرَّ بقوم نعموا قوما، ونعم بهم قوما، ونعم عبد الله خالد، وبئس عبد الله أنا إن كان كذا. وشهدت صفين وبئست صِفّون. ش: الغالب في فاعل نعم وبئس أن يكون معرفا بالألف واللام، أو مضافا إلى المعرف بهما، أو مضافا إلى المضاف للمعرف بهما، أو ضميرا مستترا مفسرا بنكرة

منصوبة على التمييز، فالأول كقوله تعالى: (فَنِعم المولى ونعم النصيرُ) والثاني كقوله تعالى: (ولنعْم دار المتّقين) والثالث كقول الشاعر: فإنْ تكُ فقعس بانتْ وبنّا ... فنِعم ذوو مُجاملةِ الخليل وكقول الآخر: فنعم ابنُ أختِ القومِ غير مكذَّب ... زهيرٌ حسامٌ مُفْرَدٌ من حمائِل وإلى مثل ما في البيتين أشرت بقولي "أو بواسطة". ومثال الرابع قوله تعالى (بئْس للظالمين بدلا). وقول الشاعر: لنِعْم موئلًا المولى إذا حُذرتْ ... بأساءُ ذي البَغي واستيلاءُ ذي الإحَنِ و"ما" في نعم ما صنعت عند سيبويه والكسائي فاعل بمنزلة ذي الألف واللام، وهي معرفة تامة غير مفتقرة إلى صلة، وإلى ذلك أشرت بقولي: وقد يقوم مقام ذي الألف واللام ما معرفة تامة. وهي عند الفراء وأبي علي الفارسيّ فاعلة موصولة مكتفى بها وبصلتها عن المخصوص. وأجاز الفراء أن تركّب نعم مع ما تركيب حب مع ذا فيليهما مرفوع بهما كقول العرب: بئسما تزويج ولا مهر، التقدير بئس التزويج تزويج مع انتفاء المهر. وجعل الزمخشري وأبو علي الفارسي في أحد قوليه "ما" نكرة مميزة. وسيأتي إبطال ذلك إن شاء الله تعالى. ولا يؤكد فاعل نعم وبئس توكيدا معنويا باتفاق، لأن القصد بالتوكيد المعنوي رفع توهم إرادة الخصوص بما ظاهره العموم، أو رفع توهم المجاز بما ظاهره الحقيقة. وفاعل نعم وبئس في الغالب بخلاف ذلك، لأنه قائم مقام الجنس إن كان ذا جنس، أو

مؤول بالجامع لأكمل خصال المدح اللائقة بمسماه إن كان فاعل نعم، وبالجامع لأكمل خصال الذم إن كان فاعل بئس. والتوكيد المعنوي مناف للقصدين، فاتفق على منعه. وأما التوكيد اللفظي فلا يمتنع لك أن تقول نعم الرجل الرجل زيد. وأما النعت فلا ينبغي أن يمنع على الإطلاق. بل يمنع إذا قصد به التخصيص مع إقامة الفاعل مقام الجنس؛ لأن تخصيصه حينئذ مناف لذلك القصد. وأما إذا تؤوّل بالجامع لإكمال الخصال فلا مانع من نعته حينئذ، لإمكان أن ينوى في النعت ما نوى في المنعوت. وعلى هذا يحمل قول الشاعر: نِعم الفتى المريُّ أنتَ إذا همُ ... حَضروا لدى الحُجُرات نارَ الموقِد وحمل ابن السراج وأبو علي مثل هذا على البدل، وأبَيا النعت ولا حجة لهما. وحكى الأخفش أن ناسا من العرب يرفعون بنعم النكرة مفردة ومضافة. وإلى ذلك أشرت بقولي: "وقد ينكر مفردا أو مضافا"، فيقال على هذا نعم امرؤ زيد، ونعم صاحب قوم عمرو، ومنه قول الشاعر: بئس قرينًا يفَنٌ هالكٌ ... أمُّ عُبيدٍ وأبو مالِكِ ومن ورود الفاعل نكرة غير مضافة قول الشاعر: أتحسِبُني شُغِفتُ بغير سَلْمى ... وسَلْمى بي مُتيَّمةٌ تهيمُ وسلمى أكملُ الثَّقلين حُسْنًا ... وفي أثوابها قمرٌ وريمُ نيافُ القُرطِ غرّاءُ الثنايا ... ورِئد للنساءِ ونِعم نيمُ ووافق الفراءُ الأخفشَ في كون الفاعل نكرة مضافة قال: فإن أضفت النكرة رفعت ونصبت كقولك نعم غلامُ سفر زيد ونعم غلامَ سفر زيد وقال أبو الحسن

الأخفش من قال هذا رجل وأخوه ذاهبان على تنكير الأخ قال هنا: نعم أخو قوم وصاحبهم زيد. ومن قال هذا رجل وأخوه ذاهبين على تعريف الأخ لم يجز له العطف هنا، لأن نعم لا ترفع إلا معرفة بالألف واللام، أو بإضافة إلى المعرف بهما. فظاهر هذا القول من أبي الحسن يشعر بأنه لا يجيز نعم الذي يفعل زيد، ولا نعم مَن يفعل زيد، ومثل هذا لا ينبغي أن يمنع، لأن الذي يفعل بمنزلة الفاعل، ولذلك اطرد الوصف به. ومقتضى النظر الصحيح ألا يجوز مطلقا ولا يمنع مطلقا. بل إذا قصد به الجنس جاز، وإذا قصد به العهد منع. وهذا مذهب المبرد والفارسي، وهو الصحيح. ومما يدل على أنّ فاعل نعم قد يكون موصولا ومضافا إلى موصول قول الشاعر: وكيف أرْهَبُ أمْرًا أو أُراعُ له ... وقد زَكَاتُ إلى بشْر بن مَرْوان فَنِعم مَزْكأ من ضاقت مذاهبُه ... ونِعْمَ مَن هو في سرّ وإعْلانِ فلو لم يكن في هذا إلا إسناد نعم إلى المضاف إلى مَن لكان فيه حجة على صحة إسناد نعم إلى مَن، لأن فاعل نعم لا يضاف في غير ندور إلا إلى ما يصح إسناد نعم إليه، فكيف وفيه: نعم مَن هو، فمَن هذه إما تمييز والفاعل مضمر كما زعم أبو علي. وقد تقدم ذلك في باب الموصولات، وإما فاعل، فالأول لا يصح لوجهين: أحدهما أن التمييز لا يقع في الكلام بالاستقراء إلا بنكرة صالحة للألف واللام. ومَن بخلاف ذلك، فلا يجوز كونها تمييزا. الثاني أن الحكم عليها بالتمييز عند القائل به مرتب على كون مَن نكرة غير موصوفة وذلك منتف بإجماع في غير محل النزاع، فلا يصار إليه بلا دليل عليه. فصح القول بأن مَن في موضع رفع بنعم، إذ لا قائل بقول ثالثٍ مع شهادة صدر البيت فإن فيه: مزكأ مَن فأسندت نعم إلى المضاف إلى مَن. وقد ثبت أن الذي تسند إليه لا يضاف لما لا يصح إسنادها إليه، وفي هذا كفاية. وقد يقع فاعل هذا الباب ضميرا مستترا مفسرا بعده بتمييز مطابق للمخصوص

بالمدح أو الذم نحو نعم رجلا زيد ونعمت امرأة هند، ونعم رجلين الزيدان، ونعمت امرأتين الهندان، ونعم رجالا الزيدون، ونعم نساء الهندات. وهذا الضمير المجعول فاعلا في هذا الباب شبيه بضمير الشأن في أنه قصد إبهامه تعظيما لمعناه، فاستويا لذلك في عدم الإتباع بتوكيد أو غيره. ونبهت على أن مميزه لا يكون إلا صالحا للألف واللام مع أن كل مميز لا يكون إلا كذلك بالاستقراء لأن أبا علي والزمخشري يجيزان التمييز في هذا الباب بما ويزعمان أن فاعل نعم في قوله تعالى (فنِعِمّا هي) وشبهه مضمر كما هو في نعم رجلا زيد. وما في موضع نصب على التمييز وربما اعتقد مَن لا يعرف أن هذا هو مذهب سيبويه، وذلك باطل. بل مذهب سيبويه أن "ما" اسم تام مكنّى به عن اسم معرف بالألف واللام الجنسية مقدّر بحسب المعنى كقولك في (إنْ تُبْدوا الصدقاتِ فنِعِمّا هي) أن معناه فنعم الشيء إبداؤها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قال أبو الحسن بن خروف: وتكون "ما" تامة معرفة بغير صلة نحو دققته دقا نعما. قال سيبويه: أي نعم الدق. ونعما هي أي نعم الشيء إبداؤها، ونعِمّا صنعْت وبئسما فعلت، أي نعم الشيء صنعت. هذا كلام ابن خروف معتمدا على كلام سيبويه، وسبقه إلى ذلك السيرافي، وجعل نظيره قول العرب: إني مما أن أصنع، أي من الأمر أن أصنع، فجعل "ما" وحدها في موضع الأمر ولم يصلها بشيء، وتقدير الكلام إني من الأمر صنعي كذا وكذا، فالياء اسم إنّ وصنعي مبتدأ ومن الأمر خبر صنعي والجملة في موضع خبر. هذا كلام السيرافي وهو موافق لكلام سيبويه فإنه قال: "ونظير جعلهم ما وحدها اسما قول العرب إني مما أن أصنع، أي من الأمر أن أصنع، فجعلوا ما وحدها اسما، ومثل ذلك غسلته غسلا نعما، أي نعم الغسل" فقدر "ما" بالأمر وبالغسل. ولم يقدرها بأمر ولا غسل، فعلم أنها عنده معرفة.

وحكى الفراء عن الكسائي أنه قال أرادت العرب أن تجعل "ما" بمنزلة الرجل حرفا تاما، ثم أضمروا ما، يشير إلى قولهم الفراء قولهم بئس ما صنعت، معناه بئس الشيء ما صنعته، فما الموجودة عنده فاعل، وما المقدرة مبتدأ، وهذا معنى ما نقله الفراء عن الكسائي، فمذهبه كمذهب سيبويه إلا أن المحققين من أصحاب سيبويه يجعلون التقدير نعم الشيء شيء صنعت. ويقوّي تعريف ما بعد نعم كثرة الاقتصار عليها في نحو غسلته غسلا نِعِمّا، والنكرة التالية نعم لا يقتصر عليها إلا في نادر من القول كقول الراجز: تقولُ عِرْسي وهي لي في عَوْمره ... بئسَ امرأ وإنني بئسَ المَرهْ ويقوي أيضا فاعليه ما المذكورة وأنها ليست تمييزا أن التمييز إنما يجاء به لتعيين جنس المميز وما المذكورة مساوية للمضمر في الإبهام فلا تكون تمييزا. ويقوى تعريف ما في نحو مما أن أصنع كونها مجرورة بحرف مخبر به وما كان كذلك فلا يكون بالاستقراء إلا معرفة أو نكرة موصوفة، وما المذكورة غير نكرة موصوفة فيتعين كونها معرفة وإلا لزم ثبوت ما لا نظير له. قال أبو علي في البغداديات في قوله تعالى: (إنّ الله نعِمّا يَعظُكم به) يجوز أن تكون "ما" معرفة وأن تكون نكرة. فإن حملته على أنه معرفة كان رفعا، ولم يكن لقوله (يعظكم به) موضع من الإعراب. وإن حملته على أنه نكرة كانت منصوبة وكان (يعظكم به) نصبا لكونه وصفا للاسم المنصوب". هذا نصه. وينبغي أن يتنبه لتقييدي مميز فاعل هذا الباب بقبول "أل" على أنه لا يجوز أن يكون بلفظ مثل ولا غير ولا أي ولا أفعل من كذا، لأنه خلف عن فاعل مقرون بالألف واللام فاشترط صلاحيته لهما، وكل ما ذكرته آنفا لا يصلح لهما فلم يجز أن يخلف مقترنا بهما. وقلت غالبا بعد التقييد بلازم، احترازا من حذف المميز في قول النبي صلى الله عليه وسلم

"مَن توضّأ يومَ الجمعة فبها ونعمتْ" أي فبالسنة أخذ، ونعمت السنة سنة، فأضمر الفاعل على شريطة التفسير وحذف المميز للعلم به. وإذا ثبت أن مميز هذا الباب قد يحذف للعلم به أمكن أن يحمل عليه ما أوهم بظاهره أن الفاعل فيه علم أو مضاف إلى علم كقول ابن مسعود رضي الله عنه أو غيره من العبادلة "بئس عبد الله أنا إن كان كذا" وكقول النبي صلى الله عليه وسلم "نعم عبد الله خالد بن الوليد" فيكون نعم وبئس مسندين إلى ضميرين، حذف مفسراهما وعبد الله مبتدأ وأنا وخالد بدلان. ومن هذا النوع أيضا قول سهيل بن حنيف رضي الله عنه "شهدت صفّين وبئست صِفُّون" وأما ما روي من قول بعضهم نعم زيد رجلا، على أن الفاعل مضمر ورجلا مفسره وزيد مبتدأ خبره نعم وفاعلها فليس بشذوذ إلا بكون مميز الضمير مسبوقا بالمبتدأ فيكون في ذلك نظير قول الشاعر: والتغلبيُّون بئس الفحلُ فحلهمُ ... فحلًا وأمُّهم زلّاء مِنْطيقُ وهذه توجيهات أعنت عليها، ولم أسبق إليها والحمد لله. والحاصل أن فاعل نعم وبئس لا يكون إلا ظاهرا معرفا بأل أو مضافا إليه أو إلى مضاف إليه أو نكرة مضافة أومفردة أو موصولا أو مضافا إليه، أو ضميرا مفسرا بتمييز موجود أو مقدر ولا يكون غير ذلك إلّا ما ندر نحو مررت بقوم نعموا رجالا، ومن قال نعم بهم فمراده نعموا ولكن زاد باء في الفاعل، كما زيدت في "كفى بالله". ومنع سيبويه الجمع بين التمييز وإظهار الفاعل، وأجاز ذلك أبو العباس وقوله في

هذا هو الصحيح، وحامل سيبويه على المنع كون التمييز في الأصل مسوقا لرفع الإبهام والإبهام إذا ظهر الفاعل زال فلا حاجة إلى التمييز، وهذا الاعتبار يلزم منه منع التمييز في كل ما لا إبهام فيه كقولك له من الدراهم عشرون درهما، ومثل هذا جائز بلا خلاف. ومنه قوله تعالى (إنّ عدّة الشهورِ عند الله اثنا عشر شهرا) وقوله تعالى (واختار موسى قومَه سبعين رجلا) وقوله تعالى (فتمَّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً) وقوله تعالى: (فهي كالحجارة أو أشدُّ قسوةً) فكما حكِم بالجواز في مثل هذا وجعل سبب الجواز التوكيد لا رفع الإبهام، فكذلك يفعل في نحو نعم الرجل رجلا، ولا يمنع، لأن تخصيصه بالمنع تحكم بلا دليل. هذا لو لم تستعمله العرب، فكيف وقد استعملته العرب كقول الشاعر: والتغلبيون بئس الفحل فحلهم ... فحلا وأمهم زلاء منطيق ومثله قول الآخر على الأظهر الأبعد من التكلف. تزوّدْ مثلَ زادِ أبيك فينا ... فنِعم الزادُ زاد أبيكَ زادا ومن ورود التمييز للتوكيد لا لرفع الإبهام قول أبي طالب: ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّد ... من خيْر أديانِ البَرِيَّةِ دينا ومثله قول الآخر:

فأمّا التي خيرُها يُرْتَجى ... فأجودُ جودًا من اللّافِظَهْ ص: ويدل على المخصوص بمفهومَي نعم وبئس، أو يذكر قبلهما معمولا للابتداء، أو لبعض نواسخه، أو بعد فاعلهما مبتدأ أو خبر مبتدأ لا يظهر، أو أول معمولي فعل ناسخ، ومن حقه أن يختص ويصلح للإخبار به عن الفاعل موصوفا بالممدوح بعد نعم، وبالمذموم بعد بئس. فإن باينه أُوّل. وقد يحذف ويخلفه صفته اسما وفعلا. وقد يغني متعلق بهما. وإن كان المخصوص مؤنثا جاز أن يقال نعمت وبئست مع تذكير الفاعل. ش: المخصوص بمفهومَي نعم وبئس هو المقصود بالمدح بعد نعم، وبالذم بعد بئس، كزيد وعمرو في قولك نعم الرجل زيد وبئس القرين عمرو، وإذا كان مذكورا هكذا فهو مبتدأ مخبر عنه بما قبله من الفعل والفاعل، ولا يضرّ خلوّ الجملة من ضمير يعود على المبتدأ، لأن الفاعل هو المبتدأ في المعنى، فلم يحتج إلى رابط، إذ هو مرتبط بنفسه، كما لم يحتج إلى رابط إذا كانت الجملة نفس المبتدأ في المعنى نحو كلامي الله ربّنا. وأجاز سيبويه كون المخصوص خبر مبتدأ واجب الإضمار، والأول أولى، بل هو عندي متعيّن، لصحته في المعنى وسلامته من مخالفة أصل، بخلاف الوجه الثاني وهو كون المخصوص خبرا، فإنه يلزم منه أن ينصب لدخول كان إذا قيل نعم الرجل كان زيد، لأن خبر المبتدأ بعد دخول كان يلزمه النصب، ولم نجد العرب تعدل في مثل هذا عن الرفع. فعلم أنه قبل دخول كان لم يكن خبرا وإنما كان مبتدأ. ومن لوازم كونه خبرا قبل دخول كان أن يقال في نعم الرجال الزيدون: نعم الرجال كانوا الزيدون وفي نعم النساء الهندات. نعم النساء كنّ الهندات. ومن لوازم ذلك أيضا أن يقال إذا دخلت ظننت على نعم: نعم الرجل ظننته زيدا وأن يقال إذا دخلت وجد على نعم الرجلان أنتما: نعم الرجلان وجدا إياكما، لكن العرب لم تقل إلا نعم الرجال كان الزيدون، ونعم النساء كانت الهندات، ونعم الرجلُ ظن زيد ونعم الرجلان وجدتما كما قال زهير:

يَمينًا لنعم السيّدانِ وُجِدْتما ... على كل حالٍ من سَحيلٍ ومُبْرَمِ فعُلم بهذا أن المخصوص لم يكن قبله ضمير فيكون هو خبره، بل كان المخصوص مبتدأ مخبرا عنه بجملة المدح أو الذم، ومن لوازم كون المخصوص خبرا جواز دخول إنّ لأن الخبر عنه عند من يرى صحة ذلك جملة خبرية أجيب بها سؤال مقدر، وتوكيد ما هو كذلك بإن جائز. والجواز هنا منتف مع أنه من لوازم الخبرية. فالخبرية إذن منتفية، لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. وأما على القول بكون المخصوص مبتدأ مقدم الخبر فيلزم منه موافقة الرافع، وهو امتناع دخول إن إلّا مع تقدّم المخصوص كقولك في زيد نعم الفتى: إنّ زيدا نعم الفتى. وأجاز ابن عصفور أن يجعل المخصوص مبتدأ محذوف الخبر. وهذا أيضا غير صحيح، لأن هذا الحذف ملتزم، ولم نجد خبرا يلتزم حذفه إلا ومحله مشغول بشيء يسد مسده، كخبر المبتدأ بعد لولا وهذا بخلاف ذلك، فلا يصح ما ذهب إليه ابن عصفور. والحاصل أن المخصوص بالمدح والذم لا يجب أن يصرح بذكره، ولا أن يؤخر إذا ذكر، بل الواجب أن يكون معلوما، فإن ذكر وأخر فهو مبتدأ كما مضى، وإما مرفوع بكان أو وجد أو إحدى أخواتها، وإما أول مفعولي ظن أو إحدى أخواتها، والجملة قبل الفعل في موضع نصب به خبرا أو مفعولا ثانيا. وإن ذكر وقدّم والجملة واحدة فهو مبتدأ [أو اسم كان أو إنّ] أو أول مفعولي ظن أو إحدى أخواتهنّ. فمن ذلك قول الشاعر: إذا أرْسَلُوني عند تَعْذير حاجة ... أمارِسُ فيها كنتُ نِعْمَ المُمارِسُ ومثله: لَعَمْري لئنْ أُتْرفْتُم أو صُحِرتُم ... لبئسَ الندامى كنتمْ آل أبْجَرا

ومن ذلك قول زهير: يمينًا لنِعم السّيدان وُجدتما ... على كل حال من سَحيل ومُبْرَم ومن ذلك قول الآخر: إن ابنَ عبدِ الله نعـ ... ــــم أخو الندى وابنُ العشيره ومثله: إني إذا أُغلِقَ باب الصَّيْدانِ ... نعم شَفيعُ الزائرِ المستأذِن وإن ذكر وقدّم والكلام جملتان قدّر المخصوص مبتدأ مؤخرا كقول الله تعالى (ولقد نادانا نوحٌ فلنِعْمَ المجيبون) وكقوله تعالى (والأرضَ فَرشْناها فنِعم الماهِدون) ومنه قول الشاعر: إنّي اعتَمَدْتُك ياَيز ... يدُ فنعم مُعتَمدُ الوسائلْ أراد فنعم معتمد الوسائل أنت. ومن حق المخصوص بالمدح والذم أن يكون معرفة أو مقاربا لها بالتخصيص نحو نعم الفتى رجل من بني فلان، ونعم العمل طاعة وقول معروف. ومن حقه أيضا أن يصلح للإخبار به عن الفاعل موصوفا بالممدوح بعد نعم كقوله في نعم الرجل زيد: الرجل الممدوح زيد، وبالمذموم بعد بئس كقولك في بئس الولد العاق أباه: الولد المذموم العاق أباه. فإن ورد ما لا يصلح جعل آخره خبرا عن الفاعل تؤوّل وقدّر بما يردّه إلى ما

حقه أن يكون عليه، فمن ذلك قوله تعالى (بئس مثلُ القومِ الذين كَذَّبوا بآياتِ الله)، فلو حذفت بئس وأخبرت بالذين عن مثل القوم لم يجز، فوجب لذلك التأويل، إما يجعل الذين في موضع جر نعتا للقوم وجعل المخصوص محذوفا، وإما بجعل الذين هو المخصوص على تقدير بئس مثل الذين ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الرفع بالابتداء، كما ينبغي للمخصوص الجائي على الأصل. فإلى هذا وشبهه أشرت بقولي "فإن باينه أوّل". ثم قلت: "وقد يحذف" فنبهت على أن مخصوص نعم وبئس قد يحذف وتقام صفته مقامه، وأن ذلك قد يكون والصفة اسم كقولك: نعم الصديق حليم كريم، وبئس الصاحب عذول خُذول، ويكثر ذلك إذا كانت الصفة فعلا والفاعل ما كقوله تعالى (بئسَ ما يأمُركم به إيمانُكم) وكقوله تعالى (ولبئس ما شَرَوا به أنفسَهم) ويقل إذا لم يكن الفاعل "ما" كقولك نعم الصاحب تستعين به فيعينك، والتقدير نعم الصاحب صاحب تستعين به فيعينك. ومنه قول الشاعر: لبئس المرءُ قد مُلِئ ارْتياعا ... ويأبى أن يُراعى مَن يُراعى وجاز هذا في مثل هذا المبتدأ كما جاز في غيره من المبتدآت كقول الشاعر: وما الدهرُ إلّا ترتانِ فمنهما ... أموتُ وأخرى أبتغي العيشَ أكدحُ وكما جاز في المضاف إليه كقول الشاعر: لكم مسْجِدا اللهِ المَزوران والحصا ... لكم قِبْصُه من بين أثرى وأقْترا والتقدير: لبئس المرء رجل قد ملئ ارتياعا، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وكذا فعل في البيت الثاني والثالث. والأصل فمنهما تارة أموت فيها، ومِن

بين مَن أثرى ومَن أقتر، فحذفت مَن وهي نكرة موصوفة مضافة إليها وأقيمت الصفة مقامها. وقد يحذف الموصوف وصفته فيبقى ما يتعلق بهما كقوله: بئس مقامُ الشيخِ أمرِسْ أمرِسِ ... إمّا على قَعْوٍ وإمّا اقْعَنْسَسِ أراد بئس مقام الشيخ مقام مقول فيه "أمرس أمرس". وإن كان الفاعل مذكر اللفظ والمخصوص مؤنث جاز أن يقال نعمت وبئست مع كون الفاعل عاريا من التأنيث، لأنهما في المعنى شيء واحد، إلا أن ترْك التاء أجود كقوله تعالى: (نعم الثوابُ) ولو قيل نعمت الثواب الجنة [كان] جيدا كقول الشاعر: نعمتْ جزاءُ المتّقينَ الجنَّة ... دارُ الأماني والمُنى والمنَّة ومثله: أو حرةٌ عيْطلٌ ثبْجاءٌ مُجْفرةٌ ... دعائم الزّور نعمتْ زورقُ البَلَد ومثله: نعمتْ كساء الضجيع سهلة فضلة ... غرّاءُ بهكنةٌ شنباءُ عُطبُولُ ص: "وتلحق ساء يئس، وبها وبنعم فَعُل موضوعا أو محوّلا من فعَل أو فعِل مضمنا تعجبا. ويكثر انجرار فاعله بالباء، واستغناؤه عن الألف [واللام]، وإضماره على وفق ما قبله". ش: يقال ساء الرجل أبو لهب، وساءت المرأة حمّالة الحطب، وساء رجلا هو وساءت امرأة هي، بإجراء "ساء" مجرى بئس في كل ما ذكر، ولذلك استغنى

بساء عن بئس في قوله تعالى (ساء مثلا القومُ) وببئس عن ساء في قوله تعالى (بئس مثلُ القوم) وقد جمعا في قوله تعالى: (بئس الشرابُ وساءت مُرتفقا). وأجرى باطراد مجرى نعم وبئس ما كان على فعُل مضمنا تعجّبا نحو حسُن الخلق حلم الحلماء، وعظم الكرم تقوى الأتقياء، وقبُح العمل عناء المبطلين، وشنُعت الوجوه وجوه الكافرين. ومنه (كبُرتْ كلمةً تخرجُ من أفواههم) وقرئ بسكون الباء. فهذه من أمثلة فَعُل الموضوع. وأما أمثلة المحوّل من فَعَل وفَعِل فمنهما قولَ العرب لقَضُو الرجل فلان، وعلُم الرجل فلان، بمعنى نعم القاضي هو، ونعم العالم هو، وفيه معنى ما أقضاه وما أعلمه. ولا يقتصر في هذا النوع على المسموع كما لم يقتصر في التعجب، ومن كثرة مجيئه مستغنيا عن الألف واللام ومضمرا مطابقا لما قبله. فإذا قيل حسُن بزيد رجلا نزّل منزلة أحسن بزيد رجلا، وإذا قيل "حَسُن أولئك رفيقا" نزّل منزلة ما أحسنَ أولئك رفيقا. وإذا قيل الزيدون كرُمُوا رجالا نزّل منزلة الزيدون ما أكرمَهم رجالا، فهذا سبب استحسان مع فعُل المذكور مما لم يستحسن مع نعم وبئس. ويحتمل قوله تعالى (كبُرت كلمةً) أن يكون مثل نعمت امرأة هند، على تقدير كبرت الكلمة كلمة، وهو قول ابن برهان، وأن يكون فاعل كبرت ضميرا يرجع إلى (اتخذ الله ولدا) وهو قول الزمخشري في الكشاف.

باب حبذا

باب حبّذا ص: أصل حب من حبذا حَبُب أي صار حبيبا، فأدغم كغيره وألزم منع التصرف وإيلاء "ذا" فاعلا في إفراد وتذكير وغيرهما. وليس هذا التركيب مزيلا فعلية حبّ فيكون مع "ذا" مبتدأ، خلافا للمبرد وابن السراج ومن وافقهما، ولا اسمية ذا فيكون مع حب فعلا فاعله المخصوص خلافا لقوم. وتدخل عليها "لا" فتحصل موافقة بئس معنى. ويذكر بعدها المخصوص بمعناها مبتدأ مخبرا عنه بهما، أو خبر مبتدأ لا يظهر ولا تعمل فيه النواسخ، ولا يقدم وقد يكون قبله أو بعده تمييز مطابق أو حال عامله حبّ. وربما استغنى به أو بدليل آخر عن المخصوص. وقد تفرد حب فيجوز نقل ضمة عينها إلى فائها، وكذا كل فعل حلقي العين مرادا به مدح أو تعجب. وقد يجر فاعل حبّ بباء زائدة تشبيها بفاعل أفعل تعجبا. ش: الصحيح أن حبذا فعل وفاعل، ولكنه جرى مجرى المثل فاستغنى فيه بذاعن ذي في قول الراجز: يا حبَّذا القَمْراءُ والليلُ الساجْ ... وطُرُقٌ مثلُ مُلاءِ النسّاجْ وعن ذين في قول الشاعر: حبذا أنتما خَلِيليّ إنْ لم ... تَعذِلاني في دَمْعِيَ المُهْراق وعن أولئك في قول الآخر: ألا حبّذا أهلُ المَلا غير أنّه ... إذا ذُكِرتْ "ميٌّ" فلا حبّذا هيا

وأصل حبَّ حَبُبَ وهو وزن يندر في المضاعف لاستثقال ضمة لعين تماثلها اللام، لكن سهّله هنا عدم ظهور الضمة للزوم الإدغام وعدم التصرف، بخلاف لبَّ الرجل فإنه يقال فيه لببت ولم تلبب فثقل وقلّت نظائره. ودلنا على أن "حبّ" في الأصل حَبُب قولهم فيه إذا جُرّد حُبَّ إن قصد نقل حركة العين إلى الفاء، وإن لم يقصد ذلك قيل حَبّ بالفتح، ويروى بالوجهين قول الشاعر: فقلتُ اقْتلوها عنكم بمزاجها ... وحُبَّ بها مقْتولةً حين تُقتلُ ولا يجوز مع ذكر "ذا" إلا الفتح. والذي اخترته من كون حبّ باقيا على فعليته وكون ذا باقيا على فاعليته هو مذهب اختيار أبي علي. ذكر أبو علي كون حبذا فعلا وفاعلا في البغداديات الفارسي وابن برهان وابن خروف، وهو ظاهر قول سيبويه وزعم قوم منهم ابن هشام اللخمي أن مذهب سيبويه جعل حبذا مبتدأ مخبرا عنه بما بعده. قال ابن خروف: حب فعل وذا فاعله وزيد مبتدأ وخبره حبذا، هذا قول سيبويه، وأخطأ من زعم غير ذلك. قلت: صرح المبرد في المقتضب وابن السراج في الأصول بأن حب وذا جعلا اسما مرفوعا بالابتداء ولا يصح ما ذهبا إليه من ذلك، لأنهما مقرّان بفعلية حبّ وفاعلية "ذا" قبل التركيب وأنهما بعد التركيب لم يتغيرا معنى ولا لفظا،

فوجب بقاؤهما على ما كانا عليه، كما وجب بقاء حرفية "لا" واسمية ما ركب معها في نحو لا غلام لك، مع أن التركيب قد أحدث في اسم لا لفظا ومعنى ما لم يكن، فبقاء جزءي حبذا على ما كانا عليه أولى، لأن التركيب لم يغيرهما لفظا ولا معنى، وأيضا لو كان حبذا مركبا مخرجا لها من نوع إلى نوع لكان لازما كلزوم تركيب "إذما". ومعلوم أن تركيب حبذا لا يلزم، لجواز الاقتصار على حب عند العطف كقول بعض الأنصار رضي الله عنهم: فحبَّذا ربًّا وحَبَّ دينا أي وحبذا ذينا، وفحذف "ذا" ولم يتغير المعنى، ولا يفعل ذلك بإذما وغيرها من المركبات تركيبا مخرجا من نوع إلى نوع، فعلم بذلك أن تركيب حبذا ليس مخرجا من نوع إلى نوع، وأيضا لو كان حبذا مبتدأ لدخلت عليه نواسخ الابتداء، كما تدخل على غيره من المبتدآت، فكان يقال إن حبذا زيد وكان حبذا زيدا. وفي منع ذلك دلالة على أن حبذا ليس مبتدأ، وأيضا لو كان للزم إذا دخلت عليه "لا" أن يعطف عليه منفي بلا أخرى، فكان يمتنع أن يقال لا حبذا زيد حتى يقال ولا مرضيّ فعله ونحو ذلك، كما كان يفعل مع المبتدأ الذي حبذا مؤدّ معناه. واختار ابن عصفور اسمية حبذا مستدلا بأن العرب قد أكثرت من دخول "يا" عليها دون استيحاش. وزعم أن فعل ذلك مع غيرها مما فعليته محققة مستوحش منه كقولك: ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سنْجال وعكس ما ادعاه أولى بالصحة، لأن دخول "يا" على فعل الأمر أكثر من دخولها على حبذا. فمن ذلك قراءة الكسائي "ألا يا اسجدوا" وقال العلماء تقديره:

ألا يا هؤلاء اسجدوا، فكذلك يكون التقدير في يا حبذا يا قوم حبذا، ونحو ذلك. فإن حذف المنادى وإبقاء حرف النداء يجوز بإجماع، ومنه قول الشاعر: يالَعْنةُ اللهِ والأقوامِ كلّهم ... والصالحين على سِمْعانِ مِن جار وليس بشيء من قال في قراءة الكسائي إن معناه ألا ليسجدوا، فحذف لام الأمر وبقي الفعل مجزوما، لأ، هـ قد روى عن الكسائي أن القارئ بروايته إذا اضطر للوقف على الياء يقف بالألف ويبدأ بعدها: اسجدوا بضم الهمزة، فعلم بذلك أنه فعل أمر قبله يا. وقد جعل بعض العلماء "يا" في مثل هذا لمجرد التنبيه دون قصد نداء مثل ها ومثل ألا الاستفتاحية. وهذا هو الظاهر من كلام سيبويه في باب عدة ما يكون عليه الكلم. ويؤيد هذا كثرة دخولها على ليت في كلام من لا يحضره منادى، ولا يقصد نداء، كقوله تعالى (يا ليتني كنت معهم) وكثرة معاقبتها لألا الاستفتاحية مثل ليت ورُبّ كقول الشاعر: ألا ليتَ شِعْري هل أبيتَنَّ ليلةً ... بوادٍ وحولي إذْخِرٌ وجليلُ وكقول الآخر:

يا ليت شعري هل يُقْضى انقضاء نوًى ... فيجمعُ اللهُ بين الرُّوح والجَسَدِ وكقول امرئ القيس: ألا رُبَّ يومٍ لك منهنّ صالحٍ ... ولا سيّما يومٌ بدارة جُلْجل وكقوله: فيا رُبّ مكروب كرَرْتُ وراءَه ... وطاعَنْتُ عنه الخيلَ حتّى تَنَفَّسا وذهب قوم إلى أن حب إذا ضم إليها ذا نزل منها منزلة حرف زائد في الفعل وصار المجموع فعلا مفتقرا إلى فاعل، فجعل المخصوص فاعلا. فإذا قيل حبذا زيد فحبذا بمجموعه فعل وفاعله زيد، وهو قول في غاية من الضعف، لأنه مؤسس على دعوى مجردة عن الدليل، مع ما فيه من تغليب أضعف الجزءين على أقواهما، ومن ادعاء تركيب فعل من فعل واسم، ولا نظير لذلك، بل المعروف تركيب اسم من فعل واسم كبرق نحره، وتأبط شرا. والصحيح أن حب فعل يقصد به المحبة والمدح وجعل فاعله ذا، ليدل بذلك على الحضور في القلب، ولم يغيرا لجريانهما مجرى الأمثال. فإن قصد بهما بغض وذم قيل لا حبذا، كما قال الشاعر: ألا حبَّذا عاذري في الهوى ... ولا حبَّذا الجاهِل العاذِلُ وقال الآخر: لا حبَّذا أنتِ يا صنعاءُ من بلدٍ ... ولا شعوبُ هوًى منّي ولا نُقُم وإلى هذا أشرت بقولي: "وتدخل عليهما لا فتحصل موافقة بئس معنى".

ثم قلت: "ويذكر بعدهما المخصوص بمعناهما مبتدأ مخبرا عنه بهما أو خبر مبتدأ لا يظهر" فأشرت بذلك إلى أنك إذا قلت حبذا زيد ونحو ذلك، فإن الواقع بعد حبذا يسمى المخصوص، وأنه مرفوع بالابتداء وخبره حبذا، وذا هو صاحب الخبر في المعنى فأغنى عن العائذ إغناءه عن ذلك في قوله تعالى: (ولباسُ التقوى ذلك خيرٌ) ويجوز كون المخصوص خبر مبتدأ مضمر كأنه قيل لمن قال حبذا مَن المحبوب؟ فقال زيد، يريد: هو زيد، والحكم عليه بالخبرية هنا أسهل منه في باب نعم، لأن مطعنه هناك نشأ من دخول نواسخ الابتداء وهي هنا لا تدخل لأن حبذا جار مجرى المثل، والمثل وما جرى مجراه لا يغيران. فهذا المعنى أيضا منع من تقديم المخصوص فلا يقال زيد حبذا. وقد أغفل أكثر النحويين التنبيه على امتناع تقديم المخصوص في هذا الباب، وعلى امتناع نسخ ابتدائيته وهو من المهمات. وتنبه ابن بابشاذ إلى التنبيه على امتناع التقديم، ولكن جعل سبب ذلك خوف توهم كون المراد من: زيد حبذا: زيد أحب هذا، وتوهم بعيد، فلا ينبغي أن يكون المنع من أجله. بل المنع من أجل إجراء حبذا مجرى المثل، وما كان كذلك فلا يغير بتقديم بعضه على بعض ولا بغير ذلك. وقد يكون قبل مخصوص حبذا أو بعده تمييز مطابق أو حال، فأما التمييز فكثير ومتفق على استعماله مطابقا للمخصوص فيما له من إفراد وتذكيرو وفروعهما، كقولك: حبذا رجلا الحارث، وحبذا غلامين ابناك وحبذا رجالا الزيدون، وحبذا امرأة هند وحبذا جاريتين ابنتاها، وحبذا نسوة الفواطم. فهذه أمثلة تقديم التمييز على المخصوص. فإذا قدم عليه المخصوص وأخر هو في كل واحد من هذه الأمثلة فهو سهل يسير واستعماله كثير، إلا أن الأول الأولى والأكثر. فمن تقديم التمييز على المخصوص قول الشاعر:

ألا حبّذا قومًا سُلَيْمٌ فإنّهم ... وَفَوا إذْ تواصوا بالإعانة والنَّصْر ومن تأخير التمييز على المخصوص قول رجل من طيء: حبّذا الصبرُ شيمةً لامرئ را ... مَ مُباراة مُولَع بالمعالي وقد يقع موقع هذا التمييز حال، كقولك حبذا زيد مقصودا وقاصدا، ولا حبذا عمرو صادرا ولا واردا. ومنه قول الشاعر: يا حبَّذا المالُ مَبذولا بلا سَرَف ... في أوْجُهِ البرّ إسْرارًا وإعْلانا والتزم بعض المتأخرين كون المنصوب بعد "ذا" تمييزا، وليس ذلك ملتزما، لأن الحال قد أغنت عنه في النظم والنثر، وقد تقدم ذكر ذلك. وقد يستغنى هنا عن المخصوص لظهور معناه، فمن الاستغناء عنه قول بعض الأنصار رضي الله عنهم: باسمِ الإلهِ وبه بَدينا ... ولو عَبدْنا غيرَه شَقينا ... فحبّذا ربّا وحَبّ دِينا فاستغنى عنه هنا بذكر التمييز. وقد يستغنى عنه دون تمييز كقول الشاعر: ألا حَبَّذا لولا الحياءُ ورُبَّما ... منحتُ الهوى ما ليس بالمتقاربِ وقد تفرد حب فيجوز حينئذ أن تفتح حاؤها استصحابا لحالها، وأن تجعل عليها الضمة التي كانت للعين فيقال حبّ زيد وحُبَّ زيد. وهذا النقل جائز في كل فعل على فَعُل مقصود به التعجب كقول الشاعر: حُسْن فِعْلا لقاءُ ذي الثروة المُمَـ ... ـــلَّق بالبشر والعطاء الجَزيل

وقد يجر فاعل حب بباء زائدة تشبيها بفاعل أفعل التعجب. ومنه قول الشاعر: فقلتُ اقْتُلوها عنكم بمزاجها ... وحُبَّ بها مَقْتولة حين تُقْتل يروى بضم الحاء وفتحها. وحكى الكسائي مررت بأبيات جاد بهنّ أبياتا [وجُدْن أبياتا] بحذف الباء وجاء بضمير الرفع. وهذا الاستعمال جار في كل فعل ثلاثي تضمن معنى التعجب.

باب التعجب

باب التعجب ص: ينصب المتعجب منه مفعولا بموازن أفعل فعلا لا اسما، خلافا للكوفيين غير الكسائي، مخبرا به عن "ما" متقدمة بمعنى شيء، لا استفهامية خلافا لبعضهم، ولا موصوفة خلافا للأخفش في أحد قوليه وكأفْعؤل خبرا لا أمرا مجرورا بعده المتعجب منه بباء زائدة لازمة. وقد تفارقه إنْ كان أنْ وصلتها وموضعه رفع بالفاعلية لا نصب المفعولية خلافا للفراء والزمخشري وابن خروف. واستفيد الخبر من الأمر هنا وفي جواب الشرط، كما استفيد الأمر من مثبت الخبر والنهي من منفيه. وربما استفيد الأمر من الاستفهام ولا يتعجب إلا من مختص، وإذا علم جاز حذفه مطلقا، وربما أكد أفعل بالنون، ولا يؤكد مصدر فعل تعجب ولا أفعل تفضيل. ش: للتعجب ألفاظ كثيرة لا يتعرض لها النحويون في باب التعجب كقول العرب: لله أنت، وواها له، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس"، ومن ألفاظه فَعُل المتقدم ذكره في باب نعم نحو: قَضُو الرجلُ زيد، ومنها المذكور في باب الاستغاثة نحو ياللماء، ومنها ما يذكر في باب القسم من نحو لله لا يؤخر الأجل. وإنما يبوب في النحو من ألفاظه لأفْعَلَ وأفِعِل، وهما فعلان غير متصرفين ولا خلاف في فعلية أفعِلْ، لأنه على وزن مختص بالأفعال، ولأنه قد يؤكد بالنون كقول الشاعر: ومُسْتبدل من بَعْد غَضْيَى صُرَيْمة ... فأحْرِ به من طول فقرٍ وأحْرِيا

أراد أحرِيَنْ فأبدل النون للوقف. وأما أفعلَ فمختلف في فعليته عند الكوفيين، متفق على فعليته عند البصريين، وهو الصحيح، للزوم اتصال نون الوقاية عاملا في ياء المتكلم نحو ما أفقرني إلى عفو الله، ولا يكون كذلك إلا فعل. ولا يرد على هذا عليكني ولا رويدني، فإنه قد يقال فيهما عليك بي ورويدلي فيستغنى فيهما عن نون الوقاية بالباء واللام بخلاف ما أفقرني ونحوه فإن النون فيه لازمة غير مستغنى عنها بغيرها. والمتعجب منه منصوب بأفعَلَ على المفعولية إن وقع بعده نحو: ما أثبت الحقَّ وما أدحض الباطل، ومجرور بباء لازمة إن وقع بعد أفْعِل نحو أكِرِم بزيد. وما الواقعة قبل أفعلَ اسم مبتدأ بلا خلاف، لأن أفعل ثابت الفعلية ولا بد له من فاعل، وليس ظاهرا فيتعين كونه ضميرا ولا مذكور يرجع إليه غير "ما" فتعين كونها اسما. وبعد ثبوت اسميتها فهي إما بمعنى شيء، وإما بمعنى الذي وإما استفهامية والقول الأول قول البصريين، وهو الصحيح، لأن قصد المتعجب الإعلام بأن المتعجب منه ذو مزية إدراكها جلي، وسبب الاختصاص بها خفي، فاستحقت الجملة المعبر بها عن ذلك أن تفتتح بنكرة غير مختصة ليحصل بذلك إبهام متلوّ بإفهام. ولا ريب أن الإفهام حاصل بإيقاع أفعل على المتعجب منه إذ لا يكون إلا مختصا، فيتعين كون الثاني مقتضيا للإبهام وهو "ما" فلذلك اختير القول بتنكيرها، ولا يمتنع الابتداء بها وإن كانت نكرة غير مختصة، كما لم يمنع الابتداء بمَن وما الشرطيتين والاستفهاميتين. ووافق أبو الحسن الأخفش على صحة جعل ما التعجبية نكرة، وأجاز كونها موصولة بفعل التعجب مخبرا عنهما بخبر لازم الحذف، فيتحصل أيضا بقوله هذا إفهام وإبهام، فحصول الإفهام بذكر المبتدأ وصلته وحصول الإبهام بالتزام حذف الخبر، إلا أن هذا القول يستلزم مخالفة النظائر من وجهين: أحدهما تقدم الإفهام وتأخير الإبهام، والمعتاد فيما تضمن من الكلام إفهاما وإبهاما تقديم ما به الإبهام وتأخير ما به الإفهام، كما فعل بضمير الشأن ومفسره، وبضميري نعم ورُبّ، بالعموم والتخصيص وبالمميز والتمييز وأشباه ذلك. الثاني كون الخبر ملتزم الحذف دون شيء يسد مسدّه، والمعتاد في الخبر الملتزم الحذف أن يسدّ مسدّه شيء يحصل به استطالة كما فعل بعد لولا وفي عمرك لأفعلنّ، فالحكم بموصولية "ما" وكون الخبر

محذوفا دون استطالة حكم بما لا نظير له، فلم يعوّل عليه ولا أجيب الداعي إليه. وأيضا يقال لمَن ذهب هذا المذهب أخبرني عن الخبر الذي ادّعيت حذفه أمعلوم هو أم مجهول؟. فإن قال هو معلوم فقد أبطل الإبهام المقصودُ، وإن قال هو مجهول لزمه حذف مالا يصح حذفه، فإن شرط صحة حذف الخبر ألا يكون مجهولا، وهذا كاف في بيان ضعف القول بأن "ما" التعجبية موصولة بفعل التعجب. وأما كونها استفهامية وهو قول الكوفيين فليس بصحيح، لأن قائل ذلك إمّا أن يدّعي تجرّدها للاستفهام وإمّا أن يدّعي كونها للاستفهام والتعجب معا، كما هي في قوله تعالى: (فأصْحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة) فالأول باطل بإجماع، لأن اللفظ المجرد للاستفهام لا يتوجه ممن يعلم إلى من لا يعلم، وما أفعله صالح لذلك فلم يكن لمجرد الاستفهام. والثاني أيضا باطل، لأن الاستفهام المشوب بتعجب لا يليه غالبا إلا الأسماء نحو (وأصحابُ اليمين ما أصحاب اليمين)، (وأصحابُ الشمال ما أصحابُ الشمال) و (الحاقَّةُ * ما الحاقَّةُ) و (القارعةُ * ما القارعةُ) ونحو قول الشاعر: يا سَيِّدًا ما أنت مِن سيِّد ... موطّأِ الأكنافِ رَحْبِ الذِّراع ومثله: يا جارتا ما أنت جاره و"ما" المشار إليها مخصوصة بالأفعال، فعلم أنها غير المتضمنة استفهاما، وأيضا لو كان فيها معنى الاستفهام لجاز أن تخلفها "أيّ في نحو: ما أنت من

سيّد، لأن استعمال أيّ في الاستفهام المتضمن تعجبا كثير كقوله: أيُّ فتى هَيْجاءَ أنتَ وجارِها وأيضا فإن قصد التعجب بما أفعله مجمع عليه، وكونه مشوبا بالاستفهام، أو ملموحا فيه الاستفهام زيادة لا دليل عليها، فلا يلتفت إليها. وفي أفْعِل المتعجب به مع الإجماع على فعليته قولان: أحدهما أنه في اللفظ أمر وفي المعنى خبر إنشائي مسند إلى المتعجب منه المجرور بالباء، والثاني أنه أمر باستدعاء التعجب من المخاطب مسندا إلى ضميره وهو قول الفراء، واستحسنه الزمخشري وابن خروف. والأول هو الصحيح لسلامته مما يرد على الثاني من إشكالات: أحدها أنه لو كان الناطق بأفِعلْ المذكور آمرا بالتعجب لم يكن متعجبا كما لا يكون الأمر بالحلف والتشبيه والنداء حالفا ولا مشبّها ولا مناديا، ولا خلاف في كون الناطق بأفْعِلْ المذكور متعجبا، وإنما الخلاف في انفراد التعجب ومجامعة الأمرية. الثاني أنه لو كان أمرا مع الإجماع على فعليته لزم إبراز ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يلزم مع كل فعل أمر، متصرفا كان أو غير متصرف، ولا يعتذر عن ذلك بأنه مثل أو جار مجرى المثل، لأن المثل يلزم لفظا واحدا دون تبديل ولا تغيير في نحو "أطِرّي فإنك ناعلة" و"خلالكِ الجوُّ فبيضي واصفري"، والجاري مجرى المثل يلزم لفظا واحدًا مع اعتبار بعض التغيير نحو حبذا، ولله درك، فألزم لفظ حبذا ولله درك. وأجيز أن تختم الجملتان بما كان للناطق بهما غرض في الختم به، وأفعِل المذكور لا يلزم لفظا واحدا أصلا، فليس مثلا ولا جاريا مجرى المثل. فلو كان فعل أمر مسندا إلى ضمير

المخاطب لبرز ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يلزم مع غيره من أفعال الأمر العارية من المثلية. وقيدت أفعال الأمر بالعارية من المثلية احترازا من نحو "خُذ ما صفا ودَعْ ما كَدر" و"زر غِبّا تزدد حُبّا". على أن قولهم "اذهب بذي تسلم" أشبه بالأمثال وأحق بأن يجرى مجراها، ولم يمنع ذلك من بروز فاعل الفعلين في التثنية والجمع والتأنيث. فلو كان أفعِلْ المذكور فعل أمر جاريا مجرى المثل لعومل معاملة "اذهب بذي تسلم". الثالث من الإشكالات أن أفعِلْ المذكور لو كان أمرا مسندا إلى المخاطب لم يجز أن يليه ضمير المخاطب نحو أحسن بك، لأن في ذلك إعمال فعل واحد في ضميرين فاعل ومفعول لمسمى واحد. الرابع من الإشكالات أن أفعِلْ المشار إليه لو كان بمعنى الأمر لا بمعنى أفعَلَ تالي "ما" لوجب له الإعلال إذ كانت عينه ياء أو واوا ما وجب لأبِن وأقم ونحوهما ولم يُقل أبين وأقوِمُ فيلزم مخالفة النظائر. فإذا جعل مخالفا لأبن وأقم ونحوهما في الأمرية موافقا لأبْيَن وأقْوَم من ما أبْيَنَه وما أقْوَمه في التعجب سلك سبيل الاستدلال وأمن الشذوذ في التصحيح والإعلال. وقد تبيّن بتقدير ما ذكرته فاعلية ضمير أفعِلْ به المجرور بالباء. وهو نظير المجرور بعد كفى في نحو (كفى بالله شهيدا) إلا أن بينهما فرقا من وجهين: أحدهما أن الباء في "كفى بالله شهيدا" ونحوه قد تحذف ويرتفع مصحوبها كقول الشاعر: عَمَيرة ودّعْ إنْ تَجهَّزتَ غاديا ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمَرْء ناهيا والباء الجارة ما بعد أفعِلْ لا تحذف إلا إذا كان مصحوبها أنْ والفعل، كقوله:

وقال نبيُّ المسلمين تقدَّموا ... وأحْبِب إلينا أن تكونَ المُقدَّما ولو اضطر شاعر إلى حذف الباء المصاحبة غير "أنْ" بعد أفعِلْ لزمه أن يرفع، وعلى مذهب الفراء يلزمه النصب، ولا حجة له في قول الشاعر: ألا طرقتْ رحالَ القومِ ليلى ... فأبْعدْ دارَ مرتحلٍ مَزارا لإمكان جعل أبعِدْ دعاء على معنى أبعد الله دار مرتحل عن مزار محبوبه، كأنه يحرض نفسه على الإقامة في منزل طروق ليلى، لأنه صار بطروقها مزارا، ولا حجة له في قول الشاعر: وأجْدرْ مثل ذلك أن يكونا لاحتمال أن يكون أجدرْ فعل أمر عاريا من تعجب بمعنى اجعل مثل ذلك جديرا بأن يكون، أي حقيقا بالكون، يقال جدُر بكذا جَدارة، أي صار به جديرا وأجدرته أي جعلته جديرا أي حقيقا. ويحتمل أن يكون أجدر فعل تعجب مسندا إلى مثل ذلك ثم حذفت الباء اضطرارا واستحق مصحوبها الرفع بحق الفاعلية، لكنه بُني لإضافته إلى مبنى، كما بُني في قوله تعالى: (إنّه لَحَقٌّ مِثلَ ما أنّكُم تنطِقُون) على قراءة غير أبي بكر وحمزة والكسائي. الثاني من وجهي الفرق أن كفى قد تسند إلى غير المجرور بالباء فيكون هو في موضع نصب ولا يفعل ذلك بأفْعِلْ أصلا. ومن المواضع التي أسند فيها كفى إلى غير المجرور بالباء قول الشاعر:

فكفى بنا فَضْلا على مَن غيرنا ... حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيّانا ونظير ما جاء في التعجب من لفظ الأمر مرادا به الخبر ما جاء من ذلك في جواب الشرط كقوله تعالى (قل مَن كان في الضَّلالة فلْيَمْدُدْ له الرحمن مَدّا) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وإلى هذا النوع أشرت بقولي "واستفيد الخبر من الأمر هنا وفي جواب الشرط" ثم قلت: "كما استفيد الأمر من مثبت الخبر والنهي من منفيه" فمثال الأول قوله تعالى (والمطلّقات يتربّصْن بأنفسهنّ ثلاثةَ قروء). ومثال الثاني قوله تعالى: (لا تُضارَّ والدةٌ بولدها) بضم الراء وهي قراءة ابن كثير. ثم قلت "وربما استفيد الأمر من الاستفهام" مشيرا إلى نحو قوله تعالى (وقل للذين أوتوا الكتاب والأمِّيِّين أأسْلَمْتم) وقوله تعالى (فهلْ أنتم مُنْتَهون). ثم قلت: "ولا يتعجب إلا من مختص" فنبهت بذلك على أن المتعجب منه مخبر عنه في المعنى فلا يكون إلا معرفة أو نكرة مختصة، فيقال: ما أحسنك وما أكرم زيدا، وما أسعد رجلا اتقى الله، ولا يقال ما أحسن غلاما، ولا ما أسعد رجلا من الناس، لأنه لا فائدة في ذلك.

ثم قلت: "وإذا عُلم جاز حذفه" أي إذا علم المتعجب والمقصود به جاز حذف معمول أفْعَل كان أو معمول أفْعِلْ فمثال حذف معمول أفْعَل قول الشاعر: جزى اللهُ عنّا بخْتريّا ورهْطَه ... بني عَبد عمرو ما أعَفَّ وأمْجَدا أراد ما أعفّهم وأمجدهم، فحذف لكون المراد معلوما. ومثال حذف معمول أفعِلْ قول الآخر: فذلك إنْ يلقَ المنيّة يَلْقَها ... حميدًا وإنْ يَسْتغن يوما فأجْدِر أي فأجْدِرْ به، فحذف للعلم به مع كونه فاعلا، لأن لزومه الجر كساه صورة الفضلة، ولأنه معمول أفعل في المعنى. وزعم قوم أنه ليس محذوفا، ولكن استتر في الفعل حين حذفت الباء (كاستتاره) من قولك زيد كفى به فارسا فتقول زيد كفى فارسا. وهذه الدعوى لا تصح، لأن صحتها تستلزم أن يبرز الضمير في التثنية والجمع، كما يبرز في كفى إذا قيل في الزيدان كفى بهما فارسين، والزيدون كفى بهم فرسانا: الزيدان كفيا فاسين، والزيدون كفوا فرسانا. ومعلوم أنه لا يبرز ضمير مع أفعل، كقوله تعالى (أسْمِعْ بهم وأبْصِرْ) فعلم بذلك عدم صحة الدعوى المذكورة. ومما يدل على عدم صحتها أن من الضمائر ما لا يقبل الاستتار كنا من نحو أكرم بنا وأحلمْ بنا فلو حذف الباء ولم يقصد حذف لقيل "أكرم بنا وأحلمنا" لأن "نا" لا تقبل الاستتار، والمقول إنما هو أكرم بنا وأحلمْ بنا ونحو ذلك كما قال الراجز: أعْزِزْ بنا وأكفِ إنْ دُعينا ... يومًا إلى نُصرة مَن يَلينا وقد يتوهم أن أفعِل أمر خوطب به المصدر على سبيل المجاز كأن من قال أحسِنْ

به [قال أحسِنْ يا حُسْنُ به]. فلهذا لزم الإفراد والتذكير. أشار إلى هذا أبو علي في البغداديات منفرا وناهيا عنه. ومما يبين فساده أن من المصادر المصوغ منها أفْعِلْ ما لا يكون إلا مؤنثا كالسهولة والنجابة، فلو كان الأمر ما توهمه صاحب هذا الرأي لقيل في أسهِل به وأنجب به. أسهلي به وأنجبي به، لكنه لم يقل، فصح لذلك فساد ما أدّى إليه. ولشبه أفْعِلْ بفعل الأمر جاز أن يؤكد بالنون كقول الشاعر: ومُسْتبدلٍ من بعد غَضْيى صُريمة ... فأحْرِ به من طول فقْرٍ وأحْريا وهذا إلحاق شيء بشيء لمجرد شبه لفظي، وهو نظير تركيب النكرة مع لا الزائدة لشبهها بلا النافية، وقد تقدم الاستشهاد على ذلك. ولما كان فعل التعجب دالا على المبالغة والمزية استغنى عن توكيده بالمصدر وكذا أفعل التفضيل. وعلى ذلك نبهت بقولي "ولا يؤكد مصدر فعل التعجب ولا أفعل التفضيل". ص: "همزة أفعل في التعجب لتعدية ما عدم التعدي في الأصل أو الحال. وهمزة أفْعِل للصيرورة ويجب تصحيح عينهما، وفكّ أفعِلْ المضعّف. وشذ تصغير أفعَلَ مقصورا على السماع، خلافا لابن كيسان في اطراده وقياس أفْعِلْ عليه، ولا يتصرفان ولا يليهما غير المتعجب منه إن لم يتعلق بهما، وكذا إن تعلق بهما وكان غير ظرف وحرف جر. فإن كان أحدهما فقد يلي وفاقا للفراء والجرمي والفارسي وابن خروف والشلوبين. وقد يليهما عند ابن كيسان "لولا" الامتناعية". ش: يدل على كون همزة فعل المتعجب به معدية حدوث التعدي بزيادتها على ما لا تعدى له كقولك في حسُن زيد وجزع بكر وصبر خالد: ما أحسن زيدا، وما أجزع بكرا، وما أصبر خالدا. وإلى هذه الأفعال الثلاثة وشبهها أشرت بعدم

التعدي في الأصل. وأشرت بعدم التعدي في الحال إلى نحو ما أعرف زيدا بالحق، فإن عرف قبل التعجب متعد بنفسه إلى الحق، فلما قصد به التعجب ضمن معنى ما لا يتعدى من أفعال الغرائز، كقوى وكمل وضعف ونقص، فقصر عن نصب ما كان منصوبا به وعدي إليه بالباء كما يعدى بصُر ونحوه مما هو في أصله غير متعد. وصار ما كان فاعلا قبل مفعولا كما يصير فاعل ظهر من قولك ظهر الحق مفعولا إذا دخلت عليه الهمزة فقلت أظهرت الحق. ولا يصح قول من زعم أن أفعل المتعجب به لا يكون إلا من فعُل موضوعا أو مردودا إليه لوجهين: أحدهما أن فعِل وفعَل كجزع وصبر يساويان فعُل في عدم التعدي وقبول همزة التعدية، فتقدير ردهما إلى فعُل لا حاجة إليه. الثاني أن من الأفعال ما رفضت العرب صوغه على فعُل وهو المضاعف واليائي العين أو اللام. فإن قصد بمضاعف معنى غريزي دلوا عليه في غير شذوذ بفعِل نحو جلّ يجِل وعزّ يعِزّ وخفّ يخِفّ وقلّ يقلّ. ونسب إلى الشذوذ نحو لببت وكذا استغنوا في اليائي العين عن فعُل بفعِل نحو طاب يطيب، ولان يلين وضاق يضيق. وأما اليائي اللام فاستغنى فيه عن فعُل بفعِل نحو حيّ وعيّ وغني. فإن قصد التعجب بشيء من هذه الأنواع أدخلت هذه الهمزة عليها ولم يقدّر ردّها إلى فعُل، لأن فعُل فيها مرفوض. وهمزة أفْعِل المتعجب به للصيرورة أي لتحول فاعله ذا كذا. فأصل قولك أحسن بزيد: أحسن زيد، أي صار ذا حُسن تام. وهو نظير أثري الرجل صار ذا ثروة وأترب أي صار ذا مال كالتراب، وأنجب وأظرف صار ذا ولد نجيب وذا ولد ظريف، وأخْلت الأرضُ وأكلأت وأكمأت، صارت ذات خلاء وكلأن وكمأة، وأورقت الشجرة وأزهرت وأثمرت، صارت ذات ورق وزهر وثمر. وإذا كانت عين أفعل المتعجب به ياء أو واوا وجب تصحيحها نحو ما أبين الحق، وأنوره وأصله الإعلال لكن صحيح حملا على أفعَل وزنا ومعنى فأتبع أحدهما الآخر فيما هو أصل فيه. كما أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع في العمل وأجرى المضارع مجرى اسم الفاعل في الإعراب، وكما أجرى الحسن الوجهَ على الضارب الرجلَ [في النصب]، والضارب الرجلِ على الحسن الوجه في الجر، ثم

حمل أفْعِل المتعجب به على أخيه، فقيل أبين بالحق وأنور به، كما قيل ما أبينه وأنوره. ولزم فك أفعل المضاعف نحو أجللْ به وأعزز، لأن سبب الإدغام في هذا النوع إنما هو تلاقي المثلين تمصلين متحركين تحركا غير عارض أو ساكنا أحدهما سكونا غير لازم كسكون أجللْ إذا لم يكن تعجبا، لأنه معرّض للحركة في نحو: أجلل الله وأجلّاه وأجلّوه وأجلّيه. فلذلك لم يجب فك أجلل إذا لم يكن تعجبا. ووجب إذا كان إياه. ولشبه أفْعَل المتعجب به بأفعل التفضيل أقدم على تصغيره بعض العرب فقال: ياما أُمَيْلحَ غِزْلانًا شدَنّ لنا ... مِن هؤليّائِكُنّ الضّالِ والسَّمُرِ وهو في غاية من الشذوذ فلا يقاس عليه فيقال في ما أجمله وما أظرفه ما أجيمله وما أظيرفه، لأن التصغير وصف في المعنى والفعل لا يوصف فلا يصغّر. وأجاز ابن كيسان اطراد تصغير أفْعَل، ولم يكفه ذلك حتى أجاز تصغير أفْعِلْ وضعف رأيه في ذلك بيّن وخلافه متعيّن. ولا خلاف في عدم تصرف فعلي التعجب ولا في منع إيلائهما ما لا يتعلق بهما كعند الحاجة، وبمعروف من قولك ما أنفع معطيك عند الحاجة، وما أصلح أمرك بمعروف، وأنفِع بمعطيك عند الحاجة، وأصلِحْ بأمرك بمعروف. ولا خلاف في منع إيلائها ما يتعلق بهما من غير ظرف وجار ومجرور نحو ما أحسن زيدا مقبلا، وأكرِمْ به رجلا. فلو قلت ما أحسن مقبلا زيدا وأكرم رجلا به لم يجز بإجماع. وكذا لا يجوز بإجماع تقديم المتعجب منه نحو ما زيدا أحسن وبه أكرم، لأن فعلي التعجب أشبها الحروف بمنع التصرف فجريا مجراها في منع تقدم معمولها. فلو فصل بينهما وبين المتعجب منه بما يتعلق بهما من ظرف وجار ومجرور لم يمتنع ولم يضعف، لثبوت ذلك نثرا ونظما وقياسا، فمن النثر قول عمرو بن معد يكرب رحمه الله: لله در بني

سليم، ما أحسن في الهيجاء لقاءها، وأكرم في اللزبات عطاءها، وأثبت في المكرمات بقاءها، وروي أن عليا رضي الله عنه مرّ بعمّار فمسح التراب عن وجهه وقال: أعزز عليّ أبا اليقظان أن أراك صريعا مجدلا، ففصل بين أعزز وأن أراك بعَلَيّ و"أبا اليقظان". وهذا مصحح الفصل بالنداء. ومن النظم قول بعض الصحابة رضي الله عنهم: وقال نبيُّ المسلمين تقَدّموا ... وأحْبِبْ إلينا أن تكون المُقَدَّما ومنه قول الآخر: أقيم بدار الحزم ما دام حزمُها ... وأحْر إذا حالتْ بأنْ أتحوّلا ومنه قول الآخر: فصدّتْ وقالتْ بل تريد فَضيحتي ... وأحْبِبْ إلى قلبي بها مُتَغضّبا ومنه قول الآخر: خليليّ ما أحرى بذي اللُّبِّ أنْ يُرى ... صَبورا ولكن لا سبيلَ إلى الصبر ومنه قوله: حلُمت وما أشفى لمَن غِيظ حلْمَه .. فآضَ الذي عاداكَ خِلّا مُواليا وأما صحة هذا الفصل قياسا فمن قبل أن الظرف والجار والمجرور مغتفر الفصل بهما بين المضاف والمضاف إليه مع أنهما كالشيء الواحد، فاعتبار الفصل بهما بين فعلى التعجب والمتعجب منه وليسا كالشيء الواحد أحق وأولى. وأيضا فإن بئس أضعف من فعل التعجب وقد فصل بينه وبين معموله بالجار والمجرور في قوله تعالى

(بئس للظالمين بدلا) فأن يقع مثل ذلك بين فعل التعجب ومعموله أولى بالجواز وهذا الدليل ذكره أبو علي الفارسي في البغداديات. وفي ذلك الكتاب مبين أنه من المجيزين للفصل المشار إليه. وأما كون ذلك مذهب الجرمي فمشهور. واختار هذا المذهب ابن خروف في شرح كتاب سيبويه. وقال أبو علي الشلوبين: حكى الصيمري أن مذهب سيبويه منع الفصل بالظرف بين فعل التعجب ومعموله. والصواب أن ذلك جائز وهو المشهور المنصور، هكذا قال أبو علي وهو المنتهى في هذا الفن نقلا وفقها. وقال السيرافي في قول سيبويه: ولا يزيل شيئا عن موضعه؛ وإنما أراد بذلك تقدم "ما" وتوليها الفعل، ويكون الاسم المتعجب منه بعد الفعل، ولم يتعرض للفصل بين الفعل والمتعجب منه. وكثير من أصحابنا يجيز ذلك منهم الجرمي وكثير يأباه منهم الأخفش والمبرد. وقال الزمخشري بعد أن حكم بمنع الفصل، وقد أجاز الجرمي وغيره من أصحابنا الفصل وينصرهم قول القائل: ما أحسن بالرجل أن يصدق. ومن العجائب اعترافه بنصرهم وتنبيهه على بعض حججهم بعد أن خالفهم بلا دليل. ولما كان فعل التعجب مسلوب الدلالة على المضي، وكان المتعجب منه صالحا للمضي أجازوا زيادة كان إشعارا بذلك عند قصده نحو ما كان أحسن زيدا. وكقول

بعض مدّاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان أسْعَدَ مَن أجابك آخِذا ... بهُداكَ مجْتَنبا هوًى وعنادا وقد تقدم في باب كان الكلام على هذا وشبهه. ولكنني أشرت هنا إليه تنبيها وتوكيدا. وأجاز ابن كيسان الفصل بين أفعل والمتعجب منه بلولا الامتناعية ومصحوبها، كقولك: ما أحسن لولا عبوسه زيدا. ولا حجة في ذلك. ص: ويجر ما تعلق بهما من غير ما ذكر بإلى إن كان فاعلا، وإلا فبالباء إن كان من مفهم علما أو جهلا، وباللام إن كانا من متعد غيره. فإن كانا من متعد بحرف جر فبما كان يتعدى به. ويقال في التعجب من كسا زيد الفقراء الثياب، وظن عمرو بشرا صديقا: ما أكسى زيدا للفقراء الثياب، وما أظنّ عمرا لبشر صديقا. وينصب الآخر بمدلول عليه بأفعل لا به خلافا للكوفيين. ش: الإشارة بما ذكر إلى المتعجب منه والظرف والحال والتمييز، فما ليس واحدا منها وله تعلق بفعل التعجب يجر بإلى إن كان فاعلا في المعنى نحو ما أحبني إلى زيد، فزيد فاعل في المعنى، لأن المراد يحبني زيد حبا بليغا فائقا، وإن لم يكن فاعلا في المعنى جر بالباء إن كان فعل التعجب مصوغا من فعل علم أو جهل نحو ما أعرفني بزيد، وما أجهله بي. وإن صيغ من غير ذلك وكان فعل التعجب متعديا عُدي في التعجب باللام نحو ما أضربني لعمرو، فإن كان فعل التعجب متعديا بحرف جر عدي به حال التعجب نحو ما أزهد زيدا في الدنيا، وما أبعده من الشر، وما أصبره على الأذى. فإن كان فعل التعجب متعديا إلى اثنين جررت الأول باللام ونصبت الثاني عند البصريين بمضمر مجرد مماثل لتالي "ما" نحو قولك: ما أكسى زيدا للفقراء الثياب. والتقدير يكسوهم الثياب. وكذا يقولون في ما أظن عمرا لبشر صديقا. والكوفيون لا يضمرون، بل ينصبون الثاني بتالي "ما" نفسه. وذكر هذه المسألة ابن كيسان في "المهذّب".

فصل: ص: "بناء هذين الفعلين من فعل ثلاثي مجرد تام مثبت متصرف قابل معناه للكثرة غير مبني للمفعول، ولا معبّر عن فاعله بأفعل فعلاء. وقد يبنيان من فعل المفعول إن أُمِن اللبس، ومن فِعْل أفْعَلَ مفَفهم عسر أو جهل، ومن مزيد فيه. فإن كان أفعل قيس عليه وفاقا لسيبويه. وربما بنيا من غير فعل، أو فعل غير متصرف. وقد يغني في التعجب فعل عن فعل مستوف للشروط كما يغني في غيره. ويتوصل إلى التعجب بفعل مثبت متصرف مصوغ للفاعل ذي مصدر مشهور، إن لم يستوف الشروط بإعطاء المصدر ما للمتعجب منه مضافا إليه بعدما أشد أو أشدد ونحوهما [وإن لم يعدم الفعل إلا الصوغ للفاعل جيء به صلة لما المصدرية آخذة ما للمتعجب منه بعدما أشد أو أشدد ونحوهما] ". ش: قيّد ما يبنى منه فعل التعجب بكونه فعلا تنبيها على خطأ مَن يقول من الكلب ما أكلبه، ومن الحمار ما أحمره، ومن الجلف ما أجلفه. وقَيّد بكونه ثلاثيا ليعلم امتناع بنائه من ذي أصول أربعة مجردا كان كدحرج، أو غير مجرد كابرنشق. وقيّد كون الثلاثي مجردا تنبيها على أن حقه ألا يبنى من مزيد فيه كعلّم وتعلّم وقارب واقترب. وقيد بكونه فعلا تاما تنبيها على أنه لا يبنى من فعل ناقص ككان وظل وكرب وكاد، وقيد بكونه مثبتا تنبيها على أنه لا يبنى من فعل مقصود نفيه، لزوما كلم يعِج، أو جوازا كلم يعُج، وقيد بالتصريف تنبيها على امتناع بنائه من يذر ويدع ونحوهما. وقيد بقبول معناه للكثرة تنبيها على امتناع بنائه من مات وفنى ونحوهما. وقيد بكونه غير مبني للمفعول تنبيها على أن حقه أن يبنى نم فعل الفاعل كعَلِم لا من فعل المفعول كعُلم. وقيد بكونه لا يعبر عن فاعله بأفعل فعلاء احترازا من شنب ودعج ولمِي وعرج ونحوهما من الأفعال التي بناء الوصف منها للمذكر أفعل

وللمؤنث فعلاء. ولا فرق في هذا النوع بين ما هو من العيوب كبرص وخرس وحول وعور وبين ما هو من المحاسن كشهل وكحل وظمي ولمي. وإنما لم يبن من هذا النوع فعل التعجب، لأن مبناه من الفعل أن يكون ثلاثيا محضا، وأصل الفعل في هذا النوع أن يكون على أفعل، ولذلك صحت فيه العين إذا كان ثلاثي اللفظ كهيف وحيد وعور وحول ولم تقلب ألفا كام فعل بهاب وناب وخاف ونام، مع أن العين من جميعها حرف لين متحرك مفتوح ما قبله، وهذا الذي فُعِل بفعِل من التصحيح حملا على أفعل مقدرا أو موجودا شبيه بما فعل باجتوروا حملا على تجاوروا، وبمخيط حملا على مخياط، ولولا ذلك لقيل في اجتوروا اجتاروا كما قيل اختاروا واقتادوا. ولقيل في مخيط مخاط كما قيل مثلا ومعاش، فكان تصحيح هيف وأخواته مع استحقاقه بظاهره ما استحقه هاب وأخواته دليلا على أن أصله أفعل، وأفعل لا يبنى منه فعل تعجب فجرى مجراه ما هو بمعناه وواقع موقعه. وهذا التعليل هو المشهور عند النحويين. وعندي تعليل آخر أسهل منه، وهو أن يقال لما كان بناء الوصف من هذا النوع على أفعل لم يبن منه أفعل تفضيل لئلا يلتبس أحدهما بالآخر، فلما امتنع صوغ أفعل التفضيل امتنع صوغ فعل التعجب لتساويهما وزنا ومعنى، وجريانهما مجرى واحدا في أمور كثيرة. وهذا الاعتبار هيّن بيّن، ورجحانه متعيّن. وقد يبنى فعل التعجب من فعل المفعول إن أمن الالتباس بفعل الفاعل نحو ما أجنّه وما أبخته وما أشغفه. وهذا الاستعمال في أفعل التفضيل أكثر منه في التعجب "كأزهى من ديك" و"أشغل من ذات النحبين" وأشهر من غيره وأعذر وألوم وأعرف وأنكر وأخوف وأرجى من شُهِر وعُذر وليم وعُرف ونُكر وخيف ورُجي. وعندي أن صوغ فعل التعجب وأفعل التفضيل من فعل المفعول الثلاثي الذي لا يُلبس بفعل الفاعل لا يقتصر فيه على المسموع، بل يحكم باطراده لعدم الضائر وكثرة النظائر.

وقد يبنى فعل التعجب من فعل أفعل مفهم عسر أو جهل، والإشارة إلى حُمق ورعن وهوج ونوك ولدّ إذا كان عسر الخصومة. وبناء الوصف من هذه الأفعال على أفعل في التذكير وفعلاء في التأنيث لكنها ناسبت في المعنى جهل وعسر فجرت في التعجب والتفضيل مجراهما فقيل ما أحمقه وأرعنه وأهوجه وأنوكه وألدّه، وهو أحمق منه وأرعن وأهوج وأنوك [وألدّ]. وقد يبنى فعل التعجب من ثلاثي مزيد فيه كقولهم من اشتد ما أشدّه، ومن اشتاق ما أشوقه، ومن اختال ما أخوله ومن اختصر الشيء ما أخصره، وفي هذا شذوذ من وجهين: أحدهما أنه مزيد فيه والآخر أنه من فعل المفعول. وأكثر النحويين يجعلون من شواذ التعجب: ما أفقره وما أشهاه وما أحياه وما أمقته، لاعتقادهم أن ثلاثي افتقر واشتهى واستحيى مهمل، وأن فعل الفاعل من مقت غير مستعمل. وليس الأمر كما اعتقدوا، بل استعملت العرب فقُر وفقِر، وشهى الشيء بمعنى اشتهاه، وحيى بمعنى استحيا، وكذلك استعمل مقُت الرجل مقاتة إذا صار مَقيتا، أي بغيضا، فليس قولهم ما أفقره من افتقر، بل هو من فقرُ وفقِر، ولا ما أشهاه من اشتهى بل من شهى، وما أحياه من استحيا بل م حيى، ولا ما أمقته من مُقِّت بل من مَقُت. وممن خفى عليه استعمال حيى بمعنى استحيا أبو علي الفارسي. وممن خفى عليه استعمال فقُر وفقِر ومَقُت سيبويه. ولا حجة في قول مَن خفى عليه ما ظهر لغيره. بل الزيادة من الثقة مقبولة. وقد ذكر استعمال ما ادّعيت استعماله جماعة من أئمة اللغة. وإن كان المزيد فيه على وزن أفعل لم يقتصر في صوغ فعل التعجب منه على المسموع، بل يحكم فيه بالاطراد وقياس ما لم يسمع منه على ما سمع ما لم يمنع مانع آخر. هذا هو مذهب سيبويه والمحققين من أصحابه. ولا فرق بين ما كانت همزته للتعدية كأعطى وبين ما همزته لغير التعدية كأغفى. وشهد بأن هذا مذهب سيبويه قوله في باب التعجب المترجم بهذا باب ما يعمل عمل الفعل ولم يجر مجرى الفعل ولم يتمكن تمكنه. وبناؤه أبدا من فَعَل وفَعِل وفَعِل فَعُل وأفْعَل. هذا

نصه. فسوّى بين الثلاثة في صحة بناء التعجب منها. وأطلق القول بأفعل فعلم بأنه لا فرق بين ما همزته للتعدية وبين ما همزته لغير التعدية كما فعل ابن عصفور إذ أجاز القياس على ما أغفى زيدا، لأن همزته غير معدية، ولم يقس على ما أعطاه لأن همزته معدية وهو تحكم بلا دليل. هذا مع أن سيبويه قال بعد قوله: وبناؤه أبدا من فَعَل وفَعِل وفَعُل وأفْعَل: "فشبيه هذا بما ليس من الفعل نحو لات وما. وإن كان من حسن وكرم وأعطى" ولم يفرق بين أعطى وبين حسن وكرم مع العلم بأن همزة أعطى معدية لأنه يقال عطوت الشيء بمعنى تناولته، وأعطيته فلانا فيصير عطوت بالهمزة متعديا إلى اثنين بعد أن كان دونها متعديا إلى واحد. ومن تصريح سيبويه باطراد ما أعطاه وشبهه قوله في الربع الآخر من كتابه: "هذا باب ما يستغنى فيه عن ما أفعله بما أفعل فعله كما استغنى بتركت عن ودعت، كما استغنوا بنسوة عن أن يجمعوا المرأة على لفظها وذلك في الجواب، ألا ترى أنك لا تقول ما أجوبه، وإنما تقول ما أجود جوابه. ثم قال: ولذلك لا تقول أجوِبْ به وإنما تقول أجوِدْ بجوابه. ولا يقولون في قال يقيل ما أقيله، استغنوا بما أكثر قائلته، وما أنْومه في ساعة كذا وكذا، كما قالوا تركت ولم يقولوا ودعت" هذا نصه. فجعل استغناءهم عن ما أجوبه بما أجود جوابه، مساويا لاستغنائهم عن ودَعت ماضي يدع بتركت، وعن ما أقيله بما أكثر قائلته. مع العلم بأن عدولهم عن ودع إلى ترك وعن ما أقيله إلى ما أكثر قائلته على خلاف القياس، وأن وَدَع وما أقيله موافقان للقياس، فيلزم أن يكون ما أجوبه موافقا للقياس، وهذا بيّن والاعتراف بصحته

متعيّن. وإنما استحق أفعل مساواة الثلاثي المحض في هذا الاستعمال دون غيره من أمثلة المزيد فيه لشبهه به لفظا، فمن قِبَل أن مضارعه واسم فاعله واسم زمانه واسم مكانه كمضارع الثلاثي، واسم فاعله وزمانه ومكانه في عدة الحروف والحركات وسكون الثلاثي بخلاف غيره من المزيد فيه. وأما الموافقة في المعنى فكثير. فمن موافقته لفعَل سرى وأسْرى وطلع على القوم وأطلع، أي أشرف، وطفلت الشمس أي دنت للغروب (كأطفلت) وعتم الليل وأعتم أي أظلم، وعكل الأمر وأعكل أي أشكل. ومن موافقته لفَعِل غطِش الليل وأغطش أي أظلم، وعوز الشيء وأعوز أي تعذّر وكذلك الرجل إذا افتقر، وعدم الشيء وأعدمه أي فقده، وعبست الإبل وأعبست أي دنست أوبارها. ومن موافقته لفعُل خلُق الثوب وأخلق أي بلى وبطُؤ وأبطأ، وبؤُس وأبأس، أي ساءت حاله، ونظائر ذلك كثيرة. ولكون أفعل مختصا من بين الأفعال المغايرة للثلاثي بمشابهته لفظا وموافقته معنى أجراه سيبويه مجراه في اطراد بناء فعلي التعجب منه. وقد يبنيان من غير فعل كقولهم ما أذرع فلانة، بمعنى ما أخفها في الغزل وهو من قولهم امرأة ذَراع وهي الخفيفة اليد في الغزل، ولم يسمع منه فعل. ومثله في البناء من وصف لا فعل له: أقمن به، أي أحقق اشتقه من قولهم هو قَمِن بكذا أي حقيق به. وهذان وما أشبههما شواذ لبنائهما من غير فعل. ومثلهما في الشذوذ قولهم ما أعساه وأعس به، بمعنى ما أحقه وأحقق به، وهو فعل غير متصرف. وإلى هذا أشرت بقولي: أو فعل غير متصرف". ومن الأفعال ما لم يصغ منه فعل تعجب مع كونه ثلاثيا مجردا تاما متصرفا قابلا للكثرة مصوغا للفاعل غير معبَّر عن فاعله بأفْعَلَ فَعْلاء، فمن ذلك سكر وقعد وجلس ضدا قام، وقال من القائلة، استغنت العرب فيهما بما أشد سكره وما أكثر قُعوده وجلوسه وقائلته عن ما أسكره وأقعده وأجلسه وأقيله. وإليهما أشرت بقولي "وقد يغني في التعجب فعل عن فعل مستوف للشروط كما يغني في غيره" ثم قلت "ويتوصل إلى التعجب بفعل مثبت متصرف مصوغ للفاعل ذي مصدر مشهور إن لم يستوف الشروط بإعطاء المصدر ما للمتعجب منه مضافا إليه بعد ما أشد أو أشدد ونحوهما" ففهم من هذا أنه يقال في دحرج وانطلق: ما أشد دحرجته

وانطلاقه، وفي كان زيد صديقا ما أشد كون زيد صديقا، وفي مات زيد: ما أفظع موت زيد، وفي هيفت المرأة: ما أحسن هيفها وكذلك يقال أشدد بدحرجته وانطلاقه وبكونه صديقك وأفظع بموته وأحسن بهيفها. ثم قلت "فإن لم يعدم الفعل إلا الصوغ للفاعل جيء به صلة لما المصدرية آخذة ما للمتعجب منه بعد ما أشد وأشدد أو نحوها " ففهم من هذا أنه يقال في ضرُب زيد ما أشد ما ضُرب زيد وأشدِدْ بما ضُرِب زيد. ولم يغن ذكر المصدر، لأن كون المتعجب منه مفعولا لا يعلم بذلك، وإنما يعلم بذكر "ما" موصولة بفعل مصوغ للمفعول.

باب أفعل التفضيل

باب أفعل التفضيل ص: يصاغ للتفضيل موازن أفعَلَ، اسما مما صيغ منه في التعجب فعلا على نحو ما سبق من اطراد وشذوذ، ونيابة أشد وشبهه. وهو هنا اسم ناصب مصدر المحوج إليه تمييزا. وغلب حذف همزة أخير وأشر في التفضيل وندر في التعجب. ويلزم أفْعَل التفضيل عاريا الإفراد والتذكير وأن يليه أو معموله المفضول عليه مجرورا بمن. وقد يسبقانه، ويلزم ذلك إن كان المفضول اسم استفهام أو مضافا إليه. وقد يفصل بين أفعل و"من" بلو وما اتصل بها. ولا يخلو المقرون بمن في غير تهكم من مشاركة المفضل في المعنى، أو تقدير مشاركته. وإن كان أفعل خبرا حذف للعلم به المفضول غالبا، ويقل ذلك إن لم يكن خبرا. ولا تصاحب "مِن" المذكورة غير العاري إلا وهو مضاف إلى غير معْتدّ به أو ذو ألف ولام زائدتين، أو دال على عار متعلق به من. ش: قد تقدم أن أفعل المتعجب به يناسب أفعل التفضيل وزنا ومعنى، وأن كل واحد منهما محمول على الآخر فيما هو أصل فيه. ومن أجل تناسبهما سوّت العرب بينهما في أن يصاغ كل واحد منهما مما صيغ منه الآخر، وألا يصاغ مما لا يصاغ. وقد بيّن في التعجب أن فعله لا يبنى دون شذوذ إلا من فعل ثلاثي مجرد تام مثبت متصرف قابل معناه للكثرة غير مبني للمفعول ولا معبّر عن فاعله بأفعل فعلاء. فكذلك أفعل التفضيل لا يبنى دون شذوذ إلا من فعل مستوف للقيود المذكورة. فيقال في بنائه من كتب وعلم وظرف: هو أكتبُ منه وأعلمُ وأظرفُ، كما قيل في التعجب: ما أكتبه وأعلمه وأظرفه .. ويحكم في هذا ونحوه بالاطراد، لأنه من فعل مستوف للقيود. ويحكم بالشذوذ فيما لا فعل له، وفيما له فعل لم يستوف القيود، كما فعل في التعجب. فمن أمثلة أفعل التفضيل الذي لا فعل له قولهم هذا أصبر من هذا، أي أمرّ و"هو ألصُّ من شِظاظ" أي أعظم لصوصية. وشظاظ اسم رجل من ضبة.

ومن هذا النوع أول وآخر. ومن أمثلة سيبويه فيما لا فعل له: "أحنك الشاتين والبعيرين" أي آكلهما، و"آبل الناس" أي أرعاهم للإبل. ومن أمثلة غيره: هذا الثمر أصغر من غيره، أي أكثر صغرا، وهذا المكان أشجر من هذا، أي أكثر شجرا، وفلان أضيع من غيره، أي أكثر ضياعا. والصحيح أن أحنك من قولهم احتنك الجراد ما على الأرض أي أكله، ولكنه شاذ لكونه من افتعل، فهو نظير أشد من اشتد ونظير قولهم هو أسوأ من هذا بمعنى أشد من استوأ. وكذا الصحيح أن آبل من قولهم أبل الرجل إبالة، وآبل أبلا إذا درب بسياسة الإبل والقيام عليها فلا شذوذ فيه أصلا وكذا الصحيح أن أصغر من صغر الرطب إذا كان ذا صغر فلا شذوذ فيه أيضا. وكذا أشجر هو من قولهم أشجر المكان أي صار ذا شجر، ولا شذوذ فيه على مذهب سيبويه، لأن أفعل عنده يساوى فعَل وفعِل وفعُل في بناء أفعل التفضيل منه. وقد تقدم بيان ذلك. وكذا قولهم فلان أضيع من غيره هو من قولهم أضاع الرجل إذا كثرت ضياعه ولا شذوذ فيه على مذهب سيبويه. ونظيره هو أعطاهم للدراهم وأولاهم للمعروف، وهذا المكان أقفر من ذاك، والفعل من جميعها على وزن أفعل. ومن المحكوم بشذوذه لكونه مزيدا فيه قول عمر رضي الله عنه "إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع" فأوقع أضيع موقع أشد تضييعا ومن المحكوم بشذوذه من جهتين قولهم هذا أخصر من هذا، فبنوه من اختُصر وفيه مانعان: أحدهما أنه مزيد فيه، والثاني أنه فعل ما لم يسم فاعله. ومثله - على مذهب سيبويه - قولهم فيمن أصيب بمكروه: هو أصوب من غيره، وهو من أُصيب فعلى مذهب سيبويه ليس بشاذ إلّا من قبل أنه من فعل المفعول.

وقد تقدم كلامي في التعجب أن بناء فعله وأفعل التفضيل من فعل المفعول لا يحكم بشذوذه إلا فيما يلبس فيه قصد المفعول، يقصد الفاعل. وذلك إذا كان الفعل مستعملا بالبناءين كثيرا، ولم يقارن أفعل ما يمنعه من أن يراد به الفاعلية كقولك: هذا أضرب من ذلك، وأنت تريد أن الضرب الواقع به أشد من الواقع بغيره، فإن هذا لا يجوز، لأن المراد به لا دليل عليه، بل السابق إلى ذهن من يسمعه التفضيل في الفاعلية. فإن اقترن بما يمنع قصد الفاعلية جاز وحسن ومنه قولهم "أكْسى من بَصَلة" و"أشْغَلُ من ذاتِ النِحْيَيْن"، فيصح على هذا أن يقال عبد الله بن أبيّ ألعن ممن لعن على لسان داود، ولا أحرم من عدم الإنصاف، ولا أظلم من قتيل كربلاء. فلو كان مما لازم بناء ما لم يسم فاعله أو غلب عليه لم يتوقف في جوازه لعدم اللبس وكثرة النظائر كأزهى. وأعني من قولي إن ورود هذا في التفضيل أكثر منه في التعجب أنه لا ينبغي أن يقتصر منه على المسموع. ومن المحكوم بشذوذه قولهم هو أسود من حنك الغراب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الحوض "أبْيَضُ من اللَّبن" وإنما كان هذان شاذين لأنهما من باب أفعل فعلاء، وليسا كألدّ وأخواته مما يناسب عسرا أو جهلا، وقد تقدم الكلام على ذلك. وفي صيغ من قولي في أول هذا الباب مما صيغ منه في التعجب ضمير يرجع إلى موازن أفعل. وأشرت بقولي "ونيابة أشد ونحوه إلى أن الفعل الذي يقصد أن يصاغ منه أفعل التفضيل إن لم يستوف القيود توصل إلى معنى التفضيل فيه بذكر أشد ونحوه ناصبا مصدر ذلك الفعل على التمييز كقولك في دحرج وعلّم واقترب: هو أشد دحرجة وأصح تعليما وأكثر اقترابا. وكقولك في مات: هو أفظع موتا، وفي عور: هو أقبح عورا، وفي أكحل هو أحسن كحلا. ولما كثر استعمال صيغة التفضيل من الخير والشر اختصروهما فحذفوا الهمزة

وقالوا في المدح والذم هو خير من كذا، وشرّ من كذا. ورفض أخير وأشرّ إلا فيما ندر كقول الراجز: بلالُ خير الناس وابنُ الأخْيَر ومن النادر قراءة أبي قلابة "سيعلمون غدًا من الكذاب الأشرّ"، وكما ندر ورود الهمزة في التفضيل ندر سقوطها في التعجب فقيل ما خيره بمعنى ما أخيره، وما شرّه بمعنى ما أشرّه. وشذ حذف همزة أحبّ في التفضيل كقول الأحوص: وزادني كلفا في الحبّ أنْ منَعت ... وحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا ويلزم أفعل التفضيل الإفراد والتذكير إذا كان عاريا، أي غير مضاف ولا مشفوع بحرف التعريف، فيقال زيد أفضل من عمرو، وهما أفضل من بشر وهم أشجع من غيرهم. وهند أجمل من دعد، وبنتاها أصلح منهما، والأمهات أشفق من الأخوات. ويلزم العاري أيضا أن يذكر بعده المفضول مقرونا بمن متصلة به كما رأيت في الأمثلة المذكورة آنفا. أو مفصولا بين "من" وبينه بمتعلق به فصاعدا كقوله تعالى: (النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتُهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين) وكقول الشاعر: فلَأنت أسمحُ للعُفاة بسُؤْلهم ... عند الشَّبائب من أبٍ لبنَينا

وكقوله: مازِلتُ أبسُطُ في غَضّ الزَّمان يدًا ... للناس بالخَيْر من عَمْرو ومن هَرِم ويجب تقديم "من" والمفضول إن كان اسم استفهام، أو مضافا إليه نحو: مِمن أنت أحلم، ومن أيّ رجل أنت أكرم، وممّ قدّك أعدل، ومن وجه من وجهك أجمل. ذكر هذه المسألة أبو علي في التذكرة وهي من المسائل المغفول عنها. فإن كان المفضول غير ذلك لم يجز تقديمه إلا في نادر من الكلام كقول ذي الرمة: ولا عيبَ فيها غيرَ أنَّ سَريعها ... قَطوفٌ وألّا شيءَ منهنّ أكْسَلُ وكقول الآخر: وقالت لنا أهلا وسهلا وزوّدت ... جنى النحل أو ما زودت منه أطيبُ وقد يفصل بين أفعل ومن، بلو وما اتصل بها كقول الشاعر: ولَفُوكِ أطْيَبُ لو بَذَلْتِ لنا ... من ماءِ مَوْهبة على خَمْر ولا بد من كون المفضول مشاركا للمفضل فيما ثبت فيه التفضيل فيقال: الخبز أغذى من السويق، والعسل أحلى من التمر. ولا يقال: الخبز أغذى من الماء، ولا الماء أروى من الخبز. فإن ورد لفظ التفضيل دون ظهور مشاركة قدّرت المشاركة بوجه

ما كقولهم في البغيضَيْن هذا أحبّ إلي من هذا، وفي الشرَّين هذا خير من هذا، وفي الصعبين هذا أهون من هذا، وفي القبيحين: هذا أحسن من هذا، بمعنى أقل بعضا وأقل شرا وأقل صعوبة وأقل قبحا. ومنه قوله تعالى: (ربّ السجنُ أحبُّ إليّ ممّا يدعونني إليه) وقوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة خيرٌ له من أن يجلس على قبر" وقول الراجز: أظلّ أرْعَى وأبيتُ أطْحَنُ ... الموتُ من بعض الحياةِ أهْوَنُ ومنه قول الآخر: عُجيّز لعطاءُ دَرْدبيس ... أحسنُ من منظرها إبليسُ ومن الملحق بالتهكم قول الآخر: لأكلةٌ من أقِطٍ بسَمْن ... ألْيَن مَسًّا في حوايا البطن ... من يثربيّات قِذاذ خُشْنِ ومثله قول الشاعر: الحزمُ والقوةُ خيرٌ من الـ ... إدْهان والفكّة والهاع ومما تقدر فيه المشاركة قول بعضهم: الصيف أحر من الشتاء. وله توجيهان: أحدهما أن يكون من حرّ القتل في استحر أي اشتد فكأنه قال الصيف أشد استحرارا من الشتاء، لأن حروبهم في الصيف كانت أكثر من حروبهم في الشتاء. ويمكن أن

يشار بذلك إلى أن الشتاء تحيّل فيه على الحر بموقيات البرد وأن الصيف لا يحتاج إلى أن يتحيل، فحرّه أشد من حرّ الشتاء، ويمكن أن يشار بذلك إلى حرّ الأمزجة فإنه في الصيف أشد منه في الشتاء. وزعم بعض العلماء أنه يقال: العسل أحلى من الخلّ. وهذا موجّه بثلاثة أوجه: أحدها أن يكون قائل هذا سمّى العنب خلّا لمآله إليه، كما سمّي خمرا في قوله تعالى: (إنّي أراني أعصر خمرا). والثاني أن يكون أحلى من حَلِي بعيني إذا حسُن منظره. الثالث أن يكون قائل هذا قد وضع أحلى موضع أطيب، لأن الخل يؤتدم به فله من الطيب نصيب، لكنه دون طيب العسل. ويكثر حذف المفضول إذا دل عليه دليل وكان أفعل خبرا كقوله تعالى: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ) و (ذلكم أقسطُ عند الله وأقْوم للشهادة وأدنى ألّا ترتابوا) و (واللهُ أعلمُ بما وَضَعتْ) و (ما تُخفي صدورهم أكبر) و (إنّ ما عند الله هو خيرٌ لكم) و (والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربّك ثوابًا وخيرٌ أملا) و (أيُّ الفريقين خيرٌ مقاما وأحسن نديًّا) و (فسيعلمون من هو شرٌّ مكانا وأضعفُ جندًا) وهو كثير. ومنه قول الشاعر: إذا المرءُ [عَلْبى] ثم أصبح جلدُه ... كرَحْضِ غَسيلٍ فالتَّيَمُّن أرْوحُ

أي توقّيه على اليمين أروح له. وقد حذف المفضول وأفعل ليس بخبر، فمن ذلك قوله تعالى: (فإنّه يعلم السرَّ وأخفى) ومن ذلك قول الشاعر: دنوتِ وقد خلناكِ كالبدر أجملا ... فظلَّ فؤادي في هواكِ مُضَلَّلا أي دنوت أجمل من البدر وقد خلناك مثله. ومثله: يُبَلّغك مَن أرضاك قِدْمًا أجدّ في ... مراضيه كالمسبوق إن زاد سابقُ ومنه قول رجل طيء: عملًا زاكيا تَوَخّ لكي تُجـ ... ــــزَى جزاءً أزكى وتُلفى حميدا أي لكي تجزى جزاء أزكى من العمل الزاكي. ومثله: تروَّحي أجْدَرَ أن تقيلي ... غدًا بجنبَيْ بارِدٍ ظليل أي تروحي وائتي مكانا أجدر بأن تقيليه، أي تقيلي فيه. وهذا أغرب من الذي قبله، لكثرة الحذف فيه. ولا توجد من جارة للمفضول إلا وأفعل عار من الإضافة والألف واللام. وندر إيقاع من بعد مضاف إلى مالا اعتداد بذكره. والإشارة بذلك إلى قول الشاعر: نحن بغَرسِ الودِيِّ أعلمُنا ... منّا بركضِ الجيادِ في السُّدَف

أراد أعلم منّا فأضاف ناويًا إطراح المضاف إليه، كما تدخل الألف واللام في بعض الأمكنة وينوى سقوطها وندر إيقاع من في قول الشاعر: ولستَ بالأكثر منهم حصًى ... وإنّما العزّةُ للكاثِر وفيه ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون "من" المعتاد وقوعها بعد العاري، والألف واللام زائدتان. والثاني أن تكون "من" متعلقة بأكثر مقدّرا مدلولا عليه بالموجود المصاحب للألف واللام كأنه قال: ولست بالأكثر أكثر منهم حصى. وهذا التقدير شبيه بما يقال في قوله تعالى: (وكانوا فيه من الزّاهدين) أي كانوا زاهدين فيه من الزاهدين. والثالث أن تكون "من" للتبين كأنه قال ولست بالأكثر من بينهم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وإلى قوله "أعلمنا" وقول الآخر "ولست بالأكثر منهم حصى" وما فيه من الأوجه أشرت بقولي "ولا تصاحب من المذكورة غير العاري" إلى آخر الكلام. فصل: ص: إن قرن أفعل التفضيل بحرفي التعريف أو أضيف إلى معرفة مطلقا له التفضيل أو مؤوّلا بما لا تفضيل فيه طابق ما هو في الإفراد والتذكير وفروعهما. وإن قيدت إضافته بتضمين معنى من جاز أن يطابق، وأن يستعمل استعمال العاري، ولا يتعين الثاني خلافا لابن السراج. ولا يكون حينئذ إلا بعض ما أضف إليه ونحون أظلمني وأظلمه من الضرورات. واستعماله عاريا دون من مجردا عن معنى التفضيل مؤولا باسم فاعل أو صفة مشبهة مطرد عند أبي العباس، والأصح قصره على السماع ولزومه الإفراد والتذكير فيما ورد كذلك أكثر من المطابقة. ش: قد تقدم التنبيه على أن أفعل التفضيل منع التأنيث والتثنية والجمع لشبهه

بأفعل المتعجب به ولا يكمل شبهه إلا بتنكيره، لأنه حينئذ يكون مثله لفظا ومعنى، فإذا قرن بالألف واللام نقص شبهه به نقصانا بيّنا، فزال عنه ما كان له بمقتضى كمال الشبه من منع التأنيث والتثنية والجمع، واستحق أن يطابق ما هو له كغيره من الصفات المحضة، فيقال جاء الرجل الأكبر والمرأة الكبرى وجاء الرجلان الأكبران والمرأتان الكبريان، وجاء الرجال الأكبرون، والأكابر، والنسوة الكُبريات والكُبَر. فإذا أضيف إلى معرفة وأطلق له التفضيل إن لم ينو بعده معنى "من" أو أوّل بما لا تفضيل إلى معرفة وأطلق له التفضيل إن لم ينو بعده معنى "من" أو أوّل بما لا تفضيل فيه عومل من لزوم المطابقة بما عومل به المقرون بالألف واللام لشبهه به في إخلائه من لفظ "من" ومعناها، ولا يلزم حينئذ كونه بعض ما أضيف إليه. وإن أضيف منويا بعده معنى "من" كان له شبه بذي الألف واللام في التعريف وعدم لفظ "من" لزوما، وشبّه بالعاري لاذي حذفت بعده "من" وأريد معناها، فجاز استعماله مطابقا لما هو له بمقتضى شبهه بذي الألف واللام، وجاز استعماله غير مطابق بمقتضى شبهه بالعاري. ولا يكون إلا بعض ما يضاف إليه. فيقال على الإخلاء من معنى من: يوسف أحسن إخوته، أي حسنهم والأحسن من بينهم. ويقال على إرادة معنى من: يوسف أحسن أبناء يعقوب، ويمتنع على هذا القصد أن يقال: يوسف أحسن إخوته. والدليل على أن مع قصد معنى من تجوز المطابقة وعدمها اجتماعهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأحبّكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنُكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون" فأفرد أحبّ وأقرب، وجمع أحسن، ومعنى من مراد في الثلاثة. وزعم ابن السراج أن المضاف إذا أريد به معنى من عومل معاملة العاري. والحديث الذي ذكرته حجة عليه، لتضمنه الاستعمالين مع أن المضاف الذي في

إضافته معنى من أشبه بذي الألف واللام منه بالعاري، فإجراؤه مجرى ذي الألف واللام أولى من إجرائه مجرى العاري. فإذا لم يعط الاختصاص بجريانه مجراه فلا أقلّ من أن يشارك، والإلزام ترجيح أضعف الشبهين، أو ترجيح أحد المتساويين دون مرجح. وقد يستعمل العاري الذي ليس معه من مجردا عن التفضيل مؤولا باسم فاعل كقوله تعالى: (هوأ علمُ بكم إذ أنشأكم من الأرض) ومؤولا بصفة مشبهة كقوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيدُه وهو أهونُ عليه) فأعلم هنا بمعنى عالم إذ لا مشارك لله تعالى في علمه بذلك، وأهون بمعنى هيّن إذ لا تفاوت في نسب المقدورات إلى قدرته تبارك وتعالى. ومن ورود أفعل مؤولا بما لا تفضيل فيه قول الشاعر: إنَّ الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعزُّ وأطولُ أي عزيزة وطويلة. ومنه قول الشنفري: وإن مُدّتِ الأيدي إلى الزاد لم أكنْ ... بأعْجلهم إذْ أجشعُ القوم أعْجلُ أراد لم أكن عجلًا، ولم يرد أكن أكثرهم عجلة، لأن قصد ذلك يستلزم ثبوت العجلة غير الفائقة وليس غرضه إلا التمدّح بنفي العجلة قليلها وكثيرها. وأجاز أبو العباس محمد بن يزيد استعمال أفعل مؤوّلا بما لا تفضيل فيه قياسا. والأولى أن يمنع فيه القياس ويقتصر منه على ما سمع، والذي سمع منه فالمشهور فيه التزام الإفراد والتذكير إذا كان ما هو له مجموعا لفظا ومعنى كقوله تعالى: (أصحابُ الجنّة يومئذٍ خيرٌ مستقرًّا وأحسنُ مقيلا) أو لفظا لا معنى كقوله تعالى: (نحن أعلم بما يستمعون

به) و (نحنُ أعلمُ بما يقولون). وقد يجمع إذا كان ما هو له جمعا كقول الشاعر: إذا غابَ عنّا أسودُ العين كنتم ... كِراما وأنتم ما أقام ألائمُ أراد وأنتم ما أقام لائم، فألائم جمع ألأم بمعنى لئيم، فلذلك جمعه، إلا أن ترك جمعه أجود، لأن اللفظ المستقر له حكم إذا قصد به غير معناه على سبيل النيابة لا يغير حكمه، ولذا لم يغير حكم الاستفهام في مثل: علمت أيّ القوم صديقك، ولا حكم النفي في: ألا طعانَ ألا فرسانَ عادية وإذا جمع أفعل العاري لتجرده من معنى التفضيل إذا جرى على جمع جاز أن يؤنث إذا جرى على مؤنث. ويجوز أن يكون منه قول "حنيف الحناتم" في صفات الإبل: سَرْعى وبَهيا وغزرى. وكان الأجود أن يقال أسرع وأبهى وأغزر، إلا أنه لما لم يقصد التفضيل جاء بفَعْلى موضع فعيلة، كما جاء قائل البيت بألائم في موضع لئام. وعلى هذا يكون قول ابن هانئ: كأنّ صُغْريَ وكُبْرى صحيحا لأنه لم يؤنث أصغر وأكبر المقصود بهما التفضيل، وإنما أنث أصغر بمعنى صغير وأكبر بمعنى كبير.

ص:"ويجوز هو أفضل رجل، وهي أفضل امرأة، وهما أفضل رجلين أو امرأتين، وهم أفضل رجال، وهنّ أفضل نسوة، معناه ثبوت المزية للأول على المتفاضلين واحدا واحدا، أو اثنين اثنين، أو جماعة جماعة. وإن كان المضاف إليه مشتقا جاز إفراده مع كون الأول غير مفرد. وألحق بأسبق مطلقا "أوّل" صفة، وإن نويت إضافته بني على الضم. وربما أعطى مع نيّتها ماله مع وجودها. وإن جرد عن الوصفية جرى مجرى "أفكل" وألحق "آخر" بأوّل غير المجرد فيما له من الإفراد والتذكير وفروعهما من الأوزان، إلا أن "آخر" يطابق في التنكير والتعريف ما هو له. ولا تليه "من" وتاليها، ولا يضاف، بخلاف أوّل. وقد تنكّر الدُّنْيا والجُلّى لشبههما بالجوامد. وأما حُسْنى وسُوءى فمصدران. ش: إذا قيل زيد أفضل رجل، والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال، فمعناه زيد أفضل من كل واحد قيس فضله بفضله، والزيدان أفضل من كل رجلين قيس فضلهما بفضلهما، والزيدون أفضل من كل رجال قيس فضلهم بفضلهم، فحذفت من كل وأضيف أفعل إلى ما كان مضافا إليه. والكلام في أفضل امرأة وأفضل امرأتين وأفضل نسوة كالكلام في أفضل رجل وأفضل رجلين وأفضل رجال. ويلزم أفعل المستعمل هذا الاستعمال الإفراد والتذكير لشبهه بالعاري في التنكير وظهور من بعدها بأسهل تقدير. ولا بد من كون المضاف إليه مطابقا لما قبل المضاف ما لم يكن المضاف إليه مشتقا، فيجوز إفراده مع جمعية ما قبل المضاف كقوله تعالى: (ولا تكونوا أوّل كافر به) وقد تضمن الإفراد والمطابقة ما أنشده الفراء من قول الشاعر: وإذا هم طعموا فأوّلُ طاعم ... وإذا هم جاعوا فشرُّ جياع وإنما جاز الوجهان مع المشتق لأنه وأفعل مقدران بمَنْ والفعل. ومَن المعنى بها جمع يجوز في ضميرها إفراد اللفظ والجمع باعتبار المعنى.

واستعمل "أوّل" صفة جارية مجرى أفعل التفضيل في اللفظ مطلقا، فألزمت في التنكير الإفراد والتذكير، وأوليت "من" ومجرورا بها على حدّ ما وليا ما سبق. وأضيف إلى نكرة [كقوله تعالى (إنّ أوّل بيتٍ) وإلى معرفة] كقوله تعالى: (وأنا أوّلُ المسلمين). وجعل له فروع مخصوصة بحال التعريف كما فعل بأفعل التفضيل، فقيل الأوّلان والأولون والأوائل والأولى والأوليان والأوليات والأُوَل. وحكى الفارسي: ابدأ بهذا من أوّلَ، بالفتح على أنه مجرور ممنوع الصرف للوصفية والوزن. ومن أولُ، بالضم لنية الإضافة وقطعه عنها. ومن أوّلِ، بالخفض على تقدير الإضافة إلى مقدر الثبوت كما قال الراجز: خالطَ من سلمى خياشيمَ وَفا أراد وفاها فحذف المضاف إليه وقدّر ثبوته، فأعطى المضاف ما كان له مع عدم الحذف. واستعمل "أوّل" مجردا عن الوصفية فجرى مجرى "أفكل" في الصرف نحو: ماله أولٌ ولا آخرٌ. فلو جعل علما منع الصرف كقول الشاعر: أُؤمّلُ أن أعيشَ وأنّ يومي ... بأوَّلَ أو بأهْوَنَ أو جُبار فأول هنا علم ليوم الأحد ممنوع الصرف. فلو جعل أفكل – وهو الرعدة – علما منع الصرف. وأجرت العرب "آخر" مجرى أفعل التفضيل في الوصفية والتأنيث والتصحيح والتكسير فقالوا الآخر والأخرى والآخرون والأواخر والأخريات والأُخَر، كما قالوا الأكبر والكُبرى [والأكبران والكبريان] والأكبرون [والأكابر] والكبريات

والكُبَر. إلا أنه لا دلالة فيه على التفضيل بنفسه ولا بتأويل، إذ لا يصح في موضعه ما يدل على تفضيل كصلاحية أسبق في موضع أول، وكصلاحية أمرّ في موضع أصبر، وكصلاحية أسرق في موضع ألصّ؛ فلذلك لم يله مجرور بمن على حدّ ما يلي أفعل التفضيل ولا بإضافة، لكن مقتضى جعله من باب أفعل التفضيل أن يلازمه في التنكير لفظ الإفراد والتذكير وألا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع إلا معرّفا، فمنع هذا المقتضى، وكان لذلك معدولا عما هو به أولى، فلذلك مُنع "أُخَر" من الصرف وأجرى مجرى ثُلاثَ وأخواته. ويأتي تتميم الكلام على ذلك في باب موانع الصرف إن شاء الله تعالى. والدُّنيا والجُلّى مؤنثا الأدنى والأجلّ فكان حقهما ألا ينكرا إلا إذا ذكرا، لكنهما كثر أنْ يستعملا استعمال الأسماء المحضة، فلذلك جاز تنكيرهما، كقوله: في سعْيِ دُنيًا طالما قَد مُدَّتِ وكقول الآخر: وإنْ دعوتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمة ... يوما سراة كِرامِ الناسِ فادْعينا وقرأ بعض القراء الشواذ (وقولوا للناس حسنى) وهو مصدر على فُعْلى كالرُجعى، والحُسْنُ والحُسْنى والعُذر والعُذرى والسُّوء والسُّوءى، من المصادر التي جاءت على فُعْل وفُعْلى بمعنى واحد.

فصل: ص: ولا يرفع أفعل التفضيل في الأعرف ظاهرا إلا قبل مفضول هو هو مذكور أو مقدر، وبعد ضمير مذكور أو مقدر، مفسر بعد نفي أو شبهه بصاحب أفعل، ولا ينصب مفعولا به. وقد يدل على ناصبه وإن أول بما لا تفضيل فيه جاز على رأي أن ينصبه، وتتعلق به حروف الجر على نحو تعلقها بأفعل المتعجب به. ش: لأفعل التفضيل شبه بأفعل المتعجب به، أوجب له القصور عن الصفة المشبهة في اللفظ وفي العمل، أما في اللفظ فلزومه في حال التنكير لفظا واحدا، وأما في العمل فكونه لا يرفع فاعلا ظاهرا إلا على لغة ضعيفة حكاها سيبويه، فقال على تلك اللغة: مررت برجل أكرمَ منه أبوه، لأنه بمعنى مررت برجل فائقه في الكرم أبوه. ومن هذه اللغة احترزت بقولي "لا يرفع أفعل التفضيل في الأعرف ظاهرا". ثم أشرت إلى قرائن تهيئته لرفع الظاهر عند جميع العرب، وذلك بأن يكون الظاهر مفضلا على ما هو له في المعنى من مذكور بعده أو مقدر، وأن يكون الظاهر أيضا بعد ضمير مذكور أو مقدر، وذلك الضمير مفسّر بعد نفي أو شبهه بما أفعل صفة له، وذلك كقول الشاعر: ما علمتُ امرأ أحبَّ إليه الـ ... تَبدلُ منه إليكَ يا بنَ سِنانِ ومثله: لا قولَ أبعدَ عنه نفع منه عن ... نهْي الخلِيّ عن الغرامِ مُتَيَّما والعَلَم في ذلك: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحلُ منه في عين زيد. وقد يختصر فيقال ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحلُ من عين زيد، ومن زيد، على تقدير من كحل عين زيد. فمن قال من عين زيد حذف مضافا واحدا، ومن قال

من زيد، حذف مضافين، كما حذفا في قولهم: لا أفعل ذلك هبيرة بن سعد، أي مدة مغيب هبيرة بن سعد. ومن كلامهم المأثور ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد من كذبه أمير على مِنبر. فهذا فيه حذف واحد، والتقدير ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد من شهود كذبة أمير على منبر. وقد يستغنى عن المفضول للعلم به، ولا يقام مقامه شيء كقولك: ما رأيت كزيد رجلا أبغض إليه الشرُّ. والأصل ما رأيت كزيد رجلا أبغض إليه الشر منه إليه، فحذف منه وإليه للعلم بهما. وأنشد سيبويه في مثل هذا: مررتُ على وادي السباعِ ولا أرى ... كوادي السباعِ حين يُظْلِمُ واديا أقلَّ به رَكْبٌ أتَوه تئيّة ... وأخْوفَ إلّا أن يقِي الله ساريا فركب مرفوع بأقل كارتفاع الشر بأبغض. والأصل: ولا أرى واديا أقل به ركب منه بوادي السباع، فحذف المفضول للعلم به ولم يقم مقامه شيئا. ومثله قول الآخر: ما إن رأيتُ كعبدِ الله من أحدٍ ... أوْلى به الحمدُ في وجْدٍ وإعْدام وقد يستغنى عن تقدير مضاف في: ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد، بأن يقال إن تقديره: ما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد. فأدخلوا "من" على زيد مع ارتفاع الكحل على حد إدخالها عليه مع جره، لأن المعنى واحد. وهذا وجه حسن لا تكلف فيه، وله نظائر فيها يلحظ المعنى ويرتّب الحكم عليه مع تناسي اللفظ. ومن نظائره قوله تعالى: (أولم يَروا أنّ اللهَ الذي خلق السمواتِ والأرضَ ولم يعيَ بخلقهنّ بقادرٍ). فدخلت الباء على خبر أن لتقدم أو لم وجعلها الكلام بمعنى أو ليس الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر. ومَن قدّر: ما رأيت

أحدا أحسن في عينه الكحل من زيد بما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد، يقدر: ما رأيت كذبة أكثر عليها شاهد من كذبَة أمير على منبر. وكذا يفعل بكل ما أشبه ذلك حيثما ورد. وكل واحد من هذه الأمثلة التي ذكرتها آنفا متضمن لضمير مذكور بين أفعل والظاهر المرفوع عائد على موصوف بأفعل مسبوق بنفي. وقد يحذف الضمير إذا كان معلوما. ومن المسموع في ذلك قول بعضهم: ما رأيت قوما أشبه بعض ببعض من شبه بعض قومك ببعض، فجعل أشبه في موضع أبين، واستغنى به عن ذكر الشبه المضاف إلى بعض، ثم كمل الاختصار لوضوح المعنى. ومَن قدّر ما رأيت أحدًا أحسن في عينه الكحل من زيد بما رأيت أحدا أحسن بالكحل من زيد، يقدّر هذا بما رأيت قوما ما أشد تشابها من قومك. والسبب في رفع أفعل التفضل للظاهر في هذه الأمثلة ونحوها تهيّؤه بالقرائن التي قارنته لمعاقبة الفعل إياه على وجه لا يكون بدونها. ألا ترى أن قولك ما رأيت أحدا في عنيه الكحل منه في عين زيد، لو قلت بدله: ما رأيت رجلا يحسن في عينه الكحل كحسنه في عين زيد، لكان المعنى واحدا. بخلاف قولك في الإثبات رأيت رجلا الكحل في عينه أحسن منه في عين زيد، فإن إيقاع الفعل فيه موقع أفعل يغيّر المعنى، فكان رفع الفعل للظاهر لوقوعه موقعا صالحا للفعل على وجه لا يغير المعنى بمنزلة اسم الفاعل الماضي معنى إذا وصل بالألف واللام، فإنه كان ممنوع العمل لعدم شبهه بالفعل الذي في معناه، فلما وقع صلة قدّر بفعل وفاعل ليكون جملة، فإن المفرد لا يوصل به موصول، فانجبر لوقوعه موقع الفعل ما كان فائتا من الشبه، فأعطى العمل بعد أن مُنِعه فكذلك أفعل الواقع في الموقع المشار إليه حدث له بالقرائن التي قارنته فيه معاقبة للفعل على وجه لم يكن بدونها، فرفع الفاعل الظاهر بعد أن كان لا يرفعه. وأيضا فإنه حدث له في الموقع المشار إليه معنى زائد على التفضيل، وذلك أنك إذا قلت: ما الكحل في عين زيد أحسن منه في عين عمرو، لم يكن فيه تعرض لنفي المساواة، وإنما تعرض فيه لنفي المزية، بخلاف قولك ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، فإن المقصود به نفي المساواة ونفي المزيّة. ولهذا قدّره سيبويه بما رأيت أحدا يعمل في عينه الكحل كعمله في عين

زيد. فكان لأفعل في هذا الموضع ما للصفة المشبهة من تناول المساواة والمزية، فاستحق بذلك التفضيل على أفعل المقصور على المزية ففضل برفعه الظاهر. وأيضا فإن قاصد المعنى المفهوم من ما رأيت أحدا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، إمّا بأن تجعل أفعل صفة لما قبلها رافعة ما بعدها، وإما أن تجعله خبرا للكحل، وهذا الوجه ممتنع بإجماع العرب، لاستلزامه الفصل بالمبتدأ بين أفعل و"من" مع كونهما بمنزلة المضاف إليه. والوجه الآخر لم يجمع على منعه، بل هو جائز عند بعضهم، فلما ألجأت الحاجة إليه اتفق عليه. فإن قيل لا نسلم الالتجاء إليه لإمكان أن يقال ما رأيت أحدا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيد. فالجواب أن إمكان هذا اللفظ مسلّم، ولكن ليس بمسلم إفادة ما يفيده اللفظ الظاهر من اقتضاء المزية والمساواة معا. وإنما يقتضي ما رأيت أحدا الكحل أبين منه في عينه منه في عين زيد: نفي رؤية الزائد حسنه لا نفي رؤية المساواة، وإذا لم يتوصل إلى ذلك المعنى إلا بالترتيب المذكور الذي عليه صح القول بالالتجاء إليه. ولم يرد هذا الكلام المتضمن ارتفاع الظاهر بأفعل التفضيل إلا بعد نفي، ولا بأس باستعماله بعد نهي أو استفهام فيه معنى النفي كقولك: لا يكن غيرك أحبّ إليه الخير منه إليك. وهل في الناس رجل أحق به الحمد لله منه بمحسن لا يمنّ بمنّه. ولا ينصب أفعل التفضيل مفعولا به، بل يُعدّى إليه باللام إن كان متعديا إلى واحد كقولك زيد أوعى للعلم وأبذل للمعروف. وإن كان من متعدّ إلى اثنين عُدّي إلى أحدهما باللام وأضمر ناصب الثاني كقولك: هو أكسى للفقراء الثياب، أي يكسوهم الثياب. فإن ورد ما يوهم نصب مفعول به بأفعل نسب العمل لفعل محذوف، وجعل أفعل دليلا عليه، فمن ذلك قول الشاعر:

فلم أر مثل الحيّ حيّا مُصَبَّحا ... ولا مثلَنا يومَ الْتقينا فَوارسا أكرَّ وأحمى للحقيقة منهم ... وأضْربَ منّا بالسِّيوفِ القوانِسا ومثله قول الآخر: فما ظفرتْ نفسُ امرئٍ يبتغي المنى ... بأبْذَلَ مَن يَحيى جزيل المواهب ومنه قوله تعالى: (اللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتَه) فحيث هنا ليس بظرف، وإنما هو مفعول به وناصبه فعل مدلول عليه بأعلم، والتقدير: الله أعلم يعلم مكان جعل رسالاته. وأجاز بعضهم أن يكون أعلم مجردا عن التفضيل ويكون هو العامل. وتعلق حروف الجر بأفعل التفضيل على نحو ما تعلق بأفعل التمعجب به فيقال زيد أرغب في الخير من عمرو، وعمرو أجمع للمال من زيد، ومحمد أرأف بنا من غيره، وكذلك ما أشبهه.

