شرح الترغيب والترهيب للمنذرى - حطيبة

أحمد حطيبة

الترغيب في الرحلة في طلب العلم

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الرحلة في طلب العلم لقد رفع الله عز وجل من منزلة العلماء، ورفع مكانتهم وقدرهم، فهم ورثة الأنبياء، وحراس الدين، والمبلغون الموقعون عن الله عز وجل في خلقه؛ فلهذا كان لهم أجر المجاهد في سبيل الله، وأجر الحاج الذاهب إلى بيت الله، ويستغفر لهم كل مخلوق على وجه الأرض، وحق لهم ذلك فلقد ورثوا هذا الدين، وبلغوه إلى الخلق أجمعين، وميزوا فيه الصحيح من السقيم.

فضل طلب العلم

فضل طلب العلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في الرحلة في طلب العلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) رواه مسلم. وعن زر بن حبيش رضي الله عنه قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: ما جاء بك؟ قلت: أنبط العلم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من خارج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع) رواه الترمذي. وروى الطبراني في كتابه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان له كأجر حاج تاماً حجته)]. فهذه أحاديث من كتاب الترغيب والترهيب للإمام الحافظ المنذري في الترغيب في الرحلة إلى طلب العلم. فالإنسان المسلم يرحل ويسافر ليبحث عن العلم حتى يعلم ما يريد الله عز وجل منه، والمؤمن ينشر العلم بإخلاص ويبتغي به وجه الله سبحانه، ويبتغي الثواب على ذلك. من الأحاديث ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). فالجزاء من جنس العمل، فإذا كنت تسعى ذاهباً إلى بيت الله سبحانه وتعالى، لعلك تذهب في طريق صعب أو طويل تذهب في ليل تذهب في نهار في أرض سهلة في أرض وعرة تلتمس طلب العلم، والمقصد: العلم الشرعي أي: علم الكتاب وعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أتعبت نفسك من أجل ذلك في الدنيا سهل الله عز وجل لك العلم، وسهل لك به طريقاً إلى الجنة. عن زر بن حبيش قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: ما جاء بك؟ قال: قلت: أنبط العلم). ومعنى أنبط: خرجت أبحث عن العلم الصحيح وهو علم الكتاب والسنة، فأنبط هذا العلم: أستخرجه، فقال له صفوان رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما صنع)، فطالب العلم وهو يسير في الطريق بدلاً من أن يفرشوا له سجاداً فإن الملائكة تشرفه بأن تفرش له أجنحتها، ولم يذكر العالم فقط، لا، بل طالب العلم. إذاً: الطلبة والعلماء وكل من يطلب العلم الشرعي يسير في طريق الملائكة، فتفرش له أجنحتها في هذا الطريق، تواضعاً له. من الأحاديث: حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه)، (من غدا إلى المسجد) فإذا جئت لتصلي فأنت في الطريق كأنك تصلي طالما أنك على وضوء، وإذا جلست في المسجد تنتظر الصلاة فأنت في صلاة، وإذا انتظرت بعد الصلاة فالملائكة تدعو لك وتستغفر لك، وإذا جئت لطلب العلم الشرعي يقول النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (كان له كأجر حاج تاماً حجته)، هذا ما يكون لطالب العلم ولمعلم الخير من قدر ومنزله، ومن ثواب في طلب العلم، كلما ذهب إلى بيت الله ليتعلم علماً أو ليعلمه الناس. فالمعلم وطالب العلم يشتركان في الأجر، ويكون لهما كأجر الحاج الذي يذهب ليحج ويرجع، وهذا الأجر تاماً لا ينقص منه شيء. كذلك جاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله) وهذه فضيلة أخرى لمن يتوجه إلى بيت الله عز وجل ليتعلم العلم الشرعي أو يعلم العلم الشرعي. فهذه أحاديث تجعل المسلمين يتنافسون في طلب العلم، وفي حفظ العلم الشرعي، وفي طلب من يتعلم العلم الشرعي من كتاب أو سنة أو فقه وغير ذلك من علوم الدين، فأخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث أن الذي يأتي ليتعلم الخير أو يعلم الخير بمنزلة المجاهدين في سبيل الله. يعني: له أجر عظيم كأجر الغازي المجاهد في سبيل الله سبحانه. فما هو أجر الذي جاء إلى المسجد لغير ذلك كمن جاء ينتظر شخصاً وليس مراده طلب علم ولا غيره؟! A قال صلى الله عليه وسلم: (ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره)، أي: كمن مر في الشارع نظر إلى أثاث جيد ولكنه لا ينتفع بهذا الأثاث؛ فهو ملك لغيره.

أجر مبلغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم

أجر مبلغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم روى أبو داود رضي الله عنه عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع). وفي هذا الحث على تبليغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بقيد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه سمعه منه صلى الله عليه وسلم، أو ساوى من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فالسامع من النبي صلى الله عليه وسلم على يقين أن هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يساويه هو من عنده الإسناد الصحيح بحيث يستيقن أن هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا القيد الأول. والقيد الآخر: أن تبلغه كما سمعته، ولا تزد فيه شيئاً، قال صلى الله عليه وسلم: (فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)، وفي هذا يحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ الحديث بألفاظه، فربما لا يكون عندك فقه، ولا تفهم في اللغة العربية تماماً، ولكنك تبلغ الحديث لإنسان يفهم اللغة العربية، وعنده فقه فيأخذ الحديث ويستنبط منه الفقه فيتعلم الناس ويتفقهون بما رويته أنت لهذا الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله) وهذا دعاء له بالنضارة، والنضارة في وجه الإنسان نعمة وبهجة وحسن وجمال. فعندما تنقل ما سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث صحيحة يكون لك هذا الأجر حياً وميتاً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). فإذا بلغت العلم الشرعي فانتفع به الناس سواء في حياتك أو بعد وفاتك فإن الذي نقلته وعلمته الناس ينفعك.

التحذير من الكذب في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

التحذير من الكذب في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لو أن إنساناً نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، أو فسر القرآن بغير الذي أراده الله تبارك وتعالى فهذا مصيبته مصيبة، فبقدر ما يأخذ الذي يبلغ الصحيح مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حسنات عظيمة، ويكون له كأجر الحاج وأجر المجاهد في سبيل الله، بقدر ما يهيئ هذا نفسه للنار؛ لأنه كذب على الله وعلى رسول الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وفي رواية أخرى عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) فالذي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث علامات الكذب فيه واضحة يعد كذاباً، فعلى المسلم أن يحذر من أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحدكم)؛ فالذي يتقول على النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكذب على الوحي، ويكذب على الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. والذي جعلنا نتكلم في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وجود من يوزع أوراقاً فيها حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن في غنى عن مثل هذا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فالناس ولله الحمد منذ عشرين سنة أو أكثر وهم يدرسون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كالكتب السنة الستة: البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجة. وكذلك مسند الإمام أحمد. فنحن في غنى عن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الورقة التي وزعت بين الأخوات فيها حديث مكذوب عليه صلى الله عليه وسلم، وفيه: أنه من فاتته صلوات عمره ولم يحصها فليقم في آخر جمعة من رمضان وليصل أربع ركعات بتشهد واحد، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة القدر خمس عشرة مرة، وسورة الكوثر كذلك، ويقول في النية: نويت أصلي أربع ركعات. فهل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهذا؟! وكل العلماء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أبداً: نويت أصلي ولا نويت أصوم، ولا أمر بذلك، إنما هذا من كلام الفقهاء، فهذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فما أمر بقراءة سورة أكثر من مرة في صلاة قط، ولا يصح هذا عنه صلى الله عليه وسلم، والحديث جاء فيه من الثواب: أنه يغفر له ذنوب أربعمائة سنة، وأن أبا بكر الصديق قال هذا، فقال علي بن أبي طالب معقباً عليه: لا بل ألف سنة، أي: يغفر له ذنوب ألف سنة، وهذا معناه: إلغاء الدين كله، فلو لم تصل ولم تصم فسيكفيك هذا الفعل، ويذكر في هذا الحديث المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: إن أحدنا يعيش ستين سنة أو مائة سنة فلمن تكون الصلاة الزائدة؟ -يعني: تكفير ذنوب ألف سنة كثير ويتجاوز عمر الإنسان- قال: تكون لأبويه وزوجته ولأولاده وأقاربه وأهل البلد. فهذا من الكذب! ولعنة الله على الكذابين! لعنة الله على الكذابين! لعنة الله على الكذابين! ولماذا توزع مثل هذه الأحاديث؟ أليس هناك كتب فيها الأذكار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ككتاب الدعوات مثلاً، ففيه الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك ورقة أخرى وزعت قبل مدة فيها حديث: أن الشيطان قابل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور، والشيطان أجاب على تلك الأسئلة، وهذا كله كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يثبت فيه شيء ولا يصح، فاتقوا الله عز وجل، واتقوا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين). ولا يجوز لكل من قرأ حديثاً في ورقة أو مجلة أن يلقيه على الناس حتى يتأكد من صحته عند أهل العلم. وقد وزعت قبل أيام ماضية ورقة فيها كذبة، وهي أن خادم الحرم واسمه الشيخ أحمد رأى رؤيا فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: يا شيخ أحمد! الأمة ستهلك! -وكلام آخر غير هذا- فاكتب هذه الورقة، والذي سيصورها عشر مرات سيحصل له كذا والذي لا يصدقها ولا يوزعها سيبتليه الله بكذا. والناس عادتهم دائماً يعيشون في أحلام وأوهام، فيقولون: إن أحدهم نسخها فحصل على ألف جنيه، وآخر مزقها فحصلت له مصيبة، فعلينا أن نكتبها حتى لا نصب بمثل هذا، فهذه أحلام وأوهام وغباء -ولا حول ولا قوة إلا بالله- سيعيش المسلمون عليها إلا أن يرحمهم الله سبحانه وتعالى، وإذا ظلوا في هذا الضلال وفي هذه الخرافات سيأتي لهم الكنز من غير تعب، وهكذا يأتي أحدهم فينسخ الورقة عشر مرات أو خمسة عشر مرة لأجل أن يفتح له أبواب الرزق بالكذب على النبي صلوات الله وسلامه عليه، والورقة هذه لها أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة وكل سنة تتجدد وتنزل للناس، والعلماء ينكرون وجود شخص بهذا الاسم، ولكن أعداء الإسلام هم الذين يصنعون ذلك لأجل يشغلوا المسلمين بذلك فيظلوا تائهين في الأحلام، وهذه عادة كثير من الناس، فأحدهم ينتظر متى سيأتيه اتصال على الهاتف يبشره بجائزة، ويقعد عن العمل والكسب، فلما صار المسلمون على ذلك ضعف دينهم، وأصبحت الأمم الكافرة في القمم وهم في الذيول والرمم ولا حول ولا قوة إلا بالله. فاتقوا الله في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تكذبوا على الله، ولا تكذبوا على رسول الله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في المشي إلى المساجد سيما في الظلم وما جاء في فضلها

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في المشي إلى المساجد سيما في الظُّلَم وما جاء في فضلها لقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في المشي إلى المساجد وأخبر أن الله سبحانه يُعد لمن مشى إليها نزلاً عنده في الجنة كلما غدا إليها أو راح، كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم الذين يذهبون إلى المساجد في الظُّلم -خاصة- بالنور التام يوم القيامة وأخبر أن الله ضمن لمن خرج إلى المسجد أن يرزقه وأن يكفيه ما دام حياً وإن مات أن يدخله الجنة.

فضيلة المشي إلى المساجد

فضيلة المشي إلى المساجد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح). وروى أبو داود والترمذي عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليضيء للذين يتخللون إلى المساجد في الظلم بنور ساطع يوم القيامة). رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن. وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين) رواه أبو داود. هذه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها الحافظ المنذري في كتابه الترغيب والترهيب في باب: الترغيب في المشي إلى المساجد لا سيما في الظُّلم. والمسلم إذا مشى إلى بيوت الله فإن الله يأجره على ذلك، فلا يخطو خطوة إلا ويرفع الله عز وجل له بها درجة ويحط عنه بها سيئة، بعد عن المسجد أو قرب منه، وكلما ابتعدت كلما كان الأجر أعظم، وكلما كان بيتك بعيداً عن المسجد كلما كان أفضل. وليس معنى الحديث أن الإنسان يتتبع المساجد البعيدة لهذا الفضل؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تتبع المساجد، ولكن يصلي الإنسان في مسجد حيه، حتى يأتلف مع أهل حيه، ويتعرف عليهم، ويكون معهم في صلاتهم، ويعود مريضهم، ويحضر جنازتهم، ويعرف أهل حاجتهم وهكذا. لكن الذي يكون بيته بعيداً عن المسجد لا يخطو خطوة إلا كان له بها أجر ولا يخطو أخرى إلا حط الله عز وجل عنه بها وزراً. هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (من غدا إلى المسجد أو راح) والغدو: البكور في أول النهار. والرواح في آخر النهار، وكأن الغرض أنه في أي صلاة من الصلوات من الفجر إلى العشاء كلما ذهبت إلى المسجد ورجعت إلى بيتك أعد الله عز وجل لك في الجنة نزلاً كلما غدوت أو رحت، فكلما ذهبت إلى المسجد في أول النهار أو في آخر النهار فإن الله سبحانه وتعالى يكافئك بنزل في الجنة، وأصل النزل: طعام الضيف، فالله عز وجل يعد لك ضيافتك في الجنة كلما ذهبت إلى بيت الله عز وجل. فأنت وأنت ذاهب إلى بيت الله عز وجل تعد زائراً لله سبحانه وتعالى، وقد ورد عن سلمان عند الطبراني في الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم الزائر) أنت إذا زرت إنساناً فإنه يقدم لك الضيافة، والله عز وجل من فضله جعل لك حقاً عليه وهو أن يقدم لك ضيافتك عنده في الجنة سبحانه وتعالى.

الترغيب في المشي إلى المساجد في الظلام

الترغيب في المشي إلى المساجد في الظلام لقد ورد في فضل الذهاب إلى المسجد في الظلام أحاديث كثيرة منها حديث بريدة وحديث أبي هريرة وحديث أبي الدرداء وحديث سهل بن سعد الساعدي وذكر فيه: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة). وفي رواية: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة). وهذا أصل الحديث. وفي رواية: (من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة). وفي رواية: (يبشر المشاءون في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة). ويوم القيام يوم فظيع وعظيم، وطويل، وإذا مرَّ الناس على الصراط فهم في ظلمة شديدة فالمؤمنون يعطيهم الله عز وجل نوراً كل إنسان بحسب عمله، منهم من يسطع نوره أمامه، ومنهم من يخبو نوره ويشتعل ويخبو ويشتعل، ومنهم من ينطفئ نوره. والذي يواظب على صلاة الجماعة وخاصة صلاة الفجر والعشاء له نور تام يوم القيامة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم) أي: الذين يمشون في الظلمات لصلاة الفجر وصلاة العشاء بأن لهم نوراً لا يخبو، ولا ينقطع يوم القيامة، بل لهم نور ساطع عظيم (بالنور التام يوم القيامة). ونور كل إنسان لنفسه فقط يوم القيامة، أما في الدنيا فقد يمشي في الطريق ومعه مصباح يضيء فيستضيء به الذين بجواره، أما يوم القيامة فلا يكون ذلك، فمن كان عمله صالحاً أعطاه الله نوراً ومن كان غير ذلك لم يعطه ولم ينفعه نور الآخرين، ولذلك فإن المنافقين يقولون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] فهم غير قادرين على أن يقتبسوا من نور المؤمنين، لقد رأوا المؤمنين ولهم نورهم ولكن نور المؤمنين يضيء للمؤمنين فقط ولا يضيء للمنافقين، فلا ينتفع أحد بنور أحد يوم القيامة. والذي يواظب على الصلاة في الجماعة خاصة صلاة الفجر والعشاء يبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالنور التام يوم القيامة، مع الأجر العظيم، ففي حديث أبي أمامة في سنن أبي داود: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم) يعني: إذا كان الإنسان يصلي في اليوم خمس صلوات في بيت الله عز وجل فله أجر خمس حجج على الصلوات التي يؤديها، فإذا كان في صلاة الفجر خصوصاً وجلس حتى تشرق الشمس ثم صلى الضحى فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة. ثم قال صلى الله عليه وسلم (ومن خرج إلى تسبيح الضحى -لكي يصلي صلاة الضحى- لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين) أي: وصلاة بعد صلاة، يعني: إذا صليت الصبح ثم رجعت إلى بيتك وذهبت إلى عملك على شرط: أن لا تلغو، أي: أن لا تتكلم كلاماً باطلاً ولا تقع في الكذب، ولا في الزور، حتى تصلي الصلاة التي بعدها فإنه يكتب كتابك في عليين، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:19]، {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9]. وهذه المنزلة هي التي يتنافس فيها المتنافسون، وعليون من العلو وهو أعلى الجنة، وكل إنسان يتمنى أن يكتب كتابه في عليين، وفي حديث البراء بن عازب كما في المسند وفي سنن أبي داود والذي ذكر فيه: موت الإنسان وكيف تأتيه الملائكة إذا كان مؤمناً وكيف يصعدون بروحه إلى السماء حتى يرفعونه إلى السماء السابعة، وبعد ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:19]، {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9] أي: كتاب عظيم عند رب العالمين، فيكون مكان هذا العبد عال في جنة الفردوس. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

ثلاثة ضمن الله لهم الرزق والجنة

ثلاثة ضمن الله لهم الرزق والجنة روى الإمام أبو داود حديثاً عن أبي أمامة وفيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن على الله -يعني: مضمون لهم ما وعدهم الله عز وجل به- إن عاش رزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة) وأمنية كل إنسان هي: أن يرزقه الله ويكفيه إذا عاش وأن يدخله الجنة إذا مات، قال النبي: (من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله) والإنسان الذي يتعود السلام على الخلق وعلى أهله يتعامل مع الناس بالأمن والأمان والطمأنينة فيكون سالم مسالم، لا يريد أن يؤذي أحداً من الناس، والسلام عنوان لذلك، وبعض الناس مع الغريب يقول: السلام عليكم، لكنه إذا دخل بيته يضرب هذا ويرفع صوته على هذا ويوقظ هذا مع أن النبي قال: (خيركم خيركم لأهله) فإذا سلمت حين تدخل البيت فأنت مأجور على ذلك، وسيرزقك الله سبحانه ويدخلك الجنة. فالسلام مفتاح حسن الخلق، فإذا كان خلقك حسناً فأنت تستحق من الله أن يرزقك، وأن يكفيك، وأن يدخلك الجنة، فكأن السلام عنوان حسن خلق الإنسان، ومن الناس من يدخل بيته ولا يسلم! كأن يدخل إلى الأكل والشرب مباشرة، أو يقول: صباح الخير، أو مساء الخير، وينسى التسليم الذي جاءنا به القرآن وجاءت به السنة، وهو قول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ولو أنك كلما دخلت بيتك سلمت اعتاد أهل البيت ذلك وحرسته الملائكة، فكان في سلام وطمأنينة، وأمن وبركة من الله عز وجل وهذا هو معنى قوله: إن الله عز وجل ضامن لمن دخل بيته فسلم عليهم. قال: (ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله) أي: إذا ذهبت إلى صلاة الجماعة وأنت مأمور بها فإن الله هنا من لك الرزق والجنة. فلا تضيع الجماعة، ولا تصل متكاسلاً في بيتك، وتقول: عندي عمل والصلاة ستضيع علي الوقت، الصلاة لن تضيع عليك شيئاً. أحياناً بعض الناس قد يعمل عند شخص من الأشخاص فيقول لصاحب العمل: اسمح لي أن أصلي صلاة الجماعة، وأحياناً قد يكون صاحب العمل سيء الخلق فيمنعه من الصلاة، وأحياناً يكون المصلي نفسه هو السبب في منعه من صلاة الجماعة؛ لأن صلاة الجماعة قد تأخذ من الوقت عشر دقائق، أو ربع ساعة، فيذهب يصلي في جماعة ويتأخر ساعتين فيمنعه صاحب العمل بسبب ذلك، فالعمل عليك واجب لأنك تأخذ عليه أجراً، فاعط العمل حقه، وصلاة الجماعة لها قدر معين، فالله لم يأمرك أن تصلي صلاة الجماعة ساعتين، فتصلي في المسجد ثم تتكلم مع هذا وتتحدث مع هذا، ثم بعد ذلك تأتي إلى العمل، فإذا أردت أن تصلي صلاة الجماعة فاذهب وقت صلاة الجماعة، ثم صل ركعتين، ثم ارجع إلى عملك عندئذٍ يعرف صاحب العمل أنك أمين مع الله عز وجل، وستكون أميناً على عملك. وإذا تركت الصلاة لست مأموناً على دينك ولذلك لن تكون مأموناً على عملك، والله سبحانه وتعالى لا يجعل صاحب العمل في كثير من الأحيان يحب تارك الصلاة ويتمسك به. وكثير ممن ترك الصلاة يذهب يبحث عن عمل فلا يقبله صاحب العمل أبداً، بخلاف المحافظ على الصلاة فإنهم يحبونه ويقولون عنه: إنه أمين وإنه ممتاز. فيجب عليك أن تؤدي الأمانات إلى أصحابها، وأمانة الله عز وجل الصلاة فتؤديها في وقتها، وتصليها حيث ينادى بها، وأمانة صاحب العمل إن تواظب على عملك في وقته ولا تفرط فيه، وسوف تؤجر على هذا كله. فإذا كنت تصلي الصلوات المكتوبات في بيت الله عز وجل فالله ضامن أن يرزقك ويكفيك سبحانه وتعالى، وإذا مت أن يدخلك الجنة. قال: (ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله) أي: ومن خرج مجاهداً في سبيل الله عز وجل فهو ضامن على الله أن يرجعه بأجر وغنيمة أو يستشهد فيكون في أعلى عليين.

أحب البلاد إلى الله وأبغضها إليه

أحب البلاد إلى الله وأبغضها إليه روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها). وفي المسند عن جبير بن مطعم: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي البلاد أحب الله؟ وأي البلدان أبغض إلى الله؟ -والبلاد هنا بمعنى: المواطن والأماكن- فقال: لا أدري حتى أسأل جبريل، فأتاه جبريل فأخبره أن أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق). فلا تشبه المسجد بالسوق أبداً، فالمسجد بيت الله عز وجل يجب عليك أن تحترمه وتعظمه، والسوق مكان الشيطان وفيه يرفع رايته. ففي السوق الكذب، والغدر، والخداع، والغش، والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل، وفيه هيشات وصخب وضجيج، أما المسجد فلا يكون كذلك أبداً، ولذلك نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المسجد وقال لنا: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تبن لهذا). فالمسجد لا يشبه بالسواق أبداً، فلا ترفع فيه الأصوات، ولا تكون فيه عقود البيع والشراء والإجارة ونحوها، ولا يكون فيه أمور تؤذي المصلين، كما أن الأسواق فيها الرائحة الكريهة، والمساجد يجب أن يكون فيها الروائح الطيبة، فلا تؤذي أحداً في المسجد لا بصوت ولا بكلام ولا بضجيج، ولا ترفع صوتك إلا محتاجاً إلى ذلك، سواء كنت عالماً أو متعلماً سائلاً أو مسؤلاً، وقد ترفع صوتك بالقراءة كصلاة الجماعة مثلاً، أو في مجلس علم بشرط ألا تؤذي أحداً من المسلمين. وبعض الإخوة يدخل المسجد وقد ضبط ساعته على وقت معين فتنبهه الساعة في المسجد وهذا تشبيه لها بالأسواق لأنه لم يحترمها، وكذلك التلفون قد يدخل به المسجد وينسى أو يتعمد بأن يتركه حتى يدخل في الصلاة، ثم يتصل به فإذا بالتلفون يشغل المصلين، والتلفونات أصبحت كلها موسيقى وأشياء تجعل الملائكة تنفر من المكان التي هي فيه؛ فلا تأت المسجد بالتلفون حتى لا تطرد الملائكة من المسجد، وحين تأتي إلى المسجد ضع تلفونك في بيتك ولا تأت به إلى المسجد وإذا جئت به فأغلقه. وقد يقول قائل: إذا كانت نغمة التلفون موسيقى لكن على لحن الأذان؟ A الأذان لا يصلح فيه هذا أصلاً، والذي يأذن ويتغنى في الأذان واقع في الحرام فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه دخل مسجداً فسمع المؤذن يتغنى في الأذان، فلما سمع المؤذن يتغنى لم يصل في المسجد الذي فيه ذلك، فلحقه المؤذن وقال: ما هذا يا أبا عبد الرحمن والله إني لأحبك في الله. قال أبو عبد الرحمن: والله إني لأبغضك في الله. فقال: ولم يا أبا عبد الرحمن؟ -وعبد الله بن عمر صحابي فاضل وهذا المؤذن تابعي- فقال له: لأنك تتغنى بالأذان وتأخذ عليه أجراً. والتغني يكون في قراءة القرآن وليس في الأذان، فكأنه يقول له: تريد أن تشبه الأذان بالقرآن؟ والتغني لا يكون إلا في قراءة القرآن فقط، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن). فلا تقنت في الصلاة أو تدعو في الصلاة وتغني فيه وتقول: إن الناس يعجبهم هذا، وإلا فكل إنسان سيفعل مثل ذلك حتى يشبه الكلام العادي بكتاب الله عز وجل. فالتغني فقط بالقرآن لا بالأذان ولا بالدعاء ولا بغيره. جاء عن أحد السلف أنه دخل المسجد ثم خرج وقال: أخرجتني البدعة -قد يكون ابن عمر أو غيره- وذلك لأنه سمع المؤذن يتغنى بالأذان. فإذا كان التغني بالأذان ممنوع منه فما بالك بالموسيقى التي على صوت الأذان، وليست بأذان أصلاً، فلا يجوز لك أن تدخل بها بيت الله سبحانه وتعالى، وقد تكون معذوراً بأن تكون محتاجاً لهذا الجهاز وفيه نغمات الموسيقى، لكن ليس معنى ذلك أن تدخل به المسجد والله أعلم. نكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في لزوم المساجد والجلوس فيها

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في لزوم المساجد والجلوس فيها إن من الأهوال التي يلقاها أهل المحشر يوم القيامة أن يدني الله عز وجل منهم الشمس حتى تكون منهم بمقدار ميل، إلا أن الله سبحانه يصطفي منهم ثلة لا يضرهم ما ضر الناس، ولا يسوؤهم ما ساءهم، منهم: رجل قلبه معلق بالمساجد، فلا يكاد يخرج منها إلا اشتاق إليها من جديد، فهو لله ومع الله، وكذلك كان الله معه، وسخر ملائكته لأجله، فيفتقدونه إذا غاب، ويعودونه إذا مرض، ويعينونه إذا احتاج.

حب المسجد والتعلق به صفة من صفات المؤمنين

حب المسجد والتعلق به صفة من صفات المؤمنين الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). وروى ابن أبي شيبة وابن ماجه وابن خزيمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم). وفي رواية: (ما من رجل كان توطن المساجد فشغله أمر أو علة ثم عاد إلى ما كان إلا يتبشبش الله إليه، كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم). هذه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها الحافظ المنذري في الترغيب في لزوم المساجد والجلوس فيها. فالمسلم يحب بيت الله سبحانه وتعالى، وفيه يصلي، وفيه يتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكتاب ربه سبحانه، وفيه يحضر مجالس الذكر، ويقوم لله عز وجل متهجداً، وفيه يحافظ على عمله وسمعه وبصره، ويبتعد عن الملاهي والمعاصي التي تبعده عن الله سبحانه وتعالى. فهو مواظب على بيت الله سبحانه، يمضي كثيراً من وقته فيه، فيكون متوطناً في بيت الله سبحانه وتعالى. فهذه الأحاديث فيها الترغيب في لزوم المسجد. فينبغي على المسلم أن يقسم وقته ما بين نومه وعمله، وعبادته لله سبحانه وتعالى. فيواظب على الصلوات المكتوبات في المساجد، ويواظب على الجلوس في الأوقات المستحبة في بيت الله سبحانه وتعالى، كأيام وليالي الاعتكاف مثلاً، وساعة إجابة الدعاء يوم الجمعة، وما بين الفجر إلى طلوع الشمس، وآخر وقت صلاة الضحى، وانتظار الصلوات. وهناك أوقات خاصة لأهله، حيث لا يجلس الإنسان في المسجد ويترك أهله ويضيعهم، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول). فالمسلم يعمل ويكتسب رزقه حتى ينفق على أهله، فإذا عمل ما عليه وبقي عنده وقت فراغ فبيت الله عز وجل أولى به، فيكون حاضراً لدروس العلم فيه، ذاكراً لله سبحانه وتعالى، فالاجتماع في بيت الله فيه فضل عظيم كما سيأتي في هذه الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان صفات الذين يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة

بيان صفات الذين يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، إذ يوم القيامة تدنو الشمس من الرءوس، وهو يوم طويل جداً يقدر بحسابنا كخمسين ألف سنة، فتدنو الشمس من رءوس الخلق فإذا بهم يعرقون عرقاً شديداً، ولا يوجد لهم مكان يختبئون ويحتمون فيه من الشمس، وينجون من العرق الذي يغطي أرجلهم، وقد يغطي رءوس بعضهم، فمن لم يبذل عرقه في الدنيا لله سبحانه وتعالى، يبذله في هذا اليوم العظيم، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، وأن يظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله.

الإمام العادل تحت ظل العرش

الإمام العادل تحت ظل العرش يوم القيامة يظل الله عز وجل سبعة من خلقه في ظله يوم لا ظل إلا ظله منهم: الإمام العادل، أي: الحاكم العادل الذي يحكم بشرع الله عز وجل، فيحكم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويسير على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وغيرهم ممن اتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسار على منهجه صلوات الله وسلامه عليه.

الشاب التقي تحت ظل العرش

الشاب التقي تحت ظل العرش الثاني: شاب نشأ في عبادة الله عز وجل، يعني: منذ طفولته وهو يعبد الله سبحانه وتعالى فشب على ذلك، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يحفزنا أن نربي أولادنا على طاعة الله وحسن عبادته فيقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) فإذا أصبح الطفل يفهم ويميز الخطأ من الصواب، الطيب من الخبيث فعلينا أن نعلمه كيف يصلي، وكيف يتوضأ، فإذا نشأ وشب وبلغ كان قد تعلم كيف يصلي وكيف يخاف من الله رب العالمين، فلا يزال على الخير، عابداً لربه سبحانه، خائفاً منه عز وجل؛ لأنه نشأ على حب الحلال، وعلى الخوف من الحرام، وعلى مراقبة الله سبحانه وتعالى، وعلى طاعة الله وعبادته، فهذا يظله الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله. يقول الله تعالى مخاطباً عباده: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، فالمسلم يقي نفسه وأولاده وأهله هذه النار يوم القيامة، ويقيهم حر الشمس في ذلك اليوم الطويل العظيم، فينشئ أولاده على الفضيلة وعلى طاعة الله عز وجل، وينشئ بناته على حب الله عز وجل، وعلى الحجاب الشرعي، وعلى طاعة الله سبحانه. فاحرص على تربية أولادك وبناتك على طاعة الله سبحانه وتعالى، وعلى الالتزام بدين الله وحفظ كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

أهل المساجد تحت ظل العرش

أهل المساجد تحت ظل العرش الثالث: قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل قلبه معلق في المساجد) والإنسان المؤمن يحب بيته، ويحب بيت الله عز وجل أكثر من حبه لبيته، ففي بيت الله الثواب والأجر، وهو المكان الذي تحفه الملائكة، وتدعو له فيه، وهو المكان الذي يزور فيه ربه سبحانه، وحق على المزور، -وهو الله عز وجل- أن يكرم زائره - وهو هذا الإنسان المصلي - فهو يأتي إلى بيت الله ليقبل على الله وهو محب لبيت الله سبحانه وتعالى، وإذا ذهب إلى عمله فعقله يفكر في الصلاة القادمة وفي وقت ذهابه إلى بيت الله سبحانه وتعالى، ولذلك فهو يستريح في صلاته، وليس من الممكن أن يصل حب أحد لبيت الله إلى حب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يتمثل ويتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأتسي ويقتدي به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الصلاة: (أرحنا بها يا بلال)، وكان إذا أهمه شيء وضاق صدره بشيء قال لـ بلال: (أرحنا بها) فينادي بالصلاة ليستريح بها، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (جعلت قرة عيني في الصلاة)، فقرة العين وطمأنينة القلب وراحة البدن في الصلاة لله سبحانه وتعالى، مع أن الصلاة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم متعبة جداً له، فقد كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، ولكنه يستشعر حلاوة الطاعة التي تنسيه تورم القدمين وتجعله يواظب على ذلك، صلوات وسلامه عليه. وقوله: (رجل قلبه معلق بالمسجد)، جاء في رواية أخرى: (إذا خرج منه حتى يعود إليه) أي: إذا خرج من المسجد ظل قلبه معلق بالمسجد، حتى يرجع إليه في الصلاة التالية.

الحب في الله سبب للاستظلال بظل العرش

الحب في الله سبب للاستظلال بظل العرش الرابع: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)، فهذان رجلان كل همهما أن يجتمعا على طاعة الله سبحانه وتعالى، فقد تحابا لا لدنيا، ولا لمنصب، ولا لفائدة -يستفيدها أحدهما من الآخر، فإذا حصل عليهما ترك صاحبه- بل حب أحدهما أخاه؛ لأنه مطيع لله، والآخر أحبه لذلك، فاجتماعهما كان على ذلك، وسواء اجتمعا فتكلما أو لم يتكلما، فهما متحابان في الله، ولعلهما يأتيان إلى المسجد فيصليان ويسلم أحدهما على الآخر ثم ينصرفان، ولكن في قلب كل منهما حب صاحبه على هذه الطاعة في الله سبحانه وتعالى، فاجتماعهما على طاعة الله سبحانه، فإذا تفرقا تفرقا على طاعة الله سبحانه وتعالى.

العفة عن الزنا عند توفر دواعيه سبب للاستظلال بظل العرش

العفة عن الزنا عند توفر دواعيه سبب للاستظلال بظل العرش الخامس: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) فهذا رجل آخر ممن يظلهم الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله، وهو رجل تعرض للفتنة، بأن اعترضته امرأة ذات منصب وجمال، فراودته عن نفسه، فإذا به يعتصم بربه سبحانه، ويستجير به، ويستعيذ بالله منها ومن الشيطان، ويبتعد عن ذلك، يقول: إني أخاف الله. وهذه امرأة ذات منصب وجمال، فمنصبها يجعلها ذات تستقوي على هذا الإنسان وتخيفه بمنصبها، وتدعوه هي إلى نفسها، ومع ذلك يلتجئ إلى ربه ويعتصم به، ويبتعد عن الفتنة، ولا يخاف من منصبها، فالله سبحانه وتعالى يكرم هذا العبد بأن يجعل في قلبه حلاوة الإيمان؛ لأنه ابتعد عن الفتن، ويجعله يوم القيامة ممن يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

الصدقة الخالصة يوم المحشر

الصدقة الخالصة يوم المحشر السادس: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهذا على وجه المبالغة الشديدة بأن يخرج الصدقة من جيبه ويبالغ في إخفائها فلا يراها أحد حتى يعطيها الفقير، والصدقة في السر أفضل، وهذا هو الغالب فيها، وأحياناً قد يكون لها فضيلة في العلانية، وخاصة إذا كانت من زكاة المال، ويرجو إذا أخرجها ودفعها لإنسان أن يقتدي غيره به، لكن الغالب أن الإنسان إذا أخفى صدقته كان هذا أعظم لأجره، ويدخل تحت هذا الحديث.

جزاء البكاء من خشية الله

جزاء البكاء من خشية الله السابع: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، وهذا رجل ذكر الله خالياً فبكي من خوف الله سبحانه وتعالى. وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) والمعنى: لا تمس النار صاحب هاتين العينين، وهما: عين إنسان جندي يحرس في سبيل الله سبحانه وتعالى، والآخر: إنسان بكى من خوف الله سبحانه. والبكاء قد يكون في جماعة، بأن يصلي إنسان مع جماعة فتحدث له رقة وبكاء فيبكى، فهذا مأجور، وقد يكون الإنسان خالياً مع الله -وهو وحده- فيتذكر ربه سبحانه، ويتذكر الحساب يوم القيامة، فيبكي خوفاً من يوم القيامة، فهذا أبعد من الرياء، وهو ممن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

فضل لزوم المسجد والجلوس فيه

فضل لزوم المسجد والجلوس فيه من الأحاديث الواردة في فضل لزوم المساجد والجلوس فيها: حديث رواه ابن ماجه وابن أبي شيبة وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما توطن رجل المساجد بالصلاة والذكر، إلا تبشبش الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم). والتبشبش: هو الفرح بمجيء الغائب، فلو أن قريبك غاب عنك ثم حضر بعد سفر طويل، فإنك ستفرح به وتقبل عليه، ولله المثل الأعلى فالله سبحانه وتعالى يفرح بعبده الذي يتوب إليه ويتوطن بيته. وفي رواية أخرى لهذا الحديث: (ما من رجل كان توطن المساجد فشغله أمر أو علة ثم عاد إلى ما كان، إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم)، وهنا الإنسان الذي تعود على المسجد، وعلى الصلوات فيه، قد يعرفه أهل المسجد، وقد لا يعرفونه، ولكن يقيناً يعرفه ربه سبحانه، وتعرفه ملائكة الله عز وجل، فإذا غاب هذا الإنسان تفقده الناس، والملائكة أشد افتقاداً له. فالله عز وجل يصبر على عبده، فإذا رجع إلى بيته تبشبش إليه وفرح به، وأقبل عليه بفضله وبثوابه وبرحمته سبحانه وتعالى. وهنا ضرب لنا مثلاً صلى الله عليه وسلم بالغائب الذي يغيب عن أهله ثم يرجع إليهم، حيث يستقبلونه بالترحاب والفرح والسرور، فالله عز وجل يقبل على عبده كذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فشغله أمر أو علة) أي: انشغل بأمر من الأمور فلم يعد يحضر المسجد، أو ألم به مرض من الأمراض فانقطع عن المسجد بسبب مرضه، ثم رجع إلى المسجد إلا أقبل الله عز وجل عليه بفضله ورحمته سبحانه وتعالى وفرح به. ومن الأحاديث: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ست مجالس المؤمن ضامن على الله تعالى) ومعنى: ضامن على الله أي: أن الله يكفيه إذا عاش فيعطيه رزقه، ويكفيه سبحانه وتعالى إذا مات فيعطيه الأجر عنده سبحانه، فهذا ضمان الله عز وجل لهذا العبد. وهذه الست هي قوله: (في مسجد جماعة) أي: مواظبة الإنسان على الصلاة في مسجد الجماعة. قال: (وعند مريض) أي: عيادة المرضى، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من عاد مريضاً فهو في مخرفة من مخارف الجنة) يعني: في بستان من بساتين الجنة، (ويستغفر له سبعون ألف ملك) أي: للإنسان الذي يعود مريضاً. قال: (أو في جنازة) أي: حضوره جنازة، فإن من حضر جنازة كان له أجر عظيم، وأعطاه الله بركة في رزقه، ورزقه سبحانه وتعالى بذلك، إذ نظرة الإنسان غالباً ما تكون نظرة مادية، فيخاف إن حضر الجنازة أن يضيع عليه رزقه، فهنا يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من حضر الجنازة تكفل الله له برزقه، ولن ينقص من رزقه شيئاً، ومن عاد مريضاً فلن يضيع الله وقته وجهده أبداً. قال: (أو عند إمام مقسط يعزره ويوقره) يعني: عند إمام عادل يقوم معه بأمره، ويعينه على طاعة الله، وعلى الحكم بالعدل بين الناس. قال: (أو في مشهد جهاد) يعني: في سبيل الله عز وجل. وجاء في حديث آخر رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للمساجد أوتاداً الملائكة جلساؤهم، إن غابوا يفتقدونهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم، ثم قال: جليس المسجد على ثلاث خصال: أخ مستفاد، أو كلمة حكمة، أو رحمة منتظرة). الحديث فيه: أن للمساجد أوتاداً كأنها أصول للمساجد، وكما يقولون: الخيمة لها أوتاد، ولن تقوم إلا بهذه الأوتاد، فكأن المسجد قائم بهؤلاء، ففي المساجد ترى أناساً هم لها أصولاً، وترى آخرين يحضرونها مرة ومرة لا يحضرون. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لنا: المساجد لها أوتاد، ولم يقل: إن كل المسلمين هم أوتادها، إذاً: البعض من الناس هم الأوتاد، وهم المواظبون على الحضور في صلوات الجماعة، والمواظبون على طاعة الله سبحانه وتعالى، المحبون لبيت الله، والمعلقة قلوبهم به. وقوله: (الملائكة جلساؤهم)، أي: إذا جلسوا فالملائكة تجلس معهم، وإذا غابوا تفقدهم، وتبحث عنهم. وقوله: (وإن مرضوا عادوهم)، أي: إذا كانوا مرضى فإن الملائكة التي كانت تقعد معهم في بيت الله تذهب إليهم في بيوتهم وتعودهم. قال: (وإن كانوا في حاجة أعانوهم). ثم قال صلى الله عليه وسلم (جليس المسجد -أي: من يقعد في المسجد- على ثلاثة خصال: أخ مستفاد) أي: يجلس في المسجد فيكسب أخاً في الله سبحانه وتعالى. قال: (أو تسمع كلمة حكمة، أو رحمة منتظرة)، أي: تسمع كلمة حق وحكمة، أو تنتظر الصلاة، فعندما تجلس صامتاً تنتظر لصلاة فأنت منتظر لرحمة الله عز وجل. نسأل الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

آداب المساجد

شرح الترغيب والترهيب - آداب المساجد المسجد يعد مهد الانطلاقة الكبرى، وهو بيت الله، ويكفيه شرفاً ومكانة أنه مضاف إلى الله إضافة تشريف. ولما كان للمسجد هذه المكانة العالية فقد سنت له أحكام ينبغي مراعاتها والالتزام بها.

المساجد وآدابها

المساجد وآدابها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. إن المسجد بيت الله سبحانه وتعالى، شرفه الله سبحانه بأن نسبه إليه، يقال: بيت الله، فأضافه إليه سبحانه وتعالى، وسمي المسجد مسجداً من السجود، والسجود أشرف الهيئات التي يكون عليها العبد، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فسمي المسجد مسجداً لكثرة السجود فيه، وإن كان في المسجد القيام والقعود والركوع والسجود، ولكن أشرف الهيئات هيئة السجود، فأخذ من ذلك اسم المسجد الذي يسجد فيه العبد ويجعل وجهه على الأرض طاعة وعبادة لله سبحانه تبارك وتعالى. وقد جاء النهي عن تصغير المسجد، فلا يجوز أن نقول مسيجد، فالمسجد معظم ومكبر، وكذلك المصحف فإنه عظيم لا يجوز أن يصغر فيقال: مصيحف، فهذا حرام لا يجوز، المصحف عزيز كبير جليل، حتى وإن كان خطه وحجمه صغيراً، لكن لا يجوز تصغيره، فلا يقال: مصيحف ولا مسيجد، وإنما يقال: المسجد بيت الله سبحانه، والمصحف كتاب الله سبحانه وتعالى. المسجد له أحكام عظيمة، ويكفي أنه بيت الله سبحانه حتى نتأدب فيه، ويكفي أن الثواب فيه ثواب عظيم، فإذا أتيت إلى بيت الله من بيتك فكل خطوة تخطوها فيها أجر وثواب: ففي الخطوة الواحدة يرفعك الله عز وجل بها درجة، ويعطيك بها حسنة، ويكفر عنك بها سيئة، بل إن كل خطوة من الخطوات التي تأتيها إلى بيت الله في يوم الجمعة لك في كل خطوة منها أجر سنة قيامها وصيامها، وهذا في المجيء من البيت إلى المسجد، وفي فكيف بالمكث في المسجد والجلوس فيه للذكر ونحوه. لذلك لابد وأن نفرق بين بيت الله المسجد وبين غيره من البيوت والأماكن. فإذا جئنا إلى بيت الله احترمناه، وتعلمنا كيف نصلي فيه، وكيف نتأدب فيه، وإذا أتينا بأولادنا إلى بيت الله فليكن الولد في سن التمييز حتى يتأدب في بيت الله، فإذا أمر يأتمر وإذا نهي ينزجر. فنأتي بمن يحترم بيت الله، ولا نأتي بمن يهين بيت الله سبحانه ويمزق المصاحف، ويكتب عليها ويتبول على أرض في المسجد، ويلعب ويعبث والناس يصلون. وإذا نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت بالقرآن في بيت الله فمن باب أولى أن نكون منهيون عن رفع الصوت بالكلام المباح الذي يزعج بعضنا بعضاً، وأن نأتي بصبيان أو ببنات صغار يزعجون المصلين أثناء صلاتهم أو دروسهم.

حرمة مكث الجنب في المسجد

حرمة مكث الجنب في المسجد أحكام المساجد كثيرة منها: أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، وكذلك من في حكمه كالحائض، فالجنابة ليست نجاسة والحيض نجاسة فمن باب أولى أن يحرم على الحائض، فليس للجنب ولا للحائض أن يمكث في المسجد، ولكن مع الحاجة يجوز المرور فيه، قال الله سبحانه: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة وهي حائض: (ناوليني الخمرة من المسجد) فدل القرآن ودلت السنة على جواز العبور والمرور للحاجة، أما الجلوس والمكث فلا، فقد نهانا الله عز وجل في القرآن، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، ولكنه أثبت المرور فقط للمرأة الحائض. ولو احتلم إنسان في المسجد كأن يكون معتكفاً فيه وجب عليه الخروج منه، كما يجب عليه أن يغتسل فإن وجد مكان في المسجد للاغتسال وإلا فيلزمه أن يسارع بالاغتسال في بيته فيغتسل ويرجع إلى المسجد مرة ثانية.

جواز المكث في المسجد لمن أحدث حدثا أصغر

جواز المكث في المسجد لمن أحدث حدثاً أصغر ومن الأحكام: أنه يجوز للمحدث حدثاً أصغر الجلوس في المسجد، والحدث الأصغر غير الجنابة، يكون من بول أو غائط أو خروج ريح لم يتوضأ بعده، فيجوز للإنسان أن يجلس في المسجد وهو على غير وضوء، لكن الأفضل والأكمل أن يكون على وضوء، فإذا كان على وضوء وجلس في المسجد ينتظر يكتب له أجر الصلاة وكأنه يصلي، سواء جلس لغرض شرعي كانتظار صلاة أو اعتكاف أو لسماع قرآن أو للتعلم أو لاستماع موعظة فيجوز له أن يجلس على وضوء أو على غير وضوء لكن الأفضل أن يكون على وضوء.

جواز النوم والأكل في المسجد

جواز النوم والأكل في المسجد ويجوز النوم في المسجد للحاجة، وهذا للمعتكف، وكذلك الذي ينتظر الصلاة يجوز له أن ينام في المسجد، لكن ينبغي أن لا يكون المسجد مكاناً للنوم، كان يأتي إنسان من العمل لكي ينام في المسجد ولا يصلي ولا يذكر الله، فالمسجد ليس مناماً للناس، ولكن يكون النوم مع الصلاة كأن يكون منتظراً للصلاة، أو أنه سيقوم الليل في المسجد. ولا بأس بالأكل والشرب في المسجد ووضع المائدة فيه وغسل اليد فيه، فيجوز للمعتكفين الأكل والشرب في المسجد ولكن مع مراعاة نظافة أرض المسجد، وعدم تقذير فراشه. فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي كانت تقم المسجد وصلى على قبرها لكونها كانت تنظف المسجد لذلك ينبغي الحرص على نظافة المسجد.

نهي من أكل ثوما أو بصلا عن الصلاة في المسجد

نهي من أكل ثوماً أو بصلاً عن الصلاة في المسجد وليس لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو غيرها مما له رائحة كريهة فبقيت رائحته في فمه أن يدخل المسجد من غير ضرورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، ونهى من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أن يقرب المسجد، بقوله: (من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مسجدنا). إذاً فمن كانت رائحة فمه غير طيبة لا يجوز له أن يدخل المسجد فيؤذي الملائكة، وليس معنى ذلك أن يتعمد قبل الصلاة أن يأكل ثوماً أو بصلاً بحيث يكون له بذلك رخصة تسمح له عدم المجيء إلى المسجد، ولكن الإنسان يحتاط، فإذا حدث وأكل ثوماً أو بصلاً فلا داعي أن يأتي المسجد؛ لأنه يؤذي الملائكة بذلك.

النهي عن البصاق في المسجد والبول والحجامة ونحوه

النهي عن البصاق في المسجد والبول والحجامة ونحوه جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانت أرضية المسجد عبارة عن حصى وتراب فكان أحدهم يبصق في أرض المسجد؛ لأنها تراب ثم يدفنها ويغطيها، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان الذي يبصق في المسجد قد أتى خطيئة، والخطيئة الذنب الكبير، والبصاق خطيئة، وكفارة هذه الخطيئة أن يدفنها، هذا إذا كانت الأرض أرضاً ترابية، أما إذا كانت الأرض سجاداً ونحوها فيحرم عليه أن يفعل ذلك ولا يكفي أن يدفنها بل لابد أن يغسلها ويزيل هذا الأثر من الأذى الذي تركه في المسجد. كما يحرم البول والفصد والقيء والحجامة على أرض المسجد. وغالباً ما يكون في المسجد دورات مياه فالإنسان الذي يريد أن يقضي حاجته فعليه أن يقضيها في دورات المياه، فعلى المسلم أن يراعي حرمة المسجد، فكثيراً ما تجد بعض الإخوة أو الأخوات يأتون بأبنائهم، إلى المسجد، فيتبول الابن أو البنت في أرض المسجد فلا يلقي الأب لذلك بالاً ولا ينظف مكان البول، وهذا حرام، وليس الذنب على الطفل إنما الذنب على أبيه أو على أمه الذي أتى به وقذر به أرض المسجد. فلنتق الله سبحانه تبارك وتعالى في بيوت الله، فإذا أتى الإنسان بابنه إلى المسجد فليكن في سن التمييز -في سن سبع سنوات فما فوقها- بحيث يفهم فإذا قلت له اسكت سكت، وإذا قلت له صل صلى مع الناس، ولا يتبول على أرض المسجد. ويجوز التبرع بالدم في المسجد، مع الحاجة لذلك، وأحياناً تكون هناك حملات للتبرع بالدم والغالب على أصحابها أن لديهم أدوات بحيث لا ينزل الدم على الأرض، ففي هذه الأحوال يجوز التبرع في المسجد، لكن إذا كان الذي يقوم بهذا الأمر لا يحتاط لذلك وينزل الدم على أرض المسجد فيحرم هذا الشيء؛ لأن الدم نجس، وهو بذلك ينجس أرض المسجد. كما يحرم إدخال النجاسة إلى المسجد، ومن كان على بدنه نجاسة أو به جرح فإن خاف تلويث المسجد حرم عليه دخوله. فلا يجوز لأحد أن يأتي بشيء نجس ويجعله بداخل المسجد، وبعض الناس يذبح الأضاحي ثم يأتي بجلود الأضحية إلى داخل المسجد، وهذا خطأ، فجلد الأضحية الغير مدبوغ نجس ولا يكون طاهراً إلا إذا دبغ، ولو كان الإنسان على بدنه نجاسة فلا يجوز له أن يدخل المسجد بهذه النجاسة إلا أن يزيلها. وقد يكون الإنسان مجروحاً في يده أو في رجله، فإن كان الجرح طرياً ينزل منه دم، فلا داعي أن يدخل المسجد فينجس أرض المسجد، وإن كان جافاً فيحتاط بشاش أو نحوه وفي هذه الحالة يجوز له أن يدخل المسجد.

كراهية زرع الشجر داخل المسجد

كراهية زرع الشجر داخل المسجد ويكره غرس الشجر في المسجد، فالمسجد مكان موقوف للصلاة، والشجر فيها فائدة للناس فهم يأكلون منها، والطيور تأكل منها، وإذا كانت داخل المسجد فلا فائدة منها، فالمسجد يوسع للناس، فقد كان في أرضية مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نخل فأمر بقطعها وجعلها في عضادتي المسجد، فلا يصح أن يوضع أو يزرع الشجر في داخل المسجد وإنما جنبي المسجد، فيكون المسجد فضاء بحيث يستطيع الناس أن يصلوا فيه فلا تنقطع الصفوف، ويكره كذلك حفر البئر في المسجد لغير حاجة.

تحريم الخصومة والبيع والشراء داخل المسجد

تحريم الخصومة والبيع والشراء داخل المسجد ويمنع أهل المسجد من الخصومة في المسجد، فالمسجد للصلاة والذكر ودروس العلم، وما والاه. أما الخصومة فلا تجوز في المسجد كأن يتعارك اثنان على أمر دنيوي، أو أن يأتي صاحب حاجة يبحث عن من أخذ ماله في المسجد. فقد حدث مرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أن تخاصم اثنان في مال فقد كان كعب عليه مال لـ ابن أبي حدرد، وجاء ابن أبي حدرد في المسجد وكأنه لم ينتبه أن النبي صلى الله عليه وسلم موجود وقال له: هات الذي عليك، فارتفع صوته هو والآخر، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقال لـ ابن أبي حدرد: (ضع الشطر -أي: ضع شطر المال الذي تطلبه فهذه المجادلة ليس مكانها المسجد- فالرجل قال: أفعل، قال النبي صلى الله عليه وسلم للآخر: قم فاقضه)، وأنهى الخصومة صلى الله عليه وسلم. فالمسجد ليس محلاً لسماع القضايا المالية، ولا يجوز فيه البيع ولا الشراء ولا الإجارة ولا نحوها من العقود. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا) فلو أضاع إنسان مالاً داخل المسجد، أو ضاع منه مال خارج المسجد فجاء المسجد فسأل الناس عن ماله، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بأن قال: لا تنشد الضالة في المسجد، وإنما دعى على الذي ينشد ضالته حتى يمتنع عن فعله، وحين يعرف أن جزاءه أن يقول الناس له: نسأل الله أن لا تجد هذا المال فإنه سيمتنع من إنشاده داخل المسجد، فالمساجد لم تبن للخصومات، ولا لرفع الأصوات. أيضاً في البيع والشراء قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك) فإذا أتى إنسان بسلعة ويريد أن يبيعها في المسجد فادع عليه بلا أربح الله تجارتك؛ لكي يمتنع عن فعل ذلك في المسجد. فالمسجد سوق للدار الآخرة، ولذلك كان بعض التابعين عندما يجد إنساناً يتكلم في البيع والشراء يقول: يا هذا! إن هذا سوق الآخرة اذهب إلى سوق الدنيا، فبيت الله لذكر الله سبحانه وللصلاة. روى مسلم عن بريدة رضي الله عنه أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دل على الجمل الأحمر، والجمل الأحمر من الأموال النفيسة عند العرب، فالرجل ضاع منه جمل أحمر، فذهب ينشده في المسجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وجدته لا وجدته؛ إنما بنيت المساجد لما بنيت له). إذاً فالإنسان الذي ضاع منه شيء إذا أراد أن ينادي بالبحث عنه فليكن ذلك خارج المسجد إما في السوق أو يعلن في أي مكان آخر. جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عنه البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر)، وهذا من عادة أهل الجاهلية، فقد كانوا عندما يتقابلون في سوق عكاظ يقول هذا شعراً والثاني يرد عليه بشعر مثله، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك داخل المسجد. أما الشعر في شيء تعليمي كأن تكون قصيدة في علم من العلوم كالفقه أو أصول الفقه أو مصطلح الحديث، فهذا جائز، وكذلك أن يكون هذا الشعر فيه مدح لدين الله عز وجل أو دفاع عن دين الله فهذا قد حدث في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره صلوات الله وسلامه عليه. روى البخاري أيضاً في الحديث نفسه (نهى أن ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة) فخطبة الجمعة هي الموعظة فلا معنى إذاً في عشرين موعظة في المسجد يوم الجمعة، فيجلس الناس حلقة قبل الجمعة كل واحد يأتي بموعظة سواءً قبل الخطبة أو بعدها مباشرة. فقبل الخطبة الأفضل أن ينشغل الناس بالذكر وقراءة القرآن وبالصلاة، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي يأتي المسجد يوم الجمعة، فقال: (من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع وأنصت ولم يلغ كتب له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها) وجاء في حديث آخر قال: (فجاء إلى بيت الله فصلى ما كتب له) يعني جاء ينتقل قبل أن يأتي الإمام، ولما جاء الإمام جلس ليستمع لخطبة الجمعة، فلو أن الناس تحلقوا قبل الجمعة، فستضيق كل حلقة على الناس المكان، فلا يستطيع الناس الجلوس، فسد النبي صلى الله عليه وسلم الذريعة من أولها، فنهى عن عمل حلقات قبل صلاة الجمعة لكي يكفي المسجد للجميع فيصطف الناس صفوفاً فيكفيهم بيت الله سبحانه وتعالى، وأيضاً لا ينشغل الناس عن الصلاة وعن الذكر بالكلام قبل الصلاة. روى البخاري عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كنت قائماً في المسجد فحصدني رجل -أي: رماني بالحصى- فنظره فوجده عمر رضي الله عنه، وقد فعل ذلك لئلا يرفع صوته، وإنما أراد أن يناديه فرمى عليه الحصى فانتبه السائب حين أبصر الحصى وذهب إلى عمر رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين، وكانا يتكلمان بصوت مرتفع، فأتى له بهما فقال: من أين أنتما؟ أو من أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، فمن الواضح أنكما جهلة لا تعرفانت، فعذرهما بجهلهما، فقال: ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فأنكر عليهما رضي الله عنه ذلك. ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم له فضيلة عظيمة، وكل المساجد لها فضيلة فهي بيوت الله سبحانه، فما لا يباح في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يباح في غيره أيضاً، فعلى ذلك لا ينبغي للمسلم أن يرفع صوته بخصومة ولا بنداء ولا بغيره في بيت الله سبحانه إلا إن يحتاج إلى شيء فيتكلم بصوت منخفض. فيصان المسجد عما يؤذيه ويؤذي المصلين فيه، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه لا يجوز، وكذلك توسيخهم لفراشه، كان يأتي أحدهم بابنه ومعه مأكول فيأكله ويلوث به أرض المسجد فهذا غير جائز. وقد ذكرنا فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: يصان المسجد عما يؤذيه ويؤذي المصلين فيه، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم الحصر ونحو ذلك، لاسيما إن كان ذلك في وقت الصلاة فإن ذلك من عظيم المنكرات. وهذا الكلام الفقهي الرصين المتين لـ شيخ الإسلام رحمه الله، وليس كمثل بعض الناس ممن ينعق بما لا يعلم، ويقول: الكنائس يأتون فيها بالأطفال الصغار فاتركوا المسجد كالكنائس. ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أمامة ودخل بها المسجد، فيجوز لي أن أعمل مثل النبي صلى الله عليه وسلم، وجواب هذا أن نلزمه بما يقول، فقد أخذ أمامة ودخل بها وصلى وهو يحملها صلوات الله وسلامه عليه، فعليك إذاً أن تأخذ ابنك ولا تضعه في الأرض فيؤذي الناس، واعمل كالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ أمامة وهو واقف في الصلاة، فلما ركع وضعها بجواره، فلما رفع رفعها صلى الله عليه وسلم، ولما سجد وضعها بجواره، وهكذا فعل في صلاته صلى الله عليه وسلم، فإذا كنت تحتج بذلك فافعل كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي بها كل صلاة ويدخل بها المسجد عليه الصلاة والسلام، فلم يأت بها إلا مرة واحدة. وقد ركب الحسن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فخشي أن يزعج الناس فظل النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً والغلام على ظهره، وخشي أن يرفع مرة واحدة فيصرخ الطفل، فظل صلى الله عليه وسلم ساجداً ثم رفع بعد ذلك، وظن الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في هذه السجدة فأخبرهم: (إنه ليس كما ظننتم، ولكن ارتحلني ابني فكرهت أن أعجله)، أي: أعجل في ذلك فيبكي الصبي فيزعج المصلين في المسجد ببكائه. يقول الإمام النووي رحمه الله: يكره إدخال المجانين والصبيان الذين لا يميزون المسجد؛ لأنه لا يؤمن تلويثهم إياه. قال: ولا يحرم ذلك. أي: إذا عرف الإنسان أن ابنه لن يلوث المسجد فغايته أن يكره في هذه الحال، فإذا علم أنه سيلوثه فيحرم عليه الإتيان به، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى حاملاً أمامة بنت زينب رضي الله عنهما وطاف على بعيره صلى الله عليه وسلم في المسجد. يقول النووي رحمه الله: ولا ينفي هذا الكراهة. يعني الذي يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ أمامة ودخل بها المسجد، فالعلماء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يشرع للأمة فيفعل الشيء الذي لو فعله غيره كان مكروهاً، ولكنه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم يكون مستحباً فلو اضطررت في مثل هذه الصورة فلابد أن تفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. يقول في حاشية قليوبي وعميرة عن كلام النووي هذا: اعترضه الأسنوي بتصريحهم بتحريم إدخال الصبيان المساجد كما نقله الرافعي عن صاحب العدة. وقال الأسنوي: هذا صريح في التحريم عند غلبة النجاسة، والكراهة عند عدم الغلبة، فقيد الأمر بذلك، فلو أن الأطفال حال وجودهم في المسجد يمكن أن يحصل منهم الأذى، كأن يتبولون في المسجد أو يتغوطون أو أن يفسدون في أرض المسجد فيحرم إدخالهم، أما إذا كان الصبي لا يؤذي أحداً من المصلين بل يصلي فغايته الكراهة، أي: إذا كان الصبي دون التمييز، أما إذا كان فوق سن التمييز فعلى ذلك يستحب أن يؤتى به للمسجد إذا جاوز سبع سنوات ويؤمر ويزجر حتى يتعلم آداب الصلاة.

كراهة اتخاذ المسجد مكانا للحرفة واستلقاء الرجل فيه واضعا رجله على الأخرى

كراهة اتخاذ المسجد مكاناً للحرفة واستلقاء الرجل فيه واضعاً رجله على الأخرى يكره أن يتخذ المسجد مكاناً للحرفة كالخياطة ونحوها؛ لحديث أنس: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) فصاحب الحرفة الخياط مثلاً إذا أتى بقماشة إلى المسجد وجلس يسمع درس علم وهو يخيط فهذا لا يجوز، فإما أن يحضر للعلم وإما يخيط قماشه في محله ولا داعي لأن يأتي إلى المسجد. ولا يجوز استلقاء النائم في المسجد على ظهره واضعاً إحدى الرجلين على الأخرى، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد، وأن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره) فمن الأدب ألا يضع الإنسان رجل على الأخرى وهو مستلق على ظهره، وعللوا ذلك بالانكشاف وأنه قد ينكشف فخذه وقد تنكشف عورته، لكن إذا أمن ذلك ولم يكن معه أحد وكان منفرداً جاز له، فقد جاء عن عباد بن تميم عن عمه: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى). يقول الحافظ ابن حجر: والظاهر أن فعله صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة -يعني في وقت كان نائماً مستريحاً في المسجد صلى الله عليه وسلم- قال: لا عند مجتمع الناس، لما عرف من عادته صلى الله عليه وسلم من الجلوس بينهم بالوقار التام. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان غاية في الأدب، فكان إذا جلس في وسط أصحابه يجلس وعليه السكينة، ويقول: (أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد)، وإنما كان يفعل ذلك في حالة عدم وجود عدد كبير من الصحابة.

كراهة تشبيك الأصابع في المسجد

كراهة تشبيك الأصابع في المسجد ومن الآداب: يكره تشبيك الأصابع في المسجد وفرقعتها وهذا دليل على أن الإنسان يحب اللهو والاستراحة، فكرهوا ذلك. لكن يجوز إذا كان للتمثيل مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (المؤمن للمؤمن كالبنيان أو كالبنان يشد بعضه بعضاً ويشبك بين أصابعه) أما لغير تمثيل ولغير حاجة فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة) أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الصلوات الخمس والمحافظة عليها والإيمان بوجوبها [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الصلوات الخمس والمحافظة عليها والإيمان بوجوبها [1] لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مكانة الصلاة في الإسلام، وأخبر أنها من أركانه العظيمة، فهي الركن الثاني بعد كلمة التوحيد، والصلوات الخمس مكفرات للخطايا والذنوب إذا اجتنبت الكبائر، وقد أمرنا الله بإقامة الصلاة ولم يأمرنا بالصلاة فقط، وليس الأمر بإقامة الصلاة كالأمر بالصلاة فقط.

الترغيب في الصلوات الخمس والمحافظة عليها والإيمان بوجوبها

الترغيب في الصلوات الخمس والمحافظة عليها والإيمان بوجوبها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري: الترغيب في الصلوات الخمس والمحافظة عليها والإيمان بوجوبها. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت). وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) الحديث. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء، قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).

تكفير الصلوات الخمس للصغائر دون الكبائر

تكفير الصلوات الخمس للصغائر دون الكبائر والغرض من ذكر حديث عمر رضي الله عنه: هو بيان أركان الإسلام الخمسة، وأهمها: التوحيد ثم الصلاة. وعن أبي هريرة في المتفق عليه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟). ويبين هذا الحديث حديث أبي سعيد عند البزار والطبراني وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو أن رجلاً كان يعتمل وكان بين منزله وبين معتمله خمسة أنهار، فإذا أتى معتمله عمل فيه ما شاء الله فأصابه الوسخ أو العرق فكلما مر بنهر اغتسل ما كان ذلك يبقي من درنه؟ فكذلك الصلاة كلما عمل خطيئة فدعا واستغفر غفر له ما كان قبلها)، وهذا بيان كيف تكون هذه الصلاة العظيمة كفارة للذنوب. وجاء في الحديث: (الصلوات الخمس كفارة لما بينهما)، وذكر: (الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان)، بقيد: (ما اجتنبت الكبائر)، فإذا اجتنب الإنسان الوقوع في كبائر الذنوب: كقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والشرك بالله عز وجل، والسحر، وعقوق الوالدين، وأخذ الرشوة، وأكل مال اليتيم، وأكل أموال الناس بالباطل، ولم يقع في الجرائم التي فيها حدود في القرآن والسنة ولم يقع فيما توعد عليه ربنا سبحانه بالعقوبة أو باللعن أو بالطرد من رحمته فإن الصلوات الخمس تكفر له ما وقع فيه من الصغائر إذا اجتنب هذه الكبائر. فلو وجد نهر باب أحدكم وكل ما خرج من البيت اغتسل في هذا النهر ثم رجع إلى بيته فلوا اغتسل فيه في اليوم خمس مرات هل يبقى من الدرن والوسخ عليه شيء؟ فالصحابة أجابوا: لا، فقال: (كذلك الصلوات الخمس كفارة لما بينهن). وذكر في حديث أبي سعيد الإنسان الذي بينه وبين محله أو مصنعه أو حقله: (خمسة أنهار، فإذا أتى معتمله عمل فيه ما شاء فأصابه الوسخ أو العرق فكلما مر بنهر اغتسل) فهل سيبقى عليه أثر العمل من عرق أو وسخ أو شيء؟ A لا، لن يبقى عليه شيء، فكذلك الصلوات الخمس، فالإنسان قد يقع في اليوم والليلة في الخطأ والإثم، فإذا صلى الصلاة فإنها تكون كفارة له، وأنت إذا صليت تسجد لله وتستغفره وتسبحه والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم). فأنت تصلي لله عز وجل وتستغفره وتدعوه ليكفر ذنوبك بفضله وبرحمته. ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى: حديث ابن مسعود الذي رواه الطبراني في الصغير والأوسط، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها). ومعنى تحترقون أي: تقعون في الذنوب، وذنوب الإنسان تجتمع عليه دائماً، عوداً وعوداً وعوداً ثم يشعل فيها النار فتشتعل، ومعظم النار من مستصغر الشرر، كذلك الذنوب فإن الإنسان قد يقع في ذنب ثم في ذنب آخر ثم في ذنب ثالث، وهكذا فالصلوات تجعل الإنسان يحافظ على نفسه مع نفسه ومع الناس ومع ربه سبحانه وتعالى. قال: (تحترقون تحترقون) أي: بالغفلة واللهو واللعب، ونسيان ذكر الله سبحانه، وبالوقوع في الذنوب، قال: (فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا) وهذا من فضائل الصلاة، وكثير من الناس يضيع الصلاة وينسى، فإذا بالذنوب تتراكم عليه وصغائر الذنوب تصير كبائر، وترك الصلاة كبيرة من الكبائر، وقد كفر النبي صلى الله عليه وسلم تاركها فقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وقال: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة). فالصلاة حين يتركها الإنسان جاحداً لها يكفر ويخرج من دين الله عز وجل، والذي يصلي أحياناً ويترك أحياناً تكاسلاً واقع في كبيرة من الكبائر، فإذا كان الإنسان بذنوبه الصغيرة يحترق فكيف بترك الصلاة؟! لذلك لا بد على المؤمن أن يواظب على الصلاة؛ لأن الله قال: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] والصلاة المقبولة عند الله عز وجل علاماتها تظهر على الإنسان من نور في وجهه، وعمل صالح يعمله، ومواظبة على أداء ما فرض الله سبحانه وتعالى عليه، وبعد عن الفواحش وعن المنكرات، وإذا وجدت نفسك بعد الصلاة تتطلع للفحشاء والمنكر مثلما كنت قبل الصلاة فكأن هذه الصلاة ليست مقبولة عند الله عز وجل، فالصلاة المقبولة هي التي تغير صاحبها، يدخل في الصلاة ثم يخرج خائفاً من الله سبحانه وتعالى، يخرج من الصلاة وقد سجد لله سبحانه فتعلم التواضع فيتواضع لخلق الله سبحانه وتعالى، فالصلاة تزيد في إيمانه فيخرج من الصلاة وهو أفضل حالاً مما كان عليه، ولا تزال كل صلاة تفعل فيه ذلك حتى يلقى الله عز وجل وليس عليه من الذنوب شيء. يقول أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ملكاً ينادي عند كل صلاة -هذا ملك جعله الله عز وجل لهذا الأمر- ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم! قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها). نيران الغفلة واللهو والبعد عن الله سبحانه، والمعاصي والذنوب التي أوقدتموها على أنفسكم، فقوموا إلى الصلاة حتى تطفئ الصلاة هذه النيران التي أوقدتموها على أنفسكم. وقد روى الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبعث مناد عند حضرة كل صلاة فيقول: يا بني آدم! قوموا فأطفئوا عنكم ما أوقدتم على أنفسكم، فيقومون فتسقط خطاياهم من أعينهم، ويصلون فيغفر لهم ما بينهما، ثم توقدون فيما بين ذلك فإذا كان عند الصلاة الأولى نادى: يا بني آدم! قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم، فيقومون فيتطهرون ويصلون الظهر فيغفر لهم ما بينهما، فإذا حضرت العصر فمثل ذلك، فإذا حضرت المغرب فمثل ذلك، فإذا حضرت العتمة -يعني: العشاء- فمثل ذلك، فينامون وقد غفر لهم، فمدلج في خير ومدلج في شر) والإنسان المدلج: هو الداخل في الليل فيكون على خير بسبب هذه الصلوات. يقول طارق بن شهاب: أنه بات عند سلمان الفارسي رضي الله عنه لينظر إلى اجتهاده، فقام يصلي من آخر الليل -يعني: يتنفل وقت السحر- قال: فكأنه لم ير الذي كان يظن، وهو يعرف أن سلمان من الزهاد العباد، وهو من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأفاضل رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد مدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (سلمان منا آل البيت). مع أن سلمان فارسي أصلاً ولكن لعبادته لله سبحانه وتعالى وقربه من ربه ادعاه المهاجرون فقالوا: سلمان منا، وقالت الأنصار: هو يسكن معنا في المدينة فهو منا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (سلمان منا آل البيت) رضي الله تبارك وتعالى عنه. فقد كان يزور الواحد منهم الآخر حتى ينظر إلى عمله لكي يقلده ويأتسي به، فلما وجده قام من آخر الليل يصلي في السحر وكان يظن أنه سيقوم الليل كله من أوله إلى آخره فسأله عن ذلك، فقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجراحات ما لم تصب بمقتلة. والمعنى: أنه طالما أنك أديت الصلوات الخمس كما أمر الله فهذا أهم شيء وما بعد ذلك كلها نوافل، فإذا حافظت على الصلوات الخمس حيث ينادى بهن في بيت الله سبحانه وتعالى، وأديتها بشروطها، وأركانها، وهيئاتها، وسننها، فإنها تكون صحيحة ومقبولة عند الله ما لم تصب بمقتلة، يعني: ما لم تقع في كبيرة من الكبائر، كالسرقة، والزنا، والشرك بالله عز وجل وغير ذلك من الكبائر. فالإنسان المؤمن إذا عرف فضيلة الصلاة وفضلها عند الله عز وجل حافظ عليها كما أمره الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على المحافظة على الصلوات وعلى ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الصلوات الخمس والمحافظة عليها والإيمان بوجوبها [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الصلوات الخمس والمحافظة عليها والإيمان بوجوبها [2] المداومة على أداء الصلوات الخمس سببٌ في دخول الجنة، ولا بد فيها من الإيمان والخشوع والمحافظة على أوقاتها، وهناك أحاديث تبين فضل الصلاة على سائر الأعمال، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وفي صلاحها صلاح الأعمال، وفي فسادها فساد الأعمال.

الترغيب في الصلوات الخمس

الترغيب في الصلوات الخمس الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: روى الإمام أبو داود والنسائي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة). وفي رواية لـ أبي داود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات افترضهن الله من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه). وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رجلان من بلي -حي من قضاعة- أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد فتعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة، وكذا وكذا ركعة صلاة سنة)، وفي رواية: (فلما بينهما أبعد من السماء والأرض).

أعمال تدخل الجنة

أعمال تدخل الجنة أحاديث أخرى يذكرها الحافظ المنذري في الترغيب في الصلوات الخمس، منها: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ونحوه حديث لـ أبي الدرداء رضي الله عنه، ولفظ حديث أبي الدرداء: (خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة)، أي: خمس صلوات، فالإنسان المؤمن يؤمن بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويؤمن بالقدر خيره وشره، ومصدق بثواب هذه الصلوات عند الله سبحانه، فإذا جاء بهذه الصلوات مع الإيمان ويأتي بأربعة أشياء غير الصلوات، قال: (خمس من جاء بهن مع إيمان)، إذاًَ: فالأصل: الإيمان، ثم الخمس الأشياء التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من حافظ على الصلوات الخمس، على وضوئهن، وركوعهن، وسجودهن، ومواقيتهن)، الصلوات الخمس، ولكنها ليست مجردة، أنه صلى فقط، بل أقام الصلاة وحافظ عليها، وليست صلاة واحدة فقط، بل الخمس الصلوات وكل يوم يواظب على ذلك، ويحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، ويحافظ على وضوئهن، ويحافظ على ركوعهن وسجودهن، ومواقيتهن، وهنا فصل النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يظن الإنسان أنه يصلي صلاة سريعة، صلاة لا يذكر الله عز وجل فيها إلا قليلاً، وفي آخر وقتها، ويتكاسل عنها، صلاة يجمعها إلى غيرها من غير عذر، ويظن أنه داخل تحت هذا الحديث. فقوله صلى الله عليه وسلم: (حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن) يعني: أحسن الوضوء، وأسبغ الوضوء وأتقنه، ثم دخل في الصلاة فحافظ على الركوع وعلى السجود، أما الذي يصلي فلا يذكر الله عز وجل فيها إلا قليلاً، صلاة يجمعها إلى غيرها من غير عذر، فليس بداخل تحت هذا الحديث، فمن حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن، يعني: أحسن الوضوء، وأسبغ الوضوء وأتقنه، ثم دخل في الصلاة فحافظ على الركوع وعلى السجود، وعلى مواقيت الصلاة، ويصليها على أول وقتها، ويسمع النداء فيذهب إلى بيت الله عز وجل يصلي، فهو داخل تحت هذا الحديث، وكذلك إذا صلت المرأة في بيتها، فحافظت على ذلك، على الوضوء، وعلى الركوع، وعلى السجود فلا يسرع الإنسان في الركوع والسجود، ولا ينقرها نقر الغراب، ولكن يتقن الصلاة، ويتقن القراءة ويحسن، ويتقن التسبيح في الركوع، ثم يقول: (سمع الله لمن حمده) ويطمئن قائماً، ثم يسجد لله عز وجل ويطمئن ساجداً، فإذا حافظ على ذلك فهي الأولى. والثانية قال: (وصام رمضان). والثالثة قال: (وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا). والرابعة قال: (وآتى الزكاة طيبة به نفسه). فهذه أربعة أشياء مع إيمان، ومع كلمة التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله بحق. والخامسة قال: (وأدى الأمانة)، إذاً: الأصل: كلمة التوحيد: الإيمان بالله عز وجل على ما ذكرنا، ثم هذه الخمسة الأشياء: الصلوات، صيام رمضان، أداء فريضة الحج إن استطاع إليه سبيلاً، آتى الزكاة، أدى الأمانة، (قيل: يا رسول الله! وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة، إن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها)، فهذه أداء الأمانة. فالإنسان الذي يكون على جنابة لا أحد يعرف أنه على جنابة، والمرأة التي جاءها الحيض ثم طهرت من الحيض، لا أحد يعرف أنها طهرت من الحيض إلا هي تعرف عن نفسها ذلك، فجعل الله عز وجل أمانة على هذا العبد: أنه يتطهر بعد زوال السبب الذي منعه من الصلاة، فجعلها أمانة، لا أحد يراقب أحداً على هذا الشيء: هل أتى وقت الدورة للمرأة أم لم يأت؟ انتهى حيضها أم لم ينته؟ فهي مؤتمنة على فرجها، مؤتمنة على ذلك، والله ائتمن العبد على ذلك. وقد ذكر الله الأمانة في القرآن: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، والأمانة: التكاليف الشرعية، والله عز وجل هو الذي يعلم أن الإنسان العبد يؤديها بإتقان أو بغير إتقان، يؤديها بشروطها وأركانها على الصحة أم لا، يؤديها مخلصاً لله عز وجل أم لا، فإذا أدى الأمانة كان له عند الله عز وجل أن يدخله الجنة. في حديث عبادة بن الصامت: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن) وكأن الإنسان يضيع الصلوات مستخفاً بها، ومحتقراً للعقوبة، فليس في ذهنه أن الله سيحاسبه على ذلك، فلا يستحضر هذا الشيء، فيستخف بها، وهذا يستحق العذاب الأليم عند رب العالمين إذا شاء سبحانه. لكن الذي يأتي بهن ولا يستخف بهن، ولا يضيع منهن شيئاً، وفي الرواية الأخرى: (من أحسن وضوءهن بوقتهن، وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن، كان له عهد على الله أن يغفر له)، إذا جاء بالصلاة على الوجه الذي يريده الله عز وجل ويقبله منه، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. والذي يفعل خلاف ذلك: فلا يأتي بالصلاة في أول وقتها، بل يتركها لآخر وقتها، ويجمع الصلاة مع الصلاة بغير عذر، ويضيع الركوع، ويضيع السجود، ولا يتقن صلاته، ولا يتقن وضوءه، فهذا لا عهد له عند الله. نضرب مثلاً على ذلك: العهد في القتال: عندما يأتي الأمير في القتال أو القائد ويعطي العهد للذين يقاتلونهم، فيقول له: أعطيك أماناً، أمنتك، فلن يؤذيه بشيء، والذي يصلي قد أعطاه الله هذا الأمان، وأعطاه هذا العهد، يصلي على الكيفية التي ذكرناها، هذه الكيفية: هي الصلاة التي أمر الله بها عز وجل في القرآن، وأرادها، ووعد عليها الأجر والثواب في الدنيا:: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وفي الآخرة: له عند الله عهد ألا يعذبه، وله عند الله عهد أن يدخله الجنة. فإذا لم يأت بهذه الصلاة على هذه الكيفية، فلا أمان له عند الله، ولا عهد له عنده سبحانه، فهو يقدم على خطر عظيم جداً، إن شاء ربه سبحانه غفر له، هذا أمر لله عز وجل، وإن شاء عذبه العذاب الأليم بذلك، قال في كتابه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:4 - 6].

