شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - عبد الكريم الخضير

عبد الكريم الخضير

مقدمة عن السنة وكتبها وبعض شروحاتها

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (مقدمة عن السنة وكتبها وبعض شروحاتها) الشيخ/ عبد الكريم الخضير إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفيه من خلقه، وخيرته من بريته، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فإن سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- عند عموم الأمة هي ثاني مصادر التشريع الإسلامي المعتبرة عند أهل العلم، ولم ينازع في ذلك إلا من أعمى الله قلبه من المبتدعة الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، كما جاء وصفهم في الحديث الصحيح، وقد قرن الله -سبحانه وتعالى- طاعة رسوله -عليه الصلاة والسلام- بطاعته -عز وجل-، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [(59) سورة النساء]، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [(32) سورة آل عمران] وقال عز من قائل: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [(132) سورة آل عمران] وقال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [(71) سورة الأحزاب] وقال جل من قائل: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [(36) سورة الأحزاب]. يقول الشاطبي في الموافقات في قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ} [(92) سورة المائدة] قال: "وسائرُ ما قرن الله فيه طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بطاعته فهو دالٌ على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن، إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله".

وقال -جل وعلا-: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [(65) سورة النساء] يقول العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين: "أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتفِ في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق من قضاءه وحكمه، ولم يكتفِ منهم أيضاً منهم بذلك حتى يسلموا تسليماً، وينقادوا انقياداً". الإمام الشافعي -رحمه الله- في الرسالة يقول: "هذه الآية يعني قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [(65) سورة النساء] هذه الآية نزلت فيما بلغنا -والله أعلم- في رجلٍ خاصم الزبير في أرضٍ، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- بها للزبير، وهذا القضاء سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا حكماً منصوص في القرآن، والقرآن يدل -والله أعلم- على ما وصفت؛ لأنه لو كان قضاءٌ بالقرآن لكان حكماً منصوصاً في كتاب الله، وأشبه أن يكونوا إذا لم يسلموا الحكم لكتاب الله نصاً غير مشكل الأمر أنهم ليسوا بمؤمنين إذ ردوا حكماً تنزيلي فلم يسلموا". المقدم: الشيخ الخضير: كأنكم تشيرون أيضاً من خلال هذه النقول إلى وجود فرق بين القبول والرضا أيضاً بالنسبة للسنة، فلا يعني أيضاً مجرد القبول بحكم السنة الإيمان، لا بد مع القبول الرضا، لو وجد من قبل السنة ولكنه لم يرض بها فلا يحكم له بهذا الأمر. أولاً: التحكيم، التحاكم إلى السنة، ثم القبول والرضا بما حكم به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، بعد ذلكم التسليم والانقياد لما حكم به -عليه الصلاة والسلام-، لكن قد يقول قائل: أن الإنسان قد يجد في نفسه شيء من الحكم إذا كان ضد مصالحه، كما يوجد من كثيرٍ من يحكم عليهم عند القضاة إذا كان الحكم ليس في صالحهم فإنهم يجدون في أنفسهم ولا بد، المقصود أن لا يتحدث بما في نفسه، ولا يحمله هذا على أن يقدح في الحكم الشرعي.

أما وجود ذلك في نفسه فهذا أمرٌ جبلي، كل إنسان يود أن يكون الحكم لصالحه، ومن ذلكم ما يثار كثيراً من قضايا تعدد الزوجات مثلاً، كثيراً من النسوة تعرف أن هذا شرع الله، وهذا حكم الله، لكن لا ترض أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة، وهي التي تقدر مصلحتها، لكن لا بد من الرضا والانقياد لحكم الله وحكم رسوله، لنعلم أن هذا شرع من الله -سبحانه وتعالى-، فلا بد من الرضا به سواءٌ كان في كتابه أو جاء على لسان رسوله -عليه الصلاة والسلام- لا فرق. المقدم: فضيلة الدكتور: في قولكم في المقدمة بأنها هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، هذا الترتيب فقط من أهل العلم بحيث جعلوا مصدر أول ومصدر ثاني ومصدر ثالث. نعم، باعتبار أن المتكلم بكتاب الله -سبحانه وتعالى- هو الله -عز وجل-، فالقرآن يختلف عن السنة من وجوه منها: أنه متعبد بتلاوته، والسنة وإن كان يجب تحكيمها، ويجب الإيمان بها، ويجب العمل بمقتضاها، إلا أنه لا يتعبد بتلاوتها. المقدم: لكن حجيتها مثل حجية القرآن؟ حجيتها مثل القرآن تماماً. المقدم: إنما مراد الفقهاء بالتقسيم لذات التقسيم؟ لذات التقسيم باعتبار القائل، وإلا فالسنة وحيٌ كما جاء عن الله -عز وجل-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [(3 - 4) سورة النجم] يقوله في حق نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((عليكم بسنتي)) وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((لا أوتين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتب الله اتبعناه)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي رافع. وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإنما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي نابٍ من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها)) الحديث مخرج في السنن، سنن أبي داود والترمذي والحاكم عن المقدام بن معدي كرب.

على كل حال السنة بالنسبة للاحتجاج مثل القرآن سواءً بسواء، لا تختلف عنه، فما ثبت بالسنة يجب العمل به سواء قلنا: أنه مثل القرآن في القطعية في الثبوت أو دونه. المقدم: اخترتم كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، ما المراد بالجامع الصحيح هنا؟ الجامع الصحيح المراد به ما اشتهر عند الناس واستفاض لديهم من صحيح البخاري الذي سماه مؤلفه (الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه). المقدم: لعلكم تتحدثون إذاً عن البخاري وعن صحيحه ما دام هذا الكتاب باختصار. البخاري -رحمه الله تعالى- هو أمير المؤمنين في الحديث: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه البخاري، ولد -رحمه الله تعالى- سنة (194هـ) ببخارى، ومات أبوه وهو صغير، فكفلته أمه وأحسنت تربيته، وقد ظهر نبوغه من صغره وهو في الكتاب، فرزقه الله -سبحانه وتعالى- قلباً واعياً وحافظة قوية، وذهناً حاداً، ووفق لحفظ الحديث فأخذ منه بحظٍ كبير، ولما يبلغ العاشرة من عمره، ثم صار يختلف إلى علماء عصره وأئمة بلده فأخذ الحديث والعلم عنهم، وصار يراجعهم في بعض ما سمع منهم، وقد بلغ عدد شيوخه فيما روي عنه ثمانين وألف نفس (1080) ليس فيهم إلا صاحب حديث، وقد بلغت محفوظاته -رحمه الله- أنه يحفظ من الحديث الصحيح مائة ألف، ويحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، يحدث هذا الكم الهائل من السنة، فرحمه الله تعالى رحمةً واسعة. وقد أثنى عليه جمعٌ من الحفاظ من أقرانه، فقد قال أبو حاتم الرازي: "لم تخرج خرسان قط أحفظ منه، ولا قدم إلى العراق أعلم منه"، وكذلك أثنى عليه الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن فقال: "رأيتُ علماء الحرمين والحجاز والشام والعراق، فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل" وروى الحاكم بسنده أن مسلماً الإمام صاحب الصحيح جاء إلى البخاري فقبله بين عينيه، وقال: "دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".

وأما ثناء من جاء بعده فيكفي في ذلك قول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في مقدمة الفتح، يقول: "لو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذلك بحرٌ لا ساحل له". وعلى كل حال ترجمة الإمام البخاري مدونة ومسطرة ومفردة ومع غيره من الأئمة، صنفت في ترجمة المصنفات التي منها المجلد، ومنها المجلدان، ومنها ما يبلغ المئات من الصفحات في ثنايا الكتب، وألف عن كتابه الصحيح العشرات من المؤلفات والرسائل العلمية، كلٌ يتناوله من جهة، ولا يزال الصحيح بحاجة إلى خدمة، وإن كان مشروحاً من أكثر من ثمانين شرح فيما عده صاحب كشف الظنون، والشروح أضعاف هذا العدد الذي ذكره مما لم يطلع عليه وممن تأخر عنده. الإمام البخاري له مصنفات غير الجامع الصحيح، التواريخ الثلاثة (الكبير والأوسط والصغير) كتاب التفسير الكبير، وله الأدب المفرد، وله القراءة خلف الإمام، ورفع اليدين، وله غيرها من الكتب. توفي -رحمه الله- ليلة عيد الفطر سنة (256) عن اثنتين وستين عاماً، بقرية يقال لها: خرتنك على فرسخين من سمرقند. المقدم: كانوا يتكلمون العربية -فضيلة الدكتور- في بخارى قبل أن يتعلمها هو؟ نعلم أن الأعاجم لما دخلوا في الإسلام عنوا بلغة الإسلام، بلغة القرآن، فتعلموها وأتقنوها وضبطوها وحفظوها حتى برز أكثرهم وصنف فيها، بل أكثر المؤلفين والمصنفين في علوم العربية بفروعها العشرة منهم، ويكفينا من ذلكم سيبويه صاحب الكتاب ليس بعربي، وهو أشهر كتابٍ في العربية على الإطلاق، على كل حال معرفة الأعاجم للعربية أمرٌ مستفيض ظاهر معروف، ومؤلفتاهم كثيرة جداً تغني عن الإفاضة عن هذا الموضوع.

صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أول كتاب صنف في الصحيح المجرد من غيره، فقد كان الأئمة قبل الإمام البخاري لا يقصرون كتبهم على الأحاديث الصحيحة، بل كانوا يجمعون بين الصحيح والحسن الضعيف، تاركين التمييز بينها إلى معرفة القارئين والطالبين إلى معرفة هؤلاء بالرجال، ومقدرتهم على التمييز بين المقبول والمردود، وقد كانوا لا يهتمون بالتمييز فيما تقدم من الأزمان؛ لأنهم عندهم أن من ذكر الإسناد فقد برئ من العهدة، والمطلع على هذه الأسانيد يستطيع أن يميز، لكن لما دخلت العلوم، وكثر الداخلون في الإسلام، وقلت العناية بعلوم الشرع، احتاج الناس إلى من يميز لهم الصحيح من غيره، فجاء الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري فصنف كتابه الصحيح، فرأى أن يخص الصحيح بجمع فألف كتابه المذكور، وفي هذا يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-: أول من صنف بالصحيحِِ ... محمدٌ وخص بالترجيحِ ومسلمٌ بعد وبعض الغرب معْ ... أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- روي عنه أنه قال: "ما على ظهر الأرض كتابٌ بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك" وهذا كان قبل وجود الصحيحين، وإلا لو رأى الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- هذين الكتابين أعني صحيح البخاري وصحيح مسلم لما قال هذه المقالة، وشواهد الأحوال وواقع هذه الكتب يشهد بما ذكرنا ولذا فإن صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله -سبحانه وتعالى- عند جماهير العلماء، وذهب بعض المغاربة إلى تفضيل صحيح مسلم، كما أشار الحافظ العراقي -رحمه الله-: ومسلمٌ بعد وبعض الغرب معْ ... أبي عليٍ فضلوا ذا لو نفعْ

ولعل مرد التفضيل وسببه أن صحيح مسلم ليس فيه بعد الخطبة إلا حديث السرد، فقد جرده الإمام مسلم -رحمه الله- من الموقوفات، وفتاوى الصحابة والتابعين، كما نقل ذلك القاسم التجريبي عن ابن حزم، وهذا غير راجع إلى الأصحية، نعم إذا نظرنا إلى الصحيحين من هذه الحيثية وجدنا صحيح الإمام مسلم مجرد، ليس فيه إلا الحديث بعد الخطبة، حتى التراجم الإمام مسلم ما ترجم كتابه، بخلاف البخاري الذي يشتمل على آلاف التراجم، ويشتمل أيضاً على آلاف الموقوفات من أقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم. المقصود بالتراجم الأبواب، باب ما جاء في كذا، باب حكم كذا، باب ... إلى آخره، هذه التراجم، الإمام مسلم جرد كتابه منها، وكون الإمام مسلم جرد كتابه من الموقوفات والمقطوعات من أقوال الصحابة والتابعين هذا غالباً، وإلا يوجد فيه عدد يسير جداً من الموقوفات، وفيه أيضاً بعض المعلقات، وإن كانت يسيرة جداً. من الموقوفات التي في صحيح مسلم، قول يحيى بن أبي كثير: "لا يستطاع العلم براحة الجسم" هذا الموقوف أدخله الإمام مسلم -رحمه الله- بين أحاديث مواقيت الصلاة، وأشكل على جمع من الشراح مناسبة لهذا الخبر وهذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير بين أحاديث مرفوعة في مواقيت الصلاة، ولعل الإمام مسلم -رحمه الله- تعالى أعجبه سياق المتون والأسانيد، وأراد أن يلمح مثل هذا الضبط وهذا الإتقان لا يأتي براحة، لا يأتي مع الراحة، ولا يأتي مع الاسترخاء، بل لا بد من إتعاب الجسم، ولذا قال -رحمه الله تعالى-: "لا يستطاع العلم براحة الجسم، أو لا ينال العلم براحة الجسم" هذا الذي ذكروه وما نقل عن بعض المغاربة أن سبب التفضيل تجريد الإمام مسلم لكتابه من الموقوفات وأقوال الصحابة والتابعين وفتاويهم، هذا غير راجع إلى الأصحية، المفاضلة بين الصحيحين في الأحاديث الأصول المرفوعة التي هي العمدة في الكتاب.

ممن فضل مسلم على البخاري أبو علي النيسابوري، وأشار إليه الحافظ العراقي فيما تقدم، روي عنه قال: "ما تحت أديم السماء كتابٌ أصح من كتاب مسلم" وكلامه كما أشار ابن حجر محتملٌ للمدعى أنه أصح من كتاب البخاري، وهو محتملٌ أيضاً لنفي الأصحية خاصة دون المساواة، كونه لا يوجد أصح منه لا ينفي أن يوجد مساوي له، كون صحيح مسلم لا يوجد كتاب على وجه الأرض أصح منه لا ينفي أن يوجد كتاب مساويٍ له في الأصحية، ويتأيد ذلك بحكاية التساوي قولاً ثالثاً في المسألة، فأبو علي إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم، ولم ينفِ المساوي، هذا ما قرره ابن حجر وتبعه عليه الحافظ السخاوي. لكن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [(125) سورة النساء] يقول: "فإن قيل: الآية نصٌ في دينٍ أحسن من دين هذا المسلم لكن من أين له أنه ليس هناك دينٌ مثله؟ " الآية نصٌ في دينٍ أحسن من دين الإسلام، لكن من أين لهذا المسلم أن يدعي أنه ليس هناك دينٌ مثله؟ أجاب -رحمه الله تعالى- من وجوه: والوجه الأول هو الذي يعيننا هنا، فقال: "أحدها: أن هذه الصيغة وإن كانت في أصل اللغة لنفي الأفضل لدخول النفي على أفعل فإنه كثيراً ما يضمر بعرف الخطاب يفضل المذكور المجرور بمن مفضلاً عليه في الإثبات، فإنك إن قلت: هذا الدين أحسن من هذا كان المجرور بمن مفضلاً عليه، والأول مفضلاً، فإذا قلت: لا أحسن من هذا أو من أحسن من هذا أو ليس فيهم أفضل من هذا، أو ما عندي أعلم من زيد، أو ما في القوم أصدق من عمرو، أو ما فيهم خيرٌ منه، فإن هذا التأليف يدل على أنه أفضلهم وأعلمهم وخيرهم، بل قد صار حقيقة عرفية، يعني هذه العبارة صارت حقيقة عرفية في نفي فضل الداخل في أفعل، وتفضيل المجرور على الباقي، وأنها تقتضي نفي فضلهم وإثبات فضله عليهم، وضمنت معنى الاستثناء كأنك قلت: ما فيهم أفضل من هذا أو ما فيهم المفضل إلا هذا، ثم ذكر -رحمه الله- بعد ذلك بقية الوجوه.

مفاد كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- أن قولنا: لا يوجد أفضل من فلان أو ما على وجه الأرض أفضل من فلان أن الحقيقة العرفية تدل على تفضيل هذا المذكور على جميع من على وجه الأرض، فصار حقيقةً عرفية، وإن كان في الأصل اللغوي أنها تنفي الأفضل، ولا تنفي وجود المساوي، هذا كلام الشيخ -رحمه الله تعالى-، يقول: "فإن هذا التأليف يدل على أنه الأفضل والأعلم والخير". شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- حينما ذكر هذا الكلام وهو كلامٌ جميل ونفيس، يرد عليه ما ذكره ابن القطاع في شرح ديوان المتنبي قال: "ذهب من لا يعرف معاني الكلام إلى أن مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر)) مقتضاه أن يكون أبو ذر أصدق العالم أجمع، ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر)) فمقتضاه أن يكون أبا ذر أصدق العالم أجمع، قال: "وليس المعنى كذلك، وإنما نفى أن يكون أحدٌ أعلى رتبةً في الصدق منه، ولم ينفِ أن يكون في الناس مثله في الصدق، ولو أراد ما ذهبوا إليه لقال: أبو ذرٍ أصدق من كل من أقلت" والحديث مخرج في المسند والترمذي وابن ماجة، والحديث بمجموع طرقه حسن، حسنه الترمذي والسيوطي والألباني، وقال الحافظ: "إسناده جيد". المقدم: كأني فهمت أن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لا يؤيد أن صحيح مسلم أفضل من صحيح البخاري ولا حتى مساوياً له، وإنما يقول: أن هذه العبارة خاطئة، هل فهمي صحيح؟ شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لا يعرض للصحيحين، كلامه ليس له علاقة بالصحيحين في الآية، كلامه يوضح لنا كلام أبي علي النيسابوري، وأنا أبا علي النيسابوري يرى أن صحيح مسلم أفضل بهذه العبارة، ولا يعني أنه ينفي الأفضل بل يثبت المساوي لا، لا يعني هذا. المقدم: فهم الآية حتى أن من قال: أنه أقر بأن صحيح مسلم أفضل من صحيح البخاري لم ينفِ أن يكون متساوياً، لكن من فهم الآية ينفي أن يكون متساوياً. نعم، إذا قلنا: الحقيقة العرفية لمثل هذا التركيب يجعل المذكور أفضل من غيره مطلقاً، نأتي إلى الحديث حديث: ((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء)) لا يوجد على ظهر الأرض أصدق لهجةً من أبي ذر. مثل {وَمَنْ أَحْسَنُ}؟

مثل الآية ومثل قول أبي علي، مفهوم على مقتضى كلام شيخ الإسلام أن يكون أبا ذر أصدق العالم أجمع، جميع من وطئ على وجه الأرض أبو ذر أصدق منه، لكن هذا غير مراد بلا شك إذ الأنبياء أصدق، الصديق أصدق، يعني أثبت النبي -عليه الصلاة والسلام- أثبت له الصديق، وسمي الصديق، واستحق هذا الوصف الذي هو وصف المبالغة لما اتصف به من هذا الوصف، لكن لعل الحديث جرى مجرى المبالغة في إثبات الصدق لأبي ذر، ولم تقصد حقيقة هذه المبالغة. بالنسبة لعناية الأمة بالصحيح الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله -سبحانه وتعالى-، فلم يحظى كتابٌ من كتب الحديث بعناية الأمة مثل ما حظي بذلك هذا الكتاب للإمام البخاري -رحمه الله-، فقد عني به علماء الأمة شرحاً له واستنباطاً وبياناً لمشكليه وإعرابه، وكلاماً على رجاله وتعاليقه، وقد تكاثرت شروحه حتى خال صاحب كشف الظنون إنها تنيف على ثمانين شرحاً، وذلك عدا ما ألف بعده، ودون ما لم يقف عليه من الشروح الكاملة والناقصة. من أهم شروح الجامع الصحيح شرح الخطابي المسمى (أعلام الحديث) وشرح ابن بطال، وشرح الكرماني (الكواكب الدراري) وشرح الحافظ ابن رجب اسمه (فتح الباري) و (فتح الباري) للحافظ ابن حجر، و (عمدة القاري) للعيني، و (إرشاد الساري) للقسطلاني، وكلها مطبوعة، وهناك الشروح الكثيرة المخطوطة، وهناك أيضاً شروح المعاصرين مثل: (فيض الباري) لمحمد أنور الكشميري، وهناك (لامع الدراري) وغيرها من الشروح التي تفوق الحصر. المقدم: القديمة مكتملة فضيلة الدكتور؟ هذه التي ذكرناها كلها مكتملة سوى شرح ابن رجب إلى الجنائز، وهو كتابٌ نفيس. المقدم: نفس المسمى؟ نفس المسمى، اسمه (فتح الباري) وكتاب ابن حجر اسمه (فتح الباري) وقد اطلع عليه ابن حجر، ونقل منه في موضعين في الفتح، ونص عليه، ونص على أنه قال ابن رجب في شرح البخاري. المقدم: والنفيس منهما تقول: فتح الباري لابن رجب؟ ابن رجب شرحٌ نفيس لو كان كاملاً لما عدل به غيره، لكن الكتاب ناقص والأمر يومئذٍ لله، وفتح الباري لابن حجر أيضاً كتابٌ لا يستغني عنه طالب علم، وإرشاد الساري للقسطلاني لا يستغني عنه من أراد ضبط ألفاظ الصحيح في متونه وأسانيده.

المقدم: ألحظ -عفواً فضيلة الدكتور- لعلكم دائماً تقولون: القسطلاّني ... هو اسمه هكذا؟ نعم، القسطلاني. المقدم: لأن بعض الناس يضبطونها القسطلَاني. لا، بتشديد اللام. أيضاً الكتاب كما شرح اختصر، اختصره جمعٌ من أهل العلم لتقريبه على الطالبين بحذف الأسانيد والمكررات، فمن هذه المختصرات: مختصر الشيخ الإمام جمال الدين أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي، المتوفى سنة (656هـ) مختصر صحيح البخاري، وله أيضاً مختصر صحيح مسلم وهذا مطبوع، ومشهور ومتداول، وشرحه بنفسه أبو العباس القرطبي، شيخ صاحب التفسير أبو عبد الله. من المختصرات: مختصر الشيخ أبي عبد الله محمد بن سعد بن أبي جمرة الأندلسي، المتوفى سنة (695هـ) وهو نحو ثلاثمائة حديث، قد شرحهم مختصره في كتابٍ سماه: (بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها) والشرح نفيس، يعتمد عليه كثيرٌ من الشراح كابن حجر وغيره؛ لكنه لا يسلم من ملحوظات ليس هذا محلُّ بسطها، لكن يستفاد منها على كل حال. من المختصرات: مختصر الشيخ بدر الدين حسن بن عمر بن حبيب الحلبي المتوفى سنة (779هـ) واسمه (إرشاد السامع والقاري المنتقى من صحيح البخاري)، ومن المختصرات: مختصر الزبيدي الذي نحن بصدد شرحه، وسيأتي الكلام عنه -إن شاء الله تعالى-. المقدم: هناك موضوع يتساءل عنه الكثير فضيلة الدكتور، هذا يتبين حقيقة في تراجم الإمام البخاري، طريقة الإمام البخاري في التراجم أثبتت أن عند البخاري فقهٌ عجيب كما نص على ذلك كثير من الشراح، فإذا جاء يترجم أو يتحدث عن ترجمة للإمام البخاري قال: وهذا من فقه الإمام البخاري، الحديث عن فقه البخاري.

الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كغيره من الأئمة المجتهدين ممن جمع بين الحديث والاستنباط، مثل مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم، ولا يختلف معهم في المصادر، بل الجميع عمدتهم في الاستنباط الكتاب والسنة والإجماع والقياس عند الحاجة إليه، إلا أنه يختلف عنهم من حيث طريقة تدوين الأحكام، فلم ينهج نهجهم في فرز الأحكام عن أصولها؛ ولكنه يترجم بها للحديث، ولذا قال جمعٌ من الحفاظ: "فقه البخاري في تراجمه" وسوف أولي هذا الجانب عناية تليق بمقام هذا الإمام أثناء شرح الكتاب، فأذكر تراجمه على حديث الواحد في المواضع المختلفة من صحيحه، وأربط بين الحديث وهذه التراجم، ليتضح للسامع مدى دقة هذا الإمام في الاستنباط، وأنه إمامٌ مجتهد إضافة إلى كونه شيخ الصناعة الحديثية وإمام المحدثين. ومما يجدر التنبيه عليه أن أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة تنازعوا في نسبة الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- إلى مذاهبهم، فترجم -رحمه الله- في طبقات الشافعية بدعوى أنه منهم، كما ترجم في طبقات الحنابلة، والمترجم يزعم أنه حنبلي، وزعم المالكية أنه مالكي، وادعى الحنفية أنه حنفي، وهذه الأقوال لا ثبات لها، يشير إلى ضعفها تعارضها، ولا شك أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- إمامٌ مجتهد، من سبر كتابه وطريقته في استنباط الأحكام من الأحاديث، وقارن أقواله بأقوال الأئمة المجتهدين وجد أنه يخالفهم، فتجده مرةً يوافق الإمام أبا حنيفة، ومرةً يوافق الإمام مالك، ومرةً يوافق الشافعي، ومرةً يوافق الإمام أحمد وإسحاق وهكذا، المقصود أنه مجتهد مطلق، وليس له مذهب يتبعه -رحمه الله تعالى-.

والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عنده دقة متناهية في الاستنباط، وهذا هو الذي حير كثيراً من الشراح، وجعل بعضهم يحكم عليه بأنه لم يحرر كتابه، ولم يبيض كتابه، بل جعله مسودات تحتاج إلى تبييض، هذا الكلام ليس بصحيح، منشأه عدم فهم مراد البخاري، فله ملاحظ دقيقة جداً خفيت على كثيرٍ من الشراح، فجعل بعضهم أحياناً يقول: ليس بين الحديث وبين الترجمة رابط، وبعضهم يقول: هذا الحديث يتبع الترجمة السابقة، وبعضهم يقول ... إلى غير ذلك من الأقوال، حتى جرؤ بعضهم أن قال: أن إيراد هذا الحديث تحت هذه الترجمة مجرد تعجرف، ونحن نولي -بإذن الله تعالى- هذه التراجم خلال شرح الكتاب فيما سيأتي -إن شاء الله تعالى- عناية تليق بمقام الكتاب -إن شاء الله تعالى-. سبب اختيار الكتاب أنه مختصر، من أصح الكتب، وأولى منه الأصل (صحيح الإمام البخاري) لكن باعتبار أن من السامعين جمعٌ كبير ممن لا يحتمل سماع كثرة الأسانيد حدثنا فلان قال: حدثنا فلان من عامة الناس ممن يريدون النتيجة والفائدة بسرعة، آثرنا اختيار هذا المختصر، وإلا فالأصل أن الحديث يكون عن الكتاب الأصلي الذي هو البخاري. هذا المختصر اسمه: (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح) اختصره الزبيدي من صحيح الإمام البخاري بأقل من ربع حجمه، حذف الأحاديث المكررة والأسانيد فقال في مقدمته: "اعلم أن كتاب الجامع الصحيح للإمام الكبير أبي عبد الله البخاري من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد، إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، فإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهدٍ وطول فتش، ومقصود البخاري -رحمه الله تعالى- بذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصودنا هنا: أخذ أصل الحديث لكونه قد علم أن جميع ما فيه صحيح". يقول النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم: "وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة، وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به، فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث".

قال: "وقد رأيت جماعةً من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا، فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم". الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أحياناً يغرب في الاستنباط ويبعد، وإذا أراد الباحث قبل وجود هذه الفهارس وقبل وجود هذه الآلات التي يسرت على الناس أن يبحث عن حديثٍ ما فإنه يشق عليه أن يقف عليه؛ لأنه يقدر أنه في الباب الفلاني، والإمام البخاري لحظ في الحديث ملحظاً آخر فجعله في باب بعيد كل البعد عن هذا الباب أو عن جميع الكتاب، الكتاب الذي يدخل ضمن هذا الباب، فمثلاً حديث ضباعة بنت الزبير لما أرادت الحج وقالت: أريد الحج وأجدني شاكية، فقال لها النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((حجي واشترطي)) موضوع الحديث عند عموم الناس وعند عموم المتعلمين موضوع الاشتراط في الحج، فالباحث حينما يريد أن يقف على هذا الحديث في الصحيح لا يمكن أن يتعدى كتاب الحج، فإذا بحث في كتاب الحج من أوله إلى آخره لن يجد هذا الحديث، حتى قال جمعٌ من أهل العلم: أن البخاري لم يخرج هذا الحديث، لكن الإمام البخاري أبعد في الاستنباط فخرج الحديث في كتاب النكاح، ولحظ فيه أن ضباعة تحت المقداد، وكانت ضباعة تحت المقداد -طيب- إذا كانت تحت المقداد والمقداد مولى، وهي قرشية هاشمية ابنة عم الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فلحظ عدم الكفاءة، وعدم اشتراط الكفاءة في النسب، وترجم على الحديث بقوله -رحمه الله تعالى-: (باب الأكفاء في الدين). نعم، قد يقول قائل: الأولى أن يذكر البخاري الحديث في كتاب الحج ويكرره مرةً ثانية في كتاب النكاح؛ لأن أولى ما يوضع فيه مثل هذا الحديث كتاب الحج، فإذا بحثنا في كتاب الحج وفي الفوات والإحصار ما وجدنا شيء، لكن لدقة الإمام -رحمه الله تعالى- في الاستنباط جعله في كتاب النكاح الذي يخفى استنباط هذا الحكم من هذا الحديث على كثيرٍ من المتعلمين بالنسبة لكتاب النكاح، لكن كتاب الحج الحديث مشهور ومستفيض يعرفه الخاص والعام قد لا تكون الحاجة إليه ماسة لإيراده في كتاب الحج مثل إيراده في كتاب النكاح من وجهة نظر الإمام البخاري.

وإن كان قد ينازع في هذا -رحمه الله تعالى-، فالإمام البخاري كما عرفنا يكرر الأحاديث مرات، وأحياناً يكرر الحديث في عشرة مواضع في عشرين موضعاً، فلو أنه كرره هذا الحديث في الحج وفي النكاح لكان أولى. الإمام البخاري عرفنا أن من طريقته أنه يكرر الأحاديث، فأحياناً يقطع الحديث ويذكره في عشرين موضعاً، لكن لم يكن من عادته أن يكرر الحديث بلا فائدة، فلا يذكر الحديث بلفظه بسنده ومتنه من غير فرق إلا نادراً، لا بد إذا كرر الحديث أن يشتمل هذا التكرار على فائدة زائدة غير ما ذكر في الباب السابق، وغير ما ذكر فيما تقدم أو فيما سيأتي، كرر أحاديث يسيرة نحو العشرين في مواضع من كتابه دون تغييرٍ لألفاظها وأسانيدها، بل جاءت بلفظها في متونها وأسانيدها، وهذا قليلٌ جداً بالنسبة لحجم الكتاب. يقول المختصِر: "لما كان الأمر كذلك أحببت أن أجرد أحاديثه من غير تكرار، وجعلتها محذوفة الأسانيد ليقرب انتوال الحديث من غير تعب"، ثم ذكر المختصِر منهجه أنه إذا أتى الحديث المتكرر يقول: "أثبته في أول مرة" يثبت الحديث في أول موضع من مواضعه، البخاري قد يذكر الحديث في عشرين موضع يذكره المختصر في الموضع الأول، "وإن كان في الموضع الثاني زيادةٌ فيها فائدة ذكرتها وإلا فلا".

يقول: "وقد يأتي حديثٌ مختصر ويأتي بعد في رواية أخرى أبسط وفيه زيادة على الأول، فأكتب الثاني وأترك الأول لزيادة الفائدة، ولا أذكر من الأحاديث إلا ما كان مسنداً متصلاً، وأما ما كان مقطوعاً أو معلقاً فلا أتعرض له، وكذلك ما كان من أخبار الصحابة فمن بعدهم مما ليس له تعلق بالحديث، ولا فيه ذكرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا أذكره" يعني أن المختصر حذف الأسانيد وحذف المكررات وحذف المعلقات وحذف الموقوفات عن الصحابة والمقطوعات من أقوال من بعدهم، واقتصر على الأصول المرفوعة، ولا شك أن صنيعه هذا يقرب الكتاب على الطالبين لكنه يبقى أن الكتاب الأصل هو الأصل، وأن ما حذفه فيه فائدة كبيرة، وأن فقه الإمام البخاري أحياناً لا يتبين إلا بذكر ما يذكر -رحمه الله- بعد الترجمة من الأقوال الموقوفة من أقوال الصحابة والتابعين، فقد يرجح بها أحياناً، يأتي ترجمته على سبيل التردد فلا يعرف مذهبه، والعلماء ذكروا استقراءً أن طريقة الإمام البخاري ومنهجه أنه إذا أيد الترجمة التي لم يجزم فيها بقول صحابي أو تابعي فإن قوله يكون هو اختيار الإمام -رحمه الله تعالى-، وقد نص على ذلك الشراح ابن حجر وغيره. المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ كم عدد أحاديث التجريد الصحيح؟ أحاديث التجريد تبلغ (2195) حديث، أحاديث البخاري من غير تكرار تبلغ (2602) حديث، فرق نعم أكثر من أربعمائة حديث. المقدم: كيف حصل هذا؟ مع أنه مجرد إزالة المكرر، هل هذا يعني يحسب فيه الموقوفات والمعلقات وغيرها؟

لا لا، الكلام على المرفوع (2602) حديثاً هذه الأحاديث المرفوعة الأصول من غير تكرار، هذا الفرق، أولاً أن الشيخ المختصر فاته عدة أحاديث لم يتعرض لها تزيد على المائة، واعتنى بها وذكرها الشيخ المحدث عمر ضياء الدين الداغستاني في جزءٍ صغير طبع مستقلاً، (زوائد الزبيدي) يبقى أيضاً أكثر من ثلاثمائة حديث، سببها أن من عدَّ أحاديث البخاري من غير تكرار كالحافظ ابن حجر وبلغت عدتها عنده (2602) إنما يذكر التكرار عن الصحابي الواحد، لكن إذا كان الحديث ولو اتحد لفظه عن صحابيين فإنه حديثان، يعتبر حديثان، بينما المختصِر إذا تكرر ولو اختلف الصحابي حذفه، ولهذا قلَّ العدد بهذه النسبة، أظن أن هذا واضح، إذا اختلف الصحابي عده المحدثون حديثين، الحديث مختلف تماماً، المختصِر ينظر إلى المتن بغض النظر عن الرواة وعن الصحابة، ولذا قل العدد، فربَّ حديثٍ عده ابن حجر مرتين واللفظ واحد، لكنه روي عن ابن عمر وابن عباس فهما حديثان عنده، لكن عند المختصِر واحد؛ لأنه ينظر إلى المتن، ولهذا قلَّ العدد. المقدم: لكنه أحياناً قد يحذف أحاديث فضيلة الدكتور كما ذكرتم عن حذفه لبعض الأحاديث ربما يتعلق بها أحياناً ترجمة معينة، والحديث قد يذكر في موضع آخر؟ يحصل المختصِر لا يعتني بالتراجم، إنما يهمه متون الأحاديث المرفوعة، إن شاء الله في شرح كل حديث نذكر جميع التراجم التي ترجم بها البخاري على هذا الحديث لنقارن فقه الإمام بفقه غيره من الأئمة. مؤلف المختصر: حصل خطأٌ كبير في نسبة الكتاب إلى الحسين بن المبارك الزبيدي، فطبع الكتاب مراراً مفرداً ومشروحاً منسوباً إلى الحسين بن المبارك الزبيدي، وهذا جهلٌ ممن طبعه أول مرة، وقلده من جاء بعده، مع أن الشارح الشرقاوي وغيره قد نص بصريح العبارة في أول الشرح على أن مؤلف الأصل الحقيقي وذكره باسمه الصحيح، الشارح نص على المؤلف، ومع ذلك من طبع هذا الشرح أخطأ في اسم المؤلف، وقلده جميع من جاء بعده، الكتاب في الطبعات القديمة نسب إلى الحسين بن المبارك الزبيدي. المقدم: شرح الشرقاوي على هذا المختصر؟

على المختصر نعم، شرح الشرقاوي، وهناك شرح آخر لصديق حسن خان، منشأ الوهم وسببه، لماذا أخطأوا في نسبة الكتاب إلى غير مؤلفه؟ منشأ الوهم وسببه ورود اسم من نسب إليه الكتاب الحسين بن المبارك الزبيدي في سلسلة إسناد المؤلف، الكتاب معروف (مختصر الزبيدي) فجاء هذا الاسم الحسين بن المبارك الزبيدي في سلسلة إسناد مؤلف الكتاب الزبيدي إلى البخاري، فخلط وهذا زبيدي وهذا زبيدي مع أن المؤلف المختصر ما ذكر اسمه في أول الكتاب فنسبوه إليه، وإلا فبينهما مائتان واثنان وستون سنة، هذا توفي سنة (631هـ) الحسين بن المبارك، ومؤلف الكتاب الحقيقي أحمد بن محمد بن عبد اللطيف الشرجي الزبيدي، هذا توفي سنة (893هـ) وهو منسوبٌ إلى شرجة موضع بنواحي مكة، والزبيدي نسبة إلى زبيد إحدى بلاد اليمن؛ لأنه ولد بها واشتهر ومات بها، وهو مولود سنة (811هـ) وصحح السخاوي أنه ولد سنة اثني عشرة، وكان محدثاً فقهياً حنفياً أديباً شاعراً بارعاً، له أوصاف ذكرت في الضوء اللامع للسخاوي وغيره، ومات كما ذكرنا سنة (893هـ). والمختصر له شروح من أهمها شرح الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي المتوفى سنة (1227هـ) واسمه (فتح المبدي في شرح مختصر الزبيدي) ومن شروحه (عون الباري لحل أدلة البخاري) لأبي الطيب صديق حسن الكنوجي البخاري المتوفى سنة (1307هـ).

لعل من أجود طبعات الكتاب المطبوعة مع عون الباري، فإن تيسرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب الموجود على هامش نيل الأوطار المطبوعة في بولاق فبها ونعمت، وإلا فنشرت دار الرشيد بحلب سنة (1404هـ)، طبعة جيدة ونفيسة، والشرح يعين الطالب لعله يراجع قبل الاستماع، طبع مراراً مستقلاً قديماً وحديثاً، ومن آخر طبعاته طبعة للشيخ علي حسن عبد الحميد مرقمة ومفهرسة، وذكرت فيها الأطراف لكن مع الأسف الشديد أنه حذف مقدمة المؤلف، وهذا عيب لا شك أن هذا عيب في هذه الطبعة، فالتصرف في كتب أهل العلم أمرٌ لا يقبله أحد، فالأصل أن يبقي الكتاب على وضع مؤلفه، فيذكر مقدمته ولعله يستدرك ذلك في طبعات لاحقة، وطبعة علي حسن هذا صدرت عن دار ابن القيم ودار ابن عفان، لا شك أن الكتب ينبغي أن تبقى على وضعها، والتصرف فيها المؤلف نفسه أراد أن يكون كتابه هكذا، ونحن نتصرف فيه ونحذف منه ما لم يرده، فلعل الشيخ علي يعيد النظر في طبعة لاحقة، ويذكر هذه المقدمة، أما المقدمة فهي مشتملة على منهج المختصر، وسنده إلى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-. المقدم: نبدأ على بركة الله في قراءة خطبة الكتاب، والتي عنون لها المؤلف بقوله: خطبة الكتاب: قال -رحمه الله-: الحمد لله البارئ المصور الخلاق، الوهاب الفتاح الرزاق، المبتدئ بالنعم قبل الاستحقاق، وصلاته وسلامه على رسوله الذي بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، وفضله على كافة المخلوقين على الإطلاق حتى فاق جميع البرايا في الآفاق، وعلى آله الكرام الموصوفين بكثرة الإنفاق، وعلى أصحابه أهل الطاعة والوفاق، صلاة دائمة مستمرة بالعشي والإشراق.

عرفنا أن هذا الكتاب مختصر من صحيح البخاري، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لم يفتتح كتابه بخطبة تنبيء عن مقصوده مفتتحةً بالحمدِ والشهادة، واعتُذر له بأن الخطبة لا يتحتم فيها سياقٌ واحد يمتنع العدول عنه، بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود، وقد صدّر كتابه بترجمة بدء الوحي، وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائرٌ مع النية، وأما الحديث المشهور: ((كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع)) وحديث: ((كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء)) خرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة، فالحديثان ليسا على شرط الإمام البخاري، فلا يلزمه العمل بهما؛ لأنهما ليسا على شرطه، ولعل الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- حمد وتشهد نطقاً عند وضع الكتاب ولم يكتب ذلك اقتصاراً واقتصر على البسملة. ويؤيد ذلك وقوع كتب رسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك كتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلةٍ وغيرها، كما في حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وستأتي -إن شاء الله تعالى-، وهذا يشعر بأن الحمد والشهادة إنما يحتاج إليهما في الخطب دون الرسائل، فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم، والاقتصار على البسملة طريقة متبعة وجادة مسلوكة عند شيوخ الإمام البخاري وشيوخ شيوخه وأهل عصره، كمالك وعبد الرزاق وأحمد وأبي داود وغيرهم -رحمهم الله تعالى-، ويندر من وجد منهم في ذلك العصر ممن افتتح كتابه بخطبةٍ كمسلم -رحمه الله تعالى-. أما الجادة المسلوكة فهي عدم ذكر هذه الخطب التي يبين فيها المناهج، مناهج الكتب، هذه طريقة المتقدمين من أهل العلم طبقة البخاري وشيوخه وشيوخ شيوخه، وأما المختصِر فجرى على عادة أهل عصره، ومن تقدم من ذكر خطبةٍ يبين فيها السبب الباعث على التأليف، ومنهجه في الاختصار، وسنده إلى مؤلف الكتاب.

فقال -رحمه الله تعالى-: "الحمد لله البارئ المصور الخلاق" (الحمد) فيما حققه العلامة ابن القيم في الوابل الصيب هو: الإخبار عن الله بصفات كماله -سبحانه وتعالى- مع محبته والرضا به، وأما الثناء فهو تكرير المحامد شيئاً بعد شيء، وجمهور العلماء يفسرون الحمد بأنه الثناء على المحمود بصفاتِ جلاله ونعوت جماله الاختيارية، ولا شك أن الحمد غير الثناء، ففي الحديث الذي خرجه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال عن الله -سبحانه وتعالى-: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدين، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليَّ عبدي)) فجعل الحمد غير الثناء، ولذا المتجه في تعريف الثناء ما قاله العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- أنه هو الإخبار عن الله بصفات كماله -سبحانه وتعالى- مع محبته والرضا به، وأما الثناء فهو تكرير المحامد شيئاً بعد شيء يقال له: ثناء. "لله" الله علمٌ على ذات الرب -سبحانه وتعالى- المستحق لجميع المحامد الذي لا إله غيره ولا رب سواه. "البارئ" بالهمز من البرء، وهو التهيئة للخلق، وقيل: هو الذي يخلق الخلق بريئاً من التنافر، ولا شك أن نعمة الخلق من أعظم البواعث على الحمد؛ لكون ذلك أول نعمة أنعم الله بها على الحامد وعلى غيره، وقال الحليمي: "معناه الموجد لما كان في معلومه من أصنافِ الخلائق" البارئ هو الموجد لما كان في معلومه من أصناف الخلائق، وهو الذي يشير إليه قوله -عز وجل-: {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} [(22) سورة الحديد] يعني من قبل أن نوجدها، "المصور" المعطي كل مخلوقٍ صورته، وقال الخطابي: "المصور هو الذي أنشأ خلقه على صورٍ مختلفة ليتعارفوا بها، والتصوير التخطيط والتشكيل"، "الخلاق" الخلق إيجاد الممكن وإبرازه من العدم إلى الوجود، أي أن الله -سبحانه وتعالى- هو موجد الكائنات، الخلاق صيغة مبالغة من الخلاق، كلٌ من الخلاق والخالق من أسماء الله -سبحانه وتعالى-.

"الوهاب" المتفضل بالعطايا المنعم بها، لا عن استحقاقٍ عليه، "الفتاح" الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، ويفتح قلوبهم وعيون بصائرهم ليبصروا الحق، "الرزاق" المنعم على عباده بإيصال حاجتهم من الرزق، وقال الخطابي: "هو المتكفل بالرزق، القائم على كل نفسٍ بما يقيمها من قوتها" وكل ما وصل منه إليه من مباحٍ وغيره فهو رزق الله، وعلى هذا فالكسب المحرم رزق عند أهل السنة، وإن أخرجه المعتزلة من كونه من مسمى الرزق، على معنى أن الله قد جعله قوتاً ومعاشاً بغض النظر عن وسيلة إليه. "المبتدئ بالنعم قبل الاستحقاق" يقول الخطابي: "من كرم الله -سبحانه وتعالى- أنه يبتدئ بالنعمة من غير استحقاق لمن أسديت إليه" والمراد بالنعم ما يشمل النعم الدنيوية والأخروية. بعد أن أثنى على الله -سبحانه وتعالى- حمده بما يليق بجلاله وعظمته ثنى بالصلاة على نبيه -عليه الصلاة والسلام- فأردف الحمدلة بالصلاة على رسوله فقال: "وصلاته وسلامه على رسوله الذي بعثه ليتمم مكارم الأخلاق" فعل ذلك -رحمه الله- لكون الرسول -عليه الصلاة والسلام - الواسطة في وصول جميع الكمالات العلمية والعملية إلينا من الله -عز شأنه- الذي بعثه الله –سبحانه- ليتمم ما جاءت به الرسل قبله من مكارم الأخلاق والشيم، "وفضله على كافة المخلوقين على الإطلاق، حتى فاق جميع البرايا في الآفاق" والآفاق جمعُ أفق، وهو الناحية من الأرض والسماء، والأحاديث الواردة في فضله -عليه الصلاة والسلام- على جميع الخلق أكثر من أن تحصى، فهو سيد ولد آدم، وأول شافع مشفع، وخاتم الأنبياء وأكرم المرسلين، "وعلى آله" أهل بيته وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب أو أتباعه على دينه كما قاله جمعٌ من أهل العلم.

"الكرام الموصوفين بكثرة الإنفاق" أي إنفاق الخيرات المعنوية والحسية، وبذلها على أهل الآفاق، "وعلى أصحابه أهل الطاعة والوفاق" الشامل حيث أطاعوا الله وأطاعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأنفقوا في سبيل الله نفائس الأموال، بل أنفقوا وبذلوا المهج فضلاً عن ما يملك من الأموال، "صلاة دائمة مستمرة بالعشي والإشراق" أردف الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة على الآل والأصحاب؛ لكونهم الواسطة بيننا وبينه في نقل دينه، ولما لهم من مواقف جليلة في نصر دينه. والصلاة في الأصل الدعاء، وهي من الله الرحمة، وروى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه في باب قول الله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [(56) سورة الأحزاب] تعليقاً مجزوماً به عن أبي العالية قال: "صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء" وروى عن ابن عباس أنه قال: "يصلون يبركون" وفي جامع الترمذي باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- من أبواب الصلاة، روي عن سفيان الثوري وغير واحدٍ من أهل العلم قالوا: "صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار". ثم ذكر بعد ذلك المختصِر الصحيح الذي هو الأصل ومنزلته، والباعث على اختصاره، ومنهجه بالاختصار فقال: ... المقدم: عفواً فضيلة الدكتور، قبل ذلك إذا أذنتم: في قوله: "وعلى آله الكرام" هل الآل هم أهل البيت أم يختلفون عند أهل السنة؟ الآل في الأصل هم الأهل، ولذا يصغر الآل على أهيل، فالآل هم أهل البيت عند جمع من أهل العلم، ومن أهل العلم من يقول: إن آله -عليه الصلاة والسلام- من تبعه على دينه فهو من آله، كما يقال: آل إبراهيم آل فرعون آل كذا، كلهم أتباعه، ولا يخص أهل بيته. المقدم: قال -رحمه الله-:

أما بعد: فاعلم أن كتاب الجامع الصحيح للإمام الكبير الأوحد مقدم أصحاب الحديث أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري -رحمه الله- من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد، إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، وإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهل وطول فتشٍ، ومقصود البخاري -رحمه الله- بذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصودنا هنا أخذ أصل الحديث لكونه قد عُلم أن جميع ما فيه صحيح. قال الإمام النووي في مقدمة كتابه شرح مسلم: "وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبوابٍ متفرقة متباعدة، وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به، فيصعب على الطالب جمعُ طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث، قال: وقد رأيتُ جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا فنفوا رواية البخارية أحاديث هي موجودةٌ في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم، انتهى ما ذكره النووي -رحمه الله-، فلما كان كذلك أحببت أن أجرد أحاديثه من غير تكرار، وجعلتها محذوفة الأسانيد ليقرب انتوال الحديث من غير تعب، وإذا أتى الحديث المتكرر أثبته في أول مرة، وإن كان في الموضع الثاني زيادةٌ فيها فائدة ذكرتها وإلا فلا، وقد يأتي حديثٌ مختصرٌ ويأتي بعدُ في رواية أخرى أبسط وفيه زيادة على الأول فأكتب الثاني وأترك الأول لزيادة الفائدة، ولا أذكر من الأحاديث إلا ما كان مسنداً متصلاً، وأما ما كان مقطوعاً أو معلقاً فلا أتعرض له، وكذلك ما كان من أخبار الصحابة فمن بعدهم مما ليس له تعلقٌ بالحديث، ولا فيه ذكرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا أذكره كحكاية مشي أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- إلى سقيفة بني ساعدة، وما كان فيه من المقاولة بينهم، وكقصة مقتل عمر -رضي الله عنه-، ووصيته لولده في أن يستأذن لعائشة في أن يدفن مع صاحبيه، وكلامه في أمر الشورى، وبيعة عثمان -رضي الله عنه-، ووصية الزبير لولده في قضاء دينه، وما أشبه ذلك.

ثم إني أذكر اسم الصحابي الذي روى الحديث في كل حديثٍ ليعلم من رواه، وألتزم كثيراً ألفاظه في الغالب، مثل أن يقول: عن عائشة، وتارة يقول: عن ابن عباس، وحيناً يقول: عن عبد الله بن عباس، وكذلك ابن عمر، وحيناً يقول: عن أنس، وحيناً يقول: عن أنس بن مالك، فأتبعه في جميع ذلك، وتارةً يقول: عن فلان يعني الصحابي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتارةً يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحيناً يقول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال كذا وكذا، فأتبعه في جميع ذلك، فمن وجد في هذا الكتاب ما يخالف ألفاظه فلعله من اختلاف النسخ، ولي بحمد لله في الكتاب المذكور ... بعد أن ذكر ما ينبغي ذكره من الثناء على الله -سبحانه وتعالى- والصلاة والسلام على نبيه وعلى آله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، قال: "أما بعد" وأما حرف شرط وبعد قائم مقام الشرط مبني على الضم؛ لأن المضاف محذوف مع نيته، واختلف العلماء في أول من قال: أما بعد على أقوال ثمانية، يجمعها قول الشاعر: جرى الخلف أما بعد من كان بادئاً ... بها عُد أقوالٌ وداود أقربُ ويعقوب أيوب الصبور وآدمُ ... وقسٌ وسحبان وكعبٌ ويعربُ والاتفاق على أن الإتيان بها سنة، وهي ثابتةٌ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في خطبه وفي مكاتباته، ولا تتأدى السنة إلا بهذه الصيغة (أما بعد) وبعضهم يقتصر على الواو بدل من أما، سمع فيها عن كثير من المتأخرين، لكن السنة لا تتأدى إلا بأما.

ويؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، وليست بحاجة إلى ثم قبلها، بحيث يقال: ثم أما بعد، كما يجري على ألسنة كثيرٍ من المنتسبين إلى طلب العلم في العصور المتأخرة، الثابت عنه -عليه الصلاة والسلام- (أما بعد) نعم إن احتيج إليها بعد ذلك للانتقال من أسلوب ثاني إلى ثالث يعطف على الأولى فيقال: ثم أما بعد، أما في الموضع الأول فلا حاجة إلى العطف، النصوص كلها ليس فيها ثمَّ، نعم أشار محقق تفسير الطبري أن في بعض نسخ التفسير "ثم أما بعد" لكن المعروف من أسلوبه -عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام، ومن جاء بعدهم كلهم جروا على هذه الصيغة (أما بعد) وجوابها ما دخلت عليه، "فاعلم أن كتاب جامع الصحيح للإمام الكبير الأوحد مقدم أصحاب الحديث أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري" تقدمت ترجمته في حلقةٍ سابقة، "من أعظم الكتب المصنفة في الإسلام، وأكثرها فوائد" لا شك أن من أدام النظر في هذا الكتاب رأى العجب العجاب من الفوائد المتنية والإسنادية الحديثية والفقهية وغيرها من الفوائد، "إلا أن الأحاديث المتكررة" هذا يذكر المبرر للاختصار، المبرر لاختصاره الكتاب وجود التكرار، ووجود الأسانيد مع أن الكتاب صحيح، فيرى أن المتأخرين ليسوا بحاجة إلى تكرار، وليسوا بحاجة إلى سماع الأسانيد مع ثبوت المتون، نظراً لضعف الهمم، وكثرة من يمل من سماع الأسانيد، "إلا أن الأحاديث المتكررة فيه متفرقة في الأبواب، وإذا أراد الإنسان أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهدٍ وطول فتش، ومقصود البخاري -رحمه الله تعالى- في ذلك كثرة طرق الحديث وشهرته، ومقصوده هنا أخذ أصل الحديث لكونه قد علم أن جميع ما فيه صحيح"، يعني فلا داعي لذكر هذا التكرار الذي يستفاد منه تقوية الحديث بكثرة الطرق، وبلوغه إلى حد الشهرة وما أشبه ذلك، مع أنهم لا حاجة بهم إلى ذلك الإسناد ما دامت المتون ثابتة، لكن الكتاب الأصلي لا يستغني عنه طالب علم، وكون بعض المثقفين ممن لا علاقة له بالعلم الشرعي يحتاج إلى من يختصر له، ويقتصر على المتون دون الأسانيد هذه وجهة نظر صحيحة لا بأس بها، لكن المتخصص في العلوم الشرعية لا بد له من معرفة الأسانيد، ولا بد له من إدامة

النظر في هذه الأسانيد، وإن كانت صحيحة ثابتة، ورجالها كلهم ثقات. "قال الإمام النووي في مقدمة كتابه شرح مسلم: وأما البخاري فإنه يذكر الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة" نعم البخاري يقطع الحديث الواحد ويجعله في أماكن متعددة، ويكرر الحديث الواحد في مواضع، لكنه لا يكرر الحديث إلا لفائدة، ولا يمكن أن يكرر الحديث في موضعين بلفظه إسناداً ومتناً إلا فيما ندر، يعني نحو عشرين موضع فقط في الصحيح، وأما ما عدا ذلك فكل المكررات لا بد أن يوجد فيها الاختلاف سواءٌ كان في المتن أو في صيغ الأداء أو في الإسناد، "وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليه الفهم أنه أولى به"، سبق أن مثلنا بحديث ضباعة بنت الزبير في الاشتراط في الحج، الباب الذي يسبق الفهم إليه باب الفوات والإحصار في الحج، لكنه -رحمه الله- جعله في كتاب النكاح، (باب الأكفاء في النكاح) ومغزاه بعيدٌ جداً لا ينتبه إليه كثيرٌ من المتعلمين؛ لأن الحديث اشتمل على قول الراوي، وكانت تحت المقداد، وهي قرشية هاشمية ابنة عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك هي تحت المقداد وهو مولى، "فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره من طرق الحديث"، قال -يعني النووي-: "وقد رأيت جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا، فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم، انتهى ما ذكره النووي -رحمه الله-". كلامه صحيح، وجد من بعض العلماء من نفى رواية البخاري لأحاديث هي موجودة فيه؛ لأن البخاري -رحمه الله- أغرب جداً وأبعد في الاستنباط من الحديث، وجعله في غير مظنته -رحمه الله تعالى-.

يقول بعد ذلك المختصِر: "فلما كان كذلك أحببت أن أجرد أحاديثه من غير تكرار، وجعلتها محذوفة الأسانيد ليقرب انتوال الحديث من غير تعب"، ليقرب حصول الحديث والوصول إليه من غير تعب من قبل الطالب "وإذا أتى الحديث المتكرر أثبته في أول مرة، وإن كان في الموضع الثاني زيادة فيها فائدة ذكرتها"، يعني يقتصر على هذه الزيادة التي فيها فائدة، "وإلا فلا، وقد يأتي حديثٌ مختصر، ويأتي بعد في رواية أخرى أبسط وفيه زيادة على الأول فأكتب الثاني وأترك الأول لزيادة الفائدة"، لكن يأتينا أنه في حديث (الأعمال بالنيات) ذكره في الموضع الأول مع أنه مختصر، وفي المواضع الأخرى فيه زيادة ولم يذكرها. يقول: "ولا أذكر من الأحاديث إلا ما كان مسنداً متصلاً"، مسنداً يعني مرفوعاً إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، متصلاً يعني متصل الإسناد خالٍ عن الانقطاع، "وأما ما كان مقطوعاً -ومراده بذلك المنقطع وليس مراده المقطوع المصطلح عليه مما هو منسوب إلى من دون الصحابة من التابعين فمن دونهم- أو معلقاً فلا أتعرض له -فحذف المعلقات والمعلقات في صحيح البخاري تزيد على (1340) حديث معلق، حذفها كلها- واقتصر على الأحاديث المسندة المتصلة التي هي المقصود من الصحيح، وكذلك ما كان من أخبار الصحابة -يعني الموقوفات حذفها أيضاً- فمن بعدهم -يعني مما أضيف إلى التابعين فمن دونهم- مما ليس له تعلق بالحديث -يعني ما كان له تعلق بالحديث مما يفسر معنىً غامض فإنه قد يذكره، هذا مفهوم- كلامه. "ولا فيه ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا أذكره، كحكاية مشي أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما - أمثلة لما ذكره- إلى سقيفة بني سعد، وما كان فيه من المقاولة بينهم"، والمقاولة مفاعلة، من قال، يعني قال بعضهم ورد عليه آخر بقول وما أشبه ذلك، "وكقصة مقتل عمر -رضي الله عنه- ووصيته لولده"، هذه كلها من الموقوفات؛ لأنها حصلت بعد عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، "في أن يستأذن عائشة ليدفن مع صاحبيه، وكلامه في أمر الشورى، وبيعة عثمان -رضي الله عنه-، ووصية الزبير لولده في قضاء دينه، وما أشبه ذلك"، كل ذلك لأنها من الأخبار الموقوفة، ولا ذكر للنبي -عليه الصلاة والسلام- فيها.

بعد ذلك يقول: "ثم إني أذكر اسم الصحابي"، يعني يحذف جميع الإسناد، ويقتصر على اسم الصحابي "الذي روى الحديث في كل حديثٍ ليعلم من رواه"، يعني من الصحابة، يعني يذكر الراوي الأعلى في الإسناد وهو الصحابي، "وألتزم كثيراً ألفاظه في الغالب -ألفاظ الإمام البخاري- مثل أن يقول: عن عائشة وتارةً يقول: عن ابن عباس -فيقتصر المختصِر على قوله: عن عائشة وعن ابن عباس- وحيناً يقول: عن عبد الله بن عباس -فيقول المختصر: وعن عبد الله بن عباس- وكذلك ابن عمر، وحيناً يقول عن أنس -فيقتصر على قوله: وعن أنس- وحيناً يقول: عن أنس بن مالك فأتبعه في جميع ذلك"؛ تقليداً للإمام -رحمه الله تعالى-. "وتارة يقول: عن فلان يعني الصحابي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتارة يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحيناً يقول: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: كذا وكذا، فأتبعه في الجميع"، فيفرق في الأسانيد بين المعنعن والمؤنن؛ لأن لكل منهما حكمه عند بعض أهل العلم، وإن كان حكم المؤنن عند جمهور العلماء والمعنعن سواء، فالمؤنن حكمه حكم السند المعنعن عند جماهير العلماء، وإن خالف في ذلك من خالف فيما نسبه ابن الصلاح للإمام أحمد ويعقوب بن شيبة، ولم يصوب صوابه، كما قال الحافظ العراقي، ولذا يقول -رحمه الله-: . . . . . . . . . ... وحكم أن حكم عن فالجلُّ سووا وللقطع نحا البرديجي ... حتى يبين الفصل في التخريجي إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-. يقول: "فأتبعه في جميع ذلك، فمن وجد في هذا الكتاب ما يخالف ألفاظه فلعله من اختلاف النسخ"، ولا شك أن نسخ البخاري مختلفة، ورواية الصحيح أيضاً كثيرة، والله المستعان. المقدم: أحسن الله إليكم، ما الذي جعلكم تقولون في قوله: "وأما ما كان مقطوعاً" بأنه لا يريد المنقطع، لا يريد الحديث الموقوف على التابعي، وإنما يريد المنقطع؟

لأنه أشار إلى ذلك صراحةً، عطف عليه قوله: "وكذلك ما كان من أخبار الصحابة فمن بعدهم"، هذا هو المقطوع، فمن بعدهم هو المقطوع، فلا يريد بقوله: "مقطوعاً" المقطوع الذي هو مضاف للتابعي فمن دونه، لكن هو يريد المنقطع، وأطلق بعضهم كالشافعي وغيره على المنقطع المقطوع والعكس، وجد هذا في تعبيرهم. المقدم: فضيلة الشيخ ذكرتم من كلام العلماء في اعتذارهم للإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في عدم. . . . . . . . . في. . . . . . . . . كتابه الصحيح ما ذكرتم من أن حديثي الباب ليس على شرط الإمام البخاري -رحمه الله-، فهل يعني هذا عدم ثبوت هذين الحديثين عنده أم يعني غير ذلك؟ الاعتذار عند الإمام البخاري في عدم إيراده الخطبة للكتاب، وعدم احتجاجه بحديث: ((كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد لله فهو أقطع)) وحديث: ((كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء)) نعم، الحديثان ليسا على شرطه، وشرطه هنا أوسع من أن يكون شرطاً للتخريج في كتابه، وبين أن يكون شرطاً للعمل بالحديث وقبوله، فالحديثان ليسا على شرطه لا من حيث الاحتجاج ولا من حيث القبول، ولا من حيث الإيراد في الكتاب، فالحديثان، حديث ((كل أمرٍ ذي بال)) محكوم عليه بجميع طرقه وألفاظه بالضعف عند جمعٍ من أهل العلم ممن هم أشد تساهلاً من الإمام البخاري فضلاً عنه، وإن حسن النووي وبعض أهل العلم لفظ (الحمد) فقط: ((كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد لله فهو أقطع)) حسنه النووي وبعض العلماء، لكن الأكثر على عدم ثبوت هذا الحديث بجميع طرقه وألفاظه، وممن ضعفه جملةً وتفصيلاً الألباني وغيره، وإن خرجه ابن حبان في صحيحه؛ لأنه معروف بالتساهل. المقدم: أحسن الله إليكم، قال الإمام زين الدين أحمد بن عبد اللطيف الزبيدي في مقدمته فيما قرأناه فيما مضى نستكمل فيقول: ولي بحمد لله في الكتاب المذكور أسانيد كثيرة متصلة بالمصنف عن مشايخ عدة، فمن ذلك روايتي له عن شيخي العلامة نفيس الدين أبي الربيع سليمان بن إبراهيم العلوي -رحمه الله تعالى-، قراءةً مني عليه لبعضه، وسماعاً لأكثره، وإجازة في الباقي بمدينة تعز سنة (823هـ).