باب اسم الفاعل

باب اسم الفاعل ص: وهو الصفة الدالة على فاعل جارية في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها لمعناه أو معنى الماضي. وتوازن في الثلاثي المجرد فاعلا، وفي غيره المضارع مكسور ما قبل الآخر مبدوءا بميم مضمومة، وربما كسرت في مفعِل أو ضمت عينه، وربما ضمت عين منفعِل مرفوعا. وربما استغنى عن فاعل بمُفعِل وعن مُفعَل بمفعول فيما له ثلاثي، وفيما لا ثلاثي له وعن مفعِل بفاعل ونحوه أو بمفعَل، وعن فاعل بمُفعِل أو مِفعَل. وربما خلف فاعل مفعولا ومفعول فاعلا. ش: ذكر الصفة مخرج للأسماء الجامدة، ومتناول لاسمي الفاعل والمفعول، وأمثلة المبالغة والصفة المشبهة وغير المشبهة. وذكر الدلالة على الفاعل مخرج لاسم المفعول والمؤدّي معناه، وذكر الجارية على المضارع مخرج للجارية على الماضي كفرِح وحَسن ويقُظ، ولغير الجاريةِ كسهْل وكريم ومتناول لاسم الفاعل ولنحو ضامر الكشح ومنطلق اللسان من الصفات الموافقة اسم الفاعل لفظا لا معنى، ولنحو أهيف وأعمى من الصفات التي على أفعل وفعلهما على فَعِل، فالنوعان جاريان على المضارع من أفعالهما، أي موافقان له في عدة الحروف وتقابل الحركات والسكون، فخرج باب ضامر بقولي "لمعناه أو معنى الماضي" فإنّ ضامرا ونحوه لا يتعرض به لاستقبال ولا مضي، وإنما يراد به معنى ثابت، ولذلك أضيف إلى ما هو فاعل في المعنى كما تضاف الصفة التي لا تجاري المضارع فيقال ضامر الكشح، كما يقال لطيف الكشح، فخالف باب ضامر الفعل معنى وإن وافقه لفظا. وخرج باب أهيف بذكر التذكير والتأنيث فإن مؤنثه على فَعْلاء فلا مجاراة فيه لا في حال التذكير بخلاف اسم الفاعل فإن تأنيثه لا يغير بنيته فيعرى من المجاراة، بل هو

مستصحبها في حالتي تذكيره وتأنيثه لأن تأنيثه بالتاء وهي في نية الانفصال. ولزم من تقييد اسم الفاعل بكونه صفة جارية خروج أمثلة المبالغة ولم يكن في ذلك ضير لأن اسم الفاعل غيرها، وجريانها في العمل مجراه سننبه عليه في موضعه إن شاء الله. ولما كمل الكلام على حدّ اسم الفاعل نبهت على كيفية صوغه من الأفعال، وأعلمت أنه من الثلاثي المجرد على زنة فاعل كضارب وشارب، ومن غيره على زنة المضارع بكسر ما قبل آخره وزيادة ميم مضمومة موضع حرف المضارعة كمكرِم ومُعلِم ومتعلِّم ومستخرِج ومدحرِج ومطمئِن ومحرنجم. وقالوا أنتن الشيء فهو مُنتن على القياس، وقالوا أيضا مِنتن بإتباع الميم العين. وإليهما أشرت بقولي "وربما كسرت في مُفعل أو ضمت عينه" ومثل منتن قولهم في المُغيرة مِغيرة ثم قلت "وربما ضمت عين منفعل مرفوعا" فأشرت بذلك إلى قولهم هو منحدُر بضم الدال إتباعا للراء، حكاه أبو الفتح بن جني وغيره. ثم قلت "وربما استغني عن فاعل بمُفعِل وعن مُفعَل بمفعول فيما له فعل ثلاثي وفيما لا ثلاثي له" إلى حبّه فهو مُحِبّ ولم يقولوا حابّ. وأشرت بالثاني إلى قولهم أحزنه الأمر فهو محزون، فأغناهم عن محزن، وكذا أحبه فهو محبوب أغناهم عن مُحَب. وندر قول عنترة: ولقد نزلتِ فلا تظني غيره ... منّي بنمزلة المُحبِّ المكْرَمِ وأشرت بما لا ثلاثي له إلى قول الشاعر: معى رُدَيْنيُّ أقوام أرُدّ به ... عن عِرْضهم وفَرِيصي غير مَرْعُود ولم يقولوا رعد الفرائص، وإنما قالوا أرعدت. ثم قلت "وربما استغني عن مُفعِل بفاعل ونحول، أو بمُفْعَل" فأشرت إلى قولهم أيفع الغلام إذا شب فهو يافِع، وأورس الرِّمث، وهو شجر إذا اصفر فهو وارس. وأشرت بقولي "ونحوه" إلى قولهم أعقت الفرس فهي عقوق إذا حملت. وأحصرت الناقة إذا ضاق مجرى لبنها فهي حصور. وأشرت بقولي "أو بمفعَل" إلى قولهم أسهب الرجل في الكلام إذا أكثر فهو

مسهَب. وكذا إذا ذهب عقله من لدغ الحية، وألفج الرجل إذا ذهب ماله فهو ملفَج. وقيل أيضا يفع وورس وعقت وحصرت، وأسهب اللديغ، وألفج ذو المال على المبنى على أسهب وألفج. ولم يرد في أفعل إلا فعل الفاعل، هذا إذا كان بمعنى أكثر الكلام. فأما أسهب بمعنى فصح، وبمعنى بلغ الرجل في حفره، وبمعنى أكثر في العطاء، وبمعنى تغيّر وجهه، وبمعنى نزل السهب، أي المكان السهل، فاسم الفاعل منه بكسر الهاء على القياس، وكذا من أسهب الفرس إذا كان سابقا. وحكى ابن سيده أنه يقال عمّ الرجل بمعروفه ولمّ متاع القوم فهو مُعِم ومعَمّ، ومُلِمّ وملَمّ ولا نظير لهما، وإليهما أشرت بقولي "عن فاعل بمُفعِل أو مِفعَل" ثم قلت "وربما خلف فاعل مفعولا ومفعول فاعلا" فأشرت بالأول إلى كاس بمعنى مكسوّ، وبالثاني إلى قولهم قطّ السعرُ فهو مقطوط إذا غلا ولم يقولوا قاطّ ذكره ابن سيده، وهو نادر. ومما خلف فيه فاعل مفعولا قول الشاعر: لقد عيّل الأيتامَ طعنةُ ناشره ... أناشِر لا زالتْ يمينُك ماشره أي مأشوة، والمأشورة المقطوعة بمئشار. فصل: ص: يعمل اسم الفاعل غير المصغر والموصوف مفردا وغير مفرد عمل فعله مطلقا. وكذا إن حُوّل للمبالغة من فاعل إلى فعّال أو فَعول أو مِفعال، خلافا للكوفيين. وربما عمل محولا إلى فعيل أو فَعِل. وربما بني فعّال ومِفعال وفَعيل وفَعول من أفعل. ولا يعمل غير المعتمد على صاحب مذكور أو منويّ أو على نفي صريح أو مؤوّل أو استفهام موجود أو مقدر. ولا الماضي غير الموصول به "أل"

أو محكي به الحال خلافا للكسائي. بل يدل على فعل ناصب لما يقع بعده مفعولا به يتوهّم أنه معمول له، وليس نصب ما بعد المقرون بأل مخصوصا بالمضي خلافا للرماني ومن وافقه، ولا على التشبيه بالمفعول به خلافا للأخفش، ولا بفعل مضمر خلافا لقوم. ش: قد تقدم أن اسم الفاعل هو الصفة الدالة على فاعل جارية في التذكير والتأنيث على المضارع، وسأبين ذلك ببيان تام. ثم أشير بعد ذلك إلى عمله. فليعلم أنه يعمل عمل فعله إن أريد به الحال والاستقبال واعتمد على صاحب مذكور نحو زيد مكرم رجلا طالبا العلم محققا معناه، أو على صاحب منوي كقول الشاعر: وما كلُّ ذي لُبّ بمُؤتيك نُصْحَه ... وما كلُّ مُؤتٍ نصْحَه بلبيب وكقول الآخر: وكم مالئٍ عينيه من شيء غيره ... إذا راج نحو الجمرة البيضُ كالدُّمى ويروى: ومن مالئ عينيه أو على نفي صريح كقول الشاعر: ما راع الخَلّانُ ذمّةً ناكِث ... بلْ مَن وفى يَجد الخليلَ خليلا أو على نفي مؤوّل كقوله: وإنَّ امْرأ لم يُعْن إلّا بصالِح ... لغير مُهين نفسَه بالمطامع أو على استفهام موجود كقول الشاعر: أناوٍ رجالُك قتلَ امرئٍ ... من العزّ في حُبّك اعتاضَ ذُلّا

أو على استفهام مقدّر كقوله: ليت شعري مقيمٌ العُذْرَ قومي ... أم هم لي في حبّها عاذِلونا ولا يعمل اسم الفاعل إذا لم يقصد به معنى الفعل كصاحب في أكثر الاستعمال، لعدم الاعتماد على صاحب مذكور أو منويّ. ولا إذا صُغّر أو وُصف أو قُصد به المضيّ ولم توصل به الألف واللام، ولا حكيت به الحال، فلا يقال هذا ضُويرب زيدا، ولا هذا ضارب عنيف زيدا، ولا هذا ضارب أمس زيدا لا اليوم. وإنما امتنع العمل بالتصغير والوصف لأنهما من خصائص الأسماء، فيزيلان شبه الفعل معنى ولفظا، ولم ير الكسائي ذلك مانعا، لأنه حكى عن بعض العرب أظنني مرتحلا وسويّرا فرسخا. وأجاز أن يقال أنا زيدا ضارب أيّ ضارب، ولا حجة فيما حكاه، لأن فرسخا ظرف، والظرف يعمل فيه رائحة الفعل. وأما إجازته أنا زيدا ضارب أيّ ضارب فلا حجة فيه، لأنه لم يقل أنا سمعته عن العرب، بل ذكره تمثيلا، ولو رواه عن العرب لم يكن فيه حجة، لأنه كان يحمل على أن زيدا منصوب بضارب وضارب خبر أنا وأي ضارب خبر ثان. وهذا توجيه سهل موافق للأصول المجمع عليها فلا يعدل عنه، وقد احتج الكسائي بقول الشاعر: إذا فاقِدٌ خطباءُ فرخين رجَّعتْ ... ذكرتُ سُلَيْمَى في الخليط المُزايل ولا حجة في هذا لإمكان تخريجه على جعل فرخين منصوبا برجعت على إسقاط حرف الجر، وأصله رجعت على فرخين، فحذف على وتعدى الفعل بنفسه فنصب، ويجوز نصب فرخين بفقدت مقدرا مدلولا عليه باسم الفاعل الموصوف، فإن مالا يعمل يجوز أن يدل على ما يعمل. وقد احتج للكسائي أيضا بقول

الشاعر: وقائلةٍ تخشى عليَّ أظُنُّه ... سيُودي به تَرْحالُه ومذاهبُهْ فإن تخشى صفة لقائلة وقد وقعت قبل المفعول الذي هو أظنه. والجواب أن يقال أظنه محكي بقالت أو تقول مقدرا فبطل الاحتجاج. وأجاز الكسائي أيضا إعمال اسم الفاعل المقصود به المضيّ مع كونه عاريا من الألف واللام. ومذهبه في هذه المسألة ضعيف، لأن اسم الفاعل الذي يراد به المضي لا يشبه الفعل الماضي إلّا من قِبَل المعنى، فلا يُعطى ما أعطى المشابه لفظا ومعنى، أعني الذي يراد به معنى المضارع، كما لم يعط الاسم من منع الصرف بعلة واحدة ما أعطى ذو العلتين، وأيضا فإن الفعل المضارع محمول على اسم الفاعل في الإعراب، فحمل اسم الفاعل عليه في العمل. ولم يحمل الفعل الماضي على اسم الفاعل في إعراب فلم يحمل اسم الفاعل عليه في العمل. قال سيبويه: "وإذا أخبر أن الفعل قد وقع وانقطع فهو بغير التنوين البتة؛ لأنه إنما أجرى مجرى الفعل المضارع له كما أشبهه الفعل المضارع في الإعراب، فكل واحد منهما داخل على صاحبه" هذا نصه. قلت: فالمسوى في العمل بين اسم الفاعل المقصود به معنى الماضي وبين اسم الفاعل المقصود به معنى المضارع، كالمسوّى بين الفعل الماضي والفعل المضارع في الإعراب، وهذا لا يصح، فلا يصح ما هو بمنزلته. وإن وقع الذي بمعنى الماضي صلة للألف واللام استوى هو والذي بمعنى المضارع في استحقاقه العمل، لانه وقع موقعا يجب تأوله فيه بالفعل، كما يجب تأول الألف

واللام بالذي أو أحد فروعه، فقام تأوّله مقام ما فاته من الشبه اللفظي، كما قام لزوم التأنيث في المؤنث بالألف وعدم النظير في الجمع مقام سبب ثان في منع الصرف. وإذا كان في وقوع الذي بمعنى المضي صلة تصحيح لعمله بعد أن لم يكن عاملا كان في وقوع الذي بمعنى المضارع صلة توكيدا لاستحقاق ما كان له من العمل. والحاصل أن اسم الفاعل الموصول بالألف واللام يعمل في المضي والحضور والاستقبال. وقد ظن قوم منهم الرماني أنه لا يعمل إلا في المضي، وحملهم على ذلك أن سيبويه حين ذكر إعمال اسم الفاعل المقرون بالألف واللام لم يقدره إلا بالذي فعل فقال: "هذا باب من الاستفهام يكون فيه الاسم رفعا، ومما لا يكون فيه إلا الرفع أعبد الله أنت الضاربه، لأنك تريد معنى أنت الذي ضربه". وقال بعد هذا الباب بأبواب يسيرة: "هذا باب صار فيه الفاعل بمنزلة الذي فعل في المعنى" ثم قال بعد ذلك: "قولك هذا الضارب زيدا فصار بمعنى الذي ضرب زيدا وعمل فيه عمله" هذا نصه. ثم تمادى على مثل هذا في جميع الباب، ولم يتعرض للذي بمعنى المضارع، لأنه قد صح له العمل دون الألف واللام فعمله عند اقترانه بهما على معنى الذي أحق وأولى، للعلة السابق ذكرها. ولو لم يكن إعمال الذي بمعنى المضارع مسموعا عند وصل الألف واللام به لوجب الحكم بجوازه للأولوية المشار إليها. فكيف وقد ثبت إعماله في القرآن وغيره: فمن إعماله في القرآن قوله تعالى: (والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله

كثيرا والذاكرات)، ومن إعماله في غير القرآن قول الشاعر: فَبتُّ والهمُّ تغشاني طوارقُه ... من خَوْف رِحلة بين الظاعنين غدا ومثله قول عمرو بن كلثوم: وقد علم القبائل غيرَ فَخْرٍ ... إذا قُبَبٌ بأبْطَحها بُنينا بأنّا العاصِمون بكُلّ كَحْل ... وأنّا الباذِلون لمُجْتَدينا وأنا المانعون لما يَلينا ... إذا ما البيضُ زايلت الجفونا وأنا المانعون إذا قَدَرْنا ... وأنا المهلكون إذا لقينا وأنا الشاربون الماء صَفْوًا ... ويشربُ غيرُنا كدِرا وطينا ومثله قول الآخر: إذا كنت مَعْنِيّا بجُود وسُودَد ... فلاتكُ إلّا المُجْمل القولَ والفعلا ولا تلفَ إنْ أوذيتَ يوما مكافئا ... فمَنْ كافَأ الباغين لم يكْمُل الفضلا ومذهب الأخفش أن النصب بعد مصحوب أل على التشبيه بالمفعول به، وأصحابه يقولون إن قصد بأل العهد فالنصب على التشبيه بالمفعول به، وإن قصد معنى الذي فالنصب باسم الفاعل. وقال قوم النصب بفعل محذوف

بعد ما قرن بأل من اسم الفاعل أو مصدر. وكل ذلك تكلف لا حاجة إليه. وقد نبه على ذلك كله في متن الكتاب: وإذا أضيف اسم الفاعل الذي بمعنى المضي واقتضى بعد الإضافة من جهة المعنى مفعولا به جيء به منصوبا كقولك: هذا معطي زيد أمس درهما. ونصبه عند الجمهور بفعل مقدر مدلول عليه باسم الفاعل، لأن الدلالة يُكْتَفى فيها بالمعنى المجرد، فإذا اكتُفِي فيها بمعنى ولفظ متضمن حروف المدلول عليه أحق وأولى. وأجاز السيرافي نصبه باسم الفاعل وإن كان بمعنى الماضي، لأنه اكتسب بالإضافة إلى الأول شبها بمصحوب الألف واللام ولأن ارتباطه بما يقتضيه لا بد منه. والارتباط إما بالإضافة وإما بنصبه إياه. وتنزل هذا منزلة رفع أفعل التفضيل الظاهر في مسألة الكحل ونظائرها، وإن كان أصلها المنع. وقوّى أبو علي الشلوبين مذهب السيرافي بقولهم: هو ظان زيد أمس فاضلا؛ فإن فاضلا تعيّن نصبه بظانّ، لأنه إن أضمر له ناصب لزم حذف أول مفعوليه وثاني مفعولي ظان، وذلك لا يجوز، لامتناع الاقتصار على أحد مفعولي ظن. والصحيح قول الجمهور، والتعليل بشبه المضاف بذي الألف واللام ضعيف، لأن عمل ذي الألف واللام إنما يصح لوقوعه صلة، ووجوب تأوله لذلك بفعل، والمضاف بضد ذلك. وأما الارتباط بزائد على المضاف إليه فيكفي فيه شعور الذهن به. وأما هو ظان زيد فاضلا فليس إلا حذف أول مفعولي ظن المدلول عليه بظان وذلك شبيه بحذف ثاني مفعولي ظن المحذوف في أزيدا ظننته فاضلا، وأما ظان فيست إضافته على نية العمل، فيطلب مفعولا ثانيا ولكن إضافته كإضافة اسم جامد، وكاستعماله غير مضاف نحو هذا ظان أمس زيدا فاضلا، على نصب زيد وفاضل بظن مدلولا عليه باسم الفاعل، فهذا وأمثاله لا خلاف في جوازه، وبه يتخلص من إعمال اسم الفاعل الماضي غير موصول به الألف واللام. ولا يمنع التثنية ولا الجمع مطلقا إعمال اسم الفاعل المستوفي شروط العمل، ولا فرق في ذلك بين جمع التكسير وجمعي التصحيح. فإن قيل: هلا امتنع لجمع التكسير العمل كما امتنع بالتصغير لاستوائهما في تغير نظم الواحد. فالجواب أن التصغير لم يمنع العمل لتغيير نظم الواحد فحسب. بل لكونه

مغيرا نظم الواحد ومحدثا فيه معنى غير لائق بالفعل وهو معنى الموصوفية، فإن معنى قولك ضويرب: ضارب صغير. والجمع وإن غير نظم الواحد فليس محدثا في المجموع معنى لا يليق بالفعل، لأن الجمع بمعنى العطف، فإن معنى قولك ضُرّاب: ضارِب وضارِب وضارِب والعطف لائق بالفعل. فلذلك امتنع عمل اسم الفاعل بالتصغير دون التكسير. وأما التثنية وجمع التصحيح فحقيقان بأن يبقى العمل معهما، لأنهما يساويان جمع التكسير في تضمن معنى العطف ويفوقانه بأنهما لم يغيرا نظم الواحد. ويساوي اسم الفاعل العامل بالشروط المذكورة في إفراد وغيره ما قُصد به المبالغة من موازن: فعّال وفَعول ومِفعال، كقول مَن سمعه سيبويه يقول: أمّا العسلَ فأنا شرّاب، وكقول الشاعر: أخا الحَرْبِ لبّاسًا إليها جِلالَها ... وليسَ بوَلّاج الخلائفِ أعْقلا وكقول الآخر: هَجُومِ عليها نَفْسَه غير أنّه ... متى يُرْمَ في عينيه بالشَّبْح ينهضِ وكقول الآخر: عشيةَ سُعْدى لو تراءَتْ لراهِب ... بدُومة تَجْدٌ دونَه وحَجيجُ قلى دينَه واهتاجَ للشَّوق إنها ... على الشَّوقِ إخوانَ العزاءِ هيوجُ وكقول بعض العرب: إنه لَمِنْحار بوائكها وكقول الشاعر:

شُمٌّ مهاوينُ أبْدانِ الجزور مخا ... مِيصُ العشيّاتِ لا خُورٌ ولا قُزُمُ وكقول الآخر: ثم زادوا أنّهم في قومهم ... غُفرٌ ذَنبهم غيرُ فُخُرْ فغفر جمع غَفور، ومهاوين جمع مهوان وكان أصله مُهين، فبنى على مفعال لقصد المبالغة، واستصحب العمل له مفردًا ومجموعا. وكذلك فَعُول إذا جمع على فُعُل كما قال غُفُر ذنبَهم. ولو كسّر فعّال لاستصحب أيضا عمله، إلا أن العرب استغنت بتصحيحه عن تكسيره لاستثقال فك التضعيف. وألحق سيبويه بالثلاثة فَعيلا وفَعِلا مقصودا بهما المبالغة ثم قال: "وفَعِل أقلّ من فعيل بكثير" ثم قال: ومنه قول ساعدة بن جؤية: حتى شآها كليلٌ مَوْهنًا عَمِلٌ ... باتتْ طِرابًا وبات الليلَ لم يَنَم قال أبو الحجاج يوسف بن سليمان الشنتمري: قال النحويون هذا غلط من سيبويه، وذلك أن الكليل هو البرق الضعيف وفعله لا يتعدى. والموهن الساعة من الليل فهو منتصب على الظرف. واعتذر لسيبويه بأن كليلا بمعنى مكلّ كأنه قال: هذا البرق مكلّ الوقتَ بدوامه عليه، كما يقال أتعبت يومك وغير ذلك من المجاز. قلت: وهذا عندي تكلف لا حاجة إليه. وإنما ذكر سيبويه هذا البيت شاهدا على أن فاعلا قد يعدل به إلى فعيل وفعِل على سبيل المبالغة، كما يعدل به إلى فعول

وفعّال ومِفعال، فذكر هذا البيت لاشتماله على كليل للعدل به عن كالّ، وعلى عمِل المعدول به عن عامل، لم يتعرض لوقوع الإعمال. وإنما يحتج له في ثبوت إعمال فعيل بقول بعض العرب: إن الله سميع دعاء مَن دعاه. ورواه بعض الثقات. ومما يحتج له به قول الشاعر: فتاتانِ أمّا منهما فَشبيهةٌ ... هِلالًا والأخرى منهما تُشْبِهُ البَدْرا فأعمل شبيهة أنثى شبيه مع كونه من أشبه كنذير من أنذر. وإذا ثبت إعمال فعيل من أفعل مع قلة نظائره كان إعمال فعيل من الثلاثي أولى لكثرته. وأنشد سيبويه مستشهدا على إعمال فعِل قول الشاعر: حذِرٌ أمُورا لاتَضيرُ وآمِنٌ ... ما ليس مُنْجِيَه من الأقْدار وروي عن المازني أن اللاحقي قال سألني سيبويه عن شاهد في تعدّي فعِل فعملت له هذا البيت، وينسب مثل هذا القول إلى ابن المقفع، ولا اختلاف في تسمية هذا المدّعى بشعر بإنها موضوعة، ووقوع مثل هذا مستبعد، فإن سيبويه لم يكن يحتج بشاهد لا يثق بانتسابه إلى من يحتج بقوله، وإنما يحمل القدح في البيت المذكور على أنه من وضع الحاسدين وتقوّل المتقوّلين. وقد جاء إعمال فعِل فيما لا سبيل إلى القدح فيه وهو قول زيد الخيل: أتاني أنّهم مَزِقون عِرْضى ... جِحاشُ الكرْمَلين لهم فَدِيدُ

فأعمل مزقا وهو فَعِل عدل به للمبالغة عن مازق. ووافق الجرمي سيبويه في إعمال فعِل وقال إنه على وزن الفعل فجاز أن يجرى مجراه، ويحق لفعِل أن يكثر استعماله لأنه مقصور عن فاعل، ومنه قول الشاعر: أصْبَحَ قلبي صردا ... لا يَشْتَهي أن يردا إلا عَرادًا عَردَا ... وصلِيّانا بَرِدا أراد عاردا وباردا، وكثر ذلك في المضاعف كقولهم بَرّ وشرّ بمعنى بارّ وشارّ. والمشهور بناء هذه الأمثة من الثلاثي. وقد يبنى من أفعل فعّال كأدرك فهو درّاك، وأسأر فهو سارّ، وفعيل كأنذر فهو نذير، وآلم فهو أليم، وأسمع فهو سميع. ومنه قول الشاعر: أمِنْ رَيْحانة الداعي السميعُ ... يُؤرّقني وأصْحابي هجُوعُ أراد الداعي المسمع. وقد يبنى أيضا من أفعال مفعال، كمعطاء ومهداء ومعوان ومهوان، وندر بناء فعول ذي المبالغة من أفعل في قول الشاعر يصف ناقة: جَهولٌ وكان الجهلُ منها سَجِيّةً ... ولكنّها للقائدين رَهُوقُ أي كثيرة الإرهاق لمن يقودها. ص: يضاف اسم الفاعل المجرد الصالح للعمل إلى المفعول به جوازا إن كان ظاهرا، ووجوبا إن كان ضميرا متصلا، خلافا للأخفش وهشام في كونه منصوب المحل. وشذ فصل المضاف إلى ظاهر بمفعول أو ظرف. ولا يضاف المقرون بالألف واللام إلا إذا كان مثنى أو مجموعا على حده، أو كان المفعول به معرفا بهما، أو مضافا إلى معرف بهما، أو إلى ضميره. ولا يغني كون المفعول

به معرفا بغير ذلك، خلافا للفراء، ولا كونه ضميرا خلافا للرماني والمبرد في أحد قوليه. ويجر المعطوف على مجرور ذي الألف واللام إن كان مثله أو مضافا إلى مثله أو إلى ضميره، لا إن كان غير ذلك، وفاقا لأبي العباس". ش: اسم الفاعل المجرد هو العاري من الألف واللام. وذكره مخرج للمقرون بهما، وذكر الصالح للعمل مخرج المجرد الذي أريد به المضيّ، ومدخل المحول إلى أحد أبنية المبالغة، فإن اسم الفاعل واقع عليه بعد التحويل. والحاصل أن اسم الفاعل المشار إليه إذا ذكر بعده مفعول به ظاهر متصل جاز نصبه بمقتضى المفعولية، وجره بمقتضى الإضافة. وإن كان المفعول به ضميرا متصلا وجب كونه مجرورا بالإضافة فمثال ذي الوجهين لكون المعمول ظاهرا متصلا قوله تعالى (واللهُ مخرجٌ ما كنتم تكتمون) وقوله تعالى (ربَّنا إنك جامعُ الناس ليومٍ لا ريبَ فيه). ومثال ذي الوجه الواحد لكون المعمول ضميرا متصلا قولك هذا مكرمك وهذان مكرماك وهؤلاء مكرموك. فالكاف في الأمثلة الثلاثة وشبهها في موضع جر على مذهب سيبويه وأكثر المحققين، وهو الصحيح لأن الظاهر هو الأصل والمضمرات نائبة عنه، فلا ينسب إلى شيء منها إعراب لا ينسب إليه إلا إذا كان المضمر بلفظ غير صالح بالإعراب الظاهر الذي وقع موقعه كالكاف والهاء من لولاك ولولاه، فإن الجر إليهما منسوب عند سيبويه مع أنه إعراب غير صالح للظاهر الذي وقعها موقعه، وحمله على ذلك أن لفظ الكاف والهاء غير صالح للرفع بل للنصب والجر، لكن النصب ممتنع لامتناع لازمه، وهو أن يقال لولاني، وإنما يقال لولاي دون لولاني، فتعين الحكم بالجر. وزعم الأخفش وهشام الكوفي أن كاف مكرمك وشبهه في موضع نصب، لأن موجب النصب المفعولية وهي محققة، وموجب الجر الإضافة وهي غير محققة، إذ لا دليل عليها إلا حذف التنوين ونون التثنية والجمع ولحذفها سبب غير الإضافة وهو صون الضمير المتصل من وقوعه منفصلا، وهذه شبهة تحسب قوية وهي ضعيفة؛

لأن النصب الذي تقتضيه المفعولية لا يلزم كونه لفظيا، بل يكتفى فيه بالتقدير، ولذلك جاز أن تزاد بعض حروف الجر مع بعض المفعولات نحو (ردفَ لكم) وخشّنت بصدره، ولولا ذلك لامتنعت إضافة اسم الفاعل إلى المفعول به الظاهر، وأيضا فإن عمل الأسماء النصب أقلّ من عملها الجر، فينبغي عند احتمال النصب والجر في معمول اسم أن يحكم بالجر حملا على الأكثر. وأما جعل حذف التنوين والنون لصون الضمير المتصل من وقوعه منفصلا فمستغنى عنه لوجهين: أحدهما أن حذفه للإضافة محصّل لذلك فلا حاجة إلى سبب آخر. الثاني أن مقتضى الدليل بقاء الاتصال بعد التنوين ونوني التثنية والجمع، لأن نسبتها من الاسم كنسبة نون التوكيد من الفعل، واتصال الضمير لا يزال بنون التوكيد، فكذلك لا يزول بالتنوين ونوني التثنية والجمع ولو قصد النصب. وقد نبّهوا على جواز ذلك باستعماله في الشعر بقول الشاعر: هم القائلونَ الخيرَ والآمِرونه ... إذا ما خَشوا من مُحْدَث الأمرِ مُعْظما ومثله قول الآخر: ولم يرتفقْ والناسُ مُحتَضِرونَه ... جميعًا وأيْدي المُعْتفين رَواهِقُهْ ويتعين غالبا نصب معمول اسم الفاعل إذا انفصل ظاهرا كان كقوله تعالى: (إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً) أو مضمرا كالهاء التي بعد الكاف في قول الشاعر: لا تَرْجُ أو تخشَ غير الله إنّ أذًى ... واقِكَهُ اللهُ لا ينفكُّ مأمونا ومن هذين المثالين وأشباههما احترزت بذكر "متصلا" بعد قولي "إن كان ضميرا" ثم قلت: "وشذّ فصل المضاف إلى ظاهر بمفعول أو ظرف" فنبهت

بذلك على قراءة بعض القراء (فلا تحسبنَّ الله مخلفَ وعده رُسُلِه) وعلى قول الشاعر: وكرّارِ خلفِ المُجْحريْن جوادَه ... إذا لم يُحام دون أنثى حليلُها وعلى قول الراجز: رُبَّ ابن عَمٍ لسُلَيْمى مَشمَعِلّ ... طباخِ ساعات الكرى زاد الكسِلْ ثم نبهت على أن المقرون بالألف واللام يجوز أن يضاف إذا كان مثنى أو مجموعا على حده إلى المفعول به مطلقا، وإن لم يكن مثنى ولا مجموعا على حده لم يضف إلّا إلى معرف بالألف واللام، أو إلى مضاف إلى المعرف بهما، أو إلى ضمير المعرف بهما؛ فالأول كقول الشاعر: إنْ يغْنيا عنِّي المُسْتوطِنا عَدَنٍ ... فإنّني لستُ يومًا عنهما بِغَنِي والثاني كقوله: ليس الأخلاءُ بالمُصْغِي مسامِعهم ... إلى الوشاةِ ولو كانوا ذَوي رحمِ والثالث كقول الآخر: أبأنا بها قتلى وما في دمائها ... وفاءٌ وهُنّ الشّافيات الحوائمِ والرابع كقول الآخر:

لقد ظفِرَ الزوّارُ أقفيةِ العِدى ... بما جاوز الآمالَ مِ القتلِ والأسْر والخامس كقول الشاعر: الودُّ أنتِ المُسْتَحقةُ صفْوِه ... منّي وإنْ لم أرْجُ منكِ نَوالا وأجرى الفراء العلم وغيره من المعارف مجرى ذي الألف واللام في الإضافة إليه، فيقال على مذهبه: هذا الضارب زيد والضارب عبده والمكرم ذينك والمعين اللذين نصراك، ولا مستند له في هذا من نثر ولا نظم وله من النظر حظ؛ وذلك بأن تقدر الإضافة قبل الألف واللام، وهي إضافة كلا إضافة، إذ هي لمجرد التخفيف، فلم يمنع لحاق الألف واللام عند قصد التعريف، فإن مانع اجتماعهما مع الإضافة إنما هو توقّي اجتماع معرّفَين وهو مأمون فيما نحن بصدده، فلم يضر جوازه، ولا يلزم من ذلك جواز الحسن وجهِه، لأن المضاف والمضاف إليه فيه وفيما أشبهه شيء واحد في المعنى، فحقه أن يمنع هو وغيره مما إضافته كإضافته، إلا أنّ المستعمل مقبول وإن خالف القياس. وما خالف القياس ولم يستعمل تعيّن اجتنابه كالحسن وجهِه. وزعم الزمخشري أن كاف المكرمك وشبهه في موضع جر مع منعه جر الظاهر الواقع موقعه. وقد تقدم في قولي أن الظاهر أصل والمضمر نائب عنه، ولا ينسب إلى النائب مالا ينسب إلى المنوب عنه، فمذهب الزمخشري في هذا ضعيف، وقد سبقه إلى ذلك الرماني والمبرد، إلا أن المبرد رجع عن ذلك، كذا قال ابن السراج. والحاص أنّ الضمير المتصل باسم الفاعل مقرون بالألف واللام غير مثنى ولا مجموع على حده منصوب على مذهب سيبويه والأخفش، مجرور على مذهب الفراء وعلى مذهب الرماني والزمخشري، إلا أن في مذهبهما مخالفة النائب للمنوب عنه، ومذهب الفراء سالم من ذلك. وهما يلتزمان الحكم بالجر والفراء يجيز النصب والجر، كما أجازهما في زيد ونحوه من: هو الضارب زيدا. وأما الضمير في نحو جاءك الزائراك والمكرموك فجائز فيه الوجهان بإجماع، لأنهما جائزان في الظاهر الواقع موقعه. ويجوز جر المعطوف في نحو جاء الضارب الغلام والجارية، والطالب العلم وأدب

الأبرار، لأنه صالح للوقوع في موضع المعطوف عليه. وكذلك نحو جاء المشتري الناقة وفصيلها جائز أيضا؛ لأنه بمنزلة جاء المشتري الناقة وفصيل الناقة؛ لأن الضمير عائد عليها. ومثله قول الشاعر: الواهبُ المائة الهجان وعبدِها ... عُوذا تُزجِّي أطفالُها فجاز هذا، لأنه بمنزلة الواهب المائة وعبد المائة. فالمسائل الثلاثة جائزة بلا خلاف. فإن كان المعطوف كزيد مما لم يقرن بالألف واللام ولم يضف إلى مقرون بهما ولا إلى ضمير المقرون بهما فإن سيبويه يجيز جره أيضا، ومنع ذلك أبو العباس وهو المختار عند أبي بكر بن السراج، وهو عندي أصح القولين، لأن العاطف كالقائم مقام العامل في المعطوف عليه. واسم الفاعل المقرون بالألف واللام على مذهب سيبويه وغيره من البصريين لا يجر زيدا ونحوه، فلا يصح أن يعطف على المجرور به، ولا حجة في نحو رب رجل وأخيه و: أيُّ فتى هيْجاء أنتَ وجارِها لأنهما في تقدير رب رجل وأخ له، وأي فتى هيجاء أنت وجارٍ لها. ومثل هذا التقدير لا يتأتى فيما نحن بسبيله فلا يصح جوازه. ص: "يعمل اسم المفعول عمل فعله مشروطا فيه ما شرط في اسم الفاعل، وبناؤه من الثلاثي على زنة مفعول ومن غيره على زنة اسم فاعله مفتوحا ما قبل آخره، ولم يستغن فيه بمفعول عن مفعَل. وقد ينوب عن مفعول فِعْل أو فَعْل أو فُعْلة أو فعيل، وهو مع كثرته مقصور على السماع. وجعله بعضهم مقيسا فيما ليس [له] فعيل بمعنى فاعل. وقد يصاغ بقصد المفعولية من أفعل".

ش: الهاء من قولي عمل فعله عائدة على المفعول، فكأنه قيل يعمل اسم المفعول عمل فعل المفعول أي عمل الفعل الذي لم يسم فاعله، فيقال هذا مذهوب به، ومضروب عنده، ومعطى ابنه درهما، ومعلم أخوه زيدا صديقك، كما يقال ذُهب به، وضُرب عنده، وأعطى ابنه درهما، وأعلم أخوه زيدا صديقك. ويشترط في إعمال ما شرط في إعمال اسم الفاعل من اعتماد على صاحب مذكور أو منوي أو على نفي صريح أو مؤول أو على استفهام موجود أو مقدر أو غير ذلك. ومن إعماله معتمدا على مقدر قول الشاعر: فهنَّ مِن بين مَتْروك به رَمَقٌ ... صرعى وآخر لم يُتْرَك به رَمَقُ ومثله: ونحن تَرَكْنا تغلبَ ابنةَ وائِل ... كمَضْروبة رجلاه مُنْقَطِع الظّهر وبناؤه من الثلاثي على زنة مفعول نحو علم فهو معلوم، ومن الرباعي والخماسي والسداسي على زنة اسم فاعله مفتوحا ما قبل آخر نحو مُدحرَج ومجتذَب ومستفهَم ما لم يستغن فيه بمفعول عن مُفعَل كمزكوم ومحموم ومحزون، ومنه محبوب في الأكثر. وقد نبهت على ذلك فيما مضى. ومثال فِعْل النائب عن مفعول ذِبْح وطِرْح وطِحْن بمعنى مذبوح ومطروح ومطحون. ومثال فَعْل لَفْظ ولَقْط ونَفْض وقَبْض، بمعنى ملفوظ وملقوط ومنفوض ومقبوض. ومثال فُعْلة أُكلَة ولُقْمة ومُضغة وغُرْفة وحُرْقة. ومثال فعيل خبيء وجريح وكليم وصريع وأخيذ، وقتيل وأسير ودهين وخضيب ولديغ وغسيل ودقيق وفعيل هذا مع كثرته مقصور على السماع، وجعله بعضهم مقيسا فيما ليس له فعيل بمعنى فاعل كقتيل، لا فيما له فعيل بمعنى فاعل. وقد يصاغ فعيل بقصد المفعولية من أفعل، فمن ذلك قولهم أعقدت العسل فهو عقيد. وأعلّ الله فلانا فهو عليل.

باب الصفة المشبهة باسم الفاعل

باب الصفة المشبهة باسم الفاعل ص: وهي الملاقية فعلا لازما ثابتا معناها تحقيقا أو تقديرا قابلة للملابسة والتجرد والتعريف والتنكير بلا شرط. ش: احترز بالملاقية فعلا من نحو قرشيّ وقتّات، وبكون الفعل الذي تلاقيه لازما من نحو عارف وجاهل، وبالثابت معناها من نحو قائم وقاعد، ونبه بتقدير الثبوت على متقلب ونحوه، واحترز بقبول الملابسة والتجرد من أب وأخ ونحوهما. وبقبول التعريف والتنكير بلا شرط من أفعل التفضيل. ص: وموازنتها للمضارع قليلة إن كانت من ثلاثي، ولازمة إن كانت من غيره، ويميّزها من اسم فاعل الفعل اللازم اطراد إضافتها إلى الفاعل معنى. ش: إذا كانت الصفة المشبهة مصوغة من فعل ثلاثي فالغالب كونها غير موازنة للفعل المضارع كضخم الجثة ولين العريكة وعظيم المقدار وحسن السيرة وخشن البشرة، ويقظان القلب، وألمى الشفة. وقد توازن المضارع، كضامر البطن وساهم الوجه وخامل الذكر وحائل اللون وظاهر الفاقة وطاهر العرض. وإذا كانت مصوغة من غير ثلاثي فلا بد من موازنتها المضارع كمنطلق اللسان ومطمئن القلب ومستسلم النفس، ومغدودن الشعر، ومتناسب الشمائل. ويميزها من اسم الفاعل إمكان إضافتها إلى ما هو فاعل في المعنى كما رأيت من إمكان ذلك في منطلق وما بعده. فيخرج بهذا اسم الفاعل الذي لا يتعدى ولم يصلح أن يضاف إلى ما هو فاعل في المعنى كماشٍ وجالس ومنطلق إلى كذا ومستكين ومبسمل ومتجاهل. ص: وهي إما صالحة للمذكر والمؤنث معنى ولفظا، أو معنى لا لفظا أو

لفظا لا معنى، أو خاصة بأحدهما معنى ولفظا. فالأولى تجرى على مثلها وضدّها، والبواقي تجرى على مثلها لا ضدها خلافا للكسائي والأخفش". ش: الصالحة للمذكر والمؤنث معنى ولفظا كحسن، فإن لكل واحد من المذكر والمؤنث نصيبا من لفظها ومعناها، فمذكرها يجرى على مثله نحو مررت برجل حسن بشره، وعلى ضده نحو مررت بامرأة حسن بشرها ومؤنثها يجرى على مثله نحو مررت بامرأة حسنة صورتها، وعلى ضده نحو مررت برجل حسنة صورته. والصالحة للمذكر والمؤنث معنى لا لفظا كعجزاء، وهي المرأة العظيمة العجز، فهذه صفة للمذكر نصيب من معناها لا لفظها، إذ لا يقال للرجل العظيم العجز أعجز، وإنما يقال له آلى. والصالحة لهما لفظا لا معنى كأتوم، وهي المرأة التي اختلط مسلكها، فلفظها صالح للمذكر والمؤنث، ولا نصيب للمذكر في معنى هذه الصفة، بل هو خاص بالمؤنث، والصفة الخاصة بأحدهما معنى ولفظا كأكمر وهو الرجل الكبير الكمرة وهي رأس الذكر فهي صفة لا نصيب للمؤنث في معناها ولا لفظها، بل هي خاصة بالمذكر معنى ولفظا. وتقابلها العَفلاء وهي المرأة التي في رحمها صلابة مانعة من الجماع تسمى عَفِلة، فالعَفْلاء في الاختصاص بالمرأة كالأكمر في الاختصاص بالرجل. فهذه الصفات الثلاث تجرى على مثلها ولا تجرى على ضدها، فيقال مررت بامرأة عجزاء أمتها أتوم جاريتها عفلاء كنَّتها، ولا يقال مررت برجل عجزاء أمته ولا نحو ذلك. وأجازه الكسائي والأخفش. فصل: ص: معمول الصفة المشبهة ضمير بارز متصل، أو سببي موصول، أو موصوف يشبهه، أو مضاف إلى أحدهما، أو مقرون بأل أو مجرد أو مضاف إلى ضمير الموصوف لفظا أو تقديرا، أو إلى ضمير مضاف إلى مضاف إلى ضمير الموصوف. ش: مثال الصفة التي معمولها ضمير قول الشاعر:

حَسَنُ الوجهِ طَلْقُهُ أنتَ في السّلـ ... ـــم وفي الحرب كالحٌ مكْفهِر ومثال التي معمولها موصول سببي قول عمر بن أبي ربيعة: أسيلاتُ أبْدانٍ دقاقٍ خُصورُها ... وثيراتُ ما التفّت عليها المَلاحِفُ وفي هذا البيت أيضا أسيلات أبدان، وهو نظير حسن وجهٍ، ودقاق خصُورها، وهو نظير حسن وجهُه. ومثال التي معمولها موصوف يشبه الموصول قوله: أزورُ امرأً جمًّا نوالٌ أعدَّه ... لمَن أمَّه مسكتفيا أزمةَ الدّهر ومثال التي معمولها مضاف إلى أحدهما قول الشاعر: فعجتُها قِبلَ الأخْيارِ منزلةً ... والطيّبي كِل ما التاثتْ به الأُزُرُ ومثال التي معمولها مقرون بأل قوله تعالى (والله سريع الحساب) وقال ابن رواحة رضي الله عنه: تباركتَ إنّي من عذابك خائفٌ ... وإني إليكَ تائبُ النفسِ ضارعُ ومثال التي معمولها مجرد قول الشاعر: إذا المرءُ لم يَبْرحْ سريعَ إجابةٍ ... لداعي الهوى لم يَعْدِمْ الضُّرَّ والشّكوى ومثال التي معمولها مضاف إلى ضمير الموصوف قوله تعالى (ومَن يكتمها فإنه آثِمٌ قلبُه) ومثال المضاف إلى مضاف إلى ضمير الموصوف لفظا قول

الشاعر: تراهِنّ مِن بعد إسآدها ... وشدّ النهارِ وتدآبها طوال الأخادِع خوصُ العيون ... خماصًا مواضعُ أحْقابها ومثال المضاف إلى مضاف إلى ضمير الموصوف تقديرا قول الفرزدق: أأطعمتَ العراقَ ورافدَيْه ... فزارِيّا أحذّ يدِ القميصِ أراد أخذّ يد قميصه، فأقام أل مقام الضمير. وقد اجتمع هذا والذي قبله في قوله: إن كثيرًا كثير فضل نائِله ... مرتفعٌ في قريش مُوقِدُ النار ومثال المضاف إلى ضمير مضاف إلى ضمير الموصوف مررت بامرأة حسنة وجه جاريتها جميلة أنفه، فالأنف معمول جميلة، وهو مضاف إلى ضمير الوجه، والوجه مضاف إلى الجارية والجارية مضاف إلى ضمير المرأة، فالأنف مضاف إلى ضمير مضاف إلى مضاف إلى ضمير الموصوف. ص: وعملها في الضمير جر بالإضافة إن باشرته وخلت من أل، ونصب على التشبيه بالمفعول به إن فصلت أو قرنت بأل. ويجوز النصب مع المباشرة والخلو من "أل" وفاقا للكسائي. وعملها في الموصول والموصوف رفع ونصب مطلقا، وجرّ إن خلت من أل وقصدت الإضافة. وإن وليها سببيّ غير ذلك عملت فيه مطلقا رفعا ونصبا وجرّا، إلا أن مجرور المقارنة بأل مقرون بأل أو مضاف إلى المقرون بها أو إلى ضمير المقرون بها، ويقل نحو حسن وجهِه وحسنٌ وجهَه وحسن وجهٌ، ولا يمتنع خلافا لقوم.

ش: إذا جررت بالصفة المتصل بها ضمير بارز، فقد تقصد إضافتها إليه وقد لا تقصد؛ فإن قصدت حكم بالجر، وإن لم تقصد حكم بالنصب على التشبيه بالمفعول به. وإنما يمكن القصدان والمفعول ضمير إذا كانت الصفة غير متعرفة نحو: رأيت غلاما حسن الوجه أحمره، فالحكم على الهاء بالجر بالإضافة، وبالنصب على التشبيه بالمفعول به جائز عند الكسائي، والجر عند غيره متعيّن، ومذهب الكسائي وهو الصحيح، لأنه روي عن بعض العرب: لا عهد لي بألأم منه عمّا ولا أوضعَه، بفتح العين. وبمثل هذا يظهر الفرق من قصد الإضافة وغيرها. وعلى هذا يقال إذا قصدت الإضافة مررت برجل أحمر الوجه لا أصفره إلا أن هذا الوجه لم يجزه من القوم [إلا] الكسائي. ومما يؤيد قوله ما أنشده ثعلب من قول الشاعر: فإنْ يكُنِ النكاح أحلَّ شيءٍ ... فإنَّ نِكاحَها مَطَرٍ حرامُ بجرّ مطر – وهو اسم رجل – وجرُّه يدل على نصب الضمير مع اتصاله بالمضاف، فعلم بهذا جواز نصب الضمير المتصل بما يصلح أن ينصب الظاهر أو يجرّه. ولو قرنت بأل الصفة المتصل بها الضمير تعين الحكم بالنصب نحو مررت بالغلام الحسن الوجه الأحمره. والظاهر من كلام الفراء جواز الجر وترجيحه على النصب، فإنه قال في معاني سورة الحج: فإذا أضافوا إلى مكنى قالوا أنت الضاربه وأنتما الضارباه، فالهاء خفض، ولو نويت بها النصب كان وجها، هذا نصه. فحكم على الهاء من الضاربه بالجر والنصب ورجّح الجرّ، والهاء في الأحمره كذلك، ولكن هي في النصب مع الضارب مفعول بها، ومع الأحمر وشبهه مشبه بالمفعول به. وحكى ابن السراج أن المبرد حكم بالجر ثم رجع إلى النصب وفاقا لسيبويه، فالنصب على مذهبه متعيّن. ويتعين النصب بلا خلاف في الضمير الذي انفصلت الصفة منه بضمير آخر

كقولك: قريش نجباء الناس ذرية وكرامهموها. والأصل في صحة هذا الاستعمال ما روى الكسائي من قول بعض العرب: هم أحسن الناس وجوها وأنضرهموها. وإذا ولى الصفة المشبهة سببي موصول أو موصوف عملت فيه الرفع أو النصب مطلقا، أي مقرونة بأل أو غير مقرونة، فمثال المقرونة قول الشاعر: إنْ رُمتَ أمْنًا وعزة وغِنى ... فاقْصِدْ يزيد العزيزَ من قصده فيجوز أن يحكم على "من" بالرفع على الفاعلية، وبالنصب على التشبيه بالمفعول به. ومثال غير المقرونة الجائز كونها رافعة الموصول وناصبته قول الشاعر: عزّ امرؤ بطل مَن كان معتصِما ... به ولو أنَّه من أضعف البشَر فيجوز كون "مَن" مرفوعة المحل على الفاعلية ومنصوبة على التشبيه بالمفعول به، ولو استقام الوزن بالإضافة لجازت كما جازت في قول الآخر: وثيراتُ ما التفتْ عليه الملاحف ولو استقام الوزن بتنوين وثيرت لجاز الحكم على "ما" بالرفع والنصب، كما حكم بهما على [من بعد] بطل. ونبهت بقولي: "وإن وليها سببي غير ذلك عملت فيه مطلقا رفعا ونصبا وجرا" على أنها إذا قصد إعمالها في غير الضمير والموصول والموصوف الذي يشبهه، فإما أن تكون مجردة من أل، وإما أن تكون مقرونة بها ومعمولها إما مقرون بأل وإما مضاف وإما مجرد. وهو في أحواله الثلاثة مع المجردة مرفوع بالفاعلية أو مجرور بالإضافة، أو منصوب على التمييز إن كان نكرة، وعلى التشبيه بالمفعول به إن كان معرفة، وكذلك هو مع المقرونة بأل، إلا أن عمل المقرونة الجر مشروط باقتران معمولها بأل أو إضافة إلى المقرون بها أو إلى ضمير المقرون بها. وأمثلة المجردة في الرفع رأيت رجلا جميلا الوجهُ، ووجهُه، وجميلا وجهُ الأب،

ووجهُ أبيه، ووجه أب، وأمثلتها في النصب رأيت رجلا جميلا وجها، ووجهَه، والوجهَ، وجميلا وجهَ أب ووجهَ الأب. وأمثلتها في الجر رأيت رجلا جميل وجهٍ وجميل وجهِه، والوجهِ، وجميل وجه أب ووجه أبيه ووجه الأب. وأمثلة المقرونة بأل في الرفع رأيت الرجل الجميل الوجهُ ووجهُه ووجهٌ، ورأيت الرجل الجميل وجُه الأب ووجهُ أبيه ووجهُ أب. وأمثلتها في النصب رأيت الرجل الجميل وجها ووجهَه والوجهَ، ورأيت الرجل الجميل وجهَ أب ووجهَ الأب. وأمثلتها في الجر رأيت الرجل الجميل الوجهِ، وعمرا الكريم حسبِ الآباء، البيّن سُودَدِهم ونحو هذا المثال نادر كقول الشاعر: سبتْني الفتاةُ البضّةُ المتجرَّد الـ ... لطيفةُ كَشْحِه وما خِلْتُ أنْ أُسْبَى ونحو حسن وجهِه، وحسن وجهَه قليل غير ممتنع، وكذا حسن وجهٌ. ومن أمثال مررت برجل حسن وجهِه ما في الحديث من وصف الدجال "أعور عينِه اليمنى"، وما في حديث أم زرع من قوله "صفر وشاحها" وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم "شثن أصابعه" وقال أبو علي القالي في حديث علي رضي الله عنه يصف النبي صلى الله عليه وسلم "كان ضخم الهامة كثير شعر الرأس شثن الكفين والقدمين طويل أصابعه ضخم الكراديس". فهذه أربعة شواهد من أفصح الكلام الذي لا ضرورة

فيه تدل على صحة استعمال مررت برجل حسن وجهِه. وقد أجاز ذلك الكوفيون في نثره ونظمه، ومنع سيبويه جوازه في غير الشعر، ومنعه المبرد مطلقا، والصحيح ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه مطلقا. وأما رأيت رجلا حسنا وجهَه فهو مثل قراءة بعض السلف (فإنه آثم قلبَه) بالنصب، ومثله ما أنشد الكسائي من قول الراجز: أنْعَتُها إنّيَ من نُعاتِها ... مُدارةَ الأخفاف مُحْمرّاتِها غلبَ الذفارى وعِفرنياتها ... كُومَ الذرَى وادِقةً سرّاتِها فانتصاب سراتها بوادقة كانتصاب وجه بحسن. وأما نحو مررت برجل حسن وجهٌ فمنعه أكثر البصريين. وهو عند الكوفيين جائز، وبجوازه أقول. ويدل على جوازه قول الراجز: ببهمة منيت شهم [قلب] ... منجّذ لا ذي كهَمام ينبو ومثله ما أنشد الفراء عن بعض العرب: بثوب ودينارٍ وشاةٍ ودِرْهم ... فهل أنتَ مرفوعٌ بما ههنا رأسُ وقال ابن خروف في مررت برجل حسن وجهٌ والحسن وجه لا سبيل إلا إلى جوازها بقول الراجز وبما أنشده الفراء، فلا مبالاة بمن منع. ونظير رأيت [رجلا] جميلا الوجه قول النابغة: ونأخُذْ بعدَه بذِناب عيشٍ ... أجبّ الظهرُ ليس له سنامُ

على رواية مَن رفع الظهر، ويروى بالنصب فيكون نظيرَ رأيت رجلا جميلا الوجه. ويروى بكسر الباء والراء على الإضافة، فيكون نظير مررت برجل حسن الوجه، ومثله في احتمال أوجه ثلاثة قول الشاعر: لقد علم الأيقاظُ أخفيةَ الكرى ... تَزَجُّجَها من حالكٍ واكْتِحالها فمن رفع جلعه نظير الحسن وجهُ الأب، ومن نصب جعله نظير الحسن وجهَ الأب، ومن جرّ جعله نظير الحسن وجهِ الأب. ومثلهما في احتمال ثلاثة أوجه قول الأغلب العجلي: ليستْ بكَرْواءَ ولا بمُدَحْدَح ... ولا من السود القصار الزُّمَّح ... قبّاءُ غرْثى موضِع المُوَشّح فمن رفع موضع الموشح فبالفاعلية، ونظيره حسن وجهُ الأب، ومن نصب فعلى التشبيه بالمفعول به ونظيره حسن وجهَ الأب، ومن جرّ فبالإضافة ونظيره حسن وجهِ الأب. ومثله في احتمال الأوجه الثلاثة قول الآخر: ومنهلٍ أعورِ إحدى العينين ... بَصيرِ أخرى وأصمّ الأذنَيْن فمن كسر راء أعور أضافه إلى إحدى وجعله نظير حسن وجه الأب، ومن فتح جاز له أن يرفع إحدى بالفاعلية، ويجعله نظير حسنا وجه الأب، وأن ينصبه على التشبيه بالمفعول به، ويجعله نظير حسنا وجه الأب. وبصير أخرى نظير حسن وجه، وأصم الأذنين نظير حسن الوجه. ونظير حسن وجه أيضا قول الشاعر: ألِكْني إلى قوم السلامَ رسالةً ... بآيةِ ما كانوا ضِعافا ولا عُزْلا ولا سيّئي زِيٍّ إذا ما تَلَبَّسوا ... إلى حاجةٍ يوْما مُخَيّسة بُزْلا

ونظير حسن وجه الأب قول الخرنق: لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هم ... سَمّ العُداة وآفة الجُزُر النازلين بكُلّ مُعْتَركٍ ... والطّيّبون معاقِدَ الأُزُرِ ونظير حسن وجه الأب دون احتمال قول عروة بن الورد: وما طالبُ الأوْتارِ إلّا ابنُ حُرّة ... طويلُ نجادِ السيفِ عاري الأشاجع ومثل غرثى موضع الموشح وأعور إحدى العينين، في موافقة حسن وجهُ الأبِ وحسن وجهَ الأبِ قول الفرزدق: أأطْعَمْتَ العراقَ ورافدَيْه ... فزارِيًّا أحذّ يَدَ القميص ونظير الحسن وجها: الحَزْنُ بابًا والعَقورُ كَلْبا ونظير الحسن الوجه: وما قَومْي بثعلبةَ بن سعدٍ ... ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرقابا ومثله:

مِن وَليّ أو أخِي ثِقَةٍ ... والبعيد الشاحِطِ الدّارا ونظير حسن وجها: هيفاءُ مقبلةً عَجْزاءُ مُدْبرةً ... مَحْطوطةٌ جُدِلتْ شَنْباءُ أنيابا ونظير حسن وجهه قول الشماخ: أمِنْ دِمْنَتَين عرّسَ الركبُ فيهما ... بحقل الرَّخامى قد عفا طَللاهما أقامتْ على ربْعيهما جارتا صَفًا ... كميتا الأعالي جَوْنتا مُصْطَلاهما والضمير في مصطلاهما للأثفيتين المعبّر عنهما بجارتين فوصفهما بسواد أسفليهما وحمرة أعلييهما. وزعم المبرد أن الضمير عائد على الأعالي وجاء بلفظ التثنية لأن الأعالي جمع في اللفظ مثنى في المعنى، كما يقال قلوبكما نورهما الله، وهذا صحيح في الاستعمال منافر للمعنى، لأن مصطلى الأثفية أسفلها، فإضافته إلى أعلاها بمنزلة إضافة أسفل إليه؛ وأسفل الشيء لا يضاف إلى أعلاه، ولا أعلاه إلى أسفله، بل يضافان إلى ماهما له أسفل وأعلى. فصل: ص: إذا كان معنى الصفة لسابقها رفعت ضميره وطابقته في إفراد وتذير وفروعهما ما لم يمنع من المطابقة مانع. وكذلك إن كان معناها لغيره ولم ترفعه. فإن رفعته جَرت في المطابقة مجرى الفعل المسند، وإن أمكن تكسيرها حينئذ مسندة إلى جمع فهو أولى من إفرادها. وتثنى وتجمع جمع المذكر السالم على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة". وقد يعامل غير الرافعة ما هي له إن قرن بأل معاملتها إذا

رفعته. وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه مالم يقدر الوقوع. وإن قصد ثبوت معنى اسم الفاعل عومل معاملة الصفة المشبهة، ولو كان من متعدّ إن أمن اللبس وفاقا للفارسي. والأصح أن يجعل اسم مفعول المتعدي إلى واحد من هذا الباب مطلقا. وقد يفعل ذلك بجامد لتأوله بمشتق. ش: الصفة التي معناها لسابقها نحو مررت برجل حسن وبرجلين حسنين وبرجال حسنين أو حسان، وبامرأة حسنة وبامرأتين حسنتين وبنساء حسنات أو حسان، فمعنى هذه الصفات لما سبق من رجل ورجلين ورجال وامرأة وامرأتين ونساء فجيء بها مطابقة ونوى معها ضمائر موافقة. واحترزت بقولي ما لم يمنع من المطابقة مانع من صفة اشترك فيها المذكر والمؤنث كثيب وربعة، ومما وقع فيها الاشتراك مطلقا كجُنُب، ومما يخص المذكر أو المؤنث لفظا ومعنى، أو لفظا لا معنى، أو معنى لا لفظا. وقد نبهت على ذلك في صدر هذا الباب. ثم نبهت بقولي وكذا إن كان معناها لغيره ولم ترفعه، على أنه يقال مررت برجلين حسني الغلمان، أو حسنين غلمانا، ورجال حسان الغلمان أو حسان غلمانا وبامرأة حسنة الغلام أو حسنة غلاما، وبنساء حسنات الغلمان، أو حسنات غلمانا، فيجاء بهذه الصفات مطابقة لما قبلها، وإن كان معناها لما بعدها لأنها لم ترفعه، وإنما رفعت ضمائر ما قبلها فجرت مجرى ما هي لما قبلها معنى ولفظا. فلو رفعت ما بعدها لم تطابق ما قبلها، بل تعطى ما يعطى الفعل المؤدي معناها إذا وقع موقعها، فيقال مررت برجلين حسن غلاماهما، وبرجال حسن غلمانهم، كما يقال حسُنَ غلاماهما، وحسن غلمانهم، وحسن غلامها وحسنت جاريته وحسن غلمانهنّ. والأحسن فيما فاعلها جمع أن تجمع جمع تكسير كقولك مررت برجال حسان غلمانهم. ومن لغته أن يقدم على الفاعل علامة تثنيته وجمعه فيقول مررت برجلين حَسُنا غلاماهما، ورجال حسنوا غلمانهم، فإنه يقول: مررت برجلين حسنين

غلاماهما، وبرجال حسنِين غلمانهم. وعلى هذا نبهت بقولي وتثنى وتجمع جمع المذكر السالم على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة". ثم قلت: وقد تعامل غير الرافعة ما هي له إن قرن بأل معاملتها إذا رفعتهن فأشرت بذلك إلى أنه قد يقال مررت برجل حسنةٍ العين كما يقال حسنت عينه. وحكى ذلك الفراء في معاني سورة "ص" قال: العرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة فيقولون مررت على رجل حسنةٍ العين قبيحٍ الأنف، والمعنى حسنة عينه، قبيح أنفه. قلت: فعلى هذا يقال مررت برجل حسان الغلمان، وبرجل كريمة الأم، وبامرأة كريم الآباء وكريم الأب، كما يقال مررت برجال حسان غلمانهم وبرجل كريمة أمه وبامرأة كرام آباؤها وكريم أبوها ومنه قول الشاعر: أيا ليلةً خُرْسَ الدَّجاجُ سَهرتُها ... ببغدادَ ما كادتْ عن الصُّبْح تَنْجلي فقال خُرس الدجاج كما يقال خرساء دجاجها. ومثله قول الآخر: فماحت به غرَّ الثنايا مفلّجا ... وسيمًا جلا عنه الظلام موشّما أراد فمًا غر الثنايا، فجمع مع الألف واللام، كما يجمع مع الضمير إذا قيل فماحت فمًا غُرًا ثناياه. ومثله قول الآخر في وصف عقاب: تأوي إلى قُنُّة خلقاءَ راسيةٍ ... حُجْن المخالبِ لا يغتالُها الشِبَع

فقال حجن المخالب، كما يقال حجن مخالبها، أي لا يغتالها فقد الشبع. ومن وقوع الألف واللام خلفا عن الضمير في غير هذا الباب قوله تعالى (فأمّا مَن طغى* وآثر الحياة الدُّنيا * فإنَّ الجحيم هي المأوى * وأمّا من خاف مقامَ ربِّه ونهى النَّفس عن الهوى * فإنّ الجنّة هي المأوى). ومن ذلك قول الأعشى القيسي: وأمّا إذا ركبُوا فالوجُو ... هـ في الرَّوْع مِن صدأ البيضِ حُمّ أي فوجوههم، فجعل الألف واللام خلفا عن الضمير، ومن ذلك قول الآخر: ولكن نرى أقدامنا في نعالكم ... وآنفنا بين اللحى والحواجب أي بين لحاكم، فجعل الألف واللام خلفا عن الضمير. ومن ذلك قول ذي الرمة: تخلّلنَ أبوابَ الخدور بأعْيُنٍ ... غرابيب والألوانُ بيضٌ نواصِعُ وقد سوّى سيبويه بين ضُرب زيد ظهره وبطنه وضُرب زيد الظهر والبطن، وبين مطرنا سهلنا وجبلنا ومطرنا السهل والجبل. فالظاهر من قوله أنه موافق لقول الفراء، وليس هذا على تقدير "منه" إذ لو كان ذلك لاستوى وجود الألف واللام وعدمها، كما استويا في مثل البر الكرّ بستين، فكان يجوز أن يقال ضُرب زيد ظهر وبطن ومطرنا سهل وجبل، كما جاز أن يقال البر الكر بستّين، والتمر منوان بدرهم، لأن البعضية مفهومة مع عدم الألف واللام، كما هي مفهومة مع وجودهما. ومن الاستغناء عن الضمير بالألف واللام قوله تعالى (وإنّ للمتقين لحسن

مآب * جنّاتِ عدْن مُفَتّحةً لهم الأبوابُ). أي مفتحة لهم أبوابها. وزعم بعضهم أن الأبواب بدل من ضمير مستكن في مفتحة. وهذا لا ينجيه من كون الألف واللام خلفا عن الضمير؛ لأن الحاجة [إليه] في الإبدال كالحاجة إليه في الإسناد. وقول الفراء العرب تقول لمن لم يمت إنك مائت عن قليل، ولا يقولون لمن قد مات هذا مائت إنما يقال في الاستقبال. وكذا يقال هذا سيّد قومه، فإذا أخبرت أنه سيسودهم قلت هو سائد قومه عن قليل. وكذا الشرف والطمع وأشباههما إذا قصد بهما الاستقبال صيغت على فاعل. وإلى هذا أشرت بقولي: وإذا قصد استقبال المصوغة من ثلاثي على غير فاعل ردت إليه بصيغة فاعل. ومن هذا الردّ قوله تعالى: (فلعلّك تاركٌ بعضَ ما يُوحى إليك وضائقٌ به صدرُك) وعلى هذا المعنى قراءة بعض السلف (إنك مائت وإنهم مائتون) والمعنى على قراءة الجماعة وإنك وإياهم وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى، لأن ما هو كائن فكأن قد كان، وهذا شبيه بـ (أتى أمرُ الله فلا تستعجلوه) وعلى هذا نبهت بقولي: ما لم يقدر الوقوع. ومن الردّ إلى فاعل بقصد الاستقبال قول الحكم بن صخر: أرى الناسَ مثل السَّفر والموتُ منهلٌ ... له كلَّ يومٍ واردٌ ثم واردُ إلى حيثُ يشفي اللهُ من كان شافيا ... ويَسْعَدُ مَن في علمه هو ساعدُ ومثله قول قيس بن العيزاره: فقلتُ لكَمْ شاةٍ رعيتُ وجاملٍ ... فكلُكُم من ذلك المالِ شابعُ وأشرت بقولي: وإن قصد ثبوت معنى اسم الفاعل عومل معاملة الصفة المشبهة،

إلى أنّ قصد ثبوت معنى اسم الفاعل يسوّغ إضافته إلى ما هو فاعل في المعنى، ونصبه إياه على التمييز إن كان نكرة، وعلى التشبيه بالمفعول به إن كان معرفة بشرط السلامة من اللبس. فيقال زيد ظالم العبيد خاذلهم، راحم الأبناء ناصرهم، إذا كان له عبيد ظالمون خاذلون، وأبناء راحمون ناصرون. قال أبو علي في التذكرة: من قال زيد الحسن عينين فلا بأس أن تقول زيد الضارب أبوين، والضارب الأبوين، والضارب الأبوان. والأبوان فاعل على قولك الحسن الوجهُ، الأمر في ذلك كله واحد. ومثله الضارب الرجل إذا أردت الضارب رجله. قلت: هكذا قال أبو علي في التذكرة، ولم يقيد بأمن اللبس، والصحيح أن جواز ذلك متوقف على أمن اللبس. ويكثر أمن اللبس في اسم فاعل غير المتعدي، فلذلك يسهل فيه الاستعمال المذكور. ومنه قول ابن رواحة الأنصاري رضي الله عنه: تباركتَ إنّي من عذابكَ خائفُ ... وإنّي إليك تائبُ النفسِ باخعُ ومنه قول رجل من طيئ: ومن يَكُ مُنْحلّ العزائم تابِعا ... هواه فإنَّ الرشْدَ منه بعيدُ ومن وروده في المصوغ من متعدّ قول الشاعر: ما الراحمُ القلبِ ظلّاما وإنْ ظُلِما ... ولا الكريمُ بمنّاعٍ وإنْ حُرِما وقد أغفل أكثر المصنفين إجراء اسم المفعول مجرى الصفة، وهو يجرى مجراها مطلقا إن كان مصوغا من متعدّ إلى واحد كمضروب ومرهوب ومرفوع ومجموع، فيقال هذا مضروب العبدِ ومرهوب قوم ومرفوع قدرا، وهو مجموع الأمر وأمرَه وأمْرًا، ومجموع الأمرِ وأمْرُه كما يقال هو حسنُ الوجهِ وحسُنُ وجهٍ وحسنٌ وجْهًا وحسنٌ الوجهُ وحسن وجْهُه وحسن وجهٌ والوجهَ ووجهَه. وكذا البواقي.

وأقل مسائل الصفة استعمالا نحو حسن وجهِه وحسن وجهَه وحسن وجهٌ. ولها مع ذلك نظائر من اسم المفعول. فنظير حسن وجهِه قول الشاعر: تمنى لقائي الجَوْنُ مغرور نفسِه ... ولما رآني ارْتاعَ ثمت عردا ونظير حسن وجهَه قول الشاعر: لو صُنْت طرفَك لم تُرَعْ بصفاتها ... لمّا بَدَتْ مَجْلُوّةً وجَناتِها ونظير حسن وجهٌ قول الآخر: بثوب ودينارٍ وشاةٍ ودرهم ... فهل أنت مرفوعٌ بما ههنا رأسُ ونبهت بقولي: "وقد يُفعل ذلك بجامد لتأوله بمشتق" على أنه قد يقال وردنا منهلا عسلا ماؤه، وعسل الماء، ونزلنا بقوم أسدٍ أنصارُهم وأسْد الأنصارِ، وصاهرنا حيّا أقمارا نساؤه وأقمارِ النساءِ، على تأويل عسل بحلو، وأُسْد بشجعان، وأقمار بحسان. ومنه قول الشاعر: فراشةُ الحِلْمِ فرعونُ العذاب وإنْ ... يُطلَبْ نَداه فكَلبٌ دونه كلبُ فعامل فراشة وفرعون معاملة طائش ومهلك. ومثله قول الآخر: فولا اللهُ والمهرُ المفدَّى ... لأبْتَ وأنتَ غِربالُ الإهاب فعامل غربالا معاملة مثقب. وأكثر ما يجيء هذا الاستعمال في أسماء النسب كقولك مررت برجل هاشمي أبوه تميمة أمّه. وإن أضفت قلت: مررت برجل هاشمي الأبِ، تميميّ الأمِّ. وكذلك ما أشبهه.

باب إعمال المصدر

باب إعمال المصدر ص: يعمل المصدر مظهرا مكبّرا غير محدود ولا منعوت قبل تمامه، والغالب إن لم يكن بدلا من اللفظ بفعله تقديره بعد أن المخففة أو المصدرية أو ما أختها. ولا يلزم ذكر مرفوعه. عمل المصدر عمل الفعل، لأنه أصل والفعل فرعه، فلم يتقيد عمله بزمان دون زمان بل يعمل عمل الماضي والحاضر والمستقبل، لأنه أصل لكل واحد منها، بخلاف اسم الفاعل فإنه عمل للشبه، فتقيد عمله بما هو شبهه وهو المضارع. وكما ترتب عمل المصدر على الأصالة اشترط في كونه عاملا بقاؤه على صيغته الأصلية التي اشتق منها الفعل، فلزم من ذلك ألا يعمل إذا غيّر لفظه بإضمار، ولا بردّه إلى فَعْلة قصدا للتوحيد، ولا تبعية قبل تمام مطلوبه، فلا يقال مرورك بزيد حسن وهو بعمرو قبيح فيعلق المجرور بهو، لكونه ضمير المرور، فإنه مباين للصيغة التي هي أصل الفعل. وقد شذ مثل هذا في قول زهير: وما الحربُ إلّا ما علمتُم وذُقْتُم ... وما هو عنها بالحديث المرجَّم فهو ضمير الحديث وعن متعلقه به. وقد يتخرج هذا على أن يكون التقدير وما هو الحديث عنها فيتعلق "عن" بالحديث، ويجعل الحديث بدلا من هو، ثم حذف الأول وترك المتعلق به دالّا عليه. ولا يخفى ما في هذا التقدير من التكلف، مع أن البدل هو المقصود بالنسبة ولا يذكر متبوعه غالبا إلا توطئة له. ولا يعمل المصغر فلا يقال عرفت ضريبك زيدا ونحوه، لأن التصغير يزيل المصدر عن الصيغة التي هي أصل الفعل زوالا يلزم منه نقص المعنى بخلاف الجمع فإن

صيغته وإن زال معها الصيغة الأصلية فإن المعنى معها باق ومتضاعف بالجمعية، لأن جمع الشيء بمنزلة ذكره متكررا بعطف، فلذلك منع التصغير إعمال المصدر وإعمال اسم الفاعل، ولم يمنع الجمع إعمال المصدر ولا إعمال اسم الفاعل، لأن إعمال اسم الفاعل كثير. فكثرت شواهد إعماله مجموعا، وجمع المصدر قليل فقلت شواهد إعماله مجموعا، فمنها قول علقمة: وقد وعدتْكَ موعدًا لو وَفَتْ به ... مواعِدَ عُرقُوب أخاه بيَثْرب فنصب أخاه بمواعد وهي جمع موعد بمعنى وعد. ويروى: كموعودٍ عرقوب أخاه. وموعود هذا أحد المصادر الجائية على وزن مفعول. ويروى: مواعيد، على أنه جمع ميعاد بمعنى وعد. ومنه قول العرب: تركته بملاحس البقر أولادها، أي بموضع ملاحس، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والملاحس جمع ملحس بمعنى لحس. ومنها قول ابن الزبير الأسدي: كأنك لم تُنْبأ ولم تكُ شاهدا ... بلائي وكرّاتي الصَّنيعَ ببَيْطَرا ومنه قول أعشى قيس، يمدح هوذة بن علي الحنفي: قد حمّلوه فتيَّ السنّ ما حملتْ ... ساداتُهم فأطاقَ الحملَ واضْطَلعا وجرّبوه فما زادتْ تجاربُهم ... أبا قدامةَ إلّا الحزمَ والفَنَعا وله أيضا: إنّ عداتِك إيّانا لآتيةٌ ... حقّا وطيّبةٌ ما نفسٌ بموعود

ولا يعمل المحدود، وهو المردود إلى فَعْلة قصدا للتوحيد والدلالة على المرة، لأنه غيّر عن الصيغة التي اشتق منها الفعل، فلا يقال عرفت ضربتك زيدا، ونحو ذلك. فإن روى مثله عمن يوثق بعربيته حُكم بشذوذه ولم يُقَس عليه، فمن ذلك ما أنشد الفارسي في التذكرة من قول الشاعر: يحايى بها الجلدُ الذي هو حازِمٌ ... بضَرْبة كفّيه المَلا نفسَ راكب يريد يحيى الجلد الحازم نفس راكب، بأن تضرب كفّاه الملا متيمما مؤثِرا بما عنده من الماء راكبا كاد يموت عطشا. وقد اجتمع في قول ابن الزبير: ولم تك شاهدا ... بلائي وكراتي الصنيع ... شاهد على إعمال المجموع، وشاهد على إعمال المحدود، لأن الكرات جمع كرّة. وقد نصب به الصنيع فواحده أحق بذلك، لأن الواحد أقرب إلى اللفظ الأصلي وهو الكرّ. ومن إعمال المحدود قول كثير: وأجمعُ هِجْرانا لأسماءَ إنْ دَنَتْ ... بها الدارُ لا مِن زَهدتٍ في وصالها فلو كان "فَعْلة" مصدرا غير مقصود بهائه التحديد كرهْبة ساوى العاري منها في صحة العمل. فمن ذلك قول الشاعر: فلولا رجاءُ النَّصْر منك ورَهبةٌ ... عقابَكَ قد كانوا لنا كالمَوارد ولا يتقدم نعت المصدر على معموله فلا يقال عرفت سوقك العنيف الإبل، لأن معمول المصدر منه بمنزلة الصلة من الموصول، فلا يتقدم نعت المصدر على معموله، كما لا يتقدم نعت الموصول على صلته، فإن ورد ما يوهم خلاف ذلك قدر فعل بعد

النعت يتعلق به المعمول المتأخر. فمن ذلك قول الحطيئة: أزمَعْتُ يأسًا مُبِينا من نَوالكم ... ولنْ ترى طارِدًا للحُرِّ كاليأسِ فالمتبادر إلى فهم سامع هذا البيت تعليق من نوالكم بيأسا، وهو غير جائز كما ذكرت، بل يتعلق بيئست مضمرا فلو أخّر النعت وقدّم المعمول لم يمتنع كقول الشاعر: إنَّ وجدِي بك الشديدَ أراني ... عاذِرًا مَن عَهِدْتُ فيك عَذُولا ونبهت بقولي "عمل فعله" على أن المصدر العامل يرفع الفاعل [نحو] عظم نفع الحليم حلمه. والنائب عن الفاعل نحو سرني إعطاء الدنانير الفقير، واسم كان نحو من نعم الله كون المقهور عدوّنا، وكون عدوّنا المقهور، والكون عدوّنا المقهور. ويفهم من ذلك أنه يتعدى إلى غير المرفوع على حسب تعدّي فعله نحو عرفت مرورك بزيد، وقدومك على عمرو، وطلبك العلم، وإعطاءك الفقير درهما، وإعلامك خالدا جعفرا مقيما. وشرطت في ذلك تقديره بفعله وبأنْ الخفيفة أو أنْ المصدرية أو ما أختها، احترازا من المصدر المؤكد والمبين الهيئة. ومثال المقدر بأن المخففة علمت ضربك زيدا، فتقديره: علمت أنْ قد ضربت زيدا، فأنْ هذه المخففة من أنّ لأنها بعد علمٍ، وهو موضع مخصوص بالمخففة غير صالح للمصدرية، كقوله تعالى (عَلِم أنْ سيكون) و (أفلا يرون ألّا يرجعُ). ومثال المقدر بأن المصدرية قوله تعالى (ولولا دفاعُ اللهِ الناسَ بعضَهم

ببعْض) وقول القائل: أرجو نصر الله للمسلمين، وخذلانه للكافرين. وكذا كل مصدر وقع بعد لولا أو بعد فعل إرادة أو كراهة، أو خوف أو طمع أو شبه ذلك، ولا يكون المقدر بهذه إلا ماضي المعنى كقوله: أمِن بعدِ رمي الغانياتِ فُؤادَه ... بأسْهُم ألحاظٍ يُلام على الوجد أو مستقبل المعنى كقول الفرزدق: فرُم بيَدَيْكَ هل نسطيع نَقْلًا ... جبالًا من تِهامةَ راسيات وأما المقدر بأن المخففة فيجوز مضيه وحضوره واستقباله، وكذا المقدر بما المصدرية، فمضيّ المقدر بأنْ المخففة كقول الشاعر: علمتُ بَسْطَك بالمعروف خيرَ يدٍ ... فلا أرى فيكَ إلّا باسِطًا أمَلا وحضوره كقول الراجز: لو عملتْ إيثارِيَ الذي هَوَتْ ... ما كنتُ منها مُشْفِيا على القَلْت واستقباله كقول الشاعر: لو علِمنا إخْلافكم عدةَ السَّلـ ... ــــم عَدِمتُم على النَّجاة مُعينا ومضى المقدر بما المصدرية كقول الله تعالى (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم) وكقول الشاعر: وعذَّبَهُ الهوى حتّى براهُ ... كبَرْيِ القَيْنِ بالسَّفَن القِداحا وكقول الآخر:

مُدْمنُ البَغْي سوفَ يأخذُه با ... ريه أخْذَه لثمود وعادا وحضوره كقوله تعالى (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) وكقول الفرزدق: وَدَدْتُ على حُبّي الحياةَ لو انَّها ... يُزادُ لها في عُمْرها من حَياتيا واستقباله كقول الشاعر: ومَن يَمُتْ وهْو لم يُؤمِن يَصْلَ غدا ... شُواظَ نارٍ دوامَ النارِ في سَقَرا وليس تقدير المصدر العامل بأحد الأحرف الثلاث شرطا في عمله، ولكن الغالب أن يكون كذلك. ومن وقوعه غير مقدر بأحدها قول العرب: سمع أذني زيدا يقول ذلك. وقول أعرابي: اللهم إن استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي للؤم، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لغى، وقول الشاعر: عهدي بها الحيّ الجميعَ وفيهم ... قبلَ التّفرقُ مَيْسرٌ ونِدام وقول الراجز: ورأيُ عَينيَّ الفتى أباكا ... يُعطي الجزيلَ فعليكَ ذاكا وقول الآخر: لا رغبةٌ عمّا رغبْتِ فيه ... منّي فانقُصيه أو زيديه ومن أمثلة سيبويه: متى ظنك زيدا أميرا. وذكر سيبويه في باب من المصادر

يجرى مجرى الفعل المضارع عجبت من ضربٍ زيدٌ عمرا إذا كان هو الفاعل. ثم قال: كأنه قال: عجبت من أنه يضرب زيد عمرا. ولم يقدره في الباب بغير أن الثقيلة. وإذا ثبت أن عمل المصدر غير مشروط بتقدير حرف مصدري أمكن الاستغناء عن إضمار في نحو له صوت صوت حمار. ونبهت بقولي "ولا يلزم ذكر مرفوعه" على أن المصدر الصالح للعمل قد يجاء به دون مرفوع ظاهر ولا مضمر ودون معمول آخر: وقد يجاء به دون مرفوع كائنا معه معمول آخر. فالجائي دون مرفوع ولا غيره نحو (ولا يرضى لعباده الكفرَ) والكائن معه معمول لا مرفوع معه نحو (فكُّ رقبةٍ * أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ * يتيمًا) وخصصت المرفوع بجواز الاستغناء عنه مع المصدر، لأن الاستغناء عن غير المرفوع جائز مع كل عامل ليس من النواسخ. وقلت بدل ولا يلزم ذكر فاعله: ولا يلزم ذكر مرفوعه لأعم الفاعل ونائبه واسم كان. وقد تقدم من قولي بيان أن مرفوع المصدر قد يكون نائب فاعل نحو سرني إعطاء الدينار الفقير، واسم كان نحو: من نعم الله كون المقهور عدوّنا. وجاز أن يستغنى عن مرفوع المصدر دون مرفوع الفعل وما أشبهه مما ليس مصدرا لأن الفعل لو ذكر دون مرفوع لكان حديثا عن غير محدث عنه، وكذا ما يعمل عمله من صفة أو اسم فعل، فإنه لا يعمل إلا وهو بنفسه واقع موقع الفعل، ومؤدّ معناه فاستحق ما يستحقه الفعل من مرفوع يحدّث به عنه ظاهرا أو مضمرا. فلو خلا منه لكان في تقدير فعل خلا من مرفوع، وليس كذلك المصدر، لأنه إذا عمل العمل المنسوب إليه بإجماع لم يكن إلا في موضع غير صالح للفعل فجرى مجرى الأسماء الجامدة في عدم تحمل الضمير. وجاز أن يرفع ظاهرا لكونه أصلا لما لا يستغنى عن مرفوع به، وبسبب اقتضائه الرفع عدمت في غير ندور مصاحبته مرفوعا إن لم يكن مضافا. وقلت إن كان مضافا

حتى قال بعض النحويين إنها لا تجوز إلا في الشعر، والصحيح جوازها مطلقا لكن استعمالها في النثر قليل. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس: شهادةُ أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" فمَن في موضع رفع فاعلا بحجّ البيت. والتقدير: وأن يحج البيتَ من استطاع إليه سبيلا. وقلت في مصاحبة غير المضاف: "ومرفوعا دون ندور" احترازا من قول أبي العباس ثعلب: العرب تقول عجبت من قراءة في الحمام القرآنُ، أي من أن قُرئ. ص: ومعموله كصلة في منع تقدمه وفصله. ويضمر عامل فيما أوهم خلاف ذلك أو يُعدّ نادرا. ش: قد تقدم بيان كون المصدر العامل بإجماع مقدرا بحرف مصدري موصول بفعل، وأن ذلك التقدير غالب لا لازم، فاستحق بلزوم هذا التقدير أن يخالف معموله الصلة بجواز الاستغناء عنه، وأن يوافقها في منع التقدم والفصل. فلهذا قلت "ومعموله كصلة في منع تقديمه وفصله". ثم قلت "ويضمر عامل فيما أوهم خلاف ذلك، أو يعد نادرا" فنبهت بذلك على أنه قد يجيء ما قبل المصدر متعلقا به من جهة المعنى تعلق المعمول بالعامل، كقول تميم العجلاني: لقد طالَ عن دَهماءَ لدِّي وعِذْرتي ... وكِتمانُها أكْنِي بأُمِّ فلان وكقول عمر بن أبي ربيعة: ظنُّها بي ظنُّ سوءٍ كله ... وبها ظنِّي عَفافٌ وكَرَم

وكقوله: طال عن آلِ زينبَ الإعراضُ ... للتعدِّي وما بنا الإبغاض وكقول الآخر: وبعضُ الحِلْم عند الجَهـ ... ــــلِ للذلة إذعانُ فلنا في هذه أن نعلق ما تقدم بمصدر آخر محذوف لدلالة الموجود عليه، كأنه لدّى عن دهماء لدّى، وظني بها ظني، وطال الإعراض عن آل زينب الإعراض، وبعض الحلم إذعن للذلة إذعان. ويكون هذا التقدير نظير قولهم في (وكانوا فيه من الزّاهدين) أن تقديره وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين. ونظير قولهم في: أيْنما الريحُ تُميّلْها تَمِلْ أن تقديره: أينما تميلها الريح تميلها تمل. ولنا أن نجعل ما تقدم متعلقا بنفس المصدر الموجود، إمّا على نية التقديم والتأخير، وإما على أن ذلك استبيح في المصدر وإن لم يستبح مثله في الموصول المحض، كما استبيح استغناؤه عن معمول لا دليل عليه، وإن لم يستبح مثله في صلة الموصول. وهكذا يفعل فيما أوهم الفصل كقوله تعالى (إنّه على رجْعِه لقادرٌ * يومَ تُبلى السرائرُ) فإن ظاهره أن "يوم "منصوب برجعه، ولا يجوز ذلك لاستلزامه الفصل بخبر إنّ الذي هو لقادر، فالمخلص من ذلك أن ينصب (يوم تبلى السرائر) بعامل مقدر مدلول عليه برجعه، كأنه قيل يرجعه يوم تبلى السرائر. ومما يوهم الفصل قول الشاعر: وهنَّ وقوفٌ ينتظِرْنَ قضاءَه ... بضاحي عَذاة أمرَه وهو ضامِزُ

فقد يظن أن بضاحي عذاة متعلق بينتظرن، وقد فصل بين قضائه وأمره وليس كذلك، بل الواجب أن يجعل قضاؤه متعلقا به الجار والمجرور فلا يكون بينه وبين منصوبه فصل بأجنبي. ومثل هذا قول الآخر: ليت شِعْري إذا القيامةُ قامتْ ... ودعا بالحِساب أيْنَ المصيرا أنشده الشجري وجعل التقدير المصير أين هو فحذف المبتدأ وفصل المصدر بما عمل فيه، وأسهل من هذا أن يكون التقدير أين يصير المصير أو أين هو أعني المصير. ص: وإعماله مضافا أكثر من إعماله منونا، وإعماله منونا أكثر من إعماله مقرونا بالألف واللام. ويضاف إلى المرفوع والمنصوب، ثم يستوفي العمل كما كان يستوفيه الفعل، ما لم يكن الباقي فاعلا فيستغنى عنه غالبا. وقد يضاف إلى ظرف فيعمل بعده عمل المنوّن. ش: المصدر الذي نحن بصدده مضاف أو منون تنوينا ظاهرا أو مقدرا، أو مقرون بالألف واللام نحو: عرفت ضربك زيدا، وشتما عمرا، والإكرام خالدا. وإعمال المضاف أكثر من إعمال غير المضاف، لأن الغضافة تجعل المضاف إليه كجزء من المضاف، كما يجعل الإسناد الفاعل كجزء من الفعل، ويجعل المضاف كالفعل في عدم قبول التنوين والألف واللام، فقويت بها مناسبة المصدر الفعل، فكان إعماله أكثر من إعمال عادم الإضافة، وهو المنوّن والمقترن بالألف واللام، إلا أن في المنون شبها بالفعل المؤكد بالنون الخفيفة، استحق به أن يكون أكثر إعمالا من المقترن بالألف واللام. ومن إعمال المنون قراءة نافع وابن عباس وعاصم وحمزة (فكّ رقبة * أو إطعام

في يوم ذي مسغبة * يتيما)، وقراءة أبي بكر بن عاصم (بزينةٍ الكواكب). أي بتزيين الكواكب ويجوز أن يكون منه (ويعبدون من دون الله ما لا يملكُ لهم رزقا من السموات والأرض شيئا) ومنه قول زياد الأعجم: ببَذْلٍ في الأمورِ وصِدْقِ بأسٍ ... وإعطاءٍ على العِلَلِ المتاعا وقول الفرزدق: فَرُم بيَدَيْكَ هل تسطيع نقلا ... جبالًا من تهامةَ راسيات ولم يجئ إعمال المقترن بالألف واللام إلا في موضع محتمل وهو قوله تعالى (لا يُحب اللهُ الجهرَ بالسُّوء من القول إلّا مَن ظُلِمَ) فيحتمل أن يكون "مَن" في موضع رفع بالجهر على تقدير لا يحب الله أن يجاهر بالسوء من القول إلا مَن ظلم، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم قبل "إلا" وتكون في موضع نصب على الاستثناء. ومما جاء في الشعر قول الشاعر: لقد علمتْ أُولى المغيرة أنَّني ... كَرَرْتُ فلم أنكُلْ عن الضَّرْبِ مسْمِعا ومنه: ضعيفُ النِكايةِ أعداءَه ... يخالُ الفِرارَ يُراخي الأجل ومن النحويين من يزعم أن العمل بعد المقترن بالألف واللام بفعل مضمر،

فيقدر في الأول ضربت مسمعا – وهو اسم رجل – ويقدر في الثاني ينكى أعداءه، وهذا مع ما فيه من التكلف مردود بإتيان النصب في مواضع لا يصلح فيها إتيان فعل، كقول كثير: تلومُ امرأ في عنفوانِ شبابِه ... وللتَّرْكِ أشياعَ الضَّلالة حينُ وكقول الآخر: فإنكَ والتأبينَ عُرْوَةَ بعدَما ... دعاكَ وأيْدينا إليه شوارعُ لكا لرجُل الحادي وقد تَلَعَ الضُّحى ... وطيرُ المنايا فوقهنّ أواقِع ونبهت بقولي "ومضاف إلى المرفوع أو المنصوب، ثم يستوفي العمل، كما كان يستوفيه الفعل" على أنه إذا أضيف المصدر إلى مرفوع كان في الأصل مبتدأ لم يجز حذف المنصوب كما لم يجز حذفه مع الفعل نحو: عرفت كون زيد صديقك. وكذا إذا أضيف إلى منصوب هو في الأصل مبتدأ أو خبر لا يجوز الاكتفاء به، بل لا بد من ذكر الجزء الثاني، كما كان مع الفعل. وذلك قولك عرفت كون صديقك زيد، وتبيّنت ظنّ عمرو عدوّك، فيمتنع حذف ما بعد المجرور في ذا وأمثاله، كما يمتنع مع الفعل، لأنه خبر ومخبر عنه، وإن لم يكن المنصوب بعد الإضافة خبرا ولا مخبرا، فحذفه جائز، كما كان في الفعل نحو (فاستبْشِروا بِبَيْعِكم) (وما كان استغفارُ إبراهيمَ) (وكذلكَ أخذُ ربّكَ إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ إنّ أخذَه أليمٌ شديدٌ) (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) (ويومئذٍ يفرحُ المؤمنون بنصر الله).

ونبهت بقولي "ما لم يكن الباقي فاعلا فيستغنى عنه غالبا" على أن ذكر الفاعل مرفوعا بعد إضافة المصدر إلى المفعول به أقل من الاستغناء عنه، ولذا لم يجئ في القرآن رفعه بعد الإضافة إلا في رواية يحيى بن الحارث عن ابن عامر أنه قرأ (ذكرُ رحمت ربك عبده زكريا) بضم الدال والهمزة، وجاء الاستغناء عنه كثيرا نحو (وهو مُحرَّمٌ عليكم إخراجُهم) (وإنْ أردتم استبدال زوج) (ولا تَهنوا في ابتغاء القوم) (إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) (لقد ظلمك بسؤال نعجتك). ومن ذكر الفاعل مرفوعا بعد الإضافة إلى المنصوب به قول النبي صلى الله عليه وسلم في المباني "وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" فمَن في موضع رفع بحجّ. ويمكن أن يكون مثله (ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا) على تقدير: ولله على الناس أن يحج البيت من استطاع، والمشهور جعل "مَن" بدلا من الناس. ومِن رفع المصدر الفاعل بعد الإضافة قول الشاعر: ألا إنّ ظلم نفسِه المرءُ بيّنٌ ... إذا لم يَصُنْها عن هوًى يَغْلِبُ العقلا ومثله: أمِن رسمِ دارٍ مربعٌ ومَصيفُ ... لعينيْك من ماء الشُّئونِ وكيفُ

ومثله: ردّ إضناؤُك الغرامُ الذي كا ... ن عذُولًا فمهَّدا لك عُذْرا وأكثر استعمال المضاف مضافا إلى الفاعل ناصبا بعده المفعول به نحو (ولولا دفعُ الله الناسَ بعضهم ببعض) (وأخذِهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلِهم أموالَ الناسِ بالباطل) (لولا ينهاهم الرّبّانيّون والأحبارُ عن قولهم الإثمَ وأكلهم السُّحتَ). ويضاف المصدر إلى الظرف كثيرا نحو (للذين يُؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر) و (فمَن لم يجدْ فصيامُ ثلاثة أيامٍ) و (فمَن لم يجد فصيامُ شهرين متتابعين) (بل مكرُ الليل والنهار). ويجوز أن يجاء معه بعد الإضافة بالفاعل والمفعول معطيَيْن الرفعَ والنصب نحو عرفت انتظار يوم الجمعة زيد عمرا. ذكر ذلك سيبويه غير مستشهد بشيء. وإليه أشرت بقولي "ويضاف إلى ظرف فيعمل بعده عمل المنون". ص: ويتبع مجروره لفظا ومحلا، ما لم يمنع مانع، فإن كان مفعولا ليس بعده مرفوع بالمصدر جاز في تابعه الرفع والنصب والجر، ويعمل عمله اسمه غير العلم، وهو ما دلّ على معناه وخالفه بخلوه لفظا وتقديرا دون عوض من بعض ما في فعله. وإن وجد عمل بعدما تضمن حروف الفعل من اسم ما يفعل به أو فيه، فهو لمدلول به عليه.

ش: المجرور بالمصدر المضاف إما مرفوع المحل وإما منصوبه، فلك فيما نعت به أو عطف عليه أن تجره حملا على اللفظ، وهو الأجود ما لم يعرض مانع. ولك أن تنصبه حملا على الموضع إن كان المجرور منصوب الموضع، وإن ترفعه إن كان المجرور مرفوع الموضع، فالجر مستغن عن شاهد، ومن شواهد الرفع قراءة الحسن (عليهم لعنة الله والملائكةِ والناسِ أجمعون) فهذا شاهد على رفع المعطوف، لكون المجرور فاعلا في المعنى ومثله قول الشاعر: يالعنةُ الله والأقوام كلهم ... والصالحون على سِمْعانَ مِن جار ومن شواهد رفع النعت قول الشاعر: لقد عجبتُ وما في الدهر من عَجَب ... أنَّى قُتِلْتَ وأنتَ الحازمُ البطلُ السالكُ الثغرةَ اليقظان سالِكها ... مشى الهَلُوك عليها الخَيْعَلُ الفضُلُ ومن شواهد نصب المعطوف لكون المجرور منصوب المحل قول الراجز: قد كنتُ داينتُ بها حَسّانا ... مخافةَ الإفْلاسِ والّليانا ومثله: هويتَ ثناءً مُستطابا مؤبَّدا ... فلم تَخْلُ من تمهيد مجْدٍ وسُوددا ومن شواهد نصب النعت لكون المجرور منصوب المحل قول الراجز: ما جعلَ امرأ القومُ سَيِّدًا ... إلّا اعتيادُ الخلُقِ المُمَجَّدا

ونبهت بقولي "فإن كان مفعولا ليس بعده مرفوع بالمصدر" على ثلاثة أوجه في تابع المجرور من نحو: "عرفت تطليق المرأة" في نعت المرأة والمعطوف عليها: الجر على اللفظ، والنصب على تقدير المصدر بفعل الفاعل، والرفع على تقديره بفعل ما لم يُسمَّ فاعله. وفي الحديث "أمر بقتل الأبتر وذو الطفيتين" على تقدير: أمر بأن يُقتل الأبتر وذو الطفيتين. ونبهت بقولي "ويعمل عمله اسمه غير العلم" على أن من الأسماء ما يقال له "اسم مصدر" وأنه على ضربين: علم، وغير علم. فالعلم ما دل على معنى المصدر دلالة مغنية عن الألف واللام لتضمن الإشارة إلى حقيقة، كقول الشاعر: فقلتُ أمْكُثِي حتى يسارِ لعلَّنا ... نحجُّ معًا، قالت: أعامًا وقابِله وكبرَّة، وفجار في قول الشاعر: أنّا اقتسمْنا خُطّتَيْنا بيننا ... فحملتُ بَرّةَ واحْتملتَ فجارِ فهذه وأمثالها لا تعمل عمل الفعل، لأنها خالفت المصادر الأصلية، بكونها لا يقصد بها الشياع ولا تضاف ولا تقبل الألف واللام، ولا توصف، ولا تقع موقع

الفعل، ولا موقع ما يوصل بالفعل. ولذلك لم تقم مقام المصدر الأصلي في توكيد الفعل أو تبيين نوعه أو مرّاته. والثاني من ضربي اسم المصدر ما ساواه في المعنى والشياع وقبول الألف واللام والإضافة والوقوع موقع الفعل، أو موقع ما يوصل بالفعل، وخالفه بخلوّه لفظا وتقديرا دون عوض من بعض ما في الفعل، كوضوء وغسل فإنهما مساويان للتوضؤ والاغتسال في المعنى والشياع وجميع ما نُفي عن العَلَم، وخالفه بخلوه دون عوض من بعض ما في فعليهما، وهما توضّأ واغتسل. وحق المصدر أن يتضمن حروف الفعل بمساواة كقولك توضأ توضؤًا، أو بزيادة عليه كأعلم إعلاما ودحرج دحرجة. وقلت لفظا وتقديرا احترازا من فِعال مصدر فاعل كقتال فإنه مصدر مع خلوه من المدّة الفاصلة بين فاء فعله وعينه، لأنها حذفت لفظا واكتفى بتقديرها بعد الكسرة. وقد تثبت فيقال قيتال. وقلت دون عوض احترازا من عدة، فإنه مصدر وعد مع خلوه من الواو، لأن التاء في آخره عوض منها، فكأنها باقية. وكذا تعليم مصدر علّم مع خلوه من التضعيف، ولكن جعلنا التاء في أوله عوضا من التضعيف، فكأنه باق؛ ولذلك جيء بالمصدر مضعفا ككذّب كِذّابا، استغنى عن التاء ونسب التعويض إلى تاء تعليم، لأن ياءه مساوية لألف إكرام وإسماع وانطلاق واستخراج ونحوها م المزيدات التي قصد بها ترجيح لفظ المصدر على لفظ الفعل الزائد على ثلاثة أحرف دون حاجة إلى تعويض. ومن المحكوم بمصدريته مع خلوه من بعض حروف فعله كينونة فأصلة كيونونة ثم عومل معاملة ميّت وميْت، فحذفت عينه وعوض منها الياء والتاء. ومن المحكوم بمصدريته ثواب وعطاء أصلهما إثواب وإعطاء. فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال والمصدرية باقية كطاعة وطاقة وجابة والأصل إطاعة وإطاقة وإجابة، لأنها مصادر أطاع وأطاق وأجاب، فحذفت الهمزة واكتفى بالتقدير. هذه وأمثالها مصادر لقرب ما بينها وبين أصلها بخلاف ما بينه وبين الأصل بُعد وتفاوت كعون وعِشرة وكِبْر وعُمر وغرق وكلام، بالنسبة إلى إعانة ومعاشرة وتكبّر وتعمير وإغراق وتكليم. فهذه وأمثالها أسماء مصادر. وأما ما ليس فيه الإغرابة وزنه كدعابة ورعْيا وغلوّ فهو مصدر، وجعله اسم مصدر تحكم بغير دليل. ومن إعمال ثواب

قول حسان رضي الله عنه: لأنّ ثوابَ الله كلَّ مُوَحَّد ... جِنانٌ من الفردوس فيها يُخَلَّد ومن إعمال عطاء قول القطامي: أكفْرًا بعد ردّ الموتِ عنّي ... وبعد عطائك المائةَ الرِتاعا ومن إعمال اسم المصدر حديث الموطأ "من قُبْلة الرجلِ امرأتَه الوضوءُ". ومنه قول الشاعر: إذا صحَّ عونُ الخالق المرءَ لم يَجدْ ... عسيرا من الآمالِ إلّا ميسّرا ومنه: بعشْرتك الكرامَ تعدّ منهم ... فلا تُرين لغيرهُم ألوفا ومنه: قالوا كلامُكَ دَعْدًا وهي مُصْغِيةٌ ... يَشْفيك قلتُ صحيحٌ ذاك لو كانا ولا يعمل ما تضمن حروف الفعل من اسم ما يفعل به أو فيه. فإن وُجد بعد شيء منه عمل أضمر له عامل من معناه كقولك أعجبني دهن زيد لحيته، وكحل هند عينها، فقد روي مثل هذا عن العرب، وجعل النصب فيه بعامل مضمر، كأنه قيل دَهَن لحيته وكحلت عينها. ومنه – والله أعلم – قوله تعالى (ألم نَجعل الأرضَ كِفاتا * أحياءً وأمواتًا)، لأن الكفات هو ما تكفت فيه الأشياء، أي تجمع وتحفظ فكان ذكره منبها على فعله، أو ما هو بمنزلة فعله، كأنه قيل تكفت أحياء وأمواتا،

ولك أن تنصب أحياء وأمواتا على التمييز لأن كِفات الشيء مثل وعائه والموعى ينتصب بعد الوعاء على التمييز وأما قول الشاعر: كأنَّ مَجرّ الرامِسات ذيُولَها ... عليه قضيمٌ نمّقتْهُ الصَّوانِعُ فيحتمل أن يكون من هذا. ويحتمل "المجرّ" موضع الجرّ، كأنه قال كأن مهب الرامسات جارّة ذيولها عليه قضيم، فحذف العامل وأخبر عن المجر بعليه قضيم. ويحتمل أن يكون المجر مصدرا والتقدير كأن موضع مجر الرامسات، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب، وجاء الخبر على وفق المحذوف والعمل للمجر، لأنه بمنزلة الجرّ. ومثله. كأنَّ مَجرةَ الأبطالِ نسْرًا ... إلى أشبالِه حطبٌ رَفيت أي مكسور. وأما قول الآخر يصف حمارا وأتنا: فظَلت بملقَى واحفٍ جرع المِعى قيامًا تُقاسي مُصْلَخِمًّا أميرُها تقديره فظلت بموضع ملقى واحف جرع المعى وهما موضعان، وملقى بمعنى لقاء، ولذلك عمل. ومثله من المصادر المبدوءة بميم مزيدة كثير. فما كان فعله ثلاثيا فميمه مفتوحة، وما كان من غير ثلاثي فميمه مضمومة، كأنه اسم مفعول لذلك الفعل، وهي في العمل كالمصادر الأُخَر. فمن ذلك إنشاد ثعلب: أظلومُ إنَّ مُصابكم رجُلًا ... أهْدى السلامَ تحيّةً ظُلْمُ

ومنها قول لقيط الإيادى. يا دارَ ميّةَ من مُحْتلّها الجرَعا ... هاجتْ لي الهمَّ والأحزانَ والوجَعا ومنها إنشاد سيبويه لكعب بن زهير: فلم يَجدوا إلّا مناخَ مطيّة ... تجافى بها زَوْر نبيلٌ وكَلكلُ ومَفحصَها عنها الحصا بجرانها ... ومَشْيَ نواج لم يَخُنهُنَّ مَفْصِلُ وسمرٌ ظباءٌ راسهنّ بُعيدما ... مضتْ هجمةٌ من آخر الليلِ ذُجّلُ ومثله قول الآخر: مُستعانٌ العبدُ الإلةَ يُريه ... كلّ مُستصْعب من الأمر هيْنا فصل: ص: يجيء بعد المصدر الكائن بدلا من الفعل معمولٌ عاملُه على الأصح البدل لا المبدل منه وفاقا لسيبويه والأخفش. ش: المصدر الكائن بدلا من الفعل الذي يمتنع أن يباشره عامل ظاهر، ويصلح في موضعه فعل عارٍ من حرف مصدري. وقد بينت في باب المفعول المطلق مواقعه، دون تعرض لتعدّيه. والغرض هنا بيان مواقعه متعديا، وأكثر وقوع المتعدي أمرا كقول الشاعر: يَمرُّون بالدَّهْنا خفافًا عيابُهم ... ويَخرجْنَ من دارين بُجْرَ الحقائب على حين ألهى الناسَ جُلُّ أمورهم ... فنَدْلا زُريقُ المالَ ندْل الثعالبِ وكقول الآخر: هجرًا المظهرَ الإخاءَ إذا لم ... يكُ في النائبات جدَّ معينِ

وقد يجيء دعاء كقول الشاعر: ياقابلَ التَّوْبِ غُفرانًا مآثم قدْ ... أسْلَفْتُها أنا منها مُشْفِق وَجِلُ ومثله: إعانةَ العبدَ الضعيفَ على الذي ... أمَرّت فمِيقاتُ الجزاءِ قريبُ وقد يكون توبيخا بعد همزة الاستفهام كقول المرار الأسدي: أعلاقةً أمَّ الوليد بعدما ... أفنانُ رأسك كالثَّغام المُخْلِس وكقول الآخر: أبغْيا وظُلما مَن علمتم مُسالما ... وذُلّا وخوفا مَن يُجاهركُم حرْبا وكقوله: أبسْطا بإطراري يمينا ومقْولًا ... ومُدّعيا مجْدًا تليدا وسُوددا وقد يكون توبيخا بغير استفهام، كقوله: وِفاقا بني الأهواءِ والغيِّ والوَنى ... وغيرُك مَعْنيٌّ بِكُلِّ جميل ويكثر أيضا وقوعه بعد فعل خبري مقصود به الإنشاء كقول مَن أبصر ما يتعجب منه: عَجَبًا. وكقول المعترف بالنعمة: حَمْدا وشُكْرا لا جحودا ولا كُفْرا. ومنه قول الشاعر: حمدًا اللهَ ذا الجلالِ وشُكْرا ... وبِدارًا لأمْره وانقيادا وقد يقع الخبر وعْدا كقوله:

قالت: نَعم وبُلوغًا بغيةً ومُنًى ... فالصادقُ الحُبّ مبذولٌ له الأمَلُ وهذه الأنواع عند أبي الحسن الأخفش وأبي زكريا الفراء مطردة صالحة للقياس على ما سُمع منها. وبذلك أقول لكثرته في كلام العرب، ولما في ذلك من الاختصار والإيجاز. وأكثر المتأخرين يزعمون أن سيبويه يقصرها كلها على السماع، وليس له نصّ على ذلك، بل في كلامه ما يشعر بأن ما كان منها أمرا أو دعاء أو توبيخا أو إنشاء مقيس. فمن كلامه المشعر بذلك قوله في باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره "وذلك قولك سقيا ورعيا" ونحو قوله: خيبة ودَفْرا. ثم قال: "ومن ذلك قولك تعْسا وتبّا وجَدْعا ونحوه" ثم قال: "وإنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه على إضمار الفعل". فقوله: ومن ذلك قولك ولم يقل قولهم فيه إشعار بأنه موكول إلى القياس. وكذا قوْله: ومن ذلك قولك تعسا وتبّا وجَدْعا ونحوه، فأطلق القول بنحوه، فعلم أن مراده القياس وعدم التقييد بالمسموع. مع أن كلامه في جميع الباب موافقٌ لهذا المفهوم. ومثل هذا كلامه في باب ما ينتصب من المصادر في غير الدعاء على إضمار الفعل المتروك إظهاره نحو حمدا وشكرا لا كفرا. وقد نصّ سيبويه على أن باب تراك مقيس، فمن المستبعد ألا يكون عنده باب سقيا مقيسا، مع كون المصدر أصل الفعل وكثير المصاحبة له في توكيد وغيره، فأحق ما ينوب عن الشيء ما كثرت مصاحبته له وإن لم يكن أصله. فإذا ثبت الأصالة مع كثرة المصاحبة لزم الترجيح وكان إلغاؤه غير صحيح. وأيضا فإن استعمال القياس في باب نزال يلزم منه استئناف عمل واستئناف

وضع. واستعمال القياس في المصدر المذكور يلزم منه استئناف عمل دون وضع. وقياس موضوع على موضوع أقرب وأنسب من قياس مهمل على موضوع. وأيضا فإن المصدر المتعدّي على الوجوه المذكورة وارد على أربعة أقسام: بمعنى الأمر كبَذْلًا المال، وبمعنى المضارع الحاضر نحو أعلاقة أمّ الوليد – وبمعنى المضارع المستقبل نحو – وبلوغا بغية ومنى- وبمعنى الماضي كقول الشاعر: عَهْدي بها الحيَّ لم تَخْفُفْ نعامتُهم ولم يرد اسم الفعل المتعدي إلا بمعنى الأمر فدل ذلك على رجحان عناية العرب بإقامة المصدر مقام الفعل على عنايتهم بإقامة اسم الفعل مقامه. والقياس على الراجح العناية أولى من القياس على المرجوحها. وصرّح سيبويه – رحمه الله- بأن النصب بعد المصادر المذكورة بها أنفسها لا بالأفعال المضمرة. وأما الأخفش والفراء فمذهبهما في ذلك مشهور. وذهب السيرافي – رحمه الله – إلى أن النصب بالأفعال المضمرة، ووافقه على ذلك كثير من النحويين، وليس بصحيح، ومن نصوص سيبويه قوله في الباب الذي ترجمته: هذا باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين والمفعولين مجرى الفعل: ومما يجرى مجرى فعل من المصدر قوله: يمرون بالدهنا خفافا عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلا زريق المال ندل الثعالب ثم قال سيبويه: وقال المرار الأسدي: أعلاقة أم الوليد بعدما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس وقال الشاعر:

بضَرْبٍ بالسيوف رُءوسَ قومٍ ... أزَلْنا هامَهُنَّ عن المقيل فجعل ندلًا وعلاقة مساويين لضرب بالسيوف، وكذلك ينبغي. بل إعمال ندلا وعلاقة وأشبهاهما أولى من إعمال ضرب وشبهه، لأن في: ندلا وعلاقة ما في ضرب من وجود أصالة الفعل، إلا أن ندلا وعلاقة واقعان موقع فعلين محضين، وبضرْب واقع موقع حرف وفعل. ونسبة العمل إلى ما هو بمعنى ما هو العامل نفسه أولى من نسبته إلى ما هو بمعنى جزءين أحدهما عامل والآخر جزء غير عامل. ولا يمنع من ذلك كون الفعل لا يستغنى عن تقدير عامليّته بالنسبة إلى نصب المصدر، كما لا يمتنع عند الأكثر نصب الظرف بعامل مقدر ورفع الظرف الضمير في نحو زيد عندك، بل ناصب الظرف أحق بأن ينسب العمل إليه لكونه صالحا للإظهار قريب العهد بالإضمار، بخلاف عامل المصدر المشار إليه، فإنه غير صالح للإظهار ولا قريب العهد بالإضمار، فقد صار نسيا منسيا، من كلام سيبويه في الباب الذي ترجمته: هذا باب من الفعل يسمى الفعل فيه بأسماء لم تدخل بين أمثلة الفعل أن قال: "يدلك على أن حَذرك بمنزلة عليك قولك تحذيري زيدا، إذا أردت حذري زيدا، فالمصدر وغيره في هذا الباب سواء" فإعلامه بتساوي المصدر وغيره من أسماء الأفعال في هذا الباب صريح، فإن زيدا منصوب بتحذيري زيدا، كما هو منصوب بعليك في عليك زيدا. وكذلك جَعْله حذرك بمنزلة عليك، ويلزم منه تساويهما في العمل إذا قيل حذرك زيدا وعليك زيدا والله أعلم.

باب حروف الجر سوى المستثنى منها

باب حروف الجر سوى المستثنى منها ص: فمنها مِن، وقد يقال مِنا وهي لابتداء الغاية مطلقا، وللتبعيض، ولبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة، وللانتهاء، وللاستعلاء، وللفصل، ولموافقة الباء، ولموافقة في وإلى. وتزاد لتنصيص العموم أو لمجرد التوكيد بعد نفي أو شبهه جارة نكرة مبتدأ أو فاعلا أو مفعولا به. ولا يمتنع تعريفه ولا خلوه من نفي أو شبهه وفاقا للأخفش. وربما دخلت على حال. وتنفرد مِن بجر ظروف لا تتصرف كقبل وبعد وعند ولدى ولدن ومع وعن وعلى اسمين. وتختص مكسورة الميم ومضمومتها في القسم بالربّ، والتاء واللام بالله. وشذّ فيه: "مُن الله وتَربّى. ش: حكى الفراء أن بعض العرب يقول في من: مِنا، وزعم أنه الأصل وخففت لكثرة الاستعمال بحذف الألف وتسكين النون. ومجيء من لابتداء الغاية في المكان مجمع عليه كقوله تعالى (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ومجيؤها لابتداء غاية الزمان مختلف فيه؛ فبعض النحويين منعه، وبعض أجازه. وقول من أجاز ذلك هو الصحيح الموافق لاستعمال العرب. وفي كلام سيبويه تصريح بجوازه وتصريح بمنعه. فأما التصريح بجوازه فقوله في باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف: "ومن ذلك قول العرب: مِن لدُ شَوْلًا فإلى إتْلائِها

نصب لأنه أراد زمانا. والشوال لا يكون زمانا ولا مكانا فيجوز فيها الجر كقولك من لدن صلاة العصر إلى وقت كذا، وكذا من لد الحائط إلى مكان كذا، فلما أراد الزمان حمل الشول على شيء يحسن أن يكون زمانا إذا عمل في الشول، كأنك قلت من لد أن كانت شولا إلى إتلائها". هذا نصه في هذا الباب. وفيه تصريح بمجيء من لابتداء غاية الزمان ولابتداء غاية المكان. وقال في باب عدة ما يكون عليه الكلم: "وأما مِن فتكون لابتداء الغاية في الأماكن" ثم قال: "وأما مُذْ فتكون لابتداء الغاية في الأيام والأحيان، كما كانت مِن فيما ذكرت لك، ولا تدخل واحدة منهما على صاحبتها". فظاهر هذا الكلام منع استعمال "مِن" في الزمان، ومنع استعمال "مذ" في المكان. فأما منع استعمال مذ في المكان في الكلام فمجمع عليه، وأما استعمال من في الزمان فمنعه غير صحيح، بل الصحيح جوازه لثبوت ذلك في القرآن والأحاديث الصحيحة والأشعار الفصيحة، فالذي في القرآن قوله تعالى (لمسجدٌ أُسِّسَ على التّقوى من أوّل يومٍ أحقُ أن تقومَ فيه). وقال الأخفش في المعاني: قال بعض العرب من الآن إلى غد. وأما الأحاديث فمنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلُكم ومثلُ اليهودِ والنصارى كرجل استعمال عمّالا فقال: مَن يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط، فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط ثم قال مَن يعمل لي مِن نصف النهار على قيراط قيراط فعملت النصارى مِن نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط، ثم قال ومَن يعملُ لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين

تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس، ألا لكم الأجر مرّتين". فقد استعملت "مِن" في هذا الحديث لابتداء غاية الزمان أربع مرات. ومن الأحاديث على ذلك قول مَن روى حديث الاستسقاء "فمطرنا من جمعة إلى جمعة" وقول عائشة رضي الله عنها "فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل". وقول أنس رضي الله عنه "فلمْ أزلْ أحِبُّ الدُّبّاء من يومئذ". وهذه الأحاديث كلها في صحيح البخاري. وفي جامع المسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها "هذا أوّلُ طعامٍ أكله أبوكِ من ثلاثة أيام". وأما الأشعار فمنها قول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أنّ سيُوفَهم ... بهنَّ فُلول من قِراع الكتائب تُخيّرنَ من أزمانِ يومِ حليمةٍ ... إلى اليومِ قد جُرِّبْنَ كلَّ التجاربِ ومنها قول جبل بن جوال: وكل حُسام أخلصتْه قُيونُه ... تُخيّرنَ من أزمان عاد وجُرْهُمِ ومنها قول الراجز: تنتهض الرِّعدة في ظُهَيرى ... من لدُنِ الظُّهر إلى العُصير

وقول الآخر: إنّي زعيمٌ يانو ... يقَةُ إنْ أمِنْتِ من الرَّزاح ونجوْتِ من عَرَض المنُو ... نِ من الغُدوّ إلى الرواحِ ومنها قول بعض الطائيين: من الآن قد أزمعتُ حِلْمًا فلن أُرى ... أغازل خَوْدا أو أذوقُ مداما ومنه: ألِفتُ الهوى من حين أُلْفيتُ يافِعا ... إلى الآن مَمْنوًّا بواشٍ وعاذِلِ ومثله: ما زلت من يوم بِنتُم والهًا دَنِفا ... ذا لوعةٍ، عيشُ مَن يُبْلى بها عَجَبُ وتكون "مِن" أيضا لابتداء الغاية في غير مكان ولا زمان، كقولك: قرأت من أوّل سورة البقرة إلى آخرها، وأعطيت الفقراء من درهم إلى دينار، ولذلك قلت: "لابتداء الغاية مطلقا" ولم أقل في الزمان والمكان. وأشار سيبويه إلى هذا فقال: "وتقول إذا كتبت كتابا: من فلان إلى فلان، فهذه الأسماء سوى الأماكن بمنزلتها" هذا نصه. ومجيء من التبعيض كثير كقوله تعالى (خلق كلَّ دابّة من ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم مَن يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع).

وعلامتها جواز الاستغناء ببعض عنها كقراءة عبد الله (لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا بعض ما تحبّون). ومجيؤها لبيان الجنس كقوله تعالى (يُحَلَّوْن فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرًا من سندس) وقوله تعالى: (خلق الإنسانَ من صلصالٍ كالفخّار * وخلق الجانَّ من مارج من نار) ومجيؤها للتعليل كقوله تعالى (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) و (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل). ومنه قول عائشة رضي الله عنها "فما أستطيع أن أقضيَه إلّا في شعبان الشغلُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يمنعني الشغل من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكقول الشاعر: ومُعتصمٍ بالحقّ مِن خَشْية الرّدى ... سَيَرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سيئوبُ والتي للبدل كقوله تعالى (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض يخلفون). ومنه قول الشاعر: أخذوا المخاض من الفصيل غُلُبّةً ... ظُلْما ويُكتَب للأمير أفيلا ومجيؤها للمجاوزة: غُذت منه وشبعت ورويت. ولهذا المعنى صاحبت أفعل

التفضيل، فإن القائل زيد أفضل من عمرو، كأنه قال: جاوز زيد عمرا في الفضل. وهذا أولى من أن يقال لابتداء الارتفاع في نحو أفضل منه والانحطاط في شرّ منه كما زعم سيبويه؛ إذ لو كان الابتداء مقصودا لجاز أن تقع بعدها إلى. وقد أشار سيبويه إلى أن ابتداء الغاية قد يُقصد دون إرادة مُنْتَهى، فقال: "وتقول ما رأيته مذ يومين، فجعلتها غاية، كما قلت أخذته من ذلك المكان فجعلته غاية ولم تُرد منتهى" هذا نصه. والصحيح أن "من" في نحو أخذته من ذلك المكان للمجاوزة إذ لو كان الابتداء مقصودا مع أخذت كما هو مقصود مع حملت في قولك حملته من ذلك المكان لصدق على استصحاب المأخوذ أخذ، كما يصدق على استصحاب المحمول حمل. وأماما في: رأيته من يومين ونحوه فقد جعلها بعضهم بمعنى "في" وليس كذلك، والمراد بما رأيته من يومين ونحوه نفي الرؤية في مدة أنت في آخرها والابتداء والانتهاء مقصودان واليومان معيّنان. ولو جيء بفي مكان من لم يفهم تعيّن ولا ابتداء ولا انتهاء. وقد يقع موقع "مُذْ" ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها "هذا أول طعام أكله أبوك من ثلاثة أيام". فلو كان المجرور بمذ أو منذ حاضرا غير مثنى ولا مجموع صح قصد معنى "في" في قوله صلى الله عليه وسلم للملكين عليهما السلام "طرقتماني منذ الليلة". وأشار سيبويه إلى أن "من" الزائدة قصد بها التبعيض لأنه قال بعد تمثيله بما أتاني من رجل: "أدخلت من لأنه موضع تبعيض، فأراد أنه لم يأت بعض الرجال" هكذا قال. يريد أن من دلت على شمول الجنس، فلكل بعض منه قسط من المنسوب إلى جميعها، فالتبعيض على هذا التقدير مقصود. وهذا غير مرضيّ، لأنه يلزم منه أن تكون ألفاظ العموم للتبعيض. وإنما المقصود بزيادة من في نحو: ما أتاني

من رجل: جعل المجرور بها في العموم، وإنما تكون للتبعيض إذا لم يقصد عموم، وحسن في موضعها "بعض" نحو (ومن الناس مَن يقول آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) و (منهم المؤمنون وأكثرُهم الفاسقون) و (فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابِقٌ بالخيرات). وقد صرّح سيبويه بذا المعنى فقال: "وتكون للتبعيض نحو هذا منهم، كأنك قلت بعضهم". وأشار أيضا إلى قصد التبعيض بالمصاحبة أفعل التفضيل فقال في: هو أفضل من زيد: "فضّلة على بعض ولم يَعُمّ". ويبطل كون هذه للتبعيض أمران: أحدهما عدم صلاحية بعض في موضعها، والثاني صلاحية كون المجرور بها عاما كقوله: الله أعظم من كل عظيم، وأرحم من كل رحيم. وإذا بطل كون المصاحبة أفعل التفضيل لابتداء الغاية وللتبعيض تعيّن كونها لمعنى المجاوزة، كما سبق. ومجيء من للانتهاء كقولك قربت منه، فإنه مساو لقولك قربت إليه. وقد أشار سيبويه إلى أن من معاني من الانتهاء فقال: "وتقول رأيته من ذلك الموضع فجعلته غاية رؤيتك، كما جعلته غاية حين أردت الابتداء". قال ابن السراج – رحمه الله -: "وحقيقة هذه المسألة أنك إذا قلت رأيت الهلال من موضعي، فمِن لكَ، وإذا قلت رأيت الهلال من خلل السحاب فمِن للهلال، والهلال غاية لرؤيتك، فلذلك جعل سيبويه من غاية في قولك رأيته من ذلك الموضع". وقد جاء "من" بمعنى "على" في قوله تعالى (ونَصرناه من القوم الذين كَذَّبوا بآياتِنا)

أي على القوم. كذلك قال أبو الحسن الأخفش. وإليه أشرت بذكر الاستعلاء في معاني "من". وأشرت بذكر الفَصْل إلى دخولها على ثاني المتضادّين نحو (واللهُ يعلم المفسدَ من المصلح) و (حتى يميز الخبيثَ من الطَّيِّبِ) ومنه قول الشاعر: إذا ما ابتدأتَ امرأ جاهلا ... ببِرّ فقَصّر عن فعْله ولم تره قائلا للجميل ... ولا عَرف العزّ مِن ذُلّهِ فسُمْه الهوانَ فإنْ الهوانَ ... دواءٌ لذي الجهل من جَهْلِه وأشرت بموافقة الباء إلى قوله تعالى (ينظرون من طرفٍ خفيّ) أي بطرف خفي قال الأخفش: قال يونس: "نظرون من طرف خفي" أي بطرف، كما تقول ضربته من السيف أي بالسيف. وأشرت بموافقة "في" إلى نحو قول عدي بن زيد: عسى سائلٌ ذو حاجةٍ إنْ مَنَعْتَه ... من اليوم سُؤْلًا أنْ يُيَسَّرَ في غد وتزاد "من" للعموم كقولك ما في الدار من رجل، فمن زائدة لأن الكلام يصح بدونها إذا قلت ما فيها رجل، لكن ما فيها من رجل لا محتمل له غير العموم؛ ولذلك يخطّأ مَن قال ما فيها من رجل بل اثنان، وما فيها رجل محتمل لنفي الجنس على سبيل العموم ولنفي الواحد دون ما فوقه، ولذلك يجوز أن يقال ما فيها رجل بل اثنان. فلو كان المجرور بمن هذه "أحدا أو دبيّا" أو غيرهما من الأسماء المقصورة على العموم لكانت مزيدة لمجرد التوكيد، فقولك ما فيها أحد وما فيها من أحد سيّان في

إفهام العموم دون احتمال. ولا يكون المجرور بها عند سيبويه إلا نكرة بعد نفي أو نهي أو استفهام نحو (هل مِن خالق غيرُ الله). وإلى النهي والاستفهام أشرت بذكر شبه النفي. وأجاز أبو الحسن الأخفش وقوعها في الإيجاب وجرها المعرفة. وبقوله أقول لثبوت السماع بذلك نظما ونثرا، فمن النثر قوله تعالى (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) وقوله تعالى (يُحلَّوْنَ فيها من أساورَ من ذهب) وقوله تعالى (ويكفّرُ عنكم من سيّئاتكم) وقوله تعالى (وآمِنوا به يغفرْ لكم من ذنوبكم) وقوله تعالى (تجري من تحتها الأنهارُ) وقول عائشة رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحوا من كذا" أخرجه البخاري، وضبطه بضبطه مَن يعتمد عليه بنصب "نحوا" على زيادة من وجعل قراءته فاعلا ناصبا نحوا. والأصل فإذا بقي قراءته نحوا من كذا. ومن النظم المتضمن زيادة "من" في الإيجاب قول عمر بن أبي ربيعة: ويَنْمي لها حبُّها عندنا ... فما قال من كاشحٍ لم يَضرْ أراد فما قال كاشح لم يضر. ومنه قول الآخر:

لما بلغتُ إمام العدْل قلتُ لهم ... قد كان من طُول إدْلاجي وتهْجيري أراد قد كان طول إدلاجي وتهجيري. ومنه قول الآخر: وكنت أرى كالموت من بين ساعة ... فكيف ببَيْنٍ كان موعده الحشر أراد وكنت أرى بين ساعة كالموت. ومثله قول الآخر: يظلُ به الحرباءُ يَمْثلُ قائما ... ويكثرُ فيه من حنينِ الأباعر أراد ويكثر فيه حنين الأباعر. وممن رأى زيادة "من" في الإيجاب الكسائي، وحمل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون" فقال: أراد إنّ أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون. وممن رأى ذلك أبو الفتح بن جني، وحمل عليه قراءة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيّين لمّا آتيناكم) أراد وإذ أخذ الله ميثاق النبيي لممّا آتيناكم، فزاد من في الواجب وأدغم نونها في ميم "ما" فصارت لمما، بثلاث ميمات فحذفت الأولى وبقيت لمّا بميمين، أولهما بدل من نون، والثانية ميم ما، وأشرت بقولي "وربما دخلت على حال" إلى قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي جعفر وزيد بن علي والحسن ومجاهد (ما كان ينبغي لنا أنْ

نُتَّخذ من دونك من أولياء). وإذا دخلت من على قبل وبعد ولدن وعن فهي زائدة، لأن المعنى بثبوتها أو سقوطها واحد. وإذا دخلت على عند ولدى ومع وعلى فهي لابتداء الغاية. و"عن" بعد دخول من بمعنى جانب و"على" بمعنى فوق. قال جرير في "من عن": وإني لعفُّ الفقر مشترك الغنى ... سريعٌ إذا لم أرْضَ داري انتقاليا جريءُ الجَنان لا أُهالُ من الرَّدى ... إذا ما جعلتُ السيفَ من عن شماليا وقال آخر: ولقد أراني للرّماحِ دريئةً ... من عن يميني تارةً وشمالي وقال آخر في من عليه: غدتْ مِن عليه بعد ما تمَّ ظمؤها ... تصلُّ وعن قيْض بَزيزاءَ مَجْهَل فهذا مما تختص به "من" وتختص أيضا من في القسم بالرَّبِّ نحو من ربّي إنك لأشر. وقد يقال مُن ربّي بضم الميم. ولا يجوز ذلك في غير قسم، وكاختصاص "من" في القسم بالربّ اختصاص التاء واللام فيه بالله نحو (تاللهِ لقد آثرك الله علينا)، ولله لا يؤخر الأجل. وشذ دخول اللام على الله ودخول التاء على الرب، روى ذلك الأخفش. ومن ذلك قول الشاعر:

للهِ يبقى على الأيّامِ ذو حيَد ... بمشمخرٍّ به الظيّانُ والآسُ ص: ومنها "إلى" للانتهاء، وللمصاحبة وللتبيين، ولموافقة اللام وفي ومن، ولا تزاد خلافا للفراء. ش: أردت بقولي للانتهاء مطلقا شيئين: أحدهما عموم الزمان والمكان كقولك سرت إلى آخر النهار، وإلى آخر المسافة. والثاني أن منتهى العمل بها قد يكون آخرا وغير آخر، نحو: سرت إلى نصف النهار، وإلى نصف المسافة. ونبهت بقولي "وللمصاحبة" على أنها تكون بمعنى "مع" كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالَهم إلى أموالكم) و (مَنْ أنصاري إلى الله). قال الفراء في (مَن أنصاري إلى الله) "قال المفسرون من أنصاري مع الله وهو وجه حسن. قال: وإنما تجعل إلى كمع إذا ضممت شيئا إلى شيء كقول العرب: "إنّ الذّوْد إلى الذّود إبل" فإن لم يكن ضم لم تكن إلى كمع، فلا يقال في مع فلان مال كثير: إلى فلان مال كثير. قلت: ومن مجيئها بمعنى "مع" قول الشاعر: برى الحبُ جسْمي ليلةً بعد ليلةٍ ... ويوما إلى يوم وشهْرا إلى شهر ومثله: ولقد لهوتُ إلى كواعبَ كالدُّمى ... بيض الوجوه حديثهُنَّ رخيمُ ومثله:

وإن امرأ قد عاش تسعين حِجّة ... إلى مائةٍ لم يسأمِ العيشَ جاهلُ ومثله قول الآخر: فلم أرَ عُذرا بعد عشرين حِجّةً ... مضتْ لي وعشرٌ قد مضيْنَ إلى عَشْرِ ونبهت بقولي "وللتبيين" على المتعلقة في تعجب أو تفضيل بحبّ أو بُغْض مبيّنة لفاعليّة مصحوبها كقول الله تعالى (رَبِّ السجنُ أحبُّ إليَّ ممّا يدعونني إليه) وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأيمُ الله لقد كان خليقا للإمارة، وإنْ كان من أحب الناس إليّ". وأشرت بموافة اللام إلى نحو (والأمرُ إليك) فاللام في هذا هو الأصل، كقوله تعالى (للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ) وكقوله تعالى (والأمرُ يومئذ لله) و (هلْ لنا من الأمر من شيء قلْ إنَّ الأمرَ كلَّه لله). وكقوله تعالى (ويهْدي من يشاء إلى صراطٍ مُسْتقيم)؛ فإنها موافقة للام (الحمد لله الذي هدانا لهذا) و (قل اللهُ يهدي للحقّ) (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقْوَمُ). ومنه قول عمر رضي الله عنه "لا يمنعنّك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهُديت فيه لرُشدك أن ترجع إلى الحق".

وأشرت بموافقة "في "إلى قول الشاعر: فلا تتركنّي بالوعيد كأنّني ... إلى الناس مَطْلِيُّ به القارُ أجربُ ومثله قول النمر: إذا جئتُ دَعْدًا لا أبينُ كأنّني ... إلى آل دَعْدٍ من سلامانَ أو نَهْد أراد في الناس وفي آل دعد. ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى (ليجمعنّكم إلى يوم القيامة) و (ثُم يجمعكم إلى يوم القيامة) ومثال موافقة من قول ابن أحمر: تقولُ وقد عاليتُ بالكُور فوقها ... أيُسْقى فلا يَرْوَى إليّ ابنُ أحمرا أي فلا يروى مني وزعم الفراء أنها زائدة في قراءة بعضهم (فاجعل أفئدة من الناس تهوَى إليهم) ونظرها باللام في قوله تعالى (رَدِفَ لكم بعض الذي تستعجلون). وأولى من الحكم بزيادتها أن يكون الأصل. تهوى، فجعل موضع الكسرة فتحة، كما يقال في رَضِي: رَضَى، وفي ناصية: ناصاة، وهي لغة طائية، وعليها قول الشاعر: نستوقد النبل في الحضيض ونصـ ... طادُ نفُوسا بُنَتْ على الكرم أراد بُنيتْ على الكرم.