أحاديث تبين فضل الصلاة

أحاديث تبين فضل الصلاة ومن الأحاديث العظيمة الواردة في فضل الصلاة: حديث جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وحديث جاء عن أبي هريرة، وفيه: (أن رجلين كانا من بلي -حي من قضاعة- أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة) هذا حديث أبي هريرة، وأما حديث سعد بن أبي وقاص: (كان رجلان أخوان فهلك أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة)؛ فيه قصتان: الأولى: هما أخوان اثنان، واحد مات، والثاني مات بعده بأربعين ليلة، والقصة الثانية: أرادا الإسلام فأسلما مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأحدهما استشهد والآخر مات بعده بسنة، ولاحظ هذا اللفظ الثاني الذي في حديث أبي هريرة أن الأول استشهد، قتل شهيداً في سبيل الله عز وجل، والثاني مات بعده بسنة ولم يستشهد. فأحد الصحابة رأى رؤيا، قال طلحة بن عبيد الله: (فأريت الجنة) رأى الجنة، فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد، والشهيد قتل الأول، والآخر هذا مات بعده بسنة ولم يقتل، وطلحة بن عبيد الله هذا أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، صحابي فاضل شلت يده في دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، وقاتل قتالاً عظيماً رضي الله عنه، وكان صوته في الجيش أقوى من صوت ألف رجل رضي الله عنه، هذا الرجل العظيم الفاضل رأى رؤيا في المنام، أن الاثنين أدخلا الجنة، فالذي مات دخل الأول، ودخل بعده الذي استشهد. قال: (فلما بينهما أبعد من السماء والأرض) يعني: نظر إلى منزلة المتوفى فوجده في السماء، ومنزلة الشهيد في الأرض، وكأن البعد بين الاثنين كما بين السماء والأرض والاثنان في الجنة، فتعجب لذلك، حيث أن الشهيد أقل مرتبة من الذي مات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس قد صام بعده رمضان؟) انظر إلى فضل شهر رمضان، فإن هذا أخذ أجر الشهادة وفوقها صيامه شهر رمضان وأنه أخر بعد هذا، قال: (وصلى ستة آلاف ركعة) يعني: صلاة سنة، ولو حسبتها لوجدتها ستة آلاف ركعة، فالسنة (354) يوماً أو (355) يوماً وهذه هي السنة الهجرية، ستضربها في (17) ركعة فريضة اليوم، ستبلغ حوالي: (6018) ركعة، أو (6118) ركعة، ستة آلاف ركعة صلاها هذا الإنسان، فرفعته هذه المرتبة العظيمة عند الله رب العالمين، ستة آلاف ركعة، هذه الفريضة فقط. قال: (وكذا ركعة صلاة سنة) بمعنى: أنه لم يصل فقط الفريضة التي بلغت ستة آلاف ركعة، ولكنه كان يصلي رواتب في اليوم عشر ركعات، أو أكثر أو أقل من ذلك، فانظر في السنة كم تبلغ هذه الصلوات؟ وانظر كيف ترفع الصلوات صاحبها، مع أن الشهيد له مرتبة عالية جداً عند الله عز وجل، وهذا الذي أخر بعده كان أعلى منه، ولذلك الإنسان لا يستعجل الموت أبداً، فلا يقول: يا رب! خذني فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فكلما زيد في عمره عن الآخر زاد عنه بصلاة وصوم وعمل صالح، وكان أرفع له في الدرجة عند الله سبحانه وتعالى. في حديث آخر للسيدة عائشة رضي الله عنها، تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث أحلف عليهن)، يحلف النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاث، وهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، ولكن المعنى الذي يؤكد ذلك أنه يقول: ليكن في يقينكم، لتكونوا مؤمنين بهذا الذي أقوله، فإنه يقين يقين: (لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له)، أي: أن الذي دخل في الإسلام وبعدها صار له سهم في الإسلام ليس كالذي دخل ولا سهم له؛ لأن ذلك لا يكون أبداً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة والصوم والزكاة)، فالذي له صلاة، وله صوم، وله زكاة لن يكون مثل الذي ليس له، وقال هنا صلى الله عليه وسلم: (ولا يتولى الله عبداً في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة). إذاً: أولاً: أن العبد الذي يصلي ويصوم ويزكي مستحيل في عدل الله عز وجل أن يجعل مثله من لا يفعل ذلك، والذي له سهم في الإسلام ليس كمن لا سهم له، وهذا فرق كبير بين الاثنين. ثانياً: قال صلى الله عليه وسلم: (لا يتولى الله عبداً في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة) ويقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، يعني: إذا كان ربك معك وأنت في الدنيا، يحفظك ويعينك على الصلاة، ويعينك على الصوم، ويعينك على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتولاك في الدنيا، وتقول له: يا رب! فيعطيك، فإذا أعطاك في الدنيا فلن يتخلى عنك يوم القيامة، كما أنه كان معك في الدنيا فأنت تعبده فيتولاك فلن يتركك يوم القيامة، ويحلف على ذلك صلى الله عليه وسلم، والثالثة قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحب رجل قوماً إلا جعله الله معهم). فكل إنسان له مقدرة على العمل بصورة معينة، فمنهم من يقدر أن يصلي، والآخر يقدر أن يصوم النوافل، ومنهم من يقدر على قيام الليل كثيراً، والآخر لا يقدر، ولكن كل إنسان قد هيأه الله عز وجل لما يصلح له، وجعل الناس كلهم شيئاً واحداً مستحيل جداً، والإنسان يتمنى أنه يكون مثل الصالحين، لما يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الأفاضل، والتابعين والأئمة، فكيف سيكون مثلهم؟ فجعل لهم طريقة سهلة في ذلك، أن يعملوا الذي عليهم، والذي يقدرون عليه، فيكونون بذلك قد فعلوا الذي عليهم، ولكن هناك شيء آخر يوصلك إلى هؤلاء الأخيار، وهذا الشيء هو أن تحبهم، أن تحب الله عز وجل، وأن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تحب الصحابة رضوان الله عليهم، وأن تحب التابعين لهم بإحسان، فإذا كنت تحب هؤلاء فالله عز وجل يوصلك إلى منزلة هؤلاء بعملك المتواصل، فتحاول حتى تصل، فالإنسان يتمنى أن يحفظ القرآن كله، فيحاول ويجتهد فلا يستطيع، وبما أنه يحب حفاظ القرآن فالله عز وجل قد يجعله معهم، بمحاولته للحفظ وبحبه لهؤلاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحب رجلاً قوماً إلا جعله الله معهم، والرابعة لو حلفت عليها رجوت ألا آثم)، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يحلف على خطأ، أو على كذب، يقول: (لا يستر الله عبداً في الدنيا، إلا ستره يوم القيامة)، فهذا وعد، وهذا شيء عظيم من كرم رب العالمين سبحانه، أنه إذا ستر عبداً في الدنيا ستره يوم القيامة، وما من عبد إلا وله خطأ، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون)، فإذا وقع عبد في معصية، فندم وتاب واستغفر وستر على نفسه، وأصلح عمله، فلم يفضحه الله عز وجل ولم يطلع أحداً على ذلك فتاب، فستره في الدنيا، فهذا وعد منه سبحانه أنه يستره أيضاً يوم القيامة. فإذا كان العبد قد ستره الله بالليل، وفضح نفسه بالنهار، فقال: أنا عملت كذا وكذا، ويحكي عن نفسه ما فعل من الذنوب ويفضح نفسه فهو مفضوح في الدنيا وفي الآخرة، فهنا: الوعد أن الله إذا ستر العبد في الدنيا، والعبد ستر نفسه، لا يفضحه الله يوم القيامة، والعكس كذلك. ومن الأحاديث التي جاءت في ذلك: حديث عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة في الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)، فالصلاة أعظم شيء يتقرب الإنسان بها إلى الله بعد التوحيد، فإذا جاء يوم القيامة سأله الله عز وجل عن الصلاة، فإذا صلحت هذه الصلاة وأداها كما أمر الله سبحانه حيث ينادى بها، صلح باقي العمل وأصبح سهلاً، فالله عز وجل يغفر ويتجاوز، وإذا ضاعت الصلاة ضاع منه باقي العمل، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، ومستحيل أن الإنسان يحسن صلاته، ويتقنها بوضوئها وبخشوعها وبركوعها وسجودها وقيامها، ثم بعد ذلك يكون تاركاً للصوم، وتاركاً للزكاة، وتاركاً للنوافل، لا يمكن ذلك أبداً؛ لأن الله أخبرنا أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فالمعنى: أن الصلاة هذه باب العبادة الكبير، الذي إذا دخل منه الإنسان أحسن جميع العبادات، والعبد يوم القيامة إذا وافى ربه بصلاة صحيحة مقبولة، فيقيناً أن باقي العمل سيكون صحيحاً كذلك. وإذا كانت الصلاة فاسدة، وضيعها العبد، ضيع باقي عمله في الدنيا، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الصلاة مطلقا وفضل الركوع والسجود والخشوع

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الصلاة مطلقًا وفضل الركوع والسجود والخشوع لقد أمر الله عز وجل بالصلاة، ورغب فيها، وجعلها ركناً من أركان الإسلام، التي لا يتم إلا بها، ذلك لأنها الفارقة بين المسلم والكافر والمشرك. وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة. ولذلك اهتم الإسلام بها اهتماماً عظيماً، لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقاتل إلا إذا لم يسمع النداء بها، فالصلاة هي شعار الإسلام، وهي جنة المؤمنين في الدنيا، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إليها، فقد جعلت قرة عينه، وقد كثرت الأحاديث المرغبة فيها، والتي تحظ على المحافظة عليها، مبسوطة في مظانها.

شرح حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه (الطهور شطر الإيمان)

شرح حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه (الطهور شطر الإيمان) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: أما بعد: قال الإمام المنذري رحمه الله: (الترغيب في الصلاة مطلقاً وفضل الركوع والسجود والخشوع): روى مسلم وغيره عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها). وروى أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج في الشتاء والورق يتهافت فأخذ بغصن من شجرة، قال: فجعل ذلك الورق يتهافت، فقال: يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله تتهافت عنه ذنوبه كما يتهافت هذا الورق عن هذه الشجرة). وعن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة). رواه مسلم. وروى ابن ماجة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة، ومحا عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة، فأكثروا من السجود). هذه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الحافظ المنذري رحمه الله هي في الترغيب في الصلاة مطلقاً، وفي الترغيب في كثرة الصلاة، سواء كانت نوافل لها سبب، أو ليست لها سبب. وأيضاً هي في فضل الركوع والسجود والخشوع. ومن هذه الأحاديث التي ذكرها: حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان). و (الطهور) هو: أن يتطهر الإنسان لصلاته، سواء من الحدث الأصغر أو من الحدث الأكبر، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم نصف الإيمان، وكلمة: (الإيمان) أحياناً تأتي بمعنى الصلاة، وأحياناً تأتي بمعنى الإسلام، والغالب في معنى الإيمان: أن يؤمن العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. والإيمان في هذا لحديث بمعنى/ الصلاة، وقد جعلها نصفين، فالطهور نصفها، فمن صلى بغير طهور فإنها لا تعتبر صلاة، ولا تعتبر صلاة إلا إذا صلى الإنسان متطهراً، فكأن الطهور على النصف من ذلك، كما جاء في الحديث: (الطهور شطر الإيمان). والمقصود به: أن يتطهر الإنسان ظاهراً وباطناً، فطهارة الباطن تكون بأن يطهر قلبه من أدناس الشرك، ومن عبادة غير الله سبحانه وتعالى، يطهر قلبه من الغلّ والحقد والحسد والغش للمسلمين، فالطهور نصف إيمان الإنسان، فعلى الإنسان أن يهتم بتطهير قلبه وبدنه.

فضل التسبيح والتحميد

فضل التسبيح والتحميد قال صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض). أي: أن كلمة (الحمد لله) لو وضعت في ميزان، أو لو جُعلت جرماً، -أي: شيئاً محسوساً يرى،- لرأيتها تملأ الميزان، أي: تملأ كفة الميزان يوم القيامة، وتثقل عملك، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وسبحان الله والحمد لله تملآن) أي: أن هاتين الكلمتين لو تخيلت لهما حجماً موجوداً لرأيتهما تملآن ما بين السماء والأرض من عظيم ثوابهما.

فضل الصلاة

فضل الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: (والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)، والصلاة مأمور بها العبد، وكذلك الصدقة والصبر، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الإنسان بالنور، وهناك فرق بين النور والضياء، فالنور تستفيد منه وترى فيه من غير أن يؤذيك، وأما الضياء فتستفيد منه وترى فيه أيضاً ولكن فيه إحراق ولفح، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بالنور؛ لأنها كلها خير، وليس فيها إيذاء وتعب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب). فالصلاة خير عظيم من رب العالمين، ولا تعب فيها، فإن تعبت وأنت قائم فصل قاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، وكل التكاليف لابد وأن يكون فيها شيء من المشقة، ولكن الصلاة سهلة ومريحة، فشبهها بالنور؛ لأنها كلها فائدة، وتعبها يسير.

فضل الصدقة

فضل الصدقة قال صلى الله عليه وسلم: (والصدقة برهان)، أي: برهان على إيمان الإنسان، وعلى أنه ليس شحيحاً أو بخيلاً، بل هو يخرج الصدقة ويتصدق بها، ففرق بين الإنسان الشحيح الذي لا يريد أن يخرج ما معه من المال، ولا يريد أن يعطي الفقراء، ولا ما أمره الله عز وجل به، وبين الإنسان المؤمن، فالكل في مسألة الإيمان يقول: أنا مؤمن، والكل يقول: أنا جيد، وأنا جواد، وغيرها، ولا يظهر برهان وحقيقة دعوى هذا الإنسان إلا وقت النفقة، فإذا أنفق وتصدق دل هذا على قوة إيمان هذا العبد الذي يدفعه لأن يتصدق وأن يخرج ما معه. فالصدقة برهان على قوة إيمان هذا الإنسان، فإن إيمانه هو الذي يدفعه أن يؤدي الزكاة الواجبة عليه، ويدفعه أيضاً إلى الصدقة.

فضل الصبر

فضل الصبر قال صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء) فيصبر الإنسان على قضاء الله عز وجل وقدره، وعلى البلاء والمصائب، والمصيبة تؤذي العبد وقد تحرقه من شدتها وقسوتها، ولكنه يصبر وينتظر الأجر من الله، فيجد النور والضياء والأجر من الله سبحانه وتعالى على الصبر. ولا يؤجر الإنسان على الصبر إلا إذا عانى من المشقة، وصبر على الأمر الصعب الشديد الذي كأنه يحرقه. ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصبر بأنه ضياء، ففرق بين وصف الصلاة بأنها نور، ووصف الصبر بأنه ضياء. فإن الصلاة فيها سهولة، وليس فيها مشقة شديدة، ولكن الصبر كظم للغيظ وكتم للحزن، ولذلك فإن سيدنا يعقوب عليه الصلاة والسلام لما صبر على فقد ابنيه ابيضت عيناه من شدة كظمه غيظه، كما قال تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]، أي: من شدة كتمه غيظه وحزنه ابيضت عيناه وذهب نورهما، فالصبر ضياء.

فضل قراءة القرآن

فضل قراءة القرآن قال صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك)، أي: قد يكون حجة لعبد، وقد يكون حجة على عبد آخر، فالعبد الذي عرف أحكام الله عز وجل فعمل بها، وتلا كتاب الله عز وجل وقام به آناء الليل وأطراف النهار، وأرضى به ربه سبحانه، فإن القرآن يكون حجة له، وأما الإنسان الذي جعل القرآن وراءه ظهرياً فإنه يكون حجة عليه.

شرح حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (إن العبد المسلم ليصلي الصلاة)

شرح حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (إن العبد المسلم ليصلي الصلاة) وعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج في الشتاء والورق يتهافت فأخذ بغصن من شجرة، قال: فجعل ذلك الورق يتهافت، فقال: يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتهافت عنه ذنوبه كما يتهافت هذا الورق عن هذه الشجرة)، يعني: كما أن الريح تطير أوراق الأشجار، كذلك الصلاة تمحو الذنوب، ولا تبقي منها شيئاً، فالصلاة عظيمة الأجر، مكفرة للذنوب.

كثرة السجود سبب لدخول الجنة

كثرة السجود سبب لدخول الجنة وعن معدان بن أبي طلحة رضي الله عنه قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: (أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة؟ -وكرر الشيء ثلاث مرات- فقال ثوبان: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: عليك بكثرة السجود لله). وكل إنسان يريد أن يدخل الجنة، ولكن دخولها ليس بسيطاً ولا سهلاً، فمن أراد دخولها فليعمل لها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصح أصحابه أن من أراد أن يدخل الجنة فليعنه على نفسه بكثرة السجود، فقال لـ ثوبان: (عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة). وعن ربيعة بن كعب، قال: (كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم نهاري)، وقد كان الصحابة يحبون أن يخدموا النبي صلى الله عليه وسلم، طمعاً في الأجر من الله عز وجل. فهذا ربيعة بن كعب رضي الله عنه يقول: (كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبت عنده)، يعني: يريد أن يكون خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم بالليل وبالنهار، فكان بالنهار يخدمه، بالليل ينام بجوار عتبة باب النبي صلى الله عليه وسلم لعل النبي صلى الله عليه وسلم يحتاجه في شيء، قال: (فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله! سبحان الله! سبحان ربي! حتى أمل أو تغلبني عيني فأنام فقال يوماً: يا ربيعة! سلني فأعطيك)، يعني: اطلب مني ما تحتاجه فأعطيك كما خدمتني. (قال: فقلت: أنظرني حتى أنظر)، يعني: حتى أفكر فيما أسألك. (قال: وفكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله! أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة). أي: أنه فكر أنه لو طلب منه مالاً أو أرضاً أو إبلاً أو بقراً فسيعطيه، ولكن هذا كله سيزول، فقال: أطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن ينجيني من النار وأن يدخلني الجنة، فلما طلب ذلك قال: (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من أمرك بهذا؟ -من الذي علمك أن تقول لي هذا؟ - قال: قلت: ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه، فأحببت أن تدعو الله لي، فقال صلى الله عليه وسلم: إني فاعل)، أي: سأدعو لك، ولابد لك من أن تعمل، فقال: (إني فاعل أي: سأدعو لك- فأعني على نفسك بكثرة السجود). يعني: لا تتكل على دعائي فإنما هو وسيلة، ولكن لابد لك من فعل السبب الذي تستحق به هذا، وهو أن تكثر من السجود، حتى يقبل الله عز وجل دعائي لك.

بيان أن الصلاة خير من الدنيا عند أصحاب القبور

بيان أن الصلاة خير من الدنيا عند أصحاب القبور وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر فقال: من صاحب هذا القبر؟ فقالوا: فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم). وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نزور القبور وقال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة). وقد كان نهاهم في فترة من الفترات أن يزوروا القبور، وكان السبب في النهي: الخوف من الشرك، أي: حتى لا يقعوا في الشرك بالله عز وجل؛ لأنهم كانوا معتادين على دعاء القبور وعلى عبادة الأصنام، فمنعهم من ذلك وكانوا معتادين على التفاخر بما في القبور من أهليهم والتكاثر بعشيرتهم، فنهاهم فترة عن ذلك؛ سداً لذريعة الشرك والتفاخر بالأجداد، ثم لما استقر في قلوبهم الإيمان والتوحيد والبعد عن التفاخر بالأهل والأنساب أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور للاتعاظ، والتفكر في نفسه وفي صحته وفي عافيته، وفي صلاته وعمله، وصحة عبادته، وأن هذا الذي في هذا القبر يتمنى لو أنه خرج إلى الدنيا ليصلي ركعتين فقط، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن صاحب القبر فأخبروه أنه رجل من المسلمين: (ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم)، يعني: الباقي من الدنيا إلى أن تقوم الساعة، أي: لو قيل له: أنعطيك هذه الدنيا كلها أو تصلي ركعتين؟ لقال: أصلي ركعتين أحب إلي من ذلك، ونحن الآن في هذه الدنيا ليس أمامنا ركعتان فقط، بل ركعات كثيرة، فلنصلي ولنكثر من الركعات.

عظم أجر السجود وفضله

عظم أجر السجود وفضله وفي الأثر عن مطرف قال: (قعدت إلى نفر من قريش، فجاء رجل فجعل يصلي ويركع ويسجد ولا يقعد، فقلت: والله ما أرى هذا يدري ينصرف على شفع أو على وتر؟ فقالوا: ألا تقوم إليه فتقول له؟ قال: فقمت)، أي: كأنه صلى صلاة كثيرة، وصلى الركعات متصلات، ولم يجلس بينهن للتشهد، وإنما جلس للتشهد في النهاية، وهذا يجوز في صلاة الضحى، فإذا صلاها أكثر من ركعتين جاز له أن يصلي ركعتين ويسلم، وجاز له أن يصلي أربع ركعات ويسلم، ويجوز أكثر من ذلك، سواء جلس في التشهد الأوسط في الأربع الركعات أو لم يجلس. وكذلك يجوز للإنسان في قيام الليل أن يصلي تسع ركعات متصلة، ولا يجلس إلا في الثامنة والتاسعة، وإن كان الأفضل له أن يصلي ركعتين ركعتين، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى). فهذا الرجل دخل وصلى ركعات كثيرة من غير أن يجلس للتشهد بين كل ركعتين، وإنما جلس في النهاية وسلم، وكأنه في قيام الليل، فلما رآه مطرف قال: (والله ما أرى هذا يدري ينصرف على شفع أو على وتر)، يعني: أنه لا يدري كم صلى، فلما قال ذلك، قالوا له: قم فأخبره، فقام وهو يظن نفسه أنه ينصحه، فقال: (يا عبد الله! ما أراك تدري تنصرف على شفع أو على وتر؟ فرد عليه الرجل وقال: ولكن الله يدري)، أي: إذا كنت لا أدري فربنا يدري، فكان جواباً مؤدباً ومهذباً من رجل فاضل، قال الرجل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سجد لله سجدة كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة). قال مطرف: (فقلت من أنت؟ فقال: أبو ذر الغفاري قال: فرجعت إلى أصحابي، فقلت: جزاكم الله من جلساء شراً، جزاكم الله من جلساء شراً)، يعني: تطلبون مني أن أنصح صحابياً، وأنتم تعرفون أنه صحابي؟ قال: أفتأمروني أن أعلم رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أي: أنه لا يليق بتابعي أن يعلم صحابياً، وكان الأحرى بهؤلاء أن يقولوا له: إن هذا أبو ذر الصحابي، فقم تعلم منه ولا تنكر عليه، فالغرض من هذا: بيان أن الصلاة فيها هذا الفضل كله، وكل سجدة فيها يكتب الله للعبد بها حسنة ويحط عنه بها خطيئة ويرفع له بها درجة. وفي رواية يقول مطرف: (فرأيته يطيل القيام، ويكثر الركوع والسجود)، أي: أنه لم يصلها بسرعة بحيث لا يدري ما يقول فيها، وإنما كان يطيل القيام، فصلى قياماً طويلاً وركوعاً طويلاً وسجوداً طويلاً، وأكثر من الركوع والسجود. قال: (فذكرت له ذلك، فقال الصحابي رضي الله عنه: ما آلوت أن أحسن)، يعني: لقد اجتهدت أن أحسن في صلاتي، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ركع ركعة أو سجد سجدة رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة).

الحرص على الإكثار من الصلاة

الحرص على الإكثار من الصلاة هذه بعض فضائل الصلاة، والإنسان المؤمن الذي يعرف هذه الأحاديث في فضيلة الصلاة فإنه يكثر من الصلاة، ويكثر من الركوع ومن السجود، ولا يضيع وقته في أمر الدنيا، والإنسان قد يبقى أحياناً فارغاً، ويضيع وقته في اللغو وفي الكلام الفارغ، فأفضل منه لو أنه توضأ وصلى ركعتين، فإن في الوضوء أجراً، فهو يحط خطايا الوجه واليدين والرأس والرجلين في أثناء الوضوء، فإذا قام إلى الصلاة تساقطت عنه الذنوب. فالمؤمن لا يضيع وقته في الكلام مع الخلق وفي اللغو وفي اللعب وفي اللهو، وإنما يكون في أمر الصلاة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فهي باب الجنة الموصلة إليها. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الصلاة في أول وقتها

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الصلاة في أول وقتها إن شوق المؤمن لمناجاة ربه غالبة إن صدقت محبته له، ولذا لا يفرط في الصلاة عموماً، بل لا يفرط في الجماعة ويحرص عليها أتم الحرص، وليس ذلك فحسب، بل لا تفوته تكبيرة الإحرام، وقد يتقدم إلى المسجد قبل الصلاة ولا عجب في ذلك، إنه الشوق.

فضل الإتيان بالصلاة في أول وقتها

فضل الإتيان بالصلاة في أول وقتها الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: الترغيب في الصلاة في أول وقتها. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني). وروى أبو داود عن أم فروة رضي الله عنها وكانت ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول وقتها). وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج من المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه ما لم يحدث، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة). يذكر الإمام المنذري رحمه الله أحاديث منها: حديث ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم: (أي العمل أحب إلى الله؟)، وفي رواية أخرى: لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أي العمل أفضل؟)، يريد من الأعمال التي يتعبد بها العبد لربه سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: ما هي الأعمال الفاضلة التي هي أحب إلى الله سبحانه وتعالى؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة على وقتها)، وهذا الحديث يوضحه حديث أم فروة بعده المروي في سنن أبي داود وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة لأول وقتها)، أي: إذا نودي للصلاة استحب أن يذهب المسلم حيث ينادى بالصلاة، ثم يصلي هذه الصلاة فيصلي مع الجماعة، وجعل هذا العمل هو المقدم على غيره من أعمال، بل هو أول الأعمال، ويليه بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله. والمتأمل في هذا الترتيب يعلم فضيلة الصلاة، وكيف أنها أفضل العمل الذي يعمله العبد متقرباً به إلى الله سبحانه وتعالى، ويؤكد هذا المعنى ما روي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ قال: (الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد).

فضل صلاة الجماعة وأهمية المحافظة عليها

فضل صلاة الجماعة وأهمية المحافظة عليها ومن الأحاديث المذكورة: حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه الحث على صلاة الجماعة، إذ أن صلاة الجماعة واجبة على الرجل، ولذا ينبغي أن يذهب إليها حيث ينادى بالصلاة، ولابد أن يعلم أن أمر صلاة الجماعة من الأهمية بمكان، فإن الشأن في صلاة الجماعة أنها تجمع المسلمين في بيت الله سبحانه وتعالى، ومن ثم تكون سبباً أن يحدث بين المسلمين التعارف، وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، وأفضل الأماكن التي يتعرف المسلم فيها على أخيه المسلم هي بيوت الله سبحانه وتعالى، فيعرفه بالتقوى، ويعرفه بمواظبته على الصلاة وحرصه على دين الله سبحانه، كما أن المسلم إذا فقد أخاه في صلاة الجماعة سئل عنه فربما كان مريضاً، أو محتاجاً، فإذا كان في حاجة من الحوائج أعانه وكان معه. وفي الحديث يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة في بيت الله سبحانه تضعف على صلاة الإنسان في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة) أي: خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة، قال: (لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة)، ثم قال: (فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه)، إذ الإنسان إذا كان خارجاً لصلاة الجماعة، بعد أن توضأ في بيته، فخرجت بعض خطاياه بوضوئه، ثم خرج من بيته يريد الصلاة فكلما خطا خطوة رفع بها درجة، أو كتب له بها حسنة، أو حط بها عنه خطيئة، حتى يصل إلى المسجد، فإن صلى لله عز وجل أو انتظر الصلاة فهو في صلاة، فإن انتهى من الصلاة ومكث في المسجد يسبح الله عز وجل ويذكره كان في صلاة، وكتبت له فضيلة الصلاة مادام في بيت الله عز وجل. قوله: (فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه ما لم يحدث، تقول الملائكة: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة)، أي أنه إذا أكمل صلاة الفريضة ثم جلس حتى أتت الفريضة التي تليها تكتب له جلسته صلاة، وهكذا ما بين الصلاتين يكتب له كأنه يصلي، وشرط ذلك: أن يكون على وضوء، وأن يجلس في مصلاه. ومن الآثار الواردة: أثر لـ ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه يبين أهمية صلاة الجماعة، وأنها ليست بالبساطة التي يعتقدها الناس الذين يتهاونون عنها أو يتركونها، بل ربما قد يترك أحدهم الصلاة من أصلها، والأثر يرويه الإمام مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود أنه قال: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات، ويدل على هذا الكلام حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، يقول ابن مسعود: فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن -أي في المسجد- فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطُهور، ثم يعمِد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة. وقد أثر عن ابن مسعود أنه قال: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) أي: أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتخلف عن هذه الصلاة إلا رجل موسوم بالنفاق معلوم عند الناس بالنفاق. ثم يقول: (ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين رجلين حتى يقام في الصف) وهذا من حرصهم على صلاة الجماعة، فيكون أحدهم متعباً لا يستطيع المشي إلا أن يستند على اثنين فيسندوه ويوقفوه في الصف، كل ذلك حرصاً على صلاة الجماعة ألا تضيع منه، ومع أن له عذره بسبب المرض؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61]، ولكن مع اعتيادهم على صلاة الجماعة، وحبهم لصلاة الجماعة، كان الواحد منهم يفضل أن يستند على غيره ليصلي في المسجد على أن يصلي في بيته، وقد رأينا النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو في آخر حياته، كيف أنه سأل عن الصلاة في يوم من الأيام، وكان مريضاً وعكاً صلوات الله وسلامه عليه: أقيمت الصلاة؟ فقالوا: لا، فأراد أن يقوم ليصلي صلى الله عليه وسلم، فلما قام سقط صلى الله عليه وسلم ولم يقدر على القيام، فقال: ائتوني بماء، فأتوا له بطست فيه ماء، فصب على النبي صلى الله عليه وسلم من الماء ليغتسل فيصحو من الحمى، ويذهب إلى الصلاة صلى الله عليه وسلم، فلما قام أراد أن يذهب ناء صلى الله عليه وسلم ولم يقدر -أي: سقط مرة ثانية- فأتوا بماء مرة أخرى وصبوا عليه صلى الله عليه وسلم، وهكذا مرة بعد أخرى وهو لا يستطع أن يقوم، حتى قدر في مرة أن يقوم فخرج متكئاً على عمه العباس وابن عمه علي رضي الله تبارك وتعالى عنهما، ورجلاه تخطان في الأرض، يريد أن يصلي بالناس صلوات الله وسلامه عليه. فقد يكون الإنسان مريضاً، لكن حبه لصلاة الجماعة يجعله يواظب عليها، مع أن له العذر أن يصلي منفرداً في بيته، ولكن شدة حبه لصلاة الجماعة والمحافظة عليها تجعله يأتي إلى بيت الله كما صنع هذا الذي ذكره ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه اقتداء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه. وقول ابن مسعود: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض. بمعنى: أن المريض الذي يجهد نفسه، ويأتي المسجد مأجور، ولكن لو أنه لم يأت أيضاً مأجور، وأجره كأجر الجماعة؛ لأنه معذور، وقوله: إن كان الرجل ليمشي بين رجلين حتى يأتي إلى الصلاة، معناه: مستند على رجلين.

يعجب الله تعالى من صلاة الجماعة

يعجب الله تعالى من صلاة الجماعة ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تبارك وتعالى ليعجب من الصلاة في الجمع)، أي: صلاة الجماعة، والمعنى: أن الله عز وجل يعجبه ذلك، ويفرح به، ويحب عبده الذي يواظب على صلاة الجماعة، فصلاة الجماعة والمواظبة عليها ينبغي أن يحرص عليها المسلم أشد الحرص، كما ينبغي أن يحرص على أن يسمع تكبيرة الإحرام من الإمام، وهي أول تكبيرة في الصلاة، وقد ورد في فضيلة المحافظة عليها حديث رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، قوله: (من صلى لله أربعين يوماً)، كأن العدد فيه مقصود، ففي قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام حين واعده ربه سبحانه أن ينزل عليه التوراة، فواعده أن يتعبد لله ثلاثين يوماً، ثم أتبعها بعشر قال تعالى: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142]، فجعلها أربعين يوماً، فكأن هذا العدد له مزية في العبادة والمواظبة على العبادة، وكأنه إذا وصل إليه الإنسان في المواظبة على العبادة، كانت له العبادة بعد ذلك عادة فلا تشق عليه. فقوله في صلاة الجماعة: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة) أي: مائتي صلاة، لا أربعين صلاة، وهي عدد الصلوات في أربعين يوماً، ويشترط لنيل هذا الفضل: أن (يدرك التكبيرة الأولى) وهي تكبيرة الإحرام، أي: يسمع الإمام وهو يكبر تكبيرة الإحرام. وقوله: (كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، فيه فضيلة عظيمة جداً تجعل الإنسان يحرص قدر المستطاع على أن يواظب على صلاة الجماعة في بيت الله عز وجل من أجل أن ينال هذه الفضيلة. وقوله: (براءتان: براءة من النفاق)، أي أن الله عز وجل يؤمنه أن يقع في النفاق، ويعصمه من أن ينافق نفاق عقيدة، أو نفاق عمل بفضل هذه المواظبة، فالمعلوم أن المنافقين كما أخبر الله عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142]، فالبراءة المذكورة في الحديث أنها من النفاق أي: لا يقوم كسلان، إذ كيف يقوم كسلان وهو جاهد أن يدرك تكبيرة الإحرام، فالفرق كبير بين هذا الإنسان وبين هؤلاء، بل لا يوجد تناسب بين الإنسان المؤمن والإنسان المتكاسل عن الصلاة. وقوله: (وبراءة من النار)، أي أنه لا يكون من أهل النار يوم القيامة، وليس معنى الحديث: أن من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً لا يواظب عليها بعدها، أو يجلس في البيت ولا يصلي متوهماً أنه مادام قد أخذ جائزته فله أن يترك الصلاة، بل المراد: المواظبة على تكبيرة الإحرام. ولذلك جاء عن السلف رضوان الله عليهم: أنهم كانوا إذا فاتت أحدهم تكبيرة الإحرام يعزي نفسه ويعزونه الناس ثلاثة أيام، أما الصلاة فهو مدركها، لكن فاتته تكبيرة الإحرام. أما إذا فاتت أحدهم الصلاة في وقتها، فإنهم يعزونه أسبوعاً على ما فاته، وكأن مصيبة نزلت به، كالمصيبة التي تنزل بالإنسان فيعزى من أجلها، كموت أحد أقاربه. لذلك ينبغي على الإنسان المسلم أن يحرص على المواظبة على تكبيرة الإحرام، ولعله لا يدرك ذلك من أول مرة، كأن يواظب أسبوعاً ثم يقطعها، فينبغي عليه أن يعيد ذلك مرة ثانية وثالثة حتى يوفقه الله، قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70]، فالله سبحانه وتعالى أدرى بمن يستحق ذلك الفضل، إذ الأمر ليس هيناً يمكن أن يدرك بسهولة، كما أن كثرة المشاغل في الدنيا تحول في الغالب دون الاستمرار في ذلك، ولكن الله عز وجل قد يعلم من نية العبد المواظبة فيكتب له الأجر والثواب حتى ولو فاتته تكبيرة الإحرام في بعض الصلوات، ولكن العبد يعامل نفسه بما جاء في الحديث، وينتظر رحمة الله سبحانه وتعالى من وراء ذلك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في كثرة الجماعة

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في كثرة الجماعة الصلاة صلة بين العبد وربه، والمحافظة عليها جماعة من أفضل القربات عند الله، ولها من الأجر والثواب العظيم ما تفضل به عن صلاة الفرد؛ إذ كلما كثرت الجماعة بالمصلين كان الثواب أكثر.

فضل صلاة الجماعة وكثرتها

فضل صلاة الجماعة وكثرتها

ثقل صلاة الفجر والعشاء على المنافقين

ثقل صلاة الفجر والعشاء على المنافقين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في كثرة الجماعة. روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما في فضيلته لابتدرتموه. وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل). وروى البزار والطبراني عن قباث بن أشيم الليثي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى)]. المقصد أن المسلم يصلي الجماعة قدر المستطاع، وكلما كانت الجماعة أكثر عدداً كانت للإنسان أزكى وأفضل، فلذلك على المسلم أن يكون مع الجماعة الكثيرة خاصة الذين يقيمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعملون بهديه صلوات الله وسلامه عليه. فهنا من الحديث حديث أبي بن كعب رضي الله عنه: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا) فهو يسأل عن بعض الناس، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه، فمن غاب عن الصلاة سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم أين فلان؟ فلعل فلاناً هذا يكون مريضاً فيعوده النبي صلى الله عليه وسلم، أو يدعو له، أو لعل له عذراً فيسأله عن عذره، أو لعله لا يكون له عذر فيعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. فقالوا: غير موجود هذا الإنسان، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين). فصلاة الصبح ثقيلة، حيث يترك الإنسان فراشه ويذهب للصلاة، وصلاة العصر يكون الإنسان في تعب ورجوع من شغل فيترك بيته ويذهب لصلاة الجماعة. كذلك في صلاة العشاء والصلوات الخمس، والمنافقون إذا أتوها فإنما يأتونها وهم كسالى ولا يذكرون الله فيها إلا قليلاً. فكان النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح يسأل: أشاهد فلان؟ أشاهد فلان؟ ثم ذكر صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب) أي: لو تعرف ما في صلاة الفجر وصلاة العصر من فضيلة لأتيت هاتين الصلاتين ولو حبواً على الركب.

فضل الصف الأول على غيره من الصفوف

فضل الصف الأول على غيره من الصفوف قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما في فضيلته لابتدرتموه) أي: لتسابقتم إلى الصف الأول. وهو صف يشبه صفوف الملائكة، فالملائكة المقدمون عند الله أفضل من المؤخرين، فكذلك أهل الصف الأول في الصلاة أفضل عند الله من المؤخرين، ولذلك جاء في الحديث: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول، قالوا: والثاني، فقال: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول قالوا: والثاني؟ قال: والثاني). فهذا يدل على أن الصف الأول له فضيلة عظيمة، وإذا علم الإنسان هذه الفضيلة سابق إليها، وليس معنى المسابقة أن يلحم الناس بعضهم بعضاً، ويضايق الناس بعضهم بعضاً، ولكن الإنسان يحرص على أنه يكون موجوداً في الصف الأول، فإذا لم يجد مكاناً وقف في الصف الثاني، ومن سبق إلى مكان فهو أولى به وقد فاز بذلك.

زيادة الأجر والثواب بكثرة الجماعة

زيادة الأجر والثواب بكثرة الجماعة قال صلوات الله وسلامه عليه: (وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده) أي: أن يصلي مع شخص أفضل من أن يصلي منفرداً. قال: (وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل) أي: لو فرضنا أنك تعلم بأن المسجد الذي ستذهب إليه لتصلي فيه ليس فيه إلا رجل واحد، فصلاتك معه خير من صلاتك في بيتك منفرداً، سواء كان في المسجد أو في المصلى، ولو كنت في مكان ليس فيه مسجد ولا مصلى فلئن تصلي مع الناس جماعة في هذا المكان خير من أن تصلي منفرداً. قال: (وكلما كثر فهو أحب إلى الله) أي: أن يصلي في الجماعة التي فيها عدد كثير أفضل من أن يصلي في مسجد فيه عدد قليل من الناس، ولكن قد يكون قلة الناس في المسجد بسبب متابعتهم للسنة أفضل وأولى. وليس المقصد أنا نكفر المبتدعة، ولكن القصد هو الحرص على الصلاة مع أهل السنة؛ لأنه أفضل وأولى، فالمسجد الذي فيه عدد كبير من أهل السنة أولى من مسجد آخر عدد أهل السنة فيه أقل، فالإنسان يحرص على الأكثر لما جاء في هذه الأحاديث: (كلما كثر فهو أحب إلى الله) أي: كلما زاد العدد كان أحب إلى الله. جاء في الحديث الذي رواه البزار والطبراني عن قباث بن أشيم الليثي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى). أي: لو أن أربعة أشخاص صلى كل اثنين لوحدهما فهي أفضل من صلاة أربعة كل واحد وحده. قال: (وصلاة أربعة أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى) أي: أن صلاة ثمانية أشخاص يصلي بعضهم ببعض، أو يصلي أربعة مع بعض جماعة أفضل من صلاة الثمانية إذا صلى كل واحد وحده، وهكذا. قال صلى الله عليه وسلم: (وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة) يعني: صلاة ثمانية أفراد جماعة أفضل من مائة يصلي كل واحد في بيته، فصلاة الجماعة أفضل وأعظم أجراً من صلاة الإنسان وحده، وكلما كان عدد الجماعة أكثر فهو أزكى وأفضل عند الله سبحانه وتعالى.

الصلاة في جماعة تعدل خمسا وعشرين صلاة

الصلاة في جماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة من الأحاديث: حديث أبي سعيد الخدري رواه أبو داود وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة). أي: أن صلاتك في الجماعة تضاعف على صلاة الواحد خمسة وعشرين مرة، ولذلك كان صلاة الثمانية أفضل من صلاة مائة وأكثر منهم؛ لأن الإنسان في الجماعة صلاته أفضل من صلاة خمسة وعشرين فرادى. فقال لنا هنا: (الصلاة في الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة، وإذا صلاها في فلاة) فالإنسان الذي في المسجد سيلاقي من يعينه على صلاة الجماعة، أما إذا كان في صحراء كأن يكون مسافراً في الطريق وحضرت عليه الصلاة فصلى منفرداً متماً لركوعها وسجودها فإن أجره يزيد ويتضاعف؛ لأن صلاة الإنسان منفرداً يدخلها وسوسة الشيطان وحثه على الإسراع فيها، فإذا أتم الركوع والسجود كان ثوابه فيها أكثر. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجوها بلغت خمسين صلاة) ولأنك إذا أذنت في الصحراء وأقمت وصليت صلى وراءك عدد لا تعلمه من خلق الله سبحانه وتعالى. فقد جاء في الحديث عن سلمان الفارسي رضي الله عنه كما عند عبد الرزاق في مصنفه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الرجل بأرض فلاة - أي: صحراء- فحانت الصلاة فليتوضأ، فإن لم يجد ماء فليتيمم، فإذا أقام صلى معه من خلفه من جنود الله ما لا يرى صلاته). يعني: ألوفاً مؤلفة لا يمكن أن يرى طرفاها، ولا يعرف أولها من آخرها، فالله يفرح من عبده الذي يفعل ذلك ويعجب منه. وفي الحديث: (يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية جبل) أي: راعي غنم فوق جبل يؤذن للصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل: (انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة).

من صلى الفجر والعشاء في جماعة فكأنما قام الليل كله

من صلى الفجر والعشاء في جماعة فكأنما قام الليل كله من الأحاديث العظيمة التي فيها هدية من النبي صلى الله عليه وسلم للمواظبين على الصلاة وخاصة صلاة العشاء وصلاة الفجر حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله). يوضح هذه الرواية التي في صحيح مسلم رواية أبي داود: (من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليل، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام الليل). فالمعنى: أنك إن صليت العشاء في جماعة كنت كأنك قمت نصف الليل، وإن صليت الفجر في جماعة كنت كأنك قمت نصف الليل. وتخيل إن كنت في شهر رمضان المبارك فكم من الممكن أن تصلي قيام ليل في الليلة الواحدة، فصلاتك الفجر والعشاء في جماعة كقيام ليلة، وصلاتك مع الإمام التراويح حتى يفرغ كقيام ليلة، وتصلي وحدك بعد ذلك قيام ليلة، فتصير ثلاث ليال في ليلة واحدة، وهذا من فضل الله عز وجل ورحمته وبركاته لهذا الشهر العظيم، ففضل من الله على العبد أن يوفقه لقيام الليل، وأن يعطي عبده من الصحة والعافية ما يستطيع به على هذا الصيام، ولذلك على المؤمن أن يحرص على صلاة الجماعة، وأن يصلي مع الإمام حتى ينصرف، وإذا كان في بيته أو مسجده أو معتكفه فعليه أن يكثر من الصلاة سواء مع الإمام أو وحده، وليجتهد أن يصلي في الليلة الواحدة أضعافاً مضاعفة.

أهمية صلاة الجماعة والمحافظة عليها

أهمية صلاة الجماعة والمحافظة عليها من الأحاديث: حديث أبي هريرة: (إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً). وهذا الحديث يوضح الحديث السابق، يعني: أن أثقل صلاتين على المنافقين الفجر والعشاء. ومن الصلوات المأمور بالمحافظة عليها الصلاة الوسطى صلاة العصر، وهي أيضاً ثقيلة، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]. وهذه الصلوات ثقيلة؛ لأن صلاة الفجر والعشاء في وقت نوم للإنسان، والصلاة الوسطى صلاة العصر وقت الرجوع من العمل وفيه تعب للإنسان، ولذلك فربنا يحثنا أن نحافظ على الصلوات كلها، صلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر، وصلاة المغرب، وصلاة العشاء. ومما جاء في المحافظة على الصلاة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم) ولقد كاد يصنع ذلك، وما منعه إلا أن البيوت فيها الأطفال الذين لا تجب عليهم الصلاة، وفيها النساء اللاتي لا تجب عليهن صلاة الجماعة؛ ولذلك لم يفعل صلوات الله وسلامه عليه. يقول ابن عمر: كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن. فالصحابة كانوا إذا لاقوا الرجل لا يصلي الفجر جماعة ولا العشاء جماعة أساءوا به الظن. وأعداء الإسلام ينظرون إلى مساجد المسلمين، ويعرفون أن الإسلام لن يكون قوياً حتى تمتلئ المساجد في صلاة الفجر، ولهذا فاحرصوا على صلاة الفجر، وقاوموا الشيطان، وواظبوا على الصلاة في الجماعة خاصة الفجر والعشاء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترهيب من ترك حضور الجماعة لغير عذر

شرح الترغيب والترهيب - الترهيب من ترك حضور الجماعة لغير عذر صلاة الجماعة لها فضل عظيم عند الله سبحانه، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم ورهّب من ترك صلاة الجماعة من غير عذر، لما في صلاة الجماعة من فوائد ومنافع للمسلمين، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تبين أهمية صلاة الجماعة.

فضل صلاة الجماعة والتحذير من تركها

فضل صلاة الجماعة والتحذير من تركها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترهيب من ترك الحضور جماعة لغير عذر: عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا لي حزماً من حطب، ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم). فقيل لـ يزيد بن الأصم: الجمعة عنى أو غيرها، قال: (صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر جمعة ولا غيرها)، هذه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في الترهيب من ترك حضور الجماعة لغير عذر، فصلاة الجماعة فضيلة، ويجب على المسلم أن يصلي صلاة الجماعة حيث ينادى بها، وهذا كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يؤذن للصلاة فيقبل المسلمون من كل مكان على نهج النبي صلى الله عليه وسلم ويصلون صلاة الجماعة، فكان ينظر في وجوه أصحابه فإذا حضر الصحابة صلَّى صلى الله عليه وسلم، وإذا تأخروا أخر الصلاة حتى يجتمعوا. فأمر صلاة الجماعة هام جداً، يجتمع المسلمون في خمس صلوات في اليوم والليلة، فتنزل عليهم بركات من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، ويؤجرون ويكفر عنهم الخطايا بذلك، ووجودهم في مسجد الجماعة يبعد عنهم الشيطان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، ووجودهم في جماعة في مكان واحد يعرف بعضهم بعضاً، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، فمكان صلاة الجماعة مكان للتعارف بين المؤمنين، يعرفون حاجاتهم، وهو مكان النصيحة، ومكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكان تلقي العلم، ومكان قراءة كتاب الله سبحانه، والتعرف على هدي النبي صلى الله عليه وسلم والعمل به. فهنا في الأحاديث ما يفيد الزجر عن ترك صلاة الجماعة والترهيب من ترك هذه الصلاة العظيمة. ومن الأحاديث: ما رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)، فكأنه ينفي عن هذا الإنسان قبول الصلاة التي يصليها وحده، وكأن المقصد: لا صلاة له يعني: الصلاة التي يثاب عليها الأجر العظيم من الله عز وجل، هذا لا يستحق ذلك، وإن كان فيها صلاة، فإنه لا يقال: إنها صلاة باطلة إذا صلاها وحده في بيته، ولكنه يزجر من ترك الجماعة وهو قادر على أن يصليها، فقال: (لا صلاة له)، ولكن استثنى أهل الأعذار، فقد يكون الإنسان له عذر من الأعذار كالمرض ونحوه، ويحتاج إلى أن يصلي في بيته بسبب علة من مرض ونحوه، فهذا معروف، لكن الإنسان الصحيح القادر على أن يأتي الجماعة ثم لا يأتيها ما الذي يمنعه من إتيان الجماعة؟ فكأنه يستكبر حين يسمع المنادي يقول له: حي على الصلاة، هيا تعال إلى الصلاة، حي على الفلاح، تعال لتكون من المفلحين، ثم يأنف أن يكون من المصلين ويكون من المفلحين، فهذا يستحق العقوبة والحرمان. في حديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان)، أي: لم يجد إذا الجماعة في مكان، وأقلها ثلاثة، بل وأقلها أيضاً اثنان كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل الجماعة اثنين قال: (أيكم يتصدق على هذا؟ فقام رجل فصلى معه) فكان الاثنان جماعة. فهنا إذا كان مكان لا يعيش فيه إلا ثلاثة، وهؤلاء الثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة فإن الشيطان يستحوذ عليهم ويحيط بهم ويدخل في قلوبهم ويسيطر عليهم بسبب تركهم لصلاة الجماعة، فقوله: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو)، أي: أن صلاة الجماعة تتعلق بأهل القرى وأهل البدو أيضاً، والقرية بمعنى: المصر أو البلد، فسواء كان هذا البلد في ريف أو في الحضر أو كان في البدو، فالجميع يلزمهم أن يصلوا جماعة طالما أنهم عدد يقيم في مكان فعليهم صلاة الجماعة. فإذا لم تقم فيهم الصلاة قال: (إلا قد استحوذ عليهم الشيطان)، وحاذ الشيء: أخذه، فكأن الشيطان أحاط بهم، وأخذهم الشيطان إلى جانبه، وسيطر عليهم بسبب تركهم الجماعة. فصلاة الجماعة عصمة من الشيطان، فإنك حين تدخل باب المسجد تقول: اللهم صلِّ على محمد عليه الصلاة والسلام، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، فتأخذ على ذلك الرحمة، وإذا خرجت من المسجد تقول: اللهم صلِّ على محمد، طبعاً بعد التسمية، ثم تقول: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم، ومثلما عصمك الله وأتى بك إلى بيته سبحانه وتعالى، كذلك لا يزال يعصمك من الشيطان الرجيم حتى لا يسيطر عليك ويضيع عليك صلواتك، ويضيع عليك ثوابك. قال صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، فالناس كمجموعة إذا جاء الشيطان من بعيد وهم مجموعة لا يستطيع أن يخطف واحداً منهم، ولكن إذا شذ منهم إنسان ومشى بعيداً وترك صلاة الجماعة وترك المسلمين وبقي وحده بعيداً فالشيطان يستحوذ عليه ويسيطر عليه ويضله ويضيعه، كهذا المثال الذي ضربه صلى الله عليه وسلم، مجموعة أغنام كلها مع الراعي، الذئب كيف سيأتي لها وهي مجموعة والراعي معها؟ ولكن الذئب ينتظر بعيداً، فإذا شذت منها شاذة، واحدة من الغنم بعدت بعيداً عن القطيع وعن الراعي فإن الذئب يخطفها ويجري بها، ولا يستطيعون استنقاذها منه، كذلك الإنسان الذي يترك صلاة الجماعة يبتعد عمن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر. حديث لـ ابن أم مكتوم رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: (قلت يا رسول الله! أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: ما أجد لك رخصة). الحديث رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. إن عمراً بن أم مكتوم ضريرٌ ويسمع النداء وله قائد، والمدينة كبيره وبيته شاسع بعيد جداً عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بل يذكر أنه معذور، قال: (لي قائد لا يلائمني)، والمدينة كثيرة الهوام، وقد يلاقي في الطريق كلباً مسعوراً، أو أي شيء يؤذيه، كل ذلك والقائد الذي يقوده إلى المسجد لا يلائمه، يعني: لا يوافقه. فالنبي صلى الله عليه وسلم سأله قال: (أتسمع النداء؟)، هل تسمع المؤذن يؤذن؟ قال: نعم، قال: (ما أجد لك رخصة). هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى، فغيره من المبصرين الذي يرى الطريق هو أولى أن يرابط ويحرص على صلاته في جماعة. حديث آخر في رواية أحمد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المسجد فرأى في القوم رقة)، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأهم أن أجعل للناس إماماً)، يعني: يستخلف أحداً يصلي بالناس، (ثم أخرج فلا أقدر على إنسان، يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه)، أي: يتخلف عن صلاة الجماعة، يتخلف في بيته عن صلاة الجماعة إلا أحرقته عليه. كاد أن يصنع ذلك، فيا ترى لو كان عائشاً معنا ويرى اليوم أحول المسلمين مع الكرة وممن لا يأتون المسجد؛ من أجل أن يتفرجوا على لعبة الكرة ماذا كان سيعمل؟ فإذا كان المسلمون في حفلة فإن نصف المسلمين يتركون الصلاة، إذاًَ: غير المصلين حالهم كما قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19]. ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد ذلك لأحرق بيوتاً على أهلها وهم يشاهدون التلفاز، ويتركون بيت الله سبحانه وتعالى، حتى في رمضان ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأهم أن أجعل للناس إماماً ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله! إن بيني وبين المسجد نخلاً وشجراً)، هو أعمى سيمشي في الطريق في نخل وشجر، وسيتخبط في النخل والشجر قال: (ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؟ قال: أتسمع الإقامة؟ قال: نعم، قال: فأتها). هذا الأعمى ونحن المبصرون نترك صلاة الجماعة التي أمرنا بها ربنا سبحانه، وأمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم. يقول لنا الإمام الخطابي بعدما ذكر هذا الحديث: في هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب، ولو كان ذلك ندباً لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرورة والضعف، ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم، وكان عطاء بن أبي رباح يقول: ليس لأحد من خلق الله في الحضر وبالقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة. وقال الإمام الأوزاعي: لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات، حتى وإن كان الأب أو الأم يقولان للابن: لا تُصًلِّ الجمعة، فلا تصلِّ الجماعة، لا ط

الترغيب في صلاة النافلة في البيوت

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في صلاة النافلة في البيوت إن الصلاة عمود الدين، وأحد أركانه التي بني عليها، فإذا ضاعت ضاع الدين كله، وقد فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في السماء؛ إظهاراً لفضلها، ومكانتها في هذا الدين. وقد رغب الإسلام مع هذه الفريضة بالتطوع معها، نظراً لفضلها، ورغب في صلاة النوافل في البيوت، فالبيت الذي يذكر الله فيه كمثل الحي، والبيت الذي لا يذكر الله فيه كالميت، ومن حافظ على النوافل بني له بيت في الجنة، فليستقل العبد من ذلك أو ليستكثر.

الأمر بصلاة الجماعة في المسجد للرجال

الأمر بصلاة الجماعة في المسجد للرجال وأما صلاة الفريضة فت1صلى في بيت الله عز وجل كما أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بصلاة الجماعة، وهمَّ أن يخالف إلى أقوام يتخلفون عن صلاة الجماعة فيصلون في بيوتهم فيحرق عليهم بيوتهم، فلا بد أن يصلي المؤمن صلاة الجماعة في بيت الله سبحانه وتعالى، فصلاة الجماعة فرض حيث ينادى بها، كما قال ابن مسعود وغيره، فلا يتخلف الإنسان عن صلاة الجماعة إلا لعذر، وخاصة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يلب فلا صلاة له إلا من عذر) وصلاة الجماعة في المسجد للرجال.

أفضل صلاة المرأة في بيتها مطلقا

أفضل صلاة المرأة في بيتها مطلقاً وأما النساء فجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في مسجده صلوات الله وسلامه عليه. وجاء في الحديث الذي رواه أحمد عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: (أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك) فالمرأة تحب أن تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوات الجماعة كلها. فقال: (قد علمت) فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم وهي صادقة في ذلك، قال: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتكِ في بيتكِ خير من صلاتكِ في حجرتكِ، وصلاتكِ في حجرتكِ خير من صلاتكِ في دارك، وصلاتكِ في داركِ خير من صلاتكِ في مسجد قومكِ، وصلاتكِ في مسجد قومكِ خير من صلاتكِ في مسجدي، قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه، وكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل). فصلاة المرأة الفريضة في بيتها خير لها من صلاتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إن كان خروج المرأة لتلقي علم شرعي تحتاج إليه، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للنساء يوماً يخرجن ويأتين إليه، فيحدثهن صلوات الله وسلامه عليه، ويعلمهن ويسألنه ويجيبهن صلوات الله وسلامه عليه. وأيضاً جاء عنه: أنه منع من منع النساء من الخروج إلى المساجد، ففي حديث ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن). إذاً: فالصلاة المكتوبة على الرجل أن يصليها في المسجد، وعكسه المرأة، فصلاتها في بيتها خير لها، وأما النافلة فصلاة الرجل في بيته خير له من صلاته في المسجد، إلا أن تكون تراويح في رمضان فهي مع الجماعة أفضل من صلاة الإنسان وحده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه ليلة وثانية وثالثة، ثم خشي أن تفرض عليهم هذه الصلاة فلم يصلها بهم بعد ذلك صلى الله عليه وسلم خشية الفرضية، ولفضلها اجتمع الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وكانوا يقومون فرادى في بيت الله عز وجل في المسجد النبوي؛ خوفاً من أن تفرض عليهم صلاة التراويح جماعة، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وزلت خشية فرضية صلاة التراويح رجع الأمر إلى أن صلاتها في الجماعة أفضل، ولذلك رتب الخلفاء الراشدون لها من يصليها بالناس جماعة في بيت الله سبحانه وتعالى. وصلاة النافلة عموماً في البيت خير للإنسان من صلاته في المسجد، وأفضل ثواباً منها بكثير، ولا بد أن يعتاد الإنسان على الصلاة في بيته، ولا تكون عادته أنه لا يصلي إلا في المسجد، ويكون مثل النصارى واليهود في أن صلاتهم لا تنفع إلا في أماكن الصلاة التي أعدت لذلك، ففي الإسلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) فالصلاة تنفع في أي مكان على الأرض إذا كان طاهراً، وأما صلاة الجماعة فحيث ينادى بها، ولو أن الصلاة لا تصح إلا في المسجد لأصبح ذكر الله مقيداً بالمساجد؛ ولذلك جعل الله عز وجل لنا أن نذكره في كل حال من الأحوال قائمين وقاعدين ومضطجعين ونائمين، ونصلي له عز وجل في المسجد، وفي البيت، وفي الصحراء، وفي السوق، وفي أي مكان طالما أنه طاهر. وأما الفريضة فإذا نودي لها فإنها تصلي في بيت الله عز وجل؛ لأن الجماعة تضعف على صلاة الإنسان وحده بخمس وعشرين درجة، أو بسبع وعشرين درجة، وإذا صلى في الصحراء وحده ولكنه أذن وأقام فإن صلاته وحده تعدل صلاة الفرد خمسين مرة، مع أنه صلاها وحده في الصحراء، ولكنه لما أذن وأقام فإنه يصلي وراءه من خلق الله ما يشاء الله عز وجل من ملائكة وجان.

فضل صلاة النافلة في البيت

فضل صلاة النافلة في البيت وصلاة النافلة في البيت تنير البيت، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننور بيوتنا بهذه الصلاة ولا نشبهها بالمقابر، فإن المقابر لا يصلى فيها، وهي مظلمة على أصحابها، فلا تجعل بيتك مظلماً كالمقبرة، ولا تحرمها من بركة الصلاة، فتكون كالمقبرة التي لا يصلى فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم)، أي: اجعلوا من النوافل في بيوتكم، (ولا تتخذوها قبوراً) أي: ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً؛ فإن المقبرة يحرم الصلاة فيها، والمقابر ممتلئة ظلمة على أصحابها، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: لما ماتت المرأة التي كانت تقم المسجد، أي: تكنس مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فدفنوها بالليل ولم يخبروا بها النبي صلى الله عليه وسلم، -وكأنهم قللوا من شأنها-، ومرت أيام وافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفها لأنها فقيرة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أدرى وأعلم صلوات الله وسلامه عليه بعباد الله الذين يحبون الله ويحبهم الله عز وجل، وقد كانت هذه المرأة منهم، (فلما سألهم عن المرأة قالوا: ماتت ودفناها بالليل وخشينا أن نوقظك، فقال صلى الله عليه وسلم: إن هذه المقابر ممتلئة أو مملوءة ظلمة على أصحابها، وإن الله يضيئها بصلاتي عليهم، ثم ذهب إلى قبر المرأة فصلى عليها صلاة الجنازة) فصلى عليها على قبرها بعدما دفنت بأيام صلوات الله وسلامه عليه.

الأمر بالصلاة في البيوت

الأمر بالصلاة في البيوت في حديث جابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً)، يعني: تحصل بركة ونور في بيتك بسبب صلاتك فيه. وفي الحديث الآخر عن أبي موسى الأشعري كما في الصحيحين: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)، أي: كما أن هناك فرق كبير بين الحي والميت ولا يوجد وجه للمقارنة بينهما، فكذلك هناك نفس الفرق بين بيت يذكر فيه الله وبيت لا يذكر فيه الله. وفي الحديث: جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد؟ فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة)، أي: إلا أن تكون صلاة الفريضة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي النافلة في بيته، ثم يخرج على الناس في المسجد يصلي بهم ويرجع إلى بيته فيتنفل صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث الذي رواه البيهقي بإسناد جيد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع). ومعلوم أن فضل الفريضة على التطوع كبير جداً، فكذلك صلاتك في بيتك حيث لا يراك أحد فضلها على صلاتك على مرأى من الناس كفضل الفريضة على التطوع. وهذا محمول على إذا كان من الممكن للإنسان أن يرجع إلى بيته ويصلي هذه الصلاة، ولكن أحياناً قد يحدث للإنسان عذر من الأعذار لا يتمكن معه من صلاة النافلة في البيت، وإذا حاول ذلك فقد تضيع منه النافلة، وقد يتكرر هذا الأمر، فعلى ذلك يصلي النافلة ولو في المسجد فهذا أفضل من أن تضيع منه النافلة، فإن استطاع أن يصلي صلاة النافلة في بيته فهذا أفضل من أن يصليها في المسجد، ولكن أحياناً قد يحب الإنسان أن يأتي إلى المسجد مبكراً حتى لا تفوته تكبيرة الإحرام، فليأت إليه مبكراً فهذا أفضل له، ويصلي النافلة في بيت الله عز وجل بعد الأذان، فإن استطاع أن يصلي النافلة في بيته، وعلم أنه لن تفوته تكبيرة الإحرام - كأن يكون بيته قريباً من المسجد- فعلى ذلك صلاته في بيته أفضل له.

الترغيب في المحافظة على النوافل

الترغيب في المحافظة على النوافل ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه في الترغيب في المحافظة على النوافل في اليوم والليلة: حديث أم حبيبة كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة، أو: إلا بني له بيت في الجنة)، وأنت لو أردت أن تبني بيتاً في الدنيا فإنك تجمع المال وتشتري أرضاً لتبني عليها البيت، ولا تدري كم ستعيش فيه، وبعد ذلك تتركه وتذهب، ولكنه في الجنة بيت خالد لك، فابن لك كل يوم بيتاً في الجنة بهذا الشيء، وقد تبني أكثر من ذلك فإذا حافظت على اثني عشرة في اليوم والليلة بني لك بيت في الجنة، وهذا لمن ثابر على ذلك وحافظ عليها، ففي الحديث: (ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم)، يعني: مواظباً على ذلك، (ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة) أي: تطوعاً، وهي صلاة النوافل الرواتب، وقد بينها في رواية أخرى فقال صلى الله عليه وسلم: (أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الغداة)، أي: قبل صلاة الفجر فيكون ترتيبها هكذا: ثنتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، واثنتان بعدها، واثنتان بعد المغرب، واثنتان بعد العشاء فلو واظبت عليها كما في الحديث الآخر عن السيدة عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ثابر -أي: واظب وصابر على ذلك- على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة دخل الجنة) أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر.

فضل المحافظة على ركعتي الفجر

فضل المحافظة على ركعتي الفجر وقد جاء الترغيب في بعض هذه الصلوات في أحاديث أخر مثل: صلاة سنة الفجر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) وركعتا الفجر هما: سنة الفجر، أي الركعتان اللتان قبل الفجر، وقال: (لهما أحب إلي من الدنيا جميعاً). وفي حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر). فقد كان لا يتركهما أبداً لا في حضر ولا في سفر، وكان قد يترك باقي النوافل في السفر ما عد! الوتر، وقيام الليل، وسنة الفجر. وفي حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] تعدل ربع القرآن، وكان يقرأهما في ركعتي الفجر). وركعتا الفجر أو سنة الفجر ركعتان قصيرتان وليستا طويلتين، فليس من السنة الإطالة فيهما، مع أن السنة الإطالة في جميع الصلوات إلا سنة الفجر. فقد كان يقرأ فيها صلى الله عليه وسلم في الركعة الركعة الأولى بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وفي الركعة الثانية بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وقد قال: ({قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] تعدل ربع القرآن). وأيضاً: ليس من السنة صلاة أكثر من ركعتين بعد أذان الفجر، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل بعد الفجر إلا ركعتين فقط، والشريعة هي التي تحدد لنا السنة في الصلاة وكيفيتها من حيث الطول والقصر فيها فسنة الفجر القبلية ركعتان فقط، وهما ركعتان قصيرتان وليستا طويلتين، حتى إن السيدة عائشة رضي الله عنها لتقول: (لا أدري أقرأ فيهما بأم الكتاب أم لا؟). ولا شك أنه قرأ بأم الكتاب، ولكن تقصد من سرعته فيهما، يعني: أنه يصلي ركعتين خفيفتين وليستا طويلتين في سنة الفجر القبلية.

فضل المحافظة على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها

فضل المحافظة على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها وفي حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار). ففي الحديث الأول ذكر أربعاً قبل الظهر واثنتان بعد الظهر، وهنا في هذا الحديث زيادة أخرى وهي: أن تحافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعد الظهر، فيحرم الله عز وجل جسدك على النار في ذلك، وكل هذا بالمواظبة على ذلك، لا أن تفعلها مرة واحدة.

فضل المحافظة على أربع ركعات قبل العصر

فضل المحافظة على أربع ركعات قبل العصر ولم يأت في الحديث الذي ذكر المواظبة على اثنتي عشرة ركعة شيء منها قبل العصر، ولكن جاء في الحديث كما في مسند أحمد وفي السنن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً). فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لمن يصلي قبل العصر أربع ركعات، وهذه سنة أخرى، ولكنها ليست في التأكيد كتأكيد الاثنتي عشرة ركعة التي ذكرناها.

فضل التطوع بين المغرب والعشاء

فضل التطوع بين المغرب والعشاء وأما في المغرب فقد جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، قال: (نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة، كانوا ينتظرون بين المغرب والعشاء في المسجد ينتظرون العشاء، وكانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون) يعني: لم يكونوا يقتصرون على ركعتي سنة المغرب فقط، بل كانوا يجعلون ذلك من قيام الليل فيصلون بعد المغرب ما شاء الله عز وجل لهم من النوافل.

الترغيب في التطوع بعد صلاة العشاء

الترغيب في التطوع بعد صلاة العشاء وأما بعد العشاء فكما جاء في الحديث أنه يُصلي ركعتان، وفي حديث آخر قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى العشاء ورجع إلى بيته صلى أربع ركعات) صلوات الله وسلامه عليه. ومن زاد فله خير في ذلك، وهذا غير قيام الليل، فقد كان يقوم الليل صلوات الله وسلامه عليه كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (أنه كان يصلي إحدى عشرة ركعة). فالغرض: بيان النوافل التي يسمونها الرواتب، يعني: التي هي مخصوصة بصلوات معينة، فتكون قبلها صلاة وبعدها صلاة، فيصلي قبل الظهر أربعاً وأربعاً بعدها، والعصر يصلي قبلها أربعاً، والمغرب يصلي بعدها ركعتان، والعشاء يصلي بعدها ركعتان أو أربع ركعات، ويقوم من الليل ما شاء الله عز وجل له أن يقوم، والفجر يصلي قبلها ركعتان، فهذه هي الصلوات المرتبة بعد الفرائض، فاحرص عليها، ولو على أقل ما فيها، وهن الاثنتا عشرة ركعة التي ذكرناها؛ حتى يبنى لك بيت في الجنة. نسأل الله عز وجل ألا يحرمنا من جنته، وأن يحرم علينا ناره. أقول قول هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في قضاء الإنسان ورده إذا فاته من الليل

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في قضاء الإنسان ورده إذا فاته من الليل لقد جعل الله عز وجل لهذا الإنسان سداً منيعاً من النوافل يحول بينه وبين الشيطان، ويكمل الفرائض، فيجبر نواقصها، ويقيم اعوجاجها، ومن هذه النوافل: قيام الليل، وصلاة الضحى، وصلاة التسبيح، وصلاة التوبة، فقد جاءت فيها أحاديث عظيمة تبين أهميتها، وعظيم أجرها وثوابها، فعلى الإنسان أن يحافظ على مثل هذه النوافل لكي تجبر كسره أمام الواحد في ذلك اليوم العصيب.

الترغيب في قيام الليل، وصلاة الضحى

الترغيب في قيام الليل، وصلاة الضحى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في قضاء الإنسان ورده إذا فاته من الليل، والترغيب في صلاة الضحى. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: أوصاني بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد) متفق عليه. وعن أبي الدرداء وأبي ذر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا ابن آدم! لا تعجزني من أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن غريب. وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب، قال: وهي صلاة الأوابين)]. فهذه أنواع من أنواع الصلوات التي يصليها الإنسان المؤمن مبتغياً الأجر من الله عز وجل فيها، ومنها: صلاة الضحى. فقد النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمر أنه قال: (من نام عن حزبه، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل). والمعنى: أنه يستحب للمسلم أن يكون له ورد من الليل يقوم به، فلا يكن قيام الليل في رمضان فقط، بل لابد للصالح أن يتعود على ذلك. فقد كان الصالحون كـ سفيان الثوري وغيره يقول: كابدنا قيام الليل سنة واستمتعنا به عشرين سنة. فقيام الليل يتعب الإنسان فيه نفسه، وقد يجد في رمضان من يعينه على صلاة الجماعة، لكنه يجد نفسه في غير رمضان وحيداً فلعله يشق عليه، ولكن مع التعود يصير سهلاً عليه، فقد يتعب سنة فيه ثم إذا به يستمتع بقيام الليل طول عمره، فتصير له عادة طيبة، وقد يجد من يوقظه بالليل، فهو ينام وفي قلبه منبه يوقظه في الساعة التي يقوم فيها الليل؛ لأنه اعتاد على قيام الليل في هذا الوقت. لذلك يجب على الإنسان المؤمن أن يعود نفسه على ذلك، فيكون له ورد بالليل يقوم به ولو شيئاً يسيراً، ساعة أو أقل بحسب ما يفتح الله عز وجل به عليه. فلو أن إنساناً نام في الليل على أن يقوم ويصلي فنام ولم يستيقظ من الليل فإنه يكتب له كأنه قام وصلى، بل يكون نومه صدقة من الله عز وجل عليه كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يبقى عليه أن يعوض هذا الذي فاته من الليل في وقت صلاة الضحى.

ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في فضل صلاة الضحى وعظم أجرها

ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في فضل صلاة الضحى وعظم أجرها وصلاة الضحى عظيمة جداً، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بها، ومن هؤلاء: أبو هريرة، فإنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لست بتاركهن: ألا أنام إلا على وضوء)، أي: لا ينام إلا وقد صلى صلاة الوتر، قال: (وألا أدع ركعتي الضحى)، أي: يواظب عليها ولا يتركها. ووقت صلاة الضحى: بعد شروق الشمس بحوالي ربع ساعة أو ثلث ساعة إلى قبل صلاة الظهر بدقيقة أو بدقيقتين، وهذا وقت واسع لأن تصلي فيه صلاة الضحى، أما صلاة الضحى فأقلها ركعتين، ولا حد لأكثرها. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلاها أربعاً وثماني ركعات واثني عشرة ركعة صلوات الله وسلامه عليه، فصل ما شئت في وقت الضحى، وأهم شيء في ذلك المواظبة عليها، ولذلك قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها صلاة الأوابين)، والأواب: الكثير الرجوع والتوبة إلى الله سبحانه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] قال: (وصيام ثلاثة أيام من كل شهر)، يعني: ليس مجرد صوم رمضان فقط، ولكنه يصوم النوافل، فإذا صام مثلاً ستة أيام بعد رمضان من شوال فإنه يكتب له كأنه صام الدهر، قال: (وصيام ثلاثة أيام من كل شهر)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب صيام النوافل، وقد ذكر لنا: أن أفضل الصوم في النوافل صوم داود: (كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، فالمقصود: أن يجعل الإنسان له من النوافل بحسب ما يسر الله له سبحانه. ومن الأحاديث: ما رواه مسلم عن أبي ذر وعن بريدة أيضاً بمعناه، ولفظ حديث بريدة جاء في مسند أحمد، قال صلى الله عليه وسلم: (للإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل صدقة)، أي: في كل يوم عليه أن يتصدق بثلاثمائة وستين صدقة. أما لفظ حديث أبي ذر في صحيح مسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)، فصلاة الضحى تعدل ثلاثمائة وستين صدقة. ومن الأحاديث التي جاءت في فضل صلاة الضحى: حديث يرويه أبو يعلى بإسناد صحيح عن أبي هريرة، حيث يقول رضي الله عنه: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً فأعظموا الغنيمة، وأسرعوا الكرة)، أي: بعث سرية يجاهدون في سبيل الله، فنصرهم الله بسرعة، ورجعوا بغنيمة، قال: (قال رجل: يا رسول! الله ما رأينا بعثاً قط أسرع كرة، ولا أعظم غنيمة من هذا البعث)؛ لأن هؤلاء خرجوا وجاهدوا بسرعة، فنصرهم اللهم بسرعة، ورجعوا بغنيمة عظيمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأسرع كرة منهم، وأعظم غنيمة؟ رجل توضأ فأحسن الوضوء، ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه الغداة -صلاة الفجر- ثم عقب بصلاة الضحوة، فقد أسرع الكرة، وأعظم الغنيمة)، والمعنى: أنه انتظر في مصلاه إلى أن صلى بعد ذلك صلاة الضحى في وقتها، فهذا أسرع كرة أي: أسرع في الرجوع إلى بيته، وأعظم غنيمة أي: أجراً عند الله سبحانه وتعالى. ومن الأحاديث العظيمة في فضل صلاة الضحى: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ابن آدم! صل لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره). وفي هذا دليل على كفاية الله ورعايته سبحانه لعبده الذي يصلي هذه الصلاة، فإذا صليت أربع ركعات في وقت الضحى حفظك الله عز وجل، ودافع عنك، وكفاك ما أهمك من أمر الدنيا، وأمر الخلق، وأمر أعدائك، وأمر الآخرة كذلك بفضله وبرحمته سبحانه.

صلاة التسبيح فضلها وكيفيتها

صلاة التسبيح فضلها وكيفيتها ومن الصلوات التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم وكثرت الأسئلة عنها: صلاة التسبيح، وقد صح فيها حديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو حديث رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب -عم النبي صلى الله عليه وسلم-: (يا عباس! يا عماه! ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك، ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، وقديمه وحديثه، وخطأه وعمده، وصغيره وكبيره، وسره وعلانيته)، والذي يسمع مثل هذه المغفرة العظيمة لابد له أن يسارع إلى فعل هذه الخصال دون تردد، قال: (أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة فقل وأنت قائم: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً)، أي: بعد أن تقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. قال: (ثم تهوي ساجداً فتقول وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، قال صلى الله عليه وسلم: فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، وإن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تستطع ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)، والحديث فيه زيادة: (فلو كانت ذنوبك مثل زبد البحر، أو رمل عالج غفر الله لك). فهذه أربع ركعات من الممكن أن تصليها في ثلث ساعة أو نصف ساعة وتحصل على هذه المغفرة العظيمة، أربع ركعات ستقول فيها ذكراً كلنا نحفظه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمساً وسبعين مرة في كل ركعة، أي: أنك ستقولها ثلاثمائة مرة في أربع ركعات، والنتيجة أن يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل زبد البحر. وفي الحديث: استحباب أن يصلي المسلم هذه الصلاة مرة في اليوم إن استطاع، فإن لم يستطع ففي الأسبوع مرة، فإن لم ففي الشهر مرة، فإن لم ففي السنة مرة، فإن لم ففي العمر مرة.

اعتراض والرد عليه

اعتراض والرد عليه فإن قيل: فهل تصلى جماعة أم فرادى؟ ف A لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بأصحابه جماعة صلوات الله وسلامه عليه، فعلى ذلك وجب أن يصليها الإنسان وحده، فهذا الذي ذكره صلى الله عليه وسلم للعباس رضي الله عنه وأرضاه.

ذكر ما جاء في صلاة التوبة وبيان استحبابها

ذكر ما جاء في صلاة التوبة وبيان استحبابها ومن الصلوات التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً: صلاة التوبة، فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له)، وهي صلاة سهلة، ولم يذكر لنا فيها زيادات حتى تكون لكل المؤمنين، فإذا أذنب الإنسان ذنباً، ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ثم استغفر الله غفر له، قال: (ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135])، إذاً: فشرطها: العزم على عدم العودة إلى هذا الذنب، فلو تاب ثم عاد إلى نفس الذنب لم تقبل منه توبته. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يغفر لنا ذنوبنا جميعها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها وما جاء في فضل يومها وساعتها [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها وما جاء في فضل يومها وساعتها [1] يوم الجمعة من أعظم الأيام عند الله، وقد فضل الله أمتنا على سائر الأمم بأن جعله لها عيداً، وشرع لنا فيها أموراً ورغب في فعلها، وجعل عليها الأجر الكبير ومغفرة الذنوب، وكتابة المسلم من أهل الجنة وغير ذلك من الفضل، لمن التزم بالسنن والآداب ليوم الجمعة.

الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها

الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها، وما جاء في فضل يومها وساعتها. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فأستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغى). وروى مسلم عن أبي هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر). وعن أبي سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يومه، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة) رواه ابن حبان في صحيحه. من الأحاديث الواردة في هذا الباب: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام). في الحديث أن الذي يتوضأ ويحسن الوضوء، أي: يسبغه ويتمه، كما كان يفعله النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم يأتي الجمعة فيستمع وينصت؛ لقوله: فاستمع وأنصت، وقوله: استمع، أي: لخطبة الجمعة، والاستماع فيه إصغاء، أما الإنصات ففيه تفكر، إذ المقصود من إتيان المسلم لصلاة الجمعة أن يستفيد ويتعلم ويتعظ، ولذا فإنه إذا استمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى. وقد جاء الحديث بتأكيد الوضوء، وذلك قوله: توضأ فأحسن الوضوء، أما إذا اغتسلت فالغسل أفضل، كما جاء في الحديث الآخر، وغسل الجمعة جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر به، وأخبر في حديثه أنه واجب على كل محتلم، والراجح: أن غسل الجمعة سنة مؤكدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي على المسلم أن لا يتركها، فقد أكدت بأحاديث كثيرة عنه صلوات الله وسلامه عليه، وإن كان الوضوء جائز لحديث: (من توضأ - يعني للجمعة - فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ففيه بيان أن الغسل أفضل من الوضوء عند إتيان صلاة الجمعة، وسترد المسألة مفصلة في باب فضل الغسل للجمعة. قوله: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام)، فيه فضيلة التبكير إلى الجمعة إذ يغفر له ليس فقط سبعة أيام بل يغفر له عشرة أيام، والحسنة بعشر أمثالها، وفضل الله عز وجل أن يغفر بين الجمعة إلى الجمعة، مقيد فيما إذا اجتنبت الكبائر، أي أن الله عز وجل يغفر صغائر الذنوب بين الجمعتين. ولذا لا يقول الإنسان مثلاً: أنا سأصلي الجمعة، ثم أدع الصلاة إلى الجمعة المقبلة ثم أصليها، وهكذا لأنه بذلك واقع في كبيرة من الكبائر، وهي ترك الصلاة، إذ الكبائر ليست داخلة في هذا الحديث، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم. قوله: ومن مس الحصى فقد لغى، فيه تأكيد على الاستماع والإنصات، والنهي عما يخل بهما بما فيه مسح الحصى؛ لأن ذلك يعني أن المستمع مشغول في شيء غير الخطبة. ومعلوم أن الخطبة تتضمن آيات وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي ينصت لا ينصت للخطيب فقط، ولكنه ينصت لقول الله، وقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وينصت للموعظة، ومن ينشغل عن ذلك لأدنى شيء ولو بمس الحصى أو للعب بيديه وهو جالس ويظن أنه يسمع، فإنه داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مس الحصى فقد لغى)، والمعنى: أنه غير داخل فيمن ذكر الحديث أنه يغفر له؛ لأن شرط المغفرة أن يستمع وينصت، فإذا مس الحصى فقد تشاغل باللعب ولم يعد مستمعاً ومنصتاً.

تعليق الحصول على الفضل باجتناب الكبائر

تعليق الحصول على الفضل باجتناب الكبائر روى مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وفيه أن ما بين الصلاة والصلاة، وما بين الجمعة إلى الجمعة، وما بين رمضان إلى رمضان، يكفر بتلك العبادات بشرط أن تجتنب الكبائر، فالتكفير للذنوب مشروط باجتناب الكبائر، ومن الكبائر: أن يسرق، أو يزني، أو يتعامل بالسحر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يذكر فيها الكبائر ومنها: ما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات -يعني الكبائر التي توبق وتهلك صاحبها- قالوا: وما هن يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، ويزاد عليها ما جاء في القرآن من ذكر السرقة والزنا وقذف المحصنات الغافلات، وأن يتولى المسلم يوم الزحف، وكذلك شهادة الزور.

خمس من فعلها في يوم دخل الجنة

خمس من فعلها في يوم دخل الجنة ومن الأحاديث حديث أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يومه، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة). وهذه الأشياء تتحقق في رمضان أكثر من غيره؛ لأن العادة أن المسلم يصوم فيه يوم الجمعة، كما قد يحضا بهذا الفضل إذا وافق يوم الجمعة صياماً كان يصومه ويواظب عليه، كأن كان يصوم الأيام البيض فوافق أحدها يوم الجمعة، أو كان يصوم يوماً ويفطر يوما فوافق الجمعة يوم صيامه؛ وذلك لأن صيام يوم الجمعة منفرداً نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا صامه مع الخميس، أو صامه مع السبت فقد جاز له أن يصوم. ولاشك أن كل مسلم حريص على أن يكون من أهل الجنة، ولذا سيسعى نحو تطبيق قول النبي صلى الله عليه وسلم: من عاد مريضاً أي: يزور مريضاً، وشهد جنازة أي: حضر الجنازة سواء صلى عليها أو شيعها إلى قبرها. قوله: وصام يوماً وراح إلى الجمعة، فيه ضرورة أن يوافق صومه يوم جمعة. قوله: وأعتق رقبة، هذا غير موجود في زمننا، وقد جاء في حديث آخر ذكر الصدقة والحث عليها. والمطلوب من كل مسلم: أن يفعل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون ممن يكتبه الله عز وجل من أهل الجنة، أما عن عتق الرقبة الآن فلا يوجد، ولكن يوجد البدل، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث فيها فضائل عمل إذا عمله إنسان كان كأنه أعتق أربع رقاب، وكأنه أعتق عشر رقاب، ومن ذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، يقولها المسلم بعد الفجر مائة مرة فكأنما أعتق عشر رقاب)، وهذا ثواب بشيء معلوم، والعتق الحقيقي ثواب آخر، ولكن هذا الموجود؛ لأنه في زماننا لا يوجد عتق رقاب.

استحباب الطيب ولبس أحسن الثياب للمصلي والنهي عن الأذى

استحباب الطيب ولبس أحسن الثياب للمصلي والنهي عن الأذى من الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه ما رواه أحمد عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيبه إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت حتى يصلى كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى). وفي الحديث شروط أخرى للكفارة فيما بين الجمعة والجمعة، فقد ذكر لنا في الحديث الأول: الوضوء والغسل أفضل وأتم وأحسن، وفي هذا الحديث: (ومسح من طيبه إن كان عنده) أي: من مسك أو نحوه- ولبس من أحسن ثيابه، إذ الجمعة عيد للمسلمين، فالمسلم يأتي الجمعة في أحسن ثيابه لا في ثيابه العامة التي قد تكون غير نظيفة يشم منها رائحة العرق مثلاً، فينبغي أن يأتي إلى الجمعة في ثياب طيبة نظيفة كالتي يلبسها في العيد، أو لتكن من أحسن ثيابه، قوله: ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له، أي: إذا أتى المسلم المسجد فينبغي له أن يصلي، فمن المعلوم أن الصلاة عند دخول المسجد سنة، وفيه أنك إذا جئت إلى بيت الله عز وجل يوم الجمعة فلك أن تصلي ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، أو ثماناً، أو عشراً، أو ما بدا لك، فلم يقيد الإسلام النافلة في هذا الوقت بعدد، بل كلما زدت كان خيراً لك. قوله: (ولم يؤذ أحداً)، هذا قيد أيضاً، أي: أنه لا يأت ويؤذي أحداً من الناس لا في طريقه ولا في بيت الله عز وجل، ولا يسخط، ولا يرفع صوته، ولا يضايق المسلمين كأن يوسع الناس ليجلس هو فيؤذي الناس بجلوسه، أو يتخطى رقاب الناس في أثناء دخوله إلى المسجد، فشأنه أن يبتعد عن أي شيء يؤذي به الناس؛ لقوله في الحديث: ولم يؤذ أحداً، ويتبع ذلك بإنصاته للخطبة؛ لقوله في الحديث: (ثم أنصت حتى يصلى) يعني: حتى يصلي الإمام بالناس صلاة الجمعة، فإذا صنع ذلك كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى. وجاء عن أوس بن أوس الثقفي فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنى من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له من كل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)، وهذا فضل كبير من الله عز وجل أن جعل هذه الأشياء التي يصنعها المسلم كلها للجمعة. قوله: (من غسل يوم الجمعة واغتسل) المرادفات في قوله: غسل واغتسل للتوكيد، والمعنى: كأنه غسل رأسه وغسل بدنه يوم الجمعة فأحسن الغسل. قوله: (وبكر وابتكر) أي: جاء مبكراً إلى صلاة الجمعة، فإنه كلما جاء مبكراً كلما كان ذلك أفضل له، والساعات المرتبة في الحديث تبدأ من بعد طلوع الشمس إلى صلاة الجمعة، فمن بعد طلوع الشمس تبدأ الساعة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة وهكذا، فكلما جاء مبكراً إلى بيت الله عز وجل كان له أجر أعظم. قوله: (ومشى ولم يركب) أي: مشى من بيته إلى بيت الله عز وجل ولم يركب إلا إن دعت الحاجة لذلك، كأن يكون المسجد بعيداً يصعب الوصول إليه دون ركوب. قوله: (ودنى من الإمام)، فإنه إذا جاء مبكراً ودنى من الإمام، كان أدعى لأن يستمع وينصت ويتفكر ويتدبر ويتعظ. قوله: ولم يلغ، أي: لم يفعل اللغو كأن يمس الحصى أو يكلم الذي بجواره، أو ينشغل عن الخطبة بشيء، أو ينام في خطبة الجمعة، بل استمع ولم يلغ، فإنه إن فعل ذلك كان له بكل خطوة عمل سنة صيامها وقيامها، فلو كان بين البيت وبين المسجد عشر خطوات والواقع لا يوجد أحد بين بيته وبين المسجد عشر خطوات، ولكن لو فرضنا ذلك لكان له في كل خطوة عمل سنة من الأعمال الصالحة، فكأنك تصوم وتقوم ستمائة وخمسة وستون يوماً، وكذا إن كان مائة خطوة، وبذلك يضاف يوم القيامة إلى عمرك أعماراً من العمل الصالح الخالص، ومن قصر في ذلك وفرط فهو محروم قد حرم نفسه من الخير، وحرم نفسه من أجر عظيم جداً كان سيناله بقليل عمل. وقد يتشاغل المرء عن هذا بأشياء من مشاغل الحياة وهي كثيرة، ولكن كلما استحضر الثواب وتفكر فيه كلما كان هذا دافعاً له على الحرص على ذلك. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على فعل الخيرات وفعل المعروف وأن يجعل عملنا كله صالحاً وله خالصاً وأن لا يجعل لأحد فيه شيئاً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها وما جاء في فضل يومها وساعتها [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها وما جاء في فضل يومها وساعتها [2] إن يوم الجمعة من أعظم أيام الله، وقد اختصه الله عيداً للمسلمين، وفيه ساعة لا يرد فيها طلب طالب، وليوم الجمعة الكثير والكثير من الفضائل التي تجعله مميزاً عن غيره من الأيام، وقد حث الشرع على فضل التبكير فيه لصلاة الجمعة، والعمل بآدابها.