اجتمع في هذه الرواية عن هذا الشيخ القراءة على الشيخ التي يسميها أهل العلم العرض، والرواية بها جائزة اتفاقاً، وسماعاً لأكثره إن كان من الشيخ فهو أعلى درجات وطرق التحمل الذي هو السماع من لفظ الشيخ، وإن كان سماعاً لأكثره بقراءة غيره على الشيخ فهو عرضٌ أيضاً، وإجازة في الباقي، فاجتمع في هذه الرواية ثلاثة من أنواع طرق التحمل، السماع والقراءة التي هي العرض والإجازة. المقدم: قال: أخبرنا به والدي وشيخنا الإمام الكبير شرف المحدثين موسى بن موسى بن عليٍ الدمشقي المشهور بالغزولي، قراءةً مني عليه لجميعه، قال: أخبرنا به الشيخ المسنِد المعمر أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار، إجازة للأول وسماعاً للثاني، ومنها روايتي له عن الشيخ الصالح الإمام ولي الله تعالى أبي الفتح. هذه طريق أخرى يروي بها صحيح الإمام البخاري بعد أن ذكر الطريق الأول ذكر الطريق الثاني، ثم قال: "ومنها روايتي له عن الشيخ الصالح ... " إلى آخره. المقدم: قال: ومنها رواتي له عن الشيخ الصالح الإمام ولي الله تعالى أبي الفتح محمد بن الإمام زين الدين أبي بكر بن الحسين المدني العثماني سماعاً عليه لأكثره، وإجازة لجميعه، والشيخ الإمام خاتمة الحفاظ شمس الدين أبي الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري الدمشقي، والقاضي العلامة الحافظ تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي الشريف الحسني المكي قاضي المالكية بمكة المشرفة إجازة معينة منهم لجميعه -رحمهم الله تعالى-.

الإجازة المقصود بها الإذن بالرواية، والإجازة المعينة هي المراد بها تعيين الكتاب المجاز، وتعيين أيضاً الطالب المجاز، تعيين الطالب وتعيين الكتاب المجاز به، فيقول المجيز: أجزت أو أذنت لفلان بن فلان أن يروي عني كتاب كذا صحيح البخاري مثلاً، بخلاف الإجازة العامة التي ليس فيها تعيين لا للطالب ولا للكتاب، والإجازة الرواية بها سائغة وجائزة عند أهل العلم، لا سيما عند تعذر قراءة الكتب على الشيوخ لضيق أوقاتهم وكثرة الطالبين، توسعوا في قبول الرواية بالإجازة، لكن التوسع الذي هو في الحقيقة غير مرضي في الإجازة العامة، أن يجيز أهل بلده مثلاً، أو يجيز من قال: لا إله إلا الله، أو أجزت أهل الإقليم الفلاني، كل هذا توسع غير مرضي، لكن إذا أجاز شخصاً معيناً بكتاب معين والمجاز من أهل الرواية اشترط ابن عبد البر أن يكون ماهراً بالصناعة، أقل الأحوال أن يكون له اهتمام وعناية بالعلم الشرعي، حينئذٍ تصح الإجازة وإلا فلا. المقدم: قال: وثلاثتهم أنبأنا به الشيخ الإمام الحافظ شيخ المحدثين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن صديق الدمشقي المعروف بابن الرسام، قال: أنبأنا به أبو العباس الحجار وأخبرني به عالياً ... التقى مع السند الأول. المقدم: قال: وأخبرني به عالياً الشيخ الإمام زين الدين أبو بكر بن الحسين المدني المراغي، والد شيخنا أبي الفتح، وقاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي إجازة عامة، قال: أخبرنا به أبو العباس الحجار قال: ...

التقى مع السندين السابقين، وأخبرني به عالياً يعني بإسنادٍ عالي، والإسناد العالي عند أهل العلم ما قلت فيه الوسائط بين الراوي وبين النبي -عليه الصلاة والسلام-، يعني ما قل عدد رجاله فهو الإسناد العالي، وما كثر عدد رجاله فهو الإسناد النازل، وأعلى ما في الكتب الستة الثلاثيات، وفي البخاري منها (22) حديثاً ثلاثياً، وأنزل ما في البخاري حديثٌ واحد تساعي وفيه ثماني أيضاً، وأنزل ما في الكتب الستة حديثٌ عند النسائي فيه أحد عشر راوياً، هذا حديثٌ نازل جداً يتعلق بسورة الإخلاص وفضلها، وعلى كل حال الثلاثيات في الصحيح، وهو الذي يهمنا (22) حديثاً جلها عن المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع، وهذا أعلى ما في الكتب الستة. المقدم: من البخاري إلى النبي ثلاثة؟ من البخاري إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ثلاثة رواة، لكن لو صاروا أربعة صار أنزل خمسة أنزل إلى التساعي الذي هو أنزل ما في الصحيح. المقدم: قال: أنبأنا به الشيخ الصالح أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب الهروي الصوفي، قال: أنبأنا الشيخ الفقيه عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداويدي، قال: أنبأنا به الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي. مثل هذا الاسم حمويه وسيبويه ونفطويه المختار عند أهل اللغة أنه على هذه الصيغة مختوم بويه، وأهل الحديث يقول: حمويتا سيبويتا راهويتا، وأما أهل اللغة فيقولون: راهويه سيبويه نفطويه حمويه، وأهل اللغة هم المرجع إليهم في هذا الباب كما هو معروف، والذي يجعل أهل الحديث لا يلفظون بويه يروون في الباب حديث أن ويه اسم من أسماء الشيطان فلا يريدون أن ينطقون به، والحديث ضعيفٌ جداً لا يثبت. المقدم: قال: أنبأنا به الشيخ الصالح محمد بن يوسف الفربري، قال: أنبأنا به الإمام الكبير أبو عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري -رحمه الله تعالى-، ولكل واحدٍ من هؤلاء المذكورين إلى البخاري أسانيد كثيرة بطرق متنوعة، ولي -بحمد الله- أسانيد غير هذه عن مشايخ كثيرين يطول تعدادهم، اقتصرت منها على هذه الطرق لشهرتها وعلوها.

صحيح البخاري رواه عن مؤلفه أكثر من تسعين ألفاً، اشتهر وانتشر في الآفاق، شهرته طبقت الآفاق، وتلقاه الناس بالقبول، وكثرة الأسانيد إلى مؤلفه، فما من عالمٍ يهتم بالسنة إلا وله سند متصل بصحيح البخاري وغيره من كتب السنة مما يطول ذكره، وإن كانت المحافظة على الأسانيد في العصور المتأخرة بعد تدوين السنة واستقرارها في الكتب الفائدة منها العملية القليلة؛ لأنه لا يترتب عليها تصحيح ولا تضعيف، لا يترتب عليها قبول ولا رد، وإنما المحافظة عليها من قبيل المحافظة على خصيصة هذه الأمة، الأمة اختصت بالأسانيد شرفاً لها، ولا يوجد إسناد متصل في أي أمة من الأمم إلى نبيها غير هذه الأمة زادها الله شرفاً وعلواً ورفعة. على كل حال أهل العلم يهتمون بالأسانيد ويرحلون إلى الأقطار من أجلها، وإن كانت فائدتها ما ذكرتم، وبالنسبة لي أنا على وجه الخصوص فأنا أروي صحيح البخاري -رحمه الله تعالى- وغيره من كتب السنة إجازة عن شيخنا العلامة المحقق حمود بن عبد الله بن حمود التويجري -رحمه الله تعالى-، رواية أو إجازة عن شيخيه الفاضلين الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري والشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان تغمدهما الله برحمته وأسكنهما فسيح جنته، وحقيقةً ليس لي من إجازة ولا رواية إلا من طريق الشيخ -رحمه الله تعالى-، ويكفيني في ذلك أن يكون واسطتي أو الواسطة بيني وبين الرسول -عليه الصلاة والسلام- مثل هذا الحبر العالم الزاهد الورع، والله المستعان. وثبت الشيخ متداول بين الإخوان وبين طلبة العلم باسم (إتحاف النبلاء للرواية عن الأعلام الفضلاء) من أراد أن ينظر أسانيده بالتفصيل فليرجع إلى الثبت المذكور، ويقع في أكثر من خمسين صفحة، ويوجد عند كل من أجازه الشيخ -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-. المقدم: كيفية طريقة إجازة الشيخ لكم يا شيخ كيف كانت؟

الشيخ -رحمه الله- نما إلى علمه -رحمه الله تعالى- أني أرغب في الإجازة منه وإن لم أطلب منه مباشرة، فبادرني -رحمة الله عليه-، فأعطاني الثبت وقال: تأمله وتصحفه واقرأه ثم تأتي إلي بعد أسبوع كي أجيزك به، فلما رجعت إليه حدثني مشافهة بالحديث المسلسل بالأولية: ((الراحمون يرحمهم الرحمن)) وجرت عادة أهل العلم أنهم يبدؤون بهذا الحديث؛ لأنه مسلسل بالأولية، لكل راوي من رواته إلى الشيخ حمود بالنسبة لي، يقول: وهو أول حديث سمعته من شيخي فلان، وأنا أقول: وهو أول حديث سمعته من شيخي فلان، وهكذا إلى سفيان بن عيينة -رحمه الله- تابع التسلسل فيه إلى سفيان بن عيينة، وما فوقه تسلسل فيه نظر، وعلى كل حال بعد ذلكم أجازني وأذن لي بالرواية لجميع الكتب المدونة في الثبت الصحيحين والسنن والمسانيد وبعض الجوامع، ومصنفات وكتب شيخ الإسلام بن تيمية، وابن القيم، وكتب المذهب الحنبلي وغيرها من الكتب المزبورة في هذا الثبت المشار إليه (إتحاف النبلاء بالرواية عن الأعلام الفضلاء). المقدم: في أكثر من إسناد يا شيخ؟ في بالنسبة للشيخ يروي من طريقين، من طريق الشيخ عبد الله العنجري، ومن طريق الشيخ سليمان بن حمدان، وكلٌ منهما يروي من طرق، كل من الشيخين يروي من طرق وهي مدونة. المقدم: تصل إلى كم تقريباً العدد؟ ما حصرتها بالضبط لكن لكل واحدٍ منهما طرق متعددة. المقدم: قال -رحمه الله-: وسميت هذا الكتاب المبارك بـ (التجريد الصريح في أحاديث الجامع الصحيح) والمسؤول من الله تعالى أن ينفع بذلك، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يصلح المقاصد والأعمال بجاه سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وهذا حين الشروع -إن شاء الله-.

يقول المؤلف: "وسميت هذا الكتاب بالتجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح" المقصود بالتجريد التخليص من الزوائد، الصريح الذي لا خفاء فيه ولا غموض، "لأحاديث الجامع الصحيح" يعني للإمام البخاري، "والمسؤول من الله تعالى أن ينفع بذلك، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يصلح المقاصد والأعمال" نعم لأن العبرة بالمقاصد، وليست بالعبرة بالمظاهر، ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) وأول حديث في الصحيح حديث الأعمال بالنيات، فعلى الإنسان لا سيما طالب العلم أن يتفقد نيته، وأن يكون ديدنه اللهج بسؤال الله -سبحانه وتعالى- أن يصلح مقصده؛ لأن العلم الشرعي من علوم الآخرة المحضة التي لا يجوز التشريك فيها بغير الله -سبحانه وتعالى-، بل على طالب العلم أن يحسن نيته التي لا يجوز للمسلم أو لطالب العلم أن يشرك بها فيها مع الله -سبحانه وتعالى- غيره. يقول المختصر: "بجاه سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين" السؤال بجاه النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يخلو من أحد أمرين: أما أن يكون قسم بجاه النبي -عليه الصلاة والسلام-، والإقسام على الله -سبحانه وتعالى- بمثل هذا لا يجوز، بل منهيٌ عنه عند جماهير العلماء، إذ لا يجوز الإقسام بغير الله -سبحانه وتعالى-، ويحتمل أيضاً أن يكون يسألُ الله -سبحانه وتعالى- به، وهذا وإن جوزه طائفة من الناس، ووجد في دعاء كثيرٍ منهم، لكن ما روي عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك كله ضعيف بل موضوع، وأشار إلى ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في كتابه: الموسوم بـ (قاعدة جليلة في التوسل بالوسيلة) فعلى الإنسان أن يجتنب مثل هذه الأساليب التي فيها شيءٌ من المخالفة، وفيها شيءٌ من الخروج من السنة وغيرها. يقول: "وهذا حين الشروع -إن شاء الله تعالى-"، يعني في الاختصار، بدأً في الباب الأول، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

حديث: (إنما الأعمال بالنيات)

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات) الشيخ/ عبد الكريم الخضير يقول: "وهذا حين الشروع -إن شاء الله تعالى-"، يعني في الاختصار بدأً بالباب الأول كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. طالب: أسأل فضيلة الشيخ: ذكر المؤلف بجاه سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأشرتم إلى قضية الجاه، لكن نسمع بكلام بعض المتأخرين ممن ينتسبون إلى العلم التسويد، يقول: سيدنا محمد أو سيدنا أبو بكر، أو سيدنا عمر، وبعض الإخوان ينكر عليهم وبعضهم يجوز مثل هذا، ما رأيكم -أحسن الله إليكم- بالتسويد سواءٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو للصحابة أو من بعدهم؟ ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) وثبت عنه أنه قال: ((السيد الله)) فإذا لُمسَ من الأسلوب والتعبير الغلو والمبالغة فينبغي أن يقال: ((السيد الله))، وإذا أنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- في منزلته اللائقة به، وقيل: هو سيد الخلق، لا شك أنه سيد الخلق، وهو الذي يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) لكن هذا فيما للإنسان فيه سعة، أما الأمور المتعبد بها لا يجوز أن يضاف عليها أي كلمة، فلا يقال في التشهد مثلاً: وأشهد أن سيدنا محمد؛ لأن هذا متعبد بلفظه، هذا ذكر متعبد بلفظه، لكن إذا قلت: سيدنا رسول الله، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد، لا إشكال في ذلك؛ لأنه سيد ولد آدم، وكذلك الصحابة لا شك أنهم سادة لما اشتملوا عليه، ولما اتصفوا به من السيادة في الدين والإمامة فيه، ينبغي أن ينزه هذا اللفظ الذي فيه شيء من التعظيم والتبجيل، فلا يطلق على منافق ولا على فاسق، وما أشبه ذلك، أما لا شك أن المسلم التقي الورع والعالم لا شك أنهم سادة، وأما الجهال فليسوا بسادة. طالب: ما ينكر -يا شيخ- على من قال: سيدنا عمر؟ ما فيه إشكال في التعبير العادي، لا إشكال فيه، لكن ما تعبد بلفظه لا، ينبغي أنه إذا اشتف أو لُمسَ من تعبير الشخص أنه ينزل هذا الشخص فوق منزلته ينبغي أن يقال: ((السيد الله)) حسماً للمادة؛ لأن الغلو يوصل إلى ما لا تحمد عقباه.

المقدم: أحسن الله إليكم، ذكر المؤلف في خطبته أيضاً التزامه بالنقل عن الإمام البخاري كما قال فإن قال: عن أنس قال هو: عن أنس، إن قال: عن أنس بن مالك قال هو: عن أنس بن مالك، هل يعني هذا أن الكتب ومن نقل عن أهل السنة في هذا أنه ينقل بنفس اللفظ، فمثلاً: عن ابن عمر يقول عن ابن عمر ولا يحق له أن ينقل فيقول: عن عبد الله بن عمر، وإذا كان الصحابي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال، هل ألتزم بهذا النقل كما هو أم يحق لي التغيير؟ أقول: مثل هذا الالتزام قدرٌ زائد على المطلوب، وهو زيادة في التحري والتثبت والدقة والأمانة في النقل، لكن لو غير فقال: عن أنس أو عن أنس بن مالك لا فرق؛ لأن الذات واحدة المقصود، وبحث أهل العلم إبدال الرسول بالنبي والعكس، لا شك أنه إذا تعبد باللفظ لا يجوز التغيير، ولذا رد النبي -عليه الصلاة والسلام- على البراء في حديث ذكر النوم: "ورسولك الذي أرسلت" قال: ((ونبيك الذي أرسلت)) لكن لو قال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو قال عن نبي الله -عليه الصلاة والسلام- لا فرق؛ لأن الذات التي نسب إليها الكلام واحد، الذات واحدة، فلا فرق بين رسول الله -عليه الصلاة والسلام- باعتبار ذاته التي قالت هذا الكلام، ولا نبي الله -عليه الصلاة والسلام -، لكن من حافظ على الألفاظ التي اعتمدها في الأصل لا شك أنه زيادة في التثبت والتحري. يبحث أهل العلم أيضاً الزيادة في نسب الشيخ، إذا قال: حدثنا محمد فهل للإنسان أن يقول: قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، وهو قال: حدثني محمد فقط، وهو يجزم أنه محمد بن بشار، أهل العلم يقولون: الورع ألا يفعل ذلك، بل يقتصر على ما قاله الإمام، وإذا أراد أن يزيد فليسلك الجادة المتبعة عند أهل العلم، فليقل: قال الإمام البخاري حدثنا محمدٌ يعني ابن بشار أو هو ابن بشار؛ ليدل على أنه هو الذي أضاف هذه الكلمة، وليست من قول شيخه الذي روى هذا الخبر وهكذا.

لا شك أن هذا من زيادة تحريهم وتثبتهم، وإلا فالذات ما تتغير سواءٌ نسبت أو لم تنسب، لكن لا شك أنه زيادة على القدر الذي رواه شيخه، الشيخ قال: حدثني محمد، أنت تعرف أن محمد تجزم مائة بالمائة أن محمد هو المقصود به ابن بشار، نعم لك أن تزيد في نسبه لكن لا تضيفه إلى من حدثك، فتفصل بين كلامه بكلامٍ يعرف أنه من زيادتك، فتقول: يعني ابن بشار، أو هو بن بشار وهكذا. المقدم: ولذلك أهل العلم يسمون حديث ابن مسعود: حديث الصادق المصدوق، هل قوله: وهو الصادق المصدوق هذا اللفظة عن ابن مسعود -رضي الله عنه-؟ بلا شك، حدثني الصادق المصدوق يقصد به الرسول -عليه الصلاة والسلام- هي من لفظ ابن مسعود. المقدم: ومن نقل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدون قول ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق؟ هذا الكلام لا يتغير، والصادق المصدوق هو الرسول -عليه الصلاة والسلام-، مثل لو قال: رسول الله أو نبي الله، لكن المحافظة على اللفظ الوارد في الأصل أمرٌ عند أهل العلم معتبر، ويعتنون به كثيراً؛ للدقة وزيادة التثبت والأمانة في النقل؛ لئلا يجرؤ أحد لو فتح مثل هذا الباب أن يغير ما يترتب على تغييره تغيرٌ في المعنى، لو فتح الباب للناس كلهم أن يتصرفوا لا سيما في الكتب المدونة المكتوبة، يعني لو فتح المجال لتعرضت هذه الكتب إلى التغيير والتبديل؛ لأنه ليس الناس كلهم على مستوىً واحد من الفهم والإدراك، ولذا جمهور العلماء يجيزون الرواية بالمعنى، ومع ذلك لا يجيزون فيها الكتب في المصنفات، تنقل من صحيح البخاري بالمعنى لا يجوز لك أن تنقل بالمعنى، لكن فيما رويته بالمشافهة عن أحد يجوز أن ترويه بالمعنى؛ لأنه لو تطرقت الرواية بالمعنى إلى الكتب والمدونات لمسخت هذه الكتب وهذه المدونات، كل واحد يزيد بالمعنى، واحد ينقص بالمعنى، واحد يفهم غير فهم الآخر، ثم بعد ذلك تضيع هذه الكتب، بل لا بد إذا نقل من هذه الكتب من مصنف إلى مصنف لا بد أن ينقل بأصله؛ لأن الرواية بالمعنى إنما أجيزت للحاجة، وما دام اللفظ عندنا بالحرف لا حاجة إلى الرواية بالمعنى، فانتفت الحاجة فانتفى الحكم.

المقدم: ثم قال بعد ذلك: كتاب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ثم ساق الحديث. هذا العنوان (كتاب بدء الوحي) ليس من وضع الإمام -رحمه الله-، ولذا قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "لم يستفتح المصنف بدء الوحي بكتاب؛ لأن المقدمة لا تستفتح بما يستفتح به غيرها؛ لأنها تنطوي على ما يتعلق بما بعدها، ولفظ باب أيضاً بعد ذلك لا يوجد عند أبي ذر والأصيلي وثبت في رواية غيرهما، وبالمناسبة أبو ذر والأصيلي من رواة الصحيح، ذكرنا سابقاً أن الصحيح رواه عن مؤلفه أو تلقاه عن مؤلف أكثر من تسعين ألفاً، واشتهر، واستفاض في البلدان والأقطار، وحمله الخالفون عن السالفين برواياتٍ متعددة، وهذه الروايات يوجد في بعضها ما لا يوجد في بعض. ولذا يستشكل كثيرٌ من طلبة العلم الإكثار من ذكر أبي ذر في الشروح، ويذهب وهَلَه إلى أنه الصحابي الجليل، حتى استشكل بعضهم أن ذكر أبي ذر في صحيح البخاري أكثر من ذكر أبي هريرة، وقد سئلت مراراً عن هذا السؤال، ذكر أبي ذر في صحيح البخاري ويقصد بذلك الشروح عند الشراح أكثر من ذكر أبي هريرة، والمجمع عليه أن أبا هريرة هو أكثر الصحابة على الإطلاق رواية للحديث. فنقول: أبو ذر هذا عبد بن أحمد الهروي راوي الصحيح، وروايته هي أتقن الروايات وأضبطها، ولذا اعتمد عليها الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-، والذين أدخلوا المتن مع الشرح أدخلوا متناً لا يناسب الشرح، ولذا يوجد في كثيرٍ من المواضع قوله ولا يوجد في المتن، ويوجد في المتن ألفاظ تحتاج إلى شرح هي من روايات أخرى غير روايات أبي ذر ولا يوجد لها شرح في فتح الباري وأمثاله ممن اعتمد على رواية أبي ذر.

على كل حال الكتاب من وضع الطابعين، حتى لا يوجد في شيء من الروايات كتاب بدء الوحي، ولذا نص الحافظ على أن المصنف لم يستفتح بدء الوحي بكتاب، أما الباب باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا لا يوجد أيضاً عند أبي ذر والأصيلي، لكنه موجود في غيرهما من الروايات. والباب في الأصل اسمٌ لما يدخل معه ويخرج منه، وهو في عرف المؤلفين اسمٌ لما يضم فصولاً ومسائل غالباً، وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا باب، ويجوز فيه التنوين والقطع عما بعده، ويجوز أيضاً تركه للإضافة إلى الجملة التالية، وجوز الكرماني الشارح التسكين على سبيل التعداد للأبواب فلا يكون له حينئذٍ إعراب. وبدء الوحي روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء وبغير همزٍ مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور، قاله عياض، والوحي في اللغة: الإعلام في خفاء، ويطلق أيضاً على الإلهام، وشرعاً الأعلام بالشرع، ويطلق ويراد به اسم المفعول أي الموحى، وهو كلام الله المنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد اعترض بعضهم على المؤلف -رحمه الله- فقال: لو قال: كيف كان الوحي لكان أحسن؟ لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي، لا لبيان كيفية بيان بدء الوحي فقط، وأجيب بأن المراد من بدء الوحي حاله مع كل ما يتعلق بشأنه أي تعلقٍ كان، وعطف في الصحيح على الترجمة وقول الله -عز وجل-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [(163) سورة النساء] وقول مرفوع عطفاً على باب، أو مجرور عطف على الجملة التي أضيفت إلى الباب، والتقدير: باب معنى قول الله تعال كذا؛ لأن العطف على نية تكرار العامل، وحينئذٍ يقال: باب كيف كان بدء الوحي؟ وباب معنى قول الله تعالى كذا. المقدم: هذا لا يوجد في نسخنا يا دكتور. هذا في الأصل، لكن الآية لا بد منها؛ لأنها هي التي الشاهد منها أوضح من الحديث للباب، وسيأتي ما ذكره بعض الأئمة من أن الحديث لا تعلق له بالترجمة أصلاً، فإثبات الآية أولى من إثبات الحديث. المقدم: يعني ننبه الإخوان إلى تغيير مسمى هذا الباب بناءً على الأصل الموجود؟

الآية مناسبة جداً للباب، ولذا حذفها من المؤلف غير متجه، نعم هي لا توجد في المختصر، لكن إثباتها أمرٌ لا بد منه، قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [(163) سورة النساء] الآية، قدم ذكر نوح لأنه هو أول رسول، فلا يرد آدم -عليه السلام-، وإن اعترض العيني على ذلك فقال: "الذي يظهر من الجواب الشافي عن هذا أن نوحاً -عليه السلام- هو الأب الثاني، وجميع أهل الأرض من أولاده الثلاثة إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} [(77) سورة الصافات] على كل حال هذا الاعتراض وإن استظهره العيني لكن يبقى أن كون الإشادة بالأب الثاني لا تعني إهمال الأب الأول، فلا يندفع الإشكال، فتقديم نوح؛ لأنه أول رسول أولى، ومناسبة الآية للترجمة واضح، من جهة أن صفة الوحي إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين. نعم اقرأ الحديث. قال -رحمه الله-: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)). هذا الحديث حديث عمر في الأعمال بالنيات استشكل واعترض على الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في إدخاله هذا الحديث في ترجمة بدء الوحي، حتى قال بعضهم: إنه لا تعلق له بالباب أصلاً، ولذا فإن الخطابي في شرحه والإسماعيلي في مستخرجه أخرجاه قبل الترجمة؛ لاعتقاده أنه إنما أورده للتبرك به فقط، أو ليكون بمثابة الخطبة للكتاب قبل الشروع في مقصود الكتاب، وقال ابن رشيد -رحمه الله-: لم يقصد البخاري بإيراده سواء بيان حسن نيته فيه، في هذا التأليف، ونقله الحافظ في الفتح عن ابن رشيد.

ونقل ابن بطال عن أبي عبد الله بن النجار قال: التبويب يتعلق بالآية والحديث معاً، ولذا قلنا: أن حذف الآية من الباب لا وجه له، بل ينبغي أن تثبت الآية، التبويب يتعلق بالآية والحديث معاً؛ لأن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء ثم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- أن الأعمال بالنيات؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [(5) سورة البينة] وقال ابن المنير في أول التراجم: كان مقدمة النبوة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء، فناسب الافتتاح بحديث الهجرة، وقال ابن حجر: "ومن المناسبات البديهة الوجيزة ما تقدمت الإشارة إليه أن الكتاب لما كان موضوعاً لجمع وحي السنة صدره ببدء الوحي، ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدره بحديث الأعمال". يقول ابن حجر: "ومع هذه المناسبات لا يليق الجزم بأنه لا تعلق له بالترجمة أصلاً"، مع هذه المناسبات التي أبداها ابن رشيد وغيره وما نقل عن أبي عبد الله بن النجار، وما قاله ابن حجر من المناسبة البديعة لا يليق الجزم بأن الحديث لا تعلق له بالترجمة أصلاً. والحديث يذكر أهل العلم أن له سبباً، يقول ابن دقيق العيد: "نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوى به" وقصة المهاجر رواها سعيد بن منصور الطبراني عن ابن مسعود، قال ابن حجر: "قصة المهاجر إسنادها صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيها أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك"، يقول: "ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح في ذلك". وعلى كل حال الحديث صحيح متفقٌ عليه، مخرجٌ في الصحيحين وغيرها من دواوين الإسلام المشهورة في السنن والمسانيد والجوامع وغيرها، يقول ابن حجر: "ثم إن هذا الحديث متفقٌ على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ، مغتراً بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك، قلتُ: لكنه في الموطأ، هو في الموطأ من رواية محمد بن الحسن الشيباني، في باب النوادر من كتاب السير في أواخر الكتاب.

يقول السيوطي في تنوير الحوالك: "رواية محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة فيها أحاديث يسيرة زيادة على سائر الموطآت، منها حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) وبذلك يتبين صحة قول من عزا روايته إلى الموطأ ووهمُ من خطأه في ذلك". والحديث مع ذلك حديثٌ فرد، فردٌ مطلق تفرد بروايته عمر بن الخطاب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتفرد بروايته عنه علقمة بن وقاص الليثي، وتفرد بروايته عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرد بروايته عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه انتشر انتشاراً بالغاً حتى نقل عن أبي إسماعيل الأنصاري الهروي أنه قال: "كتبت من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى"، يقول ابن حجر: "قلتُ: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذُ طلبت الحديث إلى وقتي، فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم"، وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، قال ابن حجر: "وهو كما قال" نفي الخلاف على إطلاقه، أنه لا يروى إلا بهذا الإسناد أو لا يعرف إلا بهذا الإسناد هو كما قال لكن بقيدين: أحدهما: الصحة، والثاني: السياق؛ لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن مندة، وورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم: ((يبعثون على نياتهم))، وحديث ابن عباس: ((ولكن جهاد ونية)) وحديث أبي موسى: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) متفقٌ عليهما، وحديث ابن مسعود: ((رب قتيلٍ بين الصفين الله أعلم بنيته)) أخرجه أحمد، وحديث عبادة: ((من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى)) أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره.

وإطلاق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد كلامٌ صحيح، لكن بالقيدين اللذين ذكرها ابن حجر، الصحة؛ لأنه ورد من طرق عن جمعٍ من الصحابة لكنه لا يثبت، وورد بسياقٍ أو بألفاظ أخرى في مناسبات كثيرة غير السياق الذي أورده به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أنه حديثٌ متواتر، إلا أن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل، حمل على التواتر المعنوي فالأحاديث التي ذكرت في النية وأهميتها تبلغ حد التواتر، بمجموعها تبلغ حد التواتر، وإن كانت مفرداتها لا تصل إلى ذلك. طالب: هل في قاعدة تقول: أن كل حديث وجدت له طرق غير صحيحة لا يعتبر بها ولا تعد طرق للحديث؟ أولاً: الحديث إذا صح وثبت عند أهل العلم لا نحتاج له إلى طرق، الأمر الثاني: أن الطرق منها ما يعتد به ويلجأ إليه عند الحاجة، وذلك إذا كان الضعف غير شديد، إذا أردنا تقوية الحديث من الضعف إلى الحسن لغيره فإننا نلجأ إلى مثل هذه الطرق إذا كان ضعفها غير شديد، أما إذا كان ضعفها شديد فوجودها مثل عدمها. طالب: أحسن الله إليك يا شيخ: ذكرتم أن الحديث ورد عن عمر عن علقة وهو غريب مطلق، لماذا لم يرويه عن عمر إلا علقمة رغم أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حدث بالحديث على المنبر، وورد هذا في سند الحديث أنه حدث به أو سمعت عمر بن الخطاب وهو على المنبر؟

نعم الحديث فردٌ مطلق لم يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا من طريق عمر، ولا عن عمر إلا عن علقمة، وعلقمة يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول، ولا يمنع اكتفاء الأئمة المصنفين بطريقٍ واحد، وترك غيره من الطرق إذا قامت به الحجة، وإلا فأين ذهبت الأحاديث التي يحفظها الأئمة، منهم من يحفظ سبعمائة ألف حديث؟ هذه طرق، منهم من يحفظ ستمائة ألف حديث، هذه أيضاً طرق، الحديث الواحد ربما يروى من مائة طريق فيسمى أحاديث، هذه الطرق أين ذهبت؟ لو بحثنا عنها في دواوين الإسلام الموجودة ما وجدنا منها إلا الشيء القليل، الأمة بمجموعها معصومة من أن تخل بشيء من دينها، فإذا ثبت الحديث عند بعضهم اكتفوا به، فلا يمنع أن يكون قد سمعه عن عمر جمعٌ غفير، واكتفوا بنقل علقمة؛ لأنه مما تثبت به الحجة، ويقوم عليه الأمر. عرف بهذا أيضاً غلط من زعم أن التعدد شرط لصحة الحديث أو شرط للبخاري في صحيحه كما يومئ إليه كلام الحاكم، وهو مذكور عن البيهقي، ويقرره ابن العربي والكرماني الشارح وغيرهم، ولهذا يقول الصنعاني في نظم النخبة لما ذكر العزيز: وليس شرطاً للصحيح فاعلمِ ... وقيل: شرطٌ وهو قول الحاكمِ وفي بعض النسخ من نظم النخبة قال: وليس شرطاً للصحيح فاعلمِ ... وقد رمي من قال بالتوهمِ هذا الحديث فردٌ مطلق، لا يروى عن النبي -عليه الصلاة والسلام- بسندٍ صحيح إلا عن عمر، ولا عن عمر إلا عن طريق علقمة بن وقاص إلى آخر الطبقات الأربع، فكيف يقول: من يقول أن تعدد الرواة شرط لصحة الخبر، وأول حديث في صحيح البخاري ينقض هذا الشرط ويبطله، وآخر حديثٍ كذلك حديث أبي هريرة: ((كلمتان خفيفتان على اللسان)) ... إلى آخره، مثل حديث (الأعمال بالنيات) سواءٌ بسواء، فرد في أربع طبقات، وفي الخامسة انتشر، مثل حديث (الأعمال بالنيات) وكأنهما سيقا للرد على هذه الدعوة، وغير ذلك من غرائب الصحيح.

المقصود أن كون الحديث فرد لا يروى إلى من طريق واحد لا يقدح فيه، فهذا الحديث مما تلقي بالقبول، وقال شيخ الإسلام وغيره بقطعية هذا اللفظ، وقد تواتر عن الأئمة النقل في تعظيم قدر هذا الحديث، فقيل: ليس في أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث، واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال: ربعه، وقال ابن مهدي: "يدخل في ثلاثين باباً من العلم"، وقال الشافعي: "يدخل في سبعين باباً" وقال ابن مهدي أيضاً: "ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب"، لذا يقول الشاعر: عمدة الدين عندنا كلماتٌ أربع ... مسندات من قول خير البرية اترك الشبهات وازهد ودع ... ما ليس يعنيك واعملن بنية هذه الأحاديث الأربعة يدور عليها الإسلام فيما قرره أهل العلم، وجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة بل أرجحها؛ لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ولذا ورد في الحديث: ((نية المؤمن خيرٌ من عمله)) والحديث فيه كلام لأهل العلم، بل هو مضعف عند جمعٍ منهم، ولو ثبت لا شك أن العمل بدون نية مرجوح بالنية للنسبة للنية بدون عمل؛ لأن كثير من الناس ينوي الخير ولا يستطيعه يثبت له أجره، لكن إذا عمل الخير بدون نية لا أجر له كما هو معروف. المقدم: من خلال النسخة الموجودة والتي نصحنا الإخوة المستمعين أن يتابعوا معنا الطبعة أشرتم في البداية إلى ضرورة الرجوع إلى الأصل، وإضافة الآية ليستقيم المعنى، هناك كتب في البداية رقم (1) ولم يكتب باب في النسخة هذا الترقيم هل هو يغني عن الأبواب أم أن هذه النسخة ليس فيها باب؟ الأصل ما في باب، في رواية أبي ذر والأصيلي ما في باب، لكن في الروايات الأخرى توجد كلمات باب، فلعله اعتمد على رواية أبي ذر. المقدم: في آخر الحديث مكتوب أطرافه ثم ذكر ترقيماً، ما المقصود بأطراف الحديث هنا؟ يعني وروده في صحيح البخاري في المواضع بالأرقام المذكورة.

المقدم: الحديث لم يروه إلا عمر -رضي الله عنه- كما ذكرتم، ومع ذلك هناك اختلاف في بعض ألفاظ الحديث، هل يعني هذا أنه سمع أكثر من مرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قد يكون مرد هذا الاختلاف إلى من رواه من بعد يحيى بن سعيد، قد يكون مرد هذا الاختلاف في الألفاظ يرجع إلى من رواه بعد يحيى بن سعيد؛ لأنه عنه انتشر، والرواية بالمعنى عند أهل العلم جائزة بشروطها، رواية الحديث بالمعنى تجوز عند أهل العلم عند جمهور العلماء بشروطها: أن يكون الراوي عالماً بمدلولات الألفاظ وما يحيل المعاني، أما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يجوز له أن يروي بالمعنى، بل يجب عليه أن يأتي بلفظ الحديث. إن رأيتم قبل الدخول في المفردات أن نشير إلى أن أحد وجهي التقسيم محذوف في الحديث، وهو وارد وثابت من رواية البخاري عن الحميد، أحد وجهي التقسيم، أيش معنى هذا؟ الحديث: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) الوجه الأول على وجه التقسيم: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) وهذه محذوفة في هذا الموضع ومذكورة في مواضع أخرى، إنما ذكر الوجه الثاني من أوجه التقسيم، والذي يغلب على الظن أن الحذف من الإمام نفسه من البخاري، من الإمام البخاري نفسه. المقدم: وهو موجود في الأصل بهذا اللفظ؟

محذوف في الأصل، محذوف في الأصل في الموضع الأول هنا، لكن في مواضع لاحقة موجود، فلماذا حذفه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-؟ الذي يغلب على الظن أن الحذف من الإمام البخاري؛ لأنه ثابت من رواية الحميدي، فالسبب في ذلك أن الوجه الأول من أوجه التقسيم الذي حذفه البخاري يوحي بالتزكية، وأن الإمام البخاري قصد ولو من بُعد من تأليفه هذا الكتاب الهجرة إلى الله ورسوله، وإنما أراد أو قصد حذف هذه الجملة مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في هذا المقام، وذلك أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده الحصر بالقربة أو لا؟ كان مذهب الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- جواز اختصار الحديث، وهو قول كثير من العلماء شريطة أن لا يتعلق المذكور بالمحذوف، يعني لا يحتاج إلى المحذوف لبيان المذكور، شريطة أن لا يتعلق المذكور بالمحذوف، وأن يكون الراوي في منزلة بحيث لا يتهم بالتقصير وعدم الضبط إذا حذف أو الزيادة في الخبر إذا رواه تاماً. والإمام البخاري منزلته أكبر من أن يتهم بأنه حذف أو لم يضبط أو لم يتقن أو أخل بشيء من الحديث أما إذا كان منزلة الراوي الذي اختصر الحديث بحيث لو سمع مرةً تاماً ومرةً ناقصاً يتهم بأنه لم يضبط الحديث بل أخل ببعضه إذا رواه ناقصاً، أو زاد فيه من عنده مما لم يثبت، بل وهم فيه فيما إذا رواه تاماً، ومنزلة الإمام -رحمه الله تعالى- تربو على ذلك. مفردات الحديث:

"إنما" أداة حصر، وإفادتها للحصر بالمنطوق وضعاً حقيقياً خلافاً لمن زعم أنها تفيده بالمفهوم عرفاً لا وضعاً مجازاً لا حقيقة، وهي بمثابة الاستثناء بعد النفي كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [(7) سورة التحريم] وقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [(39) سورة الصافات]، فكون الآية جاءت مرةً {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [(7) سورة التحريم]، ومرةً {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [(39) سورة الصافات]، دلَّ على أن: "إنما" بمثابة ما وإلا، وكقوله: {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [(12) سورة التغابن]، مع قوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [(18) سورة العنكبوت]، فهي مثل ما وإلا، مثل الإثبات بعد النفي سواءٌ بسواء. ويستفاد الحصر أيضاً من جهة ثانية في الخبر، وهي تعريف جزئي الجملة ((إنما الأعمال بالنيات)) فـ (أل) في الأعمال للاستغراق، أي جميع الأعمال بالنيات، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، الأعمال والنيات، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، أي كل عمل بنية كل عمل لا بد له من نية، كما في قولهم: ركب القوم دوابهم، المقصود أن جميع القوم ركبوا دابة واحدة، أو ركبوها على التعاقب ركب واحدة ثم ركبوا واحدة، لا، كل واحد ركب واحدة، وهذا ما يقتضيه مقابلة الجمع بالجمع. و"الأعمال" أي جميع الأعمال البدنية، قليلها وكثيرها، فرضها ونفلها، الصادرة من المكلفين صحيحة أو مجزئة إذا كانت مصاحبة للنيات، يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرح البخاري: الفعلُ من الناس من يقوله مرادفٌ للعمل، ومنهم من يقوله: وهو أعم من العمل، فمن هؤلاء من قال: الفعل يدخل فيه القول وعمل الجوارح، والعمل لا يدخل فيه القول عند الإطلاق، ويشهد لهذا قول عبيد بن عمير: "ليس الإيمان بالتمني ولكن الإيمان قولٌ يفعل وعملٌ يعمل"، يعني القول يدخل في الفعل ولا يدخل في العمل على هذا، خرجه الخلال.

ومنهم من قال: العمل ما يحتاج إلى علاج ومشقة، والفعل أعم من ذلك، ومنهم من قال: العمل ما يحصل منه تأثير في المعمول، كعمل الطين آجراً، والفعل أهم من ذلك، كل هذا من كلام الحفاظ ابن رجب -رحمه الله-وما يليه أيضاً، ومنهم من قال: العمل أشرف من الفعل، فلا يطلق العمل إلا على ما فيه شرفٌ ورفعة بخلاف الفعل، فإن مقلوب عمل لمع، ومعناه ظهر وأشرف، وهذا فيه نظر -يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله- وهذا فيه نظر، لماذا؟ يقول: فإن عمل السيئات يسمى أعمالاً، كما قال تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [(123) سورة النساء] وقال: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [(40) سورة غافر]، ولو قيل عكس هذا لكان متوجهاً، فإن الله تعالى إنما يضيف إلى نفسه الفعل كقوله تعالى: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [(45) سورة إبراهيم]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [(6) سورة الفجر]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [(1) سورة الفيل] {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [(18) سورة الحج]، وإنما أضاف العمل إلى يديه كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [(71) سورة يس]، وليس المراد هنا الصفة الذاتية بغير إشكال، وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم -عليه السلام-، واشتق سبحانه لنفسه أسماء من الفعل دون العمل، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [(107) سورة هود]. ثم قال ابن رجب -رحمه الله- في موضع آخر من شرحه للبخاري: "إن العمل يتناول القول، ويعتبر له النية"، وصرح أبو عبيد القاسم بن سلام -النسخة المطبوعة من شرح ابن رجب- فيها خرج وصوابها صرح صرح أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الطلاق له بدخول القول في العمل، وأن الأقوال تدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((الأعمال بالنيات)) وأبو عبيد محله من معرفة لغة العرب المحل الذي لا يجهله عالم"، هذا كلام ابن رجب -رحمة الله عليه-.

يقول: "وقد اختلف الناس لو حلف لا يعمل عملاً أو لا يفعل فعلاً، فقال: قولاً هل يحنث أو لا؟ وكذا لو حلف ليفعلن أو ليعملن هل يبر بالقول أم لا؟ وقد حكى القاضي أبو يعلى في ذلك اختلافاً بين الفقهاء، وذكر في كتب الأيمان له أنه لا يبر ولا يحنث، لكن هل سبب ذلك أن القول لا يدخل في العمل، أو سببه أمرٌ آخر وهو أن الأيمان والنذور مردها إلى الأعراف؟ نسمع ما يقوله الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "وأخذه من رواية أبي طالب" وأخذه يعني القاضي أبا يعلى أخذ ما ذكر من رواية أبي طالب عن أحمد في رجلٍ طلق امرأته طلقةً واحدة ونوى ثلاثاً، قال بعضهم: له نيته، ويحتج بقوله: ((الأعمال بالنيات)) قال أحمد: ما يشبه هذا بالعمل، إنما هذا لفظ المرجئة يقولون: القول هو عمل، لا يحكم عليه بالنية، ولا هو من العمل، الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إنما ألمح إلى أمرٍ مهم، وهو أن تفسير العمل بالقول أو القول بالعمل هو قول المرجئة؛ لأن من المرجئة من يقول من يوافق السلف على أن الإيمان قولٌ وعمل، الإيمان اعتقاد وعمل، فيجزم بأن أو يفسر العمل هنا بالقول، فلا يخرج عن مذهب المرجئة، والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إنما يريد بهذا الكلام الرد على من يفسر بالعمل في قول السلف في معنى الإيمان بالقول، وأن القول عمل ويكفي في مسمى الإيمان.

يقول: "إنما هذا لفظ المرجئة يقولون: القول هو عمل لا يحكم عليه بالنية، ولا هو من العمل" هذا كلام الإمام -رحمه الله تعالى-، قال ابن رجب: "وهذا ظاهرٌ في إنكار تسمية القول عملاً بكل حال، وأنه لا يدخل تحت قوله: ((الأعمال بالنيات)) " يقول: "وكذلك ذكر أبو بكرٍ عبد العزيز بن جعفر في كتاب السنة، قال ابن رجب: وهذا على إطلاقه لا يصح، فإن كنايات الطلاق كلها أقوال، ويعتبر لها النية، وكذلك ألفاظ الأيمان والنذور أقوال ويعتبر لها أيضاً النية، وألفاظ عقود البيع والنكاح وغيرها أقوال وتؤثر فيها النية عند أحمد، كما تؤثر النية في بطلان نكاح التحليل، وعقود التحيل على الربا، وقد نص أحمد -رحمه الله- على أن من أعتق أمته وجعلها عتقها صداقها أنه يعتبر له النية، فإن أراد نكاحها في ذلك وعتقها انعقدا بهذا القول، فأرجعه إلى النية، وكذلك ألفاظ الكفر المحتملة تصير بالنية كفراً، واستدل القاضي أبو يعلى على عدم الحنث بذلك بأن الأيمان يرجع فيها إلى العرف، والقول لا يسمى عملاً في العرف، نعم جمهور العلماء يردون الإيمان والنذور إلى الأعراف، فمن حلف لا يمس دابةً مثلاً ووضع يده على ظهرها ومس شعرها يحنث؛ لأنه عرفاً يعد قد مس هذه الدابة، وإن كان الشعر في حكم المنفصل، لكن العرف يجعل هذا العمل يحنثه؛ لأنه مس الدابة عرفاً وإن كان الشعر في حكم المنفصل. يقول: "ولهذا يعطف القول على العمل كثيراً، فيدل على تغايرهما عرفاً واستعمالاً، قال ابن رجب: "ومن الناس من قال: القول يدخل في مسمى الفعل ولا يدخل في مسمى العمل" وهذا الذي ذكره ابن خشاب النحوي وغيره، يقول: "وقد ورد تسمية القول فعلاً في القرآن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [(112) سورة الأنعام] ما فعلوه وهو قول، انتهى كلام الحافظ ابن رجب -رحمه الله-. وأما التروك فهي فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل عرفاً، وإن جاء استعمالاً، قد قال بعض الصحابة: لئن قعدنا والنبي يعملُ ... فذاك منا العمل المضللُ

فسمَّى قعودهم وتركهم العمل مشاركة للنبي -صلى الله عليه وسلم- عملاً مضللاً، لكن قد يورد على هذا الصيام وهو ترك المفطرات، ترك المفطرات الصيام بهذا الاعتبار ترك، فكيف تشترط له النية؟ الصيام تركٌ للمفطرات إمساكٌ عن هذه المفطرات الأكل والشرب والجماع، ولا بد له من نية؛ لأنه عبادة، فيشكل على قولهم: أن التروك لا تحتاج إلى نية؛ لأنها ليست بعمل، والصيام وأنه يشترط له النية، ولا صيام لمن لم يبيت النية من الليل كما هو معروف، وهذا في صيام الفرض، أما في صيام النفل فإنه يجزئ ولو كانت من نهار، وعلى كل حال الترك والعزم على عدم الفعل فعل، ولو لم يكن إلا فعل القلب، ولذا يؤجر من ترك المعاصي قصداً، أما من تركها لأنها لم تخطر على باله فإنه لا يؤجر على ذلك، أما من خطرت على باله المعصية وتركها فإنه يؤجر على تركها بلا نزاع، فقولهم بأن التروك ليست بعمل فلا تحتاج إلى نية فلا تدخل في الحديث هذا ليس على إطلاقه، لكن من قصد ترك المعصية بعد أن خطرت على باله، أو قصد فعل الطاعة فإنه يؤجر على هذا القصد. وأما النية وهي عمل القلب فلا يتناولها الحديث، النية عمل، عمل القلب لا يتناولها الحديث لماذا؟ الأصل أنها ما دامت عمل يعني تناولها الحديث، لكن الحديث لا يتناول النية؛ لئلا يلزم التسلسل؛ لأن النية إذا احتاجت إلى نية فالنية التي قبلها تحتاج إلى نية، والنية التي قبلها تحتاج إلى نية وهكذا، وهذا ما يسمى بالتسلسل في الماضي، فيمنعه كثيرٌ من أهل العلم، لكن التسلسل في المستقبل لا إشكال فيه وصحيح، ولذا الشكر نعمة يحتاج إلى شكر، والشكر الثاني نعمة يحتاج إلى شكر وهكذا، ولذا لم يمنعوا تسلسل الشكر بخلاف تسلسل النية. طالب: الإمام أحمد قوله لما قال: بأن العمل هو القول أو القول هو العمل، هذا قول المرجئة، هل يمكن أن نقول أو نوضح كلام أحمد أن مقصود الإمام أحمد بأن القول هو العمل أو العمل هو القول أو المرجئة إذا قصروه على ذلك ولم يدخلوا فيه أعمال الجوارح؛ لأنه أشكل على بعض الناس؛ لأن أهل السنة يقولون أيضاً القول هو من العمل كما قرر أبو عبيد وغيره في كتاب الإيمان؟

الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- هو بصدد الرد على المرجئة، وتشديده في هذه المسألة للرد على هذه الفرقة المبتدعة الذين يقصرون تفسير العمل بالقول، وأن العمل لا يشمل إلا عمل اللسان فقط، والإمام -رحمه الله تعالى- حينما ينفي هذا لا يريد أن القول لا يدخل في مسمى العمل، وإنما ينكر على هذه الفرقة جعل العمل بإزاء القول تماماً، بحيث لا يشمل العمل أموراً أخرى من أعمال الجوارح غير اللسان، وإلا معروف عند أهل العلم قاطبة أن حركة اللسان عمل، واللسان جزء من البدن، وأيضاً عمل اليدين عمل، عمل الرجلين عمل، وعمل سائر الجوارح عمل، وعمل القلب عمل؛ لأنه جزءٌ من الإنسان وجزءٌ من البدن، فالعمل أشمل من القول، وأشمل من عمل القلب، وأشمل من عمل الجوارح، بحيث يضمها كلها. المقدم: أحسن الله إليكم، أيضاً في قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)) ونحن نقول: إن القلب له عمل، هل المقصود بهذا قصر هذا الأمر على عمل الجوارح وما ينتج من القول، وبالتالي لا يدخل فيه عمل القلب؟ القصد له مراتب، ومن هذه المراتب: الخاطر، والهاجس، وحديث النفس، والهم، والعزم، هذه مراتب متفاوتة، فالهاجس لا مؤاخذة فيه إجماعاً، ومثله خاطر وحديث النفس الذي يرتدد ما لم يترتب عليه أثر وعمل، الهاجس الذي يطرأ على الإنسان ويزول، والخاطر الذي يرتدد ثم يزول، وحديث النفس الذي يرتدد في القلب أكثر، هذا كله لا أثر له إلا إذا ترتب عليه عمل من كلام أو فعل بالجوارح، إذا ترتب عليه أخذ به، وأما بالنسبة للهم والعزم ففيهما الأخذ والمؤاخذة؛ لأن المراتب هذه متفاوتة، فكون النبي -عليه الصلاة والسلام- يهم بالتحريق استدل به أهل العلم على تحريم التخلف عن صلاة الجماعة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- همّ بالتحريق، والهم من أعمال القلب، ومثله العزم، بل هو أقوى منه، ولذا يقول القائل: مراتب القصد خمسٌ هاجسٌ ذكروا ... فخاطرٌ فحديثُ النفس فاستمعا يليه همٌ فعزمٌ كلها رفعت ... إلا الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

ويستدل بعضهم على المؤاخذة بالعزم حديث: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ((لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه)) عازم على قتل صاحبه. المقدم: بالتالي هناك بعض الأعمال تأتي على هذه المرتبة كما تفضلتم، يعني بعض الأعمال القلبية خطيرة جداً، ربما تنقل الإنسان من الإسلام إلى الكفر، فهي تدخل في هذا؟ نعم إذا سعى، إذا سعى لتحقيقه. المقدم: لو لم يصدر منه فعل، كالبغض مثلاً؟ ما في شك أن هذا عمل قلبي، ولذا منهم من يرى أن الحسد لا أثر له ولا مؤاخذة فيه؛ لأنه من عمل القلب من حديث النفس، يرى أنه من حديث النفس، وهذا ما يقرره ابن الجوزي، لكن جمهور العلماء على المؤاخذة بالحسد؛ لأنه عملٌ قلبي، والسعي في إيذاء المحسود قدرٌ زائدٌ على ذلك، فالنصوص إنما جاءت ورتبت على الحسد نفسه، النصوص الواردة في ذم الحسد وتشنيعه إنما جاءت في الحسد نفسه، وأما العمل الذي يورثه هذا الحسد من إيذاء المحسود فقدرٌ زائد على ذلك يؤاخذ عليه أيضاً. الكلام عن حديث عمر في الأعمال بالنيات، وأهمية الحديث يطول جداً، حتى قال بعض أهل العلم فيما تقدم نقله: أنه ثلث العلم، أو قال بعضهم: ربعه، وقال بعضهم يدخل في ثلاثين باباً، قال بعضهم: يدخل في سبعين باباً من أبواب العلم، كل هذا لأهمية هذا الحديث، وقد أفرد بالتصنيف، شرحه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في رسالة، وشرحه الجلال السيوطي في رسالة أيضاً، وهناك مباحث وكتب ألفت في النية وفي المقاصد وفي غيرها.

والنية شرطٌ لصحة الأعمال كلها، ومحلها -كما هو معروف- القلب باتفاق العلماء، كما يقوله شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله تعالى-، فإن نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاق، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "وقد خرج بعض أصحاب الشافعي وجهاً من كلام الشافعي غلط فيه على الشافعي، فإن الشافعي إنما ذكر الفرق بين الصلاة والإحرام بأن الصلاة في أولها كلام، فظن بعض الغالطين أنه أراد التكلم بالنية، الإمام الشافعي يقول: الفرق بين الصلاة والإحرام أن الصلاة في أولها كلام، هذا الغالط الذي حمل كلام الشافعي على أن مراده به النية والنطق بها غلط على الإمام -رحمه الله تعالى-، ما المانع أن يكون مراد الإمام الشافعي -رحمه الله- تكبيرة الإحرام؟ يقول -رحمه لله-: "فظن بعض الغالطين أنه أراد التكلم بالنية، وإنما أراد التكبير والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله فلا بد أن ينويه ضرورة، كمن قدم بين يديه طعام ليأكله، فإذا علم أنه أراد الأكل فلا بد أن ينويه، بل لو كلف العباد أن يعملوا عملاً بغير نية كلفوا ما لا يطيقون، لا يمكن أن يعمل الإنسان عمل يقصده ويريده ويعلمه أن يعمله بغير نية، وإنما -يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: "وإنما يتصور عدم النية إذا لم يعلم ما يريد، مثل من نسي الجنابة واغتسل للنظافة أو للتبرد" مثل هذا نسي لا يعلم ما يريد، أو من يريد أن يعلم غيره الوضوء ولم يرد أن يتوضأ لنفسه، أو من لا يعلم أن غداً من رمضان فيصبح غير ناوٍ للصوم. ومن عرف هذا تبين له أن النية مع العلم في غاية اليسر، النية مع العلم بالعمل في غاية اليسر لا تحتاج إلى وسوسة وآصار وأغلال، ولهذا قال بعض العلماء: الوسوسة إنما تحصل للعبد من جهلٍ بالشرع أو خبلٍ في العقل، يعني شخص يمكث الساعات يتوضأ ثم يشك هل نوى أو لم ينو؟ نسأل الله السلامة والعافية، يكبر للإحرام ثم يقرأ ثم يقطع صلاته يشك هل نوى أو لم ينو؟، كل هذا لا يحتاج إليه، إذا قصد الصلاة وذهب إليها علم بها هذه هي النية.

من مصائب بعض الموسوسين أن شخصاً بعد طلوع الشمس وانتشارها في أيام الشتاء طرق علي الباب، يعني بعد صلاة الفجر بحوالي ساعتين، طرق علي الباب فقال: أنا لم أستطع أن أصلِّ العشاء، كم لصلاة العشاء الآن؟ أكثر من اثنا عشر ساعة، لم يستطع أن يصلي العشاء، وهو من ذلك الوقت يكبر ثم يقطع الصلاة، يكبر ثم يقطعها، هذه بلوى، وأشبه ما تكون بالجنون، ولذا يقول الشيخ -رحمه الله تعالى- ينقل عن بعض العلماء أن الوسوسة إنما تحصل للعبد من جهلٍ بالشرع أو خبلٍ في العقل. يقول الشيخ -رحمه الله تعالى-: "وقد تنازع الناس هل يستحب التلفظ بالنية؟ فقال طائفة من أصحاب أبي الحنيفة والشافعي وأحمد: مستحب ليكون أبلغ، قاله بعض المتأخرين من أتباع المذاهب، وقالت طائفة من أصحاب مالك وأحمد: لا يستحب ذلك، بل التلفظ بها بدعة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين لهم بإحسان لم ينقل عن واحدٍ منهم أنه تكلم بلفظِ النية لا في صلاة ولا في طهارة ولا صيام، يعني ما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا نقل عنه ولا عن صحابته الكرام لا بسندٍ صحيح ولا ضعيف أيضاً، قالوا: لأنها تحصل مع العلم بالفعل ضرورة، فالتكلم بها نوع هوس، وعبثٌ وهذيان {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [(16) سورة الحجرات] إذا أراد الشخص أن يصلي وقصد الصلاة عالماً بها غير ناسٍ لها، ويقول: نويت أن أصلي الظهر، نويت أن أصلي كذا، تعلم الله بدينك؟! يقول الشيخ -رحمه الله تعالى-: "قالوا: لأنها تحصل مع العلم بالفعل ضرورة، فالتكلم بها نوع هوس وعبث وهذيان، والنية تكون في قلب الإنسان، ويعتقد أنها ليست في قلبه فيريد تحصيلها بلسانه وتحصيل الحاصل محال". ولذا مما يشترط للعمل المكلف به أن يكون معدوماً، من شروط العمل المعدود به أن يكون معدوماً؛ لأن تحصيل الحاصل وإيجاد الموجود محال، يقول: "فلذلك يقع كثيرٌ من الناس في أنواع من الوسواس، واتفق العلماء على أنه لا يسوغ الجهر بالنية لا لإمام ولا لمأموم ولا لمنفرد، ولا يستحب تكريرها، وإنما النزاع بينهم في التكلم بها سراً هل يكره أو يستحب".