ص: ومنها اللام للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق، وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ وللتعجب وللتبيين وللصيرورة. ولموافقة في وعند وإلى وبعد وعلى ومن. وتزاد مع مفعول ذي الواحد قياسا في نحو (للرُّؤْيا تعْبرُون) و (إنّ ربك فعّال لما يُريد) وسماعا في نحو (ردِف لكم). وفتح اللام مع المضمر لغة غير خزاعة، ومع الفعل لغة عُكل وبلعنبر. ش: لام المِلك نحو المالُ لزيد، ولام شبه الملك نحو: أدوم لك ما تدوم لي، وكقول الشاعر: مالمولاكَ كنتَ كان لك المَوْ ... لى، ومثلُ الذي تَدين تُدان ومن هذا النوع المفهمة مقابلة لعلي كقوله تعالى (مَن عمِل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها). وكقول الشاعر: فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَرّْ ولام التمليك نحو وهبت لزيد دينارا، ولام شبه التمليك نحو (واللهُ جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدةً) ولام الاستحقاق نحو: الجلباب للجارية، والجُلّ للفرس. ولام النسب نحو لزيد عمّ هو لعمرو خال، ولعبد الله ابن هو لجعفر عم. ولام التعليل نحو (لِتحكمَ بين الناس بما أراك اللهُ) و (لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم) وكقول الشاعر:

ولو سألتْ للناسِ يومًا بوجْهها ... سحابَ الثُّريًّا لاستهلَّت مُواطرُه ومن لامات التعليل الجارة اسم مَن غاب حقيقة أو حكما عن قائل قول معلق به نحو (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه) ومثله (والذين قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا) ومثله (الذين قالوا لإخوانهم وقَعَدوا لو أطاعونا ما قُتِلوا) ومثله (وقالت أخراهم لأولاهم ربَّنا هؤلاء أضلونا) ومثله (ولا أقول للذين تزدري أعينُكم لنْ يُؤتيَهم اللهُ خيرا) ومنه قول الشاعر: وقولُك للشيءِ الذي لا تناله ... إذا ما هو احلَوْلَى: ألا ليتَ ذاليا ومنه: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيَه ... فالكل أعداء له وخُصوم كضرائر الحسناءِ قلن لوجهها ... حَسَدًا وبَغْيا إنه لدميمُ ولام التبليغ الجارة اسم سامع قول أو ما في معناه نحو: قلت له، وبَيّنت له وفسّرت له، واستجبت له ونصحت له، إلا أن هذين قد يستغنيان عن اللام فيقال شكرته ونصحته. والمختار تعديتهما باللام، وبذلك نزل القرآن العزيز كقوله تعالى (واشكروا لي ولا تكفرون) وكقوله تعالى (وأنصحُ لكم وأعلمُ من الله ما لا

تعلمون). ولام التعجب كقول الشاعر: شباب وشيب وافتقار وثروة ... فلله هذا الدهر، كيف ترددا ومثله: فللهِ عَيْنا مَن رأى مِن تفرّق ... أشتَّ وأنأى من فراقِ المُحَصَّب ولام التبيين الواقعة بعد أسماء الأفعال والمصادر التي تشبهها مبيّنة لصاحب معناها، والمتعلقة بحب في تعجب أو تفضيل مبيّنة لمفعولية مصحوبها، فالأول نحو (هَيْتَ لك) و (هيهاتَ هيهاتَ لما توعَدون) والثاني نحو ما أحب زيدا لعمرو، وقوله تعالى (والذين آمنوا أشدُّ حُبًّا لله) ولام الصيرورة كقوله تعالى (فالْتَقطه آلُ فرعون ليكون لهم عدُوًّا وحَزَنا) وكقول الشاعر: فللموت تغذو الوالداتُ سِخالها ... كما لخَرابِ الدُّورِ تُبنى المساكنُ ومثله: لا أرى حِصْنا يُنجّى أهله ... كلُّ حيٍّ لفناء ونفَدْ والموافقة "في" كقوله تعالى (ونضع الموازن القسط ليوم القيامة) كقوله تعالى (لا يُجَلِّيها لوقتها إلّا هو) ومنه قول مسكين الدارمي:

أولئك قومي قد مَضوا لسبيلهم ... كما قد مضى لقمانُ عادٍ وتُبّع ومنه قول الحكم بن صخر: وكلُّ أبٍ وابنٍ وإن عُمِّرا معا ... مُقيمَيْن مفقود لوقتٍ وفاقِد والموافقة "عند" كقراءة الجحدريّ (بل كذَّبوا بالحقِّ لما جاءهم) قال أبو الفتح بن جني: أي عند مجيئه إيّاهم، كقولك كتب لخمس خلون. والموافقة "إلى" كقوله تعالى (حتّى إذا أقلّت سحابا ثقالًا سقناه لبلد مَيّتٍ) وكقوله تعالى (كلٌّ يجري لأجل مسمّى). والموافقة "بعد" كقوله تعالى (أقم الصلاةَ لدلوك الشمس) أي بعد زوالها. وكقول الشاعر يرثي أخاه: لفما تفرّقْنا كأنِّي ومالِكا ... لطُول اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلة معا أي بعد طول اجتماع. والموافقة "على" كقوله تعالى (يخرُّون للأذقان سُجَّدا)، و (دعانا لجنبه أو قاعدًا أو قائما و (فلمّا أسلما وتَلّهُ للجبين) ومثله قول الشاعر: تناوله بالرمح ثم ثنى له ... فخرّ صريعًا لليدين وللفم

والموافقة "من" كقول جرير: لنا الفضلُ في الدنيا وأنفُك راغمٌ ... ونحن لكم يومَ القيامة أفضلُ ومثله قول الآخر – أنشده ثعلب -: فإنّ قرينَ السوء لستَ بواجد ... له راحةً ما عشتَ حتى تفارقَهْ أي لست بواجد منه راحة. ومثله: إذا الحلمُ لم يغلبْ لك الجهلَ لم تزلْ ... عليك بُروقٌ جَمّةٌ ورواعِدُ ومن لامات الجر الزائدة، ولا تزاد إلا مع مفعول به بشرط أن يكون عامله متعديا إلى واحد، فإن كانت زيادتها لتقوية عامل ضعيف بالتأخر نحو (إن كنتم للرؤيا تعبرون) أو بكونه فرعا في العمل نحو (وإن ربك فعّال لما يريد) جاز القياس على ما سمع منها. وإن كانت بخلاف ذلك قصرت على السماع نحو (رَدِف لكم). ومنه قول الشاعر: ومَن يكُ ذا عُودٍ صليبٍ رجابه ... ليكسرَ عودَ الدهرِ فالدهرُ كاسِرُه ص: وتساوي لام التعليل معنى وعملا "كي" مع أنْ وما أختها والاستفهامية. ش: كي على ضربين مصدرية تذكر في إعراب الفعل، وجارة تساوي لام التعليل، ولا تدخل إلا على أنْ كقوله: فقالتْ أكلَّ الناسِ أصْبَحْتَ مانِحا ... لسانَك كيما أنْ تَغُر وتخدعا

أو على ما أختها كقوله: إذا أنتَ لم تنفع فضُرَّ فإنما ... يُرادُ الفتى كيما يضرُّ وينفعُ أو على ما الاستفهامية، تقول سائلا عن العلة: كي مَ فعلت، وفي الوقف كيمه، كما تقول لمَ فعلت، ولمَهْ؟. وكل العرب يفتحون لام الجر الداخلة على مضمر إلا "خزاعة" فإنها تكسرها مع المضمر، كما تكسر مع غيره في اللغات كلها. وإذا وليها فعل كسرها أيضا كل العرب إلا "عُكلا" و"بني العنبر" فإنهم يفتحونها، وأنشدوا على ذلك: وتأمرُني ربيعةُ كلَّ يومٍ ... لَأهْلِكها وأقْتَني الدَّجاجا الرواية فيه بفتح اللام. ص: ومنها الباء للإلصاق، وللتعدية، وللسببية، وللتعليل، وللمصاحبة وللظرفية وللبدل وللمقابلة ولموافقة عن ومن التبعيضية. وتزاد مع فاعل ومفعول وغيرها. ش: باء الإلصاق هي الواقعة في نحو وصلت هذا بهذا، وباء التعدية هي القائمة مقام همزة النقل في إيصال الفعل اللازم إلى مفعول به، كالتي في (ذهب الله بنورهم) و (لذهب بسمعهم وأبصارهم). وأما السببية فهي الداخلة على

صالح للاستغناء به عن فاعل معدّاها مجازا نحو (فأخرج به من الثَّمرات رزقًا) و (تُرهبون به عدوَّ الله وعَدُوَّكم). فلو قصد إسناد الإخراج إلى الهاء من قوله تعالى (فأخرج به) وإسناد الإرهاب إلى الهاء من قوله تعالى (ترهبون به) فقيل أنزل ما أخرج من الثمرات رزقا، وما استطعتم يرهب عدو الله، لصحّ وحسُن، لكنه مجاز والآخر حقيقة. ومنه كتبت بالقلم وقطعت بالسكين، فإنه يصح أن يقال كتب القلم وقطع السكين. والنحويون يعبرون عن هذه بالباء بباء الاستعانة. وآثرت على ذلك التعبير بالسببية من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى، فإن استعمال السببية فيها يجوز، واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز. وباء التعليل هي التي يحسن غالبا في موضعها اللام كقوله تعالى (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم) و (فبظُلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أُحِلّت) و (إنّ الملأ يأتمرون بك) وكقول الشاعر: ولكنَّ الرَّزِيّةَ فَقْدُ قَرْم ... يموتُ بموته بَشَرٌ كثيرُ واحترزت بقولي "غالبا" من قول بعض العرب: غضبت لفلان، إذا غضبت من أجله وهو حيّ، وغضبت به إذا غضبت من أجله وهو ميّت. وباء المصاحبة هي التي يحسن في موضعها "مع" وتغني عنها وعن مصحوبها الحال كقوله تعالى (قد جاءكم الرَّسولُ بالحقّ) أي مع الحق ومحِقًّا، وكقوله تعالى (اهْبِط بسلامٍ

منّا وبركاتٍ عليك) أي مع سلام ومسلّما. ومساواة هذه الباء "مع" قد يُعبر سيبويه عنه بالمفعول به. وباء الظرفية هي التي يحسن في موضعها "في" نحو قوله تعالى (وما كنتَ بجانب الغربيّ) و (لقد نصركم اللهُ ببدر) و (إذ أنتم بالعُدوة الدنيا وهم بالعُدوة القُصْوى) و (إنك بالواد المُقدَّسِ طُوى) و (وما كنت بجانب الطُّور) و (ببطن مكّة) و (وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين * وبالليل) (إلا آل لوط نجّيناهم بسحر). وباء البدل هي التي يحسن في موضعها "بدل" كقول رافع بن خديج رضي الله عنه: "ما يسرُّني أنّي شهدت بدرا بالعقبة". ومثله قول الشاعر: فليتَ لي بهمُ قوما إذا ركبوا ... شنّوا الإغارةَ فُرسانًا ورُكْبانا ومثله قول الآخر: يَلْقى غريمتكم من غير عُسْرتكم ... بالبَذْل بُخلا وبالإحسان حِرمانا وباء المقابلة هي الداخلة على الأثمان والأعواض كقولك اشتريت الفرس بألف، وكافأت الإحسان بضعف، وقد تسمّى باء العوض. والموافقة "عن" كقوله

تعالى (ويومَ تَشَقَّق السماءُ بالغمام) و (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) أي عن أيمانهم. كذا قال الأخفش. ومثله: (فاسألْ به خبيرًا). ومثله قول الشاعر: هلّا سألتَ بنا فوارسَ وائلٍ ... فلنحن أقربُها إلى أعدائها والموافقة "على" كقوله تعالى (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يُؤدِّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يُؤدِّه إليك). أي على قنطار وعلى دينار. كذا قال الأخفش، وجعل مثله قولهم: مررت به، أي عليه، قال الله تعالى (وإذا مَرُّوا بهم يتغامزون) (يَمرُّون عليها) و (لَتَمُرُّون عليهم) وقال تعالى (هل آمنُكم عليه إلّا كما أمنتكم على أخيه من قبلُ). ومن موافقة الباء لعلى قول الشاعر: أربٌّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالبُ أراد يبول على رأسه. والموافقة "من" التبعيضية كالثانية في قول الشاعر: فلثمتُ فاها آخذًا بقرونها ... شُرْبَ النَّزيف ببَرْدِماءِ الحَشْرج

ذكر ذلك أبو علي الفارسي في التذكرة. وروي مثل ذلك عن الأصمعي في قول الآخر: شرِبْنَ بماءِ البحر ثم تَرَفّعَتْ ... متى لججٍ خُضْر لهنَّ نئيجُ والأجود في هذا أن يضمن شربن معنى روين ويعامل معاملته، كما ضمن يحمى معنى يوقد فعومل معاملته في (يوم يُحْمى عليها في نار جهنّم)، لأن المستعمل أحميت الشيء في النار وأوقدت عليه. وزيادة الباء مع الفاعل نحو: أحسِنْ بزيد، و (كفى بالله شهيدًا) وحُبَّ بها مقتولة وقوله: ألم يأتيك والأنباءُ تنمي ... بما لاقتْ لبون بني زياد وقوله: ألا هل أتاها والحوادثُ جمّةٌ ... بأنّ امرأ القيسِ بن تَملُكَ بَيْقرا وقوله: أوْدى بنَعْليَّ وسِرْباليَهْ وزيادتها مع المفعول نحو (ولا تُلْقوا بأيديكم إلى التّهلُكَةِ) و (هُزّي

إليك بجذْع النخلة). و (فليَمْدُدْ بسببٍ إلى السماءِ) و (ومَن يُرِدْ فيه بإلحادٍ) و (تُنْبتُ بالدُّهْن) في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، و (يُذهب بالأبصار) في قراءة أبي جعفر. ومن الشواهد الشعرية قول الشاعر: شهيدي سُويدٌ والفوارسُ حوله ... وما ينبغي بعد ابن قيس بشاهد ومثله: فلمّا رجتْ بالشُّرْب هَزّ لها العصا ... شحيحٌ له عند الإزاء نهيمُ ومثله: وكفى بنا فَضْلا على مَن غيرنا ... حبُّ النبيِّ مُحمّدٍ إيّانا أراد كفانا فضلا حب النبي إيّانا. وكثرت زيادتها مع مفعول "عرف "وشبهه. وقلت زيادتها في مفعول ذي مفعولين كقول حسان: تبلتْ فؤادكَ في المنام خريدةٌ ... تَسقي الضجيعَ بباردٍ بسّامِ وأشرت بقولي "وفي غيرهما" إلى زيادتها في بحسبك، وفي المواضع المذكورة في باب كان.

ص: ومنها "في" للظرفية حقيقة ومجازا، وللمصاحبة، وللتعليل وللمقايسة، ولموافقة على والباء. ش: في التي للظرفية الحقيقية نحو (واذكروا الله في أيّام معدوداتٍ) و (ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد). والتي للظرفية المجازية نحو (ولكم في القصاصِ حياةٌ) و (لقدْ كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسّائلين) وشواهد ذلك كثيرة لأنه الأصل. والتي للمصاحبة نحو قوله تعالى (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجنّ والإنس في النار)، أي ادخلوا في النار مع أمم قد خلت من قبلكم وتقدّم زمانُهم زمانَكم. كذا جاء في التفسير، وهو صحيح. ومثله (ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنّة) (وحقَّ عليهم القولُ في أممٍ قد خلت من قبلهم) و (فخرج على قومه في زينته). ومنه قول الشاعر: كحْلاءُ في بَرَجٍ صفراءُ في نَعَجٍ ... كأنها فِضَّةٌ قد مسَّها ذَهبُ ومثله: شموسٌ رَدودٌ في حياء وعفَّة ... رخيمةُ رَجْع الصَّوْت طيّبةُ النَّشْر والتي للتعليل كقوله تعالى (لولا كتابٌ من الله سبق لمسَّكم فيما أخذتم

عذابٌ عظيمٌ) وكقوله تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدّنيا والآخرة لمسَّكم فيما أفضتم فيه عذابٌ عظيم) وكقوله تعالى: (فذلكنَّ الذي لُمتنّني فيه) وكقوله صلى الله عليه وسلم "عُذّبت امرأةٌ في هرة" ومنه قول الشاعر: فليت رجالا فيكِ قد نذروا دمي ... وهمّوا بقتلي يابثينَ لقُوني ومثله: لوى رأسَه عنِّي ومال بودِّه ... أغانيجُ خَوْد كان فينا يَزورها ومثله: أفي قمليٍّ من كُلَييب هَجوته ... أبو جهضم تغلي عليَّ مراجِلُهْ ومثله: بكرتْ باللَّوْم تلحانا ... في بعير ضَلّ أو حانا والتي للمقايسة هي الداخلة على تال يقصد تعظيمه وتحقير متلوّه كقوله تعالى (فما متاعُ الحياة الدُّنيا في الآخرة إلّا قليلٌ) وكقوله صلى الله عليه وسلم (ما أنتم في سواكم إلا

كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود" وكقول الخضر لموسى عليه السلام "ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقارة من البحر" ومنه قول الشاعر: فما جمعُكم في جمْعنا غيرُ ثعلب ... هوى بين لحيَى أجرد العين ضيغم ومثله: كلُّ قتيلٍ في كُليب حُلّامْ ... حتى ينال القتلُ آل همّامْ والموافقة "على" كقوله تعالى (ولأصلبنّكم في جذوع النخل) ومنه قول حسان رضي الله عنه: بنو الأوْس الغطارف آزرتْها ... بنو النّجارِ في الدِّين الصَّليب ومثله: بطل كأنَّ ثيابَه في سَرْحة ... يُحْذى نعال السَّبْتِ ليس بتَوْءمِ والموافقة الباء كقوله تعالى (جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه) أي يكثركم به. كذا جاء في التفسير. ومثله قول الأفوه الأوديّ: أعطَوا غُواتَهم جهلا مقادتهم ... وكلُّهم في حبال الغَيِّ مُنْقادُ

ومثله قول زيد الخيل: وتركبُ يومَ الرَّوْع فيها فوارسٌ ... بصيرون في طعن الأباهر والكُلى ومثله: وخضخَضْن فينا البحرَ حتّى قطَعْنَه ... على كلِّ حالٍ من غُمارٍ ومن وحلْ ومثله: وأرغبُ فيها عن لقيطٍ ورهطِه ... ولكنني عن سِنْبس لستُ أرغبُ أي وأرغب بها. وحكى يونس عن بعض العرب: ضربته في السيف، أي بالسيف. ص: ومنها "عن" للمجاوزة، وللبدل وللاستعلاء وللتعليل، ولموافقة بد وفى. وتزاد هي وعلى والباء عوضا. ش: استعمال عن للمجاوزة أكثر من استعمالها في غيرها، ولاقتضائه المجاوزة عُدّي بها صدّ وأعرض وأضربَ وانحرف وعدل ونهى ونأى ورحل واستغنى، وغفل وسها وسلا. ولذلك عدّي بها رغب ومال ونحوها إذا قصد ترك المتعلق به نحو رغبت عن اللهو وملت عن التواني. وقالوا رويت عن فلان، وأنبأتك عنه، لأن المروي والمنبأ به مجاوز لمن أخذ عنه، ولاشتراك عن ومن في معنى المجاوزة تعاقبا في تعدية بعض الأفعال نحو كسوته عن عُرْي ومن عري، وأطعمته عن جوع ومن جوع، ونزعت الشيء عنه ومنه، وتقبّل عنه ومنه، ومنع عنه ومنه. ومن هذا قراءة بعض القراء: (فويلٌ للقاسية قلوبهم عن ذكر الله)

فأوقع عن موقع من والمعنى واحد. والله أعلم. واستعمالها للبدل كقوله تعالى (واتّقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا) وكقول القائل: حجّ فلان عن أبيه، وقضى عنه دَيْنا. وفي صحيح البخاري ومسلم أن رجلا قال يا رسول الله "إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم، فدين الله أحقُّ أنْ يُقْضى". ومنه قول الشاعر: كيف تراني قالبا مِجنّي ... قد قتل الله زيادا عنّي أراد كان قتل الله زيادا بدل قتلي إياه. ومثله قول الآخر: حاربتُ عنك عِدًى قد كنتَ تحذرهم ... فنلت بي منهم أمنا بلا حَذَر واستعمالها للاستعلاء كقول الشاعر: لاه ابن عمكَ لا أفضلت في حسب ... عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني أراد لا أفضلت في حسب عليّ، أي لم يَعْلُ حسبُك عليٌ حَسَبي. ومن استعمال "عن" للاستعلاء قولهم: بخل عنك، والأصل: بخل عليك، لأن الذي يُسأل فيبخل يحمّل السائل ثقل الخيبة مضافا إلى ثقل الحاجة، ففي بخل معنى ثقُل، فكان حقيقا بأن يشاركه في التعدية بعلى. فإن عُدّي بعن كان معناها معنى على، وأيضا فإنّ شحّ وضنّ بمعنى بخل، وتعديتهما في الغالب بعلى لا بعن، فكانت

بخل أحق بذلك؛ إلا أن بخل أكثر استعمالا فعدّيت بعن نيابة عن على، لأنها أخف منها، ولصلاحية عن للاستعلاء عدي بها رضي، والأصل تعديته بعلى، لأن فاعله مقبل على المعلق به ومُثن عليه. ولأن في رضيت عنه معنى رضيته وزدت على رضاه، والزيادة استعلاء فجيء بعَنْ دالة عليه، وكانت على أحق منها، لكنهم قصدوا مخالفة غضب وسخط فعدّوا رضي بعن لصلاحيتها للاستعلاء كما تقرر. وقد نبه على الأصل المتروك مَن قال: إذا رضيت عليّ بنو قشير ... لعَمْر أبيك أعجبني رضاها واستعمال عن للاستعانة كقول العرب: رميت عن القوس، كما يقولون رميت بالقوس، فعن هنا كالباء في إفادة الاستعانة. وحكى الفراء عن العرب: رميت عن القوس وبالقوس وعلى القوس وأنشد: أرمي عليها وفي فرع أجمعُ ... وهي ثلاث أذرُع وإصْبَعُ واستعمال "عن" للتعليل كقوله تعالى (وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها إيّاه) وقوله تعالى (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك) ومنه قول ضابئ البُرجميّ: وما عاجلاتُ الطير تُدني من الفتى ... نجاحًا ولا عن وَلْيهنّ مخيّبُ واستعمال عن موافقة لبعد كقوله تعالى (لتركبُنّ طبقا عن طبق) أي حالا

بعد حال. ومنه قول الشاعر: قرّبا مَرْبط النَّعامةِ مِنّي ... لقِحتْ حربُ وائلٍ عن حيالِ ومثله: لئن مُنيتَ بنا عن غب معركة ... لا تُلْفِنا عن دماءِ القوم نَنْتَفلُ واستعمالها موافقة لفي كقول الشاعر: وآس سراةَ الحيّ حيثُ لقِيتَهم ... ولا تكُ عن حَمْل الرّباعة وانيا أي في حمل الرباعة وانيا. وجعلت هنا الأصل "في" كقوله تعالى (ولاتَنِيا في ذكري) وأشرت بقولي "وتزاد هي وعلى والباء عوضا" إلى قول الشاعر: أتجزع إنْ نفسٌ أتاها حمامُها ... فهلّا التي عن بين جنبيك تدفع وإلى قول الراجز: إنّ الكريم وأبيك يعتملْ ... إن ليم يجدْ يومًا على من يتّكلْ وإلى قول الشاعر: ولا يُؤاتيك فيما ناب من حدث ... إلا أخو ثقةٍ، فانظر بمن تثقُ قال أبو الفتح بن جني في البيت الأول: أراد فهلا عن التي بين جنبيك تدفع، فحذف عن وزادها بعد التي عوضا. وقال في الرجز: أراد إن لم يجد من يتكل عليه [فحذف عليه]، وزاد على قبل من عوضا.

وقلت أنا: أراد قائل الثالث فانظر من تثق به، فحذف "به" وزاد الباء قبل مَن عوضا. ويجوز عندي أن تعامل بهذه المعاملة: من واللام وإلى وفي، قياسا على عن وعلى والباء، فيقال عرفت ممن عجبت، ولمن قلت له وإلى من أويت، وفيمن رغبت (والأصل عرفت من عجبت منه ومن قلت له ومن أويت إليه ومن رغبت فيه) فحذف ما بعد من وزيد ما قبلها عوضا". ص: ومنها على للاستعلاء حسّا أو معنى، وللمصاحبة وللمجاوزة وللتعليل وللظرفية، ولموافقة من والباء. وقد تزاد دون تعويض. ش: استعمال على للاستعلاء حسا كقوله تعالى: (كلُّ مَن عليها فانٍ) (وعليها وعلى الفُلْك تُحْمَلون) واستعمالها للاستعلاء معنى نحو (تلك الرُسلُ فضّلنا بعضهم على بعض) (ولهنّ مثلُ الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجةٌ). ومن هذا النوع مقابلة اللام المفهمة ما يُحَبّ، كقول الشاعر: فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَرّْ ومثله قول الآخر: عليك لالكَ مَن يلحاك في كَرَم ... مُخَوّفًا ضررَ الإملاقِ والعَدَم ومثله: لك لا عليكَ من استعنتَ فلم يُعِنْ ... إلّا على ماليسَ فيه ملامُ ومن هذا النوع وقوع على بعد وجب وشبهه، لأن وجب عليك مقابل لوجب

لك، وكذا وقوعها بعد كذب وشبهه. ومن الاستعلاء المعنوي وقوعها بعد كبر وضعف وعسر وعظم مما فيه معنى ثقُل، وكذلك ما دل على معنى تمكن نحو (أولئك على هُدًى من ربّهم) "وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت". واستعمالها للمصاحبة نحو (وآتى المال على حُبّه ذوي القُربى) (وإنّ ربَّكَ لذو مغفرة للناسِ على ظُلْمهم) و (الحمدُ لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) و (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) و (أوَ عجبتم أن جاءكم ذكرٌ من ربّكم على رجل منكم). ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين استأذن عمر رضي الله عنه "إيذن له وبشّره بالجنة على بلوى تصيبه" أي مع بلوى تصيبه. واستعماله للمجاوزة كوقوعها بعد بعُد وخفي وتعذّر واستحال وحرم وغضب وأشباهها. ولمشاركتها "عن" في المجاوزة تعاقبها في بعض المواضع نحو رضي عنه ورضي عليه، وأبطأ عنه وعليه، وأحال عنه وعليه، إذا عدل عنه، وولّى بودّه عنه وعليه قال الشاعر: وإنْ بشرٌ يومًا أحال بوجهه ... عليك فحُل عنه وإنْ كان دانيا وقال آخر:

إذا ما امرؤ ولَّى عليَّ بوُدّه ... وأدبر لم يَصْدُرْ بإدباره وُدّي واستعماله للتعليل كقوله تعالى (كذلك سخّرها لكم لتكبّروا الله على ما هداكم) وكقوله تعالى (ولتكملوا العِدَّة ولتُكبِّروا اللهَ على ما هداكم) ومنه قول الشاعر: على مؤثرات المجد تُحمد فاقْفُها ... ودعْ ما عليه ذمّ من كان قد ذمّا ومنه قول الآخر: علام تقولُ الرمحُ يُثْقل عاتقي ... إذا أنا لم أطْعُنْ إذا الخيلُ كَرَّت ومثله قول ضُريب بن أسد القيسي: علامَ قلت نعم؟ حتى إذا وجبت ... ألحقْتَ "لا" بنعم، ما هكذا الجودُ واستعمالها للظرفية كقوله تعالى (واتبعوا ما تتلو الشياطينُ على مُلْكِ سُليمان)، وكقوله تعالى (ودخل المدينةَ على حين غفلة من أهلها). ومنه قول الشاعر: يمرّون بالدهنا خفافا عيابهم ... ويخرجن من "دارين" بُجْر الحقائب على حين ألهى الناس جلُ أمورهم ... فندلا زريق المال ندْل الثعالب واستعمالها موافقة لمِنْ كقوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون * إلّا على أزواجهم) وكقوله تعالى (الذين إذا اكتالوا على الناسِ يستوفون)

المعنى من أزواجهم، ومن النّاس. واستعمالها موافقة للباء كقوله تعالى (حقيقٌ علي أن لا أقول على الله إلّا الحقّ) أي بألّا أقول. وقرأ أبيّ بن كعب رضي الله [عنه] (حقيقٌ بألّا أقول) فكانت قراءته مفسّرة لقراءة الجماعة. وقد جاءت على زائدة دون تعويض في قول حميد بن ثور: أبى اللهُ إلّا أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ ... على كُلِ أفنانِ العِضاهِ تَروقُ فزاد "على" لأن تروق متعد مثل أعجب، لأنهما بمعنى واحد، يقال راقني حُسن الجارية وأعجبني عقلها. وفي الحديث "مَن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فلْيُكفّر عن يمينه وليفعل الذي هو خير" والأصل من حلف يمينا، كما قال النابغة: حلفْتُ يمينا غير ذي مَثْنَوِيَّة فعلى زائدة، وقيل بمعنى الباء. ويلزم من كونها بمعنى الباء أن تكون زائدة، لأن الباء زائدة في قولك حلفت بيمين، لأن حلفت يتعدى إلى اليمين كتعدية آلى: حلف، لأنه بمعناه والله أعلم.

ص: ومنها "حتّى" لانتهاء العمل بمجرورها أو عنده. ومجرورها إمّا بعض لما قبلها من مفهم جمع إفهاما صريحا أو غير صريح، وإمّا كبعض، ولا يكون ضميرا، ولا يلزم كونه آخر جزء أو ملاقى آخر جزء خلافا لمن زعم ذلك. ويختص تالي الصريح المنتهي به بقصد زيادة ما، ويجوز عطفه واستئنافه. وإبدال حائها عينا لغة هذلية. ش: حتى على أربعة أقسام: عاطفة، وحرف ابتداء، وبمعنى كي، وجارة. فللثلاثة الأُوَل مواضع تجيء إن شاء الله تعالى. والجارة مجرورها إما اسم صريح نحو (ليسجُنُنَّه حتّى حين) و (سلامٌ هي حتى مطلع الفجر)، وإما مصدر مؤوّل من أنْ لازمة الإضمار. وفعل ماض نحو (حتّى عَفَوا وقالوا) أو مضارع نحو (حتّى يتبيّن لكم). وجرّها المصدر المؤوّل يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في إعراب الفعل وعوامله. وأمّا جرها الاسم الصريح فهي فيه على ضربين: أحدهما أن يكون ما بعدها جزءا لما قبلها من دليل جمع مصرح بذكره نحو ضربت القوم حتى زيد، فزيد جزء ما قبله، وما قبله دليل جمع مصرح بذكره وهو مضروب انتهى الضرب به. ويجوز أن يكون غير مضروب لكن انتهى الضرب عنده. وإذا كان الانتهاء به ففي ذكر القوم غنى عن ذكره، لكن قصد التنبيه على أن فيه زيادة ضعف أو قوة أو تعظيم أو تحقير. وإلى هذا أشرت بقولي "ويختص تالي الصريح المنتهى به بقصد زيادة ما". وعنيت بالصريح كونه بلفظ موضوع للجمعية، يدخل في ذلك الجمع الاصطلاحي واللغوي كرجال وقوم. وعنيت بغير الصريح ما دل على الجمعية بغير لفظ موضوع لها كقوله تعالى (ليَسْجُنُنَّه حتى حين) فإن مجرور حتى فيه منتهى الأحيان مفهومة غير مصرح بذكرها. ويجوز كون تالي المصرح منتهى عنده، لا به، كما يجوز مع "إلى"

فإنهما سواء في صلاحية الاسم المجرور بهما للانتهاء به وللانتهاء عنده. أشار إلى ذلك سيبويه والفراء وأبو العباس أحمد بن يحيى. وقال أحمد بن يحيى: "قوله تعالى (إلى المرافق) مثل حتى للغاية، والغاية تدخل وتخرج؛ تقول: ضربت القوم حتى زيد. فيكون زيد مضروبا، وغير مضروب، فيؤخذ هنا بالأوثق" يريد أن كون المرافق مدخلة في الغسل هو المعمول به، لأنه أحوط الحكمين. ومن شواهد استواء حتى وإلى قوله تعالى (فمتّعناهم إلى حين) قرأ عبد الله (فمتّعناهم حتّى حينٍ). ومن شواهد خروج ما بعد حتى مع صلاحيته للدخول قول الشاعر: سقى الحيا الأرضَ حتّى أمْكُن عُزيتْ ... لهم فلا زال عنها الخيرُ مجدودا ولا يعتبر في تالي غير الصريح إفهام الزيادة التي أشرت إليها. ومما يختص به تالي الصريح جواز عطفه على ما قبله نحو ضربت القوم حتى زيدا، وجواز استئنافه نحو ضربتهم حتى زيدٌ، فزيد مبتدأ محذوف الخبر. ويروى بالأوجه الثلاثة قول الشاعر: عمَمْتهم بالندى حتّى غواتهم ... فكنت مالكَ ذي غيٍّ وذي رَشَد ويروى بالثلاثة الأوجه أيضا قول الآخر: ألقى الصحيفة كيْ يُخفّف رَحْلَه ... والزادَ حتّى نعله ألقاها وإلى هذا أشرت بقولي: وإما كبعض، لأن "النعل" ليست بعضا للصحيفة

والزاد، لكنها كبعض باعتبار أن إلقاء الصحيفة والزاد وإنما كان ليخلوَ من ثقل وتشاغل، والنعل مما يثقل ويشغل، فجاز عطفها لذلك، لأنه بمنزلة من يقول ألقى ما يثقله حتى نعله. وإذا لم يصلح أن يُنسب لمجرورها ما نسب لما قبلها فالانتهاء عنده لابه نحو: صمت ما بعد يوم الفطر حتى يوم الأضحى، وسريت البارحة حتى الصباح، فانتهى الصوم عند يوم الأضحى لابه، لأنه لا يصح أن يُنسب إليه. وانتهى السُّرى عند الصباح لابه، لأنه لا يصح أن ينسب إليه. فالجر متعيّن، والعطف والاستئناف ممتنعان. ومجرورها أبدا عند سيبويه ظاهر لا مضمر. وأجاز غيره أن تجرّ المضمر، فيقال حتّاه وحتّاك. قال أبو بكر بن السراج: والقول عندي ما قال سيبويه، لأنه غير معروف اتصال حتى بالضمير، وهو في القياس غير ممتنع. والتزم الزمخشري كون مجرورها آخر جزء أو ملاقى آخر جزء، وهو غير لازم. ومن دلائل ذلك قول الشاعر: إنَّ سلمى من بعد يأسِيَ هَمَّتْ ... لوصالٍ لو صَحَّ لم يُبْقَ بُوسًا عيّنتْ ليلةً فما زلتُ حتّى ... نِصْفِها راجيًا، فعُدْتُ يئوسا وفي قراءة ابن مسعود (ليسْجُننَّه عتّى حين)، وسمع عمر رضي الله عنه رجلا يقرأ (عتّى حين) فقال من أقرأك؟ قال: ابن مسعود. فكتب إليه:

"إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربيا، وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل والسلام". ص: ومنها "الكاف" للتشبيه، ودخولها على ضمير الغائب المجرور قليل، وعلى أنت وإيّاك وأخواتها أقلّ. وقد توافق "على". وقد تزاد إن أُمن اللبس. وتكون اسما فتجُرّ ويسند إليها، وإن وقعت صلة فالحرفية راجحة. وتزاد بعدها "ما" كافة وغير كافة، وكذا بعد رُبّ والباء. وتُحدث في الباء المكفوفة معنى التقليل. وقد تحدث في الكاف معنى التعليل. وربما نصبت حينئذ مضارعا، لا لأن الأصل كيما، وإن ولي رُبّما اسم مرفوع فهو مبتدأ بعده خبره، لا خبر مبتدأ محذوف، وما نكرة موصوفة بهما خلافا لأبي علي في المسألتين. وتزاد "ما" غير كافة بعد "مِن وعن". ش: الكاف من الحروف التي تجر الظاهر وحده كحتّى، فكما استغنى في الغاية مع المضمر بإلى عن حتى، استغنى في التشبيه مع المضمر بمثْل عن الكاف. إلا أن الكاف خالفت أصلها في بعض الكلام لخخفّتها، فجرّت ضمير الغائب المتصل كقول الشنفري: لئنْ كان من جنّ لأبْرَحَ طارِقا ... وإنْ كان إنسانًا ما "كها" الإنسُ يفعلُ أي ما مثلها الإنس يفعل. ومثله قول الراجز في وصف حمار وَحْش وأُتُن: ولا أرى بعلا ولا حَلائِلا ... كهُ ولا كهُنَّ إلّا حاظِلا وقد خولف بها الأصل أيضا فأدخلت على ضمير الرفع وضمير النصب المنفصلين، فقالوا: أنا كأنت، وأنت كأنا، وأنا كإياك، قال الشاعر: قلتُ إنّي كأنتَ ثمَّتَ لمّا ... شُبّت الحربُ خُضْتُها وكَعَعْتا

وأنشد الكسائي: فأحْسِنْ وأجْملْ في أسيركَ إنّه ... ضعيفٌ ولم يَأسرْ كإيّاكَ آسِرُ وقد تجيء بمعنى على كقول بعض العرب: كخير. في جواب من قال: كيف أصبحت؟، حكاه الفراء. وقد تزاد إن أمن اللبس بكون الموضع غير صالح للتشبيه كقوله تعالى (ليسَ كمثلِه شيءٌ) فلا بُدّ من عدم الاعتداد بالكاف، لأن الاعتداد بها يستلزم ثبوت شيء لا شيء مثله، وذلك محال، وما أفضى إلى المحال محال، وكالزيادة في كمثله الزيادة في (وحورٌ عينٌ كأمثالِ اللؤْلُؤ المكنون) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى الروايتين: "يكفي كالوجه واليدين" يريد يكفي الوجه واليدان، وهي الرواية الأخرى. ومنه قول الراجز: لواحقُ الأقْرابِ فيها كالمَقَقْ يريد: فيها المقق، أي الطول. وقال الفراء: قيل لبعض العرب: كيف تصنعون الأقط؟ فقال: كهيّن. يريد هيّنا فزاد الكاف. وتكون اسما فتُجرّ بحرف كقول الشاعر: بكا للقوة الشَّغْواء جُلْتُ فلم أكنْ ... لأولعَ إلّا بالكميّ المقنّعِ وبإضافة كقوله: تيَّمَ القلبَ حبُّ كالبدرِ، لا بل ... فاق حُسْنا مَنْ تَيَّم القلبَ حُبّا

وتقع فاعلة كقول الشاعر: وما هداك إلى أرض كعالمها ... ولا أعانك في غُرْمٍ كغرّام واسم كان كقول الآخر: لو كان في قلبي كقدْر قُلامة ... فَضْلا لغيرك ما أتَتْك رسائلي ومبتدأ كقول الآخر: بنا كالجوى مما يُخاف وقد نرى ... شفاءَ القلوب الصادياتِ الحوائم وإن وقعت صلة فحرفيتها أولى من اسميّتها كقول الراجز: ما يُرْتجى وما يُخاف جَمعا ... فهو الذي كالغَيْثِ واللَّيْثِ معا وتزاد بعدها "ما" كافة كقول زياد الأعجم: لعمْري إنّني وأبا حُميد ... كما النشوانُ والرجلُ الحليمُ أريد هجاءَه وأخافُ ربّي ... وأعلمُ أنّه عبدٌ لئيمُ وغير كافة كقول الآخر، أنشده أبو علي القالي: وننْصر مولانا ونعلمُ أنّه ... كما الناسِ مجرومٌ عليه وجارِمُ قال سيبويه عن قولهم: هذا حق كما أنت ههنا، فزعم أن العامل في أنت الكاف

وما لغو، إلا أنها لا تحذف كراهية أن يجيء لفظها لفظ كأنّ. وتزاد "ما" أيضا بعد رُبّ كافة، كقول أبي دؤاد: رُبما الجاملُ المُؤَبَّلُ فيهم ... وعَناجيجُ بينهُنّ المِهار وغير كافة كقول الآخر: ماويَّ يارُبتما غارةٍ ... شعواء كالّلذْعَة بالميسمِ وكذلك تزاد بعد الباء كافة كقول الشاعر: فلئن صرتَ لا تُحيرُ جوابا ... لبما قد تُرى وأنت خطيبُ وغير كافة كقوله تعالى (بما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم). وتحدث "ما" الكافة في الباء معنى رُبّما، فمعنى قد ترى وأنت خطيب: لربما قد ترى. ومثله قول كثير: مغانٍ تُهيجنَ الحليمَ إلى الهوى ... وهُنَّ قديماتُ العُهودِ دواثرُ بما قد أرى تلك الديارَ وأهلها ... وهُنّ جميعاتُ الأنيسِ عوامرُ أراد: وربما قد أرى. وقد مع المضارع تفيد هذا المعنى. ولكن اجتمعتا توكيدا كما

اجتمعت عن والباء التي بمعناها في قول الشاعر: فأصْبحنَ لا يسألنّه عنْ بما به ... أصَعَّدَ في عُلْوِ الهوى أم تصَوّبا وتحدث "ما" الكافة في الكاف معنى التعليل كقوله تعالى (واذكروه كما هداكم) وكقول الأخفش في قوله تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويُزَكِّيكم ويُعلّمكم الكتابَ والحكمة ويعلّمكم مالم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم) [أي] كما أرسلنا فيكم رسولا فاذكروني "أي كما فعلت هذا فاذكروني". وجعل ابن برهان من هذا قوله تعالى (ويْكأنّه لا يُفْلح الكافرون)، أي أعجب لأنه لا يفلح الكافرون. وكذا قدّره ثم قال: وحكى سيبويه: كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه، أي لأنه لا يعلم. وإذا حدث فيها معنى التعليل ووليها مضارع نصبته لشبهها بكي كقول الشاعر: فطَرْفَك إمّا جئتنا فاصْرفنّه ... كما يحسبوا أنّ الهوى حيثُ تَنْظرُ وزعم الفارسي أن الأصل كيما وحذفت الياء، وهذا تكلف لا دليل عليه ولا

حاجة إليه. وكذلك أيضا زعم في قول الشاعر: ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج بينهن المهار أن "ما" فيها نكرة موصوفة بمبتدأ مضمر وخبر مظهر. والصحيح أن "ما" فيه زائدة كافة هيّأت رُبّ للدخول على الجملة الاسمية، كما هيأتها للدخول على الجملة الفعلية في قوله تعالى (رُبما يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين). وفي قول الشاعر: لا يُضيعُ الأمينُ سرّا ولكن ... رُبّما يُحْسَبُ الخئونُ أمينا وتزاد "ما" بعد "من وعن" غير كافة كقوله تعالى (مِمّا خطيئاتِهم أُغْرِقوا) و (عمّا قليلٍ ليُصْبحُنَّ نادمين). ص: ومنها "مذ ومنذ، وقد ذُكرا في باب الظروف. ومنها "رُبّ" ويقال رُبَّ ورُبُ ورُبْ، ورَبّتْ ورُبّتْ ورَبَّ ورَبْ، ورَبّتْ. وليست اسما خلافا للكوفيين والأخفش في أحد قوليه. بل هي حرف تكثير وفاقا لسيبويه، والتقليل بها نادر. ولا يلزم وصف مجرورها خلافا للمبرد ومن وافقه. ولا مضى ما يتعلق بها، بل يلزم تصديرها وتنكير مجرورها وشبهه. وقد يعطف على مجرورها وشبهه بمضاف إلى ضميريهما. وقد تجرّ ضميرا لازما تفسيره بمتأخر منصوب على التمييز مطابق للمعنى. ولزوم إفراد الضمير وتذكيره عند تثنية التمييز وجمعه وتأنيثه أشهر من المطابقة.

ش: قد بيّنت في باب المفعول فيه أن من جملة أسماء الزمان المبنيّة مُذْ ومنذُ إذا وليهما مرفوع أو جملة، وأنهما يكونان حرفي جر، واستوفيت القول بما أغنى عن مزيد فليعلم ذلك. ومن حروف الجر "رُبَّ" وفيها عشر لغات: أربع بتشديد الباء، وست بتخفيفها وقد ذكرت. وهي حرف عند البصريين، واسم عند الكوفيين والأخفش في أحد قوليه. وحرفيتها أصح لخلوها من علامات الأسماء اللفظية والمعنوية، ومساواتها الحرف في الدلالة على معنى في مسمى غير مفهوم جنسه بلفظها، بخلاف أسماء الاستفهام والشرط فإنها تدل على معنى في مسمى مفهوم بلفظها. ومقتضى هذا التقدير أن تكون "كَمْ" حرفا، لكن اسميتها ثابتة بالعلامات اللفظية وهي الإضافة إليها ودخول حرف الجر عليها والابتداء بها، وإيقاع الأفعال عليها وعود الضمير إليها. واستدل الكوفيون على اسميتها بقول الشاعر: إنْ يقتلوكَ فإنّ قتلك لم يكنْ ... عارًا عليك، ورُبَّ قَتْلٍ عارُ فزعموا أن "رُبّ" مبتدأ و"عار" خبر، والصحيح أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لقتل والتقدير: رُبّ قتل هو عار. وأكثر النحويين يقولون معنى رُبّ التقليل. قال أبو العباس: "رب تنبئ عما وقعت عليه أنه قد كان وليس بالكثير، فلذلك لا تقع إلا على نكرة، لأن ما بعدها يخرج مخرج التمييز". وقال ابن السراج: "النحويون كالمجمعين على أن رُبّ جواب لما، تقول: رب رجل

عالم؛ لمن قال لك: ما رأيت رجلا عالما، أو قدرت أنه يقول. فضارعت حرف النفي إذا كان بنية الواحد المنكور وهو يراد به الجماعة". وقال ابن السراج أيضا: "رب حرف جر، وكان حقه أن يكون بعد الفعل موصّلا له إلى المجرور كأخواته، لكن لمّا كان معناه التقليل وكان لا يعمل إلا في نكرة صار مقابلا لكم إذا كانت خبرا فجعل له صدر الكلام، كما جعل لكم". وقال الزمخشري في المفصّل: "رُبّ للتقليل". وجعلها في الكشاف للتكثير .. قلت: والصحيح أن معنى رب التكثير، ولذا يصلح "كم" في كل موضع وقعت فيه غير نادر، كقول الشاعر: رُبّ من أنضجتُ غيظًا قلْبَه ... يتمنّى ليَ مَوْتا لم يُطعْ وكقول الآخر: رب رَفْدٍ هرقتهُ ذلك اليو ... مَ وأسْرى من معشَر أقْتالِ وكقول الآخر:

ربما تكره النفوسُ من الأمـ ... ــــر له فرجةٌ كحلّ العقالِ وكقول حسان: رُبَّ حِلْم أضاعَه عدمُ الما ... لِ، وجهل غَطَّى عليه النعيمُ وكقول الآخر: ورُبَّ امرئٍ ناقص عقلُه ... وقد يعجَبُ الناسُ من شخصه وآخر تحسَبه أحمقا ... ويأتيكَ بالأمرِ من فَصّه وكقول ضائي البرجمي: ورُبَّ أمور لا تضيرُك ضيْرةً ... وللقلب من مخْشاتِهنَّ وجيبُ وكقول عدي بن زيد: رُبَّ مأمولٍ وراجٍ أملا ... قد ثناه الدهرُ عن ذاك الأمَلْ وهذا الذي أشرت إليه من أن معنى "رب" التكثير هو مذهب سيبويه رحمه الله. وقال ابن خروف: وذكر سيبويه في باب "كم" أن رب للتكثير، وذكر ذلك غيره من اللغويين، واستعمالها على ذلك موجود كثير. قلت: فمن كلامه الدال على ذلك قوله في باب "كم" اعلم أن لكم موضعين: أحدهما الاستفهام، والآخر

الخبر، ومعناهما معنى رُبّ" ثم قال بعد ذلك في الباب: "واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رب، لأن المعنى واحد، إلا أن كم اسم ورب غير اسم" هذا نصه. ولا معارض له في كتابه. فعلم أن مذهبه كون رب مساوية لكم الخبرية في المعنى، ولا خلاف أن معنى كم الخبرية التكثير. والذي دل عليه كلام سيبويه من أن معنى رب التكثير هو الواقع في غير النادر من كلام العرب نثره ونظمه. فمن النظم الأبيات التي قدمت ذكرها. ومن النثر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يارُب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "رُب أشعث لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبَرَّ قسمه". ومنه قول الأعرابي الذي سمعه الكسائي يقول بعد الفطر: رب صائمه لن يصومه، وقائمه لن يقومه. وقال الفراء: يقول القائل إذا أمَر فعُصي: أما والله رُب ندامة لك تذكر قولي فيها. وقولي "والتقليل بها نادر" أشرت به إلى قول الشاعر: ألا رُبَّ مولودٍ وليسَ له أبٌ ... وذي وَلَدِ لم يلدهُ أبوانِ يريد آدم وعيسى عليهما السلام. ومثله قول عمرو بن الشريد أخي الخنساء: وذي إخوةٍ قطّعتُ أقْران بينهم ... كما تركوني واحدًا لا أخَاليا ومثله: ويومٍ على البلقاء لم يكُ مثلَه ... على الأرضِ يومٌ في بعيدٍ ولادان

أراد بذي إخوة دريد بن حرملة قاتل أخيه معاوية بن الشريد، وأراد الآخر يوما كان فيه وقعة بين غَسّان ومذحج، في موضع يُعرف بالبلقاء. وقول المبرد رب ينبئ عما وقعت عليه أنه قد كان، هذا هو الأكثر. وأما كون ذلك لازما لا يوجد غيره فليس بصحيح. بل قد يكون مستقبلا، كقول جَحْدر اللص: فإنْ أهلك فرُبَّ فتًى سيبكي ... عليّ مهذَب رَخْص البنانِ وكقول هند أم معاوية رضي الله عنها: يارب قائلةٍ غدًا ... يالهفَ أمِّ معاويَهْ وكقول سليم القشيري: ومُعْتصم بالحيّ من خشيةِ الرَّدى ... سيردى وغازٍ مُشْفق سَيَئوبُ ومثله: يارُبَّ يومٍ لي لا أُظَلّله ... أرْمَضُ من تحتُ، وأضحى من عَلُه ومثله: يا رُبَّ غابِطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مُباعدةً منكم وحِرمانا ولا مبالاة بقول المبرد، ولا بقول ابن السراج، فإنهما لم يستندا في ذلك إلا إلى مجرّد الدعوى، ولو لم يكن غير ما ادّعياه مسموعا، لكان مساويا لما ادّعياه في إمكان الأخذ به، فكيف وهو ثابت بالنقل الصحيح في الكلام الفصيح. وقد يكون ما وقعت عليه رُبّ حالا كقولك لمن قال: ما في وقتنا امرؤ مستريح:

رب امرئ في وقتنا مستريح. ومنه قول ابن أبي ربيعة: فقمت ولم تُعْلمْ عليّ خيانةٌ ... ألا رُبَّ باغي الربْحِ ليس برابح ومثله: ألا رُبّ مَن تغْتَشُّه لك ناصحٌ ... ومُؤْتمنٍ بالغيْب غيرُ أمين وقد هُدي الزمخشري إلى الحق في معنى رب فقال في تفسير (قد نرى تقلّب وجهك) قد نرى: ربما نرى، ومعناه كثرة الرؤية. وقال قد في (قد نعلم إنه ليحزنك) بمعنى ربما الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته. وقال في (قد يعلم ما أنتم عليه) أدخل قد لتوكيد علمه بما هم عليه، وذلك أن قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير نحو قوله: فإنْ تمس مهْجور الفناءِ فرُبَّما ... أقام به بعد الوُفُود وُفُود وكلامه في هذا سديد أداه إليه ترك التقليد. وقال في (رُبما يودُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين): "فإن قلت: فما معنى التقليل ههنا؟ قلت هو وارد على

مذهب العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك، وربما يندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه، ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحقّ عليك ألا تفعل هذا الفعل، لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون كما يتحرزون من الغم المتيقن، ومن القليل منه كما يتحرز من الكثير. وكذلك المعنى في الآية: لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لكانوا حقيقين بالمسارعة إليه، فكيف وهم يودونه في كل ساعة". قلت: في هذا الكلام ما يناقض كلامه في "قد نرى" و"قد نعلم" و"قد يعلم" من دلالة رُبّما على التكثير، لأنه نسب إليها ههنا التقليل، وتكلف في تخريجه مالا حاجة إليه، ولا دلالة عليه. ثم اعترف بقول العرب: ربما يندم الإنسان على ما فعل، وأنهم لا يقصدون تقليله فهو حجة عليه وعلى من وافقه في هذا التأويل. قلد ابن السراج فإنه قال: قالوا في قوله تعالى (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) بأنه لصدق الوعد كأنه قد كان، كما قال الله تعالى (ولو ترى إذْ فزِعوا فلا فوتَ) والصحيح عندي أن "إذ" يراد بها الاستقبال كما قد يراد بها المضي، فمن ذلك قوله تعالى (فسوف يعلمون * إذ الأغلالُ في أعناقهم) وقوله تعالى (يومئذ تُحدّثُ أخبارها) فأبدل يومئذ من "إذا" فلو لم تكن "إذ" صالحة للاستقبال ما أبدل يوم المضاف إليها من "إذا" فإنها لا يراد بها إلا الاستقبال. والمبرد وابن السراج والفارسي يرون وجوب وصف المجرور برُب، وقلّدهم في ذلك أكثر المتأخرين مع أنه خلاف مذهب سيبويه، ولا حجة لهم إلا شبهتان: إحداهما أن رب للتقليل، والنكرة بلا صفة فيها تكثير بالشياع والعموم، ووصفها يحدث فيها التقليل بإخراج الخالي منه فلزم الوصف لذلك. والشبهة الثانية أن قول القائل: رب رجل عالم لقيت، ردّ على من قال: ما لقيت رجلا عالما، فلو لم يذكر الصفة لم

يكن الرد موافقا. وفي كلتا الشبهتين ضعف بَيّن. أما ضعف الأولى فلترتبها على أن رب للتقليل وقد سبق أنها للتكثير، وعلى تقدير أنها للتقليل فإن النكرة دون وصف صالحة أن يراد بها العموم فيكون فيها تكثير، وأن يراد بها غير العموم فيكون فيها تقليل. فإذا دخلت عليها رب على تقدير وضعها للتقليل أزالت احتمال التكثير، كما يزال احتمال التقليل بلا ومن الجنسيتين. فإن وصفت بعد دخول رب ازداد التقليل، فإن كان المطلوب زيادة التقليل لا مطلقة فينبغي ألا يقتصر على وصف واحد، لأن التقليل يزيد بزيادة الأوصاف. وأما الشبهة الثانية فضعفها أيضا بَيّن، لأنها مرتبة على أن رب لا تكون إلا جوابا، وعلى أن الجواب يلزم أن يوافق المجاب، وكلا الأمرين غير لازم بالاستقراء. والصحيح أنها تكون جوابا وغير جواب، وإذا كانت جوابا فقد تكون جوابا موصوفا، وجوابا غير موصوف، فيكون لمجرورها من الوصف وعدمه ما للمجاب، فيقال لمن قال ما رأيت رجلا: رب رجل رأيت، ولمن قال ما رأيت رجلا عالما: رب رجل عالم رأيت. وإذا لم تكن جوابا فللمتكلم بها أن يصف مجرورها وألا يصفه. ومن وقوعه غير موصوف قول أم معاوية: ياربّ قائلةٍ غدًا ... يالهفَ أمِّ معاويَهْ ومثله: ألا رُبَّ مأخوذٍ بإجْرامِ غيرِه ... فلا تَسْأمنْ هِجْرانَ من كان مجرِما ومثله: ربّ مُسْتَغْنٍ ولامالَ له ... وعظيم الفَقْر وهو ذو نَشَب والذي يدل على أن وصف مجرورها لا يلزم عند سيبويه تسويته إياها بكم، ووصف مجرور كم الخبرية لا يلزم، فكذا وصف ما سُوِّي بها. ومن كلامه المتضمن

استغناء مجرورها قوله في باب الجر: "وإذا قلت رب رجل يقول ذاك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب". فتصريحه بكون يقول مضافا إلى الرجل برب مانع كونه صفة، لأن الصفة لا تضاف إلى الموصوف. وإنما يضاف العامل إلى المعمول، فيقول إذن عامل في رجل بواسطة رب، كما كان مررت من مررت بزيد عاملا في زيد بواسطة الباء، كما كان أخذت من أخذته من عبد الله عاملا في عبد الله بواسطة من. وهما من أمثلة سيبويه في باب الجر، وقال فيهما: فإذا أضفت المرور إلى زيد بالباء. وقال أيضا فقد أضفت الأخذ إلى عبد الله بمن. فجعل نسبة مررت من بزيد، ونسبة أخذت من من عبد الله كنسبة يقول من رُبّ رجل. وفي تمثيله برب رجل يقول ذلك، وجعله يقول معدّى إلى رجل بواسطة رُب، دليل على أن مضمون ما دخلت عليه رُب يجوز استقباله ولا يلزم مضيه. وقد تقدمت شواهد ذلك. إلا أن في هذا المثال إشكالا بيّنا، وذلك أن ظاهره يقتضي جواز أن يقال من زيد عجب، إذا عجب من نفيه وهو غير جائز بإجماع، لأن فيه إعمال فعل ضمير متصل في مفسره وذلك ممتنع دون خلاف. وقد أخذ أكثر الناس هذا المثال على ظاهره، فمنهم من خطأ فيه سيبويه ومنهم من صوّبه وتكلّف تأويله. وأحسنهم مأخذا في التأويل أبو الحسن بن خروف فإنه قال: يقول سيبويه فقد أضفت القول إلى الرجل برُب كلام حسن، وهو كقوله فقد أضفت الكينونة إلى الدار بفي، وكقوله فقد أضفت إليه الرداءة بفي: قوله أنت في الدار، وفيك خصلة سوء فرب أوصلت القول إلى قليل الرجال وكثيرهم، كما أوصلت في الكينونة إلى الدار واستقرار الرداءة إلى المخاطب. وموضع المخفوض برب مبتدأ ويقول خبره، فكأنه على تقدير: كثير من الرجال يقول ذلك، ولا يخفى ما في هذا من التكلف. وقد يُسرّ لي بحمد الله تخريجه بوجه لا تخطئة فيه ولا تكلف، وذلك بأن يجعل "يقول" مضارع قال بمعنى فاق في المقاولة، ويجعل ذلك فاعلا أشير به إلى مرئي أو مذكور كأنه قال: رُبّ رجل يفوق ذلك الرجل في المقاولة. فبهذا التخريج يؤمن الخطأ والتكلف ويثبت استغناء مجرور رب عن الوصف وكون ما دخلت عليه يلزم

مضيه، بل يجوز كونه مستقبلا وحالا. ومنع ابن السراج استقباله وأجاز حاليته فإنه قال: "ولا يجوز رب رجل سيقوم ولا يقومن غدا إلا أن تريد: رب رجل يوصف بهذا، تقول رب رجل مسيء اليوم محسن غدا، أي يوصف بهذا". والصحيح جوازهما وجواز المضيّ، إلا أنّ المضيّ أكثر. قال ابن خروف: والمتأخرون مختلفون في رب؛ منهم مَن تبع المبرد على مذهبه كابن السراج والفارسي، وهو فاسد، لأنه ألزم مخفوضة الصفة وحذف ما يتعلق به، وألا تدل إلا على التقليل. ولا يفتقر إلى الصفة كما زعموا، لأن معنى التقليل والتكثير الذي دلت عليه يقوم مقام وصف مخفوضها، كما كان ذلك في "كم" ولذلك قلت كم غلام عندك، فابتدأت بنكرة، يعني أن ما دلت عليه "كم" من التكثير سوّغ الابتداء بها مع أنها نكرة. ونبهت بقولي "وقد يعطف على مجرورها وشبهه بمضاف إلى ضميريهما" على أنه قد يقال رب رجل وأخيه رأيت، وكم ناقة وفصيلها ملكت، على تقدير: رب رجل وأخ له، وكم ناقة وفصيل لها. ثم نبهت على أن المجرور بها قد يكون ضميرا لازما تفسيره بمميّز مؤخر مطابق للذي يقصده المتكلم من إفراد وتذكير وغيرهما، وأن الضمير على أشهر المذهبين لا يكون إلا بلفظ الإفراد والتذكير فيقال: ربه رجلا، وربه رجلين، وربه رجالا وربه امرأةً، ورُبّه نسوة. ومثال رُبّ رجلا قول الشاعر: رُبَّ امرأ بك نال أمْنع عِزَّةٍ ... وغِنًى بُعيدَ خصاصةٍ وهوان ومثال ربه رجالا قوله: رُبّه فتيةً دعوْت إلى ما ... يُورِثُ المجدَ دائبًا فأجابوا وحكى الكوفيون: ربهما رجلين، وربهم رجالا، وربها امرأة. وإلى هذا الوجه والذي قبله أشرت بقولي: "ولزوم إفراد الضمير وتذكيره عند تثنية التمييز وجمعه

وتأنيثه أشهر من المطابقة". فصل: ص: قد يلي – عند غير المبرد – لولا الامتناعية الضمير الموضوع للنصب والجر مجرور الموضع عند سيبويه، مرفوعه عند الأخفش والكوفيين. ش: إذا ولي "لولا" الامتناعية مضمر فالمشهور كونه أحد المضمرات المرفوعة المنفصلة لأنه موضعُ ابتداء، قال الله تعالى: (لولا أنتم لكُنّا مؤمنين)، ومن العرب مَن يقول: لولاي ولولانا إلى لولاهنّ. وزعم المبرد أن ذلك لا يوجد في كلام مَن يحتج بكلامه. وما زعمه مردود برواية سيبويه والكوفيين، وأنشد سيبويه رحمه الله: وكم مَوطنٍ لولايَ طِحتَ كما هوى ... بأجْرامه من قُنّةؤ النيّق مُنهوي وأنشد الفراء: أتطمِعُ فينا مَن أراق دماءنا ... ولولاكَ لم يعرضْ لأحْسابنا حَسَنْ ومذهب سيبويه في ياء لولاي وكاف لولاك وشبههما أنهما في موضع جرّ بلولا، لأن الياء وأخواتها لا يعرف وقوعها إلا في موضع نصب أو جرّ، والنصب في لولاي ممتنع لأن الياء لا تنصب بغير اسم إلّا ومعها نون الوقاية وجوبا أو جوازا. ولا تخلو منها وجوبا إلا وهي مجرورة، وياء لولاي خالية منها وجوبا فامتنع كونها منصوبة وتعيّن كونها مجرورة. وفي ذلك – مع شذوذه – استبقاء حقّ للولا، وذلك أنها مختصة بالاسم غير مشابهة للفعل، ومقتضى ذلك أن يجر الاسم مطلقا، لكن منع من ذلك شبهها بما اختص بالفعل من أدوات الشرط من ربط جملة بجملة .. وأرادوا التنبيه على موجب العمل في الأصل، فجرّوا بها المضمر المشار إليه. ومذهب الأخفش أن الياء

وأخواتها في موضع رفع نيابة عن ضمائر الرفع المنفصلة. ونظير ذلك نيابة المرفوع في: ما أنا كأنت وشبهه. ص: ويجرّ بلعلّ، وعلّ في لغة عقيل، وبمتى في لغة هذيل. ش: روى أبو زيد عن بني عقيل الجر بلعل، وحكى الجر بها أيضا الفراء وغيره. وروى في لامها الأخيرة الفتح والكسر، وأنشد باللغتين قول الشاعر: لعلَّ الله يمكنني عليها ... جِهارًا من زُهَير أو أسِيد وروى الفراء أيضا الجر بلعل وأنشد: علّ صروف الدهر أوْ دُولاتِها ... يُدللننا اللّمةَ مِنْ لمّاتِها ... فتستريح النفسُ من زَفْراتِها وأما متى فهي في لغة هذيل حرف جر. ومنه قول الشاعر: شَرِبْنَ بماء البحر ثُمّ ترفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرِ لهنَّ نئيج ومن كلامهم: أخرجها متى كمّه، أي مِن كمه. فصل: ص: في الجر بحرف محذوف. يجر برب محذوفة بعد الفاء كثيرا، وبعد الواو أكثر، وبعد بل قليلا، ومع التجرد أقل. وليس الجر بالفاء وبل باتفاق، ولا بالواو خلافا للمبرد ومَن وافقه. وتجر بغير رب أيضا محذوفا في جواب ما تضمن مثله، أو في معطوف على ما تضمنه بحرف متصل أو منفصل بلا أولو أو في، مقرون بعدما تضمنه بالهمزة أو هلّا أو إنْ أو الفاء الجزائيّتين. ويقاس على جميعها خلافا للفراء في جواب نحو: بمن مررت؟. وقد يجر بغير ما ذكر محذوفا، ولا يقاس منه إلا على ما ذكر في باب "كم" و"كان" و"لا" المشبهة بإنّ، وما يذكر في باب القسم. وقد يفصل في الضرورة بين حرف جر ومجرور بظرف أو جار ومجرور. وندر في النثر الفصل

بالقسم بين حرف الجر والمجرور، والمضاف والمضاف إليه. ش: من الجر برب بعد الواو قول امرئ القيس: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله ... عليَّ بأنواع الهموم ليَبْتلي ومنه قول رجل من سعد مناة: وخيفاءَ ألقى الليثُ فيها ذراعَه ... فسَرَّتْ وساءتْ كل ماش ومُصْرِم تمشّى بها الدَّرْماء تسْحب قُصْبها ... كأنْ بطنُ حبلى ذاتِ أوْنَيْن متئم ومثله: وأشعثَ نفسه في مَسْك جَفْر ... يُقسّم طرفَه بين النجوم ملكتُ له سراه وقد تمطّتْ ... متونُ الصُبْح في الليل البهيم ومثله: وأغبر ولّيتُ الحقائبَ شطرَه ... وسائره في غاربٍ وجران تبدت بحبّي النفس فيه كأنه ... أخوظِنة تُرمى بها الرجوان ومثله: ومحمرة الأعطافِ مغبرَّة الحشا ... خفافٍ رواياها بطاءٍ عمودُها لقينا شذاها فانْسرتْ غمراتها ... وغُودرَ فينا وشيها وبرودُها ومثله: ومختلفاتِ النَّجْر غُيْر قَفوتُها ... وأمّاتُها شَتَّى من البيض والسُّمْر فكنّ نجوما في الصباح هدينني ... إلى مثل وقبِ العَيْن في مُرْتقى وعْر

ومثله: ومناخِ نازلةٍ كفيتُ وفارسٍ ... نهلتْ قناتي من مطاهُ وعَلّت ومثله لعدي بن زيد: وسائسِ أمرٍ لم يسُسْه أبٌ له ... ورائم أسباب التي لم يُعَوَّد وراجي أمورٍ جمة لنْ ينالَها ... ستشعَبُه عنها شَعُوبُ بمَلْحَدِ ومثله لذي الرمة: ومنهلٍ آجنٍ قَفْر محاضِرُه ... حُصْرٍ كواكبه ذي عِرْمض ليد فرّجْت عن جوفه الظلماء تحملني ... عُوج من العيد والأسْراب لم ترد ومن الجر برب محذوفة بعد الفاء قول امرئ القيس: فمثلك حُبْلى قد طرقتُ ومُرضِعا ... فألْهَيْتُها عن ذي تمائم مُغْيل ومثله: فإما تعرِضنَّ أميْمَ عنّي ... وتَنْزِعْك الوشاةُ أولو النياط فحورٍ قد لهوت بهنّ عِين ... نواعمَ في المروطِ وفي الرياط ومثله قول ربيعة بن مقروم: فإن أهلكْ فذي حَنَق لظاه ... يكادُ عليّ يلتهب التهابا ومثله قول بعض الطائيين:

إنْ يَثن سلمى بياضُ الفَوْد عن صلتي ... فذاتَ حُسْنٍ سواها دائما أصلُ ومن الجر برب محذوفة بعد "بل" قول الراجز: بل بلدٍ ملء الفجاج قتمُه ... لا يُشترى كتّانه وجَهْرَمُهْ وقول الآخر: بل جَوْزِ تَيْهاءَ بظَهْر الجحفَتْ ومثال الجر بها محذوفة دون واحد من الثلاثة قول الشاعر: رسمِ دار وقفتُ في طَلَلِهْ ... كدتُ أقضي الغداة من جللهْ ولا خلاف في أن الجر في فذي حنق، وبل بلد، ورسم دار وأشباهها برب المحذوفة. وزعم المبرد أن الجر بعد الواو نفسها، ولا يصح ذلك، لأن الواو أسوة الفاء وبل في إضمار رب بعدهما، ولأنها عاطفة لما بعدها من الكلام على ما قبلها، والعاطف ليس بعامل، ولا يمنع كونها عاطفة افتتاح بعض الأراجيز بها، لإمكان إسقاط الراوي من الأرجوزة متقدما، ولإمكان عطف الراجز ما افتتح به على بعض ما في نفسه. ومثال الجر بغير رب محذوفا في جواب ما تضمن مثله نحو: زيد، في جواب من

قيل له: بمَن مررت؟ وكقوله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له "فإلى أيّهما أُهدي" [قال]: "أقربهما إليك بابا" بالجر على إضمار إلى. ومن الجواب نحو: بلى زيدٍ، لمن قال: ما مررت بأحد، أو هل مررت بأحد. ومثال ذلك بعد عطف متصل على الوجه المذكور قوله تعالى (وفي خلقكم وما يَبُثُّ من دابّة آياتٌ لقوم يوقنون * واختلافِ الليل والنهار وما أنزل اللهُ من السماء من رزْق فأحْيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) فجر اختلاف الليل بفي مقدرة لاتصاله بالواو ولتضمن ما قبلها إياها. وقرأ عبد الله بإظهارها. ومثل ما في الآية قول الشاعر: ألا يالَقَوْمي كلُّ ما حُمَّ واقعٌ ... وللطير مَجْرًى والجنوبِ مصارع ومثله: حُبّبَ الجودُ للكرامِ فحُمْدوا ... وأناسٍ فِعْلَ اللئامِ فليمُوا ومثله: أخلِقْ بذي الصَّبْرِ أن يحظى بحاجته ... ومُدْمنِ القَرْع للأبواب أن يلجا

ومثله: كالتَّمْر أنتَ إذا ما حاجةٌ عرضَتْ ... وحَنْطَلٍ كُلَّما استغْنَيتَ خطبان ومثال ذلك مع الفصل بلا قول الراجز: ما لمحب جلدٌ إن هجرا ... ولا حبيب رأفة فيجبرا ومثال ذلك مع الفصل بلو ما حكى أبو الحسن في "المسائل" من أنه يقال: جيء يزيد أو عمرو ولو كليهما، وأجاز في كليهما الجر، على تقدير: ولو بكليهما، والنصب بإضمار ناصب، والرفع بإضمار رافع. وأجود من هذا المثال الذي ذكره الأخفش أن يقال: جيء بزيد وعمرو ولو أحدهما. قال الشاعر: متى عُذتُم بنا ولو فئةٍ منّا ... كُفيتم ولم تخشَوا هَوانًا ولا وَهْنا لأن المعتاد في مثل هذا النوع من الكلام أن يكون ما بعد "لو" أدنى مما قبلها في كثرة وغيرها كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التمسْ ولو خاتما من حديد" وكقولهم: ايتني بدابة ولو حمارا. ومن شواهد إضمار الجار في العطف بغير الواو قول الشاعر: أيّهْ بضَمْرَة أو عوف بن ضمرة أو ... أمثالِ ذلك أيّهْ، تُلْفَ منتصرا أرادوا بأمثال ذينك أيهْ. ومنها: لك مما يداك تجمعُ ماتنـ ... ــــفِقه ثم غيرِك المخزون أراد ثم لغيرك المخزون.

ومثال جر المقرون بهمزة الاستفهام وبهلّا على الوجه المذكور ما حكى الأخفش في "المسائل" من أنه يقال مررت بزيد، فتقول: أزيد بن عمرو، ويقال: جئت بدرهم، فتقول: هلّا دينارٍ. قال أبو الحسن: وهذا كثير. ومثال الجر بمضمر بعد إنْ والفاء الجزائيتين ما حكى يونس من قولهم: مررت برجل صالح، إلا صالحٍ فطالحٍ، على تقدير: إن لا أمر بصالح فقد مررت بطالح. وأجاز امرر بأيهما أفضل، إن زيدٍ وإن عمروٍ. وجعل سيبويه إضمار الباء بعد إنْ لتضمن ما قبلها إياها أسهل من إضمار رب بعد الواو. فعلم بذلك اطراده عنده، وشبيه بما روى يونس ما في البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربعة فخامس أو سادس". ويجوز رفع أربعة على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وجرها على حذف المضاف وبقاء عمله. ونظائر الرفع أكثر. قلت: والقياس على هذه الأوجه كلها جائز. ومنعه الفراء في نحو: زيد، لمن قال: بمن مررت؟ والصحيح جوازه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقربهما منك بابا" بالجرّ، إذ قيل له: فإلى أيهما أهدي. وكقول العرب: خيرٍ، بالجر، لمن قال: كيف أصبحت؟، بحذف الباء وبقاء عملها، لأن معنى كيف بأيّ حال، فجعلوا معنى الحرف دليلا، فلو لفظ به لكانت الدلالة أقوى، وجواز الجر أولى. وقد يجر بحرف محذوف في غيرما ذكر مقيسا ومسموعا، فالمقيس نحو: بكم درهم، - ولا سابقٍ شيئا – وألا رجلٍ جزاه الله خيرا.

وقد ذكرت هذه الأنواع الثلاثة في أبوابها. ومن المقيس نحو: ها الله لأفعلن، مما يذكر في باب القسم. والمسموع كقول الشاعر: ألا تسأل المكيَّ ذا العلم ما الذي ... يجوزُ من التقبيل في رمضان فقال لي المكيُّ: أمّا لزوجة .. فسبعٌ وأمّا خُلّةٍ فثَمان أراد وأمّا لخلّة. وكقول الآخر: وكريمةٍ من آل قيس ألَفْتُه ... حتّى تَبذّخ فارتقى الأعلامِ أراد في الأعلام. والأول أجود، لأن فيه حذف حرف ثابت مثله فيما قبله، ولكن لا يقاس عليه، لكون العاطف مفصولا بأمّا، وهي تقتضي الاستئناف. ومثل – فارتقى الأعلام – قول الآخر: إذا قيل أي الناس شر عصابة ... أشارت كليبٍ بالأكف الأصابعُ أراد أشارت إلى كليب. وفي صحيح البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضعّف على صلاته في بيته وسوقه خمسٍ وعشرين ضعفا" على تقدير الباء. ومثله من جامع المسانيد على أحد الوجهين قول النبي صلى الله عليه وسلم "خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم المحجّل ثلاثٍ" على أن يكون المراد المحجل في ثلاث. والأجود أن يكون أصله المحجّل محجلُ ثلاث، فحذف البدل وبقي مجروره، كما فعل

بالمعطوف في نحو "ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة". وقد يفصل بين حرف الجر ومجروره بظرف أو مفعول به أو جار ومجرور، ولا يكون ذلك إلا في ضرورة كقول الشاعر: يقولون في الأكْفاءِ أكبر همّه ... ألا رُبَّ منهم مَن يعيشُ بمالكا أراد رب من يعيش بمالك منهم. وكقول (الشاعر): رب في الناسِ موسرٍ كعديم ... وعديمٍ يُخالُ ذا إيسارِ أراد رب موسر كعديم في الناس. وكقول الفرزدق: وإنّي لأطوِي الكشح من دون مَن طوى ... وأقطعُ بالخرق الهبوع المُراجم أراد وأقطع الخرق بالهبوع المراجم، ففصل بالمفعول به بين الباء ومجرورها. وأنشد أبو عبيدة: إنّ عمرًا لا خيرَ في اليوم عمروٍ ... إنّ عمرًا مُخبّر الأحزان أراد: لا خير اليوم في عمرو. وحكى الكسائي في الاختيار الفصل بين الجار والمجرور بالقسم نحو: اشتريته بـ - واللهِ – درهم، والمراد بدرهم واللهِ، أو والله بدرهم. وحكى الكسائي أيضا: هذا غلامُ والله زيد. وحكى أبو عبيدة: إن الشاة تعرف رَبَّها حين تسمع صوت – والله – ربِّها. ففصل بالقسم بين المضاف والمضاف إليه.

باب القسم

باب القسم ص: وهو صريح وغير صريح، وكلاهما جملة فعلية أو اسمية، فالفعلية غير الصريحة في الخبر كعلمت، وواثقت مضمنة معناه، وفي الطلب: نشدتك وعمرتك، وأبدل من اللفظ بهذه "عمرك الله" بفتح الهاء وضمها، وقعدك الله، وقعيدك الله كما أبدل في الصريحة من فعلها المصدر أو ما بمعناه. ويضمر الفعل في الطلب كثيرا استغناء بالمقسم به مجرورا بالباء ويختص الطلب بها، وإن جُرّ في غيره بغيرها حذف الفعل وجوبا. وإن حُذفا معا نصب المقسم به. وإن كان "الله" جاز جرّه بتعويض "آ" ثابت الألف، أو "ها" محذوف الألف أو ثابتها، مع وصل ألف الله أو قطعها، وقد يستغنى في التعويض بقطعها، ويجوز جر الله دون تعويض، ولا يشارَك في ذلك، خلافا للكوفيين. وليس الجر في التعويض بالعوض خلافا للأخفش ومَن وافقه. ش: القسم الصريح ما يعلم بمجرد لفظه كون الناطق به مقسما، كأحلف بالله وأنا حالف بالله، ولعَمْر الله وايمن الله. وغير الصريح ما ليس كذلك نحو علم الله وعاهدت وواثقت، وعليّ عهد الله، وفي ذمّتي ميثاق. فليس بمجرد النطق بشيء من هذا الكلام يعلم كونه قسما، بل بقرينة كذكر جواب بعده نحو على عهد الله لأنصرن دينه، وفي ذمّتي ميثاق الله تعالى لا أعين ظالما، وكقوله تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاقٍ) وكقول الشاعر: إني علمتُ على ما كان مِن خُلُق ... لقد أراد هواني اليومَ داودُ وكقول الآخر:

أرى مُحْرِزا عاهدتُه لَيُوافِقن ... فكان كمن أغْريْتَه بخِلاف ومثله في واثق: واثقتُ ميّةَ لاتنفكُّ مُلغيةً ... قولَ الوُشاةِ، فما ألغتْ لهم قيلا ومنه قوله تعالى: (وإذ أخذ اللهُ ميثاقَ الذين أوتوا الكتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ للنّاس). ومن القسم غير الصريح (نشهد إنك لرسول الله) ويدل على أنه هنا قسم كسرُ إنّ بعده، وتسميته يمينا في قوله تعالى (اتخذوا أيمانهم جُنّة). ومنه قراءة ابن عباس رضي الله عنه (شهد الله إنه) بالكسر وقال الفراء (وتمّتْ كلمةُ ربّك لأمْلأنَّ جهنَّم): صار قوله "وتمّت كلمة ربّك" يمينا كما تقول حلفي لأضربنّك، وبدالي لأضربنّك. وما هو بتأويل بلغني، وقيل لي، وانتهى إليّ، فاللام يصلح فيه. قلت: من القسم غير الصريح نشدتك وعمّرتك، فللناطق بهما أن يقصد القسم وألا يقصده، فليس بمجرد النطق يدل على كونه قسما، لكن يعلم كونه قسما بإيلائه "الله" نحو نشدتك الله أو بالله، وعمّرتك الله، ولا يستعملان إلا في قسم فيه طلب نحو: نشدتك الله إلا أعنتني، وعمّرتك الله لا تُطع هواك. ومنه قول الشاعر: عَمّرتكِ اللهَ إلّا ما ذكرتِ لنا ... هل كنت جارتنا أيام ذي سَلَمِ

ومعنى قول القائل: نشدتك الله: سألتك مذكّرًا اللهَ، ومعنى عمّرتك الله سألت الله تعميرَك، ثم ضُمّنا معنى القسم الطلبي. واستعملوا عَمْرك الله بدلا من اللفظ بعمرتك ومنه قول الشاعر: عَمْركِ اللهَ ياسُعادُ عِديني ... بعضَ ما أبتغي ولا تُؤْيسيني ومثله: ياعَمْركِ اللهَ إلّا قلت صادقةً ... أصادِقا وصَفَ المجنونُ أم كُذبا وكان الأصل أن يقال تعميرك الله، لكن خففوا بحذف الزوائد، وروى بعض الثقات عن أعرابي عمرك اللهُ، برفع "الله" قال أبو عليّ: والمراد عمرك الله تعميرا فأضيف المصدر إلى المفعول ورفع به الفاعل. وقال الأخفشُ في كتاب "الأوسط" أصله أسألك بتعميرك الله وحذف زوائد المصدر والفعل والباء فانتصب ما كان مجرورا بها. وأما قعدك الله وقعيدك الله فقيل هما مصدران بمعنى المراقبة كالحِسّ والحسيس، وانتصابهما بتقدير أقسم أي أقسم بمراقبتك الله. وقيل قِعْد وقعيد بمعنى الرقيب الحفيظ من قوله تعالى (عن اليمين وعن الشمالِ قعيدٌ) أي رقيب حفيظ. ونظيرهما خِلّ وخَليل، وندّ ونديد، وإذا كان بمعنى الرقيب والحفيظ فالمعني بهما الله تعالى ونصبهما بتقدير أقسم معدّى بالباء ثم حذف الفعل والباء وانتصبا وأبدل منهما الله. ومن شواهد النصب بعد "قِعْد" قول الشاعر: قِعْدَكِ اللهَ هل علمتِ بأنّي ... في هواكِ اسْتطبتُ كلَّ مُعَنِّي

ومن شواهد نصب ما بعد "قعيد" قول قيس العامريّ: قَعيدكِ ربَّ الناسِ يا أمَّ مالكٍ ... ألم تعلمِينا نِعمَ مأوى المعصّبِ ومثله قول الفرزدق: قعيدكما اللهَ الذي أنتما له ... ألم تَسْمعا بالبَيْضَتَيْن المُناديا ويستعمل أيضا في الطلب عزمت وأقسمت، ولذلك قلت: كنشدت، تنبيها على أن لنشدت من الأفعال أخوات سوى عمرت. ونبهت بقولي "كما أبدل في الصريحة من فعلها المصدر وما بمعناه" على أن لفظ أقسم وأحلف وشبههما قد ينوب عنه لفظ قسم ويمين وأليّة وقضاء وحقّ وغير ذلك. فمن ذلك قول الشاعر: قسمًا لأصْطبرنْ على ما سُمْتِني ... ما لم تسومي هِجرةً وصدودا ومنه: يمينا لَنعم السَّيّدان وجدتما ... على كل حالٍ من سَحيل ومُبْرَمِ ومنه: أليّةً ليحيقنَّ بالمُسيء إذا ... ما حُوسب الناسُ طُرًّا سوءُ ما عملا ومن نيابة القضاء ما حكى ثعلب من أن العرب تنصب قضاء الله وتجعله قسما وأنشد أبو علي في نيابة اليقين: ويقينًا لأشربنَّ بماء ... ورَدُوهُ فعاجِلًا [وتئيّه]

ومن نيابة الحق قوله تعالى (فالحقُّ والحقَّ أقولُ * لأملأنَّ)، ولا يستعمل في القسم الطلبي من حروف الجر إلا الباء معلقة بظاهر، كنشدتك بالله وافقْ، أو مقدّر نحو: بالله لا تخالف. ويعدّى في غير الطلب فعل القسم محذوفا وثابتا نحو: (فبعزّتك لأُغوينهم أجمعين) و (ويحلفون بالله إنّهم لمنكم) ويجب حذفه مع الواو والتاء ومن واللام نحو (واللهِ ربّنا ما كُنّا مُشْركين) و (تاللهِ لقدْ آثرك الله علينا). ومن ربّي إنك لأشِر، ولله لا يؤخر الأجل. وأنشد سيبويه لعبد مناة الهذلي: لله يبقى على الأيّامِ ذو حيَد ... بمشمخرٍّ به الظّيّانُ والآسُ وقد تبيّن في باب حروف الجر اختصاص كل واحد من هذه الأحرف الأربعة بما خُصّ به. وإذا حذف فعل القسم والباء نصب المقسم به، وإن كان المقسم به عند حذفها "الله" جاز جرّه مع تقوية همزة مفتوحة تليها ألف نحو: آللهِ لأفعلنّ، أو "ها" ساقط الألف نحو: هالله لأفعلن، أو ثابتها: ها الله لأفعلن. وروى أيضا ها الله وهأ الله بحذف ألفها استغناء عنها بقطع الهمزة والوصل وبالجمع بينهما وذكر أيضا أللهِ لأفعلنّ، فجعل القطع عوضا مكتفى به. وحكى الأخفش في معانيه أن من العرب من جرّ اسم الله مقسما به دون جار موجود ولا عوض، وذكر غيره من

الثقات أنه سمع بعض العرب يقول: كلا اللهِ لآتينك، يريد كلا والله. وزعم بعض أئمة الكوفة أن الأسماء كلها إذا أقسم بها – المجرور منها محذوف الواو -. وترفع وتخفض ولا يجوز النصب إلا في (يقيني) وكعبة الله وقضاء الله وأنشد: لاكعبة اللهِ ما هجرتُكم ... إلّا وفي النَّفْس منكمُ أرَب ومن أجل هذا ... قلت بعد "ويجوز جر الله دون عوض": ولا يشارك في ذلك خلافا للكوفيين. ومذهب البصريين أن المقسم به إذا حذف جاره بلا عوض ولم ينو المحذوف جاز نصبه كائنا ما كان. فمن ذلك قول الشاعر: إذا ما الخبزُ تأدِمُه بلَحْم ... فذاكَ أمانةَ اللهِ الثَّريدُ ومثله: فقلتُ يمينَ الله أبْرحُ قاعِدا ... ولو قطّعوا رأسي لديكِ وأوْصالي ومذهب الأخفش أن الجر في ها الله ونحوه: بالعوض من الحرف المحذوف لا بالحرف، ذكر ذلك في كتابه "الأوسط" ووافق الأخفشَ في هذا جماعةٌ، وانتُصر لهذا بأنه شبيه بتعويض الواو من الباء، والتاء من الواو، ولا خلاف في كون الجر بعد الواو والتاء بهما، فكذا ينبغي أن يكون الجرّ في آ، وها بهما لا بالمعوّض عنه. والأصح كون الجر بالحرف المحذوف، وإن كان لا يلفظ، كما كان النصب بعد الفاء والواو

وحتى وكي الجارة ولام الجحود بأنْ المحذوفة وإن كانت لازمة الحذف. ومن الجر بعد "ها" قول أبي بكر رضي الله عنه: "لاها الله إذن لا تعمد إلى أسد من أسْد الله" الحديث. ص: فإن ابتدئ في الاسمية بمتعين للقسم حذف الخبر وجوبا، وإلا فجوازا والمحذوف الخبر إن عري من لام الابتداء جاز نصبه بفعل مقدّر، وإن كان "عمْرا" جاز أيضا ضم عينه ودخول الباء عليه، ويلزم الإضافة مطلقا. وإن كان ايمن الموصول الهمزة لزم الإضافة إلى الله غالبا، وقد يضاف إلى الكعبة والكاف والذي. وقد يقال فيه مضافا إلى الله ايمِن وايمَن وايمُن. وأيْمُ وإيم وإمُ ومُنُ مثلث الحرفين. و"م" مثلثا. وليست الميم بدلا من واو، ولا أصلها مِن، خلافا لمن زعم ذلك، ولا أيمن المذكور جمع يمين خلافا للكوفيين. وقد يخبر عن اسم الله مقسما به بلك وعليّ. وقد يبتدأ بالنذر قسما. ش: المبتدأ المتعين للقسم نحو لعمر الله ولايمن الله، فإنهما لا يستعملان مقرونين باللام إلّا مقسما بهما مرفوعين، فالتزم حذف خبرهما لكونه مفهوم المعنى مع سدّ الجواب مسدّه. ونبّهت بإضافة "نحو" إليهما على أمرين: [أحدهما أنهما] قد يضافان إلى غيرما أضيفا إليه إلا نحو لعمرك ولعمري ولايمن الكعبة وليمنك. والآخر أنه قد يقترن غيرهما بما يعينه للقسم فلا يكون حذف خبره واجبا، كقول من توجهت عليه يمين لازمة: لعهد الله لقد كان كذا فيتعيّن كون المبتدأ مقسما به لا من قبل نفسه، ولذا جاز إثبات خبره وحذفه، كقولك حالفا: عليّ عهد الله أو يمين

الله فلك أن تجيء به هكذا، ولك ألّا تلفظ بعليّ ولا بيلزمني لأن ذكر الجواب يدل السامع على أنك مقسم. وقد كان قبل ذكرك مجوزا أنك غير مقسم ومجوزا أنك مقسم، ولم يمتنع حذف الخبر لكنه مفهوم المعنى بعد ذكر الجواب، فلو لم يقترن لعمر باللام لجاز نصبه كقول ابن شهاب الهذلي: فإنك عَمْرَ الله إنْ تسأليهم ... بأحْسابنا إذَنْ تُحلُّ الكبائر يُنبّوك أنا نفرجُ الهمّ كله ... بحقٍّ وأنا في الحروب مَساعِرُ فلهذا قلت: "والمحذوف الخبر إن عري من لام الابتداء جاز نصبه بفعل مقدر". ثم نبهت على أن العين من لعمر الله ونحوه عند عدم اللام يجوز فيها الفتح والضم. وكان ينبغي أن يجوزا مع وجود اللام، لكن خُص لكثرة الاستعمال في مصاحبة اللام بالفتح، لأنه أخفّ اللغتين. ومن دخول الباء عليه عند عدم اللام قول الشاعر: رُقيَّ بعَمْركم لا تَهْجُرينا ... ومنّينا المُنى ثم امْطُلينا ومثله: أأقامَ أمسِ خليطُنا أم سارا ... سائلْ بعَمْركَ أيَّ ذاكَ اختارا وقولي تلزم الإضافة مطلقا، أي إلى الظاهر والمضمر، ومع وجود اللام وعدمها. واحترزت بقولي "وإن كان ايمن الموصول الهمزة" من أيمن بقطع الهمزة فإنه جمع يمين بلا خلاف. وحكمه إذا أقسم به حكم واحده. وأما الموصول الهمزة فيلزم الإضافة إلى الله أو إلى الكعبة أو إلى ضمير المخاطب أو إلى الذي، لكن إضافته إلى غير الله قليلة، وإضافته إلى ضمير المخاطب وإلى الذي أقلّ من إضافته إلى الكعبة. ومن إضافته إلى ضمير المخاطب قول عروة بن الزبير رضي

الله عنهما: "لايْمُنُكَ لئِن ابْتَلَيْتَ لقد عافَيْتَ" ومن إضافته إلى "الذي" قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وايم الذي نفسي بيده". وفيه حين يليه "الله" اثنتا عشرة لغة: ثلاث مع ثبوت الهمزة وثلاث مع حذف النون دون الهمزة، وثلاث مع حذف الهمزة والياء وثبوت النون، وثلاث مع الاقتصار على الميم فقال: ايْمُنُ الله وأيمَنُ الله وايمن الله، وأيمُ الله وإيمُ الله وإمُ الله، ومُنُ الله ومَنَ الله ومِن الله، ومُ الله ومَ الله ومِ الله. وزعم بعضهم أن الميم المفردة بدل من واو والله كالتاء وليس بصحيح، لأنها لو كانت بدلا منها لفتحت كما فتحت التاء، ولأن التاء إذا أبدلت من الواو في القسم فلها نظائر في غير القسم مطردة، كاتّصل واتّصف، وغير مطّردة كتراث وتجاه، وليس لإبدال الميم من الواو إلا موضع شاذ وهو فم، وفيه مع شذوذه خلاف. وزعم الزمخشري أنها من المستعملة مع ربّي، فحذفت نونها وليس بصحيح أيضا، لأنها لو كانت إياها لاستعملت في النقص مع ما استعملت في التمام على الأشهر، كما لم يستعمل أيمن في النقص إلا مع ما استعمل في التمام على الأشهر. واحترزت بالأشهر من رواية الأخفش عن بعض العرب: من الله ومن ايمن الكعبة وأيمنك وأيمن الذي نفسي بيده. وقال الزمخشري في م الله: ومن الناس من زعم أنها من أيمن. قلت: لم يعرف من الذي زعم ذلك، وهو سيبويه – رحمه الله – فإنه قال في عدة ما يكون عليه الكلم: "واعلم أن بعض العرب يقول مُ الله لأفعلنّ، يريد: إيمُ الله لأفعلنّ". وفي عدم معرفة الزمخشري أن صاحب هذا القول سيبويه دليل على أنه لم يعرف من كتابه إلا ما يعرف بتصفح وانتقاء لا بتدبر واستقصاء، فما أوفر تبجحه وأيسر ترجّحه، عفا الله عنا وعنه.

وزعم الكوفيون أن المذكور جمع يمين ورأيهم في هذا ضعيف، يدل على ضعفه ثلاثة أمور: أحدها أن همزة الجمع همزة قطع، وهمزة هذا الاسم همزة وصل، لسقوطها مع اللام في "ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت" وفي قول الشاعر: فقال فريقُ القومِ لمّا نَشَدتُهم ... نعم وفريقٌ ليمنُ اللهِ ما ندري وليس هذا بضرورة، لتمكن الشاعر من إقامة الوزن بتحريك التنوين والاستغناء عن اللام. الثاني أن من العرب من يكسر الهمزة في الابتداء وهمزة الجمع لا تكسر. الثالث أن من العرب من يفتح الميم فيكون على وزن أفعَل، ولا يوجد ذلك في الجموع. ومن الإخبار بلَك عن اسم الله مقسما به قول الشاعر: لكَ اللهُ لا أُلفى لعهدكَ ناسيا ... فلاتكُ إلّا مثلَ ما أنا كائنُ ومثله: لقد حَبَبَتْكَ العَيْنُ أولَ نظرة ... وأُعطيتَ منّي يابْنَ عَمَّ قبولا أميرا على ما شئت مني مسلَّطا ... فسَلْ، فلك الرحمنُ، تمنعُ سولا ومن الإخبار عنه بعليّ قول الشاعر: نهى الشيبُ قلبي عن صِبًا وصبابة ... ألا فَعليّ الله أوجَد صابيا ومثال جعل النذر قسما مرفوعا بالابتداء قول الشاعر: عليّ إلى البيت المحرّم حجَةٌ ... أوافي بها نذْرا ولم أنتعل نعلا لقد منحت ليلى المودة غيرنا ... وإنَّ لها منا المودة والبذلا

ص: المقسم عليه جملة مؤكدة بالقسم، تصدر في الإثبات بلام مفتوحة أو إنّ مثقلة أو مخففة، ولا يستغنى عنهما غالبا دون استطالة. وتُصدّر في الشرط الامتناعي لو ولولا، وفي النفي بما أو لا أو إن، وقد تصدر بلن أو لم. وتُصدّر في الطلب بفعله أو بأداته أو بإلّا أو لمّا بمعناها. وقد تدخل اللام على "ما" النافية اضطرارا. وإن كان أول الجملة مضارعا مستقبلا غير مقارن حرف تنفيس ولا مقدّم معموله لم تغنه اللام غالبا عن نون توكيد. وقد يستغنى بها عن اللام. وقد يؤكد المنفي بلا، ويكثر حذف نافي المضارع المجرد مع ثبوت القسم، ويقل مع حذفه، وقد يحذف نافي الماضي إن أمن اللبس، ويكثر ذلك لتقدم نفي على القسم، وقد يكون الجواب مع ذلك مثبتا. وقد يحذف لأمن اللبس نافي الجملة الاسمية. وقد يكون الجواب قسما. ش: تصدر الجملة الاسمية المقسم عليها بلام مفتوحة كقوله تعالى (ثُمَّ لنَحْنُ أعلمُ بالذين هم أولى بها صِليّا) وكقول حسان رضي الله عنه: فلئن فَخَرْتَ بهم لمثل قديمهم ... فخر اللبيب به على الأقوام وتصديرها بإن مثقلة كقوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ) وكقوله تعالى (إنّ سعيَكم لشتى) وتصديرها بالمخففة كقوله تعالى (إنْ كلُّ نفس لمّا عليها حافظٌ) ويستغنى عنهما قليلا دون استطالة في المقسم به كقول أبي بكر رضي عنه "والله أنا أظلم منه" والأصل لأنا فحذفت والمقسم به اسم لاستطالة فيه بصلة ولا عطف. فلو كان فيه استطالة لحسن الحذف، وكان جديرا بكثرة النظائر كقول بعض العرب: أقسم بمن بعث النبيين مبشرين ومنذرين، وختمهم بالرسول

رحمة للعالمين هو سيدهم أجمعين. ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه "والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة" والأصل لهذا، فحذف اللام لاستطالة القسم والخبر بالصلتين. ومنه قول الشاعر: وربّ السمواتِ العُلا وبُروجِها ... والارضِ وما فيها المقدَّرُ كائِن أراد للمقدّر كائن فحذف لاستطالة القسم والعطف. ومن التصدير بلو قول سويد بن كراع: فتاللهِ لو كُنّا الشُهودَ وغِبْتُم ... إذَنْ لمَلانا جوفَ جيرانِهم دما ومن التصدير بلولا قول عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: فوالله لولا خشيةُ النارِ بغتة ... عليّ لقد أقْبَلت نحوي مِغْولا ونبهت بقولي "وبالنفي بما أو لا أو إنْ" على النوافي المخصوصة بجواب القسم وهي الثلاثة التي لا تختص بفعل ولا اسم وهي ما ولا وإن، بخلاف لن ولم ولمّا فإنها مخصوصة بالفعل، فأرادوا أن يكون ما ينفى به الجواب مما لا يمتنع دخوله على الاسم، لأن مالا يمتنع دخوله على الاسم يجوز دخوله على الفعل، والجواب قد يصدر بكل واحد منهما، فلذلك لم يُنف جواب القسم – دون ندور- بغير الثلاثة التي لا تختص، إلا أن المنفي بها في القسم لا يتغير عما كان دون قسم، إلا إن كان فعلا موضوعا للمضي فقد تجدّد له الانصراف إلى معنى الاستقبال. فمن ورود ذلك في المنفي بما قوله تعالى (ولئن أتيتَ الذين أوتوا الكتابَ بكُلِّ آيةٍ ما تبعوا قبلتك). ومن وروده في المنفي بلا قول الشاعر:

ردُوا فواللهِ ما ذُدْناكم أبدا ... ما دام في مائنا وردٌ لنزّالِ ومن ورود ذلك في المنفي بإن قوله تعالى (ولئن زالتا إنْ أمسكهما من أحد من بعده) وندر نفي الجواب بلن في قول أبي طالب: واللهِ لنْ يصلوا إليكَ بجمعهم ... حتى أُوارى في التراب دفينا وندر أيضا نفي الجواب بلم فيما حكى الأصمعي أنه قال لأعرابي: ألك بنون؟ فقال: نعم وخالقهم لم تقم عن مثلهم منجبة. ومثال تصدير الجواب في الطلب بفعل طلب قول الشاعر: بعَيْشكِ ياسَلْمى أري ذا صَبابة ... أبى غير ما يُرضيك في السرّ والجهر ومثال تصديره بأداة الطلب قول الشاعر: بربّك هل للصَبّ عند رأفةٌ ... فيرجُوَ بعد اليأسِ عَيْشا مجدّدا ومثال تصديره بإلّا قول الشاعر: بالله ربِّك قلتِ صادقة ... هل في لقائِك للمَشْغوفِ من طمع ومثال تصديره بلمّا التي بمعنى إلا قول الراجز: قالت له باللهِ يا ذا البُردَيْن ... لمّا غنثت نَفَسا أو اثنين ولا تدخل اللام على جواب منفي إلا إذا نفي بما، ولا تدخل عليه وهو منفي بها إلا في الضرورة كقول الشاعر: لعَمْرُكِ ياسَلْمى لما كنت راجيا ... حياةً ولكنَّ العوائدَ تُخْرَق

فإن صُدِّرت الجملة المجاب بها القسم بفعل مضارع وكان مثبتا، فإما أن يراد به الاستقبال أو يراد به الحال. فإن أريد به الحال قرن باللام ولم يؤكد بالنون لأنها مخصوصة بالمستقبل، فمن شواهد إفراد اللام لكون الحال مقصودا قول الشاعر: لئن تكُ قد ضاقتْ عليكم بيوتُكم ... ليَعْلمُ ربيّ أنّ بيتي واسعُ ومثله: لعمْري لأدْري ما قضى اللهُ كونَه ... يكونُ، وما لم يقضِ ليس بكائن ومثله: وعيشكِ ياسَلْمى لأوقنُ أنّني ... لما شئت مُسْتحْلٍ ولو أنّه القتل ومثله: يمينا لأبغضُ كلَّ امرئ ... يُزخرفُ قَولا ولا يَفْعَلُ وإن أريد بالمضارع المثبت الاستقبال وقرن به حرف التنفيس أو قدّم عليه معموله امتنع أيضا توكيده بالنون، ولزم جعل اللام مقارنة بحرف التنفيس أو للمعمول المتقدم: فمن مقارنتها حرف التنفيس قوله تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ومنه قول الشاعر: فو ربّي لسوف يُجزَى الذي أسْـ ... لَفه المرءُ سَيّئا أو جميلا ومن مقارنتها المعمول المتقدم قول الله تعالى (ولئن مُتّم أو قُتِلْتُم لإلى اللهِ

تُحْشَرون) ومن ذلك قول الشاعر: يمينًا ليَوْما يَجْتني المرءُ ما جَنتْ ... يداه فمسرورٌ ولهفانُ نادمُ [ومثله]: جوابًا به تَنْجو اعتمِدْ فَوَربِّنا ... لَعَنْ عمل أسلفت لا غيرُ تسألُ [وقول آخر]: قَسَمًا لحينَ تُشب نيرانُ الوغى ... يُلفى لديّ شفاءُ كل عليل فإن أريد بالمضارع المثبت الاستقبال وخلا من حرف تنفيس وتقديم معمول لزم في الغالب اقترانه باللام وتوكيده بالنون، كقوله تعالى (وتاللهِ لأكيدنَّ أصنامكم بعد أنْ تُولّوا مدبرين). وقلت "في الغالب" احترازا من نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليردُ عليّ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني" ومن قول الشاعر: تألّى ابنُ أوسٍ حَلفة ليرُدّني ... على نِسْوة كأنَّهن مفائِدُ ومثله قول ابن رواحة رضي الله عنه: فلا وأبي لَنأتيها جميعا ... ولو كانتْ بها عربٌ ورُوم فأفردت اللام والاستقبال مراد مع عدم حرف تنفيس وتقدم معمول.

وفي ذكر الغالب أيضا احتراز من حذف اللام وثبوت النون كقول الشاعر: وقتيل مُرة أثأرَنَّ فإنّه ... فِرْغ وإنّ أخاكم لم يُثأر وكقول الآخر: وهمُ الرجالُ وكل مَلْك منهم ... تجدنَّ في رُحْب وفي مُتَضَيَّق ومن أجل ندور إفراد اللام وإفراد النون قلت "لم تغنه اللام غالبا عن نون توكيد، وقد يستغنى بها عن اللام". وإن كان المضارع المجاب به القسم منفيا لم يؤكد بالنون إلّا إنْ كان نفيه بلا، فحينئذ قد يؤكد بها كقول الشاعر: تالله لا يُحمَدَنّ المرءُ مُجتَنبا ... فِعْلَ الكرام وإنْ فاق الورى حسبا والأكثر ألّا تؤكد كقوله تعالى (وأقْسموا بالله جهد أيمانهم لا يبْعَثُ اللهُ من يموتُ بلى وعدًا عليه حقًّا). وشرط في توكيد المنفي كونه منفيا بلا لشبهه بفعل النهي. وقد فعل به ذلك في غير القسم كثيرا كقوله تعالى (واتَّقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصّةً) وكقول النمر: فلا الجارةُ الدُّنيا لها تلحَيَنَّها ... ولا الضيف عنها إن أقام مُحوَّلُ ويكثر حذف الحرف النافي المضارع المجرد من نون التوكيد كقوله تعالى (تالله تَفْتؤ تذكر يوسفَ) أي تالله لا تفتأ تذكر يوسف، وكقول حسان رضي الله عنه:

أقسمتُ أنساها وأترُكُ ذِكْرها ... حتى تُغيَّب في الضَّريح عظامي فلو كان المفي مؤكدا بالنون مثل تالله لا تحملانّ لم يجز حذف نافيه، لأنه حينئذ لا دليل على أن النفي مراد بل المتبادر إلى ذهن السامع أن الفعل مثبت، كما هو في قول الشاعر: وقتيل مُرَّة أثأرنّ وفي قول الآخر: ليت شعري وأشعرنّ إذا ما ... قَرَّبوها منشورةً ودُعيتُ أليَ الفوزُ أم عليّ إذا حُو ... سِبْتُ إنّي على الحساب مقيت فإن يكن القسم مثبتا لم يجز حذف النافي المضارع عاريا كان من النون أو مؤكدا بها، هذا هو الأصل وقد يحذف حرف النفي والقسم محذوف إذا كان المعنى لا يصح إلا بتقدير النفي كقول النمر: وقولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم ... تُلاقُونَه حتّى يَئوبَ المنخَّلُ أراد: والله لا تُلاقونه. فحذف القسم وحرف النفي، لأن المعنى لا يصح إلا بتقديره، واحتيج إلى تقدير القسم لأن تقديره مصحح لحذف النفي، إذ لا يحذف مع غير زال وأخواتها إلا في جواب قسم بشرط كونه مضارعا غير مؤكد بالنون. وقد يحذف نافي الماضي عند أمن اللبس، كقول أمية بن أبي عائذ الهذلي: فإن شئتُ آليتُ بين المقا ... مِ والركنِ والحجرِ الأسود نسيتُكِ ما دام عقلي معي ... أمدُّ به أمَدَ السَّرْمَدِ

أراد: لا نسيتك، فحذف النافي لأن المعنى لا يصح إلا بتقديره، ولأنه لو أراد الإثبات لقال: لقد نسيتك أو لنسيتك. وهذا النوع مع ظهور المعنى دون تقدم نفي آخر على القسم قليل. فإن تقدم نفي كان الحذف أحسن كقول الشاعر: فلا واللهِ نادى الحيَّ ضَيْفي ... هُدُوًّا بالمَساءةِ والعِلاط أراد فلا والله لا نادى، فحذف النافي الثاني استغناء عنه بالأول. وقد يجتمعان توكيدا كقول الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتّى يُحكِّمونك فيما شجر بينهم) وكقول أبي ذر "فلا والله أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين" وقد يكون الجواب مثبتا مع تقدم حرف نفي على القسم كقوله تعالى (لا أقسم بهذا البلد * وأنت حلّ بهذا البلد * ووالد وما ولد * لقد خلقنا الإنسان في كبد)، وكقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: فوالله ما نلْتُم ومانيل منكم ... بمُعتدل وَفْقٍ ولا مُتقارب أراد ما مانلتم وما نيلَ منكم بمعتدل، فحذف "ما" النافية وأبقى "ما" الموصولة، وجاز ذلك لدلالة دخول الباء الزائدة في الخبر، ولدلالة العطف بولا. ويجوز على مذهب الكوفيين أن تكون "ما" النافية، والمحذوفة الموصولة، ولا يجوز هذا على مذهب البصريين، لأنهم لا يجيزون بقاء الصلة بلا موصول في اللفظ

وإن دل عليه دليل. ونبهت بقولي "وقد يكون الجواب قسما" على نحو قوله تعالى (ولَيحلفُنَّ إنْ أردنا إلّا الحُسْنى) (فليحلفنّ) قسم جوابه (إن أردنا إلا الحسنى) وهو جواب قسم محذوف، كأنه قيل والله ليحلفن المنافقون إن أردنا إلا الحسنى (واللهُ يشهدُ إنّهم لكاذِبون). ص: ولا يخلو دون استطالة الماضي المثبت المجاب به من اللام مقرونة بقد أو ربما أو بما مرادفتها إن كان متصرّفا، وإلا فغير مقرونة. وقد يلي لقد ولبما المضارع الماضي معنى. ويجب الاستغناء باللام الداخلة على ما تقدم من معمول الماضي، كما استغنى باللام الداخلة على ما تقدم من معمول المضارع. ش: إن كان صدر الجملة المجاب بها القسم فعلا ماضيا مثبتا وخلا القسم من استطالة وجب اقترانه باللام وحدها إن كان الفعل غير متصرف، وباللام مع "قد" أو ربّما أو بما بمعنى ربما إن كان متصرّفا. فإن وجدت استطالة جاز إفراد الفعل كقوله تعالى: (والسماءِ ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهدٍ ومشهودٍ * قُتِل أصحابُ الأخدود) وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده وددت أني أقاتل في سبيل الله، فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" أخرجه البخاري. واقترانه بقد وحدها كقوله تعالى (قد أفلح من زكّاها) وإن لم توجد الاستطالة والفعل غير متصرف وجب الاقتران باللام مفردة كقول الشاعر: لعمري لنِعم الفتى مالكٌ ... إذا الحربُ أصْلَتْ لظاها رجالا

وإن كان الفعل متصرفا فالأكثر أن يقترن باللام مع قد كقوله تعالى (تالله لقد آثرك الله علينا) أو بربّما كقول الشاعر: لئنْ نَزَحَتْ دارٌ لليلى لرُبّما ... غَنينا بخيْر والديارُ جميعُ أو بما مرادفة ربما كقول عمر بن أبي ربيعة: فلئنْ بانَ أهلُه ... لبما كان يُؤْهَلُ وقد يستغنى باللام الفعل الماضي المتصرف في النثر والنظم. ومن الاستغناء بها في النثر قوله تعالى (ولئنْ أرسلنا ريحًا فرأوه مصْفَرًّا لظَلُّوا من بعده يكفرون). وفي الحديث عن امرأة من "غفار" أنها قالت: "والله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فأناخ" وفي حديث سعيد بن زيد "أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخذ شبرا من الأرض ظُلْما" الحديث. ومن الاستغناء بها في النظم قول امرئ القيس: حلفتُ لها بالله حلفةَ فاجر ... لناموا، فما إنْ من حديث ولا صالي وقد يجاب القسم بمضارع ماضي المعنى فيقترن بلقد أو لبما؛ فاقترانه بلقد كقول

الشاعر: لئن أمستْ ربوعُهم يبابا ... لقد تدعو الوفود لها وُفودا واقترانه بلبما كقول الآخر: فلئنْ تغيّر ما عَهِدْتُ وأصبحت ... صَدَفَتْ فلا بَذْلٌ ولا ميسورُ لبما تُساعِفُ في اللقاء وَليّها ... فرح بقرب مزارِها مسرورُ وإذا قدّم معمول الماضي المجاب به القسم قرن باللام وأغنت عن قد وربما وبما، كما أغنى اقترانها بمعمول المضارع المؤخر عن توكيده بالنون. ومن شواهد اقترانها بمعمول الماضي المؤخر قول أمّ حاتم: لعمْري لقدما عضَّني الجوعُ عضّة ... فآليتُ ألّا أمنع الدهرَ جائعا وقد اجتمع في قول عامر بن قدامة: فلبعدَه لا أخلدنّ ومالَهُ ... بدلٌ إذا انقطعَ الإخاء فَوَدَّعا شذوذان: أحدهما عدم الاستغناء بتقدم اللام عن النون. والثاني دخولها على جواب منفي. فلو كان مثبتا لكان دخولها عليه مع تقدم اللام أسهل. ص: وإذا توالى قسم وأداة شرط غير امتناع استغنى بجواب الأداة مطلقا إن سبق ذو خبر، وإلا فبجواب ما سبق منهما. وقد يغني حينئذ جواب الأداة مسبوقة بالقسم. وقد يقرن القسم المؤخر بفاء فيغني جوابه وتقرن أداة الشرط المسبوقة بلام مفتوحة تسمى الموطئة. ولا تحذف والقسم محذوف إلا قليلا. وقد يجاء بلئن بعدما يغني عن الجواب فيحكم بزيادة اللام. ش: إذا اجتمع في كلام واحد قسم وأداة شرط ولم تكن الأداة لو ولولا استغنى

بجواب ما تقدم منهما عن جواب المتأخر إن لم يتقدم عليهما ذو خبر، فالاستغناء بجواب القسم لتقدمه نحو: والله إن جئتني لأكرمنك، والاستغناء بجواب الشرط لتقدمه نحو إنْ والله جئتني أكرمك. فلو تقدم عليهما ذو خبر استغنى بجواب الشرط، تقدم على القسم أو تقدم القسم عليه. وكان الشرط حقيقا بأن يغني جوابه مطلقا، لأن تقدير سقوطه مخل بالجملة التي هو منها، وتقدير سقوط القسم غير مخلّ، لأنه مسوق لمجرد التوكيد، والاستغناء عن التوكيد سائغ. ففضل الشرط بلزوم الاستغناء بجوابه مطلقا إذا تقدم عليه وعلى القسم ذو خبر. فإن لم يتقدم عليهما ذو خبر وأخر القسم وجب الاستغناء عن جوابه بجواب القسم، كقوله تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرُجُنَّ) ولا يمتنع الاستغناء بجواب الشرط مع تأخره. ومن شواهد ذلك قول الفرزدق: لئن بلّ أرضى بلالٌ بدفعة ... من الغيث في يُمْنى يديه انسكابُها أكنْ كالذي صاب الحيا أرضَه التي ... سقاها، وقد كانتْ جديبا جَنابُها ومنها قول ذي الرمة: لئن كانتِ الدنيا عليّ كما أرى ... تباريحَ من مَيٍّ فلَلموتُ أرْوحُ ومنها قول الأعشى: لئنْ مُنيتَ بنا عن غبّ معركةٍ ... لا تُلْفِنا عن دماء القوم نَنْتَفل فلو كانت أداة الشرط "لو أو لولا" استغنى بجوابها عن جواب القسم مطلقا نحو: والله لو فعلت لفعلت، ولو فعلت والله لفعلت. وكذا لو تقدم عليهما ذو خبر أو كان

بدل "لو": "لولا". ومن أجل هذا قلت "وأداة شرط غير امتناعي". وقد يقرن القسم المؤخر بفاء فيجب الاستغناء بجوابه، لأن الفاء تقتضي الاستئناف وعدم تأثر ما بعدها بما قبلها. ومنه قول قيس بن العيزارة: فإمّا أعِشْ حتى أدِبَّ على العصا ... فواللهِ أنسى ليلتي بالمسالم وأجاز ابن السراج أن تنوي هذه الفاء فيعطى القسم المؤخر بنيّتها ما أعطى بلفظها فأجاز أن يقال إن تقم يعلم الله لأزورنك، على تقدير فيعلم الله لأزورنك ولم يذكر عليه شاهدا. فلو لم تنو الفاء لألغي القسم فقيل إن تقم يعلم الله أزرْك. وتقارن أداة الشرط المسبوقة بقسم لام مفتوحة تسمّى الموطئة. وأكثر ما يكون ذلك مع إنّ كقوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمِنُنَّ بها). وقد يكتفي بنيّتها عن لفظها كقوله تعالى: (وإن لم تغفر لنا وترحمْنا لنَكُونَنَّ من الخاسرين). والأصل ولئن لم تغفر ولولا ذلك لم يقل في الجواب لنكوننّ. بل كان يقال وإن لم تغفر لنا وترحمنا نكن من الخاسرين، كما قيل: (وإلّا تغفرْ لي وترحمْني أكنْ من الخاسرين) قال سيبويه – رحمه الله -: "ولا بد من هذه اللام مظهرة أو مضمرة" يعني اللام التي تقارن أداة الشرط وتسمى الموطئة. ومن مقارنتها غير إنْ من أخواتها قوله تعالى (وإذْ أخذ الله ميثاقَ النَّبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مُصَدِّقٌ لما معكم لتؤْمِنُنَّ به

ولتنصرنّه) ومثله قول القطامي: ولما رُزقتَ ليأتينّك سَيْبُه ... جَلَبا، وليس إليكَ مالم تُرزقِ ومثله قول الآخر: لمتى صلحت ليُقضَيَنْ لك صالحٌ ... ولتُجْزينَّ إذا جُزيَت جميلا وقد يستغنى بعد "لئن" عن جواب، لتقدم ما يدل عليه، فيحكم بأن اللام زائدة. فمن ذلك قول عمر بن أبي ربيعة: ألممْ بزينبَ إن البين قد أفِدا ... قلَّ الثواءُ لئن كان الرحيلُ غدا ومثله: فلا يَدْعُني قومي صريحًا لحُرّة ... لئن كنتُ مقتولًا ويَسْلَمَ عامرُ ص: لا يتقدم على جواب قسم معموله، إلا إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا. ويستغنى للدليل كثيرا بالجواب عن القسم، وعن الجواب بمعموله، أو بقسم مسبوق ببعض حروف الإجابة. والأصح كون "جَيْر" منها، لا ساما بمعنى "حقا". وقد تفتح راؤها. وربما أغنت هي "ولاجَرَم" عن لفظ القسم مرادا. وقد يجاب بجير دون إرادة قسم. ش: إن تعلق بجواب القسم جار ومجرور أو ظرف جاز تقديمه عليه كقوله تعالى (عمّا قليلٍ ليُصْبحُنَّ نادمين). وكقول الشاعر: رضيعَي لبانٍ ثَدْيَ أمٍّ تحالفا ... بأسحم داجٍ عَوْضُ لا نتفرّقُ

وإن تعلق به مفعول لم يجز تقديمه، فلا يجوز في والله لأضربنّ زيدًا: والله زيدا لأضربنّ ويستغنى عن القسم بجوابه كثيرا إذا دلّ عليه دليل، كوقوعه بعد لقد أو بعد لئن أو مصاحبا للام مفتوحة ونون توكيد. ويستغنى عن الجواب بمعموله كقوله تعالى (يوم ترجُف الراجفة) أي تُبعثنّ يوم ترجف الراجفة. ويكثر الاستغناء بقسم مقرون بأحد حروف الإجابة وهي: بلى ونعم ومرادفاتها: إي وإنَّ وأجلْ وجيْر، كقوله تعالى (أليس هذا بالحقّ قالوا بلى وربِّنا)، وكقولك لمَن قال: أتفعل كذا؟: لا والله، ونعم والله، وإي والله، وإنّ والله، وأجل والله، وجير والله. وزعم قوم أن "جير" اسم بمعنى حقا. والصحيح أنها حرف بمعنى نعم، لأن كل موضع وقعت فيه "جير" يصلح أن تقع فيه "نعم"، وليس كل موضع وقعت فيه يصلح أن توقع فيه حقّا. فإلحاقها بنعم أولى. وأيضا فإنها أشبه بنعم في الاستعمال، ولذلك بُنيتْ. ولو وافقت حقّا في الاسمية لأُعربتْ، ولجاز أن تصحبها الألف واللام، كما أن حقا كذلك. ولو لم تكن بمعنى نعمْ لم تعطف عليها في قول بعض الطائيين: أبى كَرمًا لا آلفا جَيْر أو نَعَمْ ... بأحسنِ إيفاءٍ وأنْجَزِ موعِد ولا أكدت نعم بها في قول طُفيل الغنوي: وقُلْنَ على البَرْدِيّ أوّلُ مَشْرب ... نعم جَيْر إن كانت رِواءً أسافِلُهْ ولا قُوبِل بها "لا" في قول الراجز: إذا يقولُ "لا" أبو العُجير ... يَصْدُقُ "لا" إذا يقولُ "جَيْرِ"

فهذا تقابل ظاهر. ومثله في التقدير قول الكميت: يرجونَ عفوي ولا يخشون بادرتي ... لا جيرَ لا جيرَ والغرْبان لم تَشِبِ أراد لا يثبت مرجوّهم، نعم تلحقهم بادرتي. وقريب منه اجتماع أجلْ ولا في قول ذي الرمة: [ترى] سيفَه لاي نصفُ الساق نَعْلُه ... أجل لا ولو كانت طِوالًا محاملُهْ وقد يستغنى بجير عن لفظ القسم، وهو مراد كقول الشاعر: قالوا قُهرتَ فقلتُ جير ليعلمَنْ ... عمّا قليلٍ أيُّنا المقهورُ وحكى الفراء أن العرب تقول: لا جرمَ لآتينّك، ولا جرم لقد أحسنت، يريد أنهم يستغنون بها عن القسم قاصدين بها معنى حقا. وقد يجاب بجير دون قسم مراد، كما يجاب بأخواتها، إلّا إي، فلا أعلم استعمالها إلا مع قسم.

باب الإضافة

باب الإضافة ص: المضاف هو الاسم المجعول كجزء لما يليه خافضا له بمعنى "في" إن حسن تقديرها وحدها، وبمعنى "من" إن حسن تقديرها مع صحة الإخبار عن الأول بالثاني، وبمعنى "اللام" تحقيقا أو تقديرا فيما سوى ذينك. ويزال ما في المضاف من تنوين أو نون تشبهه. وقد يزال منه تاء التأنيث إن أُمِن اللبس. ش: الاسم المجعول كجزء لما يليه يعمّ الموصول والمركب تركيب مزج والموصوف بصفة لازمة ويخرج الثلاثة تقييد المجعول بكونه خافضا، فيختص المضاف بالجدّ. وقلت كجزء لما يليه، ولم أقل كجزء اسم، لأن ثاني جزءي المضاف قد يكون جملة وحرفا مصدريا، وما يلي يعمّ الاسم وإيّاهما، فكان بالذكر أولى. ثم بينت أن الإضافة على ثلاثة أقسام: إضافة بمعنى "في" وإضافة بمعنى "من" وإضافة بعنى "اللام". وقد أغفل النحويون التي بمعنى "في" وهي ثابتة في الكلام الفصيح بالنقل الصحيح، كقوله تعالى (وهو ألَدُّ الخِصامِ) وكقوله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربُّصُ أربعةِ أشهر)، وقوله تعالى (ياصاحِبَي السِّجْن) وقوله تعالى (بل مكرُ الليل والنهار). ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فلا يجدون أعلم من عالم المدينة"، وقول العرب: شهيد الدار وقتيل الكربلاء. ومنه قول الشاعر: لهم سَلَفٌ شمٌّ طوالٌ رماحُهم ... يسيرون لا ميلَ الركوب ولا عُزْلا

ومثله: مُهادِي النِهار لجاراتِهم ... وبالليلِ هُنّ عليهم حرام ومثله: وغيثٍ تبطّنت قُرْيانه ... بأجردَ ذي ميْعة منهمرْ مسحّ الفضاء كسيد الأباء ... جميم الجراء شديد الحُضُرْ ومثله: من الحورِ مَيْسانُ الضُحى بُحْتريّة ... ثَقالٌ متى تنهضْ إلى الشيء تفتر ومثله: طَفْلةٌ باردةُ الصيف إذا ... مَعْمعانُ القيظ أضْحى يتقدْ سُخْنة المسّ لحافٌ للفتى ... تحت ليلٍ حين يغشاه الصَّرَدْ ومثله: تسائلُ عن قرْم هجان سَميْذَعٍ ... لدى البأس مغوار الصَّباح جَسور ومثله: وما كنا عشية ذي طليح ... لئام الروعِ إذ أزمَتْ أزامِ فلا يخفى أن معنى "في" في هذه الشواهد كلها صحيح ظاهر لا غنى عن

اعتباره. وأن اعتبار معنى غيره ممتنع، أو متوصل إليه بتكلف لا مزيد عليه، فصح ما أردناه والحمد لله. وأما الإضافة بمعنى "من" فمضبوطة بكون المضاف بعض المضاف إليه، مع صحة إطلاق اسمه عليه، والإخبار به عنه كثوب خزّ، وخاتم فضّة، فالثوب بعض الخزّ، ويصح إطلاق اسمه عليه والإخبار به عنه، وكذلك الخاتم بالنسبة إلى الفضة. ومن هذا النوع إضافة الأعداد إلى المعدودات، والمقادير إلى المقدرات. فأما نحو يد زيد فالإضافة فيه بمعنى اللام، لا بمعنى من، لامتناع الإخبار فيها بالثاني عن الأول وإن كان الأول بعضا للثاني. وكذا الإضافة في نحو يوم الخميس هي أيضا بمعنى اللام لا بمعنى من لكون الأول ليس بعضا للثاني وإن كان الإخبار فيها بالثاني عن الأول غير ممتنع. هذا معنى قول ابن السراج – رحمه الله – وهو الصحيح، لا قول ابن كيسان والسيرافي فإنهما جعلا إضافة كل إلى بعض بمعنى من على الإطلاق. وإذ قد انضبطت مواضع الإضافة التي بمعنى "في" ومواضع الإضافة التي بمعنى "من" فيلعلم أن كل إضافة سواهما فهي بمعنى "اللام"، وإن لم يحسن تقدير لفظها نحو زيد عند عمرو، وعمرو عند خالد، فلا يخفى أن لفظ اللام لا يحسن تقديره هنا، ومع ذلك يحكم بأن معناها مراد، كما حكم بأن معنى "من" في التمييز مراد، وإن لم يحسن تقدير لفظها. وأن معنى "في" في الظرف مراد، وإن لم يحسن تقدير لفظها. وقد يحسن تقدير من وتقدير اللام معا، ويجعل الحكم للام لأنها الأصل، ولذلك اختصت بجواز إقحامها بين المضاف والمضاف إليه في نحو: يابُؤسَ للحربِ التي ... وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا أراد يابؤس الحرب. ودخل في قولي "ويزال ما في المضاف من تنوين" المنون لفظا كغلام، والمنون

تقديرا كأساورَ. فإنك إذا قلت أساورُ فضةً بالنصب فالتنوين مقدر الثبوت، وإذا قلت أساورُ فضةٍ، بالجرّ، فإن الذي كان ثبوته مقدّرا صار حذفه مقدّرا، ولذلك لا ينون في الاضطرار، بخلاف الذي تنوينه مقدر الثبوت فإنه ينوّن في الاضطرار. ودخل في قولي "أو نون تشبهه" نونا المثنى والمجموع كصاحبَيْن ومكرمين، ونون الجاريتين مجراهما في الإعراب كاثنين وعشرين، فإن نونيهما تحذفان للإضافة، لجريانهما مجرى المثنى والمجموع على حدّه، فيقال اقبض اثنيك وعشريك كما يقال اذكر صاحبتيك ومكرميك. ولا خلاف في إضافتهما إلى غير مميزهما. وإنما تمنع إضافتهما إلى مميزها، إلا في الاضطرار كقول الراجز: كأن خُصْيَيه من التَّدَلْدُل ... ظرفُ عجور فيه ثِنْتا حنظل أو في ندور كرواية الكسائي أن بعض العرب يقول: عشرو درهم. وقد يحذف من المضاف تاء التأنيث إن لم يوقع حذفها في التباس مذكّر بمؤنّث كحذف تاء ابنة، أو مفرد بجمع كحذف تاء تمرة. ومن شواهد ذلك قراءة بعض القراء (ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عُدَّهُ) ومنها قول الشاعر: إنك أنت الحزينُ في أثَر الـ ... قومِ فإنْ تَنْوِ نيَّهم تُقمِ ومثله: إنّ الخليطَ أجدّوا البَيْنَ وانجردوا ... وأخلفوك عدا الأمرِ الذي وعدوا

ومثله: ونارٍ قُبيل الصبح بادرْتُ قدْحها ... حَيا النارِ قد أوقدتها للمسافر ومثله: ألا ليتَ شعْرِي، هل تَنظّر خالدٌ ... عِيادي على الهجْران أم هو آيسُ ومثله: وأحلى من التمر الجنيّ وفيهم ... بسالةُ نفسٍ إنْ أريدَ بسالُها ومثله قول رؤبة: هاتكتُه حتّى انْجلتْ أكدارُهُ ... وانْحسرتْ عن مَعرفي نكْراؤُه فسهّل حذف التاء من هذه الأسماء أن حذفها لا يوقع في التباس، لأنه لا يقال في العُدّة: عُدّ، ولا في النّية، نيّ، ولا في العِدة: عِدٌ، ولا في الحياة: حيا، ولا في العيادة: عِياد، ولا في البسالة: بسال، ولا في المعرفة: مَعْرِف. وجعل الفراء من هذا القبيل (وإقامَ الصلاةِ) و (وهم من بعد غَلَبهم سَيَغْلبون) بناء على أنه لا يقال دون إضافة في الإقامة: إقام، ولا في الغلبة: غلب. ص: ويتخصص بالثاني إن كان نكرة، ويتعرف به إن كان معرفة، مالم يوجب تأوّله بنكرة وقوعه موقعَ مالا يكون معه معرفة، أو عدم قبوله تعريفا لشدة إبهامه كغير ومثل وحسب، أو تكون إضافته غير محضة ولا شبيهة بمحضة، لكونه صفة مجرورها مرفوع بها في المعنى أو منصوب، وليس من هذا المصدر المضاف إلى مرفوعه أو منصوبه خلافا لابن برهان. ولا أفعل التفضيل، ولا الاسم المضاف إلى الصفة خلافا للفارسي، بل إضافة المصدر وأفعل التفضيل محضة، وإضافة الاسم إلى الصفة شبيهة بمحضة لا محضة، وكذا إضافة المسمّى إلى الاسم،

والصفة إلى الموصوف، والموصوف إلى القائم مقام الوصف، والمؤكَّد إلى المؤكِّد والملغيّ إلى المعتبر، والمعتبر إلى الملغيّ. ش: كل جزء من جزأي الإضافة مؤثر في الآخر؛ فالأول مؤثر في الثاني الجرّ بأحد المعاني الثلاثة، والثاني مؤثر في الأول نزع دليل الانفصال مع التخصيص إن كان الثاني نكرة، ومع التعريف إن كان معرفة. هذا إن لم يكن المضاف إلى معرفة واقعا موقع مالا يكون معرفة فيجب تقدير انفصاله، ليكون في المعنى نكرة، كقول الشاعر: أبالموت الذي لا بُدَّ أنّي ... مُلاقٍ لا أباك تُخوّفيني وكقول العرب: رُبّ رجل وأخيه، وكم ناقة وفصيلها، وفعل ذلك جهدَه وطاقته. وقد تقدم بيان حقيقة التأويل في هذه الأمثلة وأمثالها، فَصُوَرُها صورُ المعارف تقديرا وتقدير تنكيرها واجب، لوقوع كل واحد منها موقع ما لا يكون معرفة، وكذا الحكم بتنكير ما أضيف إلى معرفة وهو غير قابل للتعريف للزوم إبهامه كغير ومثل وحسب؛ فإنه لا فرق بين قولك رأيته ورجلا غيره. وقولك رأيته ورجلا آخر، وكذا لا فرق بين قولك رأيته ورجلا مثله وبين قولك رأيته ورجلا آخر. لكن كل ما صدق وصفه بالمغايرة صدق وصفه بالمماثلة إذا كان الجنس واحدا. وكذا لا فرق بين قولك رأيته ورجلا حسبك من رجل وبين قولك رأيته رجلا كافيا فيما يراد من الرجال. فلا يزول بإضافة هذه وأمثالها إلى المعارف مما تقدم إلا مالا يعتد بزواله. وقد يُعنى بغير ومثل مغايرة خاصة ومماثلة خاصة فيحكم بتعريفهما، وأكثر ما يكون ذلك في "غير" إذا وقع بين ضدّين كقوله: فلْيكُنِ المغلوبُ غيرَ الغالِبِ ... وليكُنِ المسلوبُ غيرَ السالب وأجاز بعض العلماء منهم السيرافي أن يحمل على هذا قوله تعالى (صِراطَ

الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين) لوقوع "غير" فيه بين متضادين، وليس ذلك بلازم، كقوله تعالى (نعمل صالحًا غيرَ الذي كُنّا نعملُ) فغير الذي مضاف إلى معرفة وقد قصد به نكرة مع وقوعه بي ضدين، فيجوز كون (غير المغضوب) بدلا لانعتا، ويجوز كونه نعتا مع الحكم بتنكيره، لأن الذين أنعمت عليهم لم يقصد به تعيين، فهو في معنى نكرة فيجوز نعته بنكرة وإن كان لفظه لفظ معرفة، كما يجوز أن ينعت الليل ينسلخ في قول تعالى (وآيةٌ لهم الليلُ نسلخُ منه النهارَ)، لأن الليل وإن كان في صورة معرفة فهو في المعنى نكرة إذ لم يقصد به ليل معيّن، فلذلك نعت بجملة، والجمل لا ينعت بها إلا النكرات. وإلى هذا الوجه الآخر أشار الفراء والزجاج ورجّحه أبو علي الشلوبين. وزعم المبرد أن "غيرا" لا تتعرّف أبدا. ومن نعت ذي الألف واللام الجنسية بالجملة قول الأعشى: وتبْردُ بَرْدَ رداءِ العروس ... رَقْرقت في الصيف فيه العبيرا لأن رداء العروس بمنزلة رداء عروس. وكذا يحكم بتنكير ما يضاف إلى معرفة إضافة غير محضة ولا شبيهة بمحضة، وذلك أن يكون المضاف صفة مجرورها مرفوع بها في المعنى نحو: رأيت رجلا حسن الخَلْق محمودا الخُلُق، أو منصوب نصبا حقيقيا نحو: رأيت رجلا مكرم زيد؛ فالإضافة في هذه الأمثلة وأشباهها غير محضة ولا شبيهة بمحضة، لأن المضاف فيها صفة أضيفت في الأول والثاني إلى ما هو مرفوع بها في المعنى، فإن الأصل رأيت رجلا حسنا خَلْقه محمودا خُلُقه، وأضيف في الثاني إلى ما هو منصوب بها في المعنى نصبا حقيقيا، فإن الأصل رأيت رجلا مكرما زيدا، أي يكرم زيدا. فالنية الانفصال، فإن الموضع موضع فعل.