أحاديث ترغب في صلاة الجمعة

أحاديث ترغب في صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [كتاب الجمعة الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها وما جاء في فضل يومها وساعتها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا) رواه مسلم. وعنه أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم وغيره. وروى الطبراني في الكبير من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة بثلاثة أيام وذلك لأن الله عز وجل قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160]). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يوماً، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة) رواه ابن حبان في صحيحه. هذه أحاديث من صحيح الترغيب والترهيب للإمام المنذري رحمه الله في كتاب الجمعة وفي الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها وما جاء في فضل يومها وفضل ساعة الإجابة التي فيها، ويوم الجمعة هو أعظم أيام الأسبوع كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وصلاة الفجر يوم الجمعة أعظم من الصلوات الخمس التي يصليها المسلم في الأسبوع كله، ومن أعظم شيء أن تصلي صلاة الجمعة، ولكن الصلوات المفروضات الخمس المكتوبات في اليوم أعظمها صلاة فجر يوم الجمعة. كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في فجر يوم الجمعة يقرأ بسورة السجدة كاملة ويقرأ بسورة الإنسان كاملة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أغلب أحواله يصلي بهاتين السورتين في فجر يوم الجمعة ويخبر عن يوم الجمعة أن صلاة الفجر فيه أعظم صلاة في الأسبوع تصليها، لذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على صلاة الفجر في كل يوم، وإذا حرص على صلاة الفجر فغيرها من باب أولى أن يحرص عليها، وأن يحرص على فجر الجمعة خاصة؛ لأنها أعظم الصلوات، وأن لا يمل ولا يتعب من السورتين سورة السجدة وسورة الإنسان كاملتين في صلاة الفجر يوم الجمعة فإنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهما التذكير بخصال هذا اليوم. وقد خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في هذا اليوم، والساعة تقوم في هذا اليوم، ويوم الجمعة يوم عيد للمسلمين فهو يوم عظيم.

شرح حديث أبي هريرة: من توضأ فأحسن الوضوء

شرح حديث أبي هريرة: من توضأ فأحسن الوضوء ليوم الجمعة فضائل كثيرة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمنها: رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة) قوله: من توضأ، يعني: لصلاة الجمعة، وجاء في حديث آخر (من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فالأفضل لك والسنة المتأكدة والحق عليك أن تأتي الجمعة وقد اغتسلت لصلاتها، وهذا أفضل وأعظم في أجرك فقال هنا: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)، ولاحظ قوله صلى الله عليه وسلم (فاستمع وأنصت) فهو لم يقل فسمع، وهناك فرق بين السماع والاستماع، فسمع الإنسان وصل إلى أذنه، ولكن لا يشترط أن كل ما سمعه يعيه ويفهمه، ولكن استمع أي: أصغى وتعمد أن يستمع وركز في السماع ولم يتكلم في خطبة الجمعة، وانتبه ليعي ويفقه ويتعلم من خطبة الجمعة، قال: (فاستمع وأنصت) وهذا توكيد مع أن الإنصات يستدعي الاستماع ولكنه أراد أن يؤكد، فبالغ في ذلك لئلا يفوتك شيء من خطبة الجمعة فتعي بذلك خطبة الجمعة جميعها، والجزاء قال: (غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى). لذلك لا بد أن يحرص المسلم على أن لا يقصر في ذلك، فلو أنه حضر الخطبة فنام فلم يستمع ولم ينصت فليس له ذلك الفضل، فيحرص المسلم على الاستماع، ولو أنه جلس فلغا بأن كلم هذا وكلم هذا ففاته من الخطبة شيء فهذا لم يستمع فليس له ذلك الفضل، بل لا جمعة له كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال هنا في هذا الحديث (استمع وأنصت غفر له ما بينه وبني الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام)، أي: من فضل الله أنك إذا حضرت الجمعة يغفر الله لك من الأسبوع إلى الأسبوع سبعة أيام فقط، ولكن الله كريم ومن كرمه أنه عز وجل جعل الحسنة بعشر وليس بسبعة، فعلى ذلك أعطاك فضلاً ثلاثة أيام وهذا من فضله وكرمه وجوده سبحانه تبارك وتعالى. ولو أن إنساناً لعب أثناء الخطبة بمسباحة في يده، أو حصى على الأرض، أو كان يخط خطوطاً على الرمل الذي أمامه، فلا جمعة له، كما قال: (ومن مس الحصى فقط لغى)، أي: ليس له جمعة، ولا صلاة. فالإنسان قد يفعل أشياء صغيرة لا يلقي لها بالاً فتضيع عليه الجمعة، ويضيع منه الأجر العظيم وأصبحت جمعته كصلاة الظهر، أي: ليس له أجر الجمعة.

شرح حديث أبي هريرة: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة)

شرح حديث أبي هريرة: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة) من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم عن أبي هريرة أيضًا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، أي: باجتنابك الكبائر فإن الله سيكفر عنك صغائر الذنوب، وهذا يكون حين الوفاة، يقول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] فلو أنك اجتنبت الكبائر وعلى رأسها الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، وكذا السحر وعقوق الوالدين والسرقة، والزنا والفواحش التي ذكرها الله عز وجل وحذر العباد منها، والفرار من القتال المتعين في الحرب، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وأكل الرشوة والسحت وهو الحرام، يقول لك الله عند وفاتك: غفرنا لك ما صنعت طول حياتك، فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] وهذا على شرط الوفاة. ومن كفارات أو مكفرات الذنوب على شرط البعد عن الكبائر: الصلوات الخمس، فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، فعندما تأتي للمسجد فتصلي والصلاة التي تليها كفارة، وفي حالة عدم وجود ذنوب، فيحصل على حسنات ودرجات فإما أن تحصل على كفارات تبعد عنك الأذى والخطايا وإما أن تحصل على درجات من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى، يقول لنا: (والجمعة إلى الجمعة) أي: كذلك كفارة لما بينهما، (ورمضان إلى رمضان) ولكنه قيدها فقال: (إذا اجتنبت الكبائر).

شرح حديث أبي سعيد: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة)

شرح حديث أبي سعيد: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة) من الأحاديث حديث رواه ابن حبان عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة) والمسلم إذا سمع مثل هذه الأمور فيجب عليه أن يبادر قال: (من عاد مريضاً) أي: يزور إنساناً مريضاً، (وشهد جنازة) ويدخل تحته أن يصلي عليها أو أن يشيعها إلى قبرها أو أن يصلي ويشيع إلى القبر، وشهد الجنازة أي: حضرها (وصام يوماً وأعتق رقبة)، وهذه الخامسة ليست موجودة الآن، ولكن الله جعل لنا البدل منها، فقال لنا: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب)، أي: تعدل عتق عشر رقاب. فعلى ذلك يحرص المؤمن أن يقول في أذكار الصباح في كل يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أو يزيد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير مائة مرة فيكون له كعتق عشر رقاب.

شرح حديث يزيد: (لحقني عباية بن رفاعة)

شرح حديث يزيد: (لحقني عباية بن رفاعة) ومن الأحاديث التي جاءت حديث ل يزيد بن أبي مريم يرويه الترمذي وفيه يقول: لحقني عباية بن رفاعة بن رافع وأنا أمشي إلى الجمعة، فـ يزيد بن أبي مريم كان متوجهاً مشياً لصلاة الجمعة، فلحقه عباية بن رفاعة بن رافع، وهو صحابي فقال له: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، أي: أن الخطى التي تمشيها للجمعة، وأنت ذاهب لبيت الله عز وجل في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى قال: سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار)، وأكثر ما يكون ذلك في الجهاد في سبيل الله، ومن الجهاد أيضاً التوجه إلى بيت الله، والمحافظة على الصلوات وخاصة صلاة الفجر العشاء، فإذا واظبت على ذلك كانت خطواتك هذه في سبيل الله.

شرح حديث أوس بن أبي أوس: (من غسل يوم الجمعة واغتسل)

شرح حديث أوس بن أبي أوس: (من غسل يوم الجمعة واغتسل) حديث آخر من الأحاديث التي جاءت في يوم الجمعة، يقول فيه أوس بن أبي أوس الثقفي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من غسل يوم الجمعة واغتسل) والحديث في المبالغة تأكيداً على غسل يوم الجمعة (من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر)، أي: مبكراً لصلاة الجمعة ومشى مشياً ولم يركب، (ودنى من الإمام فاستمع ولم يلغُ) أي: أنه لم يقعد بعيداً ولكن قرب من الإمام بحسب ما تيسر له، ومعنى: (ولم يلغُ) أي: لم يتكلم أثناء خطبة الجمعة ولم يعبث فيها، قال: (كان له بكل خطوة) أي: كل خطوة خطوتها من بيتك إلى المسجد (عمل سنة أجر صيامها وقيامها)، ومن يستطيع أن يصوم سنة كاملة، فإن في كفارات القتل الخطأ أو الظهار أو إتيان أهله في نهار رمضان يأمره الله بصوم شهرين متتابعين فيصعب على الإنسان ذلك، فكيف بسنة؟ وجاء في حديث آخر: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر) فإن الاغتسال في الجمعة فيه شيء من المبالغة (من طيب ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين) وهذا من آداب يوم الجمعة، فإذا أردت أن تجلس بين اثنين فعليك أن تستأذن ولكن لا تفرق بينهما فهما قد يكرهان ذلك. قال: (ثم يصلي ما كتب له) فلما أن تتقدم لصلاة الجمعة والخطيب لم يأتِ بعد (ثم تنصت إذا تكلم الإمام إلا غفر لك ما بين جمعتك وبين الجمعة الأخرى). فجملة الأحاديث فيها: أن المسلم عليه أن يحرص على التبكير لصلاة الجمعة، وعلى الاغتسال لها، وعلى أن يمشي إليها بقدر المستطاع، وعليه أن يجلس قريباً من الإمام ويدنو منه، ولا يفرق بين اثنين، ولا يلغو، وأن ينصت للإمام فيكون له هذا الأجر العظيم. نسأل الله عز وجل أن يعطينا من أجره وفضله ورحمته. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها وما جاء في فضل يومها وساعتها [3]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في صلاة الجمعة والسعي إليها وما جاء في فضل يومها وساعتها [3] رغب الإسلام في الاغتسال والتطيب يوم الجمعة، وفي حضور صلاتها، وليوم الجمعة خصائص وفضائل على سائر الأسبوع، ففيه ساعة إجابة للدعوة، ويستحب في يوم الجمعة الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة سورة الكهف والإكثار من الدعاء.

فضل يوم الجمعة على سائر الأيام

فضل يوم الجمعة على سائر الأيام بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري: [الترغيب في صلاة الجمعة. روى الطبراني في الأوسط بإسناد جيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (عرضت الجمعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه بها جبريل عليه الصلاة والسلام في كفه كالمرآة البيضاء، في وسطها كالنكتة السوداء فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولقومك من بعدك، ولكم فيها خير تكون أنت أول، وتكون اليهود والنصارى من بعدك، وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه فيها بخير هو له قُسِمَ إلا أعطاه، أو يتعوذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد). روى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه دخل الجنة، وفيه أخرج منها). وروى أبو داود عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم يوم الجمعة معروضة علي، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي: بليت؟ فقال: إن الله جل وعلا حرم على الأرض أن تأكل أجسامنا).

شرح بعض الأحاديث في فضل الجمعة

شرح بعض الأحاديث في فضل الجمعة فهذه أحاديث يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في كتاب الترغيب والترهيب في باب الترغيب في صلاة الجمعة. ومن الأحاديث: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في أن يوم الجمعة عرضت على النبي صلوات الله وسلامه عليه، إذ نزل عليه جبريل بيوم الجمعة في كفه كالمرآة البيضاء، وأرى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً في كفه، فنظر كالمرآة البيضاء في كف جبريل، وفي وسط هذه المرآة البيضاء نكتة سوداء -يعني: نقطة سوداء فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك يعني: تكون يوم الجمعة عيداً للمسلمين يوم الجمعة، فقد عرضت على اليهود وعلى النصارى فبدلوه، إذْ بدل اليهود الجمعة بالسبت وبدلها النصارى بالأحد. أما المسلمون فثبتوا على يوم الجمعة، فهو اليوم الذي خلق فيه آدم واختاره الله عز وجل بأن يهبط فيه إلى الأرض، واختاره عيداً للمسلمين، وبهذا اليوم تكون النفخة والصعقة، وفيه القيامة، فقال هنا النبي صلى الله عليه وسلم يسأل جبريل: (ما هذا يا جبرائيل؟ قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً). فيوم الجمعة هو العيد الأسبوعي للمسلمين. وأعياد المسلمين تتميز بأن فيها ذكر الله سبحانه وتعالى، وتبدأ دائماً بذكر الله سبحانه، ففيها أجر عظيم عند الله، فيوم الجمعة، ويوم الفطر ويوم الأضحى أعياد المسلمين، وأعظم صلاة تصليها في الأسبوع صلاة الفجر في جماعة، وصلاة الجمعة؛ قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] وهو عيد ويأمركم الله عز وجل أن تبتغوا فيه من فضله، ولكن تذكرون الله سبحانه وتعالى فيه كثيراً. وأيضاً: تصلون على النبي صلوات الله وسلامه عليه في يوم العيد، ويبدأ يوم عيد الفطر من صلاة العيد، وعيد الأضحى يبدأ بصلاة الأضحى، وأعياد المسلمين ليست مجرد لهو ولغو ولعب وضياع للوقت، ولكن يبدأ فيها بالصلاة، وفي يوم الجمعة تصلى الجمعة، وتصلي على النبي صلوات الله وسلامه عليه مكثراً من ذلك فهذا عيد المسلمين. يقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: لتكون لك عيداً ولقومك من بعدك، ولكم فيها خير، تكون أنت الأول، يعني: يومك الأول يوم الجمعة، واليهود يومهم السبت، والنصارى يومهم الأحد، فعيدنا قبل عيدهم، ويوم القيامة يكون الحساب على ذلك، فأمة الإسلام قبل غيرها من الأمم، وعند دخول الجنة أمة الإسلام أول من يدخل الجنة، والنصارى الذين تابعوا المسيح واليهود الذين تابعوا موسى المؤمنين منهم، يعني: الذين كانوا على عهد موسى، والذين كانوا على عهد عيسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام يكونون تابعين لنا، فيدخل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من أمته الجنة أولاً، وهؤلاء من بعدهم. أما اليهود والنصارى الموجودون بعد النبي صلى الله عليه وسلم فكلهم كفار كما ذكر الله عز وجل في كتابه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]. وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]. فلما يذكر المؤمنون من أهل الكتاب فيقصد المؤمنون الذين كانوا على عهد المسيح، والذين كانوا على عهد موسى على نبينا وعليهم الصلاة السلام. قال: وفيها ساعةً لا يدعو أحد ربه فيها بخير هو له قسم إلا أعطاه الله سبحانه، ويوم الجمعة فيها ساعة إجابة وهو يوم عظيم كله، وخصوصاً هذه الساعة لا كما يقوله الجهلة والمغفلون من الناس في يوم الجمعة: فيها ساعة نحس، هذا من كذبهم وتبديلهم لما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن يوم الجمعة فيه ساعة عظيمة لإجابة الدعاء، وهذه الساعة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن وقتها يسير وسنرى في الأحاديث هذه الساعة. فيقول هنا جبريل: وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه فيها بخير هو له قسم إلا أعطاه، أو يتعوذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد، يوم الجمعة في الآخرة وفي الجنة اسمه: يوم المزيد، إذ إن أيام الأسبوع موجودة، ولكن اليوم في يوم القيامة كألف سنة مما تعدون، ويوم الجمعة له فضيلة عظيمة، إذ يعطي الله عز وجل المسلمين زيادة من فضله في هذا اليوم، ويطلعون إلى ربهم فينظرون إليه سبحانه وتعالى. ومن الأحاديث: حديث أوس بن أوس رضي الله عنه يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة) وفضيلة هذا اليوم بقوله: (فيه خلق الله آدم، وفيه قبض) أي: توفى الله عز وجل آدم فيه (وفيه النفخة) أي: يوم القيامة (وفيه الصعقة) أي: يصعق الخلق في هذا اليوم، كأنهم يموتون في يوم الجمعة، ويبعثون فيها يوم القيامة، (فأكثروا علي من الصلاة فيه). ومن أفضل العمل في يوم الجمعة صلاة الفجر في جماعة، والإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن الإكثار من الصلاة عليه في كل وقت أجره عظيم جداً، ويكفيك الله سبحانه وتعالى كلما أهمك بإكثارك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن يوم الجمعة بالذات له فضيلة أكثر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن صلاتكم معروضة علي) وإن كانت معروضة في كل وقت ولكن لها مزيد فضيلة في يوم الجمعة، وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم بطريقة مختلفة عن أي يوم آخر، قالوا: (وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟) يعني: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أكلت الأرض لحمك كما تأكل لحم غيرك من الخلق، فكيف تعرض عليك صلاتنا وأنت على هذه الهيئة؟ فأخبرهم أن هذا لا يكون بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكل الخلق إذا دخلوا قبورهم تأكلهم الدود وتفنى أجسامهم في قبورهم إلا الأنبياء، فتبقى أجسامهم كما هي في قبورهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله جل وعلا حرم على الأرض أن تأكل أجسامهم) فالأرض لا تأكل أجسام الأنبياء وتأكل غير ذلك، وإن كان هناك من الشهداء من يحفظه الله عز وجل في الأرض كما يشاء سبحانه وتعالى، ولكن الأنبياء كلهم لا تأكل الأرض أجسامهم.

زفة يوم الجمعة بأهلها إلى الجنة

زفة يوم الجمعة بأهلها إلى الجنة ومن الأحاديث التي جاءت: ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحشر الأيام على هيئتها، وتحشر الجمعة زهراء منيرة أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى خدرها، تضيء لهم يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضاً، وريحهم كالمسك يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان لا يطرقون تعجباً حتى يدخلون الجنة، لا يخالفهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون) فهذه فضيلة لأهل الجمعة الذين يواظبون على صلاتها الجمعة ويأتون مبكرين لتأديتها، ويغتسلون لها ويتهيئون لها كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها. فالأيام تحشر على هيئتها كما يشاء الله سبحانه وتعالى، ويحشر يوم الجمعة وقد مثله الله عز وجل يوم القيامة، فيوم الجمعة شيء معنوي في الدنيا، لكن يهيئه الله ويمثله ويشخصه يوم القيامة كهيئة عروس تهدى في يوم الجمعة. وهذه العروس -أي: يوم الجمعة- يحف بها أهلها الذين كانوا يواظبون على صلاتها في بيوت الله سبحانه وتعالى، والذين كانوا يحرصون على الاغتسال لها، والذين كانوا يجعلون هذا اليوم عيداً بحق، فيفعلون ما أمر الله عز وجل فيه من استعداد لها ومن صلاة جمعة، ومن ذكر لله سبحانه وتعالى، ومن أعمال تختص بهذا اليوم، فهم يحفون بها كالعروس تهدى إلى خدرها تضيء لهم، يعني: زفة عظيمة جداً: عروس ويحيط بها أهلها، وأهل هذه العروس: أهل الجمعة، وهم المؤمنون الذين كانوا يصلون الجمعة ويسرعون إليها ويأتون مبكرين إليها. قال: تضيء لهم يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضاً، ليس عليهم دنس من أدناس الذنوب، بل قد نقاهم الله عز وجل وجعل ألوانهم بيضاء زاهرة. قال: وريحهم كالمسك يخوضون في جبال الكافور ينظر إليهم الثقلان لا يطرقون تعجباً يعني: كل الخلق ينظرون إلى المسلمين الذين كانوا يصلون الجمعة ويواظبون عليها ويتعجبون من جمالهم وطيب ريحهم، وهيئتهم. قال: لا يطرقون تعجباً حتى يدخلوا الجنة، وكأنهم يحيطون بهذه العروس حتى تؤدي بهم أي: تأخذ أهلها وتدخل بهم إلى الجنة، وأي عظمة أعظم من هذه الجنة التي ينصرفون إليها من الموقف العظيم، فتراهم متجهين إلى الجنة في هذا الجمال العظيم والزفة العظيمة، فيدخلون الجنة وكل الخلق واقفون يشاهدون أهل الجمعة، وهم داخلون الجنة بهذا المنظر والموكب العظيم. قال: لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون يعني: المؤذن الذي يحتسب أذانه ولا يأخذ عليه أجره.

سبق أهل الجمعة في القضاء بينهم يوم القيامة وسبقهم غيرهم في دخول الجنة

سبق أهل الجمعة في القضاء بينهم يوم القيامة وسبقهم غيرهم في دخول الجنة من الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه: حديث أبي هريرة وهو لحذيفة أيضاً: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أضل الله تبارك وتعالى عن الجمعة من كان قبلنا، كان لليهود يوم السبت، والأحد للنصارى، فهم لنا إلى يوم القيامة) يعني: المسلمون أهل الجمعة يدخلون الجنة قبل غيرهم. والآخرون: اختاروا أياماً بعدها السبت والأحد، فدخول المؤمنين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم الجنة يكون قبل غيرهم، والباقون بعدهم. كذلك في القضاء يوم القيامة بين العباد يقضى للمؤمنين قبل غيرهم. وقال صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون من أهل الدنيا) أي: نحن المتأخرون في الدنيا بعدهم، ولكن يوم القيامة قال: (والأولون يوم القيامة المقتضى لهم قبل الخلائق). وفي رواية أخرى قال: (المغفور لهم قبل الخلائق).

ساعة إجابة الدعوة يوم الجمعة واختلاف العلماء في تحديدها

ساعة إجابة الدعوة يوم الجمعة واختلاف العلماء في تحديدها أيضاً: من الأحاديث حديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجمعة فقال: (فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها). وفي يوم الجمعة ساعة إجابة الدعاء، وهي ساعة ليست طويلة، وقد تكون ساعة كاملة، وقد تكون نصف ساعة، وقد تكون ربع ساعة، ولكنها فترة من الزمن في يوم الجمعة، وهذه الفترة إذا وافقها عبد مؤمن وهو يدعو ربه سبحانه، استجاب الله له وأعطاه عز وجل ما سأله. وفي حديث أنس بن مالك تحديد هذه الساعة ففيه: (التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غيبوبة الشمس) أي: من بعد العصر حتى غروب الشمس يستحب للإنسان المؤمن أن يكثر من الدعاء في هذا الوقت. وفي حديث عبد الله بن سلام قال: قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس: (إنا لنجد في كتاب الله تعالى يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله فيها شيئاً إلا قضى الله له حاجته) قيل: هذه الساعة لعله يقصد في التوراة، فقد كان عبد الله يهودياً وأسلم رضي الله تعالى عنه، فكأنهم اطلعوا على ذلك، وعرفوا أن في يوم الجمعة ساعة إجابة دعاء، فهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعرف أن يوم الجمعة ساعة إجابة دعاء، قال عبد الله: فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة يعني: قد لا تكون ساعة، وقد تكون أقل من ساعة، فقلت: صدقت أو بعض ساعة. قلت: أي ساعة هي؟ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أي ساعة في يوم الجمعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (آخر ساعات النهار) يعني: الساعة الأخيرة قبل غروب الشمس. قال: قلت: إنها ليست ساعة صلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلى) يعني: عبد الله بن سلام يقول: إن آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة ساعة لا صلاة فيها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بلى إن العبد إذا صلى ثم جلس لم يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة). في هذا الحديث فضيلة أن تكون في المسجد يوم الجمعة قبل غروب الشمس، فإذ صليت العصر وجلست حتى غروب الشمس فأنت في صلاة، فإذا دعوت الله عز وجل فكأنك قائم تصلي وتدعو ربك سبحانه وتعالى، فالذي يفعل ذلك جدير بالإجابة. في حديث آخر لـ جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة) أي: النهار اثنتا عشرة ساعة تقريباً (لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر). واختلف العلماء في هذه الساعة وواضح من هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنها آخر ساعة قبل غروب الشمس، وإن كان يستحب أن تدعو في اليوم كله، وقد اختلف العلماء في هذه الساعة على ثلاثة وأربعين قولاً. فاختار منها الحافظ ابن المنذر سبعة أو ثمانية أوقات، ذكرها أنها راجحة عند العلماء كالتالي: القول الأول: من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. القول الثاني: من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. القول الثالث: عند زوال الشمس، يعني: في وقت بداية أذان الجمعة. القول الرابع: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة وهذا راجع لما قبله. القول الخامس: إذا قعد الإمام على المنبر حتى يفرغ. القول السادس: هي الساعة التي اختار الله فيها الصلاة، يعني: صلاة الجمعة. القول السابع: ما بين زوال الشمس وحتى يدخل الإمام في الصلاة، ومن وقت أذان الظهر حتى يدخل الإمام في الصلاة، يعني: كأنه دعاء الإمام في هذا الوقت يكون من ضمن دخوله في هذه الساعة بهذا القيد. القول الثامن: هو أنها بين أن تزيغ الشمس بشبر إلى ذراع يعني: أنها الساعة التي بعد وقت أذان الجمعة. القول التاسع: ما بين العصر إلى أن تغرب الشمس. وهذا من أقوى الأقوال. وأقواها: أنها آخر ساعة قبل غروب الشمس، فينبغي على المسلم أن يحرص على هذه الساعة وأن يكثر فيها من الدعاء، وأن يحرص في اليوم كله على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى قراءة سورة الكهف، وأن يحرص دائماً على صلاة الفجر في يوم الجمعة فإنها أعظم صلاة يصليها الإنسان كما سيأتي في أحاديث الجمعة إن شاء الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الغسل يوم الجمعة والترغيب في التبكير إلى الجمعة وما جاء فيمن يتأخر عن التبكير من غير عذر

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الغسل يوم الجمعة والترغيب في التبكير إلى الجمعة وما جاء فيمن يتأخر عن التبكير من غير عذر يوم الجمعة من أعظم أيام الله، وقد اختاره الله للمسلمين ليكون لهم عيداً، وسن لهذا اليوم شعائر، وشرع له شرائع، فينبغي على كل مسلم أن يلتزم بها ويحافظ عليها؛ لما في ذلك من الأجر العظيم والثواب الجزيل.

الحث على الاغتسال والتبكير يوم الجمعة

الحث على الاغتسال والتبكير يوم الجمعة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في الغسل يوم الجمعة والترغيب في التبكير إليها. عن عبد الله بن أبي قتادة ذكر عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه، ثم تطيب من أطيب طيبه، ولبس من صالح ثيابه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يفرق بين اثنين، ثم استمع للإمام، غفر له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين، فمن جاء الجمعة فليغتسل، وإن كان عنده طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك)].

غسل يوم الجمعة يطهر العبد من أدران الذنوب

غسل يوم الجمعة يطهر العبد من أدران الذنوب هذه أحاديث يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في الترغيب في الغسل يوم الجمعة، وفي الترغيب في التبكير إلى الجمعة وغير ذلك. منها: حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل في يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى)، فهذا نوع من أنواع الطهارة، وهي طهارة للبدن، وطهارة لقلب الإنسان. فطهارة البدن: طهارة من الحدث الأصغر ومن الحدث الأكبر، ومعلوم يقيناً أن الإنسان إذا أحدث انتقضت طهارته من الحدث الأصغر، ومعلوم أنه إذا أجنب انتقضت طهارته من الحدث الأكبر، فكأن هذا النوع من أنواع الطهارة المذكورة في الحديث نوع آخر غير التطهر من الحدث الأصغر أو الأكبر، وكأنها نوع من تطهير الإنسان من ذنوبه وذلك بزيادة الإيمان، وتطهير من دنس الشرك والمعاصي، لكن ليست معناها: أنه طاهر من الحدث الأصغر والأكبر؛ لأن هذا لا يعقل أن الإنسان خلال اليوم لا يبول ولا يتغوط، ويكون على طهارة بسبب غسل الجمعة. إذاً: الذي يقصده النبي صلى الله عليه وسلم في طهارة الإنسان في الحديث طهارة أخرى غير الطهارة من الحدثين، فقال: (من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى). وفي حديث آخر: (من اغتسل يوم الجمعة لم يزل طاهراً إلى الجمعة الأخرى)، وكأنها التنقية من الذنوب، فيكفر الله عنه الخطايا والذنوب.

شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب)

شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب) من الأحاديث حديث لـ أبي سعيد الخدري وهو في صحيح مسلم وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه). والحديث رواه مسلم والنسائي وهذا لفظ النسائي: (غسل يوم الجمعة واجب)، ومعنى الوجوب هنا يحتمل أنه الفرض، وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، والراجح أنه بمعنى: اللزوم أو بمعنى تأكيد الاستحباب، والذي يدفع بهذا القول أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فدل هذا على أن الغسل ليوم الجمعة أفضل من الوضوء. ولو كان الغسل واجباً فإنه لو توضأ سيكون آثماً؛ لأن الغسل واجب في الجمعة، ولكن كونه يقول: (بها ونعمت) دليل على أنه مجزئ، وأنه ليس عليه إثم إذا توضأ وذهب لصلاة الجمعة، لذلك فالراجح هو صرف هذا المعنى عن معنى الوجوب المعروف عند الأصوليين إلى معنى تأكيد الاستحباب. (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) والمحتلم هو البالغ، وليس معناه أنه لا بد أن يكون على جنابة حتى يلزمه هذا الغسل. قوله: (وسواك) وهذا أيضاً من الصوارف لهذا الحديث عن بالوجوب، وجاء في الحديث الآخر: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء)، وفي حديث: (عند كل صلاة)، والسواك باتفاق أهل العلم على أنه ليس فرضاً واجباً. وإن كان هذا من دلالة الاقتران وهي ضعيفة عند الأصوليين، لكن الأقرب: أن السواك من المستحبات للجمعة، سواء كان المصلي يصلي الجمعة في رمضان أو في غير رمضان، والراجح جواز استخدام السواك طول النهار في الصيام وفي غير الصيام. قال عليه الصلاة والسلام: (ويمس من الطيب ما قدر عليه) أي: يضع طيباً من أجل صلاة الجمعة، ويظن بعض الناس أن وضع الطيب في نهار رمضان مفطر أو مكروه، وهذا خطأ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، ويجوز وضع الطيب في نهار رمضان كما يجوز في غير رمضان.

شرح حديث: (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين)

شرح حديث: (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين، فمن جاء الجمعة فليغتسل، وإن كان عنده طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك)، وهذا معناه نفس المعنى في الحديث السابق، وزيادة: أن يوم الجمعة يوم عيد.

شرح حديث: (من اغتسل يوم الجمعة كغسل الجنابة)

شرح حديث: (من اغتسل يوم الجمعة كغسل الجنابة) من الأحاديث حديث أبي هريرة في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة كغسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة)، ففيه ثواب عظيم جداً للإنسان المبكر في الساعة الأولى عند طلوع الشمس عندما يتوجه إلى بيت الله عز وجل. وتقسيم الساعات ورد في حديث ذكر خمس ساعات قبل صلاة الجمعة، وفي حديث ذكر ست ساعات قبل صلاة الجمعة، فكأنها تقسيم ما بين وقت انتهاء الفجر إلى غاية صلاة الجمعة وهنا في الحديث ذكر خمساً منها فقال: (ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة)، أي: كأنما قرب لله عز وجل وأهدى جملاً أو ناقة، (ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) أي: كأنه ذبح خروفاً ووزعه على الفقراء، (ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة)، وظاهر أن هذه الأشياء التي يتقرب بها الإنسان تكون في التبكير فقط، وأما ثواب صلاة الجمعة فشيء غير هذا، قال: (ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة). وفي رواية في حديث آخر قال: (من راح في الخامسة فكأنما قرب عصفوراً، وذكر في السادسة: فكأنما قرب بيضة)، فكأن الست الساعات قبل صلاة الجمعة مقسمة على ذلك، فكلما بكر الإنسان كان الثواب أعظم، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر.

الحث على التبكير قبل صعود الإمام المنبر

الحث على التبكير قبل صعود الإمام المنبر ومن الأحاديث حديث ورد فيه أنه على كل باب من أبواب المساجد يوم الجمعة ملكان يكتبان الداخلين إلى المسجد الأول فالأول إلى أن يأتي الإمام، فكأن الإمام آخر من يأتي إلى الجمعة، فإذا صعد الإمام على المنبر طويت الصحف، فلا يكتب في هذه الصحف أسماء أحد ممن يأتون متأخرين بعدما خرج الإمام على الناس. وفي حديث لـ أبي أمامة عند أحمد والطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقعد الملائكة يوم الجمعة على أبواب المساجد معهم الصحف يكتبون الناس) أي: يكتبون أسماء الناس في صحف تكريم وتشريف لهؤلاء الحاضرين إلى الجمعة، قال: (فإذا خرج الإمام طويت الصحف). فقال الراوي عن أبي أمامة: قلت: يا أبا أمامة: أليس لمن جاء بعد خروج الإمام جمعة؟ قال: بلى -أي: له جمعه- ولكن ليس ممن يكتب في الصحف، أي: لا يكتب من ضمن الناس المتقدمين إلى صلاة الجمعة، وسيأتي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يوم القيامة في دخولهم الجنة وفي قعودهم للنظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى سيكون ترتيبهم على حضورهم إلى الجمعة، فالمتقدم للجمعة هو من ينظر إلى وجه الله عز وجل قبل غيره. ويوم الجمعة اسمه يوم المزيد في يوم القيامة، فعلى ذلك فإن المسلم حين يعرف هذا الثواب يحافظ على الحضور في الجمعة مبكراً قدر استطاعته.

من آداب يوم الجمعة

من آداب يوم الجمعة جاء من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آذيت وآنيت). فمن الأدب لصلاة الجمعة أن الإنسان يأتي مبكراً، فإذا ارتقى الخطيب على المنبر فلا ينبغي لأحد أنه يخترق الصفوف ويتخطى رقاب الناس. فالنبي صلى الله عليه وسلم بدأ يخطب وهذا الرجل جاء متأخراً وقام يخترق الصفوف؛ يريد أن يكون في الصفوف الأولى، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قطع الخطبة وقال: (اجلس)، فأمره أن يجلس، وفي قوله هذا زجر وتأديب له ولغيره من الناس، وأنه لا ينبغي هذا الفعل طالما الإمام على المنبر وبدأت الموعظة، فلا ينبغي لأحد أن يشوش على الناس. ومن التشويش كذلك ما يفعله الأطفال الصغار الذين يسعون بين الناس ذهاباً وإياباً، فلابد من تعليم هؤلاء الأدب في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قطع الخطبة، وقال له: (اجلس)، وأدبه بقوله: (فقد آذيت وآنيت)، فالأذى يضايق الناس، والشيء الثاني: آنيت، أي: جئت متأخراً عن الصلاة، فهذا خطؤك أنت، فأنت الذي جئت متأخراً عن الصلاة فعليك أن تجلس حيث انتهى بك المجلس. ومن الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)، فعليه أن يشير إليه فقط، ولا يتلفظ ويقول له: اسكت، فإذا لغا ضاعت عليه صلاة الجمعة. وفي حديث لـ أبي ذر رضي الله عنه يقول: (دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلست قريباً من أبي بن كعب فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة براءة، قال: فقلت لـ أبي: متى نزلت هذه السورة؟) وأبو ذر هو أصدق الخلق لهجة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له. فأبو ذر يسأل أبي بن كعب، وأبي بن كعب كان من حفاظ القرآن رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأبي كان يسمع الخطبة وأبو ذر يسأله: متى نزلت سورة براءة؟ ومعنى هذا الكلام أن هذا حدث في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. فلما قال ذلك قال: (فتجهمني ولم يكلمني) أي: نظر إليه ولم يرد عليه، قال: (ثم مكثت ساعة ثم سألته متى نزلت هذه السورة؟ فتجهمني ولم يكلمني، ثم مكثت ساعة ثم سألته، فتجهمني ولم يكلمني، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت لـ أبي: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني؟ فقال أبي: مالك من صلاتك إلا ما لغوت) فسماه لغواً مع أنه سؤال في طلب العلم، ولكن في الخطبة لا ينبغي هذا. قال: (فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله! كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة، فسألته: متى نزلت هذه السورة فتجهمني ولم يكلمني، ثم قال: مالك من صلاتك إلا ما لغوت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق أبي، صدق أبي) يعني: صلاة الجمعة تكتب لك ظهراً فضاعت الجمعة. وفي حديث آخر نفس الأمر يحدث لـ عبد الله بن مسعود مع أبي بن كعب رضي الله عنه، فقد دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس إلى جنب أبي بن كعب فسأله عن شيء أو كلمه بشيء فلم يرد عليه أبي رضي الله عنه، وظن ابن مسعود أنها موجبة، وابن مسعود من فقهاء الصحابة الكبار، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال ابن مسعود: يا أبي! ما منعك أن ترد عليّ؟ قال: إنك لم تحضر معنا الجمعة، فقال: بم؟ قال: تكلمت والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقام ابن مسعود ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدق أبي صدق أبي، أطع أبي) رضي الله تبارك وتعالى عنه، فحدثت هذه الحادثة مرتين مرة مع أبي ذر، ومرة مع عبد الله بن مسعود، وفي كل منهما بان الحكم الشرعي: أنه لا يجوز الكلام أثناء خطبة الخطيب، وإنما الذي يجوز أن تشير فقط، ولا يجوز لك أن تتكلم، بل والإشارة إذا كانت لغير هدف فإنها لغو، كإنسان يلعب بالحصى، فجمعته لاغية، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا من ضمن اللغو مس الحصى فقال: (من مس الحصى فقد لغا). ومن الأحاديث: حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفى لغواً أن تقول لصاحبك: أنصت إذا خرج الإمام في الجمعة)، فإذا لغا في الجمعة ضاعت عليه جمعته وصارت له كصلاة الظهر.

التحذير من ترك صلاة الجمعة

التحذير من ترك صلاة الجمعة ورد حديث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم أحرق على رجالٍ يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)، جاء في رواية (الجمعة) وجاء في رواية: (الجماعة)، وهذا صحيح فتارك الجمعة وتارك الجماعة يستحقان ذلك. وحديث آخر من حديث الجعد الضمري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه). وحديث لـ أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك ثلاث جمعات بغير عذر كتب من المنافقين). وجاء حديث آخر لـ محمد بن عبد الرحمن بن زرارة قال: سمعت عمر ولم أر رجلاً منا به شبيهاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء يوم الجمعة فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها، ثم سمعه فلم يأتها، طبع الله على قلبه، وجعل قلبه قلب منافق)، فكم هم الناس المنافقون الذين يسمعون النداء ويتغافلون عنه؟!

سنن يوم الجمعة

سنن يوم الجمعة من سنن يوم الجمعة -كما سبق-: التبكير لصلاة الجمعة. ومنها أيضاً: الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة تبلغه، وخصوصاً في مثل هذا اليوم، فالملائكة تبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. من سننها أيضاً: ما جاء في سنن النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)، فالله عز وجل يجعل له نوراً عظيماً ما بين الجمعة والتي قبلها، هذا إذا قرأ سورة الكهف، وإذا واظب على قراءتها في كل يوم جمعة كان له هذه الفضيلة، ويكون له في كل الأيام كما في هذا الحديث. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وما بين البيت العتيق) يعني: يعطى نوراً عظيماً، فتخيل أن لك نوراً يوم القيامة حجمه ما بينك وبين البيت العتيق، فيا ترى هذا النور أليس كافياً أن يضيء لك طريقك وسبيلك يوم القيامة؟!! نسأل الله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها من فرائض الله على عباده: الزكاة، فهي أحد أركان الإسلام، وهي من ضمن الخمس التي تدخل صاحبها الجنة مع اقترانها بالإيمان، وإخراج الزكاة يكون عن طيب نفس، ولا يخرج المسلم الزكاة إلا من أوسط ماله، فيجتنب الرديء، ولا يتكلف الغالي من ماله.

الترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها

الترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، رواه البخاري ومسلم. وروى الطبراني في الكبير بإسناد جيد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس: على وضوئهن، وركوعهن، وسجودهن، ومواقيتهن، وصوم رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأعطى الزكاة طيبة بها نفسه). وروى أحمد والترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)]. هذه أحاديث يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في كتاب الصدقات في باب الترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها، ولا شك في هذه الأيام أننا نتذكر الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فمن كانت عليه زكاة مال فليخرجها، ومن كان عليه في هذه الأيام زكاة الفطر، فليخرجها قبل العيد بيوم أو يومين أو قبل صلاة العيد، وليعرف ما الواجب عليه. والزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي الركن الثالث بعد شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، وبعد إقام الصلاة. وقد فرضها الله عز وجل في كتابه، وجاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث التي تفيد ذلك، منها: حديث: (بني الإسلام على خمس)، وهو حديثٌ معروف. وحديث أبي الدرداء: (خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس: على وضوئهن، وركوعهن، وسجودهن، ومواقيتهن) فالصلوات الخمس لعظم شأنها يفصل النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فكان من الممكن أن يذكر من حافظ على الصلوات الخمس فقط، ولكن تأكيداً لأهمية المحافظة، فقد يظن إنسان أن المحافظة تعني: على الوقت فقط، فيكون بذلك حافظ على الصلاة، ثم يصلي الصلاة فيسرع فيها، وينقرها كنقر الغراب مثلاً، ويظن أنه قد أتى بما هو واجب عليه، فأكد النبي صلى الله عليه وسلم وفصل حتى يعرف المسلم أن الصلاة لابد أن يؤديها بحقها كما أمر الله سبحانه وتعالى. فيحسن صلاته، وهيئتها وقيامها وقعودها، وركوعها وسجودها، ويحسن وضوءها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مفصلاً: (من حافظ على الصلوات الخمس: على وضوئهن، وركوعهن، وسجودهن، ومواقيتهن) فأصلها تأصيلاً، ثم قال: (وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وأعطى الزكاة طيبةً بها نفسه) فهذه أركان الإسلام، وبدأ بالإيمان بالله سبحانه في الحديث الآخر، فذكر: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الصلاة، وذكر الصوم وذكر الزكاة، وذكر حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. وفي حديث معاذ كذلك ذكره صلى الله عليه وسلم.

فرض الله الزكاة تطهيرا للمال وإذهابا لشره

فرض الله الزكاة تطهيراً للمال وإذهاباً لشره جاء في حديث آخر لـ جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أدى الرجل زكاة ماله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره) فكأن المال فيه خير وفيه شر، وبأدائك لزكاة المال تطهر هذا المال فتذهب عنك شره. وفي رواية: (إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره). وقد فرض النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر بأمر ربه سبحانه طهرة للصائم من الرفث واللغو، وزكاة الفطر تطهير بدني للإنسان، فالإنسان قد يلغو بلسانه، وقد يلهو، وقد يقع في الرفث وفي الفاحش من القول من حيث يدري أو من حيث لا يدري، ففيه زكاة الفطر، فهي تطهر بدن هذا الإنسان مما عساه وقع فيه في شهر رمضان من لغو ورفث.

عدم جواز خصم الدين من الزكاة

عدم جواز خصم الدين من الزكاة وزكاة المال تطهر مال الإنسان مما فيه من الشر. ومن الأحاديث حديث لـ سمرة عند الطبراني يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم). (أقيموا الصلاة) تقيمها صلاة مستقيمة كما أمر الله وفرض. (وآتوا الزكاة) والزكاة: إعطاء، ولا يصلح الخصم في الزكاة، وهذا السؤال يتكرر كثيراً من الناس، حيث يقول السائل: أنا لي دين عند إنسان وهذا الإنسان فقير، فهل أتصدق عليه بهذا الدين؟ نقول له: تصدق بالدين. ولا يجوز أن تخصم ما تصدقت به من الزكاة؛ لأن الزكاة إيتاء وليست خصماً، فإنك لن تفيد إذا خصمت الدين من الزكاة لا أنت ولا هو، فإنك لم تطعمه وتسقيه، فأنت تعطيه الزكاة لتسد خلته وحاجته، وخصمك للدَّين وجعل هذا الخصم من الزكاة ليس فيه إطعام ولا سقي، فأنت لم تفد شيئاً عن طريق هذا الخصم، والله عز وجل قال: إيتاء: (وآتوا الزكاة) فالزكاة إعطاء، ولا يصلح في الزكاة الخصم، فأنت تعطي الإنسان الزكاة حتى ولو كان هذا الإنسان لك دين عليه، فيجوز لك أن تعطيه من زكاة مالك، لكن لا تخصم شيئاً، والدين الذي عليه سيؤديه إليك يوماً من الأيام إن شاء الله عز وجل. وإذا أحببت أن تلغي هذا الدين تصدقت عليه بإبرائه، ولكن لا تخصم ذلك من الزكاة، ولا يحسب ذلك من الزكاة، وإنما أنت تتصدق عليه صدقة مطلقة فتلغي هذا الدين ويكون لك أجر عظيم، ولو صبرت على الإنسان الذي استلف منك مالاً وأعطيته موعداً لسداده، فكأنك تصدقت بنصف هذا المال، فإذا جاء الأجل ولم يقدر هذا الإنسان على دفع ما عليه من الدين فأنظرته فقد تصدقت على هذا الإنسان، فكيف بك لو تنازلت عن هذا الدين وسامحته؟!

الحث على السير على الطريق المستقيم

الحث على السير على الطريق المستقيم قال: (وحجوا واعتمروا واستقيموا) فالإنسان المؤمن يستقيم في طريقه ولا يعوج يميناً ولا شمالاً عن طريق الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] أي: استقم على ما أمرك الله به، وامش على الصراط المستقيم، وما أخصر الطريق إلى جنة الله عز وجل من الطريق المستقيم، بل إن أخصر الطرق في الدنيا الطريق المستقيم، فإذا ذهبت شمالاً أو يميناً جعلت الطريق طويلاً، ولكن الطريق المستقيم يؤدي بك إلى الغاية سريعاً، فغاية المؤمن في الدنيا هي الجنة، وأخصر طريق للجنة ألا تعوج شمالاً ولا يميناً، ولا تأتي المعاصي أو الشبهات والشهوات، ولكن كن في طريق الله على الصراط المستقيم، وإن استقمت وعلم الله عز وجل في قلبك ذلك أعانك، فالله عز وجل يوجهك ويدفعك إلى طريق الجنات، ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه: ما رواه البزار عن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل من قضاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وقمته، وآتيت الزكاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء)، وهذه بشارة عظيمة جداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعمال اليسيرة التي تعملونها في هذا الشهر وفي غيره. فقوله: (من مات على هذا) ليس المعنى: أنك تصوم رمضان وتقومه، فإذا ذهب رمضان انقطع هذا العمل الذي كنت تعمله، فقال: (من مات على هذا) يعني: واظب على هذا، وهي أعمال سهلة وبسيطة: شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقامة الصلاة والمحافظة عليها كما أمر الله حيث ينادى بهن، فصيام رمضان وقيامه، وإيتاء الزكاة، فمن فعل ذلك، (ومات على ذلك فهو من الصديقين والشهداء)، وهم أعلى أهل الجنة درجات، قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] يعني: إذا أردت مرافقة هؤلاء فالعمل بسيط وسهل فيها، ولكن واظب على هذا العمل، فتأتي بكلمة التوحيد بحقها لا إله إلا الله، وشروط هذه الكلمة: العلم، واليقين، والقبول، والانقياد، والصدق، والإخلاص، والمحبة، والولاء والبراء، وتؤمن بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتواظب على الصلاة حيث ينادى بها وتستقيم فيها، وتصوم رمضان وتقومه، فإن مت على ذلك كنت مع الصديقين والشهداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء).

التوسط في إخراج المال في الزكاة

التوسط في إخراج المال في الزكاة روى أبو داود من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان) أي: ذاق طعم الإيمان في قلبه، قال: (من عبد الله وحده، وعلم أن لا إله إلا الله) وهذا كقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أي: العلم المنافي للشك، قال: (من عبد الله وعلم أن لا إله الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه) فيعطي زكاة ماله ولكن شرط ذلك: أن يعطي زكاة المال طيبة بها نفسه، فتراه مسروراً بأنه يدفع زكاة المال؛ لأن الله عز وجل وعده الأجر العظيم. والرفد معناه: الإعانة، أي: يعطي ويعين بها في كل عام، وأيضاً: نفسه تعينه على ذلك، قال: (ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة) والهرمة: العجوزة إذا كانت في زكاة بهيمة الأنعام، والدرنة التي فيها درن، والشرط اللئيم: الرذيلة من المال كالمسنة والعجفاء أو التي فيها داء. قال: (ولكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره) يعني: في زكاة المال لم يطلب منكم أغلى شيء في أموالكم ولا أدنى الأشياء، ولكن تدفع في زكاة مالك أو الصدقة الوسط، وهو الشيء الذي تحبه لنفسك، فتعطيه للفقراء فهذه بعض الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة المال. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترهيب من منع الزكاة وما جاء في زكاة الحلي

شرح الترغيب والترهيب - الترهيب من منع الزكاة وما جاء في زكاة الحلي إن منع الزكاة من الذنوب التي يعاقب عليها صاحبها في الموقف يوم القيامة، يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار، فعلى المسلم أن يؤدي فرائض الله تعالى إذا أراد أن ينجو من عذاب الله.

الترهيب من منع الزكاة

الترهيب من منع الزكاة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترهيب من منع الزكاة وما جاء في زكاة الحلي. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفايح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل يا رسول الله! فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها -ومن حقها حلبها يوم وِرْدها- إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولها رد عليه آخرها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) وذكر الحديث. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع حتى يطوق به عنقه، ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه في كتاب الله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} [آل عمران:180]) آية]. لقد وردت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بإعطاء الزكاة، والقرآن ذكر لنا كيف تقسم هذه الزكاة على أهلها. وفي هذه الأحاديث الوعيد الشديد لمن منع زكاة ماله، والمال قد يكون من الذهب أو الفضة، والنقدان يقومان مقام ذلك، وقد يكون من بهيمة الأنعام: من الإبل أو من البقر أو من الغنم. وقد يكون المال حَبّ وثمار، وقد يكون المال من عروض التجارة، وهكذا. فما من مال للإنسان يدخل تحت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة إلا ويلزمه أن يخرج زكاته؛ فإذا امتنع صاحب الإبل، أو صاحب البقر، أو صاحب الذهب، أو صاحب الفضة، أو صاحب التجارة من إخراج زكاة ماله فجزاؤه يوم القيامة ما نسمع في هذا الحديث، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وبعد ذلك يرى سبيله، يعني: قبل أن ينصرف سيعذب في الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل على منعه زكاة ماله.

التحذير من منع زكاة الذهب والفضة

التحذير من منع زكاة الذهب والفضة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفايح من نار) يعني: الذهب والفضة التي كانت معه يحولها الله عز وجل فيجعلها صفايح من نار، فيحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره. قال: (كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة) أي: كلما بردت الصفايح يحمى عليها في نار جهنم مرة أخرى، ويكوى بها جنبه وجبينه وظهره في ذلك اليوم الطويل الذي مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فإذا قضي بين العباد نظر طريقه إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار. وبهيمة الأنعام ثلاثة: الإبل والبقر والغنم، والغنم يدخل تحتها المعز، والذكور والإناث في ذلك سواء.

التحذير من منع زكاة الإبل

التحذير من منع زكاة الإبل قال: (ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها) إذا كان عنده خمس من سائمة الإبل فيلزمه أن يخرج عليها شاة، وإذا كان عنده عشرة من الإبل فيخرج شاتين، وإذا كان عنده خمسة عشر فيخرج ثلاث شياه، وفي عشرين يخرج أربع شياه، وفي خمسة وعشرين إلى خمس وثلاثين يخرج بنت مخاص، وفي ست وثلاثين إلى خمس وأربعين يخرج بنت لبون، وهكذا. فهذه أقسام قسمها الشارع الحكيم، فإذا بخل في إخراج عذبه الله تعالى بهذه الإبل؛ لأنه امتنع عن أداء حقها، وحقها الزكاة، وأيضاً حلبها يوم وردها، فأنت تأخذ الإبل وتسقيها من الماء الذي أنزله الله سبحانه، وكذلك احلب الإبل وأعط للفقراء شيئاً من ذلك. قال: (ومن حقها حلبها يوم وردها) وإذا لم يفعل وكان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، أي: أملس ناعم، والقاع هو الأرض العظيمة الفسيحة المستوية، قال صلى الله عليه وسلم: (أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار). ستأتي هذه الإبل أوفر ما كانت وحتى لو كانت هزيلة في الدنيا فستأتي يوم القيامة أوفر ما كانت تطؤه بأخفافها، أي: تدوس عليه في هذا اليوم، وتعضه بأنيابها، وليس مرورها مرة واحدة بل كلما مرت عليه عادت تمر عليه مرة ثانية وهكذا. ولن يموت فيستريح، بل سيظل يعذب خمسين ألف سنة حتى يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.

التحذير من منع زكاة البقر والغنم

التحذير من منع زكاة البقر والغنم قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: (ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إذا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء) والبطاح هي الرمال والتراب الذي على الأرض، فيبطح هذا الإنسان على الأرض وتمر عليه لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقصاء، والعقصاء: هي ذات القرون الملتوية، فتكون قرونها يوم القيامة مستوية مستقيمة حتى يكون أذاها عليه شديداً. قال: (ولا جلحاء) والأجلح من الغنم: ما ليس له قرن، (ولا عضباء) والأعضب: مكسور القرن، فتكون قرونها سليمة يوم القيامة حتى تؤذيه. قال: (تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار). فالإنسان الذي يبخل بالزكاة من أجل أن يجمعها ويستمتع بها عشر سنين عشرين سنة، وأيضاً هو يجمعها وهو خائف عليها أن يحصل له أمر فيخرجها بسببه. فهذا الذي ادخر المال وجمعه ولم يخرج زكاته، ويخاف أن يصاب بمرض في الدنيا فينتهي عليه ماله، هذا يعذبه الله يوم القيامة خمسين ألف سنة بنفس المال الذي لم يخرج زكاته لله سبحانه وتعالى.

أقسام الناس في الخيل

أقسام الناس في الخيل قيل: يا رسول الله، فالخيل؟ قال: (الخيل لثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر) فأصحاب الخيول ثلاثة أصناف. (فأما التي هي له وزر فرجل ربطها رياءً وفخراً ونواءً لأهل الإسلام، فهي له وزر)، فالإنسان الذي يربط خيله من أجل أن يفتخر بها ومن أجل أن يتعالى ويستكبر على الناس ويكيد لأهل الإسلام، تكون خيله عليه وزر. (وأما التي هي له ستر -أي: يستره الله عز وجل بها- فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر) يعني: أنه ربطها وجهزها فإن احتاجها في سبيل الله، أو احتاجها رجل مسلم لبعض حاجته أعطاه فلم ينس حق الله سبحانه وتعالى في ظهورها ولا في رقابها، إذ هو يطعمها ويعلفها ولا ينسى حق الله وهو أن يعين بها من يحتاج لذلك. والخيل ليس فيها زكاة، وبهيمة الأنعام فيها زكاة من جنسها، وأما الخيل فلا زكاة فيها من جنسها إلا أن تكون للتجارة، فسواء كانت خيولاً وحميراً أو أي نوع من أنواع عروض التجارة فإن عليه زكاة عروض التجارة، فتقوَّم عليه ثم يخرج ربع العشر فيها إذا كان يتاجر فيها، وأما إذا لم يكن يتاجر بها وإنما رباها عنده فليس فيها زكاة، ولكن الذي عليه هو ما ذكر في هذا الحديث وهو أن يعرف الحق الذي فيها،. (وأما التي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة) أي: جهزها للجهاد في سبيل الله عز وجل للمجاهدين، قال: (فما أكلت من ذلك المرج أو الروض أو من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات). والجهاد في سبيل الله أجره عظيم، والإنسان الذي يجهز الخيل للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى له أجر عظيم، لكن الآن قليل من البلدان التي يكون فيها مثل ذلك، ولكن في الماضي كانوا يحتاجون إلى ذلك، فكان الذي يجهز هذا له هذا الأجر العظيم. فالإنسان الذي جهز خيله للجهاد في سبيل الله عز وجل كونها تأكل الأكل في المرج أو الروضة التي هي فيها يكون لصاحبها حسنات، قال: (إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات) حتى الروث والبول من الخيل يكون له حسنات. (ولا تقطع طولها فاستنت شرفاً أو شرفين إلا كتب له عدد آثارها وأرواثها حسنات)، والطول: الحبل الذي يربط فيه الخيل أو بهيمة الأنعام في قدمها حتى لا تذهب من المكان التي هي فيه، فإذا قطعت الحبل وذهبت هنا أو هناك في جهاد أو غيره، فإن عدد الخطوات التي خطتها تكتب لصاحبها حسنات. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله تعالى له عدد ما شربت حسنات)، فصاحب الخيل الذي جهزها في سبيل الله إذا مر بها على نهر وهو لا يريدها أن تشرب ففلتت وشربت فإنه يكتب له أجر ما شربت حسنات، فيكتب له كل شيء طالما أنه جهزها في سبيل الله سبحانه وتعالى. وأي: شيء معروض للتجارة ففيه زكاة عروض التجارة، سواء باع سلاحاً أو خيلاً أو حميراً فإنه يلزمه الزكاة.

الفرق بين زكاة عروض التجارة وزكاة بهيمة الأنعام

الفرق بين زكاة عروض التجارة وزكاة بهيمة الأنعام إن الفرق بين زكاة عروض التجارة وزكاة بهيمة الأنعام: أن زكاة بهيمة الأنعام تخرج من جنسها، فلو أن إنساناً عنده أبقار أخذها من أجل الدر والنسل وهي سائمة العام كله، فهذا إذا كان عنده ثلاثون بقرة فإن فيهن تبيع عمره سنة. وإذا كان عنده أربعون بقرة فإنه يخرج مسنة -يعني: بقرة لها سنتان- فيخرج الزكاة من جنسها، والإبل أيضاً نخرج زكاتها من جنسها إلا إذا كانت قليلة فيخرج من غير جنسها، يخرج من الغنم. إذاً: فالإبل والبقر والغنم تخرج الزكاة منها من جنسها. وأما إذا لم يأخذ هذه الأشياء لأجل النسل والدر ولا هي سائمة كأن يكون رجل عنده مائة خروف يعلفها هو فهذا النوع ليس عليه زكاة بهيمة الأنعام، فلا نقول له: لديك مائة خروف فأخرج عليهن خروفاً أو أكثر، ولكن سنقول له: قوم هذه بالمال لأنه مال أصلاً فهو عبارة عن فلوس سيشتري بها خرفان ثم يبيع الخرفان، فيكون له فلوس مرة أخرى وهكذا، فتكون بهيمة الأنعام هنا عليها زكاة عروض التجارة، والمال الذي يبيع به يحسبه، فإذا كانت الخرفان والمال الذي جمعه يبلغ النصاب فيلزمه إخراج زكاة، والنصاب هو مائتان درهم من الفضة، أي: حوالي خمسمائة وستة وتسعين جراماً من الفضة، فيقدر النصاب على جرامات الفضة. فإذا وجد معه من عروض التجارة ما جاوز هذا المقدار أو وصل إليه لزمه إخراج زكاة عروض التجارة. فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر قال: (ما أنزل علي في الحمر إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]) والفاذة معناها: الآية العظيمة الوحيدة المتفردة بهذا المعنى الجامع العظيم، فقد جمع فيها كل شيء من الحسنات والسيئات، فإذا عملت خيراً ولو مثقال ذرة يسيرة فإن الله عز وجل يريك إياه يوم القيامة حسنات، وإن عملت مثقال ذرة من شر فإن الله سبحانه وتعالى يجازيك، أو يعفو عنها سبحانه وتعالى. فالمعنى: بيان أنه إن لم تجب عليك الزكاة في شيء، فعلى الأقل اعمل الخير واحذر من الشر،: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. ولهذا الحديث رواية رواها النسائي وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جاء يوم القيامة شجاعاً من نار، فيكوى بها جبهته وجنبه وظهره). وفي حديث ابن مسعود: (ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع) فهذه صورة ثانية من الصور. والشجاع الأقرع: هو الثعبان الضخم الكبير، والسبب في وصفه بهذا الوصف زيادة السمية التي فيه، فهو سام جداً، فهذه النار يحولها الله عز وجل إلى هذا الثعبان حتى يطوق به عنقه، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180]. وفي رواية للحديث في صحيح مسلم وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه؛ فإذا أتاه فر منه) يفر من هذا الثعبان يوم القيامة فيناديه خذ كنزك الذي خبأته الآن فأنا عنه غني، (فإذا رأى أن لابد له منه سلك يده في فيه فيقضمها) يعني: يأكل يده وهل يأكل يده فقط لا، ففي حديث ثوبان عند البزار قال: (ثم يتبعه سائر جسده) يعني: الثعبان لن يكتفي بيده بل سيأكله كله وبعد أن يأكله لن يموت، بل يظل على هذا الشيء والعياذ بالله، وهذا أمر رهيب جداً، ولو أن الإنسان تذكر هذا الأمر الرهيب فلن يمنع حق الله سبحانه وتعالى ولن يبخل به؛ فإذا علم ما في هذه الأحاديث من تخويف، وعرف ما في الإعطاء وأنه ما نقص مال من صدقة، وأنه يبارك له ربه سبحانه وتعالى في هذا المال، وأن زكاة المال تحمي العبد يوم القيامة ويأتي من أبواب الجنة: هذا باب للزكاة، وهذا باب للصيام، وهذا باب للصلاة، وينادى العبد من هذه الأبواب فيدخل منها، فالإنسان المؤمن يحرص على أداء زكاة ماله، ويعطي لله حقه، وغير ممكن أن تعط الله حقه ويبخسك فهو الكريم سبحانه, نسأل الله العفو والعافية في الدين الدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في القناعة والعفة

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في القناعة والعفة إن القناعة كنز من وجده فقد أفلح وأنجح. وإن الغنى غنى القلب، فمن رزقه الله هذه النعمة التي فقدها كثير فقد استراح. وغنى القلب يورث الإنسان قناعة مما في أيدي الناس من المتاع الزائل؛ لأنه لا ينظر إلى من هو أعلى منه في الدنيا؛ كيلا يزدري نعمة الله عليه، وإنما نظره دوماً لمن هو دونه، فيزداد غنىً وقناعة وشكراً وثناءً على مولاه، بخلاف من أطلق بصره في أمتعة الدنيا، فقد شتت شمله، وجُعل الفقر بين عينيه، وحياته كلها سخط وكآبة وهمّ وغم.

القناعة مما بأيدي الناس

القناعة مما بأيدي الناس الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام المنذري رحمه الله تعالى في الترغيب والترهيب: [روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر أحدكم إلى من فوقه في الخلق أو المال، ولكن ينظر إلى من هو دونه). وعن نافع قال: كنت أتجر إلى الشام أو إلى مصر، فتجهزت إلى العراق، فدخلت على عائشة أم المؤمنين فقلت: يا أم المؤمنين! إني قد تجهزت إلى العراق، فقالت: مالك ولمتجرك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان لأحدكم رزق في شيء فلا يدعه حتى يتغير له أو يتنكر له، قال: فأتيت العراق ثم دخلت عليها فقلت: يا أم المؤمنين! والله ما رددت رأس المال، فأعادت عليه الحديث، أو قالت الحديث كما حدثتك). وعن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع)]. هذه أحاديث من مسند الإمام أحمد رحمه الله في الترغيب في القناعة والعفة، فالإنسان المؤمن يقنع برزق الله سبحانه وتعالى، فيسعى في طلب الرزق الحلال، وما آتاه الله رضي به وقنع به، فلا يطمع في الدنيا، ولا يترك الأخذ بالأسباب، بل هو يأخذ بأسباب الرزق ويقنع بما آتاه الله سبحانه، ولا يطمع فيما هو في يد غيره مما لم يقسمه له الله سبحانه وتعالى.

معنى القناعة

معنى القناعة القناعة مأخوذة من قنع بالشيء إذا رضي به ولم يطمع فيما هو أكثر منه، والعفة هي: التعفف عما في أيدي الناس، وعدم مد اليد إلى الغير، وعدم تمني أن يكون ما في يد غيره له، فيسلب غيره رزقه، فهذه هي القناعة والعفة. إن الإنسان المؤمن قانع متعفف عفيف، حتى وإن كان ذا عيال، وإن كان ذا حاجة، فهو عفيف متعفف، فله أجر عظيم عند الله سبحانه لعفته ولعدم بسط يده إلى أموال الغير. إن من الأحاديث الدالة على القناعة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد، ورواه الترمذي أيضاً، وهو حديث صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر أحدكم إلى من فوقه في الخلق أو المال)، يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم هنا كيف نقنع، ويعلمنا أن القناعة والعفة تكون بالرضى عن الله سبحانه، وبالرضى عن رزق الله سبحانه، فإن آتاك الله عز وجل شيئاً فاحمده سبحانه، واعتقد أنه نعمة عظيمة من الله أن أعطاك سبحانه وتعالى، لكن لو أن الإنسان أعطاه الله فنظر إلى من هو فوقه، وإلى من هو أحسن منه فلن يقنع أبداً.

الحكمة في منع النظر إلى من هو أعلى منك في المال ونحوه

الحكمة في منع النظر إلى من هو أعلى منك في المال ونحوه قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لا ينظر أحدكم إلى من فوقه في الخلق أو المال)، فلا تنظر إلى من هو أحسن منك في الخلْق، فقد تكون أنت ضعيف البنية، ولكن أعطاك الله عز وجل من نعمته صحةً، وإن كنت أقل من غيرك. لو أنك لو نظرت إلى من هو أقوى منك، وإلى من هو أكثر منك صحة، فستحسد هذا الغير، وتستقل نعمة الله سبحانه وتعالى عليك، لذلك جاء في رواية أخرى لهذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم). إن ازدراء نعمة الله هو: احتقار نعمة الله سبحانه وتعالى، فلو أنك نظرت إلى من هو فوقك دائماً فإنك تتعب نفسك وقلبك وتقول: إن فلاناً أحسن مني، أو أقوى مني، ومهما نظرت إلى الإنسان القوي ستجد من هو أقوى منه، فإذا كان في الإنسان من هو قوي، ففي الحيوان من هو أقوى منه، وإذا كان في الإنسان من هو جميل، ففي الحيوان والطير من هو أجمل منه، فالله سبحانه وتعالى يقسم بين خلقه كما يشاء سبحانه وتعالى، فلا تنظر إلى من هو فوقك نظرة الحسد ونظرة تمنٍّ لزوال ما عند الناس. فالممنوع هو النظر إلى من هو فوقك في الخلق، وفي القوة البدنية، وفي المنظر وفي الصحة على وجه الحسد لهذا الإنسان، ولكن لا مانع من أن تنظر إلى من هو أفضل منك في الخلُق، فتقول: يا ليتني أكون مثل هذا الإنسان، فهذا شيء مطلوب شرعاً. قال في الحديث: (أو المال)، فلو أن إنساناً غنياً عنده ألوف نظر إلى من عنده ملايين فسيحسده، ويقول: لماذا فلان عنده ملايين وأنا لست مثله، والذي عنده ملايين لو نظر إلى الذي عنده مليارات فسيحسده وهكذا، فكل إنسان لو نظر إلى الذي فوقه فسيحسده على ما هو فيه. يقول سبحانه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131]. فإذا عرفت أن الله قد يعطي أناساً ليفتنهم في هذه الدنيا فستقول: الحمد لله الذي لم يعطن هذا الشيء؛ حتى لا يفتنّي في هذه الدنيا، ولا تحسد غيرك. فهنا يأمرك النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا أردت أن تنظر فانظر إلى من هو أسفل منك، فقال في الحديث في الرواية الأخرى: (انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم)، فعندما تنظر إلى الأقل منك تعلم أنك في صحة وعافية، فانظر إلى المرضى وقل: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، وفضلني عليكم وعلى كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً، فيكون أجدر أنك تحمد الله سبحانه وتعالى، ولا تحتقر نعمته عليك. وأيضاً في المال: انظر إلى من هو أفقر منك، فتعلم أن الله أعطاك مالاً، وأعطاك نعماً، وتعلم أنك إن تغديت وتعشيت فغيرك لا يلقى مثل هذا الشيء، فأنت أفطرت وتسحرت وغيرك لو فطر لعله لا يتسحر، فتقول: الحمد لله؛ لقد أعطاني الله سبحانه وفضلني على كثير من خلقه.

زهد النبي صلى الله عليه وسلم وقناعته

زهد النبي صلى الله عليه وسلم وقناعته تذكر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع الحجر على بطنه من شدة الجوع، فيقعد اليوم واليوم ولا يوجد طعام في البيت، بل ولا يوجد طعام في المدينة، وكانوا يعيشون في فقر شديد حتى فتح الله سبحانه وتعالى عليهم، فقد كان يضع الحجر على بطنه صلى الله عليه وسلم؛ ليضغط على المعدة حتى تستشعر أنها ملأى، وحتى يستطيع أن ينصب ظهره، لأن الجائع الشديد الجوع يمشي منثنياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليستطيع أن يمشي في الطريق يربط الحجر على بطنه صلوات الله وسلامه عليه، فهل فعل به ربه سبحانه وتعالى ذلك لهوانه عليه؟! كلا، ولكن منعه من الدنيا، وقال له: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131]، وقال له: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].

قصة نافع مع أم المؤمنين عائشة

قصة نافع مع أم المؤمنين عائشة إن من الأحاديث التي ساقها الإمام أحمد بإسناد فيه ضعف حديث نافع قال: كنت أتجر إلى الشام أو إلى مصر، ونافع كان تاجراً يتاجر إما إلى الشام وإما إلى مصر، فمرة يذهب إلى مصر، ومرة يذهب إلى الشام، فأراد أن يحول تجارته ويذهب بها إلى العراق، فذهب إلى السيدة عائشة رضي الله عنها، وقال: إني قد تجهزت إلى العراق، فكأنها تعجبت لماذا ترك الشام ومصر مع أنه متعود على هذه وعلى تلك، فلماذا يغير المكان ويذهب مكاناً لا تعرفه أصلاً، فهنا كأنها أرادت أن تقول له: لا تطمع، فربنا يعطيك رزقاً هنا، وأنت معتاد عليه في هذه البلدة وهذه البلدة فلماذا تتجر في مكان لا تعرفه، لكنه رفض وذهب إلى العراق، ورجع وقد ضاع رأس المال، فذهب إليها، فقالت: قد قلت لك: أنك لو قنعت بما آتاك الله عز وجل من رزق، وأنت متعود على السفر إلى مكان معين فلا تغيره. وهذه نصيحة لكل إنسان ليس له خبرة في شيء أنه لا يدخل فيه، وخاصة الذي يتاجر في أموال الناس فيفتح الله سبحانه وتعالى له باب رزق في مكان معين فيقوم ويطمع يريد أكثر، فيتوجه إلى مكان آخر وهو لا يعرف عنه شيئاً، فيذهب إليه، فإذا به فجأة يخسر ويضيع منه المال كله. فبعض الناس يفتح له الله في التجارة فيتاجر، وبعدها يبدأ يأخذ من أموال الناس يتاجر فيها، يقول لهذا: هات مالك أشغله لك، ولهذا: هات أشغل لك مالاً، فأعطاه الله شيئاً وراء شيء، فيطمع أكثر، ويقول: هذه البرصة تأتي بربح كثير جداً، فلو وضعت مالي في البرصة الأخرى سأكسب الضعف، أو ثلاثة أضعاف، أو خمسة أضعاف، فأموال الناس التي كانت معه وضعها في هذه البرصة فخسر، وبعدها هرب وترك البلد؛ لأنه ضيع على الناس أموالهم، فلماذا هذا الطمع؟! فيأخذ المال أضعافاً مضاعفة فيذهب به إلى من لا يؤمن عليه، فتضيع الأموال، وتسمع قصصاً كثيرة جداً من قصص النصب والاحتيال، فالتاجر لطمعه في الربح يدفع المال ببساطة لنصَّاب، فيسلط الله الإنسان المحتال النصاب على الإنسان الطماع، فيأخذ المال ويضيعه، وخاصة إذا كان هذا الطماع يأخذ أموال الناس بدعوى أنه يشغل للناس أموالهم، أو أنه هو تاجر خبير بالتجارة فالطمع يضيع كل ما جمع، فاحذر من الطمع، وانظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو أعلا منك.

فضل القناعة

فضل القناعة جاء في الحديث الصحيح عن فضالة بن عبيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع) و (طوبى) هي شجرة في الجنة عظيمة منها تخرج ثياب أهل الجنة، ولا توجد هناك مصانع تصنعها في الجنة، ولا تقعد تخيط وتعمل لا، بل هناك شجرة تنبت نباتها وتظهر الثمار، ومنها: ثياب أهل الجنة، فهذا حديث عظيم يعلمنا القناعة. إن الإسلام هو أعظم النعم التي ينعم الله عز وجل بها على عبده، ولذلك فإن أهل الجنة إذا دخلوها قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، فطوبى لإنسان أنعم الله عز وجل عليه بهذا الإسلام. وهذا الحديث رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه: (قد أفلح)، وهو نفس المعنى، والفلاح العظيم هو دخول الجنة: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه). فنعمة الإسلام هي أعظم النعم، فإذا أنعم الله بها عليك فقد رزقك الله سبحانه وتعالى رزقاً عظيماً، كما قال: (ورزق كفافاً) والكفاف هو: القدر الكافي، فلا زيادة فيه ولا نقصان، ومع هذا الرزق إذا أعطاك الله عز وجل أعظم الغنى وهو القناعة (وقنعه الله بما آتاه) فقد أفلحت عند الله سبحانه، ومن كان هذا حاله فهو من المفلحين؛ لأنه راضٍ عن الله سبحانه وتعالى، فرضي بالإسلام ديناً، ورضي برزق الله سبحانه الكفاف، ولا يريد أكثر مما أعطاه الله سبحانه وتعالى، ولا يطمع في أموال الناس. و (قنع) بمعنى: رضي، و (القانع) هو: الإنسان الراضي بالشيء الذي أعطاه الله.

الاستغناء والاستكفاء بالله

الاستغناء والاستكفاء بالله وفي حديث آخر من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رجلاً من الأنصار كان له حاجة، فقال له: أهله ائت النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه وهو يخطب يقول: من استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومن لجأ لنا فوجدنا له أعطيناه، قال: فذهب ولم يسأل). الراوي هنا هو أبو سعيد قال: (إن رجلاً من الأنصار)، والرجل هو أبو سعيد نفسه، فكأنه عرَّض، والحديث جاء في سنن النسائي: أن هذا الرجل هو أبو سعيد رضي الله عنه، ولفظ النسائي: (قال أبو سعيد: سرحتني أمي). وأبو سعيد الأنصاري اسمه: سعد بن مالك بن سنان، وهو أنصاري رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وقعدت، فاستقبلني وقال: من استغنى أغناه الله) يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة، ويكلم الناس، وجلس أبو سعيد الخدري مواجهاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الرسول الجواب الذي جاء بـ أبي سعيد رضي الله عنه من أجله، فقد جاء ليقول: أعنا وأعطنا معونة يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استغنى أغناه الله عز وجل، ومن استعف أعفه الله عز وجل، ومن استكفى كفاه الله عز وجل، ومن سأل وله قيمة أو قية فقد ألحف). فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هنا الإنسان الذي يستغني، فيطمئنه أن الله غني وسيعطيه الغنى حتى ولو كان هذا الإنسان ليس عنده شيء، فغناه في قلبه، فمن استغنى بالله أغناه الله سبحانه، ومن استكفى بالله وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، كان الله حسبه وكافيه. ومن استعف عن أموال الناس، فلا يطمع، ولا ينظر إلى الناس، ولا يحدث نفسه أن فلاناً معه كذا سأذهب وآخذ منه قليلاً. فأبو سعيد كان ذاهباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه، فقال له هذا الكلام، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن سأل وله قيمة أوقية) يعني: عنده قيمة أوقية، والأوقية: أربعون درهماً، والدرهم حوالي ثلاثة جرام من الفضة، إذاً: فالأوقية قيمتها: حوالي مائة وعشرين جراماً من الفضة، وجرام الفضة قيمته من سبعين قرشاً إلى جنيه، إذاً فـ (120) جراماً من الفضة تساوي (100) جنيه مثلاً، فالذي معه مثل ذلك ويسأل، فهذا يسأل إلحافاً. فـ أبو سعيد الخدري تفكر في نفسه أن من عنده ناقة فعنده أكثر من أوقية، فقال: (ناقتي خير من أوقية) يعني: لو بعتها فستأتي بكذا ولكن أنا أحتاجها، إذاً سأسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فنفعته الموعظة وانصرف ولم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. لفظ الحديث عند الإمام أحمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استعف أعفه الله) أي: من تعفف عن أموال الناس، ولم يمد عينه ولا يده إلى أحد أبداً، فإن الله سبحانه يعفه، ويجعل القناعة في قلبه. (ومن استغنى) يعني: بالله سبحانه، (أغناه الله)، (ومن لجأ إلينا) أي: جاء يسألنا ويطلب منا، (فوجدنا له أعطيناه) أي: الذي سيسألنا لن نعطيه دائماً، بل بحسب ما عندنا، فإذا كان عندنا أعطيناه، وإذا لم يوجد عندنا لم نعطه شيئاً. وجاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أيضاً قال: (إن أناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم) ومنهم أبو سعيد رضي الله عنه ذهب ليسأل فانتفع بهذه الموعظة، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم) أي: أن المال الذي في يده سيوزعه على الناس عليه الصلاة والسلام: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله)، وهنا زيادة في صحيح البخاري ومسلم وهي: (ومن يتصبر يصبره الله). أي: أن الإنسان عنده صبر أصلاً، لكن الكلام هنا عن الإنسان الذي يتصبر وليس عنده صبر، لكنه يحاول، فنفسه تريد ولكن هو يضغط على نفسه لتسكت وتصبر، فهذا هو الذي يتصبر، فيصبره الله، أي: يعينه على الصبر. قال صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) أي: أن أعظم ما يعطاه الإنسان أن يصبره الله سبحانه. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا من فضله، وأن يصبرنا سبحانه عن هذه الدنيا، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. ا. هـ

الترغيب في الصدقة والحث عليها

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الصدقة والحث عليها لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، وبين أن للعبد في ذلك أجراً عظيماً، ومقاماً رفيعاً عند الله سبحانه وتعالى، بل إن الله يتقبل الصدقة فيربيها بيمينه كما يربي أحدنا فلوه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم، والعبد يكون في ظل صدقته يوم القيامة، ووعد الله أنه لا ينقص مالاً من صدقة، بل أصل البركة والسعة في الرزق هو الإحسان إلى الفقراء والمساكين.

ما جاء في الترغيب في الصدقة والحث عليها

ما جاء في الترغيب في الصدقة والحث عليها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في الصدقة والحث عليها، وما جاء في جهد المقل، ومن تصدق بما لا يحب. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول العبد: مالي مالي! وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو ما لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس).

شرح حديث: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب)

شرح حديث: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب) هذه الأحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في الترغيب في الصدقات والحث عليها، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تصدق بعدل تمرة). يقال: عِدل وعَدْل، أي: مقدار، فإذا كان أراد جنسها فهو العِدل، أي: عدل تمرة، يعني: نصف تمرة، وإذا كان من قيمتها أو ثمنها فيكون بعَدل تمرة، يعني: بما يساوي التمرة أو الجزء من التمرة. قال صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب)، وهذا شرط لابد منه، فإن الكسب الخبيث لا يصلح أن يكون صدقة، والنار أولى بصاحبه، فهنا الذي يتصدق يتصدق بالمال الطيب وليس بالمال الخبيث. قال: (ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه)، فيقبلها الله عز وجل، وتنزل من الله عز وجل المنزلة عظيمة (يقبلها بيمينه). قوله: (ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل) قالوا: الفلو: هو المهر الصغير، فيربيه الإنسان حتى يصير حصاناً كبيراً مثل الخيل العظيم، وكذلك الشيء اليسير من الكسب الطيب يتصدق به الإنسان فإن الله عز وجل ينمي له أجره حتى يصير مثل الجبل العظيم. وفي رواية أخرى في الحديث: (إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد). فإذا تصدق الإنسان لله فإن الله عز وجل يربيها لهذا الإنسان وينميها حتى تصير كجبل أحد.

شرح حديث: (ما نقصت صدقة من مال)

شرح حديث: (ما نقصت صدقة من مال) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال). وقال: (ثلاث أقسم عليهن) أي: أحلف عليهن، وذكر منها: (ما نقصت صدقة من مال) فالشخص عندما يتصدق فإن الله يبارك له في ماله، ويزداد ماله بهذه الصدقات التي يخرجها لله عز وجل. قال صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) فالإنسان إذا عفا عن خصمه، وإذا عفا عن الإنسان الذي أساء إليه زاده الله عزاً، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96]، فإذا دفع بالحسنى وعفا فالله عز وجل يزيد هذا العبد عزاً. قوله: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل) فالإنسان المتواضع الذي يخاف رب العالمين، ويعرف أن أصله من تراب فلا يستكبر على أحد من خلقه، فكلما تواضع الإنسان رفعه الله سبحانه وتعالى.