الكلام هل يحرك بها لسانه؟ أما النطق بها والجهر بها هذا بدعة، لا يقول أحدٌ باستحبابه، لكن تحريك اللسان بها ليواطئ اللسان القلب هذا استحبه بعض المتأخرين من المتمذهبة عند أهل الشافعية والحنابلة وبعض الحنفية، وعرفنا أن التلفظ بها لا سراً ولا جهراً لم يثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- لا بسندٍ صحيح ولا ضعيف ولا عن صحابته ولا التابعين لهم بإحسان. في الأشباه والنظائر للسيوطي الذي صدره بالقواعد الكلية المتفق عليها من القاعدة الأولى: (الأمور من مقاصدها) ذكر من مباحث هذه القاعدة المبحث الخامس: في محل النية ... المقدم: فضيلة الدكتور إذا أذنتم قبل أن ندخل في هذه القضية، القضية التي تحدثتم عنها قبل قليل، وهي التلفظ بالنية، ربما يشكل على بعض الناس أثناء هذا الموضوع ما يحصل عند التلفظ بالنية عند النسك، ويعتبر أن هذا مماثل لغيره، وبالتالي يقول: كيف تمنع التلفظ بالنية عند بعض العبادات ولا تمنعها عند عبادات أخرى كالدخول في النسك؟ إن كان المراد التلفظ بالنية في النسك نويت النسك الفلاني، نويت الحج، نويت العمرة، هذا بدعة أيضاً مثل الصلاة وغيرها، لكن إن كان المراد بالتلفظ أن يقول: لبيك حجاً، أو لبيك عمرة، أو لبيك حجاً وعمر، هذا مشروع، هذه استجابة لنداء الله -سبحانه وتعالى-، وليس هذا تلفظ بالنية.

أقول: في الأشباه والنظائر للسيوطي في القاعدة الكبرى الأولى من قواعد الكلية: (الأمور بمقاصدها) "قال: المبحث الخامس في محل النية، قال: محلها القلب في كل موضوع؛ لأن حقيقتها القصد مطلقاً، وقيل: المقارن للفعل، وذلك عبارة عن فعل القلب، قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لنفعٍ أو دفع ضر حالاً أو مآلاً، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله تعالى، وامتثال حكمه، والحاصل -هذا كلام السيوطي- أن هنا أصلين: الأول: أنه لا يكفي التلفظ باللسان دونه -دون القلب-، والثاني: أنه لا يشترط مع القلب التلفظ، أما الأول: فمن فروعه لو اختلف اللسان والقلب فالعبرة بما في القلب، فلو نوى بقلبه الوضوء وبلسانه التبرد صح الوضوء، أو عكسه فلا" يعني لو نوى عكس ذلك نوى بقلبه التبرد وبلسانه الوضوء لا يصح الوضوء، وكذا لو نوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة أو العكس صح له ما في القلب دون ما في اللسان؛ لأن العبرة بما في القلب. يقول: "ومنها: إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد فلا تنعقد، ولا يتعلق به كفارة، أو قصد الحلف على شيء فيسبق لسانه إلى غيره، حلف ألا يفعل كذا ومراده غيره، سبق لسانه إلى شيء والذي في قلبه غيره فالعبرة بما في القلب، هذا في الحلف بالله -سبحانه وتعالى-، فلو جرى مثل ذلك في الإيلاء أو الطلاق أو العتاق لم يتعلق به شيء باطناً، ويديَّن ولا يقبل في الظاهر لتعلق حق الغير به إلى غير ذلك". أيش معنى هذا الكلام؟ معناه أنه لو أراد أن يقول لزوجته: أنت طاهر فقال لها: أنت طالق مثلاً، لا يريد بذلك الطلاق، لا تحرم عليه، ولا يؤاخذ، لكن لو تقدمت به إلى القضاء تعلق به حق الغير، وحصل الطلاق؛ لأن هذا يتعلق به حق الغير فيؤاخذ بنطقه، لكن الديانة أمام الله -سبحانه وتعالى- لو لم تتقدم به إلى محاكمة أو غيرها ما يؤاخذ، يديَّن هذا أمرٌ بينه وبين ربه. "فأما ما يتعلق به حق الغير فيؤاخذ به؛ لأنه من ربط الأسباب بالمسببات" وهذا معروف.

عندنا المسألة التي وعدنا بها وهي تراجم الإمام على الحديث، تراجم الإمام البخاري على الحديث، الإمام البخاري خرج الحديث في سبعة مواضع، وكانت النية أن نقارن بين تراجم الإمام وتراجم غيره من الأئمة، لكن رأيت ذلك يطول جداً؛ لأن المؤلفات في الحديث كثيرة جداً، وكل إمام يستنبط من الحديث حكماً بفهمه يترجم عليه بذلك الحكم، وبين تراجم الإمام -رحمه الله تعالى- وبين تراجم غيره من الأئمة اختلافٌ كثيرٌ جداً، فكل إمام من الأئمة يستنبط من هذا الحديث حكم يترجم عليه به، لكن ذلك يطول جداً، وإلا فوائد الحديث يمكن أن تجمع من تراجم الأئمة على الحديث؛ لأنها عبارة عن أحكام يترجمون بها، ويعنونون بها على الحديث، فالإمام البخاري -رحمه الله- خرج الحديث في سبعة مواضع من صحيحه. المقدم: لكن فضيلة الدكتور هل تقصدون أن الإمام مسلم خرج الحديث في باب يختلف عن تخريج الإمام البخاري له والترمذي كذلك، وكل تراجم لها معنى؟ نعم، كل إمام يستنبط من الحديث فائدة، وقد يكون في الكتاب نفسه، يعني في كتاب الصلاة في كتاب الزكاة في غيره من الكتب يتفق كثيرٌ من الأئمة على تخريج الحديث في هذه الكتب، لكن استنباط الأحكام والتبويب على الحديث كل إمام له ما يخصه، فأبو داود له تراجم والترمذي له تراجم على الحديث، البيهقي، الحاكم، ابن حبان، وهو أيضاً دقيق في تراجمه ابن حبان -رحمه الله-، لكن ذلك يطول جداً. المقدم: ما في أحداً عني بهذا -أحسن الله إليكم- في التأليف، تتبع تراجم المحدثين؟ المقارنة بينها لا أعرف أحداً، لكن تراجم البخاري على وجه الخصوص اعتنى بها الأئمة، اعتنى بها أهل العلم قديماً وحديثاٌ، وألفت فيها المصنفات المفردة، وهناك كتب أخرجت الكنوز من صحيح البخاري، أما مسلم فكما هو معروف مسلم لم يترجم الكتاب، كتاب صحيح مسلم خالٍ عن التراجم، ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد، وهذا مما رجح به مسلم على البخاري على ما تقدم في المقدمة الأولى أنه ليس فيه بعد الخطبة إلا الحديث السرد كما هو معروف، وإن قدم البخاري من جهات، من دقة الاستنباط من الأحاديث، هذا مطلب أساس بالنسبة للاستنباط من النصوص، فبهذا يتميز صحيح البخاري.

الموضع الأول: من المواضع التي أخرج البخاري الحديث فيه أول الكتاب، وتحدثنا سابقاً أن الإمام البخاري هل وضع الحديث قبل الترجمة أو بعدها؟ هل الإمام البخاري وضع الحديث قبل الترجمة ليكون كالخطبة للكتاب كما يقوله الخطابي والإسماعيلي؟ أو ترجم: بابٌ كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أو بدون باب كما في رواية أبي ذر والأصيلي، ثم ساق الحديث؟ على كل حال الموضع الأول هو أول حديث في الصحيح، وسواءً كان سابقاً للترجمة أو لاحقاً، فتحدثنا سابقاً عن ذلك كله، ورأينا أو سمعنا أو ذكرنا ما قاله أهل العلم في المناسبة والرابط بين الحديث وبدء الوحي، ذكرنا ذلك وأنه لا يحسن أن يقال: ليس هناك ما يربط الحديث ببدء الوحي، وإن زعمه بعضهم.

الموضع الثاني: ذكره الإمام البخاري في كتاب الإيمان، وقال: (باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى) فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام، دخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج والصوم والأحكام، هذا فرع مما ذكره أهل العلم سابقاً أنه ينبغي أن يدخل هذا الحديث ويذكر في جميع الأبواب، ولا شك أنه داخلٌ في الإيمان، وداخل أيضاً في الطهارة، وقبل ذلك داخل في العلم دخولاً مباشراً، فلا علم شرعي إلا بنية، فالذي لا يقصد بعلمه الشرعي وجه الله والدار الآخرة لا يثاب على طلبه العلم، بل يأثم على ذلك؛ لأن هذا العلم -أقصد العلم الشرعي- من علوم الآخرة المحضة، فتجب فيه النية، ولم يذكره الإمام -رحمه الله تعالى- بل أجمل، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام، وقال الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [(84) سورة الإسراء] أي على نيته، ثم قال الإمام -رحمه الله تعالى-: "نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة، وقال: ((ولكن جهاد ونية)) ثم ذكر الحديث عن عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، فساقه الإمام -رحمه الله تعالى- ببقية الإسناد المذكور سابقاً بإفراد النية، وقال: "إنما الأعمال بالنية" وذكر الوجه الأول من وجهي التقسيم المحذوف في الموضع الأول، عرفنا سابقاً أن الإمام البخاري حذف الوجه الأول من وجهي التقسيم، "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" وهنا أثبت الوجه الأول من وجهي التقسيم، وعرفنا سابقاً سبب الحذف، فلا حاجة إلى إعادته. يقول -رحمه الله تعالى-: باب ... المقدم: اللفظة -أحسن الله إليكم- بين النية والنيات يرجع إلى الراوي؟

نعم، لعل الحميدي في الموضع الأول رواه للإمام البخاري بجمع النيات، وفي الموضع الثاني رواه الإمام البخاري عن عبد الله بن مسلمة القعنبي أو عن مالك بإفراد النية، فالإمام البخاري يتتبع ألفاظ الشيوخ -رحمه الله تعالى-، علماً بأن الإمام البخاري لا يمكن أن يسوق حديثاً في موضعين بلفظه ومتنه وإسناده من غير تغيير، لا يمكن أن يفعل ذلك الإمام البخاري من غير تغيير، يعني مطابقة تامة إلا نادراً، يعني ضبط عليه نحو عشرين موضع فقط، يعني من أكثر من سبعة آلاف موضع نحو عشرين موضع فقط، وهذه نادرة، والمراد بالحسبة التي ذكرها الإمام البخاري في الترجمة الاحتساب، طلب الأجر والثواب من الله -سبحانه وتعالى-، والمراد بالأحكام المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات كالبيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وقوله: {عَلَى شَاكِلَتِهِ} [(84) سورة الإسراء] على نيته، تفسيرٌ من الإمام -رحمه الله تعالى- بحذف أداة التفسير، وتفسير الشاكلة بالنية صح عن الحسن البصري ومعاوية بن قرة المذني وقتادة، وقيل: على دينه، {عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي على دينه، قاله ابن زيد، وقيل: على ناحيته، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. على كل حال المراد بالشاكلة هل هو النية أو الدين أو الناحية؟ هذه أقوال لأهل العلم حفظها المفسرون وذكرها بأسانيدهم عمن ذكرنا، وممن ذكرها ابن جرير الطبري وابن الجوزي في تفسيره، وفي البصائر للفيروز أبادي يقول: {عَلَى شَاكِلَتِهِ} يعني على سجيته التي قيدته، وذلك أن سلطان السجية على الإنسان قاهر، وهذا كقوله -صلى الله عليه وسلم -: ((كلٌ ميسرٌ لما خلق له)) على كل حال نعود إلى الترجمة، نرى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- أدخل في الحديث الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام، فقدم الحج على الصوم بناءً على ما ثبت عنده في حديث ابن عمر: ((بني الإسلام على خمس: ... وحج بيت الله الحرام وصوم رمضان)) والحج والصوم تقدم الحج على الصوم، وعليه بنى الإمام البخاري ترتيب كتابه، في الكتاب قدم الحج على الصيام.

طالب: بالنسبة لمن ألفوا في تراجم الأمام البخاري من هو أجود من ألف في هذا تعلمون أن بعضهم لم يستوعب وبعضهم اختصر ولم يذكر جميع الأبواب فما هو أجمع؟ وما هو أحسنها؟ سؤال آخر: وهو قد يسأل البعض يقول: ما الفرق بين الكتاب والباب والترجمة، هل هناك بينهم ترادف؟ وهل هناك فرق؟ ذكرنا مراراً أن المراد بالترجمة التبويب على الحديث، والباب فرع من الكتاب، فالكتاب هو المكتوب الجامع لأبواب وفصول ومسائل، يدخل تحت الكتاب عدة أبواب غالباً، ويدخل تحت الباب فصول ومسائل، هذا في الغالب، هذا غالباً، فهناك ترتيب في تدرج الأكبر الكتاب، ثم الباب ثم الفصول والمسائل، ثم التتمات والتفريعات، وهذه غالباً ما تذكر في كتب الفقه مثلاً أو كتب العربية وغيرها. الكتب التي ألفت في بيان تراجم البخاري ومقاصده من هذه التراجم كثيرة، منها لأبي عبد الله بن رشيد السبتي كتابٌ عظيم جداً لكن لم نقف عليه، ينقل عنه ابن حجر وغيره نفائس، وهناك تراجم لابن المنير أيضاً ينقل عنه في الشروح طبع مختصره، وأما الأصل لم يوقف عليه، إنما ينقل عنه كثيراً، أيضاً الشراح اعتنوا بالتراجم، وكل واحد يبين ما يلوح له من مقصد الإمام البخاري، ومن أحسن من تكلم على هذه التراجم الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- والعيني والكرماني على خللٍ في بعض ما يذكره، وأيضاً القسطلاني يعتني بالتراجم، فالشروح اعتنت بذكر هذه التراجم.

أشرنا فيما تقدم أن الإمام البخاري خرج الحديث في سبعة مواضع، وذكرنا اثنين منها، وهنا نبدأ في الموضع الثالث: في كتاب العتق، ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- للحديث بقوله: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لكل امرئ ما نوى)) ولا نية للناسي والمخطئ، وذكر الحديث -رحمه الله تعالى- عن محمد بن كثير عن سفيان به بدون "إنما"، وإفراد النية، وذكر وجهي التقسيم كليهما، وأشرنا مراراً إلى المراد بوجهي التقسيم فلا نحتاج إلى إعادته، وقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، أي نحو ذلك من التعليقات، لا يقع شيءٌ منها إلا بالقصد، وكأنه -رحمه الله تعالى- أشار إلى رد ما روي عن مالك أنه يقع الطلاق والعتاق عامداً كان أو مخطئاً، ذاكراً كان أو ناسياً، وقد أنكره كثيرٌ من أهل مذهبه، قال الداودي -شارح البخاري-: وقوع الخطأ في الطلاق والعتاق أن يلفظ بشيء غيرهما، فيسبق لسانه إليهما، وأما النسيان ففيما إذا حلف ونسي، ووقع في رواية القابسي: الخاطئ بدل المخطئ، هنا يقول: باب الخطأ والنسيان، إلى أن قال: ولا نية للناسي والمخطئ، وقع في رواية القابسي -وهو من رواة الصحيح كما هو معروف-: الخاطئ بدل المخطئ، وهل هناك فرق بين الخاطئ والمخطئ؟ الفرق بينهما أن المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي، فالخاطئ اسم فاعل من الثلاثي المراد به من تعمد الخطأ، وأما المخطئ اسم فاعل أيضاً من الرباعي أخطأ فمن جرى الخطأ على لسانه أو فعله من غير قصد ولا عمد. هنا يقول -رحمه الله تعالى-: باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، أنه إذا أخطأ ونسي فأعتق أو طلق، وأشرنا فيما تقدم أنه لو قال لزوجته: أنت طالق، ويريد بذلك أنت طاهر، بل سبق لسانه، ولم يقصد الطلاق أنه يديَّن بذلك، ولا يقع الطلاق إلا إذا حصل مرافعة، فإنه في المرافعة تعلق به حق الغير حينئذٍ، فيؤاخذ بنطقه، أما بينه وبين ربه فإنه لا يؤاخذ بل يديَّن بذلك.

الموضع الرابع: في كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، باب هجرة النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه إلى المدينة، وذكره من طريق مسدد، قال: حدثنا حماد هو ابن زيد عن يحيى، فذكره بدون "إنما" وبإفراد النية، والمناسبة ظاهرة حيث ساقه المصنف لبيان أن هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة كانت لله لا لغيره من الأغراض الدنيوية، إلى الهجرة، هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت لله، وهجرة أصحابه كانت لله ورسوله، فوقعت مطابقة لما جاء في الحديث، فوجه المناسبة والرابط ظاهر. الموضع الخامس: في كتاب النكاح، يقول -رحمه الله تعالى-: باب من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله ما نوى، ورواه من طريق يحيى بن قزعة قال: حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد، فذكره بلفظ: ((العمل بالنية)) بإفراد الجزئين، ولعل هذا من رواية أو من لفظ يحيى بن قزعة، فرواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- على ما روي له -رحمه الله-، وما ترجم به من الهجرة منصوص في الحديث، باب من هاجر لتزويج امرأة فله ما نوى هذا نص الحديث، أما قوله: من عمل خيراً، غير منصوص في الحديث، لكنه مستنبط؛ لأن الهجرة من جملة أعمال الخير، يدخل في الخبر ما وقع من أمِّ سليم في امتناعها من التزويج بأبي طلحة حتى يسلم، أبو طلحة خطب أم سليم، فقالت له: أنت رجلٌ كافر وأنا مسلمة، والله -سبحانه وتعالى- حرم نكاح الكفار للمسلمات، فنسوق الحديث:

روى الإمام النسائي -رحمه الله تعالى- بسند صحيح عن أنسٍ قال: خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد، ولكنك رجلٌ كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، وما أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها، هل نقول: أن إسلام أبي طلحة غير مقبول؛ لأنه أسلم ليتزوج، ونقول: هذا كمن هاجر ليتزوج؟ قد يكون الإسلام في مبدأ الأمر لرغبة أو لرهبة، ثم يقع الإسلام من قلبه موقعاً عظيماً فيحسن إسلامه، ويصدق في الإسلام قدمه، فيصير من أفضل المسلمين، ومن خيرهم، وهذا ما حصل بالنسبة لأبي طلحة، قال ثابت: فما سمعتُ بامرأة قط كانت أكرم مهراً من أم سليم، الإسلام مهرها الإسلام، والقصة سندها صحيح. لكن العيني في عمدة القاري ذكر أن هذا لا يصح عن أبي طلحة، فالحديث وإن كان صحيح الإسناد، العيني لا يعل الحديث من جهة الإسناد، لكن يعله من جهة المتن، الإسناد صحيح بلا شك عند النسائي، يقول: فالحديث وإن كان صحيح الإسناد، ولكنه معللٌ بكون المعروف أنه لم يكن حينئذٍ نزل تحريم المسلمات على الكفار، وإنما نزل بين الحديبية وبين الفتح، حين نزل قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [(10) سورة الممتحنة] كما ثبت في صحيح البخاري، وقول أم سليم في هذا الحديث: ولا يحل لي أن أتزوجك شاذٌ مخالفٌ للحديث الصحيح، وما أجمع عليه أهل السير، يعني كلام العيني في محله.

لكن الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قال: يمكن الجواب: بأن ابتداء تزوج الكافر بالمسلمة، يعني ابتداءً يبتدئ الكافر بالزواج من مسلمة هذا ممنوع قبل نزول الآية، يقول: يمكن الجواب بأن ابتداء تزوج الكافر بالمسلمة كان سابقاً على الآية، والذي دلت عليه الآية الاستمرار، فلذلك وقع التفريق بعد أن لم يكن، ولا يحفظ بعد الهجرة -يعني قبل التحريم- لا يحفظ بعد الهجرة أن مسلمةً ابتدأت بتزوج كافر، معنى هذا الكلام كلام الحافظ -رحمه الله تعالى- أنه يتسامح في الاستمرار والبقاء ما لا يتسامح في الابتداء، يعني بعد الهجرة مباشرة تميز المسلمين على الكفار خلاص لا يمكن تزوج الكافر من مسلمة قبل نزول الآية، هذا الحكم تقرر قبل نزول الآية، لكن استمرار النكاح، استمرار نكاح الكافر بالمسلمة استمر إلى أن نزلت الآية، وقول الحافظ أيضاً له حظٌ من النظر، لا سيما وقد صح سند القصة. الموضع السادس: من المواضع التي خرج فيها البخاري الحديث من صحيحه في كتاب الأيمان والنذور: باب النية في الأيمان، قال الإمام البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: فذكره ((إنما الأعمال بالنية)). مناسبة الحديث للترجمة أن اليمين من جملة الأعمال، فيستدل به على تخصيص الألفاظ بالنية زماناً ومكاناً، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي ذلك، كمن حلف أن لا يدخل دار زيد وأراد في شهرٍ أو سنةٍ أو مثلاً، كمن حلف أن لا يدخل دار زيد، وأراد -أي وقصد- في نفسه وقرارة قلبه مدة شهر مثلاً أو سنة مثلاً، أو حلف ألا يكلم زيداً مثلاً، وأراد في منزله دون غيره فلا يحنث إذا دخل بعد شهرٍ أو سنة في المسألة الأولى، ولا إذا كلمه في دارٍ أخرى في المسألة الثانية؛ لأن له ما نوى.

واستدل به الشافعي ومن تبعه فيمن قال: إن فعلتِ كذا فأنت طالق ونوى عدداً أنه يعتبر العدد، يعني لو نوى واحدة تقع واحدة، نوى اثنتين تقع اثنتين نوى ثلاث تقع ثلاث، فيمن قال: إن فعلتِ كذا فأنت طالق، ونوى عدداً أنه يعتبر العدد المذكور وإن لم يلفظ به، وكذا من قال: إن فعلتِ كذا فأنت بائن، إن نوى ثلاثاً بانت، وإن نوى ما دونها وقع رجعياً؛ لأن البينونة وإن كانت تدل على المفاصلة، إلا أن هناك البينونة الكبرى والبينونة الصغرى. وخالف الحنفية في الصورتين، واستدل به على أن اليمين على نية الحالف، لكن فيما عدا حقوق الآدميين فهي على نية المستحلف، ولا ينتفع الحالف بالتورية، لا سيما إذا اقتطع بها حقاً لغيره، وهذا إذا تحاكما، وأما في غير المحاكمة فقال الأكثر: نية الحالف أيضاً، أخذاً من الحديث، وقال مالك وطائفة: نية المحلوف له، وقال النووي: من ادعى حقاً على رجلٍ فأحلفه الحاكم انعقد يمينه على ما نواه الحاكم، ولا تنفعه التورية اتفاقاً، فإن حلف بغير استحلاف الحاكم نفعت التورية، إلا أنه إن أبطل بها حقاً أثم وإن لم يحنث.

حكا الكرماني وهذا من أغلاطه -رحمه الله تعالى- ووهم في كثير من التراجم، وإن كان الكتاب جيد في جملته، ويشتمل على نفائس، لكن لا سيما في موضوع التراجم أخطأ في مواضع كثيرة ووهم، وفي الأسانيد أيضاً خلط بعض التخليط، واستدرك عليه، ونوقش من قبل الشراح ممن جاء بعده لا سيما الحافظ ابن حجر، الكرماني حكا أنه وجد في بعض النسخ: الإيمان بكسر الهمزة، باب النية في الإيمان، ونلاحظ أن الكتاب كتاب الأيمان والنذور، يقول أنه وجد في بعض النسخ: الإيمان، باب النية بالإيمان. هل يمكن أن يجد نسخة فيها كتاب الإيمان والنذور؟ يمكن أن يجد؟! مستحيل، إنما وجد في بعض النسخ الإيمان في الترجمة في الباب، باب النية في الإيمان، ووجه ذلك في أن مذهب البخاري أن الأعمال داخلةٌ في الإيمان، لكن القرينة القوية التي ترد هذا الكلام إدخال هذا الباب ضمن كتاب الأيمان، فكيف يدخل باب النية في الإيمان في كتاب الأيمان؟ يقول الحافظ ابن حجر: قرينة ترجمة كتاب الأيمان والنذور كافية في توهين الكسر، يعني لو وجدنا في نسخة الهمزة تحت لجزمنا بأنها خطأ. الموضع السابع: في كتاب الحيل، ولنعلم أن الحيل كلها مبنية على المقاصد، في كتاب الحيل ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: بابٌ في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها، قال: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد، ونترك ما بعد يحيى بن سعيد في المواضع كلها للعلم به، لاتفاق جميع الطرق يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة عن عمر، وفيه قال عمر: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية)) وهذا يؤيد قول من قال: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- خطب بالحديث أيضاً؛ لأن غالب ما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أيها الناس)) إذا كان على المنبر يخطب.

قال ابن المنير -وهذا هو ناصر الدين بن المنير وهناك زين الدين بن المنير، ناصر الدين شرح ولزين الدين تراجم- يقول ابن المنير: أدخل البخاري الترك في الترجمة باب في ترك الحيل لئلا يتوهم من الترجمة الأولى إجازة الحيل؛ لأنه قال: كتاب الحيل، قد يفهم من يفهم أن الحيل جائزة، لكن الترجمة الفرعية التي هي الباب بينت المقصود، ووضحت المراد، حيث قال -رحمه الله تعالى-: بابٌ في ترك الحيل، وقال ابن المنير: اتسع البخاري في الاستنباط، والمشهور عند النظار حمل الحديث على العبادات، فحمله البخاري عليها وعلى المعاملات، وتبع مالكاً في القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد، يعني أن الإمام البخاري تبع مالك -رحمه الله تعالى- في القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد، ولنعلم أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- من الأئمة المجتهدين، شأنه في ذلك شأن غيره من الأئمة، كأحمد والشافعي ومالك وغيرهما من مجتهدي أهل الحديث، فلو فسد اللفظ وصح القصد ألغي اللفظ، وأُعمل القصد تصحيحاً وإبطالاً، قال -والكلام لابن المنير-: والاستدلال بهذا الحديث على سد الذرائع وإبطال التحيل من أقوى الأدلة.

والحيل: جمع حيلة، وهي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي، وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريقٍ مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام، أو إلى إثبات حقٍ أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو توصل بها إلى ترك مندوب فهي مكروهة، وعلى كل حال تنتابها الأحكام الخمسة، ولجوازها ومنعها أدلة، من أظهر أدلة الجواز في موضعه الجواز المطلق قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} [(44) سورة ص] هذه حيلة لتنفيذ الحد أو لتنفيذ اليمين من غير ضرر لا يحتمله المحلوف عليه، وعلى كل حال في الحيل مخارج من المضايق عند القول بإجازتها في الأنواع التي تجوز فيها الحيل، أما الأنواع التي تحرم فيها الحيل فليقع الإنسان في المضايق ولا يرتكب ما حرم الله عليه، ولذا جاء في الخبر ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)) من حيلهم قصة أصحاب السبت، حرم عليهم الاصطياد يوم السبت فنصبوا الشباك يوم الجمعة، وأخذوا ما يعلق بها في يوم الأحد، قالوا: ما صدنا يوم السبت، وإنما صدنا يوم الأحد، اصطدنا يوم الأحد، هذه حيلة على تحليل ما حرم الله -سبحانه وتعالى-، حرمت عليهم الشحوم فجملوها أذاوبها وباعوها وأكلوا أثمانها، قالوا: ما أكلنا الشحم، أكلنا الدهن دهنٌ سائب، وهذا لا يسمى شحم، هذه حيلة على تحليل ما حرم الله -سبحانه وتعالى-، وهذه طريقتهم وهذا ديدنهم.

كتاب بدء الوحي (1)

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - شرح أحاديث كتاب بدء الوحي (1) الشيخ/ عبد الكريم الخضير هذه حيلة على تحليل ما حرم الله -سبحانه وتعالى-، وهذه طريقتهم وهذا ديدنهم، وقد يوجد بعض الحيل في بعض الصور لارتكاب أو للفرار مما حرمه الله -سبحانه وتعالى-، وعلى كل حال للعلماء تفصيلات ولهم مسائل يطول ذكرها في هذا الباب، فتراجع كتب شروح الحديث وكتب الفقه وغيرها، وقد ألف في الحيل مؤلفات، ومن أسوأ ما نقل في الحيل ما أفتى به بعضهم: امرأة ضاقت عليها المسالك مع زوجها فلم تترك وسيلة إلا ارتكبتها من أجل فراقه، فأفتاها بعضهم بأن ترتد عن الإسلام -نسأل الله العافية-، وبذلك تبين منه، ذكره ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إغاثة اللهفان، وأفتى ابن المبارك بكفر من أفتاها بهذه الفتوى، نسأل الله السلامة والعافية. طالب: أحسن الله إليك، قد يفعل بعض الناس بعض أعمال الخير التي أمر بها الشارع كبر الوالدين أو الإحسان إلى الجار أو صلة الأرحام، ولكن لا يستشعر النية، وإنما هو بواقع الجبلة يفعل هذه الأفعال ولا يستشعر نية التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-، فهل يؤجر على هذا؟

فعل العبادات المحضة إذا استحضرها في أول الأمر، وأن هذا عملٌ مقربٌ إلى الله -سبحانه وتعالى- يؤجر عليه وعلى مفرداته ولم يستحضر في جميع المفردات، تكفيه النية العامة، لكن العبادات الخاصة كل عبادة منها تحتاج إلى نية ((ولكلِّ امرئ ما نوى)) من أحسن إلى والديه يريد بذلك وجه الله -سبحانه وتعالى- والدار الآخرة له ما نوى، لكن من أحسن إليهما مكافأة لهما ولم يستحضر أن الله -سبحانه وتعالى- أمره بذلك ولا كلفه بذلك، بل لمجرد المكافأة يحصل له ما نواه ولا يحصل له شيءٌ من الأجر، بعض الناس قد يفعل؛ لأن بر الوالدين والإحسان إلى الغير من الجيران وغيرهم على درجات، والناس معطى ومحروم، من يستحضر النية في كل صغيرة وكبيرة هذا ممن أراد الله -سبحانه وتعالى- به خيراً، منهم من يرى أن ذلك مكافأة، أقل في الأجر، لا شك أن ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)) يدخل تحت هذا الخبر ما يؤجر عليه الإنسان، يلي ذلك مرتبة ثالثة وهي أن يفعل ذلك رياءً وسمعة، ليقال: هذا بار بوالديه، وهذا يحسن إلى جيرانه، وهذا يفعل، وهذا عنده من صنائع المعروف ما عنده، هذا يأثم -نسأل الله السلامة والعافية-، ففعل مثل هذه الأشياء على درجات، والأمور بمقاصدها. طالب: أحسن الله إليكم، في المقابل قد يطلب بعض الناس أو بعض طلبة العلم بعض العلوم التي ليست من العلوم الشرعية مثل علم النحو، وإنما يطلب ذلك من أجل فهم كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

هذا يندرج، نعم يؤجر على ذلك يندرج تحته القاعدة العامة الأمور بمقاصدها، والوسائل لها أحكام المقاصد، ولا يمكن فهم الكتاب والسنة إلا من خلال العربية، علماً بأن المقاصد نفسها دخلت في العربية، والنيات حتى أثرت في علم العربية، هناك ما يختلف فيه الإعراب تبعاً للقصد والنية، فمثلاً قبل وبعد والجهات الست {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [(4) سورة الروم] مبني على الضم لماذا؟ لأن المضاف إليه محذوف مع أنه منوي، مع نية المضاف، وهنا يبنى على الضم، لكن لو حذف المضاف إليه مع عدم قصده ونيته فإنه يعرب مع التنوين، فأثر القصد في البناء والإعراب، أيضاً قول الأعمى: يا رجلاً خذ بيدي، لا يقصد رجل بعينه، يعرب وينصب وينون، لكن لو قصد رجلاً بعينه لقال: يا رجلُ خذ بيدي، فأثر القصد حتى في الإعراب، فهذا الحديث وهذه القاعدة الكلية الأمور بمقاصدها قاعدةٌ عامة مؤثرة في كثير من العلوم وفي كثيرٍ من الأشياء، ولذا عظم أهل العلم هذا الحديث، ورفعوا من شأنه وأشادوا به. المقدم: أحسن الله إليكم، يعاني الكثير من معالجة أمر النية معاناة شديدة، حتى أن بعضهم ربما أحجم عن بعض الأعمال الصالحة التي اعتاد عليها خوفاً من أن يقع في الرياء أمام الناس، وهذا ينتشر كثيراً حتى بين النساء مع الأسف، هل من توجيه حيال هذا الأمر؟

هذا يوجد كثيراً، وهو فيمن يطلب العلم أظهر، يطلب العلم النظامي، الطلاب في الأقسام الشرعية يرد منهم الأسئلة كثيراً في دخول أو وجود الخلل في النية، يقول القائل منهم: نحن نطلب العلم الشرعي في قسم الشريعة في قسم السنة في قسم القرآن وغيرها من الأقسام الشرعية، ونصب أعيننا التخرج والوظيفة وبناء الأسرة وما أشبه ذلك، ولا نستطيع أن نتخلص من هذه الأمور، عالجنا أنفسنا فلم نستطع، فهل العلاج في ترك طلب العلم الشرعي؟ لا، عليه أن يواصل طلب العلم الشرعي، كما أن عليه أن يعالج نيته، ويصدق اللجأ إلى الله -سبحانه وتعالى- في طلبه تخليص نيته من جميع الشوائب؛ لأن العلم الشرعي عبادة محضة من علوم الآخرة لا يجوز التشريك فيها، والله -سبحانه وتعالى- إذا علم صدق النية أعان العبد على ما يريده بإذن الله -سبحانه وتعالى-، فليس الترك علاج، لا ترك النوافل ولا ترك طلب العلم ليس هو العلاج، وإنما العلاج الجهاد، مجاهدة النفس، وتحسس النية، وتعهد القلب؛ لأن النية شرود، والقلب سريع الالتفات إذا لم يتعاهد، يتعاهد في كل لحظة فإنه يشرد بصاحبه إما بغفلة أو تشريك أو شبه ذلك. المقدم: قال -رحمه الله-: عن عائشة -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام -رضي الله عنه- سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أحياناً يأتني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليه، فيفصم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول)) قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيقصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً".

في شرح الحديث الثاني من أحاديث المختصر، تروي الحديث عائشة -رضي الله عنها- أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق أبي بكر، أحب النساء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بنت أحب الرجال إليه، وعن الحارث بن هشام المخزومي أحد فضلاء الصحابة ممن أسلم يوم الفتح، واستشهد في فتوح الشام سنة (15هـ)، والحديث ترويه عائشة -رضي الله عنها- عن الحارث أو عن قصة الحارث، ففي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولا فرق بين السند المؤنن كما هنا: أن الحارث بن هشام وبين السند المعنعن كما فيما لو قالت: عن الحارث بن هشام، فحكم (أن) حكم (عن) عند جمهور العلماء، وإن كان سياق القصة يدل على أن عائشة تروي القصة مع احتمال أن تكون حضرة السؤال، واحتمال آخر أن تكون لم تحضر هذا السؤال، وإنما تنقله عن الحارث بن هشام إما مباشرة أو بواسطة، فالحديث يحتمل أن تكون عائشة حضرت السؤال والجواب فيكون من مسندها، وعلى هذا مشى أصحاب الأطراف كالمزي حيث ذكره في مسندها في الجزء الثاني عشر صفحة (193) ويحتمل أن يكون الحارث بن هشام أخبرها بذلك فيكون الحديث من مراسيل الصحابة، وهو موصول عند جماهير العلماء، كما قال الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-: أما الذي أرسله الصحابي ... فحكمه الوصل على الصوابِ ونقل عليه الاتفاق، وإن خالف في ذلك أبو إسحاق الإسفرايني فزعم أن مراسيل الصحابة كمراسيل غيرهم، لكن لم يلتفت أهل العلم إلى هذا القول، فنقلوا عليه الاتفاق، فمرسل الصحابي في حكم الموصول، وقد جاء ما يؤيد الثاني، ففي مسند الإمام أحمد -رحمه الله- من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قالت: سأل .. وعامر فيه ضعف؛ لكن له متابعٌ عند ابن مندة؛ قاله الحافظ -رحمه الله- ابن حجر. على كل حال سواءٌ قلنا: أنه متصل، وأن عائشة شهدت السؤال والجواب، أو لم تشهد السؤال والجواب فبلغها عن الحارث نفسه، فيكون من مرسل الصحابي، ومرسل الصحابي حكمه حكم الموصول، ولا فرق. مناسبة الحديث للترجمة المناسبة ظاهرة، حيث كان السؤال عن صفة الوحي، وكيفية مجيئه بواسطة حامله، فالمناسبة ظاهرة.

في متن الحديث يقول في سؤاله: "كيف يأتيك الوحي؟ " يحتمل أن يكون السؤال عن صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون عن صفة حامله، أو ما هو أعم من ذلك، يكون السؤال عن الوحي وحامله أيضاً، يقول ابن حجر: وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز؛ لأنه قال: كيف يأتيك الوحي؟ والوحي معنىً من المعاني إسناد الإتيان إليه مجاز. أقول: لا حاجة إلى ادعاء المجاز هنا؛ لأن من جيء به فقد جاء، ومن حج به فقد حج، يعني لو شخص حج به أبوه ألا يمكن أن يقال: حج فلان وسقطت عنه الفريضة؟ فمن جيء به فقد جاء حقيقة، كمن حُج به فقد حج حقيقة، فلا حاجة إلى ادعاء المجاز هنا على النزاع المعروف عند أهل العلم في وقوع المجاز في لغة العرب عموماً، أو في نفيه عن النصوص الشرعية على وجه الخصوص. قوله -عليه الصلاة والسلام- في الجواب: "أحياناً" جمع حين، والحين يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، وانتصابه على الظرفية، وعامله (يأتيني) مؤخرٌ عنه، أي يأتيه الوحي أحياناً، والتقدير في أحياناً، فكأنه قال: أوقاتاً، "يأتيني مثل" مفعول مطلق، أي إتياناً مثل أو حال، أو أي إتياناً مشبهاً حال كونه مشبهاً.

"صلصلة الجرس" الجرس الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب لتسرع في السير، و (الصلصلة) صوت الملك بالوحي، وقيل: صوت حفيف أجنحة الملك، وهي في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوتٍ له طنين، وقيل: هو صوت متدارِك لا يدرك في أول وهلة، والحكمة في تقدم الصوت أن يقرع سمعه -عليه الصلاة والسلام- الوحي، فلا يبقى فيه متسعٌ لغيره، فإن قيل -وهذا إشكال-: كيف شبه الوحي وهو محمود بالجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه؟! ففي صحيح مسلم: ((الجرس مزمار الشيطان)) عن أبي هريرة، وفيه أيضاً: ((لا تصحب الملائكة رفقةً فيها كلبٌ ولا جرس)) وفي سنن أبي داود: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس)) وجاء غير ذلك من الأحاديث مما يدل على ذم اتخاذ الجرس، فالوحي محمود والجرس مذموم فكيف يشبه المحمود بالمذموم؟! أجيب عن ذلك بأنه: لا يلزم من التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في جميع صفاته، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالصوت يعني صوت الجرس له جهتان: جهة قوة وجهة طنين وإطراب، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطنين والإطراب وقع التنفير عنه، كما جاء تشبيه رؤية الباري -سبحانه وتعالى- يوم القيامة برؤية القمر ليلة البدر، فالمراد تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، ومثله النهي عن مشابهة البعير في بروكه مع أمره -عليه الصلاة والسلام- بوضع اليدين قبل الركبتين، يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه)) هل هناك تنافر بين الجملتين؟ لا تنافر بينهما، فالمنهي عنه النزول على الأرض بقوة مشابهة للبعير في بروكه حينما يثير الغبار ويفرق الحصا، لا من جهة تقديم اليدين على الركبتين ووضعهما فقط، وفرقٌ بين مجرد الوضع والبروك، فرق بين مجرد وضع اليدين قبل الركبتين وبين البروك. المقدم: الحديث -أحسن الله إليكم- مرة أخرى حديث النهي عن البروك. جاء النهي في السنن –وهو حديث صحيح- عن مشابهة البعير في بروكه ((إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع)) اللام لام الأمر ((وليضع يديه قبل ركبتيه)). المقدم: هذا من قوله -عليه الصلاة والسلام-؟

من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((وليضع يديه قبل ركبتيه)). المقدم: ليس من إدراج الراوي؟ ليس من إدراج الراوي، وليس فيه قلب كما يزعم بعضهم، بل الحديث ملتصق، بعض أهل العلم لما رأى أن البعير يبرك فيقدم يديه قبل ركبتيه قال: انقلب على الراوي؛ لأن وضع اليدين هو بروك البعير، نقول: لا، بروك البعير هو نزوله على الأرض بقوة، فلا يقال: برك البعير وحصص البعير حتى ينزل على الأرض بقوة فيثير الغبار ويفرق الحصا، وإلا لو قدم ركبتيه قبل يديه أشبه غير البعير من الحيوانات، أشبه الحمار مثلاً، لا من هذه الحيثية النهي ((لا يبرك كما يبرك البعير)) يعني ينزل على الأرض بقوة، وصدر الحديث موافق لعجزه، والأمر بوضع اليدين ((وليضع)) مجرد وضع، فرقٌ بين أن تضع المصحف على الأرض وبين أن تلقيه على الأرض وترميه على الأرض، أو وضع الشيء عموماً على الأرض وإلقاءه على الأرض، هو مرده إلى الأرض لكن فرقٌ بينهما، وضع المصحف على الأرض جائز عند أهل العلم لكن إلقاؤه على الأرض خطرٌ عظيم، فرقٌ بينهما، ولذا قال: ((وليضع يديه قبل ركبتيه)) فالنهي عن مشابهة البعير من وجه دون وجه، إذا علم هذا فما ورد في ذم الجرس صحيح لا مرية فيه. طالب: يعني السنة الآن يقدم يديه؟ هذا هو الظاهر؛ لأن الحديث أرجح من حديث وائل، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه. طالب: ما يكون النهي عن صفة البروك كبروك البعير لا على ما يبرك عليه؟ النهي عن مشابهة البعير في النزول على الأرض بقوة؛ ولذا قال: ((وليضع يديه قبل ركبتيه)) وله شاهد من حديث ابن عمر وغيره. المقصود أن الخلاف الذي حصل حصل في فهم الحديث، الذي ادعى أن الحديث انقلب على الراوي قال: هذا تناقض، كيف يقول: ((لا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه))؟ هذا بروك البعير، نقول: لا، ليس هذا بروك البعير، بروك البعير إذا نزل على الأرض بقوة أثار الغبار وفرق الحصار، وتسمعون أنتم بعض الناس ينزل على الأرض بقوة، والناس إذا ما الإنسان وقع إما مريض وإلا كبير سن وإلا شيء ونزل على الأرض بقوة يقولون: برك، الرجل برك.

المقدم: لكن فرق بين قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((كما يبرك)) لو قال: على ما يبرك يختلف المعنى تماماً؟ نعم نعم، على كل حال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: كلاهما سنة، سواءٌ قدم يديه أو قدم ركبتيه لا فرق، والمسألة معروفة عند أهل العلم، وهي مسألة اجتهادية، فلا ينبغي التشديد في مثل هذا، إذا علم هذا فما ورد في ذم الجرس صحيح لا مرية فيه، فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في مثل هذا، وإن عمت به البلوى وتساهل به الناس، ووجد بينهم من غير نكير، لكن إيثار مراد الله ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام- أولى على حظوظ النفس، وأولى من متابعة الناس وتقليدهم، فطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مقدمةٌ على كل اعتبار. فعلى المسلم أن يحتاط لدينه، وما نراه ونسمعه من كثيرٍ من الناس ممن ابتلي بسماع الأغاني والمزامير من اختيار بعض النغمات المثيرة في مثل الهاتف والجوال وأجراس البيوت عليهم التوبة والإقلاع والندم واستبدال ذلك مما يمكن استعماله من غير ارتكاب محظور، ومن المؤسف من الأسف الشديد نرى استعمال مثل هذه الأصوات، ومثل هذه النغمات الموسيقية في مواطن العبادة كالمساجد وحلق العلم وأحياناً في المطاف، كثيراً ما نسمع في المساجد أثناء الصلاة مما يشوش على المصلين وفي المطاف وغيرها من الأماكن الفاضلة مثل هذه النغمات، على المسلم أن يحتاط لدينه، شخص يأتي لابتغاء ما عند الله من ثواب، ويرتكب في الوقت نفسه محظور، فعلى المسلم أن ينتبه لمثل هذا، ويهتم به. روى الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه صلصلة على صفوان، فإذا فزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير)) الحديث. فقوله: ((صلصلة على صفوان)) هو مثل قوله: ((صلصلة الجرس)) هنا، وهو صوت الملك بالوحي، والمشبه قول المسموع.

قوله: ((وهو أشده علي)) يعني أشد أنواع الوحي، ويفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذا النوع أشد، وهو واضح؛ لأن الفهم من كلامٍ مثل الصلصلة أشد من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، لا شك أن الفهم من الكلام الذي يشبه صلصلة الجرس أشد من فهم الكلام الذي يتمثل فيه الملك رجلاً فيخاطبه بالكلام المعهود بين الرجال، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى له -عليه الصلاة والسلام-، ورفع الدرجات، والظاهر أن ذلك لا يختص بالقرآن، كما في حديث لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج، فإن فيه أنه رآه -صلى الله عليه وسلم- حال نزول الوحي عليه، وإنه ليغط، يعني من شدة ما يلقى -عليه الصلاة والسلام-، وهذا من السنة فالسنة وحي؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى. قوله: ((فيفصم عني)) يفصم مضارع فصم، يفصم من باب ضرب، والمراد قطع الشدة أن يقلع وينجلي ما يغشاني من الكرب والشدة، ويروى بضم الياء يُفصم من الرباعي، يقال: أفصم المطر إذا أقلع، وأصل الفصم القطع، ومنه قوله تعالى: {لاَ انفِصَامَ لَهَا} [(256) سورة البقرة] وقيل: الفصم بالفاء القطع بلا إبانة، وبالقاف القطع بإبانة، فذكر الفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود؛ لأن الفصم قطعٌ بلا إبانة، بخلاف القصم الذي هو القطع بإبانة، فذكر الفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العُلقة. قوله: ((وقد وعيتُ)) أي فهمت وحفظتُ ((عنه)) أي عن الملك ((ما قال)) أي القول الذي قاله.

وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى عن الوحيد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [(11) سورة المدثر] ماذا قال؟ هذا تعبير يعبر به شيخ الإسلام كثيراً إذا أراد أن يسوق هذه الآية قال: هي قول الوحيد، قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [(25) سورة المدثر] أقول: إسناد الوحي إلى قول الملك (أعي عنه ما قال) إسناده إلى الملك لا معارضة بينه وبين قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [(25) سورة المدثر] لأن الكفار كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به، وتارة -الوحي- ينسب إلى الملك وتارة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكل ذلك بلفظ الرسول، ففي سورة الحاقة يقول الله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [(40) سورة الحاقة] ما قال لقول ملك كريم أو قول رجل كريم، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [(40) سورة الحاقة] يعني محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونلاحظ التعبير برسول، وفي سورة التكوير قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [(19 - 20) سورة التكوير] يعني جبريل -عليه السلام-، وأضافهما إليه بلفظ الرسالة على معنى التبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل كما أفاده شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- والحافظ ابن كثير في تفسيره، في شرح الشيخ عبد الله الشرقاوي المسمى (فتح المبدي) قال: "وسماع الملك وغيره من الله تعالى ليس بحرفٍ ولا صوت، بل يخلق الله للسامع علماً ضرورياً، فكما أن كلامه تعالى ليس من جنس كلام البشر فسماعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سماع الأصوات" والصحيح أن الله -سبحانه وتعالى- يتكلم بصوتٍ وحرفٍ يسمع، كما قرره علماء الإسلام، مع اعتقاد عدم المشابهة بين الخالق والمخلوق، بل كما يليق بجلاله -سبحانه وتعالى- وعظمته، وفي عون الباري للصديق حسن خان يقول: "وفي الباب أحاديث تدل على أن العلم بكيفية الوحي سرٌ من الأسرار التي لا يدركها العقل، وفيه: دلالة على أن سماع الملك وغيره من الله تعالى يكون بحرفٍ وصوت يليق بشأنه سبحانه، وقد دلت الأحاديث

الصحيحة الكثيرة على ذلك خلافاً لمن أنكره فراراً عن التشبيه، وأوله بخلق الله للسامع علماً ضرورياً، والسنة المطهرة ترده كما هو مقررٌ في محله". هذا نوع من أنواع الوحي، والنوع الآخر هو ما أشار إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((وأحياناً يتمثل)) أي يتصور ((لي)) أي لأجلي، فاللام تعليلية، وفي رواية: ((إليَّ)) والتمثل مشتق من المثل، ((الملك)) اللام للعهد، أي جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((كان الوحي يأتيني على وحيين)) يأتيني به جبريل فيلقيه عليَّ كما يلقي الرجل على الرجل، ((رجلاً)) منصوباً على المصدرية، أي يتمثل مثل رجل، أو تمييز أو حال، وقد جاء الملك على صورة دحية الكلبي جاء الملك على صورة دحية بن خليفة الكلبي، وذكر في الشروح من جماله من ذكر، حتى أنه كان يمشي بين الناس متلثماً؛ لئلا يفتتن به، المتكلمون يزعمون أن الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل في أي شكل أرادوا. المقدم: ضبط الصحابي -أحسن الله إليكم- يا شيخ دِحية؟ دِحية نعم.

وبعض الفلاسفة يزعم أنها جواهر روحانية، وعلى كل حال الإيمان بالملائكة ركنٌ من أركان الإيمان، نؤمن بهم على ما بلغنا عنهم في الكتاب والسنة، ونعتقد أن لله ملائكة مطهرين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، يقول ابن حجر: الحق أن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيثاً لمن يخاطبه، والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط، والله أعلم، وذلك بعد أن نقل عدة أقوال لبعض أهل العلم، الزائد من خلق جبريل الذي يسد الأفق وله ستمائة جناح يأتي على صورة رجل، منهم من يقول: يفنى، ومنهم من يقول: يزول ثم يعود، كل هذا لا دليل عليه، القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي، لا يمنع أن يكون الرسول -عليه الصلاة والسلام- يراه على صورة رجل وعلى هيئة رجل كما رآه الصحابة -رضوان الله عليهم- في حديث عمر وغيره وأبو هريرة وغيرهما حينما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، رأوه على صورة رجل، وجاء ذكره في الأحاديث الصحيحة على هذه الكيفية. طالب: في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [(51) سورة الشورى] وحياً أول أقسامه، هذا كأنه من غير طريق الملك؟ هناك من أقسام الوحي ما يأتي ذكره؛ لأن الحديث حصر الوحي في نوعين، ويأتي في الكلام على الحديث أنواع أخرى -إن شاء الله تعالى-، فالحصر غير مفهوم، سيأتي -إن شاء الله تعالى-. طالب: في قوله: ((مثل صلصلة الجرس)) يعني التشبيه هنا من حيث التتابع والقوة لا من حيث. . . . . . . . .؟ نعم، من حيث القوة نعم لا من حيث الإطراب والطنين كما ذكرنا.

وقفنا عند قوله في الحديث: ((فيكلمني)) كذا للأكثر، ووقع عند البيهقي: ((فيعلمني)) بالعين بدل الكاف، والظاهر أنها بتصحيف كما قال ابن حجر، قوله: ((فأعي ما يقول)) أي القول الذي يقوله، ووقع التغاير في فهم النوعين، فقال في النوع الأول: ((وعيتُ)) ((فيفصم عني وقد وعيتُ)) بلفظ الماضي، وفي الثاني قال: ((فأعي ما يقول)) بلفظ المضارع؛ لأن الوعي والفهم والحفظ حصل قبل الفصم، ولا يتصور بعده، هذا بالنسبة للنوع الأول.

وفي الثاني يحصل حال المكالمة ولا يتصور قبلها، فرق بين ((وعيت)) إذا جاءه مثل صلصلة الجرس، إذا انتهى فإذا النبي -عليه الصلاة والسلام- قد وعى حتى حفظ ما قاله، وفي الثاني يقول: ((أعي)) يعني حال المكالمة، هذا الثاني يحصل حال المكالمة ولا يتصور قبلها، يقول: وقع التغاير في فهم النوعين فقال في الأول: ((وعيت)) بلفظ الماضي، وفي الثاني قال: ((فأعي)) بلفظ المضارع؛ لأن الوعي والفهم والحفظ حصل قبل الفصم في النوع الأول، ولا يتصور بعده، وفي النوع الثاني يحصل حال المكالمة ولا يتصور قبلها، يعني إذا حددنا فيها ظهر معناها، في النوع الأول الذي هو مثل صلصلة الجرس، إذا انتهت هذه الصلصلة لا تنتهي إلا والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد وعى ما قال، في الحال الثانية حينما يتمثل له الملك رجلاً فيكلمه كما يخاطبه الرجال يكلمه فيعي، يقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ((فأعي)) بصيغة المضارع، أعي حال المكالمة، هناك ما تنتهي العملية التي مثل صلصلة الجرس حتى يكون الرسول قد وعى وانتهى، وهنا حال المكالمة (يعي) بلفظ المضارع، ولا يتصور قبلها، ومفهوم الحصر في الحديث حصر الوحي في النوعين المذكورين غير مراد؛ لأن للوحي أنواعاً أخر، إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع والإلهام والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة، وإما من صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض، وقد سد الأفق، يقول ابن حجر: "الجواب: منع الحصر في الحالتين المذكورتين، وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لنذورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، ولم يأتِ في تلك الحالة أو لم يأتِ بتلك الحالة بوحي أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس، ما الذي يمنع أن يكون على هيئته له ستمائة جناح وجاء عليه مثل صلصلة الجرس فيدخل في النوع الأول في الحديث؟.

وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس؛ لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر: "يسمع عنده كدوي النحل"، والصلصلة بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفث في روعه، فلا تنافي ولا تضاد، وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه؛ لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذلك التكليم ليلة الإسراء لا يدخل، لا يدخل في السؤال؛ لأن السؤال وقع عن كيفية مجيء الوحي الذي يحمل، وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: "لا ترد"؛ لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس؛ لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره، والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءً من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً، لا سيما إذا رأى رؤيا صالحة 46 مرة، نقول: أخذ النبوة كلها، إذا قلنا: أن الجزء بمعنى حقيقة النبوة جزء من حقيقة النبوة، فإذا اجتمعت هذه الأجزاء صار نبيناً كاملاً، وهذا غير مراد، إنما هي مشبهة للنبوة في صدقها، يحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة فلا يشمل ما يجيء في المنام، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي كما هو معروف، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل فاقتصر على ما يخفى عليه. قالت عائشة -رضي الله عنها- قال ابن حجر: "هو بالإسناد الذي قبله" ما قال: وقالت عائشة، يقول: "وهو بالإسناد الذي قبله" يعني موصول بالإسناد الذي قبله وليس معلقاً، يقول: "وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف غيره كثيراً" يقول: "وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف"، وتعقبه العيني بأنه لم يقم دليلاً على قوله، لا شك أن كلام الحافظ -رحمه الله تعالى- أغلبي، وقد جاء في الصحيح التعليق بدون حرف العطف في مواضع من الصحيح، كما أنه جاء بحرف العطف من غير تعليق في الإسناد السابق، لكن كلام الحافظ -رحمه الله تعالى- أغلبي.

ونكتة الاقتطاع هنا اختلاف التحمل، قد يقول قائل: لماذا أفرد قول عائشة هنا؟ والحديث كله مروي عن عائشة؟ ما ألحق بهذه الجملة ألحق بالحديث كله؟ لما قال: ((فأعي ما يقول)) لماذا ما قال مباشرة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد إلى آخره؟ إنما قال: قالت عائشة لماذا؟ نكتة الاقتطاع هنا -يعني فصل الخبر الثاني عن الأول- اختلاف التحمل؛ لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييداً للخبر الأول. تقول -رضي الله عنها-: "ولقد رأيته" تعني النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا مقول عائشة، والواو للقسم واللام للتأكيد أي: والله لقد أبصرته "يَنزل" بفتح أوله وكسر ثالثه من الثلاثي، وفي رواية أبي ذر والأصيلي: "يُنزلُ" بالضم والفتح، " عليه -صلى الله عليه وسلم- الوحي في اليوم الشديد البرد" الشديد صفة جرت على غير ما هي له، الأصل أن الصفة تتبع الموصوف، هنا صفة الشديد صفة لليوم في الإعراب، هي تابعةً له في الإعراب، في اليوم الشديد، لكنها من حيث المعنى هي صفةٌ للبرد لا لليوم، فهي من حيث الإعراب وصف لليوم، ومن حيث المعنى وصف للبرد، هل اليوم هو الشديد أو البرد هو الشديد؟ المقدم: البرد هو الشديد. البرد هو الشديد، فهي من حيث الإعراب تابعة لليوم ومن حيث المعنى تابعة للبرد، وفيه دلالة على كثرة معاناته -صلى الله عليه وسلم- بالتعب والكرب عند نزول الوحي لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد. ((فيَفصمُ عنه)) أي يقلع، أو ((فيُفصمُ عنه)) في بعض الروايات أي يقلع، ((وإن جبينه يتفصد)) الجبين فوق الصفد، والصفد ما بين العين والأذن، وللإنسان جبينان يكتنفان الجبهة، والمراد جبيناه معاً، والإفراد يجوز أن يعاقب التثنية، يعني يأتي الإفراد ويراد به التثنية، والإفراد يجوز أن يعاقب التثنية في كل اثنين يغني أحدهما عن الآخر كالعينين والأذنين، يعني إذا قلت: فلان واسع العين، تريد واحدة وإلا الثنتين؟ المقدم: الثنتين.

نعم، كبير الأذن، تريد الواحدة ولا اثنتين؟ لا، تريد اثنتين، ومن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)) وفي الرواية الأخرى: ((عاتقيه)) يفسر المراد، ((ليتفصد)) بالصاد المهملة المشددة أي يسيل، مأخوذٌ من الفصد، وهو قطع العرق بإسالة الدم، شبه جبينه المبارك -عليه الصلاة والسلام- بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق، ((عرَقاً)) بفتح الراء رشح الجلد، وإنما كان ذلك ليبلى صبره -عليه الصلاة والسلام- فيرتاض لاحتمال ما كلف من أعباء النبوة، وهو منصوبٌ على التمييز. الحديث مشتمل على فوائد كثيرة جداً، لكن منها أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، الحارث ابن هشام سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- كيف يأتيه الوحي؟ هل نقول: لأن الحارث شك؟ لا، طلباً للطمأنينة كما سأل إبراهيم -عليه السلام- ربه -عز وجل-: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى} [(260) سورة البقرة] فلا يقدح في يقين إبراهيم، ولذا جاء في الحديث الصحيح من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم)) ما شك إبراهيم -عليه السلام-. فالسؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، ولذلك جواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل، ينتبه لبقية الأقسام. وفيه إثبات الملائكة خلافاً لمن أنكرهم من الملاحدة والفلاسفة، وأن لهم قدرةً على التشكل، ولا شك أن الإيمان بالملائكة ركنٌ من أركان الإيمان كما هو معروف، والحديث مخرج في الصحيح في البخاري في موضعين: الأول: في بدء الوحي والمناسبة ظاهرة كما تقدم، والثاني: في بدء الخلق في باب ذكر الملائكة، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا فروة قال: حدثنا عليٌ بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره، لكن بدون قول عائشة: ولقد رأيته إلى آخره.

في بدء الخلق باب ذكر الملائكة المناسبة ظاهرة من قوله: ((وأحياناً يتمثل لي الملك)) ومن قوله: ((وأحياناً يأتي مثل صلصلة الجرس)) يعني مع الملك الذي يحمله، وأظهر منه قوله في الشق الثاني: ((وأحياناً يأتيني أو يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول)). أخرجه أيضاً الإمام مسلم في الفضائل في باب عرق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالحديث متفق عليه، ومعنى كون الحديث متفقاً عليه أن يكون مخرج في الصحيحين من طريقٍ راوٍ واحد عن صحابيٍ واحد، أما إذا كان في البخاري عن صحابي ومسلم عن صحابي آخر، ولو اتحد اللفظ فإنه لا يسمى حينئذٍ متفقٌ عليه، وأخرجه أيضاً الإمام مالك في القرآن باب ما جاء في القرآن، وأخرجه الترمذي في المناقب والنسائي في الافتتاح: باب جمع ما جاء في القرآن. المقدم: أحسن الله إليكم، بعد هذا البيان من خلال الحديث وما تفضلتم به من ذكر بعض ألفاظه، لم يمر بنا حتى الآن أي حديث حذفه المختصر يا شيخ؟ إلى الآن نعم، لم يرد مكرر إلى الآن. المقدم: هل هناك منهج للبخاري -رحمه الله- في ترتيب الأحاديث، بمعنى ما دام الآن في كتاب بدء الوحي لماذا لم يقدم حديث عائشة أول ما بدئ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوحي هو الرؤيا الصالحة، ثم ذكرت بداية الوحي، ألم يكن هذا الحديث هو الأحق أن يبدأ به قبل حديث الحارث؟ مما قيل في ذلك: أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرج حديث (الأعمال بالنيات) عن شيخه الحميدي وهو مكي، ثم ثنى بحديث عائشة الثاني؛ لأنه من طريق مالك وهو مدني، فقدم مكة ثم المدينة، من أجل هذا قدم الحديث على حديث عائشة أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة أو الصالحة على ما سيأتي، هذا مما قيل، وعلى كل حال هذا وقع في الصحيح، ومناسبة الحديث للباب ظاهرة، وكونها من الدقة بحيث تكون مائة بالمائة لا يلزم؛ لأنه المقصود العلم وقد حصل، وحفظ السنة يحصل بهذه الكيفية. طالب: ذكرتم فضيلة الشيخ حديث: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم)) فهل يعني هذا أن إبراهيم -عليه السلام- أفضل من نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ لو فصلتم في هذا فضيلة الشيخ.