وخرج بذكر الصفة إضافة المصدر، وإضافة المميز، وخرج بنسبة الرفع والنصب إلى مجرورها نحو سحقُ عمامة، وكرام الناس، فإن إضافتهما محضة، لأنهما لم يقعا موقع فعل، ولا المجرور بهما مرفوع المحل ولا منصوبه. ثم نبهت إلى أن الصحيح كون إضافة المصدر محضة. وزعم ابن برهان أن إضافته غير محضة لأن المجرور به مرفوع المحل أو منصوبه كقيام زيدٍ وأكل الطعامِ، فالأول مثل حسن الخلق، والثاني مثل ضارب العبد. قلت: والذي ذهب إليه ابن برهان ضعيف في أربعة أوجه: أحدها أن المصدر المضاف أكثر استعمالا من غير المضاف، فلو جعلت إضافته في نية الانفصال لزم جعل ما هو أقل استعمالا أصلا وهو خلاف المعتاد. الثاني أن إضافة الصفة إلى مرفوعها ومنصوبها منوية الانفصال بالضمير المستتر فيها فجاز أن ينوي انفصالها باعتبار آخر، والمصدر بخلاف ذلك؛ فتقدير انفصاله مما هو مضاف إليه لا محوج إليه ولا دليل عليه. الثالث أن الصفة المضافة إلى مرفوعها أو منصوبها واقعة موقع الفعل المفرد، والمصدر المضاف واقع موقع حرف مصدري موصول بالفعل، والموصول المشار إليه محكوم بتعريفه فليكن الواقع موقعه كذلك. الرابع أن المصدر المضاف إلى معرفة معرفة، ولذلك لا ينعت إلا بمعرفة، فلو كانت إضافته غير محضة لحكم بتنكيره ونعت بنكرة، ولجاز دخول رب عليه وأن يجمع فيه بين الألف واللام والإضافة كما فعل في الصفة المضافة إلى معرفة نحو: يارُبّ غابطنا ورأيت الحسن الوجه. ونبهت أيضا على أن الصحيح في إضافة أفعل التفضيل كونها محضة، نص على ذلك سيبويه – رحمه الله – ويدل على أن ذلك هو الصحيح أن الحامل على اعتقاد عدم

التمحض في إضافة الصفة إلى مرفوعها ومنصوبها وقوع الأول فيها موقع الفعل، ووقوع الثاني موقع مرفوع ذلك الفعل ومنصوبه، وأفعل المضاف بخلاف ذلك، فلم يجز اعتقاد كون إضافته غير محضة. وأيضا فإن المضاف إليه أفعل التفضيل لايليه مع بقاء المعنى المفاد بالإضافة إلا بالإضافة فكان كغلام زيد، ولا خلاف في تمحض غلام زيد، فكذا إضافة أفضل القوم وشبهه، ولأن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة لا ينعت إلا بمعرفة، ولا ينعت به إلا معرفة، ولا تدخل عليه رُبّ، ولا يجمع فيه بين الإضافة والألف واللام، ولا ينصب على الحال إلا في نادر من القول. ولو كانت إضافته غير محضة لكان نكرة ولم يمتنع وقوعه نعتا لنكرة ولا منعوتا بها ولا مجرورا برب ولا مجموعا فيه بين الألف واللام والإضافة، ولا منصبوا على الحال دون استندار. واحترزت بقولي "دون استندار" من قول المرأة الصحابية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومالنا أكثر أهل النار" وهو معرفة مؤول بنكرة كغيره من المعارف الواقعة أحوالا. وقد تقدّم الكلام عليهما. ونبهت أيضا على أن إضافة الاسم إلى ما هو في الأصل صفة كمسجد الجامع واسطة بين المحضة وغير المحضة على أصح القولين، لأنها إضافة تصل ما هي فيه بما يليه إمّا بها نحو (ولدارُ الآخرة) وكلا الاستعمالين صحيح فصيح فوجب أن يكون لنوعه اعتباران: اتصال من وجه وانفصال من وجه، فالاتصال من قبل أن الأول غير مفصول بضمير منوي كما هو في إضافة الصفة إلى مرفوعها أو منصوبها، ولأن موقعه لا يصلح للفعل فيقدر تنكيره، ولأن الذي حكم بعدم تمحض إضافته جعل سبب ذلك أن الأصل إضافة الأول إلى موصوف الثاني، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه. وهذا إذا سُلّم لا يمتنع به تمحض الإضافة، لأن الحكم لا يتغير بحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وقبل حذف الموصوف كان تمحض الإضافة ثابتا فلا يزول بعد الحذف، كما لا يزول

غيره من أحكام المحذوف الذي أقيم غيره مقامه. وأما الانفصال في هذا النوع فمعتبر من قِبَل أن المعنى يصح به دون تكلف ما يخرج به عن الظاهر. ألا ترى أن نحو الجانب الغربي والصلاة الأولى والمسجد الجامع والدار الآخرة والحبة الحمقاء مكتفى بلفظه في صحة معناه، وأن نحو جانب الغربي وصلاة الأولى ودار الآخرة ومسجد الجامع وحبة الحمقاء غير مكتفى بلفظه في صحة معناه، بل يحتاج فيه إلى تكلف تقدير، بأن يقال جانب المكان الغربي، وصلاة الساعة الأولى، ودار الحياة الآخرة، ومسجد الوقت الجامع، وحبة البقلة الحمقاء. مع أن بعض هذا النوع لا يحسن فيه تقدير موصوف نحو (دينُ القَيِّمةِ) فإن أصله الدين القيمة. والتاء للمبالغة – فإذا قُدّر محذوف لزم أن يقال دين الملة أو الشريعة، والملة هي الدين وكذا الشريعة، فلزم تقدير مالا يغني تقديره، لأن المهروب منه كان إضافة الشيء إلى نفسه وهو لازم بتقدير الملة والشريعة. وأيضا جعل الأول من هذا النوع منعوتا والثاني نعتا مطّرد كقولهم للحنطة: الحبة السمراء، وللشونيز: الحبة السوداء، وللبطيخ: الحبة الخضراء. والإضافة غير مطردة، لأنها مقصورة على السماع، واعتبار المطرد أولى من اعتبار غير المطرد، ولذلك يجوز الإتباع فيما جازت فيه الإضافة، ولا تجوز الإضافة فيما لم تضفه العرب كالحبة الحمراء، والحبة السوداء، والحبة الخضراء. والحاصل أن إضافة هذا النوع منوية الانفصال لأصالتها بالاطراد والإغناء عن ترك الظاهر، ومع ذلك لا يحكم بتنكير مضافها لشبهه بما لا ينوى انفصاله من كونه غير واقع موقع فعل، وكون تاليه غير مرفوع المحل ولا منصوبه. ثم نبهت على المضافات الجارية مجرى هذا النوع في اعتبار الاتصال والانفصال. فمنها إضافة المسمّى إلى الاسم كشهر رمضان ويوم الخميس وذات اليمين وذي صباح، وقوله: إليكم ذوي آل النّبيّ تطلّعت ... نَوازِعُ من قلبي ظِماء وألْبُبُ

ومثله: عزمتُ على إقامةِ ذي صباحٍ ... لأمر ما يُسَوّد مَن يسودُ ومثله: على كلِ ذي مَيْعَةِ سابحٍ ... يُقطّع ذو أبْهَرية الجِزاما ومن إضافة المسمى إلى الاسم قولهم: سعيدُ كرز، فإن "سعيد" علم و"كرز" لقب، والشخص المدلول عليه بهما واحد، لكن الاسم قبل اللقب في الموضع فقدّم عليه في اللفظ وقصد بالمقدم المسمّى لتعرّضه إلى ما يليق بمجرد اللفظ من نداء وإسناد، فلزم أن يقصد بالثاني مجرد اللفظ، لتثبت بذلك مغيرةٌ لما، حتى كأن قائل جاء سعيد كرز قد قال: جاء مسمّى كرز. وكذا قائل صمت شهر رمضان، واعتكفت يوم الخميس، كأنه قال صمت مسمّى رمضان، واعتكفت مسمّى الخميس. وكذا العمل في أشباههما. ومنه إضافة الصفة إلى الاسم، كقول الشاعر: إنّا محيّوكِ ياسَلْمَى فحيّينا ... وإنْ سَقيتِ كرامَ الناس فادْعينا والأصل: وإن سقيت الناس الكرام، ثم قدم الصفة وجعلها نوعا مضافا إلى الجنس. ومن هذا القبيل قولهم سَحق عمامة وجَرد قطيفة وسَمْل سربال، والأصل: عمامة سحق، وقطيفة جرداء، وسربال سَمْل، ثم فُعل بها ما فُعل بكرام الناس. ومنها إضافة الموصوف إلى مضاف إليه كقول الشاعر: علا زيدُنا يومَ النقا رأسَ زيدكم ... بأبيضَ ماضي الشفرتَين يمانِ

أي علا زيد صاحبنا رأس زيد صاحبكم، فحذف الصفتين المضافتين إلى ضميري المتكلم والمخاطب وجعل الموصوف خلفا عن الصفة في الإضافة. ومثله: فإنّ قريشَ الحقّ لا تتْبعُ الهوى ... ولن يقبلوا في الله لومةَ لائم أراد فإن قريشا أصحاب الحق، ثم فعل كفعل الأول. ومثله: لعمري لئن كانت بجيلة زانها ... جريرٌ لقد أخزى كليبا جريرها ومثله قول الأسد الطائي: قتلتُ مجاشعا وأسَرْت عَمْرا ... وعنترةَ الفوارسِ قد قتلْتُ ومثله قول الحطيئة: إليكَ سعيدَ الخير جُبتْ مهامِها ... يُقابلني آل بها وتُنوف ومثله قول رؤبة: ياقاسم الخيراتِ وابنِ الأخير ... ما ساسَنا مثلك مِن مُؤَمَّر ومثله: يازيدُ زيدَ اليَعْمُلاتِ الذُّبّل وكذا قولهم في زيد الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير: زيد الخيل، لأنه كان صاحب خيل كريمة. وعلى هذه الأمثلة وشبهها نبهت بقولي: "والموصوف إلى القائم مقام الوصف". ثم أشرت إلى إضافة المؤكَّد إلى الموكّد، وأكثر ما يكون ذلك في أسماء

الزمان المبهمة كحينئذ ويومئذ وقد يكون في غير أسماء الزمان، كقول الشاعر: فقلتُ انْجُوا عنها نجا الجلدِ إنّه ... سَيُرْضيكما منها سنامٌ وغارِبُهْ أراد: اكشطا عنها الجلد، لأن النجا هو الجلد. فأضاف المؤكد، كما أضيف الموصوف إلى الوصف في المسجد الجامع وشبهه. ومن إضافة المؤكد إلى المؤكد في غير الزمان قول الشاعر: لم يبْق من زَغَب طار الشتاء به ... على قرا ظهْره إلّا سماليل فأضاف القرى إلى الظهر وهما بمعنى واحد، كما فعل في نجا الجلد. ومثله: كخَشْرم دَبْرٍ له أزْمَلُ ... أو الجَمْر حُشَّ بصُلب جُزالْ فأضاف الخشرم إلى الدبر وكلاهما اسم للنحل. وذكر الفارسي في التذكرة أن قولهم: لقيته يوم يوم، وليلة ليلة، أضيف فيه الشيء إلى مثله لفظا ومعنى. ومن إضافة الملغى إلى المعتبر قول الشاعر: إلى الحولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ومن يبكِ حَوْلًا كامِلا فقد اعتذَرْ ومثله: ياعجَبا لعُمان الازْدِ إذ هلكوا ... وقد رأوا عِبرًا في سالف الأمم ومثله: قالت أتصرمُني فقلتُ لقيلها ... شلّتْ بنانُ يدَي إذا لم أفعل

ومثل: ألا ليت أيامَ الصفاءِ جديدُ ... ودهرًا تولّى يابُثينَ يعودُ ومثله: وتيهٍ خبطنا غَوْلها فارْتمى بنا ... أبو البُعْدِ من أرجائه المتطاوِح أراد فارتمى بنا البعد. ومثله قول أمية في ناقة صالح عليه السلام: فأتاها أحَيْمِرٌ كأخي السهـ ... مِ بزُجّ فقال: كوني عَقيرا أراد كالسهم فألغى "الأخ". ومن إلغاء المضاف والاعتداد بالمضاف إليه ما حكى من قول العرب: هذا حي زيد، وأتيتك وحي فلان قائم، وحي فلانة شاهد. وسمع الأخفش أعرابيا يقول: مالهن حي رماح، يعني أبياتا. ومثله قول الشاعر: ياقُرّ إنّ أباكَ حيّ خُويلدٍ ... قد كنتُ خائفَه على الإحْماقِ والمعنى: هذا زيد، وإن أباك خويلد، ومالهنّ رماح. ومن هذا القبيل قول الشاعر: وحيَّ بني كِلابٍ قد شَجَرْنا ... بأرْماح كأشْطانِ القليب قال الفارسي: من إلغاء المضاف (كمن مثله في الظّلُماتِ) أي كمن هو في الظلمات، و (مثلُ الجنّةِ التي وُعِدَ المتّقونَ فيها أنهارٌ) أي الجنة التي وُعد المتقون فيها أنهار. ومن إضافة المعتبر إلى ما لا يعتبر ولا يعتدّ به إلا كالاعتداد بالحرف الزائد للتوكيد

قول ابن أبي ربيعة – رحمه الله تعالى -: حمّلتها حُبًّا لو امْسَى مثلُه ... بِثَبيرَ أو بجِرانِه لتَضَعْضعا ومثله قول الحطيئة: فلو بلغتْ عَوّا السماءِ قبيلةٌ ... لزادتْ عليها نَهْشل وتَعلّتِ وله أيضا: لعمرُ الراقصاتِ بكُلّ فجّ ... من الرُّكْبان مَوْعدُها مناها لقد شهدت حبائلُ آل لأم ... حبالى بعد ما ضعُفت قواها ومثله قول الفرزدق: وثقتُ إذا لاقتْ بلالًا مَطيّتي ... لها بالغنى إنْ لم تُصبها شَعُوبُها ومثله قول بعض الطائيين: أقام ببغداد العراقِ وشَوْقُه ... لأهلِ دمشقِ الشامِ شوقٌ مُبرِّحُ ومثله قول أذينة السلمي، وكان سادن العُزَّى: أعُزّايَ شُدّي شدّةً لا تكذبي ... على خالدٍ ألقي الخمارَ وشَمِّري فإنكِ إلّا تقتلي اليومَ خالدا ... تَبُوئي بِذُلّ عاجِل وتحَسُّرِ ومن هذا القبيل مررت برجل حسن وجهه وحسن وجهَه، واضرب أيَّهم أساء، لأن "أيّا" الموصولة معرفة بصلتها كغيرها من الأسماء الموصولة، فلو كان ما

تضاف إليه معتدّا به لزم اجتماع معرّفين على معرّف واحد وهو ممنوع، وما أفضى إلى الممنوع ممنوع. فصل: ص: لا يُقدَّم على مضافٍ معمولُ مضاف إليه إلّا على "غير" مرادا به نفي، خلافا للكسائي في جواز أنت أخانا أولُ ضاربٍ. ويؤنث المضاف لتأنيث المضاف إليه إن صح الاستغناء به، وكان المضاف بعضه أو كبعضه. وقد يرد مثل ذلك في التذكير ويضاف الشيء بأدنى ملابسة. ش: المضاف إليه كصلة للمضاف، فلا يتقدم على المضاف معمول المضاف إليه، كما لا يتقدم على الموصول معمول الصلة، فلا يقال في أنت أول قاصدا خيرا: خيرا أنت أول قاصد، ولا في أنا مثل مكرم عمرا: عمرا مثل مكرم. فإن كان المضاف "غيرا" مرادا به النفي جاز أن يتقدم عليه معمول ما أضيف إليه، كما يتقدم معمول المنفي بلم ولن ولا. ومن شواهد ذلك قول الشاعر: فتى هو حقًّا غيرُ مُلغٍ (فريضةً) ... ولا يتَّخِذْ يومًا هواهُ خليلا ومثله: إنٌ امرأً خَصّني يومًا موَدَّته ... على التنائي لَعِنْدي غيرُ مكفور والأصل: غير ملغ حقا، وغير مكفور عندي. وجاز التقديم لأن النفي مراد، كأن الأول قد قال: هو حقا لا يلغي، وكأن الثاني قال: على التنائي لا يكفر عندي. فلو لم يرد بغير النفي لم يجز تقديم ما أضيف إليه كقولك أكرم القوم غير شاتم زيدا، فلو قال: أكرم القوم زيدا غير شاتم لم يجز، لأن النفي غير مراد. وحكى ثعلب أن الكسائي أجاز أن يقال: أنت أخانا أول ضارب، بمعنى أنت أول ضارب أخانا. وغير الكسائي يمنع ذلك، وهو الصحيح.

ويكتسب المضاف إلى مؤنث تأنيثا، بشرط صحة الاستغناء بالمضاف إليه، وكون الأول بعضا أو كبعض. وكذلك يكتسب المؤنث المضاف إلى مذكر تذكيرا بالشرط المذكور، فمن الأول قول الشاعر: إذا بعضُ السنينَ تعرَّقتْنا ... كفى الأيتامَ فقد أبى اليتيم ومثله: مَشينَ كما اهتزّتْ رماحٌ تسفّهت ... أعاليها مرُّ الرياح النواسمِ ومثله: لما أتى خبرُ الزُّبير تواضعتْ ... سورُ المدينة والجبال الخشعُ ومثله: أبا عُروَ لا تبعدْ فكُلُّ ابن حُرّة ... سيدعُوه داعي مَوْته فيُجيبُ ومثله: (دويهة) داعي المنية بالورى ... فمنهم مُقدمٌ ومنهم مؤخّرُ ومثله: قد صرّح السيرُ عن كُتْمانَ وابتُذلتْ ... وقعُ المحاجن بالمَهْريّة الذُقُنِ

ومنه قراءة أبي العالية (فظلّت أعناقهم لها خاضعين) ويمكن أن يكون منه (إن رحمت الله قريب من المحسنين)، ومنه قول الشاعر: إساءة من يبغي على الناس موقعٌ ... بحَوبائه الهلكاءَ من حيثُ لا يدري ومنه: بهجه الحُسْنِ فاتِنٌ فاغضُضِ الطر ... ف لتكفي صيد الظباء الأسودا ومثله: إنارةُ العقلِ مكسوفٌ بطوْع هوى ... وعقلُ عاصي الهوى يَزْدادُ تنويرا ومثله: رؤيةُ الفِكْرِ ما يَئول له الأمـ ... رُ مُعينٌ على اجتنابِ التواني فأنث في النوع الأول المضاف وهو مذكر لتأنيث المضاف إليه. وذكّر في النوع الثاني المضاف وهو مؤنث لتذكير المضاف إليه، لصحة الاستغناء فيهما عن المضاف بالمضاف إليه، مع كون المضاف بعض المضاف إليه أو كبعضه. واحترزت بهذا من المضافات الصالحة للحذف وليست بعض ما أضيفت إليه ولا كبعضه كيوم الخميس وذي صباح. [ومن غير الصالحة للاستغناء عنها بالمضاف إليه. فإن كانت كذلك] لم يؤنث مذكر، ولم يذكّر مؤنث نحو حسن غلام هند

وكرمت أم زيد. ويضاف الشيء إلى الشيء، بأدنى ملابسة بينهما، كقول صاحب الخشبة لحامليها: خذا طرفَيكما، وكقول الشاعر: إذا كَوْكبُ الخرقاءِ لاحَ بسُحْرة ... سهيلٌ أضاعتْ غَزْلها في القرائب وكقول الآخر: إذا قال قَدْني قال بالله حلفةً ... لتُغْنِنَّ عنّي ذا إنائِكَ أجْمعا فصل: ص: لازمت الإضافة لفظا ومعنى أسماء، منها ما مرّ في الظروف والمصادر والقسم. ومنها حُمادى وقُصارى، ووحْدَ لازم النصب والإفراد والتذكير وإيلاء ضمير. وقد يجرّ بعلى وبإضافة نسيج وجُحيش وعُيير. وربّما ثنّي مضافا إلى ضمير مثنى. ومنها كلا وكلتا ولا يضافان إلا إلى معرفة مثناة لفظا ومعنى، أو معنى دون لفظ. وقد تفرق بالعطف اضطرارا. ومنها ذو وفروعه، ولا يضفن إلا إلى اسم جنس ظاهر. وكذا أولو وألات. وقد يضاف "ذو" إلى عَلم وجوبا إن قرنا وضعا، وإلّا فجوازا، وكلاهما مسموع، والغالب في ذي الجواز الإلغاء، وربما أضيف جمعه إلى ضمير غائب أو مخاطب. ش: قد يقتضي الاستعمال لزوم الإضافة لفظا ما يفهم معناه بمجرد الإضافة كحمادى الشيء فإنه بمعنى غايته، فلو استعمل غاية لصلح لذلك من جهة المعنى، لكن الاستعمال منع من ذلك. والأكثر لزوم الإضافة مالا يفهم معناه إلا بها. فإذا كان معنى الاسم لا يفهم بمجرد لفظه استحق متمما بصلة أو صفة لازمة أو إضافة؛ فالمتمم بصلة نحو: هذا الذي عندي. والمتمم بصفة لازمة نحو قوله: لما نافع يسْعى اللبيبُ فلا تكُنْ ... لشيءٍ بعيدٍ نفعُهُ الدهرَ ساعِيا

والمتمم بإضافة كعند ولدى. وإذا تمّ المتمّم بالإضافة متمما استعمل ملازما لها لفظا ومعنى ككلا. ومنها ما يستعمل غير ملازم لها في اللفظ ككلّ. فمن الملازمة للإضافة لفظا ومعنى ما ذكر في الظروف كعند ولدى، وفي المصادر كسُبْحانَ وبَلْهَ المعرّف، وفي الاستثناء كسوى وبَيْد، وفي القسم لعمرك الله. ومنها حُمادى الشيء وقُصاراه بمعنى غايته. وقد يقال قصاره وقصره. ومنه قول الشاعر: قصْرُ الجديد إلى بلًى ... والعيشُ في الدُّنيا انقِطاعُهْ ومن الملازمة للإضافة لفظا ومعنى "وحد" ولا تضاف إلا إلى ضمير ولا يكون إلا منصوبا على الحال، وهو في الأصل مصدر، فلذلك لم يؤنث ولم يثنّ ولم يُجمع، فيقال جئت وحدك وجئت وحدَكِ، وجئتما وحدَكما وجئتم وحدَكم وجئتن وحدَكنّ وجئنا وحدَنا. وقال الشاعر: أعاذلُ هل يأتي القبائلَ حَظُّها ... من الموتِ، أم خُليّ لنا الموتُ وَحْدَنا وقد يجر بعلى. وإضافة نسيج في المدح، وفي الذم بإضافة جحيش وعُيَير فيقال هو نسيج وحده، إذا قُصد قلة نظيره في الخير، وهذا جحيش وحده وعيير وحده إذا قصد قلة نظيره في الشر. وحكى ابن سيده أنه يقال: جلس على وحده، وجلسا على وحدهما وعلى وحديهما، وقلنا ذلك وَحْدَينا. ومن الملازمة للإضافة لفظا ومعنى "كلا وكلتا"، وقد ذكرا في باب الإعراب، وسيذكران إن شاء الله تعالى في باب التوكيد. ولا يضافان إلا إلى معرفة مثناة لفظا ومعنى نحو: مررت بكلا الرجلين، أو معنى دون لفظ كقول الشاعر: إنْ للخيْر وللشرِّ مدًى ... وكلا ذلك وجْهٌ وقَبَلْ

فأضاف "كلا" إلى "ذلك" وهو مفرد في اللفظ، لأن المراد به اثنان، وهو شبيه بقوله تعالى (عَوانٌ بين ذلك) ولا يضافان إلى نكرة فلا يقال مررت بكلا رجلين ولا كلتا امرأتين، ولا يضافان أيضا إلى مفترقين، فلا يقال مررت بكلا زيد وعمرو، وربما جاء مثل هذا في الشعر كقول الفرزدق: كِلا السَّيْفِ والساقِ الذي ضُربتْ به ... على دَهَش ألقاه باثنَيْن صاحِبُهْ ومثله: كلا الضيفَنِ المشْنوءِ والضيفِ نائلٌ ... لديَّ المُنى والأمْنَ في اليُسْرِ والعُسْرِ ومثله: كلا أخي وخليلي واجدي عضدًا ... في النائبات وإلمام المُلمّات ومن الملازمة للإضافة لفظا ومعنى "ذو" ومؤنثه ومثناهما وجمعهما ومرادف جمعهما. ولا يضفن إلا إلى اسم جنس ظاهر، نحو: هذا رجل ذو فضل، وهذه امرأة ذات حسب، وهذان ذوا فضل وهاتان ذواتا حسب، وهم ذوو فضل، وهن ذوات حسب، وأولو فضل وأولات حسب. وقولي "وقد يضاف ذو إلى عَلَم وجوبا إن قرنا وضعا" نبهت به على نحو: ذي يَزَن وذي رُعَين وذي الكلاع وذي سلم، من الأعلام التي أولها "ذو". ثم قلت "وإلا فجوازا" فنبهت به على نحو قولهم في تبوك وقطرى: ذو تبوك وذو قطرى، وذو عمرو. ومنه قول جرير:

تمنَّى شبيبٌ مُنْيةً سَفَلَتْ به ... وذو قَطَرِيّ لَفّه منكَ وابِلُ وكلا النوعين مقصور على السماع. والأكثر في النوع الثاني أن يكون ذو فيه بمعنى الذي في قولهم لقيته ذا صباح، أعني كونه غير معتد به إلا بجعله من إضافة المسمّى إلى الاسم، وأما أن يكون مضافا إلى عَلَم ويعتدّ به كالاعتداد في نحو: هو ذو مال فقليل. ومنه: "أنا ذو بكّة" وجد مكتوبا في حجر من أحجار الكعبة قبل الإسلام. وقد يضاف "ذو" إلى ضمير غائب ومخاطب، فمن إضافته إلى ضمير الغائب قول عمر رضي الله عنه: "اللهم صلّ على محمد وذويه" ومنه قول الشاعر: صَبَحْنا الخزرجيّة مُرْهفاتٍ ... أبارَ ذوي أرُمَتها ذَوُوها ومنه ما أنشد الأصمعي من قول الآخر: إنما يصْطنع المعروفَ في الناس ذووه ومن إضافته إلى ضمير مخاطب قول الأحوص: وإنا لنرْجو عاجلًا منك مثل ما ... رجوناه قِدْمًا من ذويكَ الأفاضِل ص: "ولازمتها معنى لا لفظا أسماء كقبلُ وبعدُ وكآل بمعنى أهل. ولا يضاف غالبا إلا إلى عَلَم من يعقل. وككلّ غير واقع توكيدا أو نعتا. وهو عند التجرد منوي الإضافة فلا تدخل عليه "أل". وشذّ تنكيره وانتصابه حالا. ويتعين اعتبار المعنى فيما له من ضمير وغيره إن أضيف إلى نكرة، وإن أضيف إلى معرفة فوجهان. وإفراد ما لكلا وكلتا أجود من تثنيته. ويتعين في نحو كلانا كفيلُ صاحبه". ش: قبل وبعد اسمان متقابلان تلزمهما الظرفية ما لم ينجرّا بمن. وتلزمهما

الإضافة معنى ولفظا في أكثر الاستعمال. ويقطعان عن الإضافة لفظا وينوى معناها إذا علم المضاف إليه ولم يقصد إبهام كقوله تعالى (للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ) أي لله الأمر من قبل الحوادث ومن بعدها. وقد يقطعان عن الإضافة لفظا ومعنى فينكران، وذلك لقصد الإبهام، أو لعدم دليل على المضاف إليه. ويستوجبان البناء على الضم إذا قطعا لفظا لا معنى، وذلك أن لهما مناسبة للحرف معنوية ولفظية؛ أما المعنوية فمن قبل أنهما لا يفهم تمام المراد بهما إلا بما يصحبهما. وأما اللفظية فمِن قبَل جمودهما وكونهما لا يثنيان ولا يجمعان ولا ينعتان ولا يخبر عنهما ولا ينسب إليهما ولا يضاف. ومقتضى هاتين المناسبتين أن يبنيا على الإطلاق، لكنهما أشبها الأسماء المتمكنة بقبول التصغير والتعريف والتنكير فاستحقا إعرابا في حال، وبناء في حال. والأحوال ثلاث: حال التصريح بترك الإضافة عند قصد التنكير، وحال ترك الإضافة لفظا وإرادتها معنى، فكان البناء مع هذه الحال أليق، لأنهما على خلاف الأصل، وبناء الاسم على خلاف الأصل فجمع بينهما التناسب. وتعيّن الإعراب مع الحالتين الأخريين لأنهما على وفق الأصل، وإعراب الاسم على وفق الأصل. وكان بناؤهما على حركة لأن لهما أصلا في التمكن، ولولاه لم يفارقهما البناء، وكانت الحركة ضمة لئلا يلتبس الإعراب بالبناء، وذلك أنهما إذا كانا معربين فلا تدخلهما ضمة وإنما تدخلهما فتحة أو كسرة، كنحو: جئت قبلَك ومن قبلِك. ومن الملازمة للإضافة معنى لا لفظا "آل" بمعنى أهل، وأصله أهل فأبدلت هاؤه همزة وأبدلت الهمزة ألفا بدلا لازما لسكونها بعد همزة مفتوحة في كلمة واحدة. ويدل على أن أصلها أهل قوْل العرب في تصغيره أهيل. وقالوا أيضا أُوَيل، فاعتبروا فيه اللفظ متناسين الأصل. ويقل استعماله غير مضاف لفظا، ومضافا إلى ضمير ومضافا إلى اسم جنس، ومضافا إلى عَلَم ما لا يعقل. فمن ترك إضافته لفظا قول الشاعر:

نحن آل اللهِ في بَلْدتنا ... لم نَزَل آلًا على عهد إرَمْ ومن استعماله مضافا إلى ضمير قول الشاعر: أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ... وآلي كما تحمي حقيقة آلكا ومن استعماله مضافا إلى اسم جنس قول عبد المطلب: لا يَغْلبَنَّ صَليبُهم ... ومِحالُهم أبدًا مِحالكِ وانصُرْ على آل الصليـ ... ـــب وعابدِيه اليومَ آلكْ ومن إضافته إلى علم مالا يعقل قول الشاعر: من الجُرْدِ من آل الوجيه ولاحِقٍ ... تُذكِّرنا أوتارنا حين تصْهَلُ ومن الملازمة للإضافة معنى لا لفظا "كل" غير الواقع توكيدا ولا نعتا. فإن وقع توكيدا أو نعتا كان مثل "كلا" في ملازمة الإضافة لفظا ومعنى؛ فالتوكيد كقولك مررت بهم كلهم. والنعت نحو زيد الرجل كل الرجل، أي الكامل الرجولية، فلا يجوز إفراد كل في هذين الموضعين. وقد أجاز الفراء والزمخشري الإفراد في التوكيد، وحمل على ذلك قراءة بعض القراء (إنّا كلًّا فيها إن الله قد حكم بين العباد)، ولا خلاف في منع إفراد المنعوت به. والصحيح عندي منع إفراد المؤكد به، لأن ألفاظ التوكيد على ضربين: مضاف ومفرد، فالمفرد كأجمع وجمعاء، لا يجوز أن تضاف بإجماع. والمضاف غير كل كالنفس والعين وكلا لا يجوز إفراده بإجماع. فإجازة إفراد "كل" تستلزم مخالفة النظائر في الضربين، فوجب اجتنابها. وأما النصب في "إنّا كُلًّا فيها" فيخرج على أن "كُلّا" حال، والعامل "فيها" كما

عمل "فيهم" من قول النابغة: رهطُ ابنِ كوز مُحقِبي أدْراعِهم في "محقبي". وقد بسطت القول على هذه المسألة في باب الحال. وأما "كل" غير الواقع توكيدا ولا نعتا فإنه لازم الإضافة معنى لا لفظا، لكنه لا يجرّد عن الإضافة لفظا إلا وهو مضاف معنى، فلذلك لا تدخل عليه "أل" وقد أدخلها عليه أبو القاسم الزجاجي في "جمله" ثم اعتذر عن ذلك. وشذ تنكيره وانتصابه حالا فيما حكاه أبو الحسن الأخفش، فعلى هذا لا يمتنع أن يدخل عليه "أل". وإن أضيف "كل" إلى نكرة تعين اعتبار المعنى فيما له من ضمير وأخبار وغير ذلك، فتقول كل رجلين أتياك فأكرمهما، وكل رجال أتوك فأكرمهم، وكل امرأة أتتك فأكرمها. ومنه قوله تعالى (كلُّ نفس ذائقةُ الموتِ) فإذا أضيف إلى معرفة لفظا أو نيّة جاز اعتبار المعنى واعتبار اللفظ. فمن اعتبار المعنى قوله تعالى (وكلٌّ أتَوْهُ داخرين)، ومن اعتبار اللفظ قوله تعالى (وكلّهم آتيه يوم القيامة فَرْدًا). وإفراد مالكلا وكلتا أجود من تثنيته. وكذلك جاء القرآن بالإفراد قال الله تعالى: (كلتا الجنّتين آتتْ أُكُلها) فقال آتت ولم يقل آتتا. وقد اجتمع الوجهان في قول الشاعر: كِلاهما حين جَدَّ الجريُ بينهما ... قد أقْلعا وكلا أنفيْهما رابى

ويتعين إفراد الخبر في نحو كلانا كفيل بصاحبه، لإضافته إلى "صاحبه، إذ لو ثُني الخبر فقيل كلانا كفيلا صاحبه لزم الجمع بين تثنية وإفراد في خبر واحد. وفي الإفراد السلامة من ذلك، فكان متعيّنا، ولأن إضافة "كفيل" إلى "صاحب" وهو مضاف إلى ضمير كلا بمنزلة تثنيته، فلو ثني لكان ذلك بمنزلة تثنيته مرّتين، فلم يجز ذلك. فصل: ص: ما أفرد لفظا من اللازم للإضافة معنى إن نوى تنكيره أو لفظ المضاف إليه أو عوض منه تنوين، أو عطف على المضاف اسم عامل في مثل المحذوف لم يغيّر الحكم. وكذا لو العكس هذا الآخر. وإن لم ينو التنكير ولا لفظ المضاف إليه، ولم يثبت التنوين ولا العطف بني المضاف على الضم، إن لم يشابه مالا تلزمه الإضافة معنى. ش: اللازم للإضافة معنى يعمّ ما اجتمع فيه جمود اللفظ والافتقار إلى غيره في بيان معناه كقبل وبعد وغير وحسب وأول وأمام وخلف وأخواتها، وما وجد فيه الافتقار دون الجمود كأسماء العدد وكأهل وصاحب وجزء وجملة وجهة وجانب ومثل وضدّ ونقيض، ونحوها مما يصغر ويثنى ويجمع ويشتق منه، فأشبه لقبوله هذه الأحوال الأسماء التامة الدلالة فساواها في الإعراب مضافة وغير مضافة، بخلاف القسم الأول فإنه أشبه بالحرف لفظا لعدم قبوله الأحوال المذكورة، ومعنى لافتقاره إلى غيره في بيان معناه، فكان مقتضى هذا أن تبنى أبدا، إلا أنها أشبهت الأسماء التامة الدلالة بأن أضيفت إضافة صريحة، وإضافة في حكم الصريحة، وبأن جرّدت تجريدا صريحا قصدا للتنكير فوافقتها في الإعراب. فإذا قطعت عن الإضافة ونوى معنى الثاني دون لفظه أشبهت حروف الجواب في الاستغناء بها عن لفظ ما بعدها فانضم ذلك إلى الشبهين المذكورين فبنيت. والمراد بكون الإضافة صريحة أن تكون في اللفظ والمعنى نحو (وما أرْسلنا من قبلك إلّا رجالًا نوحي إليهم). والمراد بكونها في حكم الصريحة أن يحذف المضاف

إليه ويبقى المضاف بحاله التي كان عليها قبل الحذف، كقول الراجز: قبلَ وبعدض كُلِّ قولٍ يُغْتَنَمْ ... حمدُ الإله البَرِّ وَهّاب النِعمِ أراد قبل كل قول فحذف المضاف إليه وترك المضاف على حاله قبل الحذف، أعني النصب وترك التنوين. والمراد بالتجريد الصريح أن يقطع عن الإضافة لفظا ومعنى كقول الشاعر: فساغ ليَ الشرابُ وكنتُ قَبْلًا ... أكادُ أغَضُّ بالماءِ الحَميم وإياه عنيت بقولي "إن نوى تنكيره". ولو كان في موضع جر لكسر كقراءة بعض القراء (لله الأمرُ من قَبلٍ ومن بَعْدٍ) أي أوّلا وآخرا. وجعل بعض العلماء قبلًا معرفة والتنوين عوضا من المضاف إليه، فبقي الإعراب مع العوض كما كان مع المعوض منه. ثم قلت "أو لفظ المضاف إليه" فأشرت بذلك إلى أنه إذا حذف المضاف إليه لظهور معناه ونوى لفظه لقوة الدلالة عليه ترك المضاف بإعرابه وهيئته التي يستحقها مع بقاء المضاف إليه كقول الشاعر: أمامَ وخلفَ المرْءِ مِنْ لُطْف ربِّه ... كوالِئُ تَزْوي عنه ما هو يَحْذَرُ فأبقى أمام منصوبا غير منون كما لو نطق بما هو مضاف إليه من لفظ "المرء" المحذوف. وبقاء المضاف مع الحذف على هيئته أكثر ما يكون إذا عطف على المضاف مضاف لما يماثل المحذوف لفظا ومعنى. وقد يكون بخلاف ذلك كقول سويد بن كراع: أكالِئُها حتى حَنى الزجْرُ قَدَّها ... يكونُ سُحَيْرًا أو بُعَيْدَ فأسحقا

أراد وبُعيده. ومثله: ومن قبل نادى كلُّ مولًى قرابةً ... فما عطفتْ موْلًى عليه العواطفُ كذا رواه الثقات بكسر اللام. ومن هذا قراءة ابن محيصن (لا خوفُ عليهم) بالضم دون تنوين، تقديره: فلا خوف شيء. ومثله قول بعض العرب: سلامُ عليكم، بلا تنوين، يريدون سلام الله. وحكى أبو علي: أبدأ بذا من أوَل، بالفتح على منع الصرف، وبالضم على نية الإضافة دون قصد إلى لفظ المضاف إليه، وبالجر على قصد المضاف إليه. وحكى الكسائي أن بعض العرب قال: أفوقَ تنام أم أسفلَ، بالنصب، على تقدير أفوق هذا تنام أم أسفل. ومثله على أحد الوجهين قول الشاعر: أقولُ لمّا جاءني فخرُهُ ... سُبْحانَ من عَلْقَمة الفاخِر أراد سبحان الله، فحذف المضاف إليه وأبقى المضاف على الهيئة التي يستحقها قبل الحذف. ومثله قول الراجز: سَبَّحانَ من بعدِكِ ياقَطامِ ... بالرَّكْب تحت غَسقِ الظلامِ والاستعمال في الأسماء الناقصة الدلالة قليل، وهو في الأسماء التامة الدلالة كثير. فمن شواهده في النثر قول بعض العرب: قطع الله الغداة يد ورجلَ من قالها. ومن شواهده في النظم قول الأعشى:

إلّا بُداهةَ أو عُلا ... له سابحٍ نَهْد الجُزارهْ ومنها قول الآخر: سقى الأرضين الغيثُ سَهْلَ وحَزْنَها ... فنِيطتْ عُرى الآمال بالزَّرع والضَّرع ومنها قوله: بنو وبناتُنا كرامٌ فمن نوى ... مُصاهرةً فلْيَنْأ إن لم يكنْ كفُوا ومنها: يا مَن رأى عارِضًا أكَفْكفُه ... بين ذراعيْ وجَبْهةِ الأسَدِ ومنها قول الآخر: نعيمُ وبؤسُ العيشِ للمرءِ منهما ... نصيبٌ ولا بَسْطَ يدومُ ولا قَبْضُ ولقلته في الناقص الدلالة جعلته فرعا، وجعلت الآخر أصلا. كل هذه الأمثله عطف فيها على المضاف مضاف إلى مثل المحذوف. وتقدير الأول: قطع الله يد مَن قالها ورجْل من قالها. وتقدير الثاني: إلا بداهة سابح أو علالة سابح. وتقدير الثالث: سهلها وحزنها. وتقدير الرابع: بنونا وبناتنا. وتقدير الخامس: بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد. وتقدير السادس: نعيم العيش وبؤس العيش. وأحق هذه الأمثلة بالاطراد الثالث والرابع، لأن المحذوف فيها مدلول عليه بما [أضيف إلى مثل المضاف إليه المحذوف، ولم أقيّد] المحذوف بعامل المضاف فيدخل فيه ما المعطوف فيه غير مضاف نحو "إن أحدكم ليفتن في قبره مثلَ أو قريبا من فتنة

الدجال" يعني مثل فتنة الدجال. ومثله قول الراجز: بمثل أو أنفعَ من ويْل الديمْ ... علّقتُ آمالي فعمّتْ النِعَمْ أراد بمثل ويْل الديم، أو أنفع من ويل الديم. ونبهت بقولي "وكذا لو عكس هذا الآخر" على أنه لو جاء المضاف إليه بعد العاطف متروكا ما قبله على ما كان عليه قبل الحذف، كما فعل به قبل العطف في نحو: قطع الله يد ورجل من قالها، لكن هذا فيه استدلال بالآخر على الأول، وفي عكسه استدلال بالأول على ما حذف من الآخر. ومن شواهده قول أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ثمانيَ" هكذا ضبطه الحفاظ في صحيح البخاري بفتح الياء دون تنوين. والأصل: أو ثمانيَ غزوات، فحذف المضاف إليه وبقي المضاف على هيئته التي كان عليها قبل الحذف. ومثله قول الشاعر: خمسُ ذَوْدٍ أو سِتُّ عُوّضتُ منها ... مائةً غيْر أبْكُر وإفالِ ويختص بعض الناقص الدلالة بتعويض التنوين مما كان مضافا إليه، فيبقى المضاف مع العوض على الحال التي كان عليها مع المعوّض منه من إعراب أو بناء. فالباقي على الإعراب ككل وأيّ في قوله تعالى (وكلٌّ أتوه داخرين) و (أيًّا ما تدعوا فيه الأسماءُ الحُسْنى) والباقي على البناء نحو يومئذ وحينئذ والأصل يوم إذ كان

أو يكون، وحين إذ كان أو يكون، فحذف الجملة للعلم بها وعوّض منها التنوين، فبقي بناء إذ مع العوض كما كان مع الجملة، والتقى الساكنان الذال والتنوين، فكسرت الذال لالتقاء الساكنين. وزعم الأخفش أن كسرة الذال كسرة إعراب، نظرا إلى أن البناء كان من أجل الإضافة إلى الجملة، فلما حذفت عاد الإعراب إلى إذ لأنه الأصل. ويبطل ما ذهب إليه ثلاثة أوجه: أحدها أن من العرب من يفتح الذال فيقول يومئذا ولو كانت الكسرة إعرابية لم تغن عنها الفتحة. الثاني أن المضاف إلى "إذ" قد يفتح في موضع الجر والرفع، ففتحه في موضع الجر كقراءة نافع (ومن خزي يومئذ) و (من فزع يومئذ) و (من عذاب يومئذ) بالفتح. وكقول الشاعر: رَدَدْنا لشَعْثاء الرسول ولا أرى ... ليومئذ شيئا تُردُّ رسائلُهْ وفتحه في موضع الرفع كقول العرب من رواية الفراء: المضيّ يومئذ بما فيه. فلو كانت كسرة "إذ" إعرابية لم يبن ما أضيف إليه، لأن سبب بنائه إنما كان للإضافة إلى ما ليس معربا فبطل ما أفضى إلى القول بإعراب إذ. الثالث أن العرب تقول: كان ذلك بإذٍ بالكسر دون إضافة إلى ذا كقول الشاعر: نيهتُكَ عن طلابِكَ أمَّ عمرٍو ... بعافيةٍ وأنتَ إذٍ صحيحُ فلو كانت الكسرة إعرابية في يومئذ لم تثبت عند عدم ما اقتضاها وهو الإضافة، وقد أورد الأخفش هذا البيت في كتاب "المعاني"، وزعم أنه مما حذف فيه

المضاف وترك عمله، ولو جاز هذا لكان في مثل (واسألِ القريةَ) أجوز، لأن المضاف فيه أعني "أهل" مراد اللفظ والمعنى. ومع ذلك لم يجز فيه الجر بإجماع حين حذف المضاف، فعدم الجواز في حينئذ لكون المضاف فيه مستغنى عنه من جهة المعنى أحسن وأولى. وبهذا يرد قول الأخفش أصل لات أوان: حين أوان. وإنما الأصل ولات أوان ذلك، فحذف ذلك ونويت الإضافة وبقي على الكسر ونون للضرورة. ويجوز أن يكون الأصل: ولات من أوان فحذفت من وبقي عملها، كقراءة بعضهم (ولات حينِ مناصٍ) بكسر النون. وقولي "وإن لم ينو التنكير [ولا لفظ المضاف إليه، ولم يثبت التنوين ولا العطف] بني المضاف على الضم" أشري به إلى سبب بناء ما يقطع عن الإضافة وقد تقدم شرحه مستقصى. ونبهت بقولي "إن لم يشابه ما تلزمه الإضافة معنى" على أن بعض ما تلزمه الإضافة معنى يشبه الأسماء التامة الدلالة، بقبول التصغير والتثنية والجمع والاشتقاق وكره استعماله غير مضاف كثلث وربع ومثله وشبه، فلا يتأثر بالقطع عن الإضافة نويت أو لم تنو. فصل: ص: تضاف أسماء الزمان المبهمة غير المحدودة إلى الجمل فتبنى وجوبا إن لزمت الإضافة وجوازا راجحا إن لم تلزم وصدرت الجملة بفعل مبني.

فإن صُدّرت باسم أو فعل معرب جاز الإعراب باتفاق، والبناء خلافا للبصريين. وإن صُدّرت بلا التبرئة بقي اسمها على ما كان. وقد يجر ويرفع وإن كانت محمولة على ليس أو ما أختها لم يختلف حكمها. ولا يضاف اسم زمان إلى جملة اسمية غير ماضية المعنى إلا قليلا. وقد تضاف "آية" بمعنى علامة إلى الفعل المتصرف مجردا أو مقرونا بما المصدرية أو النافية. ويشاركها في الإضافة إلى المتصرّف المثبت "لدن" و"ريث". وقد تفصل لدن والحين بأن وريث بما. وقالوا اذهب بذي تسلم" أي بذي سلامتك، ولا بذي تسلم ما كان كذا. ويختلف فاعلا اذهب وتسلم بحسب المخاطب، وعود الضمير من الجملة إلى اسم الزمان المضاف إليها نادر. ويجوز في رأي الأكثر بناء ما أضيف إلى مبني من اسم ناقص الدلالة ما لم يشبه تام الدلالة. ش: أسماء الزمان المبهمة تعمّ ما لم يختص بوجه ما كحين ومدة ووقت وزمان. وما يختص بوجه دون وجه كنهار وصباح ومساء وغداة وعشية. فأخرجت بغير المحدودة ما يدل على عدد دلالة صريحة كيوم وأسبوع وشهر. واحترزت بصريحة من دلالة النهار على اثنتي عشرة ساعة، فإن ذلك يستحضر بذكر النهار كاستحضار عدد أيام الأسبوع بذكر "أسبوع"، وكاستحضار عدد أيام الشهر بذكر "شهر" فلا يضاف إلى لاجمل من أسماء الزمان إلا العاري من دلالة صريحة على عدد، فيضاف إليها زمن وأزمان ويوم وأيام، وليلة وليالٍ، وغداة وعشية وعصر، وأشباهها. ومن شواهد ذلك: زمن العادي على الحبّ مَعْذو ... لٌ عَصَيْت الهوى فكنت مطيعا ومنها: أزمانَ قومي والجماعةَ كالذي ... لَزِمَ الرِحالةَ أنْ تميل مَميلا ومنها:

كأنّي غداةَ البَيْن يومَ ترحَّلوا ... لدى سَمُرات الحيّ ناقفُ حَنْظلِ ومنها: أيامَ لا تحتلُّ وسْط مفازة ... فاضتْ معاطسها بشُرْبِ منائِح ومنها: في ليالٍ منهن لليلة باتتْ ... ناقتي والِهًا تَجُرُّ الزِماما ومنها: غداةَ أحَلَّتْ لابن أصرَمَ طعنةُ ... حصينٍ عبيطاتِ السدائفِ والخَمْرُ ومنها: عشيةَ سُعْدى لو تراءَتْ لراهبٍ ... بدُومة تَجْرٌ دونه وحجيجُ قلا دينَه واهتاجَ للشوقِ إنّها ... على الشوقِ إخوانَ العزاءِ هَيُوجُ ومنها: طَحابكض قلبٌ في الحسانِ طَرُوبُ ... يُعيد الشبابِ عَصْرَ حانَ مَشيبُ ولا يضاف إليها يومان ولا ليلتان ولا أسبوع ولا شهر لأن أصل المضافات إلى الجمل "إذ" و"إذا" فأجرى مجراهما من أسماء الزمان ما ساواهما في الإبهام أو قاربهما لاما باينهما من أسماء الزمان كيومين، ولا ما ليس اسم زمان كآية. وأجاز ابن كيسان إضافة يومين إلى الجملة. والصحيح منع ذلك لعدم السماع، ولمخالفته إذ وإذا بالدلالة على العدد صريحا.

ونبهت بقولي "وجوبا" على إضافة إذ وإذا، مع أن الكلام على ذلك قد تقدم في باب الظروف. ثم قلت: "وجوازا راجحا إن لم تلزم وصدرت الجملة بفعل مبني" فنبهت على جواز الإعراب وترجيح البناء في نحو قوله: على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا ... وقلتُ ألما أصْحُ والشيبُ وازعُ وفي نحو قول الآخر: لأجْتَذبَنْ عنهنّ قلبي تحلُّما ... على حينَ يَسْتَصْبينَ كُلَّ حليم فإن كانت الجملة اسمية أو فعلية مصدرة بمضارع معرب جاز الإعراب باتفاق، والبناء عند الكوفيين، لصحة الدلالة على ذلك نقلا وعقلا؛ فمن الدلائل النقلية قراءة نافع (هذا يومَ ينفع الصادقين صدقهم) بنصب اليوم، مع أن المشار إليه هو اليوم لاتفاق الستة على الرفع. فلو جعلت الفتحة فتحة إعراب لامتنع أن يكون المشار إليه اليوم، لاستلزام ذلك اتحاد الظرف والمظروف، وكان يجب أن يكون التقدير مباينا للتقدير في القراءة الأخرى، مع أن الوقت واحد والمعنى واحد. إلا أن المراد حكاية المقول في ذلك اليوم، فلا بد من كونها ما يقتضي اتحاد المعنى دون تعدّده. وكفتحة (يوم لا ينفع) فتحة (يومَ لا تملكُ نفسٌ) في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو. ومسمى (يوم لا تملك) في قراءتهما هو يوم الدين فلا يكون غيره في قراءة غيرهما. فيلزم من ذلك كون الفتحة بنائية وكون ما هي فيه مرفوع المحل. ولا يقدر "أعني"، لأن تقدير أعني لا يصلح إلا بعدما لا يدل على المسمّى دلالة تعيين، ويوم الدين دال على مسماه دلالة تعيين، فتقدير أعني غير صالح.

ومن شواهد البناء قبل فعل معرب قول الشاعر: إذا قلتُ هذا حين أسْلو [يهيجني ... نسيم] الصَّبا من حيثُ يَطَّلِعُ الفجرُ ومن شواهد البناء قبل الجملة الاسمية قول أسد بن عنقاء الفزاري: دعاني [ولم أهْجُرْ] ولو ظنّ لم ألُمْ ... على حينَ لا بَدْوٌ مُلامٌ ولا حضَرْ ومثله: على حين خُلّاني من القوم جلّةٌ ... كُهولُ [ووليّ عن بَنِيَّ عشيرتي] ومثله: تذكر ما تذكَّرَ من سُلَيْمى ... على حين التراجعُ غيرُ دانِ ومثله: ألم تعلمي ياعَمْرَكِ الله أنّني ... كريمٌ على حينَ الكرامُ قليلُ ومثله: وأني لاأخْزى إذا قيل مُمْلِقٌ ... سخيٌّ، وأخْزى أنْ يقالَ بخيلُ ومثله: أعلى حينَ [جذوة] الحرب [دارت] ... صُلتَ بَغْيًا وكنتَ قَبْلُ ذَليلا

هكذا نقلت هذه الأبيات الأربعة بالفتح بناء مع أن الإضافة فيها إلى جمل مصدرة بمعرب إعرابا أصليا. فلأن يثبت بناء ما أضيف إلى جملة مصدرة بمعرب أصله البناء أحق وأولى، وهذه دلالة عقلية تقتضي بناء الجملة المصدرة بفعل معرب. وأقوى منها أن يقال: سبب بناء المضاف إلى جملة مصدرة بفعل مبني إما قصد المشاكلة، وإما غير ذلك، فلا يجوز أن يكون قصد المشاكلة لأمرين: أحدهما أن يكون البناء لقصدها. الثاني أن يقال: المضاف إلى جملة مصدرة بفعل مبني لو كان سببه قصد المشاكلة لكان بناء ما أضيف إلى اسم مبني أولى، لأن إضافة ما أضيف إلى اسم مفرد إضافة في اللفظ والمعنى، وإضافة ما أضيف إلى جملة إضافة إليها في اللفظ وإلى المصدر في التقدير، وتأثير ما يخالف لفظه معناه أضعف من تأثير مالا تخالف فيه، أعني إضافة اسم الزمان إلى مفرد من الأسماء معنى. ولا خلاف في انتفاء سبب الأقوى فانتفاء سبب الأضعف أولى. فثبت بهذا كون بناء المضاف إلى الجملة مسببا عن أمر آخر، وهو شبه المضاف المضاف إليها بحرف الشرط في جعل الجملة التي تليه مفتقرة إليه وإلى غيره. فإن قمت من قولك: حين قمت قمت وإن قمت قمت كان كلاما تاما قبل دخول حين وإن عليه، وبدخولهما عليه حدث له افتقار إليهما وإلى ما بعدهما، فشبه "حين" وأمثاله بإنْ، وجعل ذلك سببا للبناء المشار إليه على وجه لا يخالف القاعدة العامة، وهي ترتيب بناء الأسماء على مناسبة الحرف بوجه. وقد يضاف اسم الزمان إلى جملة مصدرة بلا التبرئة فيبقى اسمها على ما كان عليه من بناء أو نصب. وقد يجر وقد يرفع، فمن ذلك ما حكى أبو الحسن من قول بعض العرب: جئتك يومَ لا حرَّ ولا بردَ، ويومَ لا حرٍّ ولا بَرْدٍ، ويومَ لا حرٌّ ولا بَرْدٌ، وأنشد:

تركتني حين لامالٌ أعيشُ به ... وحين جُنَّ زمانُ الناسِ أوْ كلَبا وقد تكون "لا" النافية العاملة عمل ليس، فيتعين بقاء عملها، وكذا حكم "ما" أختها، ومن شواهد ذلك قول سواد بن قارب. وكنْ لي شفيعًا يومَ لا ذو قرابةٍ ... سواكض بمُغْنٍ عن سوادِ بنِ قارِبِ ومنها قول الآخر: تبدّتْ لقلبي فانصرفتُ بوُدِّها ... على حين ما هذا بحين تصابى وإذا أضيف اسم زمان إلى جملة اسمية امتنع عند سيبويه أن تكون مستقبلة المعنى. والذي حمله على ذلك أن الأصل فيما يضاف إلى الجمل من أسماء الزمان "إذ" في الماضي و"إذا" في المستقبل، وغيرهما تبع لهما. فللجاري مجرى إذ أن يضاف إلى جملة اسمية وإلى جملة فعلية فيقال آتيك حين يذهب زيد وحين زيد يذهب، كما يقال آتيك إذا يذهب زيد، وإذا زيد يذهب. ولا يقال آتيك حين زيد ذاهب كما لا يقال آتيك إذا زيد ذاهب. هذا مقتضى مذهب سيبويه – رحمه الله – أعني منع جواز دخول إذا على جملة اسمية وشبهها في إعراب صدرها. والصحيح جوازه لأمرين لكن على قلة. وقد أشرت إلى جواز ذلك في باب الظروف، وذكرته لأجل صحته نثرا ونظما، وأغنى ذلك عن قول ثان. وقيدت الفعل الذي يضاف إليه "آية" بكونه متصرفا ليعلم أنها لا تضاف إلى غير متصرف كعسى وليس، ومن إضافتها إلى الفعل المجرد قول الشاعر: ألِكْني إلى سلمى بآية أوْمأتْ ... بكفٍّ خضيبٍ تحت كُفّة مِدْرَعِ

وإلى مقرون بما المصدرية كقول الشاعر: ألا مَن مُبْلِغٌ عنّي تميمًا ... بآيةِ ما يُحبّونَ الطعاما وإلى مقرون بما النافية كقول الشاعر: ألِكْني إلى قومي السّلام رسالةً ... بآية ما كانوا ضِعافًا ولا عُزْلا وفي هذا البيت دلالة على أنه لا حاجة إلى تقدير حرف مصدري بين "آية" والفعل المجرد كما زعم ابن جنّي في قول الشاعر: بآية تُقْدمون الخيلَ شُعْثًا ... كأنّ على سنابكها مُداما فزعم أنه أراد بآية ما تقدمون، وهو خلاف قول سيبويه. وكذا زعم ابن جني أن ما في قول الآخر: بآية ما يحبون الطعاما مصدرية. وجعلها سيبويه زائدة، ذكر ذلك في باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء. ووجه الاستدلال بقول القائل: بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا أن "آية" فيه مضافة إلى فعل منفي بما، وتقدير ما المصدرية قبل ما النافية ممتنع فصحت إضافة آية إلى فعل مستغن عن ما المصدرية. ويشارك آية في الإضافة إلى فعل متصرف مثبت لدن وريث، وهما أحق بذلك من آية. أما لدن فلأنها تدل على مبدأ الغاية زمانا أو مكانا، فإذا دلت على المبدأ

الزماني فمجراها مجرى أسمائه المبهمة ليس ببدع، فمن ذلك قول الشاعر: لزْمْنا لدُنْ سالمْتمونا وِفاقَكم ... فلا يكُ منكم للخلاف جُنوحُ وقد تتوسط "أن" بينها وبين الفعل زائدة أو مصدرية، كقول الشاعر: وليتَ فلم تقطع لدُنْ أنْ وَليتَنا ... قرابةض ذي قربى ولا حقَّ مُسْلِم وأما "ريث" فهو مصدر راث يريث، إذا أبطأ، فعومل في الإضافة إلى الجمل معاملة أسماء الزمان في التوقيت. ومن إضافة ريث إلى الجملة قول الشاعر: خليليّ رفْقا ريثَ أقضى لُبانةً ... من العَرصات المذكراتِ عُهودا وقد تتوسط بينه وبين الفعل "ما" زائدة أو مصدرية، كقول الشاعر: مَحْياه مُحَيّاه حين يلقى ... ينالُ السُّؤل راجيه رَيْثما يتسَنّى وعلى كل حال في إضافة الثلاثة إلى الجمل شذوذ، لتساويها في استبدادها بالإضافة إلى الجمل دون النظائر، كاستبداد "آية" دون علامة، وكاستبداد "لَدُن" دون لدى وعند، وكاستبداد "ريث" دون بطء ولُبْث. وقد تتوسط "أن" بين حين والجملة كقول أوس بن حجر: وجالت على وحشيها أم جابر ... على حين أن نالوا الربيع وأمرعوا وأشذ من إضافة الثلاثة إضافة "ذي" بمعنى صاحب إلى مضارع "سلم" مسندًا إلى المخاطب بعد اذهب، في قولهم: "اذهب بذي تسلم"، وفي التأنيث: اذهبي بذي تسلمي، واذهبوا بذي تسلموا، واذهبْنَ بذي تسْلمْنَ. وقالوا أيضا في القسم: لا بذي تسلم ما كان كذا. حكاه ابن السكيت – رحمه الله – وقد اتفقت هنا الإضافة إلى الفعل لفظا وإلى المصدر تقديرا إن كان مضافا إلى جملة مقدر

الإضافة إلى مصدر من معناها. ومن أجل ذلك لا يعود منها ضمير إلى المضاف إليها، كما لا يعود من المصدر. فإن سمع ذلك عُدّ نادرا كقول الأعشى: وتبْرُدُبَرْدَ رداءِ العرو ... سِ رقْرَقَت في الصيف فيه العبيرا وتَسخُنُ ليلةَ لا يستطيعُ ... نباحًا بها الكلبُ إلّا هريرا ومنه: مضَتْ سنةٌ لعام وُلدت فيه ... وعَشْرٌ بعد ذاك وحجّتانِ وهذا مما خفي على أكثر النحويين. ولذلك قال ابن السراج: فإن قلت أعجبني يوم قمت فيه امتنعت الإضافة، لأن الجملة حينئذ صفة، ولا يضاف موصوف إلى "صفة". ونبهت بقولي "ويجوز في رأي الأكثر بناء ما أضيف إلى مبني من اسم ناقص الدلالة" على جواز بناء غير ودون وبين وشبهها من الأسماء التي لا تتم دلالتها على ما يراد بها إلا بما تضاف إليه مع مناسبتها الحروف بعدم قبولها للنعت والتعريف بالألف واللام والتثنية والجمع، وبعدم اشتقاقها والاشتقاق منها. فغن ما فيها من مناسبة الحروف صالح لجعله سبب بناء على الإطلاق، لكنه ألغي في الإضافة إلى معرب واعتبر في الإضافة إلى مبني قصدا للمشاكلة. وبعضها أحق بالبناء من بعض، لكونه أزيد [شبها] كما ترى في "غير" من وقوعه موقع "إلا" وموقع "لا" نحو: قاموا غيرَ زيد، وزيد غير بخيل ولا جبان. وحكى الفراء أن بعض بني أسد يبنون غيرا على الفتح إلا إذا وقعت موقع إلا، تم الكلام قبلها أم لم يتم، نحو ما قام أحد

غيرك، وما قام غيرك، وأنشد عن الكسائي: لم يمنعِ الشَّرْب منها غيرَ أن نطقتْ ... حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أوقالِ ومن شواهد "دون" قوله تعالى (وأنّا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك) بفتح نونه وهو في موضع رفع بالابتداء. ومن بناء "بَيْن" قوله تعالى (وحيلَ بنهم وبين ما يشتهون) بفتح النون، وهو في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. ومنه قول الشاعر: ولم يتْرُكِ النبلُ المخالفُ بينها ... أخًا لأخٍ يُرجى ومأثورة الهندِ هكذا ضبطه من يوثق بضبطه بفتح النون. وأجرى "فوق" مجرى [غير] قوم منهم الزمخشري وابن عصفور، و"مثلا" مجرى غير في جواز البناء عند الإضافة إلى مبني. واستشهدوا بقراءة الحرميين وابن كثير والبصريين في قوله تعالى (وإنه لحقٌّ مثل ما أنّكم تنطِقون) بفتح اللام، على أنه نعت خبر إن وقراءة بعض السلف (أنْ يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح) وكقول الشاعر: إذ همْ قريشٌ وإذْ ما مثلَهم بَشَرُ

على أن مثلهم مبتدأ. ولا ينبغي لمثل أن يجرى مجرى "غير" لأنه وإن وافقه في أن دلالته على معناه لا تتم إلا بما يضاف إليه، فقد خالفه بمشابهة التام في الدلالة في قبول التصغير والتثنية والجمع والاشتقاق منه. وكل ما استشهدوا به على البناء مخرّج على الإعراب أحسن تخريج. فيجعل "حق" اسم فاعل من حق يحق، ثم قصر كما فعل ببارّ وسارّ حين قيل فيهما بَرّ وسرّ، وبقي فيه الضمير الذي كان فيه قبل القصر، وجعل مثله حالا منه وأما قراءة من قرأ "أن يصيبكم مثلَ ما أصاب" بالنصب فوجهه أنه منصوب على المصدرية وفاعل يصيبكم ضمير عائد على الله من (وما توفيقي إلا بالله) كأنه قيل: ولا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم الله مثل إصابة قوم نوح. وإنما يحتاج إلى هذا إذا سُلّم بناء غير وما بعده في المواضع المذكورة، وهو وإن كان أشهر من بناء "مثل" ضعيف عندي، لأن الإضافة فيها قياسية فلا ينبغي أن تكون سبب بناء، لأنها من خصائص الأسماء فحقها أن تكف سبب البناء وتغلبه، لأنها تقتضي الرجوع إلى الأصل، والسبب الكائن معها يقتضي الخروج عن الأصل. وما يدعو إلى مراجعة الأصل راجح على ما يدعو إلى مفارقته. ولذلك رجح شبه "أي" بكل وبعض على شبهها بحرفي الشرط والاستفهام في المعن، وبالحرف المصدري في لزوم الافتقار. فإذا ثبت هذا وجب توجيه ما أوهم بناء غير وشبهه للإضافة إلى مبني بما لا يخالف الأصول ولا يعسر القبول. فيخرج قول بني أسد وقضاعة: ما جاء غيرَك، بفتح الراء على أن يكون المراد: ما جاء جاءٍ غيرك، فنصب غيرك على أنه حال أو منتصب على الاستثناء. وسوغ حذف "جاءٍ" وهو فاعل لأنه بعد نفي العموم فيه مقصود. وحذف مثل هذا بعد النفي والنهي كثير. فمن وقوعه بعد النفي قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"، أي ولا يشرب الشارب. ومثله قول الراجز:

ما سار في سُبْل المعالي سَيْرَه ... ولا كفى في النائبات غيره أراد: ما سار سائرٍ سيره، ولا كفى كافٍ غيره. ومثله قول الشاعر: فإن كان يُرضيكَ حتى تَرُدَّني ... إلى قَطَريٍّ لا إخالُكَ راضيا أراد: فإن كان لا يرضيك مُرْضٍ. ومن وقوعه بعد النهي قراءة هشام (ولا يحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) أي ولا يحسبنّ حاسبٌ. وعلى هذا يحمل قول الشاعر: لم يمنع الشَرْب منها غير أن نطقتْ كأنه قال: لم يمنع الشَّرْب منها مانع غير أن نطقت، فالنصب على الحالية أو على الاستثناء. وأما قوله تعالى (منا الصالحون ومنا دون ذلك) فعلى تقدير: ومنا صنف دون ذلك، فحذف الموصوف وقامت صفته مقامه، كما قال الشاعر: لهم مسجدا الله المَزوران والحصا ... لكم قِبصهُ من بين أثْرى وأقْترا أي من بين من أثرى ومن أقتر، فحذف "مَن" وهي نكرة موصوفة وأبقى صفتها. وبمثل هذا يوجه قوله تعالى (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) كأنه قيل: وحيل حوْلٌ بينهم وبين ما يشتهون. فحذف "حول" مصدر حيل، وأقيمت صفته مقامه. ومثله قول الشاعر:

ولم يتركِ النبلُ المخالف بينها ... أخًا لأخٍ يُرْجى ومأثورةُ الهند أراد المخالف خلافا بينها، فحذف الموصوف وهو مفعول ما لم يسم فاعله وأقام صفته مقامه. فصل: ص: يجوز حذف المضاف للعلم به ملتفتا إليه ومطّرحا. ويعرب بإعرابه المضاف إليه قياسا إن امتنع استبداده به، وإلا فسماعا، وفي قيامه مقامه في التذكير والتأنيث وجهان. وقد يخلفه في التنكير إن كان المضاف "مِثْلا". وقد يحذف مضاف ومضاف إليه، ويقام ما أضيف إليه الثاني أو ما أضيف إلى صفة للثاني محذوفة مقام ما حذف. وقد يقام مقام مضاف محذوف مضاف إلى محذوف قائم مقامه رابع. وقد يستغنى بمضاف إلى مضاف إلى مضاف إلى رابع عن الثاني والثالث. ويجوز الجر بالمضاف محذوفا إثر عاطف متصل أو منفصل بلا مسبوق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى. وربما جرّ المضاف المحذوف دون عطف ومع عاطف مفصول بغير لا. ش: إذا كان المضاف لا يجهل معناه بحذف لفظه جاز أن يحذف ويجعل المضاف إليه معربا بإعرابه. ونائبا عنه فيما جيء بالإعراب لأجله. وإن قدر لفظ المحذوف والتفت إليه رُتّب على وفقه ما بعد القائم مقامه كقوله تعالى (أو كظُلُماتٍ في بحرٍ لُجّيّ يغشاه موجٌ). فإن الأصل: أو كذي ظلمات، فحذف "ذو" وأقيمت ظلمات مقامه، والتفت إليه معنى، فذكّر الضمير، ولولا الالتفات إلى المعنى لأنث كما أنّث في قوله تعالى (واسأل القرية التي كُنّا فيها) ولو التفت هنا لقيل الذين كنا فيهم. ومن الالتفات إلى المحذوف قراءة الحسن (فجعلناها حصيدا كأنْ لم يَغْن بالأمس) بالياء؛ لأن الأصل فجعلنا زرعها حصيدا. ومن الالتفات إلى المحذوف قولهم: قرأت هودا، بالتنوين يريدون سورة هود. ولو جعل

المضاف مطرحا لفظا ونيّة لقيل: قرأت هود، بلا تنوين؛ لأنه على هذا القصد اسم للسورة فلا ينصرف للتعريف والتأنيث. ومن الالتفات إلى المحذوف قوله: يَسْقونَ من وَرَدَ البريصَ عليهم ... بَرَدى يُصفِّق بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ أي ماء بردى، فحذف ملتفتا إلى الماء فذكّر، ولولا ذلك لقال تصفق لأن "بردى" اسم مؤنث. ثم إن القائم مقام المضاف في الإعراب إن امتنع استبداده به فهو قياسي. وإن صح استبداده به فهو سماعيّ. والمراد بالاستبداد به أن يكون المضاف إليه صالحا للفاعلية إن كان المضاف فاعلا، ولغير فاعلية إن كان غير فاعل؛ فالحذف في (واسأل القرية) قياسي لعدم استبداد القرية بوقوع السؤال عليها حقيقة، وكذا (وأشربوا في قلوبهم العجل) هو أيضا قياسي، لعدم صلاحية العجل لأن يكون مشربا في قلوبهم. وكذا (لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات. ومنه قول الأعشى: فارَقَنا قبلَ أنْ نفارقَه ... لمّا قضى من جماعنا وَطَرا أي قبل إرادة أن نفارقه. لا بد من هذا التقدير، لأن الفراق لا يكون من أحد المفترقين قبل الآخر. وأجاز ابن جني: جلست زيدا، على تقدير: جلست جلوس زيد ولا أرى ذلك، لأن المعنى لا يتعيّن، لاحتمال أن يراد جلست إلى زيد، فحذفت إلى وانتصب ما كان مجرورا بها، بخلاف الأمثلة التي مرّت، فنوعها قد أمن فيه اللبس، وجعل قياسا، بخلاف ما يوجد فيه الجزءان صالحين لعمل العامل حقيقة نحو ضربت غلام زيد، فإنه لو قيل فيه: ضربت زيدا لم يفهم المراد، لأن زيدا يصح استبداده بمفعولية ضرب، فيمنع الحذف من هذا النوع ما

لم توجد فيه قرينة تدل على المراد كقوله: مررت بالقرية فأكرمتني، فإنه جائز. وإن كان أهل القرية والقرية صالحين لتعدية الممرور إليهما حقيقة، لكن ذكر الإكرام بين أن المراد الأهل فجاز الحذف. وكذلك لو فهم المعنى بغير قرينة لفظية لم يمتنع الحذف أيضا. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة – رحمه – الله: لا تلُمْني عتيقُ حسبي الذي بي ... إنّ بي ياعتيقُ ما قد كفاني أراد بعتيق ابن أبي عتيق. كذا قال من عنى بشعر ابن أبي ربيعة. ومن هذا النوع قول الشاعر: فمن كان يرجو الصُّلْح فيه فإنّه ... كأحْمر عادٍ أو كُليبٍ لوائل أراد كأحمر أمثال عاد، لأن المراد عاقر الناقة وهو من ثمود لا من عاد، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه مع صلاحيته للاستبداد بعمل العامل. ومثله: وماذيًّا تخيَّره سُلَيْمٌ ... يكادُ شُعاعُه يُعْشي العيونا أراد تخيره أبو سليمان، فرخّم سليمان مضطرا للاستبداد بفاعلية "تخيّر". ومن مستحسن هذا النوع قول الشاعر: فدقّتْ وجلّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلَتْ ... فلو جُنّ إنسانٌ من الحُسْن جُنّت أراد: فدقّ خصرها، وجلت عجيزتها، واسبكرت قامتها، وأكملت محاسنها، فحذفت مع صلاحية المضاف إليه لفاعلية كل واحد من هذه الأفعال، لأن عطف بعضها على بعض يبين المعنى فحسن الحذف. ونبهت بقولي: "ونائبا عنه فيما جيء بالإعراب لأجله" على وقوع المضاف إليه خلفا عن المضاف فيما كان له من فاعلية، نحو بنو فلان يطؤهم الطريق. ومن مفعولية نحو: "واسأل القرية"، ومن ظرفية نحو: أتيتك طلوعَ الشمس، ومن

مصدرية كقول الأعشى: ألمْ تغتمِضْ عيناك ليلة أرْمدا فحذف المصدر وجعل "ليلة" قائما مقامه في المصدرية، كما قام المصدر مقام الظرف في طلوع الشمس وشبهه، وجعل ابن جني من هذا رواية بعض رواة بأبي عمرو عنه: (ونُزِل الملائكة تنزيلا) بضم النون وتخفيف الزاي، على تقدير: ونَزل نزول الملائكة. وفيه عندي نظر. وإن كان المضاف مِثْلا جاز الحكم على المضاف إليه بالتنكير، فينعت به نكرة، نحو: مررت برجل زهيرٍ شعرا. ويجعل حالا للمعرفة نحو: هذا زيد زهيرا شعرا، لأن الأصل: مررت برجل مثل زهير، وهذا زيد مثل زهير، فحذف لفظ مثل ونوى معناه، فجرى مجرى ما نوى فيه معناه وإن كان لفظه لفظ المعرفة. ومن هذا النوع قولهم: تفرقوا أيادي سبا، فجعلوه حالا، وهو في اللفظ معرفة، لأنهم أرادوا مثل أيادي، فحذف مثل، وأقيم ما كان مضافا إليه مقامه في التنكير والإعراب. وروى الثقات ياء أيادي بالسكون، مع أن الموضع موضع نصب، لكن خفف للتركيب فألزم السكون، كما ألزم السكون ياء معد يكرب. وقد يحملهم العلم بالمحذوف على حذف المضاف، ومضاف إليه هو مضاف إلى ثالث يستغنى به عن الأول والثاني، فمن ذلك قوله تعالى: (تدور أعينُهم كالذي يُغْشى عليه من الموت) أي دورانا كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.

وقد تكون أربعة أسماء مضاف أولها إلى موصوف بثالث مضاف إلى رابع، فيحذف الثلاثة ويكتفي بالرابع، كقول الشاعر: طليقُ اللهِ لم يَمْنُنْ عليه ... أبو داوُدَ وابنُ أبي كثير أو الحَجّاجُ عَيْنَيْ بنتِ ماءٍ ... تُقَلِّبُ طرْفَها حَذَر الصُّقورِ أراد: أو الحجاج صاحب عين مثل عيني بنت ماء، فحذف الأول والثاني والثالث الموصوف به الثاني، وأقام مقام الثلاثة الرابع. وقد تكون أربعة أسماء مضاف أولها إلى ثانيها، وثانيها إلى ثالثها، وثالثها إلى رابعها، فيحذف الأول والثالث، ويبقى الثاني والرابع قائمين مقامهما فيما كان لهما من الإعراب، كقول الشاعر: أبَيْتُنَّ إلا اصطيادَ القلوب ... بأعين وَجْرَةَ حينا فحينا أراد: مثل أعين ظباء وجرة، فحذف الأول والثالث، وأقام مقامهما الثاني والرابع، ومثله قول أبي ذؤيب: فإنَّك منها والتَّعَذُّرَ بعدما ... لَجِجْتَ وشَطَّتْ من فُطَيْمةَ دارُها لَمِثلُ التي قامتْ تُسَبِّع سُؤرَها ... وقالت حرامٌ أنْ يُرَجَّل جارُها أراد: قامت تسبع ذا سؤر كلبها، ففعل مثل ما فعل قائل البيت الأول. وإلى هذا النوع أشرت بقولي: وقد يقام مقام مضاف محذوف مضاف إلى محذوف قائم مقامه رابع. ثم أشرت إلى أن أصل: (من أثر الرسول) من أثر

حافر فرس الرسول، بقولي: وقد يستغنى بمضاف إلى مضاف إلى رابع عن الثاني والثالث. ثم أشرت إلى حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجرورا، وأنه مقيس وغير مقيس، فأما المقيس فما حذف منه مضاف مذكور قبله مثله لفظا ومعنى، بشرط كون المحذوف بعد عاطف منفصل بلا، أو غير منفصل، كقولهم: ما كل سوداء تمرة، ولا بيضاء شحمة. وما مثل أبيك وأخيك يقولان ذلك، وكقوله: أكُلَّ امرئٍ تحسبين امرَأ ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا وكقوله: ولم أرَ الخيرِ يتركُه الفتى ... ولا الشرِّ يأتيه الفتى وهو طائع وكقوله: لوَ انّ طبيبَ الإنسِ والجن داويا الـ ... ـــلذي بِيَ من عَفْراءَ ما شَفياني وكقوله: لو أنّ عُصْم عَمايَتَيْن ويَذْبُل ... سمعا حديثَك أنزلا الأوْعالا وكقوله: ألم يَحْزُنْكِ أن جبالَ قَيْسٍ ... وتغْلبَ قد تباينتا انقطاعا

والأصل: ما كل سوداء ولا كل بيضاء، ولا مثل أبيك ومثل أخيك يقولان، وأكل امرئ تحسبين امرأ وكل نار، ولم أر مثل الخير ولا مثل الشر، ولو أن طبيب الإنس وطبيب الجن، ولو أن عصم عمايتين وعصم يذبل، وأن جبال قيس وجبال تغلب. وظن بعضهم أن الحذف في هذا النوع مشروط بتقدم نفي أو استفهام، وليس ذلك شرطا، بل يجوز مع عدمهما، كقول الشاعر: لغير مغتبط مُغْزى بطوع هوى ... ونادم مولع بالحزم والرشد ومثله: كُلُّ مُثْرٍ في رَهْطه ظاهرُ العزْ ... ـــز وذي غُربة وفقر مَهينُ وأما غير المقيس فما خالف المقيس بخلوه مما قيدته به، كقراءة ابن جماز (تريدون عَرَض الدنيا والله يريد الآخرة) بالجر على تقدير: والله يريد عرض الآخرة. وكقول بعض العرب: رأيت التيمي تيم فلان، على تقدير: أحد تيم فلان، حكاه الفارسي. وكقول الشاعر: رَحِمَ اللهُ أعْظما دفنوها ... بسِجِسْتان طلحةِ الطَّلَحات على تقدير: أعظم طلحة الطلحات. وكقول الآخر: الآكلُ المالَ اليتيم بَطَرا ... يأكلُ نارا وسيصلى سَقَرا على تقدير: الآكل المالَ مالَ اليتيم، ومثله:

المالُ ذي كَرم تُنْمي محامده ... ما دام يبذله في السر والعلن على تقدير: المال مال ذي كرم، فحذف البدل ونوى لفظه، فبقى عمله. وعلى هذا يوجه على الأجود ما في حديث الدجال من قول بعض الصحابة رضي الله عنهم: يارسول الله: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعين يوما" أي لبث أربعين يوما. ومثله: "خير الخيل الأدهم الأرثم المحجل ثلاثٍ" أي المحجل تحجيل ثلاث، فحذف البدل وأبقى عمله، كما فعل في البيتين المتقدمين. وقد يكون على حذف "في" قبل ثلاث، والأول أجود لتقدم مثل المحذوف. وفي صحيح البخاري: فلما قدم جاءه بالألف دينار، فحذف البدل وأبقى عمله. وهذا في البدل نظير ما جاء في العطف من: ونار تَوَقَّدُ، وأمثاله. وبهذا يوجه ما رواه الكوفيون من قول العرب: الخمسة الأثواب، أي: الخمسة خمسة الأثواب، فحذفوا البدل وأبقوا عمله، وعلى هذه الشواهد وأمثالها نبهت بقولي: وربما جر المضاف المحذوف دون عطف، ومع عاطف مفصول بغير "لا". فصل: ص: يجوز في الشعر فصل المضاف بالظرف والجار والمجرور بقوة إن تعلقا به، وإلا فبضعف. ومثله في الضعف الفصل بمفعول متعلق بغير المضاف، وبفاعل مطلقا، وبنداء، ونعت، وبفعل ملغى. وإن كان المضاف مصدرا جاز أن يضاف نظما ونثرا إلى فاعله مفصولا بمفعوله، وربما فصل في اختيار اسم الفاعل المضاف إلى المفعول بمفعول آخر، أو جار ومجرور.

ش: من أمثله فصل المضاف بالظرف قول الشاعر: فَرِشْني بخير لا أكونَنْ ومِدْحتي ... كناحتِ يوما صخرةٍ بعَسيل ومن أمثله فصله بالجار والمجرور قول الآخر: لأنت مُعْتاد في الهيجا مُصابرةٍ ... يَصْلى بها كلُّ من عاداك نيرانا فتقدير الأول: كناحت صخرة يوما، وتقدير الثاني: لأنت معتاد مصابرة في الهيجا. فهذا النوع من أحسن الفصل، لأنه فصل بمعمول المضاف، فكان فيه قوة، وهو جدير بأن يجوز في الاختيار ولا يختص بالاضطرار، وبذلك أقيس على وروده في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل أنتم تاركولي صاحبي" أراد: هل أنتم تاركو صاحبي لي، ففصل بالجار والمجرور، لأنه متعلق بالمضاف، وهو أفصح الناس، فدل ذلك على ضعف قول من خصه بالضرورة. وفي كلام بعض من يوثق بعربيته: ترك يوما نفسك وهواها، سعى لها في رداها. ففصل في الاختيار بالظرف، فعلم أن مثله لا حجر على المتكلم به ناظما وناثرا. وإنما يحجر على من فصل بمالا يتعلق بالمضاف، كقول الشاعر: كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوما ... يهوديِّ يقاربُ أو يُزيل ففصل بين "كف" و"يهودي" بيوما، وهو متعلق بخط، فمثل هذا ضعيف حقيق بألا يجوز إلا في ضرورة، لما فيه من الفصل بأجنبي. ومثله في الضعف والاختصاص بالضرورة الفصل بمفعول به متعلق بغير المضاف،

كقول جرير: تسقى امتياحا نَدى المسواكَ ريقتِها ... كما تَضَمَّن ماءَ المُزْنة الرَّصَفُ أراد: تسقى ندى ريقتها المسواك. ومثله في الضعف الفصل بالفاعل مطلقا أي سواء في ذلك ما تعلق بالمضاف، وما تعلق بغير المضاف. فالمتعلق به كقول الشاعر: ترى أسْهُما للموت تُصمي ولا تُنْمِي ... ولا تَرْعوي عن نقضِ أهواؤنا العزمِ أراد: ولا ترعوي عن أن ينقض أهواؤنا العزم، ففصل بأهوائنا – وهو فاعل النقض – بينه وبين المفعول المضاف إليه وهو العزم. والمتعلق بغيره كقول الشاعر: أنْجَبَ أيامَ والداه به ... إذ نَجَلاه فنعم ما نَجَلا أراد: أنجب والداه به أيام إذ نجلاه. ففصل بين "أيام" و"إذ" بفاعل أنجب، ولا عمل لأيام فيه، كما كان النقض في الأهواء. ومن الفصل بفاعل مرتفع بالمضاف قول الراجز: ما إنْ عَرَفنا للهوى من طبِّ ... ولا جَهِلْنا قَهْرَ وَجْدٌ صَبِّ وزعم السيرافي أن قول الشاعر: تَمُر على ما تستمر وقد شفت ... غلائلَ عبدُ القيس منها صدورِها

قد فصل فيه "عبد القيس" – وهو فاعل شفت – بين غلائل وصدورها، وهو مضاف ومضاف إليه، والذي قاله غير متعين، لإمكان جعل غلائل غير مضاف، وجعله ساقط التنوين لمنعه الصرف، وانجرار صدورها على أنه بدل من الضمير في قوله: منها، وهذا التوجيه راجح على ما ذهب إليه السيرافي لكثرة نظائره، وعدم أمن الاستشهاد بما يرد في الضرورة وعلى سبيل الندور، ومثله في الضعف والندور الفصل بالنداء، كقول الشاعر: وِفاقُ كعبُ بُجَيْرٍ مُنْقِذٌ لك من ... تعجيلِ تَهْلُكة والخُلدِ في سَقَرا أراد: وفاقُ بجير ياكعب، والمراد: بُجَيْر وكعب ابنا زهير رضي الله عن بجير، ورحم كعبا. وكقول الراجز: كأنَّ بِرْذَون أبا عصام ... زيدٍ حمارٌ دُقَّ باللِّجام أراد: كأن برذون زيد، ومثله قول الفرزدق: إذا ما أبا حفص أتتْك رأيتها ... على شعراءِ الناس يعلو قصيدُها أراد: إذا ما أتتك يا أبا حفص. ومثله في الضعف الفصل بالنعت، كقول الشاعر يخاطب معاوية رحمه الله: نجوتَ وقد بَلّ المُرادِيُّ سيفه ... من ابن أبي شيخ الأباطح طالبِ أراد: من ابن أبي طالب شيخ الأباطح، ومثله قول الفرزدق: ولئن حلفت على يديك لأحلفن ... بيمين أصدق من يمينك مُقسِم أراد: بيمين مقسم أصدق من يمينك، ففصل بأصدق – وهو نعت يمين – بين

"يمين" و "مقسم"، كما فصل بين "أبي" و"طالب" بشيخ الأباطح. ومثله قول سويد بن الصامت يخاطب قومه: أدينُ وما ديني عليكم بمَغْرمٍ ... ولكن على الشُّمِّ الجلاد القرواح على كلِّ خوّار كأن عماده ... طُلين بقارٍ أو بحَمْأةِ مائح لها حامل أرعى برية كلما ... تناول كفاه اليسار الجوانحِ أراد: أرعى الجوانح، ففصل بنعت وهو جملة، لأنها في حكم نعت مفرد. ومثال الفصل بفعل ملغى ما أنشد ابن السكيت من قول الشاعر: ألا يا صاحبي قفا المَهارى ... نُسائلُ عن بثينة أين سارا بأي تراهم الأرضين حَلُّوا ... أألدبران أم عسفوا الكِفارا أراد: بأي الأرضين تراهم حلوا، ففصل بتراهم – وهو فعل ملغى – بين أي والأرضين، وهما مضاف ومضاف إليه، وهذا من الغرابة مثل الفصل بنعت هو جملة، وقد تقدم ذكره. وتقدم أيضا أن الفصل بمعمول المضاف إذا لم يكن مرفوعا جدير بأن يكون جائزا في الاختيار، ولا يختص بالاضطرار، واستدللت على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركولي صاحبي" وبقول بعض العرب: ترك يوما نفسك وهواها، سعى لها في رداها. وأقوى الأدلة على ذلك قراءة ابن عامر

رضي الله عنه: (وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم) لأنه ثابته التواتر، ومعزوة إلى موثوق بعربيته، قبل العلم بأ، هـ من كبار التابعين، ومن الذين يقتدى بهم في الفصاحة، كما يقتدى بمن في عصره من أمثاله الذين لم يعلم عنهم مجاورة للعجم يحدث بها اللحن، ويكفيه شاهدا على ما وصفته به، أن أحد شيوخه الذين عوّل عليهم في قراءة القرآن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتجويز ما قرأ به في قياس النحو قوي، وذلك أنها قراءة اشتملت على فصل يدخله بين عاملها المضاف إلى ما هو فاعل، فحسن ذلك ثلاثة أمور: أحدها: كون الفاصل فضلة، فإنه بذلك صالح لعدم الاعتداد به. الثاني: كونه غير أجنبي لتعلقه بالمضاف. الثالث: كونه مقدر التأخير من أجل المضاف إليه، مقدر التقدم بمقتضى الفاعلية المعنوية، فلو لم تستعمل العرب الفصل المشار إليه، لاقتضى القياس استعماله، لأنهم قد فصلوا في الشعر بالأجنبي كثيرا، فاستحق الفصل بغير أجنبي أن يكون له مزية، فحكم بجوازه. وأيضا فقد فصل بقول النبي صلى الله عليه وسلم مثل: "هل أنتم تاركو لي صاحبي" بالجار والمجرور، والمضاف فيه اسم فاعل، مع أنه مفصول بما فيه من الضمير المنوي، ففصل المصدر بخلوه من الضمير أحق بالجواز، ولذلك قلت نظائر: "هل أنتم تاركو لي صاحبي" وكثرت نظائر: (قتلُ أولادَهم شركائهم)، فمنها قول الطرماح: يَطُفْن بحُوزيِّ المراتع لم تُرَع ... بواديه من قَرْعِ القِسَّى الكنائِنِ ومنها:

عَتَوْا إذْ أجبناهم إلى السلم رأفةً ... فسُقْناهم سوقَ البغاثَ الأجادل ومن يُلغ أعقاب الأمور فإنه ... جديرٌ بهُلكٍ آجلٍ أو مُعاجِلِ ومنها: يَفْرُكْن حبَّ السُّنْبل الكُنافج ... في القاع فَرْك القطنْ المحالجِ وأنشد أبو عبيدة: وحَلَقِ الماذيِّ والقوانسِ ... فداسهم دوسَ الحصادَ الدائسِ وأنشد الأخفش: فَزَجَجْتُها بِمِزَجَّة ... زجَّ القَلُوصَ أبي مزادة وأنشد ثعلب بجر "مطر" من قول الشاعر: لَئِنْ كان النكاحُ أحلَّ شيءٍ ... فإنَّ نكاحَها مطرٍ حرامُ ومما يرد على: "أنتم تاركو لي صاحبي" قراءة بعض السلف رضي الله عنه: (فلا تَحْسَبنَّ الله مُخْلِفَ وعدَه رسلِه) ففصل فيه اسم الفاعل المضاف إلى مفعول بمفعول آخر. فصل: ص: الأصحُّ بقاءُ إعراب المعرب إذا أضيف إلى ياء المتكلم ظاهرا، في المثنى مطلقا، وفي المجموع على حده غير مرفوع، وفيما سواهما

مجرورا، ومقدرا فيما سوى ذلك. ويكسر متلوُّها إن لم يكن حرف لين يلي حركة، وتفتح الياء أو تسكن. وإن نُودِي المضاف إليها إضافة تخصيص جاز أيضا حذفها، وقلبها ألفا، والاستغناء عنها بالفتحة، وربما وردت الثلاثة دون نداء، وقد يضم فيه ما قبل الياء المحذوفة وتُنْوى الإضافة، وتفتح في الحالين بعد حرف اللين التالي حركة، ويدغم فيها إن كان ياء أو واوا، وإن كان ألفا لغير تثنية جاز في لغة هذيل القلب والإدغام، وربما كسرت مُدْغما فيها، أو بعد ألف، ويجوز في أبي وأخي أبيّ وأخيّ، وفاقا لأبي العباس، وحذف ميم الفم مضافا أكثر من ثبوته، وفيّ حذف الميم واجب. ش: من المضاف إلى ياء المتكلم ما كان مبنيا قبل الإضافة كلدن وأحد عشر، وما كان معربا قبلها وهو الكثير، فما كان مبينا لا يزال مبنيا، وما كان معربا يعرض له تقدير الإعراب بعد أن كان ظاهرا، ما لم يكن مثنى فيظهر إعرابه في الأحوال الثلاثة، وكذا المجموع على حد التثنية في حال الجر والنصب، وأما في حال الرفع فيقدر إعرابه، كقول الشاعر: أوْدى بَنِيّ وأوْدَعوني حسرةً ... عند الرُّقاد وعبرةً لا تُقْلع وزعم الجرجاني، ووافقه ابن الخشاب والمطرزي، وهو الظاهر من قول الزمخشري، أن المضاف إلى ياء المتكلم مبني، وفي كلام ابن السراج احتمال، وسأبين مراده إن شاء الله. والصحيح أن المكسور الآخر للإضافة إلى الياء معرب تقديرا في الرفع والنصب، لأن حرف الإعراب منه في الحالين قد شغل بالكسرة المجلوبة ترعية للياء، فتعذر اللفظ بغيرها، فحكم بالتقدير كما فعل في المقصور. وأما حال الجر فالإعراب ظاهر للاستغناء عن التقدير، هذا عندي هو الصحيح، ومن قدر كسرة أخرى فقد ارتكب تكلفا لا مزيد عليه، ولا حاجة إليه، ولم أوافق الجرجاني في بناء المضاف إلى الياء، وإن كان في تقدير إعرابه تكلف يخالف

الظاهر، لأن لبناء الأسماء أسبابا كلها منتفية منه، فيلزم من الحكم ببنائه مخالفة النظائر، فلذلك أتبعته ردا، ولم أر من خلافه بدا. فإن زعم أن سبب بنائه إضافته إلى غير متمكن، رد ذلك بثلاثة أمور: أحدها: استلزامه بناء المضاف إلى سائر المضمرات، بل إلى كل الأسماء التي لا تمكن لها، وذلك باطل، وما استلزم باطلا فهو باطل. الثاني: أن ذلك يسلتزم بناء المثنى المضاف إلى ياء المتكلم، وبناؤه باطل، وما يستلزم باطلا فهو باطل. الثالث: أن المضاف إلى غير متمكن لا يبنى لمجرد إضافته، بل للإضافة مع كونه قبلها مناسبا للحرف في الإبهام والجمود كغير، والمضاف إلى ياء المتكلم لا يشترط ذلك في كسر آخره، فدل ذلك على أنه غير مستحق للبناء. وقد ينتصر للجرجاني بأن يقال: لا أسلم انحصار ما يوجب بناء الأسماء في مناسبة الحرف، يضاف إليها كون آخر الكلمة لا يتأتى فيه تأثر بعامل في تصغير وتكبير وتكسير وتأنيث وتذكير، فلزم من ذلك بناء المضاف المذكور، وثبوت الفرق بينه وبين المقصور، فإن إعرابه يظهر في تصغيره كفتيّ، وفي تكسيره كفتية، وفي تأنيثه كفتاة، والمضاف إلى ياء المتكلم لا يظهر إعرابه في الأحوال الخمسة، فمن ادعى فيه إعرابا مقدرا فقد ادعى مالا دليل عليه، بخلاف المقصور فإن ظهور إعرابه في الأحوال الثلاثة يدل على صحة ما ذهب إليه. وقد ينتصر له أيضا بأن يقال: لا أسلم خلو المضاف إلى ياء المتكلم من مناسبة الحرف، لأنه شبيه "بالذي" في أن آخره ياء كياء "الذي" في كونها بعد كسرة لازمة، وصالحة للحذف، وغير حرف إعراب، وفي أنه يتغير في التثنية تغيرا متيقنا، وفي الجمع تغيرا محتملا، والذي مناسب للحرف، ومناسب المناسب مناسب، فاستحقاق بناء المضاف إلى الياء بمناسبة الذي، شبيه باستحقاق بناء رَقاشِ بمناسبة نزالِ. وهذا التوجيه والذي قبله من المعاني التي انفردت بالعثور عليها، دون سبق إليها. وقولي: "ويكسر متلوها" أي متلو الياء، كقولك في: قلم: قلمِي، وتجرى

هذه الكسرة مجرى كسرة الإعراب في أنها تظهر في الحرف الصحيح، كظهورها في ميم قلم، وفي حرف العلة الجاري مجرى الصحيح كظبيي وصبيي ودلوي وفُلُوِّي، وتقدر في الحرف المعتل الذي لا يجرى مجرى الصحيح ويتبعها ما قبلها، كما يتبع ما قبل كسرة الإعراب، فيقال: هذا ابنمي، بكسر النون، كما تقول في الجر: مررت بابنم. ومن أتبع في الفم فقال: نظرت إلى فمه، قال هنا: نظر إلى فمي. وتقول فيما في آخره حرف علة بعد حركة: هذا داعِيّ ومولاي، ويابني ويابني، ورأيت مصطفى، وجاء بنيّ ومصطفى، والأصل: جاء بنوي ومصطفوي، ففعل بهما من القلب والإدغام، وفي تحويل بنوي إلى بني زيادة تبديل ضمة النون كسرة، فأشبه شيء به مرميّ، في أن أصله: مرمُوي، فأبدلت الضمة كسرة، والواو ياء وأدغمت، وكذا فعل ببنُوي حين قيل: بني. ومن قال غير ما بُيِّن، فأجرى المنقوص مجرى الصحيح في ظهور كسرة الإعراب، لا يقول بها ماضِيي، لأن كسرة الإعراب عارضة متعرضة لأن تخلفها الفتحة والضمة، وهذه الكسرة لازمة لا يخلفها مع الإضافة إلى الياء غيرها، فكانت أثقل، ولذلك لم تظهر في اختيار ولا اضطرارا، بخلاف كسرة ماض ونحوه. وقد دخل في حرف اللين الذي بعد حركة علامة التثنية نحو: جاء غلاماي، وعلامة الجمع نحو: جاء مكرمي، ومصطفى. ثم قلت: "وتفتح الياء أو تسكن" فعلم من الإطلاق جواز الأمرين في نداء غيره. ثم قلت: وإن نودي المضاف إليها إضافة تخصيص جاز أيضا حذفها، وقلبها ألفا، والاستغناء عنها بالفتحة" فعلم بهذا أن في الياء التي يضاف إليها غير المنادى وجهين مشهورين، وفي التي يضاف إليها المنادى خمسة أوجه. يقال في غير النداء: جاء غلامِي وغلامي. ويقال في النداء: يا غلامِي، ويا غلامَي، ويا غلامِ، ويا غلاما، ويا غلامَ بحذف الألف مع خفتها، لأنها بدل من الياء، فجرت مجراها في

الاستغناء عنها بحركة. ثم قلت: "وربما وردت الثلاثة في غير نداء" فأشرت إلى نحو قوله تعالى: (فبشِّرْ عبادِ الذين يستمعون القول) بحذف الياء خطا ووقفا. وإلى نحو قول الشاعر: أُطَوِّفُ ما أطوف ثم آوِي ... إلى أُمَّا ويُرْويني النَّقيعُ وإلى نحو قول الآخر: ولستُ براجعٍ ما فات مني ... بلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لَوَ انِّي أراد: بقول: لهفا، والأصل: لهفى، فأبدل الياء ألفا دون نداء ثم حذفها واستغنى بالفتحة، كما حذفت الياء واستغنى بالكسرة. وقيدت بالإضافة بأن تكون إضافة تخصيص احترازا من نحو: يا مكرمي، وأنت تريد الحال والاستقبال، فإن إضافته إضافة تخفيف، فالياء في نية الانفصال، كما يكون "زيد" في نية الانفصال إذا قلت: يامكرم زيد الآن أو غدا. وإذا كانت في نية الانفصال لم تمازج ما اتصلت به، فتشبه بياء قاض فتشاركها في جواز الحذف. والحاصل أنت ياء المتكلم المضاف إليها منادى هو اسم فاعل بمعنى الحال والاستقبال لا تحذف ولا تقلب ألفا، وإذا لم تقلب ألفا فلا يفتح ما قبلها، فليس لها حظ في غير الفتح والسكون. وقد يستغنى بنية إضافة المنادى إلى الياء، ويجيء وكأنه غير مضاف، كما يفعل ذلك في غير النداء، أعني كون الاسم مضافا في المعنى، مفردا في اللفظ. ومن ورود المنادى المضاف إلى الياء مكتفيا بالنية قراءة بعض القراء: (ربُّ السجن

أحبُّ إليَّ) وأصله: يارب، فحذف الياء، ولذلك حسن حذف حرف النداء، لأنه لو حذف حرف النداء والإضافة غير منوية لكان مثل قولهم: افتد مخنوق، وهو قليل. بخلاف الاستغناء بنية الإضافة عن المضاف إليه، فإنه كثير، والحمل على ما كثرت نظائره أولى من الحمل على ما قلت نظائره. وأيضا لو كان غير منوي الإضافة لكان في الأصل صفة لأي، كما أن مخنوق في الأصل صفة لأي، وأسماء الله تعالى لا يوصف بها أي، فتعين كون الأصل: يارب. "وتفتح في الحالين بعد حرف اللين التالي حركة، ويدغم فيها إن كان ياء أو واوا" نبهت به على أنه يقال في القاضي واثنين وابنين ومصطفين وعشرين: قاضيّ، واثنيّ، وابنيّ، وبنتيّ، ومصطفيّ، وعشريَّ، وكذا بنون وعشرون ومصطفون، لأنه يلتقي مع الياءين اللتين لم تكن إحداهما واوا. وقصدت بالحالين حال غير النداء وحال النداء، وسكت عن التالية ألفا عند ذكر الإدغام، فعلم أن حكمها التخفيف والفتح مطلقا، نحو: غلاماي وفتاي. ثم نبهت على أن هذيلا يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمون، كقراءة الحسن: (يابُشْرَيّ هذا غلام) وكقول الشاعر: سَبَقوا هَوَيَّ وأعْنَقوا لهواهم ... فَتُخَرِّموا ولكل جنب مصرعُ وفي دعاء بعض العرب: يا سيديّ، ويا موليّ. وقولي: "وربما كسرت مدغما فيها أو بعد ألف" أشرت به إلى قراءة حمزة: (وما أنتم بمصرخيِّ) بالكسر، وإلى قول بعض العرب في: عصايَ: عصايِ.

وقرأ الحسن وأبو عمرو في شاذه، وهي لغة قليلة، أقل من كسر المدغم فيها، وممن روى كسر المدغم فيها أبو عمرو بن العلاء والفراء وقطرب، ومن شواهدها قول الراجز: قال لها هل لكِ ياتا فِيِّ ... قالت له ما أنت بالمَرْضيِّ ومنها قول الشاعر: لعمرٍو عليِّ نعمةٌ بعد نعمةٍ ... لوالده ليست بذاتِ عَقارِب كذا روي بكسر الياء من علي. واللغة الجيدة أن يقال في إضافة: أب وأخ إلى الياء: أبي وأخي، كما جاء في القرآن الكريم، ويجوز عند أبي العباس: أبيّ وأخيّ، برد اللام وإدغامها في ياء المتكلم. والذي رآه مسموع في الأب مقيس في الأخ، ومن شواهد السماع قول الراجز: كأن أبيِّ كَرَما وسُودا ... يُلقى على ذي اللبد الجديدا والاستشهاد بهذا أقوى من الاستشهاد بقول الآخر: قَدَر أحَلّك ذا المجاز وقد أرى ... وأبيّ مالك ذو المجاز بدار لاحتمال أن يريد قائل هذا الجمع، والذي قبله يتعين فيه الإفراد، بيلقى، إذ لو قصد الجمع لقال: يلقون. ولم أجد شاهدا على أخيّ، لكن أجيزه قياسا على أبيّ كما فعل أبو العباس. وأيضا إذا أضيف الفم إلى ظاهر أو ضمير جاز أن يضاف بالميم ثابتة، فيقال: كلمته من فمي إلى فمه، وجاز أن يضاف عاريا من الميم، فيقال: كلمته من فيّ

إلى فيه، والأصل: فيي بياءين، الأولى عين الكلمة، والثانية ياء المتكلم، فأدغمت الأولى في الثانية، ولا يجوز التخفيف كما جاز مع الأب والأخ، لأن الأب والأخ إذا وليتهما الياء مخففة كانا على حرفين، أحدهما فاء الكلمة، والآخر عينها، ولو فعل ذلك بفيّ بقي على حرف واحد، مع أنه اسم متمكن، وليس في الأسماء المتمكنة ما هو على حرف واحد، فاجتنب ما يلزمه منه عدم النظير. ويجوز أن يقال: كلمته من فمي إلى فمه، وفم زيد أحسن من فم عمرو. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" ولم يقل: لخلوف في الصائم، وهذا يدل على قلة علم من زعم عدم ثبوت الميم مع الإضافة، ويجوز بقلة في ضرورة شعر، كقول الشاعر: صَفَحْنا عن بني ذُهْل ... وقلنا القومُ إخوان عسى الأيامُ أن يَرْجِعْـ ... ـنَ قوما كالذي كانوا بضَرْبٍ فيه تَوْهينٌ ... وتخضيعٌ وإقْران وطَعْن كفَم الزَّقِّ ... غدا والزَّقُّ ملآنُ فلما صرّح الشَّرُّ ... فأمسى وهو عُرْيان ولم يَبْقَ سوى العُدْوا ... ن دِنَّاهم كما دانوا وعاب بعض أصحاب هذا المذهب على الحريري قوله: أدخله في فمه، وقرنه بتوأمه". ولا عيب فيه لما ذكرته، والله أعلم.

باب التابع

باب التابع ص: "وهو ما ليس خبرا من مشارك ما قبله في إعرابه وعامله مطلقا، وهو توكيد أو نعت أو عطف بيان أو عطف نسق أو بدل. ويجوز فصله من متبوع إن لم يكن توكيد توكيد، أو نعت مبهم أو شبهه، ولا يتقدم معمول تابع على متبوع، خلافا للكوفيين. ش: المشارك ما قبله يعم نحو: حامض، من: هذا حلو حامض، وثاني المفعولين من نحو: أعطيت زيدا درهما، وظننت عمرا قائما، والحال والتمييز المنصوب ما هما له، نحو: لقيت زيدا راكبا، واشتريت رطلا عسلا. فخرج المفعول الثاني والحال بقولي: مطلقا، لأنهما - وإن وافقا التابع بمشاركة ما قبلهما في إعرابه وعامله - فقد خالفهما بزوال المشاركة في الإعراب عند تبديل العامل، نحو قولك في: ظننت زيدا كريما، ولقيت عمرا راكبا: كان زيد كريما، ومررت بعمرو راكبا. وعند تبديل الاقتضاء، نحو قولك: ظُنَّ زيد كريما، ولُقِيَ عمرو راكبا. بخلاف التابع فإن مشاركته في الإعراب لا تزول بذلك. ويخرج التمييز المشار إليه بذكر المشاركة في العامل، فإن رطلا منصوب باشتريت، وعسلا منصوب برطلا. ونحو: حامض، من قولي: هذا حلو حامض، موافق للتابع في كل ما قيد به، من مشاركة ما قبله من إعرابه وعمله مطلقا، فأخرجته بنفي الخبرية عن التابع، فخلص الحد له. ثم بينت أن التابع ينقسم إلى توكيد ونعت وعطف بيان وعطف نسق وبدل، ولكل واحد منها باب يستوفى فيه الكلام عليه. ولا يلزم اتصال التابع بالمتبوع إلا إذا كان توكيد توكيد نحو: (فسجد

الملائكةُ كلُّهم أجمعون) أو صفة تشبهه نحو: (لا تتخذوا إلهين اثنين) أو صفة اسم مبهم نحو: ضرب هذا الرجل زيدا. فلو قلت: ضرب هذا زيدا الرجل، لم يجز. وكذلك ما أشبه الاسم المبهم في عدم الاستغناء عن الصفة نحو: طلعت الشِّعْرى العبور، فلو قلت: الشعرى طلعت العبور، لم يجز. فلو كان الموصوف غير مبهم ولا شبيه به جاز الفصل بينه وبين صفته، كقوله تعالى: (أفي اللهِ شكٌّ فاطر السموات والأرض) وكقوله تعالى: (أغيرَ اللهِ أتخذُ وليا فاطر السموات والأرض) وكقوله تعالى: (سبحان الله عما يصفون، عالمِ الغيب والشهادة) وكقوله تعالى: (قل بلى وربِّي لتأتينكم عالمِ الغيب) وحكى سيبويه: هذان رجلان وزيد منطلقان، ففصل بين الموصوف والصفة بالعطف، وفي قول الشاعر: ألم تر أنني لاقيت يوما ... معاشرَ فيهم رجلٌ جَمارا فقيرُ الليلِ تلقاه غنيا ... إذا ما آنس الليلُ النهارا فصلان: فصل بين معاشر وصفته، أعني جمارا، وبين رجل وصفته هو فقير الليل. وقد يفصل بين التوكيد والمؤكَّد، كقوله تعالى: (ولا يحْزَنَّ ويرْضَيْنَ بما آتيتَهُنّ كلُّهن) فكلهن توكيد للنون من "يرضين" و"ما آتيتهن" فصل. ومن

الفصل بين التوكيد والمؤكَّد قول أبي النجم: وأقبلت والهةً تَفَجَّع ... ما رأسُ ذا إلا جبينٌ أجمعُ أراد: ما رأس ذا أجمعُ إلا جبين. وأجاز الكوفيون: هذا طعامَك رجلٌ يأكل، وزيدا قمت فضربت، فقدموا معمول يأكل على رجل وهو منعوت به، ومعمول ضربت على قمت، وهو معطوف عليه. ووافقهم الزمخشري في قوله تعالى: (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) فجعل (في أنفسهم) متعلقا بـ (بليغا)، ولا يصح ذلك على طريق البصريين، لأن حق المعمول ألا يحل إلا في موضع يحل فيه العامل، ومعلوم أن التابع لا يتقدم على المتبوع، فلا يتقدم عليه معموله، والله أعلم.

باب التوكيد

باب التوكيد ص: "وهو معنوي ولفظي، فالمعنوي التابع الرافع توهم إضافة إلى المتبوع، أو أن يراد به الخصوص، ومجيئه في الغرض الأول بلفظ النفس والعين مفردين مع المفرد، مجموعين مع غيره جمع قلة، مضافين إلى ضمير المؤكد، مطابقا له في إفراده وغيره. ولا يؤكد بهما غالبا ضمير رفع متصل إلا بعد توكيده بمنفصل، ويفردان بجواز جرهما بياء زائدة، ولا يؤكد مثنى بغيرهما إلا بكلا وكلتا، وقد يؤكِّدان مالا يصح في موضعه واحد، خلافا للأخفش. ش: التوكيد المعنوي هو المعتد به في التوابع، وهو على ضربين: أحدهما: الذي قصد به رفع توهم السامع أن المتكلم حذف مضافا وأقام المضاف إليه مقامه، نحو: قتل العدوَّ زيدٌ نفسه، فبذكر النفس علم السامع أن زيدا باشر القتل وحده، ولولا ذلك لأمكن اعتقاد كونه آمرا لا مباشرا. والثاني: أن يقصد به رفع توهم السامع أن المتكلم وضع العام موضع الخاص، نحو قولك: جاء بنو فلان كلهم، لم يرد أن يخص بالمجيء بعضا دون بعض، ولولا ذلك لأمكن اعتقاد غير ذلك. والمؤكد في القصد الأول النفس أو العين أو هما معا، بإفراد مع المفرد، نحو: جاء زيد نفسه، وهند نفسها. وبجمع مع المثنى والمجموع نحو: جاء الزيدان أنفسهما، والزيدون أنفسهم، والهندان أنفسهما، والهندات أنفسهن، ولا يجمعان إلا جمع قلة، فلا يقال: جاء الزيدون نفوسهم ولا عيونهم، ولا بد من إضافتهما لفظا إلى ضمير يوافق المؤكَّد في إفراده وتذكيره وغير ذلك. وإن أكد بهما ضمير رفع متصل فالجيد أن يؤكد بهما بعد التوكيد بالضمير

المنفصل، نحو: قاموا أنفسهم، وقاموا أنفسهم جائز على ضعف، ذكر ذلك الأخفش في المسائل. ويجوز جر النفس والعين بباء زائدة نحو: جاء زيد بنفسه، ورأيت عمرا بعينيه، ولا يجوز ذلك في غيرهما من ألفاظ التوكيد. إلا أنهم قالوا: جاءوا بأجمعهم، بضم الميم وفتحها، وفيه معنى التوكيد، وليس من ألفاظه، إذ لو كان من ألفاظه لجاز استعماله بلا باء، بل كان استعماله بلا باء أكثر، كما كان كذلك في النفس والعين. ويجوز أن يؤكد بهما معا، نحو: جاء زيد نفسه عينه. ولا يؤكد المثنى ولا ما في معناه بغير النفس والعين إلا بكلا في التذكير، وبكلتا في التأنيث، نحو: جاء الزيدان كلاهما، والهندان كلتاهما. ولا يؤكد بهما عند الأخفش مالا يصح أن يجعل في موضعه واحد، نحو: جلست بين الرجلين. قال الأخفش: لا يجوز حذف ضربت أحد الرجلين كليهما، فإنك إذا قلت: ضربت أحد الرجلين، فقد علم أنهما رجلان، وأن موضع الرجلين لم يصلح لواحد، لتقدم أحد، فلا يتوهم أن ذكرهما غلط. بخلاف قولك: رأيت الرجلين كليهما، فإن موضع الرجلين صالح لرجل، فيتوهم الغلط، فيفيد التوكيد. قال الأخفش: لا يمتنع عندي: ضربت أحد الرجلين كليهما، لأن فيه فائدة، وذلك أن موضع الرجلين صالح للجمع، فيمكن توهم السامع أن المتكلم قصد الجمع، فغلط بوضع المثنى موضعه، فبذكر كليهما يزول ذلك التوهم، ولا يخلو من فائدة. وأيضا فإن موضع الرجلين صالح للفرسين والبعيرين وغير ذلك، فلا يمتنع توهم السامع قصد المتكلم شيئا من ذلك، ما لم يأت بكليهما أو نعت يقوم قامه، فإذا جاء بكليهما علم اعتناؤه بما ذكر قبله، وأنه قاصد إعلام السامع بصحة العبارة.

ص: ومجيؤه في الغرض الثاني تابعا لذي أجزاء يصح وقوع بعضها موقعه، مضافا إلى ضميره بلفظ كل أو جميع أو عامة. وقد يستغنى بكليهما عن كلتيهما، وبكلهما عنهما، وبالإضافة إلى مثل الظاهر المؤكد بكل عن الإضافة إلى ضميره، ولا يستغنى بنية إضافته خلافا للفراء والزمخشري. ولا يثنى أجمع ولا جمعاء خلافا للكوفيين ومن وافقهم. ويتبع كلَّه أجمع، وكلها جمعاء، وكلهم أجمعون، وكلهن جمع، وقد يُغْنين عن كل، وقد يُتْبَعْن بما يوازنهن من كُتَع وبُصَع وبُتَع، بهذا الترتيب أو دونه. وقد يغني ما صيغ من كُتَع عما صِيغ من جُمَع، وربما نُصب أجمع وجمعاء حالين، وجمعاهما كهما على الأصح. وقد يرادف جمعاء مجتمعة فلا يفيد توكيدا. ش: قد تقدم أن التوكيد المعنوي يجاء به لغرضين: أحدهما: رفع توهم إضافة إلى المتبوع. والثاني رفع توهم إرادة الخاص باللفظ العام، وبينت ما يفيد الغرض الأول، فشرعت الآن في تبيين ما يفيد الغرض الثاني وهو كل وأخواته على حسب استعماله الآتي تفصيله. ولا يؤكد بها إلا معرفة متبعضة بالنسبة إلى عمل العامل، ويعتبر ذلك بجعل بعضها في موضعه، فإن صح صح التوكيد، وإن امتنع امتنع، فقولك: جاء القوم كلهم، صحيح لصحة قولك: جاء بعض القوم، وقولك: جاء زيد كله، ممتنع لامتناع قولك: جاء بعض زيد. فلو كان العامل صالح الإسناد إلى بعض زيد كنظف ونجس لم يمتنع التوكيد، فصح أن يقال: نظف زيد كله، لأنه يقال: نظف بعضه. وذكرت مع "كل" جميعا وعامة، كما فعل سيبويه، وأغفل ذلك أكثر المصنفين سهوا أو جهلا، فيقال: جاء القوم جميعهم أو عامتهم كما يقال: جاءوا كلهم، والمعنى واحد، ومن شواهد ذلك قول الشاعر:

يَمُتُّ بقُرْبى الزينبين كلَيْهما ... إليك وقُربى خالد وحبيب ومثال الاستغناء بكلهما عن كليهما وكلتيهما. وبالإضافة إلى مثل الظاهر المؤكد بكل عن الإضافة إلى ضميره، نحو قول كثير: كمْ قد ذكرتُك لو أُجْزى بذكركم ... يا أشبهَ الناسِ كلِّ الناس بالقمر ومثله قول الفرزدق: أنت الجوادُ الذي تُرْجَى نوافلُه ... وأبعدُ الناسِ كلِّ الناس من عار وأقربُ الناس كلِّ الناس من كرم ... يعطى الرغائب لم يَهْمُمْ بإقتار وأجاز الفراء والزمخشري في قراءة من قرأ: (إنا كلًّا فيها) بالنصب على توكيد اسم إن، وذلك عندي غير جائز، لأن ألفاظ التوكيد على ضربين: ضرب مصرح بإضافته إلى ضمير المؤكد وهو النفس والعين وكل وجميع وعامة، وضرب منوي الإضافة إلى ضمير المؤكد وهو أجمع وأخواته، وقد أجمعنا على أن المنوي الإضافة لا يستعمل صريح الإضافة، وأجمعنا على أن غير "كل" من الصريح الإضافة لا يستعمل منوي الإضافة، فتجويز ذلك في كل يستلزم عدم النظير في الضربين، لأن غير كل إما ملازم لصريح الإضافة، وإما ملازم لمنويها فإفراد "كل" بجواز الاستعمالين مستلزم لعدم النظير، والمفضي إلى ذلك هو ما ذهب إليه الفراء والزمخشري، فوجب اجتنابه.

والقول المرضي عندي أن "كلا" في القراءة المذكورة منصوب على الحال من الضمير المرفوع المنوي في "فيها" وفيها هو العامل، وقد قدمت الحال عليه مع عدم تصرفه، كما قدمت في قراءة: (والسموات مطوياتٍ بيمينه) وفي قول النابغة الذبياني: رَهْطُ ابن كُوزٍ مُحْقِبي أدْراعهم ... فيهم ورهط ربيعة بن حُذار ومثله قول بعض الطائيين: دعا فأجبنا وهو بادي ذلة ... لديكم فكان النصر غير بعيد وأجاز الكوفيون وبعض أصحابنا تثنية أجمع وجمعاء، قال ابن خروف: وقياس تثنية أفعل وفعلاء في هذا الباب، يعني باب التوكيد، قياس أحمر وحمراء، ومن منع تثنيتهما فقد تكلف وادعى مالا دليل عليه. وقال الأخفش في المسائل: وزعموا أن من العرب من يجعل أجمع وأكتع وجنسه نكرة، فيقول: أجمعَيْن وجمعاوان وكتعاوين، قال: وقال الشاعر: لو كان ذا المربد خبزا أجمعا فجعل أجمع من صفة النكرة. هذا نص الأخفش في المسائل. وكله توكيد لمفرد ذي أجزاء يصح تعليق العامل ببعضها، كالجيش والبستان. وكلها توكيد لمؤنث هو كذلك كالقبيلة والدار، ويؤكد بكلها أيضا مع جمع المذكر غير العاقل نحو: قبضت الدراهم كلها، وجمع المذكر العاقل إذا كان مكسرا

أو مجموعا بالألف والتاء، كما يقال في الفعل المسند إلى ضميره فعلتْ، وفي الواقع عليه فَعَلتا، كقول الراجز: إذا الرجالُ ولدتْ أولادُها ... واضطربت من كبر أعْضادها وجعلتْ أوْصابها تعتادُها ... فهي رزوع قددنا حصادها فكما جاز تأنيث ضمير الرجال مع غير كل، فكذلك يجوز مع كل، فيقال: جاء الرجال كلها، وأما كلهن في العاقلات فأولى من كلها، وكلها في غير العاقلات أولى من كلهن، إلا إن كان مرادا به أدنى العدد فكلهن أولى به من كلها، كقولك: الأجذاع انكسرن كلهن، أولى من: الأجذاع انكسرت كلها. وقولك: الجزوع انكسرت كلها، أولى من: الجزوع انكسرن كلهن. ومثال إتباع أجمع وأخواته لكله وأخواته: جاء الجيش كله أجمع، والقبيلة كلها جمعاء، والرجال كلهم أجمعون، والنساء كلهن جمع، قال تعالى: (فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون). ومثال الاستغناء عن كل قوله تعالى: (ولَأُغْوِيَنَّهم أجمعين) (وإن جهنم لموعدهم أجمعين). ومثال المصوغات من جمع ما يوازيهن من: كتع وبصع وبتع: جاء الجيش كله أجمع أكتع أبصع أبتع، والقبيلة كلها جمعاء كتعاء بصعاء بتعاء، والرجال كلهم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون، والنساء كلهن جمع كتع بصع بتع. وهذا الترتيب لا يلزم، بل هو أجود من عدمه، وإنما اللازم لمن ذكر الجميع أن يقدم "كلا" ويوليه المصوغ من جمع، ثم يأتي بالبواقي كيف شاء، إلا أن تقديم ما من الكتع على الباقين، وتقديم ما من البصع على ما من البتع هو المختار. ومثال الاستغناء بالمصوغ من كتع ما أنشد الأصمعي من قول الراجز:

يا ليتني كنت صبيا مُرْضَعا ... تحملني الذَّلْفاء حولا أكتعا إذا بكيت قبلتني أربعا ... إذن ظللت الدهر أبكي أجمعا وحكى الفراء: أعجبني القصر أجمعَ، والدار جمعاءَ بالنصب على الحال، ولم يجز في أجمعين وجمع إلا التوكيد. وأجاز ابن درستويه حالية أجمعين، وما ذهب إليه هو الصحيح، لأنه قد صح بضبط الثقات من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين" وممن صحح النصب في أجمعين المذكور في الحديث المذكور القاضي عياض رحمه الله، وقال: إنه منصوب على الحال. ويروى: "فصلوا جلوسا أجمعون" على أنه توكيد للواو من فصلوا. وجعل بعضهم أجمعين توكيدا لضمير مقدر منصوب، كأنه قال: أعنيكم أجمعين؛ وهذا القول شبيه بقول سيبويه رحمه الله في: باب ما انتصب فيه الاسم لأنه لا سبيل إلى أن يكون صفة: مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما". هكذا قال سيبويه رحمه الله. وقد يستعمل جمعاء بمعنى مجتمعة فلا يقصد بها توكيد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كما تناخ الإبل من بهيمة جمعاء" أي مجتمعة الخلق. وأجاز أبو علي الشلوبين استعمال أجمع بهذا المعنى فتأول به قول الراجز: أرمي عليها وفي فرعٌ أجمعُ ... وهي ثلاث أذرع وإصبع ص: ولا يتحد توكيد معطوف ومعطوف عليه إلا إذا اتحد معنى عامليهما، وإن أفاد توكيد النكرة جاز، وفاقا للأخفش والكوفيين، ولا يحذف المؤكَّد ويقام المؤكِّد مقامه على الأصح، ولا يفصل بينهما بإمّا خلافا للفراء. وأجري في التوكيد مجرى كل ما أفاد معناه من الضرع والزرع والسهل والجبل، واليد

والرجل والظهر والبطن. ولا يلي العاملَ شيءٌ من ألفاظ التوكيد وهو على حاله في التوكيد إلا جميعا وعامة مطلقا، وكل وكلا وكلتا مع الابتداء بكثرة، ومع غيره بقلة، واسم كان في نحو: كان كلنا على طاعة الرحمن، ضمير الشأن، لا كلنا. ويلزم تابعية كل بمعنى كامل وإضافته إلى مثل متبوعه مطلقا نعتا لا توكيدا. ويلزم اعتبار المعنى في خبر "كل" مضافا إلى نكرة، لا مضافا إلى معرفة. ولا تَعَرُّضَ في أجمعين إلى اتحاد الوقت، بل هو ككل في إفادة العموم مطلقا خلافا للفراء. ش: قال أبو الحسن الأخفش: اعلم أن قولهم: مات زيد وعاش عمرو كلاهما، ليس بكلام، لأنهما لم يبنيا في كلام واحد. فلو قلت: انطلق زيد وذهب عمرو كلاهما، جاز لأنهما قد اجتمعا في أمر واحد، فإلى هذا وأمثاله أشرت بقولي: ولا يتحد توكيد معطوف ومعطوف عليه إلا إذا اتحد معنى عامليهما. ومنع البصريون إلا الأخفش توكيد النكرة مطلقا، وأجازه بعض الكوفيين مطلقا، وأجازه بعضهم إذا أفاد ومنعه إذا لم يفد، ومثال الجائز لكونه مفيدا قولك: صمت شهرا كله، وقمت ليلة كلها، وهذا أسد نفسه، وعندي درهم عينه. فبذكر "كل" يُعلم أنّ الصيام كان في جميع الشهر، والقيام كان في جميع الليلة، ولو لم يذكر لاحتمل ألا يراد جميع الشهر، ولا جميع الليلة. وبذكر النفس أيضا علم أن المشار إليه أسد حقيقي لا شيء شبيه بأسد، وأن الذي عندك درهم مصوغ لا صرفه ولا موازنته. فتوكيد النكرة إن كان هكذا حقيق بالجواز، وإن لم تستعمله العرب، فكيف إذا استعملته، كقول رؤبة: إن تميما لم يُرَاضِع مُشْبَعا ... ولم تلده أمه مُقَنَّعا ... أوْفَت به حولا وحولا أجمعا

وكقول الآخر: قد صرت البكرة يوما أجمعا وكقول الآخر: ياليتني كنت صبيا مرضعا ... تحملني الذلفاء حولا أكتعا وكقول الآخر: أُولاك بنو خيرٍ وشر كليهما ... جميعا ومعروفٍ ألَمَّ ومُنْكَرِ وكقول الآخر: ساعة قدر احتجابك فيها ... سنة دام ضرها جمعا دام وأما ما لا فائدة فيه: نحو: اعتكفت وقتا كله، ورأيت شيئا نفسه، فغير جائز، فمن حكم بالجواز مطلقا، أو بالمنع مطلقا، فليس بمصيب، وإن حاز من الشهرة أوفر نصيب. وقول الشاعر: عَداني أنْ أورك أنّ بَهْمي ... عجايا كلُّها إلا قليلا توكيد عند الكوفيين، والصحيح أنه مبتدأ مقدم الخبر، أو توكيد لضمير مرفوع بعجايا، لأنه جمع عَجِيّ، وهو السيء الغذاء.