شرح حديث: (بقي كلها غير كتفها)

شرح حديث: (بقي كلها غير كتفها) روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، فقال صلى الله عليه وسلم: بقي كلها غير كتفها) فالذي بقي منها كلها يعني: عند الله سبحانه وتعالى، فكتف اللحم الذي سيبقى هو الذي أنفق صدقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن ما أخرجناه لله فإنه لا يضيع أبداً، فهناك مال أنت تحفظه في نفقتك ومتعتك، وهناك مال تخرجه لله؛ فالذي أخرجته لله هو هذا الذي يدخر عند الله سبحانه وتعالى ويبقى، فهذه هي حقيقة الأشياء، فالأشياء لها ظاهر أمامنا نراه، ولها حقيقة أخرى عند الله سبحانه وتعالى، فمال العبد إما أن ينتفع به في الدنيا فينفذ كما سيأتي في الحديث، وإما أن يتركه لوارثه ويغادر الدنيا ولم ينتفع بهذا المال، وفي كل الأحوال هو نفع مؤقت، وأما الذي أخرج لله سبحانه وتعالى فهو الذي يبقى، ويأتي العبد يوم القيامة فيجد هذا المال ثواباً عند الله سبحانه، ويجده مظلة تحميه يوم القيامة من حر الشمس في هذا اليوم العظيم كما سيأتي في الأحاديث.

شرح حديث: (وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى)

شرح حديث: (وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى) روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول العبد: مالي مالي) يعني: أن العبد يغتر بالمال، فيقول صلى الله عليه وسلم: (وإنما له من ماله ثلاث)، أي: أن الذي ينتفع به من هذا المال هو ثلاث حاجات، (ما أكل فأفنى)، أكل فانتهى أمر هذا الذي أكله، (أو لبس فأبلى) أي: يلبس الثوب ثم بعد ذلك يتقطع وينتهي. (أو أعطى فاقتنى) والمعنى: أنه أعطى لله سبحانه، فحقيقة ما أعطاه لله هو هذا الذي اقتناه، فإذا أخرج المال فتصدق به على الفقير والمسكين، أو أعطاه لرحمه فهذا هو الذي اقتناه حقيقة عند ربه سبحانه. قال صلى الله عليه وسلم: (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس).

شرح حديث: (فإن ماله ما قدم)

شرح حديث: (فإن ماله ما قدم) جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟) أي: من يحب أن يكون مال الوارث أحب إليه من ماله؟ فالصحابة قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، فإن مالي في يدي سأتصرف فيه، وأستمتع به، والآن تغير حال الناس وتغير تفكيرهم، فتجد الذي يدخر للزمن، والذي يجمع للوارث، وهو حقيقة لا يجمع لا لوارث ولا لغيره، وإنما يجمع لنفسه، ويزعم أنه خائف على العيال، وعندما يكبرون ويحتاجون لا يعطيهم شيئاً. فالصحابة كانوا قوم صدق رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، قالوا: لا، إن مالنا أحب إلينا من مال وارثنا، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر). فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن مالك حقيقة هو الذي قدمته لله، فهذا المال يوم القيامة تستمتع به، ومال الوارث الذي أنت حزته وادخرته ولا تدري فيم ينفقه هذا الوارث، وليس المعنى: أن الإنسان يترك الورثة عالة يتكففون الناس، لا، ولكن المعنى: أن تبذل طالما وأنت قادر على البذل، فابذل وادخر لك عند الله عز وجل. وفي حديث سعد رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أتصدق بمالي؟ فقال له: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس). فإذا تصدقت بثلث المال فهذا كثير، فليس المقصد أنه يترك الورثة يمدون أيديهم إلى الناس، لا، وإنما يورث للورثة مالاً بحيث أنهم لا يمدون أكفهم للناس، ولكن لا تنسى نفسك من الصدقة والادخار عند الله، فبعض الناس يدخر المال كله للوارث ولا يخرج زكاة ولا صدقة، فهو خائف من الزمن، وخائف ألا يحصل له حاجة، فيموت ويترك المال يأخذه الورثة ويستمتعون به، وينسوه، ويمكن إذا ذكروه قالوا: كان بخيلاً ما كان يتصدق، ما كان يخرج زكاة، فلا يتحدثون عنه بخير أبداً. قال صلى الله عليه وسلم: (فإن ماله ما قدم) يعني: إلى الله عز وجل، (ومال وارثه ما أخر)، فإن تصدق فمستحيل أنها تنقص من المال، فهذا وعد من النبي صلى الله عليه وسلم أنطقه به ربه سبحانه فقال: (ما نقص مال من صدقة)، ولا نحتاج أن يحلف صلوات الله وسلامه عليه؛ فهو الصادق المصدوق والمعصوم صلوات الله وسلامه عليه.

شرح حديث: (بينا رجل في فلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة)

شرح حديث: (بينا رجل في فلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة) وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل في فلاة من الأرض). أي: في صحراء من الأرض، (فسمع صوتاً في سحابة: أسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة) سمع الرجل صوتاً من السحاب يقول ذلك، فإذا بالسحاب يجتمع ويميل إلى الحرة يعني: أرض حجرية، فالسحاب ترك الرمال والتراب وذهب إلى أرض حجرية، فأنزل كل الماء في هذه الأرض الحجرية. قال: (فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله) الشرجة: شعب في الحجارة استوعب كل الماء من السحابة. فالرجل مشى وراء الماء لينظر إلى أين سيصل هذا الماء، قال: (فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته)، شخص في حديقة يعدل الماء ويحوله (فقال له: يا عبد الله! ما اسمك؟ فقال: فلان للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله! لم سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها؟) أي: ماذا تعمل في هذه الأرض حتى أكرمك الله بسحابة نزلت لك لوحدك؟ (فقال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر ما يخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأرد فيها ثلثاً) انظر إلى تدبير الرجل للأمر فيه! فإن حظ نفسه وعياله ما ضاع، وكذلك الحديقة بحاجة إلى مال ليصلحها، وأعطى الفقراء الثلث الثالث، فلم يضيع الله عز وجل أجر هذا الإنسان، وأرسل له سحابة من الصحراء لتوصل الماء إليه بهذه الطريقة العجيبة، فهذه آية للخلق حتى يعلم الإنسان أنه مهما أعطى لله فلن يضيعه الله عز وجل، فإذا أعطى لله لم يعط ماله كله، وإنما أعطى ثلث المال لله سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد: (الثلث والثلث كثير)، وكعب بن مالك لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن من توبتي أن أتصدق بمالي؟ قال: لا، أبق عليك بعضه فهو خير لك). أي: لا تتصدق بالمال كله، فالإنسان يتصدق بشيء والله عز وجل يبارك له في الباقي من ماله، وينمي له هذه الصدقة ويؤجره عليها يوم القيامة.

شرح حديث: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله)

شرح حديث: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله) وعن عدي بن حاتم كما في الصحيحين أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان)، فكل عبد من عباد الله سيكلمهم الله سبحانه ليس بينه وبين الله ترجمان، ولا توجد واسطة بينهم وبين الله، وهذا في يوم القيامة. قال: (فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم)، والإنسان يكون مرعوباً بين يدي الله عز وجل، فلا يجد إلا العمل الذي عمل. قال: (فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) فالإنسان المؤمن كلما ذكر النار أنفق وفعل الخير؛ لأجل أن يتقي هذه النار فلا يقع فيها.

شرح حديث: (الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة)

شرح حديث: (الصوم جُنة والصدقة تطفئ الخطيئة) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وذكر الحديث وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار). قوله: (الصوم جُنَّة)، فتصوم رمضان وتصوم تطوعاً لله حتى تكون لك ستراً ووقاية من النار، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، فالصوم يقيك من النار، والذي يطفئ لك هذه النار هي الصدقة، فأنت عندما تصوم وتتصدق وقيت نفسك من النار، وأطفأت عن نفسك هذه النار. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس)، رواه أحمد وابن خزيمة. فيوم القيامة هو يوم مقداره خمسون ألف سنة، فالشمس تدنو من الرءوس حتى ما يبقى إلا قدر ميل، سواء ميل المسافة أو ميل المكحلة، فإنها فوق الرأس مباشرة، فمن سيظلل العبد من هذه الشمس يوم القيامة؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة ستظللك من هذه الشمس يوم القيامة، ذلك اليوم الطويل الذي قدره خمسون ألف سنة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس)، قال يزيد: فكان أبو مرثد لا يأتي يوم إلا تصدق فيه بشيء. وهذا رجل من التابعين اسمه: أبو مرثد رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكل يوم يأتي لابد أن يتصدق فيه بصدقة حتى يظله الله بظله يوم القيامة. قال: حتى ولو كعكة، ولو بصلة، حتى تدركه رحمة الله، فلا يشترط أن تكون الصدقة مالاً كثيراً، لا، ففي الحديث قال: (ولو بشق تمرة)، فكان الرجل يأخذ أي شيء ليتصدق به على أخيه الموجود. وفي رواية: أنه كان أول شخص يذهب إلى المسجد، قال: وما رايته داخلاً المسجد قط إلا وفي كمه صدقة. فكأن الرجل ما كان غنياً، لكنه كان يتصدق بما يملك: إما خبزاً، أو قمحاً، قال: حتى ربما رأيت البصل معه يحمله، قال: فأقول: يا أبا الخير! إن هذا البصل يعطي ثيابك رائحة كريهة! فقال: يا ابن أبي حبيب! أما إني لم أجد في البيت شيئاً أتصدق به غيره، إنه حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته). وفي رواية: (أن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته)، وهذه رواية أخرى. فنتعلم من هذه الأحاديث أن المؤمن إذا قدر على الصدقة فليتصدق ولو بأقل الأشياء، ولا تستقل شيئاً تنفقه لله سبحانه وتعالى، فأعط ولو القليل أفضل من ألا تعطي شيئاً، وعندما يتعود الإنسان فيعطي شيئاً فشيئاً تكون له عادة بعد ذلك، فكل يوم له صدقة من الصدقات، ويوم القيامة يجد ظلاً وفيراً عظيماً، وفي قبره لا يجد ما يطفئ عنه نار القبر إلا الصدقة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يطفئ عنا نيران القبور. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وفضل تعلمه وتعليمه والترغيب في سجود التلاوة [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وفضل تعلمه وتعليمه والترغيب في سجود التلاوة [1] القرآن هو الدستور الذي قادت به أمة الإسلام سائر أمم الأرض، وهو الحبل المتين والذكر الحكيم، ولعظم منزلته كان لقراءته أجر عظيم، وكان هذا الأجر ليس مقصوراً على الذي يجيد قراءته والماهر فيه، وإنما شمل كل مسلم قرأ كتاب الله ولو تتعتع فيه، بل لهذا المتمتع أجران.

الترغيب والحث على قراءة القرآن

الترغيب والحث على قراءة القرآن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: الترغيب في قراءة القرآن. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة، فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله! كلنا يحب ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل، خير له من ناقتين وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)، رواه مسلم وأبو داود. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانه، ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة ليس لها ريح، وطعمها مر)، متفق عليه. هذه أحاديث أخرى يذكرها الإمام المنذري رحمه الله في كتابه الترغيب والترهيب، في باب الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغير ذلك. فالمؤمن يقرأ كتاب الله، ويحفظ منه ما استطاع؛ لأنه يعلم أنه نور في قلبه، وأنه بحفظ المؤمن له، يحفظه الله عز وجل به، فيتعلم القرآن؛ لأن خير الناس متعلم القرآن والعالم به.

شرح حديث: (أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان)

شرح حديث: (أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان) وهنا من الأحاديث، حديث لـ عقبة بن عامر: (أنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم في الصفة)، والصفة: مكان في آخر المسجد كان يجلس ويعيش فيه فقراء المسلمين، ويبيتون ويصلون فيه، فخرج عليهم وقال لهم: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم)، بطحان والعقيق: موضعان بالمدينة وفيها أسواق للناس فقال لهم: من يحب أن يذهب للسوق هنالك في بطحان أو في العقيق ويشتري ناقة من النوق السمان كوماء عظيمة ضخمة ويرجع من غير أن يصيبه إثم ولا يقطع رحماً في ذلك؟ فقالوا: كلنا يحب ذلك، فكلنا نريد أن نشتري ويكون عندنا نوقاً عظاماً من غير إثم ولا قطيعة رحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين -وفي رواية أخرى- فيعلم أو يقرأ آيتين). فإذا كأن الذي يذهب إلى بيت الله عز وجل فيتعلم آية واحدة ويحفظها أو يعرف الحكم الشرعي الذي فيها فهذا أفيد وأنفع له من أن يحصل على ناقة عظيمة كوماء أو جمل عظيم أكوم كما جاء في الحديث، أو ناقتين كوماوين، فالآية الواحدة خير له من ذلك، والثلاث خير من ثلاث نوق وهكذا. فقال صلى الله عليه وسلم: (أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل، خير له من ناقتين وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)، فهذا كنز عظيم لك، وأجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى فإذا جئت إلى بيت الله فتعلمت آية سواء بقراءتها أو بحفظها فهذا خير وأفضل من أحسن الإبل، أو أنك تتعلم الآية حكمها الشرعي.

شرح حديث: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة)

شرح حديث: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة) من الأحاديث حديث أبي موسى الأشعري الذي يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين المؤمن والمنافق، فهنا يقول: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، ومثل المنافق -وفي رواية الفاجر- الذي يقرأ القرآن ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن. فكأن الناس منهم مؤمنون ومنهم منافقون ومنهم فجار، والمنافقون والفجار جعلهم في هذا الحديث في مرتبة واحدة في حفظهم للقرآن أو عدم حفظهم للقرآن، والمؤمنون هنا ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين: مؤمن قارئ للقرآن يعني: حافظ له، وقد وصفه بقوله: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب، وطعمها طيب)، والأترجة نوع من الموالح مثل البرتقال، وهو نوع من الحمضيات، وريحها طيب وطعمها طيب، فالمؤمن الذي يحفظ القرآن سواء حفظه كله أو حفظ بعض كتاب الله سبحانه، مثله كمثل هذه الأترجة الثمرة طيبة لذيذة الطعم. (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب) فهذا لا تعدم منه خيراً أبداً، ففي مجالسته لك خير، وفي مكالمتك له خير، فتسأله وتستفهمه عما تريد من أمر دينك وتتعلم منه؛ لأنه يقرأ القرآن. والصحابة كانوا يقرءون القرآن كما علمهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وليس مجرد حفظ كما هو حال كثير من الناس في زماننا، فيحفظ القرآن ولا يفهم شيئاً من معانيه، ويحفظ القرآن ولا يدري ما الذي يقرأه. وهذا خلاف ما كان يفعله الصحابة فقد كانوا يتعلمون القرآن علماً وعملاً، ويقرأ الواحد منهم ويتلو القرآن ويعلم ما فيه ويفهم معانيه؛ لأنه صاحب لسان ومن أهل اللغة العربية، فهم يفهمون القرآن العظيم، فلذلك إذا قيل: هذا قارئ للقرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمعناه: أنه قارئ حافظ عالم بمعانيه عامل بما فيه، فهؤلاء هم أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه. فالذي يتشبه بهؤلاء مثله مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، فتكون قراءته للقرآن شيء حسن، وقراءة القرآن دليل على أنه يعرف أحكام القرآن فيعمل بها، فإذا خبرت هذا الإنسان واختبرته وجدته عاملاً به، ومثل هذا الإنسان مثل ما تجد الثمرة عندما تأخذها وتجد أن ريحتها طيبة، وعندما تتذوق طعمها تجد طعمها جميل، فحافظ القرآن من المؤمنين كذلك: ظاهره طيب، وباطنه طيب. وأما الصنف الثاني من المؤمنين: فهم من لا يحفظ القرآن ولا بعضه، فقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو)، فالتمرة تراها من بعيد فلا تشم لها رائحة، فلا نفع في أنك تراها من بعيد، لكن نفعها في أن تأكلها، فإذا أكلتها وجدت فائدتها، فكذلك الإنسان المؤمن الذي لا يحفظ القرآن، فيكون النفع في التعليم غير موجود، لكن النفع في العمل موجود، وأن هذا المؤمن يعمل لله سبحانه وتعالى، فتجده في العمل يعمل ولكن في التعليم لا يوجد له أثر؛ لأنه لا يحفظ كتاب الله عز وجل، ولا يعرف أحكامه. وهناك فرق كبير بين من يحفظ ويعلم ويعمل وبين من يعمل ولا يحفظه. ثم ذكر في الحديث صنفاً غير المؤمنين وهم المنافقون والفجار، فجعلهم مع القرآن بمنزلة المنافق، إما منافق يحفظ القرآن أو يحفظ بعضه، وإما منافق لا يحفظ شيئاً من القرآن، والمنافق الذي يحفظ القرآن قال لنا: (مثله مثل الريحانة)، فعندما تشم ريحانة تجد رائحتها جميلة من بعيد، ولكن عندما تتذوقها تجد طعمها مر، وكذلك المنافق، فتنتفع من المنافق الذي يقرأ القرآن بشيء فلعله يقرأ القرآن بصوت جميل، فيعجبك صوت، ولعلك تسأله عن أماكن الآيات فيجيبك، وتجده لا يعمل بشيء مما ورد في القرآن، فيستبيح لنفسه أن يكذب وينافق ويرائي ويخادع ويخون؛ ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالريحانه؛ فرائحتها فيها فائدة، وهذا مثل كلامه المحسَّن، وأما عمله فلا فائدة فيه، فهو منافق، فإذا خبرته وجدت المرارة في عمله، ووجدت بعده عن دين الله سبحانه وتعالى. والمنافق أو الفاجر الأخير الذي جاء ذكره في الحديث هو الذي لا يقرأ القرآن، وبهذا يكون قد جمع الشر كله، فهو لا يعرف شيئاً في دين الله عز وجل، ولا يعمل بما أمر الله سبحانه، فمثله كمثل الحنظلة رائحتها غير طيبة، فلا تنتفع برائحتها، فهو لا يعلَم ولا يعلِّم، وكذلك إذا خبرته وبلوته في العمل وجدت منه المرارة في أعماله، ووجدت منه الخيبة والخسران في أقواله وأفعاله، قال صلى الله عليه وسلم: (كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مر). ولذلك فالإنسان المؤمن الذي يجد هذه الصور الأربع التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم يتنافس في أعلى ما يكون وأفضل ما يكون، ويحاول أن يحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وحفظ القرآن يسير على من يسره الله عز وجل له، وإنما يحتاج لإرادة وعزيمة، والإنسان المؤمن الذي يحب أنه يحفظ القرآن سيعينه الله على ذلك، وحفظ القرآن لن يكون بين يوم وليلة، وإنما يحتاج لمكافحة ومتابعة ومحافظة على ما تحفظه بمراجعة ما سبق حفظه، وبقراءته في صلاتك حتى يثبته الله عز وجل في قلبك. وهناك كثير من الناس يطلق عليه أنه يحفظ القرآن، فلما يُطلب منه أن يقرأ هذه الآيات فلا يعرف منها شيئاً، وحفظ القرآن لا يكون بالقوة، فإذا أردت مثلاً أن تحفظ سورة البقرة مثلاً في يوم واحد، فلا تستطيع، وهذا لا يمكن، فعليك إذا أردت الحق أن تبدأ من آخر المصحف من جزء عم، ومن السور القصيرة وتحفظ شيئاً فشيئاً إلى أن تتمرن على الحفظ وتصل إلى السور الكبيرة بعد ذلك، وأما أن تترك قصار السور والسهلة منها وتحاول حفظ السور الطويلة التي آياتها طويلة وأحكامها متشابهة، فلعله يكون صعباً عليك، لذلك فالعلم آية آية وحديث حديث. ولا تمل ولا تيأس، وخاصة إنك قرأت كلما أعطاك الله عز وجل من الأجر، فعندما تقرأ القرآن وأنت حافظ له ومجيد للقراءة فلك درجة عند الله، وعندما تقرأ القرآن وهو صعب عليك وتتعتع فيه فلك درجة عند الله سبحانه وتعالى، وفي كلا الحالتين أنت مثاب، فلا تترك القرآن أبداً، ولكن حاول أن تتعلمه. ونرى في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، الذي رواه البخاري ومسلم والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة)، والماهر هو الذي يحفظ القرآن حفظاً جيداً، وحفظه للقرآن علماً وعملاً، فيحفظ القرآن ويعمل بما يحفظه من القرآن ويفهم معاني القرآن، وهذا من أعلى ما يكون، فهو مع السفرة الكرام البررة، والسفرة هم الملائكة، وهم سفراء الله عز وجل إلى الأرض، وقد نزلوا بالقرآن من عند الله عز وجل، والملائكة لا تخطئ في الذي تنزل من عند الله عز وجل، فكذلك الإنسان الذي يحفظ القرآن فإنه يقيمه حروفاً وحدوداً، ويعرف معانيه ويقرأه دائماً في صلاته وغيرها، وهذا مع السفرة الكرام الأبرار. قال عليه الصلاة والسلام: (والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) أي: أنك ما دمت تقرأ القرآن فلن تعدم خيراً أبداً، فعندما تقرأ القرآن وتتعتع فيه وتقرأ الكلمة وتعيدها مرة أخرى إلى أن تتقنها فلك على كل حرف عشر حسنات، ولك على هذه التعتعة والمشقة التي تقرأ بها القرآن لك فيها أجران، لذلك فالإنسان المؤمن يجب عليه أن يقرأ القرآن حتى ولو كان لا يجيد قراءته، ولكن لابد من التعلم، فالإنسان لا يركن للخمول والراحة التي هو فيها، فعلى الإنسان أن يحاول، وليبحث عمن يعلمه، ويحضر مجالس الذكر ومجالس العلم؛ لكيلا يستمر على ضعف في القراءة، ولا يمنعك من حضور مجالس الذكر الخجل وتقول: أنا أخجل من أن أقرأ وأخطئ ومن ثم يسخروا مني، فاعلم أن لك أجرين؛ لأنك أتعبت وذللت نفسك لطلب العلم، ولذلك فالإنسان الذي يصل إلى درجة العالم لا بد وأن يذل نفسه للعلماء حتى يتعلم منهم، ولذلك يقال: إن العلم ينال ببذل النفوس، فالإنسان يتواضع لمن يعلمه ويتعلم منه، فإذا قرأ القرآن وغلط فإنه يذهب لمن يعرفه كيف يقرأ القراءة الصحيحة. وأما الإنسان الذي يستحيي فإنه يضيع منه العلم، فإن العلم يضيع من الإنسان بأمرين هما: الكبر والحياء، فإذا منعك الخجل فإنك لن تقرأ ما حييت. والإنسان الذي يتكبر عن سؤال غيره بحجة أنه أفضل من غيره فلن يصل وحده أبداً، وإنما ينال العلم بالصبر على مجالسة أهل العلم حتى يصل الإنسان إلى ما يحبه الله سبحانه وتعالى. وورد حديث عن أبي ذر أنه قال: (يا رسول الله! أوصني، فقال صلى الله عليه وسلم: عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله، قال: زدني يا رسول الله! فقال: عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء). فتلاوة القرآن نور لك في قلبك في طريقك وفي سبيلك وفي دعوتك إلى الله عز وجل، فهو الذي ينور الله عز وجل به بصرك وبصيرتك، ويفتح مداركك وحسك وقلبك بهذا القرآن العظيم، وهو ذخر لك، وأجر مدخر عند الله في السماء. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على حفظ كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى العلم والعمل على الوجه الذي يرضى به عنا سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وفضل تعلمه وتعليمه والترغيب في سجود التلاوة [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وفضل تعلمه وتعليمه والترغيب في سجود التلاوة [2] لقد أنزل الله عز وجل كتابه الكريم وحث على تدبره وتعقله والعمل به، وجعل لحفظته والعاملين به الأجر العظيم عنده سبحانه، وخصهم من بين سائر الناس أن جعلهم أهله وخاصته، وليس ذلك إلا لقارئ القرآن والعامل به، بل ما رخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحسد أحد إلا اثنان أحدهما: قارئ القرآن والعامل به، والتالي له آناء الليل وأطراف النهار. فأنعم بها من نعمة، وأجزل به من أجر وشرف.

أنواع الحسد الجائز

أنواع الحسد الجائز الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. روى الإمام البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثلما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثلما يعمل) وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: رب إني منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن أسيد بن حضير بينما هو في ليلة يقرأ في مربده إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ ثم جالت أيضاً، فقال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى -يعني: ابنه- فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى لا أراها، قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! بينما أنا البارحة في جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير قال: فقرأت ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت، ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير قال: فانصرفت وكان يحيى قريباً منها خشيت أن تطأه، فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستر منهم) متفق عليه. وهذه أحاديث أخرى يذكرها الإمام المنذري رحمه الله في الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها. فمن الأحاديث حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا على اثنتين) وجاء في حديث أبي هريرة وفيه: (لا حسد إلا في اثنتين). والحسد هنا بمعنى: الغبطة حيث يغتبط الإنسان ويغبط غيره، ويغبطه أي: يتمنى أن يكون لنفسه مثلما لهذا الإنسان. فهذا هو المقصود من الحسد في هذا الحديث، وإلا فالحسد مذموم شرعاً، وهو حرام، وربنا سبحانه وتعالى أمرنا أن نتعوذ من شر حاسد إذا حسد. أما الحسد فأصله تمني زوال نعمة الغير، كأن يرى في يد غيره نعمة فيتمنى أن تزول هذه النعمة من الغير، خاصة إذا كان هو محروم منها، فهو لا يحب لغيره أن يؤتى بشيء ليس عنده، أو يتمنى أن تزول من يد هذا الإنسان وتصير إلى يده هو، فهذا هو الحسد الذي نهينا عنه شرعاً. أما أن تغبط ما مع الإنسان وتتمنى أن يكون معك مثل الذي معه فلا مانع من ذلك، وخاصة في أمر الخير. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: لا حسد أي: لا غبطة إلا في أمرين اثنين، قال: (إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان). فهنا يجوز للإنسان أن يتمنى أن يكون حافظاً للقرآن مثل فلان الذي يحفظه، ويتمنى من الخير لنفسه مثل هذا الخير الذي عند فلان فهذا الأمر الأول. الأمر الثاني: أن يكون إنسان له مال ينفقه في الحق، وفي سبيل الله سبحانه، ينفقه على الفقراء، والمساكين، وذوي القربى، واليتامى، وينفق في كل وجه من وجوه الخير، فهو لا يكتنز المال وإنما ينفقه. إذاً: معنى كلمة (فهو يهلكه في الحق) وفي الحديث الآخر: (فسلطه على هلكته) يعني: سلطه الله على هذا المال بالإنفاق ولا يمكن لإنسان أن ينفق لله عز وجل ويحرمه الله سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة) فالإنسان ينفق والله عز وجل يزيد من خيره وبركاته وفضله سبحانه. فيرى إنسان هذا الذي ينفق في سبيل الله فيتمنى أن يكون لديه مال مثل هذا الإنسان فينفق كنفقته. فهذا حسد جائز، أو هذه رخصة جائزة، لكن أن يغبط الإنسان على شيء من أمر الدنيا ويحسده عليها، فيتمنى له مثلما معه من أمر الدنيا، أو أن تزول نعمة هذا الإنسان، فهذا لا ينبغي. فلا ينبغي أن يتمنى زوال نعمة الغير، أو يتمنى أن يكون له حظ من الدنيا كحظوظ أهل الدنيا من اللهو واللعب واللغو؛ إذ لا ينبغي أبداً أن تتمنى ضياع وقتك وأن تلغو مثل فلان، ولذلك جاء في حديث آخر (اثنان هما في الأجر سواء، واثنان هما في الوزر سواء). فالذين في الأجر سواء رجلان: أحدهما عالم علمه الله عز وجل من القرآن وعلمه من السنة، فهو يعمل بعلمه، وأعطاه مالاً سبحانه وتعالى، فهو بعلمه ينفق ماله في كل وجوه الخير، ورجل آخر فقير ليس عنده مال ولا علم، فهو ينظر إلى هذا العالم الذي يتصدق وينفق فيقول: يا ليت لي مثل ما مع فلان، ولو كان لي مثل ما مع فلان لفعلت أكثر منه، فهذا فقير محروم ليس معه مال، لكن نيته صالحة. فهو النية الجميلة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هما في الأجر سواء، واثنان في الوزر سواء، رجل ليس عنده علم وعنده مال كثير، وينفق هذا المال في سبل الشر جميعها، ورجل ليس عنده علم وليس عنده مال فيقول: لو أن لي مثل ما عند فلان لفعلت أكثر منه -يعني من المعاصي والشرور والمصائب- فهما في الوزر سواء). فالإنسان إذا تمنى الشر أثم عند الله عز وجل إذا علم الله من نيته أنه لو مكن من هذا لفعل، أما من تمنى الشيء ثم تركه خوفاً من الله فهذا يؤجر، وتكتب له حسنة عند الله عز وجل. ولذلك فاحذر من تمني الشر، واحذر من حسد الناس وتمني زوال النعمة عنهم. وقالوا: ما رأينا ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود. فالإنسان الحسود كلما رأى خيراً وصل لأحد حزن واغتاظ وكأنه مظلوم في هذا الأمر. فمثل هذا الرجل هو ظالم لنفسه وظالم لغيره ومتشبه بالمظلومين خسر الدنيا والآخرة، حيث حرم في الدنيا فلم يعط، وهو في الآخرة يحاسب على حسده للخلق. وربنا يقول لنا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] أي: هذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.

فضل قراءة القرآن

فضل قراءة القرآن من الأحاديث الجميلة في هذا المعنى حديث أسيد بن حضير، ويروي هذا الحديث أبو سعيد الخدري. وفيه: أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده -والمربد: هو المكان الذي يجمع فيه التمر حتى ييبس فيه- فكان يصلي أسيد بن حضير بالليل في مربده، قال: إذ جالت فرسه أي: كانت فرسه مربوطة بجواره فإذا بالفرس تنفر وتضطرب وهي واقفة في مكانها، وكان ابنه بجوارها فخاف فسكت عن القراءة فسكتت الفرس، ثم قرأ القرآن مرة أخرى فإذا بالفرس تنفر مرة ثانية وأسيد بن حضير لا يعرف لماذا، فسكت مرة ثانية فسكتت الفرس، وفي المرة الثالثة سكت حيث خاف أن ترفس الفرس ابنه، فلما أصبح بالنهار ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! بينما أنا البارحة في جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير) أي: أكمل قراءتك، وكأنه يستحضر حاله بالأمس ويقول له: كنت ستكمل قراءتك فلماذا سكت؟ فقال له: أكملت القراءة ولكن الفرس زادت نفوراً، فقال له: (اقرأ ابن حضير) يعني: استحضر حال الأمس، بمعنى: لو كنت أكملت القراءة، فقال له: خشيت على يحيى فانصرفت، فلما أكمل القراءة أو الصلاة التي كان فيها انصرف ونظر في السماء وجد مثل الظلة أي: سحابة في السماء مليئة بالمصابيح وكانت هذه السحابة فوق رأسه وتدنو منه أثناء قراءته للقرآن، قال: رأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، وكان يقرأ القرآن حتى كانت السحابة من النور تنزل من السماء والفرس تراها وتنفر من مكانها، فهو يسأل ما هذه السحابة التي فيها النور كأمثال المصابيح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم). فهنا قدر الله عز وجل أن تستتر حتى لا يرى الناس الملائكة، ولو أنه أتم قراءته ونزلت الملائكة تدنو منه لأصبح يراهم الناس لعرفوا أن الملائكة تستمع لكتاب الله سبحانه وتعالى وخاصة من حسن الصوت به. وفي رواية أخرى: (قال: فالتفت فإذا أمثال المصابيح مدلاة بين السماء والأرض. فقال: يا رسول الله! ما استطعت أن أمضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة نزلت لقراءة القرآن، أما إنك لو مضيت لرأيت العجائب)، أي: لو مضيت في قراءتك لرأيت العجائب يعني: من نزول الملائكة من السماء إلى الأرض. والملائكة تنزل، ولكن قد تراها وقد لا تراها، بل أنت إذا قمت من جوف الليل فقرأت القرآن فإن الملك الذي معك يدنو منك يسمع القرآن الذي تقرأه، فإذا كنت في صلاة تقرأ وقد تسوكت ورائحة فمك طيبة فإنه يدنو منك حتى يجعل فمه على فمك، فلا تخرج منك آية إلا في فم الملك من حبه للقرآن. فلذلك على الإنسان المسلم أن يستعد لقراءة القرآن بأن يكون على وضوء، وأن يطيب فمه، وأن يحفظ كتاب الله سبحانه حتى يكون من أهل القرآن، بل من أهل الله سبحانه وتعالى.

بيان فضل أهل القرآن

بيان فضل أهل القرآن روى النسائي وابن ماجة والحاكم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته). فالإنسان المؤمن يحب أن يكون مع هؤلاء الذين يظلهم القرآن يوم القيامة عند ربه سبحانه يوم لا ظل إلا ظل ربك سبحانه. والمؤمن يحفظ كتاب الله قدر المستطاع، يحفظ منه ولا يراءي بعمله، ولا يطلب به الناس، فقد جاء في الحديث عن عمران بن حصين أنه مر على قارئ يقرأ، وبعد أن أكمل القراءة مد يده يسأل الناس، فقال عمران بن حصين: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس) أي: سيأتي أقوام يقرأ الواحد منهم القرآن ليس لله عز وجل وإنما لأخذ أموال الناس، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء.

عموم ثواب حفظ القرآن لمن حفظه ولوالديه

عموم ثواب حفظ القرآن لمن حفظه ولوالديه وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده فيه ضعف، ولكن له شواهد يرتقي بها إلى الحسن لغيره. عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوءه مثل ضوء الشمس، ويكسى والداه حلتان لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم اكتسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن) فحث أولادك على حفظ القرآن، سيما إذا لم تستطع أنت، واحرص على أن يكون حالهم مع القرآن هو كما ورد في الحديث: (من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به) فهذا هو قارئ القرآن، أي: الذي يتعلم ويعمل. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوءه مثل ضوء الشمس) فهذا جزاء الوالدين، فكيف بالقارئ نفسه؟ وماذا سيكون له؟ ولذلك يقول الإمام الشاطبي في قصيدته: فيا أيها القاري به متمسكاً مجلاً له في كل حال مبجلا هنيئاً مريئاً والداك عليهما ملابس أنوار من التاج والحلا فما ظنكم بالنجل عند جزاءه أولئك أهل الله والصفوة الملا أولو الفضل والإحسان والبر والتقى حلاهم به جاء القرآن مفصلا فقارئ القرآن من هؤلاء إذا كان أبوه وأمه يكسيان يوم القيامة كيف به هو وكيف بجزائه عند الله عز وجل؟ لذلك احرص على حفظ كتاب الله عز وجل ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وليكن حفظك لله ليس للرياء، ولا لأن يقال قارئ للقرآن، ليس لأن يقال صوته حسن، ولكن لله سبحانه وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الله وخاصته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وفضل تعلمه وتعليمه والترغيب في سجود التلاوة [3]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وفضل تعلمه وتعليمه والترغيب في سجود التلاوة [3] القرآن دستور الأمة، ومنهجها المعقود عليه مصيرها ومكانتها، وانبثاقاً من هذه الأهمية العظيمة لهذا الكتاب الكريم كان لقراءته وتلاوته أجر عظيم وحسنات هائلة العدد.

أحاديث واردة في الترغيب بتلاوة القرآن

أحاديث واردة في الترغيب بتلاوة القرآن بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في قراءة القرآن في الصلاة وغيرها وفضل تعلمه وتعليمه وترغيبه بسجود التلاوة. عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) متفق عليه. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) رواه مسلم وأبو داود]. إن قراءة القرآن لابد للمسلم منها وخصوصاً في شهر رمضان شهر الصيام فهو شهر القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]. فالمسلم في هذا الشهر يعلم أن القرآن نزل فيه ولم ينزل فيه إلا لفضيلة عظيمة مرتبطة بهذا الشهر، وكون ربنا سبحانه وتعالى عندما يذكرنا بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فكأنه يأمرنا بمزيد العناية بالقرآن في هذا الشهر الكريم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن في رمضان مع جبريل أكثر مما يكون في غير رمضان.

شرح حديث عثمان: (خيركم من تعلم القرآن)

شرح حديث عثمان: (خيركم من تعلم القرآن) جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في صحيح البخاري، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وهذا جاء في البخاري فقط دون مسلم. وفيه أفضلية أن تتعلم القرآن؛ فإذا تعلمته علمته بعد ذلك، والإنسان الذي يتعلم دون أن يعمل لا يجوز له ذلك، ولكن يتعلم ويعمل بما تعلمه من القرآن، فالقرآن فيه أحكام الحلال والحرام بشرع الله عز وجل الذي جعله لنا منهاجاً وشريعة وحكماً يفصل بيننا، فالإنسان المسلم يتعلم القرآن ويعمل به ويعلمه. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) أي: بلغوا عني ولو حكماً شرعياً من الأحكام. إذاً: ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم) فيه أن الصحابة خير الناس؛ لأنهم تعلموا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل لسان عربي فصيح، ففهموا القرآن الذي أنزله الله على المعنى الذي يريده سبحانه وتعالى. وأما أمثالنا فنحتاج أن نتعلم من اللغة العربية ما نستطيع أن نفهم من القرآن وعلينا أن نتعلم من كلام المفسرين الذين فهموا ما لم نفهم، وتعلموا ما لم نتعلم فنقرأ القرآن وتفسيره الذي ذكره علماء السنة من المفسرين. وذكر البخاري عن أبي عبد الرحمن السلمي أحد القراء، وهو يروي هذا الحديث عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمقرئ هو: الذي يعلم الناس ويحفظهم كتاب الله سبحانه وتعالى، وهو غير القارئ؛ لأن القارئ له حافظ للقرآن، لكن المقرئ حافظ ومحفظ للقرآن. فـ أبو عبد الرحمن السلمي أقرأ في إمرة عثمان حتى زمن الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا يعني: كان أبو عبد الرحمن يحفظ الناس القرآن، وكان له مجلس في المسجد يجلس فيه يحفظ الناس كتاب الله عز وجل، والفترة التي كانت منذ زمن سيدنا عثمان إلى نهاية زمن الحجاج حوالي ثمانٍ وسبعين سنة، وأقل ما قيل فيها: حوالي ثمانٍ وثلاثين سنة تقريباً. فهنا كأنه مكث هذه المدة الطويلة -سواء كانت سبعين سنة، أو ثمانٍ وثلاثين سنة- والعمر الطويل يحفظ القرآن ويعلم القرآن. ويخبر أبو عبد الرحمن السلمي فيقول: إن هذا هو الذي أقعدني مقعدي هذا. فجلس عمراً طويلاً جداً يحفظ القرآن ويعلمه، وسبب تحفيظه وتعليمه القرآن هو هذا الحديث العظيم الذي سمعه من عثمان وسمعه عثمان من النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). فإن قيل: أليس المجاهد خير الناس؟ ف A أن هنا في هذا الحديث ذكر الذي يعلم القرآن ويعلمه، وهذا من الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى في الدعوة إلى الله سبحانه، وفي حفظ دين الله سبحانه، والإنسان الذي يتعلم ويعلم أحكام كتاب الله عز وجل، ويعمل بها سيجد فيها الجهاد في سبيل الله، وكان الصحابة هم حفاظ القرآن وهم المجاهدون في سبيل الله سبحانه وتعالى، فكأنهم تعلموا القرآن وعرفوا أحكامه وعملوا بهذه الأحكام فعلموها للناس وجاهدوا في سبيل الله سبحانه وتعالى. فالذي يجمع ذلك كله هو الذي يعلم ويحفظ كتاب الله عز وجل ويعمل بما فيه، ويعلم ويجاهد في سبيل الله عز وجل وهذا من خير الناس، أو هو خير الناس كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.

حديث ابن مسعود: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة)

حديث ابن مسعود: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة) من الأحاديث التي جاءت في الباب حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة قال: والحسنة بعشر أمثالها) يعني: له عشر حسنات، قال: (لا أقول الم حرف) في رواية الترمذي. وقال: (ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف والحرف بعشر حسنات) وحين تقرأ (الم) من سورة البقرة فلك ثلاثين حسنة، فكيف لو قرأت عشر آيات منها؟! وكيف لو قرأت كل سورة البقرة؟! الحديث رواه أبو جعفر النحاس في كتاب الوقف والابتداء وفيه: (اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر فتلك ثلاثون) أي: ثلاثون حسنة تحصل عليها إذا قرأت الم، فكيف إذا قرأت سورة الفاتحة مثلاً وهي أعظم سورة في كتاب الله عز وجل؟! وكيف إذا قرأت آية الكرسي وهي أعظم آية في كتاب الله عز وجل.

شرح حديث أبي هريرة: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله)

شرح حديث أبي هريرة: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله) من الأحاديث العظيمة الجميلة التي نحتاج إليها في مثل هذه الأيام، حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائك وذكرهم الله فيمن عنده) وهذا حديث عظيم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو في صحيح مسلم، وأول هذا الحديث ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة) وذكر الحديث وفيه: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله) وفضل التلاوة وقراءة القرآن وخاصة إذا كان على وجه السماع والاستماع، والمدارسة، فواحد يقرأ والآخر يصلح له الذي يقرأه ويحفظه، ويعلمهم الأحكام الموجودة فيه والملائكة تحب مثل هذه المجالس، فتجتمع الملائكة حول الناس وخاصة إذا كان في صلاة الصبح أو في صلاة العصر، فإن الملائكة تجتمع في الليل والنهار وفي صلاة الفجر وفي صلاة العصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم) ليعرفوا أحكام القراءة، وأحكام التجويد والأحكام الشرعية من حلال وحرام إلا نزلت عليهم السكينة) فينزل الله سبحانه وتعالى عليهم السكينة وهي الطمأنينة والسداد، فيأخذوا القيد وهدوء الحال وعدم انشغال إلا بما هم فيه من ذكر الله سبحانه وتعالى، لذا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة فتغطيهم كاللحاف وتحفهم من حولهم، وتحيط بهم ملائكة الله سبحانه وتعالى وذلك في مجالس الذكر. قال: (وذكرهم الله فيمن عنده) فأجر عظيم للإنسان المؤمن الذي يجتمع مع إخوانه على مدارسة كتاب الله سبحانه وتعالى. في آخر الحديث يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) فينبغي أن لا تعتمد على نسبك وأنك ابن فلان، وأبوك كان عالماً، فهذا لا ينفعك في شيء إنما ينفعك عملك الصالح. ولذا قال: (من بطأ به عمله) أي: الذي يعتمد على النسب وأن أباه كان حافظاً وشيخاً، فكل ذلك لا ينفعك عند الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يعرف حقيقتك، ولذلك: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) فإذا أسرع في العمل الصالح نفعه هذا العمل وكان له ذخراً عند الله سبحانه وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في طلب الحلال والأكل منه والترهيب من اكتساب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في طلب الحلال والأكل منه والترهيب من اكتساب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك [1] إن مما رغب الله به عباده التحري في الحلال والحرام؛ ليطيب للإنسان مطعمه فتجب بإذن الله دعوته، وهذه هي وصية الله للأنبياء والمؤمنين، وهو إحدى الخصال الأربع التي من كن فيه فلا عليه ما فاته من الدنيا، ولأن أخذ الحرام وعدم التحري فيه سبب لرد الصدقات، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

التحري في الحلال سبب لإجابة الدعاء

التحري في الحلال سبب لإجابة الدعاء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في طلب الحلال والأكل منه، والترهيب من اكتساب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد إليه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟!) رواه مسلم والترمذي. وروى أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ الأمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك، ومن جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه)]. هذا باب من كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله، وفيه الترغيب في طلب الحلال والأكل منه، والترهيب من اكتساب الحرام. فالمؤمن مأمور بأن يبحث عن رزقه قال تعالى: {سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [النمل:69] وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، والله عز وجل قد كتب وقسم رزق كل شخص قبل ولادته. والرزق الحلال موجود، ولكن ابحث واصبر والله عز وجل يعطيك من فضله وكرمه سبحانه. وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فالله طيب سبحانه وتعالى، ولا يقبل من عبده أن يتصدق إلا بالطيب، ولا ينفق إلا طيباً، ولا يأخذ إلا طيباً، ولا يعطي إلا طيباً، فلا يقبل إلا الطيب سبحانه وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) أي: أمر جميع خلقه المؤمنين والمرسلين، فقال للمرسلين: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51] فأمر رسله عليهم الصلاة والسلام أن يأكلوا الطيبات، وقال: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، والأمر نفسه أمر به المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]. قال أبو هريرة: (ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!). والمسافر مستجاب الدعوة، فإذا كان مسافراً وأشعث وأغبر فهذا قريب من الله سبحانه وتعالى، فإذا مد يديه إلى الله فهو حيي كريم يستحيي أن يمد العبد إليه يديه ويردهما صفراً، ولكن هذا الإنسان لا يستحق أن يستجيب الله عز وجل له، فهو يمد يديه ويقول: يا رب! يا رب! وربنا لا يعطيه شيئاً. والسبب ما ذكر بعد ذلك، قال: (ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له). فإنسان لبسه حرام، وأكله حرام، وشربه حرام، أي: لا يتحرى الحلال، فإن كان في عمله سرق الناس وغشهم، وأكل أموالهم بالباطل، فإذا كان المكسب حراماً، ثم صرف هذا المكسب على طعام وشراب ولبس وسفر ثم يمد يده يقول: يا رب! يا رب! أنى يستجاب له؟! يعني: كيف يستجاب له؟! يعني: هو لا يستحق أن يستجيب الله عز وجل له. ولذلك فعلى المؤمن أن يطيب مطعمه ومكسبه؛ حتى يستجيب الله دعاءه.

خصال الخير خير من الدنيا وما فيها

خصال الخير خير من الدنيا وما فيها من الأحاديث: حديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا)، معنى: أربع: أي: أربع خصال، أو أربع صفات، إذا أكرمك الله بهذه الصفات وكن موجودة فيك فلا يهمك أي شيء من الدنيا ضاع ولو ضاعت الدنيا جميعها، وهن: (حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة). فأولهن: حفظ الأمانة، والأمانة من أخطر وأصعب ما يكون، فلقد رفضت الجبال والسماوات والأرضون أن تحمل هذه الأمانة، قال الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]. ولا شك أن هذه أقوى من الإنسان، ومع ذلك لما عرضت عليها الأمانة، أي: التكاليف، بأن عرض عليهن تكليفهن كما كلف الإنسان، فيقال له: اعمل كذا وإن كلفتن فهناك ثواب وعقاب، فأبين حملها، وخفن من عقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى. أما الإنسان فقبل هذه الأمانة، وأن يعطيه الله العقل والتكليف ثم تختار لنفسك أي الطريقين: طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وبناء على ذلك تحاسب، والله يقدر الأقدار سبحانه وتعالى. فهذا هو اختيار الإنسان وفي طبيعته الجهل والظلم، كما قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]. فالأمانة: هي التكاليف الشرعية، والله أمرك وكلفك بالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والطهارة من أجل الصلاة والعبادة، وغير ذلك من أمانات الله عز وجل في خلقه. ومنها أيضاً: حفظ معاملات الناس كأماناتهم، وودائعهم، وحفظ حق الجوار والضيف، وحفظ الإنسان أهله، وغير ذلك من أمانات الله عز وجل التي أمرنا أن نراعيها. فإذا كانت هذه الخصلة في نفسك فحافظ على أمانة الله وعلى أمانات الخلق. الثانية: صدق حديث، والصدق لا يأتي إلا بخير، ومهما يصاب الإنسان بضرر بسبب صدقه إلا أن نهاية الصدق الخير كما ذكرنا في قصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه. فإذا كان الإنسان صادقاً أحبه الله عز وجل، ووضع له المحبة في قلوب العباد، وكتب عند الله من الصديقين ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً). الثالثة: حسن الخلق، فإذا كان الإنسان المؤمن حسن الخلق أحبه الخلق، وقدر أن يتعامل معهم، فيأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر فيستجيبون له، ويرتفع العبد أعلى الدرجات يوم القيامة بحسن خلقه، فالإنسان لن يسع الناس بماله مهما أوتي من كنوز، ولكن يسع الناس بحسن الخلق. الرابعة: وعفة في طعمة، فلا ينظر إلى أرزاق الناس، ولا يكون في قلبه حقد على الناس. وكذلك مكسبه من حلال، فلا يطعم ولا يتذوق إلا الطعام الطيب. فهذه هي الخصال الأربع، وإذا اجتمعت في أحد فلا عليه ما فاته من الدنيا، ولو فاتته الدنيا جميعها، فله عند الله ما هو أعظم بكثير من هذه الدنيا.

الحرام سبب لرد الصدقة

الحرام سبب لرد الصدقة من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم: حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه ومثله لـ أبي الطفيل وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك، ومن جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه) يعني: لا يحل لك أن تأخذ المال من حرام، وإذا أخذت المال الحرام فيلزمك أن تعيده إلى صاحبه، ولا يجوز لك أن تتصدق بهذا المال. فلو أن إنساناً سرق مالاً أو اغتصبه ثم أراد أن يتصدق به وصاحبه موجود، فنقول له: ارجع المال إلى صاحبه، فلن يقبل الله عز وجل منك ذلك. ومثله: من أخذ مالاً خبيثاً من خمر أو حشيش ومخدرات وغيرها، فلا يجوز له أن يقول: أبيع الحشيش لأجل أن أتصدق بالمال، بل خير للإنسان أن يظل فقيراً من بيع هذه المحرمات أو شرائها، فلقد قال صلى الله عليه وسلم: (من اكتسب مالاً من مأثم فوصل به رحمه) واكتساب المال من مأثم يكون كأن غش فأخذ زيادة مال، أو خدع الناس ولبس عليهم، أو غبنهم في بيوعهم، أو سرق مالهم، أو اغتصبه، أو أخذ رشوة، أو أكل مالاً من سحت، أو أي نوع من أنواع المظالم والأموال المحرمة التي شاعت بين الناس وصارت كثيرة، وما من إنسان إلا ودخله من هذه الأشياء المحرمة ما دخل، فالذي يكسب هذا المال ثم يقول: أنا أصل به الرحم، فقال صلى الله عليه وسلم هنا: (من اكتسب مالاً من مأثم فوصل به رحمه، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع ذلك كله جميعاً فقذف به في نار جهنم). يعني: هو بماله الذي كسبه من حرام، ثم تصدق به، أو وصل به رحمه في نار جهنم والعياذ بالله، فإن الله غني عن ذلك المال.

ضرورة التحري في الحلال

ضرورة التحري في الحلال في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ: أمن الحلال أم من الحرام)، أما زمن الصحابة فكان مستحيلاً أن يكون فيهم هذا الشيء، ومن بعدهم كانوا يأتسون بهم، ولا يزال يتباعد الزمان إلى أن يأتي على الناس زمان -وأظن أنا في مثل ذلك- يأخذ الإنسان الحرام ويستحله لنفسه، ويأخذ الرشوة ويقول: هي من عملي، ومرتبي ضعيف، ويغش الناس ويقول: المبيع لن يباع إلا بهذا الشيء، فتراه يحلف أنه اشترى المبيع بكذا وهو كاذب في يمينه، أو يحلف بأنه عرض عليه كذا وكذا ولم يعرض عليه من أحد، أو يكذب ويقول: هذا الشيء طيب وناضج، وهذا كذا وكذا فيمدح سلعته وهي متلفة كاسدة، ولا يهمه أن يخدع الناس في هذه الأشياء. فمن كان هذا حاله فهو وماله الذي كسبه في نار جهنم والعياذ بالله؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ: أمن الحلال أم من الحرام).

بيان طمع الإنسان وجشعه

بيان طمع الإنسان وجشعه ورد حديث يبين جشع الإنسان فيقول بريدة رضي الله عنه: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو أعطي ثانياً لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). وهذه كانت آية ثم نسخ تلاوتها وبقي حكمها، وهي تدل على أن الإنسان طماع، فلو أن الله عز وجل أعطاه وادياً من ذهب لتمنى وادياً ثانياً، ولو أعطاه ثانياً لطلب الثالث، ولا يملأ عين ابن آدم إلا تراب قبره إذا دخل فيه فامتلأت عينيه منه -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ولذلك فعلى الإنسان المؤمن أن يحذر من الدنيا وفتنتها. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول العبد: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم! من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت). وتفكر يا ابن آدم! لو أن عندك عشرة قصور فلن تعيش إلا في قصر واحد، وعلى سرير واحد. ولو أن عندك كل طعام الأرض فلن تأكل إلا ما يملأ بطنك، أو عندك كل ثياب الدنيا فلن تلبس إلا قميصاً واحداً. فإذا تفكر الإنسان في ذلك فلن يطمع في الدنيا، ولن ينظر إلى أخيه بعين الغلة والحسد والحقد، بل سيطمع في الدار الآخرة وفي جنة الرحمن، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

بيان حقيقة الحياء الحق

بيان حقيقة الحياء الحق عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء). فالإنسان الذي يستحيي يفني عمره ولا يشكو على أحد، أو يحسد أحداً، أو يطلب شيئاً ليس له، ولا يعمل الحرام أو يقوله؛ لأنه يستحيي من الله أن يراه على شيء من المنكرات. قال: (قلنا: يا نبي الله! إنا لنستحيي والحمد لله، قال: ليس ذلك) أي: ليس الذي أنتم تظنونه، ولكن أكثر من ذلك، (الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء). فالاستحياء من الله حق الحياء: هو أن تحفظ كل بدنك، فتحفظ الرأس وما وعى، أي: ما وعى من أعضاء وحواس في رأسك، أو فم تتكلم به، أو أنف تشم به، أو أذن تسمع بها، أو عين تنظر بها. وتحفظ بطنك وما نزل فيها من طعام وشراب وما فيها من شهوة، وتتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا. فالإنسان إذا حفظ لسانه حتى في طعامه وشرابه، وحفظ سمعه عن المنكرات، وحفظ بصره من النظر إلى المحرمات، وحفظ نفسه من الوقوع في الشبهات والشهوات، فقد استحيا من الله حق الحياء، وهذا هو الذي يعين الإنسان عند الموت، فالموت آتٍ، والأيام تمر سريعاً، سنة إلى سنة، وشهر إلى شهر، ويوم إلى يوم، وهذه الأيام هي عمرك، وعمرك هو أنت، وبعدها قبر، ثم جنة أو نار، فإذا تذكر الإنسان ذلك، وتذكر أن ربنا خلقه ليعبده في الدنيا، وسيرجع إليه بعد ذلك ليجازيه ويحاسبه، كان ذلك أدعى لاستحيائه. وقوله: (تذكر الموت والبلى) أي: بلاء أعضاء الإنسان، فالإنسان في الدنيا يأكل ويقوى ويكبر، ثم يذهب ذلك كله في البلى والتراب. ويلبس الثياب ليجمل منظره أمام الناس ثم تبلى هذه الثياب وتضيع. فتذكر الموت، وتذكر البلى، ولا تغتر بهذه الدنيا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء). نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحياء منه حق الحياء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في طلب الحلال والأكل منه والترهيب من اكتساب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في طلب الحلال والأكل منه والترهيب من اكتساب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك [2] وردت أحاديث ليست بالقليلة - فضلاً عن الآيات الواردة- في الترغيب والحث على الأكل من الكسب الحلال النقي الذي يجعل الإنسان يرتجي الثواب من عند الله تبارك وتعالى.

الأحاديث الواردة في الترغيب في أكل الحلال

الأحاديث الواردة في الترغيب في أكل الحلال بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: الترغيب في طلب الحلال والأكل منه، والترهيب من اكتساب الحرام وأكله ولبسه ونحو ذلك. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟!). وروى أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق وحديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة).

أكل الحرام يمنع إجابة الدعوة

أكل الحرام يمنع إجابة الدعوة الأحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه في الترغيب في طلب الحلال والأكل منه، والترهيب من اكتساب الحرام، منها: ما جاء عن أبي هريرة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فمن صفاته سبحانه وتعالى أنه طيب، ولا يرفع إليه إلا العمل الطيب، ولا يقبل من عباده إلا العمل الطيب، قال عليه الصلاة والسلام: (وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) فيستوي الجميع عند الله سبحانه وتعالى في التقرب إليه في الشيء الطيب، فأمر المرسلين بقوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]. وقال للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، (ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يرفع إلى السماء يقول: يا رب! يا رب!)، والمسافر مستجاب الدعوة كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة يستجاب لهم: فذكر المظلوم، وذكر المسافر، وذكر دعوة الوالد على ولده. المسافر مع طول سفره كلما دعا استجيب له، ولكن الإنسان هذا الذي يأكل الحرام لا يستجيب له ربه، مع طول سفره ومع شعثه واغبرار وجهه، ومع كثرة ما يتعب في السفر، لكن لا يستجاب له. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء)، والله يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا ولكن هذا يرد، يقول: (يا رب! يا رب!) هذا المسافر كان يتعمد أكل الطعام الحرام، سواء كان من سرقة أو من رشوة أو من سحت أو من غصب، فهو طعام ليس حلالاً فيأكل الحرام ولا يتورع، ومشربه حرام كذلك، وملبسه حرام وغذي بالحرام فقد تربى على هذا الشيء (فأنى يستجاب له؟!). فالمسافر يستجاب له لو كان طيب المطعم وطيب المشرب، وطيب الملبس وهذا الذي يستحق أن يستجيب الله عز وجل له.

عفة المطعم تغني صاحبها عما فاته من الدنيا

عفة المطعم تغني صاحبها عما فاته من الدنيا حديث آخر لـ عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع إذا كن فيه فلا عليك ما فاتك من الدنيا) فيقول النبي الكريم للإنسان المؤمن: لو فيك هذه الخصال الأربع وضاعت منك الدنيا كلها فلا تهتم ولا تحزن فإن لك الآخرة والجنة عند الله سبحانه، فلو لم تستفد شيئاً من هذه الدنيا إلا الأربع الصفات التي لا بد وأن تكون موجودة في كل إنسان مؤمن تقي نقي لكفى، قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ أمانة، وصدق حديث، وعفة في طعمة، وحسن خليقة أو حسن خلق). فقوله: (حفظ أمانة) أي: أن تكون حافظاً للأمانة وهي أمانة الله عز وجل تؤديها كما أمرك: في الطهارة في الصلاة في الوضوء في الزكاة في الصوم في الحج في العمرة في الاعتكاف في الجهاد في سبيل الله في التعامل مع الناس بالحلال في عدم الخيانة في عدم الغش، وكذلك حفظ أمانات الناس من أموال وودائع وقروض، وغير ذلك من المعاملات التي ينبغي أن تحافظ عليها، وعلى أمانتك بينك وبين الله، وبينك وبين الخلق. قوله: (وصدق حديث) أي: أن تكون صادق اللهجة، فلا تتحدث إلا بصدق ولا تكذب أبداً، وقد رأينا في حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكذاب يشدق ويشرشر فاه إلى قفاه بسبب كذبه، ولا يزال يصنع به ذلك وهو في قبره إلى أن تقوم الساعة. قوله: (وحسن الخليقة) أي: إذا حسنت خلقك أحبك الله وكنت قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وأحبك الناس ودعوا لك. قوله: (وعفة في طعمة) أي: يتعفف الإنسان في طعامه، فلا يتكسب إلا شيئاً طيباً ولو كان قليلاً، ولا يدخل جوفه إلا ما أحله الله سبحانه وتعالى، ويجتنب ما حرمه فإن الجسد إذا نبت من سحت فالنار أولى به، ومما نبت من لحمك من طعام قد حرمه الله سبحانه ومن أكل حرام ومن كسب حرام نبت منه لحم الإنسان فالنار أولى به والعياذ بالله.

تحريم أخذ المال الحرام بحجة التصدق به أو منه

تحريم أخذ المال الحرام بحجة التصدق به أو منه أيضاً: جاء في الحديث عند ابن خزيمة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك). قوله: (إذا أديت زكاة مالك)، هذه الفريضة التي عليك، وما تصدقت به بعد ذلك فهو من المستحبات، ومن جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه، فالغاية لا تبرر الوسيلة أبداً، فالإنسان الذي يتعامل بالحرام ويقول: سأتعامل بالحرام من أجل أن آكل وأتصدق به لا يقبل منه ذلك. الإنسان الذي يتعامل بالرشوة ويقول: أنا سأتصدق بها، يحرم عليه ذلك، كما يحرم عليه أن يتعامل بالربا بهذه الحجة. يقول صلى الله عليه وسلم: (ومن جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن فيه أجر وكان إصره عليه)، وقال في الحديث الآخر: (من اكتسب مالاً من مأثم) يعني: عمله عمل محرم، كأن يأخذ رشوة أو سحتاً أو يأكل من الربا أو يتعامل بالحرام، يقول عليه الصلاة والسلام: (فوصل به رحمه أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله) فهو يبرر لنفسه ما أخذه من مال حرام، فحتى ولو أنفق ذلك في سبيل الله لا يبرر منكره، وترى أناساً معهم مهن محرمة ويريدون أن يفعلوا خيراً، مثلاً: رقاصة تعمل موائد للرحمن وتقول: إنها تتصدق، وتذهب تحج بهذا المال، وتتصدق بأفخر الطعام للناس، قال صلى الله عليه وسلم: (من اكتسب مالاً من مأثم فوصل به رحمه الله، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع ذلك كله جميعاً فقذف به في جهنم) يعني: المال وصاحبه في نار جهنم ولن ينفعه ما تصدق به، لذلك فتصدق من شيء طيب ولو قليلاً. وعرفتم حديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك: (سبق درهم مائة ألف درهم) وذلك أن هذا الإنسان صاحب الدرهم فقير مسكين ليس معه إلا درهمان فتصدق بأحدهما، فيكون قد تصدق بنصف ماله، فكان له أجر عظيم عند الله عز وجل. والآخر لديه الملايين فأخرج منها مائة ألف، فلم تأثر شيئاً في ملايينه فله أجر عظيم عند الله، ولكنه عندما يقارن بين أجر من تصدق بنصف ماله، ومن تصدق بشيء من الأموال وإن كانت كثيرة فإن الأول يسبق الثاني وللثاني أجر عند الله عز وجل. ومن الأحاديث: ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ، أمن الحلال أم من الحرام) فيعمل أي عمل سواءً كان حلالاً أم حراماً، والذي يهمه فقط كيف يحصل على أكبر قدر من الأموال. وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة أيضاً: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: (الفم والفرج) الفم: والمراد بالفم: ما يأكله الإنسان. والفرج: أي: عند وقوعه في الزنا أو نحوه من الفواحش يكون سبباً في دخول صاحبه النار. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: (تقوى الله وحسن الخلق) فتقوى الله من أعظم الأشياء التي تدخل الإنسان الجنة، وكذا حسن الخلق وكلما حسن خلق الإنسان كلما رضي للناس جميعهم الخير، وكلما أحب الناس فلم يخدع أحداً، ولم يغش أحداً، وكلما تعامل مع الناس بمعاملات طيبة. ومن الأحاديث: حديث أبي بردة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) أي: لا يتحرك من مكانه حتى يسأل عن أربعة أشياء. وفي رواية أخرى: (عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به) ومعنى: عن عمره وعن شبابه أي: أين ضيعت عمرك وفيم أفنيت عمرك وشبابك وقوتك؟ قال: (وعن ماله) سؤالان عن المال (من أين اكتسبه وفيما أنفقه). وآخر الأشياء التي يسأل عنها عن علمه، فإذا كنت قد تعلمت كتاب الله وعرفت الأحكام الشرعية وعرفت سنة النبي صلى الله عليه وسلم فما الذي عملته فيما علمت من ذلك؟ فأعدوا للسؤال جواباً. نسأل الله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الورع وترك الشبهات وما يحوك في الصدر

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الورع وترك الشبهات وما يحوك في الصدر لقد من الله على عباده بأن جعل أصول دينهم واضحة الدلالة، منصوصاً عليها في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فبين الحلال والحرام، وجعل فيما دون ذلك أموراً مشتبهات، اختباراً لعباده وامتحاناً لهم، ولقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في الورع واجتناب المشتبهات، خوفاً من الوقوع في الحرام، ومراقبة لربهم العلام، وهكذا فلنكن.

التحذير من الوقوع في المشتبهات

التحذير من الوقوع في المشتبهات الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في الورع وترك الشبهات وما يحوك في الصدر. روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). وروى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس). وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال وابصة: فدنوت حتى مست ركبتي ركبته فقال لي: يا وابصة أخبرك ما جئت تسأل عنه؟ فقلت: يا رسول الله! أخبرني، قال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت: نعم. فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدره ويقول: يا وابصة! استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)]. هذه أحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في الترغيب في الورع وترك الشبهات، إذ أن الدين يحثنا على الورع، والورع: هو أن يجتنب الإنسان الحرام وأن ويجتنب أن يقع في المكروه، ويتورع عن الشيء الذي يشكل عليه أن يقع فيه خشية أن يكون حراماً، فجاء في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات). أي: الحلال معروف في كتاب الله سبحانه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث نص على أن هذا حلال أو هذا حرام، فالحلال بين والحرام بين، وبين الاثنين -أي: بين الحلال والحرام- أشياء تشتبه على الإنسان فلا يعرف هي من الحلال أم من الحرام، فالورع يكون في مثل هذه الحالة أن يجتنبها، وأن يسأل أهل العلم، فإذا بين له أهل العلم أنها حرام اجتنب ذلك، وإذا قالوا له: إنها حلال أتاها، وإذا صار الأمر مشكلاً عليه فلا يعرف هو حلال أو حرام حيث أن فيها شبهة من هذا ومن هذا فليجتنبها وليبتعد عنها حتى لا يقع في الحرام.

الوقوع في المشتبهات سبب للوقوع في الحرام

الوقوع في المشتبهات سبب للوقوع في الحرام ديننا يعلم الإنسان أن يأخذ حذره؛ إذ لعله يأخذ من هذا الشيء المشتبه شيئاً وراء شيء إلى أن يصير الأمر سهلاً عليه، فلا يتحرى الحلال من الحرام، ويقع آخر أمره في الحرام. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المثل فقال صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه). والحمى: هو حريم يجعله السلطان مكاناً محرماً وممنوعاً على الناس، كأن يقول: هذه الخيل للمسلمين، وهذه الإبل للمسلمين، وهذه للسلطان، فلو أن راعياً معه إبل أو غنم وجاء بالقرب من هذا المكان يرتع فيه، ويقول: المكان هذا مكان خصب، ولن أدخل مكان السلطان، بل أنا من حوله فهو لا يملك أن تدخل واحدة من الأغنام حمى السلطان، فلو أن هذا الراعي بجهله ذهب بغنمه حول مكان السلطان ورأى غنمه تدخل حمى السلطان، فعاقبة السلطان وأخذ منه الغنم، فرجع ولا غنم ولا مال لعاتبه الناس وسخروا من جهله، فكذلك هذا الإنسان الذي يرتع حول الشبهات ويأتي إلى الشيء المشتبه فيأخذ منه شيئاً فشيئاً إلى أن تحدثه نفسه بأكل الحرام فيقع فيه بعد ذلك وهو يعلمه، فلذلك على المؤمن أن يتحرى ويسأل، قال الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. وليحذر الإنسان من أن يحوم حول المعاصي ومقدماتها التي توقعه فيها، فإن من حام حول هذه المقدمات أوشك أن يقع في المعاصي بعد ذلك. فعلى المؤمن أن يجتنب الحرام وما أشكل عليه، وأن يسأل أهل العلم في ذلك كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا سأل فليتجرد في سؤاله، بحيث لا يسأل بطريقة يأخذ بها الجواب الذي يريده، وكم من سائل يفعل مثل ذلك، فتجده يريد جواباً بعينه، فيسأل المسألة معمياً فيها على المفتي حتى يفتيه بالشيء الذي يوافق رغبته.

بيان بعض وسائل معرفة الحرام

بيان بعض وسائل معرفة الحرام جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، فكل ما داريته في نفسك وأردت أن لا تظهره فهو إثم وإن كنت تزعم أنه من المتشابهات. في حديث وابصة بن معبد أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يسأله عن البر والإثم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أخبرك بما جئت تسأل)، وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل ما قال شيئاً بل أتى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فقبل أن يسأل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرك؟ فقال: نعم. يا رسول الله! فقال: جئت تسألني عن الإثم قال: قلت: نعم. يا رسول الله! فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها -أي: يدق بها على صدر وابصة - ويقول: يا وابصة! استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمئن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك). إذاً من الممكن أن يسأل الإنسان المفتي عن شيء أهو حلال أو حرام؟ وعلى حسب سؤال المستفتي يكون جواب المفتي بأنه حلال أو حرام، فالإنسان يمكن أن يعمي على من يجيب عنه بحيث يأخذ منه ما يريد، وهو في نفسه يعرف أن هذا حرام أو حلال، لكن كثيراً من الناس تجد أحدهم يريد أن يأخذ فتوى تبرر موقفه، ولسان حاله يقول: يتحمل عبء هذه الفتوى العالم وليس أنا، فنقول لمثل هذا: العالم لن يتحمل إلا ما أفتى به وبما استبان له، فهو إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، لكن أنت الذي عميت عليه، وأنت الذي خدعته في السؤال، فعليك الوزر في كل أحوالك.

نماذج من ورع أبي بكر الصديق وتركه للشبهات

نماذج من ورع أبي بكر الصديق وتركه للشبهات من الأحاديث التي جاءت عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه في تركه الشبه والحرام قول عائشة رضي الله عنها: كان لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء الغلام يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ -يريد بذلك أن يظهر مهارته- فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، وفي بعض الروايات أنها كانت امرأة وأخبرها بأنها ستلد ولداً، وقال لها: إذا أتيت بولد فأعطيني مقابل ذلك، وفعلاً ولدت المرأة ولداً فأعطوه مقابل ما قاله مالاً. فإذا به يخبر أبا بكر بهذا الأمر، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه؛ لأنه أكل لقمة أخذت من حرام، فهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم حلوان الكاهن، وهو ما يأخذه الإنسان على تكهنه، بأن يخبر أحداً بأمر سيحصل للمستمع في المستقبل ويطلب لهذا الأمر مقابلاً يسلم إليه عند حصول هذا الأمر. فغلام أبي بكر كان قد فعل هذا، وأخذ المقابل واشترى به طعاماً ثم قدمه لسيده، فأكل منه أبو بكر رضي الله عنه لقمة وأراد أن يتقيأها فما استطاع، فظل يضع إصبعه في حلقه حتى كادت نفسه أن تزهق بسبب ذلك، فأشاروا عليه أنه يشرب ماء يسيراً ثم يرجع حتى تخرج، فقال: لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها؛ وذلك لأنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نبت من حرام فالنار أولى به).

بيان أعبد الناس عند الله وصفته

بيان أعبد الناس عند الله وصفته روى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن ورعاً تكن أعبد الناس)، فهذا الحديث يخبر بأن من أراد أن يكون أعبد الناس فما عليه إلا أن يكون على ورع، فيجتنب الحرام والمتشابه، ولا يأكل إلا طيباً، ويكون بذلك مستجاب الدعوة أيضاً، فكأن المدخل إلى طاعة الله عز وجل هو الورع.

بيان صفة أشكر الناس

بيان صفة أشكر الناس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكن قنعاً تكن أشكر الناس)، أي: كن راضياً باليسير، فإذا رضيت باليسير شكرت الله سبحانه، ومن يشكر الله على اليسير يشكره على الكثير، وتكون بذلك أشكر الناس.

حب الخير للناس من علامات الإيمان

حب الخير للناس من علامات الإيمان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً)، أي: أن هذا من علامة الإيمان، فالمؤمن مع إخوانه وجيرانه، بل مع المؤمنين جمعياً يحب لهم ما يحبه لنفسه من محافظة على الصلوات، وصيام وقيام، وعبادة لله وغيرها، فإذا كان الإنسان يحب للناس ما يحب لنفسه فهذا من علامات الإيمان. فمن يحب للناس الخير يعطيه الله الخير، ومن في قلبه الضغائن والحسد للناس، فيتمنى زوال النعمة منهم وحصوله عليها، فهذا يشعر في نفسه أنه مظلوم؛ ولذلك قالوا: ما رأينا ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد. فالإنسان الحسود يحس أنه المظلوم الوحيد في هذه الدنيا، وأن كل الناس ظلمة؛ لأن لديهم نعماً من ربهم وليست لديه. وحقيقة شعوره أنه يشعر بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ظلمه، إذ أعطى الناس وما أعطاه، وأنعم عليهم ولم ينعم عليه، فيحرق قلبه بحسده، فيعاقبه من جنس عمله فيحرقه يوم القيامة بالنار بسبب الحسد. فعلى الإنسان المؤمن أن يحب الناس، ويحب الخير لهم، ويحب أن ينفعهم. فهذه هي علامة الإنسان المؤمن كما ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه.

صور من علامات الإسلام الحق

صور من علامات الإسلام الحق قال صلى الله عليه وسلم: (وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً)، أي: أن علامة الإسلام الصحيح أن يكون الإنسان خيراً مع جيرانه، فلا يؤذي أحداً منهم، بل يحب الخير لهم، ويتفقد أحوالهم: هل عندهم طعام؟ وهل لهم حاجة يحتاجون إليها؟ فتراه يحب جيرانه، ويمنع أذاه عنهم، وإذا علم أن جاره يضايقه شيء لم يفعل هذا الشيء الذي يضايق جاره، فهذه هي علامة الإسلام الصحيح.

مضار كثرة الضحك

مضار كثرة الضحك النصيحة الأخيرة في هذا الحديث العظيم هي قوله صلى الله عليه وسلم: (وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)، وهذه النصيحة نقولها لمن يحب أن يضحك كثيراً فيصير مهذاراً كثير الضحك. ونقول له: أنت لم تخلق للضحك، ولا يعني ذلك أن يمتنع الإنسان من الضحك مطلقاً، بل ساعة وساعة، أما أن تصبح طبيعة الشخص كثرة الضحك فهذا هو الممنوع؛ لأن الإنسان إذا تعود على الضحك والإضحاك فإنه إما أن يضحك على شيء حقيقي يستحق أن يضحك عليه، وإما أنه يخترع ويكذب على الناس من أجل أن يضحكوا على الكذب، وإن الكلمة يتفوه بها الإنسان من غضب الله تهوي به في النار سبعين خريفاً، أي: سبعين سنة، ومن يعتاد على إضحاك الناس يموت قلبه، ومن يركن إلى مثل ذلك يكون مثله. وكما قلنا: لا يعني هذا الأمر أن يمتنع الشخص من الضحك، ولكن بمقادير وحدود، بحيث لاتكون حياته كلها ضحك وسخرية واستهزاء بالغير، فيضحك الناس حتى يقال عنه أنه صاحب فكاهة، وإلا وقع في غضب الله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن التقاضي والقضاء

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن التقاضي والقضاء إن دين الإسلام هو دين السماحة في جميع تفاصيله وتعاملاته، وقد أثنى الشرع الحنيف على من كان سمحاً في البيع والشراء والقضاء؛ لأنها غالباً ما تكون في أمور مالية محببة إلى قلب الإنسان.

الأحاديث الواردة في الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن القضاء

الأحاديث الواردة في الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن القضاء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن التقاضي والقضاء. روى البخاري وابن ماجة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)، وفي رواية للترمذي: (غفر الله لرجل كان قبلكم، كان سهلاً إذا باع، وسهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا اقتضى). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان هيناً ليناً قريباً حرمه الله على النار) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسمح يسمح لك) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح إلا مهدي بن جعفر. هذه الأحاديث جاءت عن النبي صلوات الله وسلامه عليه في الترغيب في السماحة في البيع والشراء وحسن التقاضي والقضاء، وهذا كله راجع إلى حسن الخلق، فالإنسان المؤمن يتعامل مع الخَلْق المعاملة التي يحب أن يُتعامل معه بها، فيحسن خلقه ويبتغي بذلك رضوان الله تبارك وتعالى، وأيضاً يبتغي بذلك حب الناس، فإن الإنسان إذا أحبه الله سبحانه جعل محبته في قلوب الخلق، فيدعون لهذا الإنسان الذي فيه السماحة وفيه حسن الخلق وفيه اللين، فهو هين لين مع الناس.

شرح حديث: (رحم الله عبدا سمحا إذا باع)

شرح حديث: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع) جاء عن جابر رضي الله عنه ومثله عن عثمان وعن عبد الله بن مسعود، ولفظ حديث جابر: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)، والسماحة هي السهولة، فالإنسان عندما يسمح بماله، أي: يعطي ويبذل ماله ويسمح، فيكون سهلاً في عطائه، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أو أخبره وكلا الأمرين حسن فإن دعا فدعوته مستجابة، أو أخبر عن حاله فهذا من المؤكد أن الله سبحانه قد رحمه. وصفة هذا العبد السماحة في البيع فهو يبيع بسماحة وبطيب نفس، ويبذل ما عنده، ويعطي ولا يماري ولا يجاري ولا يغش ولا يخدع، وفيه سماحة في بيعه وعطائه فليس عنده تعنت، فإذا وجد المحتاج الذي لا يقدر على دفع المال فإنه يعطيه ويتسامح معه بطيب نفس وبطيب خلق، فرحم الله عبداً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى، فيشتري ولا يبخس السلعة قدرها ولا يجادل كثيراً، ولا يخاصم في ذلك، ولا يرفع صوته ولكن فيه سماحة في شرائه، وعلى قدر ما يكون الإنسان كذلك على قدر ما تكون المعاملة بينه وبين الله سبحانه على ذلك. فلا تظن أبداً أن إنساناً يكون سمحاً في العطاء وأن الله يضيق عليه في الرزق فهذا مستحيل، ولا يكون أبداً، والجزاء من جنس العمل، فالإنسان الذي يشح ويبخل فهذا يضيق الله تبارك وتعالى عليه، حتى وإن كان رزقه أمام الناس واسعاً لكن تجده خائفاً على المال مستشعراً بالفقر وبأن المال سيضيع منه. فصاحب البذل وصاحب السماحة تجد الله سبحانه وتعالى يوسع عليه في الرزق حتى وإن كان رزقه ضيقاً ولكنه يعطيه في قلبه غنى يشعر من خلاله أنه غني. فإذا اشترى الشيء دفع فيه ثمن ما يماثله فلا يكثر من الجدال، ولكن ليس المعنى أن يُخدع في الشراء فإنه إذا خدع مرة لن يخدع كل مرة، ولكن المقصد أن يعطي الثمن الذي تستحقه هذه السلع دون بخس ودون زيادة، وعلى الإنسان ألا يتعود على كثرة الجدل وشراسة الخلق مع البائع، وهنا الدِّين يعلمنا اليسر والسهولة والسماحة في البيع والشراء، قال: (سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى). واقتضى أي: طلب القضاء، فمن حق المؤمن أن يطلب ماله عند الناس ولكن إذا طلب فليكن طلبه بسماحة وبسهولة، فإذا وجد الإنسان الضعيف الفقير يتسامح معه، فإذا كان معه مال دفعه وإلا صر عليه قليلاً، فالصبر على المال أجره عجيب وعظيم. فلو أن لك عندي مالاً ووعدتني بأن تدفع لي وترجع مالي يوم كذا بعد شهر مثلاً، فجئت بعد شهر أطالبه بالدين الذي لديه فإن أعطاني كان من الأجر كأني تصدقت بنصف مالي، جزاء أني دينت الرجل، فإذا سلفت إنساناً ألف جنيه مثلاً ودفع لك المال في وقته فأخذت الألف فكأنك تصدقت بخمسمائة جنيه جزاء دينك للمستدين. ولو فرضنا أنه جاء السداد المتفق عليه، ولا يوجد معه مال يعطيك، فصبرت عليه فلم تأخذ مالك، ولو أن تاجراً يحسبها سيجد أن المال لو استثمره وكان ألف جنيه مثلاً فسيكون له من الربح مقدار مائة جنيه مثلاً، ولكن الله يعطيك جزاء صبرك على دين الرجل أكثر من ذلك بكثير، فيكتب لك في ميزان حسناتك كأنك تصدقت في كل يوم صبرت عليه بمثل هذا الربح، فلو صبرت عليه عشرين يوماً لكان لك من الأجر أجر صدقة ألفين جنيه. وهذا الذي يصبر عشرين يوماً فكيف بمن ينتظر سنة أو سنتين لا شك أنه سيحصل على أجر كبير، وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهذا الذي يجعل الإنسان المؤمن في راحة إذا لم يحصل على ماله المستدان، فإذا دفع لك بعد عشرين سنة المال فقد كسبت هذا الأجر كله من الله سبحانه، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا ما طله آخر ليس من حقه أن يرفع عليه دعوى في المحكمة ويحاكمه، بل هذا من حقه، ولكن ينظر هذا الإنسان هل هو معسر أم موسر؟ فإذا كان موسراً ومماطلاً فيستحق أن يعاقب. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) والمطل من المماطلة، وهذا مثل كثير من التجار تراه يستلف من هذا ويستلف من هذا ومعه مال، ولكنه يريد أن يوفر ماله في التجارة ويريد أن يزيد رأس ماله من مال الناس، ولكنه يؤخر أموال الناس، وكل ذلك من أجل أن ويحصل على أرباح ويكسب منها، فإذا أخذ إنسان منك ديناً ولديه القدرة على سداده فمن حقك أن تقاضيه، وهذا مستحق بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) ويحل عرضه يعني يقال عنه: إنه ظالم وأنه يأكل أموال الناس، ويحل عقوبته أي: بأن يقاضيه عند الحاكم، ويستحق العقوبة، ولو أنه صبر فإن ربنا يقول: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]. أما المعسر من الأولى أن تصبر عليه وتؤجر من الله سبحانه لعل الله سبحانه يرزقك خيراً من ذلك ويرزقه فيرد عليك مالك. وفي رواية لهذا الحديث عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدخل الله عز وجل رجلاً كان سهلاً مشترياً وبائعاً وقاضياً ومقتضياً الجنة) فرحمه الله سبحانه وجزاه الله الجنة على ذلك؛ لأن فيه يسر وسهولة ولين، إذا اشترى السلعة أو باعها تجده سهلاً، وسهل إذا كان قاضياً، أي: يقضي بالحق، وأمين في الأمانات والودائع وحقوق للناس، فإذا جاء وقتها ذهب بها إلى أصحابها {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، قال: ومقتضياً يعني مطالباً بحقه.

شرح حديث ابن مسعود: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار)

شرح حديث ابن مسعود: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟) عندما نسمع هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم تتطلع النفس إلى معرفة هذا الشيء، يقول عليه الصلاة والسلام: (تحرم النار على كل قريب هين سهل) يعني: تستطيع أن تتكلم مع هذا الإنسان بسهولة، وعندما تعتذر له يقبل منك الاعتذار دون أدنى صعوبة، فيكون قريباً من القلب قريباً من الناس. (إنما تحرم النار على كل هين لين قريب سهل)، وهذه كلها مترادفات، وكأنه يقول: المؤمن يكون على هذه الصفة الجميلة فيكون هيناً، والهين هو الإنسان السهل البسيط، في معاملته والذي لا يصعب الأمور ولا يعقدها فهو سهل في المعاملة، ولين في المعاملة، أي: ليس عنيفاً ولا صعباً ولا صخاباً، بل هو إنسان قريب سهل التناول. وكل مفردات الحديث مرادفات لمعنى واحد.