الحديث كما في الصحيح يقول -عليه الصلاة والسلام-: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم .... ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي)) هذا من الأحاديث التي في ظاهرها الإشكال، لكنها ليست بمشكلة عند أهل العلم، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- حينما قال: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم)) قاله على جهة التواضع، والهضم من حقه، والرفع من شأن إبراهيم-عليه السلام-؛ لئلا يتطاول بعض السفهاء فيقول: إن إبراهيم شك، فأراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يرفع هذا الاحتمال من قلوب الناس، ((ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد)) حينما قال: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [(80) سورة هود] ومراده بذلك من بني جنسه وقومه وعشيرته، وقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد، وهو الله -سبحانه وتعالى-. ((ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف)) لبث بضع سنين يوسف، وما في شك أن النفس مجبولة على حب الحرية والخروج من السجن، وقاله النبي -عليه الصلاة والسلام- لرفع شأن يوسف ووصفه بالأناة لتبرأ ساحته وتظهر براءته للناس كلهم، لما جاءه الداعي قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [(50) سورة يوسف] غير يوسف لو جاءه الداعي خرج مباشرةً، أقول: غير يوسف -عليه السلام- لو جاءه الداعي الذي يطلبه إلى الملك أو العزيز خرج مباشرة، لكن يريد أن تبرأ ساحته من كل وجه، ويعرف ذلك الخاص والعام، أراد أن يقول له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [(50) سورة يوسف] لتظهر براءته للناس كلهم. طالب: هل مثل هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تفضلوني على يونس بن متى))؟

هو مثله نعم، التفضيل بين الأنبياء جاء منعه، جاء النهي عن التفضيل بين الأنبياء، والمراد به التفضيل الذي يتضمن التنقص، فيونس بن متى حصل منه ما حصل، مما يجعل بعض السفهاء يتطاول عليه، ويقع فيه، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- أراد أن يقطع مثل هذه التصرفات من السفهاء، فقال: ((لا تفضلوني على يونس)) وفي رواية: ((لا تفضلوا بين الأنبياء)) والرسول -عليه الصلاة والسلام- أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم، لكن يقول هذا -عليه الصلاة والسلام- للمحافظة على حقوق الأنبياء، وعدم التطاول عليهم. المقدم: هل يفهم من هذا -يا شيخ- أن الإيمان في مسائل الغيب ربما يكون عند بعض الناس أقل من الإيمان في مسائل الشهادة؟ لا شك أنه ليس الخبر كالمعاينة، ولذا لما أخبر الله -سبحانه وتعالى- موسى -عليه السلام- أن قومه عبدوا العجل ما كان تصرفه مثل تصرفه لما رآهم عياناً، ألقى الألواح لما رآهم معاينة، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، يختلف التصرف وإن كان الخبر خبر صدق لا يحتمل النقيض لكن المعاينة تختلف عن الخبر، وإن كان الخبر صادقاً لا يحتمل النقيض بوجهٍ من الوجوه. المقدم: لكن لا يمكن أن يقال: أن إيمان إبراهيم -عليه السلام- في هذه الجزئية كان ناقصاً بأي حال من الأحوال؟ أبداً أبداً بأي حال من الأحوال. المقدم: نعم، عندنا أيضاً أسئلة تفضلوا. طالب: يا شيخ ذكرتم الفرق بين قولنا: متفقٌ عليه، وبين ما رواه البخاري ومسلم مثلاً، فهل هذا التفريق متفقٌ عليه بين المحدثين؟ الحديث يكون واحداً إذا كان عن صحابي واحد، ولو اختلف اللفظ، فيتفق عليه بين الشيخين إذا خرجاه عن طريق صحابي واحد، وإذا كان عن صحابيين فإنه يقال: أخرجه البخاري عن فلان ومسلم عن فلان، المجد بن تيمية جد شيخ الإسلام صاحب المنتقى لا يقول: متفق عليه حتى ينضم إلى الشيخين الإمام أحمد في المسند، فإذا كان الحديث مخرج في المسند والصحيحين من طريقٍ صحابي واحد قال المجد متفق عليه، البغوي في شرح السنة أحياناً يقول: متفق عليه مع اختلاف الصحابي، وهذا اصطلاح خاص به، فيقول: متفق عليه أخرجه محمد عن ابن عمر يعني البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وهذا يختلف عن الاصطلاح السائد المعروف.

المقدم: ومثل متفق على صحته سواء؟ متفق على صحته يعني لم يختلف أحد في صحته، ولو لم يكن في الصحيح، يعني العلماء ما اختلفوا في تصحيح هذا الحديث. المقدم: بخلاف متفقٌ عليه؟ متفق عليه يعني بين الشيخين. المقدم: لكن أيضاً بعض الألفاظ رواه البخاري ومسلم أخرجه الشيخان سواء؟ لا إشكال. المقدم: هذا فقط اختلاف عند المحدثين؟ نعم. طالب: يا شيخ: في متن الحديث لفظ: (وعيت) (وأعي) هل وردت في بعض الروايات بصيغ مختلفة أم أنها بنفس الصيغة التي وردت هنا؟ ظاهر توجيه الشراح بما ذكرناه سابقاً أنه لم يكن هناك اختلاف في ألفاظ الحديث بين رواة الصحيح. المقدم: أحسن الله إليك في حديثكم قبل قليل بالنسبة للسند المؤنئن هل هناك فرق بين السند المؤنئن والمعنعن خصوصاً أننا في المقدمة ذكرنا شيئاً من هذا عندما تفضلتم بشرح خطبة المختصر -رحمه الله-. هنا في حديث الباب تقول عائشة -رضي الله عنها-: أن الحارث ابن هشام سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجاء عنها في المسند عن الحارث بن هشام أنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام-، الأصل أن السند المؤنئن أو المؤنن لا يختلف عن السند المعنعن، ولذا يقول الحافظ العراقي: . . . . . . . . . ... وحكم (أن) حكم (عن) فالجلُ سووا وللقطع نحا البرديجي ... حتى يبين الوصل في التخريجِ وابن الصلاح نقل عن الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة أن هناك فرقاً بين السند المؤنن والسند المعنعن، فالمعنعن على الاتصال والمؤنئن عن الانقطاع، والسبب أنه وقف على حديث محمد بن الحنفية عن عمار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ به، الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة قالا متصل، والرواية الأخرى عن محمد بن الحنفية أن عماراً مرَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: منقطع، فأخذ من هذا أن الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة يفرقان بين المؤنن والمعنعن، لكنه كما قال الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-: . . . . . . . . . ... كذا له ولم يصوب صوبه

يعني ما نظر إلى السبب الحقيقي في الاختلاف بين حكميهما على الحديث بطريقيه، فمحمد بن الحنفية لما قال عن عمار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ به، محمد بن الحنفية يروي عن عمار قصةً حصلت له يرويها عن صاحبه عن صاحب الشأن فهي متصلة، وفي الطريق الآخر الذي قال فيه محمد بن الحنفية أن عماراً به النبي -عليه الصلاة والسلام-، محمد الحنفية يتحدث عن قصةٍ لم يشهدها فحكم عليه بالانقطاع، يعني فرقٌ بين أن نقول: عن فلان من المشايخ عن الشيخ ابن باز أن الشيخ محمد بن إبراهيم قال له، نحن نروي عن الشيخ مباشرة والقصة حصلت له ومتصل، لكن لو قلنا: عن فلان الذي هو شخص متأخر في طبقتنا مثلاً أن الشيخ محمد بن إبراهيم قال للشيخ عبد العزيز مثلاً هذه قصة لم نشهدها فهي منقطعة، فهي تختلف من هذه الحيثية، الشخص إذا نقل القصة عن صاحبها تكون متصلة، لكن إذا تحدث عن قصة لم يشهدها ولو شهد أو أدرك أحد طرفيها ولم ينقل عنه فهذا حكمه حكم الانقطاع، ولذا قال الحافظ العراقي: . . . . . . . . . ... كذا له ولم يصوب صوبه يعني ابن الصلاح ما فهم المقصد من اختلاف الحكمين على الطريقين، وإلا فالأصل أن السند المؤنئن في حكم المعنعن، والحكم عند أهل العلم حكمه الاتصال بالشرطين المعروفين عند أهل العلم أن يكون الراوي بريئاً من وصمة التدليس، وأن يكون قد لقي أو عاصر من روى عنه على الخلاف بين أهل العلم في ذلك.

المقدم: قال -رحمه الله-: باب: عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: أول ما بدئ -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [(1 - 4) سورة العلق] فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: ((زملوني زملوني)) فزملوه، حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة: "كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرئً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت خديجة: "يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: "يا ابن أخي ماذا ترى؟ " فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى، فقال له ورقة: "هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني حياً إذ يخرجك قومك" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أو مخرجي هم؟ )) قال: "نعم لم يأتِ رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدرك يومك أنصرك نصراً مؤزراً" ثم لن ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثالث: عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "أول ما بدئ به -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح". هذا الحديث ترويه عائشة -رضي الله عنها- في قصةٍ حصلت قبل أن تولد، فيحتمل أنه من مراسيل الصحابة؛ لأن عائشة لم تدرك هذه القصة، ومراسيل الصحابة حجة كما تقدم عند جماهير أهل العلم خلافاً لأبي إسحاق الإسفرائيني، لكن الظاهر أن عائشة -رضي الله عنها- سمعت ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقولها فيه: قال: ((فغطني)) فيكون قولها: أول ما بدئ به حكاية ما تلفظ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وحينئذٍ فيكون الحديث موصولاً ولا يكون من المراسيل، ومناسبة الحديث لبدء الوحي ظاهرة جداً: أول ما بدئ به، والباب باب بدء الوحي. وقوله في إسناد الحديث عن البخاري عن عائشة أم المؤمنين، هذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [(6) سورة الأحزاب] أي في الاحترام، وتحريم النكاح، لا في غير ذلك مما اختلف فيه، يعني من الخلوة والسفر ونكاح البنات، وما أشبه ذلك، قال ابن حجر: "وإنما قيل للواحدة: أم المؤمنين للتغليب، وإلا فلا مانع من أن يقال لها: أم المؤمنات على الراجح" يعني كما يقال: أمير المؤمنين أي والمؤمنات، وقال العيني: "وهل يقال عنهن: أمهات المؤمنين؟ فيه خلاف، والأصح أنه لا يقال، بناءً على الأصح أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال، وجاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "أنا أم رجالكم لا أم نسائكم" وقال ابن كثير: "هذا أصح الوجهين" والخبر صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره، والعيني في عمدة القاري.

وهل يقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أبو المؤمنين؟ فيه قولان لأهل العلم، قال العيني: "والأصح الجواز، نص عليه الشافعي وغيره" يعني في الحرمة، ومعنى قوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [(40) سورة الأحزاب] يعني لصلبه، وعن الأستاذ أبي إسحاق أنه لا يقال: أبونا، وإنما يقال: هو كأبينا، لما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم)) والحديث مخرج في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة، وهو حديث بطرقه حسن. "أول ما بدئ" بضم الموحى وكسر الدال "من الوحي" من هذه تبعيضية، أي من أقسام الوحي، وقال القزاز: ليست الرؤيا من الوحي، فعلى هذا تكون (من) لبيان الجنس، يعني كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [(30) سورة الحج] "الرؤيا" فعلى كحبلى مصدر رأى، وجمعها رؤى، والفعل رأى له مصادر تبعاً لمعانيه، تبعاً لمعاني الفعل، فتقول: رأى رؤيا، ورأى رؤيةً يعني ببصره، ورأى رأياً يعني بعقله. "الصالحة" وفي التعبير يعني في كتاب التعبير من صحيح البخاري: "الصادقة" وهي التي ليست فيها ضغث، "في النوم" ذكر هذا لمجرد زيادة الإيضاح والبيان؛ لأن الرؤيا لا تكون إلا في النوم، فهو تصريح لما هو مجرد توضيح، أو لدفع وهم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين، فهي صفةٌ موضحة، أو لأن غيرها يسمى حلماً، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر فيما حكاه البيهقي وغيره، وحينئذٍ يكون ابتداء النبوة بالرؤيا حصل في شهر ربيع، وهو شهر مولده -عليه الصلاة والسلام-، وبهذا يعلم كونها جزءً من ستة وأربعين جزءً من النبوة، إذا كان مدة الرؤيا ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاثٌ وعشرين سنة، الستة الأشهر نصف سنة، والثلاث والعشرين سنة ستة وأربعة نصف، فتكون الرؤيا جزءً من ستة وأربعين جزءً. "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" كرؤياه دخول المسجد الحرام، ووجه الشبه بين الرؤيا وفلق الصبح الوضوح، والفلق هو ضياء الصبح، و (مثل) نصب بمصدر محذوف أي إلا جاءت مجيئاً مثل فلق الصبح، أو نصبت على الحال والتقدير مشبهةً ضياء الصبح.

"ثم حبب إليه الخلاء" الخلاء بالمد مصدر بمعنى الخلوة، أي الاختلاء، وبني حبب بما لم يسم فاعله أي للمجهول لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كلٌ من عند الله -سبحانه وتعالى-، وحببت إليه الخلوة -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن معها يحصل فراغ القلب، والانقطاع عن الخلق؛ ليجد الوحي منه متمكناً كما قيل: . . . . . . . . . ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا لا شك أن القلب الخالي يقبل ما يجيئه لأول مرة، وفي ذلك تنبيهٌ على فضل العزلة؛ لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا وتفرغه لله تعالى، والخلوة أن يخلو عن غيره بربه، والعزلة يأتي بيانُ حكمها، وتفصيل ذلك في شرح حديث: ((يوشك خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال)) من كتاب الإيمان -إن شاء الله تعالى-، ولأهمية هذا الموضوع وما جاء فيه من النصوص التي ظاهرها التعارض نقدم للتوفيق لمثل هذه النصوص بكلامٍ مختصر، ونترك التفصيل في مكانه. العزلة محمودة، جاءت النصوص بمدحها، وجاءت النصوص أيضاً بمدح الخلطة، ومخالطة الناس، والصبر على أذاهم، وشهود الجمع والجماعات، وحضور محافل الناس، وتغيير ما يقع منهم، وتعليم الجاهل، وغير ذلك، فلا شك أن العزلة محمودة بالنسبة لبعض الناس، لا سيما من لا يستطيع أو ليست عنده القدرة على التغيير والتأثير، بل العكس إذا كان ممن يتأثر بغيره، فمثل هذا العزلة في حقه أفضل، بينما بعض الناس الذين لديهم القدرة على التأثير في غيرهم، وهم لا يتأثرون بغيرهم مثل هؤلاء يقال لهم: الخلطة في حقهم أفضل، الذي يستطيع أن يؤثر في الناس، ولا يتأثر هو، هذا يقال له: اختلط بالناس وانفعهم وعلمهم وأرشدهم وأمرهم وانههم، لكن الذي يتأثر ولا يستطيع التأثير مثل هذا يقال له: اعتزل.

"وكان يخلو بغار حراء" الغار هو النقب في الجبل، وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى "فيتحنث فيه" بالحاء وآخره مثلثة، يعني ثاء، وهو التعبد، الضمير هو عائدٌ إلى مصدر يتحنث، يعني التحنث التعبد، وهو من الأفعال التي معناها السلب، أي اجتناب فاعلها لمصدرها، مثل (تأثم وتحوب) إذا اجتنب الإثم والحوب، أو هو بمعنى (يتحنف) بالفاء، أي يتبع الحنيفية ملة إبراهيم -عليه السلام-، والفاء تبدل ثاءً، كما يقال في الأجداث: الأجداف، وقد وقع كذلك بالفاء في رواية ابن هشام في السيرة: (يتحنف) وتفسير (التحنث) مدرجٌ من تفسير الزهري أدرجه في الخبر، كما جزم به الطيبي، وإن لم يذكر دليله، نعم في رواية البخاري في كتاب التفسير في صحيحه ما يدل على الإدراج، حيث قال: قال والتحنث التعبد، يعني قال، والخبر مروي عن عائشة، يعني لو كان سياقه سياق الخبر، ما دام غير وقال: قال، ونسبه إلى مذكر فالإدراج يكون من غيرها. المقدم: وهو ممن يا شيخ؟ من الزهري، الإدراج من الزهري. "الليالي ذوات العدد" أي مع أيامهن اقتصر عليهن للتغليب، يعني اقتصر على الليالي دون الأيام للتغليب؛ لأنهن أنسب للخلوة، ووصف الليالي بذوات العدد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [(20) سورة يوسف] أو للكثرة لاحتياجها للعدد وهو المناسب للمقام، وجاء تحديد المدة بشهر، روى الشيخان: ((جاورت بحراء شهراً)) وعند ابن إسحاق أنه شهر رمضان، و (ذواتِ) بالكسر صفةً لليالي، أما ما يزعمه بعضهم من استحباب الخلوة ... المقدم: عفواً -يا دكتور- في بعض النسخ جاءت: (ذوات العُدد). العُدد؟ لا لا، غير صحيح. طالب:. . . . . . . . .

لا لا، أبداً غير صحيح؛ لأن الطبعة التي معك يا شيخ ناصر، الطبعة العامرة الطبعة التركية، وقد زعم طابعها أنه أخذها بحروفها من إرشاد الساري للقسطلاني، ونعلم جميعاً أن إرشاد الساري اهتم بألفاظ الصحيح، واعتنى به عنايةً فائقة، لكن هذه الطبعة مع كونها لا بأس بها في الجملة لكن فيها أخطاء، وفيها سقط بعض الأحاديث، فليست بأجود الطبعات للصحيح، وإن زعم طابعها أنه أخذها من إرشاد الساري بحروفها، فيها سقط أحاديث، وقفنا فيها على سقط أحاديث. ولم يأتِ التصريح بكيفية تعبده -صلى الله عليه وسلم-، فيحتمل أن عائشة -رضي الله عنها- أطلقت على الخلوة بمجردها تعبداً؛ لأن الانعزال عن الناس لا سيما من كان على باطل من جملة العبادة، فلا شك أن مفارقة العصاة عبادة، إذا قصد بهذه المفارقة مفارقة مشاهدة العصاة والمعاصي، بهذه النية تنقلب إلى عبادة، كما أن النوم للتخلص من بعض الأعمال المحرمة والمكروهة يكون عبادة، كما أنه يكون عبادة أيضاً إذا استعين به على طاعة الله -سبحانه وتعالى-، وقيل: يتعبد بالتفكر. "قبل أن ينزع إلى أهله" ينزع بفتح أوله وكسر الزاي، أي يحن ويشتاق ويرجع "ويتزودُ لذلك" برفع الدال، أي يتخذ الزاد للخلوة، "يتزود لذلك" برفع الدال، لماذا لم نعطفها على ينزع؟ يفسد المعنى، لو قلنا: قبل أن يتزود ما نفع؛ لأن العطف على نية تكرار العامل. "ثم يرجع إلى خديجة" زوجه وهو تفسيرٌ للأهل السابق الذكر، "فيتزود لمثلها"، أي لمثل الليالي، وفي رجوعه -عليه الصلاة والسلام- دليلٌ على أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السنة، "حتى جاء الحق" وهو الوحي، وفي التفسير "حتى فجئه الحق" أي بغته، "وهو في غار حراء فجاءه الملك" جبريل -عليه السلام- في يوم الاثنين لسبعة عشرة ليلةً خلت من رمضان، وهو ابن أربعين سنة. "فقال: اقرأ" هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقن بما سيلقى إليه؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أمي لا يقرأ ولا يكتب، فكيف يؤمر بالقراءة وهو أمي؟ "اقرأ" إنما أمر ليتنبه ويتيقظ لما سيلقى عليه، ويحتمل أن يكون على بابه من الطلب كما قال بعض الشراح، وأنه أُمر بالقراءة فعلاً، فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قدر عليه بعد.

"قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أنا بقارئ)) وفي رواية: ((قلت)) هذه الرواية: ((قلت)) تؤيد أن عائشة سمعت الخبر من النبي -عليه الصلاة والسلام-.

((ما أنا بقارئ)) وفي رواية: ((ما أحسن أن أقرأ)) وفي رواية: ((ماذا أقرأ؟ ))، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((فأخذني)) يعني جبريل -عليه السلام-، ((فغطني)) أي ضمني وعصرني، وعند الطبري: ((فغتني)) بالتاء، والغت حبس النفس، ((حتى بلغ مني الجهد)) بفتح الجيم ونصب الدال، أي بلغ الغط مني غاية وسعي، وروي بالضم والرفع أي: بلغ مني الجُهدُ مبلغه، ((ثم أرسلني)) أي أطلقني، ((فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني)) وهكذا مرتين، ثم الثالثة (فغطني) الثالثة، وفائدة هذا الغط ليفرغه عن النظر إلى أمور الدنيا، ويقبل بكليته إلى ما يلقى إليه، وكرره للمبالغة، واستدل به بعضهم على أن المؤدِب لا يضرب المؤدَب أكثر من ثلاث ضربات، لكن هل هذا الغط للتأديب ليتم الاستدلال، أو هو لمجرد التنبيه والتوقف؟ للتنبيه وليس للتأديب، ((ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [(1) سورة العلق] في هذا دليلٌ على أن أول ما نزل من القرآن هذه السورة سورة اقرأ، أو الخمس الآيات الأولى منها إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [(5) سورة العلق] في الصحيحين في البخاري ومسلم عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [(1) سورة المدثر] فقلت: أو (اقرأ)؟ فقال: سألتُ جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل؟ قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: أو (اقرأ)؟ قال جابر: أحدثكم ما حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((جاورت بحراء شهراً، فلما قضيتُ جواري خبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئاً، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئاً، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني، وصبوا عليَّ ماءً بارداً، قال: فدثروني فصبوا علي ماءً بارداً، قال: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [(1 - 3) سورة المدثر] استدل به يحيى بن أبي كثير وجابر على أن {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أول ما نزل من القرآن، وحديث الباب صريحٌ على أن أول ما نزل (اقرأ).

يقول النووي في شرح مسلم: "قوله: إن أول ما أنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [(1) سورة المدثر] ضعيف، بل باطل" أقول: هذه العبارة وإن صدرت من النووي إلا أنه لكونه القائل صحابي لا تليق؛ لأن هذا فهم الصحابي، هو ثابت إلى الصحابي وهو في الصحيحين، لكن هذا فهمه، تقول: باطل وهو قول صحابي؟ نعم قولٌ مرجوح، والراجح غيره، هذا فهمه. ثم استدل النووي على ما ذهب إليه حيث قال: والصواب أنه أول ما نزل على الإطلاق {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [(1) سورة العلق] كما صرح به في حديث عائشة -رضي الله عنها-، وأما {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [(1) سورة المدثر] فكان نزولها بعد فترة الوحي، كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر، والدلالة صريحة فيه في مواضع منها: قوله: وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال: فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} عن فترة الوحي، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [(1) سورة المدثر] دليلٌ على أن هناك وحي قبل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ومنها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((فإذا الملك الذي جاءني بحراء، ثم قال: فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فدل على أن الملك جاءه قبل ذلك بحراء، ومنها قوله: ثم تتابع الوحي يعني بعد فترته، كل هذه أدلة على أن أول ما نزل من القرآن (اقرأ) وإن فهم الصحابي أن أول ما نزل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يقول الطيبي: في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [(1) سورة العلق] يقول: هذا أمرٌ بإيجاد القراءة مطلقاً، وهو لا يختص بمقروءٍ دون مقروء، فقوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} أي قل: بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا يدل على أن البسملة مأمورٌ بها بابتداء كل قراءة.

وقوله: {رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [(1) سورة العلق] وصفٌ مناسبٌ مشعر بعلية الحكم بالقراءة، والإطلاق في قوله: {خَلَقَ} أولاً: على منوال يعطي ويمنع، وجعله توطئةً لقوله: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [(2) سورة العلق] قال السهيلي: "لما قال ثلاثاً: ما أنا بقارئ، قيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي لا تقرأ بقوتك، ولا بمعرفتك، لكن بحولِ ربك وإعانته، فهو يعلمك كما خلقك، ولما نزع عنك علق الدم ومغمز الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم، بعد أن كانت أمية" وفي قوله: {خَلَقَ الْإِنسَانَ} إشارة إلى أن الإنسان أشرف المخلوقات، ثم الامتنان بقوله: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ} [(5) سورة العلق] يدل على أن العلم أجل النعم، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [(3) سورة العلق] أي الزائد في الكرم على كل كريم. المقدم: وبالنسبة لما ذكرتم عن جابر -رضي الله عنه- في ترجيحه تقديم {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يقول: هو يرويه عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، يقول: أحدثكم بما سمعت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، بناءً على سماعه فقط نحن رددنا قوله بناءً على الفهم، وإلا لم يصرح النبي -عليه الصلاة والسلام- في أن أول ما بدئ به الوحي عليه بـ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}. النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يصرح بذلك، وإنما فهم جابر -رضي الله عنه- أن أول ما نزل عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} يقول: أحدثكم ما حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت)) الآن سورة اقرأ نزلت في الجوار نفسه أو بعد الجوار؟ في الجوار بالغار، فدل على أن بعد الجوار نزلت سورة {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بينما اقرأ في وقت الجوار ((فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ... )) إلى آخره، فقلت: ((دثروني دثروني)) إلى أن قال: ((فنزلت يا أيها المدثر)). المقدم: هنا بقي شهر كما بالنص قبل قليل، ونحن نقول: أنه ابتدأ -عليه الصلاة والسلام- بالتحنث لمدة تقرب من ستة أشهر، أو هذه فقط كانت بدايتها في الرؤيا الصالحة؟ الرؤيا مدة الرؤيا ستة أشهر. المقدم: والتحنث كان شهر؟ كان شهر نعم.

المقدم: أحسن الله إليكم أخيراً بالنسبة لسورة (اقرأ) بعضهم يقول: (اقرأ) وبعضهم يقول: (العلق) فيها تسمية ثابتة؟ السورة قد تسمى بأبرز ما فيها، وقد تسمى بأول لفظٍ منها، والأدلة على ذلك من سور القرآن كثيرة، كما يقال: الفاتحة والحمد، وهكذا. وقفنا على قولها: "فرجع بها" أي بالآيات أو بالقصة، والفاعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، "يرجف" يخفق ويضطرب، "فؤاده" الفؤاد: هو القلب، أو باطن القلب، أو غشاء القلب، على خلافٍ في ذلك بين الشراح، لما فجأه من الأمر المخالف للعادة والمألوف، فنفر طبعه البشري وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة؛ لأن النبوة لا تزيل طباع البشر كلها، "فدخل -صلى الله عليه وسلم- على خديجة بنت خويلد" أم المؤمنين -رضي الله عنها- التي ألف تأنيسها له فأعلمها بما وقع له، وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة، وهي أم أولاده كلهم، خلا إبراهيم فمن مارية القبطية، ولم يتزوج قبلها ولا عليها حتى ماتت -رضي الله عنها-، توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح، فأقامت أربعاً وعشرين سنة وأشهر، وهي أول من آمن من النساء اتفاقاً، بل أول من آمن مطلقاً على قول. فقال: -صلى الله عليه وسلم-: ((زملوني زملوني)) بكسر الميم من التزميل وهو التلفيف، وقال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفلف، "فزملوه -أي لفوه- حتى ذهب عنه الروع" أي الفزع، "فقال -صلى الله عليه وسلم- لخديجة وأخبرها الخبر" جملة حالية، ((لقد)) اللام واقعة في جواب قسم مقدر تقديره: والله لقد ((خشيت على نفسي)) واختلف في سبب الخشية، هل خشي من الموت من شدة الرعب؟ أو خشي من المرض؟ أو خشي أن يفقد عقله -عليه الصلاة والسلام-؟ أو خشي أن لا يطيق حمل أعباء الوحي أو غير ذلك؟ ذكر الحافظ ابن حجر في المراد بالخشية ذكر أن العلماء اختلفوا في المراد بالخشية على اثني عشر قولاً.

"فقالت خديجة: كلا" نفيٌ وإبعاد، أي لا خوفٌ عليك، وفي التهذيب للأزهري: قال الأخفش: معنى كلا الردع والزجر، وهو مذهب الخليل، وإليه ذهب الزجاج في جميع القرآن، وقال ابن الأنباري: قال المفسرون معنى كلا حقاً. "والله ما يخزيك الله أبداً" يخزيك من الخزي، أي ما يفضحك الله، وفي رواية الكشميهني: "ما يحزنك" بفتح أوله والحاء المهملة "يُحزنك" أو بضم الياء وكسر الزاي من الحزن من الثلاثي أو الرباعي. المقدم: عفواً، فضيلة الدكتور الكشميهني يتكرر كثيراً، هو له علاقة بصحيح البخاري؟ نعم، أحد الرواة المشهورين، بل من أشهر الرواة على ما قال عنه الشراح، لا سيما ابن حجر ذكره في مواضع أنه ليس من الحفاظ بل هو مجرد راوية، لكنه راويةً من أتقن الرواة، وإن كان ليس أتقنهم، بل في بعض رواياته شيءٌ من الاستدراك، لكنه من أتقن الرواة؛ لأن ابن حجر ثلاث مرات يذكره، ويذكر أن بعض الشراح يغمزه، لكن مع ذلك هو متقن في الجملة، وإن كان عليه بعض الملاحظات. "والله ما يخزيك الله أبداً" ثم ذكرت العلة والسبب على ما أقسمت عليه "إنك لتصل الرحم" أي القرابة، "وتحمل الكل" الذي لا يستقل بأمره، كما قال تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} [(76) سورة النحل]. "وتكسب المعدوم" أي تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، و (كسب) يتعدَ بنفسه إلى واحد، نحو كسبتُ المال، وإلى اثنين نحو كسبتُ غيري المال، وهذا منه، وتكسب بفتح التاء، وللكشميهني تُكسب بضم أوله من أكسب أي تُكسب غيرك المال المعدوم، أي تتبرع به، والرواية الأولى أصح كما قال القاضي عياض. قال الخطابي: "الصواب المعدم، بلا واو أي الفقير" لأن المعدوم لا يُكسب، المعدوم معدوم أي مفقود كيف يكسب؟ وأجيب بأنه لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم؛ لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، وفي تهذيب اللغة للأزهري وهو بالمناسبة كتابٌ من أنفس كتب اللغة وأهمها وأعلاها، قال ابن الأعرابي: "رجلٌ عديمٌ لا عقل له، ورجلٌ معدم لا مال له" وقال غيره: فلانٌ يكسب المعدوم إذا كان مجدوداً ينال ما يُحرمه غيره.

"وتقري الضيف" بفتح أوله بلا همز، وقال الأوبي: "وسمع بضمها رباعياً" أي تهيئ له طعامه ونزله "وتعين على نوائب الحق" أي حوادثه، وفي هذا إشارة إلى فضل خديجة وجزالة رأيها، وإجابته بكلامٍ فيه قسم وتأكيد بإن واللام لتزيل حيرته ودهشته، واستدلت على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي جامعٍ لأصول مكارم الأخلاق، وفيه: دليلٌ على أن من طبع على أفعال الخير لا يصيبه ضير، لا شك أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وهذا منها. خديجة -رضي الله عنها- استدلت بأمرٍ استقرائي وجزمت بذلك وأقسمت عليه، وهذا لا شك أنه من جزالة رأيها، وتمام عقلها. "فانطلقت -أي مضت- به خديجة -مصاحبة له- حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة" بنصب ابن الأخيرة بدلاً من ورقة أو صفة، ولا يجوز جره؛ لأنه يصير صفةً لعبد العزى وليس كذلك، ويكتب بالألف، ولا تحذف؛ لأنه لم يقع بين علمين متوالدين، كما يقال: عبد الله بن أبي ابن سلول، عبد الله بن مالك ابن بحينة وهكذا، ويجتمع ورقة مع خديجة في أسد؛ لأنها بنت خويلد بنت أسد.

"وكان امرئً قد -ترك عبادة الأوثان- وتنصر في الجاهلية" أي اعتنق النصرانية قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أنه خرج هو وزيد بن عمرو ابن نفيل لما كره طريق الجاهلية إلى الشام وغيرها يسألان عن الدين، فأعجب ورقة النصرانية للقيه من لم يبدل شريعة عيسى -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه لقي من النصارى من لم يبدل فأعجب بدينهم، وأما زيد بن عمرو بن نفيل فذكر البخاري في صحيحه في كتاب المناقب عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين، فلقي عالماً من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين بدينكم، فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال: زيد ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، وأنَّى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دينُ إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله، فخرج زيدٌ فلقي عالماً من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنَّى أستطيع ذلك؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم -عليه السلام- خرج فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم. وفيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: رأيتُ زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري. "وكان -ورقة أيضاً- يكتب الكتاب العبراني" أي الكتابة العبرانية، وفي روايةٍ في الصحيحين: "الكتاب العربي" "فيكتب من الإنجيل -بالعبرانية- ما شاء الله أن يكتب" والعبرانية بكسر العين فيهما نسبة إلى العِبر بكسر العين وإسكان الموحدة، وزيدت الألف والنون في النسبة على غير قياس، قيل: سميت بذلك لأن الخليل -عليه السلام- تكلم بها لما عبر الفرات فاراً من نمرود، وقيل: إن التوراة عبرانية والإنجيل سرياني، وكتابته الإنجيل باللغة العبرانية لتمكنه في دين النصارى، ومعرفته بكتابهم، وصحح ابن حجر كونه يكتب بالعبرانية والعربية؛ لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية، فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي.

كتاب بدء الوحي (2)

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - شرح أحاديث كتاب بدء الوحي (2) الشيخ/ عبد الكريم الخضير

وصحح ابن حجر كونه يكتب بالعبرانية والعربية؛ لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية، فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي، وقد جاءت الرواية بهما لتمكنه من الكتابين واللسانين، وبهذا يعرف بطلان من يزعم أن القرآن عبارة عن كلام الله، وكلام الله واحد، إن كان بالعربية كان قرآناً، وإن كان بالعبرانية كان إنجيلاً، وإن كان بالسريانية كان توراةً، نعم إن كان بالعربية كان قرآناً، وإن كان بالعبرية أو العبرانية كان توراةً، وبالسريانية كان إنجيلاً؛ لأنه لو قلنا بهذا لقلنا: أن ورقة ما استفاد، ما استفاد شيئاً من الدين الجديد، نعم؛ لأنه مجرد ما يترجمه من لغة إلى لغة يصير على ما أراد، إن ترجمه بالعربية صار هو القرآن نفسه، مع العلم بأنه قرأ التوراة والإنجيل وترجمهما إلى العربية وإلى لغةٍ أخرى، إما السريانية وإما العبرانية قبل نزول القرآن، حقيقةً مثل هذا الكلام لا يدعمه لا عقل ولا نقل، ولا يؤيده رأي ولا دليل، وإنما وصف بكتابة الإنجيل دون حفظه؛ لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسراً كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة، لذا جاء في صفتها: "أناجيلها في صدورها"، وكان ورقة شيخاً كبيراً قد عمي، "فقالت خديجة -رضي الله عنها-: يا ابن عم"، هذا النداء على حقيقته؛ لأنه بمنزلتها وفي مرتبتها في النسب، ووقع في مسلم: "يا عم"، وهو وهم؛ لأنه وإن كان صحيحاً لجواز إرادة التوقير لكن القصة واحدة، لم يتعدد مخرجها، بل مخرجها متحد فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فيتعين الحمل على الحقيقة، وإنما صحح وجوز ذلك في العربي والعبراني، قد يقول قائل: لماذا منعنا يا عم، وقلنا: أن مخرج القصة واحد، وقلنا: يكتب الكتاب العبراني، وفي رواية العربي وصححنا اللفظين، وإنما صحح وجوز ذلك في العربي والعبراني لأنه من كلام الراوي، الراوي هو الذي تحدث عن ورقة بأنه يكتب الكتاب العربي والعبراني؛ لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يضطرد في جميع ما أشبهه، اللفظ المنسوب إلى مصدره إذا لم يتعدد مخرجه فإنه يرجح بين ألفاظه ولا يجوز الاحتمال، ولا يصوغ تجويز أكثر من احتمال، بينما إذا

تعددت المخارج جاز وصححت جميع الألفاظ، أمكن تصحيح جميع الألفاظ، وصححت الاحتمالات، "اسمع من ابن أخيك" –تعني النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه، "فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس"، بالنون والسين المهملة، وهو صاحب السر، وقال ابن دريد هو صاحب سر الوحي، والمراد بن جبريل -عليه السلام-، وأهل الكتاب يسمونه الناموس الأكبر، وزعم بعضهم أن الناموس صاحب سر الخير والجاسوس صاحب سر الشر، "الذي نزل الله على موسى"، وفي رواية: أنزل الله، وفي رواية: أُنزل، فإن قيل: لمَ قال ورقة: موسى ولم يقل عيسى؟ مع كونه نصرانياً، أجيب بأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام، وكذلك كتاب نبينا -عليه الصلاة والسلام-، بخلاف عيسى فإنه كتاب أمثال ومواعظ، وفي رواية الزبير بن بكار بلفظ: عيسى، "يا ليتني فيها جذعاً"، يا: نداء، والتقدير: يا محمد، ليتني فيها أي في مدة النبوة أو الدعوة، جذعاً بفتح الجيم المعجمة وبالنصب خبر كان مقدرة عند الكوفيين، يعني يا ليتني أكون فيها جذعاً أو على الحال. من قال: أن قول ورقة هذا لأن عيسى شريعته ليست مستقلة وإنما تبعاً لموسى هل هذا القول صحيح؟

نعم، هي مكملة لشريعة موسى، الأحكام تؤخذ من التوراة والمواعظ والأمثال من الإنجيل كما هو معروف، يقول: "يا ليتني فيها جذعاً"، يا: نداء، والتقدير: يا محمد ليتني فيها: أي في مدة النبوة أو الدعوة، (جذعاً) بفتح الجيم المعجمة وبالنصب خبر كان مقدرة عند الكوفيين، أو على الحال من الضمير المستكن في خبر ليت، وخبر ليت متعلق وجار ومجرور كائن فيها حال الشبيبة والقدرة والقوة لأنصرك، "ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك" من مكة، واستعمل إذ في المستقبل كإذا على حد قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [(39) سورة مريم] لتحقق الوقوع، فنزل منزلته، فإن قيل: كيف تمنى ورقة مستحيلاً وهو عود الشباب؟ أجيب بأنه يجوز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، كما تمنى النبي -صلى الله عليه وسلم- الشهادة مراراً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوَ –بفتح الواو- مخرجي هم" بتشديد الياء مفتوحة، لأن أصله مخرجوني جمع مخرج من الإخراج فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، وهم مبتدأ الخبر، هم مخرجي مقدماً ولا يجوز عكسه؛ لأنه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة؛ لأن إضافة مخرجي لفظية، والهمزة للاستفهام الإنكاري؛ لأنه استعبد إخراجه عن الوطن من غير سببٍ يقتضي ذلك، قال ورقة: "نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به من الوحي إلا عودي"؛ لأن الإخراج عن المألوف موجب لذلك؛ لأن الناس أعداء لما يجهلون، فإذا أخرجتهم من المألوف من عوائدهم من طبائعهم عادوك، "وإن يدركني -بالجزم بإن الشرطية- يومك" بالرفع فاعل، أي يوم انتشار نبوتك، "أنصرك -بالجزم جواب الشرط- نصراً -مصدر مؤزراً" أي قوياً بالغاً، وظاهر هذا أنه أقر بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرى الراهب، وفي إثبات الصحبة له نظر، وقد ذكره بعضهم في الصحابة كابن مندة، "ثم لم ينشب -أي يلبث- ورقة -فاعل- أن توفي" أي لم تتأخر وفاته عن هذه القصة، واختلف في وقت وفاته، فالحديث دليل على أنه مات بمكة بعد المبعث بقليل، وقال بعضهم: أنه خرج إلى الشام وتأخرت وفاته ولكن هذا ضعيف، "وفتر الوحي" أي احتبس ثلاث سنين، كما جزم به ابن

إسحاق، وفي بعض الأحاديث أنه قدر سنتين ونصف. وزاد معمر عن الزهري في كتاب التعبير من الصحيح: "حتى حزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل كي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك". قال ابن حجر: "وهذا من بلاغات الزهري، وليس موصولاً"، قال الكرماني: "هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور"، وهذا مجرد احتمال أبداه الكرماني، والاحتمالات العقلية كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر في رده على الكرماني في مواضع، الكرماني يجوز إذا كان التجويز العقلي عنده سائغ حمل الحديث عليه أحياناً بمجرد التجويز العقلي، الحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: "الاحتمالات العقلية التي لا تستند إلى دليل لا دخل لها في هذا العلم البتة"، في علم الحديث؛ لأن الكرماني يقول: "هذا هو الظاهر ويحتمل أن يكون بلغه بالإسناد المذكور"، التجويز العقلي عند الكرماني مستمر، فإذا جاز عنده الاحتمال عقلاً مشاه عليه، لكن الحافظ -رحمه الله- رد عليه في مواضع، وقال: "إن الاحتمالات العقلية المجردة التي لا يسندها دليل من روايةٍ ثابتة فإن هذا الاحتمال لا قيمة له". الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم على حديث عائشة -رضي الله عنها- ببدء الوحي بتراجم عديدة حسب وروده في كتابه، حيث أخرجه في سبعة مواضع، الأول: في بدء الوحي، حيث قال -رحمه الله-: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهابٍ عن عروة بن الزبير عن عائشة، ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرة كما تقدم. الموضع الثاني: في كتاب أحاديث الأنبياء باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} [(51) سورة مريم] فقال: عن عبد الله بن يوسف قال: حدثنا الليث قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب، سمعت عروة قال: قالت عائشة -رضي الله عنها- فذكره مختصراً.

ومناسبته: قوله "هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى"، الشاهد من الحديث قوله: "هذا الناموس"، قول ورقة: "هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى"، ومناسبته للترجمة ظاهرة؛ لأنه قال: باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى} وفي الحديث: "هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى"، فذكر موسى في الحديث يوافق أو يطابق ما جاء في الترجمة. الموضع الثالث: في كتاب التفسير، باب بدون ترجمة، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب، وحدثني سعيد بن مروان، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، قال: أخبرنا أبو صالح سلمويه، قال: حدثني عبد الله عن يونس بن يزيد قال: أخبرني ابن شهاب أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة، وإيراده في تفسير سورة اقرأ ظاهر المناسبة، والباب بلا ترجمة كما هنا قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله، مع تعلقه به كصنيع مصنفي الفقهاء". الموضع الرابع: في كتاب التفسير أيضاً: باب قوله: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [(2) سورة العلق] قال: حدثنا ابن بكير، قال: حدثنا الليث عن عقيل فذكره مختصراً، ومناسبته ظاهرة حيث ذكرت الآية في الحديث. وفي الموضع الخامس في كتاب التفسير باب قوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [(3) سورة العلق] قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري ح، وقال: الليث حدثني عقيل قال محمد: أخبرني عروة عن عائشة مختصراً، ومناسبته ظاهرة حيث ذكرت الآية في الحديث. ويحسن أن ننبه أن هذه الحاء المهملة التي توجد في الأسانيد لا سيما عند مسلم كثيراً، وهي قليلة عند الإمام البخاري، يراد بها التحويل من إسنادٍ إلى آخر، ويستفاد منها اختصار الأسانيد؛ لأنها قد تعرض لطالب العلم المبتدي، مثل هذه الحاء فتشكل عليه.

الموضع السادس: في كتاب التفسير أيضاً، باب: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [(4) سورة العلق] قال: حدثني عبد الله بن يوسف، قال: حدثني الليث عن عقيل مختصراً، ومناسبته كسابقيه، ولم يذكر الآية المترجم بها هنا، في الحديث لما ذكره مختصراً، لم يذكر الآية التي ترجم بها، وقد أشار بها إلى ما جاء في الحديث بتمامه. الموضع السابع: في كتاب التعبير، باب: (أول ما بدء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤية الصادقة) قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ح، وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر قال: الزهري، فذكره مطولاً، ومناسبته للترجمة ظاهرة، التعبير، تعبير الرؤيا، (كتاب التعبير) يعني تعبير الرؤيا، ومناسبة الحديث، حيث ذكر في أول ما بدء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا، الرؤيا الصالحة، وفي رواية: (الصادقة) هذا ما يتعلق بتراجم الحديث، ويبين لنا ويتضح لنا أن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يخرج الحديث في مواضع متعددة تبعاً لما لدلالته المتعددة وأجزائه. المقدم: عفواً يا شيخ، نحن أشرنا في حلقات ماضية إلى أن المصنف لهذا الكتاب أو حتى الذي قام بخدمته علي حسن، وضع الأطراف هنا، الأحاديث وفقاً للترقيم الموجود في الأصل؛ لأن لما يرجع المستمع مثلاً، والمتابع مع فضيلتكم الآن يجد في آخر الحديث أطرافه ثلاثة آلاف وثلاثمائة واثنين وتسعين، أربعة آلاف وتسعمائة وثلاثة وخمسين وهكذا، هذه الأطراف غير موجودة في هذا الكتاب؛ لأن الحديث مرّ، وقد أشرتم أنه إذا مرّ لا يكرره مرةً أخرى، فبالتالي هذه الأطراف يرجع بها إلى الأصل؟ إلى الأصل الصحيح ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. المقدم: أحسن الله إليكم، نستمر في الحديث الذي يليه؟

قال -رحمه الله- عن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: ((بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [(1 - 5) سورة المدثر] فحمي الوحي وتتابع. الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- قال في صحيحه: قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: وهو يحدث عن فترة الوحي فذكر الحديث، قال: ابن شهاب، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لم يدرك ابن شهاب، فهل هذا من المعلقات؟ ولماذا جاء بالواو؟ قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة، يقول ابن حجر: "إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق؛ كأنه قال: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا، يعني قال ابن شهاب: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا، فعلى هذا يكون هذا الحديث بالإسناد السابق فلا يعد من المعلقات"، يقول القسطلاني -رحمه الله-: مقول القول لا يكون بالواو، وحينئذٍ فليس هذا من التعاليق، ولو كانت صورته صورته"، صورة المعلق، خلافاً للكرماني حيث أثبته منها وقد خطأه ابن حجر في الفتح. مناسبة الحديث في بدء الوحي ظاهرة لظهور علاقته بالحديث الذي قبله وهو يحدث عن فترة الوحي، يقول: وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: ((بينا أنا أمشي ... )) الخ، فعلاقته ببدء الوحي ظاهرة جداً، وجابر بن عبد الله راوي الحديث، جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري الخزرجي، المتوفى سنة ثمانٍ وسبعين، وهو آخر الصحابة موتاً بالمدينة، وله في الصحيح تسعون حديثاً.

يقول: "وهو يحدث عن فترة الوحي"، أي احتباسه والجملة حالية، "فقال في حديثه: ((بينا)) "، بالألف، أصله: بين، فأشبعت فتحة النون فصارت ألفاً، وهي ظرف زمان مكفوف بالألف عن الإضافة للمفرد، ((أنا أمشي)) وجواب (بين) قوله: ((إذ سمعت صوتاً من السماء)) أي في أثناء أوقات المشي فاجأني السماع، ((فرفعت بصري فإذا الملك –جبريل -عليه السلام- الذي جاءني بحراء جالس)) خبر عن الملك الذي هو مبتدأ، ويجوز نصب جالساً على الحال، ((على كرسي)) بضم الكاف، وقد تكسر، وجمعه: كراسي، قال الماوردي في تفسيره: "أصل الكرسي: العلم، ومنه قيل لصحيفة يكون فيها علم: كراسة"، وقال الزمخشري: "الكرسي ما يجلس عليه، ولا يفضل عن مقعد القاعد"، يعني قد يكون الأصل –أصل الكلمة- في العلم، ثم الاستعمال خصصها بما يجلس عليه، فتكون حقيقته العرفية ما يجلس عليه، ((بين السماء والأرض)) ظرف في محل جر صفة لكرسي، ((فرعبت منه)) بضم الراء وكسر العين المهملة مبني لما لم يسمّ فاعله أي فزعت، ((فرجعت)) أي إلى أهلي بسبب الرعب، ((فقلت لهم: زملوني زملوني)) بالتكرار، وفي رواية كريمة مرة واحدة، ولمسلم كالمؤلف في التفسير، يعني الإمام البخاري -رحمه الله- خرج الحديث في كتاب التفسير وخرجه أيضاً مسلم من رواية يونس: ((دثروني)) بدل ((زملوني)) قال الزركشي: "وهو أنسب لماذا؟ لقوله: ((فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [(1) سورة المدثر] لأن المناسب لقوله: ((زملوني زملوني)) {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [(1) سورة المزمل] أما ((دثروني دثروني)) المناسب له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إيناساً له وتلطفاً، والتدثير والتزميل بمعنىً واحد، والمعنى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بثيابه، وعن عكرمة: أي المدثر بالنبوة وأعبائها، {قُمْ فَأَنذِرْ} [(2) سورة المدثر] حذر من العذاب من لم يؤمن بك، وفيه دلالة على أنه أمر بالإنذار عقب نزول الوحي للإتيان بفاء التعقيب، واقتصر على الإنذار؛ لأن التبشير إنما يكون لمن دخل في الإسلام، ولم يكن إذ ذاك من دخل فيه، يعني إلا القليل مثل خديجة، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [(3) سورة المدثر] أي عظمه، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [(4) سورة

المدثر] أي من النجاسة، وقيل: المراد بالثياب النفس وتطهيرها اجتناب النقائص، {وَالرُّجْزَ} [(5) سورة المدثر] الأوثان كما جاء في التفسير من تفسير الراوي، تفسير يعني من صحيح البخاري فسره الراوي بأنها الأوثان، وسميت رجزاً لأنها سبب للرجز والرجز هو العذاب، والأوثان جمع وثن وهو ما له جثة من خشبٍ أو حجرٍ أو فضةٍ أو جوهر، وكانت العرب تنصبها وتعبدها، قاله العيني. {فَاهْجُرْ} [(5) سورة المدثر] أي اترك، يقول بعد ذلك: "فحمي الوحي وتتابع" حمي: أي بعد نزول هذه الآيات كثر نزول الوحي وتتابع، وللكشمهني: وتواتر، بدل وتتابع، والتواتر: هو التتابع، ولم يكتف بحمي؛ لأنه لا يستلزم الاستمرار والدوام والتواتر، والتواتر: مجيء الشيء يتلو بعضه بعضاً من غير تخللٍ، تقول: تواتر الإبل والقطا إذا جاءت متتابعة، ولم تأتِ دفعةً واحدة. هنا يقول البخاري -رحمه الله تعالى- وهذا من باب الفائدة: يقول بعد رواية الحديث: "تابعه عبد الله بن يوسف، وأبو صالح، وتابعه هلال بن رداد عن الزهري" أي تابع يحيى بن بكير شيخ المؤلف عن الليث بن سعد عبد الله بن يوسف، "وكذا تابعه أبو صالح كاتب الليث عن الليث، وتابع عقيل بن خالد شيخ الليث هلال بن رداد عن الزهري"، والمتابعة موافقة الراوي في الرواية عن شيخه أو شيخ شيخه، وتسمى الأولى متابعة تامة، كمتابعة عبد الله بن يوسف وأبي صالح ليحيى بن بكير في الراوية عن الليث، وتسمى الثانية متابعة قاصرة، كمتابعة هلال بن رداد لعقيل بن خالد في الراوية عن الزهرية. والمتابعات إنما تكون مع اتحاد الصحابي، وإذا جاء الحديث عن صحابي آخر فهو الشاهد، وقيل: المتابع ما جاء من طريقٍ آخر باللفظ بغض النظر عن اتحاد الصحابي واختلافه، والشاهد ما جاء بالمعنى سواء اتحد الصحابي أو اختلف.

وعلى كل حال الخطب سهل، سواء سمي متابعة أو شاهد الأمر لا يختلف؛ لأن المقصود منهما التقوية، لكن الذي استقر عليه الاصطلاح عند المتأخرين أن المتابع ما اتحد به الصحابي، والشاهد ما اختلف الصحابي، والاعتبار طريق التوصل والبحث عن وجود المتابعات والشواهد؛ لأنه يذكر العنوان في كتب علوم الحديث: (الاعتبار والمتابعات والشواهد) فيظن القاري أنه قسيم للمتابعات والشواهد، وهو في الحقيقة ليس بقسيم، وإنما هو هيئة التوصل إلى المتابعات والشواهد. يقول النووي في شرحه على البخاري، النووي -رحمه الله تعالى- شرح قطعة من أوائل الصحيح، بدء الوحي والإيمان فقط، يقول: "طريقك في معرفة مثل هذا -أي معرفة المتابع- أن تنظر طبقة المتابِع -بكسر الباء- فتجعله متابعاً لمن هو في طبقته بحيث يكون صالحاً لذلك". المقدم: كما تلاحظون في الكتاب -أحسن الله إليكم- وضع علامة ثم في أسفل الهامش وضع حرف الزاي ثم واحد ثم خمسة ثم ساق الحديث باختلافٍ بسيط جداً مثل ((رفعت بصري)) بدل: ((رفعت رأسي)) وزيادة: ((زملوني زملوني)) مرتين وإلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [(5) سورة المدثر] ثم قال: وروايات أخرى في تفسير سورة المدثر مسندةً ومتصلة، فترك الزبيدي كلها، ثم ذكر الأطراف مرةً أخرى ما سبب الإيراد في هذا الوضع؟ هذا اعتبره صاحب الزوائد وهو عمر ضياء الدين الداغستاني من الزوائد، وهو في الحقيقة ليس من الزوائد، هذا لا يرد على الزبيدي؛ لأن الحديث يكاد يكون بحروفه، أما الزيادات اليسيرة التي لا يترتب عليها تأثير في حكم ولا تخل بمعنى فإنه لا يلتفت إليها، وإلا لو أراد أن يأتي بجميع الألفاظ التي في صحيح البخاري ما صار مختصراً بالمعنى الذي يرمي إليه المؤلف من أجل أن يحفظه طلاب العلم، فالاهتمام بمثل هذه الزوائد اليسيرة جداً لا تعني المختصِر، ولذا لم يورده.

وحقيقةً أنا عندي للمذكور هذا عمر ضياء الدين الداغستاني، معي الآن كتابان متعلقان بصحيح البخاري، أولهما: كتاب أسماه: (كتاب سنن الأقوال النبوية من الأحاديث البخارية) هذا مطبوع في اسطنبول سنة (1308هـ) والكتاب مختصر للصحيح، جرده من الأسانيد؛ لكن فيه من الأحاديث ضعف ما في مختصر الزبيدي، فيه من الأحاديث أربعة آلاف وخمسمائة وواحد وأربعين، على صغر حجمه فيه هذا العدد من الأحاديث، وهو مقتصر على الأحاديث القولية، والكتاب الثاني لعمر ضياء الدين المذكور كتاب اسمه: (زبدة البخاري) وهذا كتاب مختصر جداً، فيه من الأحاديث ألف وخمسمائة وأربعة وعشرين، وهو مختصر بالنسبة لسابقه، فهذا زبدة سماه (زبدة البخاري) وأما الزوائد التي يشار إليها في الحاشية فلم أقف عليه؛ لكن من خلال تأمل هذه الزوائد نجد أنها لا ترد على الزبيدي؛ لأن الزبيدي لا يهتم بمثل هذه الفروق اليسيرة التي لا تؤثر في حكم، ولا تخل بمعنى. المقدم: هل الكتب التي أشرتم إليها مطبوعة الآن يا شيخ، طباعة جديدة أو لا زالت؟ لا، ما طبعت غير هذه الطبعات، الأول: عرفنا أنه مطبوع في اسطنبول سنة (1308هـ) والثاني: بمطبعة دار الكتب العربية بمصر سنة (1330هـ) يعني من أكثر من تسعين سنة، ولم يعد طبعها. المقدم: إذاً إذا أشار هنا إلى حرف الزاي فهو يقصد زوائد؟ نعم الزوائد. المقدم: يليه رقم الحديث الذي يزيد، الزاي واحد يبي الزيادة الأولى. الزيادة الأولى نعم، وخمسة يريده بعد رقم أربعة في المختصر. المقدم:. . . . . . . . . التراجم؟ بعد هذا تراجم الإمام البخاري -رحمه الله- على الحديث، الحديث ذكره الإمام في تسعة مواضع، الأول: في بدء الوحي سبق ذكر إسناده ومناسبته، الثاني: في كتاب بدء الخلق باب: ((إذا قال: أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه))، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا الليث قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله فذكره، ومناسبته لبدء الخلق وذكر الملائكة حيث ذكر فيه جبريل -عليه السلام- على الكرسي بين السماء والأرض.

في الموضع الثالث: في كتاب التفسير باب بدون ترجمة، وأشرنا إلى مراد البخاري من الباب الذي يذكره دون ترجمة، قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا وكيع عن علي بن المبارك يعني يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فذكره، ومناسبته لتفسير سورة المدثر ظاهرة؛ لأن هذا الباب يلي تفسير سورة المدثر، فهو فرع منها. الموضع الرابع: في كتاب التفسير باب: {قُمْ فَأَنذِرْ} [(2) سورة المدثر] قال: حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي وغيره قالا: حدثنا حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله فذكره مختصراً، ومناسبته ظاهرة حيث ذكرت الآية في الحديث، وأحياناً يقول الإمام البخاري -رحمه الله-: حدثنا فلان وغيره، ومسلم أيضاً يقولها: فيكنون بذلك عن الراوي الذي لا يحتاجون إلى ذكره، إما اكتفاءً بمن ذكر؛ لأنه إمام كبير فلا يحتاج إلى من يدعمه، ولو كان المحذوف ثقةً، وأحياناً يكنى عنه لأنه ضعيف، فمسلم يقول: حدثني فلان وغيره، يعني ابن لهيعة في أكثر من موضع، ولا يخل بالإسناد؛ لأنه يقتصر في ذلك على الثقة، ولا يحتاج إلى ذكر الضعيف، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وهذا من باب الفائدة قد يروي الحديث عن اثنين أحدهما ثقة والآخر ضعيف، فيقتصر على ذكر الثقة، ويترك الضعيف، وليس هذا من باب تدليس التسوية كما قد يظنه بعض الطلاب؛ لأن تدليس التسوية: إسقاط ضعيف بين ثقتين، لقي أحدهما الآخر، فالثقة هنا يكفي عن الضعيف المحذوف، ولسنا بحاجة إلى رواية الضعيف، وأما في تدليس التسوية الضعيف لا بد من وجوده؛ لأنه واسطة بين الثقتين لا بد من وجوده، وإسقاطه مخل بالإسناد، أما إسقاط الضعيف الذي لا يحتاج إليه في مثل هذا لأن هذا الثقة روى عن الثقة الآخر مباشرة، وكونه شاركه في الرواية عن ذلك الثقة راوٍ ضعيف آخر، لا يخل بالإسناد ولا داعي لذكره.

الموضع الخامس: في كتاب التفسير باب: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [(3) سورة المدثر] قال: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا حرب قال: حدثنا يحيى قال: سألت أبا سلمة أي القرآن أنزل أول؟ فقال ... الحديث مطولاً، ومناسبته ظاهرة حيث ذكرت الآية في الحديث. السادس: كتاب التفسير باب: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [(4) سورة المدثر] حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ح وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله، ومناسبته ظاهرة حيث ذكرت الآية أيضاً في الحديث. الموضع السابع: في كتاب التفسير باب: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [(5) سورة المدثر] قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا الليث عن عقيل، قال ابن شهاب: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر عن عبد الله فذكره، ومناسبته ظاهرة حيث ذكرت الآية في الحديث أيضاً. الموضع الثامن: خرجه أيضاً في كتاب التفسير باب بدون ترجمة، وهو فرع من تفسير سورة (اقرأ) قال محمد بن شهاب: فأخبرني أبو سلمة أن جابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- قال: فذكره، إثر حديث عائشة في بدء الوحي كما في بدء الوحي سواء. طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، العزو إلى الباب المهمل الذي يكون يترجم له الإمام البخاري باب ثم يورد الحديث كيف يكون العزو إليه في حال التخريج منه؟ العزو لمثل هذا الباب المذكور بدون ترجمة نقول: خرجه الإمام البخاري في بابٍ دون ترجمة بعد باب قوله كذا:، باب بعد الباب المترجم، نذكر الباب المترجم، فنقول: خرجه الإمام البخاري في باب بدون ترجمة يلي الباب الذي ترجمه بكذا من كتاب كذا، فنصور الواقع للقارئ والسامع.