وكلانا من قول الشاعر: فما أعْلَمَ الواشين بالسر بيننا ... ونحن كلانا للمحبة كاتم مبتدأ خبره كاتم، وليس بتوكيد نحن، إذ لو كان توكيدا لم يجز إفراد كاتم، لأنه على ذلك التقدير خبر نحن. وقال سيبويه رحمه الله في: باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه لا سبيل إلى أن يكون صفة: وسألت الخليل رحمه الله عن: مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما، فقال: الرفع على: هما صاحباي أنفسهما، والنصب على أعنيهما أنفسهما" فأجاز حذف المؤكَّد، والاستغناء عنه بالمؤكِّد، وهذا ضعيف بين الضعف، لأن المؤكّد مذكور كتقوية، ويبين كونه مرادا به الحقيقة لا المجاز، فالاستغناء عنه بالمؤكّد بمنزلة الاستغناء بعلامة على معنى في شيء غير مذكور، كالاستغناء بحرف التعريف عن المُعَرَّف، وبعلامة التأنيث عن المؤنث، مع ما في تقديره من كثرة الحذف، ومخالفة المعتاد، وذلك أن في كلا الوجهين تقدير ثلاثة أشياء: في الرفع تقدير مبتدأ ومضاف ومضاف إليه، وفي النصب تقدير فعل وفاعل ومفعول، وفي التقدير الأول مخالفة لقاعدة التقدير من قبل أنه قدر: هما صاحباي، وما في الكلام دليل على الصحبة، والمعتاد في الحذف أن يكون في الباقي دلالة على المحذوف، وكان الأولى بعد أن نسلم التقدير أن نقدر: هما معنيان أنفسهما، كما قدر في النصب: أعنيهما، لأن كونهما معنيين معلوم، وكونهما صاحبين غير معلوم. وأيضا فإن هذا الحذف المدعى هو من من حذف المتبوع وإبقاء تابعه، والأصل فيه حذف المنعوت وإبقاء نعته قائما مقامه، وإنما جعلت حذف المنعوت أصلا لكثرته، وكونه مجمعا على صحة استعماله، ومع ذلك لا يستعمل إلا والعامل في المنعوت المحذوف موجود، وما مثل به الخليل من حذف المذكور، فالعامل فيه محذوف، فتجويزه يستلزم مخالفة النظير فيما هو أصل أو كالأصل. ولا يجيز البصريون: مررت بقومك إما أجمعين وإما بعضهم، وأجازه الفراء على تقدير: مررت بقومك أجمعين وإما بعضهم. ويلزم سيبويه التجويز على تقدير:

مررت بقومك إما بهم أجمعين وأما بعضهم، فإن الحذف هنا أسهل من الحذف في: مررت بزيد وأتاني أخوه هما صاحباي أنفسهما وأعنيهما أنفسهما. وبالغ الأخفش في منع حذف المؤكد فقال: لو نظرت إلى قوم فقلت: أجمعون قومك، تريد: هم أجمعون قومك، لم يجز، لأنك جئت بالتوكيد قبل أن يثبت عند المخاطب اسم يؤكد. وأجاز سيبويه فيما قصد به العموم من: ضرب زيد الظهر والبطن، واليد والرجل، ومطرنا السهل والجبل، والزرع والضرع، أن يكون توكيدا ككل وأن يكون بدلا. ونبهت بقولي: ولا يلي العوامل شيء من ألفاظ التوكيد وهو على حاله في التوكيد" على أنه لا يقال: زيد لقيت رأيت نفسه، ولا إخوتك كان أنفسهم منطلقين، ولا ما أشبه ذلك. لأنك أوليت رأيت نفسه، وولى كان أنفسهم، وهما الحال الذي يكونان عليه إذا قصد بهما التوكيد مع عدم قصد التوكيد. فلو كانا على غير الحال المستعمل في التوكيد وليا كل عامل، كقولك: رأيت نفس زيد، وأنفس إخوته. واستثنيت جميعا وعامة بلا قيد، لأن استعمالهما في التوكيد قليل، واستعمالهما في غير التوكيد كثير، بخلاف غيرهما، فيقال: القوم مررت بجميعهم وعامتهم، ومررت بهم وجميعهم يتحدثون، وعامتهم نيام. وأما كل وكلا وكلتا إذا كانت بالحال الصالحة للتوكيد فيباشرها العامل كثيرا إن كان ابتداء نحو: مررت بالرجال كلُّهم قيام، ومررت بالرجلين كلاهما في المسجد، وبالمرأتين كلتاهما في الدار. ولا يباشرها غير الابتداء إلا قليلا، فمن القليل قول كثير: يَميدُ إذا والتْ عليه دِلاؤُهم ... فيصدرُ عنه كلُّها وهو ناهلُ

ومنه قول عدي بن زيد: أسمو بها عند الحبيب فنصبرا ... كيما لنهلو كلنا ولنشربا ومن القليل قول الأخفش في المسائل: تقول: ايتني بزيد أو عمرو أو كليهما، رفعا ونصبا وجرا. قال سيبويه في: باب هذا شيء محذوف فيه الفعل لكثرته في كلامهم: وكليهما وتمرا، كأنه قال: أعطني كليهما وزدني تمرا" فقدر أعطني عاملا في كليهما. ويجوز: كان كلكم منطلقون، على أن اسم كان ضمير الشأن، وكلكم منطلقون، مبتدأ وخبر. ومنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فلمّا تبيّنا الهُدى كان كلُّنا ... على طاعةِ الرحمنِ والحقِ والتُّقى ويقصد بكل معنى كامل فينعت به اسم جنس معرف أو منكر، وتلزم إضافته إلى مثل المنعوت لفظا ومعنى وتعريفا وتنكيرا، نحو: رأيت الرجل كل الرجل، وأطعمنا شاة كل شاة، وفيه معنى التوكيد وليس من ألفاظه، للزوم إضافته إلى ظاهر. إذا أخبر عن كل مضافا إلى نكرة تعين اعتبار المعنى، نحو: (كلُّ نفس ذائقة الموت) وكل رجلين قائمان، وكل رجال قائمون و: (كلُّ حزب بما لديهم فرحون). وإذا أخبر عن كل مضافا إلى معرفة جاز اعتبار لفظها، فيفرد الخبر ويذكّر كقوله

تعالى: (إنْ كلُّ من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) واعتبار معناها فيجاء به على وفق المضاف إليه، نحو: (وكلٌّ أَتَوْه داخرين) لأن المعنى: وكلهم أتوه داخرين. ومذهب البصريين التسوية بين كلهم وأجمعين في إفادة العموم دون تعرض لاجتماع في وقت وعدمه. وزعم الفراء أن أجمعين يفيد أنهم كانوا مجتمعين في وقت الفعل. والصحيح أن ذلك ممكن أن يراد وممكن ألا يراد، فإمكان أن يراد مجمع عليه، فأغنى ذلك عن دليل، وإمكان ألا يراد مستفاد من قوله تعالى: (لأُزَيِّنَنَّ لهم في الأرض ولأُغْوِيَنَّهم أجمعين) لأن إغواءهم لا يكون في وقت واحد. فصل: ص: التوكيد اللفظي إعادة اللفظ أو تقويته بموافقه معنى، وإن كان المؤكَّد به ضميرا متصلا، أو حرفا غير جواب لم يُعَد في غير ضرورة إلا معمودا بمثل عامده أولا أو مفصولا. وإن عمد أولا بمعمول ظاهر اختير عمد المؤكِّد بضمير. وفصل الجملتين بثم إن أمن اللبس أجود من وصلهما. ش: تعم إعادة اللفظ اسما كان، معرفة كان أو نكرة، أو فعلا، أو حرفا متصلا أو منفصلا. وإعادة المركب، جملة كان أو غير جملة. فإعادة الاسم المعرفة كقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تَيَمَّمْتُ هَمْدانَ الذين همُ همُ ... إذا نابَ أمرٌ جُنَّتي وسهامي وإعادة النكرة كقول الأعشى ميمون: أبيح لهم حبُّ الحياة فأدبروا ... مَرْجاةُ نفسِ المرءِ ما في غدٍ غد وإعادة الفعل كقول الشاعر:

فأين إلى النجاة ببغلتي ... أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس وإعادة الحرف متصلا كقول الشاعر: فما الدنيا بباقيةٍ بحُزْنٍ ... أجَلْ لا لا ولا بِرخاء بالِ وإعادة الحرف منفصلا كقول الكميت: ليتَ شِعْرِي هلْ ثُمْ هل آتِيَنْهُمْ ... أم يَحُولَنْ من دونِ ذاك حِمامي وإعادة المركب غير الجملة كقول الكميت: فلتك ولاةُ السُّوءِ قد طالَ مُكْثُهم ... فَحتّام حتّامَ العناءُ المُطَوَّلُ وإعادة المركب الجملة كقول الشاعر: أيا مَنْ لستُ أقْلاه ... ولا في البُعْدِ أنْساهُ لك اللهُ على ذاك ... لك اللهُ لك اللهُ وكقول الآخر: ألا حبذا حبذا حبذا ... حبيب تحملت فيه الأذى وقولي: وتقويته بموافقة معنى" يتناول توكيد الضمير المستتر والبارز المتصل بالمنفصل، نحو: قم أنت، وقمت أنا. وتوكيد الفعل باسم الفعل كقول الشاعر: فرّتْ يهودُ وأسلمت جيرانها ... صَمِّي لما فعلت يهود صَمام

وقولي: "وإن كان المؤكد به ضميرا متصلا أو حرفا غير جواب" أشرت بذلك إلى أن قاصد توكيد نحو: تاء فعلت، بإعادة لفظه، لا غنى له عن إعادة ما هو به متصل، فتقول: فعلت فعلت، ورأيتك رأيتك، ومررت به به. وكذلك يلزم في الحرف غير المجاب به، فعلى قاصد إعادة "في" من قولك: فيك نجابة، أن يقول: فيك نجابة فيك. وعلى قاصد إعادة "إنّ" من قولك: إن زيدا منطلق، أن يقول: إن زيدا إن زيدا منطلق، وإن زيدا إنه منطلق، وإن كان مع ذلك فصل كان أحسن، كقوله تعالى: (أيعدكم أنكم إذا مِتُّم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) فأكد أنكم بأنكم مع الفصل. ويجوز أن يجعل الثاني مبتدأ، والخبر إذا متم، والجملة خبر أن الأولى، والتوكيد أجود. وليس لك أن تكرر الحرف وحده إلا إن اتصل به حرف عطف كقول الكميت: هل ثم هل، وكقول الراجز: حتى تراها وكأنّ وكأنْ ... أعناقَها مُشَدَّداتٌ في قَرَن واستثنيت حرف الجواب لأنه قائم مقام جملة، فلقاصد توكيده أن يكرره وحده كما له في الإجابة أن يجيب به وحده، كقوله: أجل أجل لا لا، ولا يكرر حرف غيره إلا في ضرورة، نص على ذلك ابن السراج في الأصول. وقد أشار الزمخشري في المفصل إلى توكيد الحرف الذي ليس من حروف الجواب بإعادته وحده، ونحو: إن إن زيدا منطلق، وقوله مردود لعدم إمام يسند إليه، وسماع يعول عليه، ولا حجة في قول الشاعر: إنّ إنّ الكريمَ يحلُم مالم ... يَرَيَنْ مَنْ أجارَهُ قد ضيما

فإنه من الضرورات، وكذا قول الآخر: فلا والله لا يُلْفى لما بي ... ولا لِلمابِهمْ أبدًا دواءُ وإلى هذا أشرت بقولي: لم يُعَد في غير ضرورة إلا معمودا بمثل عامده أولا أو مفصولا" فمن المعمود بمثل عامده أولا قول الشاعر: ليتني ليتني تَوَقَّيْتُ مُذْ أيْـ ... ـــفَعْتُ طَوْعَ الهوى وكنتُ مُنيبا والمفصول كقول الآخر: ليتَ وهلْ ينفعُ شيئا ليتُ ... ليتَ شبابا بُوعَ فاشتريت فأكد ليت بليت وفصل بينهما بـ (وهل ينفع شيئا) ليت. ومن الفصل المسموع الفصل بالوقف كقوله: لا يُنْسك الأسى تأسِّيا فما ... ما مِنْ حمامٍ أحدٌ مُعْتصِما فما ليس معمودا ولا مفصولا فهو ضرورة، نحو: إن إن الكريم، ولا للما بهم وإن كان العامل اسما ظاهرا، فالمختار أن يعمد المؤكِّد بضمير، فقولك: مررت بزيد به، أجود من قولك: مررت بزيد بزيد، ومن المختار قوله تعالى: (ففي رحمة الله هم فيها خالدون) قال ابن السراج: "إلا أن الحرف لا يكرر إلا مع ما اتصل به، لا سيما إذا كان عاملًا" ومثل بقوله: في الدار زيد قائم فيها. وقال: فيفيد "فيها" توكيدا. وقال تعالى: (وأما الذين سُعِدوا ففي الجنة خالدين فيها) فجعل فيها توكيدا، وفي الجنة مُؤَكَّدا، وكذا أقول، ومن حكم على شيء من

هذا بالبدلية فليس بمصيب، وإن حظي من الشهرة بأوفر نصيب. وإن كان المؤكَّد والمؤكِّد جملتين، وأُمِن توهم كون الثانية غير مؤكدة، فالأجود الفصل بينهما بعاطف، كقوله تعالى: (كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون) وكقوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين) فلو خيف توهم كون الثانية غير مؤكدة نحو: ضربت زيدا، ثم ضربت زيدا، ترك العاطف، لأن ذكره يخل بالتوكيد، ويوهم أن الضرب الثاني غير الأول. وقد جعل ابن السراج من التوكيد اللفظي قول الشاعر: ألا يااسْلَمى ثم اسلمى ثُمَّتَ اسلمى ... ثلاث تحيات وإن لم تكلمي ص: ويؤكَّد بضمير الرفع المنفصل المتصل مطلقا، ويجعل المنصوب المنفصل في نحو: رأيتك إياك، توكيدا لا بدلا، وفاقا للكوفيين. ش: لا خلاف بين النحويين في توكيد الضمير المتصل – مرفوعه ومنصوبه ومجروره – بضمير الرفع المنفصل، نحو: فعلت أنت، ولقيتك أنت، ومررت بك أنت. واختلف في ضمير النصب المنفصل الواقع بعد ضمير النصب المتصل، نحو: رأيتك إياك، فجعله البصريون بدلا، وجعله الكوفيون توكيدا، وقولهم عندي أصح من قول البصريين، لأن نسبة المنصوب المنفصل من المنصوب المتصل في نحو: رأيتك إياك، كنسبة المرفوع المنفصل من المرفوع المتصل في نحو: فعلت أنت، والمرفوع توكيد بإجماع، فليكن المنصوب توكيدا، ليجرى المتناسبان مجرى واحدا.

باب النعت

باب النعت ص: وهو التابع المقصود بالاشتقاق وضعا أو تأويلا، مسوقا لتخصيص أو تعميم أو تفصيل أو مدح أو ذم أو ترحم أو إبهام أو توكيد. ش: التابع يعم التوكيد والنعت والعطف والبدل، والمقصود بالاشتقاق مخرج لما سوى النعت وإن كان في الأصل مشتقا، كالأعْلام الغلبية إذا عطفت عطف بيان نحو: أبي بكر الصديق، وخويلد الصعق، فإن الصديق والصعق صفتان كثر استعمالهما مخصوصين بموصوفيهما، حتى صار التعيين بهما أكمل من التعيين بالعلم الموضوع، وصار القصد بهما وبأمثالهما كالقصد بالأعلام العارية من الاشتقاق، وما كان كذلك فاشتقاقه في تابعيته غير مقصود، بخلاف النعت فإنه مقصود الاشتقاق بالوضع، كرجل كريم، أو مقصود الاشتقاق بالتأويل كرجل ذي مال. ولو اقتصرت في الحد على وضعا أو تأويلا لكمل بهما، ولكن الحاجة داعية إلى زيادة بيان بذكر المعاني المستفادة بالنعت، فذكرتها متصلة بالحد. فالمسوق لتخصيص نحو: (الصلاة الوسطى) و: (منه آيات محكمات). والمسوق للتعميم نحو: إن الله يرزق عباده الطائعين والعاصين، ويحشر الناس الأولين والآخرين. والمسوق للتفصيل نحو: مررت برجلين عربي وعجمي. والمسوق للمدح نحو: سبحان الله العظيم. والمسوق للذم نحو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

والمسوق للترحم نحو: لطف الله بعباده الضعفاء. والمسوق للإبهام نحو: تصدقت بصدقة كثيرة أو قليلة. والمسوق للتأكيد نحو: (ومناة الثالثة الأخرى). ص: ويوافق المتبوع في التعريف والتنكير، وأمره في الإفراد وضديه، والتذكير والتأنيث على ما ذكر في إعمال الصفة. وكونه مفوقا في الاختصاص ومساويا أكثر من كونه فائقا، وربما تبع في الجر غير ما هو له دون رابط إن أمن اللبس، وقد يفعل ذلك بالتوكيد. ش: متبوع النعت يعم ذا النعت الجاري عليه لفظا ومعناه لما بعده، كرأيت رجلا طويلا ثوبه، قصيرة قامته. فلذلك قلت: ويوافق المتبوع، ولم أقل: ويوافق المنعوت، لأن المنعوت إنما يصدق حقيقة على متبع ما هو له لفظا ومعنى، لا على المتبع لفظا لا معنى، وكلا النوعين مراد. وأشرت بقولي: "وأمره في الإفراد وضديه، وفي التذكير والتأنيث على ما ذكر في الصفة المشبهة" إلى أن موافقة النعت لمنعوته تجب إن كان معناه له، كرأيت رجلا طويلا، وامرأة طويلة. وكذا إن كان معناه لما بعده ولم يرفعه، كمررت برجل كريم الأب، حسن وجها، وبامرأة كريمةِ الأب، حسنةٍ وجها. وكذا التوافق في التثنية والجمع، فإن رفع ما بعده أُفْرد، وأعطي من التذكير والتأنيث ما يعطى الفعل الواقع موقعه، نحو: مررت برجلٍ كريم أبوه، حسنةٍ أمُّه، جميلٍ ولدُه، ظريفٍ غلمانُه. وتكسير ما رفع جمعا أولى من إفراده، نحو: مررت برجل حسانٍ أبناؤه، وبسط الكلام في هذا سابق في باب إعمال الصفة المشبهة، والذي ذكرته منه هنا بعض ذلك، واستيفاؤه تكرار، فأضربت عنه. والأكثر أن يكون النعت دون المنعوت في الاختصاص أو مساويا له، فالأول نحو: رأيت زيدا الفاضل. والثاني نحو: رأيت الرجل الصالح. ولا يمتنع كونه أخص من

المنعوت كرجل فصيح، ولحّان، ومهدار، وضحاك، وأفّاك، وغلام يافع، ومُراهق. وجارية عَروب، وشَمُوع، وخَوْد، وضِناك. وماء فُرات، وأجاج. وتمر بَرْنِي، وشَهْريز. وعنب مُلاحِيّ، ورمان إمْليسي، وملح داراني، وكلب زِئْنِيّن، وأمثال ذلك كثيرة. قال أبو علي الشلوبين: الفراء ينعت الأعم بالأخص، وهو الصحيح، وحكى عنه: مررت بالرجل أخيك، على النعت. وأشرت بقولي: "وربما تبع في الجر غير ما هو له دون رابط إن أمن اللبس" إلى قولهم: "هذا جحر ضبٍّ خربٍ، وأمثاله، فحق "خرب" أن يرتفع لأنه نعت "جحر"، وجحر مرفوع، لكنه جعل تابعا لضب لمجاورته إياه مع أمن اللبس. ومثله قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب: (إن الله هو الرّزّاقُ ذو القوة المتين) بخفض المتين ومن الشواهد الشعرية في ذلك قول الشاعر: كأنما ضَرَبت قُدّام أعينها ... قُطْنا بمُسْتَحْصِد الأوتارِ مَحْلُوجِ

ومثله: تُريك سُنَّةَ وجهٍ غيرِ مقرفة ... بلساءَ ليس بها خالٌ ولا نَدَبُ ومثله: فإياكم وحَيّةَ بطنِ وادٍ ... ضموزِ النّابِ ليس له بِسِيِّ ومثله: جزى الله عني الأعْوَرَيْن مَلامة ... وعَبْدةَ ثَفْرَ الثَّورةِ المتضاجمِ ومثله: كأنَّ ثبيرا في أفانين وَدْقِه ... كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ ومثله لرؤبة: كأنّ نسْجَ العنكبوت المُرْمَلِ ... على ذُرا قُلّامِه المُهَدَّل ... سُتورُ كتان بأيدي غُزّل ونبهت بقولي: "وقد يفعل ذلك بالتوكيد" على ما أنشد الفراء من قول

الشاعر: ياصاحِ بَلِّغْ ذوي الزوجاتِ كُلِّهم ... أن ليس وصلٌ إذا انْحَلَّتْ عُرا الذَّنَب فصل: ص: المنعوت به مفرد أو جملة كالموصول بها، منعوتها نكرة أو معرف بأل الجنسية، وقد ترد الطلبية محكية بقول محذوف واقع نعتا أو شبهه، وحكم عائد المنعوت بها حكم عائد الواقعة صلة أو خبرا، لكن الحذف من الخبر قليل، ومن الصفة كثير، ومن الصلة أكثر. ويختص المنعوت بها اسم زمان بجواز حذف عائدها المجرور بفي دون وصف، ويجوز أيضا حذف المجرور بمن عائدا على ظرف أو غيره إن تعين معناه. ش: المفرد هو الأصل في الخبر والحال والنعت، والجملة الواقعة خبرا أو حالا أو نعتا نائبة عن المفرد، ومؤولة به. وتنفرد الخبرية بجواز كونها طلبية، وتنفرد الحالية بجواز اقترانها بالواو، فلهذا لم أُحل المنعوت بها عليهما، بل أحلته على الموصول بها، لأنها لا تكون طلبية، ولا تقترن بالواو. وأجاز الزمخشري اقتران الواقعة نعتا بالواو، زاعما توكيد الارتباط بالمنعوتـ وهذا من آرائه الواهية، وزعماته المتلاشية، لأن النعت مكمل للمنعوت، ومجعول معه كشيء واحد، فدخول الواو عليه يوهم كونه ثانيا مغايرا له، لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، وهذا مناف لما زعم من توكيد الارتباط. وفي قولي: كالموصول بها تنبيه على لزوم كونها خبرية ومشتملة على ضمير لائق بالمنعوت، وقد تغني عنه الألف واللام، كقول الشاعر: كأنّ حَفيف النَّبْل من فوق عَجْسِها ... عوازبُ نَحْلٍ أخطأ الغارَ مُطْنِفُ أي أخطأ غارها، فحذف الضمير، وجعل الألف واللام عوضا منه، أطنف:

بلغ أعلى الجبل. والمنعوت بالجملة نكرة نحو: (حتى تُنَزِّل علينا كتابا نقرؤه) أو مقرون بأل الجنسية نحو: (وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار) فنعت الليل بجملة، لأنه معرفة في اللفظ، نكرة في المعنى، إذ لم يقصد به ليل معين. ومثال الطلبية المحكية بقول محذوف واقع نعتا ما أنشد ثعلب من قول الراجز: فإنَّما أنت أخٌ لا نَعْدَمُه ... فأبْلنا منك بلاءً نعلمُه فلا نعدمه دعاء محكي بقول مقدر، كأنه قال: فإنما أنت فتى مقول له: لا نعدمه. ومثله قول الآخر: جاءوا بمَذْقٍ هل رأيت الذئْبَ قَطّ أي مقول عند حضوره: هل رأيت الذئب قط، والمذق: اللبن المشوب بالماء، ومراد الراجز أنه تغير بياضه لمخالطة الماء حتى صار شبيها بلون الذئب. ومثال ذلك فيما يشبه النعت قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "وجدت الناس اخبُر تَقْلَه". أي مقولا عند رؤيتهم: اخبر تقله، فحكى بقول واقع موقع مفعول ثان لوجدت، إن كانت من أخوات ظننت، وفي موضع الحال إن لم تكن منها، وكلاهما محتمل، وفي كليهما شبه النعت، فلذلك قلت: نعتا أو شبهه. وكان في قولي: كالموصول بها" تنبيه على ما تبين بقولي: وحكم عائد المنعوت بها حكم عائد الواقعة صلة أو

خبرا إلى آخر الكلام، إلا أن في التصريح زيادة بيان. ومثال الحذف من الخبر قراءة ابن عامر: (وكلُّ وعد اللهُ الحسنى) ومثال الحذف من المنعوت بها قول الشاعر: وما شيْءٌ حميتَ بمُسْتباح ومثال الحذف من الموصول بها قوله تعالى: (وإن كادوا ليَفْتِنُونَك عن الذي أوحينا إليك). وحذف المجرور العائد على اسم زمان نحو قوله تعالى: (واتَّقوا يوما لا تجزى نفسٌ عن نفس شيئا) وكقراءة عكرمة: (حينا تُمْسون وحينا تُصْبحون) ومثله: فيومٌ علينا ويومٌ لنا ... ويومٌ نُساءُ ويوم نُسَرّ فهذا عند سيبويه حذف اعتباطا، لأن الظرف يجوز معه مالا يجوز مع غيره. وعند الأخفش على حذف في وتعدي الفعل، وحذف الضمير. وإن كان المجرور مجرورا بمن، وكان عند الحذف لا يحتمل إلا وجها واحدا جاز حذفه، عائدا على ظرف أو على غير ظرف، ونحو: من شهر صمت يوما مباركا، وعندي بُرٌّ كُرٌّ بدرهم، بحذف من والعائد المجرور بها لتعيين معناه، إذ لا يحتمل إلا وجها واحدا.

ومن حذف عائد الجملة المنعوت بها قول ذي الرمة: يقعن بالسفح مما قد رأين به ... وقعا يكاد حصى المَعزاء يلتهب ومنه: عَوازبُ نَحْل أخطأ الغارَ مُطْنِف ومنه: من اليوم زوراها خليلي إنها ... ستأتي عليها حقبة لا نزورها ص: والمفرد مشتق لفاعل أو مفعول أو جار مجراه أبدا أو في حال، فالجاري أبدا كلَوْذَعِيّ وجُرْشع وصمحمح وشَمَرْدَل، وذي بمعنى صاحب وفروعه، وأولي وأولات، وأسماء النسب المقصود. والجاري في حال دون حال مطّرد وغير مطرد، فالمطرد أسماء الإشارة غير المكانية، وذو الموصولة وفروعها وأخواتها المبدوءة بهمزة وصل، ورجل بمعنى كامل أو مضاف إلى صدق أو سَوْء، وأي مضافا إلى نكرة تماثل المنعوت معنى، وكلٌّ وجدٌّ وحق مضافات إلى اسم جنس مكمل معناه للمنعوت. وغير المطرد النعت بالمصدر والعدد والقائم بمسماه معنى لازم ينزله منزلة المشتق. ويُنْصبُ أيٌّ المنعوت به حالا بعد معرفة. وما في نحو: رجل ما شئت من رجل شرطية محذوفة الجواب، لا مصدرية منعوت بها خلافا للفارسي. ش: المشتق المنعوت به كل وصف تضمن معنى فعل وحروفه، واحترز بكون اشتقاقه لفاعل أو مفعول، من المشتق لمكان أو زمان أو آلة. فالمشتق للفاعل يعم أسماء الفاعلين وأمثلة المبالغة والصفة المشبهة باسم الفاعل وأفعل المفضل به الفاعل

كأنا أعلم منك. والمشتق للمفعول يعم أسماء المفاعيل وأفعل المفضل به المفعول كأنت أنجب من غيرك. والجاري مجرى المشتق أبدا يعم الأوصاف التي وضعت موافقة لمشتقات في تضمن معاني الأفعال دون حروفها، فجرت مجرى المتضمنة معانيها وحروفها في استدامة النعت بها، فلَوْذَعِي يجرى مجرى فطن وذكي، وجُرْشُع يجرى مجرى غليظ وسمين، وصَمَحْمَح يجرى مجرى شديد، وأمثلة هذا النوع كثيرة، ولذلك أدخلت كاف التشبيه على أول ما ذكرته منها. وفروع ذي بمعنى صاحب ذوا، وذوو، وذواتا، وذوات. وأوليت فروع ذي أولي وأولات لأنهما بمعنى ذوي وذوات. وقيدت النسب بالمقصود احترازا من نحو قمري وزئني من الأسماء التي هي منسوبة في الأصل، وأغلب استعمالها دالة على أجناس دلالة مالا تعرض فيه للنسب. وجعلت أسماء الإشارة جارية مجرى المشتق في حال دون حال، لأن استعمالها غير منعوت بها أكثر من استعمالها منعوتا بها. وقيدت أسماء الإشارة بغير المكانية احترازا من "هنا" وأخواتها. وقيدت الموصولات المنعوت بها احترازا من الموصولات التي لا ينعت بها كمَنْ وما. ومن المنعوت به في حال دون حال رجل، فإنه ينعت به في حالين: أحدهما: إذا قصد به كمال الرجولية، فقولك: مررت بزيد الرجل، أي الذي كملت رجوليته، ووقوعه بهذا المعنى خبرا أكثر من وقوعه نعتا. والحال الثانية: إذا أضيف بمعنى صالح إلى صدق، وبمعنى فاسد إلى سوء، كقولك: هو رجلٌ رجلُ صدق، أو رجلٌ رجلُ سوء. ومن المنعوت به في حال دون حال "أي" فإنه ينعت به تبييا لكمال المنعوت، ولا يكون إلا نكرة، ولا بد حينئذ من إضافته إلى نكرة تماثل المنعوت لفظا ومعنى،

نحو: هذا رجل أيُّ رجل، أو معنى دون لفظ نحو: هذا رجل أيُّ فتى. فالتماثل في اللفظ لا يلزم، وإنما يلزم التماثل في المعنى، فلذلك اقتصرت عليه في المتن حين قلت: وأي مضافا إلى نكرة تماثل المنعوت معنى. ومن المنعوت به في حال دون حال: كل وجد وحق، فإنها ينعت بها للمعنى الذي نسب لأي، كقولك: زيد الرجل كل الرجل، وجد الرجل، وحق الرجل. فالنعت بهذه كلها مطرد لا يتوقف على سماع، بخلاف النعت بالمصدر وما ذكر بعده، فإن السماع فيه متبوع، واطراده ممنوع وللمصدر مزية على غيره وكذلك العدد، ويقارب فيهما الاطراد، ومن المصادر المنعوت بها رضًى وعَدْل وزَوْر وصوم وفطر، ومن النعت بالعدد قول بعض العرب: أخذ بنو فلان من بني فلان إبلا مائة، على النعت، حكاه سيبويه، وأنشد: لئن كنتَ في جُبٍّ ثمانين قامة ... ورُقّيتَ أسبابَ السماءِ بسُلّم وفي الحديث: "الناس كإبل مائة". والنعت بالقائم بمسماه معنى ينزله منزلة المشتق كمررت برجل أسد أبوه، ولبست ثوبا حريرا ملمسه، وشربت ماء عسلا طعمه، تريد ماء شديد الحلاوة، وثوبا شديد الليونة، فلو أردت أن الماء مشوب بعسل، وأن الثوب مجعول في نسجه حرير لم يجز النعت، ومن هذا النوع قول الشاعر: وليلٍ يقول الناس من ظلماته ... سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها كأنّ لنا منه بيوتا حصينة ... مُسُوحا أعاليها وسَاجا كُسُورها فأجرى مسوحا وساجا مجرى سود. ومثال نصب "أي" حالا بعد معرفة قول الشاعر: فأوْمأت إيماءً خفيا لحَبْتَر ... فلله عينا حَبْتر أيَّما فتى

وزعم أبو علي الفارسي أن "ما" في نحو: مررت برجل ما شئت من رجل، مصدرية نعت بها وبصلتها، كما ينعت بالمصدر الصريح، وليس قوله بصحيح، لأن المصدر لكونه أصل الفعل اختص بالتوكيد به، وبوقوعه نعتا وحالا، والحرف المصدري لا يؤكد به فعل، ولا يقع نعتا ولا حالا، فلو جعل نعتا في المثال المذكور لزمت مخالفة النظائر، ولو جاز أن ينعت بالحرف المصدري وصلته لجاز أن يقع موقع المصدر الصريح إذا نعت به، فكان يقال في موضع: مررت برجل رضًى، مررت برجل أن يرضى. وأيضا فإن المصدر المقدر في موضع المذكور معرفة، لأن فاعل صلتها معرفة، والمصدر المنعوت به نكرة لا يكون إلا نكرة، كرجل عدل ورضى، فبطل تقدير ما شئت مصدرا. والصحيح أن "ما" في المثال المذكور شرطية، محذوفة الجواب، ولكون "ما" شرطية حسن وقوع "مِنْ" بعدها لبيان الجنس، كقوله تعالى (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) ولو كانت مصدرية لم يحسن وقوع "من" بعدها. فصل: ص: يُفَرّق نعتُ غير الواحد بالعطف إذا اختلف، ويجمع إذا اتفق، ويُغَلّب التذكير والعقل عند الشمول وجوبا، وعند التفصيل اختيارا. وإن تعدد العامل واتحد عمله ومعناه ولفظه أو جنسه جاز الإتباع مطلقا، خلافا لمن خصص ذلك بنعت فاعلي فعلين وخبري مبتدأين. فإن عُدِم الاتحاد وجب القطع، بالرفع على إضمار مبتدأ، أو بالنصب على إضمار فعل لائق ممنوع الإظهار في غير تخصيص بوجهيه في نعت غير مؤكد، ولا ملتزم، ولا جار على مشاربه، وإن كان لنكرة يشترط تأخيره عن آخر. ش: تفريق نعت غير الواحد إذا اختلف نحو: مررت برجلين كريم وبخيل، ورغبت في الزيدين القرشي والتميمي، ومنه قول الشاعر: فوافيناهم منا بجمع ... كأُسْد الغاب مُرْدانٍ وشيب

وجمعه إذا اتفق نحو: أويت إلى رجلين كريمين، واستعنت بالزيدين القرشيين. وتغليب التذكير عند الشمول نحو: مررت بزيد وهند الصالحين. وتقول في التفصيل قاصد رجل وامرأة، مررت باثنين صالح وصالح. ومررت باثنين ذي عذرة وذي عذار، وذات عذرة وذي عذار. وتقول في تغليب العقل: اشتريت عبدين وفرسين مختارين. ومثال تعدد العامل واتحاد عمله ومعناه ولفظه: ذهب زيد وذهب عمرو العاقلان، وهذا بكر وهذا بشر الفاضلان، ورأيت محمدا ورأيت خالدا الشيخين، وعجبت من أبيك وأخيك المحسنين. ومثال اتحاد الجنس: هذا زيد وذاك عمرو الحسيبان، وذهب بكر وانطلق بشر الحازمان، ورأيت عليا وأبصرت سعيدا الماجدين، وسيق المال إلى عامر ولسالم المفضلين. فهذه الأمثلة وأمثالها جائز فيها الإتباع، وإن لم يكن العامل في اللفظ عاملا واحدا، لأن ثاني العاملين فيهما صالح لأن يعد توكيدا، وأولهما صالح للاستغناء به ولانفراده بالعمل في النعت، فيؤمن بذلك إعمال عاملين في معمول واحد. وفي كلام سيبويه ما يوهم منع جواز الإتباع عند تعدد العامل في غير مبتدأين وفاعلين، فإنه قال في: باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه لا سبيل إلى أن يكون صفة، بعد أن مثل بهذا فرس أخوي ابنيك العقلاء، ثم قال: ولا يجوز أن يجرى وصفا لما انجر من وجهين، كما لم يجز فيما اختلف إعرابه. ثم قال: وتقول: هذا عبد الله وذاك أبوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجه واحد، وهما اسمان بنيا على مبتدأين. وانطلق عبد الله ومضى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين" فمن النحويين مَنْ أخذ من هذا الكلام أن مذهبه تخصيص نعت فاعلي الفعلين وخبري المبتدأين بجواز الإتباع، والأولى أن يجعل مذهبه على وفق ما قدرته قبل، لأنه منع الاشتراك في إعراب ما انجر من وجهين، كما هو في: هذا فرس أخوي ابنيك، وسكت عن المجرورين من وجه

واحد، وعن المنصوبين من وجه واحد، فعلم أنهما عنده غير ممتنعين. ويعضد هذا التأويل قوله في: هذا عبد الله وذاك أبوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجه واحد. فإن عدم اتحاد العامل أوجب القطع بالرفع على إضمار مبتدأ، أو بالنصب على إضمار فعل، نحو: مررت بزيد، ولقيت عمرا الكريمان أو الكريمين. وكذلك إن اتحد العمل والعامل واختلف المعنى أو الجنس نحو: مررت بزيد واستعنت بعمرو، ومررت بزيد أمام عمرو. فقطع النعت الواقع بعد هذه المجرورات المختلفة وأشباهها متعين. وقولي: "بفعل لائق" نبهت به على أن بعض المواضع يليق به أمدح نحو: شكرت لزيد ورضيت عن عمرو المحسنين. وبعضها يليق به أذم نحو: أعرضت عن زيد وغضبت على عمرو الخبيثين. وبعضها يليق به أرحم نحو: رثيت لزيد وأسيت على عمرو المسكينين. وبعضها يليق به أعني، وذلك إذا كان المذكور غير متعين نحو أن تقول لذي أخوين وابنين: مررت بأخيك والتفت إلى ابنك الكبيرين. وإذا كان المضمر أمدح أوأذم أو أرحم لم يجز الإظهار، وإذا كان المضمر أعني جاز الإظهار والإضمار، وموضع تقدير أعني هو موضع التخصيص المنبه عليه بقولي: ممنوع الإظهار في غير تخصيص. ويجوز القطع بوجهيه، أي بالرفع والنصب في نعت غير مؤكد نحو: (لا تتخذوا إلهين اثنين) ولا ملتزم نحو: الشعرى العبور، ولا جار على مشاربه نحو: مررت بذلك الرجل. وما سوى نعوت هذه الثلاثة فالقطع فيها جائز على الوجهين المذكورين. وإن كان المنعوت نكرة اشترط في قطع نعته مشاركة المعرفة بتقديم نعت غير مقطوع، كقول الشاعر: وتَأوِي إلى نِسْوة عُطّل ... وشُعْثا مراضيع مثلَ السَّعالي

ومنه قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "نزلنا على خال لنا ذو مال وذو هيئة". ص: وإن كثرت نعوت معلوم أو منزل منزلته أُتبعت أو قُطعت، أو أُتبع بعض دون بعض، وقدم المُتْبع. وقد يلي النعت "لا" أو "إما" فيجب تكريرهما مقرونين بالواو، ويجوز عطف بعض النعوت على بعض. فإن صلح النعت لمباشرة العامل جاز تقديمه مبدلا منه المنعوت. وإذا نعت بمفرد وظرف وجملة قدم المفرد وأخرت الجملة غالبا. ش: إذا كثرت النعوت والمنعوت لا يتعين إلا بجميعها لزم إتباعها كقولك: ايتني برجل مسلم عربي النسب فقيه نحوي كاتب حاسب، واكسه من الثياب الجيدة الجديدة السابغة المخيطة أحسنها. فهذه النعوت المتوالية على هذا الوجه وأشباهها بمنزلة نعت واحد لا يستغنى عنه، فلا تقطع. فلو حصل التعيين بدونها جاز للمتكلم أن يتبعها، وأن يقطعها، وأن يتبع بعضا بشرط تقديم المتبع وتأخير المقطوع، والإتباع أجود. وكذلك يجوز القطع والإتباع فيما لا يحصل التعيين بدونه، إذا قصد المتكلم تنزيله منزلة ما يحصل التعيين بدونه، لتعظيم أو غيره، ومنه قول الخِرْنق: لا يَبْعَدن قومي الذين همُ ... سُمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزُر النازلين بكلِّ مُعْتَرَك ... والطيبين مَعاقد الأُزُر ويروى: والطيبون والنازلون، والطيبين والطيبون، أربعة أوجه. ومثال إيلاء النعت "لا": صحبت رجلا لا جزوعا ولا منوعا، وملكت عبدا لا ضعيفا ولا عنيفا. ومثال إيلائه "إما" قولك: لا بد من حساب إما شديد وإما يسير، فاتق النار إما

قليلا وإما كثيرا. ومثال عطف بعض النعوت على بعض قوله تعالى: (الذي خلق فسوى *والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى). ومثال تقديم النعت وجعل المنعوت بدلا قوله تعالى: (إلى صراط العزيز الحميد * الله) ومنه قول الشاعر: ولكني بُليت بوَصْل قوم ... لهم لحمٌ ومنكرةٌ جسومُ وإذا نعت بمفرد وجملة وظرف أو شبهه فالأقيس تقديم المفرد وتوسيط الظرف أو شبهه وتأخير الجملة، كقوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) وقد تقدم الجملة، كقوله تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يُحبُّهم ويُحبُّونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين). فصل: ص: من الأسماء ما ينعت به وينعت كاسم الإشارة، ونعته مصحوب أل خاصة، وإن كان جامدا فهو عطف بيان على الأصح. ومنها مالا ينعت ولا ينعت به كالضمير مطلقا، خلافا للكسائي في نعت ذي الغيبة. ومنها ما ينعت ولا ينعت به كالعلم، وما ينعت به ولا ينعت كأيّ السابق ذكرها. ش: النعت باسم الإشارة كقوله تعالى: (بل فعله كبيرهم هذا) و: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) ونعته نحو: سل هذا الماشي عن ذلك الراكب، ولا ينعت إلا بمصحوب أل، وإن كان مصحوب أل جامدا محضا كمررت بذلك الرجل، فهو عطف بيان لا نعت لأنه غير مشتق ولا مؤول بمشتق.

وأكثر المتأخرين يقلد بعضهم بعضا في أنه نعت، ودعاهم إلى ذلك اعتقادهم أن عطف البيان لا يكون متبوعه أخص منه وهو غير صحيح، فإن عطف البيان يقصد به في الجوامد من تكميل المتبوع ما يقصد بالنعت في المشتق وما جرى مجراه، فلا يمتنع أن يكون متبوع عطف البيان أخص منه، كما لا يمتنع أن يكون المنعوت أخص من النعت، وقد هدى أبو محمد بن السيد إلى الحق في هذه المسألة، فجعل ما تبع اسم الإشارة من الرجل ونحوه عطف بيان، وكذا فعل ابن جني، حكاه أبو علي الشلوبين، وهكذا ينبغي، لأن اسم الجنس لا ينعت به وهو غير تابع له، فلو كان نعتا حين يتبع الإشارة لكان نعتا حين يتبع غيره، كقولك: رأيت شخصا رجلا، وأنت لا تريد إلا كونه رجلا لا امرأة، ولا خلاف في امتناع كونه في هذه الصورة نعتا، فيجب ألا يكون في غيرها نعتا، وإلا لزم عدم النظير، أعني جعله اسما واحدا نعتا لبعض الأسماء دون بعض، مع عدم اختلاف المعنى. ومثل اسم الإشارة في أنه ينعت وينعت به الذي والتي وتثنيتهما وجمعهما، وأسماء النسب المشتقة التي يجوز أن يبدأ بها. ولا ينعت مضمر الحاضر، ولا ينعت به بإجماع، وكذا مضمر الغائب عند غير الكسائي، ولا يمتنع عنده أن ينعت، ورأيه قوي فيما يقصد به مدح أو ذم أو ترحم، ونحو: صلى الله عليه الرءوف الرحيم، وعمرو غضب عليه الظالم المجرم، وغلامك الطف به البائس المسكين. وغير الكسائي يجعل هذا النوع بدلا، وفيه تكلف. ومما لا ينعت ولا ينعت به المصدر الذي بمعنى الأمر أو الدعاء كسقيا له، لا ينعت لأنه بدل من اللفظ بالفعل، ولا ينعت به لأنه طلب، فاللام في: سقيا له، وشبهه، متعلقة بالمصدر، وهي للتبيين.

وقال سيبويه رحمه الله في بعض أبواب الحال: هذا باب ما ينصب كخبر، لأنه معرفة لا توصف ولا تكون وصفا، وذلك قولك: "مررت بكل قائما، ومررت ببعض قائما وبعض جالسا" قلت: وكل وبعض في هذا الكلام بمنزلة المضمر في أنه لا ينعت ولا ينعت به. وكون العلم يُنْعَت ظاهر، وأما كونه لا ينعت به فلأنه ليس مقيس الاشتقاق وضعا ولا تأويلا، وإن كان مشتقا في الأصل، وذلك عن قصد الاشتقاق بالنقل والغلبة، فهو في امتناع النعت به بمنزلة العلم المرتجل، فإن وقع موقعا صالحا للنعت جعل عطف بيان نحو: رضي الله عن خليفته الصديق، وعن عم نبيه العباس. ومما ينعتب به ولا يُنْعَت "أي" وكل وجد وحق السابق ذكرها في هذا الكتاب. فصل: ص: يقام النعت مقام المنعوت كثيرا إن علم جنسه، ونعت بغير ظرف وجملة، أو بأحدهما بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن أوفى، وإن لم يكن كذلك لم يقم الظرف والجملة مقامه إلا في شعر. واستغنى لزوما عن موصوفات بصفاتها فجرت مجرى الجوامد، ويعرض مثل ذلك في قصد العموم، ويكتفى بنية النعت عن لفظه للعلم به. ش: يعلم جنس المنعوت باختصاص النعت به، كمررت بكاتب راكب صاهلا، وبمصاحبة ما يعينه كقوله تعالى: (وألَنَّا له الحديدَ * أن اعملْ سابغات) وقوله تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا): (كلوا من الطيبات واعملوا صالحا): (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) فمثل هذا من الحذف

حسن كثير، لكون المنعوت معلوم الجنس، ولكون النعت قابلا لمباشرة العامل. ولكونه جملة أو شبهها لم يقم مقام المنعوت في الاختيار إلا بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن كقوله تعالى: و (إنْ من أهل الكتاب إلا لَيُؤْمِنَنَّ به قبل موته) ومن هذا النوع قول تميم العجلاني: وما الدهرُ إلا تارتانِ فمنهما ... أموتُ وأخرى أبتغي العيشَ أكْدحُ وكلتاهما قد خُطَّ لي في صحيفتي ... فلا العيشُ أهوى لي ولا الموتُ أرْوَحُ وقد تقوم "في" مقام "من" كقول الراجز: لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يَفْضُلُها في حَسَبِ وميسَم فمثل هذا أيضا لو استعمل في غير الشعر لحسن كقولك: ما في الناس إلا شَكَرَ أو كَفَر. وقد تقام الجملة مقام المنعوت دون "من" و"في" كقول الشاعر: لكم مسجدا الله المَزوران والحصى ... لكم قِبْصُه من بين أثْرى وأقْتَرا وأشرت بقولي: "واستغنى لزوما عن موصوفات بصفاتها" إلى نحو: دابة، وأبطح، وحسنة، وسيئة. وأشرت بقولي: ويعرض مثل ذلك بقصد العموم إلى مثل قوله تعالى: (ولا رطبٍ ولا يابس إلا في كتاب مبين) وقوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث

والطيب) وقوله تعالى: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) ومن هذا النوع قولك: لا متحرك ولا ساكن إلا بقدر سابق. وقد يحذف النعت للعلم به، فيكتفى بنيته، كقوله تعالى: (وكذَّب به قومك وهو الحق) أي قومك المعاندون. وكقوله تعالى: (تُدَمِّرُ كلَّ شيء بأمر ربها) أي: كل شيء سلطت عليه، أو أمرت بتدميره. وكقوله تعالى: (إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد). أي: معاد كريم، أو إلى معاد تحبه. ومن حذف النعت للعلم به قول المرقش الأكبر: ورُبَّ أسيلة الخدين بِكرٍ ... مُهَفْهَفةٍ لها فرعٌ وجيدُ أي فرع وافر، وجيد طويل. ومن نادر حذف المنعوت قول الفرزدق: إذا حارب الحجّاجُ أيَّ منافقٍ ... علاه بسيفٍ كلّما هز يَقْطع أي منافقا أيّ منافق، ومثله قول عمرو بن قميئة: لعمرُك ما نفسي بجد رشيدة ... تؤامرني سرا لأصْرِم مَرْثدا أراد: نفسي برشيدة جد رشيدة، ومثله قول ابن أبي ربيعة: إن الثَّواءَ بأرض لا أراك بها ... فاستيقنيه ثواءٌ حق ذي كدر أراد: ذو كدر حق ذي كدر.

باب عطف البيان

باب عطف البيان ص: هو التابع الجاري مجرى النعت في ظهور المتبوع، وفي التوضيح والتخصيص، جامدا أو بمنزلته. ويوافق المتبوع في الإفراد وضديه، وفي التذكير والتأنيث، وفي التعريف والتنكير، خلافا لمن التزم تعريفهما، ولمن أجاز تخالفهما، ولا يمتنع كونه أخص من المتبوع على الأصح. ش: التابع يعم التوكيد والنعت وعطف البيان وعطف النسق والبدل. والجاري مجرى النعت يخرج النعت وعطف النسق والبدل. وفي التوضيح والتخصيص يخرج التوكيد لأن من النعت ما يجاء به للتوكيد كـ: (نفخة واحدة)، فهذا النوع من النعت يصدق عليه أنه جار مجراه، فإذا ذكر التوضيح والتخصيص انعزل كل واحد منهما عن الآخر، لأن التوكيد لا يحصل به تخصيص، وإن كان يحصل به توضيح، أي زيادة تبيين. وشارك عطف البيان النعت في ظهور المتبوع، فلا يتبعان ضميرا. وقياس مذهب الكسائي جواز إتباع عطف البيان ضمير الغائب قياسا على النعت. وذكرت: "جامدا أو بمنزلته" توكيدا لإخراج النعت فإنه من جهة المعنى أشبه شيء بعطف البيان، وذلك أنك تقول لمن له ابنان طويل وقصير، واسم الطويل محمد: مررت بابنك الطويل، فيحصل التخصيص بالنعت، ولو ذكرت محمدا موضع النعت لتبين به ما تبين بالنعت، لكن النعت مشتق أو منزل منزلته، كالصعق ونحوه من الأعلام الصادقة بها العلمية بالغلبة، وهي من الصفات لكن وصفيتها بعد الغلبة غير مقصودة، وإنما المقصود بها ما يقصد بالأعلام المرتجلة من تعيين المسمى.

ولا خلاف في موافقة عطف البيان متبوعه في الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، ويتوافقان أيضا في التعريف والتنكير. وزعم الشيخ أبو علي الشلوبين أن مذهب البصريين التزام تعريف التابع والمتبوع في عطف البيان، ولم أجد هذا النقل من غير جهته، وعلى تقدير صحة النقل، فالدليل أولى بالانقياد إليه، والاعتماد عليه، وذلك أن الحاجة داعية إليه في المعرفتين فهي في النكرتين أشد، لأن النكرة يلزمها الإبهام فهي أحوج إلى ما يبينها من المعرفة، فتخصيص المعرفة بعطف البيان خلاف مقتضى الدليل، واستعماله مطلقا مذهب الفراء وغيره من الكوفيين، وهو أيضا مذهب الزمخشري، فإنه حكم بذلك في موضع من الكشاف، وهو أيضا مذهب أبي علي الفارسي، فإنه أجاز العطف والإبدال في "مقام" من قوله تعالى: (فيه آيات بينات مقام إبراهيم) فجعله عطف بيان، مع كونه معرفة وآيات نكرة، وقوله في هذا مخالف لإجماع البصريين والكوفيين، فلا يلتفت إليه. وزعم أكثر المتأخرين أن متبوع عطف البيان لا يفوقه في الاختصاص، بل يساويه أو يكون أعم منه. والصحيح جواز الأوجه الثلاثة، لأنه بمنزلة النعت، وقد تقدم في بابه أن النعت يجوز أن يكون في الاختصاص فائقا ومفوقا ومساويا، فليكن العطف كذلك، وهو مذهب سيبويه رحمه الله، فإنه أجاز في: ذا الجُمّة، من: ياهذا ذا الجمة، أن يكون عطف بيان أو يكون بدلا، وقد تقدم الكلام على أن اسم الجنس الجامد مثل: رأيت ذلك الرجل، بيان، مع أنه أقل اختصاصا من اسم الإشارة، وتبين دليل ذلك هناك. ص: ويجوز جعله بدلا، إلا إذا قرن بأل بعد منادى، أو تبع مجرورا بإضافة صفة مقرونة بآل، وهو غير صالح لإضافتها إليه، وكذا إذا أفرد تابعا لمنادى، فإنه ينصب بعد منصوب، وينصب ويرفع بعد مضموم، وجعل الزائد بيانا عطفا أولى من جعله بدلا. ش: قد تقدم أن عطف البيان لا بد من موافقته المتبوع في التعريف والتنكير،

والبدل قد يكون كذلك، وقد لا يكون، فكل عطف بيان قد يجوز جعله بدلا، إلا إذا قرن بأل بعد منادى نحو: ياأخانا الحارث. أو عطف على مجرور بإضافة صفة مقرونة بأل، وهو غير صالح لإضافتها إليه كقول الشاعر: أنا ابنُ التّاركِ البَكْريِّ بِشْرٍ ... عليه الطيرُ تَرْقُبُه وقُوعا فلا يجوز جعل الحارث ولا بشر بدلا، لأن البدل في تقدير مستقل، فيلزم من جعله بدلا تقدير مباشرة الحارث لحرف النداء، وتقدير مباشرة بشر التارك، وذلك ممتنع، والمفضي إلى الممتنع ممتنع، فتعين جعلهما عطفي بيان، ونصب الحارث لأن متبوعه منصوب، كما ينصب النعت الواقع موقعه. فلو كان الحارث تابعا لمنادى مضموم، جاز نصبه على الموضع، ورفعه على اللفظ، كما يجوز في النعت المفرد. ولو كان موضع بشر اسم صالح لإضافة التارك إليه جاز فيه العطف والإبدال، نحو: أنا ابن التارك البكري غلام القوم، فيجوز في: غلام القوم الإبدال، لأنه يجوز أن يضاف إليه التارك، لأن الصفة المقرونة بأل تضاف إلى المضاف إلى المقرون بأل، كما تضاف إلى المقرون، فتقول: عرفت الضارب غلام الرجل، كما تقول: عرفت الضارب الرجل. وإذا أفرد عطف البيان وتبع منادى نصب بعد المنصوب، نحو: ياأخانا زيدا، ونصب أو رفع بعد المضموم نحو: ياغلامُ بشرا وبشرٌ، كما يفعل بالنعت، لأنهما يجريان مجرى واحدا. ولو قصد الإبدال تعين ضم زيد وبشر، فإنهما عند قصد الإبدال في حكم ما باشر حرف النداء. وكل ما صلح للعطفية والبدلية، وكان فيه زيادة بيان، فجعله عطفا أولى من جعله بدلا، كقوله تعالى: (أو كفّارةٌ طعامُ مساكين) وكقوله تعالى: (ويُسقى

من ماء صديد) و (من شجرة مباركة زيتونة) ومن هذا قول ذي الرمة: لَمْياءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لعَسَ ... كالشمس لما بدت أو تشبه القمرا لأن الحوة السواد مطلقا، واللعس سواد يسير.

باب البدل

باب البدل ص: وهو التابع المستقل بمقتضى العامل تقديرا دون مُتبِع، ويوافق المتبوع ويخالفه في التعريف والتنكير. ولا يبدل مضمر من مضمر ولا من ظاهر، وما أوهم ذلك جعل توكيدا إن لم يفد إضرابا. فإن اتحدا معنى يمي بدل كل من كل، ووافق أيضا في التذكير والتأنيث، وفي الإفراد وضديه ما لم يقصد التفصيل، وقد يتحدان لفظا إن كان مع الثاني زيادة بيان. ولا يُتْبع ضمير حاضر في غير إحاطة إلا قليلا. ويسمى بدل بعض إن دل على بعض الأول، وبدل اشتمال إن باين الأول وصح الاستغناء به عنه ولم يكن بعضه، وبدل إضراب أو بداء إن باين الأول مطلقا وقصدا، وإلا فبدل غلط. ويختص بدلا البعض والاشتمال بإتباعهما ضمير الحاضر كثيرا، وبتضمن ضمير أو ما يقوم مقامه. ش: البدل تابع للمبدل منه، وهو مع تبعيته في تقدير المستقل بمقتضى العامل، وفي حكم تكريره، ولذلك يعاد معه العامل كثيرا نحو: (للذين استُضعفوا لمن آمن منهم) و: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله) وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنما نزل القرآن بلساني، بلسان عربي مبين" وكقول الأخطل: حوامل حاجاتٍ ثقالٍ تَجُرُّها ... إلى حسنِ النُّعْمى سَواهِمُ نُسَّلُ

وكقول الحطيئة: كفيت بهامازنا كلَّها ... أصاغرها وكفيت الكهولا ولكونه في تقدير حكم العامل منع أبو الحسن: مررت برجل قائم زيد أبوه، على البدل، وأجازه على أن يكون صفة، ولا يلزم من هذا تقدير عامل آخر إذا لم يعد العامل، كما لا يلزم ذلك في عطف النسق مع كثرة إعادة العامل معه. وتقدير عامل آخر في كل بدل مذهب ابن خروف، قال: ولذلك بني البدل المفرد على الضم بعد المنادى المضاف نحو: ياأخانا زيد. وظاهر قول سيبويه أن عامل البدل هو عامل المبدل منه، لأنه قال في بعض أبواب البدل: هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم، ثم يبدل مكان ذلك الاسم اسم آخر، فيعمل فيه كما عمل في الأول، وذلك قولك: رأيت قومك أكثرهم، ورأيت قومك ثلثهم" فهذا تصريح بأن العامل في البدل ومتبوعه واحد. ولأنه قال في بعض أبواب الحال بعد تمثيله بدخلوا الأول فالأول، وإن شئت رفعت فقلت: الأولُ فالأول، جعلته بدلا وحملته على الفعل، كأنه قال: دخل الأول فالأول. ثم قال: فإن قيل: ادخلوا، فالنصب الوجه، ولا يكون بدلا، لأنك لو قلت: ادخل الأول فالأول لم يجز. فهذا تصريح بأن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه، والأول أصرح. ولا حجة لابن خروف في لزوم ضم المفرد المبدل من المضاف، كما لا حجة لمن زعم أن عامل المعطوف غير عامل المعطوف عليه محتجا بضم زيد في نحو: ياأخانا وزيد. والجواب عنهما أن العرب التزمت في البدل والمعطوف أحد الجائزين في القياس، وهو تقدير حرف النداء، تنبيها على أنهما في غير النداء في حكم المستقل بمقتضى العامل، فلم يجز لنا أن نخالف ما التزمته. وخص المعطوف والبدل بهذا لأن المعطوف

غير المعطوف عليه، وكذا البدل إذا لم يكن بدل كل من كل، ولو لم يكن العامل في البدل والمبدل منه واحدا لزم اطراد إضمار الجار والجازم في الإبدال من المجرور والمجزوم، وذلك ممتنع، وما أفضى إلى الممتنع ممتنع. قلت: وإذا تقررت هذه القاعدة فلنعد إلى الكلام على حد البدل، فالتابع يعم التوابع الخمسة، والمستقل بمقتضى العامل تقديرا يخرج ما سوى البدل إلا المعطوف ببل ولكن، فإنه داخل تحت المستقل بمقتضى العامل تقديرا، ولكن حصول تقدير الاستقلال له يمتنع، وحصوله للبدل غير ممتنع، فلذلك قلت: دون متبع. وتبدل المعرفة من المعرفة نحو: (بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكوفيين. والنكرة من النكرة نحو: (إن للمتقين مفازا * حدائق وأعنابا) والمعرفة من النكرة نحو: (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم * صراط الله) والنكرة من المعرفة نحو: (لنسفعا بالناصية * ناصية) واشترط الكوفيون في إبدال النكرة من المعرفة اتحاد اللفظين كما هو في: الناصية وناصية. والعرب لا تلتزم ذلك، ومن الحجج عليهم قول الشاعر: ولم يلبث العصران يومٌ وليلةٌ ... إذا طلبا أن يُدْرِكا ما تَيَمَّما ومنها ما أنشد أبو زيد من قول الشاعر: فلا وأبيك خيرٍ منك إني ... ليُؤْذيني التَّحَمْحُم والصَّهيل

ويبدل الظاهر من المضمر كثيرا، ومنه قول الشاعر: على حالةٍ لو كان في القومِ حاتمٌ ... على جوده لضَنَّ بالماءِ حاتمِ ومنه: المُنْعِمون بنو حرب وقد حَدَقَتْ ... بِيَ المنيةُ واستَبْطأت أنصاري قومٌ إذا حاربوا شَدُّوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطْهار بنو حرب بدل من الضمير في "المنعمون" ولا يجوز أن يكون مبتدأ والمنعمون خبرا، لأن: وقد حدقت، حال العامل فيه منعمون، فلو جعل: بنو حرب خبر المبتدأ، لزم الإخبار عن الموصول قبل تمام الصلة. قال أبو الفتح: (وترى كلَّ أمةٍ جاثية كلَّ أمة تُدْعى) وجاز إبدال الثانية من الأول لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الأولى، لأن في الثانية ذكر السبب الداعي إلى جثوها". فهذا الكلام يدل على أن التابع إذا وافق لفظه لفظ المتبوع لا يجعل بدلا حتى يكون معطيا من المعنى بما اتصل به مالم يعطه الأول، بخلاف قول الزمخشري: بك بدل من بك. ويبدل المضمر من الظاهر نحو: رأيت زيدا إياه. والمضمر من المضمر نحو: رأيتك إياك. ولم أمثل بهذين المثالين إلا جريا على عادة المصنفين المقلد بعضهم بعضا. والصحيح عندي أن نحو: رأيت زيدا إياه، لم يستعمل في كلام العرب نثره ونظمه، ولو استعمل لكان توكيدًا لا بدلا. وأما: رأيتك إياك، فقد تقدم في باب التوكيد أن البصريين يجعلونه بدلا، وأن الكوفيين يجعلونه توكيدا، وأن قول الكوفيين عندي أصح، لأن نسبة المنصوب المنفصل من المنصوب المتصل في: رأيتك إياك،

كنسبة المرفوع المنفصل من المرفوع المتصل في: فعلت أنت، والمرفوع توكيد بإجماع، فليكن المنصوب توكيدا، فإن الفرق بينهما تحكم بلا دليل. وجعل الزمخشري من أمثلة البدل: مررت بك بك، وهذا إنما هو توكيد لفظي، ولو صح جعله بدلا لم يكن للتوكيد اللفظي مثال يخص به، وعلى هذا وأمثاله نبهت بقولي: ولا يبدل مضمر من مضمر ولا من ظاهر، وما أوهم ذلك جعل توكيدا " ثم قلت: إن لم يفد إضرابا" فنبهت بذلك على قول القائل: إياك إياي قصد زيد، إذا كان المراد: بل إياي. ثم قلت: فإن اتحدا معنى سمي بدل كل من كل" نحو: مررت بأخيك زيد. وعبرت عن هذا النوع ببدل كل من كل جريا على عادة النحويين، وهي عادة غير مطردة، فإن المراد بها أن يكون مسمى البدل والمبدل منه واحدا، فيدخل في ذلك مالا يطلق عليه كل نحو: (إلى صراط العزيز الحميد * الله) فالعبارة الجيدة أن يقال: بدل موافق من موافق، ولا بد في هذا النوع من التوافق في التذكير والتأنيث، نحو: رأيت أخاك زيدا، وجاريتك رقاش. وفي الإفراد كما سبق، وفي ضديه وهما التثنية والجمع، نحو: عرفت ابنيك المحمدين، وأصحابك الزيدين. وأشرت بقولي: مالم يقصد التفصيل إلى نحو: سألت عن أخويك زيد وعمرو. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" ومنه قول الشاعر: وكنتُ كذي رجلَيْن رجلٍ صحيحةٍ ... ورجلٍ رمى فيها الزمانُ فَشَلَّت ونبهت بقولي: "وقد يتحدان لفظا إن كان مع الثاني زيادة بيان" على قراءة

يعقوب: (وترى كلَّ أمة جاثية كلَّ أمة تدعى إلى كتابها) وإلى قول ابن جني: جاز إبدال الثانية من الأولى لأن في الثانية ذكر سبب الجثو، قلت ومثل هذا قول الشاعر: رويد بني شيبانَ بعض وعيدكم ... تلاقوا غدًا خيلي على سَفَوان تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غَدَتْ في المأزِق المُتداني تُلاقُوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنتْ فيهم يد الحدثان وقد يقع بدل التفصيل بلفظ بعض، كقولك: ضربت الناس بعضهم قائم وبعضهم قاعدا. وإبدال الظاهر الدال على الإحاطة من ضمير الحاضر كثير، لتنزله منزلة التوكيد بكل، فمن ذلك قوله تعالى: (تكونُ لنا عيدا لأولنا وآخرنا) فلأولنا وآخرنا بدل من الضمير في لنا، وقد أعيد معه العامل مقصودا به التفصيل، ومثله قول عبيدة بن الحارث رضي الله عنه: فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مقامنا ... ثلاثتِنا حتى أُزيرا المَنائيا فلو لم يكن في البدل من ضمير الحاضر معنى الإحاطة جاز على قلة ولم يمتنع، كما زعم غير الأخفش. والدليل على ثبوته قول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفرٌ من الأشعريين". ومثله قول الشاعر:

وشوهاءَ تعدو بي إلى صارخ الوغى ... بمُسْتَلْئمٍ مثل الفَنيقِ المُرَحَّل ومثله: بكم قُريشٍ كُفينا كلَّ مُعْضِلةٍ ... وأمَّ نهجَ الهدى من كان ضِلِّيلا ويسمى البدل بدل بعض من كل إن دل على بعض ما دل عليه الأول، نحو: مررت بقومك ناس منهم، وصرفت وجوهها أولها. ومنه على أجود أحد الوجهين قوله تعالى: (ولله على الناس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا). ويسمى بدل استمال إن باين الأول، أي إن لم يكن بدل كل، فدخل في ذلك بدل البعض وبدل الإضراب والغلط، فخرج بدل البعض بقولي: "ولم يكن بعضه" وخرج بدل الإضراب والغلط بقولي: وصح الاستغناء به" فخلصت العبارة للمسمى بدل اشتمال. وهو إما مصدر دال على معنى قائم بمسمى المبدل منه، كعجبت من زيد حلمه، أو صادر عنه كعجبت منه قراءته، أو واقع فيه مثل: (يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه) أو واقع عليه كدُعيَ زيدٌ إلى الطعام أكله، وإما على ملابس صالح للاستغناء عنه بالأول كـ: (قُتِل أصحابُ الأخدودِ * النارِ) وصلاحيته للاستغناء بالأول شرط في هذه الأمثلة كلها وما أشبهها، ومذهب الزجاجي جعل (النار ذات الوقود) بدل إضراب، وليس ما ذهب إليه بصحيح، لأنه لا يحسن أن يقدر ببل ولكن، والإضراب في المعنى ترك للمضرب عنه، والأخدود غير متروك المعنى. فإن كان الملابس لا يغني عنه الأول كالأخ والعم، وحكى له بدلا، فهو بدل إضراب أو غلط، كقولك: عجبت من زيد أخيه، وانطلقت إلى عمرو عمه. ومن

شواهد بدل البعض قول الشاعر: وهمْ ضربوكَ ذات الرأس حتى ... بدت أمُّ الدِّماغ من العظام ومنه قول الآخر: رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي ... ... يشتهيها ومن شواهد بدل الاشتمال قول الشاعر: ذريني إنّ أمركِ لن يُطاعا ... وما ألْفيتِني حِلمي مُضاعا ومنها قول رؤبة: أقْحَمني في النَّفْنف النَّفْناف ... قولُك أقوالا مع التِّحْلاف ... فيها ازدِهافٌ أيَّما ازدِهاف وقولي: يسمى البدل بدل إضراب أو بداء إن باين الأول مطلقا وقصدا" نبهت به على أن من البدل ما يجرى مجرى المعطوف ببل، كقولك: أعط السائل رغيفا درهما، أمرت له برغيف، ثم رق قلبك عليه. فأضربت عن الرغيف، وأبدلت منه الدرهم، وهذا النوع مقصود فيه الأول والثاني كالناسخ والمنسوخ، ولو جعل بينهما بل لكان حسنا، ولكن يزول عنه ببل إطلاق البدل، لأن البدل تابع بلا متبع. وبدل البداء كبدل الإضراب لفظا ومعنى. وقولي: "إن باين الأول مطلقا" أشرت به إلى أن البدل كله مباين بوجه، فبدل الكل مباين لفظا موافق معنى. أو متحدان لفظا متباينان معنى بزيادة بيان، كقراءة

يعقوب: (وترى كلَّ أمة جاثية كلَّ أمة تدعى إلى كتابها). وبدلا البعض والاشتمال متباينان لفظا ومعنى، لكن بينهما وبين متبوعهما ملابسة تجعلهما في حكم المتحدين، فالمباينة فيما بينهما مقيدة لا مطلقة، بخلاف بدل الإضراب فإنه مباين لفظا ومعنى، ولا ملابسة بينه وبين المتبوع، فكان التباين بينهما مطلقا لا مقيدا. وإن كان الأول عاريا من القصد كقولك وقد رأيت زيدا لا عمرا: رأيت عمرا زيدا، فبدل غلط وذكر بل أيضا هنا حسن. ويختص بدلا البعض والاشتمال بإتباعهما ضمير الحاضر كثيرا نحو: ألفيتني حلمي مضاعا ويختصان أيضا بتضمنهما ضميرا عائدا على المبدل منه نحو: ضربت زيدا رأسه، وأعجبتني الجارية حسنها. وقد يستغنى عن لفظ الضمير بظهور معناه نحو: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وقول الشاعر: لقد كان في حول ثواءٍ ثويتَه ... تُقَضَّى لُباناتٌ ويسأمُ سائمُ ويجوز البدل بالألف واللام كقولك: ضربوك ذات الرأس. ومنه على أحد الوجهين قوله تعالى: (جناتِ عدْنٍ مُفَتَّحةً لهم الأبوابُ) ومنه قول الراجز: غمرتَ بالإحسان كلّ الناس ... ومنْ رجاك آمِنٌ مِنْ ياس ومن الاستغناء عن الضمير بالألف واللام قوله تعالى: (قُتِل أصحاب

الأخدود * النار ذات الوقود). فصل: ص: المُشْتَمِل في بدل الاشتمال هو الأول، خلافا لمن جعله الثاني والعامل، والكثير كون البدل معتمدا عليه، وقد يكون في حكم المُلْغَى. وقد يُسْتَغنى في الصلة بالبدل عن لفظ المبدل منه، ويقرن البدل بهمزة الاستفهام إن تضمن متبوعه معناها. وقد تبدل جملة من مفرد. ويبدل فعل من فعل موافق في المعنى مع زيادة بيان. وما فُصِّل به مذكور وكان وافيا ففيه البدل والقطع، وإن كان غير واف تعين قطعه إن لم ينو معطوف محذوف. ويبدأ عند اجتماع التوابع بالنعت، ثم بعطف البيان، ثم بالتوكيد، ثم بالبدل، ثم بالنسق. ش: مذهب الفارسي كون المشتمل هو الأول، ومذهب غيره أنه التابع، وظاهر قول المبرد أنه العامل. ومذهب الفارسي هو الصحيح، لأن الثاني والثالث لا يطردان، لأن من بدل الاشتمال: أعجبني زيد كلامه وفصاحته، وكرهت عمرا ضجره، وساءني خالد فقره وعرجه. فالثاني في هذا وأمثاله غير مشتمل على الأول، فلم يطرد كون الثاني مشتملا. وأما عدم اطراد الثالث فظاهر، لأن من جملة بدل الاشتمال: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) والعامل فيه ليس مشتملا على المتبوع والتابع. والكثير كون البدل مُعتمدا عليه بما تدعو الحاجة إليه من خبر وغيره، كقولك: إن الجارية هندا حُسْنَها فائق، وإن زيدا نجابته بينة، وكقول الشاعر: وما كان قيسٌ هُلكهُ هُلْكَ واحدٍ ... ولكنه بنيانُ قومٍ تَهدّما ويقل الاعتماد على المبدل منه وجعل البدل في حكم الملغى، كقول الشاعر:

فكأنه لَهِقُ السَّراة كأنه ... ما حاجبَيْه مُعَيَّنٌ بِسَواد فجعل حاجبيه وهو بدل في حكم ما لم يذكر، فأفرد الخبر، ولو جعل الاعتماد على البدل لثني الخبر، كما تقول: إن زيدا يديه منبسطتان بالخير، ولو جعلت البدل في حكم الملغى لقلت: إن زيدا يديه منبسط بالخير. ومثل: كأنه ما حاجبيه معين، قول الآخر: إن السيوف غدوَّها ورواحَها ... تركت هوازنَ مثلَ قَرْن الأعْضَب فجعل الخبر للسيوف، وألغى غدوها ورواحها، ولو لم يلغهما لقال: تركا، كما تقول: الجارية خَلْقُها وخُلُقها سيان. ومن الاعتماد على المبدل منه وجعل البدل في حكم الملغى قولك: زيد عرفت أخاه عمرا، وجاء الذي رغبت فيه عامرٍ. وقد يستغنى في الصلة عن لفظ المبدل منه كقولك: أحسن إلى الذي وصفت زيدا، بالنصب على الإبدال من الهاء المقدرة، وبالجر على الإبدال من الذي، وبالرفع على جعله خبر مبتدأ. ويجب اقتران البدل بهمزة استفهام إن تضمن المبدل منه معناها كقولك: كيف زيد، أمريض أم صحيح؟ وما عندك، أدرهم أم دينار؟ وكم دراهمك، أعشرون أم ثلاثون؟ وتبدل جملة من مفرد كقولك: عرفت زيدا أبو مَنْ هو. أي عرفت زيدا أبوته، ومنه قول الشاعر:

لقد أذْهلتني أمُّ سَعْد بكلمة ... تصبر ليوم البينِ أم لسْتَ تصْبرُ فالجملة الاستفهامية التي بعد "كلمة" بدل منها، لأن الكلمة هنا بمعنى الكلام، ومنه قول الآخر: إلى اللهِ أشكو بالمدينة حاجةً ... وبالشام أخرى كيف يَلْتقيان قال أبو الفتح بن جني: كيف يلتقيان بدل من حاجة، كأنه قال: إلى الله أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما. ومن إبدال الجملة من المفرد قوله تعالى: (ما يُقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) فإن وما عملت فيه بدل من "ما" وصلتها، على تقدير: ما يقال لك إلا إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم. وجاز إسناد يقال إلى إن وما عملت فيه، كما جاز إسناد قيل إليهما في قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق) ومن إبدال الجملة من المفرد: (هل هذا إلا بشرٌ مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) قال الزمخشري: وهذا الكلام كله في محل النصب بدلا من النجوى. ومن إبدال الجملة من المفرد قول أبي زبيد الأسدي: لما دنا مني سمعت كلامه ... من أنت لاقيت أمر سرور ويبدل فعل من فعل موافق له في المعنى مع زيادة بيان، كقوله تعالى: (ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) وكقول الشاعر:

متى تأتنا تُلْمم بنا في ديارنا ... تَجِدْ حَطبًا جَزْلا ونارا تأججا ومنه: إنّ عليّ اللهَ أن تبايعا ... تُؤخذَ كرها أو تجيءَ طائعا وإذا قصد تفصيل مذكور بما هو صالح للبدلية، وكان وافيا بآحاد المذكور جاز البدل والقطع، كقول الشنفري: ولى نحوكم أهْلون سِيدٌ عَمَلّس ... وأرْقَطُ زُهْلُول وعرفاءُ جَيْألُ فلك في "سيد" وما بعده أن تجعله بدلا من "أهلون" ولك أن تقطعه على إضمار مبتدأ. فلو كان المفصل غير واف بآحاد المذكور تعين القطع على الابتداء وجعل الخبر "مِنْ" وضميرا مجرورا بها كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا الموبقاتِ، الشركُ بالله والسحرُ" ومثل هذا قوله تعالى: (فيه آياتٌ بينات مقامُ إبراهيم) أي منها مقام إبراهيم. ويروى: اجتنبوا الموبقات، الشركَ بالله والسحرَ بالنصب على البدل وحذف معطوف، والتقدير: اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر وأخواتهما، وجاز الحذف لأن الموبقات سبع ثبتت في حديث آخر، واقتصر هنا على ثنتين تنبيها على أنهما أحق بالاجتناب.

ويبدأ اجتماع التوابع بالنعت لأنه كجزء من متبوعه، ثم بعطف البيان لأنه جار مجراه، ثم بالتوكيد لأنه شبيه بعطف البيان في جريانه مجرى النعت، ثم بالبدل لكونه تابعا كلا تابع، لكونه كالمستقل، ثم بعطف النسق لأنه تابع بواسطة، فيقال: مررت بأخيك الكريم محمد نفسه رجل صالح ورجل آخر، والله أعلم.

باب المعطوف عطف النسق

باب المعطوف عطف النسق ص: وهو المجعول تابعا بأحد حروفه، وهي الواو والفاء وثم وحتى وأم وأو وبل ولا، وليس منها لكن وفاقا ليونس، ولا "إما" وفاقا له ولابن كيسان وأبي علي، ولا "إلا" خلافا للأخفش والفراء، ولا "ليس" خلافا للكوفيين، ولا "أي" خلافا لصاحب المستوفى. ش: المجعول تابعا يعم الأقسام الخمسة، وتقييد الجعل بأحد الحروف مخرج للأربعة، وقاصر العبارة على لامقصود، وهو المعطوف عطف النسق. والضمير في قولي: "بأحد حروفه" عائد على النسق. وذكرتها الآن متتابعة عارية من شرح معانيها وبيان أحكامها لتحفظ جملة، ويعلم منها المجمع عليه والمختلف فيه، فنفيت أن يكون منها لكن موافقا ليونس، فإنها عنده حرف استدراك لا حرف عطف، فإن وليها مفرد معطوف، فعطفه بواو قبلها لا يستغنى عنها إلا قبل جملة مصرح بجزأيها، نحو: ما قام سعد ولكن سعيد، ولا تزر زيدا ولكن عمرا، ولو كانت عاطفة لاستغنى بها عن الواو، كما استغنى ببل وغيرها. وما يوجد في كتب النحويين من نحو: ما قام سعد لكن سعيد، ولا تزر زيدا لكن عمرا، فمن كلامهم لا من كلام العرب، ولذلك لم يمثل سيبويه في أمثلة العطف إلا بولكن، وهذا من شواهد أمانته، وكمال عدالته، لأنه لا يجيز العطف بها غير مسبوقة بواو، وترك التمثيل به لئلا يعتقد أنه مما استعملته العرب. ومع هذا ففي المفرد الواقع بعد ولكن إشكال، لأنه على ما قررته معطوف بالواو، مع أنه مخالف لما قبلها، وحق المعطوف بالواو أن يكون موافقا لما قبلها، فالواجب أن يجعل من عطف الجمل، ويضمر له عامل، كأنه قال: ما قام سعد ولكن قام سعيد، ولا تزر زيدا ولكن زر عمرا، لأن الجملة المعطوفة بالواو يجوز كونها موافقة ومخالفة، فالموافقة نحو: قام زيد وقام عمرو،

والمخالفة نحو: قام زيد ولم يقم عمرو. ونفيت أن تكون "إما" حرف عطف لأنها أيضا لا يليها معطوف إلا وقبلها الواو، كقوله تعالى: (حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة) فالعطف بالواو لا بها، لأن عطفية الواو إذا خلت من إما ثابته، وعطفية إما إذا خلت من الواو منتفية، والأصل استصحاب ثبوت ما ثبت ونفي ما نفي. وأيضا فإن توسط الواو بين إما وإما كتوسطها بين لا ولا في نحو: زيد لا بخيل ولا جبان، والعطف قبل "لا" بالواو بإجماع، فيكن بها قبل إما ليتفق المتماثلان ولا يختلفا. ومن زعم أن إما عاطفة فله شبهتان: إحداهما أن الواو قد تحذف ويستغنى بإما كقول الشاعر: ياليتما أمنا شالتْ نعامتها ... إما إلى جَنَّةٍ إما إلى نار وكقول الراجز: لا تُتْلفوا آبالكم ... إمالنا وإمالكم الثانية: أنّ أو تعاقبها، كقراءة أبي رضي الله عنه: (وإنا أو إياكم لإما على هدى أو في ضلال مبين) وأو عاطفة بإجماع، فلتكن إما كذلك، ليتفق المتعاقبان ولا يختلفا. والجواب عن الأولى أن ذلك معدود من الضرورات النادرة، فلا اعتداد به. ومن يرى أنها عاطفة فلا يرى إخلاءها من الواو قياسا على ما ندر من ذلك، فلا يصح استناده إليه، واعتماده عليه.

والجواب عن الشبهة الثانية أن المعاقبة التي في: قام إما زيد وإما عمرو، وقام إما زيد أو عمرو. شبيهة بالمعاقبة التي في: لا تضرب زيدا ولا عمرا، ولا تضرب زيدا أو عمرا، ولا خلاف في انتفاء تأثيرها مع لا، فليكن منتفيا مع إما، ليتفق المتماثلان ولا يختلفا. وأجاز الأخفش العطف بإلا، وحمل عليه قوله تعالى (لئلا يكون للناس عليكم حجةٌ إلا الذين ظلموا منهم) واستشهد على ذلك بقول الشاعر: وأرى لها دارا بأغدرة الـ ... سيدان لم يدرس لها رسم إلا رمادا هامِدا دفعت ... عنه الرياحَ خَوالدٌ سُحْمُ قال الأخفش: وأرى لها دارا ورمادا، وقال الفراء في قوله تعالى: (لا يخافُ لديّ المُرسَلون* إلا من ظَلَم) وقال بعض النحويين: إلا بمعنى الواو، أي لا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم ثم بدّل حُسْنا بعد سُوء، واستبعد ذلك، وأجاز أن يكون إلا بمعنى الواو في نحو: له عندي ألف إلا ألف آخر، وفي قوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك). قلت: ولا يلزم كون إلا بمعنى الواو في شيء من هذه المواضع لإمكان الاستثناء فيها، وإمكانه في الآية بأن يكون التقدير: إلا ظلم الذين ظلموا وعنادهم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما تقول: لا بكاء في الدار إلا من لا يحزن. ويجوز كون إلا بمعنى لكن، والذين مبتدأ، وخبره فلا تخشوهم واخشوني، وعلى هذا يحمل: (إلا مَنْ ظلم ثم بدل حُسْنا بعد سُوء فإني غفور رحيم)

وكذا: له عليّ ألف إلا ألف آخر، أي: لكن ألف آخر له على، فأبقى المبتدأ وصفته، وحذف الخبر. وأما: إلا رمادا، فاستثناء محقق لأنه وصف الرماد بالهمود ودفع الأثاني عنه الرياح المترددة عليه، وفي هذا إشعار بأنه درس بعض الدروس. وأما: إلا ما شاء ربك فاستثناء محقق من فيها، لأن لأهل النار أنواعا من العذاب غير النار، مما وصف لنا ومما لم يوصف، فإلى ذلك أشير بإلا ما شاء ربك، وكذلك أهل الجنة لهم أنواع من النعيم غير الجنة، مما وصف لنا ومما لم يوصف، فإلى ذلك أشير، والله أعلم. وأجاز الكوفيون استعمال "ليس" حرفا عاطفا فيقولون: قام زيد ليس عمرو، كما يقال: قام زيد لا عمرو. ومن أجود ما يحتج لهم به قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "بأبي شبيه بالنبي ليس شبيه بعلي" كذا ثبت في صحيح البخاري برفع شبيه، كما يقال: بأبي شبيه بالنبي لا شبيه بعلي. ومما يحتج لهم به أيضا قول الراجز: أينَ المفرُّ والإلهُ الطالب ... والأشرمُ المغلوبُ ليس الغالبُ كما يقال: والأشرم المغلوب لا الغالب. وهذا التنظير لا يلزم، لإمكان غيره مما لا خلاف في جوازه، وذلك لأنه يجوز أن يكون خبر كان وأخواتها ضميرا متصلا، ثم يحذف منويا ثبوته، كما يفعل إذا كان الضمير مفعولا به، فيقال: صديقك إني كنته، ثم يترك الضمير من اللفظ تخفيفا فيقال: صديقك إني كنت، كما يقال: صديقك إني أكرمت، فكذلك يقدر قول أبي بكر رضي الله عنه: ليسه شبيه بعلي، فيجعل "شبيه" اسم ليس، والهاء خبرها محذوفا، واستغنى بنيته عن لفظه، قال الشاعر: فأطعَمَنا من لحمها وسَديفها ... شواءً وخيرُ الخيرِ ما كان عاجلُه

وقول الآخر: معينك إني ما برحت فلا تزلْ ... معيني على ما مِلامُور أروم أراد الأول: ما كانه عاجله، وأراد الثاني: ما برحته، فحذفا الضميرين ونوياهما. والتقدير في: ليس الغالب: ليسه الغالب، والضمير ضمير الأشرم، وهو خبر ليس، واسمها الغالب. وأجاز أبو علي أن يكون من هذا القبيل قول الشاعر: عدوُّ عينيك وشانِيهما ... أصبحَ مشغولٌ بمشغول على تقدير: أصبحه مشغول بمشغول. ومما يجوز أن يكون من هذا قول أبي أمامه رضي الله عنه: "يا نبي الله أو عصى كان آدم". وجعل صاحب المستوفى "أي" التفسيرية حرف عطف في نحو: مررت بغضنفر أي أسد، ونهيتك عن الونى أي الفتور. والصحيح أنها حرف تفسير، وما يليها من تابع عطف بيان موافق ما قبلها في التعريف والتنكير. وجعلها حرف عطف يستلزم مخالفة النظائر من وجهين: أحدهما: أن حق حرف العطف المعطوف به في غير توكيد أن يكون ما بعده مباينا لما قبله، نحو: مررت بزيد وعمرو، وما بعد أي بخلاف ذلك. الثاني: أن حق حرف العطف المعطوف به غير صفة ألا يطرد حذفه، وأي بخلاف ذلك، فإن لك أن تقول في: مررت بغضنفر أي أسد: مررت بغضنفر أسد، ويستغنى عن "أي" مطردا، ولا يجوز ذلك في شيء من المعطوفات، فالقول بأن أي حرف عطف مردود، وباب ما أخذ به مسدود. ص: فالستة الأوائل تشترك لفظا ومعنى، و"بل" و"لا" لفظا لا معنى، وكذا "أم" و"أو" إن اقتضيا إضرابا. وتنفرد الواو بكون متبعها في الحكم محتملا للمعية برجحان، وللتأخر بكثرة، وللتقدم بقلة، وبعدم الاستغناء عنها في عطف مالا يستغنى عنه، ويجوز أن يُعطف بها بعض متبوعها

تفصيلا، وعامل مُضْمَر على عامل ظاهر يجمعهما معنى واحد. وإن عطفت على منفي غير مستثنى ولم يقصد المعية وليتها "لا" مؤكدة، وقد تليها زائدة إن أمن اللبس. ش: تشريك الواو والفاء وثم وحتى لفظا ومعنى مجمع عليه، وكذا تشريك بل ولا لفظا لا معنى، ومثلهما لكن عند غير يونس، وكثير في كلام النحويين جعل أم وأو مشركين لفظا لا معنى. والصحيح أنهما يشركان لفظا ومعنى مالم يقتضيا إضرابا، لأن القائل: أزيد في الدار أم عمرو؟ عالم بأن الذي في الدار هو أحد المذكورين، وغير عالم بتعينه، فالذي بعد أم مساوٍ للذي قبلها في الصلاحية لثبوت الاستقرار في الدار وانتفائه، وحصول المساواة إنما هو بواسطة أم، فقد شركتهما في المعنى، كما شركتهما في اللفظ. وكذلك أو مشركة لما بعدها وما قبلها فيما يجاء لأجله من شك أو تخيير وغيرهما. وقد تقع موقع الواو على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فيكون حكمها حينئذ حكم ما وقعت موقعه. ويأتي الكلام على بل ولا إن شاء الله تعالى، وكذا يأتي الكلام على أم وأو الموافقتين في الإضراب. والمعطوف بالواو إذا عري من القرائن احتمل المعية احتمالا راجحا، والتأخر احتمالا متوسطا، والتقدم احتمالا قليلا، ولذلك يحسن أن يقال: قام زيد وعمرو معه، وقام زيد وعمرو بعده، وقام زيد وعمرو قبله، فتؤخر عمرا في اللفظ وهو متقدم في المعنى، ومنه قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تُبّع والذين من قبلهم) وقوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله) في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة. ومن عطف المقدم على المؤخر قول أبي العيال الهذلي:

حتى إذا رجبٌ تولى وانقضى ... وجُماديان وجاء شهرٌ مقبل شعبانُ قدرنا لوقت رحيلهم ... سبعا يُعَدّ لها الوفاء فيكمل ومنه قول الفرزدق: وما نحن إلا مثلُهم غيرَ أننا ... بقينا قليلا بعدهم وتقدموا ومنه قول جرير: راح الوفاق ولم يَرُح مرار ... وأقام بعد الظاعنين وساروا ومنه قول الآخر: وإني لأرضى منك ياليل بالذي ... لو أبصره الواشي لقرّت بلابله بلا وبألا أستطيع وبالمنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله ومنه قول أبي الصَّلت: سدت عثمانث يافعا ووليدا ... ثم سدت الملوك قبل المشيب وقد اجتمع عطف المقدم على المؤخر، وعطف المؤخر على المقدم في قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) ومن عطفها بقصد المعية قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل). ونسب قوم إلى الفراء أن الواو مرتبة، ولا يصح ذلك، فإنه قال في معاني سورة

الأعراف: فأما الواو فإن شئت جعلت الآخر هو الأول، والأول هو الآخر، فإذا قلت: "زرت عبد الله وزيدا، فأيهما شئت كان هو المبتدأ بالزيارة" وهذا نصه، وهو موافق لكلام سيبويه وغيره من البصريين والكوفيين. ونبهت بقولي: "بعدم الاستغناء عنها في عطف مالا يستغنى عنه" على أنه لا يقوم مقام الواو غيرها في نحو: اختصم زيد وعمرو، ولا في نحو: هذان زيد وعمرو، وإن إخوتك عبد الله ومحمدا وأحمد نجباء. ونبهت بقولي: "ويجوز أن يعطف بها بعض متبوعها تفصيلا" على نحو: (ورسله وجبريل وميكال) و: (على الصلوات والصلاة الوسطى). وبقولي: "وعاملٌ مضمر على عامل ظاهر يجمعهما معنى واحد" على نحو قوله تعالى: (والذين تَبَوَّءوا الدار والإيمان) فإن أصله: تبوءوا الدار واعتقدوا الإيمان، فاستغنى بمفعول اعتقدوا عنه، وهو معطوف على تبوءوا، وجاز ذلك لأن في اعتقدوا وتبوءوا معنى لازم، واستصحب بهذا معنى قولي: "يجمعهما معنى واحد". ومن هذا القبيل قوله تعالى: (فأجْمعوا أمركم وشركاءكم) لأن أجمع لا يوقع على الشركاء وشبهه من الأشخاص، وإنما يوقع على الأمر والكيد وشبههما من المعاني. ومن هذا القبيل قول الشاعر: إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يوما ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا فاستغنى بمفعول كحَّلْن عنه، وهو معطوف على زججن، وجاز ذلك، لأن في زجَّج وكَحَّل معنى حَسَّنَ، وأمثال ذلك كثيرة.

وإن عطف بالواو على فعل منفي غير مستثنى، ولم يقصد المعية، وليتها "لا" مؤكدة، نحو قوله تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) فبذكر "لا" علم نفي التقريب عن الأموال والأولاد مطلقا، أي في افتراق وفي اجتماع، ولو تركت لاحتمل أن يكون المراد نفي التقريب عند الاجتماع لا عند الافتراق، وذلك أنك إذا قلت: ما قام زيد ولا عمرو، فبذكر "لا" يعلم نفي القيام من زيد وعمرو مطلقا، أي في وقت واحد، وفي وقتين، وبالنسبة إلى أحدهما دون الآخر، وبتركها يحتمل نفي القيام عنهما في وقت واحد، وفي وقتين، ونفيه عن أحدهما دون الآخر. إلا أن الأولى عند الترك قصد المعية، فإن كانت المعية مفهومة ببعض الجملة كاستوى جاز أن تزاد "لا" توكيدا للنفي المتقدم، لأن اللبس مأمون، كقوله تعالى: (وما يستوي الأعمى والبصير، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا المسيء قليلا) فلا قبل المسيء زائدة، وكذا التي قبل النور والحرور في فاطر. وقيدت المنفي بكونه غير مستثنى احترازا من نحو: قاموا إلا زيدا وعمرا، فإنه بمعنى: قاموا لا زيد ولا عمرو، فالواو فيه عاطفة على منفي في المعنى، لكنه لا يعرض فيه لبس تزيله "لا"، فاستغنى عنها. ص: ويقال في "ثُمّ" فُمّ، وثُمّتَ، وثُمّتْ. وتشركها الفاء في الترتيب، وتنفرد ثم بالمهلة، والفاءُ العاطفةُ جملةً أو صفة بالسببية غالبا، وقد تكون معها مهلة. وتنفرد أيضا بعطف مفصل على مجمل متحدين معنى، وبتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة أو صفة أو خبر. وقد تقع موقع ثم، وثم موقعها. وقد يحكم على الفاء وعلى الواو بالزيادة وفاقا للأخفش. وقد تقع ثم في عطف المقدم بالزمان اكتفاء بترتيب اللفظ.

ش: قول من قال "فُمَّ" هو من إبدال الثاء فاء، كقولهم في الجدث: جدف، وفي الغاثور: غافور. وزيادة التاء مفتوحة وساكنة كزيادتهما في "رب" ومن ذلك قول الأسود بن يعفر: بُدِّلْتُ شَيْبا قد علا لِمَّتي ... بعد شباب حَسَنٍ مُعْجِب صاحَبْتُه ثُمَّتَ فارقتُهُ ... ليت شبابي ذاك لم يذهبِ وحق المعطوف بها أن يكون مؤخرا بالزمان مع مهلة، وحق المعطوف بالفاء أن يكون مؤخرا بلا مهلة. ومن ذلك: أن جبريل عليه السلام نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعطف بالفاء المتأخر بلا مهلة، وبثم المتأخر بمهلة. والغالب في الجملة المعطوفة بالفاء أن يكون معناها متسببا عن معنى الأول نحو: (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) و: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) (ووُضِعَ الكتابُ فترى المجرمين مشفقين) و: (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) و: (فوكزه موسى فقضى عليه) (وظن داود أنما فتَنّاه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له) و: (وأخذ الذين ظلموا الصيحةُ في ديارهم جاثمين)

(فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) ونحو: (ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) ونحو: (ونفخ في الصور فصَعِق مَنْ في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله). أو تكون بين مفصل ومجمل متحدي المعنى نحو: (فأزَلّهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) ونحو: (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) ونحو: (فعَمِيَتْ عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون) ونحو: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب) ونحو: (إنا أنشأناهن إنشاءً * فجعلناهن أبكارا * عُرُبا أترابا). وقد يعطف بها لمجرد الترتيب في الجمل نحو: (فراغَ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم) ونحو: (لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك) ونحو: (فأقبلت امرأتُه في صَرّة فصَكَّتْ وجهها). وفي الصفات نحو: (ثم إنكم أيها الضّالون المكذِّبون * لآكلون من شجر من زقُّوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم) ومنه قول الشاعر: ياوَيْحَ زَيّابة للحارث الصـ ... ابح فالغانم فالآئبِ

كأنه قال: صبح فغنم فآب. وقد يكون مع السببية مهلة، كقوله تعالى: (ألمْ تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة). وتنفرد الفاء أيضا بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة أو صفة أو خبر أو حال، نحو: الذي يطير فيغضب زيدٌ الذبابُ، ومررت برجل يبكي فيضحك عمرو، وخالد يقوم فيقعد بشر، كل هذا جائز بالفاء، ولو جيء فيه بدلها بالواو لم يجز، لأن حق المعطوف بالواو على صلة أو صفة أو خبر أن يصلح لما صلح له المعطوف عليه، والجملة العارية من ضمير الموصول والموصوف والمخبر عنه لا تصلح للوصل بها، ولا للوصف بها، ولا للإخبار بها، ولا يجوز أن يعطف بالواو على صلة ولا صفة ولا خبر، واغتفر ذلك في الفاء لأن ما فيها من السببية سوغ تقدير ما بعدها وما قبلها كلاما واحدا، ألا ترى أن قولك: الذي يطير فيغضب زيد الذباب، بمنزلة: الذي إن يطر يغضب زيد الذباب، ومثل هذا التقدير لا يتأتى مع الواو، فلذلك لم يجر العطف بها في هذه الجمل مجرى العطف بالفاء. وقد يقع الفاء موقع ثم كقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما) فالفاء من: فخلقنا، ومن: فكسونا، واقعة موقع ثم لما في معناه من المهلة، ولذلك جاءت ثم بدلها في أول الحج. ومن وقوع الفاء موقع ثم قول الشاعر: إذا مِسْمَعٌ أعطتكَ يوما يمينُه ... فعدتَ غدًا عادتْ عليك شِمالها وقد تقع ثم موقع الفاء كقول الشاعر:

كهزِّ الرُّدَيْنيِّ تحت العَجاج ... جرى في الأنابيب ثم اضطرب فثم هنا واقعة موقع الفاء التي يعطف بها مفصل على مجمل، لأن جريان الهز في الأنابيب هو اضطراب المهزوز، لكن في الاضطراب تفصيل، وفي الهز إجمال. وقد تزاد الواو والفاء، فمن زيادة الواو قوله تعالى: (وفُتِحت أبوابُها وقال لهم خزنتها) قال الحسن: أي: قال لهم خزنتها. ومن زيادتها قول مروان بن أبي حفصة: فما بالُ مَنْ أسعى لأجبُرَ عظمه ... حفاظا وينوي من سفاهته كسري ومن زيادتها قول الأسود بن يعفر: حتى إذا حملت بطونكم ... ورأيتُمُ أبناءكم شَبُّوا وقلبتم ظهر المِجَنِّ لنا ... إن اللئيم الفاحش الخَبُّ ومن زيادتها قول الشاعر: فلما رأى الرحمنُ أنْ ليس منهم ... رشيدٌ ولاناهٍ أخاه عن الغدر وصبَّ عليهم تغلبَ ابنةَ وائل ... فكانوا عليهم مثلَ راغِيَةِ البكر

ولقد رَمَقْتُكَ في المجالس كلِّها ... فإذا وأنت تُعين من يَبْغيني ومثله: فإذا وذلكِ ياكُبَيْشَةُ لم يكن ... إلا كَلَمَّةِ حالم بخيال وقال الأخفش في المسائل الصغرى: تقول: كنا ومن يأتنا نأته، يجعلون الواو زائدة في باب كان. ولا تحسن زيادة هذه الواو في غير باب كان، يعني أنه لا تطرد زيادتها إلا في باب كان. ومن زيادة الواو قول عدي بن زيد: ولكن كالشهاب وثُمَّ يَخْبو ... وحادي الموت عنه لا يُحار ومن زيادة الفاء قوله: يموت أناسٌ أو يشيبُ فتاهم ... ويحدثُ ناشٍ والصغيرُ فيكبر ومن زيادتها قول الآخر: لمّا اتَّقى بيدٍ عظيمٍ جُرْمُها ... فتركتُ ضاحِيَ جلدِها يتذبذبُ ومنه قول زهير: أراني إذا ما بتُّ بتُّ على هوى ... فثُمَّ إذا أصبحتُ أصبحت غاديا وقال الأخفش: وزعموا أنهم يقولون: أخوك فوُجد، يريدون: أخوك وُجِد قال الفراء: والعرب تستأنف بثم والفعل الذي بعدها قد مضى قبل الفعل الأول، من ذلك أن يقول الرجل: قد أعطيتك ألفا ثم أعطيتك قبل ذلك

مالا، فيكون ثم عطفا على خبر المخبر، كأنك قلت: أخبرك أني أعطيتك اليوم، ثم أخبرك أني أعطيتك أمس. وإلى هذا أشرت بقولي: وقد تقع ثم في عطف المقدم بالزمان. قلت: ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن) لأن قبله: (ذلكم وصاكم به) والوصية لنا بعد إتيان موسى الكتاب. ص: المعطوف بحتى بعضُ متبوعه، أو كبعضه، وغايةٌ له في زيادة أو نقص مفيدٌ ذكرها. وإن عطفت على مجرور لزم إعادة الجار ما لم يتعيّن العطف. ولا يقتضي ترتيبا على الأصح. وأم متصلة ومنقطعة، فالمتصلة المسبوقة بهمزة صالح موضعها لأي، وربما حذفت ونويت. والمنقطعة ما سواها، وتقتضي إضرابا مع استفهام ودونه، وعطفها المفرد قليل، وفصل أم مما عطفت عليه أكثر من وصلها. وأو لشك، أو تفريق مجرد، أو إبهام، أو إضراب، أو تخيير. وتعاقب الواو في الإباحة كثيرا، وفي عطف المصاحب والمؤكد قليلا، وتوافق "ولا" بعد النهي والنفي. ش: لا يُعطَف بحتى إلا بعضٌ أو كبعض، وغايةٌ لمعطوف عليه في زيادة أو نقص. فيدخل في الزيادة الأقوى والأعظم والأكثر، ويدخل في النقص الأضعف والأحقر والأقل، نحو: فاق علي رضي الله تعالى عنه الأبطال حتى عنترة، وعجّز في العلم الأذكياء حتى الحكماء، وقصّر عن جوده الغيوث حتى الدِّيم. وقهر الجبانَ الناسُ حتى النساءُ. ومن كلام العرب: استنت الفصال حتى القَرْعى. وقد

اجتمعت غايتا القوة والضعف في قول الشاعر: قهرناكم حتى الكماةَ فإنكم ... لتَخْشَوْننا حتى بنينا الأصاغرا فالمعطوف في هذه الأمثلة بعضٌ مُحقَّق. وقد يكون شبيها ببعض لا بعضا، كقولك: أعجبتني الجاريةُ حتى حديثُها، فالحديث ليس بعضا، ولكنه كبعض، لأنه معنى من معاني المحدث. والمعتمد عليه فيما يصح عطفه بحتى أن يصح استثناؤه بإلا، فيصح: أعجبتني الجارية حتى حديثها، كما يصح: أعجبتني الجارية إلا حديثَها، ويمتنع: أعجبتني الجارية حتى ابنها، كما يمتنع: أعجبتني الجارية إلا ابنها. وقد يكون المعطوف بحتى مباينا، فيقدر بعضيته بالتأويل، كقول الشاعر: ألقى الصحيفة كي يُخَفَّفَ رحلَه ... والزادَ حتى نعله ألقاها فعطف بحتى النعل، وليست بعضا لما قبلها، ولكنها بالتأويل بعض، لأن المعنى: ألقى ما يثقله حتى نعله. ويروى بالجر والرفع. وقيدت الغاية بأن يكون ذكرها مفيدا. تنبيها على أنك لو قلت: أتيتك الأيام حتى يوما، لم يجز، لأنه لا فئفائدة فيه. وهكذا لو قلت في الاستثناء: صمت الأيام إلا يوما. فلو وقِّتَ ما بعد حتى وإلا حَسُن، وكانت فيه فائدة، نحو: صمت الأيام حتى يوم الجمعة، وإلا يوم الجمعة. وإن عطف بحتى على مجرور وخيف توهم كون المعطوف مجرورا بحتى لزم إعادة الجار، نحو: اعتكفت في الشهر حتى في آخره. فإن أُمِن ذلك لم تلزم إعادة الجار

نحو: عجبت من القوم حتى بنيهم، ونحو قول الشاعر: جودُ يُمْناك فاضَ في الخلق حتى ... بائسٍ دان بالإساءة حينا وحتى بالنسبة إلى الترتيب كالواو، فجائز كون المعطوف بها مصاحبا كقولك: قدم الحجاج حتى المشاة في ساعة كذا، وجائز كونه سابقا كقولك: قدموا حتى المشاة متقدمين. ومن زعم أنها تقتضي الترتيب في الزمان فقد ادعى مالا دليل عليه. وفي الحديث: "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس" وليس في القضاء ترتيب، وإنما الترتيب في ظهور المقضيات، قال الشاعر: لقوميَ حتى الأقدمون تمالئوا ... على كلِّ أمرٍ يُورِث المجد والحمدا فعطف بحتى الأقدمين مع كونهم بيقين متقدمين. وأم المعتمد عليها في العطف هي المتصلة، نحو: أزيد عندك أم عمرو؟ وسميت متصلة لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا تحصل الفائدة إلا بهما، وشرط ذلك أن يكون متبوعها مسبوقا بهمزة صالح موضعها لأي، كالواقعة في: أزيد عندك أم عمرو؟ وفي قوله تعالى: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) و: (إنْ أدري أقريب أم بعيد توعدون) و: (أذلك خير أم جنة الخلد) و: (أذلك خيرٌ نزلا أم شجرة الزقوم) و: (أأنتم أشد خلقا أم السماء).

وقد يكون مصحوباهما فعلين لفاعلين متباينين، كقول حسان رضي الله عنه: ما أبالي أنَبَّ بالحَزْن تَيْسٌ ... أم جفاني بظهر غَيْب لئيمُ وقد يكون مصحوباهما جملتين ابتدائيتين كقول الشاعر: ولستُ أبالي بعد فقديَ مالكا ... أموتي ناءٍ أم وهو الآن واقعُ ومثله: لعَمْرُك ما أدري وإن كنت داريا ... شُعَيْثُ ابن سهم أم شُعَيْت ابنُ مِنْقَر فهذه الأبيات شواهد على وقوع أم المتصلة بين جملتين، إذ كان المعنى معنى أي، وابن سهم وابن منقر خبران لا صفتان، وحذف التنوين في شعيث على حد حذفه في قول الشاعر: عمرُو الذي هَشَم الثَّريد لقومه ... ورجالُ مكَّة مُسْنِتُون عِجافُ وخرج بقولي: "صالح موضعها لأي" أم المسبوقة بهمزة صالح موضعها اللنفي، كقوله تعالى: (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) فأم في هذه المواضع الثلاثة منقطعة، لأنها لا تصلح لأي. وكذا إذا كان معنى ما هي فيه تقريرا، كقوله تعالى: (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون) وكقول الشاعر:

ألعبا تألف أم توانيا ... والموت يدنو رائحا وغاديا وكذا كل موضع لم تتقدم فيه الهمزة، استفهاما كان أو إخبارا، فالاستفهام كقوله: أنَّى جَزَوْا عامرا سُوءًا بفعلهم ... أم كيف يَجزون بالسُّوأى من الحَسَن أم كيف ينفعُ ما يُعطى العلوقُ به ... رئمانَ أنْفٍ إذا ما ضُنَّ باللبن والإخبار كقوله تعالى: (أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك) فأم في هذين الموضعين وما أشبههما منقطعة لعدم الهمزة قبلها، كما هي منقطعة في: "أم لهم" لعدم معنى أي. وقد تحذف الهمزة ويكتفى بظهور معناها قبل أم المتصلة، كقول الشاعر: فأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر ... أتوني وقالوا من ربيعة أم مضر ومثله: لَعَمْرُك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبع رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمان ومن قراءة ابن محيصن: (وسواءٌ عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم). وأكثر وقوع أم المنقطعة مقتضية إضرابا واستفهاما، كقوله تعالى: (أم

خُلِقوا من غير شيء) إلى (أم لهم إله غير الله). وقد يجاء بها لمجرد الإضراب، ومن علامات ذلك في اللفظ أن يليها استفهام نحو: (أم ماذا كنتم تعملون) ونحو: (أم من هذا الذي هو جند لكم) ونحو قول الشاعر: أم كيف ينفع ما يعطى العلوق به ... رئمان أنفٍ إذا ماضُنَّ باللبن وإن ولي المنقطعة مفرد فهو معطوف بها على ما قبلها، كقول بعض العرب: إنها لإبل أم شاء، فأم هنا لمجرد الإضراب، عاطفة ما بعدها على ما قبلها، كما كان يكون بعد بل، فإنها بمعناها. وزعم ابن جني أنها بمنزلة الهمزة وبل، وأن التقدير: بل أهي شاء. وهذا دعوى لا دليل عليها، ولا انقياد إليها. وقد قال بعض العرب: إن هناك إبلا أم شاءٌ، فنصب ما بعد أم حين نصب ما قبلها، وهذا عطف صريح مقو لعدم الإضمار قبل المرفوع. وفصل أم المتصلة مما عطفت عليه نحو: (أذلك خير أم جنة الخلد) أكثر من وصلها نحو: (أقريب أم بعيد ما توعدون) ومن ادعى امتناع وصلها أو ضعفه فمخطئ، لأن دعواه مخالفة الاستعمال المقطوع بصحته، ولقول سيبويه والمحققين من أصحابه. ومن العطف بأو في الشك قوله تعالى: (قال لبثت يوما أو بعض يوم) ومن العطف بها في التفريق المجرد قوله تعالى: (لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) وقوله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما). والمراد بوصف التفريق بالمجرد خلوه من الشك والإبهام والإضراب والتخيير، فإن مع كل واحد منها

تفريقا مصحوبا بغيره، والتعبير عن هذا المعنى بالتفريق أولى من التعبير عنه بالتقسيم، لأن استعمال الواو فيما هو تقسيم أولى من استعمال أو، كقولك: الكلمة اسم وفعل وحرف، فالاسم ظاهر ومضمر، والفعل ماض وأمر ومضارع، والحرف عامل وغير عامل. ومنه قول الشاعر: وننصرُ مولانا ونعلم أنه ... كما الناس مجرومٌ عليه وجارمُ ولو جيء هنا بأو لجاز، وكان التقدير: منهم مجروم عليه أو جارم، والتقدير مع الواو: منهم مجروم عليه ومنهم جارم، أو بعضهم مجروم عليه، وبعضهم جارم. ومن الجائي بأو مع كون الواو أولى قول الشاعر: فقالوا لناثِنْتان لا بُدَّ منهما ... صدورُ رماح أُشْرِعت أو سلاسلُ ومن مجيء أو في الإبهام قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) ومنه قول الشاعر: نحن أو أنتمُ الأُلى ألِفوا الحقْـ ... ــــقَ فبُعْدا للمُبطلين وسُحْقا ومن مجيئها للإضراب قراءة أبي السمال: (أوْ كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم) قال أبو الفتح: معنى أو هنا بل بمنزلة أم المنقطعة فكأنه قال: بل كلما عاهدوا عهدا. قال: وأو التي بمنزلة أم المنقطعة موجودة في الكلام كثيرا. وقال الفراء في قوله تعالى: (إلى مائة ألف أو يزيدون) أو هنا بمعنى بل، كذا جاء في التفسير، مع صحته في العربية. وحكى الفراء: اذهب إلى زيد أو دع ذلك فلا تبرح اليوم. وقال ابن برهان في شرح اللمع: قال أبو علي: أو حرف يستعمل على ضربين: أحدهما أن يكون لأحد الشيئين أو الأشياء. والآخر أن يكون للإضراب.

قلت: ومن مجيء أو للتخيير قوله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) ومن مجيئها للإباحة قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن) إلى (أو الطفل) ومن علامات التي للإباحة استحسان وقوع الواو موقعها، ألا ترى أنه لو قيل: ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن وآبائهن وآباء بعولتهن لم يختلف المعنى. ومنه: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي جالس الصنف المبارك الذين منهم الحسن وابن سيرين فلو جالسهما معا لم يخالف ما أبيح له. والاعتماد في فهم المراد من هذا الخطاب على القرائن. ومن معاقبة أو الواو في عطف المصاحب قول الشاعر: قومٌ إذا سمعوا الصَّريخَ رأيتهم ... من بين مُلْجِم مُهْرِه أو سافعِ ومثله: حتى خَضَبْتُ بما تحدَّر من دمي ... أكْنافَ سَرْجِي أو عنانَ لجامي ومثله: فظَلْتُ وظلّ أصحابي لديهم ... غريضُ اللحم نيءٌ أو نضيج فأو في هذه المواضع بمعنى الواو التي للمصاحبة. ومن أحسن شواهد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكن فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وقول ابن عباس رضي الله عنه: "كل ما شئت، واشرب ما شئت ما أخطأك اثنتان:

سرف أو مخيلة". ومن معاقبة أو الواو في عطف المؤكد قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وقوله تعالى: (من يكسب خطيئة أو إثما) ومنه قول الشاعر: حواسر مما قد رأت بعيونها ... تفيض بها أو لا قليل ولا نزر وإذا وقع نهي أو نفي قبل أو كانت بمعنى الواو مردفة بلا، فمثال ذلك مع النهي قوله تعالى: (ولا تُطِعْ منهم آثما أو كفورا) ومثال ذلك مع النفي قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أوبيوت آبائكم) إلى (أو صديقكم) أي: ولا تطع منهم آثما ولا كفورا، ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ولا بيوت آبائكم. ص: والمعنى مع إمّا شك أو تخيير أو إبهام أو تفريق مجرد، وفتح همزتها لغة تميمية، وقد تبدل ميمها الأولى ياء، وقد يستغنى عن الأولى بالثانية، وبأو عن وإمّا، وربما استغنى عنها بو إلا، وربما استغنى عن واو وإما، والأصل إن ما، وقد تستعمل اضطرارا. ش: تجيء إما للشك نحو: لزيد من العبيد إما تسعة وإما عشرة. ومجيؤها للتخيير كقوله تعالى: (إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) ومجيؤها للإبهام كقولك- وأنت عالم بمن لقيت – لقيت إما زيدا وإما عمرا. ومجيؤها للتفريق المجرد كقوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) ومنه قول

الراجز: البَس لكلِّ حالة لَبُوسها ... إما نعيمَها وإما بوسَها وبنو تميم يقولون: قام أما زيد وأما عمرو، بفتح الهمزة، وتبدل الميم التي تليها ياء، ومنه قول الشاعر: ياليتما أُمُّنا شالت نعامتُها ... أيما إلى جنة أيما إلى نار وقد يستغنى عن إما الأولى بإما الثانية كقول ذي الرمة: وكيف بنفسي كلّما قلت أشْرَفت ... على البُرْء من حَوْصاء هيض اندمالُها تُهاضُ بدار قد تقادم عهدُها ... وإما بأموات ألمّ خيالُها وقد يستغنى عن الثانية بأو كقراءة أبي: (وإنا أو إياكم لإما على هدى أو في ضلال مبين) وكقول الأخطل: وقد شَفَّني أن لا يزالَ يَرُوعني ... خيالُك إما طارقا أو مُغاديا وأنشد الفراء: فقلتُ لهن امْشِين إمّا نُلاقهِ ... كما قال أو نَشْف النُّفوسَ فَنُعْذَرا وقد يستغنى عن "وإما" بـ"وإلا" كقول الشاعر: فإمّا أن تكونَ أخي بصدق ... فأعرف منك غثِّي من سميني

وإلا فاطَّرِحني واتَّخِذْني ... عدُوًّا أتقيك وتتقيني وقد تحذف الواو التي قبل إما في الشعر كقول الراجز: لا تُفْسِدوا آبالكم ... أيمالنا أيمالَكمُ أراد: إمالنا وإمالكم، ففتح الهمزة، وأبدل الميم التي تليها ياء، وحذف الواو، كما قال الشاعر: أيما إلى جنة أيما إلى نار وأصل إما: إن فزيدت عليها ما، وقد يستغنى في الشعر بإن كقول الشاعر: وقد كَذَبتْك نفسُك فاكذِبَنْها ... فإنْ جزعا وإنْ إجمال صبر أراد: فإما جزعا، وإما إجمال صبر. ومثله في رأي سيبويه قول النمر: سقته الرواعد من صيف ... وإنْ من خريف فلن يعدما قال سيبويه: أراد: إما من صيف، وإما من خريف، فحذف إما الأولى، واقتصر على الثانية بعد حذف ما. وقال الأصمعي: إن شرطية، والتقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم ريا. وقال غيره: إن زائدة، التقدير: سقته الرواعد من صيف ومن خريف. ص: والمعطوف ببل مقرر بعد تقرير نهي أو نفي صريح أو مؤول، أو بعد إيجاب لمذكور موطأ به أو مردود أو مرجوع عنه. وقد تكرر بل رجوعا عما ولى المتقدمة، وتنبيها على رجحان ما ولى المتأخرة. وتزاد "لا" قبل "بل" لتأكيد التقرير وغيره. ولكن قبل المفرد بعد نهي أو نفي كبل. ويعطف بلا بعد أمر أو خبر مثبت أو نداء.

ش: معنى المقرر الممكن فيما يراد به من ثبوت، نحو: (بل تُؤْثِرون الحياة الدنيا) أو نفي نحو: (بل لا تُكْرمون اليتيم) فما بعد بل مقرر على كل حال. فإن كان قبلها نهي أو نفي، فهي بين حكمين مقررين، كقوله تعالى: (ولا تحسبنّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ) وكقولك: لا تضرب خالدا بل بشرا، وما قام زيد بل عمرو، فخالد قد قرر النهي عن ضربه، وبشر قد قرر الأمر بضربه. وزيد قد قرر نفي القيام عنه، وعمرو قد قرر إثبات القيام له. هذا هو الصحيح، ولذلك لم يجز فيما بعد بل من نحو: ما زيد قائما بل قاعد، إلا الرفع، لأن "ما" لا تعمل إلا في منفي. ووافق المبرد في هذا الحكم، وأجاز مع ذلك أن تكون بل ناقلة حكم النهي والنفي لما بعدها، وهو خلاف الواق في كلام العرب، كقول الشاعر: لو اعتَصَمْتَ بنا لم تعتصمْ بعِدًى ... بل أولياءَ كفاةٍ غيرِ أوكالِ ومنه قول الآخر: وما انتَمَيْتُ إلى خُورٍ ولا كُشُف ... ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أوْزاع بل ضاربين حَبِيك البِيض إن لحقوا ... شُمِّ العرانين عند الموت لُذّاعِ وكقول الآخر: لا تلقَ ضيفا وإنْ أمْلَقْت مُعْتَذِرا ... بعُسْرةٍ بل غَنِيَّ النَّفس جَذْلانا

وحكم النفي المؤول حكم النفي الصريح، نحو: زيد غير قائم بل قاعد، ومنه قوله تعالى: (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم يُنصرون * بل تأتيهم بغتة) ومثله: (أغيرَ الله تدعون إن كنتم صادقين * بل إياه تدعون). وإن كان ما قبل بل موجبا، فما بعدها إما مقرر بعد مقرر على سبيل التوطئة كقوله تعالى: (إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) وكقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: "رب إنا كنا على عمل أهل النار كالأنعام بل أضل سبيلا". وإما مقرر بعد مردود كقوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون) وكقوله تعالى: (أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق). وإما مقرر بعد مرجوع عنه لكونه غلطا في اللفظ نحو: أنت عبدي، بل سيدي. أو لكونه غلطا في الإدراك نحو: سمعت رغاء بل صهيلا، ولاح برق في ضوء نار. أو بعروض نسيان نحو: له عليّ درهمان بل ثلاثة. أو لتبدل رأي نحو: ادع لي زيدا بل عمرا، وائتني بفرس بل بعير، واشتر لي زيتا بل سمنا. وقد تكرر بل، فيكون ما بعد المتقدمة مقصود الانتفاء، كقوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر) فما بعد الأول من الإخبار بالأضغاث مقصود الانتفاء لأنه مرجوع عنه، وكذا ما بعد الثانية. وقد تكرر تنبيها على أولوية المتأخرة بالقصد إليه، والاعتماد عليه، مع ثبوت معنى ما قبله، كقوله تعالى: (بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون) وتزاد "لا" قبل بل لتأكيد الإضراب عن الأول، نحو: قام زيد لابل عمرو، وخذ هذا لا بل

ذاك، فلا في هذين المثالين زائدة لتأكيد الإضراب عن جعل الحكم للأول، وكذا كل مالا نهي فيه ولا نفي، فلو وجد أحدهما قبل لا أفادت تأكيد تقريره، ولم تقتض إضرابا نحو: ما قام زيد لا بل عمرو، ولا تضرب خالدا لا بل بشرا، فلا في هذين المثالين زائدة لتأكيد بقاء النهي والنفي. ومن زيادة لا مع عدم النفي والنهي قول الشاعر: وجهُك البدرُ لا بل الشمسُ لو لم ... يُقْضَ للشمسِ كَسْفَةٌ أو أُفُولُ ومثله: وكأنّما اشتملَ الضَّجيعُ بريطَة ... لا بل تزيدُ وثارةً ولَيانا ومن زيادتها بعد النفي قول الشاعر: وما سلوتُك لا بل زادني شغفا ... هجرٌ وبُعدٌ تمادى لا إلى أجَلِ ومن زيادتها بعد النهي قول الشاعر: لا تَمَلَّنَّ طاعة الله لا بل ... طاعةَ الله ما حَييت اسْتديما والمعطوف بلكن مثبت مسبوق بنهي أو نفي نحو: ما وجدتني عاذلا لكن عاذرا، فلا تكن لي خاذلا لكن ناصرا. ولو جعلت بل بدل لكن لم يختلف المعنى، إلا أن بل لا يلزم أن يتقدم عليها نفي أو نهي، ولا بد من أحدهما قبل لكن، فإن خلت منهما لزم أن يكون بعدها جملة مخالفة لما قبلها لفظا ومعنى، أو معنى لا لفظا، نحو: قام زيد لكن عمرو لم يقم، وقام بشر لكن خالد قعد. والمعطوف بلا منفي بعد أمر، أو خبر مثبت، أو نداء نحو: اضرب زيدا لا عمرا، وهذا محمد لا عمرو، وياسالم لا سلمان. وزعم ابن سعدان أن العطف بلا على منادى ليس في كلام العرب شاهد على استعماله.

فصل: ص: لا يشترط في صحة العطف وقوع المعطوف موقع المعطوف عليه، ولا تقدير العامل بعد العاطف، بل يشترط صلاحية المعطوف أو ما هو بمعناه لمباشرة العامل. ش: يجوز قام زيد وأنا، وإن لم يصلح مباشرة قام لأنا، لأنه بمعنى التاء المضمومة في قمت وزيد، وكذا، رأيت زيدا وإياك وإن لم تصلح مباشرة رأيت لإياك، لأنه بمعنى الكاف في: رأيتك وزيدا. ويجوز: رب رجل وابنه، وإن لم تصلح مباشرة رب لابنه، لأنه بمعنى: رب من رجل. ويجوز: الواهب المائةِ الهجان وعبدِها وإن لم تصلح مباشرة الواهب لعبدها، لأنه بمعنى الواهب عبد المائة والمائة. ويجوز: إن زيدا وأباه قائمان، وإن لم يصلح أن تباشر إن أباه، لأنه بمعنى إن أبا زيد وزيدا قائمان. ويجوز: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، وأن لم يصلح وقوع قاعدين موقع قائم، لأنه بمعنى قاعد أبواه أو قاعدهما في قول القائل: مررت برجل قائم أبواه لا قاعد أبواه ولا قاعدهما، أو لأنه بمعنى لم يقعدا. ويجوز: إن زيدا قائم لا عمرا، وإن لم يصلح تقدير إن بعد لا، لأن تقدير العامل بعد العاطف ليس شرطا، بل هو ممتنع في مواضع نحو: اختصم زيد وعمرو، ومن يأتني ويسألني أعطه، وعرفت ابنتيْ زيد وعمرو. فلو كان ما بعد العاطف لا يصلح لمباشرة العامل، ولا هو بمعنى ما يصلح لمباشرته أضمر له عامل مدلول عليه بما قبل العاطف، وجعل من عطف الجمل، نحو: (اسكن أنت وزوجك) و: (اذهب أنت وربك) فزوجك وربك مرفوعان بـ "ليسكن وليذهب" مضمرين مدلول عليهما باسكن واذهب. والمحوج إلى هذا التقدير أن فعل الأمر لا يرفع إلا ضمير المأمور المخاطب، لكنه وإن لم

يكن صالحا لرفع غيره فهو صالح للدلالة على ما يرفعه. ولو كان ما قبل العاطف فعلا مضارعا مفتتحا بالهمزة أو النون لفُعِل بعده من التقدير والإضمار ما فعل بعد الأمر، نحو: (لا نخلفه نحن ولا أنت) فأنت مرفوع بفعل مضمر مدلول عليه بنخلفه، والتقدير: لا تخلفه أنت، لأن نفعل وأفعل لا يرفعان إلا ضميري المتكلم. وكذا لو كان الفعل مفتتحا بتاء الخطاب لعُومل ما بعد العاطف الذي بعده هذه المعاملة نحو: تقوم أنت وزيد. وكذا لو كان مفتتحا بتاء المضارعة الدالة على التأنيث لا يرفع إلا مؤنثا. وكل ما استحقه المعطوف من التقدير المذكور مستحق في البدل نحو: ادخلوا أولُكم وآخرُكم، فأولكم وآخركم مقدر قبلهما: ليدخل، لأن ادخل لا يرفع إلا ضمير المأمور المخاطب، نص على هذا المعنى سيبويه رحمه الله، فإن جعل أولكم وآخركم بدلا فهو وعامله من إبدال الجمل بعضها من بعض، كما يقال في العطف. ومن المستحق لهذه المعاملة قول الشاعر: نُطَوَّفُ ما نطوف ثم نأوي ... ذَوو الأموال منا والعديم إلى حُفَر أسافِلُهُنّ جُوفٌ ... وأعلاهن صُفّاحٌ مُقيم فذوو الأموال مرفوع بيأوي مضمرا مدلولا عليه بنأوي، لأن المضارع ذا النون لا يرفع إلا ضمير المتكلم. وإن جعل ذوو الأموال والعديم توكيدا، كما جعل على أحد الوجهين الظهر والبطن، من قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن، جاز، وكان العامل فيه نأوي، كما يكون عاملا في "كلنا" إذا قيل: نأوي كلنا، لأن التوكيد بمنزلة تكرار المؤكد. ص: ويضعف العطف على ضمير الرفع المتصل ما لم يفصل بتوكيد أو غيره،

أو يفصل العاطف بلا، وضمير النصب المتصل في العطف عليه كالظاهر، ومثله في الحالين الضميران المنفصلان. وإن عطف على ضمير جر اختير إعادة الجار ولم تلزم وفاقا ليونس والأخفش والكوفيين. وأجاز الأخفش العطف على عاملين إن كان أحدهما جارا واتصل المعطوف بالعاطف أو انفصل بلا، والأصح المنع مطلقا، وما أوهم الجواز فجره بحرف مدلول عليه بما قبل العاطف. ش: إن كان المعطوف عليه ضميرا متصلا مرفوعا فالجيد الكثير أن يؤكد قبل العاطف بضمير منفصل، كقوله تعالى: (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) أو بتوكيد إحاطي كقول الشاعر: ذُعِرتُمْ أجمعون ومَنْ يليكم ... برُؤْيتنا وكنّا الظافرينا أو يفصل بينه وبين العاطف بمفعول أو غيره، كقوله تعالى: (يدخلونها ومَنْ صلح من آبائهم) ويتناول غير المفعول التمييز، كقول الشاعر: مُلِئْتَ رُعبا وقومٌ كنتَ راجيهم ... لما دَهَمْتُكض من قومي بآساد والنداء كقوله: لقد نلت عبدَ الله وابنُك غايةً ... من المجد مَن يظفَرْ بها فاق سُوددا ويقوم مقام فصل الضمير من العاطف الفصل بلا بين العاطف والمعطوف، كقوله تعالى: (ما أشركنا ولا آباؤنا). ولا يمتنع العطف دون فصل كقول بعض العرب: مررت برجل سواءٍ والعدمُ،

فعطف العدم دون فصل ولا ضرورة على ضمير الرفع المستتر في سواء، ومنه قول جرير: ورجا الأُخَيطِلُ من سفاهة رأيِه ... ما لم يكنْ وأبٌ له لينالا وهذا فعل مختار غير مضطر، لتمكن قائله من نصب أب على أن يكون مفعولا معه. ومثله قول ابن أبي ربيعة: قلتُ إذْ أقبلتْ وزُهْرٌ تهادى ... كنِعاجِ المِلا تَعَسَّفْنَ رَملا فرفع زهرا عطفا على الضمير المستكن في أقبلت، مع تمكنه من جعله بعد نصبه مفعولا معه. وأحسن ما استشهد به على هذا قول عمر رضي الله عنه: "وكنت وجار لي من الأنصار" وقول علي رضي الله عنه: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر. أخرجهما البخاري في صحيحه. ونبهت بقولي: "وضمير النصب المتصل في العطف عليه كالظاهر" على أن ضمير النصب المتصل يعطف عليه الظاهر وضمير النصب المنفصل كما يعطفان على الاسم الظاهر، فيقال: رأيته وإياك، ورأيته وعمرا. كما يقال: رأيت زيدا وإياك، ورأيت زيدا وعمرا. وسكت عن عطفه تنبيها على أن حرف العطف لا يليه ضمير النصب بلفظ الاتصال، بل بلفظ الانفصال. وفي هذا رد على من زعم أن حرف العطف عامل في المعطوف، إذ لو كان عاملا للزم كون ماوليه من ضمائر النصب بلفظ الاتصال، كما يلزم ذلك مع إن وأخواتها.