شرح حديث: (أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالا)

شرح حديث: (أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالاً) عن حذيفة رضي الله عنه قال: (أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ -ولا يكتمون الله حديثاً- فقال الرجل: يا رب! آتيتني مالاً فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز -أي: السهولة في التجاوز والتغاضي- فكنت أيسِّر على الموسر، وأُنظِر المعسر) أي: أنه مع كل الناس إنسان طيب، فكان يصبر على الموسر ويتجاوز عن المعسر ويسامحه، ويصبر عليه فترة طويلة. (فقال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي) هذا الحديث موقوف من قول حذيفة، وقد رواه غيره كـ عقبة بن عامر وأبو مسعود الأنصاري قالوا: هكذا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: هكذا سمعوا هذا الحديث أن الله سبحانه تجاوز عن هذا العبد يوم القيامة لكونه كان يتعامل مع الناس بتيسير وليس بتعسير. ومن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم السهولة والتيسير، فقد كان أحسن الناس قضاء ولذلك في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستدين؛ لكثرة الضيوف الذين ينزلون عليه وكثرة أهل الحاجة، ولا يوجد بيت مال عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينفق منه، ولهذا كان يستدين، ويقضي مما آتاه الله عز وجل من رزق، قال عليه الصلاة والسلام: (جعل رزقي تحت ظل رمحي)، فماله صلى الله عليه وسلم من الفيء ومن المغانم، كان يعطي منه لأهله النفقة الواجبة، وينفق على الناس صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يعطي أهل بيته صدقات ولا زكوات؛ لأنهم لا يحل لهم منها شيء، وكان يوزع الغنائم للناس الذين يأتون يطلبون منه، فقل أن يمر عليه وقت إلا ويستلف صلى الله عليه وسلم. فجاء رجل قد استلف منه النبي صلى الله عليه وسلم ليتقاضاه ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم فأغلظ على النبي صلى الله عليه وسلم فهمَّ به أصحابه، أي: أن هذا الرجل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يطلبه ما عليه بطريقة سيئة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اصبر قليلاً حتى يأتي لنا مال، فإذا بالرجل يتطاول على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا محمد! هات ما عليك، فإنكم -يا بني عبد المطلب- قوم مطل -أي: أناس مماطلون- فلما قال ذلك قام الصحابة ليضربوه، فهدّأ الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابة أن اصبروا، إن لصاحب الحق مقالاً) صحيح أنه أساء الأدب ولكنه صاحب حق فاصبروا عليه. فصبر وأرانا حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، بل أعظم من ذلك أنه يعذر مثل هذا الإنسان المتهجم عليه بالكلام القبيح، ويقول: لا بأس إنه صاحب حق وله مقال، وليس من حق هذا ولا غيره أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، فصبر عليه وأمرهم أن يوافقوه وأن يؤدوا له الذي يريده فأعطوه مُسنَّاً مثل سنه. ويطلق على الجمل أو الناقة عندما تبلغ سنة بنت مخاض، أو بنت لبون وهي التي تبلغ من العمر سنتين، أو حقة وهي التي تبلغ ثلاث سنوات، وجذعة عندما تبلغ أربع سنوات وهكذا، فإذا زادت في السن تكون أغلى في السعر. فهذا الرجل سلَّف النبي صلى الله عليه وسلم سناً معيناً فقال: (اقضوه مثل سنّه أو أعطوه سنَّاً مثل سنّه، فقالوا: لا نجد إلا أمثل من سنه، أي: الذي عندنا أحسن من الذي أعطاه لنا -وكأنهم نظروا أنه لا يستحق؛ لأنه قليل الأدب، فلا يستحق أن نعطيه أحسن مما أعطى للنبي صلى الله عليه وسلم- فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أعطوه؛ فإن خيركم أحسنكم قضاء)، فأرانا حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع هذا الإنسان السيئ، وأرانا حلمه مع هذا الإنسان المتهور المتعجل، وأرانا حسن القضاء مع هذا الذي يعسر في طلب الحق الذي له، فأرانا النبي صلى الله عليه وسلم بعمله وخلقه أن الإنسان يتجاوز لعل الله عز وجل أن يتجاوز عنه. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترهيب من بخس الكيل والميزان

شرح الترغيب والترهيب - الترهيب من بخس الكيل والميزان لقد حذر الإسلام من جميع التعاملات التي تؤدي إلى فساد الأخوة بين المسلمين، وتقطع روابط المحبة بينهم، ومن ذلك بخس الكيل والميزان وتطفيف الكيل، وقد رتب الله جل في علاه على ذلك عقوبات عاجلة تصيب أصحابها في الدنيا قبل الآخرة.

ما جاء في الترهيب من بخس الكيل والوزن

ما جاء في الترهيب من بخس الكيل والوزن بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترهيب من بخس الكيل والوزن: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله بأن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله يتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)، رواه ابن ماجة واللفظ له ورواه البزار والبيهقي]. هذا الحديث العظيم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه يذكره الحافظ المنذري في الترهيب من بخس الكيل والوزن. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً)، يعني: أهل المدينة والأنصار رضوان عليهم قبل أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون في البيع والشراء وكانوا أخبث الناس كيلاً أو من أخبث الناس في الكيل يعني: يطففون في الكيل والميزان ويبخسون الناس أشياءهم في ذلك. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم من القرآن فكان مما نزل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3]، فتلى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك فكانوا من أحسن الناس وزناً بعد ذلك.

شرح حديث: (خمس خصال إذا ابتليتم بهن)

شرح حديث: (خمس خصال إذا ابتليتم بهن) في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن)، يعني: خمسة أوصاف. إذا وقعتم فيها جاء من وراء ذلك العذاب من عند الله سبحانه معجلاً في الدنيا. وهذه الأشياء ينبغي على المسلمين أن يجتنبوها، وينبغي عليهم أن يتدبروا هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأحاديث ليعلموا مواطن الداء الموجود في أمة الإسلام ليعرفوا لماذا أمة الإسلام الآن ذليلة عند الكفار، ولماذا أذل الكفار المسلمين في كل مكان؟ فالعيب من أنفسهم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. فالمرء بما كسبت يداه يبتليه الله سبحانه وتعالى بما يستحق من عقوبة عاجلة أو آجلة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن قد مضت في أسلافهم الذين مضوا). وهذه بلية ومصيبة يبتلى بها الناس فإذا ابتلوا بهذه المعصية كان من وراء ذلك بلاء آخر وهي: المصائب والأوجاع. وهذه البلية هي الفاحشة، فإذا ظهرت بين الناس وظهر التبرج عند النساء وظهر من الرجال بسبب ذلك الوقوع في الزنا واستحلال ما حرم الله تبارك وتعالى من الزنا واللواط، فانتشر بين الناس وشاع ذلك استحق الناس أن يبتليهم الله سبحانه بأوجاع لم تخطر على بالهم قط ولم يروها قبل ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع)، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها ويظهروها، فيظهر الرجل أنه يفعل الفاحشة وتظهر المرأة كذلك ويتستر عليهم الناس ثم يعلنون بها ولا يهتمون بأن يراهم أحد، ويمشي الرجل مع المرأة في الطريق على شاطئ البحر وفي الشارع ويفعل ما يشاء من معاص ولا أحد ينكر عليه، حتى يعلنون بها وتشجعهم الحكومات على ذلك؛ فيسنون لهم الأحكام الوضعية لإباحة الزنا وأنه يجوز هذا الشيء طالما المرأة بالغة ورشيدة فمن حقها وما أحد له دخل في شأنها، والوحيد الذي من حقه أن يشكو هو زوجها فقط كما تفعل حكومات الكفر في بلادهم ويقلدهم المسلمون في بلادهم، والآن يسعون إلى سن القوانين للناس فهم يبحثون عن قوانين إباحة زواج المثلين المرأة بالمرأة والرجل بالرجل. عندما يفعلون ذلك يبتليهم الله سبحانه وتعالى بالأمراض التي لم تكن على بالهم فيأتيهم الطاعون، والكوليرا والإيدز، ويأتيهم فيروس الكبد الوبائي فيروس ( A) وفيروس ( B) وفيروس ( C) والله أعلم ما الذي سيأتي بعد ذلك من بلاء ومصائب، وكلما قيل: اكتشفنا علاجاً لهذا المرض جاء مرض ثانٍ. ولا يزال الأمر على ذلك طالما الإنسان يعارض الله سبحانه وتعالى، ويحاربه، فالله سيبتليه بالعلل والأمراض التي لا يقدر أن يقاومها أبداً، فتجد هؤلاء الناس يصيبهم الله بالبلاء من عنده وإذا نزل البلاء فإنه يعم ولا يخص، فتجد إنساناً مريضاً بالإيدز قد ينقل منه الدم لآخر وهو ليس له ذنب فينتقل الإيدز إليه دون أي ذنب. أو مريض بالتهاب الكبد الوبائي وهو بسبب معصية من المعاصي التي يعملها ونقل الدم إلى غيره ويصيبهم بالمرض فيأتي البلاء على هؤلاء جميعهم، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فلن يأتي البلاء على الظالم فقط وإنما على الجميع. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولم ينقص المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان)، فمن أعمال الناس يسلط الله عز وجل عليهم من يذيقهم الأمرين. فالناس يظلمون ويرتكبون المعاصي والمنهيات الشرعية، وقد يلقوا بالملامة على الحكام بحجة أنهم ظلمة وما ينظرون إلى نفسهم وإلى ما يعملون، فلو أن الإنسان أصلح من حاله لولى الله عز وجل عليه من ينصفه ومن يكون صالحاً، ولكن من ظلم فإن الله يولي عليه من يشدد عليه ويؤذيه ويجور عليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ولم ينقصوا المكيال والميزان)، فكم من الناس ينقصون الميزان والمكيال؟! وكم من التجار؟! إلا من رحم الله سبحانه، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين يخاطب التجار بقوله: (إن التجار هم الفجار)، وأكثر أهل المدينة كانوا تجاراً يتاجرون ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك: (إن التجار هم الفجار)، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبب ويقول: (إن أحدهم يحلف فيكذب ويعد فلا يوفي). فمن فجورهم أن أحدهم يحلف بأن هذه السلعة من أجود السلع وهو كاذب فيما يقول، فيحلف بالله ويحلف بغير الله وهو كاذب فيما يدعي. والشياطين تخدع أمثال هؤلاء فتجد بعض التجار الحمقى والمغفلين يحلف كذباً وإذا أنكر عليه أحدهم قال: عندما طلعت من البيت قلت في نفسي إن كل يمين أحلفها اليوم فهي كذب، وهو يظن أن هذا الشيء يبرر حلفه الكاذب، فهو بذلك يضحك على نفسه ويخدع نفسه. وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً حلف أنه لا يبيع سلعة ثم باعها بعد ما حلف فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه باع آخرته بدنياه)، فيا ترى كم من الناس يبيعون أخراهم بدنياهم.

عقوبة نقص المكيال والميزان

عقوبة نقص المكيال والميزان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولم ينقصوا المكيال والميزان لأخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان) وأخذوا بالسنين، أي: القحط، فيمنع الله عز وجل عنهم المطر، وإذا أنبتت الأرض فإن الله يبتليهم بالحشرات والديدان والأوبئة التي تضيع الزروع، وإذا أثمرت الزروع والثمار فليس فيها ذلك الطعم الحلو والمذاق الرائع. فكم من الناس يغشون فتكون فاكهتهم بلا طعم، وقد يكون الغش والخداع في السموم التي يصنعها بعض الفلاحين والتي تساعد على نمو النبات بشكل سريع، وهي في حقيقة الأمر مضرة أشد الضرر. فكم يؤذي هؤلاء الناس بعضهم بعضاً لبعدهم عن الله سبحانه ولجشعهم وطمعهم، فيطمع المزارع ويريد أن يأخذ أكثر ما يقدر عليه، والتاجر يريد أن يأخذ السلعة بثمن بخس ويبيعها بأعلى ما يكون، فيبيعها فاسدة تالفة، المهم أن يكسب، ويخدع المشتري بأن ينقص في الكيل والميزان، فيكون له ميزانان: ميزان يشتري به وميزان يبيع به، فهنا يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الظلمة يستحقون أن يؤخذوا بالسنين وشدة المؤنة أي: أن الحياة تصير شديدة عليهم، والأسعار تغلى على مثل هؤلاء الناس بسبب أعمالهم، ويصبح كل منهم يقول: ليس عندي الحاجة الفلانية؛ لأنها صارت غالية. ويسلط الله عليهم الحاكم الذي يجور عليهم، ويفرض عليه الضرائب الباهضة، ويكلفهم ما لا قدرة لهم عليه. فمن يطالب بالتغيير عليه أن يبدأ بتغيير نفسه أولاً قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فغير ما في قلبك من غش وخداع وطمع وجشع ومن حسد للناس على ما آتاهم الله عز وجل من فضله.

عقوبة منع الزكاة

عقوبة منع الزكاة يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء)، إذا منع الناس الزكاة ولم يخرجوها وتحايلوا عليها فالله سبحانه وتعالى يمنع عنهم القطر، ولكن برحمته سبحانه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولولا البهائم لم يمطروا)، لولا وجود البهائم ما نزل عليهم المطر من السماء؛ لأنهم لا يستحقونه.

عقوبة نقض العهد والميثاق

عقوبة نقض العهد والميثاق قال صلى الله عليه وسلم: (ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم)، نقض العهد والميثاق وهو الخيانة التي اشتهر بها العرب الآن بعدما كانوا يوفون بالعهود فقد رجعوا إلى جاهليتهم مرة ثانية، فإذا بهم يعاهد بعضهم بعضاً وينقض بعضهم عهد بعض، ويحالفون أعداءهم على إخوانهم المسلمين، ويغدر المسلم بأخيه المسلم من أجلهم، قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10]. فالذي ينكث العهد إنما ينكثه على نفسه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم)، يعني: من غير المسلمين أعداء يتسلطون فيأخذون بلاد المسلمين مثلما أخذوا العراق وفلسطين. والسبب في وجود المصائب في بلداننا وقلة الخيرات من زروع وثمار هو الجور والظلم، بينما نجد أن لديهم الكثير من الجنات والبساتين والسبب في ذلك كله أن عندهم عدالة في بلادهم فأعطاهم الله سبحانه وتعالى الرزق، بينما عندنا ظلم بيننا وبين أنفسنا، فنظلم أنفسنا، ويظلم بعضنا بعضاً، وبسبب هذه المعاصي حُرمنا من فضل الله سبحانه إلا برحمة ربنا لبعض الصالحين وللبهائم التي في الأرض كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.

عقوبة الحكم بغير ما أنزل الله

عقوبة الحكم بغير ما أنزل الله قال صلى الله عليه وسلم: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما أنزل الله)، أي: إذا لم يحكموا بحكم الله سبحانه، ويتخيروا بمعنى: يأخذون الخير من كتاب الله وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه إلا (جعل الله بأسهم بينهم). فإذا تركوا القرآن وتركوا السنة وصاروا يحكمون بغير ما فرضه الله، وبغير ما أنزل الله جعل الله بعضهم أعداء لبعض؛ لأنه صار أمرهم على الدنيا فنزع من قلوبهم الخير، وحلت عليهم عقوبة رب العالمين سبحانه. نسأل الله عز وجل العفو والعافية، وأن يهدي المسلمين في كل مكان، وأن يؤلف بين قلوبهم حتى يراجعوا أمر دينهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترهيب من تضييع الأمانة

شرح الترغيب والترهيب - الترهيب من تضييع الأمانة لقد حذر الإسلام من تضييع الأمانة وكتمانها، وتوعد فاعله بالعقاب والنكال. ونظراً لعظم أمر الأمانة فقد قرن الله الخيانة فيها بخيانته وخيانة رسوله. والله عز وجل يغفر يوم القيامة ما شاء إلا حقوق الناس فلا يغفر منها شيئاً إلا أن يعفوا. فالمسلم لا يكون خائناً أبداً، إذ الخيانة صفة لؤم تناقض الإسلام، بل شدد الإسلام حتى بعدم خيانة الخائن.

الترهيب من تضييع الأمانة

الترهيب من تضييع الأمانة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فقد روى الإمام البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله ويقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب! كيف وقد ذهبت الدنيا؟ قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلقون به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر -ظن- أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة. وأشياء عددها. وأشد ذلك الودائع). قال زاذان: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود قال: كذا وكذا؟ قال: صدق، أما سمعت الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا).

شرح أثر ابن مسعود في الأمانة

شرح أثر ابن مسعود في الأمانة هذه الأحاديث ذكرها الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب. ومنها هذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه. وقد ذكر فيه الأمانة. والأمانة من أعظم ما يحمل الإنسان، ويسأل عنه يوم القيامة. فقد قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. وجاء هذا المعنى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله رجل: أرأيت إن قاتلت في سبيل الله صابراً، أو: قتلت صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، أيكفر عني ذلك، -يعني: الذنوب-؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، فلما أدبر الرجل ناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إلا الدين، أخبرني بذلك جبريل آنفاً). فالإنسان لو استشهد في سبيل الله مقبلاً غير مدبر صابراً محتسباً، وقتل في سبيل الله فإن هذا القتل يكفر عنه كل الذنوب التي وقع فيها، إلا الدين، أي: إلا أمانات الناس. فإن كان عنده دين للناس، فإن هذا لا يكفر عنه، والناس تطالبه بحقوقها يوم القيامة. فيؤخذ لهم من هذا الإنسان حتى ولو كان شهيداً. وهنا يقول ابن مسعود: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. يؤتى بالعبد يوم القيامة وقد قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك). وهذا له حكم المرفوع؛ لأن ابن مسعود لم ير يوم القيامة، ولا يعلم شيئاً من الغيب، إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك. فقال: (فيقال: أد أمانتك) أي: أن الإنسان عندما يأتي يوم القيامة يقول له الله عز وجل: عليك أمانة، وعليك وديعة لفلان، وعليك دين لفلان، وعليك كذا. فأد هذه الأمانة. قال: (فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟)، أي: من أين آت بها؟! وهي لا توجد الآن؛ لأن الدنيا ذهبت. قال: (فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية)، وهذا من أسماء النار والعياذ بالله. سميت بذلك لأنها تهوي بصاحبها. وقد جاء أن الحجر يرمى به من رأس النار فيهوي إلى قاعها لا يصل إلا بعد سبعين خريفاً. فقعر جهنم اسمه الهاوية، والعياذ بالله. قال: (فيقال للملائكة: اذهبوا بهذا الرجل إلى الهاوية، فينطلقون به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته، كهيئتها يوم دفعت إليه)، أي: يرى الأمانة أمامه في النار. فيقال له: هذه الأمانة التي أخذتها من الناس. فهو قد أخذ من الناس في الدنيا ودائع وعواري، وأخذ منهم أموالاً على هيئة الدين. فتكون أمانة عنده، ثم لم يردها إلى أصحابها، فمن هذه حاله في الدنيا، فإنه يوم القيامة يذهب به إلى النار، ويقال له: هذه أمانتك داخل النار، فادخل واحضر هذه الأمانة. فينزل وراء الأمانة، ويظن أنه سيمسكها، فينزل وراءها حتى يمسكها، ويضعها على كتفيه، ويصعد من أجل أن يخرج من النار. قال: (فينطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر -ظن- أنه خارج)، أي: ظن أنه سيخرج من النار، تفلت الأمانة منه وتسقط في النار ثانية، فينزل وراءها ليحضرها، وهكذا. قال: (حتى إذا نظر -ظن- أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين. ثم قال: الصلاة أمانة). فالإنسان يسأل يوم القيامة عن الصلاة التي اؤتمن عليها. فإذا قال: كيف أصلي الآن؟ يقولون: اذهب واحضرها من النار، فيذهب إلى النار، ويهوي فيها وراءها أبد الآبدين؛ لأنه ضيع الصلاة وهي أمانة رب العالمين. قال: (والوضوء أمانة، والوزن أمانة). فالإنسان عندما يزن ويبيع للناس فهذا أمانة. قال: (والكيل أمانة وأشياء عددها. وأشد ذلك الودائع). فعندما يقول لك إنسان: ضع لي هذه الحاجة عندك. فهذه وديعة. وكم من الناس يؤتمن على شيء فيأخذه ويقول: لم أر شيئاً؟ ولم آخذ شيئاً؟ وكم من إنسان يستعير الشيء ويتلف عليه ويقول: لقد ضاع، فماذا أعمل؟ وينتهي الأمر. فهذه أمانات لابد وأن ترد إلى أصحابها، فإن لم يردها صاحبها في الدنيا فهذا حاله يوم القيامة والعياذ بالله. قال زاذان راوي الحديث عن ابن مسعود: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا وكذا. قال: صدق، أما سمعت الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. فإذا لم يؤد الإنسان أمانته في الدنيا فُعل به ذلك في النار، والعياذ بالله.

شرح حديث: (من حمل علينا السلاح فليس منا)

شرح حديث: (من حمل علينا السلاح فليس منا) ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا). فالإنسان الذي يحمل السلاح ويقاتل المسلمين لكونهم مسلمين فهو كافر، وليس مسلماً. فالذي يقاتل المسلم لكونه مسلماً، فيقاتله على إسلامه وعلى دينه ليفتنه عنه فليس بمسلم، حتى وإن زعم هذا الإنسان أنه مسلم، طالما أنه يقاتل المسلم ليفتنه عن دينه. وأما من حمل السلاح على المسلمين على وجه التهديد والسطو عليهم ليأخذ أموالهم فيدخل تحت (فليس منا)، أي: ليس على طريقتنا ولا ينسب إلينا، وإن كان الأول أشد شراً من هذا الثاني. فالأول: فتن المسلم عن دينه. وحمل السلاح ليقاتله لكونه مسلماً. فهذا ليس منا على الحقيقة؛ لأنه لا يوجد مسلم أبداً يقاتل مسلماً لكونه مسلماً. فإذا وجد مثل ذلك فإنه ليس مسلماً. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن من يحمل السلاح على وجه التعدي والاعتداء، وعلى وجه قطع الطريق، وغير ذلك فهذا ليس من المسلمين، أي: لا ينسب إليهم، يعني: أنه قد أتى بكبيرة من الكبائر. وليس مثل هذا يستحق أن ينسب إلينا. فالفرق بينهما: أن الأول كافر، والثاني مرتكب كبيرة من الكبائر.

بعض الأعمال التي قال رسول الله عن فاعلها: (ليس منا)

بعض الأعمال التي قال رسول الله عن فاعلها: (ليس منا) قال صلى الله عليه وسلم: (ومن غشنا فليس منا). وقد جاءت روايات كثيرة لهذا الحديث. وجاءت أسباب فيها. فمنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء، يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا). فلا تخدع في البيع، ولا تبع للناس شيئاً بعضه فاسد، وتخبئه في النصف، وتضع في الأعلى الشيء الجيد؛ لتخدع الناس. قال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا). وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بطعام قد حسنه -يعني: صاحبه- فأدخل يده فيه)، يعني: وضع كوماً من الطعام منظره من الخارج جميل، أي: قد جمله صاحبه. قال: (فأدخل يده فيه فإذا طعام رديء)، أي: وجد شيئاً سيئاً داخل هذا الطعام الذي ظاهره حسن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الطعام: (بع هذا على حدة وهذا على حدة. فمن غشنا فليس منا). فعندما تريد أن تبيع الطعام فلا تخلط بعضه مع البعض الآخر، وإنما بع الرديء وحده وبع الطيب وحده؛ لأن هذا له سعر وهذا له سعر آخر، (فمن غشنا فليس منا). ووردت أحاديث في أن رجلاً كان يبيع رطباً، وقد جعل الرطب المبلول في الداخل، واليابس في الخارج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وفي بعض الأحاديث: (إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: ما حملك على هذا؟)، أي: لماذا خلطت هذه الأشياء مع بعضها؟ (فقال الرجل: إنه أصابته سماء)، يعني: فليس لي ذنب في ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا عزلت الرطب على حدة، واليابس على حدة، فيبتاعون ما يعرفون؟)، يعني: حتى يشتري المشتري ما يعرف. ثم قال: (غشنا فليس منا).

جزاء المكر والخداع

جزاء المكر والخداع وذُكر في حديث آخر لـ ابن مسعود رضي الله عنه: (من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار). (والمكر) كما يفعله بعض الناس ثم يقول: ضحكت عليه، وبعت له السلعة بكذا. فانظر ماذا عملت له، فتعال تعلم مني، وانظر كيف أبيع وكيف أشتري. فهو مخادع ومكار، ومصيره إلى النار. وهذا مصير أهل النار. فأهل المكر والخيانة والخداع، يظنون أنفسهم أذكياء في الدنيا، وأنهم يعرفون التصرف والبيع، فهؤلاء آخرتهم النار، والعياذ بالله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والمكر والخداع في النار). وفي حديث آخر: (المكر والخديعة في النار). ومهما يصنع الإنسان من مكر وخديعة ليأخذ أموال الناس فلا يظن أبداً أنه سيبارك له في هذا الشيء. وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً من الأقوام الذين من قبلنا، حتى نعرف ما الذي يمكن أن يحدث لهذا المال، فالإنسان المخادع والتاجر الذي يريد أن يبيع الحاجة بأكثر من ثمنها، ويظن أنه سيخدع الناس بهذا الشيء، إنما يضحك على نفسه ويخدعها؛ لأن هذا المال الذي يأخذه محكوم عليه بالهلاك وبالضياع؛ لأنه إنما يبتليه الله سبحانه وتعالى به، فإما أن يضيع منه هذا المال، وإما أن يسلط عليه نفسه وشهوته ويضيعه في الحشيش والمخدرات وغيرها، أو يبتليه بالأمراض التي يظل يصرف هذا المال على علاجها، ولا تذهب هذه الأمراض منه، أو يبتليه بفساد عياله وزوجته، فيسرقون المال من ورائه. فيجد أن هذا المال المأخوذ بالخديعة والمكر محكوم عليه بالتتبير والهلاك. وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وهو عند الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان يبيع الخمر في سفينة له). وفي رواية: (أن رجلاً ممن كان قبلكم جلب خمراً إلى قرية فشابها بالماء فأضعف أضعافاً). ولعل هذا كان جائزاً في ملتهم، أو أنه حكاية يحكيها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس معناه جواز بيع الخمر، ولكن المعنى: أن هذا الإنسان ذهب يبيع الخمر في قرية، فركب سفينة وسافر إلى هذه القرية، فلما نزل في القرية وجد أن الذين يريدون أن يشتروا الخمر كثير، فزادها ماء وضاعفها أضعافاً بالماء، وباعها للناس، وأخذ المال. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً كان يبيع الخمر في سفينة له، ومعه قرد في السفينة). فقد جمع الشر كله معه. فقد باع الخمر للناس وغشهم، وأخذ المال. قال: (كان يشوب الخمر بالماء، فأخذ القرد الكيس). وفي رواية: (فاشترى قرداً فركب البحر)، يعني: اشترى هلاكه معه. قال: (حتى إذا لجّج فيه)، يعني: دخل في نصف البحر، وفي مكان لا يعرف أن ينزل فيه. قال: (فألهم الله القرد صرة الدنانير فأخذها)، فقد جاء وقت الحسرة، وأحسره الله على ما صنع؛ لأنه ضحك على الناس، وأخذ أموالهم. قال صلى الله عليه وسلم: (فصعد الدقل)، يعني: عمود السفينة، وصاحبه لا يستطيع الصعود وراءه. فأخذ كيس الدنانير وصعد فيها. قال: (ففتح الصرة وصاحبها ينظر إليه، فأخذ ديناراً فرماه في البحر، وديناراً في السفينة) يعني: ما غش وخدع الناس فيه رماه له في البحر، وترك له باقي ماله. قال: (حتى قسمها نصفين). فسلط الله عز وجل عليه من ماله. فهو لما خدع الناس، وأخذ أموالهم, سلط الله القرد على إتلاف ماله. فهذا المثل يذكره النبي صلى الله عليه وسلم عبرة وعظة لكل تاجر؛ حتى لا يغش ولا يخدع. فإذا أخذ المال من الغش فماله محكوم عليه بالخسران وبالهلاك. وسيرى ذلك في يوم من الأيام. فتجد التاجر من هؤلاء معه النقود الكثيرة جداً وقد سلط الله عليه البلاء كله. وهو يخاف أن يصرف النقود ويقول: إنه يحتاجها في مرض كذا، أو للأولاد، ثم تسرق منه نقوده، ولا يعرف أين ذهبت؟

أمانة الصحابة رضي الله عنهم

أمانة الصحابة رضي الله عنهم ومن هذه القصة وأمثالها تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأمانة، وتعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم ألا يخدعوا أحداً في شيء. خاصة وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم أخبث الناس كيلاً؛ فقد كانوا يبيعون ويطففون في الكيل والميزان. فلما قدم نزلت سورة المطففين فتركوا هذا الشيء وامتنعوا من تخسير الكيل والميزان. وعند الحاكم والبيهقي قال أبو سباع: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، -وقد كانت الدار عندهم مثل العمارة عندنا الآن، فيها الشقق، ولكنها أفقية، فتكون البيوت فيها بجانب بعضها بعضهاً، ويجمعها حوش واحد. فـ أبو سباع اشترى ناقة من هذه الدار، يعني: من بيت من البيوت. قال: فلما خرجت بها أدركني واثلة وهو يجر إزاره، يعني: لم يتسن له أن يعدل إزاره على نفسه؛ خوفاً أن يذهب قبل أن ينصحه، فقال: يا عبد الله! اشتريت؟ قال: قلت: نعم. قال: بين لك ما فيها؟ يعني جاري الذي باع لك هذه السلعة، هل بين لك العيب الذي فيها؟ قال: فقلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً، أو أردت بها لحماً؟ قال: أردت بها الحج. قال: فإن بخفها نقب، يعني: خفها، وهو قدم الناقة منقوب خفيف، لا يتحمل السفر. هذه هي الأمانة. ولم يكن هو الذي باع، ولا هو المشتري. فقال له البائع: ما أردت أصلحك الله؟ تفسد علي؟ يعني: قال له جاره: أنت تفسد علي البيعة التي بعتها. فطالما أنه قد رضي الرجل فما دخلك أنت؟ فقال واثلة رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لأحد بيع أو يبيع شيئاً إلا بين ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه). فلا تدلس على أحد في البيع ولا في الشراء، وكذلك انصح الإنسان الذي يشتري إذا عرفت أن البائع خدعه. فقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (المكر والخديعة في النار). وقال: (الدين النصيحة). وهذا من النصيحة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على النصح لكل مسلم. وفي حديث عقبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء عند الإمام أحمد وابن ماجه قال: (المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب ألا يبينه). فإذا بعت شيئاً فيه عيب فلا تواريه، ولا تكتم ما فيه، وثق بأن الله يبارك لك. فإذا لم يشترها هذا فيشتريها آخر. وإذا لم يشترها أحد بارك الله عز وجل لك في مالك. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). فالكتمان والكذب في البيع يضيع بركة البيع. ولذلك عندما تتعامل فتعامل مع الله سبحانه وليس مع الناس. فإذا كان الإنسان لا يرى هذا العيب فالله يراه ويطلع عليه سبحانه. فاحذر أن تمكر فيمكر الله عز وجل بك. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

ترغيب التجار في الصدق وترهيبهم من الكذب والحلف وإن كانوا صادقين

شرح الترغيب والترهيب - ترغيب التجار في الصدق وترهيبهم من الكذب والحلف وإن كانوا صادقين إن التاجر المسلم إذا جاهد نفسه ولم يفتنه ماله وكان أميناً صادقاً غير حلاف ولا كذاب فإن الله يبعثه يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء، وإن التاجر إذا غش الناس وحلف بالله كاذباً فإن الله يمحق عن ماله البركة، وإذا محق الله بركة ماله فلينتظر الهلاك والدمار.

ترغيب التجار في الصدق وترهيبهم من الكذب

ترغيب التجار في الصدق وترهيبهم من الكذب الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام المنذري رحمه الله: ترغيب التجار في الصدق، وترهيبهم من الكذب والحلف وإن كانوا صادقين. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء). ورواه ابن ماجة عن ابن عمر ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة). وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحاً ويمحق بركة بيعهما). وفي رواية: (اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب). هذه الأحاديث يرهب بها النبي صلى الله عليه وسلم التجار من النار ومن الكذب ومن الحلف بالله سبحانه وتعالى، حتى ولو كانوا صادقين؛ لأن الإنسان الذي يعتاد على اليمين يحلف صادقاً ثم يأتي عليه زمان يحلف فيه معرضاً ثم يحلف بعد ذلك كاذباً، فلذلك يحذر الإنسان من اليمين ولا يعود نفسه على الحلف إلا إن يحتاج إلى ذلك، أما أن يكون الأمر المراد منه لا يحتاج إلى يمين ثم هو يسارع إلى الحلف فهذا حتى ولو كان صادقاً سيتدرج حتى يحلف كاذباً بعد ذلك، وخاصة إذا كان تاجراً؛ لأن المال يفتن صاحبه فيحلف حتى يروج السلعة، يحلف مرة صادقاً ومرات كاذباً فليحذر من ذلك. وهذه أحاديث فيها بيان أن التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء، وأن التاجر الفاجر في النار، والعياذ بالله. عن أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء). ما قال: التاجر الصادق ولكن قال: الصدوق يعني: كثير الصدق، (الأمين) أي: المؤتمن الذي لا يغش في تجارته، ولا يخدع، ولا يمكر، ولا يحتال، ولا يدلس، ولا يبيع الشيء المعيب بغير تبيين، فهذا هو الأمين. وفي الحديث الآخر المسلم، وهذا طيب فإن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وقوله: (مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة). أي: يوم القيامة يحشر مع هؤلاء. وفتنة المال عند التجار فتنة عظيمة جداً فالتاجر عنده مال لكنه يريد ربحاً أكثر فإذا اتقى الله سبحانه ولم يفتنه المال فباع بصدق وهمه أن يرضي الله سبحانه وتعالى فإن الله يبارك له في دنياه، ويبارك له في أخراه. فالتاجر الذي يصدق في كلامه، ولا يكذب ولا يخون ولا يخدع ولا يغش في منزلة عالية يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء. وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، والبيعان: البائع والمشتري، فهما بالخيار ما لم يتفرقا. لعل إنساناً يذهب إلى البائع يشتري شيئاً وبعد أن يشتريه وهو يسير في المتجر يقول لا أريد هذا الشيء لقد تذكرت أني محتاج إلى المال الذي معي فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بالخيار، طالما أنهما لم يفترقا ولم يحدث نوع من الخسارة للتاجر، فيجوز أن يتقايل هذا البيع ولا يتم للبائع طلباً لأنه ما زال في المتجر ولم يحصل للسلعة أي عيب. قال صلى الله عليه وسلم: (فإن صدق البيعان وبينا -أي: صدق البائع والمشتري- بورك لهما في بيعهما)، فالصدق منجاة في الدنيا وفي الآخرة فإنه يبارك لهما في السلعة، (وإن كتما وكذبا)، الاثنان، وقد يقول قائل: البائع سيكتم لكن المشتري ماذا سيكتم فإنه يدفع نقوداً؟ A قد لا يدفع نقوداً بل يدفع شيئاً آخر كأن يتبادلا سلعة بسلعة، فكل منهما يكون بائعاً ومشترياً وكل سلعة من السلعتين فيها بيع وهي ثمن للسلعة الأخرى. (وإن كتما وكذبا)، الاثنان أو واحد من الاثنين فالذي يكتم ويكذب لا يبارك له. قال صلى الله عليه وسلم: (فعسى أن يربحا ربحاً)، هذا اللفظ في غير البخاري ومسلم وهو صحيح. يعني: قد يبدو في الظاهر أنهما ربحا، لكن الحقيقة أن هذا الربح ممحوق يمحقه الله سبحانه وتعالى. فإذا محقت البركة فلينتظر هلاك المال الذي لا يبارك الله عز وجل فيه.

التحذير من الأيمان الفاجرة في البيع

التحذير من الأيمان الفاجرة في البيع قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)، ورواية أخرى: (منَفقة)، وهي أولى، ومعنى: منفقة للسلعة، أن الإنسان ينفق سلعته ويبيعها باليمين الفاجرة الكاذبة، فيحلف أن هذه السلعة قد دفع فيها كذا ولم أرض بذلك، ويحلف أنه اشتراها بكذا وسيبيعها بخسارة! وهو كاذب في هذا كله، وكم تسمع مثل ذلك من التجار، يحلف أيماناً فاجرة على أن السلعة قد دفع له فيها كذا وأنه سيميزك على غيرك، وهو في حقيقة الأمر ليس كذلك، فإذا حلف وصدقه المشتري بما يقول، فأخذ السلعة، كانت يمينه ممحقة للكسب. فالمال الذي سيكسبه لن يكون فيه بركة بل سيهلكه ويمحقه الله سبحانه، ويرسل عليه ما يذهبه.

التجار هم الفجار يوم القيامة

التجار هم الفجار يوم القيامة روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً وفيه: (أنه خرج إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: يا معشر التجار)، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال صلى الله عليه وسلم: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً)، هذا الأصل، واستثنى القليل (إلا من اتقى الله وبر وصدق) فالإنسان الذي يبر ويصدق ويخاف من الله سبحانه وتعالى يبعث مع النبيين والصديقين والشهداء، أما غالب التجار فسيبعثون فجاراً. وفي رواية أخرى لهذا الحديث في مسند الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم: (إن التجار هم الفجار، قالوا: يا رسول الله! أليس قد أحل الله البيع فقال صلى الله عليه وسلم: بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون). وهذه هي المصيبة وهي أن التاجر الغالب عليه كثرة الحلف، فهو يحلف بالله ويحلف بالطلاق ويحلف بغير الله ولا يهتم لذلك، إذا حلف بغير الله أشرك، وإذا حلف بالله سبحانه فقد لا يصدق في يمينه بل يكذب فيكون يمينه يميناً غموساً، واليمين الغموس هي أن يحلف بالله كاذباً، ليقتطع من مال المسلم. فالذي يقول لك: والله إن هذه ثمنها علي كذا لكي يأخذ منك مالاً أكثر وهو كاذب في يمينه فقد وقع في اليمين الغموس الذي حكم على صاحبها بأن يغمس في النار والعياذ بالله، وسميت يميناً غموساً؛ لأن صاحبها لا بد أن يذوق ويل هذه اليمين والعياذ بالله. قال صلى الله عليه وسلم: (لكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون) فيتعود على الكذب، ولكثرة ما يبيع ويشتري إذا جاء المشتري إليه قال لا بد أن أكذب عليه حتى أبيع فيكذب ويكذب ويأثم ويكون يوم القيامة مع الفجار والعياذ بالله.

عقوبة من حلف بالله كاذبا ليبيع سلعته

عقوبة من حلف بالله كاذباً ليبيع سلعته روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم). لما قالها النبي صلى الله عليه وسلم مرة واثنتين وثلاثاً قال أبو ذر: (خابوا وخسروا منهم يا رسول الله؟! قال: المسبل، والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). والمسبل هو: الذي يلبس القميص أو البنطلون أو الإزار ويجرجره في الأرض، وما أكثر ذلك، فتراه يمشي في المجالس فيلوث ثوبه، ويصلي على هذا الحال، هذا المسبل لا ينظر الله عز وجل إليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زاد عن الكعبين فهو في النار)، وتجد الكثير من الناس في غفلة عن حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإذا قلت لإنسان: ارفع بنطلونك عن الأرض، أو ارفع قميصك قال: الموضة هكذا، أي موضة هذه التي ستودي بك إلى نار جهنم، وتكون من الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؟ هو الذي يعطي الشيء ويمن على من أعطاه، ويهدي الهدية ويمن عليها ويتصدق على إنسان بصدقة ويفضحه بين الناس ويمن عليه، فاحذر أن تمن على أحد بشيء صنعته له. قال: (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)، أي: هو يريد أن يبيع سلعته، وحتى يشتريها الناس يحلف كاذباً أن قيمتها كذا وأنه سيبيعها بخسارة وهكذا. فهؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم يوم القيامة ولهم عذاب عظيم. وفي الحديث الآخر: (لا ينظر إليهم). وهناك حديث آخر في هذا المعنى: عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) فهؤلاء لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، وهو أشيمط زاني، والشمط: البياض الذي يدخل في شعر الإنسان، تقول فلان: أشمط يعني: بدا البياض في شعره، يعني: بدأ سنه في الكهولة والشيب هذا الأشمط، الله سبحانه وتعالى جعل له الشيبة واعظاً، وليس معنى ذلك أن الشاب معذور إذا زنى، فإنه لا عذر في كبيرة من الكبائر، ولكن أحدهما أبغض إلى الله من الآخر، فالذي كبر سنه أشد بغضاً عند الله من الشاب الذي وقع في الزنا والعياذ بالله. والعائل المستكبر: هو الفقير، فالله منع عنه أسباب الكبر حتى يتواضع، ثم هو يستكبر على غيره من الناس فهو أبغض إلى الله من الغني المستكبر، وكلاهما بغيض إلى الله سبحانه. والإنسان المتكبر أبى الله أن يدخله الجنة حتى يعذبه بالنار والعياذ بالله. قال: (ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه)، هذا المنفق سلعته بالحلف الكاذب جعل الله بضاعته وسلعته أن يحلف بالله دائماً كاذباً، حتى يبيع السلعة. وفي حديث آخر: زاد رابعاً على هؤلاء فقال: (البياع الحلاف، والفقير المختال، الشيخ الزاني، والإمام الجائر)، والإمام معناه: الحاكم أو الأمير الجائر الظالم فبسبب ظلمه يكون يوم القيامة مع الذين يبغضهم الله سبحانه وتعالى ولا ينظر إليهم ولا يكلمهم ولهم عذاب أليهم. نسأل الله العفو والعافية في الدين الدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترهيب من الدين وترغيب المستدين والمتزوج أن ينويا الوفاء والمبادرة إلى قضاء دين الميت [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترهيب من الدين وترغيب المستدين والمتزوج أن ينويا الوفاء والمبادرة إلى قضاء دين الميت [1] لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التوسع في الدين لغير حاجة، فالدين هم بالليل وذلة في النهار، ويغفر للشهيد كل شيء إلا الدين، ولذا من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله، ومن أخذها يريد أداءها أدى الله عنه؛ لأن هذه الأموال ملك للغير وحق من حقوقهم، فصارت عند المستدين كالأمانة المتعلقة بالذمة، فلا تبرأ منها ذمة العبد حتى يعطيها الغير.

الترهيب من الدين

الترهيب من الدَّين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الترهيب من الدين، وترغيب المستدين والمتزوج أن ينويا الوفاء، والمبادرة إلى قضاء دين الميت. روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟! قال: الدَّين). وروى الترمذي وابن ماجة عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة: الغلول، والدين، والكبر). وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)]. هذه أحاديث يذكرها الحافظ المنذري في الترهيب من الدين، وترغيب المستدين والمتزوج أن ينويا الوفاء، يعني: في الديون التي عليها.

شرح حديث: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها)

شرح حديث: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها) وجاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تخيف المؤمن من الدين، وأنه لا يستدين إلا إذا كان محتاجاً، وإذا استدان فإنه ينوي الأداء ويجتهد في أداء هذا الدين الذي عليه، ومن هذه الأحاديث ما جاء عن عقبة بن عامر رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها). ومعنى الحديث: إنك وأنت آمن لا تدخل نفسك في شيء تخافه بعد ذلك. قوله: (قال الصحابة: وما ذاك يا رسول الله؟! قال: الدَّين)؛ لأن الشخص آمن فبمجرد ما دخل في الدين فإنه يخوف نفسه بهذا الدين، ويبقى صاحب الدين بعد كل مدة قليلة يقول له: هات الذي عليك، وربما يذهب يرفع عليه قضية، أو يخوفه بالله سبحانه وتعالى يوم القيامة بأن يقول له: هذا الدين سآخذه منك حسنات يوم القيامة، وسأحملك إياه يوم القيامة فيبقى مرعوباً في الدنيا والآخرة بسبب هذا الدين، لذلك لا يستدين إلا من احتاج إلى ذلك ولم يجد بداً من الاستدانة.

شرح حديث: (من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة)

شرح حديث: (من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة) ومن الأحاديث ما جاء عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة)، فالإنسان الذي يموت وهو بريء من ثلاث خصال يدخل الجنة، وما هي هذه الخصال؟ قال: (الغلول، والدين، والكبر)، فيدخل الجنة إذا برأ من هؤلاء الثلاث، فالغلول أمر متعلق بالمال، والدين متعلق بالمال، والكبر: هو الغرور. والغلول: هو السرقة من الغنيمة، فيسرق الإنسان في الجهاد في سبيل الله، ويمد يده إلى الغنائم التي تحت أيدي الكفار وقد أخذها المسلمون، فهذا هو الغلول، ومثل ذلك: أن يكون الإنسان يعمل في وظيفة فيمد يده للناس ويأخذ منهم الرشوة والهدايا، فهذا غلول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هدايا العمال غلول)، فالإنسان الذي يموت وهو بعيد عن الغلول وما مد يده إلى أحد، ولم يأخذ رشوة ولا أتى بسحت، ولا أخذ من غنيمة، ولا أخذ سرقة، فهذا بريء. فالعبد إذا لم يستدن من أحد، أو استدان ووفى ما عليه فيموت وليس عليه دين لأحد. الثالث: الكبر، فإذا كان الإنسان مغروراً فهذا ممنوع من دخول الجنة، فغروره يمنعه من دخول الجنة، والإنسان لو ترك نفسه وهو مغرور وجد نفسه متعالياً على الخلق، فليتواضع المؤمن لله عز وجل، وليتواضع لخلق الله سبحانه وتعالى، وفي الحديث: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). فالمتواضع يرفعه الله سبحانه، ويجعل له قدراً في قلوب الخلق، والإنسان المتكبر أبى الله عز وجل أن يدخله الجنة.

شرح حديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها)

شرح حديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها) ومن الأحاديث حديث أبي هريرة، الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)، فالإنسان الذي يستدين من الناس وفي نيته أنه يؤده، وليس الذي في نيته أن يؤدي ما يستلف من المال ويجلس في بيته يتفرج على المال ويتفرج على صاحب الدين، لا، هذا يجهد نفسه، ولذلك جاء في الحديث الآخر الذي ترويه عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل من أمتي ديناً ثم جهد في قضائه) يعني: أتعب نفسه في العمل على شأن يؤدي هذا الدين، ويقضي عن نفسه هذا الدين، فهذا الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (ثم مات قبل أن يقضيه فأنا وليه). إذاً: على ذلك إذا استدنت فأجهد نفسك في أداء هذا الدين وفي قضائه حتى يكون لك العذر عند الله تبارك وتعالى. ففي حديث أبي هريرة: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) إذاً ربنا سيعينك على هذا الأداء في الدنيا، وإذا مات الإنسان قبل أن يؤدي في الآخرة فالله عز وجل يوفي صاحبه من عنده سبحانه. قوله: (ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها) ليس المقصود أن يأخذ أموال الناس فيحرقها أو يقطعها لا، وإنما هو شخص يأتي شخصاً فيقول له: أعطني هذا المال وسأعطيه لك بعد كذا، وفي نفسه أنه لا يريد إرجاعه، فهذا مهما تكلم وعاهد ومهما كتب ورقة أو أوصل أمانة أو شيكاً وهو في نيته عدم إرجاع هذا المال فهذا ينوي الإتلاف، فيدخل في قوله: (أتلفه الله)، فينتظر مصيبة تحصل له من الله سبحانه وتعالى، ولن يعجز الله تبارك وتعالى، فقد تجد الإنسان شاباً طويلاً عريضاً وفجأة جاءه مرض من أمراض السرطان فمات، فالله بالمرصاد، فاحذر وخف على نفسك، فالمال ما له قيمة، وصاحبه لعل الله عز وجل يعطيه غيره، ولكن المصيبة فيك أنت الذي أخذت هذا المال، انتظر في الليل والنهار ماذا سيحدث لك من الله سبحانه؛ لأنك أخذت المال تنوي إتلافه، فكم من إنسان يستدين من إنسان مالاً، وبعدما يستلف كأنه لا يعرف هذا الإنسان فيمشي بعيداً عنه، ولا يقابله، ولا يقول له: إنني أخذت منك، ولا كأنه يعرف هذا الإنسان، سبحان الله! أمثال هؤلاء يجعل الله عز وجل فيهم فتنة لغيرهم، فتجد صاحب المال لو جاءه شخص آخر يقول له: سلفني. يقول له: لا، ما أعطيك، أنا أعطيت لفلان وما رجع لي مالي، وأعطيت لفلان وما رجع لي مالي، وأعطيت لفلان وكأنه لا يعرفني، فلذلك كانت مصيبته أنه في الدنيا أتلف مال صاحبه، وأنه جعل صاحب المال يمنع خيره عن الغير، فيمنع الناس من المال فلا يسلف أحداً شيئاً؛ لأنه رأى من هذا الإنسان لم يرد إليه المال.

شرح حديث: (أيما رجل تدين دينا وهو مجمع ألا يوفيه إياه)

شرح حديث: (أيما رجل تدين ديناً وهو مجمع ألا يوفيه إياه) وروى ابن ماجة عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل تدين ديناً وهو مجمع ألا يوفيه إياه)، استلف وهو غير ناوٍ أن يرد هذا المال (لقي الله سارقاً). إذاً هنا أتى بكبيرة من الكبائر يلقى الله بها يوم القيامة، فهذا مثل الذي يسرق أموال الناس، فقد استلف وهو ينوي ألا يرد المال، وآخر استعار من الناس شيئاً يقول: أعطني هذه الحاجة التي عندك أعمل بها وأرجعها لك، وهو ينوي ألا يرد إليه هذه الآلة التي استلفها، فهؤلاء يلقون الله سبحانه يوم القيامة وقد سرقوا أموال الناس، وإن كان السارق يأخذ في الخفاء، وهؤلاء يأخذون مع العلم بذلك ولكن الجميع يستوون عند الله فاحذر على نفسك.

قصة الرجل من بني إسرائيل الذي استدان وجعل الله شاهده وكفيله

قصة الرجل من بني إسرائيل الذي استدان وجعل الله شاهده وكفيله روى الإمام البخاري وغيره عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار)، رجل من بني إسرائيل احتاج إلى مال فأراد من أحد أن يسلفه ألف دينار، وهذه حاجة كبيرة جداً، فالدينار وزنه حوالي أربعة جرامات وربع من الذهب، (فقال له: ائتني بالشهداء أشهدهم -هات أحداً يشهد-، فقال: كفى بالله شهيداً) أي: ربي شهيد علي وعليك، (قال: فائتني بالكفيل -شخص يضمنك- فقال: كفى بالله كفيلاً) هذا من أصعب ما يكون، أنك جعلت الله عليك شهيداً، وجعلت الله عليك كفيلاً، (قال الرجل -الذي هو صاحب المال- صدقت) طالما أنك قلت: كفى بالله شهيداً وكفى بالله كفيلاً، صدقت، (فيدفعها إليه إلى أجل مسمى) سلفه الألف الدينار إلى أجل مسمى، (فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يركبه ويقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركباً) إذاً هو وعده في اليوم الفلاني أنه سيسدده، ولكن بينه وبين صاحبه بحر ولا يجد مركباً يوصله، فماذا عمل؟ (فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبها، ثم زجج موضعها) يعني: كتب خطاباً إلى صاحبها، وأتى بخشبة ونقرها ووضع فيها أربعة كيلو وربع ذهباً، هل تتخيل أن أحداً يمكن يعمل هذا الشيء؟! والله لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ما كنا نظن أبداً أن أحداً يعمل هذا، أربعة كيلو ذهباً يرميها في البحر كيف يكون هذا الشيء؟! أتى بخشبة فنقرها ووضع فيها أربعة كيلو ذهباً ثم أغلقها وكتب جواباً فوق الخشبة أن هذا الدين الذي علي لفلان، ورمى الخشبة في البحر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم أتى بها البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت فلاناً -استدنت- ألف دينار فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً فرضي بك، وإني جهَدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني استودعكها) يعني: هو عمل هذا ولا يعني أنه رد الدين حقه وانتهى الأمر، وإنما هو يريد أن يقول: ربي إني أعذرت من نفسي، وهو قد قال: كفى بالله شهيداً، وأرى من نفسي أني جاهدت في ذلك، فكأنه يدفعها لكفيله الله سبحانه وتعالى، ورمى بهذه الخشبة في البحر، قال: (فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف) هل أدى الدين؟ يقول: (وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا الخشبة التي فيها المال) الآخر واقف على البحر ينتظر الموعد يمكن يأتي المركب ومعه المال حقه، فما جاء المركب، وفي النهاية تعب قال: (فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة) وجد المال أربعة كيلو وربع ذهباً، ووجد الصحيفة مكتوب فيها: يا رب هذا دين فلان، وإنه استأمنني على ذلك، وإني استودعتك هذا المال. فصاحب المال كتب هذه الرسالة ليعلم صاحبها إذا وصلت إليه أن هذا الدين الذي هو له، ولعل صاحبها يلاقيها فيظنها حق شخص آخر، فيقوم يأخذها ويجعلها أمانة حتى يسأل عنها أحد، فلذلك الآخر كان ذكياً حين وضع المال ووضع معه صحيفة حتى لا يتحرج صاحبه إذا أخذ هذا المال ألا ينفقه. قال: (ثم قدم الذي كان أسفله) الآخر وجد مركباً بعد ذلك ثم قدم إلى الذي كان أسلفه وأتى بألف دينار وقال: (والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي جئت فيه). والرجلان غاية في الأمانة، فصاحبه يقول له: (هل كنت بعثت إلي بشيء؟) فقال له معرضاً (قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه) ما لقيت مركباً قبل ذلك، وما رضي أن يقول له: إنني بعثت إليك المال هل وصل؟! يقوم صاحبه ويقول له: انتهى المال في البحر ما أريد منك شيئاً، ولكن الأمانة تقتضي كأنه ما بعث له شيئاً، ولكن ما صرح حتى لا يكون كذاباً وإنما عرض في الكلام (فقال له صاحبه: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثته في الخشبة فانصرف بالألف الدينار راشداً). تخيل أحداً يعمل هذا الشيء! ولو كان أخذ المال من البحر وقال له: ما أخذت شيئاً هات المال، فيعطيه هذا المال، وهو يقول له: ما بعثت لك حاجة وإنني أتيت في المركب الآن، فهذه الأمانة التي يعلمنا إياها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وانظروا الآية عندما يقول لنا ربنا سبحانه وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75]، تعطي له قناطير مقنطرة يؤديها إليك، {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75]. كأن الله سبحانه يعرف المؤمنين بأهل الكتاب وليسوا على ملتهم، فمنهم من يؤدي الأمانة ولو كانت قناطير مقنطرة، ومنهم من يسرقها ولا يعطيها، فكونوا أنتم أيها المؤمنون! كلكم تؤدون الأمانة، ولا تأكلوا أموال الناس، ولا تتشبهوا بهؤلاء، قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك). نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترهيب من الدين وترغيب المستدين والمتزوج أن ينويا الوفاء والمبادرة إلى قضاء دين الميت [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترهيب من الدين وترغيب المستدين والمتزوج أن ينويا الوفاء والمبادرة إلى قضاء دين الميت [2] إن المتساهل في الدَّين له عواقب كثيرة في الآخرة، ومنها: أنه يحبس عن الجنة إن كان من أهلها حتى يقضى عنه، أو يعذب في قبره والعياذ بالله، ويوم القيامة يؤخذ من حسناته فتعطى لأصحاب الحقوق، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه فطرح في النار والعياذ بالله!

ما جاء في الترهيب من الدين

ما جاء في الترهيب من الدين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترهيب من الدين. روى الطبراني عن ميمون الكردي عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها، فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زانٍ، وأيما رجل استدان ديناً لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه، خدعه حتى أخذ ماله، فمات ولم يؤد إليه دينه لقي الله وهو سارق). وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين فليس ثَم دينار ولا درهم ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال).

شرح حديث (وأيما رجل استدان دينا لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه)

شرح حديث (وأيما رجل استدان ديناً لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه) جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الترهيب من الدين على أي صورة من الصور، فمن هذه الأحاديث ما رواه ميمون الكردي عن أبيه -وهو حديث صحيح- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر). إنسان يتزوج ويتفق مع المرأة أو مع أهلها على أنه سيدفع المهر كذا، وهو ينوي ألا يدفع، وينوي أن يخدع ولا يدفع شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها، خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان) والعياذ بالله! فانظر إلى بشاعة هذه الجريمة التي يقع فيها الإنسان! وانظر إلى العقوبة التي يعاقب عليها تعرف مدى الجرم الذي أجرمه هذا الإنسان، فيتزوج وينوي الخديعة، والزواج آية من آيات الله سبحانه، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]. فالزواج تظهر فيه آيات الله سبحانه من المودة والرحمة، فيؤدي الحق (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كان الإنسان يتزوج وينوي الخداع أنه لا يدفع شيئاً، ويريد أن يتزوج المرأة ويدخل بها ثم بعد ذلك يطلقها ويضيع حقها، فهذا الإنسان يحشر يوم القيامة مع الزناة والعياذ بالله! قال صلى الله عليه وسلم: (وأيما رجل استدان ديناً لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله)، خدعه مع لين القول، وضحك عليه بكلام طيب: أعطني المال وسأرجعه لك يوم كذا، وستلاقي مني كذا، وهو ينوي ألا يرد هذا المال، فهذا يلقى الله سبحانه وهو سارق يوم القيامة، فالسرقة كبيرة من الكبائر، فماذا ينتظر صاحب الكبيرة إلا النار والعياذ بالله!

شرح حديث: (ومن مات وعليه دين فليس ثم دينار ولا درهم)

شرح حديث: (ومن مات وعليه دين فليس ثَم دينار ولا درهم) ومن الأحاديث حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره). وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع). فحدود الله سبحانه وتعالى جعلها رادعة عن الوقوع في الجريمة، كالحد في شرب الخمر، والحد في السرقة، والحد في قطع الطريق، والحد في الزنا، فهذه حدود جعلها الله عز وجل تأديباً للعباد وتهذيباً لهم، ومنعاً لغيرهم أن يقعوا في هذه المنكرات، فإذا كان بين إنسان وآخر شيء فعفا عنه بينه وبينه فلا مانع أن تعفو عن شيء يخصك أنت، كإنسان سرق من إنسان شيئاً ثم عفا عنه وترك له ذلك، وأما إذا بلغ هذا الحد إلى الحاكم فلا يجوز لأحد أن يشفع في ذلك، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الشافع والمشفع. وفي حديث: أن صفوان بن أمية لما أسلم وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة جعل برده تحت رأسه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ونام، فإذا برجل من الذين كانوا في المسجد يمد يده ليسرق البرد الذي كان الرجل لابسه وقد طرحه تحت رأسه وهو نائم، فأمسك به صفوان ورفعه للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هذا أراد أن يسرق مني بردي، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده. إذاً: فقد رفع الأمر إلى الحاكم وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمر بقطع يد السارق، فإذا بـ صفوان يندهش فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أفي مثل هذا البرد تقطع يده؟! فهو له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل ذاك قبل أن تأتيني به؟) لماذا لم تتركه له قبلما ترفعه لي؟ فإذا بلغ الحكم إلى الحاكم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الشافع والمشفع). فلا تجوز الشفاعة بعدما وصل الأمر إلى القاضي في أي حد من حدود الله سبحانه وتعالى. فهنا في هذا الحديث: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله) يعني: أتي بإنسان زانٍ وأقر على نفسه، أو بإنسان شهد عليه أربعة أنه وقع في هذه الجريمة ورفع إلى القاضي، فأمر القاضي برجمه أو أمر بجلده حسب حاله، وتدخل إنسان ليشفع ويقول: أرجوك اتركه، فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فقد ضاد الله في أمره)، فأحكام الشريعة ليس فيها تلاعب، ولا أن الإنسان يقول: من أجلي اتركه، لا، فحد واحد يقام في الأرض أحب إلى أهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً، وحد يقام في الأرض تأتي بسببه البركة من السماء؛ لأن الحدود عقوبة على جريمة، وردع للناس من أن يقعوا في هذه الجريمة، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن مات وعليه دين فليس ثَم دينار ولا درهم). فالذي يموت وهو مديون فلا يوجد يوم القيامة دراهم، قال: (ولكنها الحسنات والسيئات)، إذاً: فيوم القيامة إما أن تعطي لهذا الذي له الدين من حسناتك، وإما أن تحمل من سيئاته قصاصاً لهذا الدين، قال: (ولكنها الحسنات والسيئات). قال: (ومن خاصم في باطل وهو يعلم)، فالإنسان الذي يخاصم في خصومة ويجادل فيها وارتفع الأمر إلى القاضي وهو يعلم أنه كذاب، كإنسان يدعي على فلان أن الأرض هذه حقه، والشقة هذه حقه، والمكان هذا حقه ويرتفع الأمر إلى السلطان، وهذا المخاصم الذي يجادل كذاب ويعلم في نفسه أنه كذاب، فهذا مصيبته عند الله عز وجل عظيمة، قال: (من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع)، فيغضب الله عز وجل عليه، وإذا غضب الله عليه فلا ينتظر إلا المصائب، ويظل على هذه المصائب والله غضبان عليه حتى يرجع عن ذلك فيرد الحق لصاحبه، ويتوب إلى الله سبحانه. قال: (ومن قال في مؤمن ما ليس فيه) أي: رماه ببهتان، ورماه بقول زور وكذب عليه، فيقول: فلان هذا أنا رأيته يعمل كذا وكذا، وقد قالوا عليه كذا وكذا، وليس فيه هذا الشيء، قال: (ومن قال في مؤمن ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال) حبس في النار والعياذ بالله! في مكان اسمه: (ردغة الخبال)، و (ردغة الخبال): منطقة في النار يسيل فيها صديد أهل النار والعياذ بالله! فهذا مكان يليق بهذا الإنسان الكذاب الذي فيه نتانة الكذب، فيحبس فيه (حتى يأتي بالمخرج مما قال) والإنسان يأتي بالمخرج إذا كان صادقاً، لكن هذا كذاب، فاحذر أن تقول على مؤمن أو مؤمنة ما ليس فيه، واحذر أن تسمع شائعة عن إنسان فتردد هذه الشائعة كما سمعتها فتحبس في (ردغة الخبال) وهو مكان يسيل فيه عصارة أهل النار والعياذ بالله!

شرح حديث: (إن صاحبكم مأسور بدينه)

شرح حديث: (إن صاحبكم مأسور بدينه) وعن سمرة قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هاهنا أحد من بني فلان؟)، فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس ثم قام يسألهم: هل أحد من بني فلان موجود؟ (ثم قال: هاهنا أحد من بني فلان؟ فلم يجبه أحد، ثم قال: هاهنا أحد من بني فلان -للمرة الثالثة- فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين؟ ثم قال: إني لم أنوه بكم إلا خيراً) يعني: كأن فلان هذا ميت، فلما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يسأل هل أحد من أهله موجود؟ خاف الرجل أن تكون هناك مصيبة على هذا الإنسان أو شيء آخر، وفعلاً كان هناك شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لم أُنوه بكم إلا خيراً، إن صاحبكم مأسور بدينه)، كان عليه دين فحبس به، (قال: فلقد رأيته أدى عنه حتى ما أحد يطلبه بشيء). وفي رواية أخرى قال: (إن صاحبكم حبس على باب الجنة بدين كان عليه) يعني: هذا الرجل كان يستحق دخول الجنة ولكن الدين منعه من دخوله الجنة. وفي رواية أخرى: (فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله)، أي: إن شئتم فافدوا هذا الإنسان الذي يستحق الجنة، (وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله فقاموا ودفعوا ما كان عليه من دين). والله سبحانه رحم هذا الإنسان بأن أعلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال ذلك، فيا ترى كيف سيعلم أحد منا بهذا الشيء؟! فيموت الإنسان وعليه دين وأهله لا يدفعون ما عليه من الدين، ويقولون: مات وليس لنا دخل في دينه، ويتقاسمون المواريث والديون ولا أحد يسأل عن دين هذا الإنسان، وكم رأينا من ذلك! فتجد إنساناً يموت وهو مليونير وعليه ديون للناس، فقد كان يتاجر للناس في أموال فأخذ أموالهم، فلما يموت هذا الإنسان يجيء أصحاب الديون يطلبون أموالهم فيماطلهم الورثة، والورثة يتنازعون في الميراث وليس مهماً دين هذا الإنسان، والمهم أن يصل إليهم إرثه، لذلك لا يحافظ على أداء الدين إلا صاحب الدين الذي يخاف من الله سبحانه وتعالى، وأما أن يبقى عليك دين وتنتظر من أهلك بعد وفاتك أن يقضوه فالغالب أنه لا يحدث هذا الشيء، ولا ينظر أحد في ذلك، ويجدون من رفقاء وأصدقاء وجيران السوء من يقول لهم: لا تدفع عنه دينه فعنده عيال لما يكبروا سيسددون عنه هذا الدين، وهو يحبس عن الجنة ويعذب في النار مدة ذلك. وانظر هذا الحديث عن جابر قال: (توفي رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه، فخطى خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران) عليه ديناران فقط، قال: (فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم) أي: لم يصل على هذا الرجل، (ثم تحملهما أبو قتادة)، فأبو قتادة قال: يا رسول الله! أنا سأدفع الدينارين عنه، (هما علي، قال: هما عليك وفي مالك والميت منهما براء؟ قال: نعم، فصلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم: ما فعل الديناران؟) يسأل أبا قتادة: الديناران اللذان أنت تحملتهما عن فلان هل قضيتهما أم لا؟ (فقال: إنما مات أمس، قال: فعاد إليه من الغد -اليوم الذي بعده- فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن قد بردت جلدته)، كأن الميت كان يعذب فبردت جلدته لما دفع أبو قتادة ما على هذا الإنسان المتوفى من الدين، وهذا العذاب يكون للإنسان الذي استدان في غير حاجة ولم ينو الوفاء، واستدان وهو قادر على السداد ولم يتعب نفسه في السداد، وكم من إنسان يكون فيه نوع من الاستهانة بأموال الناس، فاستحلى السؤال، وما زاد الله عز وجل عبداً بسؤاله الناس إلا فقراً، فيزيده فقراً عندما يتعود: سلفني يا فلان! أعطني يا فلان! فيتعود على هذا الشيء وتبقى طبيعة فيه ولا يستطيع أن يرد للناس شيئاً، وسهل عليه أن يستلف ولا يرد للناس أموالهم، فمثل هذا الإنسان الذي يموت وعليه دين للناس ولم يجتهد في قضائه، ولم يتعب نفسه في قضاء ما عليه من الدين، فهذا الإنسان ممن يعذب في قبره بسبب أموال الناس، فاحذروا من تضييع أموال الناس، وكفى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس ينوي إتلافها أتلفه الله)، فأخبر عن حاله عند الله أن الله يهلكه ويتلفه، أو دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في ستر المسلم والترهيب من هتكه وتتبع عورته

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في ستر المسلم والترهيب من هتكه وتتبع عورته ستر المسلم في الدنيا من أفضل الأعمال التي تقرب إلى الله جل وعلا، ولا يخلو إنسان من الوقوع في الذنب والزلل، فإذا رأيت شيئاً من أخيك المسلم فاستره، وخاصة إذا كان من ذوي الهيئات، وإذا سترته ابتغاء وجه الله فإن الله عز وجل يسترك في الدنيا والآخرة.

الترغيب في ستر المسلم والترهيب من هتكه

الترغيب في ستر المسلم والترهيب من هتكه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام المنذري: [الترغيب في ستر المسلم، والترهيب من هتكه وتتبع عورته. روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة). عن مكحول أن عقبة بن عامر أتى مسلمة بن مخلد فكان بينه وبين البواب شيء، فسمع صوته فأذن له، فقال: إني لم آتك زائراً، ولكن جئتك لحاجة؛ أتذكر يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة) قال: نعم، قال: لهذا جئت. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح]. عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ستر عورة أخيه ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته)]. هذه الأحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه في حسن الخلق، ومنها: خلق الستر على المسلمين؛ فإن الإنسان المسلم من طبيعته أنه كتوم، وأنه يستر ما يراه من شر، وأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ ليكن بين الناس الخير، وحتى يقل بين الناس الشر، وإذا نهى عن منكر فليس غايته أن يفضح صاحب المنكر، وإنما غايته أنه يمنع الشرور التي هي موجودة بين الناس، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يفضح الناس. وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضية من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وستر على من أمره ونهاه ولم يفضحه، وجاءت أيضاً أحاديث في الترهيب والتخويف ممن يحب أن يهتك حرمات المسلمين، ويكشف عوراتهم وسوءاتهم.

شرح حديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا)

شرح حديث: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا) ومن تلك الأحاديث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم -وجاء نحوه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، فالإنسان المؤمن يعين أخاه المؤمن، وإذا كان في كربة فينفس عنه ويفسح له ويزيل عنه هذه الكربة التي قد ضاقت بها نفسه، فيفرج عنه هذه الكربة، والجزاء من جنس العمل، فكما هو فرج عن مؤمن فالله عز وجل يفرج عنه كربة من كرب يوم القيامة، وما أكثر الكربات يوم القيامة! فإنه يوم عظيم صعب طويل، وكربات الدنيا لا تدوم فمهما كانت فستنتهي. فالإنسان لو كان عمره ستين سنة أو سبعين سنة عمر، وكانت عليه الكربة عمره كله فإنها إذا قورنت بيوم القيامة الذي مقداره خمسون ألف سنة فإنها تكون لا شيء. فالمؤمن حين يفرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا يفرج الله عز وجل عنه هول موقف من مواقف يوم القيامة، وكربة من كربات الحساب يوم القيامة. قال: (ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة)، والشاهد من الحديث قوله: (ومن ستر على مسلم)، ورحمة ربنا سبحانه وتعالى عظيمة، فإذا نفست عن مسلم كربة يفرج الله عنك يوم القيامة، ويدخر ذلك إلى يوم القيامة، ولعله يفرج عنك في الدنيا أيضاً، ولكن الحديث ذكر هنا أن الستر على المسلم الجزاء فيه عاجل، فالجزاء العاجل أنك تستر على المسلم فيسترك الله الآن، ولا يكون هذا هو الجزاء الكامل، بل كذلك يوم القيامة يكون لك ستر، فيستر عليك مرتين في الدنيا وفي الآخرة. والإنسان قد يكون بينه وبين أخيه شيء، فحين يرى شيئاً من أخيه يقول في نفسه: سأفضحه؛ لأنه في اليوم الفلاني عمل لي كذا، وكان يغيظني، وكان يدعي أنني لا أحبه، فسأفضح هذا الإنسان، لكن الإنسان المؤمن قلبه يخوفه بالله سبحانه وتعالى، فلا تجاز الإنسان بالذي يفعله، ولكن استر؛ حتى يسترك الله تبارك وتعالى، فإذا ضغط على نفسه وعلى مشاعره التي فيها الغيظ من أخيه المسلم وستر عليه جازاه الله عز وجل الجزاء العاجل أن يستر عليه. والستر على المسلم ليس معناه أننا نتركه في المعصية، بل مر بالمعروف وانه عن المنكر، واستر هذا الإنسان ولا تفضحه عند الناس، ولا يكون الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفضيحة للإنسان، وإنما يكون الغرض النصيحة وتقليل المنكرات وكف الشرور.

شرح حديث: (لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)

شرح حديث: (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) ومن الأحاديث في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وجزاؤك من جنس عملك؛ فإذا سترت إنساناً في الدنيا سترك الله يوم القيامة. ومن ذلك حديث يزيد بن نعيم عن أبيه: أن ماعزاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه، وقال: لـ هزال: (لو سترته بثوبك كان خيراً لك). وهزال رجل كان يربي ماعزاً، وماعز واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شاباً قوياً، وكان وهو صغير يتيماً، والذي رباه هو هزال، وماعز في يوم من الأيام لقي الحي خالياً، ولقي جارية في الحي فذهب وزنى بها، فلما زنى رآه هزال أو علم بعد ذلك بأمره، فقال: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعله يجد لك حلاً لهذا الذي وقعت فيه، اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت؛ لعله يستغفر لك. وهنا: كونه يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويفضح نفسه ما كان ينبغي ذلك، وإنما كان ينبغي أنه يستر عليه، ولكن كأن هزالاً غضب منه كيف يعمل هذا الشيء، فقال له: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، وبقي يردد عليه: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم اذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأخيراً ذهب، وكان في ظنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتركه، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه، وكان ماعزاً متزوجاً، والمتزوج إذا وقع في هذه الجريمة -جريمة الزنا- فالحد فيه الرجم، فيرجم بالحجارة حتى الموت. فـ هزال كان عارفاً هذا الشيء، ومع ذلك نصح ماعزاً وقال له: اذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب ماعز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: زنيت، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه ولم يرد عليه، فذهب وأتى إليه من الناحية الثانية وقال له: زنيت، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء أربع مرات يصر أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي النهاية قال له النبي صلى الله عليه وسلم -كأنه يصرفه-: (لعلك قبلت) يعني: يمكن أنت لقيت واحدة فقبلتها فرأيت أن هذا هو الزنا الذي يقام عليه الحد، فالرجل قال له: أنا ما قبلت، أنا زنيت، فقال: (لعلك لامست لعلك فاخذت) وهنا يتضح أن النبي صلى الله عليه وسلم رحيم، لا يريد أنه يوقع الرجل فيرجم، ولكن الرجل كان مصراً، وإصراره بسبب هزال الذي كان مربيه، فإنه كان غضبان منه أنه زنى بجارية من الحي، فقال له: اذهب وخذ جزاءك من النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، فاستمر يقول له: (أبك جنون؟ أتدري ما الزنا؟ فقال: نعم)، إذاً: الرجل أقر على نفسه، فقال في الآخر: (خذوه فارجموه). فأخذوه وحذفوه بالحجارة، فلما أذلقته الحجارة وأوجعته قام يجري هارباً، وقال: أعيدوني إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقد غرني هزال من نفسي، هزال ضحك عليّ وقال: لن يفعل فيك شيئاً، هزال قال لي: سوف يستغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جرى تبعه رجل على بعير وضربه على رأسه وأوقعه، فرجموه، فلما بلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنه حزن عليه، فقال: (هلاّ تركتموه؟ لعله يتوب فيتوب الله عليه)؛ لأن الرجم هنا لم يكن بشهادة الشهود، وإنما كان بإقراره على نفسه، وبعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ هزال: (يا هزال! هلا سترته بثوبك؟) لأن هزالاً هو الذي في البداية أمره أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره بأنه زنى، ولو ذهب هو وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فسوف يقول له: لابد أن يكون معك ثلاثة شهود؛ لأن حد الزنا لا يقام إلا بشهادة أربعة يشهدون، وإذا كان هو وحده شهد فسوف يقام عليه حد القذف، فكأن هزالاً يريد أن يهرب من أنه هو وحده الذي قال ذلك فأوقع ماعزاً في أنه يقول ذلك، وأقيم عليه هذا الحد. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هلَّا سترته بثوبك)، فيه: أن الإنسان إذا وجد إنساناً على معصية فإنه ينهاه عن هذه المعصية ويزجره، ولكن لا يفضحه إلا أن يكون مجاهراً بالمعاصي، فإذا كان مجاهراً بالمعاصي فهذا يستحق أن يفضح؛ لأنه هو الذي فضح نفسه، ولذلك فهناك فرق بين من أقر بالزنا -لأن المقر يريد أن يتوب- وبين الذي يشهد عليه أربعة أنهم رأوه أنه يزني، فإن هذا إنسان فاجر، فلذلك يرجم، وليس هناك كلام في مثل هذا، بخلاف من أقر على نفسه؛ فهذا علامة التوبة بادية عليه بإقراره على نفسه. والغرض أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ هزال: (هلا سترته بثوبك) ليس معناه: أنه يزني ويستر عليه، ولكن المعنى: استر عليه هذه الفضيحة، ولو كنت نهيته عن ذلك فيما بينه وبينك وسترت عليه لكان أولى من أن توقعه في مثل هذا.

شرح حديث: (من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موءودة)

شرح حديث: (من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موءودة) ومن الأحاديث التي جاءت في هذا حديث رجاء بن حيوة قال: سمعت مسلمة بن مخلد رضي الله عنه يقول: بينا أنا على مصر فأتى البواب فقال: إن أعرابياً على الباب يستأذنك، فقال: قلت: من أنت؟ قال: أنا جابر بن عبد الله، وجابر بن عبد الله ليس أعرابياً، وإنما هو صحابي فاضل، وأبوه هو عبد الله بن حرام الأنصاري الذي خاطبه الله عز وجل كفاحاً، ورأى ربه سبحانه وتعالى، وكان شهيداً من شهداء أحد، ومن أفضل الشهداء، فرضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال له ربه: (يا عبدي! تمنّ عليّ، فقال: أتمنّ أن أعود إلى الدنيا فأقتل فيك). فهذا ابنه جابر بن عبد الله من الصحابة الأفاضل، يسافر من المدينة إلى مصر، والسفر في ذلك الوقت ما كان بأن يركب سيارة ولا أن يركب طيارة، وإنما كان يركب على جمله من المدينة إلى مصر. فقال هنا: أنا جابر بن عبد الله، وكان مسلمة بن مخلد في قصره، وكان جابر بن عبد الله تحت القصر، قال مسلمة فأشرفت عليه، فقلت: أنزل إليك أو تصعد إليّ؟ وكلاهما من الصحابة، فهذا صحابي وهذا صحابي، فـ مسلمة يقول له: هل أنزل إليك أم تطلع إليّ؟ فقال: لا تنزل ولا أصعد، قال: وما الذي تريده؟ قال: حديثاً بلغني أنك ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن جئت أسمعه، لقد جاء من المدينة إلى مصر يسمع حديثاً، ولا يريد أن ينزل ضيفاً عند الأمير ولا أن يطلع، ولا أن الأمير ينزل، وإنما قال: حدثني بحديث وأنا منتظر هنا في الخارج، وقل لي ما هو الحديث، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موءودة) قال: فضرب بعيره راجعاً. فقد جاء من المدينة إلى مصر من أجل أن يسمع هذا الحديث، فسمعه وانصرف من غير أن يدخل لضيافة، ومن غير أن يأكل ويشرب، وإنما سمع الحديث وضرب بعيره ورجع. فهذا حديث عظيم عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة كان يهمهم أن يسمعوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم إما منه صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فـ جابر لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بلغه من واحد ممن سمعه من مسلمة، وما أحب أن يكون بينه وبينه واسطة، فأراد بنفسه أن يسمع الحديث ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فسافر إليه كل هذا السفر؛ لكي يسمع حديثاً ويرجع مرة أخرى إلى بلده. فالحديث فيه: (من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موءودة) والموءودة: هي الطفلة التي كان أهل الجاهلية يدفنونها وهي حية، فكان الواحد منهم يأخذ ابنته بعد ولادتها ويدفنها حية، قال سبحانه: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، فهذا الذي أماتها له عذاب، والذي أحياها له أجر عظيم، يعني: الذي استنقذها من أبيها، وكان بعض الناس يفعلون ذلك مثل زيد بن عمرو بن نفيل، فكان يذهب إلى الإنسان الذي يريد أن يقتل ابنته ويقول له: هات البنت هذه التي لا تريدها، فيأخذها هو ويربيها إلى أن تتزوج هذه الفتاة، فمن أحياها فله أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى. فالإنسان الذي يستر على مؤمن عورة يكون كالذي أحيا الموءودة، فله أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

شرح حديث: (فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته)

شرح حديث: (فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته) ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه في هذا حديث ابن عمر قال: (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع -يعني: بصوت مرتفع- فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله). ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وما أعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك، فهنا: النبي صلى الله عليه وسلم قام وخطب في الناس، وقال: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه)، والإيمان: تصديق وقول وعمل، فإذا كان الإنسان يقول: أنا مسلم، ويقول: لا إله إلا الله، وعمله لا يوافق ذلك، فكأن إسلامه إسلام باللسان فقط، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول للمنافقين الذين كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه) يعني: إسلامه مجرد كلام باللسان، وأما قلبه فلا، ولو كان قلبه فيه إيمان ما كان يتتبع عورات المسلمين. قال: (لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم) أي: لا تؤذوا المسلمين بألسنتكم، ولا تتبعوا عوراتهم، ولا يفضح بعضكم بعضاً، (فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم) أي: الذي يظل يراقب إنساناً من أجل أن يفضحه، ومن أجل أن ينظر ماذا يعمل حتى يتكلم عن سيرته أمام الناس بالفضيحة، قال: (تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) فاحذر فالجزاء من جنس العمل، ولا تفكر أنك تفضح إنساناً، وهكذا النساء أيضاً، فالنساء يحببن أن يتكلمن كثيراً، فلانة عملت كذا، وفلانة تعمل كذا. فهناك من يتتبع عورات الناس ويتجسس عليهم من أجل أن يفضحهم، فالذي يفعل هذا الشيء ربنا يسلط عليه من يصنع معه مثل هذا الشيء. قال: (يفضحه الله عز وجل ولو في جوف رحله)، وفي الرواية الأخرى: (ولو في جوف بيته).

فضل إقالة عثرات ذوي الهيئات

فضل إقالة عثرات ذوي الهيئات نظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! يعني: أن حرمتك عظيمة، قال: ولكن المؤمن أعظم حرمة عند الله منك، يعني: أن الإنسان لا يؤذي مسلماً ولا يتكلم عنه، ولا يفضحه، فإذا وجدت من أخيك سوءاً فائمره بالمعروف وانهه عن المنكر ولا تفضحه، إلا أن يكون هو فضح نفسه فيستاهل ما يحدث له، ولكن الإنسان الذي ستر على نفسه فاستر عليه، وخاصة إذا كان من ذوي الهيئات. وذوي الهيئات: هم الناس الكبراء، فالإنسان الذي له مقام بين الناس وله فضل والناس يعرفونه فهذا إنسان مهذب، وهذا إنسان محترم، وهذا إنسان له عند الناس مكانة، وإن كان لا يوجد إنسان يخلو من معصية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فالإنسان الذي له شرف فضل بين الناس، لعله يقع في شيء من الزلل يوماً من الأيام، ولعله يفلت منه لسانه بشيء، فلا تأخذ زلته وتجري بها وتنشرها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، وكل المؤمنين استر عليهم جميعاً، وخاصة ذوي الهيئات؛ لأن الناس إذا علموا أن فلاناً رجل محترم فإنهم يقتدون به، فإذا وجدت عليه شيئاً فلا تفضحه؛ لأنه إذا كان كل الناس يفضح بعضهم بعضاً فستتشوه سمعة كل الناس، والناس بعد ذلك سيقتدون بلاعب الكرة، وبالرقاصة وبالمغني، وسيتركون أهل الفضل، فلذلك دع الناس يقتدون بالعلماء وبأهل الخير، فإذا وجدت منهم زلة من الزلات فأمر بالمعروف وانه عن المنكر، ولا تفضح إنساناً، ولا تشهر بإنسان؛ حتى لا تضيع دين الله عز وجل. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الحياء وما جاء في فضله والترهيب من الفحش والبذاء

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الحياء وما جاء في فضله والترهيب من الفحش والبذاء الحياء خلق عظيم لا يأتي إلا بخير، وهو شعبة من شعب الإيمان، ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التخلق بهذا الخلق الرفيع؛ لأنه يدفع صاحبه إلى عمل الطاعات، والابتعاد عن المعاصي والسيئات.

الترغيب في الحياء، وما جاء في فضله

الترغيب في الحياء، وما جاء في فضله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في الحياء وما جاء في فضله، والترهيب من الفحش والبذاء. عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه فإن الحياء من الإيمان)، متفق عليه. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلهما قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)، رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح]. ذكر الإمام المنذري باباً في الترغيب في الحياء وما جاء فضله، وهذا من الآداب التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المؤمن. وشهر رمضان فرصة للإنسان المؤمن أن يتخلق بمكارم الأخلاق، وتكون له عادة بعد ذلك، فيكون دائماً على هذه الأخلاق العالية، ويترك السفاسف من الأشياء التي يبغضها الله سبحانه وتعالى. فخلق الحياء خلق الإنسان المؤمن، وهو الذي يجعله يستحيي من الخالق سبحانه. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث منها: (الحياء شعبة من شعب الإيمان)، وأن (الحياء لا يأتي إلا بخير)، بل الحياء كله خير. وقد يكون في الإنسان حياء يدفعه! إلى عدم المطالبة بحقه، أو أنه يتنازل عن شيء من حقه ويبتغي بذلك وجه الله سبحانه وتعالى، ولا يريد أن يحرج الناس، فهذا خلق عظيم في الإنسان. ففي حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء) أي: إن الرجل يعاتب أخاه ويقول له: إنك تستحي فلم تأخذ حقك ولم تتكلم! فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الناصح: (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان). وخلق الحياء يجعل الإنسان قد يتنازل عن الشيء الذي هو من حقه، ويجعله لا يقبح أخاه في وجهه، ويعفو عن إساءة من أساء إليه.