الموضع التاسع: كتاب الأدب، باب رفع البصر إلى السماء، وقوله تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [(17) سورة الغاشية] قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة ابن عبد الرحمن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله فذكره، ومناسبته ظاهرة لقوله: ((فرفعت بصري إلى السماء)) مناسبة الحديث لباب (رفع البصر إلى السماء) ظاهرة، لكن اقتصار الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- على قوله تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} والترجمة باب (رفع البصر إلى السماء) لماذا لم يأتي بالآية التي بعدها؟ {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ} [(17 - 18) سورة الغاشية]؟ أيهما أصرح في المراد؟ الآية الثانية هي الصريحة في المراد، هي المطابقة للترجمة، جاءت في بعض الروايات، الآية الثانية جاءت في بعض الروايات دون بعض من الصحيح. وعلى كل حال اقتصار البخاري على هذه الآية هو المناسب لتصرفاته -رحمه الله تعالى-، فالبخاري يستدل بالغامض ويترك الصريح الواضح؛ لأن الذي يحتاج إلى النظر أو ينظر إلى الإبل نظر اعتبار ينظر في الغالب إلى أعلاها؛ لأنه هو موضع العجب، وإذا نظر إلى أعلاها اضطر أن يرفع بصره، فلا شك أن الاستدلال من هذه الآية لما ترجم به فيه غموض، وفيه بعد، والآية التي تليها صريحة في المراد، فالبخاري -رحمه الله تعالى- قد يعمد إلى الغامض دون الصريح، وهذه عادته -رحمه الله تعالى-، وإن وجدت الآية في بعض الروايات، لكن أكثر رواياته ليس فيها الآية الثانية. طالب: فضيلة الشيخ ذكرتم -حفظكم الله- كلام الإمام البخاري قبل قليل في قوله تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [(17) سورة الغاشية] ثم ذكرتم التوجيه لاستدلاله بالآية، ولكن أليس من المناسب أن يقال في توجيه كلامه -رحمه الله تعالى-: أنه قد ورد أن من معاني (الإبل) أنها هي السحاب، والسحاب موجود في السماء؟

لا أعرف هذا القول منسوباً لأحدٍ من أهل العلم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فإن كان ذلك ثابت عن أحد من أهل اللغة المعتبرين أو من المفسرين من الصحابة أو من دونهم فيكون المعنى ظاهر، إذا كان المراد بالإبل السحاب، وتراجع المسألة -إن شاء الله تعالى- في مظانها، وعلى كل حال اللائق بتصرفات الإمام البخاري مثلما ذكرت، يعدل عن الشيء الصريح الواضح إلى الغامض الذي قد لا يدرك. ولا شك أن الإنسان بخلقته التي خلقه الله عليها أقل بكثير من مستوى الإبل، فإذا أراد أن ينظر إليها نظر اعتبار وتفكر اضطر أن يرفع بصره إلى رأسها مثلاً، إذا رفع الإنسان رأسه إلى رأس هذا البعير أو ما أشبهه فإنه يحتاج إلى أن يرفع رأسه رفعاً ينظر فيه إلى السماء. طالب: أحسن الله إليك، لماذا يستدل البخاري دائماً بالغامض ويترك الصريح؟ هل لأن الصريح واضح، أو يريد أن يدرب طالب العلم على البحث والنظر؟ الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عرفنا دقته وخفاء أدلته -رحمه الله تعالى- على كثير ممن تصدى لشرح كتابه، فضلاً عن من يجهل مقاصد الكتاب، ومغازي الكتاب، وطريقة المؤلف في الكتاب، ومنهج المؤلف في الكتاب، فالإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يعدل عن الصريح لوضوحه، فلا يحتاج إلى أن يذكره، وقد يترجم بالشيء الواضح، ويستدل له بالشيء الواضح للإيماء إلى أن مثل هذا الواضح قد خفي على بعض الناس، كقول الإمام البخاري -رحمه الله-: (باب قول الرجل: ما صلينا) واستدل لذلك بحديث قال فيه عمر -رضي الله عنه-: "ما صليت"، أو قال النبي -عليه الصلاة والسلام- أيضاً: ((وأنا والله ما صليتها)) فترجم ظاهرة والمستدل به ظاهر، ويريد بذلك الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- الرد على من أنكر مثل هذا القول، يريد بذلك الرد على من أنكر مثل هذا القول، وخفي عليه مثل هذا الدليل. المقدم: أحسن الله إليكم، نستمر في قراءة الأحاديث.

قال: باب: عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [(16) سورة القيامة] قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعالج من التنزيل شدةً، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركهما، فأنزل الله -عز وجل-: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [(16 - 17) سورة القيامة] قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [(18) سورة القيامة] قال: فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [(19) سورة القيامة] ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قرأه. الحديث الخامس راويه ابن عباس -رضي الله عنهما-، وللعباس بن عبد المطلب أكثر من ابن، لكن إذا أطلق ابن عباس فالمراد به عبد الله بن عباس ابن عبد المطلب ابن عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، حبر الأمة وترجمان القرآن، أحد العبادلة الأربعة، المتوفى بالطائف بعد أن كفّ بصره سنة ثمانٍ وستين. يقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، لفظة: (كان) في مثل هذا التركيب تفيد الاستمرار، وأعاده في قوله: "وكان" "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعالج من التنزيل شدةً وكان"، وأعاده في قوله: "وكان مما يحرك" مع تقدمه في قوله: "كان يعالج" لطول الكلام، كما في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ} [(35) سورة المؤمنون] فأعاد أنكم لطول الكلام. "يعالج" المعالجة محاولة الشيء بمشقةٍ أي يحاول من تنزيل القرآن عليه شدة، لا شك أن القرآن ثقيل وشديد، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يتنزل عليه القرآن في اليوم الشديد البرد كما تقدم، وإن جبينه ليتفصد عرقاً، ولا شك أن الله -سبحانه وتعالى- يلقي عليه القرآن وهو قول ثقيل كما جاء في سورة المزمل.

ومنه ما جاء في الحديث: ((ولي حره وعلاجه)) يعني الخادم، أي عمله وتعبه، ومنه معالجة المريض، وهي ملاطفته ومحاولته بالدواء حتى يقبل عليه، والمعالجة الملاطفة بالمراودة بالقول والفعل.

"شدةً" بالنصب، مفعول يعالج، وقال الكرماني: "يجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً أي يعالج معالجةً شديدة"، وكان مما يحرك شفتيه، يقول العيني: "اختلفوا في معنى هذا الكلام وتقديره، فقال القاضي: معناه كثيراً ما كان يفعل ذلك" وبهذا قال ثابت السرقسطي، وثابت له كتاب الدلائل، له ولأبيه قاسم، وهو من أنفس كتب غريب الحديث، وقال الكرماني: "أي كان العلاج ناشئاً من تحريك الشفتين، أي مبدأ العلاج منه، فعلى هذا تكون (ما) مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة، وقد تجيء لمن يعقل، وصوب ابن حجر الأول، وقال في الثاني فيه نظر؛ لأن الشدة حاصلة قبل التحريك، وتعقب بأن الشدة وإن كانت حاصلةً قبل التحريك، إلا أنها لم تظهر إلا بتحريك الشفتين إذ هي أمر باطني لا يدركه الرائي إلا به، فقال ابن عباس: "فأنا أحركهما -أي شفتي لك وفي بعض النسخ: لكم- كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركهما"، لم يقل ابن عباس كما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركهما، لم يقل كما رأيت؛ لأن ابن عباس لم يدرك ذلك، وقال سعيد بن جبير: "فأنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما" لأنه رأى ذلك منه بخلاف ابن عباس فإنه لم يرَ النبي -عليه الصلاة والسلام- في تلك الحالة لسبق نزول آية القيام على مولده إذ كان مولده قبل الهجرة بثلاث سنين، ونزول الآية في بدء الوحي كما هو ظاهر صنيع المؤلف حيث أورده هنا، ويحتمل أن يكون أخبره أحد الصحابة أنه رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- يحركهما، أو أنه -عليه الصلاة والسلام- أخبر ابن عباس بعد ذلك فرآه ابن عباس حينئذٍ، وفي مسند الطيالسي: قال ابن عباس: فأنا أحرك لك شفتي كما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركهما، فإن ثبت ما في مسند الطيالسي فالتغيير من الرواة، وجملة: فقال ابن عباس إلى قوله: فأنزل الله اعتراض بالفاء، وفائدتها زيادة البيان بالوصف على القول، ومثل هذا يسمى المسلسل أو التسلسل، المسلسل بتحريك الشفة، لكنه لم يتصل تسلسله، والمراد بالمسلسل عند أهل الحديث ما تتابع الرواة على نقله من صفةٍ قولية أو فعلية، هنا لم يتتابع التسلسل انقطع، ما كل واحد يروي الحديث من لدن النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى آخر الإسناد يحرك

شفتيه كما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحركهما. فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ} [(16) سورة القيامة] يا محمد، {بِهِ} أي بالقرآن {لِسَانَكَ} قبل أن يتم وحيه {لِتَعْجَلَ بِهِ} لتأخذه على عجلٍ مخافة أن يتفلت منك، وفي تفسير ابن جرير من رواية الشعبي: عجل به لحبه إياه، ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [(17) سورة القيامة] أي قراءته فهو مصدر مضاف للمفعول والفاعل محذوف، والأصل: وقراءتك إياه، قال ابن حجر: "ولا منافاة بين قوله: يحرك شفتيه وبين قوله في الآية: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [(16) سورة القيامة] في الخبر: (يحرك شفتيه) والنهي عن تحريك اللسان، هل معنى هذا أنه يجوز له أن يحرك شفتيه؟ لأن النهي عن تحريك اللسان دون الشفتين؟ يقول ابن حجر: "ولا منافاة بين قوله: يحرك شفتيه وبين قوله في الآية: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} لأن تحريك الشفتين بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان"، فإذا نهي عن تحريك اللسان فنهي عن تحريك الشفتين؛ لأن هذا لا يتم إلا بهذا، أو اكتفي بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق، أو الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك، وهو مأخوذ من كلام الكرماني، وتعقبه العيني بأن الملازمة من التحريكين ممنوعة على ما لا يخفى، وتحريك الفم مستبعد بل مستحيل؛ لأن الفم اسم لما يشتمل عليه وعند الإطلاق لا يشتمل على الشفتين، ولا على اللسان لا لغةً ولا عرفاً، بل هو من باب الاكتفاء، والتقدير: فكان مما يحرك به شفتيه ولسانه، على حد قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [(81) سورة النحل] أي والبرد، وفي تفسير الطبري من طريق جرير عن ابن أبي عائشة: ويحرك به لسانه وشفتيه، فجمع بينهما، قال ابن عباس في تفسير جمعه: أي جمعه بفتح الميم والعين لك صدرك، بالرفع على الفاعلية، وهذا في أكثر الروايات، وفي اليونينية: أي جمعه الله في صدرك، وإسناد الجمع على الصدر على حد: أنبت الربيع البقل، أي أنبت الله في الربيع البقل.

وفي رواية أبي ذر: جمعه لك صدرك، بسكون الميم وضم العين مصدر، ورفع راء صدرك فاعل، ولكريمة: جمعه لك في صدرك بفتح الجيم وإسكان الميم وزيادة في وهو يوضح الأول، وفي روايةٍ جمعه له بإسكان الميم أي جمعه تعالى للقرآن صدرك، وفي رواية الأصيل وحده جمعه له في صدرك، بزيادة في، على كل حال المعنى ظاهر، وكله متقارب وهي ألفاظ متقاربة. المقدم: والمثبت عندنا جمعه لك في صدرك. جمعه لك في صدرك، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [(17) سورة القيامة] أي قراءته، فهو مصدر مضاف للمفعول، والفاعل محذوف والأصل: وقراءتك إياه، يطلق القرآن ويراد به القراءة، كما جاء في وصف عثمان -رضي الله عنه-: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا أي قراءة، وقال ابن عباس أيضاً في تفسير {قُرْآنَهُ}: أي تقرأه، بفتح الهمزة في اليونينية، وقال البيضاوي: إثبات قرآنه في لسانك وهو تعليل للنهي، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي أنزلنا إليك بواسطة جبريل {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} وقال ابن عباس في تفسير {فَاتَّبِعْ} [(18) سورة القيامة] أي فاستمع له وأنصت، بهمزة القطع، أي كن حال قراءته ساكتاً، والاستماع أخص من الإنصات؛ لأن الاستماع الإصغاء، والإنصات السكوت، ولا يلزم من السكوت الإصغاء، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [(19) سورة القيامة] فسره ابن عباس بقوله: ثم إن علينا أن تقرأه، وفسره غيره: ببيان ما أشكل عليك من معانيه.

قال ابن حجر: "فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو الصحيح في الأصول"، قال القسطلاني: "لا عن وقت الحاجة"، وهو الصحيح عند الأصوليين، ونص عليه الشافعي لما تقتضيه ثم من التراخي، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [(19) سورة القيامة] البيان إلى وقت الحاجة جائز، بدليل العطف بـ (ثم) وثم تقتضي التراخي، لكن البيان عن وقت الحاجة هذا الذي لا يجوز عند أهل العلم، وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب وتبعوه على ذلك، قال القسطلاني: "وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على استمرار حفظه له بظهوره على لسانه فلا"، قال الآمدي: "يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل، يقال: بان الكوكب إذا ظهر"، قال: "ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص لبعضه بالأمر المذكور دون بعض"، وقال أبو حسين البصري: "يجوز أن يراد البيان التفصيلي، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي فلا يتم الاستدلال"، وتعقب باحتمال إرادة المعنيين الإظهار والتفصيل وغير ذلك؛ لأن قوله: {بَيَانَهُ} [(19) سورة القيامة] جنس مضاف فيعم جميع أصنافه، من إظهاره وتبيين أحكامه وما يتعلق بها من تخصيصٍ وتقييدٍ ونسخٍ وغير ذلك، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة طه: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [(114) سورة طه] فنهاه عن الاستعجال في تلقي الوحي من الملك ومساوقته في القرآن حتى يتم الوحي، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إذا أتاه جبريل ملك الوحي المفضل به على سائل الملائكة ومعناه: عبد الله، يعني جبريل معناه عبد الله بالسريانية لأن جبر: عبد بالسريانية، وإيل: اسم من أسماء الله عندهم.

وروى عبد بن حميد في تفسيره عن عكرمة أن اسم جبريل: عبد الله، واسم ميكائيل: عبيد الله، وقال السهيلي: جبريل سرياني ومعناه عبد الرحمن، كما جاء عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً، لكن الموقوف أصح، وذهبت طائفة إلى أن الإضافة في هذه الأسماء مقلوبة، فإيل هو العبد، وأوله: اسم من أسماء الله تعالى، والجبر عند العجم هو إصلاح ما فسد، وهي توافق معناه من جهة العربية، وقال العيني: "ورأيت في أثناء مطالعتي في الكتب أن اسم جبريل -عليه الصلاة والسلام- عبد الجليل، وكنيته: أبو الفتوح، واسم ميكائيل: عبد الرزاق وكنيته: أبو الغنائم". على كل حال هذا مما طالعه العيني في بعض الكتب التي لا تعتني بذكر الأخبار بأسانيدها، ولا تحقق الصحيح من غيره، ومثل هذا لا فائدة من العناية به وتحقيقه وتمحيصه وإثبات الثابت منه، إنما يمرّ كما جاء. وفي جبريل تسع لغات نقلها العيني عن الزمخشري وابن الأنباري. بعد هذا يقول: "فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي -عليه الصلاة والسلام- كما قرأ"، وفي روايةٍ: (كما قرأه) بضمير المفعول أي القرآن، ولأبي ذرٍ عن الكشمهني يعني: (كما كان قرأ) والحاصل أن الحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية: تلاوته، والثالثة: تفسيره وإيضاحه، والحديث كما هو مخرج في صحيح البخاري مخرج أيضاً في صحيح مسلم، وجامع الترمذي وغيرهما. طالب: أحسن الله إليك، يلاحظ في شرح ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري أنه يذكر حينما يذكر قطعة من الحديث دائماً يذكر الخلاف الموجود في نص الحديث، كقوله هنا في الحديث: قال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [(16 - 17) سورة القيامة] قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه، وهنا قال: قوله: جمعه لك وصدرك، فهذه تتكرر دائماً.

نعم، في اختلاف بين الشرح وبين المتن المطبوع مع الشرح، الأصل أن الفتح مجرد عن المتن، لكن الطابع تصرف، وأدخل في الشرح متناً يختلف في كثيرٍ من الأحيان عن الرواية التي اعتمدها الحافظ في شرحه، لأن الحافظ ابن حجر اعتمد على رواية أبي ذر كما نص على ذلك، وأشار إلى ما عداها عند الحاجة، والحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قصد تجريد الشرح من المتن لئلا يطول الكتاب، فتصرف الطابع وأدخل متناً لا يوافق الرواية التي اعتمد عليها الحافظ في شرحه، وليته إذ تصرف في كتاب غيره أدخل روايةً تناسب الشرح، على أن الكتاب طبع أخيراً، لا أقول: طبع، صور عن الطبعة السلفية الثانية التي بعد السلفية الأولى، طبعة سماحة الشيخ -رحمه الله-، والتي تصرف في إدخال المتن هو محمد فؤاد عبد الباقي بالاتفاق مع محب الدين الخطيب والشيخ -رحمه الله تعالى- وافقهم على ذلك، لكن لو اختاروا رواية تناسب المشروح، لو اعتنوا برواية أبي ذر وبحثوا عنها لا إخالها معدومة، نعم بحث عنها فيما بعد، ويذكر الطابع الذي صور الكتاب عن الطبعة السلفية الثانية أنه وجد رواية أبي ذر على أن لي تحفظ عن كونها رواية أبي ذر بحروفها، فيه اختلاف في بعض المواضع عن رواية أبي ذر، فأدخل هذه الرواية التي وقف عليها في الشرح، صور الطبعة الثانية من الطبعة السلفية أو الثالثة أو ما اشتهر عند الناس وتداولوه طبعة الريان هي السلفية الثانية، ثم صوروه الطبعة السلفية صوروا الثانية فسموها ثالثة، ثم صوروا الريان وتداولها الناس وسمونها طبعة، هي كلها عبارة عن السلفية الثانية وهي أسوأ من الطبعة السلفية الأولى، الطبعة السلفية الأولى أجود منها بكثير.

فينبغي لطالب العلم الذي لا يستطيع الحصول على طبعة بولاق أو صورتها التي طبع عنها الكتاب أن يعتني بالسلفية الأولى التي أشرف على أوائلها سماحة الشيخ عبد العزيز -رحمه الله تعالى- مباشرةً، أما هذه الطبعات الأخيرة نقلت تعاليق الشيخ عليها لا بأس، وهذا شيء نافع، وإن كانت الطبعة التي نشرت أخيراً مع رواية أبي ذر، وإن كنت متحفظاً عن إطلاق رواية أبي ذر على هذه الطبعة؛ لأنها توافقها في كثيرٍ من الأحيان، وفيها بعض الاختلاف حذفت تعاليق الشيخ -رحمه الله تعالى- لا أدري ما السبب، لكن مع ذلك ينبغي العناية بالصحيح، وأن يعتني الإنسان بنسخةٍ متقنةٍ محررة مضبوطة، وتكون على روايةٍ واحدة إن أمكن، مع العناية بالروايات الأخرى لئلا يتشوش القارئ، وإذا أراد أن يقرأ شرح ينظر الرواية المعتمدة في الشرح، ينظر ما الرواية المعتمدة في الشرح، وكل واحد من الشراح ذكر سنده إلى الإمام البخاري فنعرف من خلال إسناده الرواية التي اعتمد عليها واعتنى بها، وحينئذٍ لا يحصل مثل هذا التفاوت بين الشرح والمشروح. حديث ابن عباس خرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في ستة مواضع، الموضوع الأول هنا في بدء الوحي، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبو عوانة، قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة قال: حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس، ومناسبة الحديث لبدء الوحي كما قال العيني ظاهرة لأن المذكور فيما مضى هو ذات بعض القرآن، وهاهنا التعرض إلى بيان كيفية التلقن والتلقين، وقدم ذلك لأن الصفات تابعة للذوات. والموضع الثاني: في كتاب التفسير في سورة القيامة، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا حميدي قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا موسى بن أبي عائشة وكان ثقةً، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره مختصراً. وفيه فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [(16) سورة القيامة] والآية جزء من سورة القيامة، فالمناسبة ظاهرة؛ لأنه ذكرت فيه الآية، والآية جزء من السورة المترجم بها.

والموضع الثالث: في كتاب التفسير أيضاً باب: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [(17) سورة القيامة] قال: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة به ومناسبته للباب ظاهرة، حيث ذكرت الآية في الحديث. والموضع الرابع: في كتاب التفسير باب {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [(18) سورة القيامة] قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا جرير عن موسى بن أبي عائشة به فذكره بأطول منه والمناسبة ظاهرة حيث ذكرت الآية في الخبر. الموضع الخامس: في كتاب فضائل القرآن، باب (الترتيل في القرآن) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا جرير عن موسى بن أبي عائشة فذكره بأطول منه، والمناسبة ظاهرة حيث نهي عن تعجيله بالتلاوة، فإنه يقضي استحباب التأني فيه، وهو المناسب للترتيل. الموضع السادس: في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [(16) سورة القيامة] قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة به فذكره بمثله، قال ابن حجر: "الحديث من أوضح الأدلة على أن القرآن يطلق ويراد به القراءة، فإن المراد بقوله: {قُرْآنَهُ} في الآيتين القراءة لا نفس القرآن"، وقال ابن بطال: "غرضه في هذا الباب أن تحريك اللسان والشفتين بقراءة القرآن عمل له يؤجر عليه"، وقال الكرماني: "المقصود من الباب بيان كيفية تلقي النبي -صلى الله عليه وسلم- كلام الله تعالى من جبريل -عليه السلام-"، والحديث مخرج في مسلم والنسائي والترمذي وأحمد والطيالسي والحميدي وغيرهم. المقدم: قال -رحمه الله تعالى-: وعنه -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل -عليه السلام-، وكان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- المختصِر: "وعنه" جرت عادة المتأخرين من المصنفين بالحديث الذين يصنفون المختصرات في الحديث للحفظ أن يقتصروا على القدر المحتاج إليه، فتجدهم يحذفون الأسانيد ويقتصرون على الصحابي فقط، أو على التابعي معه إن دعت الحاجة إلى ذكره، كما جرت عادتهم التكنية عن الراوي بالضمير إذا كان هو راوي الحديث السابق، فيصرحون بذكره في الموضع الأول ثم يعطفون الثاني بالضمير فيقولون: وعنه، وإن كان هذا يرد على ما التزمه المؤلف في خطبة الكتاب من أنه يلتزم كثيراً ألفاظه في الغالب –يعني ألفاظ البخاري -رحمه الله تعالى- كان يقول البخاري: عن عائشة، أو يقول: عن ابن عباس أو يقول: عن عبد الله بن عباس وكذلك ابن عمر وحيناً يقول: عن أنس، وحيناً يقول: عن أنس بن مالك، يقول: "فأتبعه في جميع ذلك"، وقد كرر ذكر عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الثالث وكناها بأم المؤمنين رغم أنها تقدمت في الحديث الثاني أيضاً، ولعل ما هنا من غير الغالب الذي أشار إليه بقوله: "في الغالب"؛ لأنه يتبع لفظ البخاري -رحمه الله تعالى- في الغالب، فلعل ما هنا جرياً على العادة ومشياً على الجادة في المختصرات، وهذا هو غير الغالب، وأما الغالب أنه يتبع لفظ البخاري بالحرف. والضمير المجرور يعود على ابن عباس راوي الحديث السابق، والواو في قوله: "وعنه"، عاطفة تعطف مقدر، أي وأروي أيضاً عنه –أي عن ابن عباس- "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس" بنصب أجود خبر كان، أي أجودهم على الإطلاق، "وكان أجودُ ما يكون -حال كونه- في رمضان"، برفع أجود اسم كان وخبرها محذوف وجوباً على حد قولك: أخطبُ ما يكون الأمير قائماً، و (ما) مصدرية أي أجود أكوان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفيها مظان سد مسد الخبر أي حاصلاً فيه، وفي رواية الأصيلي: (أجودَ) بالنصب خبر كان وعورض بأنه يلزم منه أن يكون اسمها خبرها، وأجيب بجعل اسم كان ضمير للنبي -عليه الصلاة والسلام- و (ما) حينئذٍ مصدرية ظرفية والتقدير: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متصفاً بالأجودية مدة كونه في رمضان، مع أنه أجود الناس مطلقاً -عليه الصلاة والسلام-.

يقول النووي: "يجوز في أجود الرفع والنصب، والرفع أصح وأشهر" وقال ابن حجر: "يرجح الرفع وروده بدون كان عند المؤلف في الصوم، وفائدة الجملة الأولى وإن كانت لا تتعلق بالقرآن الاحتراس من مفهوم ما بعدها، "وكان أجود ما يكون في رمضان"، جاء أولاً بقوله: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس"، يعني مطلقاً في رمضان وفي غير رمضان، هو أجود الناس على الإطلاق، في كل زمان وفي كل مكان -عليه الصلاة والسلام-، وجاء في الحديث الصحيح أنه أجود الناس، وأشجع الناس -عليه الصلاة والسلام-. مفهوم الجملة الثانية أنه أجود ما يكون في رمضان، مفهومها أنه في غير رمضان أنه ليس بأجود، فاحترس من مفهوم الجملة الثانية بالجملة الأولى، ومعنى أجود الناس أكثر الناس جوداً، والجود الكرم، وهو من الصفات المحمودة، وفي الصحيحين وغيرهما نعم. المقدم: قبل ذلك في إشكال بسيط قد يرد على الإخوة المستمعين، أيضاً في تحديد الراجح في كون أجود بالنصب أو الرفع، ولعلكم تتفضلون باختصارها أو بتوضيحها أكثر، بالنسبة للموضع الثاني: وكان أجودَ، هذه هي المثبتة عندنا في الكتاب النصب، ويرجح النووي أنها بالرفع وكان أجودُ.

بالنسبة للموضع الأول ما فيه إشكال، "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أجودَ الناس"، خبر كان، الموضع الثاني: "وكان أجودُ ما يكون في رمضان" أجود اسم كان، وخبرها محذوف وجوباً، على حد قولهم: (أخطب ما يكون الأمير قائماً) يعني إذا كان قائماً، النووي يقول: "يجوز في أجود الرفع والنصب، والرفع أصحّ وأشهر"، وابن حجر يرجح الرفع لوروده بدون كان عند المؤلف في الصوم، كونه يرد بدون كان مرفوعاً لا يرجح كونه منصوباً مع كان؛ لأن كان عامل مؤثر في الجملة، إذا وجد وجد الأثر، وإذا ارتفع ارتفع الأثر، والمعروف أن الرواية بالمعنى عند أهل العلم، بل عند الجمهور جائزة بشرطها المعروف أن يكون الراوي عارف بمدلولات الألفاظ، عالماً بما يحيل المعاني، فلعل هذا من تصرف الرواة، وعلى هذا لا يرجح ما في رواية برواية أخرى؛ لأنه إذا حذفت كان ارتفع عملها، وعرفنا أن معنى أجود الناس أكثر الناس جوداً، والجود هو الكرم، وهو من الصفات المحمودة، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس".

وفي الترمذي من حديث سعيد مرسلاً: ((إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود)) وهو مرسل، ويروى من حديث سعد بن أبي وقاص وهو ضعيف، على كل حال الخبر فيه مقال، وله في حديث أنس رفعه: ((أنا أجود ولد آدم، وأجودهم بعدي: رجل علم علماً فنشر علمه، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله)) وهذا أيضاً في سنده مقال، وفي الصحيح من حديث جابر: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً فقال: لا، وهذا غاية في الجود، حين يلقاه جبريل -عليه الصلاة والسلام- إذ في ملاقاته زيادة في اطلاعه على علوم الله تعالى، لا سيما مع مدارسة القرآن، لا شك أن لقاء الصالحين مؤثر في النفس، ورؤيتهم مؤثرة، فلقاء الصالحين يزهد في الدنيا فإذا زهد الشخص في الدنيا، ورغب في الآخرة رخصت عنده الدنيا وما تتطلبه هذه الدنيا فينتج عن ذلك الجود، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يتضاعف جوده في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل -عليه السلام- يلقاه -أي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجوز الكرماني أن يكون الضمير المرفوع للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والمنصوب لجبريل، ورجح العيني الأول لقرينة قوله: حين يلقاه جبريل، في كل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن بالنصب مفعول ثاني، ليدارسه على حد: جاذبته الثوب، والفاء في (فيدارسه) عاطفة على (يلقاه) فبمجموع ما ذكر من رمضان ومدارسة القرآن وملاقاة جبريل يتضاعف جوده -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الوقت موسم الخيرات؛ لأن نعم الله تربو فيه على عباده.

والمدارسة مفاعلة من الدرس وهو القراءة على سرعة، يقول تعالى: {وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [(79) سورة آل عمران] وقال: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} [(169) سورة الأعراف] {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} [(105) سورة الأنعام] أي قرأت فالمدارسة هي القراءة، وهاهنا لما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- وجبريل -عليه السلام- يتناوبان في قراءة القرآن كما هو عادة القراء بأن يقرأ هذا عشراً والآخر عشراً أتى بلفظ المدارسة يعني المفاعلة، أو أنهما كانا يتشاركان في القراءة أي يقرءان معاً، وقد علم أن باب المفاعلة لمشاركة اثنين، نحو (ضارت زيداً) و (خاصمت عمراً) يقول القسطلاني: "وإنما دارسه بالقرآن لكي يتقرر عنده، ويرسخ أتم الرسوخ، فلا ينساه وكان هذا إنجاز وعده تعالى لرسوله -عليه الصلاة والسلام- حيث قال له: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى} [(6) سورة الأعلى] وقال الطيبي: "فيه تخصيص بعد تخصيص على سبيل الترقي، فضل أولاً جوده مطلقاً على جود الناس كلهم، ثم فضل ثانياً جود كونه في رمضان على جوده في سائر الأوقات، ثم فضل ثالثاً جوده في ليالي رمضان عند لقاء جبريل على جوده في رمضان مطلقاً، ثم شبه جوده بالريح، فقال: فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة"، فلرسول الله (والفاء) للسببية، واللام للابتداء، وزيدت للتأكيد، أو في جواب قسمٍ مقدر، فلرسول الله بالرفع مبتدأ خبره قوله: "أجود بالخير من الريح المرسلة" أي المطلقة، إشارةً إلى أنه في الإسراع أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارةً إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده -عليه الصلاة والسلام- كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه، وقال الزين بن المنير: "

وجه التشبيه بين أجوديته -صلى الله عليه وسلم- بالخير وبين أجودية الريح المرسلة أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سبباً لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم غيث الناس عن الريح المرسلة، وفي هذا جواز المبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس، ليقرب لفهم سامعه وذلك أنه أثبت له أولاً وصف الأجودية ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ منها في ذلك؛ لأن الريح قد تسكن"، قال بعضهم: حكمة المدارسة ليكون ذلك سنةً في عرض القرآن على من هو أحفظ منه، وقال الكرماني: "لتجويد لفظه" وقال غيره: لتجويد حفظه. وتعقب بأن الحفظ كان حاصلاً له، والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس، وفي الحديث جواز قول: رمضان من غير إضافة شهر، أطلق رمضان من غير إضافة شهر، فقال: "في كل ليلةٍ من رمضان"، ما قال: في كل ليلة من شهر رمضان، قد جاء عن بعض السلف كراهة إطلاق رمضان من دون إضافة شهر، ويروون في ذلك حديث أن رمضان من أسماء الله، لكن مثل هذا لا يلتفت إليه؛ لأنه جاء في النصوص الصحيحة في الصحيحين وغيرهما إطلاق رمضان من غير إضافة الشهر. وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان؛ لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملةً واحدة كان في رمضان، كما ثبت من حديث ابن عباس، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة وفاطمة -رضي الله عنهم-، قال ابن حجر: "وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب، والله أعلم بالصواب".

قد يقول قائل: ما المناسبة بين هذا الحديث وبدء الوحي؟ للإشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، ابتداء النزول، وهو ابتداء الوحي، يقول النووي: "في حديث الفوائد: منها: الحث على الجود في كل وقت، ومنها: الزيادة في الجود في رمضان، وعند الاجتماع بأهل الصلاح"، الحث على الجود في كل وقت، الجود صفة من الصفات المحمودة الذي هو الكرم، الكرم من الصفات المحمودة في الشرع وفي العقل وفي العرف، وكان العرب يتمدحون بالجود والكرم؛ لكن شريطة أن لا يخرج عن حده إلى حد الإسراف والتبذير، يقول: "ومنها الزيادة في الجود في رمضان" لأنه شهر تضاعف فيه الحسنات والأعمال، فينبغي أن يكون هذا الخلق الحسن مضاعفاً ليضاعف ثوابه، وعند الاجتماع بأهل الصلاح. يقول: "وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه". لا شك أن المجالسة لها أثر، أثر على النفس، وكم من شخص أثر في الناس بمرآه فقط قبل أن يتكلم، وكثير من أهل العلم إذا ترجموا لشيوخهم يذكرون شيئاً من ذلك، وأنهم يستفيدون من رؤية الشيخ أكثر من علمه، وذكر ابن الجوزي في ترجمة شيخه -أحد شيوخه- في فهرسته أنه استفاد من بكائه أكثر من فائدته في علمه، ولا شك أن مثل هذا مؤثر، مؤثر جداً، رؤية الشيخ العامل بعلمه، الداعي إلى علمه، المعلم، معلم الناس الخير لا شك أنه مؤثر، قد لا يتيسر لكثيرٍ من الناس زيارة مثل هؤلاء، إن تيسر فليحرص على ذلك، إن لم يتيسر فليقرأ في أخبارهم، أخبار هؤلاء الأخيار وهؤلاء الصلحاء، وعلى رأسهم مقدمهم -عليه الصلاة والسلام-، فليدم النظر طالب العلم في سيرته -عليه الصلاة والسلام-، ويسمعها غيره من عامة الناس لكي يقتدوا به ويأتسوا به، من ذلكم سير الصالحين من الصحابة والتابعين، لا شك أن لها أثراً كبيراً في نفوس الناس، وفيها أيضاً شحذ الهمم من حيث الاقتداء والائتساء بهم.

ومما يستفاد من الحديث: استحباب الإكثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار، لا شك أن القراءة -قراءة القرآن- في رمضان لا شك أن أنها من أفضل الأعمال، وإذا كان الحرف بعشر حسنات في سائر الأوقات فما بالك في رمضان! فعلى المسلم أن يغتنم عمره وأنفاسه في مدارسة كتاب ربه، وتلاوته وقراءته على الوجه المأمور به بالترتيل والتدبر، والتفهم والعمل والتطبيق. المقدم: عفواً يا دكتور، ألا يفهم من هذا الحديث أن قراءة القرآن في رمضان ليلاً أفضل منه نهاراً؟ نعم، بعضهم على ما سيأتي تأتي الإشارة إلى ذلك في التراجم، بعضهم ذكر أن المدارسة في الليل أفضل من النهار. المقدم: تفضل المدارسة على مجرد القراءة، أم أن هذا خاص به -عليه الصلاة والسلام- من أجل الضبط؟ لا شك أن من دارس القرآن مع غيره ممن هو أحفظ منه وأتقن يحصل له أجر الاقتداء والإئتساء، إضافةً إلى أجر التلاوة والتدبر. يقول: "واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لفعلاه"، وعلى كل حال الذكر أمر مطلوب، {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [(35) سورة الأحزاب] ((سبق المفردون)) وجاء في الذكر وفضل الذكر نصوص كثيرة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في فضله والإشادة به، وفضل أهله، من الأذكار التي لا تكلف الإنسان شيئاً: ((من قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرة -سبحان الله وبحمده يمكن أن تقال في دقيقة ونصف- حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) ولا يقول قائل: أن هذه مبالغة في الثواب، هذا الحديث في الصحيحين، يعني هذا في دقيقة ونصف يمكن أن يقال أو دقيقتين، ((حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) وهذا في الأذكار فما بالك في القرآن الذي هو كلام الله؟! هو الكتاب الذي من قام يقرؤه ... كأنما خاطب الرحمن بالكلمِ وشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يقول: "من قرأ القرآن على الوجه المأمور به أورثه من الإيمان واليقين والطمأنينة وراحة القلب ما لا يدركه إلا من صنع ومن فعل مثل هذا الفعل"، والله المستعان. ابن القيم -رحمه الله- يقول:

فتدبر القرآن إن رمت الهدى ... فالعلم تحت تدبر القرآنِ فتدبر القرآن وترتيله على الوجه المأمور به، ولا يعني هذا إخراجه عن الحد المشروع إلى التمطيط وزيادة الحروف والحركات التي غير مشروعة كما يفعله بعض القراء، لكن مما يعين على التدبر الترسل في القراءة والترتيل، وسماع القرآن من القراء المؤثرين الذين إذا سمعت قراءتهم جزم الإنسان بأنهم يخشون الله ويتقون الله في هذه القراءة، يعين على الترتيل وعلى التدبر مراجعة التفاسير الموثوقة عند أهل العلم، هي التي تكشف معاني هذه الآيات. طالب: أحسن الله إليكم يا شيخ: قلتم: أن الجملة الثانية (وكان أجود ما يكون في رمضان) المقصود بها أو المقصود بالجملة الأولى -عفواً- أن تذهب مفهوم الجملة الثانية؟ طيب هل تعتبر على ذلك الفهم وعلى هذا الكلام حسب فهمي أنا القاصر، هل تعتبر الجملة الثانية مؤكدة للجملة الأولى، أم ماذا إذا قلنا: أن الجملة الأولى لتذهب مفهوم الجملة الثانية، إذا ما فائدة الجملة الثانية تأكيد فقط؟ الجملة الثانية سيقت لبيان زيادة جوده -عليه الصلاة والسلام-، وزيادة كرمه في رمضان. المقدم: في رمضان أكثر من غيره؟ في رمضان أكثر من غيره نعم. طالب: يعني يا شيخ نفهم أن كرم النبي -صلى الله عليه وسلم- كان على درجات؟ على درجات نعم، هو على العموم في جميع الأوقات، وفي جميع الأماكن أجود الناس. المقدم: لكن كان يزداد في رمضان؟ هو أجود الناس يعني أدنى درجات الجود عنده -عليه الصلاة والسلام- لم يبلغها مخلوق، وهذا الجود يتضاعف في رمضان منه -عليه الصلاة والسلام-. طالب: يا شيخ كلامكم أن الجملة الأولى تنفي مفهوم الجملة الثانية؟ كان أجود ما يكون في رمضان، يعني لو ما جاء إلا هذه الجملة فقط؟ ما جاءت الجملة الأولى كان أجود الناس، لو لم تأت الجملة الأولى لقلنا: أنه في رمضان أجود من غيره، فعلى هذا ينزل عنده الجود في غير رمضان إلى حدٍ قد يلحقه فيه غيره من كرام الناس.

طالب: أحسن الله إليكم، هنا تأتي مسألة، لما قلتم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان أجود الناس، قد يقول بعض الناس: إن هناك من الأغنياء الآن قد يكون معهم أو عندهم من الغنى أكثر مما عند النبي -صلى الله عليه وسلم- هل. . . . . . . . .، وقد يكونوا يجودون مثلاً، بعض التجار عرفوا بالجود، هل ممكن يصلون مع كثرة تبرعهم إلى أكثر من جود النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع قلة ما كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ أبداً؛ لأن الجود نسبي، فالذي يملك المليارات ويتبرع بالملايين، هذا جواد بلا شك لكن ليس جوده مثل الذي يملك الشيء اليسير ويتبرع به كله، هذا نسبي، الجود نسبي بلا شك، وأيضاً الأوقات تختلف، شخص يجود في وقت لا يجد الناس فيه شيء غير شخص يجود على أناس ليسوا بحاجة إلى مثل هذا الجود، ولذا يختلف الإنفاق بعد الفتح عن الإنفاق قبل الفتح، إنسان يجود بماله، يجود بنفسه، يجود بجاهه، أنواع الجود درجات. طالب: قضية الكرم، قلتم: عدم السرف بعضهم يستدل يا شيخ بقول الله تعالى عن إبراهيم: {أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [(69) سورة هود] فلو جاء ضيف ووضع له ذبيحة أو أكثر أو أقل، يقول: مادام ما ترمى أنا عندي دليل من القرآن {أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} ما الضابط أحسن الله إليك؟ كون إبراهيم -عليه السلام- يأتي بالعجل لا يوجد غيره، فماذا يقدم لضيوفه؟ هل تتصور أن إبراهيم يذهب إلى الثلاجة ويأتي بكيلو أو كيلوين، مقدار ما يحتاجه الضيوف؟ ما عنده إلا هذا العجل، وهذه طريقة الناس كلهم قبل وجود هذه الأمور التي تحفظ اللحم من التلف، والله المستعان. الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرج الحديث في خمسة مواضع من صحيحه، الأول في بدء الوحي في هذا الموضع، قال الإمام -رحمه الله-: حدثنا عبدان قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا يونس عن الزهري ح، وحدثنا بشر بن محمد قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس فذكره، والمناسبة تقدمت الإشارة إليها.

عبدان لقب اسمه: عبد الله بن عثمان المروزي، وشيخه عبد الله بن المبارك، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- روى الحديث من طريق يونس ومعمر عن اثنين، الإمام البخاري -رحمة الله عليه- لا يبين صاحب اللفظ بخلاف مسلم فيبين صاحب اللفظ بدقة، حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان، هذا الإمام مسلم، والإمام البخاري كما هنا روى الحديث من طريق يونس ومعمر ولم يبين صاحب اللفظ، فهل اللفظ ليونس أو لمعمر؟ يقول ابن حجر -رحمه الله تعالى- في أواخر المجلد الأول من الفتح صـ (336) يقول: "قد ظهر من صنيع البخاري أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فإن اللفظ يكون للأخير، على هذا يكون اللفظ لمن؟ لمعمر، يونس ومعمر، فهل صاحب اللفظ معمر أو يونس؟ ابن حجر -رحمه الله- في هذا الموضع يقول: "أما باللفظ فعن يونس، وأما بالمعنى عن معمر" عكس القاعدة، لا شك أن القاعدة أغلبية وليست كلية، ولدينا أمثلة مما يخرج عن هذه القاعدة، وإن كان الغالب من صنيعه -رحمه الله تعالى- أن اللفظ للأخير، قال بعضهم أن مراد ابن حجر: صاحب اللفظ هو الأخير إذا روى الحديث عن شيخين من شيوخه، لا من شيوخ شيوخه أو شيوخهم، لكن كلامه عام، يشمل شيوخه ويشمل شيوخ شيوخه ومن فوقهم؛ لأنه يقول: قد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا أورد حديث عن غير واحد فإنه اللفظ يكون للأخير، لكن الذي معنا على خلاف هذه القاعدة. الموضع الثاني: في كتاب الصوم باب (أجود ما يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون في رمضان) قال الإمام -رحمه الله تعالى-: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا إبراهيم بن سعدٍ أخبرنا ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس قال: كان ... الحديث، ومناسبة الباب للكتاب والحديث للباب ظاهرة، أجود ما يكون في رمضان مناسب لكتاب الصوم، والحديث أجود ما يكون في رمضان مناسب بل مطابق مطابقةً تامة للترجمة. الموضع الثالث: في كتاب بدء الخلق باب (ذكر الملائكة) قال: حدثنا محمد بن مقاتل قال: أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري، قال: حدثني عبيد الله به، ومناسبته ظاهرة لذكر جبريل في الخبر؛ لأن الباب باب ذكر الملائكة وجبريل منهم.

الموضع الرابع: في كتاب المناقب في باب (صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-) قال: حدثنا عبدان قال: أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال: حدثني عبيد الله فذكره، ومناسبته ذكر جوده -عليه الصلاة والسلام- وهي صفة من صفاته -عليه الصلاة والسلام-. الموضع الخامس: في كتاب فضائل القرآن في باب (كان جبريل يعرض القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم-) قال: حدثنا يحيى بن قزعة، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله فذكره بنحوه، والمناسبة ظاهرة، فضائل القرآن باب (كان جبريل يعرض القرآن على النبي -عليه الصلاة والسلام-) فلا شك أن كون القرآن يعرض ويعتنى به، ويدارس في الأوقات الفاضلة، دليل على فضله، فهذه مناسبة الباب للكتاب، كتاب فضائل القرآن، ومناسبة الحديث للباب ظاهرة، والحديث مخرج في صحيح مسلم أيضاً. المقدم: قال -رحمه الله تعالى-: وعنه -رضي الله عنه- أن أبا سفيان ابن حربٍ أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركبٍ من قريش كانوا تجاراً بالشام، في المدة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم فدعا بالترجمان، فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال: لترجمانه قل لهم: إني سائل هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: هل كان من آبائه من ملكٍ؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها، ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه، قال: فماذا يأمركم؟ قلت يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما كان يعبد آباءكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ...

كتاب بدء الوحي (3)

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - شرح أحاديث كتاب بدء الوحي (3) الشيخ/ عبد الكريم الخضير "ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة". الحديث السابع، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعنه"، عن ابن عباس راوي الحديث السابق، "أن أبا سفيان بن حربٍ أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركبٍ من قريش"، هرقل بكسر الهاء وفتح الراء كدمشق، ممنوع من الصرف للعالمية والعجمة، وحكي فيه: هِرْقِل بسكون الراء وكسر القاف، والأول أشهر، ولقبه: قيصر، قاله الشافعي، كما يلقب ملك الفرس كسرى، وملك الترك يقال له: خاقان، ملك الحبشة يقال له: النجاشي، والقبط يقول له: فرعون، ومصر: العزيز، وحمير: تبع، وغير ذلك كما في عمدة القاري، "أرسل إليه" أي أرسل هرقل إليه، أي إلى أبي سفيان "في ركب"، حال كونه مع ركب، جمع راكب كصحب وصاحب، وهم أولو الإبل العشر فما فوقها، "من قريش" صفة لركب، ومن لبيان الجنس، أو للتبعيض، وكان عدد الركب ثلاثين رجلاً كما عند الحاكم وعند ابن السكن نحو من عشرين، وعند ابن أبي شيبة أن المغيرة بن شعبة منهم، وضعفه البلقيني بأن المغيرة كان مسلماً وقتها، فإنه أسلم عام الخندق فيبعد أن يكون حاضراً ويسكت مع كونه مسلماً.

والحال أنهم "كانوا تجاراً" بضم التاء وتشديد الجيم على وزن كفار، وبالكسر والتخفيف على وزن: كلاب تجار، جمع تاجر أي متلبسين بصفة التجارة، "بالشام" بالهمز، وقد يترك، وقد تسهل الكلمة فيقال: بالشام، وهو متعلق بـ (كانوا)، كانوا بالشام، أو بقوله: (تجاراً) تجاراً بالشام، "في المدة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مادّ" بتشديد الدال أصله مادد، فأدغم الأول في الثاني من المثلين، أدغمت الدال في الدال، وهذه مفاعلة والممادة هذه والمفاعلة من الطرفين، والمراد مدة صلح الحديبية سنة ست "فيها أبا سفيان وكفار قريش" أي مع كفار قريش على وضع الحرب مدة عشر سنين، وكفار بالنصب مفعول معه، أو عطف على المفعول به، وهو أبا سفيان "فأتوه" أي أرسل إليهم في تقدير، أي أرسل إليهم في طلب إتيان الركب فجاء الرسول يطلب إتيانهم فأتوه، وقد وجدهم الرسول بغزة، وهم أي هرقل وجماعته، وفي رواية: "وهو بإيلياء" بالمد على وزن كبرياء، و (إيليا) بالقصر وبحذف الياء الأولى (إلياء) وهو بيت المقدس، والباء بمعنى في، الباء للظرفية بمعنى في، على هذا لا ينكر إذا قيل: بمكان كذا، والمراد في مكان كذا، "فدعاهم" هرقل حال كونه "في مجلسه وحوله" منصوب على الظرفية وهو خبر المبتدأ الذي هو "عظماء الروم"، وهم ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم على الصحيح، ودخل فيهم طوائف من العرب من تنوخ وبهراء وغيرهم من غسان كانوا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم واستوطنوها، فاختلطت أنسابهم، وعند ابن السكن: "وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان"، "ثم دعاهم"، قال: (ثم دعاهم) عطف على قوله: (فدعاهم) وليس بتكرار، بل معناه أمر بإحضارهم، فلما حضروا وقعت مهلة، ثم استدناهم كما أشعر بذلك العطف بـ (ثم) كأنه دعاهم فأحضروا إلى قصره، ثم دعاهم ثانية إلى مجلسه، فليس هذا من التكرار، "ودعا ترجمانه" وفي رواية: "بترجمانه"، وفي رواية: "بالترجمان"، وهو بفتح المثناة الفوقية وضم الجيم، وقد تضم التاء، والترجمان: المفسر من لغةٍ إلى لغة، وقد يطلق على المبلغ باللغة نفسها، كما في الصحيح في كتاب الإيمان عن أبي جمرة نصر بن عمران قال: "كنت أترجم بين ابن عباس والناس"، يعني

يبلغ صوت ابن عباس، ثم قال هرقل للترجمان، يعني الأصل في الترجمان أنه يحول من لغة إلى لغة، لكن قد تطلق الترجمة بإزاء التبليغ، وإن كانت اللغة واحدةً، ثم قال هرقل للترجمان: قل لهم أيكم أقرب؟ فقال الترجمان: "أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل؟ " ضمن أقرب معنى أقعد فعداه بالباء، وفي رواية: "من هذا الرجل" على الأصل، وفي رواية: "إلى هذا الرجل" ولا إشكال فيها فإن أقرب يتعدى بـ (إلى) كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [(16) سورة ق] "أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل؟ " أقرب مضمن معنى أقعد به، وألصق به، لماذا لا نقول: أن الباء هنا بمعنى من؟ والحروف يأتي بعضها بدل بعض، كما يقولون: الحروف تتقارض، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- يرى أنه إذا أمكن تضمين الفعل فهو أولى من تضمين الحرف، تضمين الفعل معنى فعل آخر يناسب الحرف المذكور في السياق يتعدى بالحرف المذكور فلا شك أنه أولى من تضمين الحرف. وعلى كل حال جاء قوله: "أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل"، وجاء أيضاً في رواية: "من هذا الرجل" على الأصل في رواية: "إلى هذا الرجل"، ومعروف أن الأقرب يتعدى بإلى كما في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [(85) سورة الواقعة] والمفضل عليه محذوف تقديره من غيره، "الذي يزعم"، وفي روايةٍ: "يدعي أنه نبي" والذي يزعم لا شك أن مثل هذا الأسلوب يؤتى به أحياناً للتشكيك في الدعوة، وقد يؤتى به بإزاء القول، بحيث لا يتضمن التشكيك، وجاء (زعم) ويراد به قال، وكثيراً ما يقول سيبويه في كتابه: زعم الكسائي ويوافقه، ولا يعني هذا أنه يشكك في كلامه، في روايةٍ: "يدعي"، الادعاء لا شك أنه تشكيك في الدعوة، "أنه نبي، فقال أبو سفيان قلت: أنا أقربهم نسباً" أي من حيث النسب، وذلك لكونه من بني عبد مناف، وهو الأب الرابع للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأبي سفيان، وخصّ هرقل الأقرب لكونه أحرى بالإطلاع على ظاهره وباطنه أكثر من غيره؛ ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، الأقرب لا يمكن أن يقدح في نسب قريبه لأن القدح يتجه إليه. المقدم: صلة القرابة المعنية أحسن الله إليكم؟

في بني عبد مناف وهو الأب الرابع للنبي -عليه الصلاة والسلام- ولأبي سفيان أيضاً، فهم بمنزلة واحدة، خص هرقل الأقرب لماذا؟ لكونه أحرى بالإطلاع على ظاهره وباطنه أكثر من غيره؛ ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، لكن قد يقول قائل: إن القريب متهم في الإخبار عن نسب قريبه بما يقتضي شرفاً وفخراً، ولو كان عدواً له لدخوله في شرف النسب الجامع لهما، يعني إذا كان المحظور بالنسبة إلى الأبعد الطعن في نسبه، هذا أيضاً يمكن أن يقال: إن الأقرب يدعي نسباً له؛ لأنه يشاركه في هذا النسب أكثر من واقعه، قد يقال هذا، لكن هو بلا شك -عليه الصلاة والسلام- هو ذو نسبٍ وشرف، "فقال -هرقل-: أدنوه مني"، وأمر بإدنائه ليمعن في السؤال ويشفي غليله، "وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره" لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب؛ لأن الحياء في العينين، فإذا كانوا وراء ظهره لا يستحيون منه أن يواجهوه بالتكذيب إذا كذب، ويذكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهذا بعدما كفّ بصره قال: "لا تطلبن من أعمىً حاجة، فإن الحياء في العينين"، فهنا جعلهم عند ظهره؛ لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، وعلى كل حال الحياء خلق شرعي يتصف به الأعمى وغير الأعمى، وكم من مبصر يرد أدنى طلب، وكم من كفيف يخجل ويستحي من أن يرد أدنى طلب، "ثم قال لترجمانه: قل لهم -أي لأصحاب أبي سفيان- إني سائل هذا عن هذا الرجل -أي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأشار إليه لقرب العهد بذكره، عن هذا الرجل، كأنه يشير إليه، أشار إليه لقرب العهد بذكره- فإن كذبني -بالتخفيف أي نقل إلي الكذب- فكذبوه" بالتشديد، وكذب التخفيف يتعدى إلى مفعولين، مثل صدق، تقول: كذبني الحديث، وصدقني الحديث، وكذب بالتشديد يتعدى إلى مفعولٍ واحد، وهما من غرائب الألفاظ؛ لأن الغالب أن الزيادة تناسب الزيادة، يعني الفعل اللازم يعدى بالتضعيف، الفعل اللازم يعدى بالتضعيف، وهذا لما ضعّف قلّ تعديه، بدلاً من أن يتعدى إلى اثنين، صار يتعدى إلى الواحد، وهذا من الغرائب، من غرائب الألفاظ، لماذا؟ لأن الغالب أن الزيادة تناسب الزيادة وبالعكس والأمر هنا بالعكس، قال أبو سفيان: "فوالله لولا الحياء من أن يأثروا

عليّ" بضم الثاء وكسرها، و (عليّ) بمعنى (عني) يعني رفقته، ومراده بذلك أن يرووا عنه كذباً، وفي رواية: "الكذب" فأعاب به؛ لأنه قبيح ولو على عدو، وهذا يقوله أبو سفيان حال كفره، مما يدل على أن الفطر السليمة تأبى الكذب وتنفر منه، وأبو سفيان حال كفره نفر من أن يروى عنه الكذب، فمن المؤسف جداً أن يوجد في المسلمين من لا يتحرج من الكذب بل يكذب لأدنى سبب، بل قد يكذب لغير مصلحة، والله المستعان. وكل هذا سببه البعد عن تعاليم هذا الدين الذي جاءنا بمكارم الأخلاق، "لكذبت عنه" لأخبرت عن حاله بكذب لبغضي إياه، وفي رواية: "لكذبت عليه" هذا واقع الكفار يبغضون النبي -عليه الصلاة والسلام- بغض عقدي، لكنهم لا يلبثون إذا أسلموا أن يكون أحب الناس إليهم لما جبل عليه من الصفات الكريمة والأخلاق الحميدة، إضافةً إلى أن حبه -عليه الصلاة والسلام- ديانة، "ثم كان أول ما سألني عنه" بنصب أول، قال الحافظ: وبه جاءت الرواية، وهو خبر كان، واسمها ضمير الشأن، ويجوز رفع أول اسماً لكان، وذكر العيني: وروده روايةً، وحينئذٍ يكون الخبر: أن قال: كيف نسبه فيكم؟ -صلى الله عليه وسلم-، أي ما حال نسبه، أهو؟ طالب: هو خبر. . . . . . . . . المصدر المؤول (أن قال). طالب: ... يعني .. قوله: كان أول، قوله: كيف نسبه فيكم؟ المصدر المؤول من أن وما دخلت عليه. طالب: وتكون أول خبر. {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ} [(177) سورة البقرة] البرّ خبر ليس، والمصدر المنسبك من أن وما دخلت عليه اسم ليس، وإذا جئت بالبرُّ وهنا أولُ، يكون خبرها المصدر المنسبك وهكذا. أن قال: كيف نسبه فيكم؟ -صلى الله عليه وسلم-، يعني ما حال نسبه أهو من أشرافكم أم لا؟ "قلت: هو فينا ذو نسب"، أي صاحب نسبٍ عظيم، فالتنوين للتعظيم، كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [(179) سورة البقرة] تنوين حياة هذا لا شك أنه للتعظيم، يعني حياة عظيمة.

قال هرقل: "هل قال هذا القول منكم من قريش أحد قط؟ " بتشديد الطاء المضمومة، ولا يستعمل إلا في الماضي المنفي، واستعمل هنا بغير أداة النفي وهو نادر، وأجيب بأن الاستفهام حكمه حكم النفي، كأنه قال: هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط قبله؟ بالنصب على الظرفية، وفي روايةٍ: مثله؟ "قلت: لا"، أي لم يقله أحد قبله، قال هرقل: "فهل كان من آبائه من ملك؟ " بكسر اللام، و (من) بكسر الميم، وفي رواية: (مَن ملَك) مَن بفتح الميم ومَلك بكسر اللام فعل ماضي، وروي بإسقاط (مِن) والأول أشهر وأرجح، من ملِك. قال أبو سفيان: "قلت: لا"، قال هرقل: "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ " قال: أبو سفيان: "قلت: بل ضعفاؤهم" أي اتبعوه، والشرف: علو الحسب والمجد، وقد شرُف بالضم فهو شريف، وقوم شرفاء وأشراف، وجاء في الحديث عند الترمذي ((الحسب المال)) لا شك أن المال حسب، ووسيلة إلى الشرف، شرف الدنيا، وشرف الآخرة إن استعمل فيما يرضي الله -سبحانه وتعالى-، وخصص ابن حجر الشرف هنا بأهل النخوة والتكبر؛ لأنه لا كل شريف ليخرج مثل أبي بكر وعمر ممن أسلم قبل سؤال هرقل، وتعقبه العيني بأنهما من أهل النخوة أيضاً، فقول أبي سفيان جرى على الغالب، يعني غالب أتباعه -عليه الصلاة والسلام- هم الضعفاء، وفي رواية ابن إسحاق: "تبعه من الضعفاء والمساكين والأحداث، وأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد"، قال ابن حجر: "وهو محمول على الأكثر الأغلب. قال هرقل: "أيزيدون أم ينقصون؟ " بهمزة الاستفهام، وفي روايةٍ بإسقاطها، وجزم ابن مالك بجوازه مطلقاً خلافاً لمن خصه بالشعر، يعني مثل قوله: . . . . . . . . . ... بسبعٍ رمينا الجمر أم بثمان؟ هذا قالوا: خاص بالشعر، وابن مالك يجوزه مطلقاً، و (أم) إنما يعطف بها إثر الهمزة من بين حروف الاستفهام، كما قال ابن مالك -رحمه الله تعالى-: وأم بها اعطف إثر همز التسوية ... أو همزةٍ عن لفظ أي مغنية

فلا تقع بعد (هل) مثلاً، هذا الأصل فيها، مع أنه جاء في رواية من روايات الحديث في كتاب الإيمان أن هرقل قال له: "سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ " وجاء في حديث جابر: ((هل تزوجت بكراً أم ثيباً؟ )) فهذا يدل على الجواز، وفي شرح القسطلاني في كتاب الإيمان في الموضع الثاني، يقول: "سألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ " وفي الرواية السابقة: الاستفهام بالهمزة وهو القياس؛ لأن أم المتصلة مستلزمة لهمزة، وأجيب بأن أم هنا منقطعة، أي بل ينقصون فيكون إضراباً عن سؤال الزيادة، واستفهاماً عن النقصان، على أن جار الله أطلق على أنها لا تقع إلا بعد الاستفهام فهو أعم من الهمزة، يعني تقع بعد أي حرف من حروف الاستفهام، والمراد بجار الله الزمخشري كما هو معروف. قال أبو سفيان: "قلت: بل يزيدون" قال هرقل: "فهل يرتد أحد منهم سخطةً؟ " بفتح السين المهملة، (سخطةً) منصوب مفعول لأجله، أو حال أي ساخطاً أي كراهةً وعدم رضا، وجوز ابن حجر (سخطةً) الضم والفتح، سُخطةٌ وسَخطةً، أي فهل يرتد أحد منهم كراهةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أخرج به من ارتد مكرهاً، أو لا سخطاً لدين الإسلام بل لرغبةٍ في غيره كحظٍ نفساني، كما وقع لعبيد الله بن جحش، قال أبو سفيان "قلت: لا" فإن قلتَ: لمَ لم يستغن هرقل بقوله: "بل يزيدون" عن قوله: "هل يرتد أحد منهم؟ " أجيب بأنه لا ملازمة بين الازدياد والنقص، فقد يرتد بعضهم ولا يظهر فيهم النقص باعتبار كثرة من يدخل، وقلة من يرتد مثلاً، فلا تلازم حينئذٍ، وإنما سأل عن الارتداد؛ لأن من دخل على بصيرةٍ في أمرٍ محقق لا يرجع عنه بخلاف من دخل في أباطيل، قال هرقل: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب" يعني على الناس قبل أن يقول ما قال، قال أبو سفيان: "قلت: لا" وإنما عدل السؤال عن نفس الكذب إلى السؤال عن التهمة تقريراً لهم عن صدقه؛ لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها؛ لأن الشخص إذا لم يتهم بالكذب هذا نفي للكذب من باب أولى، إذا نفيت التهمة فنفي الكذب نفسه من باب أولى.