والهاء من قولي: "ومثله في الحالين" عائدة على الظاهر، والمراد بالحالين حالا عطفه والعطف عليه، فنبهت بذلك على أن الضمير المنفصل منصوبا كان أو مرفوعا في عطفه والعطف عليه بمنزلة الظاهر، فيقال: رأيت زيدا وإياك، وإياك وزيدا رأيت، وصاحباك زيد وأنا، وأنا وزيد صاحباك. كما يقال: رأيت زيدا وعمرا، وزيدا وعمرا رأيت، وصاحباك زيد وعمرو، وزيد وعمرو صاحباك. وإذا كان المعطوف عليه ضمير جر أعيد الجار، كقوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوْعا أو كَرْها) (وعليها وعلى الفلك تحملون) و: (يُنَجِّيكم منها ومن كل كرب) وإعادته مختارة لا واجبة، وفاقا ليونس والأخفش والكوفيين. وأجاز الفراء في "ما" من قوله تعالى: (قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم) الرفع عطفا على "الله" والجر عطفا على فيهن. وأجاز عطف: (من لستم) على (لكم فيها معايش). وللموجبين إعادة الجار حجتان: إحداهما: أن ضمير الجر شبيه بالتنوين، ومعاقب له، فلا يعطف عليه كما لا يعطف على التنوين. الثانية: أن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يصلحا لحلول كل واحد منهما محل الآخر، وضمير الجر غير صالح لحلوله محل ما يعطف عليه، فامتنع العطف عليه إلا مع إعادة الجار. وفي الحجتين من الضعف مالا يخفى، لأن شبه ضمير الجر بالتنوين لو منع من العطف عليه بلا إعادة الجار لمنع منه مع الإعادة، لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه، ولأنه لو منع من العطف عليه لمنع من توكيده والإبدال منه، لأن التنوين لا يؤكد ولا يبدل منه، وضمير الجر يؤكد ويبدل منه بإجماع، فللعطف أسوة بهما. قد تبين ضعف الحجة الأولى.

وأما الثانية فيدل على ضعفها أنه لو كان حلول كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه شرطا في صحة العطف لم يجز: رب رجل وأخيه، ولا: أي فتى هيجاء أنت وجارها، ولا: كل شاة وسخلتها بدرهم، ولا: الواهب المائةِ الهجان وعبدِها، وأمثال ذلك كثيرة، فكما لم يمتنع فيها العطف، لا يمتنع في نحو: مررت بك وزيد، وإذا بطل كون ما تعلقوا به مانعا، وجب الاعتراف بصحة الجواز. ومن مؤيدات الجواز قوله تعالى: (وكفرٌ به والمسجدِ الحرام) بجر المسجد بالعطف على الهاء، لا بالعطف على سبيل، لاستلزامه العطف على المصدر قبل تمام صلته، لأن المعطوف على جزء الصلة داخل في الصلة، وتوقي هذا المحظور حمل أبا علي الشلوبين على موافقة يونس والأخفش والكوفيين في هذه المسألة. ومن مؤيدات الجواز قراءة حمزة: (تساءلون به والأرحامِ) وهي أيضا قراءة ابن عباس والحسن وأبي رزين ومجاهد وقتادة والنخعي والأعمش ويحيى بن وثاب، ومثل هذه القراءة ما روى البخاري في باب الإجارة إلى العصر من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلكم واليهود والنصارى" بالجر، وقول بعض العرب: ما فيها غيره وفرسِه. ومن الشواهد الشعرية ما أنشد سيبويه من قول الشاعر: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيامِ من عجب

وأنشد أيضا: آبَك أيّهْ بِيَ أو مُصَدَّرِ ... من حُمُرِ الجِلَّة جَابٍ حَشْوَرِ وأنشد الفراء: تُعَلَّقُ في مثل السَّوارِي سيوفُنا ... وما بينها والكعبِ غُوطٌ نفانِفُ وأنشد الفراء أيضا: هلّا سألتَ بذي الجماجم عنهم ... وأبي نُعَيْم ذي اللواء المُحْرَقِ ومن الشواهد الشعرية أيضا قول عباس بن مرداس رحمه الله: أكُرُّ على الكَتيبة لا أُبالي ... أحَتْفي كان فيها أم سواها ومنها قول رجل من طيء: إذا بنا بل أنيسان اتقت فئة ... ظلت مؤمنة ممن يعاديها وله أيضا: بنا أبدا لا غيرِنا تُدرَكُ المُنى ... وتُكْشَفُ غَمّاءُ الخُطوبِ الفوادحِ ومنها: إذا أوْقَدوا نارا لحرب عَدُوهم ... فقد خاب من يَصْلى بها وسعيرِها

ومنها: لو كان لي وزهيرٍ ثالثٌ وردت ... من الحِمام عدانا شَرَّ مَوْرود وأجمعوا على منع العطف على عاملين إن لم يكن أحدهما جارا، وكذا إن كان أحدهما جارا وفصل المعطوف من العاطف بغير لا، فإن كان أحدهما جارا واتصل المعطوف بالعاطف أجاز الأخفش العطف عليهما نحو: في الدار زيد والحجرة عمرو، والخيل لخالد وسعيد الإبل، ووهب لأبيك دينارا وأخيك درهما، ومررت بعامر راكبا وعمّار ماشيا. والفصل بلا مغتفر نحو: ما في الدار زيد ولا الحجرة عمرو. والصور الموافقة ما أجازه الأخفش كثيرة، وفي قوله تعالى: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آياتٌ لقوم يوقنون * واختلافِ الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريفِ الرياح آياتٌ لقوم يعقلون) كفاية، وقد ذكرت منها في باب حروف العطف جملة، وبينت أن الوجه في استعمالها أن يجعل الجر بعد العاطف بحرف محذوف مماثل لما تقدم، وحذف ما دل عليه دليل من حروف الجر وغيرها مجمع على جوازه، والحمل عليه أولى من العطف على عاملين، فإنه مختلف فيه، والأكثر على منعه، وموافقة الأكثر أولى. وأيضا فإن العطف على عاملين بمنزلة تعديتين بمُعَدٍّ واحد، فلا يجوز، كما لا يجوز ما هو بمنزلته. فصل: ص: قد تحذف الواو مع معطوفها ودونه، وتشاركها في الأول الفاء وأم، وفي الثاني أو، ويغني عن المعطوف عليه المعطوف بالواو كثيرا، وبالفاء قليلا، وندر ذلك مع أو. وقد يقدم المعطوف بالواو للضرورة. وإن صلح لمعطوف ومعطوف عليه مذكورٌ بعدهما طابقهما بعد الواو، وطابق أحدهما بعد "لا" و"أو" و"بل" و"لكن"، وجاز الوجهان بعد الفاء وثم. ويعطف الفعل على الاسم، والاسم على الفعل، والماضي على المضارع،

والمضارع على الماضي، إن اتحد جنس الأول والثاني بالتأويل. وقد يفصل بين العاطف والمعطوف إن لم يكن فعلا بظرف أو جار ومجرور، ولا يخص بالشعر خلافا لأبي علي، وإن كان مجرورا أعيد الجار أو نصب بفعل مضمر. ش: من أمثلة حذف الواو مع معطوفها قوله تعالى: (وجعل لكم سرابيلَ تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) أي: تقيكم الحر والبرد. ومنه: (وتلك نعمةٌ تمنها عليَّ أن عبّدت بني إسرائيل) أي: ولم تعبدني. والتعبيد الاستعباد. ومنه: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) أي: ومن أنفق من بعده، ومنه: (لا نُفَرِّق بين أحد من رسله) أي: بين أحد وأحد. ومثل قول النابغة الذبياني: فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حَجَر إلا ليال قلائلُ أي: فما كان بين الخير وبيني إلا ليال قلائل. ومنه قول امرئ القيس: كأنّ الحصى من خلفِها وأمامها ... إذا نَجَلَتْه رجلُها حَذْفُ أعْسَرا ومثله قول الراجز يصف رجلا خشن القدم: قد سالم الحَيّاتُ منه القدما ... الأُفْعُوانَ والشُّجاعَ الشَّجْعما ... وذات قَرْنين ضَموزا ضِرْزِما

أراد: قد سالم الحيات منه القدم والقدم الأفعوان والشجاع الشجعم وذات قرنين. ومن أمثلة حذف الفاء مع معطوفها قوله تعالى: (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون * قالت يأيها الملأ) لأن المعنى: فذهب فألقاه فقالت. وحذف أكثر من ذلك في قوله تعالى: (فأرسلون * يوسف أيها الصديق) لأن المعنى: فأرسلوه فدنا فقال. ومن أمثلة حذف أم مع معطوفها قول أبي ذؤيب: دعاني إليها القلبُ إني لأمرها ... سميعٌ فما أدري أرُشْد طلابها أي: فما أدري أرشد طلابها أم غي. ومن حذف الواو وبقاء ما عطفت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره" أي: من ديناره إن كان ذا دينار، ومن درهمه إن كان ذا درهم، ومن صاع بره إن كان ذا بر، ومن صاع تمره إن كان ذا تمر. ومنه سماع أبي زيد: أكلت خبزا لحما تمرا، أراد: خبزا ولحما، وتمرا. ومنه قول الشاعر: كيف أصبحتَ كيف أمسيتَ مما ... يَغْرِسُ الوُدَّ في فُؤادِ الكريم أراد: كيف أصبحت وكيف أمسيت، فحذف الواو.

ومن حذف "أو" وبقاء ما عطفت قول عمر رضي الله عنه: "صلى رجل في إزار ورداء، في إزار وقميص، في إزار وقَباء" أي: ليصل رجل في إزار ورداء، أو إزار وقميص، أو إزار وقَباء. وحكى أبو الحسن في المعاني أن العرب تقول: أعطه درهما، درهمين، ثلاثة، بمعنى أو درهمين أو ثلاثة. ومن الاستغناء بالمعطوف بالواو عن المعطوف عليه بعد بلى وشبهها قولك لمن قال: ألم تضرب زيدا؟ بلى وعمرا. ولمن قال: ألفت سعدا؟ نعم وأخاه. ومن الاستغناء عنه في ذلك قول بعض العرب: وبك وأهلا وسهلا، لمن قال: مرحبا وأهلا، أي بك مرحبا وأهلا وسهلا، ومنه قول نهشل بن ضمرة: قبح الإله الفقعسي ورهطه ... وإذا تأوَّهت القلاصُ الضُّمَّرُ ولحا الإله الفقعسي ورهطه ... وإذا توقَّد في النِّجاد الحَزْوَرُ أي: قبحه الله كل حين وإذا تأوهت القلاص، ولحاه الله كل حين وإذا توقد في النجاد الحزور. ومنه والله أعلم قوله تعالى: (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) أي: لو ملكه ولو افتدى به. ومثله: (ولتصنع على عيني) أي: لترحم ولتصنع على عيني. ومن حذف ما عطف عليه بالفاء قوله تعالى: (أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) وقوله: (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) أي: فضرب فانفجرت، و: فضرب فانفلق.

وشاهد من حذف المعطوف عليه قول أمية الهذلي: فهل لك أو من والدٍ لك قبلها ... يُرَسِّحُ أولاد العشار ويَفْصِل أراد: فهل لك من أخ أو من والد. ومن تقديم المعطوف بالواو للضرورة قول أبي سافع الأشعري: إن الغزال الذي كنتم وحليتَه ... تقنونه لصروف الدهر والغير طافت به عصبة من شر قومهم ... أهل العلا والندى والبيت ذي الستر ومثله قول كثير: كأنّا على أولاد أحْقَب لاحَها ... ورَمْيُ السَّفا أنفاسَها بسهام جنوبٌ دنت عند التناهي وأنزلتْ ... به يوم ذَبَّابِ السبيب صيام والأصل في الشاهد الأول: كنتم تقنونه وحليته. والأصل في الشاهد الثاني: لاحها جنوب ورمي السفا. وحكم الاسمين المعطوف أحدهما على الآخر بالواو حكم المثنى، فلا بد فيما يعلق بهما من خبر وضمير وغيرهما من المطابقة، كما لا بد منها فيما يعلق بالمثنى، نحو: زيد وعمرو منطلقان، ومررت بهما، كما يقال: الرجلان منطلقان، ومررت بهما. فإن كان العطف بلا، أو بأو، أو ببل أو بلكن وجب إفراد ما بعده من خبر وغيره فيقال: زيد لا عمرو منطلق، ومررت به، وكذا يقال بعد أو وبل ولكن. وإن كان العطف بالفاء أو ثم جاز الإفراد والمطابقة، فيقال: زيد فعمرو

منطلق، ومررت به، وبشر ثم محمد ذاهب ونظرت إليه، ويجوز منطلقان ومررت بهما، وذاهبان ونظرت إليهما. وإلى هذا أشرت بقولي: وإن صلح لمعطوف ومعطوف عليه مذكور بعدهما، إلى آخره. ثم نبهت على جواز عطف الفعل على الاسم، وعطف الاسم على الفعل إذا سهل تأولهما بفعلين أو اسمين، فمن عطف الفعل قوله تعالى: (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن) وقوله تعالى: (فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا) ومن عطف الاسم على الفعل قوله تعالى: (يخرج الحيّ من الميت ومخرجُ الميت من الحي) وقول الراجز: يارُبَّ بيضاء من العَواهِج ... أمَّ صبِيٍّ قد حبا أو دارج ومثله قول الآخر: بات يُعَشِّيها بسيف باتِر ... يَقْصِدُ في أسْوُقها وجائر وحسن ذلك سهولة تأول المخالف بموافق، لتأول يقبض بقابضات، وأثرن بالمثيرات، ومخرج بيخرج. ونبهت أيضا على جواز عطف الفعل الماضي على المضارع، والمضارع على الماضي إذا كان زمانهما واحدا بنحو: (إنْ شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا) و: (إن نشأ ننزل عليهم من

السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين). وجعل أبو علي الفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف والجار والمجرور مخصوصا بالضرورة، واستشهد بقول الأعشى: يوما تراها كشِبْه أرْدِيَة الـ ... عَصْبِ ويوما أديمُها نَغلا وهو جائز في أفصح الكلام المنثور إن لم يكن المعطوف فعلا ولا اسما مجرورا، وهو في القرآن كثير كقوله تعالى: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) وقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) وقوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن). فلو كان المعطوف فعلا لم يجز الفصل المذكور بوجه، فلو كان اسما مجرورا أعيد معه الجار، نحو: مر الآن بزيد وغدا بعمرو. وإن لم يعد وجب النصب بفعل مضمر، كقوله تعالى: (فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب) في قراءة حمزة وابن عباس وحفص، أي: ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوب، ويجوز جر يعقوب بياء محذوفة، وهو أسهل من الجر بمضاف محذوف بعد فصل، كقراءة من قرأ: (والله يريد الآخرةِ) أي: عرض الآخرة.

باب النداء

باب النداء ص: المنادى منصوب لفظا أو تقديرا بأنادي لازم الإضمار، استغناء بظهور معناه، مع قصد الإنشاء وكثرة الاستعمال، وجعلهم كعوض منه في القرب همزة، وفي البعد حقيقة أو حكما "يا" أو "أيا" أو "هيا" أو "آ" أو "أي" أو "آي" ولا يلزم الحرف إلا "يا" مع الله، والضمير، والمستغاث، والمتعجب منه، والمندوب. ويقل حذفه مع اسم الإشارة، واسم الجنس المبني للنداء. وقد يحذف المنادى قبل الأمر والدعاء فتلزم "يا"، وإن وليها ليت أو رُبّ أو حبذا فهي للتنبيه لا للنداء. وقد يعمل المنادى في المصدر والظرف والحال. وقد يفصل حرف النداء بأمر. ش: المنادى مفعول في المعنى، لأنه مدعو، فيستحق النصب لفظا إن كان معربا قابلا لحركة الإعراب، كيا عبدَ الله. وتقديرا إن كان مبنيا أو معربا غير قابل لحركة الإعراب، كيا زيدُ، ويارقاشِ، ويا فتى، ويا أخي. وناصبه أنادي لازم الإضمار لظهور معناه مع كثرة الاستعمال وقصد الإنشاء، ولجعل العرب أحد الحروف المذكورة كالعوض منه. وكل واحد من هذه الأسباب كاف في إيجاب لزوم الإضمار، ولا سيما قصد الإنشاء، فإن الاهتمام به في غاية من الوكادة، لأن إظهار أنادي يوهم أن المتكلم مخبر بأنه سيوقع نداء، والغرض من علم السامع بأنه منشئ له، والإضمار معين على ذلك، فكان واجبا. هذا مع كون الحرف كالعوض منه فلم يجمع بينهما، كما لم يجمع بين العوض والمعوض منه. ومن زعم أن حرف النداء عوض محض، رُدَّ عليه بجواز حذفه، والعرب لا تجمع بين حذف العوض المحض والمعوض منه، نحو: ما وكان في:

أما أنت ذا نفر ونحوها، وواو القسم في: ها الله. وكون الهمزة للقريب، وما سواها للبعيد هو الصحيح، لأن سيبويه أخبر بذلك رواية عن العرب. ومن زعم أن أي كالهمزة في الاختصاص بالقرب لم يعتمد في ذلك إلا على رأيه، والرواية لا تعارض بالرأي، وصاحب هذا الرأي هو المبرد، وتبعه كثير من المتأخرين. ولم يذكر مع حروف النداء "آ" و"آي" بالمد إلا الكوفيون، رووها عن العرب الذين يثقون بعربيتهم، ورواية العدل مقبولة. ولا يجوز حذف حرف النداء إن كان المنادى "الله" أو ضميرا، أو مستغاثا، أو متعجبا منه، أو مندوبا. نحو: ياالله، وياإياك، ويا لزيد، ويا للماء، ويا زيداه. فإن كان غير هذه الخمسة جاز الحذف، إلا أن جوازه يقل مع اسم الإشارة، واسم الجنس المبني للنداء. ومن شواهد الحذف مع اسم الإشارة قول ذي الرمة: إذا هَمَلتَ عيني لها قال صاحبي ... بمثلِكَ هذا لوْعَةٌ وغرامُ أراد بمثلك يا هذا، ومثله قول رجل من طيء: إن الألَى وُصِفوا قومي لهم فبهم ... هذا اعْتَصم تَلْقَ من عاداك مخذولا ومنه قوله: ذي دعي اللّوْمَ في العطاءِ فإنّ الـ ... لومَ يُغْري الكرامَ بالإجْزال

ومنه قوله: ذا ارعواءً فليس بعد اشتعال الر ... أسِ شَيْبا إلى الصِّبا من سبيل ومنه قوله: لا يَغُرّنكمْ أولاءِ من القَوْ ... م جُنُوح للسّلم فهو خداع ومن شواهد الحذف مع اسم الجنس المبني للنداء قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اشتدي أزمة تنفرجي"، وقوله صلى الله عليه وسلم مترحما على موسى عليه السلام: "ثوبي حجر ثوبي حجر" أراد: يا أزمة، ويا حجر، وكلامه أفصح الكلام. ومن نداء الضمير ما ذكر أبو عبيدة من أن الأحوص اليربوعي وفد مع أبيه على معاوية رحمه الله، فخطب، فوثب أبوه ليخطب، فكفه وقال: ياإياك قد كُفيتك. وأنشد أبو زيد: يا أبْجَرُ بن أبجر يا أنتا ... أنت الذي طَلِّقْت عام جُعْتا فقول الأحوص: ياإياك، جار على القياس، لأن المنادى مفعول محذوف العامل، وما كان كذلك، وجيء به ضميرا، وجب أن يكون أحد الضمائر الموضوعة للنصب كقوله تعالى: (وإياي فارهبون) وكقوله الشاعر: إياك خِلْتُك لي رِدْءًا فكنتَ لهم ... عليّ فيما أرادوا بي من الضَّرَر

وأما: ياأنت، فشاذ، لأن الموضع موضع نصب، وأنت ضمير رفع، فحقه ألا يجوز، كما لا يجوز في: إياك والأسد: أنت والأسد. لكن العرب قد تجعل بعض الضمائر نائبا عن غيره، كقولهم: رأيتك أنت، بمعنى: رأيتك إياك، فناب ضمير الرفع عن ضمير النصب. وعكسه قراءة الحسن البصري رضي الله عنه: (إياك نعبدُ) بنيابة ضمير النصب عن ضمير الرفع، فكذلك قالوا: ياأنت، والأصل: ياإياك، لما ذكرت لك. ولأن الموضع موضع اطرد في الواقع فيه إذا كان مفردا معرفة كونه على صورة مرفوع، فحسن أن يخلفه ضمير الرفع، كما حسن أن يكون تابعه مرفوعا. وكان حق المنادى أن يمنع حذفه، لأن عامله قد حذف لزوما، فأشبه الأشياء التي حذف عاملها وصارت هي بدلا من اللفظ به، كإياك في التحذير، وكسقيا له، في الدعاء. إلا أن العرب أجازت حذف المنادى والتزمت في حذفه بقاء "يا" دليلا عليه، وكون ما بعده أمرا أو دعاء، لأن الآمر والداعي محتاجان إلى توكيد اسم المأمور والمدعو بتقدميه على الأمر والدعاء، فاستعمل النداء قبلهما كثيرا، حتى صار الموضع منبها على المنادى إذا حذف وبقيت "يا" فحسن حذفه لذلك. فمن ثبوته قبل الأمر قوله تعالى: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) و: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي) و: (يا بني آدم خذوا زينتكم) و: (يا بُنَيّ اركب معنا) و: (يا يحيى خذ الكتاب) ومن ثبوته قبل الدعاء: (يا

موسى ادع لنا ربك) و: (يا أبانا استغفر لنا) و: (يا مالك ليقض علينا ربك) ومنه قول الراجز: يا رب هب لي من لدنك مغفرة ... تمحو خطاياي وأُكْفى المعذرة ومن حذفه قبل الأمر قوله تعالى في قراءة الكسائي: (ألا يا اسجدوا) أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا. ومن حذفه قبل الدعاء قول الشاعر: يالعنةُ الله والأقوامِ كلِّهم ... والصالحين على سِمْعانَ من جار ومثله: ألا يا اسلمي يا دارَ ميّ على البِلى ... ولا زال مُنْهلًا بجرعائك القَطْرُ ومثله: ألم تعلمي يا عَمْرَك الله أنني ... كريمٌ على حينِ الكرامُ قليل وأني لا أُخْزى إذا قيل مُمْلِقٌ ... سَخِيٌّ وأخْزَى أن يقال بخيل وليس من ذلك قولهم: ياليت، ويا ربّ، ويا حبذا لأن مولى "يا" أحد هذه الثلاثة قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى ثابت ولا محذوف، كقول مريم عليها السلام: (ياليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نَسْيا مَنْسِيّا) ولأن الشيء إنما يجوز

حذفه إذا كان موضع ادعاء الحذف مستعملا فيه الثبوت، كحذف المنادى قبل الأمر والدعاء، فإنه جاز لكثرة ثبوته، بخلاف ما قبل الكلم المذكورة فإن ثبوت المنادى فيه غير معهود، فادعاء الحذف فيه مردود، ولكن "يا" فيه لمجرد التنبيه والاستفتاح، مثل ألا، وقد يجمع بينهما توكيدا في نداء وغير نداء، فاجتماعها في النداء كقول الشاعر: ألا يابنَ الذين بَنَوْا وبادُوا ... أما والله ما ذهبوا لتبقى واجتماعهما في غير نداء كقول الآخر: ألا ياليت أياما تَوَلّت ... يكونُ إلى إعادتها سبيلُ وقد يعمل عامل المنادى في مصدر كقول الشاعر: يا هندُ دعوةَ صَبٍّ هائم دنِفٍ ... مُنِّي بلطفٍ وإلا مات أو كَرَبا وفي ظرف كقوله: يادارُ بين النَّقى والحَزْن ما صنعت ... يدُ النَّوى بالألى كانوا أهاليكِ وفي حال كقوله: يأيُّها الرِّبْعُ مَبْكِيًّا بساحته ... كم قد بذلْتَ لِمَنْ وافاك أفراحا وقد يفصل بأمر المنادى بينه وبين حرف النداء كقول جدابة بنت خويلد النخعية تخاطب أَمَتَها لطيفة: ألا يا فابْكِ شَوّالا لطيفا ... وأذْرِي الدمعَ تَسكابا وَكيفا أرادت: يالطيفة، فرخمت وفصلت بفعل الأمر.

ص: يبنى المنادى لفظا أو تقديرا على ما كان يرفع به لو لم يناد، إن كان ذا تعريف مستدام أو حادث بقصد وإقبال، غير مجرور باللام، ولا عامل فيما بعده، ولا مكمل قبل النداء بعطف نسق. ويجوز نصب ما وصف من معرف بقصد وإقبال، ولا يجوز ضم المضاف الصالح للألف واللام، خلافا لثعلب. وليس المبني للنداء ممنوع النعت، خلافا للأصمعي. ويجوز فتح ذي الضمة الظاهرة إتباعا إن كان علما ووصف بابن متصل مضاف إلى علم، لا إن وصف بغيره، خلافا للكوفيين، وربما ضم الابن إتباعا، ويلحق بالعلم المذكور نحو: يافلان بن فلان، ويا ضُلّ بن ضُلّ، ويا سيد بن سيد. ومُجَوِّز فتح ذي الضمة في النداء مُوجِبٌ في غيره حذف تنوينه لفظا، وألف ابن في الحالين خطّا، وإن نون فللضرورة. وليس مركبا فيكون كمَرْء في إتباع ما قبل الساكن ما بعده، خلافا للفارسي. والوصف بابنة كالوصف بابن، وفي الوصف ببنت في غير النداء وجهان. ويحذف تنوين المنقوص المعين بالنداء، وتثبت ياؤه عند الخليل، لا عند يونس، فإن كان ذا أصل واحد ثبتت الياء بإجماع. ويترك مضموما أو ينصب ما نُوِّنَ اضطرارا من منادى مضموم. ش: المنادى معرب ومبني، فالمعرب المجرور بلام الاستغاثة نحو: يالله للمسلمين، أو بلام التعجب نحو: ياللماء، ويا للدواهي. والنكرة المحضة نحو: أيا راكبا إمّا عَرَضْتَ فَبَلّغَنْ ... نداماي من نَجْران ألا تلاقيا والعامل فيما بعده بإضافة وغير إضافة نحو: ياذا الجلال والإكرام، ويا رءوفا بالعباد، ويا عظيما فضله، ويا عشرين رجلا. والمكمل قبل النداء بالعطف نحو: يازيدا وعمرا، في المسمى به.

والمبني على ضربين: مبني بناء متجددا لسبب النداء، ومبني بناء غير متجدد بسبب النداء. فالأول يبنى على ضمة ملفوظ بها نحو: يا زيد، ويا رجل. ومقدرة نحو: يامولى، ويا هادي، ويافتى. وعلى ألف نحو: يازيدان. وعلى واو نحو: يا زيدون. والثاني مبني في التقدير على ضمة، وفي اللفظ على ما كان مبنيا عليه قبل النداء، نحو: ياهؤلاء، ويا سيبويهِ، ويارقاشِ، ويا خمسة عشر، ويا برق نحره. وهذه الأنواع كلها داخلة في قولي: يبنى المنادى لفظا أو تقديرا على ما كان يرفع به. أما دخول ما تجدد بناؤه بسبب النداء فظاهر. وأما دخول ما سبق بناؤه فلأن هؤلاء وسيبويه ورقاش وبرق نحره قد كانت قبل النداء تقع في موضع الرفع فتنوي ضمة الإعراب في موضعها، وتجدد لها في النداء تقدير ضمة البناء، ويدل على ذلك رفع تابعها نحو: ياهؤلاء الرجالُ، ويارقاشِ الحسنةُ. ونبهت بقولي: على ما كان يرفع به لو لم يناد على نحو: يا مكرمان، مما لا استعمال له في غير النداء. ثم بينت أن من شرط النداء المستحق للبناء كون المنادى غير مجرور بلام الجر، وكونه غير عامل فيما بعده. ولا مكمَّل قبل النداء بعطف نسق، فخرج باستثناء المجرور باللام المستغاث نحو: يالله للمسلمين، والمتعجب منه نحو: ياللعبر، وياللآيات. وباستثناء العامل فيما بعده المضاف نحو: ياذا الجلال والإكرام، والشبيه به نحو: ياعظيما فضله، ويالطيفا بالعباد، ويا عشرين رجلا. وباستثناء المكمل قبل النداء بعطف النسق نحو: يازيدا وعمرا، في المسمى بهما. وادعى المبرد أن تعريف: يا زيد، متجدد بالنداء بعد إزالة تعريف العلمية، لئلا يجمع بين تعريفين. والصحيح أن تعريف العلمية مستدام كاستدامة تعريف الضمير واسم الإشارة والموصول في: ياإياك، وياهذا، ويا من حضر. ولأن النداء لا يلزم من دخوله على معرفة اجتماع تعريفين، على أنه لو علم اجتماع تعريفين لجعل أحدهما مؤكدا للآخر، ومسوقا لزيادة الوضوح، كما تساق الصفة لذلك، ويكون ذلك نظير اجتماع دليلي المبالغة في: علامة ودَوّاريّ. ويجوز في المفرد المعرف بالقصد والإقبال إجراؤه مجرى العلم المفرد في البناء،

وإجراؤه مجرى النكرة في النصب. قال الفراء: النكرة المقصودة الموصوفة المناداة تؤثر العرب نصبها، يقولون: يا رجلا كريما أقبل. فإذا أفردوا رفعوا أكثر ما ينصبون. قلت: ويؤيد قول الفراء ما روي من قبل النبي صلى الله عليه وسلم في سجوده: "يا عظيما يرجى لكل عظيم". وأجاز ثعلب رحمه الله أن يضم المضاف إذا كان صالحا للألف واللام نحو: ياحسنُ الوجه، لأن إضافته في نية الانفصال، وأظنه قاس ذلك على رواية الفراء عن بعض العرب: يامهتمُّ بأمرنا لا تهتم، لضم الميم، مع مشابهة المضاف لتعلق أمرنا به. وتخريج هذا عندي بأن يجعل "بأمرنا" متعلقا لا تهتم، لأن بناء المنادى ناشئ عن شبهه بالضمير، والمضاف عادم الشبه بالضمير، وإن كان مجازى الإضافة. ومنع الأصمعي نعت المبني للنداء لأنه شبيه بالمضمر، والمضمر لا ينعت. وما ذهب إليه مردود بالسماع والقياس، أما السماع فشهرته مغنية عن استشهاد، وأما القياس فلأن مشابهة المنادى للضمير عارضة، فمتقضى الدليل ألا تعتبر مطلقا، كما لم تعتبر مشابهة المصدر لفعل الأمر في نحو: ضربا زيدا، لكن العرب اعتبرت مشابهة المنادى للضمير في البناء استحسانا، فلم يزد على ذلك، كما أن "فَعالِ" العلم لما بني حملا على فعال المأمور به لم يزد على بنائه شيء من أحوال ما حمل عليه، ونظائر ذلك كثيرة. ويجوز في المنعوت بابن نحو: يازيدُ بن عمرو، الضم استصحابا لحاله قبل النعت، والفتح إعرابا نحو: يازيدَ بن عمرو، فلو فصل ابن من المنعوت تعين الضم، نحو: يازيدُ الفاضل ابن عمرو. وكذا يتعين الضم إن فقدت علمية المنعوت، نحو: ياغلامُ ابن زيد، أو علمية المضاف إليه نحو: يازيدُ ابن أخينا، أو علميتهما نحو: ياغلامُ ابن أخينا. فلو لم تكن ضمة المنادى ظاهرة لم ينو تبدلها بفتحة إذ لا فائدة في ذلك. وقد

أجاز الفراء في عيسى من قوله تعالى: (ياعيسى ابن مريم) تقدير الضمة والفتحة. وأجاز الكوفيون فتح المنعوت بمنصوب غير ابن نحو: يازيدَ الكريمَ، واستدلوا على ذلك بقول الشاعر: فما كعبُ بنُ مامةَ وابنُ سُعْدى ... بأجودَ منك ياعمرَ الجوادا على أن الرواية بفتح راء عمر، وخرج ذلك من انتصر للبصريين بأن قال: أراد: ياعمرا، فحذف الألف لالتقاء الساكنين، وبقيت الراء مفتوحة. وهذا الاختصار لا يثبت على مذهب سيبويه، لأنه لم يذكر زيادة الألف في آخر المنادى في غير ندبة أو تعجب أو استغاثة، والثلاثة منفية من هذا البيت. وأجاز غير سيبويه زيادة الألف في آخر كل منادى لمد الصوت. ويجرى مجرى: يازيدَ بن عمرو، في جواز فتح المنعوت: يافلان ابن فلان، ويا ضل ابن ضل، ويا فاضل ابن فاضل، وما أشبهه من المدح أن يتبع بالفتح، فإن أدخلت الألف واللام في الثاني جاز الوجهان. وسبب هذا الفتح كثرة الاستعمال، فجاز في: يازيد بن عمرو، وامتنع في: يازيد ابن أخينا. ولزم في نحو: يافاضل ابن فاضل، جعل الموصوف والصفة كالشيء الواحد فيما كثر استعماله، فأتبعوا الأول الثاني، كما فعلوا في: امرئ. وقد روى الأخفش عن بعض العرب ضم نون الابن إتباعا لضم المنعوت، وهو نظير قراءة من قرأ: (الحمدُ لله) بضم اللام، بل ضم النون أسهل بكثير. وكما كان وقوع ابن في النداء بين علمين على الوجه المذكور سببا للتخفيف، بتبدل الضمة فتحة، جعل في غير النداء سببا للتخفيف بحذف تنوين المنعوت، لأن

النداء وجه واحد، وغير النداء وجوه كثيرة، فكان غير النداء أحوج إلى التخفيف، فجعل تخفيفه واجبا، وتخفيف النداء واجبا، واستوى النداء وغير النداء في التزام حذف ألف ابن خطا. وقد ينون المنعوت بابن في غير النداء اضطرارا، كقول الأغلب العجلي: جاريةٌ من قيس بنِ ثعلبة ... قَبّاءُ ذاتُ سُرَّة مُقَعَّبة مَمْكورةُ الأعلى رداح الحَجَبَة ... كأنها حليةُ سيفٍ مُذْهَبة وزعم الفارسي أن نحو: زيد بن عمرو، عند قصد النعت في غير النداء مركب، وأن حركة المنعوت حركة إتباع كحركة ميم "مرء" على لغة من قال: هذا مُرُؤ، ورأيت مَرَأ، ومررت بمِرِئ. وليس ما رآه في هذا صحيحا، للإجماع على فتح المجرور الذي لا ينصرف، نحو: صلى الله على يوسفَ بنِ يعقوب. ذكر هذا ابن برهان رحمه الله. وإذا كان المنعوت مؤنثا علما كهند في لغة من صرف، ونعت بابنة، مضافا إلى علم، فحكمه في النداء وغير النداء حكم زيد منعوتا بابن مضافا إلى علم. وغير المنادى المنعوت ببنت وجهان رواهما سيبويه عن العرب الذين يصرفون هندا ونحوه، فيقولون: هذه هند بنت عاصم، وكل هذا مشار إليه في الأصل. وإذا نودي نحو: قاض، وقصد تعيينه حذف تنوينه، وأثبتت ياؤه، فقيل: ياقاضي. ويجوز حذف الياء والتنوين معا، فيقال: ياقاضِ، كما قيل مع الألف واللام في غير النداء: جاء القاضي، وجاء القاض، والأول مذهب الخليل، والثاني مذهب يونس، وقوى مذهب سيبويه مذهب يونس. وإن كان المنقوص ذا أصل واحد، كاسم فاعل أرى، ردت الياء بإجماع، فيقال: يامرى، ولا يقال: يامر.

وإذا اضطر شاعر إلى تنوين المنادى المضموم جاز بقاء الضمة، وهو الأكثر، وجاز نصبه، وهو الأقيس، لأن البناء استحق بشبه المضمر، وقد ضعف بالتنوين، لأن المضمر لا ينون، ولكنه عارض للضرورة، فجاز ألا يعتد به. وحكى ابن السراج أن بقاء الضم إذا اضطر إلى التنوين اختيار الخليل وسيبويه. وأبو عمرو ويونس وعيسى بن عمر والجرمي يختارون النصب، وما حكاه ابن السراج حكاه المبرد أيضا، وزاد المازني تمثيل الخليل وسيبويه. قلت: وعندي أن بناء الضمة راجح في العلم، والنصب راجح في النكرة المعينة، لأن شبهها بالمضمر أضعف. ومن شواهد البناء على الضم قول الأحوص: سلامُ اللهِ يامطرٌ عليها ... وليس عليك يامطرُ السَّلام ومنها ما أنشد الفراء من قول لبيد: قَدِّموا إذْ قيل قيس قَدِّموا ... وارفعوا المجدَ بأطرافِ الأسَلَ أراد: قدموا ياقيس قدموا. وأنشد غيره لعدي بن ربيعة يرثي أخاه مهلهلا: ظبيةٌ من ظباء وَجْرَةَ تَعْطو ... ويداها في ناضر الأوراق ضربتْ صدرها إليّ وقالت ... ياعدي لقد وَقَتْك الأواقي ما أُرَجِّي في العيش بعد ندامى ... قد أراهم سُقُوا بكأس حَلاقِ ومن شواهد النصب والمنادى علم قول الشاعر: فطر خالدا إن كنت تسطيع طيرة ... ولا تقعن إلا وقلبك واقع

ومن شواهده والمنادى نكرة معينة قول عبد يغوث: فيا راكبا إما عَرَضْت فَبَلِّغَنْ ... نادامايَ من نجرانَ ألا تلاقيا ومنها قول الآخر: أعبدًا حلّ في أرْضِي غريبا ... ألُؤْمًا لا أبالك واغترابا ومثله: يا سيدا ما أنت من سيد ... مُوَطَّأ الأكنافِ رحبِ الذراع قوالِ معروف وأمّارِه ... نَحّار أُمّاتِ الرِّباع الرِّتاع ومنها: ألا ياقتيلا ما قتيل بني حلس ... إذا افتل أطراف الرماح من الدعس ومنها قول ذي الرمة: أدارا بحُزْوى هِجْتِ للعين عبرةً ... فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يترقرق وسيبويه يسمي هذا النوع نكرة باعتبار حاله قبل النداء. ومن شواهد الضم قول كثير: ليت التحية كانت لي فأشكرها ... مكانَ ياجملٌ حُيِّيتَ يارجلُ هكذا الرواية المشهورة: ياجمل، بالضم.

فصل: ص: لا يباشر حرف النداء في السعة ذا الألف واللام غير المصدّر بهما جملة مسمى بها، أو اسم جنس مشبه به، خلافا للكوفيين في إجازة ذلك مطلقا، ويوصف بمصحوبيهما الجنسيّ مرفوعا، أو بموصول مصدّر بهما، أو باسم إشارة "أيٌّ" مضمومة متلوة بهاء التنبيه، وتؤنث لتأنيث صفتها، وليست موصولة بالمرفوع خبرا لمبتدأ محذوف، خلافا للأخفش في أحد قوليه، ولا جائزا نصب صفتها خلافا للمازني، ولا يستغنى عن الصفة المذكورة ولا يتبعها غيرها. واسم الإشارة في وصفه بمالا يستغنى عنه كأي، وكغيرها في غيره. وقيل: ياالله وياألله، والأكثر اللهم، وشذ في الاضطرار يااللهم. ش: قال سيبويه: إذا قال: يارجل، فمعناه، كمعنى يأيها الرجل، فصار معرفة، لأنك أشرت إليه، وقصدت قصده، واكتفيت بهذا عن الألف واللام، وصار كالأسماء التي هي للإشارة. ثم قال: وصار بدلا في النداء من الألف واللام، واستغنى به عنهما، كما استغنيت بقولك: اضرب، عن لتَضْرب. فحاصل كلامه: أن رجلا، من قولك: يارجلُ، معرفة بالقصد والإشارة إليه، فاستغنى عن الألف واللام كما استغنى اسم الإشارة، وكما استغنى اضرب عن لام الأمر. وأجاز سيبويه أن يقال: يا الرجل قائم، في المسمى بالرجل قائم، لأن معناه: يامقولا له الرجل قائم. وقاس عليه المبرد دخول "يا" على ما سمى به من موصول مصدر بالألف واللام نحو: يا الذي قام، لمسمى به. وهو قياس صحيح. وأجاز ابن سعدان: يا الأسد شدة، ويا الخليفة جودا، ونحوه مما فيه تشبيه، وهو أيضا قياس صحيح، لأن تقديره: يا مثل الأسد، ويا مثل الخليفة، فحسن لتقدير دخول "يا" على غير الألف واللام. وأجاز الكوفيون دخول "يا" على الألف واللام مطلقا، وأنشدوا: فيا الغلامان اللذان فرَّا ... إيّاكما أنْ تُكسبانا شرا

وهذا عند غيرهم من الضرورات. وأنا لا أراه ضرورة، لتمكن قائله من أن يقول: فيا غلامان اللذان فرا، لأن النكرة المعينة بالنداء توصف بذي الألف واللام الموصول، وبذي الألف واللام غير الموصول، كقول بعض العرب: يافاسق الخبيث، حكاه يونس. والذي أراه في: فيا الغلامان، أن قائله غير مضطر، لكنه استعمل شذوذا ما حقه ألا يجوز، ومثله في الشذوذ قول الآخر: مِنَ اجْلِك ياالتي تَيّمْت قلبي ... وأنت بخيلةٌ بالوُد عني والكلام الصحيح أن يتوصل إلى نداء ما فيه الألف واللام الجنسيتان بجعله صفة لأيّ متلوة بهاء التنبيه نحو: يأيها الرجل، ونبهت بجنسية الألف واللام على أنه لا يقال: يأيها العباس، ولا: يأيها الصَّعق، لأنهما علمان، والألف واللام مع الأول للمح الصفة، ومع الثاني للغلبة. وكذا لا يقال: يأيها الزيدان، ذكر ذلك الأعلم في الرسالة الرشيدة. ويقوم مقام ذي الألف واللام الجنسيتين موصولٌ مصدّر بالألف واللام نحو: (يأيها الذي نُزِّل عليه الذكر) أو اسم إشارة عار من الكاف، كقول الشاعر: أيُّهذان كُلا زادكما ... ودعاني واغِلا فيمَنْ يَغِل والأكثر أن يجمع بين اسم الإشارة وذي الألف واللام، كقول الفرزدق: ألا أيهذا السائلي عن أرومتي ... أجداك لم تعرف فتبصره الفجرا وتؤنث أي لتأنيث صفتها نحو: (يأتيها النفس) ويأيتها التي تسمع، ويأتيها ذي.

وأجاز الأخفش أن تكون "أي" هذه موصولة، والمرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة أي. ولو صح ما قال لجاز، ظهور المبتدأ، ولكان أولى من حذفه، لأن كمال الصلة أولى من اختصارها، ولو صح ما قال لجاز أن يغني عن المرفوع بعد أي جملةٌ فعلية وظرف، كما يجوز ذلك في غير النداء، وفي امتناع ذلك دليل على أن أيّا غير موصولة. وأجاز المازني نصب أي، قال الزجاج: ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب قبله، ولا تابعه أحد بعده، فهذا مطرح مردود، لمخالفته كلام العرب. ذكر هذا الزجاج في كتاب المعاني، عند قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) ويساوي اسم الإشارة أيًّا في وجوب رفع صفته، واقترانها بالألف واللام الجنسيتين. ويخالفها بجواز استغنائه عن الوصف، ويجوز أن يتبع بغير وصف. وعلى هذا نبهت بقولي: واسم الإشارة في وصفه بما لا يستغنى عنه كأي في وصفها، وكغيرها في غيره. ولذلك قال الخليل: إذا قلت: ياهذا، وأنت تريد أن تقف عليه، ثم تؤكده باسم يكون عطفا عليه فأنت فيه بالخيار، وإن شئت نصبت وإن شئت رفعت، وذلك: ياهذا زيد، وإن شئت قلت: زيدا، كقولهم: ياتميم أجمعون وأجمعين، وكذلك: ياهذان زيد وعمرو. وإن شئت: زيدا وعمرا، فيجرى ما يكون عطفا على الاسم مجرى ما يكون وصفا. وقال سيبويه: واعلم أنه لا يجوز أن تنادي اسما في الألف واللام ألبتة، إلا أنهم قد قالوا: ياالله اغفر لي، من قبل أن الألف واللام لا تفارقانه، وهما فيه خلف عن همزة إله، وليس بمنزلة الذي، قال: لأن الذي – وإن كان لا تفارقه الألف واللام – ليس اسما غالبا كزيد وعمرو، لأنك تقول: يأيها الذي. قال كما تقول: يأيها الرجل، فامتنع: ياالذي، كما امتنع: يا الرجل. ولا يجوز: يا الصعق، وإن كانت الألف واللام لا تفارقه، لأنهما غير عوض عن شيء هو من نفس الاسم، بخلاف اللذين هما في الله، فإنهما خلف عن همزة إله. هذا حاصل كلامه.

والأكثر في نداء الله أن يقال: اللهم، بتعويض الميم من يا، وقد اجتمعا للضرورة في قول الراجز: إني إذا ما حدث ألَمّا ... أقول يا اللهم يا اللهما فصل: ص: لتابع غير أي واسم الإشارة من منادى كمرفوع إن كان غير مضاف الرفع والنصب، ما لم يكن بدلا أو منسوقا عاريا من أل، فلهما تابعين مالهما مناديين، خلافا للمازني والكوفيين في تجويز نحو: يازيد وعمرا. ورفع المنسوق المقرون بأل راجح عند الخليل وسيبويه والمازني، ومرجوح عند أبي عمرو ويونس وعيسى والجرمي، والمبرد في نحو: الحارث، كالخليل. وفي نحو: الرجل، كأبي عمرو. وإن أضيف تابع المنادى وجب نصبه مطلقا، ما لم يكن كالحسن الوجه، فله ما للحسن. ويمنع رفع النعت في نحو: يازيد صاحبنا، خلافا لابن الأنباري. وتابع نعت المنادى محمول على اللفظ، وإن كان مع تابع المنادى ضمير جاء دالا على الغيبة باعتبار الأصل، وعلى الحضور باعتبار الحال. والثاني في نحو: يازيد زيد، مضموم أو مرفوع أو منصوب. والأول في نحو: يا تيم تيم عدي، مضموم أو منصوب، والثاني منصوب لا غير. ش: قد تقدم الكلام على إتباع أي واسم الإشارة، فلذلك استثنيتهما الآن، وقد تقدم أيضا أن نداء المفرد المعرفة يحدث فيه بناء على ضمة ظاهرة أو مقدرة، أو على ألف، أو على واو، فهو بذلك مرفوع، فلذلك قلت الآن: من منادى كمرفوع، فعممت بالتابع النعت والتوكيد وعطف البيان والبدل والمعطوف عطف النسق، ثم استثنيت البدل كله، والمنسوق العاري من أل، وبينت أن لهما في التابعية مالهما في حال الاستقلال بالنداء، فيقال فيهما: يا غلامُ زيدُ، ويا بشرُ وعمرُو، فتبنى زيدا في بدليته، وعمرا في عطفه كما كنت تبنيهما لو ناديتهما، وكذا تفعل بهما

بعد المنصوب، وإنما توخى ذلك لأنه نوى قبل كل واحد منهما حرف نداء معاد، فالعامل قد يعاد مع كل واحد منهما توكيدا دون غيرهما. وكذلك لما كان المعطوف المقرون بأل لا يصلح أن ينوى قبله حرف نداء أجيز فيه ما أجيز في التوكيد والنعت وعطف البيان من الرفع والنصب، فلو كان متبوع شيء منها مضافا لزم التوافق في النصب، قال سيبويه: قلت – يعني الخليل -: أرأيت قول العرب: يا أخانا زيدا، قال: عطفوه على المنصوب فصار مثله، وهو الأصل. وقد قال قوم: يا أخانا زيدُ، وهو قول أهل المدينة، هذا بمنزلة قولنا: يازيد، كما كان قوله: يازيد أخانا، بمنزلة: ياأخانا، ويأأخانا زيد، الكثير في كلام العرب. وأجاز المازني والكوفيون إجراء المنسوق العاري من أل مجرى المقرون بها، فيقولون: يازيد وعمرا وعمرو، كما يقال بإجماع: يازيد والحارثُ والحارثَ. وما رواه غير بعيد من الصحة إذا لم تنو إعادة حرف النداء، فإن المتكلم قد يقصد إيقاع نداء واحد على الاسمين، كما يقصد تشريكهما في عامل واحد نحو: حسبت زيدا وعمرا حاضرين، وكأن خالدا وسعدا أسدان. ويجوز عندي أن يعتبر في البدل حالان: حال يجعل فيهما كمستقل وهو الكثير، كقولي فيما تقدم: يا غلام زيدُ. وحال يعطى فيها الرفع والنصب لشبهه فيها بالتوكيد والنعت وعطف البيان وعطف النسق المقرون بأل في عدم الصحة لتقدير حرف نداء قبله، نحو: ياتيم الرجال والنساء. وصحة هذه المسألة مرتبة على أن العامل في المبدل منه عامل البدل، وقد بينت ذلك في باب البدل بأكمل تبيين. ولغير البدل والمنسوق العاري من أل إذا كان مفردا تبع منادى كمرفوع الرفع حملا على اللفظ، والنصب حملا على الموضع. فيقال في النعت: يازيدُ الظريفُ والظريفَ. وفي التوكيد: يا تيم أجمعون وأجمعين. وفي عطف البيان: يا غلامُ بشرٌ وبشرا. وفي عطف المقرون بأل: يازيد والنضرُ والنضرَ، ونصب المقرون بأل أجود من رفعه عند أبي عمرو ويونس وعيسى وأبي عمر الجرمي، وفرق المبرد بين ما أثرت الألف واللام فيه

كالرجل، وبين مالم تؤثر فيه كالحارث. ورجح النصب على الرفع في نحو الرجل لشبهه بالمضاف في تأثره بما اتصل به، ورجح الرفع على النصب في نحو الحارث لشبهه بالمجرد في عدم التأثر. ويجب نصب التابع المضاف منصوبا كان متبوعه أو غير منصوب، ما لم تكن إضافته لفظية مع اقترانه بالألف واللام نحو: يا زيد الحسن الوجه، فيجوز فيه الرفع والنصب، كما يجوز فيه لو لم يضف، لأن إضافته في نية الانفصال، ولذلك لم تمنع من وجود الألف واللام. وأجاز أبو بكر بن الأنباري أن يرفع نعت المنادى المضموم إذا كان مضافا، نحو: يازيد صاحبنا. وهو غير جائز لاستلزامه تفضيل فرع على الأصل، وذلك أن المضاف لو كان منادى لم يكن بد من نصبه، فلو جوز رفع نعته مضافا لزم إعطاء المضاف في التبعية تفضيلا على المضاف في الاستقلال، قال سيبويه: قلت – يعني الخليل – أفرأيت قول العرب كلهم: أزيد أخا ورقاء لأي شيء لم يجز فيه الرفع كما جاز في الطويل؟ قال: لأن المنادى إذا وصف بالمضاف فهو بمنزلته إذا كان في موضعه. قلت: فقد تضمن كلام سيبويه أن "أخا ورقاء" منصوب عند العرب كلهم، وأنه لم يجز فيه الرفع. وإذا نُعت نَعْتُ المنادى لم يكن بد من الحمل على اللفظ نحو: يازيد الطويل الجسيم، نعتا للطويل تعين رفعه، ولو كان مضافا. وإن جعلته نعتا لزيد جاز رفعه ونصبه، لأن لزيد محلا من الإعراب يخالف لفظه، وليس للطويل محل يخالف لفظه. وتقول: يازيد نفسك، ونفسه. وياتيم كلكم، وكلهم، فتجيء بضمير يشعر بالحضور الذي تجدد بالنداء، كأنك قلت: أدعوك نفسك، وأناديكم كلكم.

وتجيء بضمير يشعر بالغيبة التي كانت قبل عروض النداء، كأنك قلت: أدعو زيدا نفسه، وأنادي تميما كلهم. وإذا كررت منادى مفردا نحو: يازيد زيد، فلك أن تضم الثاني وأن ترفعه وأن تنصبه، فالضم على تقدير: يازيد يازيد، ثم حذف حرف النداء، وبقي المنادى على ما كان عليه. والرفع على أنه عطف بيان على اللفظ. والنصب على أنه عطف بيان على الموضع. وأن يكون: يازيد زيد، على نداءين هو رأي سيبويه، فإنه قال: وتقول: يازيد زيد الطويل. وهو قول أبي عمرو. وزعم يونس أن رؤبة كان يقول: يازيد زيدا الطويل. فأما قول أبي عمرو فعلى قولك: يازيد الطويلُ"، فصرح بأنه على نداءين مؤكد أولهما بثانيهما توكيدا لفظيا. وأكثر النحويين يجعلون الثاني في نحو: يازيد زيد بدلا، وذلك عندي غير صحيح، لأن حق البدل أن يغاير المبدل منه بوجه ما، إذ لا معنى لإبدال الشيء من نفسه، ولذلك قال ابن جني بعد ذكر قراءة يعقوب: (كلُّ أمة تدعى) بالنصب، (كل أمة تدعى) بدل من "كل أمة جاثية" وجاز إبدال الثانية من الأولى لما في الثانية من الإيضاح الذي ليس في الأولى، لأن جثوها ليس فيه شيء من شرح حال الجثو، والثانية فيها ذكر السبب الداعي إلى جثوها، وهو دعاؤها إلى ما في كتابها، فهي الشرح من الأولى، فلذلك أفاد إبدالها منها. فصرح بما يقتضي أن الثانية من نحو: يازيد زيد، لا يكون بدلا إلا بضميمة تصيره كالمغاير، نحو أن يقال: يازيد زيد الطويل، على أن اختيار سيبويه في: يازيد زيد الطويل، مع وجدان الضميم التوكيد لا الإبدال. فإذا لم يوجد ضميم قوي داعي التوكيد، ولم يُعدل عنه. وروى قول رؤبة: إني وأسطارٍ سُطِرْن سَطْرا ... لقائل يانصرُ نصر نصرا

بضم الثاني دون تنوين، وبضمه وتنوينه، وبنصبه. فالضم دون تنوين على أنه منادى ثان كما ذكرت، والضم مع التنوين على أنه عطف بيان على اللفظ، والنصب على أنه عطف بيان على الموضع. وإذا كررت منادى مضافا، وكررت المضاف إليه فلا إشكال، نحو: ياتيم عدي تيم عدي، فهذا توكيد محض. وإذا كررت المضاف وحده فلك أن تضم الأول على أنه منادى مفرد، وتنصب الثاني على أنه منادى مضاف مستأنف، أو منصوب بإضمار أعني، أو على أنه توكيد أو عطف بيان أو بدل. ولك أن تنصب الأول على نية الإضافة إلى مثل ما أضيف إليه الثاني وتجعل الثاني توكيدا أو عطفا أو بدلا. ولك أن تجعل الأول والثاني اسما واحدا بالتركيب كما فعل في نحو: ألا ماء ماء باردا، وكما فعل بالموصوف والصفة في نحو: يا زيد بن عمرو، وفي نحو: لا رجل ظريف فيها. ولك أن تنوي إضافة الأول إلى الثالث، وتجعل الثاني مقحما، وهو مذهب سيبويه. ص: حال المضاف إلى الياء إن أضيف إليه منادى كحاله إن أضيف إليه غيره، إلا الأم والعم المضاف إليهما ابن، فاستعمالهما غالبا بفتح الميم أو كسرها دون ياء، وربما ثبتت أو قلبت ألفا. وتاء "يا أبت" عوض من ياء المتكلم. وكسرها أكثر من فتحها، وجعلها هاء في الخط والوقف جائز. ش: قد تقدم في باب الإضافة تبيين حال المضاف إلى الياء إذا كان منادى ببسط واستيفاء، فأغنى ذلك عن التكلم فيه الآن. وتكلم في المنادى المضاف إلى مضاف إلى الياء فبين أن المضاف إليها مع إضافة

منادى إليه، كالمضاف إليها مع إضافة غير منادى إليه، واستثنى "أم وعم" مضافا إليهما ابن فيقال: يابن أخي، ويابن خالي. كما يقال: هذا ابن أخي، وذلك ابن خالي، وللياء في الحالين السكون والفتح باستحسان، ومن فتح ما قبلها مبدلة ألفا، ومحذوفة بشذوذ، ما نسبه إليها في باب الإضافة. وإذا كان المضاف إلى الياء أما أو عما حذفت وأبقى كسر ما قبلها أو فتح، وهما لغتان فصيحتان، ومنه قوله تعالى: (قال ابنَ أمَّ إن القوم استضعفوني) و: (قال يابنَ أمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) قرأهما بالفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص، وقرأهما بالكسر ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي، والأصل: يابن أمي، ويابن أما، بإبدال الياء ألفا، لكن التزم غالبا لكثرة الاستعمال حذف حرف اللين، وربما ثبتا، فمن ثبوت الياء قول الشاعر: يابنَ أمِّي ولو شهدتُك إذْ تد ... عُو تميما وأنت غيرُ مجاب لشَدَدْتُ من ورائك حتى ... تبلغ الرحب أو تبز ثيابي ومثله: يابنَ أمِّي وياشُقَيِّقَ نفسي ... أنت خلّفْتني لدهرٍ شديد ومن ثبوت الألف قول الآخر: كنْ لي لا عليّ يابن عمّا ... نَدُم عزيزين ونُكْفَ الذمّا وقالوا في: ياأبي، وياأمي: ياأبتِ، وياأمتِ، وياأبتْ، وياأمتْ، فجعلوا التاء عوضا من الياء ولذلك لم يجتمعا إلا في الضرورة، كقول الشاعر: فيا أبتا لا تزلْ عندنا ... فإنا نخافُ بأن تُخْتَرم

ومثله: أيا أبتا لا زلْت فينا فإنما ... لنا أملٌ في العيش ما دُمْتَ عائشا قال أبو الفتح في المحتسب: قال أبو جعفر: (يا حَسْرتاي) فجمع بين العوض والمعوض منه، لأن الألف عوض من ياء المتكلم، وجعل من ذلك: ياأبتا، لأن التاء عوض من ياء المتكلم. قلت: وقالوا في: ياأبا، المقصور: ياأبات، ومنه قول الشاعر: تقول ابنتي لما رأتْني شاحبا ... كأنك فينا ياأبات غريبُ ولو لم يعوض لقال: يا أباي، كما يقال: يا فتاي. وكتابة هذه التاء تاء أولى من كتابتها هاء، ولذلك لم تكتب في المصحف إلا تاء، وبمراعاة رسم المصحف قرأ نافع وأبو عمرو والكوفيون، فوقفوا عليها تاء، ووقف ابن كثير وابن عامر بإبدالها هاء، وكلا الوجهين صحيح فصيح. ص: يقال للمنادى غير المصرح باسمه في التذكير: ياهنُ، وياهنان، وياهنون. وفي التأنيث: يا هنْتُ، ويا هَنْتان، ويا هنات. وقد يلي أواخرهن ما يلي آخر المندوب، ومنه: يا هناه بالكسر والضم، وليست الهاء بدلا من اللام خلافا لأكثر البصريين. ش: قال أبو حاتم: تقول في نداء المذكر: يا هنُ، ويا هنان، ويا هنون. وفي نداء المؤنث: يا هنْت، ويا هنْتان، بسكون ما قبل التاء، ويا هنات. ومن العرب من يقول: يا هناه، ويا هنانَيْه، ويا هنوناه، ويا هنتاه، ويا هنتانيه، ويا هناتوه. وفي المضاف إلى الياء: يا هن، ويا هني، ويا هنّي، ويا هنت، ويا هنْتا،

ويا هنات، بلا ياء فيه وفي المفردين. هذا حاصل كلام أبي حاتم الذي عزاه له أبو علي القالي في الأمالي. وإلى قول بعض العرب: يا هناه، إلى: يا هناتوه أشرت بقولي: "وقد يلي أواخرهن ما يلي آخر المندوب" ثم قلت: ومنه يا هناه، بالكسر والضم، والأصل السكون لأنها هاء السكت، لكنها أجري الوصل بها وبأشباهها مجرى الوقف في الثبوت، فحركت لسكونها في الأصل، وسكون ما قبلها، فمن حركها بالضم شبهها بهاء الضمير، ومن حركها بالكسر فعلى أصل التقاء الساكنين، وفي كسرها حجة بينة على أنها هاء سكت، لا بدل من لام الكلمة، واستدل ابن السراج على من زعم أنها بدل من اللام بأن العرب لم تقل في تثنيته إلا يا هنان، ولو كانت بدلا لقيل: يا هناهان. وفي هذا الاستدلال ضعف، لأن العرب قد تستغني فيما فيه لغتان بتثنية أخصر اللفظين، كقولهم في تثنية سواء سيان. وإنما الاستدلال القوي على أنها ليست بدلا من اللام، بل هاء سكت، بأن جوز كسرها، كما جوز الكسر في غيرها من هاءات السكت المسبوقة بألف، كقول الراجز: ياربِ ياربّاه إياكَ أسَلَ ... عَفراء ياربّاه من قبل الأجل روي بكسر الهاء وضمها، وقال الفراء: يقال: ياحسرتاه، بكسر الهاء وضمها، والكسر أكثر.

باب الاستغاثة والتعجب المشبه بها

باب الاستغاثة والتعجب المشبه بها ص: إن استغيث المنادى أو تعجب منه جر باللام مفتوحة بما يجر في غير النداء، وتكسر اللام مع المعطوف غير المعاد معه "يا" ومع المستغاث من أجله، وقد يجر بمن، ويستغنى عنه إن علم سبب الاستغاثة، وقد يحذف المستغاث فيلي "يا" المستغاث من أجله. وإن ولي "يا" اسم لا ينادى إلا مجازا، جاز فتح اللام باعتبار استغاثته، وكسرها باعتبار الاستغاثة من أجله، ويكون المستغاث محذوفا. وربما كان المستغاث مستغاثا من أجله تقريعا وتهديدا. وليست لام الاستغاثة بعض "آل" خلافا للكوفيين، وتعاقبها ألف كألف المندوب، وربما استغنى عنها في التعجب. ش: الاستغاثة دعاء المنتصر المنتصر به، والمستعين المستعان به، والمعروف في اللغة تعدى فعله بنفسه نحو: استغاث زيد عمرا قال الله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) وقال تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) فالداعي مستغيث، والمدعو مستغاث. والنحويون يقولون: استغاث به، فهو مستغاث به، وكلام العرب بخلاف ذلك. ومثال استغاثة المنادى قول عمر رضي الله عنه لما طعنه العلج فيروز لعنه الله: يالله للمسلمين، ومثله قول قيس بن ذريح: تَكَنَّفَني الوُشاةُ فأزعجوني ... فيا لَلنّاس للواشي المُطاع

ومثال المنادى المتعجب منه قول العرب: ياللعجب، وياللفليقة، وياللماء، وياللدواهي. ومنه قول الشاعر: لخُطّابُ ليلى يالَبُرْثُن منكم ... أدَلُّ وأمضى من سُلَيْك المَقانبِ وقولي ابن أبي ربيعة: أوانِس يَسْلُبْن الحليم فُؤادَه ... فيا طُولَ ماشوقٍ وياحسن مُجْتَلى وإن كان المستغاث قبل الاستغاثة معربا استصحب إعرابه، كقولك في: ياغلام زيد: يالغلام زيد. وإن كان مبنيا بناء حادثا في النداء أعيد إلى الإعراب، وجرته اللام بما كانت تجره في غير النداء، كقولك في: يازيد، ويا زيدان، ويا زيدون: يا لزيد، ويا للزيدَيْن، ويا للزيدِين. وإن كان مبنيا قبل النداء استصحب بناؤه، وحكم بجره تقديرا، كقولك: يالرقاشِ، ويالهذا. وكذا إن كان مقصورا أو منقوصا أو مضافا إلى ياء المتكلم، كقولك: يالموسى، وياللقاضي، ويالصاحبي. وكل هذه الأنواع منبه عليها بقولي: جر باللام مفتوحة بما يجر في غير النداء. وإن عطف على المنادى المستغاث غيره وأعيد معه "يا" فتحت اللام أيضا، كقول الشاعر: يالَعَطّافِنا ويالرِياح ... وأبي الحَشْرَجِ الفتى النَّفَّاحِ ومثله: فيا لَسَعْدٍ ويالَلناس كلِّهم ... ويالَغائبهم ويالَمن شَهِدا وإن لم تُعد مع المعطوف "يا" كسرت اللام، كقوله:

يا لَقومي وللذين تَوَلّوْ ... همْ لباغين بَغْيُهم في ازدياد وأما المستغاث من أجله فلا بد من كسر لامه نحو: ألا يالقَومي للنوائب والدهر ... وللمرء يردي نفسَه وهو لا يدري وللأرض كم من صالح قد تلمأت ... عليه فوارته بلمّاعة قفر وقد يستغنى عنها بمن، كقول الشاعر: يالَلرِّجال ذوي الألباب من نَفَر ... لا يَبْرحُ السَّفَهُ المُرْدى لهم دينا ويستغنى كثيرا عن المستغاث من أجله للعلم به، بظهور سبب الاستغاثة، كقول الفرزدق: يالتميم ألا لله دَرُّكُم ... لقد رُميتمْ بإحدى المصمئلات وكقول عدي بن زيد: فهل من خالدٍ إمّا هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عارُ وقد يكون المستغاث من أجله غير صالح لأن يكون مستغاثا، ويكون المستغاث مشاهدا، فيستباح حذفه، ويتصل المستغاث من أجله بيا مجرورا باللام المكسورة، كقول الشاعر: يا لِأُناسٍ أبَوْا إلا مُثابرةً ... على التَّوَغُّلِ في بغي وعدوان فيتعين في مثل هذا كسر اللام، لأن مصحوبها غير صالح لأن يكون مستغاثا، بل مستغاثا من أجله، والمستغاث محذوف، والتقدير: يالقومي لأناس. وروي عن العرب في: ياللعجب، وياللماء، ونحوهما فتح اللام على أن مصحوبها

مستغاث، وكسرها على أن مصحوبها مستغاث من أجله. وعلى هذا النوع نبهت بقولي: "وإن ولى يا اسم لا ينادى إلا مجازا" إلى آخر القول: ونبهت بقولي: "وربما كان المستغاث مستغاثا من أجله" على نحو قول القائل: يالزيد لزيد، أي: يازيد أدعوك لتنصف من نفسك. ومنه قول مهلهل: يالَبكر أنْشِرُوا لي كُلَيْبا ... يالبكر أين أين الفرار ولما كان ما ولى "يا" في الاستغاثة مستغاثا تارة، ومستغاثا من أجله تارة، فرقوا بين لاميهما بالفتح والكسر، خص الفتح بلام المستغاث لشبه ما هي فيه بضمير المخاطب، ولاتصالها بألف "يا" لفظا وتقديرا. وزعم الكوفيون أن أصل: يالفلان: يا آل فلان، ولذلك جاز أن يوقف عليها، كقول الشاعر: فخيرٌ نحن عند الناس منكم ... إذا الدَّاعي المُثَوِّبُ قال يالا ولا حجة في هذا البيت، لاحتمال أن يكون الأصل: ياقوم لا فرار، أو لا تفروا. ومما يدل على ضعف ما ذهبوا إليه الرجوع إلى الكسر في العطف دون إعادة "يا"، ولو كانت بعض آل لم يكن لكسرها في العطف موجب. وأيضا لو كانت بعض آل لم تدخل على ما لا تدخل عليه آل، نحو: يالله، وياللناس، ويالهؤلاء. وتعاقب هذه اللام ألف في الآخر كألف المندوب، ولا يجوز الجمع بينهما، كما لا يجوز الجمع بين هاء الجحاجحة وياء الجحاجيح، وكما لا يجوز الجميع بين ياء يمنيّ وألف يمان، هذا معنى قول الخليل وسيبويه. ولا بد من الألف عند حذف اللام، وقد يستغنى عنهما في التعجب كقول عمر أبي ربيعة: أوانِسُ يَسْلُبْن الحليمَ فؤادَه ... فيا طولَ ما شوقي وياحُسْن مُجْتَلى

باب الندبة

باب الندبة ص: المندوب هو المذكور بعد "يا" أو "وا" تفجعا لفقده حقيقة أو حكما، أو توجعا لكونه محلَّ ألم أو سببه. ولا يكون اسم جنس مفردا، ولا ضميرا، ولا اسم إشارة، ولا موصولا بصلة لا تعينه، ويساوي المنادى في غير ذلك من الأقسام والأحكام. ويتعين إيلاؤه "وا" عند خوف اللبس. ش: المذكور تفجعا لفقده حقيقة أو حكما كقول الباكي على ميت اسمه زيد: يا زيدا، أو وازيدا. ومنه قول جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: حُمِّلتَ أمرا عظيما فاصْطبرتَ له ... وقمتَ فينا بأمر الله يا عمرا ومثله قول الآخر: يا يمينا أطْمَعْتِ مذ بنْتِ أعدا ... ئي وقِدما أوسعْتُهم بك قهرا والمندوب تفجعا لكونه في حكم المفقود كقول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: واعمراه، واعمراه، حين أعلم بجدب شديد أصاب قوما من العرب. وكقول الخنساء ومن أسِر معها من آل صخر، وصخر غائب غير مرجو الحضور: واصخراه، واصخراه. والمندوب توجعا لكونه محل ألم كقول قيس العامري: فواكبدي من حُبِّ من لا يُحبُّني ... ومن عبراتٍ ما لهن فناءُ

والمندوب توجعا لكونه سببا للألم كقول ابن قيس الرقيات: تَبْكيهمُ دَهْماءُ مُعْوِلةً ... وتقولُ سلمى وارَزِيَّتيه ولا يندب اسم جنس مفرد، ولا اسم إشارة، ولا موصول بصلة لا يتعين بها المندوب، فلا يقال في رجل: وارجلاه. ولا في: أنت: وا أنتاه. ولا في: هذا: واهذاه. ولا في: من ذهب: وا من ذهباه. ويندب اسم الجنس المضاف نحو: واغلام زيداه، والموصول بصلة تعين المندوب نحو: وامن حفر بئر زمزماه. ونبهت بقولي: "ويساوي المنادى في غير ذلك من الأقسام" على أنه قد يكون علما، واسم جنس مضافا، وموصولا بصلة معينة. ومن مساواة المنادى في الأحكام أنه إذا لم تل آخره الألف ضم إن كان مما يضم في النداء نحو: وازيدُ. أو نصب إن كان مما ينصب في النداء نحو: واعبدَ الله، واضرُوبا رءوس الأعداء، ووا ثلاثة وثلاثين للحاق الزيادة. واثلاثة وثلاثيناه. ومن مساواته في الأحكام أنه إذا دعت الضرورة إلى تنوينه جاز استصحاب ضمته وتبديلها فتحة، كقول الراجز: وافَقْعسا وأينَ مِنِّي فقعسُ كذا روي منصوبا، ولو قيل بالضم: وا فقعسٌ، لجاز. وإذا أمن أن يلتبس المندوب بمنادى غير مندوب جاز وقوعه بعد "يا" و"وا" نحو: وامن حفر بئر زمزماه. فلو قيل هنا: يامن حفر بئر زمزماه، لم يُخَفْ لبس، فاستعمال "يا" و"وا" فيه جائز. بخلاف قولك: يازيد، وفي الحضرة من اسمه زيد، فلا يجوز أن يستعمل فيه إلا "وا" لأن الذي يليها لا يكون إلا مندوبا. ولا تتعين الندبة بالألف التي تلي الآخر والحرف المنبه

به "يا"، لأن المنادى البعيد قد تلي الألفُ آخره، كقول المرأة لابن أبي ربيعة: نظرت كثعبى، فرأيته ملء العين وأمنية المتمني، فصحتُ: واعمراه. فقال عمر: يالبَّيْكاه". ولم ير سيبويه زيادة الألف المذكورة إلا في ندبة أو استغاثة أو تعجب. ص: وتلحق جوازا آخرَ ما تمّ به ألفٌ يفتح لها متلوُّها متحركا، ويحذف إن كان ألفا أو تنوينا أو ياء ساكنة مضافا إليها المندوب، وقد تفتح. ش: آخر ما تم به المندوب يعم آخر المفرد نحو: وا زيداه، وآخر المضاف إليه نحو: وا عبد الملكاه، وآخر الصلة نحو: وامَنْ حفر بئر زمزماه، وآخر المركب تركيب مزج نحو: وا معد يكرباه، وواسيبويهاه، وآخر المركب تركيب إسناد نحو: واتأبط شراه. وقيدت لحاق هذه الألف بالجواز لئلا يعتقد لزومه. ونبهت على فتح متلوها ليعلم أن ضمة: يازيدُ، وكسرة: يا عبد الملك، وما أشبههما مستوية في التبدل بفتحة لأجل الألف نحو: يازيداه، ويا عبد الملكاه. وإن وجدت الفتحة قبل أن يجاء بالالف استصحبت إذا جيء بالألف، كقولك في: عبد يغوثَ: ياعبد يغوثاه. ونبهت بقولي: "ويحذف إن كان ألفا أو تنوينا أو ياء ساكنة مضافا إليها" على حذف المتمم إن كان ألفا كقولك في موسى: ياموساه. أو تنوينا كقولك في غلام زيد: وا غلام زيداه. أو ياء ساكنة مضافا إليها كقولك في غلامي: ياغلاماه، وقد يقال: ياغلامياه. ومن قال في النداء: ياغلاميَ، بالفتح، استصحب الفتح في الندبة نحو: واغلامياه. ومن لم يجئ بالألف فله أن يقول: واغلامي، بالسكون وواغلاميَه، باستصحاب الفتحة وزيادة هاء السكت، كما قال ابن قيس: وتقول سلمى يارزيَّتيه

ص: وقد تلحق ألفُ الندبة نعت المندوب، والمجرورَ بإضافة نعته، ويقاس عليه، وفاقا ليونس. وقد تلحق منادى غير مندوب ولا مستغاث خلافا لسيبويه. وتليها في الغالب سالمة ومنقلبة هاءٌ ساكنةٌ تحذف وصلا. وربما لبثت مكسورة أو مضمومة، ويستغنى عنها وعن الألف فيما آخره ألف وهاء، ولا تحذف همزة ذي ألف التأنيث الممدودة خلافا للكوفيين. ش: لا يجيز الخليل ولا سيبويه أن تلحق ألف الندبة آخر نعت المندوب، وأجاز ذلك يونس نحو أن يقول: وازيد البطلاه. ويؤيد قول يونس قولُ بعض العرب: واجمجمتي الشامِيَّتَيْناه، وقول الشاعر: ألا يا عمرُو عَمْراه ... وعمرُو بن الزُّبَيْراه فلحقت في: الشاميتيناه، وهو نعت مندوب، ولحقت في: عمراه وهو توكيد مندوب، ولحقت في الزبيراه، وهو مضاف إليه نعت معطوف على مندوب، ولحاقها نعت المندوب كقول الشاعر: كم قائل ياأسعد بن سعداه ... كل امرئ باك عليك أراه وأجاز غير سيبويه أن تلحق الألف منادى خاليا من استغاثة وتعجب كما تقدم من قول المرأة لعمر بن أبي ربيعة. والأكثر كون ألف المندوب في الوقف متلوة بهاء ساكنة تسمى هاء السكت، وكذا ألف الاستغاثة والتعجب. وقد تثبت في الوصل مكسورة ومضمومة، وقد تكلم عن ذلك في غير الندبة. ومن لحاقها مضمومة في الندبة قول الشاعر: ألا ياعَمْرو عمراه ... وعمرو بن الزبيراه

ويعرض قلب ألف الندبة ياء أو واوا فتليها الهاء منقلبة على نحو ما وليتها سالمة، وسيبين سبب انقلابها. وإن كان آخر المندوب وما أشبهه ألفا وهاء، واستغنى فيه عن ألف الندبة وهائها، واستثقالا لألف وهاء بعد ألف وهاء، ولا يقال في: عبد الله: يا عبد اللهاه، ولا في: جمجماه: ياجمجماهاه، لما فيه من الثقل. ولو كان موضع الهاء التي هي آخر الاسم همزة لم يمنع إيلاؤها ألف الندبة، ولم تحذف إلا عند الكوفيين، فإنهم يقولون في ندبة حمراء علما: ياحمراه، بحذف الهمزة والألف التي كانت قبلها. وعلى ذلك نبهت بقولي: "ولا تحذف همزة ذي ألف التأنيث الممدودة خلافا للكوفيين". فصل: ص: يبدل من ألف الندبة مجانس ما وليتْ من كسرة إضمار أو يائه أو ضمته أو واوه، وربما حمل أمن اللبس على الاستغناء بالفتحة والألف عن الكسرة والياء، وقلبها ياء بعد نون اسم مثنى جائز، خلافا للبصريين. ولا تقلب بعد كسرة فَعالِ، ولا بعد كسرة إعراب، ولا يحرك لأجلها تنوينٌ بكسر ولا فتح، ولا يستغنى عنها بالفتحة، خلافا للكوفيين في المسائل الأربع. ش: إذا كان آخر المندوب علامة إضمار مكسور أو مضموم حوفظ على الكسرة والضمة، وجعل بدل ألف الندبة ياء بعد الكسرة، وواوا بعد الضمة، فيقال في ندبة: غلامكِ: واغلامكيه. وفي ندبة: أنتِ وفعلتِ علما: وا أنتيه، ووافعلتيه. ويقال في ندبة غلامه وغلامُهم: واغلامهُوه وواغلامهُمُوه. ويقال في ندبة مُسَمًّى بفعلتُ: وافعلتوه. ويقال في المسمى بقُومي وقاموا: واقوميه، وواقاموه. وروعي في هذه الأمثلة وأشباهها جانب ما قبل الألف ليؤمن اللبس، إذ لو قيل: واغلامكاه، ووا أنتاه، ووافعلتاه مراعاة لجانب الألف لجهل التأنيث المدلول عليه بالكسرة. ولو قيل: واغلامهاه، وواغلامهماه، ووافعلتاه، لجهل المعنى المدلول عليه بالضمة. ولو قيل في: قومي وقاموا: واقوماه، وواقاماه، لجهلت الحكاية.

ونبهت بقولي: "وربما حمل أمن اللبس على الاستغناء بالفتحة والألف عن الكسرة والياء" على قول ابن أبي ربيعة للمرأة: يالبيكاه، ولم يقل: يالبيكيه، لأمن اللبس. والبصريون يلتزمون فتح نون التثنية في ندبة المثنى، فيقولون: يازيداناه. والكوفيون يجيزون هذا، ويجيزون أيضا أن يقال: يازيدانيه، وهو عندي أولى من الألف وسلامة الألف لوجهين: أحدهما: أن في الفتح وسلامة الألف إيهام أن اللفظ ليس لفظ تثنية، وإنما هو من الأعلام المختتمة بألف ونون مزيدتين كسلمان ومروان. الثاني: أن أبا حاتم حكى أن العرب تقول في نداءهن مثنى: ياهنانية، ولم يحك: ياهناناه، والقياس إنما يكون على ما سمع لا على ما لم يسمع. وأجاز الكوفيون أن يقال: يارقاشيه، وياعبد الملكية، وياغلام زيدنيه وزيدناه. وأن يقال: ياعمَرَ، استغناء بالفتحة عن الألف. وما رأوه حسن لو عضده سماع، لكن السماع فيه لم يثبت، فكان الأخذ به ضعيفا.

باب أسماء لازمت النداء

باب أسماء لازمت النداء ص: وهي "فل" و "ملأ مان" و"ملأم" و "لُؤْمان" و"نَوْمان" والمعدول إلى "فُعَل" في سب المذكر وإلى "فَعالِ" مبنيا على الكسر في سب المؤنث، وهو والذي بمعنى الأمر مقيسان في الثلاثي المجرد، وفاقا لسيبويه. وقد يقال: رجل مَكرُمان ومَلْأمان، وامرأة ملأمانة. ونحو: أمسك فلانا عن فل * وقعيدته لكاع * من الضرورات. ش: يقال في النداء: يافُلُ، للرجل، ويافلة، للمرأة. بمعنى: يافلان، ويافلانة، وهما الأصل. ولا يستعملان منقوصين في غير النداء إلا في ضرورة، كقول الراجز: في لُجّة أمسك فلانا عن فل ويقال أيضا في نداء العزيز الكريم: يا مكرُمان، وفي نداء ضده: يا مَلْأمان، ويامَلأم، ويالُؤمان. ويقال في نداء الكثير النوم: يانومان. والمشهور ألا يستعمل شيء من هذه الخمسة في غير نداء. وكذلك المعدول في سب الذكور إلى فُعَل نحو: ياغُدَر، ويا فُسَق، ويا خبث، وكذا المعدول في سب الإناث إلى فعالِ، نحو: ياغدار، ويا فساق، ويا خباث. وهذا الثاني وموازنه الدال على الأمر كنزاك وتراك ومناع لا يقتصر فيهما على السماع، بل يصاغان من كل فعل ثلاثي مجرد قياسا، فيقال: يالآم، ويا نجاس، ويا قذار، بمعنى: لئيمة، ونجسة، وقذرة، وكذا ما أشبههما إذا كان الفعل ثلاثيا مجردا من

الزيادة. وكذا بفعل الأمر، فتقول: جلاسِ، وقوام، ونطاق بمعنى: اجلس، وقم، وانطق. فلو كان الفعل ثلاثي الأصول وليس مجردا من الزيادة كآدمَ، لم يبن منه فعال إلا بسماع كدَراكِ بمعنى أدْرِك، فهذا شاذ لا يقاس عليه. ومن فعال الذي حقه الاختصاص بالنداء لَكاعِ، وقد يستعمل في الضرورة غير منادى كقول الشاعر: أُطَوِّف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قَعِيدَتُه لكاع وروى ابن سيدة أنه يقال: رجل مَكرماه، ومَلأمان، وامرأة ملأمانة. والمشهور اختصاص مكرمان وملأمان بالنداء.

باب ترخيم المنادى

باب ترخيم المنادى ص: يجوز ترخيم المنادى المبني إذا كان مؤنثا بالهاء مطلقا، أو علما زائدا على الثلاثة بحذف عجزه إن كان مركبا، ومع الألف إن كان "اثنا عشر" أو "اثنتا عشرة" وإن كان مفردا فبحذف آخره مصحوبا - إن لم يكن هاء تأنيث - بما قبله من حرف لين ساكن زائد مسبوق بحركة مُجانسة ظاهرة أو مقدرة وبأكثر من حرفين، وإلا فغير مصحوب، خلافا للفراء في نحو: عماد وسعيد وثمود، وله وللجرمي في نحو: فردوس وغرنيق. ولا يرخم الثلاثي المحرك الوسط العاري من هاء التأنيث خلافا للكوفيين إلا الكسائي. ويجوز ترخيم لفظ الجملة وفاقا لسيبويه. ش: يستعمل لفظ الترخيم في التصغير كما يستعمل في النداء، والمرادان مختلفان، فلذلك قيدت هنا الترخيم بإضافته إلى المنادى، ولم أطلق فأقول: باب الترخيم. وقيدت المنادى المجوز ترخيمه بكونه مبنيا، ليعلم أن المنادى المعرب لا يرخم، فخرج المضاف والمضارع له، والمستغاث. وأشرت بقولي: "إن كان مؤنثا بالهاء مطلقا" إلى أن ما فيه هاء التأنيث لا يشترط في ترخيمه علمية، ولا زيادة على الثلاثة، بل يرخم ما هي فيه وإن كان ثنائيا بدونها غير علم، ومن ذلك قول بعض العرب: ياشا ادجني، يريد: ياشاة أقيمي ولا تسرحي. وقيدت العاري من هاء التأنيث بالعلمية، ليخرج ما ليس علما، كاسم الجنس، والموصول، واسم الإشارة. وقيدته بالزيادة على الثلاثي، ليخرج الثلاثي المجرد، كبَكْر وزفر. ثم بينت ما يحذف من العلم في الترخيم، فقلت: يحذف عجزه إن كان مركبا،

فيتناول ذلك المركب بمزج كحضرموت وسيبويه وخمسة عشر، فيقال: ياحضر، ويا سيب، ويا خمسة في المسمى بخمسة عشر. وكذلك ما أشبهها. وتناول أيضا المركب بإسناد كتأبط شرا، وأكثر النحويين يمنعون ترخيمه، لأن سيبويه منع ترخيمه في باب الترخيم، ونص في باب النسب على أن من العرب من يرخمه، فيقول في تأبط شرا: ياتأبط. ورتب على ترخيمه النسب إليه، ولاخلاف في النسب إليه. ولم يتناول المضاف ولا المضارع له كثلاثين رجلا، علما، لأنهما معربان، وقد تقدم أن المرخم لا يكون إلا مبنيا، ولو كان العلم المركب "اثنا عشر" أو "اثنتا عشرة" ورخم حذفت الألف مع العجز، لأنه واقع موقع "اثنان" و"اثنتان" فيقال: يااثنَ، ويااثنتَ، كما يقال في ترخيمهما لو لم يركبا. وإن كان العلم مفردا وفيه هاء التأنيث رخم بحذفها وحدها، وسواء في ذلك القليل الحروف والكثيرها، والمزيد فيه قبلها وما ليس كذلك، فيقال في: ثُبة، وسَفَرْجلة ومَرْجانة، وهَيْجُمانة أعلاما: ياثبَ، ويا سفرجلَ، ويا مرجانَ، ويا هيجُمانَ. وإن عرى العلم المفرد من هاء التأنيث خماسيا فصاعدا، وقبل آخره حرف لين ساكن زائد مسبوق بحركة مجانسة، فترخيمه بحذف آخره، وحذف حرف اللين المذكور، سواء في ذلك ما آخره زائد وما آخره أصلي، فيقال في: مروان وعفراء ويعفور وعرفات ويعقوب وإدريس وإسحاق: يامرو، وياعفر، ويايعف، وياعرف، ويايعق، ويا إدر، وياإسح. فلو كان الذي قبل آخره حرف اللين المقيد رباعيا كعماد وسعيد وثمود، اقتصر

على حذف الآخر، فيقال: ياعما، ويا سعى، وياثمو، وكذا إن كان حرف اللين متحركا كمُسَرْوَل، أو ساكنا مبدلا من أصل كمختار، أو مسبوقا بحركة غير مجانسة كفردوس وغُرْنَيْق، فلا يحذف من هذه وأمثالها إلا الأواخر، فيقال: يامُسَرْوَ، ويا مختا، ويافِرْدَوْ، ويا غُرْنَيْ. فإن كانت الحركة غير مجانسة ولكنها متلوة بمجانسة مقدرة كمصطفَوْن علما، فالحكم كالحكم مع المجانسة المنطوقة بها. وأجاز الفراء أن يقال في: عماد وسعيد وثمود: ياعما، وياسعى، ويا ثمو، وياعم، وياسع، وياثم. وأجاز هو والجرمي أن يقال في: فردوس وغرنيق: يافرد وياغرن، فيعاملان حرف اللين الساكن الزائد بعد متحرك بفتحة متصلة لفظا وتقديرا معاملته بعد متحرك بحركة مجانسة. وأجاز الفراء أيضا ترخيم الثلاثي العاري من هاء التأنيث إن كان ثانيه متحركا كأسد وسبع ونمر وزفر. فصل: ص: تقدير ثبوت المحذوف للترخيم أعرف من تقدير التمام بدونه، فلا يغير على الأعرف ما بقي إلا بتحريك آخر تلا ألفا وكان مدغما في المحذوف، بفتحة إن كان أصلي السكون، وإلا فبالحركة التي كانت له خلافا لأكثرهم في رد ما حذف لأجل واو الجمع، ولا يمنع الترخيم على الأعرف من نحو ثمود، خلافا للفراء في التزام حذف واوه. ويتعين الأعرف فيما يوهم تقدير تمامه تذكير مؤنث، وفيما يلزم بتقدير تمامه عدم النظير. ويعطى آخر المقدر التمام ما يستحقه لو تمم به وضعا. وإن كان ثانيا ذا لين ضُعِّف إن لم يعلم له ثالث، وجيء به إن علم.

ش: كون المحذوف في الترخيم منوي الثبوت شبيه بقولهم في جمع جارية: جوار، ببقاء الكسرة دليلا على ثبوت الياء تقديرا، وأن الإعراب منوي فيها. وكون الباقي بعد الترخيم في حكم المستقل تشبيه بحذف آخر المعتل الآخر وجعل ما قبله حرف إعراب، كقولهم: يد ودم وجوار، ولا ريب في اطراد الأول وشذوذ الثاني، ولذلك كثر في الترخيم تقدير ثبوت المحذوف، نحو قولك في: حارث وجعفر وهرقل: ياحارِ، وياجعفَ وياهرقْ. وقل فيه تقدير الاستقلال نحو قولك: ياحارُ وياجعف، وياهرقُ. ونبهت بقولي: فلا يغير على الأعرف ما بقي إلا بتحريك آخر تلا ألفا، وكان مدغما في المحذوف على نحو: مضار وتضار وإسحار أعلاما، ترخم بحذف قاني مثليها، ويبقى أولهما ساكنا وقبله ألف، فلا بد من تحريكه لئلا يلتقي في الوصل ساكنان على غير الشرط المعتبر، أعني كون الثاني مدغما في مثله، فيجب في التحريك بالرد إلى الأصل فيما له حركة أصلية، فيقال في مضار المنقول من اسم فاعل: يامضارِ، وفي المنقول من اسم مفعول: يامضارَ. ويقال في المنقول من تضار: ياتضارِ، لأن أصله: تضادِر. فلو لم يكن للساكن حركة أصلية كإسحارّ، وهو نبت، حرك بالفتحة لمجانستها الألف، ولأنها حركة أقرب المتحركات. وإلى إسحارّ ونحوه أشرت بقولي: إن كان أصلي السكون. وأكثر النحويين يردون ما حذف لأجل واو الجمع، فيقولون في ترخيم قاضون ومصطفون علمين: ياقاضِي، ويامصطفى، ويشبهونه برد ما حذف لأجل نون التوكيد الخفيفة عند زوالها وقفا، كقول الواقف على: هل تَفْعَلُنْ: هل تفعلون، برد واو الضمير ونون الرفع لزوال سبب حذفهما وهو ثبوت نون التوكيد وصلا، وهذا التشبيه ضعيف، لأن الحذف لأجل الترخيم غير لازم، فيصح معه أن ينوى ثبوت المحذوف، وحذف نون التوكيد الخفيفة لأجل الوقف لازم، فلا يصح معه أن ينوى ثبوت المحذوف.

واحتجُّوا أيضا بأن ياء قاضي، وألف مصطفى حذفتا لملاقاة الواو، فإذا حذفت الواو للترخيم ردت الياء والألف، كما تردان إذا حذف المضاف إليه في نحو: إن مدمني البر وافرو الأجر، لأنه لو لم يردا لكان حذفهما دون سبب. وهذا الاحتجاج يستلزم أن يعاد إلى كل متغير بسبب إزالة الترخيم ما كان يستحقه لو لم يكن ذلك السبب موجودا أصلا، فكان يقال في ترخيم كَرَوان وقَرَوان: ياكرا، وياقرا، قولا واحدا. لأن سبب تصحيح واوهما هو تلاقي الساكنين وقد زال، ومع ذلك يبقون الحكم المرتب عليه، لكون المحذوف منوي الثبوت، ولا فرق بين نية ثبوته ونية ثبوت سبب حذف ياء قاضون وألف مصطفون حين يرخمان، فعلى هذا يقال في ترخميهما على مذهب من ينوي المحذوف: ياقاضُ، ويامصطف، بالضم والفتح، ليدل بذلك على تقدير ثبوت المحذوف. وأما على مذهب من يجعل ما بقي مقدر الاستقلال، فيجوز أن يقال: ياقاضِ وياقاضي، ويا مصطفَ، ويامصطفى. ويقال في ثمود على مذهب من ينوي المحذوف: ياثمو، ولا يمنع منه عدم النظير بسلامة واو بعد ضمة في آخر اسم عارض البناء، لأنها غير متأخرة في التقدير، ومنع ذلك الفراء لتأخرها لفظا، ولم يعتد بتقدير المحذوف، وألزم من أراد الترخيم في ثمود وشبهه أن يحذف الواو فيقول: ياثم، ولا يبالي ببقاء الاسم على حرفين، لأن ذلك عنده جائز. ونبهت بقولي: "ويتعين الأعرف فيما يوهم تقدير تمامه تذكير مؤنث" على أنه لا يرخم نحو: عمرة وضخمة إلا على لغة من ينوي المحذوف، ويدع آخر ما بقي على ما كان عليه، لأنهما لو رخما على تقدير الاستقلال فقيل: ياعمرُ، وياضخمُ، لتبادر إلى ذهن السامع أن المناديين رجل اسمه عمرو، ورجل موصوف بالضخم، وذلك مأمون بأن ينوي المحذوف، وتبقى الراء والميم مفتوحتين، وكذلك ما أشبههما. وكذلك يتعين الوجه الأعرف فيما لو رخم على تقدير التمام لزم منه استعمال مالا

نظير له، والإشارة بذلك إلى أمثلة منها: طيلِسان، بكسر اللام، إذا سمي به رخم، فيجب تقدير ثبوت ما حذف منه، لأنه لو قدر تاما لزم وجود: فيعل، بكسر العين مع صحتها، وهو مهمل في وضع العرب، وذلك مأمون بترخيمه على الوجه الأعرف، أعني الترخيم على لغة من ينوي ثبوت المحذوف. ومثل طيلِسان حِذْرية إذا سمي به ورخم، لا يرخم إلا على لغة من ينوي ثبوت المحذوف، فيقال: ياحذريَ، بفتح الياء على تقدير ثبوت الهاء، ولا يقدر التمام فيقال: ياحِذرِي، بالسكون، لئلا يلزم وجود اسم على فعلي، وهو مهمل وضعا. ومما يجب ترخيمه على الوجه الأعرف: عرقوة، علما، فيقال فيه: ياعرقوَ، على نية المحذوف، ولا يرخم على تقدير التمام، لأن ذلك يوجب أن يقال: ياعَرْقِي، بفتح الفاء وكسر اللام، وهو مهمل وضعا كفِعْلِي بكسرهما. ومما يجب ترخيمهه على الوجه الأعرف حبلوي وحمراوي، علمين، فيقال فيهما، ياحبلو، وياحمراو، على نية ثبوت المحذوف، لا على التقدير التمام، فإن ذلك يوجب أن يقال: ياحبلى وياحمرا، بقلب الواو التالية اللام ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وبقلب الواو التالية الألف همزة، لتطرفها بعد ألف زائدة، فيلزم من ذلك ثبوت مالا نظير له، وهو كون ألف فعلى مبدلة من واو، وهي لا تكون إلا زائدة غير مبدلة من شيء، وكون همزة فعلاء مبدلة من واو، وهي لا تكون إلا مبدلة من ألف. ولاستيفاء الكلام على هذا وأمثاله موضع يأتي إن شاء الله تعالى. فإلى هذه المسائل أشرت بقولي: "وفيما يلزم بتقدير تمامه عدم النظير" ثم قلت: "ويعطى آخر مقدر التمام ما يستحقه لو تمم به وضعا" فنبهت بذلك على إظهار ضمته إن كان صحيحا، كقولك في: حارث وجعفر وهرقل: ياحارُ، وياجعفُ، وياهرقُ. وعلى تقديرها إن كان معتلا، كقولك في: ناجية يا ناجي، بسكون الياء، والسكون فيها دليل على تقدير ضمها، وأن لغة تقدير التمام

مقصودة، إذ لو كان على اللغة الأخرى لفتحت الياء. ونبهت بقولي أيضا: "ويعطى آخر المقدر التمام ما يستحقه لو تمم به وضعا" على أنه يقال في: ياثمو، ياثمي، فيفعل به من إبدال الضمة كسرة، والواو ياء ما فعل بجرو حين قيل في جمعه: أجر. ونبهت بذلك أيضا على أنه يقال في: كروان وصَمَيان علمين: ياكرا، وياصما، فيعاملان معاملة: عصا وهدى. ونبهت بذلك أيضا على أنه يقال في: عِلاوة وعناية: ياعلاء وياعناء، فيعاملان معاملة كساء ورداء، وجراء وظباء. ثم قلت: "وإن كان ثانيا ذا لين ضعف إن لم يعلم له ثالث، وجيء به إن علم" فنبهت بذلك على أنه لات إذا جعل علما، ثم رخم على تقدير التمام، حذفت التاء، وضعف الألف، وحركت الثانية فانقلبت همزة، فيقال: يالاء، وكان التضعيف مستحقا لعدم العلم بثالث، فلو علم الثالث لجيء به. والإشارة بذلك إلى: "ذات" علما، فإنه إذا رخم على تقدير التمام حذفت تاؤه، وجيء به متمما: ياذوا، لأن أصل ذات ذوات، ولذلك قيل في التثنية: ذواتا. وقد قررت ذلك من غير هذا الباب. ومن المنقوص الثنائي المعلوم الثالث شاة، فإن أصله: شاهة، فإذا رخم على تقدير التمام قيل: ياشاه. ولو رخم على تقدير ثبوت المحذوف لقيل: ياشا. ومنه قول: ياشا ادجني. فصل: ص: قد يقدر حذف هاء التأنيث ترخيما فتقحم مفتوحة، ولا يفعل ذلك بألفه الممدودة، خلافا لقوم، ولا يستغنى غالبا في الوقف على المرخم بحذفها عن إعادتها، أو تعويض ألف منها. ويرخم في الضرورة ما ليس منادى من صالح للنداء – وإن خلا من علمية وهاء تأنيث – على تقدير التمام بإجماع، وعلى نية المحذوف خلافا للمبرد، ولا

يرخم في غيرها منادى عار من الشرط إلا ما شذ من: ياصاح، وأطرق كرا، على الأشهر. وشاع ترخيم المنادى المضاف بحذف آخر المضاف إليه، وندر حذف المضاف إليه بأسره، وحذف آخر المضاف. ش: نص سيبويه على أن نداء ما فيه هاء التأنيث بترخيم أكثر من ندائه دون ترخيم، وبعد نصه على ذلك قال: واعلم أن ناسا من العرب يثبتون الهاء فيقولون: ياسلمةُ أقبل. وبعض من يثبت يقول: ياسلمةَ يعني بفتح التاء، ومنه قول الشاعر: كليني لهمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصب ... وليلٍ أُقاسيه بطيء الكواكب وعلل سيبويه الفتح في التاء بأنه لما كان الأكثر في نداء ما هي فيه نداءه بحذفها، قدر وهي ثابتة عاريا منها، فحركت بالفتح لأنها حركة ما وقعت موقعه، وهو الحرف الذي قبلها. وأسهل من هذا عندي أن تكون فتحة التاء إتباعا لفتحة ما قبلها، كما كانت فتحة المنعوت في نحو: يازيد بن عمرو، إتباعا لفتحة ابن، وإتباع الثاني الأول أحق بالجواز، لا سيما من كلمة واحدة. ويرجح هذا الاعتبار على ما اعتبره سيبويه قوله: وبعض من يثبت يقول: ياسلمة، فنسب الفتح إلى بعض من يثبت، ولو كان الفتح على ما ادعى من تقدير حذف التاء، لكان منسوبا إلى من يحذف لا إلى من يثبت، وهذا بيّن، والاعتراف برجحانه متعين. وألحق بعض النحويين في جواز الفتح بذي الهاء ذا الألف الممدودة، فأجاز أن يقال: ياعفراءَ هلمي، بالفتح، وهذا لا يصح لأنه غير مسموع، ومقيس على ما ترك فيه مقتضى الدليل، لأن حق ما نطق به ألا يقدر ساقطا، والهاء المشار إليها على

الدعوى المذكورة بخلاف ذلك، فحق ما هي فيه مفتوحة أن يقصر على السماع، ولا يقاس عليه غيره من ذوات الهاء، فكيف يقاس عليه ذوات الألف الممدودة؟ وقد ترتب على كون ترخيم ذي الهاء أكثر من تتميمه أن شبه بالفعل المحذوف آخره وقفا كارْمِ، فسَوَّوْا بينهما في توقي حذف الحركة غالبا حين يوقف عليها بزيادة هاء السكت، وإعادة هاء التأنيث، فقالوا في الوقف: ارمه، وياطلحه، ولم يستغنوا غالبا عن الهاءين إلا قليلا. فمن القليل ما حكى سيبويه من قول من يثق بعربيته في الوقف على: حرملة: ياحرمل. ومثله قول بعض العرب: سِطِي مجر ترطُب هجر، يريد: توسطي يامجرة، فرخم ووقف دون إعادة الهاء، ودون تعويض، والمشهور إعادة الهاء أو تعويض الألف منها، كقول القطامي: قِفي قبل التَّفَرُّق يا ضُباعا ... ولا يكُ موقفٌ منك الوداعا ويرخم للضرروة غير المنادى على تقدير التمام، وتناسي المحذوف، وعلى تقدير ثبوته، فالأول كقول امرئ القيس: لنِعْمَ الفتى تَعْشُو إلى ضَوْءِ ناره ... طريفُ بنُ مالٍ ليلة الجوع والخَصَر أراد: مالك، ومثله: سمتْ وزكت إبنا أُميّ بغاية ... من المجد لم تُدْرَك ولا هي تدرك أراد: أمية ومنه قول ذي الرمة: ديارَ مَيّةَ إذمَيٌّ تُساعفنا ... ولا يرى مثلها عربٌ ولا عجمُ

وزعم يونس أن: مَيّة، وميّا اسمان لمحبوبة ذي الرمة، وذلك تكلف لا حاجة إليه. والثاني من وجهي الترخيم الضروري وهو أن يحذف ما يحذف ويقدر ثبوته، فيبقى آخر ما بقي على ما كان عليه، كقول الشاعر: يُؤرِّقُني أبو حَنَش وطَلْقٌ ... وعمّار وآوِنة أثالا أراد: وآونة أثالة، فحذف التاء ونوى ثبوتها، ولذلك أبقى اللام مفتوحة، مع أنه في موضع رفع بالعطف على فاعل يؤرقني، ومثله: إنّ ابنَ حارثَ إن أشْتَقْ لرؤيته ... أو أمتدحْه فإن الناسَ قد علموا أراد: ابن حارثة، ومثله: ألا أضْحَتْ حبالكم رماما ... وأضحتْ منكَ شاسعةً أُماما أراد: أمامة، كذا رواه سيبويه. وزعم المبرد أن الرواية: وما عهد كعهدك ياأماما، لأنه لا يجيز الترخيم الضروري إلا على الوجه الأول. وهو محجوج بصحة الشواهد على الوجه الثاني، وبأن حذف بعض الاسم مع بقاء دليل على المحذوف أحق بالجواز من حذفه دون بقاء دليل. وأما زعمه أن الرواية: وما عهد كعهدك ياأماما، فلا يلتفت إليه، مع مخالفته نقل سيبويه، فأحسن الظن به إذا لم تدفع روايته أن تكون رواية ثانية، وللمبرد إقدام في رد ما لم يرو، كقوله في قول العباس بن مرداس: وما كان حِصْنٌ ولا حابِسٌ ... يفوقانِ مِرْداسَ في مَجْمَع الرواية: يفوقان شيخي، مع أن البيت بذكر مرداس ثابت بنقل العدل عن

العدل في صحيح البخاري وغيره. وذكر شيخي لا يعرف له سند صحيح، ولا سند يدنيه من التسوية، فكيف من الترجيح. ويحتمل قول عمرو بن الشريد: أقولُ وليلِي لا تريمُ نجومُه ... ألا ليت صخرا شاهدي ومعاويا أن يكون على لغة من يقدر استقلال ما بقي، وأن يكون على لغة من يقدر ثبوت المحذوف وبقاء ما قبله على ما كان عليه. ولا يرخم للضرورة ما فيه الألف واللام، لأنه لا يصلح للنداء، وشرط المرخم للضرورة أن يكون لفظه صالحا لمباشرة حرف النداء فعلى هذا لا يقال في "الحمى" من قول الراجز: أوالفا مكةَ من وُرْقِ الحمِي إنه مرخم للضرورة، لما فيه الألف واللام، وإنما هو من الحذف المستباح فيما لا يليق به الترخيم، وعلى صورة لا تستعمل في الترخيم، كقول الشاعر: عفت المنا بمُتالع فأبان أراد: المنازل، وكقول الآخر: مُفَدِّمٌ بسبا الكَتّان مبغوم أراد: بسبائب الكتان. وعليه قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: "كفى بالسيف شا" قيل: أراد: شاهدا.

ولا يستباح في غير ضرورة ترخيم منادى عار من علمية ومن هاء تأنيث، وشذ قولهم في صاحب: ياصاح، وفي كروان: ياكرا. وزعم المبرد أن ذكر الكروان يقال له كرا. ومن أجل قوله قلت: وأطرق كرا، على الأشهر، لأن الأشهر في: أطرق كرا: أطرق يا كروان، فرخم، وحقه ألا يرخم لأنه اسم جنس عار من هاء التأنيث، وقدر ما بقي مستقلا، فأبدت الواو ألفا، وحذف حرف النداء، وحقه ألا يحذف، لأنه اسم جنس مفرد، ففيه على ثلاثة أوجه من الشذوذ. وعلى قول المبرد لا شذوذ فيه إلا من قبل حذف حرف النداء في نداء اسم الجنس. وقد تقدم من كلامي ما يدل على أن ذلك لا شذوذ فيه إلا عند من لم يطلع على شواهد جوازه، ومن جملتها قوله صلى الله عليه وسلم: "اشتدي أزمة تنفرجي" وقوله صلى الله عليه وسلم مترحما على موسى عليه السلام: "ثوبي حجر، ثوبي حجر" وكثر حذفه آخرا مضافا إليه في النداء، كقول الشاعر: أبا عُرْوَ لا تَبْعَد فكلُّ ابنِ حُرَّة ... سيدعوه داعِي مِيتة فيُجيب وكقول الآخر: أيا بن عَفْرا أبِن عُذْرًا فقد صدرت ... منك الإساءةُ واستحققت هجرانا وقول رؤبة: إما تَرَيْني اليومَ أمَّ حَمْزِ ... قارَبْتُ بين عَنَقى وجَمْزى وندر حذف المضاف إليه بأسره، كقول عدي بن زيد: ياعبدَ هلْ تذكُرُني ساعة ... في مَرْكب أو رائدٍ للقنيص

يخاطب عبد هند اللخمي، وعبد هند علم له، فرخمه بحذف المضاف إليه، وعامله معاملة معد يكرب. وكذلك ندر حذف آخر المضاف في قول أوس بن حجر: ياعَلْقَمَ الخير قد طالت إقامتُنا ... هل حانَ منا إلى ذي الغمر تسريحُ

باب الاختصاص

باب الاختصاص ص: إذا قصد المتكلم بعد ضمير يخُصُّه أو يشارك فيه تأكيد الاختصاص أوْلاه "أيّا" يعطيها ما لها في النداء إلا حرفه، ويقوم مقامها منصوبا اسمٌ دالٌّ على مفهوم الضمير، معرف بالألف واللام أو الإضافة، وقد يكون علما، وقد يلي هذا الاختصاصُ ضميرَ مخاطب. ش: الباعث على هذا الاختصاص فخر أو تواضع أو زيادة بيان، كقولك: بي القاهِرَ أعداه عزّ المستجير، وعليّ أيها الجواد تعتمد أيها الفقير، وإنا آل فلان كرماء، ونحن العربَ أقْرَى الناسِ للضيف، وأنا أيها العبد أفقر العبيد إلى عفو الله تعالى، وإنا حَمَلة القرآن أحق الناس بمراعاة حقوقهم، ومنه قول الشاعر: جُد بعفوٍ فإنني أيُّها العَبـ ... دُ إلى العفوِ يا إلهي فقيرُ ومثله: إنّا بني نهشل لا نَدّعي لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يَشْرينا ومن وروده علما قول الراجز: بنا تميما يُكْشَفُ الضَّباب ومن إيلاء الاختصاص ضمير مخاطب قولهم: بك الله نرجو الفضل.

باب أبنية الفعل ومعانيها

باب التحذير والإغراء غير موجود باب أبنية الفعل ومعانيها ص: لماضيها المجرد مبينا للفاعل فعُل، وفعِل، وفعَل، وفعلَلَ. ففعُل لمعنى مطبوع عليه ما هو قائم به، أو كمطبوع عليه، أو شبيه بأحدهما، ولم يرد يائي العين إلا هَيُؤ، ولا متصرفا يائي اللام إلا نَهُو، ولا مضاعفا إلا قليلا مشروكا، ولا متعديا إلا بتضمين أو تحويل، ولا غير مضموم عين مضارعه إلا بتداخل. ش: احترز بماضيها من المضارع والأمر، وبالمجرد من المزيد فيه، وبالمبني للفاعل من المبني للمفعول. وأشير بمطبوع عليه ما هو قائم به إلى نحو: كرُم ولؤُم ونبُه وسفُه وجزُل وجبُن وذكر وبلد وحسن ووضؤ وصبح وفصح ورطب وصلب ووثر ووفر وكثر وحقر ونزر وكثف ولطف وضخم وضؤل وكبر وصغر ونظف وقذر ورجس ونجس. فالأصل في هذه الأفعال أن يقصد بها معان غير متجددة ولا زائلة كجودة المطبوع على الجودة، ورداءة المطبوع على الرداءة. أو معان متجددة ثابتة كفصاحة المتعلم الفصاحة، وحلم المتعود الحلم. ومن الأول بعُد الشيء وقرُب، إذا كان البعد والقرب غير متجددين ولا زائلين، كبعد ما بين المتضادين، وقرب ما بين المتماثلين. فإذا أسند بعُد إلى ذي بعد حادث، وقرب إلى ذي قرب حادث، فلشبههما بلازمي القرب والبعد، كقولك: بعُدت بعد ما قرُبت، وقرُبت بعدما بعُدت. ومن المستعمل لمعنى ثابت بعد التجدد فقُه الرجل، إذا صار الفقه له طبعا. وشعُر إذا صار قول الشعر له طبعا، وخطب إذا صار إنشاء الخطب له طبعا. ومن استعمال فعُل لمعنى متجدد زائل لشبه معناه بالمعنى الذي ليس متجددا ولا

زائلا قولهم: جنُب الرجل، إذا أصابته جنابة، فإن معناه شبيه بمعنى نجُس، موافقه في الوزن. وإلى هذا وشبهه أشرت بقولي: أو كمطبوع عليه، أو شبيه بأحدهما. وأهل فعُل فيما عينه ياء، استغناء عنه بفعِل كلان يلين، وطاب يطيب، وبان يبين، إلا ما شذ من قولهم: هيُؤ الشيء فهو هيء إذا حسنت هيئته. وكذلك أهمل فيما لامه ياء من الأفعال المتصرفة إلا ما شذ من قولهم: نهُو الرجل، إذا كان ملازما للنُّهْية، أي العقل. وقيد الشاذ مما لامه ياء بالتصرف تنبيها على نحو: قضُو الرجل، ورمُو، وهو بمعنى: ما أقضاه وما أرماه. فإنه مطرد، وقد بين ذلك في باب التعجب. وكذلك أهمل فعُل من المضاعف استغناء عنه بفعلَ كعزّ يعز، وذلّ يذل، وجلّ يجل، وخف يخف، إلا ما شذ من لبُبتَ بمعنى لَبِبْت، أي صرت لبيبا، وشرُرْت بمعنى شرِرت، أي صرت كثير الشر، وقلُلت بمعنى قلَلت، أي صرت قليلا، ودَمُمت بمعنى دَمَمت، أي صرت دميما، وعزُزت ياناقة بمعنى عَزَزت، أي صرت عَزُوزا، وهي الضيقة الإحليل. ففعُل في هذه الأفعال شاذ، وهو مع شذوذه مشروك بفَعِل في فعل اللبيب، وبفعَل في البواقي. وشذا استعمال فعُل متعديا دون تحويل في قول من قال: رحُبَكم الدخول في طاعة الكرماني، فعدى رحب لأنه ضمنه معنى وسع. واطرد استعماله متعديا بتحويل من فَعَل الذي عينه واو، كرُمْتُه وطُلتُه. والأصل في هذا النوع فعَلته بفتح العين، فحُوِّل إلى فَعُل، ونقلت الضمة إلى الفاء، ليدل

بها على أن العين المحذوفة مجانسة للحركة المنقولة، إذ لو تركت الفاء مفتوحة مع حذف العين لم يعلم كونها واوا. ونحو هذا فعل فيما عينه ياء من فعَل، فحولوه إلى فعِل، ونقلوا الكسرة إلى الفاء في بعته ونحوه، ليدل بها على أن العين المحذوفة مجانسة للحركة المنقولة. والحاصل أن فَعَل الذي عينه واو، حين عرض حذف عينه لسكون لامه، حول إلى فعُل، واستصحب ما كان له من التعدية، لأن الضمة عارضة فلم يعتد بها. والتزم في مضارع فعُل ضم عينه نحو: شرُف يشرُف، وظرُف يظرُف. وروي عن بعض العرب: كُدت تكاد، فجاء بماضيه على فعُل، وبمضارعه على يفعَل، وهي عندي من تداخل اللغتين، فاستغنى بمضارع أحد المثالين عن مضارع الآخر، فكان حق كُدت بالضم أن يقال في مضارعه تكُود، لكن استغنى عنه بمضارع المكسور الكاف فإنه على فعِل، فاستحق أن يكون مضارعه على يفعَل، فأغناهم يكاد عن يكود، كما أغناهم ترك عن ماضي يذر ويدع في غير ندور، مع عدم اتحاد المادة، بل إغناء يكاد عن تكود معكون المادة واحدة أولى بالجواز. ص: وكثر في اسم فاعله فَعيل وفَعْل، وقل فاعل وأفعل وفَعَل وفَعِل وفَعال وفُعال وفُعّال وفِعْل وفُعْل وفَعُول. ش: يقع اسم الفاعل في اللغة كثيرا، وفي اصطلاح أهل النحو قليلا على كل صفة، أي وزن كان وزنها، إذا كانت تشارك في الاشتقاق الفعل، ويصح الإخبار بها عن ضمير فاعله، نحو: كرم زيد فهو كريم، فمن أجل صحة الانطلاق أضفت اسم الفاعل إلى ضمير فعل حين قلت: وكثر في اسم فاعله فعيل وفَعْل. والأكثر في اصطلاح أهل النحو إطلاق اسم الفاعل على المحدود في بابه. ومثال فَعيل: ظرُف فهو ظريف، وشرف فهو شريف. ومثال فَعْل: سهُل فهو سَهْل، وجزل فهو جزل، ونظائرهما كثيرة. ومن استعمال القياس فيهما لعدم السماع: حَمُض الشيء فهو حامض، حَمُق الإنسان فهو أحمق، وحسُن فهو حسَن، وخشُن فهو خشِن، وجبُن فهو جبان، وفرُت الماء أي عذُب فهو فُرات، ووضؤ الرجل فهو وُضّاء أي وضئ، وعَفُر فهو عِفْر أي ذو

دهاء، وغمُر فهو غُمْر أي جاهل، وحصُرت ذات اللبن فهي حَصُورى أي ضاق مجرى لبنها. فصل: ص: حق عين مضارع فَعِل الفتح، وكسرت فيه من ومِق ووثِق ووفِق وولى وورث وورِع وورِم وورِي المُخُّ. وفي مضارع حسِب ونعِم وبئِس ويئِس ويبِس ووغر ووجِر وولِه ووهل وجهان. واستغنى في ضَلِلتَ تضِل، وورى الزّنديري، وفضِل الشيء يفضُل بمضارع فعَل عن مضارع فعِل. ش: ما كان من الأفعال الثلاثية على فعِل بكسر العين فقياس مضارعه أن يجيء على يفعَل بفتح العين، لازما كان كسلم، أو متعديا كعلم. وما كسرت عين مضارعه فمقصور على السماع، وهو على ضربين: أحدهما: متعين فيه الكسر، وهو ثمانية أفعال أولها وَمِق، وآخرها وَرِي المخ. والآخر مروي فيه الفتح والكسر، ففتحه على القياس، وكسره شاذ وهو تسعة أفعال، أولها حسب، وآخرها وهل. ويقال: ومِقَ الشيءَ إذا أحبه، ووثق به إذا قوي اعتماده عليه، ووفق الشيءُ إذا حسُن، وولي الشيءُ الشيءَ إذا تبعه، والرجلُ الأثر إذا صار حاكما عليه. وورث معلوم، وورع الرجل إذا صار ذا ورع، وورم العضو معلوم وورى المخ إذا اكتنز من السِّمَن. وحسب معلوم، ونعم الإنسان إذا عدم البؤس، وبئس إذا كان ذا بؤس، ويئس ويبس معلومان، ووغر الصدر ووحر إذا التهب غيظا أو خزنا، ووله كاد يعدم العقل، ووهل إذا اشتد فزعه أو نسي. والمشهور في فعل الضلال ضلَلت تضِل، وروي عن بعض العرب: ضلِلت تضِل بالكسر في الماضي والمضارع، ومقتضى القياس أن يقال: ضلِلت تَضَل، لكن استغنى بمضارع مفتوح العين عن مضارع المكسورها. ويقال: ورَى الزند ووَرِي إذا أخرج ناره، ولم يقل في المضارع إلا يرِي بالكسر استغناء بمضارع ورَى بالفتح. ويقال أيضا: فضَل الشيء وفضِل، ولم يقل في المضارع إلا يفضُل بالضم، استغناء بمضارع فضَل بالفتح. ص: ولزوم فعِل أكثر من تعديه، ولذا غلب وضعه للنعوت اللازمة،

وللأعراض والألوان وكبر الأعضاء. وقد يشارك فعُل، ويغني عنه لزوما في اليائي اللام، وسماعا في غيره. ويطاوع فَعَل كثيرا، وتسكين عينه وعين فعُل وشبههما من الأسماء لغة تميمية. ش: أخف الأفعال الثلاثية المفتوح العين، لأن الفتحة أخف الحركات، وأثقلها المضموم العين، لأن الضمة أثقل الحركات، والمكسور العين متوسط، لأن الكسرة أقل ثقلا من الضمة، وأقل خفة من الفتحة، فترتب على هذا أن جعل مضموم العين ممنوع التعدي تخفيفا، لأن التعدي يستدعي زيادة المتعدَّى عليه، وجعل عدم التعدي في المكسور العين أكثر من التعدي. وكثر الأمران في المفتوح العين لخفته. وفَعِل الموضوه للنعوت اللازمة كشَنِب وفَلج ولَمِي وعمى وظَمِئ وحوِل وحوِر وعور وعرِج. والموضوع للأعراض كبرئ ومرض ونشط وكسل وفرح وحزن وشبع وغرث وروى وعطش. والموضوع للألوان كسود وشهب وحوِي ودعج ولهب. والموضوع لكبر الأعضاء كجبه وأذن وعيِن ورقب وفوه وسوق. ومشاركة فعِل لفعُل كفقِر وفقُر، وأدِم وأدُم، وسمِر وسمُر وعجف وعجف، وحمِق وحمُق، ورعِن ورعُن. والاستغناء به عن فَعُل لزوما فيما لامه ياء كحيِيَ فهو حييّ، وعييَ فهو عييّ، وغبِيَ فهو غبِيّ. ويدل على كون فعُل في هذه الأفعال أصلا لفعِل أن كل واحدة منها يدل على معنى طبع عليه الفاعل، أعني الحياء والعيّ والغباوة، وكذا الغنى إذا أريد به غنى المال فهو محمول على غنى النفس. ومن أجل نيابة هذه الأفعال عن فعُل التزم مجيء اسم فاعل كل واحد منها على فعيل، وقد قيل في العييّ عيّ على فعْل، لأن فعْلا شريك فعيل في الصوغ من فعُل. والاستغناء بفعِل عن فعُل فيما ليس لامه ياء كقوي ونقي وسمن، وحقها أن تكون على فعُل، لأنها بمعنى مَتن ونظف وشحُم، وأضدادها ضعف ونجُس وشخت.

ومن أجل استحقان معانيها لفعُل التزم في أسماء فاعليها فعيل، أعني: قويا ونقيا وسمينا. ويجيء فعِل مطاوعا لفعَل نحو: جذَعه فجذِع، وصلَمه فصلِم، وثلَمه فثلِم، وثرمه فثرِم، وهتمه فهتم، وعلمه فعلِم، وفلجه ففلِج. والوصف منها: أجذع وأصلم وأثلم، وأثرم وأهتم وأعلم وأفلج. وبنو تميم يسكنون العين المكسورة والمضمومة من الكلمة الثلاثية اسما كانت أو فعلا، فيقولن في: رجُل ونمر وظرُف وعلِم: رجْل ونمْر وظرْف وعلْم. فصل: ص: اسم الفاعل من متعدي فَعِل فاعل، ومن لازمه على فعِل وأفعل وفعلان. وقد يجيء على فاعل وفعيل. ولزم فعيل في المغني عن فعُل. وقد يشرك فعُل فعِلا، وفعِل أفعل وفعْلان، وربما اشتركت الثلاثة. ش: قد تقدم التنبيه على أن فعِل على ضربين: متعد ولازم، وأن لزومه أكثر من تعديه، والحاجة الآن داعية إلى الكلام على صوغ الفاعل من كل واحد منهما، فبينت أنه من المتعدي على وزن فاعل كعلم فهو عالم، وعمل فهو عامل. وأنه من اللازم على فعِل وأفعل وفعلان، كفرِحَ فهو فرِحٌ، وترِحَ فهو ترِحٌ، وحورَ فهو أحور، وعور فهو أعور. وشبع فهو شبعان، وروى فهو ريّان. ونبهت على أنه يجيء على وزن فاعل وفعيل نحو: سلم فهو سالم، وبلى فهو بالٍ، وحزِن فهو حزين ومرض فهو مريض. ثم قلت: "ولزم فعيل في المغني عن فعُل" منبها بذلك على: حيي وسمن وأخواتهما المتقدم ذكرها. ومن فعُل المشارك فعِلا طمُع وعجُل ويقُظ بمعنى طمِع وعجِل ويقِظ. وشرك فعِل أفعل كسود وأسود، وخضر وأخضر، ووجل وأوجل، وعور وأعور. وشرك وأشرك فعلان كفرِح وفرحان، وجذل وجذلان، وسكر وسكران، وصيد وصديان. وقالوا: شَعِثَ فهو شَعِث وأشعث وشعثان، فأشركوا الثلاثة. ص: لفعَل تعد ولزوم، ومن معانيه غلبة المقابل، والنيابة عن فعُل في المضاعف واليائي العين، واطراد صوغه من أسماء الأعيان لإصابتها، أو إنالتها، أو عمل بها، وقد يصاغ لعملها، أو عمل لها، أو أخذ منها.

ش: كثر استعمال فعَل لخفته متعديا ولازما بلفظين متباينين، وهو الكثير كجلب وذهب. وبلفظين متحدين كفغرفاه ففغر، بمعنى فتحه فانفتح، ودفق الماء فدفق، بمعنى صبه فانصب، وغاضه فغاض، بمعنى أذهبه فذهب، وسار الدابة فسارت، بمعنى سيرها فتسيرت، ورجع الشيءَ فرجع، بمعنى رده فارتد. ولفعَل معان كثيرة، منها استعماله للغلبة عند تقابل الفعلين، كعالمني فعلمته، وشاعرني فشعرته، وكاتبني فكتبته، وكاثرني فكثرته. أي قابل علمه بعلمي، وشعره بشعري، وكتابه بكتابي، وكثرة ماله بكثرة مالي، فكنت أعلم منه وأشعر وأكتب وأكثر مالا. ومن معانيه النيابة عن فعُل في المضاعف واليائي العين، فالمضاعف نحو: جلَلت فأنت جليل، وعززت فأنت عزيز، وشححت فأنت شحيح، وحققت فأنت حقيق، وعففت فأنت عفيف، ودق الشيء فهو دقيق، وركّ فهو ركيك، ورقّ فهو رقيق، وخس فهو خسيس، وذلّ فهو ذليل. واليائي العين نحو: طاب يطيب فهو طيب، ولان يلين فهو لين، وبان يبين فهو بين، وهاء يهيء فهو هيئ إذا كان حسن الهيئة، وناء اللحم ينيء فهو نيئ. ويدل على أن أصل هذه الأفعال أن تكون على فعُل دلالتها على معان طبعية أو كالطبعية في اللزوم، ولذلك جاءت أسماء فاعليها على فعيل في المضاعف والمعتل اللام، وعلى فيعل في المعتل العين، لأن فيعلا فيما اعتلت عينه مما حق فعله أن يكون على فعُل ناب عن فعيل في ذوات الياء كلها كطيِّب وأخواتها إلا في ناء اللحم. وفي ذوات الواو كجيد وسيد وهين وصيب إلا ما شذ من طويل وقويم. واطرد صوغ فَعَل من أسماء الأعيان لإصابتها، نحو: جلده ورأسه وجبهه وأذنه وعانه ووجهه وصدره وركبه ورجله إذا أصاب جلده ورأسه وجبهته وأذنه وعينه ووجهه ووجنته ويده، وصدره وركبته ورجله.

واطرد أيضا صوغه منها لإنالة المسمى نحو: لحمه وشحمه ولبنه ولبأه وزبده وسمنه وتمره وكمأه، إذا أطعمه لحما وشحما ولبنا ولبأ وزبدا وسمنا وتمرا وكمأة. واطرد أيضا صوغه منها لعمل بها نحو: رحمه وحربه وآله وسهمه وسافه وحصبه وحصاه وعصاه وساطه، إذا ضربه برمح أو حربة أو آلة وسهم وسيف وحصباء وحصاة وعصا وسوط. ومنه: عانه إذا أصابه بالعين، وركبَه البعير إذا أصاب ركبته، وهما من الأضداد. وقد يصاغ فعَل من اسم الشيء لعمله نحو: جدَر الجدار، ونأى النُّؤْيَ، وأرى الإرة، وبأر البئر، وخبأ الخبء، وقبا القبو، وعصد العصيدة، ولفت اللفيتة، ولبك اللبيكة، وألق الألوقه. وقد يصاغ لعمل صادر من المسمى نحو: أصلته الأصلة، وسبعه السبع، وكلبه الكلب، وذبه الذباب، ونمله النمل، وبعضه البعوض، ووحرته الوحرة، وجرده الجراد. وقد يصاغ لأخذ بعض المسمى نحو: ثلث المال، وربعه وخمسه، إذا أخذ ثلثه وربعه وخمسه، وكذلك إلى العشر. ص: ومن معاني فعَل الجمع والتفريق والإعطاء والمنع والامتناع والإيذاء والغلبة والدفع والتحويل والتحول والاستقرار والسير والستر والتجريد والرمي والإصلاح والتصويت. ش: الذي للجمع كحشر وحشد وحاش ونظم ولمّ ولأم وشعب في أحد معنييه، وكتب وحزب وكفت وضم وحصر ووعى العلم، وقرى الماء وعكم وحزم وحوى وحاز وجفظ. والذي للتفريق كفتَّ زيد، وجزأ وقسم وشعب في أحد معنييه، وفصل وعزل وماز.

والذي للعطاء كمنح ونحل ووهب وبذل وشبر وشكر ورفد وبذل. والذي للمنع كحصر وحظل وعضل وحرم وحبس وسجن وحمى وعصم وحد وصد وحجر وحجز. والذي للامتناع كعاذ ولجأ ووأل وعقل وحرن وشمس وشرد وقمص وخلأ وجمح في أحد معنييه. والذي للإيذاء كلسع ولذع وكلم وجرح وقرح ووكز ولهز ولطم ولكم. والذي للغلبة كبذّ وجبّ وقهر وقصر وهزم وقمع ودحر وطرد وكسع وكسر وصرع وجدل وسلق وحرب. والذي للدفع كدرأ وردع وعتل وزبن ودسر ودأم ونسأ وقدع. والذي للتحويل كقلب وصرف ونقل وبذل وخلب وجذب وسحب وكحط وكدر وحدر، وكرَبع الثلاثة، وخَمَس الأربعة، إلى عَشَر التسعة. والذي للتحول كرحل وزحل وذهب وظعن وشحط وشطن وشسع وسرح وسبح وساب وسرب ونزح وغرب، وكخسف القمر، وكسفت الشمس، وصبت والريح وشملت، وكخرج ودخل وبرز وولج ووقف وهبط. والذي للاستقرار كسَكن وقطن ومدن وأوى وثوى وعدن وعمر وعطن وكنس وركن وبلد وخلد. والذي للسير كرَمَل وذمل ونسل ورسم وضبع ووخد وخب وخَذَى ودب ودرج ودَرَم وجفل وجمز ومرط وجمح في أحد معنييه. والذي للستر كخبأ وحجب وخمر، وكقبر وغفر ورمس ومرس ودسّ ودفن ودهن وخضب وكمّ وكمى وكنّ وعطى وجنّ.