الفرق بين الخجل والحياء

الفرق بين الخجل والحياء وهناك فرق بين الحياء والخجل، فالخجل خلق يكون في الإنسان يشبه الحياء، فيجعله يترك الواجبات فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر. والحياء خلق في الإنسان المؤمن لا يمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وجد منكراً أنكره، وأما الخجل فيجعل الإنسان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر؛ خوفاً من غضب الناس عليه. والخجل يجعل الإنسان يجامل الخلق على حساب الدين، وفي الحياء يتغاضى عن شيء من حقوقه لكيلا يحرج الذي أمامه، وأما عند الدين فإنه يأمر بمعروف وينهى عن منكر، وينصح كما أمر الله سبحانه وتعالى. فالإنسان المؤمن لا يترك فرض النصيحة أبداً، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بها فقال: (الدين النصيحة). وجاء في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة)، وهذه خصال الإيمان أو شعب الإيمان، فأفضل خصلة في الإيمان التوفيق في أن تقول: لا إله إلا الله فهذه أعلاها، وأدنى شعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق، فإذا كان الإيمان يدفعه لإماطة الأذى عن الطريق فسيمنعه من أن يضع الأذى في طريق الناس، فهذه من خصال الإيمان، والحياء شعبة من الإيمان. وجاء في حديث عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، والإنسان الذي يستحي فإن الله عز وجل يعامله بحسب هذا الخلق العالي الذي هو عليه، فلن يضيعه الله سبحانه وتعالى حتى وإن كان بسبب حيائه ضاع منه شيء من الدنيا، فالله عز وجل يعوضه بإيمان في قلبه، وبالثواب بالجنة يوم القيامة.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان) جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد والترمذي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة)، فإذا كان الإنسان عنده إيمان فلا يضيع ولا يذهب إلى النار بفضل الله سبحانه وتعالى. فالحياء يجعل المؤمن يستحي من الله سبحانه ومن الخلق، واستحياء الإنسان من الله يمنعه من الوقوع في المعاصي حياءً من نظر الله الله سبحانه وتعالى إليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار) وهذا عكس الحياء، وهو الكلام بالفحش، وهو من عدم الحياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، والمعنى: أن الإنسان الذي ما عنده حياء يعمل أي شيء فلا يستحي من أحد: لا يستحي من الخالق سبحانه وتعالى ولا من المخلوق. وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)، والحياء في الإنسان أن يستحيي من الله ومن الخلق فلا يفرط في الواجبات؛ ولا يقع في المحرمات والمعاصي، ويتنازل عن شيء من حقوقه؛ لأنه يستحيي من الناس. والعي: هو عدم القدرة على التعبير في مسألة الحقوق، فإذا كان الإنسان له حق فلا يعرف أن يستنجد أحداً أو يطالب بحقه، فيجعل هذه الأمور أشياء تافهة ليست مهمة ويتنازل عنها، فكأنه قد عيّ لسانه فلا يعرف أن يتكلم في حقه. فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن هذا الإنسان أنه يتنازل عن حقه للغير، فهذا دليل على إيمان هذا الإنسان. والبذاء والبيان شعبتان من النفاق، والبذاء: التفحش، والإنسان قد يكون فاحشاً وألفاظه بذيئة قذرة فلا يستحيي من أنه يعبر عن الأشياء المنكرة بألفاظها الشائعة التي عند أهل التفحش، وعنده القدرة على البيان والتعبير والمطالبة بالحق، ولا يستحي من أحد كبيراً كان أو صغيراً فيطلب الشيء التافه البسيط والرديء ولا يتنازل عنه أبداً، ويظن أنه يأخذ حقه تماماً بهذه الطريقة. ويتكلم في سفاسف الأمور ويستفيض فيها، والله عز وجل يبغض سفاسف الأمور، فإذا تكلم في كل تافهة جعلها شيئاً كبيراً، فهذا شعبة من النفاق.

الاستحياء من الله حق الحياء

الاستحياء من الله حق الحياء وفي الحديث الذي يرويه ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (استحيوا من الله حق الحياء فقالوا: يا نبي الله إنا لنستحيي من الله حق الحياء) وهم أهل لذلك رضي الله عنهم، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الحياء من الله عز وجل حق الحياء هو أن (تحفظ الرأس وما وعاه والبطن وما حواه، ولذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء). فالصحابة يستحيون من ربنا فلا يعملون المعاصي، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستحياء من الله حق الحياء غير الحياء العادي، وهو: (أن تحفظ الرأس وما وعى) فعقلك لا تفكر به إلا في الخير وفي ربك سبحانه وتعالى وفي طاعته، فلا يشك بالله، ولا يفرح بشهوات تافهة ومحرمة. وأذنك لا تسمع بها إلا الخير، فلا تسمع بها أشياء منكرة من القول الزور والكلام الفاحش ونحو ذلك. والعين لا تنظر بها إلا إلى ما أحل الله عز وجل، وامتنع أن تنظر إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى. واللسان لا تنطق به إلا خيراً وابتعد عما حرم الله سبحانه، والفم لا تدخل فيه إلا ما أحل الله سبحانه. وقال صلى الله عليه وسلم: (وتحفظ البطن وما حوى)، ففيها المعدة فلا تدخل فيها أكلاً ولا شرباً محرماً، وتحفظ فرجك من أن يقع فيما حرم الله عز وجل من الزنا واللواط وغيرهما من المنكرات. وقال صلى الله عليه وسلم: (ولتذكر الموت والبلى)، فالموت على باب المؤمن، وأتعجب من إنسان يقول: أنا أخاف من الموت ومع ذلك يعصي الله سبحانه وتعالى، أو يخاف من الموت ولا يعمل الأعمال الصالحة، فهذا نوع من المرض يحتاج إلى علاج، لكن الخوف من الموت هو الخوف من لقائه سبحانه وتعالى، فيدفعه لأن يعمل لله سبحانه وتعالى، ويعطي الحقوق لأصحابها، ولا يضيع الفرائض التي فرضها الله سبحانه وتعالى، ولا ينتهج المحرمات التي حرمها الله سبحانه. وإذا قيل للإنسان أنه سيموت بعد ساعة فإنه سيؤدي الفرائض، وسيتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وسيؤدي الحقوق إلى أصحابها؛ لكي يموت نظيفاً، فأعد نفسك كأنك تموت الآن، فإذا كان الإنسان مستعداً للموت في كل لحظة من لحظاته فإن الموت يأتيه وهو نظيف من المعاصي وما وقع في شيء منها. وقال صلى الله عليه وسلم: (ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا)، فإذا كان الإنسان طالباً ما عند الله فإنه لا يهتم لزينة الدنيا من لباس وطعام وشراب، فيكفيه ما كفى رسول صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، فلا يطلب زينة الحياة الدنيا، فالله عز وجل يجعل هذا الإنسان هو صاحب الحياء الذي يستحق ما عند الله. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحياء منه سبحانه وتعالى حق الحياء، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الخلق الحسن وفضله والترهيب من الخلق السيئ وذمه

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الخلق الحسن وفضله والترهيب من الخلق السيئ وذمه يحثنا ديننا الإسلامي على حسن المعاملة مع الخلق كثيراً، وهي التي تتيح أكبر قدر من التعايش بينهم، وهي طريق لحسن المعاملة مع الله تعالى. وحسن الخلق بشره النبي صلى الله عليه وسلم بمحبته ومجاورته، وأنذر سيء الخلق بالعذاب والنار، كيف لا وقد كان من نفعه وبركته: دخول شعوب من دول آسيا في ديننا الإسلامي عن طريق التجار المهاجرين ذوي الأخلاق الحسنة.

الترغيب في حسن الخلق والترهيب من سوء الخلق

الترغيب في حسن الخلق والترهيب من سوء الخلق الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الترغيب في الخلق الحسن وفضله، والترهيب من الخلق السيئ وذمه: عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، رواه مسلم والترمذي. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)، رواه البخاري ومسلم والترمذي. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)، رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وزاد في رواية له: (وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة). ورواه بهذه الزيادة البزار بإسناد جيد لم يذكر فيه: (الفاحش البذيء)، ورواه أبو داود مختصراً قال: (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن خلق)]. هذا الحديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه في الترغيب في الخلق الحسن وفضل حسن الخلق، وقد جاءت فيه أحاديث كثيرة جداً، فجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فمن أفضل ما ينعم الله عز وجل به على الإنسان المؤمن بعد نعمة الإسلام أن يحسن خلقه، ولولا أن أمر الخلق الحسن أمر عظيم في الدين ما كان لتِأتي فيه هذه الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث عليه، وفي ثوابه، وكيف يبلغ به أعلا الدرجات يوم القيامة، بل إن الإنسان بالخلق الحسن يجاور النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (البر حسن الخلق)

شرح حديث: (البر حسن الخلق) فمن الأحاديث: حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: البر حسن الخلق). الإنسان البار هو الكثير الأفعال الحسنة، فيبر الناس، ويبر أهله، ويبر نفسه، وبهذا يكون الإنسان باراً، وهو أفضل شيء يكون عليه، والذي يدفعه لهذا البر هو حسن الخلق؛ لأن الدافع لأعمال البر حسن خلق الإنسان، والإثم: هو الذنوب، وهو الشيء الذي يدفع العبد لمعصية الله سبحانه وتعالى، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم معنىً جامعاً فقال: (ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، وصحيح فكل إنسان يعرف أن هذا صحيح وهذا غلط، وأن هذه معصية وهذه طاعة، ولكنه أحياناً يتغافل عن الشيء ويذهب يسأل المسألة ويغلفها بإطار حتى يأخذ الجواب على هواه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك: إنك حتى لو أخذت هذا الجواب على هواك فلا تعمل بهذا الشيء؛ لأنك تعرف أن هذا خطأ. وإذا حاك في صدرك منه شيء فلا تعمل بهذا الشيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس). فقد يحس الإنسان في صدره من مسألة معينة وإن كان قد سأل فيها، وقيل له: إن هذه حلال، ولكن: يشعر في نفسه أنه خطأ، وأنه ما سأل السؤال على الوجه الصحيح فيها؛ ولذلك جاءته الإجابة خاطئة. فنقول له: إن الجواب الخاطئ لن يغير من أصل حقيقة المسألة شيئاً، والإثم إثم ولن يتحول إلى شيء حسن، وانظر إلى بني إسرائيل لما تحايلوا على ما نهاهم الله عز وجل من العمل في يوم السبت، وقالوا: نحن لن نصطاد يوم السبت، ولكنهم ينصبون شباكهم في يوم الجمعة فتحبس السمك يوم السبت، ثم يأتي يوم الأحد ويأخذونه. فهم ظنوا أنهم بهذا قد نجوا؛ لأنهم لم يعملوا يوم السبت شيئاً، فتحايلوا على ربهم سبحانه، فكان أن مسخهم الله عز وجل قردة وخنازير؛ لعصيانهم وبعدهم عن الله سبحانه، وتحايلهم على دينه. وأما الإثم: فإذا عرفت في نفسك أن هذا خطأ فلا تفعله، حتى وإن قيل لك: إن هذا صواب طالما أنك شككت في الأمر، وفي نفسك أن هذا خطأ، فلا تعمل بهذا الخطأ.

شرح حديث: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق)

شرح حديث: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن)، وقال: (وإن الله يبغض الفاحش البذيء)، وفي الحديث الآخر، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً). والفاحش: هو الإنسان الذي ينطق بالبذيء من القول. والمتفحش: هو الذي يبالغ في ذلك، أو الذي يتكلف ذلك، مثل: أن تجد شاباً منحرف السلوك في الشارع فيأتي آخر ويجعل نفسه مثله، فهنا الأمر: الفاحش والمتفحش، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس في لسانه الفحش، ولا يتكلف ذلك، فلم يكن هذا من شأنه ولا من طبعه، صلوات الله وسلامه عليه. ونحن نقول: الفحش: هو الكلام الخطأ، ولكن كان عند النبي صلى الله عليه وسلم الفحش من القول ما هو دون ذلك بكثير، لذلك كان الصحابة يقولون لمن بعدهم: إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، وكنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات. وقد دخل يهودي على النبي صلى الله عليه وسلم وسلّم فقال: السام عليكم، والسام: الهلاك، فهو يلوي لسانه بالكلمة حتى يفهمها النبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وعليك)، وفهم الذي يقوله الرجل. والسيدة عائشة سمعت وظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفطن إلى ذلك، فقالت: وعليك السام واللعنة، وردت عليه كما قال، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (مه يا عائشة -أي: اسكتي واصمتي- فقالت: أوما سمعت ما يقول؟ فقال: قد سمعت وأجبت، يستجاب لي فيه، ولا يستجاب له في). وفي رواية أنه قال لها: (متى عهدتني فحاشاً، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)، وكأنه اعتبر أنها بهذه المقالة ردت عليه أكثر مما قال، فهو قال: السام عليك، وهي قالت: وعليك السام واللعنة، فاعتبر هذا من الفحش. وأما ما نراه اليوم عندما يخرج الواحد منا من لسانه الكلمات الكثيرة، ويقول: إني سريع الغضب ولا أملك نفسي، فهذا هو الفحش من القول، وقد تركه النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعتبره في أعيننا أدق من الشعرة وشيئاً بسيطاً جداً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتبره شيئاً كبيراً.

شرح حديث: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن)

شرح حديث: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن) ومن الأحاديث العظيمة التي تدفع كل إنسان إلى أن يحسن خلقه، وأن يتعامل مع الناس بما يحب أن يتعاملوا به معه، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)، فالله يبغض الإنسان الفاحش في كلامه وفعاله، والبذيء: هو صاحب الألفاظ القبيحة. قال صلى الله عليه وسلم: (وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة) أي: قد تجد إنساناً كثير الصلاة، والمقصود هنا بصاحب الصلاة: صلاة النافلة، وإلا فالمسلمون كلهم محافظون على صلاة الفريضة، وليس فيها كلام، ولا يعني هذا: أن يترك شخص الصلاة نهائياً ويقول: خلقي حسن وسأبلغ به ذلك، فنقول له: نعم تبلغ، ولكن إلى الكفر والعياذ بالله، والصلاة هي الأصل ولابد منها، والصلاة التي ذكرها في هذا الحديث هي: صلاة النافلة، والصوم المذكور هو: صوم النافلة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قال: (وأنه لم يتقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) فيتقرب الإنسان أولاً بالفريضة، ثم بالنوافل حتى يحبه الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا كانت هذه النوافل معها حسن الخلق فما أعظم حظ هذا الإنسان! فقد وصل إلى درجة عظيمة جداً. وقد يكون الإنسان مصلياً وصائماً ولكن لا يصلي نوافل كثيرة، أو يصوم نوافل كثيرة، ولكنه حسن الخلق، فيتعامل مع الناس بحلم وبلين، فلا يغضب، ولا يحمق، وليس من الذين إذا أتيت أحدهم بكلمة أتاك بعشر! ولكنه يصدق ويحلم على الناس، فهذا من أفضل الناس، وقد يبلغ بحسن خلقه درجة الصوّام القوّام، كما في الرواية: (ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة). وفي رواية أخرى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل، الظامئ بالهواجر)، فهذا إنسان يقيم الليل ويظمأ بالهواجر، أي: يصوم بالنهار الحار جداً في أيام الصيف الشديدة، وصاحب الخلق الحسن قد يبلغ درجته أو أعلى منه، وفي رواية أخرى: (إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوّام القوّام بآيات الله، بحسن خلقه وكرم ضريبته). فالمسلم المسدد: هو الموفق الذي وفقه ربه لحسن الخلق، وطاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، (ليدرك درجة الصوّام)، أي: الذي يصوم النوافل المواظب على ذلك، فهذا الحسن الخلق لا يصوم كثيراً من النوافل، ولكن يبلغ بحسن خلقه درجة هذا الصوام القوام بآيات الله بحسن خلقه، وكرم ضريبته، والضريبة هنا: الطبيعة، أي: أن طبيعته كريمة وسمحة وسهلة، وليس فيه عنف، وهذه هي فيه طبيعة وسجية سهلة، فهذا من أعظم الناس درجة. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر لنا فيه أن الناس ثلاث درجات، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت) أي: أنا ضامن، والزعيم هو الضامن، ومنه قول نبي الله يوسف: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] أي: وأنا ضامن، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: أنا ضامن، ومتكفل لهذا الإنسان بهذا البيت في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، والجنة درجات، والمعنى: أنا ضامن أن يدخل الجنة بترك المراء وإن كان محقاً، والمراء: الجدل. والجدل يفسد العلاقات بين الناس، حتى لو أنت على صواب إذا فتحت باب الجدل مع إنسان لا تصل معه في النهاية إلى شيء، وخاصة إذا كان مخاصماً عنيداً، وهذا في أمور الدنيا، فإذا كان في أمر الدين فالأفضل للإنسان أن يقفل باب الجدل إلا أن يحتاج للرد على كافر، أو صاحب بدعة، ولكن لا تبقى هذه عادة الإنسان في كل وقت، فيتوهم أن هذا ابتدع بدعة فيقول: لا تتكلم معه، ولا تفعل معه أي شيء، هذا فعل كذا فلا أتكلم معه، ولا أناقشه، بسبب وبغير سبب! ولكن إن احتاج إلى ذلك فعل، ولا يرضى أن تكون كثرة الجدل طبيعة في نفسه أبداً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ضامن -أي: أنا زعيم- ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، وهذه هي الدرجة الأولى، وهي أقل درجات الجنة. الدرجة الثانية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وببيت في وسط الجنة) أي: أعلى قليلاً من الأول، (لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) فضمن له بيتاً في وسط الجنة إذا كان لا يكذب، حتى ولو كان يمزح مع صديق أو مع الناس فلا يكذب، ولم يبح النبي صلى الله عليه وسلم الكذب إلا في أحوال:

حالات يجوز فيها الكذب

حالات يجوز فيها الكذب الحالة الأولى: إذا كان الرجل مع أهله، ففي حال الكلام والمعاشرة يتكلم معها ويقول: أنت أجمل النساء، وأنت كذا، ويتكلف في أشياء لعلها غير موجودة، ولكن كنوع من العشرة والمودة والمحبة، وهذا مغتفر. الحالة الثانية: في الحرب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة)، فالإنسان في الحرب إما أن يخدع خصمه ويغلبه، أو أن يُخدع من الخصم فيقتل، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم الكذب إذا كان في حال من هذه الأحوال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، والغرض بيان أن هناك صوراً أباح النبي صلى الله عليه وسلم للإنسان أنه إما أن يعرِّض في الكلام، أو إذا لم يجد إلا أن يكذب لذلك فله ذلك. الحالة الثالثة: الصلح بين الناس، فإذا قال الخصم للذي يريد الإصلاح: هل سمعته يشتمني؟ فيقول: لا لم أسمعه يشتمك. فهذا جائز للإصلاح بين الناس. والأفضل في هذه الأشياء أن تكون على وجه التعريض، فإن لم ينفع ويؤد الغرض فله أن يقول ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك لا يجوز للإنسان أن يكذب فيه، فلا يجوز له أن يمزح مع إنسان ويقول له: فلان عمل كذا البارحة، ثم تقول: لا أنا كنت أمزح معك، فلا يجوز للإنسان أن يقول ذلك. فمعنى الحديث: أنا ضامن لك بيتاً في وسط الجنة لو تركت هذا الكذب وإن كنت مازحاً. الدرجة الثالثة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وببيت في أعلا الجنة) وأعلى الجنة يتشوف إليها كل إنسان، وهذا البيت كما قال صلى الله عليه وسلم هو: (لمن حسَن خلقه، أو لمن حسّن خلقه)، فالإنسان الحسن الخلق فاز على جميع هؤلاء، وارتفع إلى أعلى الجنات بحسن خلقه.

شرح حديث: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا)

شرح حديث: (إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً) ومن الأحاديث التي جاءت تسلي الإنسان وتجعله يحاول أن يكون حسن الخلق، ويتكلف حتى يصير حسن الخلق له سجية وطبيعة، حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً)، فأقرب واحد من النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً يوم القيامة وليس قريباً فقط، فقد يكون إنسان قريباً منك وأنت لا تحبه، وهذا يحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقريب منه صلى الله عليه وسلم، فما أسعد حظ هذا الإنسان! وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحسنكم خلقاً). وفي حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أطولكم أعماراً، وأحسنكم أخلاقاً)، وهذا حديث عظيم ومهم جداً، فإنه كلما طال عمر الإنسان أصيب بالضيق، فتضيق أخلاقه، وتسوء تصرفاته، وتجد أصدقاءه كانوا كثيرين فقلوا؛ لأنه كل ما زاد في العمر كان أكثر غضباً، فيقول لنا: إن أفضلكم وخياركم الذي كلما طال عمره ازداد حلمه، وازداد علمه، وازداد حسن خلقه، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أطولكم أعماراً، وأحسنكم أخلاقاً). وفي حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إليّ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إليّ المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرآء العيب)، فهنا ذكر الأحب إليه صلى الله عليه وسلم، والأبغض إليه عليه الصلاة والسلام، فأحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (أحاسنكم أخلاقاً) أي: المؤمنون ذوو الأخلاق الحسنة. وقوله: (الموطئون أكنافاً) الكنف: هو جانب البهيمة، ودابة موطأة الكنف: أي يركبها صاحبها بسهولة، وهذا مثل يضرب للمؤمن وكأنه يذلل ويمهد نفسه، ويجعل نفسه سهلة مع الناس، فهو موطأ الكنف، أي: سهل كالدابة التي يركبها صاحبها بسهولة، فالإنسان المؤمن يجعل نفسه مع المؤمنين سهلاً سمحاً يجيبهم ويتعامل معهم بحسن الخلق. ويقال للفراش: هذا فراش وطئ، أي عندما تنام عليه لا يؤذي جنبك، فكذلك الإنسان المؤمن عندما تميل عليه لا يؤذيك أبداً، ويكون حسن الخلق. وقال صلى الله عليه وسلم: (الذين يألفون ويؤلفون) أي: ليس عندهم نفرة من الناس، فقد تجد الإنسان يقعد مع الناس ولا يندمج معهم بسهولة ويقول: طبعي هكذا! لكن الإنسان الحسن أخلاقه حسنة، فإذا جاء واحد إليك مغضباً فلا تعامله كما يتعامل معك؛ لأن المؤمن حسن الخلق، رفيق مهذب، يعتذر للناس، ويقول: كان يضحك قبل وجاء مغضباً فلعل عنده ظروفاً، فيعذر الناس ويحب الناس، والذي يحب الناس يحبونه، والذي يبغضهم يبغضونه، والمعاملة بالمثل. ولذلك: أحب الناس إلى الله عز وجل الذي يحبه الناس، والذي يحب الناس أكثر من حبهم له، فلذلك في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (الذين يألفون -يألف الناس- ويؤلفون)، فيرضى عن الناس، والناس يرضون عنه بسهولة، وليس معنى هذا أن يكون مسخرة يسخر منه الناس، فهذا يلطشه وهذا يضحك عليه، وهذا يسخر به، ولكنه الذي يألف بسهولة، فعندما يتكلم لا يحس أحد معه بفجوة، فكأن بينه وبينه عِشْرة منذ زمن، وهو لعله أول مرة يكلمه، فهذا الذي يألف ويؤلف. وأما الإنسان الذي يريد أن يألف أو يؤلف بالمزاح وبالضحك فقد سمعنا الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ترك ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن من أبغضكم إلي: المشاءون بالنميمة)، فقد تجد إنساناً يحضر عند فلان ويسمع منه كلمة فيحملها إلى فلان الثاني، فهو نمام، وأصل الكلمة من التنمية، والتنمية: الزيادة؛ لأنه سمع الخبر وزين له الشيطان أن يسمع ويزيد في الخبر أشياءً، فسمع فلاناً يقول عن آخر: أنه متجهم، فينقل الخبر ويقول: قال عنك كذا وكذا، ويزيد على الكلام أكثر مما قال، وهذا هو المشاء بالنميمة، أي: الذي يمشي كثيراً بالنميمة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (المفرقون بين الأحبة) فلا يحب أن يجد اثنين يحب أحدهما الآخر إلا ويفرق بينهما، فهذا من أبغض الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم: (الملتمسون للبرآء العيب) أي: المتتبعون لعيوب الناس، فإذا اطلع على عيب لأحدهم فضحه بين الناس، فهذا من أبغض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بحاله مع رب العزة! نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الخلق، وأن يجعلنا ممن يجاور النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الرفق والأناة والحلم

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الرفق والأناة والحلم إن الرفق والحلم والأناة أخلاق عظيمة، وقد جاء الإسلام بمدحها والحث عليها، فإنها ما كانت في أمر إلا كان مستقيماً صالحاً، ولا نزعت من شيء إلا شابه انحراف واعوجاج.

الترغيب في الرفق والأناة والحلم

الترغيب في الرفق والأناة والحلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في الرفق والأناة والحلم. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه). وعنها أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، رواه مسلم. وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرَق، وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير)، رواه الطبراني، ورواته ثقات. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء قط إلا زانه، ولا كان الخرق في شيء قط إلا شانه، وإن الله رفيق يحب الرفق)، رواه البزار. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، رواه البخاري]. هذا باب آخر من كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري ويذكر فيه: الترغيب في الرفق والأناة والحلم. فالرفق بأن الإنسان يكون رفيقاً بغيره، والرفق عكسه العنف، والعنف: الشدة، فالعنيف يشدد على الغير ويصل إلى أمره بشدة، وإن كان هذا الأمر أمراً فيه خير لكن يصل إليه بصعوبة، ويصل إليه بالطريقة العسرة بالشدة، فيرفع السوط، ويتعامل بالمعاملة العنيفة الغليظة القاسية. فإذا كان الأمر ممكن نصل إليه بطريقين: طريق فيه الرفق، وطريق فيه العنف، والنتيجة واحدة، فطريق الرفق هو الذي فيه الثواب العظيم، والذي يدل على خيرية صاحبه. وطريق العنف وإن كان في النهاية سيصل إلى النتيجة نفسها لكن صاحبه أقل ثواباً، ولا يبعد أن يحرم من الثواب؛ لأن الإنسان الذي فيه العنف قد يأتي ليأمر بالمعروف وإذا به يأمر بطريقة منكرة، فأمره يكون معروفاً ولكن فعله يكون منكراً، فيكون أمر بالمعروف بطريقة منفرة، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن التنفير. وهنا في حديث السيدة عائشة في الصحيحين: (إن الله رفيق يحب الرفق) فالله الخالق العظيم بجلاله سبحانه يرفق بعباده، فمن صفات الله سبحانه وتعالى: صفة الرفق، وصفة الحلم، فإنه حليم ورفيق وصبور سبحانه، وأمر العباد أن تكون هذه من أخلاقهم: خلق الرفق، وخلق الحلم، وخلق الصبر. فالإنسان يكون رفيقاً في كل أموره، ويصل بهذه الطريقة إلى دعوة الخلق إلى دين الله سبحانه وتعالى من غير تنفير لهم ولا تعسير عليهم. في رواية مسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، يعني: أن الإنسان الذي يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر بطريقة رفيقة يأخذ أجراً مضاعفاً، والذي يأمر وينهى بطريقة عنيفة يأخذ أجراً دون الأول. وفي رواية: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء شانه)، والرفق أمام الناس هذا شيء يحلي صاحبه، والعنف والشدة أمام الناس شيء يشين صاحبه، وكذلك الأمر عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فالرفق زين لصاحبه، والعنف والشدة والخرق شين لصاحبه. ولذلك الإنسان الذي في جاهليته كان حليماً رقيقاً طيباً كذلك في إسلامه يكون على ذلك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)، فالرفق خلق وسجية في الإنسان، فإذا كان أصله طيباً وأصله رفيقاً فكذلك بعد دخوله في دين الله عز وجل يكون على هذه الصورة، فيزداد خيراً على ما كان في نفسه من الخير. فإذا كان يوم القيامة كان هذا الإنسان الرفيق الحسن الخلق بجوار النبي صلى الله عليه وسلم كما قدمنا من قبل. والإنسان الذي فيه كبر، والذي فيه عنف، والذي فيه شدة، والذي فيه حماقة وخرق ودائماً هو مندفع ومتهور إذا كان قبل الإسلام على ذلك، فإنه إذا أسلم يكون كذلك أيضاً فيه صفة الاندفاع، فيحتاج إلى تغيير هذه الصفة التي في نفسه من الاندفاع والتهور والخرق والاستكبار على الخلق.

الأسباب المعينة على الرفق

الأسباب المعينة على الرفق والأشياء التي تعينه على ذلك: الخوف من الله سبحانه وتعالى، ومعرفة أن الله يراقبه، وأن الله يحاسبه، وأنه بخرقه وبعنفه وبشدته يبعد عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ففي حديث أبي ثعلبة الخشني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقاً: الثرثارون والمتفيهقون والمتشدقون). والإنسان سيئ الخلق فيه استكبار، ومن أفحش أخلاق الإنسان الكبر، بأن يكون مغروراً متكبراً. وكذلك الثرثرة وكثرة الكلام، فيريد أن يتكلم وحده وغيره لا يتكلم، ولا يستمع لأحد أبداً، إنما هو دائماً يتكلم سواء في الخير أو في الشر أو في أي شيء، فهو يريد أن يتصدر القوم. والثرثارون: هم كثيروا الكلام، والمتكلفون فيه، والمتفيهقون: كلمة (المتفيهق) كأنها مأخوذة من الفهق، والفهق: امتلاء الفم بالكلام، فكأن المتكلم متشدق بذلك، يعني: أنه يريد أن يري الناس أنه إنسان بليغ، وأنه يعرف أن يتكلم، ويقول الذي لا يقال، والذي لا يعرف أحد أن يقوله. وكذلك الأصل: التفقه، وفقه بمعنى: فهم، ومنه متفقه، وإنسان يتعلم الفقه وإنسان متفيقه يعني: طالب صغير يطلب الفقه. فالمتفيهق إذا كان طالباً صغيراً من طلبة العلم فهو على خير، لكن إذا كان مغروراً شديداً فهو متفيهق، يعني: أنه كثير الكلام، يريد أن يتكلم وهو جاهل قليل العلم. فهنا إذا أمر الإنسان بالمعروف ونهى عن المنكر إذا كان على علم فإن يكون حليماً ويكون صبوراً، وإذا كان جاهلاً فإن يخاف من الذي أمامه ألا يحرجه بسؤاله عن حجته، فيداري جهله بعنفه وبشدته وبرفع صوته وبصخبه. إذاً: الإنسان المؤمن لا يكون على هذه الصفات أبداً، فالمؤمن رفيق، والله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.

شرح حديث: (إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق)

شرح حديث: (إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق) في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق). فالإنسان الأخرق هو الذي فيه حماقة، وفيه تهور، وفيه اندفاع، وفيه طيش، وفيه عنف، فالإنسان يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، يعني: أن من علامات محبة الله عز وجل للعبد أنه يكون رفيقاً، وفيه تؤدة وطمأنينة، وفيه يسر، وكذلك العكس: فالإنسان الذي فيه نفور وشغب هذه علامة على بعده عن الخير. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير) يعني: أن من علامات الخير أن يتربى أهل البيت على الرفق، ويكون كل أهل البيت فيهم هذه الصفة، ورب البيت هو الذي يؤثر عليهم بذلك، فإن كان رب البيت طائشاً أخرق أحمق فتكون صفة أهل البيت كذلك إلا من رحم الله عز وجل، فإذا كان كبير البيت أخرق طائشاً فإن بقية أهل البيت يقلدونه في هذا الشيء. كذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يحب الرفق ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف)، وهذا الحديث رواه الطبراني من حديث أبي أمامة، وفيه: (إن الله عز وجل يحب الرفق ويرضاه)، فالرفيق يحبه الله عز وجل، والإنسان الرفيق حسن الخلق يكون بجوار النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، والإنسان الرفيق يعينه الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث هنا قال: (يعين عليه ما لا يعين على العنف). فإذا أردت أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر بطريقة فيها لطف وفيها رفق، فإن الله يعينك عليه أكثر من أن تكون الطريقة فيها عنف وشدة، وكأن العنيف اعتمد على نفسه، وكأنه يقول: أنا سأغير، وأما الرفيق فاعتمد على ربه سبحانه، فاستحق الرفيق أن يعان من عند الله عز وجل، وأما العنيف فوكله الله عز وجل إلى نفسه. وفي حديث السيدة عائشة رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! ارفقي؛ فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق). فحق الرفيق أن يعان من عند الله عز وجل، وأما العنيف فوكله الله عز وجل إلى نفسه.

شرح حديث: (أن أعرابيا بال في المسجد فقام الناس إليه)

شرح حديث: (أن أعرابياً بال في المسجد فقام الناس إليه) وفي حديث أبي هريرة في صحيح البخاري: (أن أعرابياً بال في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه) فهنا جاء أعرابي جاهل ودخل المسجد، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم واسع كبير ليس فيه سجاد ولا حصير ولا شيء، بل الأرض تراب وحصى، فالرجل نظر الأرض لم ير شيئاً، فالشارع تراب والمسجد تراب، فدخل وقعد يتبول في المسجد، فرآه الصحابة، وأي أحد ينظر إلى هذا الإنسان سينكر عليه ويمنعه، فزجره الصحابة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم أمرهم أن يدعوه، فهو قد بدأ يبول في المسجد، والأرض قد تنجست، فإذا قاموا إليه فسيقطعون عنه بوله، ولعله بقطع البول يحصل له شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه بولته) يعني: لا تحبسوا عليه البول فيحصل له شيء، فرحمة عظيمة منه صلوات الله وسلامه عليه، قال: (لا تزرموه بولته، وقال: أريقوا على بوله سجلاً أو ذنوباً من ماء) يعني: هو قد تبول فصبوا على البول سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، ثم قال: (فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). وهنا فرق بين إنسان يريد أن يتبول فيمنع، وبين إنسان قد شرع في التبول، فهذا الإنسان تركه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكمل بوله، ولم يحبس عليه بولته؛ حتى لا يمرض أو يحصل له شيء. وفي هذا الحديث بيان حسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم مع الخلق، قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].

شرح حديث: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)

شرح حديث: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا). فالتيسير من دين الله سبحانه وتعالى، والتيسير يكون بإقامة دين الله سبحانه، لهذا لا يأتي إنسان ويقول: أريد أن أصلي ثلاث صلوات في اليوم أو صلاتين، فهو ليس من التيسير، بل هذا بعد عن دين الله، وتشريع للخلق بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى. ولكن التيسير يكون بالدين، فيسر بدين الله، والدين فيه رخصة، فالإنسان ييسر له بهذه الرخصة كقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]. فالإنسان إذا كان سيسافر ويريد أن يفطر فلا يقال له: اتق الله، اتق الله وصم؛ لأن الله قد رخص له، فيجوز للمسافر أنه يفطر، ويجوز للمريض أنه يفطر بنص القرآن العظيم، فإذا جاء إنسان وتشدد وأرغم المريض أنه يصوم فإنه قد يزداد عليه المرض، وهذا من التعسير على الخلق. فالتيسير يكون بدين سبحانه وتعالى، والرخص التي شرعها الله سبحانه تؤخذ في مواطنها، وأما إنسان ييسر بإلغاء الدين فلا، فإنه لا يحل لمسلم إن يلغي شيئاً شرعه ربنا سبحانه وتعالى. قال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا). يعني: اذكر ما فيه بشرى للناس، وما فيها ذكر دخول الجنة للناس، ولا تجزم على إنسان أنه من أهل النار، ولا تجزم لإنسان أنه من أهل الجنة. فلا تقل لأحد: أنت في النار، فإنه لا علم لك بذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). فالإنسان لا يدري عن حال نفسه فضلاً عن أن يدري عن حال غيره، فلا نجزم على أحد أن هذا في النار أو هذا في الجنة. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: هلك الناس، فهو أهلكهم)، وكأن من علامات المغرور أن يقول: كل الناس ضيعوا، وكل الناس في النار، فأنت ترى مجموعة من الناس ولا ترى كل الناس، ولا حضرت كل الناس، ولا عرفت كيف ستكون نهايتهم، لذلك لا يجوز لإنسان أن يقول: كل الناس هلكوا وسيدخلون النار، ولكن الإنسان يدعو لغيره برحمة رب العالمين، وأن يهديهم الله سبحانه تبارك وتعالى، وليس معنى ذلك أنه يرى المنكر ويتركه، ولكن يرى المنكر فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليكن سبيله إليه التغيير برفق وليس بعنف. وقوله: (بشروا ولا تنفروا)، فالتبشير فيه خير، وقد تقبل بالإنسان من أبواب الرجاء على ربه سبحانه أكثر ما تقبل به من أبواب التشديد، ويمكن أن إنساناً يقول له: إذا عملت كذا فسوف تدخل النار، فبعض الجهلة يقول: نحن داخلون النار داخلون! بعض الناس يقول ذلك فيستهين ويكفر والعياذ بالله. فالإنسان الذي يستهين بالنار قد وقع في الكفر والعياذ بالله، والذي يستهزئ بالنار وقع في الكفر، ولكن الإنسان الذي يخاف من النار، ويعترف بذنوبه ويقر بها فهذا أقرب إلى رحمة رب العالمين سبحانه. فمن التنفير أنه ييئس الناس من رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن الإنسان المسلم يبشر، وكما يذكر الأشياء التي فيها الترهيب والتخويف يذكر الأشياء التي فيها الترغيب والتبشير؛ لعل الله عز وجل أن يهدي العباد إلى دينه سبحانه؛ ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا هداة مهتدين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في طلاقة الوجه وطيب الكلام

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في طلاقة الوجه وطيب الكلام لقد سعى الإسلام بشتى الوسائل والطرق إلى تقوية أواصر المحبة والألفة بين المسلمين، وشرع لذلك طرقاً وأساليب وإن كانت يسيرة إلا أن لها أثراً بالغاً في النفوس، ومنها: طلاقة الوجه، وطيب الكلام، وحسن المنطق، وإفشاء السلام.

أحاديث واردة في الترغيب في طلاقة الوجه وطيب الكلام

أحاديث واردة في الترغيب في طلاقة الوجه وطيب الكلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في طلاقة الوجه وطيب الكلام وغير ذلك. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، رواه مسلم. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك)، رواه أحمد والترمذي. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)، رواه الترمذي وحسنه]. إن الشريعة العظيمة تحث وتدعو المسلم إلى أن يفعل الخير أكثره وأقله ما استطاع، ولا يحتقر شيئاً من الخير يصنعه فكل خير يثاب عليه، وما دام الثواب موجوداً فينبغي ألا يستقل فعل شيء من أمور الخير.

شرح حديث أبي ذر: (لا تحقرن من المعروف شيئا)

شرح حديث أبي ذر: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) من الأحاديث الذي جاءت في ذلك حديث أبي ذر في صحيح مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق). والحديث الآخر: (كل معروف صدقة) وطالما أن كل معروف صدقة فإنك عليه مأجور، وينبغي ألا تستقل شيئاً من المعروف فتتركه، فأقل المعروف تؤجر عليه حتى الإنسان الذي يتصدق بشق تمرة له فيه أجر وثواب، ويقي وجهه من النار بشق تمرة يتصدق بها، ومن أقل الأشياء قوله: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق). وفي الحديث الآخر يوضحه: قال: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، فيلقى المسلم أخاه المسلم فيتبسم في وجهه، وله فيها صدقة. وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة) يعني: تكسب بذلك صدقة وأجر عند الله سبحانه وتعالى. ومن الصدقات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال: (وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر لك صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة) أي إذا وجدت رجلاً ضائعاً في مكان ما فتدله أن الطريق من هنا، فلك صدقة في ذلك. (وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة). قال: (وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)، فإذا كان معك دلو فيه ماء وصاحبك محتاج للماء وأفرغت قليلاً من الماء في دلوه فلك أيضاً صدقة بذلك. وفي حديث أبي جري الهجيمي عند أبي داود والترمذي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئاً ينفعنا الله به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي). فإذا كان إنسان معه دلو فيه ماء وآخر محتاج للماء ليسقي البهيمة التي عنده فيعطيه قليلاً من الماء كي يسقي بهيمته، فهذا يعتبر شيئاً قليلاً، ولكنه عند الله عز وجل كثير، ولا يُحتقر المعروف أبداً. قال: (ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط) أي: عندما تكلم إنساناً تكون صاحب وجه طليق، وأن تعطي له الفرصة بأن يأخذ ويعطي معك في الكلام، وعندما تكلم أخاك وأنت مبتسم فإن لك الأجر أكثر من أن تكلمه وأنت غير مبتسم، فتؤجر لحسن الكلام وطلاقة الوجه. ثم نصحه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إياك وإسبال الإزار) فعندما تلبس الإزار سواء كان قميصاً أو بنطلوناً فلا يكون مسبلاً، والإسبال هو: ما جاوز الكعبين من الإزار فإذا مشى جره في الأرض، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ووضح سبب النهي فقال: (فإنه من المخيلة) أي: من العجب بالنفس والغرور، وهذا لا يحبه الله، وجاء في الحديث الآخر: (لا ينظر إلى صلاة مسبل)، لا ينظر الله إلى إنسان يقوم في الصلاة وإزاره نازل إلى الأرض وجاوز الكعبين، فهذا لا ينظر الله إلى صلاته. وجاء في الحديث الآخر: (ما زاد عن الكعبين فهو في النار) هذا بالنسبة للرجال، وأما النساء فتستر المرأة قدميها ولو وصل ثوبها إلى الأرض. قال: (وإن امرؤ شتمك بما لا يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه؛ فإن أجره لك ووباله على من قاله). يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خلقاً عظيماً من مكارم الأخلاق وهو: أن الإنسان لعله يغيظه إنسان ويعيره بشيء فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن امرؤ عيرك بما لا يعلمه فيك فلا تعيره بما تعلمه فيه) فقد يأتي إنسان ويشتمك ويتطاول عليك وقد يذكر أشياء لا وجود لها أصلاً، وهو إنسان تعلم أنه ناقص وأن فيه الكثير من النقائص فلا تذكر عليه هذه الأشياء التي تعلمها؛ ليصيبه الإثم لوحده، ولكيلا تدخل معه في هذا الباب القبيح. وجاء في الحديث الآخر: (أنه افترى عليك واختلق شيئاً ليس فيك) فلا ترد عليه حتى يكون الوبال عليه لوحده، ولا تدخل أنت في ذلك ولكن يكون لك الأجر. قال: (فإن أجره لك ووباله على من قاله).

شرح حديث: (موجب الجنة إطعام الطعام)

شرح حديث: (موجب الجنة إطعام الطعام) من الأحاديث التي جاءت: حديث المقدام بن شريح عن أبيه عن جده قال: (قلت: يا رسول الله! حدثني بشيء يوجب لي الجنة؟ فقال: موجب الجنة: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وحسن الكلام)، فقلب كل مؤمن لا بد وأن تكون أصول الإيمان موجودة فيه، ولكن سيزيد إيمان إنسان عن إنسان، فقد يوجد إنسان من المسلمين ولكنه عاص ويستحق النار، وأما هذا الإنسان الذي يطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحسن الكلام فكأنه يستحق أن يدخل الجنة، وهذا الأشياء لن تكون من كافر مثلاً، ولا من إنسان ليس محصلاً لأصول الإيمان، ولكن من يفعل ذلك هو إنسان مؤمن يزيد على غيره من الناس بهذه الأشياء: أنه يطعم الطعام، أي: يبذله ويتصدق به على المحتاجين. قال: (وإفشاء السلام) وفرق بين أن يسلم الإنسان، وأن يفشي السلام، فإذا سلم ربما سلم مرة أو مرتين، ولعله لا يسلم على بعض الأشخاص غير المعروفين أو الذين لا يردون عليه، ولكن الإنسان الذي يفشي السلام فهو لا يهمه من يسلم عليه سواء كان معروفاً أو غير معروف، سواء رد أو لم يرد، فقد يمر على ناس فيردون السلام، وقد يمر على ناس فلا يردون السلام فلا يهتم بهؤلاء فهو يفشي السلام؛ لأن السلام اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، وأراد الله عز وجل أن يفشى في الأرض ليتميز المسلمون بهذا التسليم العظيم، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا) فعلامة الإيمان والذي يقوي الإيمان في قلوب المؤمنين: المحبة بين المؤمن وأخيه التي تدفعهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدفعهم للتمسك بخصال الإيمان، وتدفعهم للتدافع على طاعة الله سبحانه وتعالى، والابتعاد عن معصية الله. فيقول عليه الصلاة والسلام: (ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) يعني: أكثروا من التسليم، فيسلم الرجل على أخيه إذا لقيه، ويسلم على أخيه إذا غاب عنه ثم ظهر مرة أخرى، وإذا جلس في مجلس فيبدأ بالسلام، وإذا قام لينصرف سلم قبل أن ينصرف، لكن الأمر صار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد) إن هذا الداء الذي يزيل أمماً من على الأرض، فتستحق الفناء بذلك، هو أن يحسد بعضهم بعضاً، وأن يبغض بعضهم بعضاً، وإذا كانوا على ذلك سلط الله بعضهم على بعض، ثم سلط الله عز وجل عليهم أعداءهم. قال صلى الله عليه وسلم: (البغضاء هي الحالقة ليس حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين) فتحلق الدين بمعنى: أن الإنسان إذا كره إنساناً فإنه يظل يترصد له، ويتنافر معه، ويشد معه في الكلام، ويبغض بعضهم فيضيعوا أنفسهم. ثم ذكر في هذا الحديث قال: (ألا أنبئكم بما يثبت لكم ذلك؟) يعني: يثبت المحبة في القلوب، قال: (أفشوا السلام بينكم). وقال في حديث ابن مسعود: (السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه في الأرض فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مر بقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام). فإذا مر المسلم على قوم فليسلم عليهم، وهو أعلا بذلك منهم درجة؛ لأنه يذكرهم باسم الله عز وجل السلام، (فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم) وهم الملائكة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم). لذلك يجب على المسلم أن يلقي السلام ويفشيه ويكثر من ذلك كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون المحبة حادثة بين المؤمنين. نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يعيننا على العلم والعمل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في إفشاء السلام [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في إفشاء السلام [1] على المسلم أن يحرص على كل عمل أو قول يؤدي إلى توحيد صف الأمة، وظهور المحبة والرحمة بين أفرادها، لا سيما إذا كان هذا العمل سبباً من أسباب المحبة بين الناس، والمحبة هي سبب من أسباب الإيمان الذي لن يدخل أحد الجنة إلا به، ومن هذه الأعمال التي قد لا يأبه لها كثير من الناس إفشاء السلام، فينبغي على المسلم أن يلقي السلام على كل من لقي سواء أعرفه أم لم يعرفه، حتى تسود المحبة بين الناس.

إفشاء السلام وفضله

إفشاء السلام وفضله

ما ورد من الأحاديث في إفشاء السلام

ما ورد من الأحاديث في إفشاء السلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. روى ابن حبان عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفشوا السلام تسلموا). وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام). وروى الطبراني عن أبي شريح رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أخبرني بشيء يوجب لي الجنة، قال: طيب الكلام، وبذل السلام، وإطعام الطعام). وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس). هذه أحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في باب الترغيب في إفشاء السلام، وقد ذكرنا بعض الأحاديث فيما سبق وكثرة الأحاديث التي تأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم في موضوع واحد تدل على أهمية هذا الموضوع. فقد ورد أكثر من عشرين حديثاً في الأمر بالتسليم ورد السلام وإفشائه، وفيها أن المؤمنين إذا تحابوا دخلوا الجنة وأن السلام وسيلة للمحبة بين المسلمين، وهذه الأدلة يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ليحثنا على التسليم، فالمسلم ينبغي ألا يقصر في أمر التسليم حتى يكون من أهل الجنة وحتى تسود المحبة بين المؤمنين. من الأحاديث حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفشوا السلام تسلموا)، وفي رواية أخرى: (أفشوا السلام كي تعلوا)، أي: أنه بإفشاء السلام بين المؤمنين يرفعهم الله عز وجل ويعزهم، وكذلك بإفشاء السلام تكون السلامة بين المؤمنين والمسالمة فيما بينهم، والطمأنينة في أرضهم وديارهم. ومن الأحاديث حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه يقول: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس! أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام). وفي هذا الحديث أسباب لدخول الجنة، وهذا لا يكون إلا إذا حققوا الأصل الأصيل من أصول دخول الجنة وهو الإيمان بالله عز وجل، وتحقيق معنى كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بالعمل الصالح، وهذه الخصال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث وذكر أنها إذا كانت في المؤمنين هذه الخصال فإنهم يستحقون أن يدخلوا الجنة بسلام، فكأن معنى قوله: (تدخلوا الجنة بسلام) أي: بدون أن تنالوا أذى، وبدون أن تمسكم النار. قال: (يا أيها الناس أفشوا السلام)، فإذا اعتاد المسلمون إفشاء السلام فيما بينهم وقعت المحبة بينهم، ففرق بين إنسان تمر عليه ولا تسلم عليه ثم تجده على منكر في يوم من الأيام، فإنك لا تجرؤ على أن تأمره بمعروف أو تنهاه عن منكر، وقد تفعل ذلك ولكنه لا يقبل منك؛ لأنك لم تجعل وسيلة بينك وبينه في الكلام والأخذ والعطاء. فإفشاء السلام بين المسلمين يجعل للمسلم في قلب أخيه المسلم محبة ومودة واحتراماً، فإذا أحب في يوم من الأيام أن يأمره بمعروف، أو ينهاه عن منكر، أو ينصحه بنصيحة، فإنه ينتصح ويسمع له، لكن إذا كان لا يرد السلام بل يمر على الشخص ويدير له ظهره، فإنه إذا أتى في يوم من الأيام ليأمره بمعروف أو ينهاه عن منكر، فلن يقبل أحد منه؛ لأنه ليس بصاحب دعوة ولا خلق مع الناس. وهناك الكثير من العيوب والأخطاء الموجودة في كثير منا، منها: أن البعض لا يرد السلام إلا على من يعرفهم فقط، وأنه قد يسلم ولا يردون عليه لسبب ما، كعدم السماع أو الانشغال بموضوع، فيقع في نفسه شيء عليهم، وهذا خطأ فأنت تسلم من أجل أن تأخذ الثواب من الله عز وجل سواء ردوا أم لم يردوا، فالله عز وجل يأمر ملائكة من ملائكته بأن ترد عليك السلام، فلا تتعالى وتقول: ماداموا لم يردوا علي فلن أرد عليهم، أو تقول: فلان لا يسلم علي فلن أسلم عليه، فإن هذا من التكبر والغرور؛ لأنك تريد أن كل الناس الذين تمر عليهم يردوا عليك السلام ويعطوك الاحترام، فلا تكن من هؤلاء، بل تواضع لله فإن من تواضع لله رفعه الله. وابدأ أنت وتواضع للناس فستجد الناس يتواضعون لك، ابدأ بالسلام على الناس، وهم سيسلمون عليك بعد ذلك، وإن كان ذلك قد يأخذ وقتاً معيناً، فإنك قد تمر على إنسان صاحب أخلاق غير طيبة، ولكن مع كثرة التسليم عليه فإنه يبدأ يستحي وتبدأ أخلاقه بالتحسن. وهكذا إن كان يعمل منكراً من المنكرات، فإنه يمكن أن يعمله عند مرورك عليه أول مرة، ولكنه في المرة الثانية سيستحي منك ولا يفعل هذا الشيء، وبهذا تكون قد دعوت إلى الله بأخلاقك وردك للسلام، وتكون قد ساهمت في تكثير أعداد المسلمين المصلين المتحابين في الله عز وجل، الفاعلين المعروف الآمرين به، المنتهين عن المنكر الناهين عنه. وهذا يكون بإفشاء السلام، وانظر إلى تعبير الحديث حيث يقول عليه الصلاة والسلام: (أفشوا السلام بينكم)، أفشوا يعني: أجعلوه ذائعاً منتشراً فيما بينكم، وهذه هي التي عرفها أعداء الإسلام، أن كثرة السلام بين المسلمين تزيد من ترابطهم ومحبتهم ولذلك أتوا بالنكت والاستهزاء في هذا الموضوع، فقالوا: كثر السلام يقل المعرفة. وبقي الحمقى والمغفلون من المسلمين يأخذون مثل هذه الكلمة ويقولونها، يسمعك تسلم عليه مرة واثنين وثلاث، فيقول لك: كثر السلام يقل المعرفة، بكل سذاجة واستهزاء وبعد عن دين ربنا سبحانه وتعالى، ولو أنهم عقلوا وفهموا أن السلام يزيد المحبة بين المؤمنين ويقوي الروابط فيما بينهم لقبلوا النصح. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه)، وذلك من كثرة ما يأمر بإفشاء السلام عليه الصلاة والسلام، فلو جاء إنسان وبدأ يتكلم ويقول: هات كذا، أعطني كذا، من غير أن يبدأ بالسلام، فهذا لا يستاهل أن ترد عليه؛ لأن الأصل أن يبدأ بالسلام، فإذا سلم الإنسان أصبحت بينه هو ومن يسلم عليه مسالمة وموادعة، وأصبحت هناك طمأنينة ومحبة وأمان فيما بينهم فيقبل بعضهم من بعض. قال في الحديث: (أفشوا السلام وأطعموا الطعام)، أي: تطعم الضيوف، وتطعم الفقراء والمساكين والمحتاجين، وتطعم في رمضان وفي غير رمضان، ولم يحدد متى يكون الإطعام ولمن يكون، فلعل هذه دعوة ليكون خلق الإنسان البذل والإطعام وهو أسهل بكثير من أخراج النقود؛ لأن الطعام لابد وأن يوجد في كل بيت، فإذا أكثر الإنسان من إطعام الطعام فإنه سوف يتعود على كرم النفس وسماحة الطبع، وتبقى هذه الأمور سجية فيه. انظروا إلى سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين أتاه ثلاثة من الضيوف وحقيقتهم أنهم ملائكة، عندما جاءوه بالبشرى بأنهم سيهلكون قوم لوط، وظنهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ضيوفاً من البشر، فقام وذبح لهم عجلاً، قال تعالى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] عجل لثلاثة ضيوف! مع أنه كان يكفيهم كيلو لحم، ولكنه ذبح لهم عجلاً كاملاً، وهذا كرماً من إبراهيم، وربنا سبحانه وتعالى سجل له كرمه ذلك في القرآن: {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] عليه الصلاة والسلام. ثم قال لهم: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91]، وهذا بيان آخر ذكره لنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى في القرآن الكريم وهو كيفية الأدب في إطعام الطعام، ففرق بين إنسان يضع الطعام لضيفه ويقول له: كل، وبين آخر يقول: تفضل، ألا تأكل، فهناك فرق في إلقاء الكلمة، وهناك كلمة تجعل الإنسان يأكل وهو منشرح الصدر، وهناك كلمة تجعل الإنسان قد يمتنع عن الأكل، ويقول: لست جائعاً، أو قد أكلت، أو نحو ذلك. فهذا الأدب ذكره لنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى في القرآن الكريم عن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كيف أنه دعا ضيوفه، وما نوع الطعام الذي دعاهم إليه، وكيف قدم لهم هذا الطعام ليأكلوا معه عليه الصلاة والسلام. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (وصلوا بالليل والناس نيام)، أي: صلاة التطوع، بعد أداء الصلوات المفروضة، لأن الأصل هو أداء الفرائض ثم يعمل الإنسان النوافل، (وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام). ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في السلام حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس). فرد السلام فرض وإلقاء السلام سنة، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فإذا حياك إنسان فقال: السلام عليك، فرد عليه بقولك: وعليك السلام ورحمة الله، وإن زدت: وبركاته كان خيراً، وإذا قال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فرد عليه بمثلها. من حق المسلم على أخيه المسلم هؤلاء الخمس، بل قد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى ستة حقوق، وقد قال صلى الله عليه وسلم ذاكراً هذه الحقوق الستة: (إذا لقيته فسلم عليه)، من حقوق المسلم عليك أن تسلم عليه عندما تلقاه. (وإذا دعاك فأجبه) أي: إذا دعاك لطعام وكانت ظروفك تسمح لك بالذهاب فأجبه فإن له حقاً عليك، (وإذا استنصحك فانصح له) أي: طلب منك النصيحة في شيء ما، فكما تنصح لنفسك ولأهلك انصح لأخيك المسلم، (وإذا عطس فحم

فضل من يبدأ بالسلام

فضل من يبدأ بالسلام أبو بكر أفضل منهم جميعاً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، ولكنه هو الذي يبدأ بالسلام، قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: أما ترى ما يصيب القوم عليك من الفضل، يعني: لو أنهم بدءوك بالسلام لكان لهم الفضل عليك، فلا تجعل أحداً يسبقك بالسلام ما استطعت. قال: فكنا إذا طلع الرجل من بعيد بادرناه بالسلام قبل أن يسلم علينا، فقد عرفوا الفضل في البدء بالسلام، فكانوا سباقين إلى ذلك. ولذلك جاء في حديث آخر يبين لنا هذا الفضل، وهو حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام)، فكل مسلم يحب الله ويحب التقرب إلى الله، ولكن أولى الناس بالله قال: (من بدأهم بالسلام). وفي الحديث قيل: يا رسول الله! (الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام؟ قال: أولاهما بالله تعالى)، وجاء في حديث آخر: (يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والماشيان أيهما بدأ فهو أفضل). (يسلم الراكب على الماشي)، فإنسان راكب على دابة أو على سيارة قد يدخله شيء من الغرور أنه أعلى من الثاني الذي يمشي على رجليه، فعلمك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك أنت الذي تبدأ بالسلام من أجل ألا تشعر بالغرور والتعالي على الناس. ثم قال: (والماشي على القاعد)، فالذي يمشي ويمر على الناس فإنه ينبغي أن يسلم على القاعد في مكانه، قال: (والماشيان) أي: كلاهما يمشيان (أيهما بدأ فهو أفضل) يعني: الذي يبدأ هو أفضل من الآخر.

فضل رد السلام

فضل رد السلام نتعلم من جملة تلك الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم ينبغي له أن يفشي السلام ويكثر التسليم على المسلمين، ففي ذلك الأجر الكثير، فإذا قال: السلام عليك، فله عشر حسنات، وإذا زاد: ورحمة الله زادت له عشر حسنات، وإذا زاد وبركاته زادت له عشر حسنات، فانظر كم تأخذ من الحسنات إذا سلمت على مائة شخص مثلاً وأنت مار في الطريق، فكل تسليمة بثلاثين حسنة، فتعود إلى بيتك ولديك ثلاثة آلاف حسنة، بسبب التسليم على الناس فقط. لذلك كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم يخرج إلى السوق وهو لا يريد أن يشتري شيئاً، وإنما يريد أن يسلم على الناس، مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقد خرج مع شخص فقال له: ما رأيتك اشتريت شيئاً؟ قال: أما رأيتني سلمت على الناس؟ قال: نعم، قال: فلهذا خرجت، وذلك لأنه عرف ما في السلام من الفضل الكثير. فخذوا أمر السلام بجد وليس بهزل؛ لأن الدين إذا دخله المزاح ضاع وضاع الثواب، فإذا سلمت على أخيك فاستشعر الثواب، واعلم أنك إذا مددت يدك فصافحت أخاك المسلم تساقطت السيئات عنكما. فعلى الإنسان المسلم أن يلقي السلام محتسباً الأجر من الله عز وجل، سواء رد عليه الناس أو لم يردوا، وعليه أن يلقي السلام على من هو في استعداد للرد عليه، فلا يشغل إنساناً عن شيء مهم يقوم به، فمثلاً إذا أتى حلقة فلا ينبغي أن يسلم على كل من في الحلقة ليقوموا كلهم بالرد عليه، وهكذا يأتي الثاني والثالث فيصبح الوقت كله رد للسلام، ولكن إذا انتهيت إلى المجلس فرد السلام على أقرب الناس إليك ثم اجلس، فإذا قمت من المجلس سلمت على أقرب من هم إليك وانصرفت، ولا تزعج أحداً بذلك. وإذا مررت على من يقرأ القرآن أو يحفظ القرآن وهو في مكان يمر عليه فيه ناس كثير، فعلى ذلك لا داعي أن تشغله عن حفظه وعن مراجعته بالسلام عليه، لكن إن وجدت من هو في حال يسمح له بالرد ولا يشغله ذلك عن شيء فألق السلام، وأكثر من ذلك، وأفشه بين الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في إفشاء السلام [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في إفشاء السلام [2] لقد رغّب الإسلام في إفشاء السلام لما فيه من المودة والألفة، وتقوية رباط الأخوة، وأوجب ردّ السلام، وبين لنا فضل السلام وما فيه من مضاعفة الحسنات، وأبخل الناس من بخل عن رد السلام، ورد السلام من التواضع، بل هو سبب من أسباب دخول الجنة. ولا يجوز القيام عند السلام تعظيماً إلا لله عز وجل.

إفشاء السلام

إفشاء السلام

شرح حديث: (أن رجلا مر على رسول الله وهو في مجلسه فقال: سلام عليكم، فقال: عشر حسنات)

شرح حديث: (أن رجلاً مرّ على رسول الله وهو في مجلسه فقال: سلام عليكم، فقال: عشر حسنات) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. [روى ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه فقال: سلام عليكم، فقال: عشر حسنات، ثم مر آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله، فقال: عشرون حسنة، ثمر مر آخر فقال: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: ثلاثون حسنة، فقام رجل من المجلس ولم يسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أوشك ما نسي صاحبكم، إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، وإن قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة). وروى البخاري عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة)، قال حسان: فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام وتشميت العاطس وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة]. هذان الحديثان وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها الإمام المنذري رحمه الله في الترغيب في إفشاء السلام، فحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه فقال: سلام عليكم، فقال: عشر حسنات)، يعني: تؤجر في قولك السلام عليكم عشر حسنات، (ثم مر آخر وقال: سلام عليكم ورحمة الله، فقال: عشرون حسنة، ثم مر الثالث فقال: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثون حسنة) أي: أن الإنسان إذا سلم فاختصر وقال: السلام عليكم، أخذ عشر حسنات، فإذا زاد: ورحمة الله، أخذ عشرين، فإذا زاد: وبركاته، أخذ ثلاثين حسنة. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد حديث فيه: (حق على من قام على جماعة أن يسلم عليهم، وحق على من قام من مجلس أن يسلم)، ففي الحديث جعل السلام على الناس من الحقوق لهم سواء عند الدخول عليهم أو عند الانصراف عنهم. ولما قال ذلك صلى الله عليه وسلم قام رجل ولم يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أوشك ما نسي صاحبكم)، وفي الحديث الذي في مسند أحمد قال: (ما أسرع ما نسي). فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بفضل رد السلام، وأنك إذا جئت إلى مجلس فحق عليك أن تسلم، وإذا قمت من المجلس فحق عليك أن تسلم، وأخبرهم بذلك منذ لحظات قليلة في نفس المجلس، فالرجل جلس فلما قام نسي ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم متعجباً: (ما أسرع ما نسي)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، وإن قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة). فالإنسان إذا دخل على قوم ينبغي عليه أن يلقي عليهم السلام ويحييهم، وهو بذلك يدعو لهم بالتحية، ويدعو لهم بالأمن والطمأنينة، يعني: إني أجلس معكم في أمن وأمان، فهذا يطمئن له المجلس بعكس الذي يأتي ويجلس من غير أن يرد السلام، فإنهم سوف يتوجسون منه خيفة: لماذا جاء؟ وماذا يريد؟ وما هو الذي أقعده من غير أن يسلم؟ فالتسليم تحية بين المسلمين، وطمأنينة فيما بينهم.

شرح حديث: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز)

شرح حديث: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز) ومن الأحاديث في ذلك حديث ابن عمرو الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها أو تصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة)، فالأعمال الحسنة التي يعملها الإنسان لابد أن يكون الذي يفعلها مصدقاً بموعودها؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى وعد على فعل الحسنات الجنة، فيفعل العبد ذلك وهو مستيقن من كلام رب العالمين سبحانه، ويفعل ذلك وهو يرجو الثواب الذي ذكر في الحديث. ومنيحة العنز هي: أن يعطي المسلم أخاه المسلم عنزته ليحلبها ويستفيد من لبنها ثم يعيدها له بعد ذلك، فهذه هي المنيحة. فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك أربعين خصلة أعلاهن منيحة العنز، فبدأ الصحابة يعدون الحسنات التي هي على أعمال بسيطة وسهلة بحيث تكون هذه الأعمال تحت منيحة العنز في الأجر، وذلك من أجل أن يعملوا بها ليحصلوا على الأجر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر راوي الحديث أنهم ما استطاعوا أن يبلغوا خمس عشرة خصلة، فمما ذكروه: تشميت العاطس، يعني: أنه من الأعمال السهلة التي تدخل بها الجنة، فإذا عطس الإنسان وقال: الحمد لله، فادع الله له وقل: يرحمك الله، ولاحظ أن الحديث قال فيه صلى الله عليه وسلم: (ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها أو تصديق موعودها) أي: تقول ذلك لترجو الثواب من الله سبحانه وتعالى، ولا تقول ذلك مزاحاً أو استهزاء. فالذي يأخذ الثواب هو الذي يرجو هذا الثواب، ويكون مصدقاً بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فالأمر جد وليس مزاحاً، فالذي يمزح في هذه الأشياء يضيع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويستخف بها، ويفتح باب لأهل الاستهزاء بأن يستهزءوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ولعل الذي يفعل ذلك يسن سنة سيئة يتبعه الناس عليها، ويكون (عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى قيام الساعة)، ولا يبعد أن يكفر هذا الإنسان الذي يستهزئ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النحو، فدائماً الوسائل الشرعية لابد أن ترجو فيها الثواب، واحذر من إدخال المزاح فيها. فلا تسليم في مزاح، ولا تشميت للعاطس في مزاح، بل أولى لك أن تسكت، وذلك خير من أنك تقول كلاماً يؤخذ على أنه استهزاء ويضحك الناس: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من غضب الله ما يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً). فهنا يذكر لنا الأشياء التي هي دون منيحة العنز مثل: تشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق ونحو ذلك من الأشياء، وفي هذا إشارة إلى أن الأعمال مهما كانت صغيرة في نظر الإنسان فيجب أن يعملها وهو يرجو الثواب من الله، ويكون مصدقاً بموعود الله؛ حتى ينال الأجر على تلك الأعمال.

شرح حديث: (وأبخل الناس من بخل بالسلام)

شرح حديث: (وأبخل الناس من بخل بالسلام) من الأحاديث التي جاءت في الباب حديث رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز في الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام). العجز: هو عدم القدرة على فعل الشيء، فالإنسان العاجز هو الإنسان الضعيف، فأضعف الناس وأعجز الناس عن فعل الخير هو الذي يعجز عن الدعاء؛ لأنه يستكثر أن يرفع يديه ويقول: يا رب. (أبخل الناس من بخل بالسلام)، وانظروا المثل الذي ذكره لنا النبي صلى الله عليه وسلم في القصة التي حصلت معه، يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لفلان في حائطي عذقاً، وإنه قد آذاني وشق علي مكان عذقه، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بعني عذقك الذي في حائط فلان) أي: كان أحد الصحابة له بستان، وكان لصاحبه نخلة داخلة في هذا البستان، وكان صاحب البستان متأذي من هذه النخلة، فأراد من صاحبها إما أن يبيعها له وإما أن يقطعها ويأخذها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب النخلة: (بني عذقك الذي في حائط فلان)، فالرجل قال: لا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أخذ من أحد شيئاً فسرعان ما يعطيه أضعافاً على هذا الشيء، فإنه كان يأخذ ويكافئ صلى الله عليه وسلم، فإن لم يعط في الدنيا كان له الأجر والثواب عند الله عز وجل، وهذا هو المقصود الأسمى لكل مؤمن، فأبى الرجل، فقال صلى الله عليه وسلم: (فبعنيه بعذق في الجنة)، يعني: بعني النخلة هذه بعذق مثله في الجنة، فقال الرجل: لا، والنبي صلى الله عليه وسلم يضمن له ذلك، والرجل يقول: لا، فهذا رجل عجيب جداً وبخيل جداً. فلما قال الرجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت الذي هو أبخل منك) يعني: أنت أبخل واحد رأيته، ومع ذلك يوجد من هو أبخل منك: (ما رأيت الذي هو أبخل منك إلا الذي يبخل بالسلام). وفي حديث آخر لـ عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسرق الناس الذي يسرق صلاته، قيل: يا رسول الله وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس من بخل بالسلام). فالسرقة حرمها الله سبحانه وتعالى، فكونك تسرق مال الغير هذه مصيبة، ولكن أشد منها أن تسرق من صلاتك؛ لأنه عندما يسرق مال الغير يظن أنه سينتفع بهذا المال الذي يأخذه، وأما الذي يسرق من صلاته فأي نفع له في هذه السرقة، فقد صلى وأتعب نفسه ثم أخذت الصلاة ورُجمت في وجهه ولم تُقبل منه، فهذا أسرق الناس، فهو قد سرق من صلاته من أجل أن يضيعها ولا تقبل منه وضيع وقته هباء، فلا انتفع بوقته ولا صلى صلاةً تنفعه وتقبل منه، فهذا أسرق الناس، والصحابة رضي الله عنهم تعجبوا كيف أن الشخص يسرق الصلاة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا يتم ركوعها ولا سجودها) يعني: يركع ولا يطمئن في الركوع، ويسجد ولا يطمئن في السجود، فهذا الذي سماه ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ينقر صلاته نقراً. وإنك لترى الكثير من الناس يفعلون ذلك، فتجده لا يطمئن في صلاته أبداً، ولا يكاد يقرأ الفاتحة حتى يركع ويرفع ثم يسجد بدون أن يطمئن في صلاته، فهل أصبحت الصلاة لعباً: قيام ثم قعود وهكذا!! فهذه صلاة غير مقبولة، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليها بذلك، فالرجل الذي صلى أمامه هذه الصلاة قال له صلى الله عليه وسلم: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، وإذا لم تصح الصلاة فهي ليست مقبولة عند الله عز وجل.

فضل التواضع وجزاء الكبر

فضل التواضع وجزاء الكبر من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم المسلم التواضع: حديث رواه أبو داود عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فالإنسان المؤمن متواضع يرى نفسه أقل من الناس، ولا يرى على الناس حقاً لنفسه، أو أنه يجب أن يقوم الناس له مثلاً عند مروره بهم، وفمن كانت هذه صفته (فليتبوأ مقعده من النار) أي: فليحضر نفسه للنار. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحب أن أحداً من أصحابه يقوم له، وإن كان هو قد تأتيه ابنته فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها فيقوم لها ويقبلها صلى الله عليه وسلم، ويجلسها بجواره، فهذه محبة البنوة، فلأنها ابنته صلى الله عليه وسلم يفعل لها ذلك، ويأتي إليها فتقوم إليه وتقبله وتجلسه صلوات الله وسلامه عليه، فإن الأب مع ابنه أو الإنسان المحب مع من يحبه يستثنى من حكم هذا الحديث؛ لأن هذا الحديث إنما هو في الكبر والغرور، وذلك بأن يرى الإنسان نفسه أكبر من الناس، ويريد منهم أن يسكتوا إذا تكلم، وأن يقوموا له إذا دخل عليهم، وانظر إلى تعبير الحديث فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب)، فهو لم يطلب من الناس، ولكن يكفي مجرد إرادة ذلك في نفسه، وأن يحب أن يعملوا له ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (فليتبوأ مقعده من النار). فالدين يعلمنا أن نحب الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن يكون المؤمن عزيزاً بما أعزه الله عز وجل به، ذليلاً بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يحب الفخر على الناس ولا أن يرفع مكانه عليهم، ويعلمنا أن الذي يرفع ويضع هو الله عز وجل، فيرفع من يشاء ويضع من يشاء. فإذا تواضع الشخص لله سبحانه علم أنه ليس له حق على أحد، فيعمل العمل لا يعمله إلا لله، ولا ينتظر ثوابه من الناس، فإنه إذا علم الناس مثلاً وانتظر أن يحمدوه على ذلك ويثنوا عليه، فإنه بذلك قد ضيع علمه وعمله، وأخذ من الأجر ما حصله من الناس. ولذلك كان أهل العلم وأهل الصلاح لا يحبون أن يمدحهم أحد في ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، لأن المداح يجلس يمدحك أنت كذا وأنت كذا حتى يغرك في نفسك، وتحس بعظمة فيها، فتحب أن كل الناس يفعلوا معك مثل هذا. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم المزاحين فاحثوا في وجوههم التراب)، لذلك فالمؤمن لا يغتر بكلام الناس ولا يغر نفسه، ويكون الذي ينصحه أحب إليه من الذي يمدحه، فهو يعمل ويبتغي وجه الله عز وجل بعمله، ويتواضع لله وليس من أجل أن يقول الناس أنه متواضع، ولكن يبتغي الأجر من الله عز وجل على ذلك، فيتعلم أو يعلم لا ليقال عالم أو قارئ، ولكن يعمل ذلك احتساباً للأجر عند الله سبحانه. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الصدق والإخلاص، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في إنجاز الوعد والأمانة

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في إنجاز الوعد والأمانة إن أمر الأمانة خطير؛ ولهذا أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، ولكن الإنسان لظلمه وجهله حملها، وبما أنه حملها فجيب عليه أن يؤديها كما أمره الله، سواء الأمانة التي بينه وبين الله، أو الأمانة التي بينه وبين الخلق.

الترغيب في إنجاز الوعد والأمانة، والترهيب من ضد ذلك

الترغيب في إنجاز الوعد والأمانة، والترهيب من ضد ذلك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في إنجاز الوعد والأمانة، والترهيب من إخلافه، ومن الخيانة، ومن الغدر، وقتل المعاهد أو ظلمه. عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تقبلوا إلي ستاً أتقبل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا اؤتمن فلا يخن) رواه أبو يعلى. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)، رواه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي]. هذه أحاديث ذكرها الحافظ المنذري في الترغيب في إنجاز الوعد والأمانة، وفيها أن المؤمن إذا وعد وعداً فعليه أن ينجز وينفذ وعده، ولا يترك ما وعد أن يفعله فيتركه. وأيضاً: أنه يؤتمن فيؤدي الأمانة، ولا يخون في أمانته، والأمانة أمانتان: أمانة مع الخالق، وأمانة مع الخلق. فالأمانة مع الله عز وجل هي التي قال فيها: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فالأمانة مع الله هي التكاليف الشرعية. والأمانة مع الخلْق هي: ما يؤتمن عليه من أموال الناس، ومن دماء الناس، ومن أعراض الناس، فما يؤتمن عليه من شيء فيلزمه أن يحافظ عليه، وأن يؤديه ولا يخون فيه.

شرح حديث: (تقبلوا إلي ستا أتقبل لكم بالجنة: وإذا اؤتمن فلا يخن)

شرح حديث: (تقبلوا إليّ ستاً أتقبل لكم بالجنة: وإذا اؤتمن فلا يخن) ومن الأحاديث في ذلك حديث أنس بن مالك وحديث عبادة بن الصامت والمعنى واحد، ولفظ حديث عبادة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة)، ولفظ حديث أنس: (تقبلوا إلي ستاً أتقبل لكم بالجنة) والمعنى: احرصوا على هذه الستة، وكونوا ضامنين لهذه الستة متكفلين بأن تقوموا بها فأنا أتكفل لكم وأضمن لكم الجنة. والستة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي: (اصدقوا إذا حدثتم)، فبدأ بالصدق، وفي رواية أنس: (إذا حدث أحدكم فلا يكذب)، فالصدق منجاة ينجي الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، وقد يصيب الإنسان بسبب صدقه ابتلاء من الابتلاءات، ولكن الله عز وجل في النهاية ينجيه بصدقه، وقد رأينا ما صنع كعب بن مالك وما صنع المنافقون في غزوة تبوك، فـ كعب تخلف بغير عذر، وكان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكاد أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه لن ينفعه إلا الصدق، فصدق، وكان معه اثنان من المؤمنين قد تخلفا عن هذه الغزوة أيضاً، فعاقب النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا، ثم كان في النهاية الفرج من الله عز وجل، فغفر لهم سبحانه وأنزل التوبة عليهم. وأما المنافقون الذين اعتذروا كذباً للنبي صلى الله عليه وسلم فقد فضحهم الله عز وجل بكذبهم، وأنزل فيهم الآيات من سور البراءة يفضحهم بها. فالغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث المؤمن وينصحه ويأمره بأنه إذا حدث فلا يكذب في حديثه. قال: (وأوفوا إذا وعدتم)، وفي رواية أنس: (وإذا وعد فلا يخلف)، فإذا وعدت إنساناً بشيء تصنعه فلا تخلف وعدك إلا لعذر من الأعذار، فصاحب العذر معذور، ولكن لا تعد إنساناً ثم تخلف في موعدك من غير عذر. قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا اؤتمن فلا يخن)، وفي حديث عبادة: (وأداو إذا اؤتمنتم)، فأنتم مؤتمنون على أمانات: على دينكم على صلاتكم على زكاتكم على وضوئكم على طهارتكم على عباداتكم، وأنتم مؤتمنون في معاملتكم مع الناس، فإذا ائتمنك إنسان على شيء فأد إليه هذه الأمانة كما أمرك الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]. ثم ذكر ثلاث خصال فقال: (واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم). قوله: (احفظوا فروجكم) فيحفظ المسلم فرجه إلا عن زوجه أو ملك يمينه. وقوله: (وغضوا أبصاركم)، فالإنسان إما أن ينظر إلى ما أحل الله وإما إلى ما حرم الله، وإذا نظر إلى ما حرم الله اشتهى الحرام، ويصدق ذلك فرجه أو يكذبه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يسد الذريعة للوقوع في الزنا فيقول مؤدباً المؤمنين: (غضوا أبصاركم)، فإذا غضضت بصرك في الدنيا ومنعت نفسك وحرمتها من فتنة أمامها، فالله يعوضك من فضله ومن كرمه لذة إيمان وحلاوة إيمان تجدها في قلبك، فالذي يكف شره عن الناس، ويكف بصره عن أن ينظر إلى شيء حرمه الله عز وجل، يعوضه الله عن هذا الكف بإيمان يجد حلاوته في قلبه. قال صلى الله عليه وسلم: (وكفوا أيديكم)، فكف يدك فلا تمدها إلى حرام، فلا تسرق أموال الناس، ولا تخن، ولا تغدر، ولا تأخذ أموالاً في خلسة، ولا تسلب أموال الناس، فاحذر أن تمد يدك إلى حرام، فلا تمد يدك إلى مال الناس فتسرقه أو تغتصبه، ولا تمد اليد فتمسك بها ما حرم الله، فلا تلمس بها من النساء من حرم الله سبحانه، ولا تمد اليد فتسفك بها دماء أو تضرب بها ظلماً. فقوله: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77]، فتعم الكف عن الحرام بجميع وجوهه.

شرح حديث: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال)

شرح حديث: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال) ومن الأحاديث الذي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الأمانة حديث حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه الذي رواه مسلم وغيره، وفيه يقول: (حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة). فحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمانة، فذكر أن الله عز وجل جعلها في جذر قلوب الرجال، فمن هم هؤلاء الرجال؟ إنهم الرجال الصادقون، الرجال الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وبايعوا على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فنزلت الأمانة في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين دخلوا في الإسلام وهم صادقون، فالله جعل الأمانة في جذر قلوبهم، يعني: في أصل قلوبهم، فهي أمانة ثابتة لا تتزعزع أبداً، ولا تخرج من قلوبهم. قال: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) يعني: نزلت الأحكام الشرعية، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضلهم الله عز وجل، وبارك فيهم وفي أعمالهم وأعمارهم، ولما أسلموا ملأ الله قلوبهم بالأمانة، ثم نزل القرآن فهذب هذه القلوب وهذه الأبدان، وجاءت السنة فتعلموا وتأدبوا، ورباهم النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان كيف ترفع الأمانة

بيان كيف ترفع الأمانة قال حذيفة: (ثم حدثنا عن رفع الأمانة)، فهؤلاء الصحابة نزلت الأمانة في قلوبهم، والذين يأتون من بعدهم عندهم أمانة، والذين من بعدهم عندهم أمانة، ولكن كلما مضى الزمان قل الخير وقلت الأمانة، وفجأة ترفع هذه الأمانة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان كيف ترفع: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه) أي: يكون الإنسان نائماً فتقبض الأمانة من قلبه، لكن لماذا تقبض؟ وما هو السبب في هذا الشيء؟ السبب هو ما يصنعه الإنسان، وما يعاقب به فبما كسبت يداه، والله عز وجل يجزي العبد بصنيعه، فكأنهم فعلوا ذنوباً ووقعوا في معاصٍ فعوقبوا عليها بأن نزعت هذه الأمانة من قلوبهم. قال صلى الله عليه وسلم: (ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت) يعني: يبقى أثر قليل، والوكت: مثل الحكة في يد الإنسان، فيبقى أثر هذه الحكة موجوداً في يده. قال: (وينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل)، أي: ينام نومة ثانية فتقبض الأمانة من قلبه، ويبقى من هذه الأمانة كأثر المجل، والمجل فسره بقوله: (كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً) أي: كأنه أثر جمرة جاءت على اليد أو على الرجل فانتفخت اليد أو الرجل من هذا الجمر، وهذا الانتفاخ يظن الناظر إليه أنه كبير، لكن حقيقته أنه منفوخ على لا شيء، فهكذا الإنسان تقبض الأمانة من قلبه ويصبح بين الناس يقولون عنه: أمين، وفي الظاهر أنه أمين، وحقيقته أنه ليست فيه أمانة. يقول الراوي: (ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، وقال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريهم هذه الجمرة مثل الحصى لو تدحرجت على الرجل، فستحرق جزءاً من الرجل، وسينتفخ هذا الجزء، وهذا الانتفاخ ليس فيه دم، وهذا الانتفاخ ليس لحماً، وإنما هو انتفاخ لا شيء تحته. وكذلك الأمانة تقبض من قلب الإنسان، فيصبح أمام الناس ظاهره أنه أمين، وأما قلبه فخاين، وما أكثر ذلك! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة) يعني: أن البائع يبيع الشيء ويدلس على الناس ويخدع الناس ويعطيهم الشيء الفاسد، ويوهمهم أن هذا صالح، فيخون في الأمانة، والمشتري يدفع بعض الثمن، ويخون في باقيه فلا يدفعه، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة لا البائع ولا المشتري. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) أي: حتى يقول الناس ذلك، يعني: أن الأمانة تصير عملة نادرة، ويقال: كل الناس فيهم خيانة إلا فلان، أو إلا في بني فلان ففيهم واحد أمين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يقال للرجل: ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان) يعني: أن الناس لما يمدحون بعضهم لا يذكرون الأمانة؛ لأنه لا يوجد أحد أمين، فيقولون: فلان هذا إنسان عاقل، فلان هذا ذكي، فلان هذا ظريف، فلان كذا، لكن ليس أميناً.