وفي علوم الحديث من ألفاظ الجرح عندهم الكذب والتهمة بالكذب، فالكذب المراد به الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام-، والتهمة بالكذب كون الراوي جُرب عليه الكذب، لكن لا على النبي -عليه الصلاة والسلام- بل في حديثه مع الناس، هذا يقال له: متهم بالكذب؛ لأن المراد بالكذب الذي هو شر أنواع الجرح وأسوأ مراتب التجريح، المراد به على النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي جاء الوعيد عليه، ودونه التهمة بالكذب، بأن يثبت بأن هذا الراوي يتعاطى الكذب في كلامه العادي مع الناس، لكن لم يثبت عنه أنه كذب على النبي -عليه الصلاة والسلام- وحينئذٍ يكون متهماً بالكذب. قال هرقل: "فهل يغدر؟ " بكسر الدال أي ينقص العهد، قال أبو سفيان: "قلت: لا، ونحن منه -أي النبي -عليه الصلاة والسلام- في مدة" أي مدة صلح الحديبية، أو غيبةٍ وانقطاع، فلا ندري ما هو فاعل فيها، أي في المدة، وفي قوله: "لا ندري" إشارة إلى عدم الجزم بغدره، هذه الكلمة لم يمكن أبو سفيان أن يدخل من أجل الطعن بالنبي -عليه الصلاة والسلام- إلا في هذه أو من خلال هذه الكلمة، يقول: "لا ندري ما هو فاعل فيها" ولذا لم يلتفت إليها هرقل، قال أبو سفيان: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً أنتقصه به غير هذه الكلمة"، قال في الفتح: "التنقيص هنا أمر نسبي؛ لأن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبةً ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة كأن في كلام أبي سفيان تجويز الغدر منه -عليه الصلاة والسلام-، هو لم يقع منه، ولم يثبته أبو سفيان جازماً، وإنما جوز أن يغدر في هذه المدة التي لا يدرى ما هو صانع فيها. وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- معروفاً عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر، ولكن لما كان الأمر مغيباً لأنه مستقبل أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، يعني لو نسب إلى الكذب قال: هذا مجرد توقع، فلذلك أورده على التردد، ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه.

و (غير) بالرفع صفة لكلمة، ويجوز فيها النصب صفة لشيءٍ، قال هرقل: "فهل قاتلتموه؟ " نسب ابتداء القتال إليهم ولم ينسبه إليه -عليه الصلاة والسلام- لما اطلع عليه من النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يبدأ قومه بالقتال حتى يقاتلوه، ولا يعني هذا أن جميع صور الجهاد في الإسلام تكون دفاعاً، لا يعني هذا أن جميع صور الجهاد هي الدفاع، وإنما من الجهاد في الإسلام ما هو ابتداءً، {قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} [(123) سورة التوبة] فإدخال الناس وإرغامهم من الدين إذا أبوا أن يدخلوا، وصدوا عن الدين، وأبوا أن يدفعوا الجزية لا بد أن يقاتلوا، قال أبو سفيان: "قلت: نعم قاتلناه" قال هرقل: "فكيف كان قتالكم إياه؟ " بفصل ثاني الضميرين (إياه) والاختيار أن لا يجيء المنفصل ... إذا تأتى أن يجيء المتصل

يعني يمكن أن يقول: (فكيف كان قتالكموه؟ ) هنا يتأتى مجيء الضمير المتصل، والاختيار أن لا يجيء المنفصل مع إمكان مجيء المتصل، وقيل: (قتالكم إياه) أفصح من (قتالكموه) لاتصال الضمير، فلذلك فصله وصوبه العيني تبعاً للزمخشري، قال أبو سفيان: "قلت: الحرب بيننا وبينه سجال" بكسر السين، وتخفيف الجيم، أي نوب، نوبةً لنا، ونوبةً له، كما قال: "ينال منا وننال منه" أي يصيب منا ونصيب منه، والجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب، قال هرقل: (ما) وفي نسخةٍ: (بما) وفي نسخةٍ: (فما) ذا يأمركم؟ " أي ما الذي يأمركم به؟ قال أبو سفيان: "قلت يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً" بالواو، وفي روايةٍ بحذفها: "لا تشركوا به شيئاً" وحينئذٍ فيكون تأكيداً لقوله: "وحده"، "واتركوا ما يقول: آباؤكم" من عبادة الأصنام وغيرها، مما كانوا عليه في الجاهلية، "ويأمرنا بالصلاة" المعهودة المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، وفي نسخةٍ: (والزكاة)، "والصدق" وهو كلام المطابق للواقع، وفي رواية: (بالصدقة) بدل الصدق، ورجحها البلقيني، "والعفاف" بفتح العين أي الكف عن المحارم، وخوارم المروءة، والصلة للأرحام، وهي كل ذي رحمٍ محرم لا تحل مناكحته لو فرضت الذكورة مع الأنوثة، ضابط المحرم أو الرحم التي تجب صلتها قالوا: كل ذي رحمٍ محرم لا تحل مناكحته ولو فرضت الذكورة مع الأنوثة، يعني لو قدر أن أحدهما ذكر والآخر أنثى لا تجوز المناكحة بينهما حينئذٍ تجب الصلة. وقيل: كل ذي قرابة، الصلة لذوي الأرحام لكل ذوي قرابة، والصحيح عمومه في كل ما أمر الله به أن يوصل، قال في التوضيح: "من تأمل ما استقرأه هرقل من هذه الأوصاف تبيّن له حسن ما استوصف من أمره واستبرأه من حاله فما أعقله من رجل لو ساعدته المقادير بالاتباع" يعني لو كتب له أن يسلم، لا شك أن هذه الأسئلة تنم عن عقلٍ راجح، لكن إرادة الله -سبحانه وتعالى- له وإيثاره للدنيا على الآخرة، الفاني على الباقي لا شك أن هذا شيء مقدر عليه لكن باختياره وبإمكانه أن يختار الباقي على الفاني، والأمر يومئذٍ لله.

فقال: للترجمان، قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرتَ: أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلتُ رجل يتـ .... يتأسى ويأتسي كلها جاءت في هذا وذاك. لأنها كتب عندنا (يأتسي) ولا فرق بين الروايتين، يأتسي أو يتأسى كلاهما وارد. يتأسى بقولٍ قيل قبله، وسألتك هل كان في آبائه من ملكٍ؟ فذكرتَ: أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت: أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل: لا تغدر، وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتشجمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. بعد أن أنهى هرقل الأسئلة التي سألها أبا سفيان عن حاله -عليه الصلاة والسلام-، والإجابات من أبي سفيان عقّب هرقل على هذه الأسئلة واحداً بعد الآخر، "فقال هرقل للترجمان: قل له -أي لأبي سفيان- سألتك عن نسبه -أشريف هو أم لا؟ - فذكرت أنه فيكم ذو -أي صاحب- نسبٍ" أو شريفٍ عظيم، "فكذلك الرسل تبعث في –أشرف- نسب قومها" وجزم به هرقل لما تقرر عنده في الكتب السابقة، "وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ " وفي نسخةٍ: (قبله) "فذكرت: أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقولٍ قيل قبله"، يأتسي يقتدي ويتبع، وفي رواية: يتأسى.

"وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت: أن لا، قلت: فلو كان من آبائهم ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه" بالإفراد، وفي روايةٍ بالجمع: (آبائه) فإن قيل: لم قال هرقل في هذين الموضعين (فقلتُ) يعني السؤال الثاني والثالث (فذكرتَ، فقلتُ) والسؤال الثاني: (قلتُ فلو كان) في السؤال الأول والرابع، شوف صيغة السؤال والجواب، (سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك) ما قال: (قلت فكذلك) وفي الرابع على ما سيأتي ما في (قلت) الثاني والثالث (سألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت: أن لا، فقلت) (وسألتك هل كان من آبائهم من ملك؟ فذكرت: أن لا، قلتُ: فلو كان) فإن قيل: لمَ قال هرقل في هذين الموضعين: فقلت؟ نسب التعقيب له؛ لأنهما مقاما فكرٍ ونظر، بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل، بقية الأسئلة، الأسئلة مجموعها عشرة، في هذين الموضعين قال: قلت، نسب التعليق له، الأسئلة الثمانية ما قال: قلت؛ لأنه تلقاها من الكتب السابقة نقلاً، في الموضعين السؤال الثاني والثالث قال: قلت؛ لأن هذين الموضعين مقام فكر ونظر، هذا من تلقاء نفسه جاء بهذا التعقيب، بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل. "وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت: أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر" اللام فيه تسمى لام الجحود، لملازمتها النفي، وفائدتها تأكيد النفي {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [(33) سورة الأنفال] هذه تسمى لام الجحود، الكذب على الناس قبل أن يظهر رسالته ويكذب على الله بعد إظهارها. "وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت: أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسول" غالباً لأنهم أهل الاستكانة، بخلاف أهل الاستكبار المصرين على الشقاق بغياً وحسداً كأبي جهل، ويؤيد استشهاده على ذلك قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [(111) سورة الشعراء] المفسر بأنهم الضعفاء على الصحيح.

"وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان فإنه لا يزال في زيادة حتى يتم" بجميع أموره المعتبرة فيه من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وغيرها، ولهذا نزل في آخر عمره -عليه الصلاة والسلام-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [(3) سورة المائدة]. "وسألتك: أيرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب" القلوب مفعول، وبشاشته فاعل، أي تخالط بشاشة الإيمان القلوب التي يدخل فيها، وفي رواية: (يخالط بشاشةَ) بالنصبِ، والقلوبِ مجرور على الإضافة، والمراد ببشاشة القلوب انشراح الصدور، والفرح والسرور بالإيمان. "وسألتك هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر" لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر بخلاف من طلب الآخرة، من طلب الآخرة لا يمكن أن يسعى من أجل تحقيقها والسعي إليها بأمرٍ يحرمه الله عليه، لا شك أن ما عند الله لا ينال بسخطه كما هو معروف. "وسألتك بما يأمركم؟ " بإثبات الألف مع (ما) الاستفهامية وهو قليل، قاله الزركشي وغيره، الأصل الحذف (بم) هذا الكثير الغالب {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} [(1) سورة النبأ] ما في (عمّا) يتساءلون؟ الأصل حذف الألف، وإثباتها قليل كما هنا، "فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان" جمع وثن وهو الصنم، واستفاده هرقل من قوله: "ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول: آباؤكم" لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان، "ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف" وهذا تقدم، ولم يعرج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان، يعني قوله: "ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها؟ " لم يعرج عليها، لأنها لا رصيد لها من الواقع، وهي أيضاً من عدو. وسقط هنا إيراد السؤال العاشر وجوابه، وثبت ذلك في كتاب الجهاد "وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أنه قد فعل، وأن حربكم وحربه تكون دولاً، يدال عليكم المرة وتدالون عليه الأخرى، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة"، هذا السؤال العاشر سقط هنا إيراده.

ثم قال هرقل لأبي سفيان: "فإن كان من تقول حقاً" لأن الخبر يحتمل الصدق والكذب كما هو معروف "فسيملك -يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- موضع قدمي هاتين -يعني أرض ملكه- وقد كنت أعلم أنه خارج" قاله لما عنده من علامات نبوته -عليه الصلاة والسلام- الثابتة في الكتب القديمة، وفي رواية في كتاب التفسير: "فإن كان ما تقول حقاً فإنه نبي" وفي الجهاد: "وهذه صفة نبي"، "لم أكن أظن أنه منكم" يعني من قريش، "فلو أني أعلم أني أخلص -أي أصل- إليه لتجشمت" أي لتكلفت لقاءه على ما فيه من المشقة، قال ابن بطال: "هذا التجشم هو الهجرة"، وفي مرسل ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال: "ويحك، والله إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي ولولا ذلك لاتبعته"، وخفي على هرقل قوله -صلى الله عليه وسلم- الآتي في كتاب النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((اسلم تسلم)) خفي عليه قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أسلم تسلم)) فلو حمل الجزاء السلامة تسلم، على عمومه في الدارين لسلم، لسلم لو أسلم من جميع المخاوف في الدنيا والآخرة، "ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه"، قال ذلك مبالغةً في الخدمة، وفي رواية: "لغسلت عن قدمه"، أو في رواية: "لغسلتُ قدميه" بدون عن، ثم دعا هرقل بكتاب النبي -عليه الصلاة والسلام-. أحسن الله إليكم، عندما قال هنا: سألتك هل كان في آبائه من ملك؟ هل كانت قريش لا تعتبر عبد المطلب ملكاً في وقتها وليس له إمرة، وبالتالي لا يحتسبون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من سلالة قومٍ كان لهم رأي في قريش؟ العرب في الجاهلية عاشوا فوضى، ليس هناك ملك مرتب منظم كما عند غيرهم من الأمم، فهو في الاصطلاح أو في العرف السياسي سواء كان في القديم أو الحديث لا يسمى ملك، كبير وسيد وكبير قوم، ليس بملك عرفاً؛ لأنهم يعيشون فوضى، ما اعتبر ملك. هذه الحادثة كانت في أثناء فترة الصلح؟ أي نعم، بعد صلح الحديبية سنة ست. ثم حصل بعدها ما حصل من إسلام أبي سفيان -رضي الله عنه- ونقل هذه الحادثة إلى الصحابة؟

نعم إيه، نقلها عنه ابن عباس، نقلها كما هي، وهذا يدل على أمانة الصحابة وثقتهم؛ لأن فيها بعض الأشياء التي لو كانت المسألة بالرأي كان يغطيها أبو سفيان، بل يخفيها ولا يرويها للناس؛ لأنها قدح فيه. ونحن نسميه الآن هذا نسميه حديثاً كما تفضلتم قبل قليل؟ أي نعم، هو حديث؛ لأن فيه وصف النبي -عليه الصلاة والسلام-، والحديث ما أثر عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو ما يروى عنه -عليه الصلاة والسلام- من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو وصف، الوصف من الحديث، ولذا الشمائل قسم من أقسام السنة. قال: ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و { ... يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [(64) سورة آل عمران] قال: قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي: لقد أمِر أمرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام. في تتمة الحديث السابق في قصة هرقل، "ثم دعا –هرقل- بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي بعث به دحية"، بكسر الدال وهو فاعل، بعث به دحية، وهو ابن خليفة الكلبي، صحابي جليل كان من أحسن الناس وجهاً، أسلم قديماً، ذُكر في الشروح أنه كان يمشي متلثماً لئلا يفتتن به من جماله، ولذا جاء جبريل -عليه السلام- في صورته.

وفي رواية: "بعث به مع دحية" أي بعثه -عليه الصلاة والسلام- معه، وكان في آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية "إلى عظيم بصرى"، بضم الباء الموحدة مقصوراً مدينة في الشام من أعمال حوران، أي أميرها الحارث بن أبي شمر الغساني، "فدفعه إلى هرقل فقرأه" هرقل بنفسه أو الترجمان بأمره، وفي المرسل محمد بن كعب القرظي عند الواقدي، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية "فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم"، وفي ذلك استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافراً في جميع مكاتباته -عليه الصلاة والسلام- يفتتح الكتاب بالبسملة دون الحمدلة، وهذا يدل على أن الرسائل تختلف عن الخطب، وافتتح سليمان -عليه السلام- كتابه إلى بلقيس ببسم الله الرحمن الرحيم كما جاء النص عليه في القرآن الكريم. "من محمد عبد الله ورسوله" وصف نفسه الشريفة بالعبودية تعريضاً لبطلان قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، لأن الرسل مستوون في أنهم عباد الله، وفيه أيضاً الرد على الغلاة الذين غلوا فيه -عليه الصلاة والسلام- ممن ينتسب إلى الإسلام كمن يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العممِ يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به؟ أين الله -سبحانه وتعالى-؟ إلى أن قال: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلمِ

ماذا أبقى لله مثل هذا؟ نسأل الله العافية، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أشرف مقاماته العبودية {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [(19) سورة الجن] {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [(1) سورة الإسراء] وهنا قال: "من محمد عبد الله ورسوله"، فالوصف بالعبودية رد على الغلاة، والوصف بالرسالة رد على من ينتقصه -عليه الصلاة والسلام-، وفيه استحباب ابتداء الكاتب بنفسه قبل المكتوب إليه، السنة في المكاتبات أن يقال: من فلان إلى فلان، هذه الطريقة المتبعة عنده -عليه الصلاة والسلام-، من فلان إلى فلان، فيستحب للكاتب أن يبدأ بنفسه قبل المكتوب إليه، ونص على هذا أهل العلم استنباطاً من مثل هذا الحديث، وإن كان بعضهم يختار البداءة بالأكبر، فإن كان الكاتب أكبر قدم اسمه، وإن كان المكتوب إليه أكبر قُدم، إلى فلان بن فلان من فلان، عملاً بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((كبّر كبّر)) وأما الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فكان يبدأ في مكاتباته باسم المكتوب إليه دائماً، سواء كان صغيراً أو كبيراً تواضعاً منه -رحمه الله-، ولا شك أن هذا ثابت عنه -عليه الصلاة والسلام- فالأولى الاقتداء به مع استصحاب التواضع وهضم النفس، يعني يستحضر الإنسان الاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- ويستحضر أيضاً التواضع وهضم النفس، وأنه ما قدم اسمه إلا من أجل الائتساء والاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، ولو قرن اسمه بوصفٍ يدل على التواضع، وقرن اسم المكتوب إليه الذي أخر اسمه وإن كان كبيراً بما يدل على رفعة شأنه كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى هرقل عظيم الروم، فقال في الخطاب: "إلى هرقل عظيم الروم" أي المعظم عندهم، ووصفه بذلك لمصلحة التأليف، ولم يصفه بالإمرة ولا الملك، لكونه معزولاً بحكم الإسلام، حكماً ليس بملك، وإنما هو عظيم قومه، وذكر المدائن أن القاريء لما قرأ: (من محمد) يعني قدم اسمه -عليه الصلاة والسلام- غضب أخو هرقل، واجتذب الكتاب فقال له هرقل: مالك؟ فقال: لأنه بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، فقال هرقل: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتابٍ قبل أن أعلم ما فيه؟ لئن كان رسول الله إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد

صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه، "سلام" بالتنكير، وفي رواية: (السلام) وجوز أهل العلم على حدٍ سواء، خيروا بين التعريف والتنكير في السلام على الحي، ولذا قالوا: ويخير بين تعريفه وتنكيره في سلام على الحي، أما بالنسبة للميت فيكتفى اللفظ النبوي الوارد: ((السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين ... )) الخ، "على من اتبع الهدى" أي الرشاد على حد قول موسى وهارون لفرعون: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [(47) سورة طه] والمعنى: سلم من عذاب الله من أسلم، فليس المراد به التحية، وإن كان اللفظ يشعر به؛ لأنه لم يسلم، فليس هو ممن اتبع الهدى. "أما بعد" بالبناية على الضم، لقطعه عن الإضافة المنوية لفظاً، وسبق الحديث عنها باختصار في شرح المقدمة، وذكر الخلاف في أول من قالها من بين ثمانية أقوال، يجمعها قول الشاعر: جرى الخلف أما بعد من كان بادئاً ... بها عدّ أقوال وداود أقربُ ويعقوب أيوب الصبور وآدم ... وقس وسحبان وكعب ويعربُ الأقرب أنه داود -عليه السلام-، وأنها فصل الخطاب الذي أوتيه، ويؤتى بها للفصل بين الكلامين، وللانتقال من أسلوبٍ إلى آخر، وتقدم الكلام عليها في شرح المقدمة، والإتيان بها سنة كما تقدم ذكره؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لزمها في مكاتباته وفي خطبه -عليه الصلاة والسلام-، وينبغي أن يؤتى بها بلفظها (أما بعد) ولا تغني الواو عن (أما) وبعد، وإن كانت دارجة على ألسنة الناس، الناس يقولون: وبعد، لكن الأصل (أما بعد). بعضهم يقول: ثم أما بعد؟ هذه لا داعي لها، ثم، لا داعي لها إلا إذا أوتي بها للانتقال مرةً ثانية إلى أسلوبٍ ثالث، تقول: ثم أما بعد عطفاً على أما بعد الأولى، نعم جاء في بعض نسخ تفسير الطبري العطف بـ (ثم) في الموضع الأول، لكن العبرة بما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام-، ما أثر عنه ولا نص واحد فيه (ثم أما بعد). في قوله: (الهدى) -عليه الصلاة والسلام- المراد: الإسلام؟ الرشاد، الذي هو الإسلام، نعم، الدين الحق. وبالتالي يفهم من هذا أنه لا يجوز أن يسلم على غير المسلم؟

نعم ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز، السلام المطلق لا يجوز، يقول بعد هذا: "فإني أدعوك بدِعاية الإسلام" بكسر الدال المهملة، وفي رواية: "بداعية الإسلام" أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، والباء بمعنى (إلى) أي أدعوك إلى الإسلام، "أسلِم" بكسر اللام، "تسلَم" بفتحها، "يؤتك الله أجرك مرتين" بالجزم في الأول على الأمر، وفي الثاني جواب له، والثالث بحذف حرف العلة لالتقاء الساكنين كما هو معروف، جواب ثانٍ له أيضاً أو بدل منه، "أسلم تسلم" (أسلم) فعل أمر مبني على السكون، (تسلم) جواب الطلب أو جواب شرط مقدر، إن تسلِم تسلَم، كما يقوله بعضهم، "يؤتك" جواب ثاني أيضاً أو بدل منه، وجاء في كتاب الجهاد على ما سيأتي تكرار (أسلم) أسلم تسلم، وأسلم يؤتك، على ما ستأتي الإشارة إليه قريباً -إن شاء الله تعالى-. وإعطاء الأجر مرتين لكونه مؤمناً بنبيه ثم آمن بمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، وقد جاء في هذا الحديث الصحيح: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: وذكر منهم: رجل آمن بنبيه ثم آمن بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا منهم، أو من جهة أن إسلامه يكون سبباً لإسلام أتباعه، لكن الأول أقرب.

وقوله: "أسلم تسلم" فيه غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز والبلاغة، وجمع المعاني مع ما فيه من الجناس الاشتقاقي، وهو أن يرجع اللفظان في الاشتقاق إلى أصلٍ واحد، وفي الجهاد عند المؤلف: "أسلم تسلم، وأسلم يؤتك" بتكرار أسلم، مع زيادة الواو في الثانية، فيكون الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه على حد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} [(136) سورة النساء] قال الحافظ ابن حجر: "وعورض بأن الآية في حق المنافقين، أي يا أيها الذين آمنوا نفاقاً آمنوا إخلاصاً، قاله مجاهد"، ومنزلة مجاهد في التفسير معروفة، إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، عرض التفسير ثلاث مرات على ابن عباس من أوله إلى آخره، وابن عباس -رضي الله عنه ما- يقول: "نزلت في مؤمني أهل الكتاب، يا أيها الذين آمنوا يعني بأنبيائهم السابقين آمنوا بمحمد -عليه الصلاة والسلام-"، وهي عند جماعة من المفسرين خطاب للمؤمنين بمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام- ويكون المراد بـ (آمنوا) الثانية دوموا واثبتوا على إيمانكم، يا أيها الذين آمنوا أنتم على خير على إيمان لكن اثبتوا على هذا الخير ودوموا عليه، فيكون المراد الاستمرار عليه، ومنهم من يقول: أن المراد بـ (آمنوا) هنا: ازدادوا من الإيمان، يا أيها الذين آمنوا عندكم أصل الإيمان صحيح، لكن ازدادوا من الإيمان، فالإيمان يقبل الزيادة كما هو معروف.

"فإن توليت" أي أعرضت عن الإسلام فإن عليك مع إثمك إثم اليريسين بمثناتين تحتيتين، جمع يريس على وزن كريم، وفي رواية: (الأريسين) بقلب المثناة الأولى همزة، وفي أخرى: (اليريسيين) بياءين جمع يريسي، وفي رواية: (الأريسيين) والمعنى أنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب اتباعهم له على استمرار الكفر؛ فلأن يكون عليه إثم نفسه من باب أولى، فإن قلت: هذا معارض لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [(164) سورة الأنعام] أجيب بأن وزر الإثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين، جهة فعله، وجهة تسببه، أن يقتدى به في أي عمل سواء كان عمل خير أو عمل شر، من سنّ سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، عليه إثمها وإثم من عمل بها، يتحمل إثمه بفعله وإثم غيره بالاقتداء به، ولا شك أن الكبراء والعظماء يقتدى بهم {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} [(67) سورة الأحزاب] فلا شك أن عليهم إثم من يقتدي بهم، والأريسيون الأكارون أي الفلاحون أي عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك، ونبه بهم على جميع الرعايا لأنهم الأغلب في رعاياه، والأسرع انقياداً، فإذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا. وقال أبو عبيد: المراد بالفلاحين أهل مملكته؛ لأن كل من يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أو بغيره، فأهل مملكته أهل زراعة، منهم من يتولى الزراعة بيده وبنفسه، ومنهم من يتولاها بماله، فيؤاجر الناس عليها، وقيل: هم الأجراء، وقيل: العشارون، أي أهل المكس، وقيل: الخدم والخول.

"ويا أهل الكتاب" معطوفاً على قوله: أدعوك بدعاية الإسلام، وأدعوك بقوله تعالى، أو أتل عليك، أو أقرأ عليك: يا أهل الكتاب، وعلى هذا التقدير فلا تكون زائدةً في التلاوة، تكون خارجة عن التلاوة؛ لأن الواو إنما دخلت على محذوف ولا محذور فيه، وقيل أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يرد التلاوة، بل أراد مخاطبتهم بذلك، وحينئذٍ فلا إشكال، وعورض هذا بأن العلماء استدلوا بهذا الحديث على جواز كتابة الآية والآيتين إلى أرض العدو، ولولا أن المراد الآية لما صح الاستدلال، وهم أقوم وأعرف. وحذفت الواو في بعض الروايات: (يا أهل الكتاب) فيكون بياناً لقوله: بدعاية الإسلام، وقوله: "يا أهل الكتاب" يعمّ أهل الكتابين، "تعالوا إلى كلمةٍ سواء" أي مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، وتفسير الكلمة أن لا نعبد إلا الله، أي نوحده بالعبادة ونخلص له فيها، هذا القدر الذي هو التوحيد قدر مشترك بين الديانات كلها، الديانات السماوية، ((نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد)) فالأصل واحد، والشرائع مختلفة، "ولا نشرك به شيئاً" ولا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة، "ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله" فلا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحريم والتحليل، لما نزل قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} [(31) سورة التوبة] جاء في الحديث أن عدي بن حاتم قال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: ما كنا نعبدهم يا رسول الله، قال: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه))، "فإن تولوا -عن التوحيد- فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون" أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب، وتطابقت عليه الرسل، وقد قيل: إنه -صلى الله عليه وسلم- كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت؛ لأن الآية نزلت في وفد نجران سنة الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان قبل ذلك سنة ست، وقيل: بل نزلت في اليهود: وجوز بعضهم نزولها مرتين، نزلت قبل قصة أبي سفيان، وفي سنة الوفود سنة تسع ...

كتاب بدء الوحي (4)

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - شرح أحاديث كتاب بدء الوحي (4) الشيخ/ عبد الكريم الخضير "قال أبو سفيان: فلما قال ما قال -أي الذي قاله في السؤال والجواب- وفرغ من قراءة الكتاب -النبوي- كثر عنده الصخب -أي اللغط، وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة- وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا -وفي رواية: حين خلوت به-: والله لقد أمِر -أي كبر وعظم- أمر ابن أبي كبشة"، أي شأنه، وكبشة ليس هو مؤنث الكبش، من غير لفظه، والمراد بذلك كنية النبي -عليه الصلاة والسلام-، لأنها كنية أبيه من الرضاعة، الحارث بن عبد العزى فيما قاله ابن ماكولا، أو هو والد حليمة مرضعته، أو ذلك نسبةً إلى جد جده؛ لأن أمه آمنة بنت وهب وأم جد وهب قيلة بنت أبي كبشة، أو لجد جده عبد المطلب لأمه، أو هو رجل من خزاعة اسمه وجز بن غالب، خالف قريشاً في عبادة الأوثان، فعبد الشعر، فنسبوه إليه لاشتراكه في مطلق المخالفة، يعني يكون لقب لهذا للخزاعي، لما خالف قريش فعبد غير ما كانت تعبده قريش نسب إليه النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه خالف قومه فدعا إلى عبادة الله وحده، ومخالفاً بذلك قومه. "إنه يخافه" بكسر الهمزة على الاستئناف، وجوز العيني فتحها، والمعنى عظم أمره -عليه الصلاة والسلام- لأجل أنه يخافه ملك بني الأصفر، وهم الروم؛ لأن جدهم روم بن عيص ابن إسحاق تزوج بنت ملك الحبشة فجاء ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر، أو لأن جدته سارة حلته بالذهب، وقيل غير ذلك. قال أبو سفيان: "فما زلت موقناً أنه سيظهر، حتى أدخل الله عليّ الإسلام، فأبرزت ذلك اليقين"، أبو سفيان كأنه عنده شيء من القناعة النفسية لكن تمنعه الأنفة عن الدخول في الإسلام كما كانت تمنع أبا طالب، هذا موجود من كبراء قريش هي تمنعهم الأنفة من أن يعترفوا ويذعنوا، لكن أدخل الله عليه الإسلام فأبرز ذلك وحدث به الناس.

المقدم: هناك إشكال -أحسن الله إليكم- حقيقة يرد كثيراً في خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: ((إني أدعوكم بدعاية الإسلام، اسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)) كيف يحمل وزر هؤلاء أي الأريسيين إذا لم يسلم؟ هل من عادة الملوك منع أتابعهم من الإسلام، أو بمجرد أن يكون ذا سلطةٍ وبالتالي يتبعه من تحته، ويكون عليه الوزر لامتناع دخول جمهرة الناس في دين الإسلام؟ سبقت الإشارة إلى شيءٍ من ذلك، وأن ليس لأحد أن يحمل وزر غيره {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [(7) سورة الزمر] لكن هو سبب في صدهم عن الإسلام، سواء كان بفعله إذا اقتدوا به، أو بقوله وإلزامه وإكراهه لهم، فمجرد الاقتداء به لا شك أنه سبب في صدهم عن دين الإسلام، وهذا يجعل على طالب العلم مسؤولية كبرى في أن يعمل بعلمه، عليه أن يعمل بعلمه؛ لأنه إذا لم يعمل بعمله واقتدى به الناس تحمل آثامهم وأوزارهم لماذا؟ لأنهم يقولون: لو كان ما يقوله حق؟ لفعله هو، هو أولى الناس به، فدل على أنه غير مقتنع بما يقول؟ فهو وإن أمر الناس بقوله فقد صدهم عن الاقتداء به بفعله، فعلى طالب العلم وعلى العالم أن يكون داعيةً بقوله وفعله؛ لأن الاضطراب والازدواجية بين القول والفعل تجعل عامة الناس يضطربون فلا يدرون يصدقونه فيما يقول أو يقتدون به فيما يفعل؟ لا شك أن مثل هذا له نصيب من الصد عن دين الله. وكثيراً ما نرى بعض عامة الناس يستدل الشيخ الفلاني يقول كذا، الشيخ الفلاني يفعل كذا، الشيخ الفلاني يجر ثوبه، الشيخ الفلاني يقص من لحيته، يقولون مثل هذا الكلام فهم يقتدون بفعله، ولا شك أن القدوة والأسوة هو محمد -عليه الصلاة والسلام-، لكن حذاري حذاري أن يكون العالم أو طالب العلم ممن يكون داعية شرٍ وداعية ضلال بفعله، وإن أظهر بلسانه خلاف فعله، والله المستعان. المقدم: أحسن الله إليكم، هذا النص جاء في الإمام لأمةٍ كاملة، ومع ذلك جاء هذا التحذير الشديد، ألا ترون أن ولي الأمر في المنزل أيضاً ربما يناله حظ من هذا الإثم إذا كان سبب لصد أبناءه ومن تحت يده من الهداية بأن يسر لهم سبل الشر في المنزل، ألا يناله وزر من هذا يكون من تحته؟

لا شك أن كل مسؤول ومقتدى به عليه وزر من تبعه، إضافةً إلى وزره الأصلي، وكل مسؤول، كلٌ راعٍ وكل مسؤول عن رعيته، لا شك أن رب البيت راعٍ في بيته، وهو قدوة لأولاده، والمعلم قدوة أيضاً لطلابه وتلاميذه، والعالم قدوة للناس، وهكذا، فكل بحسب موقعه ومسؤوليته، لا شك أن الذي يجلب ما يصد الناس عن دين الله، لا شك أنه شريك له، بل يتحمل أوزار الناس كلهم؛ لأنه هو المتسبب، الرجل في بيته إذا أدخل في بيته ما يكون سبباً لصد أسرته وعائلته عن دين الله عليه الوزر، إذا اقتدى به من عوام الناس من الجيران وغيرهم أيضاً ناله من الإثم ما يناله؛ لأنه في موقع الاقتداء والائتساء، والله المستعان. المقدم: قال: وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أُسقُفاً على نصارى الشأم، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلون من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا الرجل فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت: مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.

والناطور: هو حافظ البستان، وهو لفظ أعجمي تكلمت به العرب، وفي رواية: (الناظور) بالمعجمة، وفي رواية الليث: عن يونس بن ناطوراء، بزيادة ألفٍ في آخره، والواو عاطفة، فالقصة الآتية موصولة إلى ابن الناطور مروية عن الزهري خلافاً لمن توهم أنها معلقة أو مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان، والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله، وذكر الحديث، ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدث، فذكر هذه القصة، "صاحب إيلياء" أي أميرها و (صاحب) منصوب على الاختصاص أو الحال، لا خبر كان؛ لأن خبرها إما (إسقفا) أو (يحدث) وجوز كونه خبر لكان؛ لأنه لا مانع من تعدد الخبر، وفي رواية: (صاحبُ) بالرفع صفة لابن الناطور، وجوز بعضهم إعرابه خبر مبتدأ محذوف أي هو صاحب إيلياء. "وهرقلَ" مجرور عطفاً على إيلياء، أي صاحب إيلياء وصاحب هرقل، وأطلق عليه الصحبة إما بمعنى التبع، وإما بمعنى الصداقة، "أسقفا" هذه اللفظة رويت بألفاظٍ متعددة، بضم الهمزة مبنياً للمفعول، وفي رواية: (أُسقفّاً) بتشديد الفاء، بضم الهمزة وسكون السين، وضم القاف وتشديد الفاء، وفي رواية: (أُسقفَاً) مثلها إلا أنها بتخفيف الفاء، والتشديد: (أُسْقُفّاً) قال النووي: هي الأشهر، وفي رواية: (سُقُّفَ) "على نصارى الشام" لكونه رئيس دينهم، أو عالمهم، أو هو قيم شريعتهم، وهو دون القاضي، أو هو فوق القسيس ودون المطران، "يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء" عند غلبة جنوده على جنود فارس، وإخراجهم في سنة عمرة الحديبية، "أصبح خبيث النفس" رديئها غير طيبها، مما حل به من الهم، وعبر بالنفس عن جملة الإنسان روحه وجسده اتساعاً لغلبة أوصاف الجسد على الروح، وفي رواية: "أصبح يوماً خبيث النفس" أصبح خبيث النفس، هي هو كله خبيث، قالوا: عبر بالنفس عن جملة الإنسان عن روحه وعن جسده عن كامله لغلبة أوصاف الجسد على الروح، يعني تطلق الروح يراد به الجسد، كان هذا مرادهم.

"فقال له بعض بطارقته: " بفتح الموحدة جمع بِطريق أي قواده وخواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم "قد استنكرنا هيأتك" أي سمتك وحالتك، لكونها مخالفة ً لسائر الأيام، "قال ابن الناطور" وفي رواية: الناظور، "وكان" عطف على مقدر تقديره قال ابن الناطور: كان هرقل عالماً، "حزاءً" فلما حذف المعطوف عليه أُظهر هرقل في المعطوف و (حزاء) منصوب؛ لأنه خبر كان، و (حزاء) بالمهملة وتشديد الزاي آخرها همزة منونة أي كاهناً "ينظر في النجوم" خبر ثاني لـ (كان) إن قلنا: أنه ينظر في الأمرين، يعني يكون حزاء، وينظر في النجوم، أو هو تفسير للحزاء؛ لأن الكهانة تؤخذ من ألفاظ الشياطين تارةً، وتارةً من أحكام النجوم، وكان هرقل علم ذلك بمقتضى حساب المنجمين، "فقال لهم" أي لبعض بطارقته حين سألوه "إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختام" ملك بفتح الميم وكسر اللام، وفي رواية: (مُلك) بالضم ثم الإسكان "قد ظهر" أي غلب، وهو كما قال؛ لأنه في تلك الأيام كان ابتداء ظهوره -صلى الله عليه وسلم-، إذ صالح الكفار بالحديبية، وأنزل الله تعالى سورة الفتح، ومقدمة الظهور ظهور، "فمن يختتن من هذه الأمة؟ " أي من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم تجوز، وفي رواية: (من يختتن من هذه الأمم؟ ) "قالوا -مجيبين لاستفهامه إياهم- ليس يختتن إلا اليهود" أجابوا بمقتضى علمهم؛ لأن اليهود كانوا بإيلياء تحت الذلة، مع النصارى بخلاف العرب، يعني ما في خلطة بين النصارى والعرب بخلاف الخلطة الحاصلة بين اليهود والنصارى، "فلا يهمنك -أي لا يقلقك شأنهم- واكتب إلى مدائن ملكك" جميع مدينة بالهمز، وقد يترك فيقال: مداين "فيقتلون من فيهم من اليهود" وفي رواية: (فليقتلوا) باللام، "فبينما هم" الآن هرقل وأعوانه ما رفعوا شأناً باليهود ولا اهتموا لهم، فلذلك قالوا: "فلا يهمنك شأنهم" لأنهم قد ضرب عليهم الذلة والصغار، فلا شك أن شأنهم أضعف من أن يلقى لهم أي بال، وأن يحسب لهم أي حساب، وكونهم يتسلطون في مثل هذه الأيام، وفي مثل هذه العصور على المسلمين هذا من باب العقوبة للمسلمين لإعراضهم عن دين الله، وكون الإنسان يعاقب بأضعف الأشياء زيادة في النكاية، وتشديد في

العقوبة أن يسلط على الإنسان أضعف الأشياء، وأحقر الأشياء، "فبينما هم" بالميم وأصله (بين) فأشبعت الفتحة فصارت (بينا) ثم زيدت عليها الميم، وفي رواية: (فبينا) والمعنى واحد، و (هم) مبتدأ خبره "على أمرهم" مشورتهم التي كانوا فيها "أوتي هرقل برجلٍ أرسل به ملك غسان" بالغين المعجمة والسين المهملة المشددة، والملك: هو الحارث بن أبي شمر، وغسان ماءٍ نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، ولم يسمَ الرجل ولا من أرسل به، "يخبر عن خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فقال -كما عند ابن إسحاق-: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس فكانت بينهم ملاحم في مواطن وتركتهم وهم على ذلك"، "فلما استخبره هرقل" وأخبره بذلك، قال هرقل لجماعته: "اذهبوا فانظروا إلى الرجل أمختتن هو؟ " بهمزة الاستفهام، فتح المثناة الفوقية وكسر الثانية، "أم لا؟ فنظروا إليه" وعند ابن إسحاق: (فجردوه فإذا هو مختتن) "فحدثوه -أي حدثوا هرقل- إنه مختتن" "وسأله عن العرب" هل يختتنون؟ "فقال -أي الرجل-: هم يختتنون" وفي رواية: (مختتنون) "فقال هرقل: هذا -الذي نظرته في النجوم- ملك هذه الأمة" أي العرب، وفي رواية: (يملك) وليس المراد بذكر هذا هنا، تقويةً لقول المنجمين أو اعتماداً عليها، بل المراد أن البشارات به -عليه الصلاة والسلام- جاءت على لسان كل فريقٍ من إنسي وجني، يعني تظافرت عليه الأدلة. المقدم: النسخة التي بين أيدينا -أحسن الله إليكم- فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، وقد ذكرتم أنه قال: هذا الذي نظرته في النجوم. لا لا، هذا شرح "فقال هرقل: هذا -أي الذي نظرتم في النجوم- ملك هذه الأمة" يعني طابق وواقع ما رآه، ولا شك أن أخبار المنجمين وأخبار الكهان قد تصدق، فمسترق السمع قد يسترق الكلمة ويلقيها على الكاهن، والكاهن يزيد عليها مائة كما جاء في الأخبار.

"ثم كتب هرقل إلى صاحبٍ له -يسمى ضغاطر الأسقف- برومية" بالتخفيف، أي فيها وهي مدينة كبيرة يقال: إن سورها أربعة وعشرون ميلاً، "وكان نظيره في العلم -أي مثيله- وسار هرقل إلى حمص" مجرور بالفتحة (حمص) مجرور بالفتحة؛ لأنه غير منصرف، لعللٍ ثلاث، للعالمية والتأنيث والعجمة، وجوز بعضهم صرفه وعدمه؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط، والخلاف بين العيني وابن حجر هل كونه ثلاثياً ساكن الوسط يقابل العلل الثلاث فيصرف؟ أو يقابل واحدة من الثلاث فيبقى فيه علتان فيمنع من الصرف؟

وعلى كل حال الخطب سهل، هو ثلاثي ساكن الوسط فيخف على اللسان ويهون ويسهل صرفه، مثل نوح ولوط وهند، وإنما سار هرقل إلى حمص لأنها دار ملكه، "فلم يرم" أي يبرح منها أو لم يصل إليها هرقل "حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه -ضغاطر- يوافق رأي هرقل على خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- -أي ظهوره- وأنه نبي" وهذا يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوته -صلى الله عليه وسلم-، لكن هرقل لم يستمر على ذلك، ولم يعمل بمقتضاه، بل شحّ بملكه ورغب في الرياسة، وآثر الدنيا على الآخرة، بخلاف صاحبه ضغاطر فإنه أظهر إسلامه وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام فقتلوه، "فأذن -بالقصر من الإذن وفي رواية: (فآذن) بالمد أي أعلم- هرقل لعظماء الروم في دسكرة" دسكرة وهي القصر يكون حوله البيوت، "له -أي كائنة له - بحمص، ثم أمر بأبوابها -أي أبواب الدسكرة- فغلقت" بتشديد اللام وكأنه دخلها ثم أغلقها، وفتح أبواب البيوت التي حولها، وأذن للروم في دخولها ثم أغلقها، دخل أولاً ثم أغلق على نفسه خوفاً منهم، "ثم اطلع" عليهم من علو، خوف أن ينكروا مقالته فيقتلوه كما قتلوا صاحبه ضغاطر، ثم خاطبهم "فقال: يا معشر الروم، هل لكم -رغبة- في الفلاح والرشد؟ " بالضم ثم السكون، أو بفتحتين الرشد، وهو خلاف الغي، "وأن يثبت ملككم، فتبايعوا" منصوب بحذف النون بأن مقدرة في جواب الاستفهام، وفي نسخةٍ: (فبايعوا) وفي روايةٍ: (نبايع) بنون الجمع ثم موحدة، وفي رواية: (نتابع) وفي رواية: (فتتابعوا) من الاتباع أو من البيعة وفي نسخة: (فنتبع) "هذا الرجل" النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية: (لهذا) وإنما قال هرقل هذا لما عرفه من الكتب السابقة أن التمادي على الكفر سبب لذهاب الملك، ونقل أن في التوراة: ونبياً أرسله أي إنسانٍ لم يقبل كلامي الذي يؤديه عني فإني أهلكه، هذا منقول من التوراة، والله أعلم. "فحاصوا -أي نفروا- حيصة حمر الوحش -أي كحيصتها- إلى الأبواب فوجودها قد غلقت" بالتشديد، وشبه نفرتهم مما قال لهم من اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنفرة حمر الوحش؛ لأنها أشد نفرةً من سائر الحيوانات، ولذا جاء في سورة المدثر: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} [(50) سورة المدثر].

"فلما رأى هرقل نفرتهم وآيس" وفي رواية: (يئس) أي قنط "من الإيمان" أي من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لكونه شحّ بملكه، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه، ويسلم ويسلمون، هو يحب هذا، ليجمع بين خيري الدنيا والآخرة، لكن الآن الامتحان في المفاضلة، حصلت المفاضلة بين الدنيا والآخرة فآثر الدنيا، والله المستعان. "قال: ردوهم عليّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً -بالمد أي هذه الساعة- أختبر -أي أمتحن- بها شدتكم -أي رسوخكم- على دينكم، فقد رأيت شدتكم" فحذف المفعول للعلم به مما سبق، وفي رواية: "فقد رأيت منكم الذي أحببت"، "فسجدوا له" حقيقةً، على عادتهم لملوكهم، أو قبلوا الأرض بين يديه؛ لأن ذلك ربما كان كهيئة السجود، "ورضوا عنه، فكان ذلك آخر -بالنصب خبر كان- شأن هرقل" أي فيما يتعلق بهذه القصة خاصةً، هذا لا يعني أن هذا آخر حياة هرقل، إنما هذا آخر شأنه فيما يتعلق بهذه القصة، أو فيما يتعلق بالإيمان، فإنه بعد ذلك وقعت له أمور من تجهيز الجيش إلى مؤتة وتبوك ومحاربته للمسلمين، وهذا يدل على استمراره على الكفر، نسأل الله العافية، لكن قال بعض الشراح: مع ذلك يحتمل أنه يكون يضمر الإيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاةً لمملكته، وخوفاً من أن يقتله قومه. وعلى كل حال مثل هذا الإيمان ولو أضمره، ولو وقر الإيمان في القلب لكن لم ينطق به الشخص، فإنه لا يحكم بإيمانه، وإنما حكمه في الدنيا الكفر، إلا أن في مسند الإمام أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أني مسلم، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: بل هو على نصرانيته.

وقال البخاري بعد ذلك: "رواه" أي روى حديث هرقل، وفي رواية: بواو العطف، وفي رواية: نسخ الصحيح هذا كله لا يوجد في المختصر، هذا في الأصل، قال: محمد أي البخاري "رواه صالح بن كيسان" المدني المتوفى بعد الأربعين ومائة عن مائة سنة ونيفٍ وستين، عمّر لأنه قيل إنه ابتدأ طلب العلم بعد التسعين فأخذ عن الزهري حتى عد من كبار الآخذين عن الزهري وانتفع ونفع الله بعلمه بعد التسعين، منهم من يقول أقل من ذلك، لكن أقل ما قيل الخمسين فلا يأس، كثير من عوام المسلمين كبار السن حرموا من التعلم في أوائل حياتهم حتى لا يقرؤون ولا القرآن، فينظرون إلى من يقرأ القرآن حسرة، أنا أقول: لماذا هذا اليأس والبيوت -ولله الحمد- الآن مملوءة بمن يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن؟ لماذا لا يجاهد الإنسان وإن كان كبير السن نفسه في حفظ شيء من كتاب الله ولو تعب؟ ولا يلزم أن يحفظ كل يوم قدراً كبيراً، لو يحفظ كل يوم آية، أو يردد آية حتى يحفظها في يوم يومين ثلاثة، سورة قصيرة، الذي ينتفع بذلك، والحرف بعشر حسنات. ولكن ننظر مع الأسف الشديد في مساجد المسلمين في رمضان كثير من عوام المسلمين وكبار السن يلتفت يميناً وشمالاً يتمنى ويتحسر أن لو كان يقرأ القرآن ويستفيد مثل الناس؛ لأنه فاته القطار في حد زعمه، لا، لا يأس، الآن بإمكانه أن يستمع من ولده، من بنته، من المسجل، والحمد لله كل شيء متيسر، ولله الحمد، وهذا جهاد بحد ذاته، لو لم يدرك شيء هو في جهاد؛ لأنه يطلب العلم وخير العلوم ما يتعلق بكتاب الله -عز وجل-. ورواه أيضاً يونس بن يزيد الأيلي، ورواه معمر بن راشد الثلاثة عن الزهري، فأخرج المصنف الأول والثاني في الجهاد، والثالث في التفسير، والحديث مخرج في مسلم أيضاً فهو متفق عليه. المقدم: في طلب هرقل من أصحابه أن يتأكدوا أمختتن هو؟ قال: فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن؟ كيف كان هذا النظر؟ كما جاء في بعض الروايات أنهم جردوه، جردوه من ثيابه. المقدم: جردوا النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ لا لا، جردوا هذا الرجل الذي جيء به إلى هرقل، الذي أرسل به ملك غسان، هذا الرجل من العرب جيء به إلى هرقل فقال: تأكد هل العرب يختتنون أو لا؟

المقدم: وبالتالي تبيّن من خلال هذا العربي أنه من الأمة التي تختتن، وأن النبي الذي سيبعث منهم. وسأل هل العرب يختتنون؟ فقال: نعم، هم يختتنون. المقدم: ذكرتم -أحسن الله إليكم- في مسند أحمد أنه كتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- من تبوك أنه مسلم فقال النبي: بل هو على نصرانيته، هذا مما يؤيد القول ويفصل النزاع في مسألة إسلامه من عدمه؟ لكن هذا إن صح؛ لأن في سنده مقال. المقدم: لا زلنا في باب بدء الوحي، ولم يحذف أي حديث حتى الآن من التجريد فهو موافق لما في الصحيح أصلاً. بلا شك لأن أوائل الكتاب ما بعد مرّ التكرار إلى الآن، ما جاء تكرار إلى الآن. المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا أيضاً أن نتعرف من خلالكم عن موقف هرقل وكسرى وأتباع هذين المسؤولين أو الأمرين من كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- المذكور في صدر الحديث كما سبق؟ أما بالنسبة لكسرى، فإنه لما جاءه كتاب النبي -عليه الصلاة والسلام- مزقه، فدعا عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يمزق الله ملكه فحصل، ولم تقم لهم قائمة، أما بالنسبة للروم وهرقل فإنهم احتفظوا بكتاب النبي -عليه الصلاة والسلام- ويذكر في أخبارٍ كثيرة أن النصارى أطلعوا بعض قواد المسلمين، وبعض علماء المسلمين على هذا الكتاب، وأنه موجود عندهم في صندوقٍ من ذهب، وملفوف بقطع الحرير وما أشبه ذلك، اعتنوا به، واهتموا به، ويظنون أن بقاء ملكهم دائم مع بقاء هذا الكتاب. المقدم: أحسن الله إليكم في بداية الشرح لما كنا وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل ثم ذكرتم أيضاً شيئاً من اجتماعه ببطارقته هذا في الحقيقة لفتة إلى وزراء السوء أيضاً الذين ربما يكون لهم تأثير خطير على الإنسان ومن فضل الله -جل وعلا- بالمؤمن أن يجعل له وزيراً من خاصة نفسه يذكره بالخير ويدله عليه، أيضاً الصاحب والصديق للإنسان إذا كان خيراً دله على الخير، وإذا كان سيئاً دله على السوء، فهؤلاء البطارقة الذين كانوا حوله، ربما كانوا سبباً أيضاً في ضلاله.

بلا شك أن الجليس له دور كبير في توجيه الإنسان، وقصة أبي طالب حينما حضرته الوفاة وهي في الصحيح، لما قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ يعني المسألة مصيرية، لو قال: لا إله إلا الله، ((قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)) فخسر الدنيا والآخرة من أجل قرناء السوء. المقدم: تفضلوا بالحديث عن تراجم هذا الحديث أحسن الله إليكم. الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرج الحديث في اثني عشر موضعاً، وحقيقة مثل هذه الأحاديث، أحاديث بدء الوحي قد لا يحس الإنسان بقيمة هذه التراجم؛ لأنه لا يظهر فيها فقه عملي، في بدء الوحي، لكن بدءً من كتاب الإيمان ثم العلم ثم العبادات والمعاملات وغيرها تظهر ميزة تراجم الإمام -رحمه الله- ودقة فقهه، لكن هذا مسلك سوف يكون أو نسير عليه -إن شاء الله- بالكتاب كله. أقول: خرج الإمام -رحمه الله- الحديث في اثني عشر موضعاً: الأول: بدء الوحي، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره فذكره مطولاً كما سمعنا، ومناسبة الحديث في بدء الوحي أنه مشتمل على ذكر جمل من أوصاف من يوحى إليه، يعني في مساءلات هرقل لأبي سفيان كلها أوصاف النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو الموحى إليه، طرف في الموضوع، وأيضاً فإن قصة هرقل متضمنة كيفية حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في ابتداء الأمر، وأيضاً الابتداء يناسب البدء من هذه الحيثية.

وأيضاً فإن الآية المكتوبة إلى هرقل، والآية التي صدر بها الباب، مشتملتان على أن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لإقامة الدين، وإعلاء كلمة التوحيد، يظهر ذلك بالتأمل قاله العيني، وقال ابن حجر: فإن قيل ما مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟ فالجواب: أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الابتداء؛ ولأن الآية المكتوبة إلى هرقل بالدعاء إلى الإسلام ملتئمة مع الآية التي في الترجمة، وهي قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [(163) سورة النساء] ... الآية، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [(13) سورة الشورى] ... الآية، فبان أنه أوحى إليهم كلهم: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [(13) سورة الشورى] وهو معنى قوله تعالى: {سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [(64) سورة آل عمران] ... الآية. الموضع الثاني: في كتاب الإيمان باب بلا ترجمة، قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره فذكره مختصراً. والباب تالٍ لباب سؤال جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال ابن حجر: باب إلى ترجمة في رواية كريمة وأبي الوقت، وسقط من رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما، ورجح النووي إثبات باب، وزعم أن حذفه فاسد، والصواب إثباته؛ لأن ترجمة الباب الأول لا يتعلق بها هذا الحديث فلا يصح إدخاله فيه، ومقصود البخاري بقصة هرقل أنه سماه ديناً وإيماناً، وقال: وفي الاستدلال بها إشكال؛ لأنه كافر فكيف يستدل بقوله؟ وقد يقال: هذا الحديث تداولته الصحابة -رضي الله عنهم- وسائر العلماء ولم ينكروه، بل استحسنوه، والله أعلم.

الآن الرابط بين حديث جبريل وسؤاله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وبين حديث هرقل قال: أنه سمى الدين أو سمى الإيمان دين في الأمرين، ولذا قال: ومقصود البخاري في قصة هرقل أنه سماه ديناً، وإيماناً، وهناك: ((أتاكم جبريل يعلمكم دينكم)) ثم قال النووي: وفي الاستدلال بها إشكال؛ لأنه كافر فكيف يستدل بقوله؟ وقد يقال: هذا الحديث تداولته الصحابة -رضي الله عنهم- وسائر العلماء ولم ينكروه بل استحسنوه والله أعلم. وقال ابن حجر في الاستدلال بقوله: وهو كافر، فالجواب أنه ما قاله من قبل اجتهاده، وإنما أخبر به عن استقراءه من كتب الأنبياء كما قررناه فيما مضى، وأيضاً فهرقل قاله بلسانه الرومي، وأبو سفيان عبر عنه بلسانه العربي، وألقاه إلى ابن عباس وهو من علماء اللسان، فرواه عنه ولم ينكره، فدل على أنه صحيح لفظاً ومعنى، يقول ابن حجر متعقباً كلام النووي، النووي يقول: الصواب إثبات كلمة (باب) لأنه لا علاقة بقصة هرقل مع الترجمة السابقة، التي هي إيش؟ طالب:. . . . . . . . . نعم لكن باب سؤال جبريل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإيمان والإسلام والإحسان يقول: ما له ارتباط لا بد أن يفصل بينهما بباب، نذكر أننا تكلمنا على الباب بلا ترجمة، وأنه بمنزلة الفصل من الباب السابق، وأنه له تعلق وارتباط وثيق به، هنا يقول ابن حجر: "نفي التعلق لا يتم هنا على الحالتين؛ لأنه إن ثبت لفظ باب بلا ترجمة فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله فلا بد له من تعلق به، وإن لم يثبت فتعلقه به متعين" يعني جزء من الباب، يعني الحديث في الباب، لكنه يتعلق بقوله في الترجمة: جعل ذلك كله ديناً، ووجه التعلق أنه سمى الدين إيماناً في حديث هرقل فيتم مراد المؤلف بكون الدين هو الإيمان، أين سمى هرقل الدين إيمان؟ انظر في المتن؟ المقدم: قال: فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمّ، وقال أيضاً في موضعٍ آخر: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.

"فهل يترد أحد منهم سخطةً لدينه؟ " فمرةً عبر بالدين، ومرة عبر بالإيمان، فدل على أن الدين هو الإيمان، وفي سؤال جبريل سأل عن الإيمان والإسلام والإحسان ثم قال في النهاية: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فدل على أن البخاري -رحمه الله تعالى- دقيق الاستنباط حينما أورد هذا الحديث ليبين أن الإيمان والدين بمعنىً واحد، دقة متناهية. الموضع الثالث: كتاب الشهادات باب من أمر بإنجاز الوعد، قال: حدثني إبراهيم بن حمزة، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله أن عبد الله بن عباس قال: أخبرني أبو سفيان فذكره مختصراً وفيه: "فزعمت أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد" يأمر بالوفاء بالعهد، وفيه أيضاً: فهل يغدر؟ والترجمة: باب من أمر بإنجاز الوعد، وجه تعلق الباب بالشهادات؟ أن وعد المرء كالشهادة على نفسه قاله الكرماني، الترجمة: باب من أمر بإنجاز الوعد، علاقة الوعد بالشهادات؟ الوعد والعهد وعدم الغدر، علاقتها بالشهادات؟ يقول الكرماني: أن وعد المرء كالشهادة على نفسه، إذا وعد لا بد أن يفي، كما أنه إذا تحمل شهادة لا بد أن يصدق في التحمل، ولا بد أن يؤدي كما سمع. الموضع الرابع: في كتاب الجهاد، باب قول الله -عز وجل-: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [(52) سورة التوبة] والحرب سجال، علاقة الحرب سجال بإحدى الحسنيين؟ لأنهم إن انتصروا، وهذه هي إحدى الحسنيين أديلوا على أعداءهم، وإن قتلوا أديل أعداؤهم عليهم وهي أيضاً إحدى الحسنيين، وحينئذٍ يتضح قول البخاري -رحمه الله-: "والحرب سجال" وهذه مأخوذة من حديث هرقل. المقدم: وهي من قول أبي سفيان. نعم، قال: حديثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، قال: حدثني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله به فذكره مختصراً، وفيه: "فزعمت أن الحرب سجال ودول" قال ابن حجر: الغرض منه قوله فيه: "فزعمت أن الحرب بينكم سجال" أو دول، وقال ابن المنير: التحقيق أنه ما ساق حديث هرقل إلا لقوله: "وكذلك الرسل تبتلى" ثم تكون لهم العاقبة، قال: فبذلك يتحقق أن لهم إحدى الحسنيين إن انتصروا فلهم العاجلة والعاقبة، وإن انتصر عدوهم فللرسل العاقبة.

أثناء شرحكم تفضلتم وقلتم أنه في باب بدء الوحي هنا سقط السؤال العاشر، وهو سؤاله عن القتال، وأثبت في باب الجهاد، وهو الذي أتيتم به في هذه الترجمة، هذا مرادكم به أنه أثبت في هذا الباب كاملاً؟ نعم، يقول ابن حجر: وهذا لا يستلزم نفي التقدير الأول ولا يعارضه، بل الذي يظهر أن الأول أولى؛ لأنه من نقل أبي سفيان عن حال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما الآخر فهو من قول هرقل مستنداً إلى ما تلقفه من الكتب، وعلى كل حال هذا وذاك كله يدل على الترجمة.

الموضع الخامس: في كتاب الجهاد باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس فذكره مطولاً، والمناسبة ظاهرة بين الجهاد والدعوة، وأن الدعوة لا بد أن تسبق الجهاد، والمناسبة بين الحديث والترجمة ظاهرة، المناسبة بين الجهاد والدعوة، كتاب الجهاد باب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجهاد، المناسبة ظاهرة؛ لأن الدعوة لا بد أن تسبق الجهاد، إن حصلت الاستجابة بها ونعمت، وهذا هو المطلوب، وإن لم تحصل تأتي المرحلة الثانية وهي الجهاد، المناسبة بين الحديث والترجمة ظاهرة أيضاً؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أرسل إلى هرقل الكتاب يدعوه إلى الإسلام، متغانماً -عليه الصلاة والسلام-، ومغتنماً فرصة الصلح مع الكفار، وعلى هذا ينبغي للمسلم أن يجند نفسه للدعوة، وأن يستغل الفرص، لا سيما من كان الناس بحاجته؛ لأن قوله أوقع، فهذا يوسف -عليه السلام- استغل وجوده في السجن بين أولئك الناس واستغل حاجة الناس إليه في التأويل والتعبير دعاهم {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} [(39) سورة يوسف] المهم أنه استغل الموقف، وعلى هذا لو أن كل مسلم على حسب أو على اختلاف مواقع المسلمين وأعمالهم استغلوا هذه المواقع في نشر الدين، الطبيب المريض محتاج إليه فلو وجهه بكلمات قبل منه، المعلم الطالب بحاجة إليه، كل إنسان بحسب موقعه، القاضي الخصوم بحاجة إليه وهكذا، لا بد أن يغتنم المسلم فرصة عمله ووجوده لينشر الدين ليكون من الدعاة إلى الهدى، فمن دل على هدى كان له مثل أجر فاعله. المقدم: والملاحظ -مع الأسف- أن النصارى يستغلون هذا الجانب كثيراً -فضيلة الدكتور- في أعمالهم الإغاثية ونحوها، فهم وإن أظهروها أنها باسم الإنسانية؛ لكنها في الحقيقة الأمر بالدعوة إلى النصرانية.