والذي للتجريد كسلخ وقشر وكشط وجلف وخرف ونجا ولحا وسلق وسمط ومعط وحلق وسحف. والذي للرمي كقذف وخذف وحذف ورجم وطرح وطحر وصرع وجدل وسلق وقدح ونضح ورش وجذع وسكب وصبّ ودفق. والذي للإصلاح كنسج وغزل وردن وطحن وخبز وطبخ وحنذ، وكغسل وصقل ونحت وجبر ورمّ وربّ ورقع ورفا ومحض ونحل وأسى وطب وأبر. والذي للتصويت كبكى وصرخ وصهل ونهق وهتف وجأر وزأر ونأم وبغم وضج وصاح وعزف وصفر ومكا ورغا وثغا ونعب ونعق وعوى ونبّ. ويلحق بأفعال الجمع ما دل على خلط أو وصل كمزج ومشج وشاب وجدح، وكخاط ونسج وربط وملط. ويلحق بأفعال التفريق ما دل على قطع أو كسر أو خرق كصرم وجذم وحذم وجزم وحذّ وجدّ وبتر وكفتَّ وقصد وسحق وقصف وفصم وقصم وفض ورض وهشم وبسّ وكسّ وفلح وحرث وصدع وأرس وخد وجاب ونقب وثقب وهدّ وهزم ومرق. ويلحق بأفعال العطاء مادل على نفع أو ضر كغذا وسقى وغاث وكرزأ وهزل وهضم وجرب. ويلحق بأفعال الستر مادل على غمس وشبهه كمقل وغطّ وغمر. ويلحق بأفعال التصويت مادل على قول كنطق ولفظ ووعظ وعبر وفسر وشرح وأمر وزجر وهجر وسأل وعذل وعتب وهمز ولمز. ص: ولا يفتح عين مضارع فعَل دون شذوذ إن لم تكن هي أو اللام حلقية، بل تكسر أو تضم تخييرا إن لم يشهر لأحد الأمرين، أو يلتزم لسبب،

كالتزام الكسر عند غير بني عامر فيما فاؤه واو، وعند الجميع فيما عينه ياء، وعند غير طيئ فيما لامه ياء وعينه غير حلقية. والتزام الكسر أيضا في المضاعف اللازم غير المحفوظ ضمه، والضم فيما عينه أو لامه واو، وليس أحدهما حلقيا، وفي المضاعف المتعدي غير المحفوظ كسره، وفيما لغلبة المقابل خاليا من ملزم الكسر، ولا تأثير لحلقي فيه خلافا للكسائي. وقد يجيء ذو الحلقي غيره بكسر أو ضم أو بهما أو مثلثا. ش: الأصل توافق حركتي عين الماضي وعين المضارع، كما فعل بالأمر والمضارع، فخص التوافق المشار إليه بفعُل لخفته بعدم التعدي، فإن المتعدي ذو زيادة، والأصل عدم الزيادة، وجعل لفَعِل حظ من التوافق في حسب وأخواتها بغير سبب، لشبه فعِل بفعُل في كون الكسرة أخت الضمة، وأهمل في فعَل التوافق إلا بسبب، وهو كون عينه أو لامه حرف حلق، لأن من حروف الحلق الألف، وهي مجانسة للفتحة، فناسب ذلك أن يحرك بها ما هو والألف من مخرج واحد، ويحرك بها متلو ما هو كذلك. فالأول كسأل يسأل، وذهب يذهب. والثاني كطرأ يطرأ، وجبه يجبه، فحصل لفعل نصيب من التوافق لأجل السبب المذكور، فإن لم يوجد السبب امتنع التوافق، إلا ما شذ من قولهم: أبى يأبى، ووذر يذر، وما ألحق بأبى يأبى كجبى يجبى، وقلى يقلى، فموجه بأن الأصل: يجبى ويقلى بكسر الباء واللام ففتحتا، فانقلبت الياء ألفا، وهي لغة طيئ. ولم يحكم على يأبى بذلك لأنه لم يسمع فيه الكسر كما سمع في: يجبى ويقلى، فإن المشهور فيهما: يجبى ويقلى بالكسر، فصح جعله أصلا وتفريع يجبَى ويقلَى عليه. وأما يذر فمحمول على يدع لأنهما بمعنى واحد، وإذا أهمل التوافق عند انتفاء السبب تعين التخالف بكسر أو ضم، فلذلك قلت: بل يكسر أو يضم تخييرا، كنشر ينشِر وينشُر،

وعتل يعتِل ويعتُل، وقيدت التخيير بعدم اشتهار أحد الأمرين، فإنه إذا اشتهر أحد الأمرين، وكان الفعل مستعملا في ألسنة العامة كأكل يأكُل، وطلب يطلُب، وكسب يكسِب، وغلب يغلِب، لم يكن فيه تخيير، بل يجب فيه الاقتصار على الوزن المستعمل. ويلتزم الكسر في مضارع فعَل إن كانت فاؤه واوا، كوجد يجد، أو كانت عينه أو لامه ياء، كسار يسير، ومشى يمشي. وروي عن بني عامر: يجُد بضم الجيم، وروي عن طيئ إبدال الكسرة فتحة والياء ألفا في: يقلى، ونحوه. وأما الفتح لأجل حرف الحلق فمسموع في كل لغة في أفعال محفوظة، كوقع يقع، ووضع يضع، وودع يدع، وكنأى ينأى، ونهى ينهى، وسعى يسعى، ورعى يرعى، ولحا يلحى، ومحا يمحى. والكسر أو الضم مع كون العين أو اللام حرف حلق كثير، نحو: وأل يئل، وصأى يصئى، وجاء يجيء، وزها يزهو، وساء يسوء. والتزام الكسر في مضارع فعَل المضاعف إذا كان لازما، كحنّ يحنّ، وعزّ يعز، وجلّ يجل، وعنّ يعن. واستثنيت الذي تضم عينه سماعا من هذا النوع، تنبيها على نحو: هبّ الريح، وتذُرّ الشمس. فإن كان فعل المضاعف متعديا التزم الضم في عين مضارعه، كصب يصُب، ورد يرد، وضم يضم، ولم يلم، واستثنيت الذي تكسر عينه سماعا من هذا النوع، تنبيها على نحو: ينم الحديث، ويعله بالشراب، وعلى قراءة العطاردي: (فاتبعوني يحبكم الله). ثم نبهت على لزوم الضم في عين مضارع فعل المقصود به غلبة المقابل نحو: كاتبني زيد، فكتبته أكتُبه، إذا كنت أكتب منه، وعالمني فعلمته أعلمه، إذا كنت أعلم منه، وهو مطرد في كل ثلاثي، أعني صوغ فعل للغلبة وضم عين المضارع

منه، إلا أن يوجب لزوم الكسر كونه من باب وعد أو سار أو سرى، ولذلك قلت: "وفيما لغلبة المقابل خاليا من ملزم الكسر" ثم قلت: "ولا تأثير لحلقي فيه" منبها على أن الضم في مضارع فعل الذي يقصد منه الغلبة لازم، مع كون عينه أو لامه حرف حلق نحو: فاهمني ففهمته أفهمُه، وفاقهني ففقهته أفقُهه، إذا فقته فهما وفقها. ثم قلت: "خلافا للكسائي" مشيرا إلى أن الكسائي يجيز فتح العين من هذا النوع لأجل حرف الحلق قياسا، فيجيز أن يقال: أفهَمه وأفقَهه، بمعنى فقته فهما وفقها، وإن لم يسمع في هذا النوع إلا الضم قياسا على غيره من المفتوح لأجل حرف الحلق. ومما سمع فيه الضم: شاعرته فشعرته أشعُره. وقد يجيء مضارع فعل غير الذي للغلبة بلغتين أو ثلاث، إذا كانت عينه أو لامه حرف حلق، نحو: منَحه يمنَحه ويمنُحه، ومحوت الكتاب، أمحاه وأمحوه، ورجح الدنيار يرجَح ويرجُح، ونبع الماء ينبَع وينبُع وينبِع. فصل: ص: يكسر ما قبل آخر المضارع إن كان ماضيه غير ثلاثي، ولم يبدأ بتاء المطاوعة أو شبهها، ويضم أوله إن كان ماضيه رباعيا، وإلا فتح، ويكسره غير الحجازيين مالم يكن ياء إن كسر ثاني الماضي، أو زيد أوله تاء معتادة أو همزة وصل، ويكسرونه مطلقا في مضارع أبِيَ ووَجِل ونحوه. وربما حمل على تِعلم تذهب وشبهه، وعلى يئبى يسلم. ش: قد تقدم تبيين ما يحرك به الحرف الذي يليه آخر المضارع الثلاثي، والغرض الآن تبيين ما يحرك به الحرف الذي يليه آخر مضارع الرباعي المجرد من الزيادة كدحرج، والمزيد فيه كجهور، والخماسي كاستمع، والسداسي كاستغفر، فتضمن قولي استحقاق كسر راء يدحرج، وواو يجهور، وميم يستمع، وفاء يستغفر. واستثنيت من الزائد على ثلاثة أحرف ما بدئ ماضيه بتاء المطاوعة أو شبهها، تنبيها على فتح ما قبل آخر يتدحرج ويتعلم ويتضاعف، فإن ماضي كل واحد منها مبدوء بتاء المطاوعة، وسميت هذه التاء تاء المطاوعة لأن أكثر ما يبدأ بها مطاوع العاري منها، أي دال على تأثر به كتدحرج وتعلم وتضاعف، بالنسبة إلى: دحرج وعلّم وضاعف.

وقد تزاد فيما ليس مطاوعا كتبختر وتكبر وتوانى، فلذلك قلت: "بتاء المطاوعة أو شبهها". ثم بينت ما لأول المضارع من الحركات فقلت: "يضم أوله إن كان ماضيه رباعيا، وإلا فتح" فعلم بذلك ضم أول يُدحرج ويُجهور ويُعلِّم ويُسالم وأشباهها. وفتح أول الثلاثي والخماسي والسداسي. ثم نبهت على أن غير الحجازيين يكسرون غير الياء من أحرف المضارعة إن كسرت عين الماضي، أو بدئ بهمزة وصل أو بتاء المطاوعة أو شبهها، وعبرت عن هذه التاء بالتاء المعتادة، احترازا من التاء المزيدة في أول الماضي شذوذا، كتَرْمَسَ الشيء بمعنى رَمَسَه أي ستره. ثم نبهت على أن الذين يكسرون حرف المضارعة ويستثنون الياء، لا يستثنونها من مضارع أبى، ولا مضارع فعِل الذي فاؤه واو كوجل، بل يجعلون لها من الكسر نصيبا، فيقولون: إيبَى ونِئبَى وتئبى ويئبَى، وإيجل ونيجل وتيجل وييجل، وكذلك ما أشبهه. وروي عن بعضهم تِذهب بالكسر حملا على تِعلم لشبهه به في فتح عين المضارع، وقرأ يحيى: (فإنهم يِئْلَمون كما تِئْلَمون) بكسر الياء والتاء وكسر الياء غريب، وإليه أشرت بقولي: "ورُبّما حمل على يِئبى يسلم". فصل: ص: انفرد الرباعي بفَعْلَلل لازما ومتعديا لمعان كثيرة، وقد يصاغ من اسم رباعي لعمل بمسماه، أو لمحاكاته، أو لجعله في شيء أو لإصابته، أو لإصابة به، أو لإظهاره، وقد يصاغ من مركب لاختصار حكايته. ش: فعلل المتعدي كدحرج، واللازم كعربد، والمصوغ لعمل المسمى كقرمص القرموص، إذا حفره. والذي لمحاكاة المسمى كعقرب الشيء، إذا لواه كالعقرب. والذي لجعله في شيء كفلفل الطعام، وعصفر الثوب.

والذي لإصابة مسماه كعرقبه، إذا أصاب عرقوبه. والإصابة بمسماه كعَرْجَنه إذا أصابه بعرجون، وفرجن الدابة حسّها بالفرجون، أي المحسة. ولإظهار مسماه عسلجت الشجرة، أخرجت عساليجها. والذي لاختصار الحكاية كبسمل وحسبل وسبحل وحمدل وجعفل، إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وحسبي الله، وسبحان الله والحمد لله، وجعلني الله فداءك. فصل: ص: من أمثلة المزيد فيه أفْعَل، وهو للتعدية، أو للكثرة، أو للصيرورة، أو للإعانة، أو للتعريض، أو للسلب، أو لإلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه، أو لجعل الشيء صاحب ما اشتق من اسمه، أو لبلوغ عدد، أو زمان، أو مكان، أو لموافقة ثلاثي، أو لإغنائه عنه، أو لمطاوعة فعَل. ش: أفعل للتعدية كأدنيت زيدا، وألبسته ثوبا، وأعلمته عمرا قاصده. وللكثرة كأظبى المكان وأضب وأذأب، إذا كثر ظباؤه وضبابه وذئابه. وللصيرورة كأغد البعير إذا صار ذا غدة، وأجرب الرجل إذا صار ذا جرب في إبله أو غنمه، وألام إذا صار ذا شيء يلام عليه، وأصرم النخل إذا صار ذا تمر صالح للصرام، وأحصد الزرع إذا صار ذا سنبل صالح للحصاد، وأتلت الناقة إذا صارت ذات ولد يتلوها، وأجرت الكلبة إذا كانت ذات جراء، وألبنت الشاة وغيرها إذا صارت ذات لبن، وأنجبت المرأة إذا صار لها أولاد نجباء. وللإعانة كأحلبت فلانا وأرعيته وأقريته وأبغيته وأطلبته وأحربته، إذا أعنته على الحلب، وعلى الرعي، وعلى قرى الأضياف، وعلى مبتغاه، وعلى مطلوبه، وعلى حرب عداه. وللتعريض كأقتلت فلانا، إذا عرضته للقتل، وأبَعْت الشيء إذا عرضته للبيع. وللسلب كأشكيت الرجل إذا أزلت عنه سبب شكواه، وأعتبته إذا أرضيته وأزلت عنه سبب عتبه. وأعجمت الكتاب إذا سلبت عنه الإبهام بنقط ما ينقط، وإهمال ما يهمل. ولإلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه كأحمدت فلانا إذا ألفيته متصفا بما يوجب

حمده، وأبخلته وأجبنته وأفحمته إذا ألفيته ذا بخل، وذا جبن، وذا إفحام أي عاجزا عن قول الشعر، ومنه قول عمرو بن معد يكرب لبني سليم: لقد سألتنا فما أبخلتنا، وقابلتنا فما أجبنتنا، وهما جيتنا فما أفحمتنا. وأما ورود أفعل لجعل الشيء صاحب ما هو مشتق من اسمه فكأشفيت فلانا إذا أعطيته دواء يستشفى به، وأسقيته إذا جعلته ذا ماء يسقى به ما هو محتاج إلى السقي، وكذلك إذا أعطيته ما يصنع منه سقاء. ومن هذا النوع: أقبرته إذا جعلت له قبرا، وأنعلته إذا جعلت له نعلا، وأخدمته إذا جعلت له خادما. وأما أفعل الذي لبلوغ عدد فكأعشرت الدراهم إذا بلغت العشرين، وكذلك أثلثت وأربعت وأخمست وأسدست وأسبعت وأثمنت وأتسعت وأمأت وآلفت، إذا صارت ثلاثين وأربعين وخمسين وستين وسبعين وثمانين وتسعين ومائة وألفا. والذي لبلوغ زمان كأصبحنا وأضحينا وأمسينا وأعشينا وآصلنا، أي بلغنا الصباح والضحى والمساء والعشي والأصيل. والذي لبلوغ مكان كأشام القوم وأعرقوا وأنجدوا وأتهموا وأيمنوا، إذا قصدوا الشام والعراق ونجدا وتهامة واليمن أو بلغوها. والذي لموافقة ثلاثي كحزنه وأحزنه، وقاله البيع وأقاله، وشغله الأمر وأشغله، وحب فلان فلانا وأحبه. والذي لإغنائه عن ثلاثي كأرقل وأغذ بمعنى سار سيرا سريعا، وأذنب بمعنى أثم، وأقسم بمعنى حلف، وأفلح بمعنى فاز، وأحضر بمعنى عدا. والذي لمطاوعة فعَل كظأرت الناقة على حُوار غيرها فأظأرت إذا رعته، وقشعت الريح السحاب فأقشع، إذا فرقته فتفرق، وكببت الرجل فأكب إذا أسقطته فسقط، وشنقتُ البعيرَ فأشنق إذا استوقفته بجذب زمامه فوقف.

ص: ومنها فَعّل وهو للتعدية، وللتكثير، وللسلب، وللتوجه، ولجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه، ولاختصار حكايته، ولموافقة تفعّل وفَعَل، وللإغناء عنهما. ش: فَعّل للتعدية، كأدبت الصبي، وعلمته الخير. وللتكثير كفتحت الأبواب، وذبّحْت الغنم. وللسلب كقرّدت البعير وحلّمته وقذّيت عينه إذا نزعت عنه القِردان والحَلَم، وأزلت عن عينه القذى. وللتوجه كشرّق وغرّب وغوّر وكوّف. ولجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كعدّلته وأمّرته إذا جعلته عدلا وأميرا، وفسّقته وكفّرته وزنَّيته وجهّلته، إذا نسبته إلى الفسق والكفر والزنى والجهل. ومنه بطّنت الثوب، وجيّبته إذا جعلت له بطانة وجيبا. والذي لاختصار الحكاية كقولهم: أمّن وأيّه وأفّف وسوّف وسبّح وحمّد وهلّل، إذا قال: آمين، ويأيها، وأفٍّ، وسوف، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله. ومعنى اختصار الحكاية أن الأصل: قال آمين، وقال يأيها، فأغنى عن ذلك صوغ فعّل. ولموافقة تفعّل كقولهم: ولّى عنه وتولّى، إذا أعرض عنه، وبيّن الشيءُ بمعنى تبيّن، وفكّر في الأمر وتفكر، ويمّم الشيء وتيمّمه أي قصده. والمغني عن تفعّل كأوّنت الحبلى، إذا صار بطنها كالأوْنَيْن، وعجّزت إذا صارت عجوزا، ومنه قولهم: من دخل ظَفار حمّر، أي صار كالحميريين في كلامه بلغتهم.

وأما فعّل الموافق فعَل فكقدّر الله وقَدَر، وبشّر وبشَر، وعاض وعوّض، وماز وميَّز، وزال وزيّل. والمغني عن فعَل كجرّب الشيء، وعرّد في القتال إذا تركه جبنا، وعيّره بالشيء إذا عابه، وعوّل عليه إذا اعتمد عليه. ص: ومنها تفعّل وهو لمطاوعة فعّل، وللتكلف، والتجنب، والصيرورة، والتلبس بمسمى ما اشتق منه، وللعمل فيه، والاتخاذ، ولمواصلة العمل في مهلة، ولموافقة استفعل، وموافقة المجرد، والإغناء عنه، وعن فعّل، ولموافقته. ش: تفعّل لمطاوعة فعّل كثير، كتعلم وتأدب وتهذب وتخلص، بالنسبة إلى علّم وأدّب وهذّب وخلّص. والذي للتكلف كتحلّم وتشجّع وتسخّى وتصيّر إذا تكلف الحلم والسخاء والشجاعة والصبر. والذي للتجنب كتأثم وتحوّب وتحرّج وتهجّد، إذا تجنب الإثم والحوب والحرج والهجود. والذي للصيرورة كتأيّمت المرأة إذا صارت أيما، وتكبّد اللبن إذا صار كالكبد، وتجبن إذا صار جبنا، وتحجر الطين إذا صار كالحجر، وتسكر الشراب إذا صار كالسكر، ومنه تقيّس وتنزّر إذا صار بالانتماء إليهم كواحد منهم. والذي للتّلبس بمسمى ما اشتق منه كتقمّص وتأزر وتفرّى وتدرّع وتعمّم وتقبّى، إذا لبس قميصا وإزارا وفروة ودرعا وعمامة وقباء. والذي للعمل في مسمى ما اشتق منه كتغدّى وتضحّى وتسحّر وتعشّى. والذي للاتخاذ كتبنّيتُ الصبي، وتديّرت المكان، وتوسّدت التراب.

والذي لمواصلة العمل في مهلة كتفهّم وتبصّر وتسمّع وتعرّف وتجرّع وتحسّى. والذي لموافقة استفعل كتكبّر وتعظّم وتعجّل الشيء وتيقّنه وتقضّاه وتبيّنه، وتغنى به أي استغنى. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يتغن بالقرآن فليس منا". والذي لموافقة المجرد كتعدّى الشيء وعداه، إذا جاوزه، وتحجّى وحجا إذا أقام، وتبيّن إذا بان، وتبسّم بمعنى بسم، ولبث وتلبّث، وأذى وتأذّى، وبرى وتبرّى، وعجب وتعجب، وأصل وتأصل. والذي أغنى عن ثلاثي مجرد كتكلم وتأنى وتصدى. والمغني عن فعّل كقول الشاعر: تَوَيّلَ إذ أملتُ يدي وكانتْ ... يميني لا تُعلَّلُ بالقليل أي قال: ياويلا. والمعروف في اختصار الحكاية فعّل كأمّن. والموافق فعّل تولّى بمعنى ولّى. ص: ومنها فاعَلَ لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظا، والاشتراك فيهما معنى، ولموافقة أفْعَل ذي التعدية، والمجرد، وللإغناء عنهما. ومنها تفاعل للاشتراك في الفاعلية لفظا، وفيها وفي المفعولية معنى، ولتخييل تارك الفعل كونه فاعلا، ولمطاوعة فاعل الموافق أفعل، ولموافقة المجرد، والإغناء عنه. وإن تعدّى تفاعل أو تفعّل دون التاء إلى مفعولين تعدى بها إلى واحد، وإلا لزم. ش: فاعل لانقسام الفاعلية والمفعولية لفظا والاشتراك فيهما معنى، نحو: ضارب زيد عمرا، فزيد وعمرو شريكان في الفاعلية والمفعولية من جهة المعنى، لأن كل واحد منهما قد فعل بصاحبه مثل ما فعل به الآخر، وهما في اللفظ مجعول أحدهما

فاعلا والآخر مفعولا، فقد اقتسما في اللفظ الفاعلية والمفعولية، واشتركا فيهما من جهة المعنى، وليس أحدهما أولى من الآخر بالرفع ولا بالنصب، ولو أتبع منصوبهما بمرفوع، أو مرفوعهما بمنصوب لجاز، ومن ذلك قول الراجز: قد سالمَ الحياتُ منه القَدَما ... الأُفْعُوانَ والشُّجاعَ الشَّجْعَما بنصب الأفعوان وهو بدل من الحيات، وهو مرفوع لفظا، لأنه منصوب معنى، كما أن القدم منصوب لفظا مرفوع معنى، لأن كل شيئين تسالما فهما فاعلان مفعولان. وهذا التوجيه أسهل من أن يكون التقدير: قد سالم الحيات منه القدم، وسالمت القدم الأفعوان والشجاع الشجعم. وأما فاعَلَ الذي لموافقة أفعل ذي التعدية، فكباعدت الشيء وأبعدته، وضاعفته وأضعفته، وناعمته وأنعمته، وعافاه الله وأعفاه. والذي لموافقة المجرد كجاوزت الشيء وجزته، وسافرت وسفرت، وواعدته ووعدته. والمغني عنه نحو: قاسى، وبالى به، وبارك الله فيه. والمغني عن أفعل: واريت الشيء بمعنى أخفيته، وراءيته بمعنى أريته غير ما أقصده. وأما تفاعل الذي للاشتراك في الفاعلية لفظا، وفيها وفي المفعولية معنى كتضارب زيدٌ وعمرٌ، فزيد وعمرو شريكان في الفاعلية لفظا، ولذلك رفعا، وهما من جهة المعنى شريكان في الفاعلية والمفعولية، لأن كل واحد منهما قد فعل بصاحبه مثل ما فعل به الآخر. والذي لتخييل تارك الفعل كونه فاعلا كتغافل زيد، إذا ظهر بصورة غافل وهو

غير غافل. وكذلك تجاهل وتباله وتطارش وتلاكن وتمارض، ومنه قول الراجز: إذا تخازَرْتُ وما بي من خَزَر والذي لمطاوعة فاعل فكباعدته فتباعد، وضاعفت الحساب فتضاعف. والذي لموافقة المجرد كتعالى وعلا، وتوانى وونى. والذي أغنى عن المجرد كتثاءب وتمارى. وإن كان تفاعل أو تفعل متعديا دون التاء إلى مفعولين، تعدى بالتاء إلى مفعول واحد، فمن مثل ذلك في تفاعل: نازعته الحديث، وناسيته البغضاء، وتنازعنا الحديث، وتناسينا البغضاء. ومن مثل ذلك في تفعل، علمته الرماية فتعلمها، وجنبته الشر فتجنبه. فصار تناسى وتنازع متعديين إلى مفعول واحد حين وجدت التاء، لأنهما كانا قبل وجودها متعديين إلى مفعولين، وكذا تعلم وتجنب. فلو كان التعدي دون التاء إلى واحد لعدم بوجودها، نحو: ضارب زيدٌ عمرا، وتضارب زيدٌ وعمرٌو، وأدّبت الصبيَّ، وتأدب الصبيُّ. ص: ومنها افتعل وهو للاتخاذ، والتسبب، ولفعل الفاعل بنفسه، وللتخير، ولمطاوعة أفعل، ولموافقة تفاعل، وتفعّل، واستفعل، والمجرد وللإغناء عنه. ش: افعتل للاتخاذ نحو: اذّبح، واطّبخ، واشتوى إذا اتخذ لنفسه ذبيحة وطبيخا وشواء. ومنه اكتال واتزن. والذي للتسبب نحو: اعتمل واكتسب في العمل والكسب، فزيادة التاء بإزاء زيادة التسبب في حصول الأمر، فعمل وكسب يطلقان على كل عمل وكل كسب، واعتمل واكتسب لا يطلقان إلا على ما في حصوله تكلف وجهد. والذي لفعل الفاعل بنفسه نحو: اضطرب وائتكل من الغيظ، وارتعد من

الحمى، وارتعش واختتن واختص واستاك وامتشط واكتحل وادّهن. والذي للتخير نحو: انْتصى وانتخب واصطفى واعتمى واجتبى وانتقى. والذي لمطاوعة أفعل نحو: أنصفته فانتصف، وأنهيته فانتهى، وأنجزته فانتجز، وأنحسته فانتحس، وأشعل النار فاشتعلت، وأضرمها فاضطرمت، وأوقدها فاتقدت. والذي لموافقة تفاعل كاجْتَوَروا واشْتَوَرُوا وازدوجوا واعتونوا وانتصروا واظطفروا واحتربوا واطعنوا واقتتلوا، بمعنى تجاوروا وتشاوروا وتزاوجوا وتعاونوا وتناصروا وتظافروا وتحاربوا وتطاعنوا وتقاتلوا. والذي لموافقة تفعّل كابتسم وتبسّم، وائتزر وتأزر، واعتم وتعمّم، واعتدى وتعدّى، واغتدى وتغدّى، وانتظر وتنظّر، واختار وتخيّر. والذي لموافقة استفعل كارتاح واستراح، واعتصم واستعصم، واختفى واستخفى، واحتمى واستحمى، وانتجى واستنجى. والذي لموافقة الثلاثي المجرد كقدر واقتدر، وسمع واستمع، وقرب واقترب. والمغني عنه كاستلم الحجر، وانتجى الرجل. ص: ومنها انفعل لمطاوعة فعَل علاجا، وقد يطاوع أفعل، وقد يشارك المجرد، وقد يغني عنه وعن أفعل، ويغني عنه افتعل فيما فاؤه لام أو راء أو واو أو ميم أو نون، وقد يشاركه فيما ليس كذلك ويغني عنه. ش: انفعل المطرد ما كان كانصرف وانكشف وانفصم وانحسم وانقسم وانسكب وانفرط، في كون كل واحد منها مطاوعا لفعل ثلاثي على فعل دال على معالجة وتأثير. فلو لم يدل على معالجة وتأثير كعرف وجهل وسمع ورأى لم يجز أن يصاغ منه انفعل ولا افتعل الذي بمعناه، فلا يقال: عرفته فانعرف، ولا جهلته فانجهل، ولا سمعته فانسمع.

وكذا لو دل على معالجة وتأثير ولم يكن ثلاثيا، كأحكم الشيء وأكمله، لم يجز أيضا أن يصاغ منه انفعل ولا افتعل الذي بمعناه، فلا يقال: أحكمه فانحكم، ولا أكمله فانكمل. وشذ قولهم: أقحمته فانقحم، وأوكأته فاتكأ، وأفردته فانفرد، وأغلقته فانغلق، وأزعجته فانزعج، وأسفقت الباء فانسفق. ويجوز أن يكون: انغلق وانسفق على لغة من قال: غلِقت وسفقت فإنهما مقولان ومنقولان. وسمع: قلت الحديث فانقال، لأن القائل يعمل في تحريك لسانه، ويعالج في ترتيب أجزاء العبارة وجعلها موافقة المعنى بعض علاج. وأما قول من قال: انعدم، فخطأ، وكذلك قول من قال: ذلك شيء لا ينبصِر. وقد يشارك المجرد كقولهم: انطفأت النار وطَفِئَت، وساب الشيءُ فانساب. وإغناؤه وإغناء هذا عنه كقولهم: انطلق بمعنى ذهب، وانزرب في الزريبة إذا دخلها، وانبرى يفعل انبعث. وإغناؤه عن أفعل كقولهم: انحجز، إذا أتى الحجاز. ويغني عنه افتعل فيما فاؤه لام، كلويت الشيء فالتوى، ولففته فالتف، ولحمته فالتحم. وفيما فاؤه راء نحو: ردعته فارتدع، ورفعته فارتفع. وفيما فاؤه واو كوصلته فاتصل، ووكلته فاتكل، ووضعته فاتضع، ووسمته فاتسم. وفيما فاؤه نون نحو: نقلته فانتقل، ونبذته فانتبذ، ونفيته فانتفى، ونسأته فانتسأ. وفيما فاؤه ميم نحو: مددته فامتد، ومططته فامتط، وملأته فامتلأ. وندر: محوته فامّحى، ومزته فامّاز، وامتحى وامتاز أقيس. وقد يشترك افتعل وانفعل فيما ليس فاؤه لاما ولا راء ولا واوا ولا نونا ولا ميما نحو: شويت اللحم فاشتوى وانشوى، وحجبت الشيء فاحتجب وانحجب، وأطرته فاتطر وانأطر، وفصلته فافتصل وانفصل، وفتتّه فانفت وافتت. وقد يغني افتعل عن انفعل في غير ما فاؤه لام ولا شيء من أخواتها، كسترت الشيء فاستتر، وبللته فابتل، وكفيته فاكتفى، وعززته فاعتز، وشددته فاشتد. ص: ومنها استفعل للطلب، وللتحول، وللاتخاذ، ولإلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه، أو لعدِّه كذلك، ولمطاوعة أفعل، ولموافقته وموافقة تفعّل وافتعل والمجرد والإغناء عنه وعن فعّل.

ش: استفعل الذي للطلب كاستعان واستغفر واستوهب واستطعم. والذي للتحول كاستنسر البغاث، واستنوق الجمل، واستتيست العنز، واستحجر الطين. والذي للاتخاذ كاستأبى أبا، واستبعد عبدا، واستأمى أمة، واستأجر أجيرا، واستفحل فحلا، واستعد عدة. ومنه استخلف فلان فلانا، واستعمره في أرضه. ومنه استشعر الرجل إذا لبس شعارا، واستثفرت المرأة إذا شدّت بثفرتها دم الحيض. والذي لإلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه كاستعظمته إذا وجدته عظيما، واستصغرته إذا وجدته صغيرا، واستكثرته إذا وجدته كثيرا، واستقللته إذا وجدته قليلا، واستحسنته إذا وجدته حسنا، واستقبحته إذا وجدته قبيحا، واستحليته إذا وجدته حلوا، واستفظعته إذا وجدته فظيعا. وكذا تقول فيما تعده عظيما أو صغيرا أو كثيرا أو قليلا أو حسنا أو قبيحا أو حلوا أو فظيعا، وهو بخلاف ذلك. واستفعل الذي لمطاوعة أفعل كأكانه فاستكان، وأشلاه فاستشلى، وأحكمه فاستحكم، وأراحه فاستراح. وأكنه فاسكتن، وأضاءه فاستضاء، وأبانه فاستبان، وأمرّه فاستمر. والذي لموافقة أفعل كأبل من المرض فاستبل، واستحصد الزرع وأحصد، واستيقن الإنسان وأيقن، واستبان الأمر وأبان، واستعجله وأعجله، وأهل الهلال واستهل، وأثار الشيء واستثاره. والذي لموافقة تفعّل كاستكبر وتكبّر، واستمتع وتمتع، واستعاذ وتعوّذ،

واستضاف وتضيف، واستيسر وتيسر، واستعفف وتعفف، واستبدل وتبدل، نحو: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير): (ومن يتبدل الكفر بالإيمان). والذي لموافقة المجرد كاستغنى وغنى، واستبشر وبشر، واستهزأ وهزئ، واستبان وبان، واستقر وقر، واستخفى وخفى، واستعلى وعلا. والذي للإغناء عن المجرد كاستحيا واستأثر واستبدل، واستعبر واستنكف. والذي للإغناء عن فعّل استرجع إذا قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والأصل فيه كأمّن إذا قال آمين، وسبح إذا قال سبحان الله. ومن الجائي على استفعل وهو مغن عن فعّل قولهم: استعان إذا حلق عانته، فالأصل فيه: عوّن كقرّد البعير إذا أزال عنه القِردان. ص: ومنها للألوان افعلّ غير مضاعف العين، ولا معتل اللام دون شذوذ، وقد تلي عينه ألف، وقد يدل بحالية على عيب حسي، وربما طاوع فعَل، وقد يدلان على غير لون وعيب، وإفهام العروض مع الألف كثير، وبدونها قليل. ومنها افعوعل للمبالغة، وللصيرورة. وقد يوافق استفعل ويطاوع فعَل. ش: أصل افعلّ: افعلَلَ، ويدل على ذلك وجوب استعماله مفتوح العين مع تاء الضمير ونونَيْه، نحو: احمررت واحمررنا واحمررْن. وشرط ما يصاغ منه ألا يكون مضاعف العين، ولا معتل اللام كألمى. وشذ قولهم: ارعوى مطاوع رَعَوْته بمعنى كففته، من ثلاثة أوجه: أحدها أنه معتل اللام. الثاني أنه لغير لون ولا عيب حسي. الثالث أنه مطاوع، والمطاوعة في هذا النوع نادرة.

وإنما حق هذا الوزن أن يكون مقتضبا كابيضّ واحمرّ. أو موافقا لفعِل أو فعُل كاسمرّ وسمِر وسمُر، وأن يدل على لون وهو الكثير، أو على عيب حسي كاعرجّ واعورّ. وقد قيل من الحوّة احوَوَى، وفيه شذوذ من قبل الاعتلال وموافقة النظائر، من قبل دلالته على لون. وقد تزاد ألف قبل لامه كاحمارّ واصفارّ وادهامّ، والأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بالألف، ولزومه إذا لم يجأ بها. وقد يكون الأمر بالعكس، فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قول الله تعالى في وصف الجنتين: (مُدْهامّتان) ومن قصد العروض مع عدم الألف قولك: اصفر وجهه وجلا، واحمر خجلا، ومنه قوله تعالى في قراءة ابن عامر: (تَزْوَرّ عن كهفهم ذات اليمين) ومثال وقوع افعلّ وافعالّ لغير لون وعيب: انقضّ الحائط، وانهارّ الليل إذا انتصف. ومثال انهارّ: اشعارّ الرأس، إذا تفرق شعره. وقد كثر وزن افعوعل في قصد التكثير والمبالغة، كقولهم: اخشوشن الشيء إذا كثرت خشونته، واعشوشب المكان إذا كثر عشبه، واغدودن الشعر إذا وفر وكثر سواده ولينه. وقد يجيء للصيرورة نحو: احلولى الشيء إذا صار حلوا، واحقوقف الجسم إذا صار أحقف أي منحنيا. وقد يوافق استفعل في الدلالة على إلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه كقوله: فلمّا أتى عامان بعد انفصاله ... عن الضَّرع واحلَوْلى دِماثا يَرُودها أي وجدها حلوة، فاستعمل احلولى استعمال استحلى، واستعماله بمعنى صار حلوا أشهر، ومنه في خطاب الدنيا: ولا تحلولي لهم فتفتنيهم، أي: لا تصيري لهم حلوة.

وقد يوافق انفعل في مطاوعة فعَل كقولهم: ثنيته فانثنى، ومنه قراءة من قرأ: (ألا إنهم يثنوني صدورهم). وقد يوافق المجرد كقولهم: خَلُق أن يفعل كذا، واخلولق أن يفعل، إذا كان بذلك خليقا أي حقيقا. ص: وافعوّل بناء مقتضب، وكذا ما ندر من افعولل وافعيّل، وأما فوعل وفعول وفعْلل ذو الزيادة، وفيْعل وفَعْيل وفَعْلى فملحقات بفعلل، وإلحاق ما سواها به نادر. وتزاد التاء قبل متعدياتها للإلحاق بتفعلل، وهو افعنلل لمطاوعة فعْلَلَ تحقيقا أو تقديرا. وألحق بافعنلل افْعَنْلى وافعنْلَل الزائد الآخر، وإلحاق ما سواهما به نادر. وافعَلَلّ بناء مقتضب، وقد يطاوع فَعْلَلَ، والإلحاق به نادر. ش: المقتضب من الأبنية هو المصوغ على مثال غير مسبوق بآخر هو له أصل أو كالأصل، مع خلوه من حرف مزيد لمعنى أو لإلحاق. ومثال افعوّل اجلوّذ واعلوّط واخروّط. ومثال افعولل وافعيّل اعْثَوْجج واهبيّج، وهما من الأوزان التي أغفلها سيبويه. ومثال فوعل وفعول وفعلل بزيادة إحدى اللامين: حوقل وجهور وجلبب. ومثال فيعل وفعيل وفعلى: بيطر وعَذْيَط وسلقى. وفعيل أيضا مما أغفله سيبويه. ونبهت بقولي: "وإلحاق ما سواها به نادر" إلى الإلحاق بهمزة متوسطة كتأبل القدر بمعنى تبلها، وبنون متقدمة كنرجس الدواء، أو متأخرة كقطرن البعير، أو

بميم مطلقا كمندله بمعنى ندله، وغلصمه بمعنى غلصه، وبتاء متقدمة كتَرْمس بمعنى ارتمس، وترفل في معنى ترفّل، وتفرض بمعنى فرض، وبهاء مطلقا كهلقم إذا أكثر اللقم، وذهبل اللقمة إذا التقطها، وعلهصه بمعنى علصه. وبياء متقدمة كيرْنأ الشيب. وبسين متقدمة أو متأخرة كسنبس بمعنى نبس، وخلبس بمعنى خلب. وبتضعيف عين قبل الفاء كزهزق بمعنى أزهق، ورهرم بمعنى هرم. وإذا لبس جلبابا فتجلبب، ملحق بتسربل إذا لبس سربالا، فتسربل، تفعلل، وتجلبب تفعلل، إلا أن لام تجلبب الثانية زائدة، ولا زيادة في تسربل إلا التاء. وتفعلل العاري من زيادة إحدى اللامين لمطاوعة المجرد كسربلته فتسربل. وقد يوجد غير مطاوع لفعلل مستعملا فيحكم بمطاوعته لفعلل مقدرًا كتبختر، فإنه مطاوع لبختر تقديرا. وافعنلل مثل تفعلل في مطاوعة فعلل تحقيقا أو تقديرا، فذو المطاوعة تحقيقا كاحرنجمت الإبل إذا اجتمعت، فإنه مطاوع لحرجمتها أي جمعتها. وذو المطاوعة تقديرا كابرنشق بمعنى انبسط فرحا، فإنه مطاوع لبرشق تقديرا كتقدير بختر، وبختر وبرشق مهملان. وألحق بافعنلل افعنلى كاسلنقى، وافعنلل المزيد إحدى لاميه كاقعنسس، وإلحاق غيرهما به نادر، كاحبنطأ واحونصل. ص: صيغة فعل الأمر من كل فعل كمضارعه المجزوم المحذوف أوله، فإن لم يكن من أفعل وسكن تالي حرف المضارعة لفظا أُولِيَ همزة الوصل. وإن كان

من أفعل افتتح بهمزة مطلقا. ش: التعبير عن فعل الأمر بكونه كمضارعه المجزوم المحذوف أوله يعم نحو: عدْ، ورَ، وسلْ، وقم، وزد، ودحرج، وراقب، فإنها ليس بينها وبين مضارعاتها المجزومة إلا حذف حرف المضارعة منها، وثبوته في المضارع المجزوم. وهكذا كل أمر من فعل يلي حرف المضارعة منه متحرك. فإن سكن لفظا تالي حرف المضارعة ولم يكن ماضيه أفعل، حذف حرف المضارعة وجعل موضعه همزة وصل كقولك في: يستمع وينطلق ويستخرج ويحبنطى: استمع وانطلق واستخرج واحبنط. فإن كان ماضيه أفعل حذف حرف المضارعة، وجعلت مكانه همزة قطع مفتوحة، وذلك واجب في كل فعل أمر ماضيه على وزن أفعل، صحيحا كأكْرِمْ، أو معتلا، كأقِمْ، أو مُدْغما عينه في لامه كأعدّ، ولاستواء الأنواع الثلاثة في الافتتاح بالهمزة المفتوحة قلت: وإن كان من أفعل افتتح بهمزة مطلقا".

باب همزة الوصل

باب همزة الوصل ص: وهي المبدوء بها في الأفعال الماضية الخماسية والسداسية، ومصادرها، والأمر منها، ومن الثلاثي الساكن ثاني مضارعه لفظا عند حذف أوله. وفي: ابن واثنين، وامرئ، وإناثها، واسم، واست، وابنم، وايمن المخصوص بالقسم، والمبدوء بها أل، وتفتح مع هذين، وتضم مع غيرهما قبل ضمة أصلية موجودة أو مقدرة، وتُشَم قبل المُشَمة، وتكسر فيما سوى ذلك، وقد تكسر في ايمن، وربما كسرت قبل الضمة الأصلية، وأصلها الكسر على الأصح. ش: لما فرغ من استيفاء أبنية الأفعال، وعلم المبدوء منها بهمزة وما ليس كذلك واحتيج إلى تبيين همزة الوصل، استعين على ذلك بالإحالة على ما تقدم، فاحترز بذكر الماضية من همزة المتكلم فإنها همزة قطع في الأفعال كلها. واحترز بالخماسية والسداسية من الرباعي الذي وزنه أفعل كأكرم، وفاعل كآخذ ماضي يؤاخذ، ومن الثلاثي الذي أوله همزة كأخذ. وأمثلة الخماسي والسداسي قد ذكرت فلا حاجة إلى ذكر شيء منها، وقد علم أن كل مثال منها مفتوح الثالث، فإذا قصد مصدره كسر ثالثه، وزيد قبل آخره ألف، وترك ما سوى ذلك على ما كان عليه عند قصد الفعلية، إلا أن يكون ذا إدغام مع الفعلية فيجب مع المصدرية الفك من أجل الألف، كقولك فيما لا إدغام فيه: استمتع استمتاعا، واستخرج استخراجا. وفيما فيه إدغام: اشتد اشتدادا، واستعد استعدادا. ومثال المبدوء بهمزة وصل من أمر الخماسي والسداسي استمِعْ واستخرِجْ. وقد سبق الكلام على كيفية صوغ فعل الأمر، وبيان ما هو منه مفتقر لهمزة الوصل، فزدت الآن بيانا بالتنبيه على الأمر من الخماسي والسداسي. ثم نبهت على الأمر من الثلاثي وقيدته بسكون تالي حرف المضارعة منه لفظا عند حذف أوله، فعلم

بذلك أن الأمر من يعلم ويضرب ويخرج: اعلم واضرب واخرج، وكذلك ما أشبهها. وقد عرف ذلك من الفصل السابق، ولكن زيادة البيان أحوط. وخرج بتقييد السكون باللفظ المحرك ثانيه لفظا لا تقديرا كيقوم ويرد ويرى ويسل، فإن ثوانيها محركة لفظا مسكنة تقديرا، فلو لم يقيد السكون باللفظ لتناولت العبارة ما هو مستغن عن همزة الوصل، من المحرك ثانيه لفظا المسكن تقديرا. وخرج بقولي: "عند حذف أوله" خذْ وكلْ ومرْ، وكان حقها أن يقال فيها: اؤخذ واؤكل واؤمر، كما يقال في الأمر من: أثر الحديث، وأجر الأجير: اؤثر واؤجر، لكن كثر استعمال الأفعال الثلاثة، فحذفت الهمزة من الأمر منها على غير قياس، وللكلام على الحذف موضع هو أولى من هذا. ولما حصرت مواقع همزة الوصل في الأفعال والمصادر كملت ذلك بضبط مواقعها الباقية وهي: ابن، وابنة، واثنان، واثنتان، وامرؤ، وامرأة، واسم واست، وايمن المخصوص بالقسم، وابنم، وال موصولة كانت أو معرفة أو زائدة. وقيد ايمن بكونه المخصوص بالقسم احترازا من أيمن جمع يمين، وقد تقدم الكلام في باب القسم على ايمن مكملا، لكن بعد العهد به، فلم أر بأسا بإعادة بعض ذلك تأكيدا للبيان، وتوقيا للنسيان. ولما كان سبب الإتيان بهمزة الوصل التوصل إلى الابتداء بالساكن، وجب كونها متحركة كسائر الحروف المبدوء بها، وأحق الحركات بها الكسرة، لأنها راجحة على الضمة لقلة الثقل، وعلى الفتحة لأنها لا توهم استفهاما بخلاف الفتحة فإنها توهمه، فإنه لو قيل في: اصطفى: اَصطفى، والاستفهام غير مراد، لكان لفظه كاللفظ به والاستفهام مراد. فإذا قيل في الإخبار: اِصطفى بالكسر، وفي الاستفهام: اَصطفى بالفتح، أمن الإيهام، وتأكد الإفهام. وفي فتح همزة الوصل أيضا محذور آخر وهو تأديته إلى التباس الأمر بالمضارع المسند إلى المتكلم، وذلك أنه لو قيل في الأمر بالانطلاق: اَنطلق، بفتح الهمزة، لتوهم أنه مضارع مسند إلى المتكلم، ولا يكفي الفرق بالسكون، فإن المضارع قد يسكن في مواضع الرفع تخفيفا، كتسكين أبي عمرو: "ينصركم" وأخواته.

ولما استحقت همزة الوصل الكسر في الأفعال كسرت أيضا في الأسماء، لتجري على سنن واحد، فإن عرض فيما يلي الساكن الذي جيء بها لأجله ضمة لازمة ضمت هي إتباعا، وتخلصا من تتابع كسر وضم. وبعض العرب يغتفر ذلك لأجل الانفصال بالساكن، والضم هو المأخوذ به حتى في نحو: اغزى، إتباعا للضمة المنوية قبل الياء. ومن أشم في نحو: اختير وانقيد لزمه الإشمام في الهمزة. فصل: ص: لا تثبت همزة الوصل غير مبدوء بها إلا في ضرورة، ما لم تكن مفتوحة تلي همزة استفهام فتبدل ألفا أو تسهل. وثبوتها قبل حرف التعريف المحرك بحركة منقولة راجح، ويغني عنها في غيره. وشذ في: سَل: إسَل. وإن اتصل بالمضمومة ساكن صحيح أو جار مجراه جاز كسره وضمه. ش: مثال ثبوته غير مبدوء بها في الضرورة قول الشاعر: إذا جاوَزَ الاثنين سِرٌّ فإنه ... بنَتٍّ وإفشاءِ الحديث قمينُ ومثال إبدالها ألفا لكونها مفتوحة بعد همزة الاستفهام قوله تعالى: (آلذكرين حرم أم الأنثيين) وكان حقها أن تحذف كما يحذف غيرها من همزات الوصل إذا وليت همزة الاستفهام نحو: (أصطفى البنات على البنين) إلا أنها لو حذفت لم يعلم أن الباقية همزة الاستفهام، لأنها مفتوحة، واللفظ بالاستفهامية في موضعها كاللفظ بها دون استفهام، فلو لم تبدل أو تسهل بعد همزة الاستفهام لكان الاستفهام لا يعرف به، والمشهور إبدالها ألفا، وقد تسهل كقول الشاعر: وما أدري إذا يَمّمْتُ أرضا ... أريد الخير أيُّهما يليني

أالخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي لا يأتليني وكقول الآخر: ألحقَّ إن دارُ الرباب تباعدت ... أو انبتّ حبْلٌ أن قلبك طائر وإذا نقلت حركة همزة الوصل إلى الساكن الذي جيء بهمزة الوصل لأجله استغنى عن همزة الوصل، كقول بعض العرب ن نُؤيك، يريد: انأ نؤيك أي: أصلحه. وكذا يقال لمن يؤمر بالنأي: ن عني، والأصل: انأ عني، فنقلت حركة الهمزة إلى النون، واستغنى عن همزة الوصل، كما استغنى في الإدغام إذا قلت في: اردد: ردّ، وشذّ قول بعض العرب في: سل: اسَل. ولو كان الساكن المنقول إليه الحركة لام أل لجاز حذف الهمزة وثبوتها، والثبوت أجود، لأن استعماله في القراءة أشهر. وإذا اتصل بهمزة الوصل مضمومة ساكن صحيح، أو جار مجرى الصحيح حذفت وكسر الساكن أو ضم، نحو: (أنِ اقتلوا أنفسكم أوِ اخرجوا من دياركم) وأنُ اقتلوا أوُ اخرجوا.

باب مصادر الفعل الثلاثي

باب مصادر الفعل الثلاثي ص: منها الثلاثي محرك الفاء بالثلاث، مفتوح العين، مجردا، أو ذا ألف بعدها، مذكرا أو مؤنثا بالتاء، أو ساكن العين مجردا، أو مؤنثا بالتاء أو الألف المقصورة، أو مزيدا آخره ألف ونون. ش: محرك الفاء بالثلاث، أي الفتحة والكسرة والضمة. ومفتوح العين مجردا مع فتح الفاء كفَرَح، ومع كسرها كغِلَظ، ومع ضمها كهُدًى. وذا ألف بعدها، أي بعد العين المفتوحة كصَلاح وجِماع ونُباح. أو مؤنثا بالتاء كجِناية وخَطابة ودُعابة. فهذه تسعة أمثلة للمفتوح العين. وللساكن العين مجردا: فَعْل كصبر، وفِعْل كذكر، فُعْل كشكر. وله مؤنثا بالتاء: فَعْلة كرحمة، وفِعلة كنِشْدة، وفُعْلة كقدرة. وله مؤنثا بالألف المقصورة: فَعْلى كدعوى، وفِعْلى كذكرى، وفُعْلى كرُجعى. وله ذا ألف ونون زائدتين: فَعلان، ولم يجئ منه إلا ليّان وشنْآن بمعنى شنَآن. وفِعلان كإتيان، وفُعلان كغُفران. ص: ومنها فَعَلان، وفَعِل، وفَعِلة، وفَعيل، وفَعيلة، وفُعُول، وفُعُولة، وفَعُول، وفُعُوليّة، وفُعْلِيّة، وفُعْل، وفَعالية، وفُعْلَل، وفَيْعولة، وفَيْعوليّة، وفَعَلى، وفَعْلاء، وفُعَلاء، وفِعَلاء، ومَفعولاء، وفِعِّيلَى، وفِعِّيلاء، وإفْعيلى، وإفْعيلاء، وفُعُلّة، وفُعُلّى، وفِعَلّى، وفعلوت، وفُعَلْنية، وفَعالّة، وفِعِلّان، وفَعُّول، وتَفْعِلة، وتَفْعُلة ومَفْعَل مثلث العين مجردا وبالتاء، ومفعول، ومفعولة، وفاعِل، وفاعِلة.

ش: ترتيب أمثلة من هذه الأوزان: جَولان، وكَذِب، وسرقة وذَميل، وتَميمة، وحُلول، وسُهولة، وقَبُول، وخصه خُصُوصيّة، وحَقَره حُقْرِيّة، وحكم حُكْما، وكره كراهية، وساد سُودَدًا، وبان بَيْنونة، ودام ديمومة، وكعّ كعاعة وكعوعا وكَيْعُوعيّة إذا ضعف وجبن، وجمز جمَزَى، وهلك هَلْكاء، وغلا غُلَواء، وخال خُيلاء، وخال خيلا وخِيلاء، وحلف محلوفاء، وشعر مشعوراء، وحضّه على الأمر حِضِّيضَى، وحَثّه حِثِّيثى، وهجر هجيرى وهجيراء، وإهجيرى، وإهجيراء، وغلب غُلُبّة وغُلُبّى، ورغب رغبوتا، ورهب رهبوتا، وسَحَفه سُحَفْنِية، وزَعَر زعارة بتخفيف الراء وتشديدها إذا فجر ومجن، وعرفه عِرِفّانا بكسر العين والراء وتشديد الفاء بمعنى عِرْفان، وصار صُيّورا رجع، وحلّ تَحِلّة أي حلالا، وهلك تهلكة أي هلاكا، وذهب مَذْهبا، ورجع مَرْجِعا، وهلك مَهْلُكا، وقدر على الشيء مقدُرة، ومقدَرة مقدِرة، وعقل معقولا، وجلد مجلودا فهو جلد، وأوى له مأويّة إذا رحمه، وفلج فالجا، وكذب كاذبة ولغا لاغية. ص: والغالب أن يعني بفَعالة وفُعولة المعاني الثابتة، وبفِعالة الحرف وشبهها، وبفِعال ما فيه تأبٍّ، وبفُعال الأدواء والأصوات، وبفَعيل الأصوات وضروب السير، وبفَعلان ما فيه تقلب، وبفَعَل الأعراض، وبفُعْلة الألوان. ش: قصد المعاني الثابتة بفَعالة كالفطانة والبلادة والجراءة والرداءة واللبابة الجهالة والظرافة والنجابة والبراعة والرهافة. وقصدها بفُعولة كالسهولة والصعوبة والرطوبة واليبوسة والعذوبة والملوحة والرعونة والخشونة. وقصد الحرف بفِعالة كالنجارة والخياطة والنساجة والحياكة والصناعة والحراثة والفلاحة والكتابة. والمراد بشبه الحِرَف الولايات كالإمارة والعرافة والوزارة والنقابة. وكون فِعال لما فيه تأبّ كالشراد والجماح والقماص والشباب والخلاء والحماء

والصراف والهياج والحران والشماس. وكون فُعال للأدواء كالزكام والسلاق والقياء والصداع والدوار والظهار والسلال والنحاز والمشاء. وكونه للأصوات كالرغاء والثغاء والمواء والعواء والخوار والجؤار والضباح والنباح والنعاق والنهاق. وكون فَعيل للأصوات كالصهيل والنهيق والهدير والصفير والهزيز والنعيب والنسيب والنشيج والأزيز والعجيج والكشيش. وكون فَعيل لضروب السير كذمل ذميلا، ورسم رسيما، ووجف وجيفا، ودب دبيبا. وكون فَعلان للتقلب كالطوفان والجولان والنزوان والخفقان والضربان والجيشان والثوران والغليان والهيجان. وكون فَعَل للأعراض كفَرَح وتَرَح وعَطَش وغرث وخجل ووجل وحزن ووسن وطمع وطبع. وكون فُعْلة للألوان كشهلة وسمرة وأدمة وورقة وظلمة وكدرة وغبرة وشقرة وخضرة ودهمة وحمرة وصفرة. ونبهت في أول هذه الأوزان بقولي: "في الغالب" على أن معاني هذه الأوزان قد يدل عليها بغيرها، وأنها قد يدل بها على معان أخر. ص: والمقيس في المتعدي من فَعَل مطلقا، ومن فَعِل المفهم عملا بالفم "فَعْل"، وفي اللازم من فَعِل "فَعَل"، ومن فَعَل "فُعُول" ما لم يغلب فيه "فِعالة" أو "فِعال" أو "فُعال" أو "فَعيل" أو "فَعلان" فيندر به فُعول. ويدل على المرّة بفَعْلة، وعلى الهيئة بفِعلة، مالم يوضع المصدر عليهما، وشذ نحو: إتيانة ولقاءة.

ش: مصادر الثلاثي مقيسة وغير مقيسة، فمن المقيسة "فَعْل" لفَعَل المتعدي كأكل أكلا، وجمع جمعا، وبذل بذلا، ومنع منعا، وقبض قبضا، وبسط بسطا ولفعِل مقيدا بدلالته على عمل بالفم كلَقِم لَقْما، ولسِب لَسْبا، وسرط سرطا، وزرد زردا، ولهم لهما، ولثم لثما، وبلع بلعا، وقضِم وقضما، وخضم خضما، وعضّ عضّا، ومصّ مصّا، وسفّ سفّا. ومنها "فَعَل" لفعِل اللازم كفرِح فَرَحا، وترح ترحا، وأشر أشرا، وبطر بطرا، وندم ندما، وألم ألما، وكسل كسلا، وفشل فشلا. ومنها "فُعُول" لفَعَل اللازم الذي لم يغلب فيه فِعالة كتجر تجارة، ولا فِعال كحران حرانا، ولا فُعال كبغم بغاما، ومشى مُشاء، ولا فعيل كصهيل صِهيلا، وذمل ذميلا، ولا فَعَلان كطاف طوفانا. فما استحق من فَعَل مصدرا على أحد هذه الأوزان فلا يجيء مصدره على فُعول إلا نادرا، كجمح جموحا، ونفر نفورا.

باب مصادر غير الثلاثي

باب مصادر غير الثلاثي ص: يصاغ المصدر من كل ماض أوله همزة وصل بكسر ثالثه، وزيادة ألف قبل آخره. ومن كل ماض أوله تاء المطاوعة أو شبهه بضم ما قبل آخره إن صح الآخر، وإلا خلف الضمَّ الكسر. ويصاغ من "أفعل" على إفعال، ومن "فَعّل" على تفعيل، وقد يشركه تفعلة، ويغني عنه غالبا فيما لامه همزة، ووجوبا في المعتل، و: تنزى دلوها تنزيا، من الضرورات. ومصدر "فاعَلَ" مُفاعلة وفِعال، وندر فيما فاؤه ياء. ومصدر "فَعْلَلَ" والملحق به بزيادة هاء التأنيث في آخره، أو بكسر أوله وزيادة ألف قبل آخره. وفتح أول هذا إن كان كالزلزال جائز، والغالب عليه أن يراد به حينئذ اسم فاعل. هـ تم والحمد لله ما وجد بخط الشيخ جمال الدين رحمه الله من شرحه لتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

باب إعراب الفعل وعوامله

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمد قال الإمام العالم الفاضل المحقق العلامة بدر الدين أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مالك الطائي رحمه الله: باب إعراب الفعل وعوامله ص: قوله: يرفع المضارع لتعريه من الناصب والجازم، لا لوقوعه موقع الاسم، خلافا للبصريين. ش: قد تقدم في أول الكتاب بيان المعرب من الأفعال، وهو المضارع الذي لم تتصل به نون توكيد ولا نون إناث، وأن إعرابه رفع ونصب وجزم، فلم يحتج إلى ذكر ذلك هنا، بل إلى ذكر ما يعمل في الأفعال، وهو ثلاثة أنواع: رافع وناصب وجازم. أما الرافع فقد بينه بقوله: يرفع المضارع لتعريه من الناصب والجازم، أي الذي يعمل في المضارع هو خلوه من عامل النصب وعامل الجزم، ولا خلاف أن الرافع للمضارع عامل معنوي، ولكن اختلفوا في هذا المعنى ما هو؟ فقال البصريون: الرافع للمضارع هو موقعه موقعا صالحا للاسم، ومتى كان الفعل لا يجوز أن يقع موقعه اسم لم يجز رفعه، تقول: يقوم زيد، ويقعد عمر، وبكر ينطلق، وبشر يقول ذلك، فترفع في هذا كله لوقوع الفعل منه موقع المبتدأ أو الخبر المفرد. ولا يجوز الرفع في: أن يقوم زيد، ولم يقعد عمرو، لأن الفعل فيه لم يقع موقع الاسم. وأما نحو: كدت أفعل، فمثل: كنت أفعل، وقعت فيه أفعل موقع فاعل وإن لم يتكلم به.

وقال الكوفيون: الرافع للمضارع خلوه من الناصب والجازم، فجعلوا الرافع له تجرده من العوامل اللفظية ليسند، كما كان الرافع للمبتدأ تجرده من العوامل اللفظية ليسند إليه. وبهذا القول قال شيخنا رحمه الله، واستدل على صحته بفساد ما قاله البصريون، من قِبَلِ أن الرافع للمضارع لو كان وقوعه موقع الاسم لما ارتفع بعد "لو" وحروف التحضيض لأنها مختصة بالأفعال، فليس المضارع بعدها في موضع الاسم، وقد رفعوه بعدها نحو: لو يقومُ زيد قمت، وهلا تفعلُ ذاك. فعلم أن الرافع له ليس وقوعه موقع الاسم، فوجب أن يكون تجرده من الناصب والجازم. فإن قيل: لا نسلم أن الرافع للمضارع لو كان وقوعه موقع الاسم لما ارتفع بعد هذه الحروف، لأن المراد بموقع الاسم، الموضع الذي هو للاسم بالجملة، وما بعد هذه الحروف هو للاسم، بدليل قولهم: لو ذاتُ سوار لطمتني، وهلا زيدٌ قام. فإذا وقع فيه المضارع استحق الرفع للعلة المذكورة. فالجواب: لا يخلو مراد كم بموقع الاسم إما أن يكون الموضع الذي هو للاسم في الأصل، أو الموضع الذي هو للاسم في الاستعمال، أو الموضع الذي هو للاسم في أحدهما. وأيا ما كان يلزم منه بطلان قولكم: رافع المضارع وقوعه موقع الاسم، لأنه ينتقض على الأول بالرفع بعد حروف التحضيض قطعا، لأنه موضع ليس للاسم في الأصل. وعلى الثاني بالرفع بعد كاد ونحوها، لأنه موضع ليس للاسم في الاستعمال. وعلى الثالث بالجزم بعد إن الشرطية، فإنه موضع هو للاسم في الاستعمال، كما قي قوله تعالى: (وإن أحدٌ من المشركين استجارك) فلو كان رافع المضارع وقوعه موقع الاسم في الجملة ما كان بعد إن الشرطية إلا مرفوعا، فلما لم يرفع علم أن رافع المضارع ليس وقوعه موقع الاسم، فتعين أن يكون خلوَّه من الناصب والجازم، كما قال الكوفيون. ص: وينصب بأنْ، ما لم تل عِلْما أو ظنّا في أحد الوجهين فتكون مخففة

من أنّ، ناصبة لاسم لا يبرز إلا اضطرارا، والخبر جملة ابتدائية، أو شرطية، أو مصدرة برُبّ، أو فعلٌ يقترن – غالبا إنْ تصرّف -، ولم يكن دعاء – بقدْ وحدها، أو بعد نداء، أو بلو، أو بحرف تنفيس أو نفي. ش: الذي يعمل النصب في المضارع أربعة أحرف: أنْ، ولن، وكي، وإذن. فأما أنْ فهي في الكلام على ثلاثة أضرب: مفسرة وزائدة ومصدرية. فالمفسرة هي المصدر بها حكاية ما فيه معنى القول دون حروفه، كما في قوله تعالى: (وأوحينا إليه أن اصنع الفلك). والزائدة دخولها في الكلام كخروجها، كما في نحو: (فلما أن جاء البشير) ولا عمل لها. والمصدرية هي التي يؤول منها ومن صلتها مصدر، وتنقسم إلى مخففة من أنّ باقية على عملها، وإلى غير مخففة وهي الناصبة للمضارع، وإنما نصبته لأنها شبيهة بأحد عوامل الأسماء وهي أنّ، وهي أقوى النواصب، ولذلك نصبت الفعل مظهرة ومضمرة. ولا تخلو المصدرية من أن يعمل فيها فعل علم أو فعل ظن أو غيرهما. فإن عمل فيها غير فعل علم أو ظن فهي الناصبة للفعل، كما في: (وأنْ تصوموا خير لكم) و: (يريد الله أن يخفف عنكم). وإن عمل فيها فعل علم فهي المخففة من أنّ، فإذا وقع بعدها المضارع كان مرفوعا. وإن عمل فيها فعل ظن جاز أن تكون المخففة، وأن تكون الناصبة للفعل المضارع وهو الأكثر فيها، ولذلك اتفق على النصب في: (أحسب الناسُ أن

يُتْرَكوا) واختلف في: (وحسبوا أن لا تكون فتنة) فقرأ بالرفع أبو عمرو وحمزة والكسائي، وقرأ بالنصب الباقون. ولا يجوز في المخففة أن تلغى، بل يجب أن تنصب اسما لا يبرز إلا في الضرورة، كقول الشاعر: لقد علم الضيفُ والمرملون ... إذا اغْبرَّ أفْق وهبت شَمالا بأنْك ربيعٌ وغَيْثٌ مَرِيع ... وأنْك هناك تكون الثِّمالا ولا يكون خبرها حال حذف الاسم إلا جملة، إما ابتدائية كقوله: في فِتْيةٍ كسيوف الهند قد علموا ... أنْ هالكٌ كلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِل والتقدير: أنه هالك كل من يحفى وينتعل. أو شرطية كقولك: قد علمت أنْ متى تقم أقم معك. ومثله: فعلمت أن من تثقفوه فإنه ... جزر لخامعة وفرخ عقاب ولك أن تجعل منه قوله: سالتاني الطلاق أنْ رأتاني ... قَلّ مالي قد جئتماني بنُكْر ويك أنْ من يكنْ له نَشَب يُحْـ ... ـبَبْ ومن يفتقر يَعش عيش ضر بناء على أن الكاف مع "وي" حرف خطاب، والمعنى: أعجب لأنه من

يكون له نشب يحب، ويجوز أن تكون "وي" مفصولة من الكاف، وهي مع أن للتشبيه على طريق التهكم. وإما مصدرة برب كقول الشاعر: أفاطم ما يدريك أنْ ربّ ليلة ... كأنّ دُجاها من قُرونك يُنْشَر ومثله: تيقنت أنْ رُبَّ امْرِئٍ خِيلَ خائنا ... أمينٌ وخَوّانٍ يُخال أمينا وإما فعلا غير متصرف كقوله تعالى: (وأنْ عسى أن يكونَ قد اقترب أجلهم) وقوله: (وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى). وإما فعلا متصرفا يفيد الدعاء، كقراءة من قرأ: (والخامسةَ أنْ غضِب الله عليها إن كان من الصادقين). أو هو مقرون في الغالب إما بقد وحدها كقوله تعالى: (ونعلم أنْ قد صدقتنا) أو بعد نداء، كما تقول: أعلم أنْ يا زيد قد قام عمرو. وأجاز سيبويه أن يكون منه قوله تعالى: (وناديناه أنْ يا إبراهيمُ قد صدَّقْتَ الرؤيا) وأجاز أيضا أن تكون أن فيه حرف تفسير. وإما بلو كقوله تعالى: (أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) وقوله تعالى: (تبَيَّنت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).

وإما بحرف تنفيس كقوله تعالى: (علم أن سيكونُ منكم مرضى) وإما بحرف نفي كقوله: (أفلا يرون أنْ لا يرجعُ إليهم قولا) وقوله تعالى: (أيحسب الإنسانُ أنْ لن نجمع عظامه) وقوله تعالى: (أيحسَب أنْ لم يره أحد). ولا يجيء خبر أن المخففة فعلا متصرفا غير دعاء ولا مفصول بأحد الأحرف المذكورة إلا فيما شذ كقوله: علموا أنْ يُوَمَّلون فجادوا ... قبل أنْ يُسْألوا بأعظم سُؤْل وقول الآخر، أنشده الفراء: إني زعيمٌ يا نُوَيْـ ... ــــقَهُ إن أمنت من الرَّزاح وأمِنْت من عَرَضِ المَنُو ... ن من الغُدُوِّ إلى الصباح أن تهبطين بلادَ قو ... مٍ يرتَعُون من الطِّلاح وإلى هذا أشار بقوله: غالبًا. ص: وقد تخلو من العلم والظن فتليها جملة ابتدائية، أو مضارع مرفوع، لكونها مخففة من أنّ عند الكوفيين، ومشبهة بما آختها عند البصريين. ش: قد تخلو أن المصدرية من أن يعمل فيها علم أو ظن وتليها جملة ابتدائية، أو فعل مضارع مرفوع، وهو قليل في الكلام، ومنه قول الشاعر: رأيتك أحييت الندى بعد موته ... فعاش الندى من بعد أنْ هو خامل

وقراءة بعضهم: (لمن أراد أن يُتمُّ الرضاعة) وقول الشاعر، أنشده السيرافي: يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما ... وحيثما كنتما لُقِّيتما رشدا أن تحملا حاجة لي خف محملها ... تستوجبا نعمة عندي بها ويدا أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وألا تشعرا أحدا وفي الحكم على أنْ فيما جاء من هذا النحو قولان: فعند الكوفيين أنها المخففة من أنَّ، وجاز خلوها من العلم والظن، لأنه لا مانع منه في القياس. ومذهب البصريين أنها التي تنصب المضارع، ولكنها شبهت بما أختها، وهي المصدرية، فحملت عليها في الإلغاء، فوقع المضارع بعدها مرفوعا، ووليها جملة ابتدائية، كما قد تلي ما، كقوله: واصِلْ خليلَك ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ وكلا القولين حسن. ص: ولا يتقدم معمول معمولها عليها، خلافا للفراء، ولا حجة فيما استشهد به لندوره، وإمكان تقدير عامل مضمر. ولا تعمل زائدة خلافا للأخفش، ولا بعد عِلْم غير مؤول خلافا للفراء وابن الأنباري. ولا يمتنع أن تجري بعد العلم مجراها بعد الظن لتأوله به، ولا بعد الخوف مجراها بعد العلم لتيقن المخوف خلافا للمبرد. ولا يجزم بها خلافا لبعض الكوفيين.

ش: أن المصدرية مع صلتها في تأويل المصدر، فلهما كمال شبه بجزأي الاسم، فيجب لهما ما وجب للجزأين من الترتيب، ومنع الفصل، فلا يجوز: طعامك يعجبني أن تأكل، زيدا أريد أن تضرب. قال ابن كيسان: فقد أجاز الكوفيون تقديم بعض هذا في مواضع، منها: طعامك أريد أن آكل، وطعامك عسى أن آكل، فجعلوا أن كالمجلبة بعسى وأريد، كأن الكلام كان: طعامك آكل فيما أرى وفيما أريد، وليس ذلك بجائز عند البصريين. وذكر الشيخ رحمه الله أن الفراء مستشهد بقول الشاعر: وإني امرُؤٌ من عُصْبة تُغْلبية ... أبت للأعادي أن تَذِيخَ رقابُها أي: تذل، قال: ولا حجة فيه لندوره، وإمكان تقدير عامل مضمر دل عليه المظهر. وذهب الأخفش إلى أنّ أنْ في قوله تعالى: (ومالنا أن لا نقاتلَ في سبيل الله) زائدة، وقد نصبت المضارع حملا على أن المصدرية، كما جرت الباء الزائدة حملا على التي بمعنى الإلصاق، قال: لأن التقدير: وما لنا لا نقاتل، كما جاء في موضع آخر: (وما لنا لا نؤمنُ بالله) (مالي لا أرى الهدهد) وهو مذهب ضعيف، لأن أن الزائدة غير مختصة، فلم يجز أن تعمل، لأن من شرط العمل الاختصاص. وأما الآية الكريمة فحمْلُ أن فيها على أنها مصدرية، وهي بصلتها في تأويل مصدر منصوب على إسقاط الخافض، والتقدير: ومالنا في ألا نقاتل، أسهل مما ذهب إليه الأخفش، فوجب اجتنابه. وذهب الفراء وابن الأنباري إلى جواز نصب المضارع بعد علم غير متأول تمسكا بمثل قراءة مجاهد: (أفلا يرون ألا يرجعَ إليهم قولا) وقول الشاعر:

نرضى عن الله إنّ الناس قد علموا ... ألا يُدانينا من خلقة بشرُ وهو مذهب حسن لأنه قد جاء به السماع، ولا يأباه القياس. ولو كان العلم مؤولا بغيره جاز عند الأخفش وسيبويه في أنْ بعده أن تكون الناصبة، فيقال: ما علمت إلا أن تقومَ. لأنه كلام خرج مخرج الإشارة، فجرى مجرى قولك: أشير عليك أن تقوم. ومنعه المبرد نظرا إلى ظاهر اللفظ. وإذا جاز مثل ذلك بعد العلم غير المؤول، فجوازه بعد المؤول أولى. ولا يمتنع أن تجري أن المصدرية بعد الخوف المؤول بالعلم لتيقن المخوف مجراها بعد العلم، فيرتفع الفعل بعدها، لأنها المخففة من الثقيلة، قال سيبويه: "ولو قال: أخشى أن تفعلُ، يريد أن يخبره أنه يخشى أمرا مشتهرا عنده أنه كائن، جاز، وليس وجه الكلام". وقال أبو الحسن: وأما خشيت ألا تكرمني، فنصب، ولو رفعته على أمر قد استقر عندك، كأنك جرّبته فكان لا يكرمك، فقلت: خشيت ألا تكرمُني، أي خشيت أنك لا تكرمني، جاز. ومنع ذلك المبرد، وأنشدوا في الرد عليه: إذا مِتُّ فادفنِّي إلى جنب كَرْمَةَ ... تُرَوِّي عظامي في الممات عُرُوقُها ولا تدفنَنِّي في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مِتُّ ألا أذوقُها وأشار بقوله: "ولا يجزم بها خلافا لبعض الكوفيين" إلى قوله في بعض الحواشي: وجدت بخط الجواليقي أن سلمة أخبر عن الفراء عن الكسائي عن الرؤاسي قال: فصحاء العرب ينصبون بأن وأخواتها الفعل، ودونهم قوم يرفعون بها، ودونهم قوم يجزمون بها، وعنده أن مستند الراوي في ذلك ما جاء في الشعر من نحو قوله: لقد طال كِتماني عزيزةَ حاجةً ... من الحاج لا تدري عزيزةُ ما هيا أحاذر أنْ تعلم بها فتردَّها ... فتتركها ثِقْلا علّ كما هيا

ولا حجة في ذلك، لجواز كونه سكون وقف للضرورة، لا سكون إعراب. ص: وينصب المضارع أيضا بلن مستقبلا، بحدٍّ وغير حد، خلافا لمن خصها بالتأييد، ولا يكون الفعل معها دعاء، خلافا لبعضهم، وتقديم معمول معمولها عليها دليل على عدم تركيبها من لا أن خلافا للخليل. ش: من نواصب الفعل لن، وهي حرف نفي للمستقبل، يقول القائل: سيقوم زيد، وسيقعد عمرو. فتقول: لن يقوم زيد، ولن يقعد عمرو. إنما عملت النصب في الفعل لأنها مثل أنْ في الاختصاص بالفعل المستقبل، وفي كونها على حرفين أولهما مفتوح، وثانيهما نون ساكنة. هي كغيرها من حروف النفي في جواز كون استقبال المنفي بها منقطعا عند حدٍّ وغير منقطع. وذكر الزمخشري في أنموذجه أن لن لنفي التأبيد، قال الشيخ رحمه: وحامله على ذلك اعتقاده أن الله تعالى لا يرى، وهو اعتقاد باطل، لصحة ثبوت الرؤية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستدل على عدم اختصاصها بالتأييد بمجيء استقبال المنفي بها مُغَيّا إلى غاية ينتهي بانتهائها، كما في قوله تعالى: (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) وهو واضح. ولا يجوز أن يكون الفعل المنفي بلن إلا خبرا. وأجاز بعضهم كونه دعاء كالمنفي بلا في نحو: ولا زال مُنْهَلًا بجَرْعائِك القَطْرُ وقال ابن السراج: وقال قوم: يدعى بلن، مثل قوله تعالى: (فلن

أكون ظهيرا للمجرمين) وقال الشاعر: لن يزالوا كذلكمُ ثم لا زلـ ... ـــتُ لهم خالدا خلودَ الجبال والدعاء بلن غير معروف". وذهب الخليل والكسائي في "لن" إلى أن أصلها: لا أنْ، وأنها مركبة من "لا" النافية، وأن الناصبة محذوفة الهمزة لكثرة الاستعمال كما قالوا: وَيْلُمِّه. وألزمه سيبويه بأنه لا خلاف في جواز تقديم معمول معمولها عليها نحو: زيدا لن أضرب، فلو كان أصلها: لا أنْ، للزم تقديم ما في الصلة على الموصول، وهو ممتنع. وقال السيرافي: المختار أنها غير مركبة، لأن التركيب على خلاف الأصل، فلا تقبل دعواه إلا بدليل، ولا دليل. ولأن لن مع الفعل والفاعل كلام تام، فلو كان أصلها: لا أن لكان الكلام تاما بالمفرد، وهو محال. وحكى ابن كيسان عن الفراء في "لن" أن أصلها: لا، فجعلت ألفها نونا، ونفى بها المستقبل. وفي "لم" أن أصلها: لا، فجعلت ألفها ميما، ونفى بها الماضي، ثم قال: ولا يحسن أن تقول لن يقوم زيد ولا يقعد، حتى تقول: ولن يقعد. فإن قلت: لن يقوم زيد ولا عمرو، عطفت بلا مع الأسماء، ولم يجز مع الفعل. ص: وينصب أيضا بكي نفسها إن كانت الموصولة، وبأن بعدها مضمرة غالبا إن كانت الجارة، وتتعين الأولى بعد اللام غالبا، والثانية قبلها، وتترجح مع إظهار أن مرادفة اللام على مرادفة أن، ولا يتقدم معمول معمولها، ولا يبطل عملها الفصل، خلافا للكسائي في المسألتين.

ش: من نواصب الفعل كي، وهي حرف لا يستعمل إلا في مقام التعليل، يقول القائل: لم فعلت كذا؟ فتقول: كي يكون كذا. ولم جئتني؟ فتقول: كي أعطيك. وهي على ضربين: أحدهما: أن تكون حرف جر، ولذلك ساوت اللام في المعنى والاستعمال، فدخلت في مقام السؤال عن العلة على "ما" الاستفهامية محذوفة الألف نحو: لمه. وفي مقام تعليل الخبر على "ما" المصدرية، كقوله: إذا أنت لم تنفعْ فَضُرّ فإنما ... يُرَجَّى الفتى كيما يضُرُّ ويَنْفَعُ قال أبو الحسن: جعل: "ما" اسما، ويضر وينفع من صلته، وأوقع عليه كي بمنزلة اللام. والثاني: أن تكون مصدرية ناصبة للمضارع، ولذلك حسن دخول لام الجر عليها في السعة، كقوله تعالى: (لكي لا يكون على المؤمنين حرجٌ) فإن حرف الجر لا يجوز أن يدخل على مثله. وإنما نصبت المضارع لشبهها بأن في كونها مصدرية مختصة بالمستقبل، وهي على حرفين أولهما مفتوح وثانيهما ساكن. وإذا دخلت كي على الفعل مجردة من اللام، احتمل أن تكون الناصبة للفعل، واللام قبلها مقدرة تقديرها في نحو: جئت إليك لتحسن، واحتمل أن تكون الجارة، والفعل بعدها منصوب بأن لازمة الإضمار عند البصريين إلا في الضرورة كقوله: فقالت أكلَّ الناس أصبحتَ مانحًا ... لسانك كيما أن تَغُرّ وتَخْدعا

وتتعين الناصبة بعد اللام إذا اضطر الشاعر فأظهر أن بعدها، كقول الشاعر: أردتَ لكيما أن تطيرَ بقرْبتي ... فتتركها شَنًّا ببيداءَ بَلْقعِ لأنه إذا لم تظهر أنْ بعد كي وكان قبلها اللام فليس في جعلها الناصبة، وهي وصلتها في موضع الجر باللام، مخالفة لأصل، ولا ارتكاب لشذوذ. وفي جعلها جارة مؤكدة للام نصب الفعل بعدها بإضمار "أن" وهو خلاف الأصل، وتوكيد الحرف بالحرف وهو في غاية الشذوذ، فوجب اجتنابه. وتتعين الجارة قبل اللام، كما ندر في قول حاتم: فأوقدتُ ناري كي ليُبْصِرَ ضَوْءَها ... وأخرجت كَلْبي وهو في البيت داخله وقول الطرماح: كادوا بنصر تميم كي ليُلْحِقَهم ... فيهم فقد بلغوا الأمر الذي كادوا فكي في نحو هذا حرف جر قطعا، واللام بعدها مؤكدة، لأن توكيد حرف بمثله ثابت، وتأخير اللام عن الحرف المصدري غير ثابت. وإذا ظهرت أن بعد كي نظرت، فإن لم يكن قبلها اللام كما في قوله: كيما أن تغر وتخدعا، احتمل أن تكون الجارة، وقد شذ إظهار أن بعدها للضرورة، وأن تكون الناصبة للفعل، وقد شذ توكيدهما بأن للضرورة، والراجح كونها جارة، لأن توكيدها الحرف بالحرف شاذ في الاستعمال دون القياس، فكان القول به أوْلى.

وإنْ كان قبلها اللام كما في قوله: لكيما أن تطير بقربتي، احتمل أيضا أن تكون الجارة، وقد شذ اجتماعها مع اللام، كما اجتمع اللامان في قول الآخر: ولا لِلما بهمْ أبدًا دواءُ وكما اجتمع ما ولا في قول الآخر: وما إن لا تخاط لهم ثياب واحتمل أن تكون الناصبة للفعل، وقد شذ اجتماعها مع أن، والراجح كونها جارة، لأن تكويد الجار بمثله ثابت بيقين، وتوكيد ناصب للفعل بمثله مشكوك فيه، فالحمل على المتيقن أولى، ولأن حرف الجر أقرب إلى ما هو الأصل فيما يؤكد وهو الأسماء، من الحرف المصدري، لأن حرف الجر يدل على معنى زائد على المفهوم من مصحوبه بخلاف الحرف المصدري، لأنه لا فائدة له إلا تصحيح استعمال الفعل في موضع المصدر، والإقدام على توكيد ما هو أقرب إلى الأصل فيما يؤكد أسهل من الإقدام على توكيد ما هو أبعد عنه، فلا يقاس عليه. ولا يجوز تقدم معمول معمولها عليها خلافا للكسائي، وقد يفصل به أو بجملة شرطية فيبقى النصب. قال الشيخ رحمه الله: من كلامهم: جئت كي فيك أرغبَ، وجئت كي إن تحسنْ أزورَك، بنصب أرغب وأزورك، والكسائي يجيز الكلام برفع الفعلين دون نصبهما. وقد تحذف ياء كي ويبقى عملها، كقول عدي بن زيد: اسمعْ حديثا كما يوما تُحدِّثَه ... عن ظهر غيبٍ إذا ما سائلٌ سألا

أراد: كيما تحدثه، وأنشد أبو علي: وطرفَكَ إما جئتنا فاصرفنّه ... كما يحسبوا أن الهوى حيثُ تنظرُ وقد يتصل بكي فعل ماض أو مضارع مرفوع، فيعلم أن أصلها كيف، وقد حذفت فاؤها، فمن ذلك ما أنشد الفراء: من طالِبَيْن لبُعْران لنا شَرَدت ... كيما يُحِسّان مِن بُعراننا أثرا وما أنشد غيره: كي تَجْنَحون إلى سلم وما ثُئِرتْ ... قَتلاكُم ولَظى الهيجاءِ تضطرم ص: وينصب غالبا بإذن مصدرة إن وَليها أو وَلِيَ قسما وليها، ولم يكن حالا. وليست أن مضمرة بعدها خلافا للخليل. وأجاز بعضهم فصل منصوبها بظرف اختيارا، وقد يرد ذلك مع غيرها اضطرارا. ومعناها الجزاء والجواب، وربما نصب بها بعد عطف أو ذي خبر. ش: إذن حرف معناه الجواب والجزاء، فلا يصحب إلا جملة هي جواب شرط مذكور، كقولهم: إن تأتني إذن آتك، أو مقدر بإن، إلا فيما بعدها اللام، قال الفراء: إذا رأيت بعد إذن اللام فقبلها لو مقدرة، نحو: (وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق) و: (وإذن لاتخذوك خليلا) و: (إذن لأذَقْناك) التقدير: لو كان معه آلهة لذهب، ولو فعلت لاتخذوك

خليلا، ولو ركنت لأذقناك. ولا تلزم صدر الجواب، بل قد تأتي وسطا وآخرا نحو: أنا أفعل إذن. ولا تختص بالأفعال، فكان حقها ألا تعمل، ولكنهم شبهوها بأنْ لغلبة استقبال الفعل بعدها، ولأنها تخرج الفعل عما كان عليه إلى جعله جوابا، كما تخرج أن الفعل عما كان عليه إلى جعله في تأويل المصدر، فحملت على أن فنصبت المضارع وإن لم تختص به، كما عملت ما عمل ليس وإن لم تختص بالأسماء. هذا مذهب أكثر النحويين. وما عزاه إلى الخليل من أن الفعل بعد إذن منصوب بأن مضمرة إنما مستنده فيه قول السيرافي في أول شرح الكتاب: "روى أبو عبيدة عن الخليل أنه قال: لا ينصب شيء من الأفعال إلا بأن مظهرة أو مضمرة في: كي ولن وإذن وغير ذلك". وليس في هذا نص على أن انتصاب المضارع بعد إذن عند الخليل بأن مضمرة، لجواز أن تكون مركبة مع "إذ" التي للتعليل، و"أن" محذوفا همزتها بعد النقل، على نحو ما يراه في انتصابه بعد لن. والقول به على ضعفه أقرب من القول بأن إذن غير مركبة، وانتصاب المضارع بعدها بأن مضمرة. لأنه لا يستقيم إلا على أن يكون ما بعد إذن في تأويل مبتدأ لازم حذف خبره، أو إذن قبله ليست حرفا بل ظرفا مخبرا به عن المبتدأ، وأصلها إذا فقطعت عن الإضافة وعوض عنها التنوين، وكلاهما في غاية من التكلف، والقول بأن إذن مركبة من: إذ وأنْ أسهل منه. وإنما تنصب إذن المضارع بشرط كونها مصدرة، والفعل مستقبل متصل بها، أو منفصل بقسم كقولك لمن قال لك: أزورك غدا: إذن أكرمَك، وإذن والله أكرمك، فالقسم هنا لا يعد حاجزا، كما لا يعد حاجزا بين المضاف والمضاف إليه في قول بعضهم: هذا غلامُ والله زيدٍ، واشتريت بو الله ألفِ درهم، حكاه الكسائي. والمراد بالمصدرة ما لم يكن ما بعدها من تمام ما قبلها، إما لأنها لم يتقدمها شيء، وإما لأنه تقدمها كلام فيجوز أن يستأنف بها وينصب الجواب، كما لو لم

يتقدمها شيء، وذلك نحو قول ابن عَنَمة: اردُدْ حمارك لا تَنْزِع سَوِيَّته ... إذن يُرَدُّ وقَيْدُ العَيْرُ مكروبُ وهذا نصب لأن ما قبله من الكلام قد استغنى وتم، ألا ترى أن قوله: اردد حمارك لا تنزع سويته، كلام تام، ثم استأنف، كأنه أجاب من قال: لا أفعل ذلك، فقال: إذن يرد وقيد العير مكروب. وإذا وجدت الشروط المذكورة فالمعروف في كلامهم نصب الفعل بعدها. وزعم عيسى بن عمر أن ناسا يقولون: إذن أكرمُك، بالرفع، وإليه الإشارة بقوله: غالبا. ولو كانت غير مصدرة، فإن وقعت بين واو العطف أو فائه وبين الفعل المستقبل كنت فيها بالخيار، إن شئت أعملتها فقلت: وإذن آتيك، أو فإذن آتيك، وشاهده قول سيبويه: وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف: (وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلا) وقراءة بعضهم: (فإذن لا يؤتوا الناس نقيرا) وإن شئت ألغيتها، وهو الأكثر، وبه قرأ القراء. وإن وقعت بين شرط وجزاء، أو بين مخبر عنه وخبره، أو منصوب وناصبه، ألغيت، نحو: إن تأتني إذن آتك، وأنا إذن أكرمُك، وزيدا إذن أضربُ. كما تلغى رأى وحسب إذا توسطت الكلام. وربما نصب بها بين مخبر عنه وخبر، كقول الراجز، أنشده ابن كيسان: لا تَتْرُكَنِّي فيهم شَطيرا ... إني إذن أهلِكَ أو أطيرا

ولو كان الفعل الذي بعدها حالا ألغيت، كقولك لمن قال: أنا أحبك: أنا إذن أصدقك، بالرفع لأنه موضع لا تعمل فيه أخوات إذن، فلم تعمل هي فيه. وكذلك لو كان منفصلا بغير القسم، كقولك: إذن زيد يكرمُك وإذن طعامَك يأكلُ، وإذا فيك أرغبُ. فليس في هذا ونحوه إلا الرفع لوجود الفصل. وأجاز ابن عصفور نصب المضارع بإذن مع الفصل بالظرف وشبهه وبالقسم، ولم يجز مثل ذلك في غير إذن إلا في الضرورة كقوله: لن ما رأيتُ أبا يزيدَ مقاتلا ... أدعَ القتال وأشهدَ الهيجاء وأجاز الكسائي الفصل بالظرف وغيره بين الفعل وناصبه، نحو: جئت كي زيدا تضربَ، وأنشد: وشفاءُ غيِّكِ خابِرا أن تسألي وحمله الفراء على أن خابرا حال من الغي. فصل: ص: ينصب الفعلُ بأنْ لازمة الإضمار بعد اللام المؤكدة لنفي خبر كان ماضية لفظا أو معنى، وبعد حتى المرادفة "لإلى" أو "كي" الجارة أو "إلّا أنْ" وقد تظهر أن مع المعطوف على منصوبها. وتضمر أن أيضا لزوما بعد "أو" الواقعة موقع "إلى أنْ" أو "إلّا أنْ". ش: لقوة أن في العمل نصب بها الفعل مظهرة ومضمرة جوازا ولزوما. فنصب الفعل بأن لازمة الإضمار بعد لام الجحود، وحتى، والواو، والفاء، وأو.

أما لام الجحود فهي المؤكدة لنفي خبر كان ماضية لفظا نحو: (وما كان الله ليُضيع إيمانكم) أو معنى نحو: (لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) وسميت مؤكدة لصحة الكلام بدونها، كما تقول في نحو: ما كان زيد ليفعل: ما كان زيد يفعل، لا لأنها زائدة لا معنى لها، إذ لو كانت كذلك لما كان لنصب الفعل بعدها وجه صحيح، وإنما هي لام الاختصاص، دخلت على الفعل لقصد معنى: ما كان زيد مقدرا، أو هاما، أو مستعدا لأن يفعل، وكذا قال سيبويه: "وكأنك إذا مثلت قلت: ما كان زيد لأن يفعل، أي ما كان زيد لهذا الفعل". ولام الجر مختصة بالأسماء، فلذا وجب في المضارع إذا وليها نصبه بأن مضمرة، لتكون هي والفعل في تأويل اسم مجرور باللام، ولا يجوز إظهار أن بعد لام الجحود، إما لأن ما قبل اللام من التقدير قد دل على الاستقبال، فأغنى عن ظهور أنْ، وإما لأن ما بعد اللام جواب، ونقض يفعل بفعل ليس في تقدير اسم، كأنه قيل: زيد سيفعل، فقلت: ما كان زيد ليفعل، فلو أظهرت أن لجعلت مقابل الفعل لفظ الاسم، وهو قبيح. وقال الكوفيون: لام الجحد هي العاملة، وأجازوا تقديم معمول الفعل عليها، وأنشدوا: لقد عَذَلَتْني أمُّ عمرو ولم أكن ... مقالَتَها ما كنت حيا لأسْمعا وهو عند البصريين محمول على إضمار فعل، كأنه قال: ولم أكن لأسمع مقالتها. وأما حتى فيليها المضارع منصوبا بأن مضمرة إذا كانت حرف جر بمعنى إلى أو

كي، فالأول نحو قولك: أنا أسير حتى أدخلها، تريد أن الدخول نهاية للسير، ومثله: لأمشينّ حتى تغيب الشمس، وقوله: (قالوا لن نبرحَ عليه عاكفين حتى يرجعَ إلينا موسى). والثاني كقولك: سرت حتى أدخلَها، تريد أن الدخول غاية للسير، ومثله: سألته حتى يعطيني، ولأتوبنّ حتى أدخل الجنة. وزاد الشيخ رحمه الله كونها بمعنى إلّا أنْ، واستشهد بقول الشاعر: ليس العطاءُ من الفضول سماحةً ... حتى تجود وما لديك قليلُ بناء على أنك لو جعلت "إلا أن" مكان حتى فقلت: ليس العطاء من الفضول سماحة إلا أن تجود وما لديك قليل، كان المعنى صحيحا. وأرى أنك لو جعلت "إلى أن" مكان حتى لم يكن المعنى فاسدا. وإذا كان الفعل بعد حتى غاية أو علة في تمام الجملة التي قبلها فعند سيبويه أنها حرف جر، والفعل بعدها نصب بأن مضمرة، ولا يجوز إظهارها، لأن حتى صارت لطولها بدلا من اللفظ بأن. وعند الكوفيين النصب بعد حتى بها، ولو أظهرت أن فقيل: لأسيرن حتى أن أصبح القادسية، جاز وكان النصب بحتى، وأن بعدها توكيد. قال الكسائي: حتى لا تخفض، إنما تخفض بعدها إلى مضمرة ومظهرة، فيقال: أكلت السمكة حتى رأسِها، فقد حصل بهذا أن حتى لا تعمل في الأسماء شيئا إذا كان الخفض بعدها بغيرها. وقال الفراء: حتى من عوامل الأفعال، وقال في: (مطلع الفجر) هي الخافضة لمطلع لما قامت مقام إلى. والمختار قول سيبويه، لأنه لو كانت حتى هي الناصبة للفعل للزم إما حسن

الخفض بالجار المحذوف، وإما كون حتى تعمل الجر في الأسماء، والنصب في الأفعال، ولظهر الجار قبلها في نحو: لأسيرنّ حتى تغرب الشمس، كما يظهر قبل أن. فهي إذن حرف جر، والفعل بعدها نصب بأن لازمة الإضمار، وقد أثر في المعطوف على منصوبها كما قد ذكر، لأنه يجوز في الثواني ما لا يجوز في الأوائل. وأما "أو" فهو حرف عطف، معناها الشك والإبهام، ويليها المضارع على وجهين: أحدهما أن يكون مساويا للفعل الذي قبلها في الشك، فيتبعه في الإعراب، كقولهم: هو يقيم أو يذهب، ويؤكَّد أن تقوم أو تذهب، وليقمْ زيد أو يذهبْ. والثاني أن يكون مخالفا، فيكون هو على الشك، والفعل الذي قبل أو على اليقين فلا يتبعه في الإعراب، لأنه لم يشاركه في حكمه، بل ينصب بأن لازمة الإضمار، إلا أن تقدر بناء الفعل على مبتدأ محذوف فيرفع. وعلامة مخالفة ما بعد "أو" ما قبلها، وقوعها موقع "إلى أنْ" كقولك: لأسيرنّ أو تغرب الشمس، ونحوه قول الشاعر: لأستسهلنَّ الصعبَ أو أدركَ المنى ... فما انقادت الآمالُ إلا لصابر أو موقع "إلّا أنْ" كقولك: لأقتلن الكافر أو يسلم، ونحوه قول زياد الأعجم: وكنتُ إذا غَمَزْتُ قناة قوم ... كسرتُ كُعُوبها أو تستقيما وكل ما يصح فيه تقدير "أو" بإلى أن يصح فيه تقديرها بإلا أنْ، من غير عكس. ولذلك لم يذكر سيبويه إلا تقديرها بإلا أن، وهو الصواب. والأصل فيما مثلنا به: لأسيرن إلا أن تغرب الشمس، ولأقتلن الكافر إلا أن

يسلم، لأن المراد التعريف بثبوت السير والقتل على كل تقدير إلا عند غروب الشمس، وإسلام الكافر، فما بعد أو منه مخرج من الأصناف الثابت معها السير والقتل، فحقه أن يكون مخرجا بإلا، ولكن أقاموا "أو" مقامها لقربها منها، وكان ما بعد أو مخالفا في الشك لما قبلها، كما كان ما بعد إلا مخالفا لما قبلها، فإذا جاء الفعل بعد "أو" هذه فهو منصوب، ما لم يُبْنَ على مبتدأ محذوف فيرفع. ونصبه عند البصريين ليس بأو، لأنها حرف عطف، وحروف العطف لا تعمل شيئا، بل بأن مضمرة، قال سيبويه بعد إنشاده قول امرئ القيس: فقلتُ له لا تَبْكِ عينُك إنّما ... نحاول مُلْكا أو نموت فنُعْذَرا المعنى: إلا أن نموت فنعذر، ولو رفعه لكان عربيا جائزا على وجهين: على أن يشرك بين الأول والآخر، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعا من الأول تقديره: أو نحن نموت. ثم مثل بقوله: اضربه أو يستقيم، وبقوْل زياد: كسرت كعوبها أو تستقيم. ثم قال: المعنى إلا أن تستقيم. وإن شئت رفعت على الأمر على الابتداء، لأنه لا سبيل إلى الاشتراك، فحمل الرفع في المخالف على إضمار مبتدأ، والنصب على إضمار أن، بناء على أنها مع صلتها في تأويل اسم معطوف على ما قبل أو لتأوله بمصدر معمول لفعل محذوف تقديره فيما مثلنا: ليكونن سير مني أو غروب الشمس، وليكونن قتل مني للكافر أو إسلام منه. إلا أنهم لا يظهرون أن استكراها لعطف لفظ الاسم على لفظ الفعل. ص: وتضمر أيضا لزوما بعد فاء السبب جوابا لأمر، أو نهي، أو دعاء، بفعل أصيل في ذلك، أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل، أو لنفي محض أو مؤول، أو عرض، أو تحضيض، أو تمن، أو رجاء.

ش: اعلم أن الفاء حرف عطف في جميع أماكنها، ويقع بعدها المضارع على خمسة أوجه، لأنه إما مشارك لما قبلها داخل في حكمه، وإما مخالف لما قبلها خارج عن حكمه، وذلك إذا كان ما قبل الفاء غير واجب، وما بعدها إما مسبب عنه، غير مبني على مبتدأ محذوف، وإما مرتب عليه لإفادة نفي الجمع، وإما مرتب عليه لإفادة استئناف الإثبات. فإذا قصد بالمضارع بعد الفاء اشتراكه بما قبلها في حكمه، تبعه في الإعراب، كقولك: زيد يأتيني فيحدثُني، وأريد أن يأتيني فيحدثني، وإن تأتني فتحدثْني أكرمْك. وإن قصد به أنه مسبب مبني على مبتدأ محذوف، أو مرتب للاستئناف رفع، كقولك: ما تأتيني فتحدثُني، فترفع على جعل الإتيان سببا للحديث، وتقديره: فأنت تحدثُني. وعلى استئناف إثبات الحديث بعد نفي الإتيان، على معنى: وتحدثُني الساعة. وإن قصد به أنه مسبب غير مبني على مبتدأ محذوف، أو مرتب لإفادة نفي الجمع نصب، كقولك: ما تأتيني فتحدثني، فينصب على جعل الإتيان سببا للحديث، وتقديره: إن تأتني تحدثني. أو على الترتيب لنفي الجمع بين الفعلين وإرادة معنى: ما تأتيني محدثا، أي قد تأتيني وما تحدث. ونصبه عند سيبويه بأن مضمرة، وما قبل الفاء في تأويل اسم معمول لفعل محذوف، ليصح العطف عليه، والتقدير: ما كان منك إتيان فحديث، فيصير الفعل على هذا التأويل بمعنى اسم، ليدلوا على أحد المعنيين المذكورين، ولم يظهروا أن بعد الفاء، كما لم يظهروها بعد أو. وقال الكوفيون النصب بالفاء، والحجة عليهم أن الفاء لو كانت هي الناصبة لدخل عليها واو العطف وفاؤه، كما تدخل على واو القسم، ولجاز: ما أنت بصاحبي فأكرمك وفأحدثك، كما يجوز: والله ووالرحمن لأفعلن، فلما لم يجز

ذلك علم أنها حرف عطف مضمر بعدها العامل كواو رب. ولا يطرد نصب المضارع بأن مضمرة بعد الفاء إلا في جواب نفي أو طلب وهو الأمر والنهي والدعاء والاستفهام والعرض والتحضيض والتمني، وأتى وروده على ترتيب الكتاب. فأما الأمر فكقولك: ايتني فأحدثك، تريد أن الإتيان سبب للحديث، فينتصب على تقدير: ليكن منك إتيان فحديث، قال أبو النجم: يا ناقُ سيري عَنَقا فسيحا ... إلى سليمانَ فنستريحا ولو جزمته لم يستقم إلا أن تظهر اللام، ولو رفعته جاز على إضمار مبتدأ، وتقدير: إن تأتني فأنا أحدثك، أو على الاستئناف، كأنك قلت: ايتني فأنا ممن يحدثك، جئت أو لم تجئ. وأما النهي فكقولك: لا تمددها فتشقها، (ولا تريد التشريك، فتنصب كما بعد الأمر، قال تعالى: (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) ولو جزمت فقلت: لا تمددها فتشققها)، جاز على التشريك في النهي، وإن كانت الفاء للسببية، قال: فقلت له صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّه ... فيذرِكَ من أعلى القطاةِ فتزلَقِ ولو رفعت على معنى: فأنت تشقها، أو على الاستئناف، جاز. وأما الدعاء فكقولك: اللهم ارحمني فأدخل جنتك، ولا تعذبني فآمن من

سخطك، فتنصب كما بعد الأمر والنهي، قال الشاعر: فيا ربّ عجِّلْ ما نُؤَمِّلُ منهم ... فيدفأ مَقْرُورٌ ويشبعَ مُرْمِل وقال آخر: ربِّ وَفِّقني فلا أعدِلَ عن ... سَنَن الساعين في خيرِ سَنَن ولا يجوز عند البصريين نصب جواب الدعاء إلا إذا كان بلفظ الطلب، لو قلت: رحم الله زيدا فيدخله الجنة، لم يجز، وإليه أشار بقوله: "بفعل أصيل في ذلك" وسيأتي التنبيه على الخلاف فيه. وأما الاستفهام فكقولك: هل تأتيننا فتحدثَنا، ولا تريد التشريك فتنصب على تقدير: هل يكون منك إتيان فحديث، إما لأن الحديث مسبب غير مبني على مبتدأ محذوف، والمعنى فيه: إن تأتني تحدثني، وإما لأنه مرتب لنفي الجمع، والمعنى فيه: هل تأتينا محدثا؟ قال الله تعالى: (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا) وقال الشاعر: هل تعرفون لُباناتي فأرجوَ أن ... تُقْضى فيرتدَّ بعضُ الروح للجسد واختار شيخنا رحمه الله أنه لا يجوز النصب فيما ولى الفاء أو الواو بعد الاستفهام إلا إذا لم يتضمن وقوع الفعل، إما لأنه استفهام عن الفعل نفسه كما تقدم، وإما لأنه استفهام عن متعلق فعل غير محقق الوقوع كما في نحو: متى تزورني فأكرمَك، وأين تسير فأرافقَك؟ ومَنْ يدعوني فأستجيبَ له؟ فينصب لأنه جواب فعل غير واجب. ولو كان الاستفهام عن متعلق فعل محقق الوقوع، كما في قولك: لم يكن الإتيان والحديث، لِم تأتينا فتحدثُنا أو وتحدثنا، فليس إلا الرفع،

لأن الإتيان موجب فلا يجوز النصب بعده إلا على مذهب من ينصب في الواجب كقوله: وألحق بالحجاز فأستريحا واقتدى في هذه المسألة بما ذكره أبو علي في الإغفال رادا على قول أبي إسحاق الزجاج في قوله تعالى: (لِم تلبسون الحقَّ بالباطل وتكتمون الحق) ولو قال: وتكتموا الحق لجاز، على قولك: لِمَ تجمعون بين ذا وذا؟ ولكن الذي في القرآن أجود في الإعراب. وقد حكى ابن كيسان نصب الفعل جواب الاستفهام في نحو: أين ذهب زيد فنتبعَه؟ وكم مالك فنعرفَه؟ ومَن أبوك فنكرمَه؟ ولا أراه يستقيم على مأخذ البصريين إلا بتأويل ما قبل الفاء باسم معمول لفعل أمر، دل عليه الاستفهام، والتقدير: ليكن منك إعلامٌ بموضع ذهاب زيد فاتباعٌ منا، وليكن منك إعلامٌ بقدر مالك فمعرفةٌ منا، وليكن منك إعلامٌ بأبيك فإكرامٌ منا له. وإذا كان مثل ذلك جائزا على ما ذكرنا، فالذي قاله الزجاج هو الصواب. وأما النفي فكقولك: لا تأتيني فتحدثني، فالنصب على تقدير: لا يكون منك إتيان فحديث، وله معنيان: أحدهما أن يكون الإتيان سببا للحديث، وهو منفي نفيا مطلقا، والحديث ممتنع لعدم سببه، فكأنه قيل: أنت لا تأتيني فكيف تحدثني، ولو أتيتني حدثتني، كما قال تعالى: (لا يُقْضى عليهم فيموتوا). والثاني أن يكون الإتيان منفيا بقيد اقتران الحديث به، كأنه قيل: ما تأتيني إلا لم تحدثني، أو لا تأتيني محدثا، أي: منك إتيان كثير بلا حديث، كما تقول: لا يسَعُني شيء ويعجز عنك.

ويجوز فيه الرفع على ثلاثة أوجه: إما على التشريك، كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني. وإما على السببية وبناء ما بعد الفاء على مبتدأ محذوف، كما قال تعالى: (ولا يُؤْذَنُ لهم فيعتذرون) تقديره: فهم يعتذرون، والمعنى: فكيف يعتذرون. وإما على الاستئناف كما قال: غير أنّا لم تأتِنا بيقينٍ ... فنُرَجِّي ونكثرُ التأميلا كأنه قال: فنحن نرجى أبدا. واعلم أن شرط النصب بعد النفي أن يكون داخلا على الفعل المعطوف عليه إما خاليا عما يزيل معناه وهو النفي المحض، كما قال: ما تأتيني فتحدثني، ونحوه مما تقدم ذكره. وإما معه ما يزيل معناه وينقل الكلام إلى الإثبات، وهو النفي المؤول، وذلك ما قبله استفهام، أو بعده استثناء. فالأول كقولك: ألم تأتنا فتحدثنا، فتنصب على معنى: ألم تأتنا محدثا، قال الشاعر: ألم تسألْ فتُخْبرَك الرسومُ ... على فِرْتاج والطللُ القديمُ وكل موضع يدخل فيه الاستفهام على النفي فنصبه جائز على هذا المعنى، ولك فيه الجزم والعطف، على معنى: ألم تأتنا فلم تحدثنا، والرفع على الاستئناف وإضمار مبتدأ، كما قال: ألم تسأل الرَّبْعَ القَواء فينطقُ ... وهل يُخبِرَنْكَ اليومض بيداءُ سملقُ كأنه قال: فهو ينطق. والثاني كقولك: ما تأتينا فتقولَ إلا خيرا، فتنصب، مع أنك أتيت بإلا،

لأنه في معنى: ما تأتينا فتقول شرا. قال سيبويه: "وتقول: لا تأتينا فتحدثَنا إلا ازددنا فيك رغبة، فالنصب ههنا كالنصب في: ما تأتيني فتحدثني، إذا أردت معنى: ما تأتيني محدثا" قال: ومثل ذلك قول اللعين المنقري: وما حَلّ سَعْدِيٌّ غريبا ببلدة ... فيُنْسَبَ إلا الزِّبْرِقانُ له أب يعني أن نصب ما فيه الاستثناء إنما يجوز على وجه واحد من وجهي النصب في جواب النفي المحض، ولو رفع لجاز على التشريك، ومعنى: ما تأتينا وما تقول إلا خيرا. ولا يجوز على الاستئناف، لاستلزامه التفريغ في الموجب. وتقول: ما أنت إلا تأتينا فتحدثُنا، وما تزال تأتينا فتحدثنا فالرفع لا غير، لأن النفي لم يدخل في المعطوف عليه، إنما دخل في الأول على شيء مقدر أخرج منه المعطوف عليه وأوجب بإلا، وفي الثاني على متعلق المعطوف عليه، وكان معناه النفي، فصار إثباتا. ويجوز أن يكون المراد بالنفي المحض ما يدل عليه بما وضع لمجرد النفي، كما ولا وليس، ويدخل فيه جميع ما ذكر من النفي الخالي عما يزيل معناه، والمقارن لما يزيله، ويكون المراد بالنفي المؤول على هذا، وهو الأقرب، ما يدل عليه مما له مسمى يقرب من معنى النفي، فيقام مقامه، نحو: غير، فإنه اسم بمعنى مخالف، وقد يقصد به النفي، فيكون له جواب مقرون بالفاء، كقولك: غير قائم الزيدان فنكرمَهما، ذكره ابن السراج، ثم قال: ولا يجوز هذا عندي، قال الشيخ رحمه الله: هو عندي جائز. وحجته في ذلك جواز ذكر "لا" مع المعطوف على المضافة هي إليه، كما في قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا

الضالين) وصحة إعمال الصفة للاعتماد عليها، كما في قول الشاعر: غيرُ مأسوفٍ على زمن ... ينقضي بالهمِّ والحَزَن وأما العَرْضُ فكقولك: ألا تنزلُ فتصيبَ خيرا. وهو كجواب النفي بعد الاستفهام، والمعنى فيه: إذا نزلت أصَبْت، قال الشاعر: يابنَ الكرام ألا تدنو فتُبْصرَ ما ... قد حَدّثوك فما راءٍ كمنْ سَمِعا وإن شئت رفعت على التشريك، أو إضمار مبتدأ، أو الاستئناف. وأما التحضيض فكقولك: هلا أمرت فتطاعَ. وحكم الجواب بعده حكمه بعد العرض، قال الله تعالى: (لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّقَ). وأما التمني فكقولك: ليته عندنا فيحدّثنا، وألا ماء فأشربه، إن شئت نصبت على المعنى في نصب جواب الاستفهام، قال الله تعالى: (يا ليتني كنت معهم فأفوزَ فوزا عظيما) وإن شئت رفعت على ما تقدم. وربما نصبَ الجواب بعد "لو" جعلُها تمنيا، قال الشاعر: ولو نُبِشَ المقابرُ عن كُلَيْب ... فيُعْلمَ بالذَّنائب أيُّ زير وقال سيبويه: وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: (وَدُّوا لو تُدْهِنُ فيدهنوا). وأما الرجاء فقريب من التمني، وعند البصريين أن المقرون بأداة الترجي في

حكم الواجب، فلا يكون له جواب منصوب. وقال الكوفيون: "لعل" تكون استفهاما وشكا، وتجاب في الوجهين، ومن أمثلتهم: لعلي سأحج فأزورك. والبصريون لا يعرفون الاستفهام بلعل، ولا نصب الجواب بعدها. والصحيح أن الترجي قد يحمل على التمني، فيكون له جواب منصوب، كقراءة حفص عن عاصم: (لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلعَ) وكقول الراجز: أنشده الفراء: عَلّ صُرُوفَ الدهر أو دُولاتها ... يُدِلْننا اللّمّةَ من لمّاتها ... فتستريحَ النفسُ من زَفْراتها ولا يحسن نصب المضارع بأن مضمرة بعد الفاء في غير ما ذكر، فلا يحسن نصبه بعد الخبر الواجب، لأن الذي أحوجنا بعد النفي والطلب إلى الإضمار، وحمل الكلام على غير ظاهره، هو الدلالة على المخالفة بين الأول والثاني على ما بيناه. وإذا عطف بالفاء على الخبر الواجب، كما في نحو: أنت تأتينا فتحدثنا، لم يقع خلاف بين الأول والثاني، فلم يحتج إلى النصب على ذلك الإضمار والتأويل، ولم يرد استعماله إلا في أشياء قليلة سيأتي التنبيه عليها. ص: ولا يتقدم ذا الجوابُ على سببه، خلافا للكوفيين، وقد يحذف سببه بعد الاستفهام، ويلحق بالنفي التشبيه الواقع موقعه، وربما نفي بقد فينصب الجواب بعدها. ش: لا يجوز تقديم الجواب بالفاء على سببه، لأنه معطوف، فلا يتقدم على المعطوف عليه. وقال ابن السراج: وقد أجازوا، يعني الكوفيون، متى فآتيَك تخرجُ؟ ومتى فأسيرَ تسيرُ؟.

وقد يحذف سبب الجواب بالفاء بعد الاستفهام لدلالة القرينة عليه، قال الكوفيون: والعرب تحذف الأول مع الاستفهام للجواب ومعرفة الكلام، فيقولون: متى فأسيرَ معك؟ وقال الكوفيون: كأنّ ينصب الجواب معها، قال ابن السراج: وليس بالوجه، وذاك إذا كانت في غير معنى التشبيه، وهو نحو قولك: كأنك وال علينا فتشتمنا. وربما نفي بقد فينصب بعدها الجواب، ذكر ذلك ابن سيده، وحكى عن بعض الفصحاء: قد كنت في خير فتعرفه، بالنصب على معنى: ما كنت في خير فتعرفَه. فصل: ص: وتضمر أنْ الناصبة لزوما بعد واو الجمع واقعة في مواضع الفاء، فإن عطف بهما أو بأو على فعلٍ قبلُ، أو قصد الاستئناف بطل إضمار أن. ويميز واوَ الجمع تقدير مع موضعها، وفاء الجواب تقدير شرط قبلها، أو حال مكانها. ش: الواو حرف عطف، وينصب المضارع بعدها على أربعة أوجه: لأنه إما مشارك لما قبلها في حكمه، وإما مخالف له، وذلك إذا كان ما قبل الواو غير واجب، وما بعدها إما مستأنف وإما مصاحب عطف لنفي الجمع، غير مبني على مبتدأ محذوف، أو مبني على مبتدأ محذوف. فإذا قصد بالمضارع بعد الواو اشتراكه فيما قبلها تبعه في إعرابه. وإن قصد به أنه مستأنف، أو مصاحب عطف لنفي الجمع، وهو مبني على مبتدأ محذوف رفع، كقولك: ما تأتيني وتحدثني، على استئناف إثبات الحديث بعد نفي الإتيان، أو على نفي الجمع بين الإتيان والحديث، والذهاب إلى معنى: وأنت تحدثنا.

وإن قصد به أنه مصاحب عطف لإفادة نفي الجمع، وليس مبنيا على مبتدأ محذوف نصب، كقولك: ما تأتينا وتحدثنا، على نفي الجمع بين الإتيان والحديث، على معنى: ما تأتينا محدثا، أي تأتي ولا تحدث. ونصبه عند الكوفيين بالواو. وعند البصريين بأن لازمة الإضمار، وما قبل الواو في تأويل مصدر معمول لفعل محذوف ليصح العطف عليه، والتقدير: ما كان منك إتيان وحديث، فنصبوا الفعل على هذا التأويل، ليدلوا على المصاحبة، ونفي الجمع، وإنما يكون ذلك في مواضع الفاء. وأما الأمر فكقولك: زرني وأزورَك، فالنصب على معنى، زرني مع زيارتي لك، أي اجمع بين الزيارتين، والتقدير: لتكن زيارة منك وزيارة مني، قال الشاعر: فقلت ادعِي وأدعُوَ إن أندى ... لصوت أن ينادى داعيان وأما النهي فكقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، والتقدير: لا يكن منك أكل للسمك وشرب للبن. ويجوز فيه الجزم على التشريك والنهي عن كل من الفعلين، والرفع على إضمار مبتدأ، والواو للحال، كأنه قيل: لا تأكل السمك وأنت تشرب اللبن، أي في حال شرب اللبن، أو على الاستئناف، كأنه قيل: ومشروبك اللبن، أكلت السمك أو لم تأكله، فأما قول الأخطل: لا تَنْهَ عن خلق وتأتي مثلَه ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيمٌ فالنصب على معنى: لا تجمع بين أن تهى وتأتي، ولو جزم كان المعنى فاسدا، ولو رفع جاز على إضمار مبتدأ، والواو للحال، لا على الاستئناف.

وأما الدعاء فكقولك: رب وفقني وأطيعَك، فتنصب فيه ما بعد الواو، وكما في الأمر. وأما الاستفهام فكقولك: هل تأتينا وتحدثنا؟ فينصب على معنى: هل يكون منك إتيان وحديث؟ وإن شئت رفعت على الاشتراك في الاستفهام، أو على إضمار مبتدأ وقصد الحال، أو على الاستئناف. وأما النفي فكقولك: لا يَسَعُني شيء ويعجز عنك، كما قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين) وقال الأخطل: ألم أكُ جارَكم ويكونَ بيني ... وبينكم المودةُ والإخاء وإن شئت رفعت على ما رفعت عليه بعد الاستفهام. وأما العرض فقولك: ألا تنزلُ وتصيبَ خيرا. وأما التحضيض فكقولك: هلا أمرت وتطاعَ، فتنصب فيهما بعد الواو كما في النصب بعد الاستفهام. وأما التمني فكقولك: ليتك تأتيني وتحدثَني، فتنصب على معنى: ليتك تجمع بين الإتيان والحديث، والتقدير: ليته كان منك إتيان وحديث، ومثله قراءة حمزة وحفص: (يا ليتنا نُرَدُّ ولا نكذبَ بآيات ربنا ونكونَ من المؤمنين) وإن شئت رفعت على الاشتراك بين الفعلين في معنى التمني، أو على إضمار مبتدأ وقصد الحال، أو على الاستئناف. وقد نبه على وجه ترك النصب بإضمار أن بعد أو والفاء والواو بقوله: "فإن عطف بهما أو بأو على فعل قَبلُ، أو قصد الاستئناف بطل إضمار أن" بمعنى أن

هذه الأحرف إذا قصد بها عطف ما بعدها على فعل قبلها، واشتراكه في حكمه، تبعه في الإعراب، وبطل النصب بإضمار أن، وإن قصد بها استئناف ما بعدها، وذكره منقطعا عن حكم ما قبلها رفع، وبطل النصب بإضمار أن. وقد فاته التنبيه على بطلان النصب بإضمار أن إذا قصد بناء ما بعد هذه الأحرف على مبتدأ محذوف، وقد مضى شرح هذا كله وتمثيله. والأحسن أن يقال: فإن بني ما بعدهما أو بعد أو على مبتدأ محذوف، أو عطف على فعل قبلُ، أو قصد الاستئناف بطل إضمار أن. ويميز واو الجمع من الواو العاطفة صحة تقدير مع موضعها، وأن واو الجمع إنما تكون في مقام نفي أو طلب للجمع بين فعلين. ومتى نفيت أو طلبت فعلا معلقا به "مع" مضافة إلى مصدر فقد أفدت نفي الجمع بين ما قبلها وما بعدها أو طلبه، ألا ترى أنك إذا قلت: لا تأكل السمك وتشربَ اللبن، فنصبت لأنك جعلت الواو للجمع، وأردت النهي عن الجمع بين الفعلين، لا عن واحد منهما، فكيف يصح أن يجعل فيه "مع" مكان الواو، فيقال: لا تأكل السمك مع شرب اللبن، لأنك إذا نهيته عن الأكل المقيد بمصاحبة الشرب، فلم تنهه عن الأكل وحده، ولا عن الشرب وحده، ولكن عن الجمع بينهما، وذلك هو المعنى المراد في النصب. ويميز فاءَ الجواب من العاطفة صحةُ تقدير شرط قبلها، أو حال مكانها، لأن المراد بفاء الجواب الفاء التي يصح نصب الفعل بعدها بإضمار أن، وتلك هي الواقعة إما قبل مسبب انتفى سببه، فيصح حينئذ تقدير شرط قبل الفاء، كما إذا قصدت الإخبار بنفي الحديث لانتفاء الإتيان فقلت: ما تأتينا فتحدثنا، فإنه يصح أن يقال فيه: ما تأتينا، وإن تأتنا فتحدثنا. وإما بين مرتبتين أريد نفي اجتماعهما، فيصح تقدير حال مكانها، كما إذا قصدت أن تنفي اجتماع الحديث والإتيان فقلت: ما تأتينا فتحدثنا، فإنه يصح فيه أن يقال: ما تأتينا محدثا، فإن النفي إذا دخل عليه الفعل المقيد بالحال لم ينفه مطلقا، إنما ينفيه بقيد تلك الحال، فهو لنفي الجمع بينه وبينها، وذلك هو المعنى المقصود من النصب على الوجه المذكور.