جزاء من خان الأمانة

جزاء من خان الأمانة روى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، يؤتى بالعبد يوم القيامة -وإن قتل في سبيل الله- فيقال لهذا العبد: أدِ أمانتك، فيقول: أي رب! كيف وقد ذهبت الدنيا؟!)، أي: من أين سأدفع الآن؟! فقد ذهبت الدنيا، وليس معي مال الآن، (فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية)، أي: التي قال عز وجل فيها: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8 - 9]، فمصيره ونهايته الهاوية، فقال هنا: (فينطلق به إلى الهاوية) يعني: النار والعياذ بالله! وتتمثل له أمانته، ففي الدنيا يذكر أن فلاناً أعطاه وديعة فخانها ولم يعطها لصاحبها، وآخر أعطاه أمانة فخان في الأمانة ولم يعطها لصاحبها، وآخر باع له واعتمد على أمانته فلم يدفع الثمن وهرب من صاحبه. وهكذا كل أمانة من أمانات الدنيا، وكذلك أمانات الدين. قال: (وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه)، فيذكر أن واحداً أدى له ذهباً، والثاني أدى له فضه، والثالث أدى له كذا، فتمثل له هذه الأمانة أمامه وهو متوجه إلى النار. قال: (فيراها فيعرفها)، فيجري وراء هذه الوديعة التي خانها في الدنيا، فيهوي في أثرها في النار، تهوي في النار وهو يهوي وراءها في النار، فيمسكها في النار، ثم يحاول أن يصعد بها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج من النار زلت عن منكبه وهوت في النار، فينزل وراءها في النار مرة ثانية، ولا يزال يصعد بها ويهوي في أثرها أبد الآبدين. فأمر الأمانة خطير جداً، وما أكثر ما نرى من يصلي ويصوم ويزكي، وإذا جاء وقت الأمانة فهو خائن، فلا تقدر أن تمدحه، ولا تقدر أن تقول لمن سألك عنه: فلان أمين، فضع مالك عند هذا الإنسان، لا تقدر أن تقول هذا الشيء، هذا في الدنيا، وهذه العقوبة يوم القيامة، فكم من الناس من يأتي يوم القيامة وهو خائن، فيأتي الذي اختلس مليون جنيه، والذي أخذ ألف جنيه، والذي أخذ جنيهاً واحداً، والذي أخذ أقل من ذلك، ويقال له: هذه الأمانة فهات هذه الأمانة، فيهوي في النار ليأتي بها، فيحملها على منكبه، فإذا كاد أن يخرج زلت من على منكبه، ووقعت في النار، فينزل في النار ليأتي بها، ولا يزال كذلك أبد الآبدين إن لم يكن من الموحدين. ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة -وأشياء عددها- وأشد ذلك الودائع. يقول راوي الحديث: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود رضي الله عنه؟ قال كذا وقال كذا، قال البراء: صدق، أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. لذلك احرصوا على أداء الأمانة، فمن وجد في نفسه القدرة فليتحمل، ومن لم يجد فليبتعد عن أخذ ودائع الناس وأخذ أموال الناس، وإلا فالجزاء كما سمعتم. نسأل الله العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الحب في الله والترهيب من حب الأشرار وأهل البدع [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الحب في الله والترهيب من حب الأشرار وأهل البدع [1] لقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم وحث على الحب في الله سبحانه وتعالى، وبين في كثير من الأحاديث أن الحب في الله تعالى سبب لنيل حلاوة الإيمان، كما أنه سبب في أن ينال صاحبه من الله أن يظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، ولا يكون هذا الثواب العظيم إلا لمن أحب في الله تعالى وليس من أجل منصب أو مال أو جاه.

الترغيب في الحب في الله سبحانه وتعالى والحث عليه

الترغيب في الحب في الله سبحانه وتعالى والحث عليه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في الحب في الله تعالى، والترهيب من حب الأشرار وأهل البدع؛ لأن المرء مع من أحب. عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواه، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، متفق عليه. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)، رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)، رواه الترمذي وحسنه. وروى الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما تحابا رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل أشدهما حباً لصاحبه)]. هذه أحاديث ذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في باب الترغيب في الحب في الله، أي: في أن يحب الإنسان المؤمن أخاه المؤمن في الله سبحانه وتعالى، والترهيب من حب الأشرار وأهل البدع؛ لأن المرء مع من أحب، فإذا أحب أهل الطاعة كان معهم يوم القيامة في الجنة، وإذا أحب أهل المعصية والأشرار وأهل البدع، كان معهم يوم القيامة في النار والعياذ بالله.

شرح حديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)

شرح حديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) ومن الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على الحب في الله سبحانه وتعالى، ما في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) يعني: ثلاث خصال من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وفي رواية للنسائي (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه) فالإيمان له حلاوة وله مذاق في قلب الإنسان المؤمن، فيجد المؤمن الحب ويستشعره ويتذوقه في الله سبحانه وتعالى، والحب في الله يزيد من إيمان المؤمن، ويجعل الإنسان مقبلاً على الله سبحانه، وعلى من يحبه في الله سبحانه وتعالى، فيذوق طعم الإيمان، والإنسان في الدنيا يتذوق الطعام الذي يحبه، وكل ما تذكره وكل ما اشتاق إليه فحلاوة الإيمان أعظم بكثير من ذلك، فإذا ذاق المؤمن حلاوة الإيمان في قلبه فإنها لا تزول من قلبه طالما أن أسباب هذه الحلاوة موجودة، (ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) فيذوق حلاوة الإيمان ولا تزول من قلبه أبداً حتى يبتعد عن ذلك أو يقل ذلك في قلبه، فهو إما أن يزداد بزيادة إيمانه، وإما أن ينقص بضعف إيمانه، كذلك الحب في الله سبحانه وتعالى. يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث الخصال يجد بها المؤمن حلاوة الإيمان في قلبه، (من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) فيحب الله سبحانه، ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر وأعظم من حبه لكل شي، فهو يحب الله ورسوله أكثر من حبه لنفسه، ولأبيه وأمه، ولبلده ووطنه، وأكثر من حبه للدنيا جميعها. وحب الله سبحانه له علامات، فتجد الإنسان الذي يحب الله سبحانه دائماً يذكر الله سبحانه وتعالى بلسانه وقلبه، ونيته دائماً خالصة لله، فلا يريد أن يدخل في عمله لله سبحانه شيئاً، فلا يشرك مع الله أحداً، ولا يحب أن يطلع عليه الناس، وإنما يحب أن يعرف الله وحده العمل الذي يعمله، ويجزيه الله عز وجل على هذا العمل، فهو يقدم طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل شيء. الصفة الثانية: (ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله)، وفي رواية (وأن يحب في الله ويبغض في الله)، فهو يحب الإنسان المطيع لله، فيكون هذا الحب حباً في الله عز وجل لا طمعاً في الدنيا، ولا طمعاً في جاه ولا في مال ولا في منصب، وإنما طمعه في رضا الله سبحانه، ولعله لا يعرف هذا الإنسان فليس بينهما نسب ولا معاملة ولا زيارات ولا غيرها، فيحبه لأنه وجده مواظباً على طاعة الله كصلاة الجماعة وغيرها من الطاعات. الصفة الثالثة: من (يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) فهو يبغض الكفر وأهل الكفر، ويكره أن يرجع إلى الكفر إذا كان كافراً فأسلم، وإذا كان مسلماً أصلاً فإنه يكره ويبغض أن يزول عنه الإيمان العظيم من باب أولى، وفي رواية قال: (وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئاً) أي: لو خيروه بين أن يوضع في نار عظيمة توقد وبين أن يكفر بالله لاختار أن يقع في النار على أن يشرك بالله سبحانه وتعالى شيئاً، فإذا كان إيمان العبد كذلك أذاقه الله عز وجل حلاوة الإيمان، وإذا ذاق طعم الإيمان في الدنيا فيستحيل أن يدخل النار يوم القيامة.

شرح حديث: (أين المتحابون بجلالي؟)

شرح حديث: (أين المتحابون بجلالي؟) في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟) ويوم القيامة هو {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]. فيريد أن ينجو حتى ولو هلك من في الأرض جميعاً، ففي هذا اليوم الذي تدنو فيه الشمس من الرءوس يظل الله سبحانه بعض أهل الموقف، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ينادي يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟) أي: أين الذين كان يحب بعضهم بعضاً ليس من أجل الدنيا ولكن من أجل الله عز وجل، فيميزون عن غيرهم، ويظلهم الله سبحانه وتعالى بظل من عنده يوم لا ظل إلا ظله، ويقول: (اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي). يوم القيامة ترى الأرض لا عوج فيها ولا أمتا، لا مرتفعات ولا منخفضات، وتدنو الشمس من الخلق، ولا يحجبها عنهم شيء، فليس هناك جبال ولا أشجار ولا شيء، وإنما هي أرض منبسطة واسعة، والشمس فوق الرءوس بقدر ميل. والميل قالوا: هو ميل المكحلة التي يكتحل بها الإنسان، ويعرق الإنسان حتى يغرق في عرقه، نسأل الله العفو والعافية، فيظل الله عز وجل في هذا اليوم العظيم المتحابين بجلال الله عز وجل وغيرهم ممن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل) يعني: الحاكم الذي يحكم بشرع الله عز وجل، ويعدل بين الرعية، (وشاب نشأ في عبادة الله)، والشباب الذين يواظبون على الصلاة عليهم أن يحرصوا على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يبشرهم إذا نشأوا في عبادة الله وشبوا وشابوا على ذلك أنهم يظللهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويحرص المؤمن على أن يُنشئ ابنه على الصلاح من صغره، ولا يقول: ما زال صغيراً، أو ما زال شاباً طائشاً؛ لأن هذا يؤثر عليه يوم القيامة، ولكن من نشأ من صغره على طاعة الله سبحانه وتعالى فكان مصلياً صائماً قانتاً عابداً متعلماً حتى يموت على ذلك، فهذا هو الإنسان الذي يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. قال: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) أي: يحب بيت الله سبحانه، فهو لا يأتي إلى المسجد لأجل السمر، ولأجل أن يتسلى، ولا أن يقابل فلاناً وعلاناً، لا، إنما جاء محبة لبيت الله عز وجل، ولصلاة الجماعة، ولطلب العلم، فإذا خرج منه بقي قلبه معلقاً ببيت الله: متى يرجع يصلي فيه؟ ومتى يحضر الدرس؟ ومتى يأتي لذكر الله عز وجل؟ فلا يزال قلبه معلقاً بالمسجد حتى يرجع إليه مرة ثانية، فهذا يظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله. قال: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) أي: أحب كل منهما الآخر ابتغاء وجه الله سبحانه، فإذا اجتمعا كان اجتماعهما على طاعة الله، فيذكر أحدهما الآخر بالطاعة: ماذا عملت في النهار؟ وكم قرأت من القرآن؟ وهل صليت في جماعة؟ وكم ذكرت الله سبحانه؟ وهل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؟ ويتذاكران العلم في اجتماعهما، وإذا تفرقا سلم أحدهما على الآخر وانصرفا على طاعة الله سبحانه، فيجتمعان في طاعة، ويفترقان على طاعة، ويتواعدان على طاعة الله سبحانه وتعالى. (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) تعرض للفتنة في أشد ما تكون الفتنة، فالمرأة لها منصب، أي: حكم وسلطة، وجمال أيضاً، وهي التي دعته إلى الفجور والعياذ بالله، فيقول: إني أخاف الله، فالله عز وجل يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) والمعنى أنه تصدق بصدقة في السر وحاول قدر المستطاع ألا يعرف أحد ذلك، ومن شدة المبالغة في الإخفاء يكاد يخفيها حتى عن نفسه، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه. (رجل ذكر الله خالياً) يعني: لوحده، (ففاضت عيناه) يعني من البكاء من خوف الله عز وجل، فاستحق أن ينجيه الله وأن يظله يوم لا ظل إلا ظله. نسأل الله عز وجل أن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الحب في الله والترهيب من حب الأشرار وأهل البدع [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الحب في الله والترهيب من حب الأشرار وأهل البدع [2] الحب في الله من أوثق عرى الإيمان، وهذا الحب متى تعلق بدنيا زال بزوالها، أو تعلق بمصلحة انتهى بانتهائها، وأما إذا كان في الله ولله دام وبقي أجره وثوابه؛ ولذلك ينال به الإنسان حب لله، ويجعل الله المتحابين على منابر من نور يوم القيامة، فما أكرم ذلك المقام وأرقاه!!

الحب في الله

الحب في الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في الحب في الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تحابَّ رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل أشدهما حباً لصاحبه) رواه الطبراني وأبو يعلى ورواته رواة الصحيح إلا مبارك بن فضالة. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره) رواه الترمذي وحسنه. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من رجلين تحابا في الله بظهر الغيب إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه) رواه الطبراني بإسناد جيد قوي]. هذه جملة من الأحاديث التي ذكرها الحافظ المنذري في كتابه: (الترغيب والترهيب)، وصححها الشيخ الألباني رحمه الله في الحب في الله عز وجل.

أسباب المحبة في الله

أسباب المحبة في الله الحب في الله من أعظم التجارات مع الله سبحانه تبارك وتعالى، فيحب المسلم أخاه المسلم؛ لأنه مطيع لله؛ ولأنه تقي نقي؛ ولأنه لا يحمل في قلبه غلاً لأحد من المسلمين؛ ولأنه يتعلم معه الخير؛ ولأنه يدعو إلى الله سبحانه تبارك وتعالى؛ ولأنه ليس من أهل البدع، فهو على السنة والاستقامة، وعلى طريق الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا هو الحب في الله سبحانه لا لدنيا يريدها الإنسان، وإنما من أجل وجه الله سبحانه تبارك وتعالى. فإذا كان الحب خالصاً وكان أحد المتحابين أشد حباً لصاحبه، فهو أقرب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. وأمر المحبة ليس بقول: إني أحبك فقط، ولكنه يكمن في قلب الإنسان، وإن كان يظهره بهذا القول، ولكن الله أعلم مَن هو الذي يحب أخاه فيه، ومن هو أشد حباً لأخيه من الآخر، فلذلك يطلع الله عز وجل على القلوب، ويحب من هو أشد حباً لصاحبه، فيكون أقرب إلى الله، وأحب الاثنين إلى الله، وإن كان كلاهما محبوب لله عز وجل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تحابَّ رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل أشدهما حباً لصاحبه)، وهنا يوجد تقديم وتأخير، والمعنى إلا كان الأشد حباً لصاحبه هو الأحب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. وفي رواية لـ ابن حبان: (كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه). وفي حديث لـ عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه).

مقتضيات الحب في الله

مقتضيات الحب في الله إذا أحب الإنسان أخاه في الله عز وجل، ترتب على ذلك أنه يريد أن ينفع أخاه، فينفعه ويدعو له بظهر الغيب مثلاً، ويعينه على حاجاته، وإذا وجده في كرب فرج عنه هذا الكرب، وإذا وجده في ضيق أتاه وفرج عنه ما نزل به من ضيق وسلاَّه وواساه، إذا نزلت به بلية أو مصيبة كان معه يعزيه ويسليه ويواسيه، فهذا الإنسان أقرب إلى الله سبحانه، وهو الأفضل عند الله عز وجل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه)، أي: إذا تصادق الناس، أو تحابوا، فالخيَّر منهم، والأقرب من الله عز وجل هو: الأَخْيَرُ لصاحبه.

خير الجيران عند الله

خير الجيران عند الله يقول صلى الله عليه وسلم: (خير الجيران عند الله خيرهم لجاره)، الجيران يتحابون لكونهم جيران، والجار له حق على جاره، ولكن من من الجيران هو الأحب إلى الله؟ الأحب إلى الله من هو الأكثر نفعاً لجيرانه، والذي لا يؤذي جاره، ويحسن جواره، فالجار الخيرِّ هو الذي ينفع ولا يضر، ويحب ولا يبغض، والذي لا يتعرض بأذى لجاره، ولكن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ويحرص على أن يهديه إلى سبيل الله، وإلى طريق الله سبحانه، هذا خير الجيران وأحبهم عند الله سبحانه تبارك وتعالى.

فضل المحبة في الله

فضل المحبة في الله جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى؛ فأرصد الله له على مدرجته ملكاً). هذا رجل مسلم زار أخاً مسلماً في قرية أخرى، وسافر إليه، وقطع طريقاً بعيداً حتى يصل إلى أخيه، فالله سبحانه تبارك وتعالى أرصد له على مدرجته أي: على طريقه ملكاً ينتظره في هذا الطريق، (فلما أتى هذا الرجل على الملك -كان لا يعرف أن هذا ملكاً بل ظنه إنساناً أمامه يسأله- قال الملك: أين تريد؟ فقال: أريد أخاً لي في هذه القرية، فقال الملك لهذا الرجل: هل لك عليه من نعمة تربها؟ -هل لك عليه من نعمة تذهب لها وتسعى من أجلها، من مال أو مصلحة- فقال: لا، غير أني أحبه في الله، قال له الملك -وأظهر نفسه- فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه) كما أنك أحببت هذا الإنسان فإن الله قد أحبك سبحانه تبارك وتعالى. هذا الحديث ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم المؤمنين إذا أحبوا بعضهم في الله أن ينتظروا الأجر من الله. فإذا أحببت إنساناً فلا تنتظر منه نفعاً، ولا تنتظر منه أن يقول لك: أنا أحبك، ولكن ليكون هذا الحب لله سبحانه تبارك وتعالى، وانتظر الأجر من الله، فهذا الرجل لم ينتظر من صاحبه شيئاً من نعمة، أو مال أو شيء ينتفع به، إنما انتظر ثواب الله فأرسل الله إليه ملكاً يبلغه أن الله يحبه سبحانه. ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام مالك في موطئه بإسناد صحيح عن أبي إدريس الخولاني رضي الله عنه-وهو من التابعين- قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، يعني: أن أبا إدريس الخولاني ذهب إلى الشام، فأتى دمشق فدخل المسجد الجامع، فإذا فتى براق الثنايا، والثنايا: الأسنان الأمامية، وبراق يعني: أنه لا يفتر ثغره عن التبسم، وحين يتبسم تظهر أسنانه البيضاء الجميلة، والناس يصدرون عن رأيه، وإذا اختلفوا في شيء يرجعون إليه فيفتيهم جميعاً، ولا يختلفون عن رأي هذا الرجل العظيم. قال: فسألت عنه فقيل: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، وحق له أن يُؤْخَذَ بفتواه، وأن يصدر الناس عن رأيه رضي الله عنه، كيف لا وقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام)، ومعاذ بن جبل كان عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين سنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، لم يكن شيخاً كبيراً كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، هذا الرجل كان أعلم الناس بالحلال والحرام، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليفقه الناس، ويعلمهم الحلال والحرام رضي الله تبارك وتعالى عنه. فلما رجع معاذ بن جبل من اليمن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي، وبعد ذلك رحل إلى دمشق، فكان يعلم الناس هنالك رضي الله عنه، فيقول أبو إدريس الخولاني: لما كان من الغد هجَّرت -يعني: ذهبت إلى المسجد مبكراً قبل صلاة الظهر- فوجدته قد سبقني بالتهجير -يعني: معاذاً سبقه وذهب إلى المسجد مبكراً؛ حرصاً على صلاة الجماعة- قال: ووجدته يصلي -يعني: قبل الظهر بفترة يصلي صلاة الضحى- قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت له: والله إني لأحبك في الله. يُلاحظ أن أبا إدريس الخولاني لم ير معاذاً قبل ذلك، ولم يسمع من معاذ شيئاً ولا يعلم عنه سوى أنه يفتي الناس والناس يأخذون بكلامه، ولكن ألقى الله عز وجل محبته في قلبه، وكان من يرى معاذاً يحبه رضي الله عنه؛ لنور إيمانه ولعلمه العظيم، فبعد أن قال: والله إني لأحبك في الله قال: آلله -يعني: يستحلفه بالله، أحقاً هذا الذي تقوله؟ - فقلت: آلله -أي: نعم والله أحبك في الله- فأخذ بحبوة ردائي -وحبوة الرداء: مجمع الرداء- فجذبني إليه، فقال: أبشر! فإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ -أي: وجبت محبة الله عز وجل لكل مؤمن يحب أخاه في الله سبحانه ليس لأجل الدنيا- وللمتجالسين في) وهذه بشارة من الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن جلس في بيت الله عز وجل يحضر دروس العلم حباً في الله، وحباً في كلام رسول الله صلوات وسلامه عليه، وقوله: (وللمتجالسين فيَّ) أي: الذين يجلسون يسمعون كتاب الله، ويسمعون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفقهون في الدين، فالذين جلسوا من أجل ذلك وجبت لهم محبة الله سبحانه تبارك وتعالى قال: (وللمتزاورين فيَّ) يعني: أن المسلم متى يزور أخاه في الله سبحانه تبارك وتعالى فإن الله يحبه سواء كان هذا الأخ أخاً في النسب أو أخاً في الله، ويزوره لا لمصلحة في الدنيا، إنما يصل رحمه، ويزوره ابتغاء مرضات الله عز وجل، وحباً في الله سبحانه تبارك وتعالى، قال: (وللمتزاورين في وللمتباذلين في) أي: من يبذلون أموالهم، وأوقاتهم، وعلمهم، وأنفسهم وأرواحهم ابتغاء مرضات الله سبحانه، فهؤلاء وجبت محبة الله عز وجل لهم.

ثمرة الحب في الله في الآخرة

ثمرة الحب في الله في الآخرة جاء في الحديث من رواية عبادة بن الصامت، وهو نفس حديث معاذ، لكنه زاد عليه أن قال: (هم على منابر من نور -يعني: يوم القيامة الله عز وجل يجعلهم على كراسي عظيمة أو منابر من نور من أعظم ما يكون- يغبطهم النبيون والشهداء) يعني: ينظر إليهم الأنبياء والشهداء فيغبطونهم على ما هم فيه من هذه النعمة العظيمة. وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من عباد الله عباداً ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء -أي: على ما هم فيه من ثواب عظيم عند الله- قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله، من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]). فهؤلاء في أرض الموقف يوم القيامة لا يحزنون، ولا يخافون، والناس في فزع وفي خوف، أما هؤلاء فيؤمنهم الله، ويظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله، ويجلسهم على منابر من نور، وهذه مرتبة عظيمة جداً. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.

الترغيب في التوبة والمبادرة بها

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في التوبة والمبادرة بها الإنسان يخطئ ويقع في الذنب، وليس أحد معصوماً من الذنوب إلا الأنبياء، ولكن من رحمة الله عز وجل أنه فتح لعباده باب التوبة، وسمى نفسه الغفور والتواب والرحيم، فعلى المرء المسلم إذا أذنب ذنباً أن يبادر بالتوبة إلى ربه عز وجل.

الترغيب في التوبة

الترغيب في التوبة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام المنذري رحمه الله: [باب الترغيب في التوبة. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول! الله أوصني، قال: عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كل حجر وشجر، وما عملت من سوء فاحدث له توبة؛ السر بالسر والعلانية بالعلانية) رواه الطبراني. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجة. وعن حميد الطويل قال: قلت: لـ أنس بن مالك: (أقال النبي صلى الله عليه وسلم: الندم توبة؟ قال: نعم) رواه ابن حبان. وعن عبد الله بن معقل قال: دخلت أنا وأبي على ابن مسعود فقال له أبي: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الندم توبة؟ قال: نعم) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. هذه أحاديث آخر من كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري ذكرها في كتاب التوبة والزهد: باب الترغيب في التوبة، وقد ذكرنا أحاديث في الدرس السابق في التوبة، وذكرنا أن التوبة الصحيحة التي يتوبها الإنسان هي التي يكون فيها صادقاً، فيتوب إلى الله عز وجل ويندم على ما فعل من ذنب، ويعزم على ألا يرجع إلى الذنب مرة ثانية، وإذا كانت عنده مظالم يرجعها إلى أصحابها، فمن تاب من الذنب وأقلع عنه واستغفر وندم عليه وعزم على ألا يرجع إليه، ثم رد المظالم إلى أصحابها فقد تاب توبة صحيحة. وهنا في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أوصني، فقال صلى الله عليه وسلم: عليك بتقوى الله ما استطعت)، وهذه أعظم وصية. فالإنسان المؤمن يعلم أنه لا ينفعه شيء إلا أن يتقي الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا هو الذي ينفع عند الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، والقلب السليم: الذي يتوب ويرجع إلى الله سبحانه، والذي لا غل فيه ولا شرك ولا حسد لأحد من الناس. فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم موصياً: (عليك بتقوى الله ما استطعت) يعني: قدر المستطاع، وما استطعت إلى ذلك سبيلاً. قال: (واذكر الله عند كل حجر وشجر)، يا ترى وأنت تمر في الطريق كم حجرة وكم شجرة تقابلها؟ والمعنى: دم على ذكر الله سبحانه، وكلما قابلت شيئاً في الطريق فأكثر من ذكرك الله سبحانه تبارك وتعالى؛ فكأنه يقول: داوم على ذكر الله وأكثر من ذكر سبحانه. فعلى الإنسان أن يذكر الله سبحانه عند كل حجر وشجر، وفي كل مكان، سواء في أرض صحراوية فيها أحجار أو في أرض زراعية فيها أشجار، فاذكر الله سبحانه وتعالى في كل وقت، واذكر الله وأنت ترى آياته فهذا حجر جماد، وهذا شجر نبات ينمو، والله يخلق فيما يشاء ما يشاء سبحانه تبارك وتعالى، فكلما رأيت آيات الله من جمادات وحيوانات ونباتات أكثرت من ذكره سبحانه تبارك وتعالى. قال: (وما عملت من سوء فأحدث له توبة) المعنى: أنه لا أحد معصوم من الوقوع في السوء، ولكن بادر إلى التوبة، وهذا يعينك على ألا تعود إلى السوء مرة أخرى، فكلما وقع الإنسان في معصية رجع إلى الله وتاب إليه، فإذا أراد أن يعاود المعصية يتذكر أنه تائب إلى الله فلا يرجع إليها، معلمنا النبي صلى الله عليه وسلم كلما وقعنا في ذنب أن نبادر إلى الله بالتوبة. فليكن على بالك أمر التوبة إلى النهاية؛ حتى لا تقع في ذنب من الذنوب. قال: (واذكر الله عند كل حجر وشجر، وما عملت من سوء فأحدث له توبة؛ السر بالسر والعلانية بالعلانية). يعني: إذا عملت سوءاً في السر بينك وبين الله فتب إلى الله بالسر، واستر على نفسك، ولا تفضحها، فالإنسان إذا بات يعصي ربه ولم يره أحد فلا يصبح في النهار يحدث الناس بما صنع، فإذا سترك الله فاستر على نفسك. فالإنسان الذي يعصي جهاراً أمام الناس قد يقتدون به في ذلك، فيكون عليه من السوء ما على هؤلاء الذين فعلوا السوء. فالله عز وجل يأمرك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن تتوب في السر والعلانية، فإذا أذنبت في العلانية فتب إلى الله وقل: أستغفر الله وأتوب إلى الله ولن أعود إلى هذا الذنب مرة أخرى، وأخبر من رأوك أن ما فعلته خطأ حتى لا يقتدي بك أحد، فالإنسان إذا تاب علانية فإنه يكون قد قطع الأمر على غيره أنه يقلدوه؛ لأنهم قد عرفوا أن فلاناً عصى الله سبحانه ورجع عن هذا الذي فعله، فلا أحد يقتدي به في ذلك. ولو اقتدوا به في ذلك فلعلهم يقتدون به في التوبة، فيتوبوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. فأمر صلى الله عليه وسلم بالتوبة في ذنب السر سراً وفي ذنب العلانية علانية. وقد جاء من حديث ابن مسعود: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وهذا فضل عظيم من الله سبحانه تبارك وتعالى، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، فيه أن المؤمن الذي يقع في الذنب ويندم فإن ذلك توبة منه لله عز وجل. أيضاً جاء في حديث ابن مسعود في صحيح مسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله)، فالله عز وجل له الجمال والجلال والكمال سبحانه تبارك وتعالى، والذي له هذا كله هو الذي يستحق أن يمدح، لذلك لا ينبغي لأحد من العباد أن يزكي نفسه، فكل عبد من عباد الله سبحانه فيه نقص، والنقص يليق بالإنسان، أما الله عز وجل فاللائق به هو الجلال والكمال والجمال، لذلك استحق سبحانه المدح والتعظيم، فيحب أن يمدحه عبده، ومن أجل ذلك مدح نفسه، فلو لم يمدحه خلقه فقد مدح وحمد نفسه سبحانه وتعالى، كما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2]. وكل إنسان فيه غيرة، كل بحسبه قد تزيد وقد تنقص، فالإنسان يغار أن تنتهك حرمات الله عز وجل أكثر من غيرته لأي أحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرم الفواحش)، فالله سبحانه وتعالى يغار أن يقع العبد في فاحشة من الفواحش، ولو أن إنساناً رأى إنساناً يقع في فاحشة بحرمة من حرماته فقد يبادر إلى قتله، كما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه؛ فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزاني، وأنه يؤتى بأربعة شهود يشهدون عليه، فقال: (يا رسول الله! أنا أنتظر حتى يأتي أربعة يشهدون على ذلك؟ والله لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح -يعني: أضربه بحد السيف ليس بجنب السيف، وأقتل هذا الإنسان- فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، قال صلى الله عليه وسلم: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله)، فالله سبحانه تبارك وتعالى كريم حليم يحب العذر لخلقه، وكأنه يقدم لهم الآيات منه سبحانه حتى لا يبقى لهم حجة بعدها. وقد أعذر من أنذر، يعني: بالغ في تقديم العذر، فقد يقال: سنعذرك فيما فعلت؛ لأنك لا تعلم، لكن حين نعلمك ونقيم عليك الحجة فإنه لا عذر لك، فقد أعذر، أي: أزال عذرك. وفرق بين من التمس لك عذراً، وبين من لم يلتمس لك عذراً، فالله عز وجل يحب أن يعذر، يعني: يقيم الحجة إلى ألا يبقى لك أي حجة على الله ولا أي عذر عنده سبحانه تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل) فعلى ذلك ليس لكم حجة؛ كما قال عز وجل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].

ظهور مقتضى اسمي الله عز وجل: الغفور الرحيم في التوبة

ظهور مقتضى اسمي الله عز وجل: الغفور الرحيم في التوبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)، فالإنسان مكتوب عليه حظه من الذنوب، وكل إنسان يقع في شيء من الخطأ وشيء من الذنوب. والله من أسمائه الحسنى أنه الغفور وأنه الرحيم، فلا بد من مقتضى ذلك، ومقتضى ذلك أنه يغفر، وأنه يرحم، لكن يغفر لمن إن لم يوجد ذنب؟ فعلى ذلك قد شاء الله عز وجل أن يكون في العباد من يذنب، فيذنب العباد فيغفر الله بفضله وبكرمه لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم آخرين يذنبون)، وليس معنى هذا أنهم يذنبون فقط، بل يستغفرون، والمعنى: يتوبون. فالله عز وجل تواب كريم رحيم يقبل التوبة من العباد، فإذا أذنبوا وتابوا قبل منهم سبحانه تبارك وتعالى.

ذكر قصة توبة الجهنية

ذكر قصة توبة الجهنية ومن الأحاديث الدالة على توبة ربنا العظيم على عباده ما جاء في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله! أصبت حداً فأقمه علي -يعني: جاءت تائبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم- أصبت حداً فأقمه علي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: أحسن إليها)، فلم يأمره بالإساءة إليها، ولم يأمره بأن يؤنبها وأن يضربها، ولكن أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إليها حتى تضع ولدها، (فلما وضعت المرأة وجاء بها وليها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها) أي: بعدما رجمت المرأة صلى عليها صلاة الجنازة. فقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: (تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)، هي وقعت في فاحشة، ولكنها تابت إلى الله سبحانه تبارك وتعالى توبة عظيمة، بل إنها جاءت بنفسها ليرجمها النبي صلى الله عليه وسلم ويقيم عليها هذا الحد. قال: (وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟)، فإنها جادت بنفسها، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقيم عليها الحد، فهذه التوبة التي تابتها هذه المرأة التي وقعت في الفاحشة قبلها الله عز وجل، وأعطاها رحمة لو وزعت هذه الرحمة على سبعين من أهل المدينة من العصاة لوسعتهم. نسأل الله سبحانه من فضله ورحمته، وأن يتوب علينا توبة نصوحاً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في ترك أرض المعاصي

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في ترك أرض المعاصي لقد وردت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تحث المسلم على مفارقة أرض المعاصي والذنوب، إلى أرض يطاع الله عز وجل فيها؛ لأن الإنسان إذا بقي في أرض السوء فعل ما يفعله أهلها إلا من رحم الله، ولذلك كان من لوازم التوبة ترك أرض المعصية وترك رفقاء السوء؛ حتى لا يعود التائب إلى المعاصي والذنوب.

الترغيب في ترك أرض المعاصي والحث على ذلك

الترغيب في ترك أرض المعاصي والحث على ذلك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام المنذري: وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، من يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة). وفي رواية: (فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها)، متفق عليه. هذا الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه دليل على سعة رحمة رب العالمين، فالله سبحانه عظيم، رحيم، تواب، كريم، فالإنسان الذي يتوب إليه يتوب عليه مهما عظم ذنبه، والشرك فما دونه إذا تاب منه العبد إلى الله فإن الله عز وجل يتوب عليه ويغفر له، وفي هذا الحديث أن رجلاً ممن كانوا قبلنا قتل تسعة وتسعين نفساً، وكان في قرية سوء وأهلها أهل معاصي ومنكرات، وهذا الأمر منتشر بينهم، فأراد أن يتوب إلى الله فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، والراهب هو العابد، ولا يشترط أن يكون على علم، وليس من حق العابد أن يفتي حتى يكون عالماً، فهو مجرد إنسان يصلي ويصوم ويقوم الليل ويتعبد لله، فليس من حقه أن يفتي في دين الله، وإنما الذي يفتي في الدين هم أهل العلم والفقه. فلما سأل الراهب وقال له: قتلت تسعة وتسعين نفساً، هل لي من توبة؟ قال: لا، فحجر عنه التوبة، فقتله فكمل به المائة، ثم مع ذلك أراد أن يتوب وذهب يسأل هل له من توبة؟ فدلوه على عالم من العلماء فذهب إلى هذا العالم فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، من يحول بينه وبين التوبة؟ هذا هو العالم الذي يعرف رحمة رب العالمين سبحانه، وأن الله لا يتعاظمه ذنب، فالإنسان لا ييئس من رحمة الله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. فالإنسان الذي عصى الله عز وجل عليه أن يعلم أن الله عز وجل قريب، وأنه تواب رحيم فليبادر إلى التوبة، وإذا لم يبادر إلى التوبة فإن الله شديد العقاب، فالله غفور رحيم لمن تاب وعمل صالحاً، وشديد العقاب على من لم يتب، فلذلك المؤمن يسرع ويبادر إلى التوبة لأنه لا يدري لعله يأتيه الموت وهو على الذنب الذي سوَّف في التوبة منه. فهذا الرجل سأل العالم، فأخبره العالم أن له توبة، إذا تاب إلى الله. ثم أرشده العالم وقال له: أنت في أرض سوء أي: أهل هذه الأرض أهل منكرات وفواحش، ولو بقيت فيها فستفعل كفعلهم، فمن شروط توبتك أن تخرج، وأن تفارق أهل هذه القرية إلى القرية الفلانية، فإن فيها أناساً صالحين فاذهب فاعبد الله معهم. والإنسان الذي يتوب إلى الله، وكان له رفقة سوء: من لزوم توبته أن يفارق هؤلاء، فلا يبقى مع رفقة سيئة فيهم سفالة وبعد عن دين رب العالمين، ثم يقول: تبت وهو ما زال مصاحباً لهم؛ لأنهم سيدعونه إلى الضلالة ويغوونه مرة ثانية فيردونه إلى ما كان عليه قبل ذلك، فمن شروط التوبة مفارقة أهل المعاصي وعدم ملازمتهم. فالرجل خرج من قريته إلى القرية الثانية حتى يعبد الله، وتاب إلى الله، وفي الطريق مات، وهنا نتذكر أنه يجب على الإنسان أن يبادر إلى التوبة، فلو أن هذا الرجل سوف يوماً آخر أو يومين ومكث في قرية السوء لكان من أهلها، ولكن الله عز وجل رحمته عظيمة واسعة. لقد مات الرجل بين القريتين فجاءت ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، فقالت ملائكة الرحمة: تاب، وقالت ملائكة العذاب: لم يعمل خيراً قط، فاختصمت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأنزل الله عز وجل ملكاً على صورة آدمي يحكم بين الفريقين. فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو من أهلها، أي: قيسوا ما بينه وبين قرية السوء، وما بينه وبين القرية الطيبة، إذا كان أقرب إلى أرض أهل المعاصي فهو منهم فاقبضوه معهم واجعلوه من أهل النار، وإذا كان أقرب إلى القرية الأخرى فاجعلوه مع أهلها. فقاسوا ما بين القريتين وكان الرجل في نصف الطريق، وإذا بالله سبحانه وتعالى يوحي إلى الأرض، وفي رواية: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي وقال: قيسوا بينهما فوجدوه أقرب إلى هذه بشبر). إن رحمة رب العالمين واسعة عظيمة فهو الذي ألهمه التوبة، وهو الذي دله على أن يسأل وهو الذي جعله يخرج من هذه الأرض، وهو الذي أمر الأرض أن تزيد من ها هنا وأن تنقص من ها هنا، فقبضته ملائكة الرحمة فكان من أهل رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى. وفي رواية أخرى قال: (لما أتاه ملك الموت، نأى بصدره نحوها)، يعني: كان في نصف الطريق تماماً فأوحى الله إلى الأرض أن تباعدي من هاهنا، وتقربي من هاهنا، وجعله ينأى بصدره فكان أقرب بشبر واحد إلى هذه فكان من أهلها، وهذه رحمة من الله رب العالمين فإنه من تاب تاب الله عليه مهما عمل من معاص وذنوب، ومن سوف فلا يدري لعله يدركه الموت وهو على عمله السيئ فيكون من أهل النار. وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني). قال صلى الله عليه وسلم: (والله لللَّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول). فأنت ابدأ فإذا رأى الله عز وجل منك أنك مقبل عليه أقبل عليك أكثر وأكثر، فإذا أقبلت وسارعت بالعبادة والطاعة أقبل عليك مسارعاً أكثر منك بالثواب والفضل. وفي الحديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا)، فالإنسان طالما أنه مقبل على الله فإن الله يقبل عليه ويعطيه، حتى إذا مل العبد وترك العبادة تركه الله ولم يعطه ثواباً. فهنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يفرح بتوبة العبد، إذا تاب فرحاً عظيماً، وفي رواية لـ مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب). ثم ضرب لنا مثلاً: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، والمثل للتقريب للأذهان والأفهام، يقول: (والله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت عنه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها). فهذا رجل ركب على راحلته عليها الطعام والشراب وذهب إلى أرض فلاة صحراء واسعة فلما كان فيها نزل من على الناقة فتاهت الناقة وضاعت منه، فأيس منها، لا مركب ولا طعام ولا شراب، فلن ينتظر إلا الموت، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته -ونام تحت الشجرة حتى يأتيه الموت- قال النبي صلى الله عليه وسلم: فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها). فأي فرحة يكون فيها هذا الإنسان؟ لقد رأى الناقة أمامه فأمسك بخطامها حتى لا تضيع مرة ثانية، ومن فرحته قال -يشكر رب العالمين سبحانه- (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح). ولله عز وجل المثل الأعلى: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا بناقته)، ومما جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ما رواه أحمد وغيره عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقه، ثم عمل حسنة فانفكت أخرى، حتى يخرج إلى الأرض). والأصل أن الدرع تقي الإنسان من الأعداء، لكنها لا تقيه إلا إذا كانت واسعة يستطيع أن يحركها ويتحرك بها، أما إذا كانت ضيقة فإن الأعداء سينالون منه. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الإنسان الذي يعمل السيئات كهذا الذي يلبس الدرع الضيقة، فتضيق عليه حاله وبدنه ولا يقدر أن يتحرك منها. لكنه لما عمل الحسنات اتسعت الدرع عليه فتحرك ووقى نفسه من عذاب رب العالمين سبحانه. والإنسان لا يخلوا من سيئات يفعلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره: أن يعمل حسنات. وروى الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحسن فيما بقي غفر له ما مضى). أي: إذا أساء الإنسان ولا يدري كم بقي له حتى يلقى الله سبحانه وتعالى فأحسن فيما بقي غفر الله له ما سبق، (ومن أساء فيما بقي قال: أخذ بما مضى وما بقي)، أي: أخذ بالاثنين، لذلك على الإنسان أن يحسن العمل لأنه لا يدري متى يموت فلعل الباقي أنفاس يسيرة قليلة، فالمحسن: هو الذي يكسب المكسب العظيم بأن يغفر له جميع السيئات الماضية. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الفراغ للعبادة والترهيب من الاهتمام بالدنيا [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الفراغ للعبادة والترهيب من الاهتمام بالدنيا [1] على المسلم أن يعلم أنه في حياته كلها في عبادة لله سبحانه وتعالى، فيراقب ربه سبحانه في كل عمل يقوم به ويخلص النية له فيه، وبهذا تكون أعمال الإنسان كلها من عادات وعبادات ومعاملات عبادة لله سبحانه وتعالى، وبذلك يكون المسلم متفرغاً لعبادة الله؛ لأنه يعبد الله في كل أوقاته، ويراقبه في علنه وخلواته، فبهذا يحصل على الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى، ويفتح عليه أبواب الرزق والسعادة.

التفرغ للعبادة وفضله

التفرغ للعبادة وفضله

المفهوم الصحيح للعبادة

المفهوم الصحيح للعبادة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تعالى، والترهيب من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها. عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول ربكم: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان، إنهما ليسمعان أهل الأرض إلا الثقلين، يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت شمس قط إلا وبعث بجنبتيها ملكان يناديان، اللهم عجل لمنفق خلفاً وعجل لممسك تلفاً)]. هذا باب آخر من كتاب التوبة والزهد في كتاب المنذري، الترغيب والترهيب، وفيه الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تبارك وتعالى، والترهيب من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها. والمؤمن يعلم الحكمة من خلقه في هذه الدنيا، حيث قال الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فسبب خلق الإنسان ووجوده في هذه الدنيا، هو عبادة الله سبحانه، والعبادة هنا بالمعنى الأعم، فتكون الحياة كلها لله سبحانه وتعالى، فيكون في صلاته، وصيامه وزكاته وحجه وعمرته واعتكافه؛ مراقباً لله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه كلها أعمال عبادية يتعبد بها لله سبحانه. وكذلك يكون في معاملاته مع الخلق مراقباً لله سبحانه وتعالى، فهو يراقبه تعالى في تجارته وبيعه وشرائه وإجارته ووكالته وكفالته وضمانه وأمانته ووديعته. فهو يراقب الله تبارك وتعالى دائماً في كل عمل من الأعمال؛ لأنه يستشعر أنه يعبد الله بهذا العمل، فإذا باع واشترى استشعر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى)، فإذا استشعر ذلك فإنه يتعامل مع الناس بناءً على هذا الشعور. فمن يرجو رحمة الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا تعامل مع الناس تعامل بحسن الخلق، لا ليقال: خلقه حسن -وإن كان من الحسن أن يمدح الإنسان وهو لا يطلب ذلك- وإنما يطلب ما عند الله سبحانه، فإن صاحب الخلق الحسن يكون يوم القيامة في درجة عظيمة جداً بجوار النبي صلوات الله وسلامه عليه بجوار باقي النبيين عليهم السلام. فالعبادة التي نحن مخلوقون لها ليست هي الصلاة وحدها -وإن كانت الصلاة من أعظم العبادات- ولكن العبادة التي خُلقنا من أجلها هي العبادة بمعناها الأعم، فيدخل فيها العبادات والمعاملات وأحوال الإنسان مع أهله وغيرهم. فإذا علم العبد هذا فإنه سيفرغ نفسه لهذه العبادة، فإذا به يراقب ربه ليل نهار، فيكون نومه وقيامه عبادة لله سبحانه، فهو عندما ينام إنما ينام ليستريح ويتقوى ليؤدي عبادة الله سبحانه وتعالى ويقيم الصلاة في أوقاتها، وهكذا لا يزال هذا العبد ينتظر عبادة وراء عبادة مدى حياته، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فالمؤمن يقول لنفسه: إني أمرت بذلك وأنا من المسلمين. والتفرغ للعبادة ليس معناه أن تحبس نفسك في البيت للصلاة والصوم فقط وتترك العمل، وإنما العبادة التي نذكرها هي العبادة بمعناها الأعم وهي أنك تصلي وتصوم وتزكي وتحج وتعتكف وتجاهد وتتعامل مع الناس بالخلق الحسن وأنك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحسن إلى الخلق وتصلح بين الناس بعضهم مع بعض وتعين الإنسان فتدله على الطريق أو تعينه في رفع حاجته على دابته، فكل ذلك من العبادة، فإذا تفرغت للعبادة بهذا المعنى، فالله عز وجل سوف يرزقك من حيث لا تحتسب. وكذلك إذا خرجت لطلب الرزق وأخلصت النية لله ونويت أن تطعم أولادك المال الحلال، فإن الله سبحانه وتعالى لن يتركك بغير رزق، بل الله عز وجل هو الرزاق الكريم سبحانه وتعالى قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]، أي: أنه لم يخلقك من أجل أن ترزقه ولا من أجل أن تطعمه تبارك وتعالى، وإنما خلقك ليطعمك أنت ويعطيك.

فضل التفرغ لعبادة الله سبحانه

فضل التفرغ لعبادة الله سبحانه ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الحاكم عن معقل بن يسار، وروى مثله ابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ربكم: يابن آدم تفرغ لعبادتي)، أي: فرغ قلبك وأقبل علي وحدي، فتكون في كل أحوالك ناظراً إلى ربك سبحانه، مراقباً له، خائفاً منه، تعمل ما يرضيه سبحانه وتعالى، فهذا هو التفرغ لعبادة رب العالمين، فإذا فعلت هذا فالنتيجة هي ما جاء في الحديث حيث قال: (أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً)، فإذا امتلأ القلب غنى فلا يحتاج الإنسان إلى شيء بعد ذلك؛ لأن الغنى هو غنى القلب، فالإنسان إذا كان مفلساً لا شيء معه وقلبه غني فإنه سيشعر أنه ملك، وأنه أفضل من جميع من معه مال؛ لأن من معه مال يحتاج إلى أن يحرس ماله، أما هذا فلا يحتاج أن يحرس شيئاً؛ لأن القلب ممتلئ غنى، أما إذا ملأ الله قلب الإنسان فقراً وحاجة، فإنه سيشعر أنه فقير ولو كان من أغنى الناس؛ لأنه يحس أن ماله سينفد، وأن هناك أمراضاً يمكن أن تصيبه، فيظل يكنز ويكنز ولا يشبع أبداً. إذاً: الغنى هو غنى القلب والفقر هو فقر القلب، وربنا يعدك أنك إذا تفرغت للعبادة وأحسنت فيها فإنه سوف يملأ قلبك غنى، ولم ينته الأمر عند غنى القلب فقط، بل وفوق ذلك قال: (وأملأ يديك رزقاً)، أي: سأملأ القلب واليدين. ثم قال: (يابن آدم لا تباعد مني)، يعني: لا تتباعد مني، فالكلمة فيها إدغام للتاءين، (لا تباعد مني فأملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً)، فالإنسان الذي يتباعد عن الله فيسمع المؤذن يؤذن فيقول: أنا لست فارغاً، بل ورائي شغل أريد أن آكل أو أريد أن أشرب، كيف أترك العمل وأنا محتاج إليه؟ فمثل هذا سوف يظل محروماً طول حياته؛ لأن الله يقول: (لا تباعد مني) فإذا تباعدت عن الله عز وجل فالنتيجة هي: (أملأ قلبك فقراً)، أي: ستحس أنك فقير دائماً مهما كان معك من أموال كثيرة، وفوق هذا (أملأ يديك شغلاً)، سبحان الله! البعيد عن طاعة الله سبحانه وتعالى يحدث له عكس ما يحدث للمتفرغ لطاعة الله سبحانه، فتجده كثير العمل، يشتغل هنا وهناك، وفي النهاية لا يجد معه شيئاً من الأموال؛ لأن الله يبتليه بالأمراض وبالإنفاق على العمال وغير ذلك، فلا يبقى معه شيء؛ لأنه ابتعد عن الله تبارك وتعالى. وفي رواية أخرى للحديث وردت عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيها: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لا تفعل)، أي: إذا لم تعمل بهذا الشيء فلا تلم إلا نفسك، قال: (ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك). وروى أحمد وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان إنهما ليسمعان أهل الأرض إلا الثقلين)، أي: وقت شروق الشمس تطلع الشمس وبجوارها عن يمينها وشمالها ملكان يناديان في الخلق: (يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم -أي: أقبلوا إلى ربكم- فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) يعني: الله سبحانه وتعالى يحذرك من أن تنشغل بالأعمال الدنيوية وتنسى العمل للآخرة بحجة مخافة الفقر أو عدم الكفاية، فإنه يبعث الملكين يناديان: (هلموا إلى ربكم فإن ما قل) أي: إن جاءك القليل وكفاك فهو خير من أن يأتيك الكثير الذي يطغيك، فيقول: (فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وما غربت شمس قط إلا وبعث بجنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجل لمنفق خلفاً) فالإنسان المنفق الذي وعلى عياله، وعلى ضيفه، ينفق على جيرانه، ينفق من زكاة ماله، فيتصدق ويعطي، فالله يبارك له ويعطيه ويأمر الملكين بالدعاء له: (اللهم عجل لمنفق خلفاً)، يعني: إذا أنفقت الآن فإنه سوف يُسخر لك بعد قليل أكثر مما أنفقت، من فضل الله سبحانه وتعالى. (وعجل لممسك تلفاً) يدعوان على الممسك المقتر البخيل الذي لا يؤدي زكاة ماله ولا ينفق صدقة ولا ينفق على عياله، فيدعوان عليه أن يتلف الله ماله. وفي حديث آخر لـ زيد بن ثابت رضي الله عنه ومثله عن أنس بن مالك ومثله عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت الدنيا همه: فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له). فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه ما سبق في الحديث، أي: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره)، فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد هو الدنيا كما في الحديث: (فرق الله عليه أمره -الذي يجمعه- وجعل فقره بين عينيه)، يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال، (ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة. ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ومن كانت الآخرة نيته) يعني: يعمل ويطعم عياله يبتغي وجه الله سبحانه وتعالى، (حتى اللقمة يجعلها في فِي امرأته كان له أجر)، كما ورد في حديث آخر، محتسب ذلك عند الله عز وجل، فهذا الإنسان الذي الآخرة همه يقول صلى الله عليه وسلم عن جزائه: (جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة). وفي حديث لـ ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه). ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه). ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن تشعبت به الهموم)، يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث: (ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي واد أهلكه) يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به. فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المقربين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الفراغ للعبادة والترهيب من الاهتمام بالدنيا [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الفراغ للعبادة والترهيب من الاهتمام بالدنيا [2] رغب النبي صلى الله عليه وسلم في التفرغ للعبادة والإقبال على الله، وحذر من الانهماك في الدنيا، وجعلها أكبر الهم، ومبلغ العلم، ومن تفرغ لعبادة الله ملأ قلبه غنى ويديه رزقاً، ومن أعرض عن ذكره وتباعد عن طاعته ملأ قلبه فقراً ويديه شغلاً.

استشعار العبودية في كل حال

استشعار العبودية في كل حال الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في الفراغ للعبادة والإقبال على الله تعالى، والترهيب من الاهتمام بالدنيا والانهماك عليها. عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول ربكم: يابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقا، يا ابن آدم لا تباعد مني أملأ قلبك فقرا، وأملأ يديك شغلا) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما طلعت شمس قط إلا بعثت بجنبتيها ملكان إنهما يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وما غربت شمس قط إلا وبعث بجنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجل لمنفق خلفا، وعجل لممسك تلفا) رواه أحمد وابن حبان. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن ماجة ورجاله ثقات. إن الإنسان خلق لعبادة الله عز وجل وتوحيده وإقامة شرعه ودينه، قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]. فإذا عرف المؤمن الهدف من خلقه، عمل به، وعمل له، واستعد للقاء الله سبحانه، ليسأله ما الذي عمله في هذه الدنيا، هل عبد الله عز وجل حق عبادته، أم أن الدنيا قد ألهته فانشغل بها؟ فهو يعبد الله سبحانه في كل أعماله، يعبد ربه بصلاته، وصيامه، وزكاته، وحجه، وعمرته، ويعبد ربه بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، كما يعبد ربه بزواجه، وبتربية أهله وأولاده، ويعبد ربه بالدعوة إليه سبحانه، ويعبد ربه كذلك بالعمل ليطعم أهله وأولاده ويكف نفسه عن سؤال الغير؛ ويتعبد لربه بأن يتقن عمله، فالله عز وجل يحب المؤمن الذي يحسن صنعته ويتقن عمله، وهكذا فالمؤمن في كل وجوه الخير له فيه عبادة.

شرح حديث: (يابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى)

شرح حديث: (يابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى) جاء في حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول ربكم: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي، أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقا). معنى قوله: (تفرغ لعبادتي): أي: أفرغ قلبك من الدنيا، وليس المعنى: اجلس في بيتك ولا تعمل، ولا تطعم عيالك، ولا تفعل الخير، وليس معنى التفرغ للعبادة أن تصلي الليل والنهار وتصوم الدهر، وقد حاول بعض الصحابة أن يصنع ذلك، كـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقام الليل كله، وصام دهره كله، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تفعل، إنك إن فعلته نكهت عيناك، وتعبت نفسك، (إن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يبين له ما الذي يصنعه من حقوق يكون بتأديتها متعبد لله سبحانه وتعالى، ولذلك جاء في الحديث: أن الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم، (يأتي أحدنا شهوته فيكون له أجر؟ قال: أرأيت إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم، قال: فكذلك إن وضعها في حلال كان له أجر). فالإنسان المؤمن حياته كلها عباده لله سبحانه، فإذا نام ليستريح من التعب وحتى يكمل بعد ذلك عبادة الله عز وجل كالقيام والصلاة والعمل من أجل الإنفاق على أولاده فنومه عبادة، وإذا نام ليقوم مستريحاً لهذه العبادة، أعانه الله عز وجل، إذاً: فمعنى التفرغ للعبادة: أن لا يملأ الإنسان قلبه بالدنيا، ويكثر من التمني، فكلما رأى أهل الدنيا في الملاهي، والمطامع، والشهوات يريد أن يكون مثلهم، فإذا بقلبه ممتلئ بفتن الدنيا، وشهواتها وآمالها وأطماعها، فلا يقدر على العبادة، ولن يأتيه من الدنيا إلا ما قسمه الله عز وجل له. إذاً: فليس المطلوب من العبد أن لا يعمل ولكن المطلوب منه أن لا يطمع في الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن الله عز وجل أنه يقول: (لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى له ثانيا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب). فعلى الإنسان أن يترك شهوات نفسه ولا يتمنى كل شيء في هذه الدنيا، فإنه لن يحصل منها إلا ما قسم له، فليرض بما كتب الله عز وجل له، وليأخذ الدنيا بالمعروف، ويجعلها في يده، كما كان الصحابة رضوان الله عنهم، يجعلون الدنيا في أيديهم، ولا يملؤون بها قلوبهم، فإذا جاءتهم الدنيا أنفقوا لله عز وجل، وعملوا له سبحانه، وطلبوا رضا الله، وفرحوا بأمره وأحسنوا عبادته سبحانه. وفي الحديث وعد من الله لابن آدم أنه إذا أفرغ قلبه من الدنيا، ولم يجعلها تسكن قلبه أن الله عز وجل سيملأ قلبه غنى، أي: يجعله قلبه غنياً، وفي الحديث: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس) ومهما امتلأت يد ابن آدم من المال وقلبه متعلق بالدنيا فهو فقير، يستشعر الفقر، ويخاف من الفقر، فيخاف أن لا يضيع منه المال، ويصرف، أو يأتيه مرض تضيع فيه الثروة كلها، فهو في حيرة وخوف دائم، لكن لو أن قلبه امتلأ بالإيمان فلن يهتم بالدنيا أبدا، فإذا جاءه القليل منها حمد الله، وإذا جاءه الكثير منها حمد الله، فلا يهتم للقليل ولا للكثير، طالما أنه أخذ بالأسباب، ولن يأتيه إلا ما قسمه الله عز وجل له. قوله: (يا ابن أدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقا)، ولم يقل: اقعد في بيتك بلا عمل، وصل وسيأتيك الرزق، فالأخذ بأسباب الرزق سنة من سنن الله عز وجل في خلقه، وإن كان الله عز وجل لا يعجز أن ينزل له رزقاً من السماء، وهو جالس في بيته فالله على كل شيء قدير، لكن لم يجعل ذلك سبباً للرزق، إنما الأسباب أن يذهب الإنسان إلى عمله ويتعبد الله عز وجل بإتقانه، ويراقبه في صنعته وعمله والله عز وجل سوف يعطيه الرزق الذي وعده الله عز وجل به. وقوله: (يا ابن آدم لا تباعد مني) أي: لا تتباعد من طريق الله أو عن طريق الله، فإذا فعلت ذلك، قال: (أملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلا) أي: أن ترى المال يأتيك ليل نهار والأرباح تتكاثر عليك ولكنك تشعر بالفقر، وتشعر بأن هذا المال لا يكفي، وأنه سرعان ما ينتهي، أو يضيع أو يسرق، وتفتح لك أبواب تضع فيها هذه الأموال، فيشغلك الله بما آتاك من المال. فالمعنى: أن الله لا يملأ يديك فقراً فقط، بل قد يملؤها مالا، ولكن القلب يجعله فقيرا، محتاجاً يحس دائماً بأنه محتاج للخلق، خائفاً أن يضيع منه المال، وهكذا فالعبد إذا تباعد من الله سبحانه، فليس في قلبه ثقة ولا يقين، لأنه تفرغ للدنيا فكان قلبه فارغا، وامتلأت يداه بالشغل ومع ذلك لم يشبع، ولم يكتف بما آتاه الله. وهذه الأحاديث التي جاءت عنه صلى في هذا الباب كلها صحيحة.

شرح حديث: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى)

شرح حديث: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت شمس قط إلا بعثت بجنبتيها ملكان إنهما ليسمعان أهل الأرض إلا الثقلين) أي: أنه في كل يوم عند طلوع الشمس وعند غروبها يقول ملكان: (يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم) أي: أقبلوا إلى ربكم سبحانه. قوله: (فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) فالإنسان في الدنيا إذا انكب عليها فإنه كلما أخذ منها كلما ازداد نهماً، ولذلك جاء في الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا)، أو (اثنان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) فطالب العلم إذا كان طالباً لله سبحانه لا يشبع أبداً، وكلما ازداد علماً علم بجهله، وطلب العلم وانكب عليه، فيفتح الله سبحانه وتعالى له أبوابه، ولا يشبع منه أبداً، وطالب المال كذلك لا يشبع منه أبداً، وكلما ازداد مالاً ازداد حرصاً على المال،، وطلباً له. فيقول الملكان هنا: (إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) أي: إذا كان المال على قدر حاجتك، وكفايتك فهو أفضل لك من الكثير الذي يلهيك، فقد ترى الرجل لديه ألف يريدها أن تكون ألفين، ثم يريدها أن تكون مليوناً، ثم يشغلها بعد ذلك، يعطي هذا وهذا وينشغل بمتابعتها طول النهار، هل أكمل هذا أم لم يكمل؟ وهذا هل عمل أم لم يعمل؟ وهكذا يظل يبحث عن المال، وفي النهاية يأتيه الموت وإذا به عليه ديون، وإذا بالمال له أصحاب يطلبونه، وإذا بالإنسان قد ضاع منه المال بسبب حرصه وجشعه. إذاً: فما قل مع الإنسان مما يكفيه، خير له مما كثر وهو يلهيه. قال في الحديث: (وما غربت شمس قط إلا وبعث بجنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجل لمنفق خلفاً، وعجل لممسك تلفاً)، وجاء في حديث آخر: (أنه في كل يوم تطلع فيه الشمس وتغرب يبعث الله عز وجل ملكين يقولان ذلك، ويدعوان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً) فالذي ينفق لله عز وجل، بأن ينفق على عياله، وعلى نفسه وقرابته وأرحامه، وينفق على الفقراء والمساكين، فهذا يعجل الله عز وجل له بعطاء، من فضله سبحانه ورحمته، وقوله: (اللهم عجل لمنفق خلفاً) أي: أخلف عليه. أما الممسك الذي يبخل: عن نفسه، وعياله، ويبخل عن أمه وأبيه، ويبخل عن الفقراء والمساكين، مع وجوب ذلك عليه، فهذا يعجل الله عز وجل له تلفاً: فيتلف ماله، تتلف صحته، ويضيع عليه هذا المال، الذي اكتسبه والذي بخل به. لذلك فالمؤمن ينفق مما أعطاه الله سبحانه ولا يبخل، فيتعبد الله بالمفهوم الأشمل والأوسع، في كل وقت وفي كل عمل من الأعمال، ويؤدي الواجبات، والنوافل، ويطعم نفسه وأهله، وضيفه، وعياله، فالله عز وجل يملأ يديه رزقاً من فضله وكرمه سبحانه.

شرح حديث: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره)

شرح حديث: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره) جاء في الحديث عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)، هذا حديث عظيم وجميل عن النبي صلى الله عليه وسلم، يفرق فيه بين من كانت الدنيا همه، وكان مهموماً منشغلاً بها، وبين من هو مشغول بأمر الآخرة، فهذا رزقه مقسوم،، وهذا رزقه مقسوم. أما الأول: فهو من كانت الدنيا همه، فإن الله يفرق عليه أمره، ويجعله مشغولاً بالدنيا، فإذا بها تشعبه في كل وديانها وسهولها. ، وجبالها، وتتفرق به الأهواء والمطامع في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (وجعل الله فقره بين عينيه،) حتى إذ امتلأت يداه مالاً فإن قلبه يمتلئ فقراً فيحس أنه فقير، ويشعر أن المال سوف ينتهي، (ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له). وأما الآخر: فهو من كانت الآخرة همه، ونيته رضا ربه سبحانه، فهذا قال عنه صلى الله عليه وسلم: (جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه)، فإذا به غني القلب لا يهتم بهذه الدنيا، ولا يريد أن يتوسع فيها توسعاً كبيراً، وإنما هو قانع برزق الله سبحانه الذي قد كفاه هذا الرزق، (وأتته الدنيا وهي راغمة) أي: أتته الدنيا غصباً عنها؛ لأن الله كتب له رزقه أنه سيأتيه، فبحث عن الزرق من الباب الحلال، فآتاه الله عز وجل به.

وقت صلاة الضحى وفضيلتها

وقت صلاة الضحى وفضيلتها إن البعض يصلي الضحى في وقت الشروق وهذا لا يجوز، فالشروق في الساعة السادسة واثنين وعشرين دقيقة، إذاً: صلاة الضحى بعده بحوالي ثلث ساعة، فتكون صلاة الضحى في الساعة السابعة إلا ثلث أو السابعة إلا ربع، والصلاة قبل ذلك في وقت الشروق حرام، فلا يجوز للإنسان أن يصلي وقت شروق الشمس؛ لأن الكفار تسجد لها في هذا الوقت، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتشبه بهم، فإذا كان الإنسان مستعجلاً ووراءه شغل أو حاجة فلينصرف، ثم يصلي الضحى في بيته، لكن فضيلتها ليست كفضيلة صلاة من انتظر في المسجد وصلاها هناك، فقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر ثم جلس في مصلاه يذكر الله عز وجل حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين إلا كتب له حجة وعمرة تامة، تامة تامة) فالأفضل للإنسان أن يجمع ذلك فيصلي الفجر في جماعة ويجلس في مصلاه يقرأ القرآن أو يذكر الله عز وجل بالأذكار المأثورة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم من تسبيح وتكبير وتهليل، إلى أن تطلع الشمس، وينتظر ما يقرب من ثلث ساعة بعد الشروق وبعد ذلك يصلي الضحى، ويكون له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة. ولا ينبغي أن ينشغل المسلم باللغو والكلام في هذا الوقت فيشغل نفسه ويشغل غيره. كما لا يجوز أن يقرأ القرآن بصوت عالٍ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، عن رفع الصوت بالقرآن، إلا أن يكون الإنسان في مجلس علم فلا بأس برفع الصوت فيه، أما إذا كان مع غيره فلا يجوز أن يرفع صوته ويؤذي غيره، حتى ولو كان حافظاً للقرآن، فليقرأ سراً، ولذلك خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة بعد العشاء في رمضان وكل منهم يقرأ فقال أيها المصلون! كلكم يناجي ربه فلا يؤذي بعضكم بعضا. وأحياناً قد يكون رفع الصوت مدعاة للرياء، فيحب الرجل أو المرأة أن يعرف بأنه حافظ، أو عالم، أو أنه أفضل من غيره، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تعلم واكتم، واصمت تسلم، تسر الأبرار وتغيظ الفجار. فاكتم العلم لتأخذ أجره، ولا تجهر به، وتظهر الرياء، وانشغل بنفسك ولا تنشغل بأحد، فإن المسجد إنما وضع للعبادة، والدعاء والدعوة إلى الله سبحانه وليس للتعرف على الناس، وكثرة الكلام والتسامر مع الآخرين.

حكم رفع الصوت في الصلاة

حكم رفع الصوت في الصلاة لا يجوز رفع الصوت في الصلاة إلا للإمام، يرفع صوته في القراءة في الصلاة الجهرية، ويرفع صوته بالتكبير، حتى يعرف الناس الركوع والسجود وغير ذلك، أما أن يرفع الإنسان صوته بالتشهد أو بالذكر أو التسبيح أو غيره فهذا لا يجوز.

حكم من صلى قاعدا وهو يقدر على القيام

حكم من صلى قاعداً وهو يقدر على القيام إن البعض يصلي مع الإمام الركعة الأولى في صلاة الفرض وهو قائم، وإذا قام الإمام للركعة الثانية أكمل الصلاة وهو قاعد، فإذا صلى النافلة صلاها وهو قائم، أي: أنه يقدر على الصلاة وهو قائم، إذاً: فصلاته للفريضة وهو قاعد باطلة. والبعض يأتي من بيته ماشياً حتى يصل إلى المسجد، فمعنى ذلك: أنه يقدر على الوقوف في الصلاة، ولكنه يجلس على كرسيه من أول الصلاة، فيضيع ركناً من أركان الصلاة فتبطل صلاته. فالركن الذي يقدر الإنسان على أدائه فلا بد منه سواء كان ركن القيام، أو الركوع، فإذا كان لا يستطيع أن يقوم بركن كالسجود على الأرض فلا يقعد من أول الصلاة إلى آخرها، بل يقوم ويركع حتى إذا جاء وقت السجود لا يسجد على الأرض ويسجد كيفما شاء، أما إذا صلى الصلاة كلها قاعداً فصلاته باطلة. نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ويفقهنا في ديننا، وينفعنا بما علمنا، ويرزقنا الإخلاص ويجنبنا الرياء. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في العمل الصالح عند فساد الزمان

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في العمل الصالح عند فساد الزمان تكثر الفتن على المؤمن في آخر الزمان وأعظمها أن يفتن في دينه، فلا يجد من هو على شاكلته إلا القليل النادر، فيكون تمسكه بتعاليم الدين وشرائعه عند فساد من حوله كالقابض على الجمر تحرقه ولا يلقيها حفاظاً عليها. وعند فساد الزمان يعظم أجر العبادة لله تعالى حتى يكون كأجر الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأحب العبادات ما داوم عليها صاحبها وإن قلت.

شرح حديث أبي ثعلبة الخشني

شرح حديث أبي ثعلبة الخشني الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في العمل الصالح عند فساد الزمان. عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث وفيه -: (فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله). رواه ابن ماجة، والترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وأبو داود، وزاد: (قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم). وعن معقل بن يسار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عبادة في الهرج كهجرة إلي). وقال الإمام المنذري رحمه الله تعالى: [الترغيب في المداومة على العمل وإن قل. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير، وكان يحجره بالليل فيصلي عليه ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، فجعل الناس يثوبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون بصلاته حتى كثروا فأقبل عليهم فقال: يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما دام وإن قل)]. ورغب النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في أن يعملوا الأعمال الصالحة في كل وقت، وخاصة حين لا يجدون ما يعينهم على الصلاة وعلى تقوى الله سبحانه وعلى أعمال الخير. ففي الحديث الأول يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (فإن من ورائكم أيام الصبر) يقول هذا للصحابة وهم الذين جاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عز وجل لهذا الدين قلوب الناس بلدانهم، وهذا من فضله ومن كرمه سبحانه، وأصبح المؤمنون أعزةً بعدما كانوا أذلة، وأقوياء بعدما كانوا ضعفاء، وأصبحوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويجدون من يعينهم على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم يعلمهم ويؤدبهم ويربيهم عليه الصلاة والسلام، فيذكر لهم أنه ستأتي بعد زمانهم أيام الصبر فيهن مثل القبض على الجمر.

شرح حديث: (بدأ الإسلام غريبا)

شرح حديث: (بدأ الإسلام غريباً) وجاء في الحديث الآخر: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) بدأ الإسلام برسولنا صلوات الله وسلامه عليه وهو رجل واحد فدعا إلى الله فاستغرب الناس منه ذلك، وقاتلوه وطردوه، وأرادوا أن يوثقوه عليه الصلاة والسلام؛ حتى نصر الله عز وجل هذا الدين. فأوذي أذىً شديداً وكان يقول: (لقد كنت أؤذى وما يؤذى أحد) أي: يؤذيني الناس ولا أحد يؤذى سواي عليه الصلاة والسلام. فبدأ الإسلام غريباً وسيرجع مرة أخرى غريباً فيكثر أهل المعاصي والفجور وأهل البعد عن دين الله ويصبح كلامهم هو الذي يصدق عند الناس. أما أهل الدين فيعتقد الناس فيهم كما يزعمون أهل تخلف ويدعون عليهم. وبدأ الإسلام غريباً وسيرجع غريباً بين أهله المسلمين، فيرون أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم بدعة من البدع، فهم على مثل ما كان عليه آباؤهم في الضلالات والبدع فلا يعرفون الله سبحانه، ففي هذا الزمن الذي يتمسك بدينه كالذي يقبض على الجمر، فيعاني المتمسكون بدينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يرغبهم في الإكثار من التمسك والتشدد في ذلك؛ فإنها أيام الصبر، فاصبروا على دينكم، وعلى أذى الخلق، وعلى طاعة الله سبحانه وتعالى، وعلى قضائه وقدره. والإنسان يجد الفتن في بيته وفي طريقه، وفي ولده، وفي كل مكان، ففتنة الرجل في أهله وماله تكفرها عبادات العبد من صلاة وصيام وأمر بمعروف ونهي عن منكر ونحو ذلك. ويرغبك النبي صلى الله عليه وسلم في التمسك بالدين مهما عاداك الأقربون والأبعدون، فقال: (الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله). فمن تمسك في زمن الفتن الذي يدعى فيه المؤمنون إلى ترك دينهم فله أجر خمسين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعملون هذا العمل. وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صبروا وكانوا أقوى الناس إيماناً، والله عز وجل جعلهم السابقين ولهم الدرجات العالية والمنزلة العظيمة عنده سبحانه وتعالى، ولكن الذين يأتون من بعدهم يجدون أهل الضلال كثيرين فيغرونهم، ويضلونهم، ويدعونهم إلى البعد عن الله عز وجل، فلذلك الذي يصبر على هذا البلاء كله ولا ينظر إلى ما حرم الله، ولا يتمنى معاصي الله سبحانه وتعالى فيصبر على الطاعة، ويصبر عن المعصية، ويصبر على القضاء والقدر، فالله يعطيه أجر خمسين رجلاً من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه. ففيه ترغيب عظيم جداً بالتمسك بحسن الخلق وبدين رب العالمين سبحانه، وإياك أن تفتن فالفتن كثيرة، ولذلك لما خلق الله عز وجل الجنة والنار وأمر جبريل أن يذهب فينظر إليهما فقال عن الجنة: ما يسمع بها أحد إلا ويدخلها. وقال عن النار: من يسمع بها يخاف منها فلا يدخلها مما فيها من عذاب ولهيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكارة وحفت النار بالشهوات). وقال أيضاً: (وقيل لجبريل: اذهب فانظر، فنظر إلى الجنة فقال: خشيت أن لا يدخلها أحد - أي: من كثرة المكاره التي حولها فكل الخلق يبتعدون عنها خوفاً من المكاره فلا يدخلونها- ونظر إلى النار فقال: خشيت أن يدخلوها كلهم)، لما حول النار من الفتن ومن الشهوات التي حفت بها. فلذلك المؤمن يصبر كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] وهنا توكيد من كلام رب العالمين سبحانه بالصبر والمصابرة والمجاهدة والمدافعة والمرابطة في سبيل الله حتى يثبت على ذلك، وحتى يؤجر هذا الأجر العظيم أجر خمسين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبراني من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من ورائكم زمان الصبر للمتمسك فيه أجر خمسين شهيداً منكم) أي: للمتمسك بدينه أجر خمسين شهيداً، وهذا شيء عظيم ما تحلم به أبداً. فالمؤمن يدعو ربه أن يرزقه شهادة كشهادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يصل إليها بأن يتمسك بالدين، وأن يقبض عليه وأن يعاني في سبيل الله سبحانه وتعالى ويصبر على ذلك، مهما آذاه الخلق، ومهما تعرض له من فتن فيصبر ويتمسك، حتى يكون له أجر خمسين شهيداً أو رجلاً من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه. ومن الأحاديث: ما رواه مسلم عن معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) والهرج هو زمن الفتن الذي يقتل الناس بعضهم بعضاً على أتفه الأسباب أو بغير أسباب، ويفعلون المعاصي، فيتهارجون كتهارج الحمر ويقعون في الزنا والعياذ بالله، ويقعون في الكبائر والصغائر من الذنوب، كالقتل وأكل الأموال واغتصابها، ويقعون في كل شيء فيه هرج واختلاط. فالذي يعبد ربه في مثل هذا الزمان الذي فيه الهرج ولا يمن بعبادته، ولا يرى لنفسه فضلاً على أحد من خلق الله سبحانه وتعالى، فله أجر هجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالمؤمن إنسان متواضع، يعبد الله سبحانه ويخاف أن لا يقبل منه ذلك، وفرق بين من يعبده ويظن أنه حصل كل شيء بذلك وأنه أفضل من غيره فيأخذه العجب والغرور فقد يحبط عمله بسبب ذلك، وبين من يعمل ويعبد ربه ويرجوه ويدعوه كما دعاه أبو الأنبياء: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] فهذا الذي له الأجر العظيم جداً الذي لا يحلم به إنسان وهو كأجر الهجرة. والهجرة قد مضت لأهلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) فالمؤمن قد ينال أجر الهجرة وأجر خمسين شهيداً، أو أجر خمسين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. بالعبادة في الزمن الصعب الشديد الذي لا يجد فيه من يعينه. والعبادة ليست عبادة يوم وليلة أو عبادة شهر رمضان وانتهى الأمر على ذلك، وإنما عبادة يداوم عليها المؤمن كإنسان يمسك جمرة بيده ولا يلقيها، فتحرقه وتؤذيه وهو ممسك بها حتى يلقى ربه سبحانه. ودين الله لا يؤذي أحداً بل كل دين الله خير، ولكن المقصد أن المتمسك بالدين يؤذيه الخلق، فيفتنونه عن دينه، ويلومونه على ذلك، ويدعونه إلى الباطل، وهو صلب متمسك بدين الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي له هذا الأجر الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث عائشة: (إن الله لا يمل حتى تملوا)

شرح حديث عائشة: (إن الله لا يمل حتى تملوا) إذاً: فالمطلوب هو بالعبادة بها والمداومة عليها، ولذلك جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا) يعني: لا يقطع عنكم الثواب حتى تملوا عن العمل فتحرمون الأجر. (وإن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما دام وإن قل). فتداوم على العمل في رمضان وفي غيره، فهذه العبادة التي تكون بها أدركت هجرة إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأدركت أجر خمسين شهيداً. نسأل الله عز وجل أن يعطينا ذلك كله من فضله ورحمته وكرمه إنه على كل شيء قدير، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد وما جاء في فضل الفقراء والمساكين [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد وما جاء في فضل الفقراء والمساكين [1] إن الله عز وجل خلق الخلق، وقسم بينهم أرزاقهم، كما قسم أعمارهم فجعل منهم الغني والفقير ومنهم من رزقه كفافاً، ولله عز وجل في هذا التقسيم حكمة بالغة، وليس إنعام الله على شخص دليلاً على حبه له، ولا إفقاره دليلاً على بغضه؛ لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب. وقد أمر الله عز وجل عباده بالشكر وقت النعماء وبالصبر وقت الضراء، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فضيلة التخفف من الدنيا، وعدم الحرص عليها، وألا يجعلها الإنسان همه؛ لأن الله تكفل برزقه.

أهمية التخفف من الدنيا

أهمية التخفف من الدنيا الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام المنذري رحمه الله: [الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد، وما جاء في فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين وحبهم ومجالستهم]. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين أيديكم عقبة كؤوداً لا ينجو منها إلا كل مخف) رواه البزار بإسناد حسن. وعن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنهما قالت: قلت له: ما لك لا تطلب ما يطلب فلان وفلان؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من ورائكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون. فأنا أحب أن أتخفف لتلك العقبة. رواه الطبراني بإسناد صحيح. وعن أبي أسماء: أنه دخل على أبي ذر وهو بالربذة، وعنده امرأة سوداء مسغبة ليس عليها أثر المحاسن ولا الخلوق، فقال: ألا تنظرون إلى ما تأمرني هذه السويداء؟ تأمرني أن آتي العراق فإذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم وإن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقاً ذا دحض ومزلة، وإنا إن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار واضطمار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليها ونحن مواقير. رواه أحمد، وروايته رواية الصحيح. هنا يذكر الإمام المنذري رحمه الله: الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد، وما جاء في فضل الفقراء والمساكين. وكأن المعنى: أن الإنسان إذا لم يعطه الله عز وجل مالاً فليحمد الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يتنافس مع أهل الدنيا، فإن الله قسم الأرزاق، فجعل من الناس من هو غني، ومنهم من هو فقير، ومنهم من هو شريف، ومنهم من هو وضيع ضعيف، فالله يقسم في خلقه ما يريد سبحانه. فالغرض أن يرضى الإنسان بما قسمه الله عز وجل له، فإذا أغناه شكر الله سبحانه، وإذا أفقره حمد الله سبحانه وشكره، وصبر على ما ابتلاه به، ولا يحسد الناس على ما آتاهم الله عز وجل من فضله. فالمؤمن إذا افتقر فهو ينظر إلى رحمة رب العالمين، ويتسلى ويتصبر بما جاء في هذه الأحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه. فإذا أغناه الله عز وجل فليحذر وليخف على نفسه أن تفتنه الدنيا، وأن يمنع الحقوق عن أصحابها. فيكون في حاليه من فقر وغنى حامداً لله سبحانه، شاكراً له، صابراً في أمر الفتنة التي هو فيها، سواء فتنة الغنى أو فتنة الفقر.

شرح حديث أبي الدرداء في التخفف من الدنيا

شرح حديث أبي الدرداء في التخفف من الدنيا عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين أيديكم عقبة كؤوداً)، أي: أمامكم عقبة كؤوداً، أي صعبة، وحاجزة، وطريق وعر كالجبل يصعب أن تمروا عليه إلا أن تكونوا متخففين. وهذا ضرب مثل، فالإنسان الذي يسافر إذا كان الطريق الذي يسافر فيه سهلاً كأن يمشي في سهول وفي أرض منبسطة فمن السهل أن يحمل الجمل الذي يركبه، أو السيارة التي يركبها أحمالاً كثيرة؛ لأنها ستسير في الطريق السهل. وأما إذا كان طريقه صعباً وعراً في جبل، وفي صعود، فإنه يصعب عليه أن يحمل دابته أو سيارته أشياء كثيرة؛ لأنها لن تستطيع أن تتجاوز هذا الجبل، وهذه العقبة الكؤود، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أمامكم عقبة كؤود، حتى تتخطوا هذه الدنيا وتصلوا إلى الآخرة، فتنجوا وتدخلوا الجنة بغير حساب ولا عذاب. وهذه العقبة في الدنيا، وفي الموقف، وفي السؤال، وفي المرور على الصراط، حتى تصلوا إلى الجنة، فهناك زمن طويل، ومصاعب جمة في الطريق، والذي ينجو من هذا كله هو المتخفف. كالذي يركب سيارة فارغة ليس فيها حمولة، فإنه يجري بها، ويسير بسرعة، حتى لو صعد بها مكاناً فإنها تصعد به بسهولة. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن وراءكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون). وهنا عن أم الدرداء أنها قالت لـ أبي الدرداء رضي الله عنه: ما لك لا تطلب ما يطلب فلان وفلان؟ يعني: لماذا لا تصاحب الأمير، وتذهب إلى الخليفة وتتكلم معه من أجل أن يعطيك من المال؟ فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن وراءكم عقبة كؤوداً، لا يجوزها المثقلون. يعني: لو ذهبت وعملت مثل ما عمل فلان وفلان، وامتلأت بالأموال الكثيرة، فقد ثقلت نفسي بها، فيوم القيامة يسألني الله سبحانه تبارك وتعالى عن هذه الأموال جميعها، من أين جمعتها؟ وفيم أنفقتها؟ فيصير السؤال طويلاً وصعباً، والمرور على الصراط أصعب فاتركيني خفيفاً على هذه الحال أفضل من الثقل، وألا أجوز الصراط.

شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه في التخفف من الدنيا

شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه في التخفف من الدنيا عن أبي ذر رضي الله عنه، يقول الراوي عنه وهو أبو أسماء: أنه دخل على أبي ذر وهو بالربذة. وأبو ذر رضي الله عنه كان من أصدق الناس لهجة رضي الله عنه، وكان يشبه بالمسيح عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقد كان ينصحه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: (يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، فلا تقضي بين الناس، ولا تولين مال يتيم)، فينصحه النبي صلى الله عليه وسلم: بأني أحب لك ما أحب لنفسي، فأنت ضعيف عن هذا، ولا تقدر على القضاء، ولا على تولي أموال الأيتام، فلا تفعل ذلك. وقد كان أبو ذر رضي الله عنه صادق اللهجة، وكان شديداً في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ولعل صدق لهجته وشدته وحدته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعل الناس ينفرون منه، ويشكونه لـ عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان رفيقاً رقيقاً لطيفاً حنوناً، رضي الله عنه، فلا يحب أن أبا ذر ينفر الناس. فقال له: لو اعتزلت. يعني: طالما أنك شديد في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وإنا نختلف معك في الفتوى التي تقولها؛ لأن أبا ذر كان يرى أن من معه فائض من المال فيجب عليه أن يوزعه على الناس الفقراء والمحتاجين. وكان غيره من الصحابة لا يرون ما يرى، وهذا الذي رآه كان قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام. ولكن بعد ذلك أخبروا عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإنسان الذي يؤدي الزكاة ثم فاض عنده مال فإن هذا ليس بكنز، فإذا أدي زكاته فليس بكنز. ولم يسمع أبو ذر ذلك، فظل مصراً على ما كان في الماضي، من أن الإنسان إذا ادخر مالاً فحتى ولو أدى الزكاة منه فهو كنز، ولا بد أن يخرجه قبل أن يحاسب عليه يوم القيامة. فقال له عثمان: أنت مخالف لنا في ذلك فلو اعتزلتنا، فبدلاً من أن تفتي أنت بشيء ونحن بخلافه فيحصل خلاف بين الناس، ونفرق الناس فأولى لك أن تعتزل. وفعلاً اعتزل أبو ذر رضي الله عنه، وذهب إلى الربذة، واعتزل هنالك، رضي الله تبارك وتعالى عنه. وكانت معه امرأته، وهي كما جاء في هذا الأثر أنها كانت امرأة سوداء مسغبة، كأنها ليست جميلة، يعني: امرأة سوداء ليس عليها أثر المحاسن ولا الخلوق. يقول أبو أسماء: قال أبو ذر: ألا تنظرون ما تأمرني به هذه السويداء؟ يعني: امرأته؛ لأن زوجته تطلب منه أن يخرج إلى الخليفة، ويرجع من عنده بمال، فيقول: تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم؛ لأنها أرض فيها خير كثير، وفيها أموال كثيرة، وسيقولون: هذا صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيغدقون علي من أموالهم. فقال: إذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم، وإن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقاً ذا دحض ومزلة. أي: إن جسر جهنم عندما تعبره فهو طريق طويل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصراط: (أنه أحد من الموسى، وأدق من الشعرة، وأنه فوق ظهر جهنم، ويؤمر الخلق أن يمروا فوق هذا الجسر، وعن يمينه وشماله خطاطيف تخطف الناس، وتوقعهم في النار) والعياذ بالله، وهذا الجسر لا يجوزه إلا المتخففون، الذين لم يأخذوا من الدنيا شيئاً، والذين لم يذنبوا، ولم يقعوا في المعاصي وفي الذنوب، فيمرون كطرف العين، أو كالبرق فوق هذا الجسر، أو فوق هذا الصراط. يقول أبو ذر رضي الله عنه: وإنا إن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار واضطمار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير. أي: إذا مررنا على الجسر وفي أحمالنا اقتدار، وهي: من قدر عليه رزقه، أي: خفف، فيقول: إذا كانت أحمالنا خفيفة فيها اقتدار، وفيها قلة، وفيها اضطمار، من الفرس المضمر الذي من كثرة العدو والجري يخف وزنه، فيقصد أن أحمالنا تكون خفيفة فيسهل علينا المرور على هذا الجسر. وقوله: (أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير)، أي: موقرون أثقالاً، وآخذين أحمالاً وأثقالاً، فمن الصعب أن نجوزه.

حماية الله لعبده المؤمن من الدنيا

حماية الله لعبده المؤمن من الدنيا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليحمي عبده المؤمن الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب). قد يكون الإنسان المؤمن طالباً للمال وللدنيا، فيكدح ويتعب، ورزقه قليل، وقد يظن في نفسه أنه محروم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل يحمي) بمعنى: يمنع والحمية: الامتناع، أي: يمنع عبده المؤمن من الدنيا. والله أعلم أن هذا العبد لو نال هذا المال فلعله يشقى، ويصير تعيساً في الدنيا والآخرة، ولعله يفتن به، فإذا بالله لحبه له يحرمه من هذا المال، فلا يناله، فلعله يحزن إن فاته، ويؤجر على حزنه، ويؤجر على همه وحزنه، ويوم القيامة يجد الطريق إلى الجنة مفتوحاً له، ولو أنه أخذ هذا المال فلعل طريق الجنة يغلق عنه فلا يدخلها، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليحمي عبده المؤمن الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب). أي: عندما يكون لك مريض، والأطباء منعوه من أن يأكل كذا وكذا فإنك لا تعطيه هذا الطعام، ليس لكونك تبغضه، وإنما لكونك تحبه، وتخاف عليه من أن يزداد عليه المرض، ولله عز وجل المثل الأعلى، فإنه يحمي عبده الدنيا، ويمنعه من الدنيا، وهو يحبه، ولو أعطاه الدنيا لأفسدته، فيحميه ويمنعه منها ليدخر له أجره موفوراً يوم القيامة، فلذلك لا يحزن العبد المؤمن ولا يشقى بقلة المال، وإنما الشقي هو الذي حرم من معرفة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، والذي حرم من السعادة في الآخرة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده السعداء عنده. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد وما جاء في فضل الفقراء والمساكين [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد وما جاء في فضل الفقراء والمساكين [2] إن من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الناس متفاوتين في الرزق، فجعل فيهم الغني الفقير، وجعل فيهم من رزقه كفافاً، ومع أن للفقراء مزية عند الله سبحانه؛ إلا أنه لا ينبغي للعبد أن يدعو على نفسه بالفقر والفاقة، أو يتقاعس عن السعي في كسب الرزق؛ لأن العبد مطالب بذلك، وأيضاً مأجور عليه، لكن إذا قدر عليه الفقر فلا يسعه إلا الرضا والصبر، وسوف يدرك ما أعده الله له بمقابل ما حرمه من لعاعة الدنيا.

الفقر ليس مطلوبا لذاته وإنما الفضل في الرضا به

الفقر ليس مطلوباً لذاته وإنما الفضل في الرضا به الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله الترغيب في الفقر: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها فقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)، رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم قال: إنهم كانوا عباداً يعبدوني ولا يشركون بي شيئاً، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)، رواه أحمد والبزار. هذه الأحاديث يذكرها الحافظ المنذري في كتاب التوبة والزهد، باب الترغيب في الفقر وقلة ذات اليد، وما جاء في فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين وحبهم ومجالستهم، والمقصد من هذا الباب: أن الإنسان إذا أفقره الله عز وجل فلا يبأس ولا يحزن ولا يحسد غيره ممن آتاه الله عز وجل مالاً، فالمال نعمة من الله سبحانه، وقد يكون لإنسان نعمة وعلى إنسان نقمة، فيكون لإنسان يتقوى به على طاعة الله سبحانه، وعلى عمل الخير، ويكون لإنسان آخر يتقوى به على معاصي الله سبحانه تبارك وتعالى. وشأن المؤمن أن يرضى بالحال الذي هو فيها، فإن أعطاه الله عز وجل مالاً رضيه، وحمد الله وشكره على ما آتاه، وإن منعه من ذلك صبر ورضي وحمد الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يتضجر، وليتسل وليتصبر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في هذا المعنى، وليس المعنى أن يطلب الإنسان من ربه الفقر فيدعو ويقول: يا رب! أفقرني، مثلاً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الكفر والفقر، ولكن كان يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)، يعني: بقدر ما يحتاجون، وكان يقول: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، صلوات الله وسلامه عليه، فكان يسأل الله سبحانه أن يرزقه أن يكون كالمساكين، وليس المعنى أن يكون معهم في فقرهم أو أن يكون فقيراً؛ لأنه كان يتعوذ بالله من الفقر، وإنما المعنى: أن يجعله في تواضع المساكين، إذ المسكين الذي ليس له مال يتواضع، ولذا يطلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يرزقه هذا الخلق، فيكون خلقه التواضع حتى لو آتاه الله كنوز الدنيا، وكذلك كان يسأل ربه سبحانه القوت، أي: أن يعطيه بقدر ما يحتاج، فهو لا يريد أكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، بل لو آتاه الله عز وجل مثل جبل أحد ذهباً! لما بقي في بيته منه شيء إلا وهو ينفق هكذا وهكذا وهكذا، إلا شيئاً يبقيه لدين صلوات الله وسلامه عليه. فغاية ما تدل عليه هذه الأحاديث: أن الإنسان إذا أفقره الله ولم يعطه مالاً فعليه أن يصبر على ذلك، بعد أن يأخذ بالأسباب في طلب الرزق وفي طلب المعاش، ويرضى بقضائه وقدره، ويتصبر بمثل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء)، وإذا كان الفقراء هم الأكثرين في الجنة، فالإنسان المؤمن يحب أن يكون معهم، والفقراء أيضاً أول من يدخلون الجنة، ولذا فالمؤمن يحب أن يدخل الجنة مع هؤلاء الفقراء، وهؤلاء المساكين. قال: (واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)، وإنما كانت النساء أكثر أهل النار؛ لكون النساء أشد فتنة وجدت على الأرض، فهن فتنة لأنفسهن، وفتنة لغيرهن، إلا من رحم الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن المرأة قليلة الصبر، كثيرة الشكوى والضجر، لا تخلو من البلاء، والإنسان يحتاج إلى طاعة ربه ولعلها تصرفه عن ذلك بكثرة شكواها، وكثرة طلبها، ويستثنى من ذلك المرأة الصالحة التي تعين زوجها وتعين أهلها على طاعة الله، وعلى تقوى الله سبحانه تبارك وتعالى. وجاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن النساء أكثر أهل النار، فلما سألنه ولم؟ قال: يكثرن اللعن ويكفرن العشير)، فقوله: يكثرن اللعن، أي: يتسرعن في اللعن، فتشتم وتسب وتدعو على غيرها باللعنة كل ذلك في عجلة وعدم تؤدة، وهذه الدعوة دعوة سيئة، أي: الدعوة على إنسان باللعنة، كأن يقول: لعنك الله، إذ اللعنة يضيق عليها الفضاء كله بما رحب، وتضيق عنها السماوات والأرض، ولا يقبل أحد في السماوات ولا في الأرض هذه اللعنة، فإنها إن تصعد إلى السماء لا تجد مكاناً، وإن تنزل إلى الأرض لا تجد مكاناً، إلا اللاعن أو ذاك الملعون، فإذا كان المشتوم الملعون يستحق اللعن نزلت عليه، فطرد من رحمة الله وإن كان لا يستحقها رجعت إلى قائلها، فكأنه دعا على نفسه بالطرد من رحمة رب العالمين سبحانه. وإذا كانت المرأة تكثر من اللعن؛ فكأنه بكثرة لعنها لغيرها، قد تلعن من لا يستحق هذه اللعنة، فتحور عليها لعنتها، وتستحق جزاءها. قوله: (يكفرن العشير) يؤيده ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المرأة لو أحسن إليها بعلها الدهر كله، ثم رأت منه شيئاً، قالت: ما أخذت منك شيئاً، ما رأيت منك شيئاً)، فهي تنكر ما أعطاها زوجها الدهر كله، فاستحقت بكفران العشير أن تدخل النار.

أول من يدخل الجنة

أول من يدخل الجنة روى الإمام أحمد والبزار من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم -أما نحن فلا نعلم- فقال صلى الله عليه وسلم: الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور ووتتقى بهم المكاره)، فالفقير الذي هاجر إلى الله ورسوله إذا أمر أن يخرج للجهاد خرج، وإذا أمر أن يسافر للمكان الفلاني سافر، وإذا قيل له: اسكت عن كذا، يسكت، فهو فقير ليس من ذوي الرأي، ولا من كبار القوم الذين يأمرون، بل هو من صغار القوم الذين يُؤَمرون، سواء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد ذلك، قوله: (وتتقى بهم المكاره)، أي: هم الجنود دائماً، ومعلوم أن القائد في الجيش يكون، في مؤخرة الجيش؛ يحميه الجنود، فهؤلاء تتقى بهم المكاره، ثم قال: (ويموت أحدهم حاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء)، فالفقير المسكين قد تشتهي نفسه أن يأكل أكلة معينة، أو يلبس لبساً معيناً، أو يتكلم في حاجة معينة، لكن بسبب فقره لا يسمع إليه أحد، ولا يجد ما يشتري به هذا الطعام، ولا هذا الشراب ولا هذا اللباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يموت أحدهم وحاجته في صدره)، أي: لا يستطيع أن يأتي ما نفسه فيه، وأكدها بقوله: (لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم)، أي: أن الله يدخل الجنة الإنسان الذي كان في الدنيا فقيراً، مجاهداً في سبيل الله، قد عمل الصالحات، وأعطى في الدنيا كثيراً، ولم يأخذ منها إلا القليل حسب الظاهر، ولكن الحقيقة أن الله أعطاه الكثير، إذ يكفيه الإيمان الذي قلبه، والصبر الذي هو عليه ليس منه، بل هو من الله سبحانه الذي أعانه على الصبر على الدنيا، وكانت تكرمته الجنة، فإذا أدخله الله عز وجل الجنة أمر الملائكة أن يأتوا إليه، وأن يسلموا عليه ويحيوه، فتقول الملائكة لربها سبحانه تبارك وتعالى: (ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك! أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟)، والملائكة خلق من خلق الله، خلقهم من نور، وهذا شيء أعظم مما خلق منه الإنسان، فهو مخلوق من طين، وكأن الملائكة نظروا إلى أن الله كرمهم وخلقهم من نور، وجعلهم أهل سماواته سبحانه تبارك وتعالى، وجعلهم خيرته، وهؤلاء عباد مخلوقون من طين، وقد أذنبوا في الدنيا، وأصابهم فيها ما أصابهم، فكيف نذهب إليهم؟ -يستفهمون من ربهم سبحانه وتعالى- فيقول الله عز وجل: (إنهم كانوا عباداً يعبدونني، ولا يشركون بي شيئاً، وتسد بهم الثغور)، يري الله الملائكة كيف كان هؤلاء على خير في هذه الدنيا، وكيف أنهم كانوا عباداً لله، يعبدون الله ولا يعبدون أحداً إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يشركون به شيئاً وتسد بهم الثغور، وفي الحديث صورة لائقة لهؤلاء في قوله: (تسد بهم) فلو أن قربة مغلقة انخرقت ثم نزل منها الماء وأخذ يخرب في الدنيا فمن سيقوم بسد هذا الخرق؟ لقد كان هؤلاء هم الذين تسد بهم هذه الثغور يعني: الشرور التي تأتي من أعداء الإسلام عن طريق الثغور، فالله عز وجل جعل هؤلاء أسباباً لسد الثغور وكف الشرور، قوله: وتتقى بهم المكاره، يعني: أمة الإسلام تتقي بهؤلاء المكاره فهم في المقدمة دائماً، يدفعون ويدافعون ويموتون شهداء في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، أو يموتون على فرشهم قد طلبوا فضل الله ورحمته سبحانه. قوله: (ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء)، وبذلك عرفت الملائكة فضل هؤلاء، فأتتهم عند ذلك، ودخلوا عليهم من كل باب، هؤلاء في الجنة في قصورهم، في أماكنهم ينعمون والملائكة تأتي عليهم أفواجاً من كل باب من أبواب قصورهم ومنازلهم في الجنة يحيونهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24]، أي: سلام عليكم، بسبب صبركم تستحقون السلام، والأمن، وتستحقون أن تحيوا في هذا المكان فلا تموتون أبداً، فالله قال: (حيوهم)، يعني: ادعوا لهم بالتحية وبالحياة الكريمة عند الله والخلود في هذه الحياة فيدعون ويحيونهم: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا مع هؤلاء الأبرار. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في حب المساكين

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في حب المساكين إذا اجتمع في الشخص إيمان مع فقر ارتفعت منزلته في الدنيا بقوة صبره وإجابة دعائه، وفي الآخرة بتشفيعه في الناس وعلو منزلته؛ لأن فقره كان سبباً لتواضعه ولين جانبه، ولذلك ينبغي حب المساكين والقرب منهم.

فضل المساكين والفقراء

فضل المساكين والفقراء الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة) رواه الترمذي. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آت أو أتاني الليلة ربي) وذكر الحديث، إلى أن قال: (قال: يا محمد! قلت لبيك وسعديك، فقال: إذا صليت قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) رواه الترمذي وحسنه. وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير، أوصاني ألا أنظر إلى من هو فوقي، وأنظر إلى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين، والدنو منهم، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت) رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه]. هذه الأحاديث في كتاب التوبة والزهد للحافظ المنذري رحمه الله من كتابه الترغيب والترهيب، وفيها الترغيب في الفقر، وأن ينبغي للإنسان إذا منعه الله عز وجل من المال أن لا يحزن لذلك ولا يؤمل في الدنيا ولكن عليه أن يرضى بما هو فيه.

فضل المساكين والقرب منهم

فضل المساكين والقرب منهم وهذه الأحاديث في الحديث عن الفقر وقلة ذات اليد، وما جاء في فضل الفقراء والمساكين. وذكرنا في حديث سابق أن المعنى ليس هو أن يطلب الإنسان من ربه أن يفقره، ولكن المعنى: أنه إذا أعطاه مالاً فليؤد حق الله عز وجل في النعم، ويصبر لأمر الله سبحانه ولا يتضجر من ذلك، وإذا افتقر الإنسان فليعمل كما عمل النبي صلى الله عليه وسلم في ما ورد أنه كان يتعوذ بالله من الكفر والفقر. فالأحاديث في جملتها فيها أمر للفقير بأن يصبر على ما هو فيه، وفي الحديث أيضاً مواساة للفقير، وإخبار بما له عند الله سبحانه من فضل ومنزلة، وأن على المسلم أن يحب الفقراء من المسلمين، ويعلم أن لهم فضلاً في الدنيا وفي الآخرة. ففي الدنيا هم الضعفاء، وهم أهل إجابة الدعاء. وفي الآخرة يشفعون في دخول الجنة لمن كان يعطف عليهم ويعطيهم في الدنيا، ومن كان يقربهم، فعلى المسلم أن يحب الفقراء؛ لفضلهم عند الله، ولأن الله يحبهم، ولشفاعتهم عند الله. ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء أنه كان يقول: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين). والمعنى هنا: أنه لا يطلب الفقر صلى الله عليه وسلم، ولكنه يطلب قوتا على القدر والكفاية والحاجة. فالمسكين: هو الواجد لأقل من حاجته، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يطلب ما يكون عليه المسكين، وهذا من حسن التواضع عنده صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول: اجعلني مع المساكين، قريباً منهم، واجعلني معهم في الدنيا، وليس المعنى: أفقرني، بل هو كان يتعوذ بالله من الفقر. فقال: (أحيني مسكيناً) أي: مع هؤلاء، وارزقني أخلاق المساكين، من المسكنة والتواضع للخلق. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة ربي) وفي رواية: (رأيت ربي في أحسن صورة)، في حديث طويل، وفي آخر الحديث أن الله سبحانه تبارك وتعالى أوصى النبي صلوات الله وسلامه عليه، (فقال: يا محمد! قال: قلت لبيك وسعديك، فقال: إذا صليت قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون). وفي رواية أخرى: (وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وتتوب علي، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون). هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي عصمه الله سبحانه، ومع ذلك يوصيه ربه أن يدعو بهذا الدعاء، فنحن أولى أن ندعو بهذا الدعاء، أما هو فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. إذاً: بعد كل صلاة يستحب للمسلم أن يدعو بهذا الدعاء، ويقول: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، يعني: جميع الخيرات، كأن اللام هنا للجنس، أي: جنس الخيرات، فكل خير اجعلني أفعله وأعني عليه. وترك المنكرات، ولام المنكرات للجنس أي: جميع المنكرات، فيقول: اجعلني أترك جميع المنكرات ولا أقع فيها. (وحب المساكين): وهذا الشاهد من الحديث، وهو أنه يدعو ربه سبحانه أن يحبب إليه المساكين، فالإنسان المؤمن عندما يرزقه الله سبحانه وتعالى حب المساكين، يجعل في قلبه رحمة، ويجعل في خلقه التواضع، ويجعله ذليلاً على المؤمنين، عزيزاً على الكافرين، فكان يطلب حب المساكين، ليحبهم ويحبوه، فينتفع المسلم بذلك، ليكون متواضعاً، والمتواضع يرفعه الله عز وجل. والمستكبر المتعالي لا بد أن يذله وأن يقصمه الله سبحانه وتعالى، فليسأل المؤمن ربه حب المساكين. قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)، وقد علم من حاله صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه يريد أن يعلمنا كيف ندعو عقب الصلاة.

النظر في الدنيا إلى من هو أقل غنى

النظر في الدنيا إلى من هو أقل غنى وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الطبراني وابن حبان، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفيه: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير)، فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر، وقد قال له في حديث آخر: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً فلا تولين مال يتيم، ولا تقضين بين اثنين)، وكونه يوصي أبا ذر فيه دليل على أنه يحبه. وقد قال رسول الله في فضله: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)، والخضراء: السماء، وأقلت أي: حملت. وقد كان أبو ذر يُشبَّه بين الصحابة بالمسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال أبو ذر: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير، أوصاني: ألا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أنظر إلى من هو دوني). فوصية النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تنظر إلى من هو أعلى منك، ولكن انظر إلى من هو دونك، فإذا كنت على درجة معينة من الغنى فلتنظر إلى من هو دونك؛ لأنك لو نظرت إلى من فوقك من أصحاب فضول الأموال وغير ذلك، فسترى ما أنت فيه قليلا، فتحتقر النعمة التي أنت فيها. وكذلك كثير من الناس تقول له: احمد الله، فيقول لك: على ماذا؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنه ينظر إلى من هو فوقه، ونسي أن الله أعطاه صحة، وأن الله سبحانه أطعمه وسقاه، وأن الله كفاه وآواه، وأن الله رزقه وكساه، ينسى هذا كله؛ لأنه ينظر إلى من هو أعلى منه، فيقول: عند الناس أكثر مما عندي، وفلان لديه مائتا ألف، فلان لديه مليون، ونحن لدينا ماذا؟ فإذا به يستقل نعمة الله سبحانه وتعالى عليه. فالنبي صلى الله عليه وسلم يوصيه أن انظر إلى من هو دونك، ومن هو أقل منك، فإذا نظرت إلى الفقير يبيت ولا يجد ما يأكل، وأنا أبيت شبعاناً، فأنا أفضل منه والحمد الله، فالنظر إلى من هو دونك يجعلك تشكر الله سبحانه وتعالى. كذلك إذا نظرت إلى الإنسان المريض وأنت في صحة وعافية، فإنك ستقول: الحمد الله الذي عافني مما ابتلاه به، وفضلني عليه وعلى كثير ممن خلق من عباده تفضيلا. قال أبو ذر رضي الله عنه: وأوصاني بحب المساكين، والدنو منهم، أي: التقرب من المساكين. قال: وأن أصل رحمي وإن أدبرت، أي: أوصاني أن أصل أرحامي وإن كانوا يبتعدون عني.

التحذير من إغضاب فقراء المؤمنين

التحذير من إغضاب فقراء المؤمنين وجاء في الحديث الآخر في أمر المساكين: (أن أبا سفيان أتى على سلمان، وصهيب، وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها). يعني: أن هؤلاء كانوا من فقراء الصحابة، فكانوا جالسين في نفر، فمر أبو سفيان قبل إسلامه، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؛ لأنهم يتذكرون ما عمل فيهم أبو سفيان في يوم أحد، وقد كان هو شيخ قريش، وهو الذي يجمع على النبي صلى الله عليه وسلم الأعداء، فقال هؤلاء الصحابة: إنه يستحق أن تقطع رقبته في يوم من الأيام، ولكن أراد الله به الرحمة فرحمه وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه. ولكنهم قالوا هذا القول لكثرة ما عانوا منه ومن أمثاله في أيام كفرهم، فـ أبو بكر الصديق الذي يطمع أن يتألف هذا الرجل وأن يدخله في دين الله سبحانه، لما سمعهم يقولون هذا الكلام قال لهؤلاء: (أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم). أي: إن أبا بكر يطمع أن يسلم أبو سفيان، فلذلك لا يحب أن يضايقه أحد بكلمة تؤذيه فينفره عن دين الله سبحانه، فقال لهؤلاء الصحابة الأفاضل: (أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، فلما قال ذلك وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك)، أي: إن كنت أغضبت هؤلاء الفقراء المساكين الذين يحبون الله فقد أغضبت ربك، (فإذا بـ أبي بكر يهرع إليهم، فأتاهم، فقال: يا إخوتاه! هل أغضبتكم؟ فقالوا: لا، ويغفر الله لك يا أخي). فهذا أبو بكر الصديق الذي قال الله عنه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] والذي أنفق ماله كله في سبيل الله سبحانه، والذي واسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر معه، فصفاته عظيمة، وأفعاله وخيراته كثيرة، ويكفي أنه أول العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت أغضبت هؤلاء فقد أغضبت ربك)، وفيه بيان أن الإنسان المؤمن لا يستكبر على فقراء المؤمنين المتواضعين، ولا يتعالى عليهم ولا يؤذيهم ولا يغضبهم ولا يبتعد عنهم، بل يحبهم ويتقرب منهم؛ لعلهم ينفعونه في الدنيا بدعواتهم الطيبة، وفي الآخرة بشفاعتهم.

من صفات أهل الجنة أنهم ضعفاء

من صفات أهل الجنة أنهم ضعفاء ومن الأحاديث الدالة على فضل الفقراء والمساكين ما في الصحيحين من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره). وذلك لأن الإنسان عندما يكون فقيراً ضعيفاً يكون متواضعاً، ويشعر أن كل الناس أحسن منه، فيتواضع معهم، والناس ينظرون إليه على أنه ضعيف، فهو في نفسه يقول: أنا ضعيف، وهو عند الناس كذلك، وأمثال هذا هم أكثر أهل الجنة. وقوله: (لو أقسم على الله لأبره)، أي: أن هذا الذي ينظر إليه الناس أنه ضعيف لو أقسم على الله لأبره، يعني: أنه لو دعا ربه سبحانه: يا رب! أقسمت عليك بك أن افعل لي كذا وكذا، فيفعل الله عز وجل ما يطلبه هذا الإنسان الفقير. فلا تحتقر فقيراً أبدا، فإنك لا تدري لعل قوته في دعائه، وقوته في استجارته بربه سبحانه واستغاثته به. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الأقوياء: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم)، أي: أن النصر ليس بقوتكم أنتم، ولكن بدعوة هؤلاء الضعفاء وإن كنا مأمورين بإعداد القوة. إذاً: أهل الجنة هم الضعفاء من المؤمنين. أما أهل النار فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر). العتل: الإنسان الجافي، الذي لا يسمع النصيحة ولا يقبلها، بل يتعالى ويستكبر، تقول: اتق الله، فيقول لك: اتق الله أنت مالك ومالي، فلا يرضى ولا يستمع للنصيحة. فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن كل عتل غليظ جافٍ، وقلبه قاسٍ، فهو من أهل النار. والجواظ: الضخم، إنسان ضخم، ومختال، ومتعال على الخلق، فهذا الإنسان يرى أن عنده مالاً فهو جموع منوع، يستكبر على الخلق، وينظر إليهم بازدراء، فأمثال هذا هم أهل النار، مع أنه في الدنيا طويل وعريض وسمين وثقيل، ولكنه لا يزن عند الله جناح بعوضة، فيوم القيامة ليس له أي قيمة، ويحشر هؤلاء الجبارون المستكبرون كأمثال الذر يدخلهم الله ناراً تلظى، نسأل الله العفو والعافية. وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أهل النار وأهل الجنة، فقال لـ سراقة بن مالك بن جعشم: (يا سراقة! ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: أما أهل النار: فكل جعظري جواظ مستكبر)، أي: أن أهل النار: كل جعظري، وهو الإنسان المتكبر، وكأنها ألفاظ مترادفة، وإن كان بعضها يزيد على بعض في المعنى، لكنها كلها تدل على أنهم متكبرون، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هنا صفة وراء صفة وكلها تدل على الكبر، فقالوا: الجعظري: المتكبر الجافي، والغليظ الفظ. والجواظ هو: الإنسان الأكول الشروب الكفور الجموع المنوع، فأهل النار من صفاتهم أنهم أغنياء، وعندهم أكل وشرب، وعندهم صحة، وعندهم بدن، ولهم قوة ورياسة، ويستكبرون على الخلق، ولا يقبلون نصح الخلق، فهؤلاء هم من أهل النار. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن أهل الجنة هم الضعفاء المغلوبون)، لذلك يجب على المؤمن إذا صادق أحداً أن لا يترك أهل الجنة وهم الفقراء والمساكين، بل عليه أن يرحمهم ويحبهم ويتقرب منهم؛ لعلهم ينفعونه في الدنيا والآخرة. نسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

لا تحكم على الإنسان بظاهره

شرح الترغيب والترهيب - لا تحكم على الإنسان بظاهره لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قدر الإيمان ليس بالمظاهر ولا الألوان وإنما هو بقوة الإيمان ومحبة الله ودينه، ولذا فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

فضل المساكين وضعة المتكبرين

فضل المساكين وضعة المتكبرين بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام المنذري رحمه الله: [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انظر أرفع رجل في المسجد، فنظرت فإذا رجل عليه حلة، قلت: هذا، قال لي: انظر أوضع رجل في المسجد، قال: فنظرت فإذا رجل عليه أخلاق، قال: قلت: هذا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ابغوني في ضعفائكم؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)].

شرح حديث: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)

شرح حديث: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا) هذه أحاديث من كتاب التوبة والزهد من كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري رحمه الله، يرشد النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنك لا تحكم على أحد بظاهره، فإذا نظرت إلى إنسان في ثيابه وحلته وفي شارته وزينته، فلا تغتر بهذه المظاهر التي هو عليها، وإذا نظرت إلى إنسان في فقره وضعفه، وأنه ليس عليه ثياب حسنة، فلا تنظر إلى ذلك فتحكم عليه بمجرد الظاهر، بخلاف الإسلام، ففي الإسلام لا نحكم إلا بالظاهر، هذا الإنسان يصلي إذاً نحكم عليه أنه مسلم، ومن رأيناه يفعل أفعال وشعائر الإسلام فالأصل أنه مسلم. إذاً: هنا نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، لكن مسألة احترام الشخص وتعظيمه بالمظهر الذي هو عليه، ففي هذه الأحاديث علم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة ألا يحكموا على الشخص لمجرد ظاهره أنه حسن أو سيئ. ففي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده) والمقصود: تعليم الناس، وبيان أن هناك أشياء هم ينظرون إليها نظرة خاطئة، وليست هذه النظرة صحيحة، فمر الرجل وهو في منظر حسن لابس لبساً جميلاً، فسأل النبي رجلاً بجواره، ما رأيك في هذا؟ فقال: هذا رجل من أشراف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله. يعني: هذا رجل كبير في القوم، فلو ذهب ليخطب فكل الناس يريدون أن يزوجوه، ولو تكلم مع أحد فكل الناس يسمعون له عندما يتكلم، وإن ذهب ليشفع لأحد فكل الناس يقبلون منه شفاعته، وهذه نظرة الغالبية العظمى من الناس، فينظرون إلى الإنسان بظاهره فيرونه منفوخاً ويمشي وهو لابس بدلة جميلة، فهذا رجل كبير ابعد عنه وليس لك دعوة به، ولعله يكون من أوضع الخلق عند الله عز وجل. وكان العرب يقولون عن الإنسان الذي هو على هذه الحال: (لابس ثوبي زور)، يعني: أنه متجمل على لا شيء، أي: لا يوجد داخله شيء، ومع قولهم ذلك فقد كانوا ينظرون إلى الإنسان على أنه حسن أو سيئ بمجرد المظهر. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم مر رجل آخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي بجواره: ما رأيك في هذا؟) الأول كان رجلاً كبيراً، وهذا رجل شكله وضيع فقير، فقال الرجل الذي بجوار النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال: ألا يسمع لقوله) هذا لا يستوي مع الأول في المنظر والظاهر، فغير له النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم فقال: (هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا). فقالها النبي صلى الله عليه وسلم مرة في حديث سهل بن سعد، ومرة أخرى قالها لـ أبي ذر رضي الله عنه. فقال: (يا أبا ذر! أترى كثرة المال هو الغنى؟) إن الإنسان الغني معه أموال كثيرة، (قال: نعم)، الصحابة كانوا أهل صدق رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فترى قلة المال هو الفقر؟) يعني: أنتم نظرتكم هكذا قال: (نعم يا رسول الله) فغير له النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم، وأخبر أن الأمر ليس كذلك، فقال: (إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب). الإنسان الغني: الذي يكون الغنى في قلبه، لا ينظر إلى الناس، ولا يطمع في أموالهم، فهذا هو الغني حقيقياً، أما الذي يستشرف لأموال الناس فهو كالذي يأكل ولا يشبع فهو مفتقر يريد مالاً أكثر، فالذي يريد هذا هو الفقير، أما الذي هو مستغنٍ لا يريد شيئاً فهذا هو الغني، فوضح لهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم.

تصحيح النبي صلى الله عليه وسلم للمفاهيم

تصحيح النبي صلى الله عليه وسلم للمفاهيم وكما وضح في حديث آخر: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: الذي لا درهم له ولا دينار) فأخبر أن هذا ليس هو المفلس، وإن كان حقيقة هو المفلس في الدنيا، لكن المفلس فلساً حقيقياً عند الله سبحانه وتعالى هو: (المفلس: هو الذي يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد شتم هذا، وسب هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فطرح في النار) فهذا هو المفلس إفلاساً حقيقياً، لكن الذي ليس معه فلوس ماذا سيحصل له؟ في آخر الأمر سيستوي هو ومن معه مال، سينزلون في القبر سواء، وسيحاسبون في القبر، ولكن يوم القيامة هناك فرق بين من يأتي ومعه حسنات كثيرة، فيعمل خيراً ويصوم ويصلي ويزكي ويتصدق، ولكنه يشتم الناس ويقع في أعراضهم، ويسفك الدماء، ويأكل المال الحرام ولا يهتم، فيأتي يوم القيامة فتسلب عنه هذه الحسنات أمام عينيه فيصير مفلساً، بل ويأخذ من سيئات الآخرين فتوضع عليه بسبب ظلمه لهم ولا حول ولا قوة إلا بالله! ووضح النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر معنى الصرعة فقال: (إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب) فليس المصارع البطل، وإن كان هذا يسمى صرعة، أي: أنه يصرع غيره، ولكن الصرعة حقيقة هو الذي يغلب نفسه وهواه وشيطانه عند الغضب، فيمسك نفسه عند الغضب، ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويكظم غيظه وغضبه ابتغاء وجه الله سبحانه. وقال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من الرقوب؟ قالوا: الرقوب: المرأة التي لم تنجب، فقال: لا، الرقوب: التي لم تقدم ولداً) يعني: التي لم يمت لها ولد صغير، فالتي مات لها ولد صغير لها أجر عظيم جداً عند الله عز وجل، فإن المفاهيم عند الناس لها معنى، وفي الشريعة لها معنى أكبر من هذا الذي ينظر إليه الناس. وحديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله في الحديث نفسه فقال: (إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، ثم سألني عن رجل من قريش فقال: أتعرف فلاناً من قريش؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: فكيف تراه؟ قال: قلت: إذا سأل أعطي، وإذا حضر أدخل، فقال: ثم سألني عن رجل من أهل الصفة: أتعرف فلاناً؟ فقال: قلت: لا والله ما أعرفه يا رسول الله! قال: فما زال يحليه وينعته حتى عرفته) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم يعرف هذا الإنسان الفقير الذي لا يعرفه الكثير، فعرفه النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فما زال يحليه) يعني: يذكر أن صفته كذا ويلبس كذا ويقعد في المكان الفلاني، حتى عرفه أبو ذر، فهو رجل مجهول بين الناس، ولكن يعرفه الله، ويعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرفه ملائكة الله (قال: قد عرفته يا رسول الله قال: فكيف تراه؟ قال: هو رجل مسكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهو خير من طلاع الأرض من الآخر) يعني: هذا الفقير من فقراء المساكين من أهل الصفة خير من طلاع -يعني: ملء الأرض- من مثل هذا القرشي الذي أعجبك. يقول أبو ذر رضي الله عنه: (أفلا يعطي من بعض ما يعطى الآخر؟)، إذا كان هذا عند الله له المنزلة الكبيرة هذه فلماذا لا يعطيه الله قليلاً مما أعطى الآخر من المال الكثير؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطي خيراً فهو أهله) فلو أن الله أعطاه خيراً من مال وغيره فهو أهل ويستحق ذلك، (وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة) يعني: فإذا صرف الله عنه هذا المال وصبر على ذلك فهذا أفضل له عند الله سبحانه وتعالى.

شرح حديث: (انظر أرفع رجل في المسجد)

شرح حديث: (انظر أرفع رجل في المسجد) وفي حديث آخر لـ أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انظر أرفع رجل في المسجد، قال: فنظرت فإذا رجل عليه حلة)، نظر إلى أحسن رجل في المسجد يلبس حلة جميلة أي: إزاراً ورداء. (فقال: قلت: هذا يا رسول الله! فقال: انظر أوضع رجل في المسجد) انظر أفقر رجل لم يملأ عينك. (قال: فنظرت فإذا رجل عليه أخلاق)، أخلاق أي: خروق، (قال: قلت هذا)، فهذا أوضع واحد. (قال: فقال رسول صلى الله عليه وسلم: لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا).

شرح حديث: (إن الله لا يحب هذا وأضرابه)

شرح حديث: (إن الله لا يحب هذا وأضرابه) وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: (كنت في أصحاب الصفة) والصفة: مكان في مؤخرة المسجد له غطاء يقعد فيه الفقراء ممن هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس لهم زوجات ولا بيوت، فهم أضياف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء كان منهم واثلة، يقول: (كنت في أصحاب الصفة، ولقد رأيتنا وما منا إنسان عليه ثوب تام)، أي: لا يوجد شخص يلبس ثوباً كاملاً. يقول: (وقد أخذ العرق في جلودنا طريقاً من الغبار والوسخ) فالمدينة كانت حارة، وهم لا يجدون ماءً يستحمون به ويتجملون، قال: (إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ليبشر فقراء المهاجرين)، أي: أبشروا يا فقراء المهاجرين، قال: (إذ أقبل رجل عليه شارة حسنة)، أي: جاء شخص من الناحية الأخرى متجملاً بأحسن الثياب، قال: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بكلام إلا كلفته نفسه أن يأتي بكلام يعلو كلام النبي صلى الله عليه وسلم) فهو إنسان سافل حقير، النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم وهو يقوم يتكلم ويريد بهذا أن يقول كلاماً أحسن من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يتكلف الفصاحة! إذاً: لا تحكم على الإنسان بظاهره، فهذا الذي أتى وهو لابس حلة وعليه شارة، جاء مستكبراً حتى على النبي صلوات الله وسلامه عليه، ألا لعنت الله على الظالمين! وظل النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم وهذا الرجل يذهب بكلام ليظهر الفصاحة وأنه أحسن كلاماً من النبي صلى الله عليه وسلم، فرسول الله لم يرد عليه وتركه حتى انصرف، فلما انصرف قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يحب هذا وأضرابه). فهذا بغيض عند الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه معجب بنفسه، فنسي أنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم أفصح الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأتى يريد أن يتعاظم أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن ثيابه التي لبسها دفعته إلى الغرور، حتى إنه لا يقدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يحب هذا وأضرابه، يلوون ألسنتهم للناس لي البقر بلسانها المرعى) مثل البقرة عندما تأخذ الكلأ والمرعى بلسانها وتلوكه، فكذلك هذا الإنسان يريد أن يجمع بين الفصاحة بزعمه وظنه. قال صلى الله عليه وسلم: (كذلك يلوي الله تعالى ألسنتهم ووجوههم في النار) يعني: هذا المغرور يوم القيامة يلوي الله لسانه ووجهه ويدخله نار جهنم والعياذ بالله! المقصود من جملة هذه الأحاديث: أنك لا تنظر ولا تحكم على الإنسان بملبسه وشارته، ولذلك وفد بعض الحكماء من العرب على خليفة من الخلفاء وكان لابساً جبة رثة فقيرة ليس فيها زينة ولا شيء، فالخليفة كأنه ما عبره وجعل ينظر إلى الجبة، فهذا الحكيم يتكلم والخليفة ينظر إلى الجبة، فقال: هذا الذي يكلمك وليست هذه، يعني: ليست الجبة هي التي تكلمك، وإنما لساني هو الذي يكلمك، فانظر إلى حكمة هذا الإنسان وعقله، ودعك من النظر إلى ثيابه وغناه، فإن الذي ينفع الإنسان هو ما وقر في قلبه من إيمان، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الزهد في الدنيا والترهيب من حبها والتكاثر فيها [1]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الزهد في الدنيا والترهيب من حبها والتكاثر فيها [1] حذر الإسلام من الركون إلى الدنيا، والإخلاد إليها، ومن الاغترار بها، وأمر بالمسارعة والمسابقة إلى ما عنده سبحانه وتعالى، وحذر من كل ما يقطع عن ذلك من متاع الدنيا وزهرتها.

الترغيب في الزهد

الترغيب في الزهد أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الحافظ المنذري في كتاب التوبة والزهد: [وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا أعلمه إلا رفعه، قال: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل). رواه الطبراني. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض فيما اشتهت نفسه، ليس له يوم القيامة إلا النار). رواه الطبراني في الكبير، ورواته ثقات. هذه الأحاديث من كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري وقد ذكرها الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، في الترغيب في الزهد، وهذه الأحاديث فيها الحث للإنسان المؤمن على أن يزهد في الدنيا، حتى وإن جاءته الدنيا فهو زاهد فيها. وليس المعنى: أنه لا يجمع شيئاً أو لا يطلب منها شيئاً، ويجلس فيها فقيراً وإنما المعنى: أنه مهما جاءته الدنيا فهو لا يجعلها في قلبه، ولا يطمع في المزيد. والكثير من أهل الدنيا كلما جاءهم من الدنيا شيء طمعوا في المزيد من ذلك، سواء جاءهم من حلال أو من حرام، فلا فرق عندهم. والإنسان المؤمن زاهد في مطامع الدنيا، فإن جاءته أخذها بحقها، وأنفقها في حقها، واتقى الله عز وجل في ذلك، فيبارك الله عز وجل له فيما أنفق، وفيما ترك.

بيان أن صلاح هذه الأمة بزهدها في الدنيا

بيان أن صلاح هذه الأمة بزهدها في الدنيا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين). وهذا يبين لنا فضل الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، فصلاح هؤلاء بزهدهم في الدنيا، فهم زاهدون فيها، وغير راغبين في المزيد منها، فقد فتحت الفتوحات من بلاد قيصر وبلاد كسرى، وفتح الله عز وجل لهم مشارق الأرض ومغاربها، وجاءتهم الدنيا من كل مكان، وبزهدهم فيها أعطاهم الله أكثر وأكثر. فقد أعطوا لله حقه فأعطاهم الله وفتح عليهم سبحانه. ومع أنهم جاءتهم الدنيا إلا أنها كانت في أيديهم، وكان الذي في قلوبهم هو الخوف من الله والخشية منه والزهد وعدم الطمع في هذه الدنيا. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا). فطالب العلم لا يشبع أبداً؛ لأنه كلما ازداد علماً ازداد علماً بجهله، فازداد طلباً للعلم. وطالب الدنيا كلما أغناه الله من الدنيا استشعر الفقر إليها، وأنه محتاج أكثر وأكثر، فهما لا يشبعان. وفرق بين الاثنين كبير: فالعالم يطلب العلم يبتغي به وجه الله سبحانه، وكلما ازداد علماً ازداد رفعة، وازداد في نفسه تواضعاً. وطالب الدنيا كلما ازداد غنىً ازداد في نفسه فقراً وافتقاراً إلى الدنيا، وازداد شعوراً بأن هذا يزول منه، فيريد أن يتمكن منه، فهو يحرس الدنيا، وأما صاحب العلم فعلمه يحرسه، فالفرق كبير بين الاثنين. فلذلك المؤمن يكون طالباً للعلم، وطالباً للآخرة، وزاهداً في الدنيا، وستأتيه الدنيا راغمة، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم. فصلاح أمر هذه الأمة كان بالزهد واليقين، أي: بالزهد في الدنيا، واليقين فيما عند الله سبحانه. بأن يكون الإنسان زاهداً، وفي قلبه يقين بأن ما كتب له لا بد أن يأتيه، وأنه لن تفلت منه الدنيا التي كتبها الله عز وجل له. ولذلك فهو لا يحسد الناس؛ لأن الشيء الذي آتاه الله عز وجل لغيره لو أراد أن يأتيه إياه لآتاه، فهو على يقين بأن الله لو أراد أن يعطيه هذا الشيء لأعطاه إياه، فلا ينظر إلى غيره نظرة حسد، ولا يتخط لأن الله أعطى هذا الشيء لغيره، ولم يؤته هو؛ لأنه واثق بأن الله لن يؤتيه إلا الخير، ولا يمنع عنه إلا الضير. فكان صلاح الأوائل بسبب زهدهم ويقينهم.

بيان أن البخل والأمل سببان لهلاك هذه الأمة

بيان أن البخل والأمل سببان لهلاك هذه الأمة وهلاك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل: فإذا أعطى الله أحدهم من الدنيا تجده يبخل، ولا يخرج منها شيئاً، وتجد بعض الناس معه الأموال الكثيرة، ويقول: إنه طول عمره لم يخرج زكاة ماله، ولا يعرف ما هي زكاة المال! وهذا عجيب، أن يكون عمر الإنسان ستين أو سبعين سنة ويقول إنه طوال عمره لم يخرج زكاة ماله. فأين ذهب عمره؟ وأن ذهبت السبعون السنة، وهو لم يسمع عن زكاة المال؟ ولم يخرج زكاة المال مرة من المرات. ألم يسمع قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]؟ ولكن الإنسان يبخل، فيعاقبه الله عز وجل بالغفلة، فيسمع هذه الآية ولا ينبته لمعناها، ولا يتذكر بها، إلا أن يشاء الله عز وجل له يوماً من الأيام ذلك. فهلاك آخر هذه الأمة بالبخل، ففي أيديهم المال ويبخلون عن الحقوق، فلا يعطون لأهلهم حقهم، ولا يعطون الفقراء حقوقهم وحظهم، ولا يعطون أولادهم حقوقهم، ولا ينفقون على أحد فهم بخلاء. وكذلك عندهم الأمل فيطمعون في المزيد، ويؤملون أن يعشوا، ويقولون: سننفق فيما بعد، فلا يعيشون ولا ينفقون وإنما يموتون ويأخذ ما لهم غيرهم.

التحذير من الاغترار بالدنيا

التحذير من الاغترار بالدنيا وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وروى مثله الطبراني عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة). أي: مثل البقل الذي ينبت من الأرض، وتأكله البقر والإبل والغنم. فإن طعمه حلو، ولو تركت المواشي تأكل منه ما أرادت؛ لأتخمت ثم تموت. ولكن الله عز وجل جعل آكلة الخضر من المواشي مثل البقرة تأكل ما يكفيها، ثم تركن إلى الشمس، فتجتر هذا الذي أكلته، ثم ثلطت وبالت وأخرجت. وأما الإنسان فلا يعمل هذا الشيء، وإنما يجمع الدنيا ويخزنها إلى أن تتخمه وتهلكه، قال صلى الله عليه وسلم: (وإن الله تعالى مستخلفكم فيها)، يعني: جاعلاً بعضكم يخلف بعضاً فيها، فإذا مت جاء عيالك بعدك يخلفونك، ويأتي غيرك ليأخذ مكانك، فلا أحد يعيش فيها أبداً. فإن الإنسان يصل إلى أعلى شيء ثم يموت، ويأتي غيره مكانه، ولا تدوم الدنيا لأحد أبداً. ولذلك السعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه. قال صلى الله عليه وسلم: (وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعلمون؟ فاتقوا الدنيا)، أي: اجعلوا بينكم وبين هذه الدنيا وقاية، وعين بصيرة من ذكر لله سبحانه، ومن مواعظ تسمعونها وتعملون بها. قال: (واتقوا النساء) أي: احذروا من النظر إلى النساء، واحذروا من أن تتبعوا الهوى، فتغووا في النهاية وتضيعوا. قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).

بيان أن الأخذ من الدنيا سبب لنقصان الدرجات في الآخرة

بيان أن الأخذ من الدنيا سبب لنقصان الدرجات في الآخرة وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رواه ابن أبي الدنيا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصيب عبد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عليه كريمة). والدرجات في الآخرة درجات عالية جداً، فمهما أخذ الإنسان من الدنيا، وطمع فيها، وقد يكون هذا الإنسان كريماً عند الله عز وجل، ولكنه لا يصل إلى الدرجات العلا لأخذه من الدنيا ومن حطامها؛ ولذلك المؤمن يأخذ ما يكفيه، وإن جاءته الدنيا أنفق لله عز وجل بقدر ما وسع عليه؛ حتى يزاحم في الآخرة مع أهل الدرجات. وعن أبي عسيب رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فمر بي، فدعاني فخرجت إليه، ثم مر بـ أبي بكر رحمه الله فدعاه فخرج إليه، ثم مر بـ عمر رحمه الله فدعاه فخرج إليه، فانطلقنا حتى دخل حائط لبعض الأنصار فقال لصاحب الحائط: أطعمنا، فأطعمنا بسراً، -أي: بلح البسر- بعذق فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم دعا بماء بارد فشرب). وبعد أن أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه التمر، وشربوا الماء، ولم يكن الماء من ثلاجة، ولكنه ماء بارد من البئر، كانوا يأتون به ويضعونه في زير أو في قلة، ويبردونه في الهواء، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكل، ثم قال لهم هذه الموعظة، قال: (لتسألن عن هذا يوم القيامة) يعني: هذا من النعيم الذي أنعم الله عز وجل به عليكم. قال: فأخذ عمر رحمه الله العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (يا رسول الله! إنا لمسؤلون عن هذا يوم القيامة؟) يعني: عن هذا وهو أقل شيء، وكل الناس تجده، والمدينة مليئة بالبساتين؟ فـ عمر بن الخطاب يستغرب ويقول: هل هذا هو الذي يقول الله عنه: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]؟ وهل هذا هو الذي سنسأل عنه يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، إلا من ثلاث: خرقة لف بها الرجل عورته، أو كسرة سد بها جوعته، أو جحر يدخل فيه من الحر أو القر)، يعني: غرفة صغيرة يدخل فيها، وليس قصراً ولا فلة كبيرة ولا شقة كبيرة، فهذه يسأل عنها كلها يوم القيامة.

الحث على الاستعداد ليوم القيامة

الحث على الاستعداد ليوم القيامة وعندما مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل من أصحابه يبني بيته، وقف صلى الله عليه وسلم وقال: (الأمر أعجل من هذا). فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: لا تطمع في الدنيا ولا تتمن أن تبني شاهقاً وعالياً، وإلا فأنت تأمل أن تعيش أكثر. وليس معناه أنه ينهاه، ولكنه يذكره أنك عندما تبني فتذكر أنك لن تعيش، ويمكن أن يعيش البيت أكثر منك، وأكثر البيوت التي تجدها وتمر عليها قد مضى أصحابها وماتوا، وبقي البيت فقط موجوداً. فعلى الإنسان أن يتذكر، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص لما سأله رجل فقال: ألست من الفقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ يعني: هل أنت متزوج؟ فقال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. فقال الرجل: إن عندي خادماً أيضاً. قال: فأنت من الملوك. فالذي عنده بيت وزوجة وخادم يخدمه فهو من الملوك. هذا كلام عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني البيت: (الأمر أعجل من ذلك). فقد تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون الزهد في الدنيا، بتربية النبي صلى الله عليه وسلم لهم. نسأل الله عزل وجل أن يطمعنا فيما عنده من الدار الآخرة، وأن يزهدنا في الدنيا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الزهد في الدنيا والترهيب من حبها والتكاثر فيها [2]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الزهد في الدنيا والترهيب من حبها والتكاثر فيها [2] وردت الأحاديث النبوية التي فيها التحذير من الدنيا، والترغيب في الآخرة، وأن على المرء أن يعمل العمل الذي يعود عليه بالنفع في الآخرة، فإنه هو الذي يتبعه إلى قبره.

تابع ما جاء في الزهد في الدنيا والاكتفاء منها بالقليل

تابع ما جاء في الزهد في الدنيا والاكتفاء منها بالقليل الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبد ولا أمة إلا وله ثلاثة أخلاء: فخليل يقول: أنا معك فخذ ما شئت ودع ما شئت فذلك ماله، وخليل يقول: أنا معك فإذا أتيت باب الملك تركتك، فذلك خدمه وأهله، وخليل يقول: أنا معك حيث دخلت وحيث خرجت، فذلك عمله)، رواه الطبراني في الكبير بأسانيد أحدها صحيح. وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] قال: يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)، رواه مسلم. وعن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا ضحاك! ما طعامك؟ قال: يا رسول الله! اللحم واللبن، قال: ثم يصير إلى ماذا؟ قال: إلى ما قد علمت، قال: فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا)، رواه أحمد].

شرح حديث: (ما من عبد ولا أمة إلا وله ثلاثة أخلاء)

شرح حديث: (ما من عبد ولا أمة إلا وله ثلاثة أخلاء) في كتاب الزهد من كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري رحمه الله ذكر عدة أحاديث، منها: حديث النعمان، ومثله حديث أبي هريرة، ومثله حديث أنس بن مالك رضي الله عن الجميع، والحديث فيه بيان كيف يكون أهل الإنسان ومال الإنسان وعمل الإنسان له، يضرب صلى الله عليه وسلم هنا المثل في حديث النعمان فيقول: (ما من عبد ولا أمة إلا وله ثلاثة أخلاء)، وفي رواية: (مثل الرجل ومثل الموت كمثل رجل له ثلاثة أخلاء) أي: رجل له ثلاثة أصدقاء وأصحاب وأخلاء وأحبة، هذا في الظاهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فخليل يقول: أنا معك فخذ ما شئت ودع ما شئت فذلك ماله)، هذا واحد من ثلاثة أصدقاء للإنسان وهو المال. قوله: (ما من عبد ولا أمة)، يعني: أن الله هو الملك وأن كل عبد لا بد وأن يرجع إلى مالكه ليحاسبه عما عمل. فأنت راجع إلى الله سبحانه وتعالى، ومعك هؤلاء الثلاثة في الدنيا: مالك، أهلك، عملك، فيقول هنا صلى الله عليه وسلم: (مثل الرجل ومثل الموت) أي: أن الموت مرجعك إلى الملك سبحانه وتعالى. ثم قال: (كمثل رجل له ثلاثة أخلاء، فقال أحدهم: أنا معك فخذ ما شئت، ودع ما شئت)، يعني: هذا الخليل يقول لك: خذ المال وافعل به ما شئت، هذا مالك وأنت مسيطر عليه في الدنيا، وأنت تنفقه في الدنيا، فما أنفقت فهو مالك وما تركته وراءك فهو مال الورثة وليس مالك أنت. الخليل الثاني: أهل الإنسان، قال هذا الخليل: أنا معك أخدمك فإذا مت تركتك. الخليل الثالث: العمل، قال: أنا معك أدخل معك وأخرج معك إن مت وإن حييت. ثلاثة من الأخلاء مثل صورة إنسان كان عند ملك من الملوك وزيراً في المكان الفلاني، وبعد سنة قال له: تعال سوف أحاسبك، وكان له أصدقاء كثيرون، وهذا يقول له: نفديك بالروح، وهذا يقول له: نفديك بالمال، فالملك قال للوزير: تعال الآن أحاسبك، فالخليل الأول: مال الإنسان، جلس معه وقال: أنت حبيبي وأنت كذا فمضى الوزير وتركه، ومضى مع الوزير الخليل الثاني إلى أن وصل إلى السيارة أو القطار ثم قال له: مع السلامة لا أعرفك، أما الخليل الثالث فركب معه، وقال: أنا أدافع عنك، وأنا أصل معك إلى الملك، فوصل معه للملك ووقف أمام الملك فقال: هذا لم يعمل كذا وعمل كذا ولم يعمل كذا ودافع عنه، فأنفع شيء للإنسان هو عمله، فاعمل العمل الصالح وثق في الله سبحانه، فعملك هو الذي ينفعك بإذن الله، لا مالك ينفعك ولا أهلك ينفعونك إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، وإنما الذي يبقى لك وينفعك هو عملك الذي يدخل معك في قبرك، أما المال فأنت تركته وانصرفت في نعشك إلى قبرك، وأما الأهل فيودعونك إلى القبر ولا يدخل أحد منهم معك القبر، وإنما الذي يدخل معك قبرك هو عملك، ولذلك الإنسان وهو في قبره يمثل له عمله الصالح في صورة رجل طيب الريح جميل الوجه فيقول له: (أبشر بخير يوم جاء عليك منذ ولدتك أمك، يقول: من أنت، فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، والله ما علمتك إلا كنت سريعاً إلى الخير بطيئاً عن الشر فجزاك الله خيراً). فإذاًَ: عمل الإنسان هو الذي يدخل معه في قبره ويدافع عنه في قبره، فعندما يأتي العذاب على الإنسان في قبره يصبح العمل حول الإنسان: صلاة الإنسان، زكاة الإنسان، حج الإنسان، صوم الإنسان، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، هذه الأعمال تكون حول هذا الإنسان في قبره، تدافع عنه حتى ينجيه الله سبحانه وتعالى، هذا عمل الإنسان. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أنس بن مالك في الصحيحين: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله). وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ابن آدم وماله وأهله وعمله كرجل له ثلاثة إخوة -أو ثلاثة أصحاب- فقال أحدهم: أنا معك حياتك، فإذا مت فلست منك ولست مني، قال: فهو ماله، وقال الآخر: أنا معك فإذا بلغت تلك الشجرة فلست منك ولست مني)، أي: إذا بلغت تلك الغاية فلست معك، وهؤلاء أهل الإنسان، (قال الآخر: أنا معك حياً وميتاً، فهذا عمل الإنسان).

شرح حديث: (يقول ابن آدم مالي مالي)

شرح حديث: (يقول ابن آدم مالي مالي) من الأحاديث في هذا المعنى حديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة ومن حديث عبد الله بن الشخير يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي). يعني: الإنسان حين يتكبر ويفتخر بالمال ويقول: أنا عندي أموال كثيرة، نقول لهذا: من الذي أعطاك هذا المال؟ أليس المال مال الله سبحانه وتعالى، وما مالك؟ يقول: (إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى)، وفي الرواية الأخرى: (وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت) فمالك ما اشتريت به طعاماً وأكلته وفني هذا الطعام، أو اشتريت به ثياباً ولبست هذه الثياب فخلقت وبليت، أو أخرجت الصدقة فنفعتك عند الله سبحانه وتعالى. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)، يعني: مهما ادخرت من مالك تتركه في النهاية لورثتك. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وهو يقرأ لهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]، والتكاثر: هو التفاخر بالكثرة، كأن يقول: أنا معي (مليون) والثاني يقول: أنا معي (مليونان)، أنا معي ألف، أنا معي ألفان، تكاثر وافتخار وزهو وعجب وغرور بالمال، فقوله: {أَلْهَاكُمُ} [التكاثر:1]، يعني: دفعكم عن التذكرة ودعاكم إلى التلهي والنسيان كثرة المال الذي في أيديكم، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث.

شرح حديث تمثيل الدنيا بما يخرج من بطن الإنسان

شرح حديث تمثيل الدنيا بما يخرج من بطن الإنسان من الأحاديث حديث رواه الإمام أحمد من حديث الضحاك بن سفيان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله: (يا ضحاك! ما طعامك؟). النبي صلى الله عليه وسلم يعرف ما يأكل الناس ولكن أراد أن يضرب المثل، وكأن الضحاك كان رجلاً غنياً يأكل من أعلى الأشياء، فقد كان يأكل اللحم ويشرب اللبن، هذا طعامه وشرابه، فقال: (يا رسول الله! اللحم واللبن)، يعني: أغلى شيء وأرفعه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يصير إلى ماذا؟) يعني: أغلى شيء عندك اللحم واللبن ثم يصير هذا اللحم واللبن إلى ماذا؟ قال الرجل متأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم: (إلى ما قد علمت). يعني: يتحول في بطن الإنسان إلى غائط، ويخرج في النهاية ويتقذره الإنسان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا). يعني: الدنيا التي تنظر إليها أعلى ما فيها الطعام والشراب، وفي النهاية يصير شيئاً لا قيمة له، بل تتأذى من هذا الشيء الذي يخرج منك، كذلك هذه الدنيا تصير يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء، فتقول: هذه الدنيا هي التي كنت أحبها؟ هذه دنيا الإنسان. يقول في الحديث الآخر صلوات الله وسلامه عليه: (إن مطعم ابن آدم جعل مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه) يعني: يأتي بالطعام ومن ثم يطبخه ويضع عليه توابل من أجل أن يصبح طعمه لذيذاً، وبعد ما أتعبت نفسك وطبخت هذا الطبيخ أكلته ثم صار إلى غائط في يوم من الأيام وتتأذى منه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فانظر إلى ما يصير). مثل هذا يدفع الإنسان ألا يتكالب على هذه الدنيا؛ لأن الذي تحبه اليوم هو الذي ستبغضه في الغد، والثوب الجديد تفرح حين تلبسه وتفتخر به على غيرك، وتمر عليه الأيام والشهور فيصبح ثوباً قديماً تستحيي من لبسه؛ لأنه قد تمزق وتقطع وترقع، كذلك هذه الدنيا تفرح بها حين تقبل عليك، وتتأذى منها يوم القيامة حين ترى ما صنعته فيها.

شرح حديث: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها)

شرح حديث: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها) يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أبي هريرة مرفوعاً: (إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً). هذه الدنيا كلها ملعونة مطرودة، ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم منها إلا ما يقربك من الله سبحانه وتعالى، وهو ذكر الله، أن تذكر الله سبحانه وتعالى وتصلي لله، وتطيع الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، كذلك ما يتبع. ذكر الله من علم وعمل، قال: (وعالماً أو متعلماً)، فإذا كان الإنسان في علم أو تعليم فهذا خير ما يكون في هذه الدنيا، وما كان في غير ذلك فيستحق أن يطرد وأن يبعد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الزهد في الدنيا والترهيب من حبها والتكاثر فيها [3]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الزهد في الدنيا والترهيب من حبها والتكاثر فيها [3] دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من يطمع في الدنيا بالتعاسة والانتكاس؛ لأنه يكون عبداً لها ولهواه، ودعا لمن يجاهد في سبيل الله متواضعاً لا يعرفه أحد ولا يؤخذ برأيه، أن طوبى له على ذلك، وأشد الأشياء إفساداً لدين المرء الحرص على المال والشرف.

الدنيا فانية ومتاعها زائل

الدنيا فانية ومتاعها زائل

شرح قوله: (تعس عبد الدينار)

شرح قوله: (تعس عبد الدينار) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله: [الترغيب في الزهد: روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع). وروى الترمذي عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها يفترسان ويأكلان بأسرع فيها فساداً من حب المال والشرف في دين المرء المسلم). هذه أحاديث يذكرها الحافظ المنذري رحمه الله في الزهد في الدنيا، فالإنسان لا يطمع فيها وكلما علم من كتاب الله سبحانه وتعالى شيئاً عن هذه الدنيا زاد زهداً فيها، كقوله سبحانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، فالدنيا متاع غرور، وكم يتمتع هذا المغرور بهذه الدنيا؟ فالمغرور يتمتع بشيء يغره، أي: بصحة وعافية وقوة في بدنه ومنصب ورئاسة ومال وجمال ولا تدوم هذه الأشياء. فالإنسان مهما تمتع فإنه في النهاية يترك ذلك، فليحرص الإنسان على الدين وليترك الدنيا لأهلها ولا يتكالب عليها ولا يطمع فيها، فإنه لن ينال منها إلا ما قسمه وكتبه الله عز وجل له. من الأحاديث التي في هذا الباب: حديث أبي هريرة رواه الإمام البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة). والتعس بمعنى: الهلاك والعثار والسقوط، والتعس بمعنى: الشر، وبمعنى: الانحطاط والبعد، فكل هذا دعاء يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإنسان، أي: بعد هذا العبد، وانحط وسقط ووقع ولم يجد من يرفعه، تعس هذا الذي نسي أنه مخلوق لعبادة الرب الواحد سبحانه وتعالى وعبد الدنيا وعبد الدرهم والدينار، (تعس عبد الدينار)؛ لأنه نسي نفسه. والإنسان عبد لله سبحانه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، عابد لله يعرف ما الذي يريده الله وهو يؤدي حق الله سبحانه كما يريد الله، فهواه تابع لدين رب العالمين سبحانه، هذا هو عبد الله، وغير ذلك يكون عبداً لهواه ولشهوته أي: تابعاً لهواه، حيثما ذهب به الهوى ذهب وراءه، وحيثما أدت به شهوته كان وراءها، فهو متبع للهوى ومتبع للدرهم ومتبع للدينار، صار عبداً لهذه الأشياء، يجري وراءها في حلال وفي حرام، ويريد أن يخطفها ويأخذها، فقال صلى الله عليه وسلم داعياً على من هذا حاله: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة). كأن الإنسان يكون عبداً للمال الكثير، بل قد يكون عبداً للمال الحقير أيضاً، فالمال الكثير معبر عنه بالدينار، والمال الحقير معبر عنه بالدرهم. والخميصة: القماش أو الخرقة التي يلبسها الإنسان فيصير عبداً لذلك طامعاً في قطعة وخرقة وقماش فيختلسها ويسرقها، وهواه يدفعه أن يأخذها باختلاس وبخيانة وبطمع وبشره وبانحطاط، فتراه يركض وراء هواه في أي صورة من الصور، ويريد أن يحصل هذه الأشياء، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر من حاله: (إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط) يعني: كأنه يتبع الناس على أموالهم، إذا الناس أعطوه المال فرح ورضي بذلك، وإذا لم يعطوه ذلك يذم الناس ويتسخط؛ لأنهم لم يعطوه. ترك دينه وراءه ظهرياً واتبع هواه واتبع مطامعه فتعس هذا الإنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس وانتكس)، دعا عليه بالتعاسة والانتكاس، انتكس الإنسان يعني: سقط على وجهه، وانتكس المريض بمعنى: أنه لما قارب شفاؤه وصحته إذا به ينقلب عليه المرض فيصير أشد مما كان. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإنسان الشره الذي يطمع في الكثير وفي القليل، ورضاه للدنيا فقط، فلا يرضى للدين ولا يرضى لله سبحانه وتعالى، ولا يسأل عن دينه، إنما سؤاله عن الدنيا ورضاه وسخطه في الدنيا. قال: (تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، دعاء عليه يعني: لو دخلت في رجله شوكة لا يجد من ينقشها له، نقشها بمعنى: أزالها بالمنقاش الذي تستخرج به الشوكة، كالإبرة ونحوه، فالشوكة إذا دخلت في رجل هذا الإنسان لا يلقى الذي ينقشها له، دعاءً من النبي صلى الله عليه وسلم عليه.

شرح قوله: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه)

شرح قوله: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه) ثم دعا لعكس هذا الإنسان: (طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه). وجاء في الحديث أن طوبى شجرة من أشجار الجنة تخرج فيها ثياب أهل الجنة، فكأنه يدعو لهذا الإنسان أن ينال الحظ الوافر في الآخرة، وأن يكون من أهل الجنة ومن أهل هذه الشجرة. قال: (طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله)، يعني: عبداً مجاهداً فقيراً ومع ذلك ليس له طمع في الدنيا ولا يطمع في الدرهم ولا في الدينار ولا الخميصة، ولكن طمعه في دين الله وفي رضا الله. قال صلى الله عليه وسلم في وصف هذا الإنسان: (أشعث رأسه)، يعني: ليس عنده وقت يمشط فيه شعره. قال: (مغبرة قدماه)، مجاهد في سبيل الله، يمشي حافياً، فيعلق الغبار والتراب بقدميه من كثرة المشي. قال: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة) فهو عبد متواضع فقير لا أحد يعرفه وليس له قيمة كبيرة لكي يوضع في مكان مرموق، فهذا الفقير يجعلونه حارساً، وهو راض بهذا الشيء لرضا الله عز وجل به، أو يجعلونه في الساقة في آخر الجيش أو في غير ذلك فلا يهتم لمكانه ولا يريد أن يراه الناس إنما يريد أن يعرفه الله سبحانه وتعالى. قال: (إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)، يعني: حاله أنه فقير مسكين ضعيف لو أنه استأذن لا أحد يأذن له، ليس له فضل عند الناس، وليس له عند الناس وجاهة لكي يستأذن فيدخل، وإذا شفع لإنسان عند إنسان ليس له عنده منزلة فلا يرضى منه ولا يقبل منه، هذا الإنسان دعا له النبي صلى الله عليه وسلم: طوبى لهذا العبد.

من أحب الدنيا أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه

من أحب الدنيا أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم: حديث رواه الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى). الدنيا والآخرة ضرتان، ترضي واحدة وتغضب الأخرى، وليس من الممكن أن ترضي الثنتين أبداً، فمن أحب دنياه أضر بآخرته؛ لأنه يحب الدنيا فيبدأ في الطمع ويجمع لهذه الدنيا ويترك أمر الآخرة فأضرب آخرته. والعكس بالعكس: الذي ينتبه لأمر الآخرة لابد أن تضيع عليه أشياء من الدنيا، والدنيا تدعو صاحبها إلى أن شريفاً مفتخراً، والآخرة تدعو صاحبها إلى أن يكون متواضعاً بين الناس، فيه ضعة وفقر وحب لأهل الزهد وبعد عن أهل الدنيا. فالذي يضر دنياه ينتفع في آخرته. قال صلى الله عليه وسلم: (فآثروا ما يبقى على ما يفنى) أي: فضلوا الدار الآخرة، وإذا تعارضت الدنيا مع الآخرة ففضلوا الآخرة.

شرح حديث: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم)

شرح حديث: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم) من الأحاديث العظيمة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث رواه الترمذي عن كعب بن مالك، ورواه الطبراني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). نفهم من هذا المثل الذي يذكره صلى الله عليه وسلم أن حظيرة فيها أغنام، هذه الحظيرة غفل عنها صاحبها فدخلها ذئبان، والذئب من أشد الحيوانات ضراوة وعداوة وإفساداً، فلو كان ذئباً واحداً لأفسد فساد عظيماً، فكيف بذئبين يشجع أحدهما الآخر؟ وكيف بحظيرة مفتوحة أهملها أصحابها وجاء الذئبان وهما جائعان ضاريان، والذئب إذا كان جائعاً وسلط على حظيرة غنم يهجم على الغنمة ويأكل من بطنها، ويهجم على الثانية ويأكل من بطنها، فلا يترك غنمة واحدة إلا نهش بطنها، وكأنه يريد أن يأكل الجميع، فلا تكفيه واحدة، هذا ذئب واحد، فكيف لو كانا ذئبين؟ فالذئب بشرهه وطمعه يفسد كل هذه الأغنام، ويأكل من الجميع ما يأكل. فالذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من التشبيه أن حظيرة غنم دخل فيها ذئبان جائعان أفسدا إفساداً عظيماً وأهل الحظيرة غافلون عنها، فالحظيرة هي دين الإنسان، والذئبان هما حرص الإنسان على ماله، وحرصه على شرفه، فالإنسان الذي يحرص على المال يبدأ في جمع المال بأي صورة من الصور، والإنسان فيه نهم يشبه نهم الذئب حين يأكل الغنم، ففيه طمع وفيه شره وفيه حرص على المال وحرص على السيادة والرفعة. فالإنسان قد يضحي بماله في سبيل سيادته ورفعته، والحرص على المال وعلى الجاه يفسد على الإنسان دينه أشد من إفساد هذين الذئبين في هذه الحظيرة التي فيها الأغنام، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، يعني: يحرص على المال وعلى الشرف فيفسد دينه بحرصه ذلك. لذلك يقول العلماء: أما المال فإفساده أنه نوع من القدرة يحرك داعية الشهوة ويجر إلى التنعم في المباحات فيصير التنعم مألوفاً، يعني: معه مال فيألف كل شيء مباح، إذا غاب عنه هذا الشيء المباح يبدأ يغضب؛ لأنه فقد شيئاً من النعمة، وربما يشتد أنس الإنسان بهذا المال فيعجز عن كسب الحلال، ويبدأ يبحث عن الحرام فيقتحم في الشبهات وفي الحرام ويتلهى عن ذكر الله فيضيع دينه، ويكفي به إفساداً أن المال يلزم الجاه، والجاه لا يلزم المال. فالإنسان يجمع المال لكي يكون ذا قدر كبير بين الناس، فكيف يكون جاه الإنسان الذي يحرص عليه؟ إذا كان في سبيل المال يضيع دينه فكيف إذا كان في سبيل الجاه؟ فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن المال والجاه يضيعان دين الإنسان، فهنا يخوض الإنسان في المراءاة في سبيل الجاه وفي النفاق وفي المداهنة وفي سائر الأخلاق الذميمة لكي يقال عنه رجل كبير ورجل بين الناس رئيس، فهذا من إفساد طلب الشرف وطلب المال لدين المرء. وإذا كان الهم عند المرء هماً واحداً كفاك الله عز وجل جل ما أهمك، وإذا اجتمعت بك الهموم في طلب المال وفي طلب الشرف وفي طلب المناصب ضاع الدين وضاعت الدنيا. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الترغيب في الزهد في الدنيا والترهيب من حبها والتكاثر فيها [4]

شرح الترغيب والترهيب - الترغيب في الزهد في الدنيا والترهيب من حبها والتكاثر فيها [4] ترك النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا وطلب الدار الآخرة، مع أن الله سبحانه وتعالى عرضها عليه، ولكنه رضي بالقليل؛ لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وفيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة للمؤمنين. وعلى نهجه سار الصحابة من بعده والصالحون.

ذكر ما جاء من زهد النبي صلى الله عليه وسلم وتقشفه

ذكر ما جاء من زهد النبي صلى الله عليه وسلم وتقشفه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الحافظ المنذري رحمه الله في الترغيب في الزهد: [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله، فقيل: هل كان لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنخُل؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنخُلاً من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله، فقيل: فكيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ فقال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثرَّيناه)، رواه البخاري. وعن أم أيمن رضي الله عنها: (أنها غربلت دقيقاً فصنعته للنبي صلى الله عليه وسلم رغيفاً، فقال: ما هذا؟ فقالت أم أيمن: طعام نصنعه في أرضنا فأحببت أن أصنع لك منه رغيفاً، فقال: رديه فيه ثم اعجنيه)، رواه ابن ماجة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلاً فأمسكت وقطع النبي صلى الله عليه وسلم، أو قالت: فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطعت، قال: فتقول للذي تحدثه: هذا على غير مصباح؟ قالت عائشة رضي الله عنها: إنه ليأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الشهر ما يختبزون خبزاً ولا يطبخون قدراً).

الاستشعار بالفقراء والمساكين وتربية النفس على الجوع والصبر

الاستشعار بالفقراء والمساكين وتربية النفس على الجوع والصبر هذه الأحاديث الصحيحة يذكرها الحافظ المنذري في الترغيب في الزهد، وشهر رمضان مناسب للإنسان المؤمن أن يتذكر مثل هذه الأحاديث؛ لأن شهر رمضان شهر الصوم، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فيتعلم المؤمن في هذا الشهر الامتناع عن الطعام وعن الشراب من الفجر وحتى غروب الشمس. ويتعود في هذا الشهر على الجوع ويستشعر بما يستشعره الفقراء والمساكين، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجوع فيربي نفسه على ذلك ويفطم نفسه عن الدنيا، وليس كل ما يريده الإنسان يناله في هذه الدنيا، وإنما يعتاد أن يترك الشيء الذي يقدر عليه، فيجعل بينه وبين الحرام سداً وحاجزاً، ويترك من الحلال حتى لا يستنفذ الحلال، فيقع في الحرام بعد ذلك.

أكل النبي صلى الله عليه وسلم الخبز الخشن على سفرة

أكل النبي صلى الله عليه وسلم الخبز الخشن على سفرة من الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه يقول أنس رضي الله عنه: (لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات، ولم يأكل خبزاً مرققاً حتى مات، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط). هذا أنس رضي الله عنه وقد أغناه الله عز وجل ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: اللهم بارك له في ماله وفي ولده، فأعطاه الله مالاً وأعطاه غنى وأعطاه أولاداً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما رأى ذلك أخذ يذكرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير هذه الأشياء ولم يأكل على خوان حتى مات عليه الصلاة والسلام. والخوان: طاولة يجلس حولها وقت الطعام، فلم يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع له طعامه على خوان ولكن على سفرة، وكلمة سفرة معناها: مفرش ينحط على الأرض، سميت بذلك لأنها تسفر عما بداخلها، فهي مفرش يوضع على الأرض ويوضع عليه طعامه صلى الله عليه وسلم. يقول أنس رضي الله عنه: (ولم يأكل خبزاً مرققاً حتى مات)، يعني: خبزاً منقىً وخبزاً مغربلاً ومنخولاً. (ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط)، يعني: شاة مسلوخة ومشوية بعد سلخها، ولكن كانوا يسلخون جلد الشاة فتوضع في السيخ وتشوى على حالها. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ير الأشياء التي يراها المنعمون، وليس معنى ذلك أن هذه الأشياء محرمة، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يجعلها للنبي صلى الله عليه وسلم ليس لهوانه على الله عز وجل، بل لهوان الدنيا وأنها لا تستحق ذلك فلا تستحق من الإنسان أن يتعب من أجلها، وأن يقتتل مع أخيه من أجلها، وأن يطمع وأن يستكثر منها، لا داعي لمثل ذلك.

شرح حديث: (ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم النقي)

شرح حديث: (ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم النقي) يقول سهل بن سعد رضي الله عنه: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي) أي: الخبز الأبيض ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فالراوي عنه يسأله: هل كان لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منخل، أي: غربال؟ فاليوم كل واحد منا في بيته غربال؟ يقول سهل: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله)، قال السائل: فكيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ هذا سهل بن سعد والذي يليه ويروي عنه ويسأله من التابعين، وكأن المال كثر فاعتادوا على هذا الشيء، فلما اعتادوا نسوا ماذا كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأل عن الخبز كيف يأكله عليه الصلاة والسلام؟ فيسأل سؤال المستغرب المتعجب كيف تصنعون الخبز؟ كيف إذا كان الأمر على ذلك؟ فالإنسان عندما يعيش في النعم ينسى أن غيره لا يجد ذلك. يعني: نحن الآن حين نأكل طعامنا كيف نأكل القمح، فمن الضروري أن يكون مطحوناً ومنخولاً، وعندما نتذكر شخصاً يأخذ القمح من الحقل مباشرة فيفرك القمح في يده، ثم يأكله نتعجب لهذا الشيء، من الذي يأكل القمح بهذه الصورة؟ وكانوا يأكلونه من قبل على هذه الصورة، وكان يشبعهم ذلك الذي يأكلونه، فلم يروا من الدنيا إلا الشيء القليل. يقول هنا: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ فقال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار وما بقي ثريناه، أي: والباقي نضع عليه ماء ونعجنه ونأكله. ومن الأحاديث حديث أم أيمن رضي الله عنها وهي حبشية وكانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بحبه زيد بن حارثة وولدت له أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه أم أيمن أحبت أن تتحف النبي صلى الله عليه وسلم بشيء تملكه، فغربلت دقيقاً، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم أنها غربلت الدقيق، لكن أتت بدقيق أبيض أمامه صلى الله عليه وسلم، فكانت قد غربلته ونخلته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا؟ قالت: طعام نصنعه بأرضنا)، يعني: في الحبشة كنا نصنعه هكذا، نغربل الدقيق حتى يكون أبيض، قالت: فأحببت أن أصنع لك منه، أحبت أن تكرم النبي صلى الله عليه وسلم برغيف، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (رديه) أي: ردي النخالة فيه.

ذكر ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التقلل من الدنيا

ذكر ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التقلل من الدنيا ومن الأحاديث: حديث عن عائشة رواه الإمام أحمد ورواه الطبراني أيضاً تقول: (أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلاً)، يعني: ليلة من الليالي أبو بكر الصديق أرسل هدية للنبي صلى الله عليه وسلم، الهدية يد خروف. وهذا دليل على أنهم في مرحلة من المراحل كانوا في غاية الفقر، وقد كان أبو بكر من أغنى الناس في مكة، فأنفق ماله كله على دين رب العالمين سبحانه، فهذا الذي يقدر عليه في هذه المرحلة أن يرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بيد شاة. (قالت: فأمسكت وقطع النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني: هذا شأنهم في الليل، فقد كانوا في ظلمة، فالسيدة عائشة أمسكت وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بالسكين وقطع أو العكس. فيقول الراوي للسيدة عائشة رضي الله عنها: تقطعون يد الشاة على غير مصباح، فقالت عائشة رضي الله عنها: (إنه ليأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الشهر ما يختبزون خبزاً، ولا يطبخون قدراً). فراوي الحديث يقول: يا أم المؤمنين -هذه رواية الطبراني - تقطعون على غير مصباح؟ فقالت: لو كان عندنا دهن مصباح لأكلناه، فلم يكن عندهم غاز ولا بترول يوقدون به المصباح! فانظر للحال الذي كان عليه بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لا نور في البيت ولا مصباح ولو كان هناك دهن للمصباح لأكلوا هذا الدهن، لذلك لا تعجب عندما يدعى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام إلى خبز شعير وإهالة -دهنة- سنخة يعني: قد مكثت في الجراب فترة طويلة حتى بدأ طعمها يتغير، فيذهب النبي صلى الله عليه وسلم ويأكل من ذلك. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم. أي: حتى التمر، وقد كانت المدينة مليئة بالبلح والتمر، لكنها تقول: من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم! وفي الحديث الآخر أن سائلاً يسأل السيدة عائشة رضي الله عنها يقول: يا خالة! ما كان يعيشكم؟ فتقول: الأسودان يعني: الطعام السائد الذي عندنا التمر والماء، فقد كانوا يمكثون شهرين اثنين وتطلع ثلاث أهلة عليهم في شهرين وليس في البيت طعام ولا خبز، وإنما في بيت النبي صلى الله عليه وسلم التمر، ويا ليته يشبع منه صلوات الله وسلامه عليه! تقول: من حدثكم أن كنا نشبع من التمر فقد كذبكم، فلما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم قريظة أصبنا شيئاً من التمر والودك!

اختيار النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عبدا رسولا

اختيار النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عبداً رسولاً ومن الأحاديث التي جاءت: حديث أبي هريرة يقول: (جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة). يعني: في يوم من الأيام وجبريل جالس مع النبي صلى الله عليه نزل ملك من السماء، وأول مرة ينزل هذا الملك من السماء إلى الأرض من ساعة ما خلقه الله سبحانه وتعالى، فيقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك: أملكاً أجعلك أم عبداً رسولاً؟)، يعني: نزل الملك يخير النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنت مقامك عالٍ عند رب العالمين، وهو يحب أن يخير نبيه صلى الله عليه وسلم. والحكمة من أن ينزل ملك آخر غير جبريل لكي يكون جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وزيراً وناصحاً ومشيراً، فنزل الملك الآخر يخير النبي صلى الله عليه وسلم: أتريد أن تصبح ملكاً رسولاً أم تبقى عبداً رسولاً؟ فنظر جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إليه: تواضع لربك يا محمد! فربنا يخيرك، فإذا تواضعت فإنه ما زاد الله عبداً بتواضع إلا عزاً، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بل عبداً رسولاً)، يعني: أكون عبداً رسولاً. ولذلك كان يجلس جلسة العبيد، ويقعد على الأرض ولا يقعد على الكرسي أو على عرش، وينام على السرير، وكانت حبال السرير تؤثر في جنب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهنا كان صلى الله عليه وسلم غاية في التواضع ليري الناس أن الدنيا لا تساوي شيئاً. قال ابن مسعود: (نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه)، أي: أعواد الحصير أثرت في جنبه صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً) أي: فرشاً ليناً، فقال صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها). هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يضرب هذا المثال العظيم الذي يحدث الناس به حتى يعقلوا، فيقول: أنا مثلي مع هذه الدنيا كراكب نزل تحت ظل شجرة، وفي رواية أخرى قال: (كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها) الذي يسير في الصيف ينزل تحت شجرة في أثناء الطريق ليرتاح قليلاً ثم يكمل سيره مرة أخرى. هكذا يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نزهد في الدنيا حتى يحبنا الله سبحانه، وأن نزهد في ما في أيدي الخلق حتى يحبنا الخلق. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل الله اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1