هي أسلوب من أساليب الدعوة، أقول: المحتاج يقبل ممن يساعده، فلو سلكت الدعوة ومعها البذل، هناك المجتمعات الفقيرة حينما يدعمون بالمال أملي عليهم ما شئت من الدعوة لا شك أنهم يقبلون، انتبه النصارى لمثل هذا واستغلوه استغلال، أنشئوا المستشفيات، وأنشئوا اللجان الإغاثية وما أشبه ذلك، كله من أجل التأثير على هؤلاء المحتاجين، ومع ذلك النتائج -ولله الحمد- ليست على ما يتصورون ويتوقعون، والإسلام -ولله الحمد- رغم تقصير المسلمين في الدعوة إليه، ورغم ما يوجد من الصد عنه، إلا أنه -ولله الحمد- يسري في الناس سريان النار في الهشيم، كل ذلك لأن دين الإسلام موافق للفطرة. وذكر الشيخ العبودي في حلقةٍ من حلقاته ورحلاته في الهند أن رجلاً هندي جاء إلى السفارة فأعلن إسلامه، فسئل ما السبب؟ هو ما دعي إلا الإسلام، قال: إنه ذهب بأمه ليحرقها، على عادتهم، فجمع الحطب لها وأشعل فيها النار فأكلت النار الكفن فقط، وبقيت الأم كما خلقت، أديان سبحان الله كيف تقبلها العقول، ثم جاء فأعلن إسلامه؛ لأنه يعرف أن المسلم مكرم محترم، حياً وميتاً فإذا مات دفن في هذه الحفرة أستر له بلا شك، والله المستعان. الموضع السادس: في كتاب الجهاد أيضاً باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله فذكره مختصراً، وفيه قول أبي سفيان: "لقد أمِر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر" والمناسبة في قوله: "إنه يخافه ملك بني الأصفر" لأنه كان بين المدينة وبين المكان الذي كان قيصر ينزل فيه مدة شهرٍ أو نحوه ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) هذه الترجمة، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) يخافه ملك بني الأصفر، يخافه لماذا؟ من الرعب.

الموضع السابع: في كتاب الجزية والموادعة، باب فضل الوفاء بالعهد، قال: حدثني يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله فذكره مختصراً، والمناسبة أن في الحديث التام هو مختصر وليس فيما أورده البخاري هنا ما يدل على الترجمة، لكن البخاري عادة يذكر طرف الحديث، والترجمة المطابقة من الحديث قد تكون فيما لم يذكره الإمام -رحمه الله تعالى-، وقد تكون في رواية أو زيادةٍ ليست على شرطه، وإنما يشير إليها بترجمة، المناسبة أن في الحديث التامة نفي الغدر، هل يغدر؟ نفي الغدر عنه -عليه الصلاة والسلام-، والغدر نقض العهد، باب فضل الوفاء بالعهد. المقدم: عفواً يا دكتور في هذا الموضع ما ذكر أنه لا يغدر. لا، هو ذكره مختصر، ما فيه، لكن هو بهذا يشير إلى أنه في الرواية المطولة موجود. المقدم: هنا قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها؟ هذه تغانمها أو اغتنمها أبو سفيان، ودس هذه الدسيسة، ولم يلتفت إليها هرقل؛ لأنه إخبار عن مستقبل ما يمكن أن يقال له: كذبت. المقدم: صاحب التجريد إذا جاء في ترجمة ولم يذكرها في باب قبل هل يذكر الموضع مرةً أخرى أو يكتفي بذكر. . . . . . . . .؟ لا لا، صاحب التجريد قصده من ذلك الاختصار الشديد من أجل أن يحفظ، فيذكر الحديث في أول الموضع، ولا يعرج عليه في الموضع الثاني، هو الأصل أن لا يترك شيء من متون الأحاديث، فإذا ذكر الحديث في موضع، يأتي بالزوائد أو بالألفاظ الزائدة من الروايات الأخرى اللاحقة في الموضع الأول، يقول: في رواية كذا ليتم الكتاب كامل. الموضع الثامن: في كتاب التفسير: باب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ} [(64) سورة آل عمران] قال: حدثني إبراهيم بن موسى عن هشام عن معمر ح، وحدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله فذكره مطولاً، والمناسبة ظاهرة، حيث ذكرت الآية في الحديث.

الموضع التاسع: في كتاب الأدب: باب صلة المرأة أمها ولها زوج، في كتاب الأدب؟ باب صلة المرأة أمها ولها زوج، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله فذكره مختصراً، وفيه: "يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة" وهنا باب: صلة المرأة أمها، والمناسبة ظاهرة، حيث ذكرت الصلة في الحديث وهي شاملة للأم وغيرها من المتزوجة وغيرها، فيؤخذ حكم الترجمة من عمومها. الموضع العاشر: في كتاب الاستئذان، باب كيف يكتب إلى أهل الكتاب؟ قال: حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله فذكره مختصراً وفيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى أما بعد)) وما ذكره ظاهر المناسبة للترجمة، كيف يكتب إلى أهل الكتاب؟ قال ابن بطال: "فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه، وفيه: حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب السلام عند الحاجة" هذه حجة من يقول من أهل العلم من أجل الدعوة والتأليف يتنازل في مثل هذه الأمور، فيبدأ المخالف بالسلام، من أجل تحصيل أو تحقيق مصلحة الدعوة، يقول ابن بطال: "فيه جواز كتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أهل الكتاب، وتقديم اسم الكاتب على المكتوب إليه، هذا الظاهر، قال: وفيه حجة لمن أجاز مكاتبة أهل الكتاب بالسلام عند الحاجة، قال ابن حجر: قلت: في جواز السلام على الإطلاق نظر، والذي يدل عليه الحديث السلام المقيد، مثلما في الخبر، السلام على من اتبع الهدى، أو السلام على من تمسك بالحق أو نحو ذلك، سلام مقيد وليس بسلامٍ مطلق، أما بداءة المشرك بالسلام جاء النهي عنها كما هو معروف. المقدم: لكن مناسبة الكتاب للباب، كيف يكتب لأهل الكتاب؟ وآخر في باب الاستئذان؟ نعم الاستئذان؛ لأن المخاطبة والمكاتبة في حكم الاستئذان، في حكم الاستئذان.

الموضع الحادي عشر: في كتاب الأحكام، باب ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد؟ قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله، فذكره مختصراً، وفيه: ثم قال لترجمانه، فقال للترجمان، والمناسبة ظاهرة. قال ابن بطال: "لم يدخل البخاري حديث هرقل حجةً على جواز الترجمان المشرك؛ لأن ترجمان هرقل كان على دين قومه، وإنما أدخله ليدل على أن الترجمان كان يجري عند الأمم مجرى الخبر لا مجرى الشهادة" وقال ابن المنير: "وجه الدليل من قصة هرقل مع أن ما فعله لا يحتج به، أن مثل هذا صواب من رأيه؛ لأن كثيراً مما أورده في هذه القصة صواب وموافق للحق، فموضع الدليل تصويب حملة الشريعة لهذا، وأمثاله من رأيه وحسن تفطنه، ومناسبة استدلاله، وإن كان غلبت عليه الشقاوة، وقال ابن حجر: "وتكملة هذا أن يقال: يؤخذ من صحة استدلاله، قال ابن حجر: "وتكملة هذا أن يقال: يؤخذ من صحة استدلاله فيما يتعلق بالنبوة والرسالة أنه كان مطلعاً على شرائع الأنبياء، فتحمل تصرفاته على وفق الشريعة التي كان متمسكاً بها" وقال ابن حجر أيضاً" "والذي يظهر لي أن مستند البخاري تقرير ابن عباس، وهو من الأئمة الذين يقتدى بهم على ذلك، يعني أنه يكفي ترجمان واحد، وأن هذا يجري مجرى الأخبار، والأخبار يقبل فيها قول الواحد إذا ثبتت ثقته. المقدم: لكن عفواً: النبي -عليه الصلاة والسلام- كتب له بالعربية؟ بالعربية نعم. المقدم:. . . . . . . . . ما أمر أن يتعلموا، الكتاب بالعربية، ثم قال للترجمان اقرأه. الموضع الثاني عشر: في كتاب التوحيد، باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها لقول الله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [(93) سورة آل عمران] قال: وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [(64) سورة آل عمران].

الآن أرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- بالآية إلى هرقل وهي بالعربية، ما يجوز من تفسير التوراة الترجمة، والترجمان ترجم له الآية بلغته، فإذا جاز ترجمة الآية فترجمة التوراة من باب أولى، ومعلوم أن ترجمة الآية معناها ترجمة المعاني، وأما ترجمة الألفاظ معروف أنها مستحيلة لإعجاز القرآن، لا يمكن أن يأتي أحد بمثله. قال: وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل، و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [(64) سورة آل عمران] ... الآية، ووجه الدلالة منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى هرقل باللسان العربي، ولسان هرقل رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على ما من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه، فإذا جاز ترجمة الآية وترجمة معنى الآية فترجمة التوراة بالعربية وغيرها من باب أولى، وغيرها من الكتب الإلهية. ولما فرغ المؤلف -رحمه الله تعالى- من الوحي الذي هو كالمقدمة لهذا الكتاب، هو كالمقدمة؛ لأن البخاري ما صدره بكتاب كما تقدم، فهو كالمقدمة لهذا الكتاب الجامع شرع بذكر المقاصد الدينية، وبدأ منها بالإيمان لأنه ملاك الأمر؛ لأن الباقي مبني عليه ومشروط به، والله أعلم. المقدم: هذا يسأل يقول: لماذا نرى أن البخاري -رحمه الله- لا يخرج بعض الأحاديث في صحيحه مع أن أهل العلم يقولون: رجاله رجال الصحيح، ومع ذلك لم يخرجه البخاري في صحيحه؟

الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- خرج من الصحيح أصحه، ولم يلتزم -رحمه الله تعالى- أن يخرج جميع الأحاديث الصحيحة، وكذلك الإمام مسلم، ويروى عن الإمام البخاري -رحمه الله- بالأسانيد أنه قال: "خرجت فيه ما صح، وتركت من ذلك ما هو أكثر خشية أن يطول الكتاب" فلولا إطالة الكتاب لخرج المزيد من الأحاديث، فخرج في الكتاب ما هو منطبق عليه شرطه، وأما كونه يوجد شرطه في غيره من الكتب على اختلافٍ بين العلماء في المراد بشرطه -رحمه الله تعالى-، وهذه الكلمة يتداولها أهل العلم، واختلف في مرادهم بها، ولكن الذي حرره أهل التحقيق من المحدثين أن المراد بشرط البخاري أو شرط الشيخين رجالهما، فإذا خرج الحديث من أي كتابٍ من الكتب المعتبرة عند أهل العلم بإسنادٍ خرج له الإمام البخاري قيل على شرط البخاري، وإذا خرج له الإمام مسلم قيل على شرط مسلم، وإذا خرج في الصحيحين لرواة هذا الحديث قيل: صحيح على شرطهما. المقدم: ويكون في نفس درجة الحديث عند البخاري ومسلم، بالقوة عند أهل العلم؟ لا يكون بنفس القوة؛ لأن الإمامين أعني البخاري ومسلماً ينتقيان من أحاديث الرواة، وليس معنى أن كل حديث يرويه كل راوي ممن خرج له البخاري في الصحيح أنه بدرجة ما خرج له البخاري، فالبخاري ينتقي من أحاديث هذا الراوي، وقد يترك بعض الأحاديث؛ لأنها لم تثبت عنده، وإن كانت من أحاديث راوٍ خرج له في الصحيح، وانتقى له مما وافقه عليه الحفاظ الضابطون. المقدم: أحسن الله إليك، يذكر أيضاً السائل يقول: هناك دعوة تقول: أن البخاري لا يروي في صحيحه إلا الأحاديث التي تكون موافقة لرأيه الفقهي، بمعنى: أن بعض الأحاديث لا يقبلها البخاري لأنها تعارض أحاديث أخر عمل بها، وترجم لها، هل هذا صحيح؟

أولاً: الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- فقيه، من فقهاء الحديث، لا ينتمي إلى مذهبٍ معين يتعصب له، وإنما هو يدور مع السنة حيثما دارت، فهو يستنبط الفقه من الأحاديث، وتراجمه التي تتضمن فقهه هي مأخوذة من هذه الأحاديث الصحيحة التي بلغت شرطه، وكونه لم يخرج أحاديث أخرى تختلف مع هذه الأحاديث؛ لأن هذه الأحاديث أرجح عنده من حيث الصناعة الحديثية، لا لأنها توافق اجتهاده ونظره، والأخرى تخالف اجتهاده لا؟ هذا يمكن أن يقال بالنسبة للمتفقهة على المذاهب، أما الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وهو يدور مع الحديث حيثما دار، ويستنبط من الأحاديث، ولا يتبع مذهباً بعينه، فلا يقال في حقه مثل هذا الكلام. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد.

شرح كتاب التجريد الصريح (1)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (1) كتاب الإيمان - باب دعاؤكم إيمانكم الشيخ: عبد الكريم الخضير المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، المشهور بمختصر صحيح البخاري للإمام زين الدين أحمد بن أحمد عبد اللطيف الزبيدي المتوفى سنة 893هـ. مع مطلع هذه الحلقة يسرني أن أرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، وأشكر له تفضله بقبول دعوتنا، فأهلاً ومرحباً بكم شيخ عبد الكريم. الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم. المقدم: لا زلنا في كتاب الإيمان. قال -رحمه الله-: باب: دعاؤكم إيمانكم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)). الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المقدم: اللهم صل وسلم على رسول الله. النسخة التي بيديك يا شيخ فهد، وقلنا للإخوان أن يعتنوا بها لأنها مرقمة ومصححة، فيها هذه الترجمة: باب دعائكم إيمانكم، على أنها لا توجد في شيء من نسخ التجريد، وهي تابعة لكلام حذفه المختصِر، كما أن نسخ الصحيح مختلفة في ذكر هذه الترجمة، قال النووي: يقع في كثير من النسخ هنا باب، وهو خلط فاحش، وصوابه بحذفه، ولا يصح إدخال باب هنا، إذ لا تعلق له هنا. ويقول ابن حجر: ثبت باب في كثير من الروايات المتصلة، منها رواية أبي ذر، ويمكن توجيه، ثبت باب يعني في الصحيح في الأصل في البخاري، أما المختصر لا ذكر لها فيه، ولا يتجه ذكرها، الكلام كله الآن على البخاري.

ويقول: ثبت باب في كثير من الروايات المتصلة منها رواية أبي ذر ويمكن توجيه، لكن قال الكرماني: أنه وقف على نسخة مسموعة على الفربري بحذفه، وعلى هذا فقوله: "دعاؤكم إيمانكم" من قول ابن عباس، وعطفه على ما قبله كعادته، يعني البخاري في حذف أداة العطف، حيث ينقل التفسير، وقد وصله ابن جرير من قول ابن عباس في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [(77) سورة الفرقان] قال: يقول: لولا إيمانكم، أخبر الله الكفار أنه لا يعبأ بهم ولولا إيمان المؤمنين لم يعبأ بهم أيضاً، ووجه الدلالة للمصنف أن الدعاء عمل، وقد أطلقه على الإيمان فيصح إطلاق أن الإيمان عمل، وهذا على تفسير ابن عباس، وقال غيره: الدعاء هنا مصدر مضاف إلى المفعول، والمراد دعاء الرسل الخلق إلى الإيمان، فالمعنى: ليس لكم عند الله عذر إلا أن يدعوكم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فيؤمن من آمن، ويكفر من كفر، فقد كذبتم أنتم فسوف يكون العذاب لازماً لكم، وقيل: معنى الدعاء هنا الطاعة، ويؤيده حديث النعمان بن بشير أن ((الدعاء هو العبادة)) أخرجه أصحاب السنن بسند جيد، وعلى تقدير وجود هذه الترجمة -أعني في الصحيح في الأصل- أما في المختصر فلا احتمال لوجودها فيه أبداً، وعلى تقدير وجود هذه الترجمة فالحديث تابع للترجمة السابقة، باب قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((بني الإسلام على خمس)). المقدم: وهذا غير موجود عندنا. لا، ما هو موجود. المقدم: أي نعم. باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس)) أقول: المختصر ما حذف أحاديث مرفوع، نعم. المقدم: نعم. لأن الترجمة السابقة إن كانت هذه (باب دعاؤكم إيمانكم) ترجمة ثابتة فما حُذف آيات وآثار وليست أحاديث مرفوعة على شرط المختصِر. المقدم: وبعدها حديث ابن عمر يأتي. وبعدها باب دعاؤكم إيمانكم على بعض الروايات، أما أكثر الروايات ليس فيها باب، فيكون الحديث هذا تابع للترجمة السابقة إذا لم توجد الترجمة. المقدم: وهي؟ (باب دعاؤكم إيمانكم) إن قلنا: باب دعاؤكم إيمانكم تابع لكلام ابن عباس، شرعة ومنهاجاً سبيلاً وسنة دعاؤكم إيمانكم. المقدم: نعم. نعم. المقدم:. . . . . . . . .

ثم ساق الحديث حديث ابن عمر بسنده إلى ابن عمر، البخاري فهو تابع للترجمة السابقة، وإذا قلنا بإثبات الترجمة: (باب دعاؤكم إيمانكم) فلا شك أنه مشكل، إثبات الترجمة مشكل؛ لأن الحديث يطابق للفظ الترجمة السابقة، وعلى تقدير وجود هذه الترجمة فالحديث تابع للترجمة السابقة (باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس)) وهو قول وفعل يزيد وينقص. المقدم: فضيلة الدكتور لو قدر الآن أن من قام بصنع هذا الكتاب أراد التعديل ما هي الطريقة المثلى الآن حتى نتصور أيضاً ما ذكرتم؟ هل الآن يزيل: (باب دعاؤكم إيمانكم) ويعيد الحديث هذا أو ... ؟ يقول: كتاب الإيمان. المقدم: نعم. نعم، ثم يأتي بترجمة البخاري إن كانت موجودة، وما أخالها موجودة في الأصول. المقدم: في المختصر. في المختصر، إنما يقول: كتاب الإيمان عن ابن عمر على طول؛ لأن دعاؤكم إيمانكم شطر من كلام ابن عباس فيما حذفه المختصِر. المقدم: هاه، جيد. والخلاف في نسخ الصحيح في لفظ باب لا في قوله: دعاؤكم إيمانكم؛ لأنه تابع من كلام ابن عباس المذكور في الصحيح، وقال ابن عباس: شرعة ومنهاجاً سبيلاً وسنة، دعاؤكم إيمانكم. قال -رحمه الله تعالى-: "عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) " راوي الحديث هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، واستصغر يوم أحد، وهو ابن أربعة عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان من أشد الناس أتباعاً للأثر صحابي مؤتسي -رضي الله عنه وأرضاه-، وإن كان لا يوافق في بعض ما فعله اقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها، والحديث مخرج في صحيح مسلم أيضاً هكذا بهذا الترتيب. المقدم: هو من العبادلة؟ نعم، هو من العبادلة. المقدم: من العبادلة. نعم، إيه. المقدم: نعم.

بلا شك، ابن مسعود الذي ليس منهم؛ لأنه تقدمت وفاته، والعبادلة الأربعة ابن عمر وابن عباس وابن عمرو بن العاص وابن الزبير، هؤلاء تأخروا واحتاج الناس إلى علمهم، فانتشر علمهم في الربع الثالث من القرن الأول يعني متقاربين هم. المقدم: وهو بعد أبي هريرة في رواية الحديث -رضي الله عنهم-؟ هو من المكثرين على كل حال. المقدم: نعم. الحديث مخرج في صحيح مسلم أيضاً هكذا يعني على هذا الترتيب (الحج وصوم رمضان) وروى مسلم بسنده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمسة على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج)) فقدم الصيام على الحج. المقدم: وقال: ((خمسةٍ)) هكذا بلفظ خمسة. نعم. "فقال رجل: الحج وصيام رمضان، فقال: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" اختلف العلماء في إنكار ابن عمر -رضي الله عنه- على الرجل الذي قدم الحج مع أن ابن عمر رواه كذلك صحيح من حديث الباب، قال النووي في شرح مسلم: الأظهر -والله أعلم- أنه يحتمل أن ابن عمر سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة بتقديم الحج ومرة بتقديم الصوم، فرواه أيضاً على الوجهين في وقتين، فلما رد عليه الرجل وقدم الحج قال ابن عمر: "لا ترد عليّ ما لا علم لك به، ولا تعترض بما لا تعرفه، ولا تقدح فيما لا تحققه، بل هو بتقديم الصوم هكذا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الآخر، ويحتمل أن ابن عمر كان سمعه مرتين من وجهين كما ذكرنا، ثم لما رد عليه الرجل نسي الوجه الذي رده فأنكره. مناسبة الحديث للترجمة في أصل الصحيح: باب قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((بني الإسلام على خمس)) ظاهرة جداً، المناسبة المطابقة بين الترجمة والحديث (باب قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((بني الإسلام على خمس)) والحديث يقول: ((بني الإسلام على خمس)) مطابقة تامة، وأما على الترجمة الثانية التي موجود في بعض الروايات دون بعض لا شك أنه مشكل، لا شك أن المناسبة مشكلة، وهذا يؤيد أن لفظة باب غير موجودة في الأصل، كما قاله النووي، بل أشار إلى أنها خطأ.

وأما في المختصر فمناسبة الحديث لكتاب الإيمان أن الحديث مشتمل على دعائم الإسلام، والإسلام والإيمان معناهما واحد عند الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- وبعض علماء السلف كمحمد بن نصر المروزي وغيره، قال النووي: أدخل البخاري الحديث في كتاب الإيمان ليبين أن الإسلام والإيمان قد يكونان بمعنى. وفي صحيح مسلم عن حنظلة قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاووساً أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟! فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الإسلام بني على خمس)) ما علاقة الغزو بالحديث؟ رجل قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟! فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الإسلام بني على خمس)) يعني: وليس منها الجهاد، فالعناية بهذه الدعائم الخمس أولى من العناية بالجهاد، هذا على حسب إيراد ابن عمر في رده على هذا الرجل الذي قال له: ألا تعزو؟! فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الإسلام بني على خمس)) نظير هذا أن عثمان -رضي الله عنه- لما قال لابن مسعود -وهو رجل شيخ كبير-: ألا نزوجك؟ فقال ابن مسعود: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معشر الشباب)) قد يقول قائل: إيش العلاقة؟ ليبين أن الخطاب موجه للشباب ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)).

قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام)) بني: مبني للمفعول من البنيان، والباني هو الله -سبحانه وتعالى- حذف للعلم به، والإسلام مرفوع نائب عن الفاعل، وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، الإسلام هو: الاستسلام والانقياد والخلوص من الشرك ((على خمس)) أي: دعائم، كما صرح بذلك عبد الرزاق في روايته، وفي رواية لمسلم: ((على خمسةٍ)) أي: أركان ((شهادة أن لا إله إلا الله)) وفي رواية لمسلم: ((على أن يوحد الله)) وفي رواية له: ((على أن يعبد الله ويكفر بما دونه)) والمعنى واحد، يقول ابن حجر: فإن قيل: الأربعة المذكورة مبنية على الشهادة إذ لا يصح شيء منها إلا بعد وجودها، فكيف يضم مبني على مبني عليه في مسمى واحد؟! -كلام ابن حجر- يقول: فإن قيل الأربعة المذكورة مبنية على الشهادة إذ لا يصح شيء منها إلا بعد وجودها فكيف يضم مبني؟ كيف يعطف المبني على ما بني عليه؟ فكيف يضم مبني إلى مبني عليه في مسمى واحد؟ أجيب بجواز أبتناء أمر على أمر ينبني على الأمرين أمرٌ آخر، الأركان الأربعة مبنية على الشهادة. المقدم: نعم. والشهادة مع الأركان الأربعة تشكل شيئاً واحداً هو إيش؟ المقدم: الإسلام. الإسلام. المقدم: نعم. فإن قيل: المبني لا بد أن يكون غير المبني عليه، وهذا مأخوذ من إيش؟ من العطف، فإن قيل: المبني لا بد أن يكون غير المبني عليه أجيب بأن المجموع غير من حيث الانفراد عينٌ من حيث الجمع، وش معنى هذا الكلام؟ المجموع غير من حيث الانفراد، لا شك أن الأمور المتعاطفة متغايرة من وجه، لكنها من حيث الجمع من حيث الصورة العامة المكتملة شيء واحد. المقدم: يعني كأنهم يقولون: الصلاة غير الزكاة والحج غير الصيام. معروف. المقدم: نعم. إيه. المقدم: هذا بنفرادها، لكن من حيث المجموع؟ من حيث المجموع هي عبادة لله وحده -سبحانه وتعالى-، وهي دين، وهي الإسلام. المقدم: نعم، جميل، جيد.

يقول: ومثاله البيت من الشعر يُجعل على خمسة أعمدة، أحدها أوسط، والبقية أركان، فما دام الأوسط قائماً فمسمى البيت موجود، ولو سقط مهما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمى البيت، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء، وأيضاً فبالنظر إلى أسه وأركانه الأس أصل والأركان تبع وتكملة، تشبيه الإسلام ببيت الشعر، الشهادة هي البيت الأوسط، والأركان الأربعة هي الأعمدة التي في الجوانب، في جوانب البيت، ما دام الأوسط قائماً فالمسمى البيت موجود، ولو سقط مهما سقط من الأركان، شوف التمثيل المطابق، لكن لو سقطت الأركان الأربعة كلها، ولم يبق إلا الأوسط، هل يبقى البيت؟ نعم؟ ما يسمى بيت، وإن ضم بعضه إلى بعض فلا يصير بيت، نعم؟ المقدم: نعم. وهذا جاري على مذهب أهل السنة أنه إذا فقدت الأركان كلها لا يبقى أصل الإسلام، ولا أصل الإيمان. المقدم: وهذا كما ... لئلا يقال -يفهم من هذا- أن الأعمال لا أثر لها، وأن الأصل العمود الأوسط. المقدم: كما جاء الخلاف هل هي أصل صحة أو أصل كمال. إيه نعم. المقدم: كما تفضلتم. أنا أريد بس أن أوضح تنظيره. المقدم: جميل. يقول: مثاله البيت من الشعر يُجعل على خمسة أعمدة أحدها أوسط، والبقية أركان، يقول: فما دام الأوسط قائماً فمسمى البيت موجود ولو سقط مهما سقط من الأركان، يعني: لو يسقط ثلاثة أركان يبقى الأوسط مع واحد، نعم. المقدم: إيه. يمكن أن يستظل به فيصير بيت، لكن لو سقط الرابع ماذا يبقى؟! المقدم: نعم. نعم، فإذا سقط الأوسط سقط مسمى البيت، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء، وأيضاً فبالنظر إلى أسه وأركانه الأس أصل والأركان تبع وتكملة. ((وشهادة)) شهادة بالجر بدل من خمس، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ حذف خبره أي منها شهادة.

((أن لا إله إلا الله)) (أن) بالفتح مخففة من المثقلة، ولهذا عطف عليه ((وأن محمداً رسول الله)) لا: نافية للجنس، إله: مبني على الفتح اسم لا، وخبره محذوف تقديره: معبود بحق، وإلا: حرف استثناء، ولفظ الجلالة مرفوع على البدلية من الضمير في الخبر، والحصر يستفاد من هذا التركيب من حصر الصفة وهي الألوهية في الموصوف وهو الله -سبحانه وتعالى-، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله -سبحانه وتعالى-، وأن محمداً بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر. ((وإقام الصلاة)) أي: المداومة عليها. المقدم: لكن عفواً يا فضيلة الشيخ، الآن اعتبرت خمس هل معنى ذلك أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تعتبر واحدة لتلازمهما؟ نعم، لا يمكن أن يشهد أن لا إله إلا الله شهادة حق ويعترف ويقر وهو مكذب لرسوله ولا يشهد برسالته، كما أنه لا يمكن أن يشهد أن لا إله إلا الله وهو مقر ومعترف بأن محمداً رسول الله لا بد من التلازم. المقدم: الله أكبر. ((وإقام الصلاة)) أي: المداومة عليها، والمراد الإتيان بها بشروطها وأركانها وواجباتها. ((وإيتاء الزكاة)) المراد بذلك إخراج جزء من المال محدد على وجه مخصوص، يُعطى لمستحقه ممن سمى الله -سبحانه وتعالى-، والحج إلى بيت الله الحرام مع الاستطاعة. ((وصوم رمضان)) هكذا جاء ترتيب الأركان الخمسة، واعتمده الإمام البخاري في صحيحه، فقدم الحج على الصيام، ولعله رجح الرواية التي فيها تقديم الحج على الصيام بما ورد من الوعيد الشديد بالنسبة لمن استطاع الحج ولم يحج، إضافة إلى قوله -سبحانه وتعالى-: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران] مما لم يأتِ مثله في ترك الصوم، لكن الجمهور اعتمدوا تقديم رواية الصيام على الحج، ورتبوا كتبهم على هذا الأساس. والحديث مخرج في الصحيح في موضعين:

الأول هنا في كتاب الإيمان، وتقدمت ترجمته مع المناسبة، والموضع الثاني: في كتاب التفسير: باب: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [(193) سورة البقرة] وقال الإمام البخاري: وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال: أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمرو المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً، وتترك الجهاد في سبيل الله -عز وجل-، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال: يا ابن أخي بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس ... الحديث. يقول الإمام البخاري: وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال: أخبرني فلان وحيوة بن شريح، قد يقول قائل: إن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- روى عن مبهم، والمبهم مجهول، فكيف يروي عن مجهول، لا مانع أن يروي عن مبهم، بل عن ضعيف إذا قرن بثقة، ولذا خرج البخاري لبعض من رُمي بضرب من التجريح الخفيف إذا قُرن بآخر، ونجد في كتب التراجم يقولون: روى له البخاري، وخرج له البخاري مقروناً، لو حذف فلان ما ضر، ما يضر الإسناد؛ لأنه يعتمد حينئذٍ على حيوة بن شريح، والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- قد يروي الحديث عن ثقة وضعيف، ما هو ثقة عن ضعيف، لا، ثقة وضعيف، فيحذف الضعيف ويبقي الثقة، كما روى عن مالك وابن لهيعة، حذف ابن لهيعة واقتصر على مالك، وهذا ليس من تدليس التسوية؛ لأنه لا اعتماد على هذا الضعيف، وهنا لا اعتماد على هذا المبهم، إنما عمدته الراوي المسمى وهو من رجاله. المقدم: نعم، أحسن الله إليكم هناك بعض المسائل إذا أذنتم، قبل قليل ذكرتم كلاماً للإمام النووي -رحمه الله- يُفهم منه أن البخاري يرى أن الإسلام هو الإيمان، وبالتالي أدرج حديث ابن عمر هذا: ((بني الإسلام على خمس)) في كتاب الإيمان، فكأنه يرى أن الإيمان والإسلام شيء واحد؟

نعم هذا ظاهر من تصرف الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في الأبواب اللاحقة، وهو أيضاً مستفيض عنه فيما نقله أهل العلم، وكذلك عن محمد بن نصر المروزي مما يرى من أهل السنة والجماعة أن الإيمان والإسلام معناهما واحد، وإن كان الجمهور على خلاف ذلك، وأن الإيمان أخص، لكن إذا افترقا كما يقول أهل العلم: اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا، فكل واحد منهما حقيقة إذا اجتمعا، إذا عطف الإسلام على الإيمان أو العكس كما جاء في حديث جبريل يخص هذا بحقيقة وذاك بحقيقة، لكن إذا أطلق لا شك أن الإسلام الذي الممدوح أهله، إذا مدح المسلم لا شك أن المراد به المؤمن، كما أنه إذا جاء ذكر المؤمن لا شك أن المسلم يدخل فيه على انفراده، لكن إذا عطف أحدهما على الآخر صار لكل واحد منهما حقيقة. المقدم: هل الإمام البخاري -رحمه الله- أيضاً يحتج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(35) سورة الذاريات] على اعتبار أنه ذكر الإيمان والإسلام وبالتالي بينهما ترادف؟ هذا رأيه -رحمه الله-، القول بالترادف وسيأتي إيضاح ذلك، وبيانه في الأبواب اللاحقة، وكلها تدل على هذا -إن شاء الله تعالى-. المقدم: أيضاً -أحسن الله إليكم- في حصر الأركان في هذه الخمسة ربما بعض الناس يرد عليه أن هناك أركان أخرى مثل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعضهم يقول: إن هذه الأركان إنما كانت في أول الإسلام كما ذُكر عن ابن بطال وغيره، وبعد ذلك فرضت شريعة الجهاد فهي ركن، حول هذا الموضوع إذا تكرمتم.

أما الواجبات فكثيرة، ومنها ما كان وجوبه قبل ورود هذا الحديث، ومنها ما كان وجوبه بعد ورود هذا الحديث، أما كونها أركان نعم جمع من أهل العلم قال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان الإسلام، وأنه الركن السادس، ومنهم من جعل السادس الجهاد، لكن جماهير الأمة على أن الأركان خمسة تبعاً لهذا الحديث، والجهاد وإن كان ذروة سنام الإسلام إلا أنه ليس بالمنزلة مثل الصيام ومثل الحج ومثل الزكاة ومن باب أولى مثل الصلاة، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعين على من رأى المنكر أن ينكره بحسب استطاعته، بيده إن استطاع، أو بلسانه أو بقلبه، وما عدا ذلك لا يوجد هناك من الإيمان حبة خردل إذا لم ينكر المنكر بقلبه، والله المستعان. المقدم: والله المستعان. أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، إذن إخوتنا المستمعين نستكمل -بإذن الله تعالى- بقية الأحاديث في هذا الكتاب كتاب الإيمان في حلقات قادمة. باسمكم جميعاً أتوجه بالشكر الجزيل بعد شكر الله -سبحانه وتعالى- إلى ضيف هذه الحلقات صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. شكراً لكم أنتم مستمعي الكرام، حتى ألقاكم في الحلقة القادمة، وأنتم على خير، أستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شرح كتاب التجريد الصريح (2)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (2) كتاب الإيمان - باب دعاؤكم إيمانكم الشيخ: عبد الكريم الخضير المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم (شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح) مع مطلع هذه الحلقة يسرني أن أرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير عضو هيئة التدريس بجامعة محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحباً بكم شيخ عبد الكريم. الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم. المقدم: أود قبل أن نبتدئ هذه الحلقة أن نذكر الإخوة المستمعين الذين أرسلوا بأسئلتهم الأخ الزهراني الذي بعث برسالة تربو على خمسين سؤالاً، أسئلته وصلت، وسوف يكون لها وقت -بإذن الله- حسب ما ننتهي من شرح بعض الأبواب، وسيجيب فضيلة الشيخ الدكتور على بعض الأسئلة التي يراها مناسبة لما تحدثنا عنه. كنا في الحلقة الماضية توقفنا عند بعض المقدمات حول كتاب الإيمان لفضيلة الدكتور، تحدثتم عن تعريفات هامة، وعن رأي الفرق حول الإيمان لعلنا نستكمل الحديث مع المستمعين الكرام حول هذه المقدمات. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في البداية أشكر الأخ الزهراني على عنايته واهتمامه ومتابعته للبرنامج، وأسئلته الدقيقة التي تُنم عن فهم وإدراك، وسوف نخصص لأسئلته وأسئلة غيره -إن شاء الله تعالى- حلقات لاحقة -بإذنه تعالى-، أما ما يتعلق بالإيمان وتعريفه فقد مضى تعريفه عند الفرق المنتسبة إلى الإسلام، فذكرنا تعريف أهل السنة والجماعة وأنه قول وعمل واعتقاد، ويشاركهم في التعريف الخوارج والمعتزلة على اختلاف بينهم في حقيقة المراد من العمل، وهذا سبق أن بيناه وفصلناه، فعند الخوارج أنه كتلة واحدة وهيئة مجتمعة لا يمكن أن تختل بوجه من الوجوه، فترتفع حقيقة الإيمان بارتفاع جزء من أجزائه، فيحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه كافر يقاربهم المعتزلة يقولون: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، لكنه يختل باختلال أي جزء من أجزاء العمل، وإن كانوا لا يوافقون الخوارج على تكفير مرتكب الكبيرة في الدنيا، ويقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، وأما في الآخرة فيوافقونهم فيقولون: هو مخلد في النار، هذا من أجل إزالة اللبس؛ لأن من يقرأ في تعريف الإيمان عند أهل السنة وعند الخوارج وعند المعتزلة يجد في التعريف النظري شبه تتطابق، وهذا أشرنا إليه سابقاً وعرفنا أن العمل المراد به عمل اللسان وهو نطقه، وكذلكم عمل الجوارح، وذكرنا أن النطق باللسان والتصديق به أمر لا بد منه، بل هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- علق حقن الدم بالقول، فثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) فلا بد من النطق حينئذٍ.

أما العمل فالعمل نوعان: عمل القلب وعمل الجوارح، أما عمل القلب من الحب والخوف والخشية والرغبة والرهبة وغيرها فأمر لا بد منه؛ لأن مجرد تصديق القلب مع عدم عمله لا يمكن أن يكون إيماناً وإلا لصار إبليس وفرعون من المؤمنين لوجود المعرفة في قلوبهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "لا بد في الإيمان في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ولرسوله ومعاداة الله ورسوله ليس إيماناً باتفاق المسلمين، وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب إلا إذا كان القلب سليماً من المعارض كالحسد والكبر؛ لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الذي يلائمها، ولا شيء أحب إلى القلوب السلمية من الله، وهذا هو الحنيفية وملة إبراهيم -عليه السلام-، الذي اتخذه الله خليلاً، قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [(88 - 89) سورة الشعراء] يقول: فليس مجرد العلم موجباً لحب المعلوم إن لم يكن في النفس قوة أخرى تلاءم المعلوم، وهذه القوة موجودة في النفس" هكذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-، وأما دخول عمل الجوارح في الإيمان بينه شيخ الإسلام أيضاً بما يلي: حيث قال: "أصل الإيمان هو ما في القلب والأعمال الظاهرة لذلك لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، يقول: لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم، وإن كان أصلهما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتفى بإيمان القلب، بل لا بد معه من الأعمال الصالحة" هذا أمر مهم حيث عطفت الأعمال على الإيمان؛ لأنه قد يقول قائل: إن العطف يقتضي المغايرة. المقدم: إن العطف يقتضي المغايرة، نعم.

لماذا عطفت {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [(227) سورة الشعراء]؟ حيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتفى بإيمان القلب، بل لا بد معه من الأعمال الصالحة، يقول: ثم للناس في مثل هذا قولان -يعني: في العطف- منهم من يقول: المعطوف دخل في المعطوف عليه أولاً، ثم ذكر باسمه الخاص تخصيصاً له لئلا يظن أنه لم يدخل في الأول، وقالوا: هذا في كل ما عطف فيه خاص على عام، كقوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [(98) سورة البقرة]. المقدم: وجبريل. {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [(98) سورة البقرة] وهما من الملائكة. المقدم: نعم. وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [(7) سورة الأحزاب] وهم من النبيين، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} [(2) سورة محمد] فخص الإيمان بما نزل على محمد بعد قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} وهذه نزلت في الصحابة وغيرهم من المؤمنين، هذا كلام الشيخ -رحمه الله تعالى-، يقول أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله تعالى- في التمهيد: أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذُكر عن أبي حنفية وأصحابه، فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيماناً، قالوا: إنما الإيمان التصديق والإقرار، ومنهم من زاد المعرفة" كذا في التمهيد.

البغوي في شرح السنة يقول: "اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، ثم قال: وقالوا: إن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء الحديث بالنقصان في وصف النساء، ويقول النووي في شرح البخاري في القطعة التي شرحها من صحيح البخاري: "وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [(143) سورة البقرة] أجمعوا على أن المراد صلاتكم، ومثله الآيات التي ذكرها البخاري في الباب، وسيأتي ذكرها وتفصيلها عند الكلام على أبواب الصحيح -إن شاء الله تعالى-، وأما الأحاديث فخارجة عن الإحصاء وستمر بها في مواضعها يعني من الصحيح، وهذا المعنى أراد الإمام البخاري في صحيحه بالأبواب الآتية بعد هذا كقوله: باب أمور الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، وسائر أبوابه، وأراد الرد على المرجئة في قولهم الفاسد أن الإيمان قول بلا عمل، وبين غلطهم، وسوء اعتقادهم، ومخالفتهم الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، قال الإمام أبو الحسن بن بطال: مذهب جميع أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل بلا اعتقاد، أو اعتقد وعمل وجحد بلسانه لا يكون مؤمناً، فكذا إذا أقر واعتقد ولم يعمل الفرائض لا يسمى مؤمناً بالإطلاق؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [(2 - 4) سورة الأنفال] فأخبر الله -سبحانه وتعالى- أن المؤمن لا يكون إلا من هذه صفته؛

ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- عن ... المقدم: الكلام السابق كله للإمام النووي يا شيخ؟ هذا للنووي ونقل عن ابن بطال. المقدم: نعم.

الإمام البخاري الذي أثنى عليه شيخ الإسلام بقوله، لا سيما في كتاب الإيمان الذي افتتح به الصحيح، يقول شيخ الإسلام: كتاب الإيمان الذي افتتح به البخاري صحيحه قرر مذهب أهل السنة والجماعة، وضمنه الرد على المرجئة، يقول: فإنه كان من القائمين بنصر السنة والجماعة، مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- الذي وصفه شيخ الإسلام ونعته بهذا يقول عن الإيمان: وهو قول وفعل، يزيد وينقص، ثم ذكر الآيات التي تدل على زيادة الإيمان، قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [(4) سورة الفتح] {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [(13) سورة الكهف] {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [(76) سورة مريم] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [(17) سورة محمد] {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [(31) سورة المدثر] وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [(124) سورة التوبة] قوله -جل ذكره-: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [(173) سورة آل عمران] وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [(22) سورة الأحزاب] ... إلى آخر ما ذكره -رحمه الله- مما يدل على زيادة الإيمان بالأعمال الصالحة، فدل هذا على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان شرعاً، ابن القيم -رحمه الله تعالى- بين أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، يقول: والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكامله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها، وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد التصديق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل يقرون به

سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، يصدقونه! يقولون: ليس بكاذب، لكن هل نفعهم هذا التصديق؟ لم ينفعهم؛ لأنهم يقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به، وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان، فإن الإيمان ليس هو مجرد التصديق، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه، بل هو معرفته المستلزمة لأتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقاً فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك مراجعة هذا الأصل ومراعاته، ذكره ابن القيم في كتاب الصلاة.

إذا عرفنا هذا وأن أهل السنة والجماعة كمالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق وسائر أهل الحديث يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وأنه يزيد بزيادة الأعمال الصالحة، وينقص كما قرره الأئمة، وتقدم ذكر الأدلة على زيادته، وما قبل الزيادة فإنه يقبل النقص، وأن المرجئة لا سيما مرجئة الفقهاء لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وأن الإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، كما قرره الطحاوي في عقيدته الشهيرة، وهم مع ذلك -يعني: المرجئة- لا يتساهلون في الأعمال، ولا في جزائها، ولذا قرر ابن أبي العز في شرح الطحاوية أن الخلاف بين أبي حنفية والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، ولبيان حقيقة الأمر لا بد من التفصيل، فمن جهة الاهتمام بالأعمال وتأثيم المخالف فيها لا يظهر بينهم في الحقيقة فرق، وحينئذٍ يكون الخلاف صورياً، ومن جهة كونه مرتكب الكبيرة لا يخرج عن مسمى الإيمان، وإن كانت كفراً عملياً كما يقرره المرجئة، وإنما يخرج عن مسمى الإيمان بالكفر الاعتقادي فقط، بينما أهل السنة يفصلون في هذا، فإن كانت الكبيرة مكفرة أو شركاً فهي مخرجة عن الإيمان، وإن كانت عملية فعلى هذا يكون الخلاف حقيقياً لما ورد من النصوص الدالة على زيادة الإيمان، وما ورد من نفي الإيمان عن بعض مرتكبي الكبائر كالزاني والسارق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين؛ ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحد من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سبباً لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، الأئمة كأبي حنيفة يعظمون الأمر والنهي مع قولهم: بأن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان، ويعظمون الأمر والنهي، لكن الذي يسمع كلامهم، وأن المسلم يكون كامل الإيمان لأن الإيمان في أصله واحد ... المقدم: مجرد التصديق.

نعم، لمجرد التصديق ولو عمل ما عمل من الكبائر، وترك ما ترك من الأوامر، الذي يسمع هذا الكلام من عامة الناس، أو من آحاد المتعلمين يظن أن الإمام أبا حنيفة لا يقيم للأعمال وزناً، فيتهاون بها، ولذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم؛ لأنهم لما وافقوا الجهمية في عدم دخول العمل في مسمى الإيمان، وإن اختلفوا معهم في أصل الاعتقاد؛ لأن أولئك يقتصرون على المعرفة دون النطق. المقدم: نعم، يعني كأن شيخ الإسلام يرى أن مرجئة الفقهاء أو أن قولهم صار من آثاره مثل هذه البدع التي ازدادت شيئاً فشيئاً مثل بدعة الإرجاء المحض ... نعم. المقدم: كأنها من آثار مرجئة الفقهاء. كأنهم سهلوا السبيل ويسروه لمن زاد في بدعته، ولمن أخل بالأعمال الصالحة وارتكب بعض المحرمات؛ لأن هذا يفتح باب لعامة الناس الذين يسمعون مثل هذا الكلام فلا يعظمون الأمر والنهي، وبهذا يخرجون عن ربقة الإسلام وهم لا يشعرون، إذا تركوا جميع الأوامر، وارتكبوا جميع الفواحش والمنكرات ماذا يبقى لهم من أصل الإيمان؟! المقدم: هم يرون أن أصل الإيمان واحد وهو مجرد التصديق كيف يقول مرجئة الفقهاء؟ كيف يبررون تفاضل إيمان أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- وبقية الأمة مثلاً؟ يقولون: هو في أصل الإيمان واحد، لا فرق، ولذا يقول بعض ولاتهم: إن إيمانه كإيمان جبريل، بل يقول: إن إيمان أفسق الناس وأفجر الناس وإيمان جبريل واحد. المقدم: إذاً الذي وقر في قلب أبي بكر ما هو؟ الذي جعله يفضل على الأمة؟

أقول: بمثل هذا يرد عليهم، وشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- مع قوله: إن بدعة هؤلاء كأبي حنفية من مرجئة الفقهاء يقول: من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد، لكن مع ذلك ترتب عليها آثار ترتبت على هذا القول، يقول: لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سبباً لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم -يعني: المرجئة- أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة، الذين هم الخوارج، من أي جهة؟ فتنة المرجئة تجعل الإنسان ينسلخ من دينه، فلا يفعل مأمور، ولا يترك محظور. المقدم: مجرد التصديق يكفي.

مجرد التصديق يقول: كمل إيمانه، وفتنة الأزارقة يعظمون الأمر والنهي، بل إنهم خرجوا عن الوسطية لغلوهم في هذا الباب، ويقول الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء، وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء، وعرفنا سبب هذا، وقال شريك القاضي: هم أخبث قوم يكذبون على الله، وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري، ثوب رقيق، بمجرد التصديق يكفي وإقرار به، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم في صحيحه، باب من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [(72) سورة الزخرف] باب من قال: إن الإيمان هو العمل، واستدل بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [(72) سورة الزخرف] وقال عدة من أهل العلم في قوله -عز وجل-: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [(92 - 93) سورة الحجر] عن قول: لا إله إلا الله، قال ابن رجب في شرح البخاري: مقصود البخاري بهذا الباب أن الإيمان كله عمل مناقضة لقول من قال: إن الإيمان ليس فيه عمل بالكلية، فإن الإيمان أصله تصديق بالقلب، وقد سبق ما قرره البخاري أن تصديق القلب كسب له وعمل، ويتبع هذا التصديق قول اللسان، ومقصود البخاري هنا أن يسمى عملاً أيضاً، وأما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل -يقول ابن رجب-: وأما أعمال الجوارح فلا ريب في دخولها في اسم العمل، ولا حاجة إلى تقرير ذلك، فإنه لا يخالف فيه أحد، فصار الإيمان كله على ما قرره عملاً. بقي عندنا مسألة وهي ما معنى كون الأعمال شرط؟ هل نقول: إنه شرط صحة، فيخشى من هذا ما يخشى من موافقة الخوارج؟ أو نقول: هو شرط كمال كما قال ابن حجر؟ يقول ابن حجر: الفرق بين المعتزلة والسلف أن المعتزلة جعلوا الأعمال شرطاً في صحة الإيمان، والسلف جعلوها شرطاً في كماله، المعتزلة جعلوا الأعمال شرط في صحة الإيمان، ولذا يرتفع بارتفاعها أو شيء منها. المقدم: المعتزلة وافقهم الخوارج.

الخوارج من باب أولى، السلف جعلوها شرطاً في كماله، لكن يرد على هذا كيف نقول: بأنه شرط وهو أيضاً كمال، الكمال قدر زائد على الماهية، والشرط لا تحصل الماهية إلا بحصوله، فهذا تناقض، نعم. المقدم: نعم. هذا تناقض، كأنك تقول: هذا شرط لكنه سنة؛ لأن الكمال القدر الزائد على الواجب، الصواب أنه عند السلف شرط صحة، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن هل يشترط كل عمل من الأعمال شرط لصحة الإيمان؟ كل عمل بمفرده شرط لصحة الإيمان، يرتفع بارتفاعه كما يقول الخوارج والمعتزلة؟ المقدم: يعني أفراد الأعمال. أفراد الأعمال، أو المقصود المشترط جنس العمل لا جميعه؟ المقصود كما قرره شيخ الإسلام المشترط جنس العمل، خلافاً للخوارج والمعتزلة، فإذا ترك جنس العمل بمعنى أن الشخص إذا لم يعمل شيئاً مما أمره الله به فإن اسم الإيمان يرتفع عنه، إذا لم يعمل شيئاً ألبتة، أما إذا عمل شيئاً وترك شيئاً مما لا يكفر بتركه فإن اسم الإيمان لا يرتفع بالكلية، بل هو عند أهل السنة مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، كما قرر ذلك أهل العلم المحققون من أهل السنة والجماعة، وبسط هذا الموضوع وهو الإيمان سيأتي -إن شاء الله تعالى- في ثنايا الكلام على أبواب الصحيح -إن شاء الله تعالى-. هذا وقد ألف بعض المعاصرين كتباً ينصر فيها مذهب المرجئة، ويزعم أنه قول أهل السنة والجماعة والسلف لكن اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية ردوا عليه، وبينوا المذهب الصحيح في المسألة، وأن مذهب أهل السنة والجماعة يدخلون العمل في مسمى الإيمان، ونصحوا هذا الكاتب بأن يراجع ما كتب، وأن يقرر الصواب بدليله، فعله أن ينصاع لما نصحه به هؤلاء الأئمة من أئمة العصر، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. المقدم: جزاكم الله خير، وأحسن إليكم، ونسأل الله تعالى أن يمن علينا وعلى الجميع بالهداية والتوفيق، وأن يردنا وإياهم إلى الحق رداً جميلاً. مستمعي الكرام انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامج: (شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح) لي بكم لقاء -بإذن الله- في حلقة الأسبوع القادم وأنتم على خير، حتى ذلكم الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

شرح كتاب التجريد الصريح (3)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (3) عبد الكريم بن عبد الله الخضير المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: (شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح) للإمام زين الدين أحمد بن أحمد عبد اللطيف الزبيدي، المتوفى سنة 893هـ. مع مطلع هذه الحلقة يسرني أن أرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحباً بكم شيخ عبد الكريم. حياكم الله وبارك فيكم. المقدم: توقفنا عند قول المؤلف: باب: أمور الإيمان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)). الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فالترجمة موجودة في الأصل في الصحيح، ولكن المختصر لم يذكر تراجم تفصيلية لكتاب الإيمان، إنما اقتصر على الترجمة الكبرى: كتاب الإيمان، والمحقق -وفقه الله- زاد هذه التراجم، وجعلها بين معكوفتين للدلالة على أنها من وضعه، وليست من أصل الكتاب. يقول -رحمه الله تعالى-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) راوي الحديث أبو هريرة يقول النووي -رحمه الله تعالى-: اختلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولاً، أصحها عند الأكثرين أن اسمه: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، يقول: وروينا عنه قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس، وسميت في الإسلام عبد الرحمن. وقال: هو أول من كني بأبي هريرة، قال: لأني وجدت هرة فحملتها في كمي، فقيل: أنت أبو هريرة.

أسلم أبو هريرة -رضي الله عنه- عام خيبر بالاتفاق، سنة سبع، وشهدها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم لزمه، وواظب عليه، وحمل عنه من العلم شيئاً كثيراً، وهو أكثر الصحابة رواية بإجماع العلماء، روى عن النبي -عليه الصلاة والسلام- خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً، اتفق الشيخان منها على ثلاثمائة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين، ومسلم بمائة وتسعين. توفي بالمدينة سنة 59هـ، وقيل: ثمان، وقيل: سبع، ودفن بالبقيع -رضي الله عنه وأرضاه-، هكذا في شرح النووي. انفرد البخاري بثلاثة وتسعين إذا أضيفت إلى ما اتفق عليه الشيخان ثلاثمائة وخمسة وعشرين يكون المجموع ثمانية عشر وأربعمائة، لكن الحافظ ابن حجر يقول: مجموع ما أخرجه البخاري من المتون المستقلة على التحرير أربعمائة حديث وستة وأربعون حديثاً، على التحرير، والحافظ ابن حجر يعنى بهذه الأعداد بدقة؛ لأنه شرح الصحيح، ويبين ما في كل باب، أو في كل كتاب من الأحاديث المرفوعة والموقوفة والموصولة والمعلقة، فضبط العدد بالتحرير -رحمه الله تعالى-.

قوله: ((الإيمان بضع)) البضع بكسر الباء، وحُكي فتحها، يقول في القاموس: وهو ما بين الثلاث والتسع أو إلى الخمس، أو ما بين الواحد إلى أربعة، أو من أربع إلى تسع أو سبع، على كل حال الخلاف فيه كبير بين أهل اللغة، يقول الفراء: هو خاص بالعشرات إلى التسعين، فلا يقال: بضع ومائة، ولا بضع وألف، ويكون مع المذكر بهاء، ومع المؤنث بغير هاء؛ يعني كالعدد، فتقول: بضعة وسبعون رجلاً، وبضع وعشرون امرأة، ولا تعكس؛ لأن العدد يخالف المعدود، فتقول: أربعة وعشرون رجلاً، وأربع وعشرون امرأة، وعلى هذا تقول: مكان الأربع والأربعة بضعة وبضع، وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: بضعة ((الإيمان بضعة وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)) ففي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: بضعة، بتأنيث بضعة، على تأويل الشعبة بالنوع، إذا فسرت الشعبة بالطائفة من الشيء فعلى هذا يكون معنى الحديث الإيمان بضعة وستون نوعاً، والحياء نوع من الإيمان، يقول النووي والكرماني: بضعة في أكثر الأصول، وقال ابن حجر: في بعض الروايات، عبارة ابن حجر تدل على أن الأكثر بضع لا بضعة؛ لأنه قال في بعض الروايات، قال القسطلاني: وصوب العيني قول الكرماني تعصباً، والذي رأيته في هامش فرع اليونينية: كهي، قال الأصيلي: صوابه بضع، يعني: بإسقاط الهاء، الآن الكرماني مع النووي يقولون في أكثر الأصول: بضعة بالتأنيث، وابن حجر يقول: في بعض الروايات: بضعة، بضعة في بعض الروايات، فابن حجر -رحمه الله- عكس كلام الكرماني، والقسطلاني يقول: صوب العيني قول الكرماني تعصباً، تعصباً على من؟ على ابن حجر؛ لأنه ينقل كلام ابن حجر غالباً، ويبهمه ثم يتعقبه، وأحياناً يشم منه رائحة التعصب أنه لمجرد، كلامه في التعقب لمجرد نقض القول لابن حجر. وعلى كل حال كل من ابن حجر والعيني من العلماء المعتبرين الذين لهم قدم راسخة في هذا الشأن، وإن كان الحافظ أرجح في الحديث وعلومه. المقدم: لكن يستقيم بضعة مع شعبة يا شيخ في اللغة؟ يستقيم؟ قلنا: على التأويل. المقدم: التأويل.

ما تمشي إلا على التأويل، الشعبة بالنوع، لا بد أن تأول الشعبة بالنوع، ويلجأ إلى مثل هذا التأويل إذا حصل ما يخالف القواعد، فلا بد من اللجوء إلى التأويل. يقول القسطلاني: صوب العيني قول الكرماني تعصباً، والذي رأيته في هامش فرع اليونينية: كهي، قال الأصيلي: صوابه بضع، يعني: بإسقاط الهاء، صوابه من حيث الرواية أو من حيث العربية؟ الرواية ثابتة في اللفظين عن البخاري، لكن لعل القصد -قصد الأصيلي- الصواب من حيث العربية، يقول: والذي رأيته في هامش اليونينية فرع اليونينية: كهي، هذا كلام القسطلاني، والذي رأيته في هامش فرع اليونينية: كهي، اليونيني شرف الدين الحنبلي له عناية في الصحيح كما هو معروف، نسخته تعرف باليونينية، وهي أضبط النسخ على الإطلاق؛ لأنه قرأ الكتاب مراراً على الروايات كلها، وذكر فروق هذه الروايات، كما أنه قرأ الكتاب مراراً على ابن مالك، الإمام النحوي المعروف، قرأه مراراً، ويصوب له الروايات المناسبة المطابقة أو الموافقة لعلم العربية. المقدم: وفي شيء مطبوع موافق لهذه النسخة يا شيخ الآن؟ الرموز والفروق -فروق الروايات- التي أثبتها اليونيني على نسختها، ورمز لكل رواية برمز هي التي طبعت عنها النسخة البولاقية، سواء السلطانية سنة (1311هـ) أو التي تليها بعد أن صححت سنة (1313هـ و1314هـ) تعتبر من أنفس الطبعات هذه.

يقول: في هامش فرع اليونينية: كهي، هذا كلام القسطلاني، لماذا اضطر إلى الفرع وقدمها على الأصل؟ لماذا ما قال: في هامش اليونينية وانتهى الإشكال؟ قال: في هامش فرع اليونينية: كهي، وهذا يستعمله كثيراً القسطلاني؛ لماذا يقدم الفرع على الأصل؟ أولاً: لم يتيسر له الحصول على الأصل في أول الأمر، وجد الفرع -فرع اليونينية-، وقابل نسخته عليها ستة عشر مرة، حتى أتقن نسخته؛ ولذا شرحه من أضبط الشروح بالنسبة للفظ الصحيح، سواء كان في المتون والأسانيد وصيغ الأداء وغيرها، قابل نسخته التي شرحها على الفرع اليونيني ستة عشر مرة، ثم تيسير له أن وجد المجلد الثاني من اليونينية الأصلية، فقابل عليها مراراً، ثم وجد المجلد الأول بعد حين فقابل عليه وجد الفرع مطابق تماماً للأصل، فاعتنى به، وقدمه على الأصل؛ لأنه هو السابق في الوجود بالنسبة له، هذا هو السبب، قوله: وستون، يقول ابن حجر: لم تختلف الطرق عن أبي عامر، يعني: العقدي، شيخ شيخ المؤلف في ذلك، وتابعه يحيى الحماني عن سليمان بن بلال، وأخرجه أبو عوانة من طريق بشر بن عمرو عن سليمان بن بلال، فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، على الشك، وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه، فقالوا: بضع وسبعون من غير شك، ورجح البيهقي رواية البخاري لأن سليمان لم يشك، قال الحافظ: وفيه نظر لما في رواية بشر من التردد، قال ابن حجر: لكن يرجح بضع وستون على بضع وسبعين بأنه المتقين؛ لأن العدد الأقل دائماً هو المتقين، وما عداه مشكوك فيه، رجح الحليمي وعياض والنووي رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة، قال: ابن حجر لا يستقيم ذلك؛ لأن الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لا سيما مع اتحاد المخرج، وبهذا يتبين شفوف ونظر البخاري، يعني: دقة نظر الإمام البخاري. المقدم: لأنه لم يروِ إلا الستون فقط، السبعين ... ما رواها. المقدم: نعم.

يقول: قال ابن حجر: لا يستقيم ذلك أن نقول: إن السبعين .. ، زيادة العشرة زيادة الثقة، أولاً: مجيء زيادة الثقة في اللفظ الواحد في الكلمة الواحدة منهم من يرويها ستين، ومنهم من يرويها سبعين، نقول: هذه زيادة ثقة، نعم؟ المقدم: لا يمكن. اختلاف. المقدم: نعم. هذا اختلاف وليس من الزيادات، لكن يمكن أن يقال: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- أُخبر أولاً، أو تحدث أولاً عن الشعب في أول الأمر بأنها بضع وستون، ثم تحدث بعد ذلك أنها بضع وسبعون، وحينئذٍ لا إشكال ولا اختلاف، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)) وفي حديث ابن عمر: ((تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) أُخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالعدد الأول، ثم تفضل الله -سبحانه وتعالى- بزيادة الدرجتين لمن اعتنى بصلاة الجماعة، وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف، ومنهم من يقول: إن العدد لا مفهوم له، لو حصل مثل هذا التعارض قال: العدد لا مفهوم له، ومنهم من يطلق دائماً يقول: العدد لا مفهوم له، لكن هذا الكلام ليس بصحيح، نعم إذا عُرض مفهوم العدد بمنطوق أقوى منه نعم يلغى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [(80) سورة التوبة] يعني مقتضاه لو استغفر لهم واحد وسبعين مرة أنهم يغفر لهم، لكن هذا المفهوم معارض بـ {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(48) سورة النساء] وحينئذٍ يلغى المفهوم، أما إذا كان المفهوم سواء كان لعدد أو لغيره دون معارض فإنه لا بد من اعتباره. المقدم: إذاً -أحسن الله إليكم- عدم رواية البخاري لهذه الزيادة ليس لذات السند وإنما للمتن؟ نعم للشك الموجود. المقدم: أي نعم، أما سند الحديث في الزيادة ليس فيه شيء، ولذلك رواه مسلم. نعم، هو مخرج في مسلم. المقدم: نعم.