ص: وتنفرد الفاء بأن ما بعدها في غير النفي يجزم عند سقوطها بما قبلها لما فيه من معنى الشرط، لا بإنْ مضمرة خلافا لمن زعم ذلك، ويرفع مقصودا به الوصف، أو الاستئناف. ش: كل فعل مأمور به أو منهي عنه فلا بد أن يكون سببا لجلب مصلحة أو دفع مفسدة، وإلا فلا فائدة في طلبه، فمن لوازم الأمر بكل فعل أو النهي عنه، كونه سببا لأمر، فلهذا إذا خلا الجواب في غير النفي من الفاء وقصد الجزاء جزم، لأنه جواب لشرط مقدر، دل عليه ما قبل، تقول في الأمر: زرني أزرْك. وفي النهي: لا تعص الله تنلْ رضاه. وفي الدعاء: اللهم ارزقني مالا أتصدقْ به، فتجزم على تقدير: إن ترزقني، وإن لا تعص، وإن تزرني. ولك أن ترفع على الاستئناف، أو على أنه حال لمعرفة، أو نعت لنكرة. وتقول في الاستفهام: هل تأتينا تحدثْنا، فتجزم لأنك تريد بالاستفهام الأمر، كما في نحو: (أأسلمتم) و: (فهل أنتم منتهون) فتدل على شرط هذا جزاؤه، وصار بمنزلة قولك: ايتنا تحدثْنا. وتقول: أين بيتك أزرْك، لأن المعنى: عرفني بيتك أزرْك. ولك أن ترفع كما بعد الأمر. وتقول في العرض: ألا تنزلُ تُصِبْ خيرا. وفي التحضيض: هلا أمرت تطعْ. وفي التمني: ليته عندنا يحدثْنا، فيجرى الجزاء بعدها مجراه بعد الأمر. وأما الترجي فجزم الجواب بعده غريب، أنشده الشيخ من شرح إكمال العمدة: لعلّ التفاتا منكِ نحوي مُيَسَّرُ ... يَمِل منك بعد العُسْر عطفيك لليُسْر وأما النفي فجوابه إن قرن بالفاء جاز نصبه ورفعه كما سبق، وإن خلا منها رفع على

الحال أو النعت على الاستئناف، ولم يجز جزمه لأن النفي ليس مثل الطلب في دلالته على الشرط، وفي اقتضائه له. واعلم أن الجواب المذكور لا خلاف في أنه جزاء شرط من جهة المعنى، ولكن اختلف في الذي عمل فيه الجزم ما هو، فقال أكثرهم: الجواب مجزوم بشرط مقدر دل عليه ما قبل. وقال قوم: هو مجزوم بنفس ما قبله، لتضمنه معنى الشرط، وهو ضعيف، لأن التضمن زيادة بتغيير للوضع، والإضمار زيادة بغير تغيير، فهو أسهل، ولأن التضمين لا يكون إلا لفائدة، ولا فائدة في تضمين الطلب معنى الشرط، (لأنه يدل عليه بالالتزام، فأي فائدة في تضمنه لمعناه؟ واختار شيخنا رحمه الله تعالى أن الجواب مجزوم بفعل الطلب لما فيه من معنى الشرط) أخذا بظاهر كلام سيبويه، قال في شرح الكافية: وأكثر المتأخرين ينسبون جزم جواب الطلب لإن مقدرة، والصحيح أنه لا حاجة إلى تقدير لفظ إنْ، بل تضمن لفظ الطلب لمعناها مغن عن تقدير لفظها كما هو مغن أسماء الشرط، نحو: "مَنْ يأتني أكرمْه" قال: وهذا هو مذهب الخليل وسيبويه رحمهما الله. ولا شك أن سيبويه قال: "فأما الجزم بالأمر فكقولك ايتني آتك، وأما الجزم بالاستفهام فكقولك: ألا تأتيني أحدثْك، وأما الجزم بالتمني فكقولك: ليته عندنا يُحدثْنا، وأما الجزم بالعرض فكقولك: ألا تنزلُ تُصبْ خيرا. وإنما انجزم هذا الجواب فكما انجزم جواب: إن تأتني، بإن تأتني" ثم قال: وزعم الخليل أن هذه الأقاويل كلها فيها معنى إنْ، فلذلك انجزم الجواب. وليس ذلك من سيبويه محمولا على ظاهره، قال السيرافي: هذه الأشياء التي ذكرناها من الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض تغني عن ذكر الشرط بعدها، ويكتفى بذكرها عن ذكره، فلذلك تجوز سيبويه في عبارته، فأوهم أن هذه الأشياء هي الجازمة لما بعدها، ثم قال: وهذا من سيبويه مسامحة في اللفظ واتساع، كما اتسع في نصب الظرف، وقال في نحو: زيد خلفك، النصب بما

قبله، ثم حكى عن الخليل ما يدل على حقيقة الجازم. وهذا الذي ذكره السيرافي هو الذي يعول عليه في هذه المسألة. والله أعلم. ص: والأمر المدلول عليه بخبر أو اسم فعل كالمدلول عليه بفعله في جزم الجواب لا في نصبه، خلافا للكسائي فيه وفي نصب جواب الدعاء المدلول عليه بالخبر، ولبعض أصحابنا في نصب جواب نَزال وشبهه. فإن لم يحسن إقامة: إنْ تفعل وإنْ لا تفعلْ مقام الأمر والنهي لم يجزم جوابهما، خلافا للكسائي. ش: قد يُلْحق الأمر الذي بلفظ الخبر واسم الفعل بفعل الأمر، فيكون لهما جواب مجزوم، كقولهم: حسبك ينم الناس، واتقى الله امرؤ فعل خيرا يثبْ عليه. لأنه بمعنى: اكتف، وليتق. ومنه قوله تعالى: (تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفرْ لكم ذنوبكم) فيغفر جزم لأنه جواب لتؤمنون، لكونه في معنى آمنوا. وأجاز الكسائي أن يكون للأمر بلفظ الخبر، ولاسم الفعل جواب منصوب بعد الفاء نحو: صه فاحدثَك، ونَزالِ فأنزلَ، وحسبك الحديث فينامَ الناسُ. والقياس يأبى ذلك، ولأن المصحح للنصب بعد الفاء بإضمار أن إنما هو تأويل ما قبلها بمصدر ليصح العطف عليه، فإذا كان قبل الفاء أمر بلفظ المبتدأ والخبر، أو اسم فعل تعذر تأوله بالمصدر، لتعذر تقدير صلة لأن، فامتنع نصب ما بعد الفاء، ومن ثم لم يوافق الكسائي فيما ذهب إليه أحدٌ. إلا أن بعض أصحاب كتاب سيبويه، وهو أبو الحسن بن عصفور أجاز نصب جواب اسم الفعل المشتق من مصدر نحو: نَزالِ ودَراكِ، ولم يجز نصب جواب الأمر بلفظ الخبر، ولا نصب جواب اسم الفعل غير المشتق. وليس في كون نزال وشبهه مشتقا من لفظ المصدر ما يسوغ تأوله بالمصدر، فإن المصحح للنصب في نحو: أنزل

فأنزلَ، هو صحة تأول فعل الأمر بالمصدر، من قبل أن فعل الأمر يصح أن يقع في صلة أنْ مصدرا، كما في نحو: أوعزت إليه بأن افعل، ولا يصح ذلك في اسم الفعل المشتق من المصدر، كما لم يصح في غير المشتق، ولا فرق بينهما في امتناع نصب الجواب. وقد تقدم أنه لا ينصب جواب الدعاء إلا إذا كان بلفظ الطلب. وحكى الشيخ هنا أن الكسائي يجيز نصب جواب الدعاء بلفظ الخبر، ولم ينفرد الكسائي بهذا الجواز، فإن ابن السراج حكى ذلك عنه، ثم قال: وقال الفراء: إن قلت: غفر الله لزيد فيدخلَه الجنة جاز. واعلم أن الأمر إنما يجزم بعده المضارع إذا كان جوابا لما يدل عليه دلالة ظاهرة، ويستلزمه لزوما بيِّنا، وهو شرط الفعل المأمور به. وعلامة ذلك صحة تقدير: إن تفعل، مكان الأمر. تقول: ائتني آتك، لأنك لما أمرت بالإتيان دل على أنه سبب وشرط لشيء هو عندك الإتيان، فجزمت بناء على ما دل عليه الأمر، كأنك قلت: إن تأتني آتك. وتقول: ائتني لا أزورُك أبدا، فترفع على الاستئناف، ولا يجوز أن تجزمه على معنى: إن تأتني لا أزورك، لأن الإتيان لا يكون سببا لترك الزيارة. ولا على معنى: إن لا تأتني لا أزورك، لأن لفعل الأمر دلالة ظاهرة على أنه شرط لفائدة، فيصح جزم الفعل بعده إذا حسن تقدير: إن تفعل مكانه، وجعل ذلك الفعل جوابا له، وليس لفعل الأمر دلالة ظاهرة على أن تركه شرط لشيء، فلا يجوز جزم الفعل بعده، بأنه جواب شرط مخالف. والنهي فيما ذكرنا كالأمر، فإنه يجزم بعده المضارع إذا كان جوابا لما يدل عليه دلالة ظاهرة، ويستلزمه لزوما بينا، وهو شرط ترك الفعل للنهي عنه، وعلامة ذلك صحة تقدير: إن لا تفعل مكان النهي، تقول: لا تعص الله تنل رضاه، (لأنك لما نهيت عن المعصية، وطلبت تركها دل على أنه سبب وشرط لشيء، وكان ذلك الشيء عندك نيل الرضى، فجزمت بناء على ما دل عليه النهي، كأنك قلت: إن لا تعص الله تنل رضاه). وتقول لا تدن من الأسد يأكلُك، فترفع

على الاستئناف، ولا يجوز جزمه على معنى: إن لا تدن من الأسد يأكلك، لأن التباعد عن الأسد لا يكون سببا لأكله، ولا على معنى: إن تدن من الأسد يأكلك، لأن الفعل النهي دلالة ظاهرة على أن تركه شرط لفائدة، فيصح جزم الفعل بعده إذا حسن تقدير: إن لا تفعل مكانه، وجعل ذلك الفعل جوابا، وليس لفعل النهي دلالة ظاهرة على أن فعله شرط لشيء. فلا يجوز جزم الفعل بعده على أنه جواب شرط مخالف. وأجاز الكسائي فيه الجزم، كما يجوز فيه النصب بعد الفاء. قال سيبويه: لا تدن من الأسد يأكلْك، قبيح إن جزمت، وليس وجه كلام الناس، لأنك لا تريد أن تجعل تباعده من الأسد سببا لأكله، فإن رفعت الكلام حسن، وإن أدخلت الفاء فحسن، وذلك قولك: لا تدن من الأسد فيأكلك، وليس كل موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزم، ألا ترى أنك تقول: ما تأتينا فتحدثَنا، والجزاء هنا محال. وإنما قبح الجزم في هذا لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا دخلت الفاء. ومراد سيبويه بقبيح أنه غير مستعمل، وبحسن أنه مستعمل. وحاصل الفرق بين النصب والجزم بعد النهي أن الجزم إنما يجوز في فعل يصح كونه جوابا لشرط مقدر دل عليه النهي، كما في قولك: لا تدن من الأسد تنج. وأما النصب فإنما يجوز في فعل مسبب عن فعل قبل الفاء منهي عنه، طالبا لنفي المسبب بانتفاء سببه، كما في قولك: لا تعص الله فتدخل النار. والمجزوم بعد النهي لازم لنهي ما قبله، والمنصوب بعده لازم لثبوت ما قبله، فوضح الفرق بين الموضعين. وتقول: لا تدن من الأسد فتسلمُ، بالرفع على إضمار مبتدأ، وعلى الاستئناف، ولا يجوز أن تنصب، لأن دنو الأسد لا يكون سببا للسلامة، فيصح تقديره: بإن لا يكن منك دنو فسلامة. وقد جاء من السماع ما يصلح أن يحتج به الكسائي كقول بعض الصحابة

رضي الله عنهم: "يا رسول الله، لا تشرف يصبْك سهم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يُؤْذِنا بريح الثوم" فيمن رواه بالجزم، ورواية الرفع أكثر، وحَمْل ما جاء من ذلك على الإبدال أولى من حمله على الشذوذ. ص: وقد تضمر أن الناصبة بعد الواو والفاء الواقعتين بين مجزومي أداة شرط، أو بعدهما، أو بعد حصر بغنما اختيارا، أو بعد الحصر بإلا، والخبر المثبت الخالي من الشرط اضطرارا. وقد يجزم المعطوف على ما قرن بالفاء اللازم لسقوطها الجزم. والمنفي بلا الصالح قبلها "كي" جائز الرفع والجزم سماعا عن العرب. ش: قد تضمر أنْ الناصبة بعد واو الجمع، وفاء الجواب في غير المواضع المذكورة، وذلك على ضربين: أحدهما جائز في الاختيار وسعة الكلام، والآخر مخصوص بالضرورة. فيجوز في الاختيار إضمار أنْ الناصبة بعد الواو والفاء الواقعتين بين مجزومي أداة شرط، أو بعدهما، أو بعد حصر بإنما. مثال الأول: إن تأتني فتحدثني أكرمْك، فتنصب ما بعد الفاء لأن الشرط غير واجب، فيجوز أن يلحق بالنفي، قال سيبويه: وسألت الخليل عن قوله: إن تأتني فتحدثَني، وإن تأتني وتحدثَني أحدثْك. فقال: هذا يجوز، والجزمُ الوجه، ووجه نصبه أنه حمل الآخر على الاسم، كأنه أراد أن يقول: إن يكن إتيان فحديث أحدثْك، فما قبح أن يرد الفعل على الاسم نوى أنْ، لأن الفعل معها اسم، وإنما كان الجزم الوجه لأنه إذا نصب كان المعنى معنى الجزم فيما أراد

من الحديث، وأنشد الشيخ رحمه الله: ومَن يقتربْ منا ويخضعَ نُؤْوه ... ولا يخشَ ظلما ما أقام ولا هَضْما وأما قول زهير: ومَنْ لا يُقَدِّمْ رجلَه مُطْمَئِنّة ... فَيُثْبِتها في مُسْتوى الأرضِ يَزلق فنصب يثبت فيه لأن الفعل المتقدم على الفاء منفي، وجواب النفي النصب، في مجازاة وغيرها. وأجاز الكوفيون نصب المعطوف على الشرط بثم كما في الواو والفاء، ومنه قراءة الحسن: (ومَن يخرجْ من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركَه الموت). ومثال الثاني: إن تأتني آتك وأحسنْ إليك، فالوجه فيه الجزم على الإشراط في معنى الجزاء، أو الرفع على الاستئناف. ويجوز نصبه بإضمار أنْ على تقدير: إن تأتني يكن إتيان وإحسان. وحكى سيبويه أن بعضهم قرأ: (يُحاسبْكم به الله فيغفرَ لمن يشاء ويعذبَ من يشاء) ثم قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قولك: إن تأتني آتك وأعطيَك، ضعيف، وهو نحو من قوله: وألحقُ بالحجاز فأستريحا

فهذا يجوز، وليس بحد الكلام ولا وجهه، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا، لأنه ليس بواجب أن يفعل، إلا أن يكون من الأول فعل، فلما ضارع الذي لا يوجب كالاستفهام ونحوه، أجازوا فيه هذا على ضعف، وإن كان معناه كمعنى ما قبله، وأنشد الأعشى: ومن يَغْتربْ من قومنا لا يزلْ يرى ... مصارعَ مظلومٍ مَجَرًّا ومَسْحَبا وتُدْفَنَ فيه الصالحاتُ وإنْ يُسئْ ... يكنْ ما أساء النارَ في رأس كوكبا ومثال الثالث قراءة ابن عامر: (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كنْ فيكونَ) بالنصب، على تقدير: فإنما يكون منه كن فيكون من ذلك الأمر، وهو نادر لا يكاد يعثر على مثله إلا في ضرورة الشعر. فأما قولهم: إنما هي ضربة من الأسد فيحطم ظهره، فمن النصب بإضمار أن جوازا، لعطف مصدر مؤول على مصدر صريح، والمعنى: هي ضربة فحطمة، لا من باب قراءة ابن عامر. ويختص بالضرورة إضمار أن الناصبة بعد الحصر بإلا، كقولك: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا. وبعد الخبر المثبت الخالي من الشرط كقول الشاعر: سأترك منزلي لبنى تميم ... وألحقُ بالحجاز فأستريحا أصل الكلام: ألحق بالحجاز فأستريحُ، ولكن لما كان الرَّوِيُّ مفتوحا اضطر فنصب على تقدير: يكون لحاق فاستراحة، ومثله قول طرفة: لنا هَضْبةٌ لا ينزلُ الذُّلُّ وسْطَها ... ويأوى إليها المستجيرُ فَيُعصَما

وقول الأعشى: ثُمّتَ لا تَجْزُونني بعد ذاكُمُ ... ولكن سيجزيني الإلهُ فيُعْقِبا وقد يجزم المعطوف على ما قرن بالفاء اللازم لسقوطها الجزم، وهي الفاء الواقعة في جواب شرط أو طلب. أما الشرط فإذا عطف على جوابه المقرون بالفاء مضارع فالوجه رفعه، كقوله تعالى: (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفرُ عنكم من سيئاتكم) لأن الكلام الذي بعد الفاء أجرى مجراه في غير الجزاء، فحق ما عطف عليه أن يكون كذلك، ويجوز فيه النصب بإضمار أن كما تقدم، والجزم أيضا بالعطف على موضع الفاء، كقراءة بعضهم: (من يضلل الله فلا هادي له ويذَرْهم في طُغْيانهم يعمهون) ونظّر سيبويه الجزم فيه بالنصب في قوله: فلسنا بالجبال ولا الحديدا وأما الطلب فإذا عُطِف على جوابه المقرون بالفاء مضارعٌ كما في قولك: زرني فأزورَك وأحسن عشرتك، فلك في المعطوف النصب على التشريك في عمل أنْ المضمرة، والرفع على الاستئناف، والجزم على توهم حذف الفاء، ومنه قراءة بعضهم: (لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّقَ وأكنْ من الصالحين) فالجزم في ذا نظير الجر في قوله: ولا سابقٍ شيئا إذا كان جائيا

وحكى الفراء عن العرب الرفع والجزم في المضارع المنفي بلا الصالح قبلها كي، وأنهم يقولون: ربطت الفرس لا ينفلتُ، ولا ينفلتْ، وأوثقت العبد لا يفرُّ ولا يفررْ، قال: وإنما جزم لأن تأويله: إن لم أربطه فر، فجزم على التأويل، وأنشد لرجل من عقيل: وحتى رأَيْنا أحسنَ الفعل بيننا ... مُجاملةً لا يقرف الشَّرَّ قارِفُ ولآخر: لو كنتَ إذ جئتَنا حاولت رُؤْيتنا ... أتيتنا ماشيا لا تُعرَفِ الفرسُ بجزم يقرف وتعرف، ورفعهما. فصل: ص: تظهر أنْ وتضمر بعد عاطف الفعل على اسم صريح، وبعد لام الجر غير الجحودية، ما لم يقرن الفعل بلا بعد اللام فيتعين الإظهار. ولا تنصب أن محذوفة في غير المواضع المذكورة إلا نادرا، وفي القياس عليه خلاف. ش: اطرد نصب المضارع بإضمار أن جائزة الإظهار في موضعين: أحدهما: أن يكون الفعل معطوفا على اسم صريح، كقول الشاعر: لَلُبْسُ عباءة وتقرَّ عيني ... أحبُّ إليّ من لُبْس الشُّفوف أراد: للبس عباءة وأن تقر عيني، فحذف أن وأبقى عملها، ولو استقام الوزن بإظهار أنْ كان أقيس. ولا يختص هذا الإضمار بالمعطوف بالواو، بل يجوز في المعطوف بغيرها،

كالفاء، وثم، وأو، مثاله بالفاء قول بعض الطائيين: لولا تَوَقُّعُ مُعْتَرٍّ فأُرضيَهُ ... ما كنتُ أُوثِر إتْرابا على تَرَب ومثاله بثم قول الآخر: إنّي وقتْلي سُلَيْكا ثم أعقلَه ... كالثور يضربُ لما عافت البقرُ ومثاله بأو قراءة السبعة إلا نافعا: (أو يرسلَ رسولا) بنصب يرسل، عطفا على "وَحْيا" وأصله: أو أن يرسل رسولا، ومثله قول الشاعر: ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعزةٌ ... وآلُ سُلَيم أو أسوءَك عَلْقَما والثاني: أن يكون بعد لام الجر غير المؤكدة للنفي، وهي لام التعليل، كما في نحو: جئت لتحسنَ. ولام العاقبة كما في قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكونَ لهم عدوا وحزنا) والزائدة كما في قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم) فإن الفعل إذا وقع بعد إحدى هذه اللامات كان نصبه بإضمار أن، لأن اللام حرف جر، فهي كسائر عوامل الأسماء في امتناع دخولها على الأفعال، فإذا وليها الفعل وجب أن يكون مقدرا بأن، ليكون معها اسما مجرورا باللام، فنصبوه بها، وإن شئت أظهرت أن نحو: جئت لأن تحسن، وأردت لأن تفعل. وإنما يجوز إضمار أن وإظهارها بعد اللام المذكورة إذا كان الفعل بعدها مثبتا، فلو كان منفيا بلا وجب إظهار أن، كما في قولك: جئت لئلا تجيء. ولا يجوز إضمار أن بعد غير اللام من حروف الجر، خصوصا بذلك لكثرة دور معناها في الكلام.

وقد تحذف أن قبل المضارع في غير المواضع المذكورة، فتلغى غالبا، كقولهم: تسمعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه. وقول الشاعر: ألا أيُّهذا الزَّاجري أحضرُ الوغى ... وأن أشهدَ اللذاتِ هل أنت مُخْلِدي وقول الآخر: وما راعني إلا يسيرُ بشرطة ... وعَهْدي به قينا يَفُشُّ بِكير تقديره: أن تسمع، وعن أن أحضر، وإلا أن يسير، ولكنهم رفعوا لأنهم ألْغَوا "أنْ" لما ضعفت بالحذف على غير القياس. وقد لا يلغونها، فينصبون بها المضارع، كقوله: فلم أرَ مثلها خُباسَة واحِد ... ونَهْنَهْتُ نفسي بعد ما كدتُ أفْعَلَه قال سيبويه: "أراد: بعد ما كدت أن أفعله" وهو قليل لا يقاس عليه، ورآه الكوفيون مقيسا، وروَوْا: خذ اللصَّ قبل يأخذَك. وأنشدوا: ألا أيُّهذا الزاجري أحضرَ الوغى بالنصب. فصل: ص: تزاد "أنْ" جوازا بعد لمّا، وبين القسم ولو، وشذوذا بعد كاف الجر. وتفيد تفسيرا بعد معنى القول لا لفظه، وتفيده "أيْ" غالبا فيما سوى

ذلك. وتقع بين مشتركين في الإعراب فتُعَدّ عاطفة على رأى. وإن ولى أنْ الصالحة للتفسير مضارع معه "لا" رفع على النفي، وجزم على النهي، ونصب على جعل أنْ مصدرية. ولا تفيد أن مجازاة خلافا للكوفيين، ولا نفيا خلافا لبعضهم. ش: أن في الكلام على ثلاثة أضرب: مصدرية، وزائدة، ومفسرة. فالمصدرية نحو: أريد أن تفعل، وعلمت أن سوف تقوم، وقد تقدم ذكرها. والزائدة هي التي دخولها في الكلام كخروجها، وتقع بعد لمّا الحينية، كقوله تعالى: (فلمّا أن جاء البشير) وبين القسم ولو، كقولك: أما والله أنْ لو قام زيد قام عمرو، ومثله قول الشاعر: فأقسمُ أنْ لو التقينا وأنتمُ ... لكان لكم يومٌ من الشَّرِّ مظلمُ وشذ زيادتها بعد كاف الجر كما في قوله: كأنْ ظبيةٍ تَعْطُو إلى وَارِقِ السَّلَم يروى بنصب ظبية على أنه اسم كأن، وبرفعها على أنها الخبر، والاسم محذوف، وبجرها على زيادة أن، والكاف حرف تشبيه. وأما المفسرة فهي الداخلة على جملة محكي بها قول مقدر مفسر بجملة قبله بمعنى القول لا لفظه، مذكورة أو محذوفة، فالمذكورة كقوله تعالى: (ونُودوا أنْ

تلكمُ الجنة) ومثله: (فأوحينا إليه أن اصنع الفُلْك) وقوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله) لأن "ما أمرتني به" في معنى القول لا لفظه، وما بعده مفسر له، والمعنى: ما أمرتني به أي قول: اعبدوا الله. وأما المحذوفة فكقوله تعالى: (وانطلق الملأ منهم أن امشوا) المعنى: ثم نهضوا وانطلقوا من مجالسهم يؤمئُون، أي يقول بعضهم لبعض: امشوا. ولو كان المحذوف مقدرا بلفظ القول لم تدخل "أن" كقوله تعالى: "والملائكةُ باسِطو أيديهم أخْرِجُوا أنفسكم) وقوله تعالى: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم). ولو لم يكن ما قبل أن جملة كما في قوله تعالى: (وآخِرُ دعواهم أن الحمدُ لله رب العالمين) فهي مصدرية في موضع رفع بالخبر لا مفسرة، لأن المفسرة لا تدخل إلا على جملة محكية هي فضلة في الكلام. ويستفاد التفسير بأي بعد ما فيه معنى القول قليلا، وبعد غيره مما يحتاج إلى التفسير لإجمال اللفظ، أو غرابة فيه، أو حذف منه كثيرا، فيؤتى بها مع المفسر بيانا لما قبلها، أو بدلا منه. وقد تقع بين مشتركين في الإعراب، فيعدها صاحب المفتاح عاطفة، وليس بمرضى، لأنه يجوز الاستغناء عنها، وحرف العطف لا يستغنى عنه. فإن قلت: إذا جاز الاستغناء عن وقوع أي بين المشتركين في الإعراب، فما الفائدة في ذكره؟ قلت: الفائدة هي التنبيه على حاجة ما قبلها إلى التفسير، ورفع توهم

كون التابع بدل غلط أو نسيان أو إضراب. ويجوز الحكم على أن الصالحة للتفسير بكونها مصدرية، فتقول: أشرت إليه أن أفعل. على معنى: أشرت إليه بالفعل، بدليل ظهور الباء في قولهم: أوعزت إليه بأن افعل. وإذا وَلِيَ أن هذه مضارع، فإن كان مثبتا كقولك: أوحيت إليه أن يفعل، جاز رفعه على معنى أي، ونصبه على جعل أنْ مصدرية. وإن كان بعد "لا" جاز جزمه على النهي، وكون أن مصدرية، ورفعه ونصبه على النفي ومعنى أي، أو كون أن مصدرية. وزعم الكوفيون في أنْ أنها حرف مجازاة في مثل قوله: أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قُتَيْبةَ حُزَّتا ... جهارا ولم تَجْزعْ لقتل ابن مالك لصحة وقوع إنْ موقعها، كقولك: أتجزع إنْ أذنا قتيبة حزتا؟ والصحيح أنها مصدرية مقدر معها اللام، كأنه قال: أتجزع لأن حزت أذنا قتيبة. ولا تدل أنْ على نفي خلافا لبعضهم. فص: ص: المنصوب بعد حتى مستقبل، أو ماض في حكمه، وعلامة ذلك كون ما بعدها غاية لما قبلها، أو متسببا عنه، وإن كان الفعل حالا أو مؤولا به رفع، وعلامة ذلك صلاحية جعل الفاء مكان حتى، وكون ما بعدها فضلة متسببا عما قبلها ذا محل صالح للابتداء، فإن دل على حدث غير واجب تعين النصب خلافا للأخفش. ش: حتى الداخلة على المضارع إما حرف بمعنى إلى أو كي، فيليها المضارع غاية لما قبلها أو مسببا عنه، وينصب بأن مضمرة لكونه من تمام الكلام الذي

قبلها، وإما حرف ابتداء بمنزلة الفاء، فتأتي بعد تمام الكلام، داخلة على جملة محصلة المعنى، مسببة عما قبلها، متصلة به، أو منقطعة عنه، فيليها المضارع مرفوعا لكونه مستأنفا لم يدخل عليه ناصب ولا جازم. ولا يخلو المضارع بعد حتى من أن يكون مستقبلا أو حالا أو ماضيا، فإن كان مستقبلا فهي حرف جر بمعنى إلى أو كي، والفعل بعدها نصب بإضمار أن، ليكون معها اسما مجرورا بحتى، وذلك قولك: لأسيرن حتى تطلعَ الشمس، أي: إلى أن تطلع الشمس، وكلمته حتى يأمر بشيء، أي: كي يأمر، ولا يجوز كونها ابتدائية ورفع ما بعدها، لأنه غير محصل لكونه مستقبلا. وإن كان المضارع بعد "حتى" حالا فهي حرف ابتداء، وما بعدها رفع، لأنه منقطع عما قبلها، فلم يدخل عليه ناصب ولا جازم، وذلك قولك: سرت حتى أدخُلها الآن، ومرض حتى لا يرجونه، وضرب أمس حتى لا يستطيعُ أن يتحرك اليوم، ورأى مني عاما أول شيئا حتى لا أستطيعُ أن أكلمه العام بشيء، وقول حسان: يُغْشَوْن حتى ما تَهِرُّ كلابُهم ... لا يسألون عن السَّواد المُقْبِل ولا يجوز أن تكون جارة، لأن الجارة لا تدخل على المضارع إلا منصوبا بأن مضمرة، وأن لا تنصب الحال. وإن كان المضارع بعد حتى ماضي المعنى فهو مؤول إما بالمستقبل نظرا إلى أنه غاية لما قبل حتى، فهو مستقبل بالإضافة إليه، وإما بالحال على قصد الإخبار بمضى ما قبل حتى وحكاية حال ما بعدها. فإن كان الماضي المعنى غير فضلة، أو غير متسبب عما قبل حتى، أو محله غير صالح للابتداء لأنه جعل غاية، فهو مؤول بالمستقبل. فالأول كما إذا وقع اسم كان الناقصة، كقولك: كان سيري حتى أدخلَها، فتنصب على التأويل بالمستقبل، وجعل حتى الجارة في موضع خبر كان، ولا يجوز

الرفع على التأويل بالحال، وجعل حتى ابتدائية، لئلا تبقى كان بلا خبر، فإن حتى الابتدائية بمنزلة الفاء. والثاني كما إذا كان الدخول من شخص والسير من آخر، فقلت: كنتُ سرت حتى يدخلَها زيد، فإنك تنصب على التأويل بالمستقبل وجعل حتى جارة، والمعنى: إلى أن يدخلها زيد. ولا يجوز الرفع على الحال وجعل حتى ابتدائية، لأن حتى الابتدائية لا تخلو من معنى السببية، وسيرك لا يكون سببا لدخول غيرك. والثالث كما إذا أردت بيان الغاية فقلت: كنت سرت حتى أدخلَها، فتنصب على معنى: إلى أن أدخلها، ولا يجوز الرفع، لأن الغاية حرف جر، وحرف الجر لا يليه المبتدأ والخبر، فلا يليه الفعل المرفوع. وإذا كان الماضي المعنى متسببا عما قبلها، وكان ذا محل صالح للابتداء، لأن المراد بيان السببية، فهو مؤول بالحال فيرفع، لأن حتى قبل الحال حرف ابتداء بمنزلة الفاء، وذلك قولك في كان التامة: كان سيرى حتى أدخلُها، لأنه تم الكلام قبل حتى، فيبقى ما بعدها جملة مستأنفة، فيرفع على معنى: فأنا أدخلها، لأن حتى الابتدائية بمنزلة الفاء في السببية، ولأنها لا تقع بين العامل ومعموله، وليست بمنزلة الفاء في إشْراك الفعل الآخر الأول إذا قلت: لم أجئ فآكل، لجواز مجيئها حيث لا يصح التشريك، كقولك: كان سيرى شديدا حتى أدخلُها. ويجوز تأويله بالمستقبل وقصد الغاية فينصب، على معنى: إلى أن أدخلها، ومثله: (وزُلزِلوا حتى يقولَ الرسول) قراءة نافع بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب. واعلم أن المضارع الماضي المعنى إنما يرتفع بعد حتى إذا كان متسببا عما قبلها، فلهذا لا يرتفع الفعل بعد حتى إلا إذا كان واجبا، أي حاصلا لحصول سببه يقينا أو ظنا، فإن الضمير ينعقد على الظن كانعقاده على العلم، وذلك قولك: إن

زيدا سار حتى يدخلُها، وما سار إلا قليلا حتى يدخلُها، وأظن عبد الله سار حتى يدخلُها، فلك في كل هذا الرفع على الابتداء، لأن الدخول قد وجب بوجوب السير، وتأدّى به. وإن كان الماضي المعنى بعد حتى غير واجب، لأن ما قبله غير مؤد إليه، ولا مسبب له، كقولك: ما سار زيد حتى يدخلَها، تعين النصب على الغاية، وقصد معنى: ما سار إلى أن يدخلها، بل إلى ما دون ذلك، لأنك لو رفعته على الابتداء لكان ما بعد حتى الابتدائية غير محصل، ولا متسبب عما قبلها، وذلك لا يكون. وتقول: قلما سرت حتى أدخلها، بالنصب إن أردت النفي، وإن أردت بيان أنك سرت قليلا نصبت على الغاية، ورفعت على الابتداء. وتقول: إنما سرت حتى أدخلها، بالنصب إن أردت الغاية، أو تحقير السير، وجعلته سيرا لا يوجب الدخول. وإن لم ترد ذلك تعين الرفع. وأجاز الأخفش رفع غير الواجب، وقال: ما سرت حتى أدخلُها، معنى الرفع فيها صحيح، إلا أن العرب لا ترفع غير الواجب، ألا ترى أنك لو قلت: ما سرت فأدخلها، أي ما كان مني سير ولا دخول. أو قلت: ماسرت فإذا أنا داخل الآن لا أمتنع، كان حسنا". وغلط في ذلك بأن الدخول في حتى إذا وقع إنما يقع بالسير، قال السيرافي: والذي عندي أن أبا الحسن أراد أن "ما" تدخل على: سرت حتى أدخلها، بعد وجوب الرفع، فتنفي جملة الكلام، فلذلك رآه صحيحا في القياس، وإن كانت العرب لا تتكلم به.

باب عوامل الجزم

باب عوامل الجزم ص: منها لام الطلب مكسورة، وفتحها لغة بعد الفاء والواو وثم، وتلزم في النثر في فعل غير الفاعل المخاطب مطلقا، خلافا لمن أجاز حذفها في نحو: قل له ليفعل. والغالب في أمر الفاعل المخاطب خلوه منها ومن حرف المضارعة. وهو موقوف لا مجزوم بلام محذوفة، خلافا للكوفيين. ولا بمعنى الأمر خلافا للأخفش في أحد قوليه، ويلزم آخره ما يلزم آخر المجزوم. ش: عوامل الجزم لام الأمر، ولا التي للنهي، ولم، ولمّا أختها، وإن الشرطية وما ضمن معناها. وإنما عملت الجزم لأنها اختصت بالأفعال ولازمتها، ولم تنزل منها منزلة الجزء، فاقتضى ذلك أن تؤثر فيها وتعمل، لأن كل ما لازم شيئا أثر فيه غالبا، فعملت فيها الجزم لأنه أنسب، وذلك لأن الفعل بعد لام الأمر شبيه بالأمر المبني على السكون، ومثله في المعنى، فحمل عليه في اللفظ، فأعرب بالجزم الشبيه بالبناء. وأما النهي فإنه يجزم فعله لأنه نقيض الأمر المبني. كما يجزم الفعل بلم ولما، لأنه نقيض الماضي، والماضي مبني. وأما إن الشرطية فلأنها تقتضي جملتين: شرطا وجزاء، وإنما عملت الجزم لأنه أخف وأحسن مع الإطالة. واعلم أن الفعل يجزم باللام في الأمر، وهو طلب الفل على سبيل الاستعلاء نحو: (ليُنْفِق ذو سَعَة) وفي الدعاء، وهو طلب الفعل على سبيل

الخضوع، نحو: (ليَقْضِ علينا ربُّك) ومثله قول أبي طالب: يا ربِّ إما تُخْرجَنّ طالبي ... في مِقْنَب من تلكُمُ المقانب فليكُن المغلوبُ غيرَ الغالب ... وليكن المسلوبُ غيرَ السالب فلذلك سماها لام الطلب، والنحويون يسمونها لام الأمر، لأنه الأصل فيها. ولام الأمر مبنية على الكسر، لأنه أقرب إلى الجزم، لأنها حركة مقابل مقابله وهو الجر. ومن العرب من يبنيها على الفتح، قال الفراء في كلامه على قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) بنو سليم يفتحون لام الأمر نحو: "ليقم زيد". وإذا وقعت لام الأمر بعد الفاء والواو وثم جاز تسكينها جملا على فعل، وإجراء للمنفصل مجرى المتصل لكثرة الاستعمال، وهو مع الواو والفاء أعرف من التحريك، ولذلك اتفق القراء على التسكين فيما سوى: (ولِيُوفوا نُذُورهم ولِيَطَّوَّفوا) وفي: (ولِيتمتعوا) فيما ولى واوا وفاء، كقوله تعالى: (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي) وقوله تعالى: (فليكتب وليُمْلِل الذي عليه الحق وليتق الله) وقوله تعالى: (فلتقم طائفةٌ منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفةٌ أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حِذرهم وأسلحتهُم).

وأما تسكين اللام بعد ثم فقليل ومنه قراءة أبي عمرو وغيره: (ثم لْيقْضوا تَفَثَهم). وتلزم لام الأمر في النثر فعل غير الفاعل المخاطب، وهو فعل الفاعل الغائب أو المتكلم، وحده أو مشاركا، وفعل ما لم يسم فاعله مطلقا، كقولك: ليقم زيد، وقوله صلى الله عليه وسلم: "قوموا فَلأُصَلِّ لكم" وقوله تعالى: (ولنحمل خطاياكم) وقولهم: لتُعْنَ بحاجتي، وليُزْهَ زيدٌ علينا، فاللام في كل هذا واجبة الذكر، ولا يجوز حذفها في مثله إلا في الشعر فإنه محل الاختصار والتغيير، فيجوز فيه حذف اللام وجزم الفعل بها مضمرة لاضطرار ودونه، فالأول، كقول الشاعر: فلا تَسْتَطِلْ منِّي بقائي ومُدَّتي ... ولكنْ يكنْ للخيرِ منك نصيبُ أراد: ليكن للخير منك نصب، ولكنه اضطر فحذف، والثاني كقول الآخر: على مثلِ أصحابِ البعوضة فاخمِشي ... لك الويلُ حرَّ الوجه أو يَبْكِ من بكَى لتمكنه من أن يقول: وليبك من بكى. ومثله قول الآخر: قلت لبواب لديه دارها ... تأذنْ فإني حَمْؤُها وجارها

لأنه لو لم يؤثر الجزم باللام المحذوفة لقال: ايذن، بلفظ الأمر. فأما قول الشاعر: محمدُ تَفْد نفسَك كلُّ نفس ... إذا ما خِفْتَ من شيء تَبالا فليس يثبت، لجواز أن يكون أراد: تفدي نفسك، على الخبر، ولكن حذف الياء تخفيفها، كما حذفوا في: الأيد، يريد: الأيدي، وكذلك ما أنشده الفراء: مَنْ كان لا يزعمُ أني شاعرُ ... فَيَدْنُ منِّي تَنْهَهُ المَزاجِرُ لأنه لو أراد الأمر لقال: فليدن مني، وإنما أراد عطف يدنو على يزعم، وحذف الواو من يدنو، لدلالة الضمة عليها، كما قال: فيا ليت الأطِبا كانُ حولي فحذف واو الضمير اكتفاء بالضمة. وأما تَنْه فمجزوم لأنه جواب مَنْ. ولا يجوز في غير الشعر حذف لام الأمر، خلافا للكسائي، قال ثعلب: قال الكسائي في قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا) هو: ليغفروا، فأسقط اللام، وترك يغفروا مجزوما. قلت: والوجه أن يكون مجزوما بجواب الأمر على معنى: إن تقل لهم: اغفروا يغفروا. والغالب في أمر الفاعل المخاطب خلوه من اللام ومن حرف المضارعة، وقد لا يخلو منهما كقراءة عثمان وأنس وأبيّ: (فبذلك فلْتَفْرحوا)

وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لِتأخذوا مَصافَّكم" وهو قليل، والكثير المعروف في كلامهم مجيء أمر الفاعل المخاطب مجردا من اللام ومن حرف المضارعة، مجعولا آخره كآخر المجزوم. فإن لم تتصل به ألف اثنين، أو واو جمع، أو ياء مخاطبة، فإن كان صحيحا فهو ساكن الآخر، نحو: اذهبْ واضربْ واخرجْ. وإن كان معتلا فهو محذوف الآخر نحو: اخشَ وارمِ واغزُ. وإن اتصل به ألف اثنين، أو واو جمع، أو ياء مخاطبة ثبتت في آخره بغير نون نحو: اضربا واضربوا واضربي. وليس ذلك جزما بل بناءً، لأن دلالة "اضرب" ونحوه على الجزم إما بإضمار اللام، وهو مضارع محذوف منه حرف المضارعة، وإما بتضمين معناها، وهو مثال مأخوذ من لفظ المصدر للدلالة على الحدث، والنسبة تفيد الطلب. لا جائز أن يكون بالإضمار، لما فيه من كثرة الحذف لغير موجب، فتعين أن يكون بالتضمين، وإذا كانت دلالة اضرب ونحوه على الأمر بتضمن معنى اللام، وجب الحكم عليه بالبناء لوجهين: أحدهما: عدم وجود علة الإعراب فيه، وهي شبه الاسم، فإن المضارع إنما أعرب لشبه بالاسم، إما لجواز قبوله بصيغة واحدة معاني مختلفة، وإما في احتمال الإبهام والتخصيص، وقبول لام الابتداء، والجريان على حركات اسم الفاعل وسكناته، وذلك وشبهه مفقود من فعل الأمر، فوجب أن يكون مبنيا كالماضي. الثاني: أن فعل الأمر لو كان معربا لكان مجزوما، لأنه أبدا ساكن الآخر أو محذوفه، ولو كان مجزوما لكان الجازم له إما اللام وإما غيرها. لا جائز أن يكون مجزوما باللام، لأن المتضمن يمنع من إظهار مثله، لأنه لا فائدة فيه، ولا يصح أن يعمل متضمنه كما لا يعمل الشيء في نفسه. ولا جائز أن يكون مجزوما بغيرها لاستحالة تقديره، فتعين الحكم عليه بالبناء.

وذهب الكوفيون إلى أن فعل الأمر مجزوم بلام محذوفة وهو مضارع حذف منه حرف المضارعة، لأنه لو لم يكن كذلك لما كان لوجوب حذف آخر المعتل منه وجه. وهو ضعيف لجواز أن يكون الوجه في حذف آخر المعتل من فعل الأمر هو طلب التخفيف، استثقالا لحرف العلة المتطرف الساكن، ثم التزموا حذفه، كما أجازوا حذف المتحصن بالحركة المقدرة، كقراءة من قرأ: (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) و: (ذلك ما كنا نبغ) ولو لم يكن لحذف آخر فعل الأمر المعتل وجه من المناسبة والاستحسان، لكان دعواه أيسر من دعوى حذف لام الأمر وحرف المضارعة. والمشهور عن الأخفش موافقة سيبويه في الحكم على فعل الأمر بالبناء، وعنه أيضا قول آخر وهو أن فعل الأمر مجزوم بمعنى الأمر، وهو قول بما لا نظير له، من غير دليل عليه. ص: ومنها "لا" الطلبية، وقد يليها معمول مجزومها، وجزم فعل المتكلم بها أقل من جزمه باللام. ش: من عوامل الجزم "لا" الطلبية، وهي الدالة على النهي عن الفعل كقوله: (لا تحْزَن) أو الدعاء بترك شخص أو عليه، كقوله تعالى: (ربنا لا تؤاخِذْنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصْرا). والثاني كقول الشاعر: بكى دَوْبَلٌ لا يُرْقِئِ اللهُ دمعَه ... ألا إنما يبكي من الذُّل دوبلُ وقد يليها معمول مجزومها، كقول الشاعر: وقالوا أخانا لا تَخَشَّعْ لظالم ... عزيزٍ ولا ذا حق قومِك تَظْلِمِ

أراد: ولا تظلم ذا حق قومك. وأكثر ما يجزم بلا فعل المخاطب أو الغائب، وقد يجزم بها فعل المتكلم، وهو أقل من جزمه باللام، ومنه قول الأعشى: لا أَعْرِفَنْ رَبْرَبا حُورًا مدامعُها ... مُرَدَّفاتٍ على أحْناء أكْوار وقول الآخر: إذا ما خَرَجْنا من دِمَشْقَ فلا نَعُدْ ... بها أبدا ما دام فيها الجُراضِمُ ص: ومنها "لم" و"لمّا" أختها، وتنفرد لم بمصاحبة أدوات الشرط، وجواز انفصال نفيها عن الحال. ولمّا بوجوب اتصال نفيها بالحال، وجواز الاستغناء بها في الاختيار عن المنفي إذ دل عليه دليل. وقد يلي لم معمول مجزومها اضطرارا، وقد لا يجزم بها حملا على لا. ش: من عوامل الجزم "لم" و"لمّا" أختها. أما لم فحرف نفي يختص بالمضارع، ويصرفه إلى معنى المضي. وأما لمّا فعلى ثلاثة أقسام: حرف نفي بمنزلة لم في الاختصاص بالمضارع وصرف معناه إلى المضي، وهي التي تجزم، نحوه: (كلّا لمّا يقضِ ما أمره). وحرف استثناء بمعنى إلا، ويختص بالفعل المؤول بالمصدر في قولهم: عزمت

عليك لمّا فعلت. المعنى: لا أسألك إلا فعلك. وحرف يقتضي فيما مضى وجوبا لوجوب نحو: لما قام زيد قام عمرو، وسيأتي ذكرها. وتنفرد لم عن لمّا بأمرين: أحدهما: جواز مصاحبة أدوات الشرط، نحو: (فإن لم يستجيبوا لكم): (فمن لم يستطع) ولا يجوز مثل ذلك في لمّا، كأنهم كرهوها مع الشرط لطولها، وإمكان الاستغناء عنها بلم. والثاني: جواز انفصال نفيها عن الحال، فتنفي الماضي المنقطع حدثه عن زمن الحال، كما تنفي الماضي المتصل به. مثال الأول قولهم: لم يكن كذا ثم كان. وقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) وقول الراجز. وكنتَ إذ كنت إلهي وحْدَكا ... لم يكُ شيءٌ يا إلهي قبلكا ومثال الثاني قول سيبويه: ولما هو كائن لم ينقطع، وقوله تعالى: (ولم أكن بدعائك ربِّ شقيا) ومنه قول الطرماح: لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ ... ـــــم رجال يزهون بالإغماض أي السماحة بترك الحق.

وتنفرد لمّا بأمرين: أحدهما: وجوب اتصال نفيها بالحال، ومن ثم امتنع أن يقال: لمّا يكن كذا ثم كان. وإنما يقال: لمّا يكن كذا وقد يكون، أو لا يكون. قال: فإن كنتُ مأكُولا فكنْ خيرَ آكل ... وإلا فأدْرِكْني ولمّا أُمَزَّق والثاني: جواز الاستغناء في الاختيار بذكرها عن ذكر المنفي بها، إذا دل عليه دليل، كما تقول: ندم زيد ونفعه الندم، وندم غيره ولما، قال الشاعر: فجئتُ قبورَهم بدْءًا ولمّا ... فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَه أراد: ولما أكن كذلك. ولا يسلك مثل ذلك بلم إلا في الضرورة، كقول الراجز: يا رُبّ شيْخ من لُكَيْز ذي عَنَم ... أجْنَح لم يَشْمَطْ وقد كاد ولم وقد يلي لم معمول مجزومها اضطرارا كقول ذي الرمة: فأضحتْ مَغانيها قِفارا بلادُها ... كأنْ لم سوى أهلٍ من الوَحْشِ تُؤْهَل تقديره: كأن لم تؤهل سوى أهل من الوحش. وقول الآخر: فذاك ولمْ إذا نحن امْتَرَيْنا ... تكنْ في الناس يُدْرِكُكَ المراءُ

والتقدير: ولم تكن يدركك المراء إذا نحن امترينا. وقد تلغى: "لم" حملا على "لا" النافية، فيرفع الفعل بعدها، ذكر ذلك جماعة، وأنشد عليه الأخفش وثعلب: لولا فَوارسُ من نُعْمٍ وأُسْرَتهم ... يوم الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُون بالجار ص: ومنها أدوات الشرط وهي: إنْ، ومَنْ، وما، ومهما، وأي، وأنّى، ومتى وأيّان، وهما ظرفا زمان، وكسر همزة أيان لغة سليم، وتختص في الاستفهام بالمستقبل، بخلاف متى، وربما استفهم بمهما، وجوزي بكيف معنى لا عملا، خلافا للكوفيين. ومن أدوات الشرط إذما، وحيثما وأين، وهما ظرفا مكان. وما سوى "إنْ" أسماء متضمنة معناها، فلذلك بنيت إلا "أيًّا" وفي اسمية "إذما" خلاف. وقد ترد "ما" و"مهما" ظرفي زمان، و"أيّ" بحسب ما تضاف إليه. ش: من عوامل الجزم أدوت الشرط وهي كلمات وضعت لتدل على التعليق بين جملتين، والحكم بسببية أولاهما ومسببية الثانية. وهذا التعليق نوعان: تعليق ماض على ماض، وتعليق مستقبل على مستقبل. فالنوع الأول له حرفان: لو، ولولا. وأكثر ما تصحب بناء الماضي نحو: لو قام زيد قام عمرو. وقد تصحب المضارع ولا تجزمه، لأنها لما قل استعمالها مع المضارع لم تقبل أن تؤثر فيه، وتعمل عمل ما لازم المضارع أو غلب استعماله معه. والنوع الثاني له حروف وأسماء، فالحروف: إنْ، وإذما، وأمّا، ويأتي ذكر أمّا في آخر الباب.

وأما إنْ فللخلو عن الجزم بوقوع الشرط تحقيقا، أو باعتبار مجازى، وتعمل الجزم، كقولك: إن تقم أقم، لأها تصحب المضارع أكثر مما تصحب الماضي، فلما غلب استعمالها مع المضارع، كانت بمنزلة ما لازمه واختص به، فقبلت أن تؤثر فيه وتعمل، فعملت الجزم لأنه أخف. وأما "إذما" فأصلها "إذ" ضم إليها "ما" بعدما سلبت معناها الأصلي، وجعل حرف شرط بمعنى إنْ، فجرى مجراها، وعمل عملها قال الشاعر: وإنكَ إذما تابَ ما أنت آمرٌ ... به تُلْفِ من إياه تأمُرْ آبيا وأنشد سيبويه للعباس بن مرداس: إذْ ما أتيتَ على الرسول فقل له ... حقًّا عليك إذا اطمأنَّ المجلسُ وأنشد الآخر: إذ ما تريْني اليوم مُزْجًى ظَعائني ... أُصَعِّد سَيْرا في البلاد وأُفْرِعُ فإنّيَ من قومٍ سِواكم وإنّما ... رجاليَ فَهْمٌ بالحجازِ وأشْجَعُ وعند المبرد وابن السراج وأبي علي أنّ إذما باق على اسميته، وفي ذلك كلام يأتي ذكره في القول على حيثما. وأما الأسماء فما تضمن معنى إنْ فيجرى مجراها في التعليق والعمل، وهي

خمسة أضرب: اسم محض، واسم يشبه الظرف، وظرف زمان، وظرف مكان، وما يستعمل اسما وظرفا. الضرب الأول: مَنْ وما ومهما. فمن لتعميم أولى العلم، وتكون شرطا فتجزم، كقوله تعالى: (ومَنْ يؤمنْ بالله يهد قلبه). وما لتعميم الأشياء، وتكون أيضا شرطا فتجزم، كقوله تعالى: (وما تفعلوا من خير يعلمه الله). ومهما مثل ما وأعم منها، ولا شك في كونها اسما بدليل عود الضمير إليها، كما يعود إلى ما، قال الشاعر: إذا سُدْتَه سُدْتَ مِطْواعةً ... ومهما وَكَلْت إليه كفاه فالهاء في كفاه عائدة إلى مهما، فهي اسم، ولكنها في معنى إنْ، فلذلك تجزم الفعل، كقوله تعالى: (وقالوا مهما تأتنا به من آية). وعند الخليل أن أصلها "ما" فدخلت عليها "ما" الزائدة كما تدخل على "إنْ" و"متى" و"أين" ثم كرهوا التكرير، وأن يقولوا: ماما، فأبدلوا الهاء من الألف. وقال سيبويه: وقد يجوز أن تكون "مه" كإذ ضم إليها "ما" وإليه ذهب الزجاج.

وندر مجيء مهما اسم استفهام كقول الشاعر، أنشده أبو علي: مهما لِيَ الليلةَ مهما ليه ... أوْدَى بنعليّ وسِرْبالَيه أراد: ما لي الليلة؟ استفهاما على طريق التعجب. وزعم الشيخ رحمه الله أن "ما" و"مهما" في الشرط قد تردان ظرفي زمان فقال: جميع النحويين يجعلون ما ومهما مثل مَنْ في لزوم التجرد عن الظرفية، مع أن استعمالهما ظرفين ثابت في أشعار الفصحاء من العرب". وأنشد قول الشاعر: فما تَكُ يابنَ عبد الله فينا ... فلا ظُلما نخافُ ولا افتقارا وقال عبد الله بن الزّبير: فما تَحْيَ لا نَسْأمُ حياةً وإن تمُتْ ... فلا خيرَ في الدنيا ولا العيش أجمعا وقول حاتم الطائي: وإنك مهما تُعْط نفسك سُؤْلَها ... وفرجَك نالا مُنْتهى الذُّلِّ أجمعا ولا أرى في هذه الأبيات حجة، لأنه كما يصح تقدير ما ومهما فيها بظرف زمان، كذلك يصح تقديرهما بالمصدر على معنى: أي كَوْنٍ قصير أو طويل تكن فينا فلا نخاف، وأي حياة هنيئة أو غير مرضية تحي فينا لا نسأم، وأي عطاء قليل أو كثير تعط نفسك سؤلها وفرجك نالا منتهى الذل. لكن يتعين جعل ما ومهما في الأبيات المذكورة مصدرين، لأن في كونهما ظرفين شذوذا وقولا بما لا يعرفه

جميع النحويين، بخلاف كونهما مصدرين، لأنه لا مانع من أن يكنى بما ومهما عن مصدر فعل الشرط، كما لا مانع من أن يكنى بهما عن المفعول به ونحوه، إذ لا فرق الضرب الثاني: أنى وكيف. فأنى لتعميم الأحوال، وليست ظرفا، لأنه لا زمان ولا مكان، ولكنها تشبه الظرف، لأنها بمعنى: على أي حال، فلما كانت تقدر بالجار والمجرور، والظرف يقدر بهما، كانت بمنزلته. وقد تأتي أنى بمعنى متى، وبمعنى أين، وتكون استفهاما، وشرطا، وإذا كانت شرطا جزمت، قال الشاعر: خليليّ أنّى تأتياني تأتيا ... أخا غيرَ ما يُرضيكما لا يُحاول وقول لبيد: فأصْبَحْتَ أنَّى تأتِها تَلْتَبِس بها ... كِلا مَرْكَبَيْها تحتَ رجلِك شاجِرُ يخاطب رجلا وقع في قصة صعبة المخلص، يقول: على أي حال يأتي الخلاص من هذه القصة يلتبس ويختلط بها، كلا مركبيها تحت رجلك شاجر، أي داخل تحت الرجل، وإذا دخل شيء بين شيئين فقد شجرهما. وأما كيف فاسم لتعميم الأحوال، وتسمى ظرفا، لتأولها بعلى أي حال، والدليل على اسميتها جواز الاكتفاء بها، مع صحة دخولها على الأفعال. وأكثر ما تكون استفهاما، وقد ترد شرطا في المعنى فحسب، فتعلق بين جملتين، ولا تعمل شيئا حملا على الاستفهامية، لأنها أصل، قال الله تعالى: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) وقال تعالى: (بل يداه مبسوطتان ينفق

كيف يشاء) المعنى: على أي حال يشاء الإنفاق ينفق، فكيف هنا اسم شرط، ولكنها لم تجزم الفعل، كما لم تجزم في الاستفهام. وأجاز الكوفيون الجزم بها قياسا، وأباه البصريون، قال سيبويه: وسألت الخليل عن قوله: كيف تصنعْ أصنعْ، قال: هي مستكرهة، وليست من حروف الجزاء، ومخرجها على الجزاء، لأن معناها: على أي حال تكن أكن. الضرب الثالث: إذا ومتى وأيان، بفتح الهمزة، وبنو سليم يكسرونها، فيقولون: إيان. فأما إذا فسيأتي ذكرها. وأما متى وإيان فلتعميم الأزمنة، ولا تفارقان الظرفية، وتردان شرطا فتجزمان، كقول طرفة: ولستُ بحلّال التِّلاع مخافةً ... ولكنْ متى يَسْتَرفِد القومُ أرْفد وقول الآخر: أيّانَ نُؤْمِنْك تأمنْ غيرَنا وإذا ... لم تدرِك الأمنَ منا لم تَزلْ حَذِرا ويردان استفهاما أيضا، فلا يعملان شيئا، ولا يستفهم بأيان إلا عن زمان مستقبل، وأما متى فيستفهم بها عن زمان مستقبل نحو: (ويقولون متى هو) وعن زمان ماض نحو: متى كان الخيام بذي طُلُوح

الضرب الرابع: حيثما وأين، وهما لتعميم الأمكنة، ولا ينفكان عن الظرفية، ويفترقان بأن أين لا تكون إلا شرطا أو استفهاما، وإذا كانت شرطا جزمت، كقول الشاعر: أينَ تصرفْ بنا العُداة تجدْنا ... نصرفُ العيسَ نحوها للتّلاقي وقوله تعالى: (أينما تكونوا يدركْكم الموتُ). وأما حيثما فلا تكون إلا شرطا، وكانت قبل دخول ما اسم مكان خاليا من معنى الشرط، ملازما للتخصيص بالإضافة إلى جملة، ولا يعمل في الأفعال، ثم أخرجوها إلى الجزاء فضمنوها معنى إن، وجعلوها اسم شرط، فلزمهم إتمامها، وحذف ما يُضافُ إليها، وألزموها ما تنبيها على إبطال مذهبها الأول، وجزموا بها الفعل كقول الشاعر: حيثُما تستقمْ يُقَدِّرْ لك اللـ ... ــهُ نجاحا في غابر الأزمان ولا يجوز أن تكون منقولة كإذما إلى الحرفية، لأنها لم تزل عما كانت عليه قبلُ من الدلالة على المكان، بخلاف إذما، فإنها كانت قبل دخول ما عليها اسم زمان ماضٍ خاليا من معنى الشرط، فلما دخلت عليها "ما" صارت أداة شرط بمعنى "إنْ" مختصة بالمستقبل، وزال ما كان فيها من معنى الاسم، ولم نعلم نقلها إلى معنى آخر غير الشرط، فحكمنا بحرفيتها، لأن دلالتها على معنى الحرف مُتَيَقَّنة، ودلالتها على معنى الاسم مشكوك فيها، والحكم بمقتضى ما تُيُقِّن أولى. الضرب الخامس: أيّ، وهي لتعميم أوصاف الشيء، والأوصاف مشتركة،

فلذا يلزم في أي أن تضاف لفظا أو معنى إلى الموصوف، على حد قولهم: سَحْق عمامة، رفعا لالتباس عموم الأوصاف بجنس، بعمومها لغيره، فتكون بحسب ما تضاف إليه. فإن أضيفت إلى الظرف فهي ظرف، وإن أضيفت إلى غير ذلك فهي بمعنى ما أضيفت إليه، لأن الصفة هي الموصوف في المعنى، وتقع في الشرط وغيره. وإذا كانت شرطية جزمت الفعل نحو: أيَّ يوم تقمْ أقمْ، و: (أيًّا ما تَدْعُوا فله الأسماءُ الحسنى) وبأيٍّ تمررْ أمررْ، وغلامَ أيِّهم تضربْ أضربْ، وأيُّهم يأت فله درهم. هذه الأسماء المذكورة هي جميع أسماء الشرط، وكلها مبنية لتضمنها معنى إنْ، إلا أيًّا فإنها أعربت، لأنه قد عارض ما فيها من شبه الحرف لزوم الإضافة إلى الأسماء، فحماها ذلك من البناء. ص: وكلها تقتضي جملتين: أولاهما شرط تصدر بفعل ظاهر أو مضمر مفسر بعد معموله بفعل يشذ كونه مضارعا دون "لم"، ولا يتقدم فيها الاسم مع غير إنْ إلا اضطرارا، وكذلك بعد استفهام بغير الهمزة. وتسمى الجملة الثانية جزاء وجوابا، وتلزم الفاء في غير الضرورة إن لم يصح تقديره شرطا، وإن صدر بمضارع صالح للشرطية جزم في غير الضرورة، وجوبا إن كان الشرط مضارعا، وجوازا إن كان ماضيا، وإن قرن بالفاء رفع مطلقا. ش: كل من الأدوات المذكورة يقتضي جملتين، أولاهما ملزومة للثانية، تسمى الأول شرطا، لأن وجود الملزوم علامة على وجود اللازم، والشرط في اللغة العلامة. وتسمى الثانية جزاء وجوابا، لأنه مدعى فيها بأنها لازمة لما جعل شرطا، كما يلزم في العرف الجواب للسؤال، والجزاء للإساءة أو الإحسان،

فسميت بذلك على الاستعارة والتشبيه. ولا تكون جملة الشرط إلا مصدرة بفعل متصرف مجزوم بالأداة لفظا أو تقديرا، وهو إما ماض مجرد من حرف النفي، ومن حرف "قد" لفظا أو تقديرا، وإما مضارع مجرد أو منفي بلا أو لم، وأكثر ما يكون ظاهرا، ويجوز أن يضمر إذا دل عليه دليل، كما في: إنْ خيرا فخير وإن شرا فشر، تقديره: إن كان عمله خيرا فجزاؤه خير، وإن كان عمله شرا فجزاؤه شر، على ما تقدم ذكره في باب كان. وأكثر ما يضمر إذا فسر بعد معموله بفعل مذكور، والغالب كونه ماضيا، أو مضارعا منفيا بلم، نحو: (وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره) وإن زيد لم يأتني آته. ومجيئه مضارعا بدون لم شاذ، ومنه قول الشاعر: فإن أنت تفعل فللفاعليـ ... ــــن أنت المجيزين تلك الغِمارا وقوله: يُثني عليك وأنت أهل ثنائِه ... ولديك إن هو يستزدْك مزيد ولا يتقدم الاسم الفعل على الإضمار المذكور مع غير إنْ من أدوات الشرط إلا في الضرورة، كقوله: فمَنْ نحنُ نُؤْمِنْه يَبتْ وهو آمنٌ ... ومن لا نُجِرْه يُمْسِ منا مُفَزَّعا

وقوله: صَعْدَةٌ نابتةٌ في حائرِ ... أينما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ وقوله: فمتى واغِلٌ يَنُبْهمُ يُحَيُّو ... هُ ويُعْطَفْ عليه كأسُ السّاقي والاستفهام في هذا الاستعمال كأدوات الشرط، مع كونه غير مختص، فإن كان بالهمزة جاز لكونها أم الباب. وأصل أدوات الاستفهام أن يتقدم الفعل بعدها اسم مرفوع بالابتداء، أو معمول لفعل مضمر يفسره ما بعد الاسم. وإن كان بهل أو غيرها من أسماء الاستفهام امتنع أن يتقدم بعده الاسم على الفعل إلا في الضرورة، كقوله: أمْ هل كبيرٌ بكى وامتنع حينئذ كونه مبتدأ، ووجب حمله على فعل مضمر عامل فيه عمل الفعل الظاهر فيما اشتغل به. وأما الجزاء فيصلح له كل الجمل، فيكون جملة طلبية، وخبرية شرطية (وغير شرطية)، أو جملة اسمية أو فعلية. والأصل كونه جملة يصلح جعلها شرطا، وهي المصدرة بفعل متصرف، ماض مجرد من قد لفظا أو تقديرا، أو من غيرها، أو مضارع مجرد أو منفي بلا أولم. لأن الشرط بإن وأخواتها تعليق حصول ما

ليس بحاصل على حصول غيره، فاستلزم في جمليته امتناع الثبوت، أو إمكان الحصول، فلا تكون إحداهما اسمية أو طلبية إلا بتأويل. وإذا جاء الجزاء على غير ما هو الأصل فيه وجب اقترانه بالفاء ليعلم ارتباطه بالشرط، وتعلق أداته به، لما لم يكن على وفق ما يقتضيه الشرط، وذلك إذا كان جملة طلبية، كقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبُّون الله فاتبعوني) وكقراءة ابن كثير: (ومن يعملْ من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما) أو شرطية نحو: إن تأتني فإن تحدثْني أكرمْك. أو اسمية نحو: إن تقم فزيد قائم، أو فعلية مصدرة بفعل غير متصرف نحو: (إنْ تَرَنِ أنا أقل منك مالا وولدا، فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك) أو ماض مقرون بقد لفظا نحو: (إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل) أو تقديرا، وذلك إذا كان العفعل ماضي المعنى، كقوله تعالى: (إن كان قميصه قُدَّ من قُبُل فصدقت) أو مقرون بحرف نفي نحو: إن قام زيد فما قام عمرو. أو مضارع مقرون بقد أو حرف تنفيس أو نفي بغير لا أو لم نحو: إن تقم فقد أقوم، أو فسوف أقوم، أو فما أقوم، أو فلن أقوم. فالفاء في أمثال كل هذا واجبة الذكر، لا يجوز أن تقام الواو وغيرها مقامها، ولا يجوز حذفها إلا في الضرورة كقوله: مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها ... والشَّرُّ بالشر عند الله مثلان وقوله: ومَنْ لا يزلْ ينقادُ للغيِّ والهوى ... سيُلْفى على طول السلامة نادما

وإذا جاء الجزاء على مقتضى الأصل صالحا للشرطية لم يحتج إلى فاء تربطه بالشرط، فالأولى خلوه منها، ويجوز اقترانه بها. فإن خلا منها وصدر بمضارع جزم، سواء كان الشرط مضارعا نحو: (ومَنْ يتّق الله يجعل له مخرجا) أو ماضيا كقوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتَها نُوَفّ إليهم أعمالهم فيها) وقول الفرزدق: دسَّتْ رسولا بأن القوم إن قَدروا ... عليك يَشْفُوا صدورا ذاتَ توغِير وقد يرفع بكثرة إن كان الشرط ماضيا، أو منفيا بلم، وبقلة إن كان غير ذلك. فالأول كقول زهير: وإنْ أتاه خليلٌ يوم مسألةٍ ... يقول لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ وقول أبي صخر: وليس المُعَنَّى بالذي لا يَهِيجُه ... إلى الشوق إلا الهاتفاتُ السَّواجِعُ ولا بالذي إنْ بان عنه حبيبُه ... يقول – ويخفي الصبر – إني لجازعُ وقول الآخر: فإن كان لا يُرضيك إلا مَرَدّتي ... إلى قَطَرِيٍّ لا إخالُك راضيا وقول الآخر: وإن بَعُدوا لا يأمنون اقترابه ... تَشَوُّفَ أهل الغائب المُتَنَظِّر

والثاني قول جرير بن عبد الله البجلي: يا أقرعُ بنَ حابس يا أقرعُ ... إنك إن يصرعْ أخوك تصرعُ ومثله قول الآخر: مَنْ يأتِها لا يَضيرُها وقراءة طلحة بن سليمان: (أينما تكونوا يدركُكُم الموت) ورفعه عند سيبويه على وجهين: على تقدير تقديمه، وكون الجواب محذوفا. وعلى حذف الفاء، لأنه قال: وقد يقولون: إن أتيتني آتيك، أي آتيك إن أتيتني، وأنشد بيت زهير، ثم قال، فإذا قلت: آتى من أتاني، فأنت بالخيار، إن شئت كانت أتاني صلة، وإن شئت كانت بمنزلتها في إن، ويجوز في الشعر: آتي من يأتني. قال: فقلتث تحَمّلْ فوق طوقك إنها ... مُطَبَّعَةٌ من يأتِها لا يَضيرُها كأنه قال: لا يضيرها من يأتها. ولو أريد به حذف الفاء جاز. ومنع أبو العباس تقدير التقديم، فقال: وأما قوله: وإن أتاه خليل يومَ مسألة يقول على القلب، فهو محال، وذلك لأن الجواب حده أن يكون بعد إنْ

وفعلها الأول، وإنما يعنى بالشيء موضعه إذا كان في غير موضعه، نحو: ضرب غلامَه زيدٌ، لأن حق الغلام أن يكون بعد زيد، وهذا قد وقع في موضعه من الجزاء، فلو أجاز أن يعنى به التقديم لجاز أن نقول: ضرب غلامُه زيدا، تريد: ضرب زيدا غلامُه. وإن قرن المضارع الصالح للشرطية بالفاء، وجب رفعه مطلقا، سواء كان الشرط ماضيا أو مضارعا، كقوله تعالى: (ومن عاد فينتقم الله منه) وقوله تعالى: (فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) وكقراءة حمزة: (إن تضل إحداهما فتذكرُ إحداهما الأخرى). وينبغي أن يكون الفعل بعد هذه الفاء خبر مبتدأ محذوف، ولولا ذلك لحكم بزيادة الفاء، وجزم المضارع، لأنها حينئذ في تقدير السقوط، لكن العرب التزمت رفع المضارع بعدها، فعلم أنها غير زائدة، وأنها داخلة على مبتدأ مقدر، كما تدخل على مبتدأ مظهر. ص: وجزم الجواب بفعل الشرط، لا بالأداة وحدها، ولا بهما، ولا على الجوار، خلافا لزاعمي ذلك. ش: اختلف في الجازم لجواب الشرط إذا حذفت منه الفاء، فعند الكوفيين هو مجزوم على الجوار، كخفض "خَرِب" من قولهم: هذا حجرُ ضبٍّ خربٍ، وتبطله أمور كثيرة: أحدها: أن الخفض على الجوار لا يكون واجبا، وجزم الجواب واجب. الثاني: أن الخفض على الجوار لا يكون إلا بعد مخفوض خفضا ظاهرا لتحصل المشاكلة، وجزم الجواب يكون بعد جزم ظاهر وغير ظاهر.

الثالث: أن الخفض على الجوار لا يكون إلا مع الاتصال، وجزم الجواب يكون مع الاتصال والانفصال. فعلم أنه ليس مجزوما على الجوار. فجزمه إما بفعل الشرط، أو بأداته، وإما بهما. لا جائز أن يكون جزمه بالأداة وحدها، لأن الجزم في الفعل نظير الجر في الاسم، وليس في عوامل الجر ما يعمل في شيئين دون إتباع، فوجب أن تكون عوامل الجزم كذلك، تسوية بين النظيرين، ولئلا يلزم ترجيح الأضعف على الأقوى. وأيضا فإن العوامل اللفظية على ضربين: الأول ما يعمل عملا متعددا، والثاني ما يعمل عملا غير متعدد. والعامل عملا متعددا لا بد في عمله من اختلاف إن تغاير معنى معموليه، ليمتاز أحدهما من الآخر، والشرط والجواب متغايران، فلو كان عاملهما واحدا لوجب اختلاف عمليهما وجوب ذلك في الفاعل والمفعول. فالحكم على أداة الشرط بأنها جازمة للجواب مع أنها جزمت الشرط، حكم بما لا نظير له، فوجب منعه. ولا جائز أيضا أن يكون جزم الجواب بالأداة والشرط معا، لأن كل عامل مركب من شيئين لا يجوز انفصال جزأيه، ولا حذف أحدهما، كإذما وحيثما، بخلاف أداة الشرط وفعله، فإن انفصالهما جائز نحو: إن زيدا تكرمْ يكرمْك، وقد يحذف فعل الشرط دون الأداة كقوله: فطلِّقْها فلستَ لها بكُفْءٍ ... وإلا يَعْلُ مَفْرِقَك الحُسامُ فلو كان العمل بهما معا، وجب لهما ما وجب لإذما وحيثما من عدم الإفراد والانفصال. وإذا بطل جزم الجواب بما سوى فعل الشرط، تعين كونه مجزوما بفعله، لاقتضائه إياه، بما أحدثت فيه الأداة من المعنى والاستلزام، وعلى هذا يؤول قول سيبويه: "واعلم أن حروف الجزاء تجزم الأفعال، ويجزم الجواب بما قبله"

لأن ترك تأويله يقتضي أن يكون للفاعل والمفعول حظ في جزم الجواب، وذلك لا يصح اتفاقا، وقد دل الدليل على أن جزم الجواب ليس بالأداة والشرط معا، ولا بالأداة وحدها، فلم يبق ما يحمل عليه قول سيبويه إلا فعل الشرط وحده. وبهذا الجواب يسلم من ترجيح الاسم على الفعل في العمل، مع أصالته فيه، وفرعية الاسم، وذلك أن الاسم قد عمل في جنسه نحو: هذا ضاربٌ زيدا، وفي غير جنسه نحو: من يكرمْني أكرمْه، فلو لم يكن جزم الجواب بفعل الشرط، لزم كون الفعل مقصور العمل على غير جنسه، وذلك انحطاط أصل عن رتبة فرع، فإذا كان جزم الجواب بفعل الشرط، أمن ذلك، فوجب القول به. فصل: ص: قد يجزم "بإذا" الاستقبالية حملا على "متى" وتهمل "متى" حملا على "إذا" وقد تهمل "إن" حملا على "لو" والأصح امتناع حمل "لو" على "إن" وقد يجزم مسبب عن صلة الذي تشبيها بجواب الشرط. ش: "إذا" في الكلام على ضربين: ظرف مستقبل، وحرف مفاجأة. فالتي هي حرف مفاجأة مختصة بالجمل الاسمية، ولا عمل لها. والاستقبالية مختصة بالجمل الفعلية، وتأتي على وجهين: أحدهما: أن تكون خالية من معنى الشرط، نحو: (والليل إذا يغْشى * والنهار إذا تجلَّى). والثاني: أن تكون متضمنة معنى الشرط، وهو الغالب فيها، نحو: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم) وهي كالخالية من معنى الشرط في عدم استحقاق عمل الجزم، لأن إذا الشرطية مختصة بالتعليق على الشرط المقطوع بوقوعه حقيقة أو حكما، كقولك: آتيك إذا احمرّ البُسْر، وإذا قدم الحاج. ولو قلت: آتيك إن احمر البسر، كان قبيحا، فلما خالفت "إذا" "إنْ" وأخواتها فلم تكن للتعليق على الشرط المشكوك في وقوعه، فارقتها في حكمها، فلم يجزم بها في السعة، بل تضاف إلى الجملة، وإذا وليها المضارع كان مرفوعا، كقوله تعالى: (وهو على جمعهم إذا يشاءُ قدير).

وأما في الشعر فشاع الجزم بها حملا على متى، قال سيبويه: وقد جازوا بها في الشعر مضطرين، شبهوها بإن حيث رأوها لما يستقبل، وأنها لا بد لها من جواب، قال قيس بن خطيم: إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها ... خُطانا إلى أعدائنا فنُضاربِ فالقافية مكسورة، وقال الفرزدق: ترفعُ لي خندفٌ والله يرفعُ لي ... نارا إذا خَمَدتْ نيرانُهم تَقِدِ وأنشد الفراء: استغنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى ... وإذا تُصِبْك خَصاصةٌ فتَجَمَّلِ وقال الشاعر: وإذا نطاوع أمرَ سادتنا ... لا يَثْنِنا بُخلٌ ولا جُبْنُ قال الشيخ رحمه الله: وليس قائل هذا مضطرا، لأنه لو رفع "نطاوع" لم يكسر الوزن ولم يزاحفه. وقد تهمل "متى" فيرفع الفعل بعدها حملا على إذا، وهو غريب، ومنه: "إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقومُ مقامك رقّ". وقد تهمل "إن" حملا على "لو" كقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك

تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك". وأجاز الجزم بلو في الشعر قوم منهم الشجري، واحتج بقول الشاعر: لو يَشَا طار به ذو مَيْعَةٍ ... لاحقُ الآطال نَهْدٌ ذو خُصَل قال الشيخ رحمه الله: وهذا لا حجة فيه، لأن من العرب من يقول: جايجي، وشايشا، بترك الهمزة، فيمكن أن يكون قائل هذا البيت من لغته ترك همزة يشاء، فقال: يشا، ثم أبدل الألف همزة، كما قيل في: عالم وخاتم: عألم وخأتم. وكما فعل ابن ذكوان في: (تأكل مِنْسَأته) حين قرأ: "مِنْسَاته والأصل: مِنْسَأَته" مِفْعَلَى من نَسَأه، إذا زجره بالعصا، فأبدل الهمزة ألفا، ثم أبدل الألف همزة ساكنة، فعلى ذلك يحمل قوله: لو يشأ. وأما قول الشاعر: تامَتْ فؤادَك لو يَحْزُنْك ما صنعت ... إحدى نساء بني ذُهْل بنِ شَيْبانا فهو من تسكين ضمة الإعراب تخفيفا، كما قرأ أبو عمرو: (يشعرْكم) و: (ينصرْكم) وكما قرأ بعض السلف: (رُسُلْنا لديهم يكتبون) بسكون اللام. وأشار بقوله: وقد يجزم مسبب عن صلة الذي تشبيها بجواب الشرط إلى ما أنشد ابن الأعرابي من قول الشاعر: ولا تَحفِرنْ بئرا تُريد أخابها ... فإنك فيها أنت من دونه تقع كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ... تُصبْه على رغم عواقبُ ما صنع

ص: ويجوز نحو: إنْ تفعلْ زيدٌ يفعلْ، وفاقا لسيبويه، ونحو: إن تنطلقْ خيرا تصبْ، خلافا للفراء. وقد تنوب بعد "إن" "إذا" المفاجأة عن الفاء في الجملة الاسمية غير الطلبية. ش: يجوز في الشرط بإنْ تقديم معموله عليه، وحده باتفاق، وأجاز سيبويه والكسائي نحو: إنْ طعامَنا تأكلْ نكرمْك. وفي الجزاء المجزوم بإنْ تقديم معموله عليه نحو: إنْ تكرمْنا طعامَك نأكلْ، وإنْ تنطلقْ خيرا تصبْ، كما جاز مثله في الشرط، وأنشد الكسائي: وللخَيْل أيامٌ فمن يصْطَبِرْ لها ... ويعرفْ لها أيامَها الخيرَ تُعقِبِ ومنع ذلك الفراء، وأوجب في الجزاء إذا تقدم معموله الرفع على القلب أو على تقدير الفاء نحو: إنْ تنطلق خيرا تصب، وجعل الخير في البيت صفة للأيام. وإن صدر الجزاء باسم يليه فعل مسند إلى ضميره، فالوجه ذكر الفاء ورفع الفعل، نحو: إن تفعل فزيد يفعلُ. وأجاز سيبويه ترك الفاء والجزم، نحو: إن تفعلْ زيدٌ يقلْ ذاك، ووجهه أن يكون الاسم مرفوعا بفعل يفسره الفعل الظاهر، لصحة عمله في محل الاسم السابق لو خلا عن الشاغل، ومنع ذلك الفراء والكسائي. أما الفراء فمنعه له يتجه على أصله، فإنه لما منع عمل الجواب المجزوم فيما قبله، وجب عليه أن يمنع تفسيره عاملا فيما قبله. وأما الكسائي فإنه يجيز عمل الجواب المجزوم فيما قبله، فقد كان ينبغي له أن

يجيز تفسيره عاملا فيما قبله. اللهم إلا أن يكون مذهب الكسائي امتناع إضمار الفعل على شريطة التفسير، إلا عند وجود الموجب لإضماره، أو المرجح أو المسوى، فحينئذ يكون نحو: لو تنطلق زيد يفعل، ممتنعا عند الكسائي، لوجوب كون زيد مبتدأ، وكون الفعل خبره، وامتناع جزم الخبر. ويقوم مقام الفاء بعد إن الشرطية خاصة إذا المفاجأة (في ربط الجزاء بالشرط، وإنما يكون ذلك إذا كان الجزاء جملة اسمية غير طلبية نحو: إن تقم إذا زيد قائم، لأن إذا المفاجأة) لا تدخل على الجملة الفعلية ولا الطلبية. وإنما قامت مقام الفاء لأنها مثلها في عدم الابتداء بها، وفي إفادة معنى التعقيب، قال سيبويه: وسألت الخليل عن قوله تعالى: (وإن تصبْهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) قال: هذا معلق بالكلام الأول، كما كانت الفاء معلقة بالكلام الأول، وهذا ههنا في موضع قنطوا كما كان الجواب بالفاء في موضع الفعل. ومما يجعلها بمنزلة الفاء أنها لا تجيء مبتدأة كما لا تجيء الفاء. ثم قال: وزعم اخليل أن إدخال الفاء على إذا قبيح، ولو كان إدخال الفاء على إذا حسنا لكان الكلام بغير الفاء قبيحا، فهذا قد استغنى عن الفاء، كما استغنت الفاء عن غيرها، فصارت إذا هنا جوابا، كما صارت الفاء جوابا. فصل: ص: لأداة الشرط صدر الكلام، فإن تقدم عليها شبيه بالجواب معنى، فهو دليل عليه وليس إياه، خلافا للكوفيين والمبرد وأبي زيد، ولا يكون الشرط حينئذ غير ماض إلا في الشعر، وإن كان غير ماض مع "مَنْ" أو "ما" أو "أي" وجب لها في السعة حكم "الذي" وكذا إن أضيف إليهن "حين" ويجب ذلك مطلقا لهن إثر "هل" أو "ما" النافية، أو "إنّ" أو

"كان" أو إحدى أخواتها، أو "لكن" أو "إذا" المفاجأة غير مضمر بعدها مبتدأ. ش: لإن الشرطية صدر الكلام، فلا يتقدم عليها ما بعدها، ولا يعمل فيها ما قبلها، ولا تكون مع الشرط والجزاء إلا كلاما مستأنفا، أو مبنيا على ذي خبر أو نحوه، كقولك: زيد إن يقم يقم أخوه، وكذا جميع أسماء الشرط، فلذلك لو تقدم على أداة الشرط مفعول في المعنى لفعل الشرط أو الجزاء وجب رفعه بالابتداء، وشغل الفعل بضمير مذكور أو مقدر، خلافا للكسائي في جواز نحو: طعامَك إن آكل يعجبْك، وله وللفراء في جواز: طعامَك إن تذهبْ نأكلْ. ولو تقدم على الأداة جملة هي الجواب في المعنى، فليست هي نفس الجواب، بل دليلا عليه، وهي كلام منقطع عما بعده، وقد يكون حكمه مطلقا، وقد يكون مقيدا بشرط مقدر، وإلا لزم هذا المعلق عليه تقديمه. وذهب الكوفيون وأبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري إلى أن المتقدم على الشرط نفس الجواب، ويرده أن حرف الشرط دال على معنى في الشرط والجزاء، وهو الملازمة بينهما، فوجب تقديمه عليهما، كما وجب تقديم سائر حروف المعاني على ما فيه معناه. واحتج أبو زيد على أن المتقدم هو نفس الجواب بمجيئه مقرونا بالفاء كقوله: فلم أرْقِه إنْ ينجُ منها وإن يمتْ ... فطعنةُ لانِكس ولا بمُغَمّرِ وليس بشيء، لأن تقدير معطوف عليه خبر من تقديم الجزاء على الشرط، وتصدير حرف العطف.

ولا يجوز أن يتقدم دليل الجواب على الشرط في السعة إلا إذا كان ماضيا، نحو: آتيك إن أتيتني، ولا يجوز: آتيك إن تأتني إلا في الشعر، كما في قوله: فلم أرقه إن ينج منها قال سيبويه: "وقبُح في الكلام أن تعمل إنْ أو شيء من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمها في اللفظ، ثم لا يكون لها جواب ينجزم بما قبله، فهكذا جرى هذا في كلامهم". وإذا تقدم دليل الجواب وكان الشرط غير ماض مع "من" أو "ما" أو "أي" وجب لها في السعة حكم الذي، وإن كان المعنى على المجازاة فلا يجزم، ويكون ما بعدها صلة، وما قبلها عاملا فيها، وذلك قولك: آتي من يأتيني، وأقول ما تقولُ، وأعطيك أيَّها تشاءُ، فترفع، لأنه لما امتنع في السعة تأخير أداة الجزاء إذا جزمت ما بعدها، حملوا هذه الأسماء على الذي، لأنه لا قبح فيه، ولم يحملوها على الجزاء إلا في الشعر، وقد تقدم عند ذكر فاء الجواب حكاية كلام سيبويه في هذه المسألة، فلا حاجة إلى إعادته. ويجب حكم الذي أيضا لمَنْ أو ما أو أي إذا وقعت صفة لا تقع إنْ موضعها، وذلك في صور: إحداها: أن يضاف إليها حين، كقولك: أتذكر إذ من يأتينا نأتيه، وإنما كرهوا الجزاء ههنا لأنه ليس من مواضعه، لأن أسماء الأحيان لا تضاف إلى الجمل الشرطية، ألا ترى أنه لا يقال: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، فلما كان قبيحا في إنْ قبح في سائر أخواتها، ولم يرد إلا في الشعر، كقول لبيد: على حين مَنْ تَثْبُتْ عليه ذُنوبُه ... يَجِد فقدها إذْ في المقام تَدابُر

والوجه حمله على ضمير الشأن، والمعنى: على حين الشأن من تثبت عليه ذنوبه يجد فقدها، كما تقول: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، (لأن الجملة الشرطية يصح أن تكون خبرا، ولا يصح أن تكون مضافا إليها. الثانية: أن تقع بعد هل، كقولك: هل من يأتينا نأتيه)، فليس لك في نحو هذا إلا الرفع، لأن من موصولة، ولا يجوز جعلها شرطية، لأن هل لا يستفهم بها عن الشرطية، فلا يقال: هل إن أقم تقم، ولو كان الاستفهام بالهمزة جاز الجزم وكون من شرطية، لأنه توسع في الهمزة، فاستفهم بها عن الجمل الشرطية، كما يستفهم بها عن غير ذلك، كقولك: أئن تأتني آتك، فلما حسن دخولها على إن حسن دخولها على أخواتها، فيقال: أمن يأتنا نأته، ولم يجز مثله في هل. الثالثة: أن تقع بعد ما النافية كقولك: ما من يأتينا نأتيه، وما أيها تشاء أعطيك، فترفع ما بعد الاسم لأنه موصول، ولا يجوز الجزم وجعل الاسم شرطيا، لأن ما لا تنفي الجملة الشرطية، فلا يقال: ما إن تأتنا نأتك، فلما لم يجز ذلك في إن، لم يجز في سواها، ولو كان النفي بلا لم يجب لما ذكر حكم الذي، فيجوز جعله شرطيا فيجزم ما بعده كقولك: لا من يأتك تعطه، ولا من تعطه يأتك، لأنهم لما توسعوا في "لا" فقدموا العامل عليها، نفوا بها المفرد والجملة، ونفوا بها الجملة الشرطية أيضا، كقولك: لا إن أتيناك أعطيتنا، ولا إن بعدنا عنك عرضت علينا، قال ابن مقبل: وقِدْرٍ ككفِّ القِرْد لا مُسْتعيرُها ... يُعارُ ولا مَنْ يأتِها يتدسم الرابعة: أن تقع بعد إنّ أو إحدى أخواتها، كقولك: إنّ من يأتيني آتيه، وليت ما أقولُ تقولُ، فترفع، لأنك لما أعملت إنّ وليت في "من" وجب أن تكون موصولة، لأن الشرطية لا يعمل فيها لفظ قبلها، إلا أن يكون حرف جر،

نحو: بمن تمررْ أمررْ، وعلى أيِّها تركبْ أركبْ، لأنه مُعَدٍّ لفعل الشرط إلى الاسم، فصار مع الفعل بمنزلة فعل وصل إلى الاسم بغير حرف جر. فلما لم يعمل في الأسماء الشرطية لفظ قبلها غير حرف الجر، وجب فيما وقع منها بعد إنّ أو إحدى أخواتها أن تكون موصولة، لأن هذه الحروف لا تدخل على إنْ الشرطية، لأنها مختصة بالأسماء، ولا تدخل على ما تضمن معنى إنْ إلا في الشعر، ولا يكون ذلك إلا على حذف الاسم، قال الأعشى: إنّ من لامَ في بني بنْتِ حسّا ... ن ألُمْهُ وأعْصِهِ في الخُطوب وقال أمية بن أبي الصلت: ولكنّ مَنْ لا يلْقَ أمرا ينوبُه ... بعُدَّته ينزلْ به وهو أعزلُ قال سيبويه: فزعم الخليل أنه إنما جاز حيث أضمر الهاء، وأراد: إنّه ولكنّه. الخامسة: أن تقع بعد كان أو إحدى أخواتها، كقولك: كان من يأتيني آتيه، (وليس من يأتيني آتيه)، فترفع بعد كان وليس، كما ترفع بعد إن وأخواتها، ويجوز الجزم على أن تضمر في كان ضمير الشأن فتقول: كان من يأتني آته، وليس من يأتنا نحدثْه، لأنك جعلت الجملة خبرا، فجاز على حد قولك: كنت من يأتنا نأته، ولست من يأتني أحدثه. السادسة: أن تقع بعد لكنْ المخففة غير مضمر بعدها مبتدأ، كقولك: ما أنا ببخيل، ولكن من يأتيني أعطيه، فترفع، لأنك لمّا لم تضمر قبل من مبتدأ وجب أن تكون موصولة، لأن لكن لا تدخل على الجملة الشرطية، ولك أن

تجزم على جعل من شرطية، وإضمار مبتدأ قبلها، كما أضمر بعد لكن في غير ذلك، نحو: ما زيد عاقلا ولكن أحمق، فتقول: ما أنا ببخيل ولكن ما يأتني أعطه، كما قال: ولكنْ متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أرْفِد تقديره: ولكن أنا متى، ولا يجوز في "متى" ولا غيرها من الظروف أن توصل بالفعل كما توصل من وما وأي، ولا تقع في شيء من الصور المذكورة إلا على تقدير مبتدأ قبلها. السابعة: أن تقع بعد إذا المفاجأة غير مضمر بعدها مبتدأ، كقولك: مررت به فإذا من يأتيه أعطيه، بالرفع، لأنك لم تضمر قبل من مبتدأ، فتعين أن تكون موصولة، لأن إذا المفاجأة لا تدخل على الشرط والجزاء، ولك أن تضمر قبل من مبتدأ وتجزم، قال سيبويه: وإن شئت جزمت، لأن الإضمار يحسن ههنا، ألا ترى أنك تقول، مررت به فإذا أجملُ الناس، ومررت به فإذا أيُّما رجل، فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت: مررت به فإذا هو من يأته يعطه، فإن لم تضمر وجعلت إذا تلى من، فهي بمنزلة إذ لا يجوز فيها الجزم. وإذا كان الشرط والجزاء فعلين جاز أن يكونا مضارعين، وأن يكونا ماضيين، وأن يكون الشرط ماضيا والجواب مضارعا، وأن يكون الشرط مضارعا والجواب ماضيا. والأكثر أن يكونا مضارعين، لأنه الأصل ومنه: (وإن تُبْدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبْكم به الله). ويليه في الكثرة أن يكونا ماضيين وضعا أوبمصاحبة لم، أحدهما أو كلاهما، لأنه وإن كان أبعد عن الأصل من كون أحدهما مضارعا، فهو أدخل في المشاكلة، وذلك نحو: (وإن عُدْتم عُدنا) ونحو: إن قمت لم أقم، وإن لم تقم قمت،

وإن لم تقم لم أقعد. وأما كون الشرط ماضيا والجواب مضارعا فقليل بالنسبة، ومن أمثلته قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتَها نُوَفِّ إليهم أعمالهم فيها). وأقل منه كون الشرط مضارعا والجواب ماضيا، لأن الشرط الماضي لا يلتبس بغيره، لأنه مقرون بأداة الشرط، والجواب الماضي قد يلتبس بغيره لعدم ظهور الجزم فيه، ومما جاء منه قول الشاعر: من يَكِدْني بسيِّءٍ كنتُ منه ... كالشَّجا بين حلقِه والوريد وقوله: إن تَصْرِمونا صَرَمْناكم وإن تَصلوا ... ملأتُمُ أنفسَ الأعداء إرهابا وقوله: إن يَسْمِعوا سَيِّئا طاروا به فرحا ... مِنِّي وما سمعوا من صالح دفنوا وأكثر النحويين يخصون هذا الاستعمال بالضرورة، قال شيخنا رحمه الله: ولا أرى ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له من ذنبه ما تقدم" ولأن قائل البيت متمكن من أن يقول بدل كنت: أك منه. وقائل الثاني متمكن من أن يقول بدل وصلناكم: نواصلكم. وبدل وإن تصلوا ملأتم: وإن تصلوا تملئوا. وقائل البيت الثالث متمكن من أن يقول بدل إن

يسمعوا: إن سمعوا. فلما لم يقولوا ذلك مع إمكانه، وسهولة تعاطيه، علم أنهم غير مضطرين. وقد صرح بجواز ذلك الفراء رحمه الله تعالى، وجعل منه قوله تعالى: (إن نشأ نُنَزِّلْ عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) لأن ظلت بلفظ الماضي، وقد عطفت على ننزل، وحق المعطوف أن يصلح لحلوله محل المعطوف عليه. ص: ولا يكون الشرط غير مستقبل المعنى بلفظ كان أو غيرها إلا مُؤولا، وقد يكون الجواب ماضي اللفظ والمعنى مقرونا بالفاء مع قد ظاهرة أو مقدرة. ولا ترد إن بمعنى إذ، خلافا للكوفيين. ش: إن الشرطية وأخواتها مختصة بالمستقبل، فلا يكون شرطها ولا جزاؤه بمعنى الماضي، ولا بمعنى الحال، وما أوهم ذلك أوِّل، فإذا جاء في موضع الشرط أو الجزاء ما هو حال أو ماض بلفظ كان أو غيرها حمل على أنه متعلق بفعل مستقبل هو الشرط أو الجزاء في الحقيقة، ولكنه حذف اختصارا أو استغناء عنه بانصراف الكلام إلى معناه، وذلك قولك: إن أحسنت إليّ أمس فقد أحسنت إليك اليوم، والمعنى: إن تبين إحسانك أمس تبين إحساني اليوم. وذهب أبو العباس المبرد إلى أنه يجوز بلا تأويل كون الشرط ماضي المعنى بلفظ كان دون غيرها، فإنه قال: وما يسأل عنه في هذا الباب قولك: إن كنت زرتني أمس أكرمتك اليوم. فقد صار ما بعد إن يقع في معنى الماضي. قيل للسائل: ليس ذا من قبيل إن، ولكن لقوة كان، وأنها أصل الأفعال وعبارتها، جاز أن تغلبْ إنْ فتقول: إن كنت أعطيتني فسوف أكافئك، فلا يكون ذلك إلا ماضيا، وكقوله تعالى: (إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه) والدليل على أنه كما

لو

قلت وأنه لقوة كان، أنه ليس من الأفعال ما يقع بعد إن غير كان إلا ومعناه الاستقبال، لا تقول: إن جئتني أمس أكرمتك اليوم، ولم يُصَوّب ما ذهب إليه المبرد في هذه المسألة، وقد رده عليه ابن السراج فقال: "والذي قاله أبو العباس لست أقوله، ولا يجوز أن تكون إن تخلو من الفعل المستقبل لأن هذا نقض لأصول الكلام، وما وضعت له" قال: والتأويل عندي في قولهم: إن كنت زرتني أمس أكرمتك اليوم، أي إن تكن كنت ممن زارني أمس أكرمتك اليوم، فدلت كنت على تكن، وكذلك قوله تعالى: (إن كنت قلته فقد علمته) أي: إن أكن كنت، أو إن أقل كنت قلته، أو أقر بهذا الكلام. وقد حكى عن المازني ما يقارب هذا". وقوله: "وقد يكون الجواب ماضي اللفظ والمعنى، مقرونا بالفاء مع قد ظاهرة أو مقدرة" أشار به إلى نحو قوله تعالى: (إن يسرقْ فقد سرق أخ له من قبل) وقوله تعالى: (إن كان قميصه قدّ من قُبُل فصدقت) تقديره: فقد صدقت، وهو عندي محمول على التأويل المذكور، ولا يستقيم أن يكون على غيره، لتقدم الشرط على الجزاء، واستحالة تقدم المستقبل على الماضي في الخارج أو في الذهن. ولا ترد إنْ بمعنى إذ. فصل: ص: لو حرف شرط يقتضي امتناع ما يليه، واستلزامه لتاليه، واستعمالها في المضي غالبا، فلذا لم يجزم بها إلا اضطرارا، وزعم اطراد ذلك على لغة.

ش: من حروف المعاني لو، وهي في الكلام على ضربين: موصولة وشرطية. فالموصولة هي التي تأتي مع الفعل في تأويل مصدر كما في قوله تعالى: (يودُّ أحدهم لو يُعَمّر) وقد تقدم ذكرها. وأما الشرطية فهي لتعليق ما امتنع لامتناع شرطه، فتقتضي جملتين ماضيتين، الأولى منهما مستلزمة للثانية لأنها شرط، والثانية جوابه. وتقتضي أيضا امتناع الشرط، لأنه لو ثبت لثبت جوابه، وكان الإخبار بذلك إعلاما بإيجاب لإيجاب، لا بتعليق ما امتنع لامتناع شرطه، فيخرج لو عن معناها. ولا تقتضي امتناع الجواب في نفس الأمر، ولا ثبوته لأنه لازم والشرط ملزوم، ولا يلزم من انتفاء الملزوم انتفاء اللازم، بل إن كان مساويا للشرط امتنع بامتناعه، كما في نحو: لو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. وإن كان أعم من الشرط لم يلزم أن يكون ممتنعا في نفس الأمر لامتناع شرطه، لجواز كونه لازما لأمر ثابت، فيكون أيضا هو ثابتا لثبوت ملزومه، كما في قولك: لو ترك العبد سؤال ربه لأعطاه، فإن تركه السؤال محكوم بكونه مستلزما للعطاء، وبكونه ممتنعا، والعطاء محكوم بثبوته على كل حال، والمعنى أن إعطاءه حاصل مع ترك السؤال، فكيف مع السؤال، كما في قول عمر رضي الله عنه: نعم العبد صُهَيب، لو لم يخف الله لم يعصه". فإن عدم الخوف محكوم بكونه مستلزما لعدم المعصية، وبكونه ممتنعا، وعدم المعصية محكوم بثبوته، لأنه إذا كان ثابتا على تقدير عدم ثبوت الخوف، فالحكم بثبوته على تقدير ثبوت الخوف أولى. وكما في قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمُدُّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) لأن عدم النفاد ثابت على تقدير كون ما في

الأرض من شجرة أقلاما مدادها البحر وسبعة أمثاله، وعلى تقدير عدم ذلك. وقد ظهر من هذا أن "لو" حرف شرط في الماضي، وأنها تقتضي نفي تاليها، واستلزم ثبوته ثبوت تاليه، لأنهما شرط وجواب. ولا تقتضي نفي الجواب في نفس الأمر ولا ثبوته. وقال أكثر النحويين: لو حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره. أي على امتناع الثاني لامتناع الأول. وكان شيخنا رحمه الله يرى أنه تفسير للو بأخص من معناها، لأنه يقتضي كون جوابها ممتنعا غير ثابت على وجه، وذلك فيها غير ثابت، بدليل مجيء جوابها ثابتا في نحو ما تقدم من الأمثلة. ولا شك أن ما قاله الشيخ في تفسير لو أحسن وأدل على معنى لو مما قال النحويون، غير أن ما قالوه عندي تفسير صحيح واف بشرح معنى لو، وهو الذي قصد سيبويه رحمه الله من قوله: لما كان سيقع لوقوع غيره، يعني أنها تقتضي فعلا امتنع لامتناع ما كان يثبت لثبوته، وهو نحو ما قال غيره. ولنرجع إلى بيان صحته فنقول: قولهم: لو تدل على امتناع الثاني لامتناع الأول، يستقيم على وجهين: الأول: أن يكون المراد أن جواب لو ممتنع لامتناع الشرط، غير ثابت لثبوت غيره، بناء على مفهوم الشرط في عرف اللغة، لا في حكم العقل، فإنك إذا قلت: إن قام زيد قام عمرو، فهو دال في عرفهم على أنه إذا لم يقم زيد لم يقم عمرو، لأن الأصل فيما علق على شيء ألا يكون معلقا على غيره، فجرى العرف على هذا الأصل، ولذلك فهموا عدم جواز القصر في السفر عند عدم الخوف في قوله تعالى: (فليس عليكم جناحٌ أن تقصُروا من الصلاة إن خفتم) وعلى هذا إذا قلت: لو جئتني لأكرمتك، فقد دلت "لو" على أن المجيء مستلزم للإكرام، وعلى أنه ممتنع، فيفهم منه أن الإكرام ممتنع أيضا، غير ثابت بوجه، كما يفهم من نفي شرط إن نفي جوابه. والوجه الثاني: أن يكون المراد أن جواب لو ممتنع لامتناع شرطه، وقد يكون

ثابتا لثبوت غيره، لأنها إذا كانت تقتضي نفي تاليها، واستلزامه لتاليه، فقد دلت على امتناع الثاني لامتناع الأول، لأنه (متى انتفى شيء انتفى مساويه في اللزوم، مع احتمال أن يكون ثابتا لثبوت أمر آخر، فيصح إذن أن يقال: لو حرف يدل على امتناع الثاني لامتناع الأول، لأنه) لا يقتضي كونها تدل على امتناع الجواب على كل تقدير، بل على امتناعه بامتناع الشرط المذكور، مع احتمال كونه ثابتا لثبوت أمر آخر، وغير ثابت، لأن امتناع شيء لامتناع علة، لا ينافي ثبوته لثبوت علة أخرى، ولا انتفاءه لانتفاء جميع علله. وعند أكثر المحققين أن "لو" لا تستعمل في غير المضي غالبا، وليس بلازم، لأنها قد تأتي للشرط في المستقبل بمنزلة إنْ، واحتجوا بنحو قول الشاعر: ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ... ومن دون رَمْسَيْنا من الأرض سبسبُ لظل صدى صوتي ولو كنت رِمّة ... لصوت صدى ليلى يَهَشُّ ويطرب وقال الآخر: ولو أن ليلى الأخيليةَ سلمت ... عليّ ودوني جَنْدَل وصفائحُ لسلمتُ تسليمَ البشاشة أوزَقا ... إليها صدًى من جانب القبر صائحُ وقوله تعالى: (وليَخْشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذريَّة ضعافا خافوا عليهم) وليس بحجة، لأن غاية ما فيه أن ما جعل شرطا للو مستقبل في نفسه، أو مقيد بمستقبل، وذلك لا ينافي امتناعه فيما مضى لامتناع غيره، ولا يحوج إلى إخراج لو عما عهد من معناها إلى غيره. ولما كانت لو للشرط في الماضي كان دخولها في المضارع على خلاف الأصل، فلم تجزمه في سعة الكلام، كما تجزمه إنْ، وإن كانت مثلها في الاختصاص بالفعل.

وحكى الشجري أن بعضهم يرى الجزم بها لغة، والمعروف أنه لا يجزم بها إلا في الضرورة، كقوله: تامَتْ فؤادَك لو يَحزُنْك ما صنعت ... إحدى نساءِ بني ذُهل بن شيبانا وقول الآخر: لو يشا طار به ذو مَيْعةٍ ... لاحقُ الآطالِ نَهدٌ ذو خُصَل وذهب الشيخ رحمه الله في شرح الكافية إلى منع الجزم بلو في السعة والضرورة، وقال عن تسكين النون من: يحزنْك: فهذا من تسكين ضمة الإعراب تخفيفا، كما قرأ أبو عمرو: (ينصرْكم) و: (يأمرْكم) و: (يشعرْكم) وكما قرأ بعض السلف: (ورُسُلْنا لديهم يكتبون) بتسكين اللام. وعن تسكين الهمزة من: "لو يشا" وهذا لا حُجة فيه، لأن من العرب من يقول: جايجي، وشايشا، بترك الهمزة، فيمكن أن يكون قائل هذا البيت من لغته ترك همزة يشاء، فقال: يشاء، ثم أبدل الألف همزة، كما قيل في: عالم وخاتم: عألم وخأتم، وكما فعل ابن ذكوان في: (تأكل منسأته) حين قرأ: منساته، بهمزة ساكنة، والأصل: مِنسأته، مفْعلة، مَن نسأه زجره بالعصا، ولذلك سميت منسأة، فأبدل الهمزة ألفا، ثم أبدل الألف همزة ساكنة، فعلى ذلك يحمل قوله: لو يشأ. ص: وإن وليها اسم فهو معمولُ فعل مضمر مُفَسَّر بظاهر بعد الاسم، وربما وليها اسمان مرفوعان، وإن وليها "أنّ" لم يلزم كون خبرها فعلا، خلافا لزاعم ذلك.

ش: لو مختصة بالأفعال، فلا تباشر الجمل الاسمية، ولكن يليها الاسم مرفوعا ومنصوبا، فإن وليها المرفوع، فإن كان غير أنّ وصلتها، فهو مرفوع بفعل مضمر مُفَسَّر بظاهر بعد الاسم، نحو: لو ذاتُ سوارٍ لطمتني، ولو زيد قام أبوه قمت. وإن كانت أنّ وصلتها كما في قولك: لو أنك جئتني لأكرمتك، فهو عند سيبويه في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، وقد شذ ابتداء أن بعد لو، كما نصب غدوة بعد لدن. وعند الأخفش في موضع رفع بثبت مضمرا، كما هو كذلك بعد ما النائبة عن الظرف، كقولهم: ما أفعله ما أن حراء مكانه، ولا أكلمه ما أن في السماء نجما. وإن ولى "لو" اسم منصوب، فقد يكون منصوبا بما بعده، كما في قولك: لو زيدا ضربت لأكرمتك. وقد يكون منصوبا بفعل مضمر مُفَسَّر بظاهر بعد الاسم، أو غير مفسر. فالأول نحو: لو زيدا رأيته أكرمك، ولو عمرا كلمت أخاه لأعطاك. والثاني قولهم: اضرب ولو زيدا، وألا شرابَ ولو ماء. ويندر المجيء باسمين مرفوعين بعد لو في قول الشاعر: لو بغير الماء حلقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغصّان بالماء اعتِصاري وحمله أبو علي على أن حلقي فاعل لفعل مضمر يفسره شَرِق، وشرق خبر مبتدأ محذوف مدلول عليه بالفاعل، والتقدير: لو شرِقَ بغير الماء حلقي هو

شرق. وحمله شيخنا رحمه الله على أن حلقي مبتدأ، وشرق خبره، وبغير الماء متعلق بالخبر، وقد ابتدأ الكلام بعد لو، (لأنها) لما لم تعمل لم يسلك بها سبيل إنْ في الاختصاص بالفعل أبدا، فنبه على ذلك بمباشرتها أنّ كثيرا، وبمباشرة غيرها قليلا. ومحمله عندي على أن يكون قوله: حلقي شرق، مبتدأ وخبرا في موضع نصب بكان الشانية مضمرة تقديره: لو كان الأمر والشأن حلقي شرق بغير الماء، كنت كالغصان، وكان بالماء اعتصاري. وزعم الزمخشري أن الخبر بعد لو أن ملتزم مجيئه فعلا، ليكون ذلك عوضا عن ظهور الفعل المقدر بين لو وأنّ، ومنع صحة قولك: لو أن زيدا حاضري لأكرمتك. قال الشيخ رحمه الله: وما منعه شائع في كلام العرب، كقوله تعالى: (ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلامٌ) وكقول الراجز: لو أن حيًّا مُدْرِكُ النجاح ... أدركه مُلاعِبُ الرِّماح وكقول الآخر: ولو أنّ حيًّا فائتُ الموتِ فاته ... أخو الحرب فوق القارِحِ العَدَوان وقول الآخر: ولو أنّ ما أبْقَيتِ مني مُعَلّق ... بعُودٍ ثُمامٍ ما تأوَّدَ عودُها

وقول الآخر: ولو أنّها عُصفورةٌ لحسِبتها ... مُسَوَّمةً تدعو عُبَيْدا وأزْنَما ص: وجوابها في الغالب فعل مجزوم بلم، أو ماض منفي بما، أو مُثبت مقرون غالبا بلام مفتوحة لا تحذف غالبا إلا في صلة، وقد تصحب ما النافية. ش: انفردت "لو" بلزوم كون جوابها في الغالب فعلا مضارعا مجزوما بلم، نحو: لو قام زيد لم أقم. أو ماضيا مثبتا أو منفيا بما، فإن كان مثبتا، فالأكثر أن تصحبه لام مفتوحة نحو: (ولو عَلِمَ اللهُ فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتَوَلَّوْا) وقد تخلو منها كما في قوله تعالى: (لو شئتَ أهلكتهم من قبلُ وإياي) وقوله تعالى: (ولْيَخْشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذُرِّيَّةً ضعافا خافوا عليهم). وإن كان منفيا بما فالأكثر خلوه من اللام، كما في قوله تعالى: (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) وقد تصحبه كما في قولك: لو كان كذا لما كان كذا. وقوله: غالبا، احتراز من مجيء جواب لو جملة اسمية مصدرة باللام، كقوله تعالى: (ولو أنهم آمنُوا واتَّقَوْا لمثُوبةٌ من عند الله خيرٌ لو) وبالفاء كما أنشده الشيخ رحمه الله من قول الشاعر: قالت سلامةُ لم تكن لك عادةٌ ... أن تَتْرُكَ الأعداء حتى تُعْذَرا لو كان قَتْلى يا سلامُ فراحةٌ ... لكنْ فَرَرْتُ مخافةً أن أوسرا

لما

فحمل ما بعد الفاء على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فهو راحة، والجملة جواب للو، وجاز أن تجاب بجملة اسمية مقرونة بالفاء تشبيها بإن. ويجوز عندي أن يكون ما بعد الفاء معطوفا على فاعل كان، وجواب لو محذوف تقديره: لو كان قتل فراحة لثَبَتُّ، كما حذف في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: (إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به) وكما حذف هو والشرط في قول الشاعر: إنْ يكنْ طبُّكِ الدلالَ فلو في ... سالف الدهرِ والسنينَ الخوالي قال أبو الحسن: يريد فلو كان في سالف الدهر لكان كذا وكذا. فصل: ص: إذا وَلِيَ "لمّا" فعلٌ ماض لفظا ومعنى فهو ظرف بمعنى "إذ" فيه معنى الشرط، أو حرفٌ يقتضي فيما مضى وجوبا لوجوب، وجوابها فعل ماض لفظا ومعنى، أو جملة اسمية مع إذا المفاجأة أو الفاء، وربما كان ماضيا مقرونا بالفاء، وقد يكون مضارعا. ش: من حروف المعاني "لمّا" وهي في الكلام على ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون نافية جازمة، تقلب المضارع إلى المضي، وقد تقدم ذكرها. والثاني: أن تكون بمعنى إلا في قسم، أو بعد نفي دون قسم، وتليها الأسماء والأفعال إلا الماضي لا يكون بعدها إلا مستقبل المعنى. فمن مجيئها في القسم قوله: عزمت عليك لمّا ضربت سوطا أو سوطين، وقول الراجز: قالتْ له بالله ياذا البُرْدَيْن ... لمّا غَنِثْتَ نَفَسا أو اثنَيْنْ ومن مجيئها بعد النفي الخالي من القسم قراءة عاصم وحمزة: (وإنْ كلٌّ لما

جميعٌ لدينا مُحْضَرون): (وإنْ كلّ ذلك لمّا متاعُ الحياةِ الدنيا) أي ما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا. والثالث: أن تدل على وجوب شيء لوجوب غيره، ولا يلزمها إلا فعل ماض لفظا ومعنى، وهي حرف يقتضي فيما مضى وجوبا لوجوب عند سيبويه، وظرف بمعنى "إذ" فيه معنى الشرط عند أبي علي. قال شيخنا رحمه الله: والصحيح قول سيبويه، واستدل بقوله تعالى: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) فإن المراد أنهم هلكوا بسبب ظلمهم، لا أنهم أهلكوا حين ظلمهم، لأن الهلاك متأخر عنه، وربما ينوى. قال سيبويه: إن اسميتها مشكوك فيها، وحرفيتها ظاهرة، لأنها دالة على معنى الشرط، فتقتضي فيما مضى وجوبا لوجوب، كما تقتضي "لو" امتناعا لامتناع، والحكم بالظاهر راجح. قال الشيخ: ويقوى قول أبي علي أنها قد جاءت لمجرد الوقت في قول الراجز: إنّي لأرجو مُحْرِزًا أن يَنْفَعا ... إيّايَ لمّا صرتُ شَيخا قَلِعا وجواب لما فعل ماض لفظا ومعنى، نحو: (فلما أنْ جاء البشير ألقاه) أو جملة اسمية مع إذا المفاجأة، كقوله تعالى: (فلما أحسُّوا بأسنا إذا هم منها يركُضون) أو مع الفاء كقوله تعالى: (فلمّا نجّاهم إلى البر فمنهم

مُقْتَصِد) وربما كان ماضيا مقرونا بالفاء كقول الشاعر: فلما رأى الرحمن أنْ ليس فيكم ... رَشيدٌ ولا ناهٍ أخاه عن الغَدْر فصَبّ عليكم تَغْلِب ابنةَ وائلٍ ... فكانوا عليكم مثل راغِيةِ البَكْرِ

باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك

باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك ص: يستفهم بكيف عن الحال قبل ما يستغنى به، وعن الخبر قبل ما لا يستغنى به. ومعناها: على أي حال؟ فلذا تسمى ظرفا، وربما صحبتها "على" ولجوابها وللبدل منها النصب في الأول، والرفع في الثاني إن عدمت نواسخ الابتداء، وإلا فالنصب، ولا يجازى بها قياسا خلافا للكوفيين. ش: من الأسماء المبنية كيف، وتدل على اسميتها أمور: أحدها: انتفاء أن تكون حرفا، للاكتفاء بها مع الاسم المفرد، نحو: كيف أنت؟ وانتفاء أن تكون فعلا، لدخولها على الأفعال واتصالها بها، نحو: (كيف فعل ربك) والفعل لا يدخل على الفعل إلا مفصولا عنه في النية بضمير الفاعل المستكن، كما في قولك: إن تقم أقم. فلما انتفى أن تكون حرفا، وأن تكون فعلا تعين أن تكون اسما. الثاني: جواز إبدال الاسم منها، كما في قولك: كيف زيد؟ أفارغ أم مشغول؟ وكيف سرت؟ أراكبا أم ماشيا؟ فلولا أن كيف اسم لما أبدل منها الاسم. الثالث: دخول حرف الجر عليها في قول بعضهم: على كيف تبيع الأحمرين؟ وهي اسم مبني لشبهها بالحرف في المعنى، لتضمنها معنى همزة الاستفهام، بدليل وجوب اقتران الهمزة بالبدل منها، نحو: كيف زيد؟ أصحيح أم سقيم؟

وبنيت على حركة فرارا من التقاء الساكنين، وكانت الحركة فتحة لأنها أخف، والنطق بها بعد الياء الساكنة أسهل. ومعنى كيف الاستفهام عن وصف منكور لموصوف بعده مذكور، فلذلك لا يبدل منها، ولا يجاب إلا بصفة نكرة، فيجب أن تكون عامة لجميع أحوال الموصوف حتى يصح أن يجاب بعضها. ولذلك تسمى اسم استفهام عن الحال. قيل: معناها على أي حال، فتسمى ظرفا، لأنها في تأويل جار ومجرور، كما أن الظرف في تأويل جار ومجرور. ولا شك في صحة تقدير: على أي حال مكان كيف، وأن قولك: كيف زيد؟ في معنى: على أي حال زيد؟ ولكن ليس لأن كيف موضوعة لذلك المعنى، بل لأن معناها راجع إليه بنوع من اللزوم، ويدل على ذلك أمران: أحدهما: أنه كما يصح تقدير: على أي حال مكان كيف، كذلك يصح تقدير وصف مجرد من حرف جر مكانها، فيجوز أن يأتي بدل "كيف" من نحو: كيف أنت؟ أقائم أم غير قائم؟ وشبهه، فتقول: أقائم أنت أم غير قائم؟ فتفيد بذلك ما تفيده: كيف أنت؟ فيجب أن تكون حقيقة في الاستفهام عن الحال، لأن كونها ظرفا مستلزم لكثرة التضمين، ولتقدير الاستقرار، وكلاهما على خلاف الأصل. الثاني: أن البدل من كيف إما منصوب، نحو: كيف سرت؟ أراكبا أم ماشيا؟ وإما مرفوع، نحو: كيف زيد؟ أصحيح أم سقيم؟ ولو كانت ظرفا لما كان البدل منها إلا مجرورا مثل ما تضمنته، فكان يجب أن يقال: كيف سرت؟ أعلى ركوب أم على مشي، وكيف زيد؟ أعلى صحة أم على سقم؟ كما يجب أن يقال: أين كنت؟ أفي الدار أم في المسجد؟ فلما لم يجب أن يقال ذلك، بل أبدلوا منها بدون حرف جر، علم أنها ليست ظرفا. ولكيف صدر الكلام كغيرها من أدوات الاستفهام، ولا تخرج في الاستعمال عن أن تكون في موضع نصب على الحال، أو خبر مبتدأ في الحال أو الأصل، إلا ما شذ من نحو جرها بعلى في قول بعضهم: على كيف تبيع الأحْمَرَيْن؟ فإذا وقعت كيف قبل تام مستغن عنها كانت في موضع نصب على الحال، لأنها في

تأويل صفة نكرة متقدمة على موصوفها، والصفة المتقدمة على الموصوف لا يجوز أن تكون نعتا له، لأن النعت تابع، فلا يتقدم على المتبوع، بل يجب فيها أحد أمرين: إما أن تجعل حالا من الموصوف، وإما أن تقام مقامه، ويجعل هو بدلا منها، فلم يجز في كيف أن تقام مقام الموصوف، لأنها في تأويل صفة نكرة، والصفة النكرة يقبح فيها ذلك. فوجب أن تكون حالا، ولذلك يبدل منها، ويجاب بالنصب، تقول: كيف سار زيد؟ أراكبا أم ماشيا؟ فيقال: ماشيا أو راكبا. ويقال: كيف جئت؟ فتقول: مسرعا، بالنصب لا غير، لأن البدل من الحال حال، والحال لا تكون إلا منصوبة. وإذا وقعت كيف قبل ما لا يتم كلاما، كانت خبرا مقدما، وما بعدها مخبر عنه، لأنه لا يجوز أن تكون ملغاة، لأنه قد حصلت بها الفائدة، وتم بها الكلام، ولا يجوز أن تكون هي المخبر عنه، وما بعدها الخبر، لأنها في تأويل صفة نكرة، فيقبح جعلها اسما مخبرا عنه بما بعده، فوجب أن تكون خبرا مقدما في موضع رفع، إن عدمت نواسخ الابتداء، ولذلك يبدل منها ويجاب بالرفع، نحو: كيف زيد؟ أفارغ أم مشغول؟ وإن وجدت نواسخ الابتداء فهي في موضع نصب خبرا قبل كان أو إحدى أخواتها، (ومفعولا ثانيا قبل ظن أو إحدى أخواتها)، ولذلك يبدل منها ويجاب بالنصب نحو: كيف كان زيد؟ أصحيحا أم سقيما؟ وكيف رأيت عمرا، أشاعرا أم فقيها؟ وقد تقدم الكلام على المجازاة بها، فلا حاجة إلى إعادته. فصل: ص: تكون "قد" اسما لكفى، فتستعمل استعمال أسماء الأفعال، وترادف "حسبا" فتوافقها في الإضافة إلى غير ياء المتكلم، وتكون حرفا فتدخل على فعل ماض متوقع لا يشبه الحرف لتقريبه من الحال، وعلى مضارع مجرد من جازم وناصب وحرف تنفيس لتقليل معناه، وعليهما للتحقيق، ولا تفصل من أحدهما بغير قسم، وقد يغني عنه دليل فيوقف عليها. ش: تكون قد في الكلام اسما وحرفا، فإذا كانت اسما فهي على ضربين: أحدهما: اسم فعل ماض بمعنى كفى، فتستعمل استعمال أسماء الأفعال، فيتم بها

الكلام مع الفاعل، ولا يبرز معها ضميره، وتنصب المفعول، كقولك: قدْ زيدا درهمان، والدرهمان قد زيدا، ولا يجوز "قدا"، كما يجوز: كفيا، لأن قد اسم فعل. والثاني: أن تكون بمعنى حسب، أي "كاف" فتوافقها في الإضافة إلى المفعول، وفي لزوم استعمال أحد جزأي الابتداء، كقولك: قدْ زيدٍ درهمٌ، كما تقول: حَسْبُ زيدٍ درهمٌ، فقد في هذا اسم لمرادفتها لما ثبتت اسميته معنى واستعمالا، وهي مبتدأ، ودرهم الخبر، ولكنها مبنية على السكون لوضعها على حرفين، وشبهها بقد الحرفية، فلم يظهر فيها الرفع. وقوله: فتوافقها في الإضافة إلى غير ياء المتكلم معناه أن "قد" تضاف إلى كل ما تضاف إليه حسب، إلا أن حسبا تضاف إلى ياء المتكلم مجردة عن نون الوقاية كقوله: فحسْبِيَ مِنْ ذي عندهم ما كَفانيا "وقد" تضاف إلى الياء مجردة، ومع نون الوقاية، كما سبق الاستشهاد عليه في باب المضمر، نحو قول الشاعر: إذا قال قَدْني قال بالله حَلْفَة وقول الراجز: قَدْنِيَ مِنْ نصرِ الخُبَيْبين قَدِي

وإذا كانت حرفا فهي على ثلاثة أضرب: أحدها: أن تكون حرف تقريب، فتدخل على فعل ماض متصرف متوقع، أي منتظر، لتقريبه من الحال. الثاني: أن تكون حرف تقليل، فتدخل على المضارع المجرد من جازم وناصب وحرف تنفيس لتقليل وقوعه، كقولك: البخيل قد يعطى، والجواد قد يمنع. الثالث: أن تكون حرف تحقيق، فتدخل على كل من بناء المضارع والماضي لتقرير معناه، ونفي الشك عنه، فدخولها على الماضي كثير كقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) وقوله تعالى: (ولقد نادانا نوح): (ولقد عهدنا إلى آدم) ومن دخولها على المضارع قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء): (قد يعلم الله المُعَوِّقين منكم) وقول الشاعر: قد أترك القِرْن مُصْفَرًّا أناملُه ... كأنَّ أثوابه مُجَّت بفِرْصاد وهو في علم البيان من التقليل على طريق التهكم. ولا يفصل بين قد والفعل إلا بالقسم، كقول الشاعر: أخالد قد والله أُوطِئْتَ عُشْوة ... وما العاشقُ المظلومُ فينا بسارق أقرّ بما لم يأته المرءُ إنه ... رأى القطع خيرا من فضيحة عاشق وقول الآخر: لقد أرسلوني في الكواعب راعيا ... فقد وأبِي راعي الكواعِبِ أُفْرِسُ

هل وهمزة الاستفهام

أراد: فقد أفرس راعي الكواعب وحق أبي، ويجوز أن يكون (أضاف الأب إلى راعي) وهو يعني نفسه. وقد يغني عن الفعل بعدها دليل فيحذف، كما حذف بعد لمّا، ويوقف عليها، كقولك: أزفَ الشُّخوصُ وكأن قد. قال النابغة: أزِف التَّرُحُّل غير أن ركابنا ... لَمّا تَزُل برحالنا وكأنْ قد أي: وكأن قد زالت. ص: وترادفها هل، وتساوي همزة الاستفهام فيما لم يصحب نافيا، وما لم يطلب به تعيين، ويكثر قيام "مَنْ" مقرونة بالواو مقام النافي فيجاء غالبا بإلا قصدا للإيجاب، وقد يقصد بأيّ نفي، فيعطف على ما في حيزها بولا. ولأصالة الهمزة استأثرت بتمام التصدير، فدخلت على الواو والفاء وثم، ولم يدخلن عليها، ولم تُعَد بعد أم، بخلاف هل وسائر أخواتها، ويجوز ألا تعاد هل لشبهها بالهمزة في الحرفية، وأن تعاد لشبهها بأخواتها في عدم الأصالة، وقد تدخل عليها الهمزة فتتعين مُرادفةُ قد، وربما أبدلت هاؤها همزة. ش: هل حرف استفهام، تجيء مع الماضي بمعنى قد، كقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر) قال المفسرون: المعنى: قد أتى على الإنسان حين من الدهر. وللاستفهام حرفان: الهمزة وهل. فالهمزة يستفهم بها عن التصديق، كقوله: أزيد قائم؟ وأقام عمرو؟ عن التصور لطلب التعيين، كقولك: أزيد قام؟ وأعمرا كلمت؟ وتدخل على النفي لتقرير أو توبيخ أو تمن أو نحو ذلك، كما سبق التنبيه عليه في باب: لا لنفي الجنس.

وأما هل فيستفهم بها عن التصديق الموجب لا غير، ولذلك قبح: هل زيد قام؟ وهل عمرا ضربت؟. وامتنع: هل زيد قائم أو عمرو؟. وإلى كون هل للاستفهام الموجب الإشارة بقوله: وتساوي همزة الاستفهام فيما لم يصحب نافيا، ولم يطلب فيه تعيين. وكثيرا ما يعدى الاستفهام عن أصله فيؤتى به في مقام الإنكار والجحد، فيجرى مجرى النفي. فمما جاء من ذلك بالهمزة قوله تعالى: (أهم يَقْسِمون رحمة ربك) وبهل في قوله تعالى: (وهل نجازي إلا الكفور) وبمتى كقولهم في مقام الجَحْد: متى قلت هذا؟ وبأين نحو ما حكى الكسائي: أين كنت لتنجو مني. أي ما كنت لتنجو مني. وبكيف كقراءة عبد الله. (كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله) وقد جاء ذلك بمَنْ مقرونة بالواو وبعدها إلا في الغالب لقصد الإيجاب، كقوله تعالى: (ومَن يرغبُ عن ملَّة إبراهيم إلا مَنْ سَفِه نفسه) المعنى: وما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه. ومثله: (ومَن يقنطُ من رحمة ربه إلا الضالون). وقد يجيء نفي بأيّ فيعطف على ما في حيزها بولا، كقول الشاعر: فاذهب فأيُّ فتى في الناس أحْرَزَه ... عن حَتْفه ظُلَمٌ دُعْجٌ ولا جَبَل واعلم أن أصل أدوات الاستفهام الهمزة لأنها تأتي في الإيجاب والنفي، ويستفهم بها عن التصور وعن التصديق، ولكونها أصل أدوات الاستفهام،

والاستفهام له صدر الكلام، استأثرت عن أخواتها بتمام التصدير، فدخلت على العواطف من الواو والفاء وثم، ولم يدخلن عليها، فلا يقال: قد قام زيد، فأقام أخوه؟ كما يقال: فهل قام أخوه؟ وإنما يقال: قد قام زيد، أفقام أخوه؟ كما قال تعالى: (أو لم يهدِ للذين يرثون الأرض): (أفلم يَيْئَس الذين آمنوا): (أثُمّ إذا ما وقع آمنتم به) وهو عند سيبويه على التقديم والتأخير، إيثار الهمزة الاستفهام بتمام التصدير. وفي امتناع دخول العواطف عليها مع مساواتها لهل في صحة عطف ما هي فيه على ما قبله، شاهد على صدق قول سيبويه. وقد حمل الزمخشري بعض ما جاء من ذلك في القرآن الكريم على إضمار المعطوف عليه، فقال في قوله تعالى: (أو كُلّما عاهدوا عهدا) و: (أفكلما جاءكم رسول) (تقديره: أكفروا وكلما عاهدوا، وأكفرتم فكلما جاءكم رسول)، وهو إضمار لا دليل عليه، ولا يفتقر تصحيح الكلام إليه. ولاسئثار الهمزة بتمام التصدير لم تعد بعد أم المتصلة ولا المنقطعة، تقول: أدبس في الإناء أم عسل؟ وأزيد خارج أم عمرو مقيم؟ وليس لك أن تعيد الهمزة بعد أم، كما تعيد الجار للتوكيد في نحو: أبزيد مررت أم بعمرو، لأنها لما لم تقع للتأسيس بعد العاطف كانت عن وقوعها للتوكيد بعده أبعد. وأما هل فيجوز فيها مع أم المنقطعة ألا تعاد، استغناء بدلالة العاطف على التشريك، نحو: هل قام زيد أم خرج عمرو، ويجوز أن تعاد توكيدا، لأنه لا يمتنع دخول العاطف عليها نحو: هل قام زيد أم هل خرج عمرو؟ وقال الله

حروف التحضيض

تعالى: (هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلماتُ والنورُ، أم جعلوا لله شركاء) فجمع بين الاستعمالين. فإن قلت: كيف صح الجمع بين هل وأم المنقطعة، والنحويون يقولون: إنها تفيد الاستفهام والإضراب معا؟ قلت يتجه ذلك على أن تكون "أم" دالة على الإضراب الوضع، وعلى الاستفهام إذا لم يذكر بعدها بالالتزام العرفي، فإنها لا تدخل إلا على جملة استفهامية، فصار لفظها مشعرا بالاستفهام، فيجوز إظهاره بعدها على الأصل، ويجوز إضماره استغناء بدلالة أم. فأما قوله: "ويجوز في هل ألا تعاد لشبههما بالهمزة في الحرفية، وأن تعاد لشبهها بأخواتها بعدم الأصالة" فكلام غير محقق، فإن عدم إعادة "هل" بعد "أم" مثل عدم إعادة الهمزة في كونه على وفق الدليل، فلا فائدة في قياس جواز أحدهما على جواز الآخر، وإعادة هل بعد أم ليست مثل إعادة أخواتها في أسماء الاستفهام، فإن هل تعاد توكيدا كما سبق، وغيرها يعاد تأسيسا إذا قصد معناه، وإذا لم يقصد معناه لم يذكر، تقول: متى قام زيد؟ أم متى خرج عمرو؟ إذا أضربت عن الاستفهام عن وقت قيام زيد، إلى الاستفهام عن وقت خروج عمرو أو نحو ذلك. وقد تدخل الهمزة على هل فتتعين أن تكون المرادفة لقد، كقول الشاعر: سائِلْ فوارسَ يَرْبُوع بِشَدَّتنا ... أهَلْ رأوْنا بقاع القُفِّ ذي الأكَم وقد تبدل هاؤها همزة، فيقال: أل قام زيد؟ مكان هل قام زيد؟ فصل: ص: حروف التحضيض "هلّا" و"ألا" و"لولا" و"لو ما"

ولا يليهن غالبا إلا فعل ظاهر، أو معمول فعل مضمر مدلول عليه بلفظ أو معنى، وقلما يخلو مصحوبها من توبيخ، وإذا خلا منه فقد يغني عنهن "لو" و "ألا". وتدل أيضا "لولا" و"لوما" على امتناع لوجوب فيختصان بالأسماء، ويقتضيان جوابا كجواب "لو"، وقد يلي الفعل "لولا" غير مفهمة تحضيضا، فتؤول "بلو لم" أو تجعل المختصة بالأسماء، والفعل صلة لأن مقدرة. ش: التحضيض مبالغة في الحض على الشيء، وهو طلبه والحث على فعله، وحروفه: هلا، وألا، ولولا، ولوما، يدخلن على الفعل للتوبيخ في ضمن التنديم إن كان ماضيا، وفي ضمن التقاضي إن كان مستقبلا، وكأنهن مأخوذات من "هل" المنقولة إلى التمني في نحو قوله تعالى: (فهل لنا من شُفَعاء) مبدلة هاؤها همزة على لغة. ومن "لو" المنقولة إلى التمني أيضا في نحو: لو تأتيني فتحدثَني، بالنصب، لما فيها من تقدير غير الواقع واقعا، ثم ركبا مع لا وما المزيدتين تنبيها على نقلهما إلى التحضيض، فإذا قلت: هلّا فعلت: فكأنك قلت: ليتك فعلت، متولدا منه معنى التنديم. وإذا (قلت: هلا تفعل)، فكأنك قلت: ليتك تفعل، متولدا منه معنى التقاضي والحث. ولحروف التحضيض صدور الكلام، وهي مختصة بالأفعال، وإنما يليها في الغالب فعل ظاهر متصل، نحو: هلا تضرب زيدا، أو مفصول بمفعول نحو: هلا زيدا ضربت، وإما بمعمول فعل مضمر على شريطة التفسير كقولك: هلا زيدا ضربته،

أو مدلول عليه بمذكور قبل، كقول الشاعر: تَعُدُّون عَقْرَ النِّيبِ أفضلَ مجدِكم ... بني ضَوْطَرَى لولا الكميَّ المُقَنَّعا المعنى: لولا تعدون عقر الكمى، فحذف الفعل والمضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، اعتمادا على دلالة الكلام. وقد تلي حروفَ التحضيض جملة اسمية، كقول الشاعر: ونُبِّئتُ ليلى أرسلت بشفاعةٍ ... إليّ فهلّا نَفْسُ ليلى شَفيعُها وهو شاذ نادر، ويمكن تخريجه على إضمار كان الشانية، وجعل الجملة المذكورة خبرها، والتقدير: فهلا كان الأمر والشأن نفس ليلى شفيعها. وتخلو الحروف المذكورة عن التوبيخ، فتكون لطلب الفعل على سبيل العرض، كما في قوله تعالى: (فلولا نَفَر من كل فرقة منهم طائفةٌ) وقوله تعالى: (لولا أخَّرْتَني إلى أجل قريب فأصَّدَّق) ويجوز أن تغني عنهن حينئذ "لو" المنقولة إلى التمني، كما تقدم في نحو: لو تأتيني فتحدثني. و"ألا" المخففة من المثقلة، كقولهم: ألا تنزل فتصيب خيرا. وتدل أيضا "لولا" و"لوما" على امتناع الشيء لوجود غيره، فيختصان بالأسماء، ويقتضيان جوابا كجواب "لو" فيكون فعلا مجزوما بلم، أو ماضيا منفيا أو مثبتا مقرونا في الغالب بلام مفتوحة. وقد يلي الفعل "لولا" غير مفهمة تحضيضا كقوله: لا دَرّ دَرُّكِ إني قد رميتُ به ... لولا حُدِدْتُ ولا عُذْرى لمحْدُود

ها ويا

والوجه فيه أن تكون "لو" هي التي لامتناع الشيء لامتناع غيره، ولا بعدها حرف نفي مع الماضي بمعنى لم يفعل، كما في قول الراجز: وأيُّ شيءٍ سَيِّء لا فعله أي لم يفعله، والتقدير: لو لم أحد لرميت به. ويجوز أن تكون "لو" مع "لا" هي التي لامتناع الشيء لوجود غيره، وقد وليها الفعل على أنه صلة لأن مضمرة، والمعنى: لولا أحد لرميت. فصل: ص: "ها" و"يا" حرفا تنبيه، وأكثر استعمال "ها" مع ضمير رفع منفصل، أو اسم إشارة. وأكثر ما يلي "يا" نداء أو أمر أو تمن أو تقليل، وقد يعزى التنبيه إلى "ألا" و"أما" وهما للاستفتاح مطلقا، وكثر "ألا" قبل النداء، و"أما" قبل القسم، وتبدل همزتها هاء أو عينا، وقد تحذف ألفها في الأحوال الثلاث. هذا آخر ما ألف من كلام ابن المصنف رحمة الله عليه، من تكميل شرح التسهيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

§1/1