يقول القسطلاني: هل المراد حقيقة العدد أو المبالغة؟ قال الطيبي: الأظهر أن المراد أو إرادة المعنى تكثير، ويكون ذكر البعض للترقي، يعني أن شعب الإيمان أعداد مبهمة، ولا نهاية لكثرتها، ولو أراد التحديد لم يبهم، وقال آخرون: المراد حقيقة العدد، ويكون النص وقع أولاً على البضع والستين لكونها الواقع، ثم تجددت العشر الزائدة فنص عليها، يقول النووي: وقد بين النبي -عليه الصلاة والسلام- أعلى هذه الشعب وأدناها، كما ثبت في الصحيح من قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) فبين -صلى الله عليه وسلم- أن أعلاها التوحيد المتعين على كل مكلف، والذي لا يصح غيره من الشعب إلا بعد صحته، وأن أدناها ما يندفع به ضرر المسلمين، وبقي بينهما تمام العدد، فيجب علينا الإيمان به، وإن لم نعرف أعيان جميع أفراده، كما نؤمن بالأنبياء والملائكة -صلوات الله وسلامه عليهم-، وإن لم تعرف أعيانهم وأسماؤهم. وقد صنف العلماء في تعيين هذه الشعب كتباً كثيرة، من أغزرها فوائد، وأعظمها جلالة كتاب: المنهاج في شعب الإيمان لأبي عبد الله الحليمي، وهو كما قال النووي: من أعلام الإسلام، ثم حذا الإمام الحافظ ... المقدم: مطبوع يا شيخ أحسن الله إليك؟ أيه، مطبوع في ثلاثة مجلدات، مطبوع، لكنه بحاجة إلى خدمة، مطبوع في ثلاثة مجلدات، وهو ما يزال بحاجة إلى خدمة، وهو كتاب نفيس، لا يستغني عنه طالب علم، ثم حذا الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي حذوه حذو الحليمي، وزاد عليه وأتى من التحقيق والفرائد بما لا مزيد عليه، في كتابه الحافل: (شعب الإيمان) فرحمهم الله تعالى.

وكذلك كتاب شعب الإيمان للبيهقي مطبوع في عشرين مجلداً، وطبع في أقل من ذلك بدون تعليقات، وهو أيضاً مختصر شعب الإيمان للبيهقي مختصر اختصره القزويني في جزء لطيف، قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان، أقول: لا شك أن تعيين المبهم الذي أبهمه الشرع من غير نص عليه من الشارع، والجزم بأن هذا هو مراد الله -سبحانه وتعالى-، أو مراد رسوله فيما حدث به -عليه الصلاة والسلام- عن ربه، لا شك أن في هذا صعوبة؛ لأن مثل هذا يحتاج إلى توقيف، ولا يمكن حصرها بطريق الاجتهاد، يقول ابن حجر: ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وفي صحيحه المرتب المسمى: (بالإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) للأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، يقول ابن حبان: قد تتبعت معنى الخبر مدة، وذلك أن مذهبنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتكلم قط إلا بفائدة، ولا من سننه شيء لا يُعلم معناه، فجعلت أعد الطاعات من الإيمان، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئاً كثيراً، فرجعت إلى السنن فعددت كل طاعة عدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، فإذا هي تنقص من البضع والسبعين، فرجعت إلى ما بين الدفتين من كلام ربنا، وتلوته آية آية بالتدبر، وعددت كل طاعة عدها الله -جل وعلا- من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البعض والسبعين، فضممت الكتب إلى السنن، وأسقطت المعاد منها، فإذا كل شيء عده الله -جل وعلا- من الإيمان في كتابه، وكل طاعة جعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان في سننه تسع وسبعون شعبة، لا يزيد عليها ولا ينقص منها شيء، فعلمت أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في الخبر أن الإيمان بضع وسبعون شعبة في الكتاب والسنن، فذكرت هذه المسألة بكمالها بذكر الشعب في كتاب وصف الإيمان وشعبه، هذا الكتاب لابن حبان، كتاب اسمه: (وصف الإيمان وشعبه) هذا لا وجود له، ولم يقف عليه الحافظ، ولذا قال: لكن لم نقف على بيانها من كلامه، لو وقف على الكتاب لوقف عليها من كلامه، بما أرجو أن فيه

الغنية للمتأمل إذا تأملها، فأغنى ذلك عن تكرارها في هذا الكتاب. يقول ابن حجر: وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره، وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن، فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة، الإيمان بالله ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط، والجنة والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، وإتباع سنته، والإخلاص ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق والتوبة والخوف والرجاء والشكر والوفاء والصبر والرضا بالقضاء والتوكل والرحمة والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير، وترك الكبر والعجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغضب، هذه أعمال القلب، وأعمال اللسان وتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم وتعليمه، والدعاء والذكر، ويدخل فيه الاستغفار، واجتناب اللغو. وأعمال البدن وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة: منها ما يختص بالأعيان، وهي خمسة عشرة خصلة: التطهير حساً وحكماً، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة، والصلاة فرضاً ونفلاً، والزكاة كذلك، وفك الرقاب والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام، وإكرام الضيف، والصيام فرضاً ونفلاً، والحج والعمرة كذلك، والطواف والاعتكاف، والالتماس ليلة القدر، والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك، والوفاء بالنذر، والتحري في الأيمان، وأداء الكفارات، ومنها ما يتعلق بالإتباع وهي ست خصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، واجتناب العقوق، وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة، أو الرفق بالعبيد.

ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبعة عشرة خصلة: القيام بالأمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود والجهاد، ومنه المرابطة وأداء الأمانة، ومنها أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذى من الناس واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق، فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عده تسع وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذُكر، والله أعلم، هكذا ذكر الحافظ -رحمه الله تعالى-. وعندي أن الإبهام وعدم التوقيف في مثل هذه الأمور مقصد شرعي؛ لكي يتنافس المسلمون، ويجتهد المؤمنون في تتبع جميع ما جاء عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويحرص على العمل بجميع ذلك وحصرها، والجزم بأن هذا مراد الله سبحانه على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيه جزم بغير علم، إذاً المسألة تحتاج إلى توقيف نظير ما جاء في الحث على إحصاء الأسماء الحسنى، جاء في الحديث الصحيح: ((إن لله -سبحانه وتعالى- تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)) وما جاء بيانها في المرفوع، تركت هذه ليعتنى بالأسماء الحسنى كلها، فكل اسم من الأسماء الحسنى يعتنى به، ويدعى به الرب -جل وعلا-، من باب حث الناس على العناية بهذه الأسماء، ومثله إبهام ليلة القدر كي يجتهد الناس في طلب ليلة القدر، ولو بينت في ليلة معينة لاعتنى بها الناس، وترك الناس ما عداها، ومثلها ساعة الجمعة جاءت أحاديث تدل على أنها في منتصف النهار، وجاء أنها في آخر ساعة وغير ذلك. المقدم: أحسن الله إليكم: ألا يمكن أن يقال: إن هذا الحديث في رد على من زعم أن الإيمان هو الاعتقاد فحسب؛ لأنه جمع الأصول الثلاثة، القول والعمل والاعتقاد، فقول: لا إله إلا الله هذه شعبة مهمة، وهي بالقول، والحياء قلبي، وإماطة الأذى عن الطريق بالفعل، ألا يمكن أن يرد عليهم بهذا الحديث وأمثاله؟

هو سيأتي وجه إدخال الحديث في كتاب الإيمان -إن شاء الله تعالى-، وفيه بيان هذا -إن شاء الله-. المقدم: جيد، الموضوع الآخر كأن البخاري لم يروِ هذا الحديث إلا في هذا الباب فحسب؟ نعم، ليس في ... المقدم: ليس في الصحيح؟ ليس في الصحيح إلا هذا الموضع فقط. المقدم: جميل. ذكرنا في الحديث أن من أهل العلم من اجتهد في حصر هذه الشعب، وتتطلبها من الكتاب والسنة، وحصل على العدة المذكورة، وابن حجر -رحمه الله تعالى- اجتهد، وذكر بعد أن قسمها إلى ما يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، ثم ذكر الخصال المتعلقة بالقلب، ثم اللسان، ثم الجوارح، ولكن حقيقة بالنسبة لي أنا لا أرى مثل هذه الأعداد التي ليس فيها نص على أن هذا هو مراد النبي -عليه الصلاة والسلام- من حديثه، وذكرت أن الإبهام وعدم التوقيف في مثل هذه الأمور من مقاصد الشرع، وله نظائر كساعة الجمعة وليلة القدر، وإحصاء الأسماء الحسنى، وما أشبه ذلك، من أجل أن يجتهد الناس، ويحرصوا على تتبع هذه الشعب كل شخص بنفسه، ويحرص على تدبر الكتاب من أجل أن يستخرج هذه الشعب، ومثل ذلك تتبع ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ليجتهد ويعمل، كل هذا مما يبعث العمل عند المسلم، ولا يجعله يتكل على غيره، كما أن ليلة القدر باستطاعته -عليه الصلاة والسلام- أن يقول: هي الليلة الفلانية، ولا يجعل الناس يجتهدون حتى بلغت الأقوال في ليلة القدر ما يقرب من خمسين قولاً لأهل العلم، ما يقرب من خمسين قولاً. المقدم: عن هذه الليلة .... مع أن رمضان ثلاثين ليلة، والجماهير كلهم على أنها في العشر، التمسوها في العشر، في السبع الأواخر، ومع ذلك بلغت الأقوال قرابة خمسين قولاً، كل هذا من أجل أن يجتهد الناس في تحصيل هذه الليلة العظيمة الأجر، على أن القاضي عياض -رحمه الله تعالى- يقول: ولا يقدح عدم معرفة ذلك على التفصيل في الإيمان، إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة، والإيمان بأن هذا العدد واجب على الجملة، وتفصيل الأصول، وتعيينها على هذا العدد يحتاج إلى توقيف.

يقول الخطابي: هذه منحصرة في علم الله وعلم رسوله -صلى الله عليه وسلم-، موجودة في الشريعة على أن الشرع لم يوقفنا عليها، وذلك لا يضرنا في علمنا بتفاصيل ما كلفنا به، فما أمرنا بالعمل به عملنا، وما نهانا عنه انتهينا، وإن لم نحط بحصر أعداده، نعم اعملوا وكل عمل أجره مثبت موفور لصاحبه، ما لم يخدشه برياء أو غيره، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، لسنا بحاجة إلى مثل تتبع هذه الأشياء. زاد مسلم في روايته: ((أعلاها لا إله إلا الله، وأدنها إماطة الأذى عن الطريق)) قال ابن حجر: وفي هذا إشارة إلى أن مراتبها متفاوتة، لا شك أنها متفاوتة، أين قول: لا إله إلا الله أول واجب على المكلف، الكلمة التي يدخل به المرء الإسلام ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) وبين إماطة الأذى عن الطريق؟! يجد المسلم ما يؤذي المارة فينحينه عن الطريق، لا شك أن هذه من شعب الإيمان، لكن أين هذا من قول: لا إله إلا الله؟ يقول ابن حبان: والدليل على أن الإيمان أجزاء وشعب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في خبر عبد الله بن دينار: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله)) فذكر جزءً من أجزاء شعبه، هي كلها فرض على المخاطبين في جميع الأحوال؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقل: وإن رسول الله، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار، وما يشبه هذا من أجزاء هذه الشعبة، واقتصر على ذكر جزء واحد منها، حيث قال: ((أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله)) فدل على أن سائر الأجزاء من هذه الشعبة كلها من الإيمان، ثم عطف فقال: ((وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)) فذكر جزء من أجزاء شعبه هي نفل كلها للمخاطبين في كل الأوقات، فدل ذلك على أن سائر الأجزاء التي هي من هذه الشعبة، وكل جزء من أجزاء الشعب التي بين الجزأين المذكورين في هذا الخبر اللذين هم من أعلى الإيمان وأدناها كله من الإيمان، فذكر الأعلى والأدنى وسكت عن ما بين الأعلى والأدنى.

قوله في الحديث: ((والحياء شعبة من الإيمان)) الشعبة القطعة والخصلة والجزء، والحياء بالمد، قالوا في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه، الترك هو من لوازم الحياء، وليس هو الحياء، يقول الواحدي: قال أهل اللغة: الاستحياء من الحياة، واستحيا الرجل من قوة الحياء فيه لشدة علمه بمواقع العيب، قال: والحياء من قوة الحس ولطفه، لا شك أن الذي يستحي هو الشخص الحساس، أما الشخص الذي لا يكترث، وليست لديه الحساسية المطلوبة شرعاً مثل هذا لا يستحي، والاستحياء كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي} [(26) سورة البقرة] هو بياءين كما هو معروف في لغة قريش، وإن كانت لغة تميم بياء واحدة، ولذا جاء في الحديث: ((إذا لم تستحي -بياء- فاصنع ما شئت)) لا بد من ذكر الياء؛ لأنه حذف واحدة وبقي واحدة للجازم، هذه لغة قريش، وأما مقتضى لغة تميم تقول: ((إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) في الصحيح متن الحديث على لغة قريش: ((إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) والترجمة من صنيع الإمام البخاري على لغة تميم، باب: (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)) هذا من اللطائف.

الحياء في الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، نقل النووي في شرحه عن الرسالة لأبي قاسم القشيري، وهي رسالة مشهورة معروفة عند أهل العلم، وإن كانت لا تسلم من شيء من المخالفات التي يعتني بها بعض العباد والمتصوفة، لأبي قاسم القشيري عن الجنيد قال: رؤية الآلاء -أي: النعم- ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء، لا شك أن الذي يؤدي العمل على الوجه المطلوب لا يستحي، لكن إذا طلب منك عمل فقصرت فيه، ووفيت الأجر كامل لا بد أن يتولد بينهما حياء، تستحي من هذا الشخص الذي أكرمك، وهذا في حق المخلوق، تستحي من هذا الشخص الذي أكرمك وأعطاك الأجر كاملاً، وعملت له عملاً ناقصاً، وقد جاء مدح الحياء في نصوص كثيرة، قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((الحياء من الإيمان)) وقوله: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) وقوله: ((إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)) وغير ذلك من النصوص، قال القاضي عياض وغيره من الشراح: إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة، قد يقول قائل: كثير من الناس يستحي غريزة جبلة، فكيف يرتب عليه الثواب وهو غريزة؟ نعم؟ المقدم: نعم.

جبلة في الشخص، يقول: إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة لأنه يكون تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، لكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، فهو من الإيمان لهذا؛ ولكونه باعثاً على أفعال الخير، ومانعاً من المعاصي، نعم الغرائز موجودة في الإنسان، لكن تكييف هذه الغرائز وتسيرها على مراد الله -سبحانه وتعالى- اكتساب، فهو يثاب على هذا المكتسب، وعلى تطويعه النفس على مراد الله -سبحانه وتعالى-، وأما كونه خيراً كله ولا يأتي إلا بخير فقد يُستشكل من حيث أن صاحب الحياء قد يستحيي أن يواجه بالحق رجلاً يجله فيترك أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال بالحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة هذا مشاهد، إذا رأى الإنسان من يجله حينئذٍ يستحيي من أن ينكر عليه ما يرتكبه من منكر، أو ما يفرط به من واجب، وهذا موجود بين المسلمين، ويزداد سوء حقيقة إذا وجد مِن مَن ينتسب إلى العلم، والجواب كما في شرح النووي عن هذا الإشكال أن هذا المانع المذكور ليس بحياء حقيقة، يعني: ليس بحياء شرعي، وإن سماه الناس حياء عرفاً، ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز ومهانة وضعف، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع عن التقصير في حق ذي الحق. قال ابن حجر: فإن قيل: لم أفرده بالذكر؟ نعود إلى المسألة السابقة، وهي أن الإنسان قد يستحيي ممن يجله فلا ينكر عليه، وهذه لا شك أنها مع الأسف الشديد في هذه الأزمان وهذه العصور موجودة عند كثير من المسلمين، ولا شك أن عدم القيام بما يجب على الإنسان لا سيما ممن ينتسب إلى العلم من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولرسوله، ولأئمة والمسلمين وعامتهم، لا شك أن هذا ضعف، هنا يقول ابن حجر: فإن قيل: لم أفرده، يعني: الحياء بالذكر؟ أجيب: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب إذ الحيي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر وينزجر، والله الموفق.

لا شك أن الحياء الشرعي يبعث على باقي الشعب، فكيف تستحيي ممن أغرقك بالنعم وأنت تزعم أنك تستحيي منه، وأنت لا تأتمر بأوامره، ولا تنزجر عن نواهيه، لا يمكن أن تتصف بهذه الصفة من الحياء الذي تزعمه إلا إذا امتثلت الأوامر، واجتنبت النواهي، ولذا يقول الحافظ: أجيب بأنه كالداعي إلى باقي الشعب إذ الحيي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر وينزجر، والله الموفق. وجاء تفسير الحياء مرفوعاً عند الترمذي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((استحيوا من الله حق الحياء)) قالوا: إنا لنستحيي من الله يا رسول الله والحمد لله، قال: ((ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) أولاً: هذا الحديث ضعيف، يقول الترمذي: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد وهو ضعيف، لا شك أنه ضعيف، الحديث ضعيف، ولو صح هذا الخبر لكان هذا التفسير من الرسول -عليه الصلاة والسلام- كما جاء في تفاسير بعض الحقائق التي تختلف فيها الحقائق العرفية عن الحقائق الشرعية، كتفسيره -عليه الصلاة والسلام- للمفلس، لما سألهم عن المفلس؟ قالوا: المفلس. المقدم: ((من لا دينار له ولا متاع)).

((من لا دينار له ولا متاع)) فقال -عليه الصلاة والسلام-: "المفلس من كذا وكذا" ... إلى آخره، لكن لو صح هذا الخبر، وعرفنا أنه غير صحيح، وهذه الأشياء المذكورة ((تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى)) كل هذه أمور مطلوبة ((من أراد الآخرة ترك زينة الدنيا)) يعني تقلل من الدنيا، وإن كان مأمور بأن لا ينسى نصيبه من الدنيا ((وآثر الآخرة على الأولى)) وهذا أيضاً أمر مطلوب، يقول القسطلاني في الحديث -حديث الباب-: وفي هذا الحديث دلالة على قبول الإيمان الزيادة؛ لأن معناه كما قال الخطابي أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى له أجزاء، أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعض تلك الأجزاء كما يتعلق بكلها، الاسم الذي هو الإيمان الشرعي يتعلق بالشعب كلها كما أنه يتعلق ببعضها، فلا إله إلا الله أعلى شعب الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق أدنى الشعب، الصلاة من الإيمان، الزكاة من الإيمان، الجهاد من الإيمان وهكذا، فالإيمان له أجزاء، وله أيضاً أعلى وأدنى، وما بين ذلك، يعني .... المقدم: يعني كأن التعليق هذا على اللفظ الآخر؛ لأنه قال: أعلى وأدنى، وبالتالي هذا ليس موجود بنص هذا الحديث: ((الإيمان بضع وستون شعبة)) يبدو أن ... موجودة في بعض طرق الحديث عند غير ... المقدم: أي نعم. . . . . . . . . عند مسلم. المقدم: إذاً هذا التعليق ليس على هذا الموضع يعني. هم يشرحون الحديث بكامله. المقدم: نعم.

إذا شرحوا الحديث استحضروا الروايات الأخرى؛ لأن أولى ما يفسر به الحديث الحديث، كما أن أولى ما يفسر به القرآن القرآن، الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: (باب: أمور الإيمان) قال العيني: أي هذا بابٌ في بيان أمور الإيمان، فيكون ارتفاع باب على أنه خبر مبتدأ محذوف، والمراد بالأمور هي الإيمان؛ لأن الأعمال عنده هي الإيمان، يعني عند البخاري هي الإيمان، فعلى هذا تكون الإضافة بيانية، ويجوز أن يكون التقدير باب الأمور التي للإيمان في تحقيق حقيقته وتكميل ذاته، فعلى هذا تكون الإضافة بمعنى اللام، وفي رواية الكُشمهني: باب أمر الإيمان بالإفراد على إرادة الجنس، يقول ابن بطال: التصديق أول منازل الإيمان، والاستكمال إنما هو بهذه الأمور، وأراد البخاري الاستكمال، ولهذا بوب أبوابه عليه، فقال: باب أمور الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، وأراد بهذه الأبواب كلها الرد على المرجئة القائلين بأن الإيمان قول بلا عمل، وتبيين غلطهم ومخالفتهم للكتاب والسنة، والحديث مخرج في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وهو موجود في مسند أحمد، وصحيح ابن حبان، وعند غيرهم أيضاً، فهو حديث مشهور مستفيض في دواوين الإسلام. المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخنا، جاء في حديث: أن الأحنف بن قيس عندما جاء في وفد قومه للنبي -صلى الله عليه وسلم- تعجل قومه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وانتظر هو، وجهز نفسه ولباسه وراحلته، يعني: في مكانها المناسب، ثم جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له -عليه الصلاة والسلام-: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله)) قال: يا رسول الله أخصلتين جبلت عليهما أم تخلقت بهما؟ قال: ((بل جبلت عليهما)) قال: الحمد لله الذي جبلني على شيء يحبه الله ورسوله، أليس في هذا دليل على أن الخصلة التي جُبل عليها الإنسان سواء كانت الحياء أو غيره -وموضوعنا في الحياء- يؤجر عليها الإنسان، وإن كانت محض فضل من الله لا اكتساب له فيها؟ والله -عز وجل- هو الممتن بالفضل والجزاء.

الخصال والغرائز والأوصاف التي يمنحها الله -سبحانه وتعالى- من يشاء من عباده فضلاً منه وتكرماً كما أن بعض العباد عدلاً من الله -سبحانه وتعالى- لا ظلماً قد يحرمه من بعض هذه الخصال على أن وجود مثل هذه الخصال وفقدان بعض هذه الخصال امتحان وابتلاء من الله -سبحانه وتعالى-، هذه نعمة من النعم التي يختبر فيها الإنسان، هل يشكر الله -سبحانه وتعالى- ويؤدي حق الله -سبحانه وتعالى- على الوجه المطلوب شكراً لهذه النعم التي منها ما جُبل عليه ما يحبه الله ورسوله؟ وبالمقابل من جبل على خصال لا يحبها الله ورسوله كالغضب مثلاً، إذا صبر واحتسب وتتطبع وامتثل أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((لا تغضب)) لا شك أنه ينال من الله -سبحانه وتعالى- الثواب العظيم والمجاهدة والمصابرة أمر لا بد منه في حال السراء وفي حال الضراء، بعض الناس يبتلى بالغنى، ومع ذلكم قد لا ينجح في هذا الابتلاء، والأصل المال نعمة من الله -سبحانه وتعالى-، لكن هل يشكر الإنسان؟ وهل يحاول أن يسخر هذا المال لخدمة دينه وأمته أو يعبث به، ويتخبط في مال الله على غير مراد الله، ومثله أو بالمقابل من حرم نعمة المال، هل يصبر ويحتسب ويصبر على ما صبر عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وصاحبته الكرام على ما ناله من شضف العيش وشدته، قد كان -عليه الصلاة والسلام- يُرى الهلال الأول والثاني والثالث ما أوقدت النار. المقدم: اللهم صلى وسلم عليه ... ما أوقدت النار في بيته، فالمال ليس بنعمة محضة، إنما هو ابتلاء، كما أن الفقر والمسكنة والحاجة والفاقة ليست بشر محض، المقصود في الأمرين معاً الأثر المترتب عليهما، هل يصبر من ابتلي بالضراء؟ وهل يشكر من ابتلي بالسراء؟ فكون الإنسان يمتن الله عليه -سبحانه وتعالى- بنعمة ليختبره فيها هل يشكر هذه النعمة ويسخرها في خدمة دينه وأمته أو يكفر هذه النعمة فيضر بها نفسه ويضر بها غيره؟

على سبيل المثال لو أن شيخاً من الشيوخ مدح لطلابه كتاباً من الكتب فهرع بعض الطلبة للبحث عن هذا الكتاب في المكتبات ولم يتيسر لبعضهم، وبعضهم تعب ونالته الكلفة والمشقة في البحث عنه، والبعض الآخر قال لهم الشيخ: إن الكتاب في المكتبة الفلانية، وقسم ثالث قال لهم الشيخ: عندي لكم نسخ من هذا الكتاب، هل يكون الشيخ ظالم للقسم الأول الذي ذهب يبحث عن الكتاب هنا وهناك؟ لا، ليس بظالم، بل يؤجر على هذا البحث، وبحثه عن هذا الكتاب الذي يبين له شرع الله، ويفسر له كلام الله وكلام رسوله، ويجعله يعبد الله -سبحانه وتعالى- على بصيرة، ويدعو إلى الله على بصيرة هذه عبادة، فالشيخ حينما مدح هذا الكتاب، وانقسم الطلاب إلى ثلاثة أقسام: منهم من تعب في تحصيل هذا الكتاب هذا يؤجر على هذا التعب، والشيخ ليس بظالم له ألبتة، والقسم الثاني: الذي وصف لهم وعين لهم الشيخ مكان هذا الكتاب أيضاً ليس بظالم له في مقابل من أهدى إليه الكتاب، نعم هو تفضل على بعض الطلاب بالهدية، ولا يلزمه التعديل بينهم، نعم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. المقدم: أحسن الله إليكم: هل نستطيع أن نقول: إن الحياء عبادة قلبية لها آثار في الجوارح والقول كما يقسم بعض العلماء العبادات إلى قلبية وغيرها؟ لا شك أن الحياء مبعثه القلب، مصدره القلب، وآثاره على الجوارح ظاهرة، لا شك أنه تغير وانكسار، تبدو على الملامح وتظهر على الوجه آثاره، ثم يتعدى إلى الأفعال، لا شك أن الحيي حق الحياء الحياء الشرعي ينكف عن فعل المحرمات استحياء من الله -سبحانه وتعالى-، ويفعل المأمورات حياء من الله -سبحانه وتعالى- فهي عبادة قلبية، آثارها عملية. المقدم: النبوة الأولى التي قال عنها -عليه الصلاة والسلام-: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)). نعم، هذا مما تواطأت عليه الرسالات. المقدم: المقصود تواطأ الرسالات. تواطأت عليه الرسالات، وتوارثته الرسل، وجاء مقرراً في الشرائع كلها. المقدم: وكان المعروف أن الحياء عندهم بهذه الكيفية. نعم بهذه الكيفية .... المقدم: نعم ....

شرح كتاب التجريد الصريح (4)

شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (4) باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وباب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه الشيخ: عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سم. المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، توقفنا عند قول المؤلف -رحمه الله-: باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)).

قد نبهت في أكثر من مناسبة أن الترجمة من عمل المحقق، وليست في أصل المختصر، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لما ذكر حديث الشعب، أتبع الحديث بأحاديث نص النبي -عليه الصلاة والسلام- فيها على بعض الشعب، ومنها حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) وراوي الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن، يقال: كان بينه وبين أبيه اثنتا عشرة سنة، وقيل: إحدى عشرة، كان -رضي الله عنه- غزير العلم، مجتهداً في العبادة، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: ما كان أحد أكثر حديثاً مني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب، هذا قاله أبو هريرة -رضي الله عنه-: ما كان أحد أكثر حديثاً مني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عبد الله بن عمرو، وهذا بناء على غلبة ظنه، نظراً لكثرة ما يرويه ابن عمرو من الأحاديث، أو تكون مقالة أبي هريرة هذه قبل الدعوة النبوية لأبي هريرة، وقبل أن يبسط رداءه بأمر النبي -عليه الصلاة والسلام-.

وعلى كل حال عبد الله بن عمرو أحد المكثرين من الرواية، روي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعمائة حديث، اتفق على سبعة عشرة حديثاً، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، توفي بمكة، وقيل: بالطائف، وقيل: بمصر، سنة ثلاث أو خمس أو سبع وستين، الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم على الحديث بقوله: (باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) يقول العيني: فإن قلت: لمَ لم يبوب البخاري على الجملة الأخيرة من الحديث: ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه))؟ قلت: لأن في صدر الحديث لفظة المسلم، والكتاب الذي يحوي هذه الأبواب كلها من أمور الإيمان والإسلام، قال: فإن قلت: هجر المنهيات أيضاً من أمور الإسلام، قلتُ: بلى، ولكنه في تبويبه بصدر الحديث اعتناء بذكر لفظٍ فيه مادة من الإسلام وهو المسلم، قوله: ((المسلم)) قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو: زيدٌ الرجل، أي: الكامل في الرجولية، قال ابن حجر: وتعقب بأنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملاً، ويجاب بأن المراد بذلك مع مراعاة باقي الأركان، يقول الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين، يقول ابن حجر: وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذُكر مثله في علامة المنافق، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.

يقول العيني: فيه نظر وخدش من وجهين: أحدهما: أن قوله يحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى حسن معاملة العبد مع ربه ممنوع؛ لأن الإشارة ما ثبت بنظم الكلام وتركيبه مثل العبارة غير أن الثابت من الإشارة غير مقصود من الكلام، ولا سيق الكلام له، يقول: فانظر هل تجد فيه هذا المعنى؟ يعني: هل أشير بالحديث الذي فيه الإشارة إلى حسن معاملة العبد مع أخيه المسلم، هل فيه إشارة ولو من بعد إلى حسن المعاملة مع الرب؟ يقول: يحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، الوجه الأول من وجهي الخدش عند العيني يقول: هذا ممنوع؛ لماذا؟ لأن الإشارة ما ثبت بنظم الكلام وتركيبه مثل العبارة، كأنه يقول: إن التنصيص على المراد يكون باللفظ، يكون بالمنطوق، والإشارة إليه تكون بالمفهوم، ومعاملة الرب لم ترد لا في منطوق الحديث ولا في مفهومه، لكن لا يمنع أن ينبه بالأدنى على الأعلى، كما نبه الله -سبحانه وتعالى- بالنهي عن إيذاء الأبوين بمنع التأفيف {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [(23) سورة الإسراء] قد يقول قائل: ليس فيه إشارة إلى منع الضرب لا بالمفهوم ولا بالمنطوق، نقول: هذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا مُنع التأفيف مُنع الضرب من باب أولى، وهنا إذا اعتني بحسن معاملة العبد فالعناية بحسن المعاملة مع الرب من باب أولى، وبهذا يتبين ضعف الوجه الذي خدش به العيني كلام ابن حجر. يقول: والثاني أن قوله: فأولى أن يحسن معاملة ربه ممنوع أيضاً، ومن أين الأولوية في ذلك؟! والأولوية موقوفة على تحقق المدعى، والدعوى غير صحيحة؛ لأننا نجد كثيراً من الناس يسلم الناس من لسانهم وأيديهم ومع هذا لا يحسنون المعاملة مع الله تعالى.

الوجه الثاني من وجهي الخدش في كلام الحافظ ابن حجر من قبل العيني يقول: إن قوله: فأولى أن يحسن معاملة ربه ممنوع أيضاً، ومن أين الأولوية في ذلك؟ والأولوية موقوفة على تحقق المدعى، والدعوى غير صحيحة، عرفنا أن الدعوى صحيحة، والتنبيه بالأدنى على الأعلى معروف في النصوص وفي لغة العرب، يقول: لأننا نجد كثيراً من الناس يسلم الناس من لسانهم وأيديهم ومع هذا لا يحسنون المعاملة مع الله تعالى، نقول: هذا خبر، لكنه أريد به الأمر، نعم، قد يأتي الخبر ويراد به الأمر، هنا المفهوم من توجيه المسلم إلى تحسين معاملته مع أخيه، وهذا هو الأدنى أولى بالمسلم وأحرى به أن يحسن معاملة ربه، يعني: هذا هو المفترض في المسلم، كونه يوجد من يخالف المخالفون كُثر للأوامر الصريحة، كما أن المخالفين والواقعين في النواهي الصريحة كُثر. يقول: ((من سلم المسلمون)) وكذا المسلمات، وأيضاً أهل الذمة، فذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيداً، والإتيان بجمع التذكير للتغليب فإن المسلمات يدخلن في ذلك. المقدم: العيني -أحسن الله إليكم- ما له توجيه لما خدش قول ابن حجر، ما له توجيه آخر؟ العيني بس وقف عند النص وقال: لا بد أن نأخذ ما يدل عليه النص منطوقاً أو مفهوماً. ((من سلم المسلمون)) هنا جاء بجمع التذكير، والمقصود به الغالب، ويدخل فيه الإناث؛ لأن خطاب الرجال تدخل فيه الإناث، وجاء ذلك صريحاً في قوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [(12) سورة التحريم] نعم، يدخل فيه أيضاً أهل الذمة لما ورد من الوعيد في حق من آذاهم، من آذى ذمياً جاء الوعيد في حقه فيدخل فيه هذا، والذمي معروف أنه من يبذل الجزية وهو صاغر، ويلتزم بأحكام المسلمين تجاه أهل الذمة.

((من لسانه ويده)) خص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس، وهكذا اليد؛ لأن أكثر الأفعال بها، لا شك أن اللسان هو المعبر عما في الضمير، الناس لا يدرون ولا يعرفون ما في نفس الشخص إلا إذا نطق؛ ولهذا لا يؤاخذ في أحكام الدنيا إلا إذا نطق بلسانه، وكذلك اليد أكثر الأفعال بها، بها الأخذ، وبها الإعطاء، وبها الضرب، وبها .. إلى غير ذلك من .. ، بها الأكل والشرب، المقصود أن اليد هي التي تستعمل في غالب التصرفات، وعبر باللسان دون القول ما قال: من قوله ويده، أو قوله وعمله، عبر باللسان دون القول ليدخل من أخرج لسانه استهزاء بصاحبه يؤاخذ؛ لأن المسلم لم يسلم من لسانه، فلو قال: من سلم المسلمون من قوله لما دخل مثل هذا؛ لأنه لم يقل شيئاً، وإن كان القول بالمعنى الأعم يشمل الفعل أيضاً (قال بيديه هكذا) يعني في التيمم (قال بيديه هكذا) والقول هنا المراد به الفعل، المقصود أن هكذا قال الشراح. يقول ابن حجر: والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين حديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، يعني: من يأتي بعد قد لا يسلم من لسان بعض الناس، كما أن الماضين لم يسلموا من ألسنة كثير من الناس فضلاً عن الموجودين، نعم يمكن أن تشارك اليد اللسان في ذلك بالكتابة، وإن أثرها في ذلك لعظيم، أقول: ما أعظم أثر كتابة اليد، وكم من شخص ضل بسببها؛ لأن الإنسان يكتب بيده ما لا يحسب له حساب، فيضل بسببه من يقرأه ممن يأتي بعده، وهذا ظاهر في كتب المبتدعة التي ضل بسببها قرون متطاولة، وأجيال من الناس، ومثل الكتابة حفظ الكلام بآلات التسجيل، فعلى المسلم أن يحسب لكل عمل يقدم عليه حسابه، وينظر هل يستفيد أحد من كلامه أو يتضرر؟ فيقدم بناء على ذلك أو يُحجم، والله المستعان.

المقدم: الله المستعان، كأني أيضاً بكم تشيرون إلى قضية سلامة الناس في أديانهم أيضاً، مما يحصل من بعض الكتبة مع الأسف في التسلط على أديان الناس والتعرض لمعتقداتهم، كأنكم تشيرون إلى أن هذا الأمر خطير أيضاً يا شيخ. المحافظة على الدين أولى من المحافظة على النفس والمال وغيرها من الضرورات، فالضرر في الدين أبلغ؛ لأنه باقٍ، فالشخص الذي يتضرر دينه بسبب شخص ما لا شك أنه يهلكه، ويقضي عليه، أما الضرر الدنيوي فهو لا يلبث إما أن يزول أو يستمر حتى وفاة الشخص وعمره محدود، لكن أين هذا من الضرر في الدين الذي يكون بناء عليه قد يدخل بسببه النار -نسأل الله العافية-، قد يكفر بسبب كلمة يضل بها -نسأل الله العافية-، نعم. والمراد بالسلامة هنا ما لم يكن ذلك بحق كحد أو تعزير أو تأديب على أن ذلك في التحقيق ليس إذاء، بل هو استصلاح، إذا كان عدم السلامة بحق كإقامة حد على مرتكب معصية، أو تأديب مخالف، أو تعزير هذا في الحقيقة ليس بإذاء حقيقي، وإن كان في الظاهر إذاء يتألم من أقيم عليه الحد، لا شك أنه يتألم من أقيم عليه الحد أو التعزير أو التأديب، لكن مصلحته أعظم، هو استصلاح وطلب للسلامة للشخص نفسه ولغيره، ولو في المآل، وهذا من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام- التي لم يسبق إليها.

قوله: ((المهاجر)) المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من اثنين، لكنه هنا للواحد كالمسافر فهو بمعنى الهاجر، ويحتمل أن يكون على بابه؛ لأن من لازم كونه هاجراً وطنه مثلاً أنه مهجور من وطنه، قال ابن حجر: وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان؛ لأن ما تدعو إليه النفس الأمارة والشيطان مما نهى الله عنه، وعلى هذا يستحق الوصف بالمهاجر الكامل من ترك ما تدعو إليه نفسه الأمارة بالسوء والشيطان أيضاً، المهاجرة الظاهرة ترك البلد، ترك العشيرة، وتتمثل بالفرار بالدين من الفتن، وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، قد يقول مثلاً من المهاجرين وإن لم يقولوا ذلك، لكن هذا مجرد يعني توجيه للحديث؛ لئلا يقول أحد من المهاجرين: أنا هاجرت، ولئلا يقولها أيضاً من يهاجر بعدهم من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، أنا هاجرت من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ويكفيني هذه الغربة، نقول: لا، هذه الغربة لا تكفي، بل لا بد أن تهجر ما تدعوك إليه نفسك الأمارة بالسوء ((المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه)). يحتمل أن يكون ذلك قبل انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييباً لقلوب من لم يدرك ذلك، نعم كثير من الناس ولد في بلاد الإسلام، ولا يحتاج إلى هجرة وانتقال من هذا البلد إلى غيره، قد يقول: فاتني خير عظيم في فوات الهجرة، نقول: بقي هجرة ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) وهذا فيه تطييب لقلب مثل هؤلاء.

بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، زاد ابن حبان والحاكم: ((والمؤمن من أمنه الناس)) وقال النووي: المهاجر الكامل، قال العلماء: أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- المهاجرين أنه أوجب عليهم أن يهجروا ما نهى الله تعالى عنه، ولا يتكلوا على الهجرة، وقيل: شق فوات الهجرة على بعضهم ففعل المهاجر المطلوب الكامل من هجر ما نهى الله تعالى عنه، ومن ذلك الهجرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال أهل اللغة: الهجر ضد الوصل، ومنهم قيل للكلام القبيح: الهُجر بضم الهاء؛ لأنه ينبغي أن يهجر، والهاجرة وقت يُهجر فيه العمل، والمهاجر هو الذي فارق عترته ووطنه. والحديث أخرجه الإمام البخاري هنا في كتاب الإيمان، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره، ثم قال: قال أبو عبد الله: وقال أبو معاوية: حدثنا داود عن عامر قال: سمعت عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال عبد الأعلى عن عامر عن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأراد بهذا التعليق بيان سماع الشعبي من عبد الله، ونبه بالتعليق الآخر على أن عبد الله الذي أهمل في رواية هو عبد الله بن عمرو الذي بين في رواية رفيقه.

أخرجه أيضاً الإمام البخاري في الرقاق: (باب الانتهاء عن المعاصي) قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا عن عامر قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره بلفظه، ومناسبة قوله في الحديث: ((والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) للترجمة (باب الانتهاء عن المعاصي) ظاهرة ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) من انتهى عن المعاصي فقد هجر ما نهى الله عنه، فالترجمة ظاهرة، وكذا صدر الحديث: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) لأن من لم يسلم المسلمون من لسانه ويده لم ينتهِ عن المعاصي، ومن سلموا منه قد انتهى من المعاصي المتعلقة بهم، بالمسلمين، يقول العيني: مطابقته للترجمة من حيث أن ترك أذى المسلم باليد واللسان من جملة الانتهاء عن المعاصي، وأيضاً قوله: ((من هجر ما نهى الله عنه)) من جملة الانتهاء عن المعاصي أيضاً، والحديث مما انفرد البخاري بجملته عن مسلم، وأخرج مسلم بعضه في صحيحه، وأخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم. المقدم: أحسن الله إليك هذا مناسبة إيراده في الباب أو الترجمة الكتاب في كتاب الإيمان مع أنه قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) كأن للبخاري إشارة في إيراده في كتاب الإيمان؟

نعم، الإمام البخاري ذكر مراراً أنه يرى الترادف بين الإسلام والإيمان، ذكرنا سابقاً أنه يرى أن الإيمان والإسلام مترادفان، وتأتي الإشارات الكثيرة في الأبواب اللاحقة كلها يذكر فيها الإسلام، وأدخلها في كتاب الإيمان؛ لأنه لا فرق بينهما عنده، ولا شك أن الإسلام الذي يمدح صاحبه مشتمل على الإيمان كما أن الإيمان مشتمل على أيضاً على الإسلام، وهما كما قال أهل العلم إذا اجتمعا افترقا، صار لكل واحد منهما حقيقته، وحمل الإسلام على الأعمال الظاهرة، والإيمان على الأعمال الباطنة كما في حديث جبريل، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا مدح المسلم فالمراد به المؤمن، كما أنه إذا مدح المؤمن دخل فيه المسلم الملتزم بإسلامه. المقدم: لكن ألا يعتقد أيضاً ربما يقال: إن قصد البخاري الرد على من قال: إن الإيمان مجرد التصديق أو أنه القول والتصديق؛ لأنه أشار إلى أن الإسلام هنا أن يسلم المسلمون من لسانه ويده، فأدخل الأفعال في نقيض الإسلام فبالتالي تكون في الفعل ذاته. نعم، هذا جارٍ على ما قعده وأصله سابقاً، وأن الإسلام قول وعمل واعتقاد، وأنه يزيد وينقص، ثم بعد ذلكم ذكر حديث الشعب، ثم فرع ما وصل إليه على شرطه من هذه الشعب، نعم. المقدم: أحسن الله إليك مرت بنا كلمة عترة قبل قليل وضبطتموها بهذه الصورة. نعم، هو بكسر العين الأقارب. المقدم: عِترة. نعم، هم الأقارب. المقدم: نعم، معنا مجموعة من الأسئلة يا شيخ إذا أذنتم. تفضل.

الطالب: أحسن الله إليك يا شيخ في سند الحديث الأول قال الإمام البخاري فيما أذكر السند: حدثنا آدم حدثنا الشعبي وساق الحديث، ثم قال: وإسماعيل عن شعبة أو كذا، أو نحو هذا السند، فإسماعيل هذا متابع لمن؟ وهل إسماعيل حدث البخاري يعني تابع آدم؟ وإذا كان فهمي هذا صحيح أي أن إسماعيل حدث البخاري أليس هذا موضع حاء التحويل التي يكثر منها الإمام مسلم في صحيحه حتى يوردها أحياناً عدد من المرات في حديث واحد، لماذا لم يوردها البخاري؟ جزاكم الله خير. الإمام البخاري كما ذكرنا يروي الحديث من طرق أولها قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر، ثم قال: وإسماعيل، عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل عن الشعبي، فإسماعيل معطوف على عبد الله بن أبي السفر، نعم. الطالب: نعم. يقول: حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل كلاهما عن الشعبي عن عبد الله، شعبة عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل، عبد الله وإسماعيل كلاهما يروي الحديث عن الشعبي، نعم، الحاء تتصور هنا لو كان البخاري يروي الحديث عن إسماعيل، نعم، فيقول: حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيلُ، يعني: وحدثنا إسماعيل، حاء وحدثنا إسماعيل، فالحاء هنا لا ترد، وهي ترد كثيراً في صحيح مسلم، ويقصد بها التحول من إسناد إلى إسناد، ويستفاد منها اختصار الأسانيد، والجمع على نقطة الالتقاء. الطالب: لكن إسماعيل حدث من؟ حدث البخاري؟! شوف حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل، فإسماعيل حدث شعبة مع عبد الله بن أبي السفر، عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل كلاهما حدث شعبة عن الشعبي. المقدم: نعم، أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم. إذاً توقفنا عند قول المؤلف: باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه

عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). فقد نبهنا مراراً أن الترجمة لا توجد في المختصر، وهي موجودة في الأصل، فحديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). أنس بن مالك راوي الحديث هو أبو حمزة أنس بن مالك بن النظر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري النجاري البصري، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين. قال النووي: روي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفق منها على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحد وسبعين، وشهرته وشهرة من روى عنه ومناقبه أظهر من أن تحتاج إلى نص عليها.

ثبت للبخاري وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا له، توفي -رضي الله عنه- بالبصرة سنة ثلاث وتسعين عن مائة وثلاث سنين الحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: (باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه) يقول الكرماني: قدم لفظ الإيمان قال: (باب من الإيمان) بخلاف أخواته حيث يقول في الباب الذي سيأتي: (باب حب الرسول من الإيمان) هنا قال: (باب من الإيمان أن يحب) وفي الباب الذي يليه: (باب حب الرسول من الإيمان) وقال: (إطعام الطعام من الإيمان) فقدم لفظ الإيمان إما للاهتمام بذكره، وإما للحصر فكأنه قال: المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان تعظيماً لهذه المحبة، وتحريضاً عليها، قال ابن حجر: وهو توجيه حسن إلا أنه يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام، هذا الباب (باب من الإيمان أن يحب لأخيه) والذي بعده (باب حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان) يقول: يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام، يعني: فرق بين محبة الرسول وبين محبة أخيه، فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدمه والله أعلم.

يقول العيني: قلت: الذي ذكره -يعني: ابن حجر- لا يرد على الكرماني، وإنما يرد على البخاري حيث لم يقل: (باب من الإيمان حب الرسول) ولكن يمكن أن يجاب عنه بأنه إنما قدم لفظة حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما اهتماماً بذكره أولاً، وإلا استلذاذاً باسمه مقدماً؛ ولأن محبته هي عين الإيمان، ولولاه ما عرف الإيمان، تَعَقُب ابن حجر على الكرماني ظاهر؛ لأنه قال في الترجمة التي معنا: إنما قدم "من الإيمان" للاهتمام (باب من الإيمان أن يحب لأخيه) الاهتمام وإرادة الحصر؛ لأن تقديم المسند على المسند إليه يفيد الحصر، تقديم المسند "من الإيمان أن يحب" كأنه قال: من الإيمان محبة المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، فالتقديم والتأخير هنا يفيد الحصر، وهذا ما أشار إليه الكرماني، وهنا تعقبه الحافظ قال: هو توجيه حسن، لا شك أنه لو لم يرد إلا هذه الترجمة لكان التوجيه حسناً إلا أنه يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معاً، وهو محبة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وهو قوله: (باب حب الرسول من الإيمان) فالظاهر أنه أراد التنويع، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدمه والله أعلم.

العيني أراد أن يتعقب ابن حجر، ولعله في هذا المجال بأي كلام لذات التعقب يقول: الذي ذكره -يعني: ابن حجر- لا يرد على الكرماني وإنما يرد على البخاري، هل البخاري أفصح بمراده؟ ما أفصح البخاري بمراده، ولعل مراده التنويع، الكرماني هو الذي أفصح بمراد البخاري وابن حجر تعقب الكرماني في هذا الإفصاح، يعني: في تحديده مراد البخاري -رحمه الله تعالى-، لكن كلام العيني آخره جيد، ولكن يمكن أن يجاب عنه بأنه: إنما قدم لفظ حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما اهتماماً بذكره، أو استلذاذاً باسمه مقدماً؛ ولأن محبته هي عين الإيمان، ولولاه ما عرف الإيمان، الرابط بين هذا الباب والذي قبله (باب إطعام الطعام من الإسلام) أن الشعبة في الباب الأول وهي إطعام الطعام غالباً لا تكون إلا عن محبة المطعَم، وهذا الباب فيه هذه المحبة. قوله: ((لا يؤمن)) الذي عندنا في المتن ((لا يؤمن أحدكم)) في كثير من الروايات: ((لا يؤمن)) وعليها شرح ابن حجر والقسطلاني وغيرهم. ((لا يؤمن)) الفاعل من يدعي الإيمان، وفي رواية: ((أحدكم)) كما هو مثبت هنا، وعزاها ابن حجر للمستملي وللأصيلي ((أحدٌ)) ولابن عساكر ((عبد)) وكذا لمسلم عن أبي خيثمة، والمراد بالإيمان المنفي هنا كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان، إذا قلت: فلان ليس بإنسان، أي: ليس بإنسان كامل، هو في الحقيقة إنسان، إذا قلت: فلان ليس برجل، فمرادك أنه ليس رجل كامل، وإلا فهو في الحقيقة رجل يأخذ مثل حق الأنثيين في الإرث، وله ما للرجال، وعليه ما عليهم من الأحكام. المقدم: في الرواية الأولى -أحسن الله إليك- ((لا يؤمن حتى يحب)) هكذا تستقيم؟ نعم ((لا يؤمن حتى يحب لأخيه)). المقدم: تستقيم بدون أحدكم؟ أكثر الروايات على هذا، وعليه شرح ابن حجر والقسطلاني.

قال ابن حجر: فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمناً كاملاً، وإن لم يأتِ ببقية الأركان، أجيب بأن هذا ورد مورد المبالغة أو يستفاد من قوله: ((لأخيه)) ملاحظة بقية صفات المسلم، هذا ورد مورد المبالغة، يعني كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) مع أنه لا بد أن يأتي بجميع ما يطلبه الإسلام من الأركان، ويجتنب ما ينهى عنه الإسلام، في رواية ابن حبان: ((لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان)) ومعنى الحقيقة هنا الكمال ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافراً، وبهذا يتم استدلال المصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وجه استدلال المصنف بالحديث وإدخاله في كتاب الإيمان، أولاً نفي الإيمان عن من لم يتصف بهذه الصفة وبهذه الخصلة وبهذه الشعبة، والمراد نفي الإيمان الكامل كما أشار إليه الشراح. ((حتى يحب)) بالنصب لأن حتى جارة، كيف بالنصب وحتى جارة؟ نعم، حتى جارة، وهي من حروف الجر كما هو معروف. هاك حروف الجر وهي من إلى ... حتى خلا حاشا عدا في عن على إلى آخره. يقول: ((حتى يحب)) بالنصب؛ لأن حتى جارة، وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون حتى عاطفة، فلا يصح المعنى حينئذٍ، إذ عدم الإيمان ليس سبباً للمحبة. والمحبة كما قال النووي الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله، إما لذاته كالفضل والجمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضر، يقول ابن حجر: المراد بالميل هنا الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضاً أن يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له لا عينه سواء، أن يحب لأخيه ما يحب، يحب لأخيه الذي يحبه هذا الأصل، لكن هل هذا متصور؟ لو تصورنا أن رجل وفق بزوجة جميلة وصاحبة دين، هل نقول: عليه أن يتمنى ويحب لأخيه هذه الزوجة لأنه يحب هذه الزوجة ويحبها لنفسه؟ هذا مستحيل، لكن يحب له نظير ما حصل له.

يقول: المراد بالميل هنا الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضاً أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة أو المعنوية، يحب المرء المسلم لأخيه أن يحصل لأخيه من الأمور المحسوسة من متاع هذه الدنيا ما يحب لنفسه، كما أنه يحب أن يكون له من الأمور المعنوية من لذة العبادة مثلاً والتلذذ بمناجاة الله، والتلذذ بطاعته ما يحبه لنفسه، وهذا خلاف المشاهد من كثير من المسلمين، الذي يحب الواحد منهم أن يستأثر بهذا الشيء ويفوق به أقرانه. سواء كان ذلك في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له، لا مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه، ما يتمنى أن تكون هذه المرأة الصالحة الجميلة لأخيه دونه هذا ما يلزمه، ولا يلزم أن تحصل لهما بالاشتراك؛ لماذا؟ ولا بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال، العيني يقول: المراد أيضاً بأن يحب ... إلى آخره ليس تفسيراً للمحبة، وإنما المحبة مطالعة المنة من رؤية إحسان أخيه وبره وأياديه ونعمه المتقدمة التي ابتدأ بها من غير عمل استحقها به، وستره على معايبه، وهذه محبة العوام، قد تتغير بتغير الإحسان، فإن زاد الإحسان زاد الحب، وإن نقصه نقص، وأما محبة الخواص فهي تنشأ من مطالعة شواهد الكمال لأجل الإعظام والإجلال، ومراعاة حق أخيه المسلم فهذه لا تتغير لأنها لله تعالى لا لأجل غرض دنيوي كذا قال.

قلت: وفي تعبير ابن حجر بالجوهر والعرض مجاراة لأهل الكلام في اصطلاحاتهم، وفي تعبير العيني بالعوام والخواص مجاراة لأهل التصوف، على أن في كلام العيني ما فيه؛ لأنه يجعل المحبة من باب المجازاة؛ لأنه قال: إنما المحبة مطالعة المنة من رؤية إحسانه أخيه وبره وأياديه ونعمه المتقدمة، لو فرضنا أن له أخاً يراه لأول مرة لم تتقدم له عليه نعمة ألا يلزمه أن يحب له ما يحب لنفسه؟ على كلام العيني لا. ((لأخيه)) المراد به المسلم كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [(10) سورة الحجرات] وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم أخو المسلم)) وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((وكونوا عباد الله إخواناً)) ويشمل المسلمة أيضاً، فيحب لها ما يحب لنفسه، هل يشمل الكافر أو لا يشمله؟ ((لأخيه)) النص ((لأخيه)) والمراد بالأخ المسلم، لكن هل يحب للكافر ما يحبه لنفسه؟ إن كان المراد أن يحب له الإسلام كما أحبه لنفسه فنعم، وإن كان المراد أن يحصل له مثل ما حصل له .. ، ما حصل للمسلمين حال كفره فلا.

((ما يحب لنفسه)) أي مثل ما يحب لنفسه كما تقدم، وعند النسائي والإسماعيلي وابن منده: ((من الخير)) والخير: كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات؛ لأن الخير لا يتناولها، قال فتح المبدي: فإذا كان سارقاً مثلاً لم يكن من الإيمان أن يحب السرقة لأخيه، وإنما قدر لفظ (مثل) لأن المحبوب الواحد يستحيل أن يحصل في محلين، والمراد بالمثلية مطلق المشاركة، ولذا قال بعضهم: لعل المراد ترك الحسد والعداوة، وحصول كمال المودة حتى يقرب أن ينزل أخاه منزلة نفسه في الخيرات، أو المراد أن يحب ذلك في الأعم الأغلب، ولا يلزم في كل شيء، سيما إن لم يكن للشيء إلا فرد واحد، إذا لم يكن في الوجود إلا شيء واحد كيف يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ أولاً: الحديث جاء بصيغة العموم: ((يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (ما) من صيغ العموم، يعني جميع ما يحبه لنفسه يحبه لأخيه، لكن إذا لم يكن في الوجود إلا شيء واحد كالوسيلة مثلاً، والمقام المحمود فإنه لا يمكن الاشتراك فيها حتى يحبه لغيره، فلا يرد الإشكال بسؤال سليمان -عليه السلام- تخصيص الملك به بقوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [(35) سورة ص] وبما حكاه الله عن عباده الصالحين من قولهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [(74) سورة الفرقان] وجه الاستشهاد من الوسيلة والمقام المحمود ظاهر، الوسيلة والمقام المحمود لا تنبغي إلا لشخص واحد، وهو الرسول -عليه الصلاة والسلام- {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [(35) سورة ص] هل نقول: إن سليمان وهو يقول هذا الكلام أنه يحب لغيره من الناس أن يوهب لهم الملك بحيث .... يكونوا مثله؟ {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [(35) سورة ص] هذا في شريعتهم، ولذا النبي -عليه الصلاة والسلام- لما أراد أن يوثق الجني الذي تفلت عليه في صلاته، قال: ((تذكرت دعوة أخي

سليمان)). ما حكاه الله عن عباده الصالحين من قولهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [(74) سورة الفرقان] هل هذا يخالف ما في الحديث؟ في الظاهر يخالف، وإلا وش معنى (اجعلنا إماماً)؟ المقدم: يختصون بهذا. نعم يختصون بالإمامة وغيرهم مأمومين، والإمام أفضل من المأموم، وبسؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الوسيلة لنفسه، وأمره الأمة بذلك السؤال، ويلزم من محبة ذلك لأخيه أن ينصفه من نفسه إذا كان عليه مظلمة كما أنه يحب أن ينتصف من حقه ومظلمته. المقدم: فتح المبدي أشرتم إليه قبل قليل يا شيخ لعلنا نشير إلى المستمع شيئاً منه؛ لأن مثل هذه المصطلحات تمر ويسأل عنها الإخوان المستمعين كثيراً، فتح المبدي لمن؟ ولماذا استشهدتم به هنا؟ فتح المبدي هو شرح للمختصر -مختصر البخاري- مختصر الزبيدي لعبد الله الحجازي الشرقاوي، هذا من شيوخ الأزهر، بل تولى مشيخة الأزهر في آخر القرن قبل الماضي، والكتاب في الجملة جيد، شرح تحليلي طيب، وفيه نقوول طيبة، ولا يسلم من ملاحظات كغيره من الشروح، يقول الكرماني: ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغضه لنفسه من الشر؛ لأن مفهوم يحب ما يحب لأخيه من الخير مفهومه -مفهوم المخالفة- أن يبغض ما يبغضه لنفسه من الشر. المقدم: هذا استمراراً للحديث للتوجيه لما ورد قبل قليل من الآيات والأحاديث؟ لا، هذا شرح لمفهوم الحديث. المقدم: نعم، لكن توجيههم لما سبق وذكرتم -أحسن الله إليكم- من الأمور الثلاثة الوسيلة و ... الوسيلة قلنا: إنها لا تنبغي إلا لشخص واحد. المقدم: وملك سليمان ... وملك سليمان لعله في شرع من قبلنا. المقدم: يبقى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [(74) سورة الفرقان].

يبقى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [(74) سورة الفرقان] أنه لا بد من إمام ومأموم، ولا يمكن بل يستحيل أن يكون كل الناس أئمة، فإذا كان الخيار بين إمام أو مأموم نعم يختار الإنسان لنفسه الأعلى. طالب: أحسن الله إليكم يا شيخ الآن إذا كان مثل هذه الآية {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [(74) سورة الفرقان] لا يمكن اجتماع الإمام والمأموم هل هذا يتعارض مع كون المؤمن يحب لأخيه كما يحب لنفسه أن يكونوا جميعاً أئمة؟ وكذا حتى ما ذكرتم من الوسيلة والمقام المحمود مع كون هذا لن يحصل لهم جميعاً، لكن المحبة هل يلزم منها الوقوع حتى يتعارضا؟ نقول: المحبة هنا يحب الإنسان أن يكون إماماً، وقد دعا العباد الصالحون بأن يجعلهم الله للمتقين إماماً، نعم، لكن هل يتصور أن يكون الناس كلهم أئمة؟ فإما أن يكون الحديث جرى مجرى الغالب، كما تقدمت الإشارة إليه، وإن كان من صيغ العموم، لكن لا بد من تخصيصه بمثل هذه الآية؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع في آن واحد الناس كلهم أئمة، بل لا بد أن يكون هناك إمام ومأموم، لكن الإمامة لا تعني الفضل مطلقاً، بل قد يكون من المأمومين من هو أفضل من الإمام، على أن المراد بالإمام هنا الإمامة في الدين، ليس معناها في الصلاة خاصة، الإمامة في الدين عموماً، والإمامة في الدين فضل مطلق، في قول الكرماني: ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاءً، والله أعلم، هو يستفاد من مفهوم الحديث لا من منطوقه.

الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- يقول في شرحه: لما نفى النبي -عليه الصلاة والسلام- الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحبه لنفسه دل على أن ذلك من خصال الإيمان، بل من واجباته، فإن الإيمان لا ينفى إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) الحديث متفق عليه، وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحبه لنفسه متى؟ إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد؛ لأن كثير من الناس إذا رأى واقع المسلمين اليوم قال: تطبيق الحديث مستحيل، كثير من الناس إذا رأى واقع المسلمين قال: تطبيق الحديث مستحيل، والأمر بهذا أمر بما لا يُطاق، وتكليف بالمحال، نقول: لا، هو سهل لمن؟ لمن كان قلبه سليماً، أما من انطوى على غل أو حقد أو غش أو حسد فإنه لن يصل إلى هذه المرتبة، والله المستعان. يقول -رحمه الله تعالى-: وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحبه لنفسه إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد وذلك واجب كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) رواه مسلم، فالمؤمن أخو المؤمن يحب له ما يحب لنفسه، ويحزنه ما يحزنه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر)) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير.

فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلة من دين أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظير هذا من غير أن تزول عنه، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم" لو طبقنا هذا، ونظرنا في واقع عموم المسلمين، بل مع الأسف الشديد بعض من ينتسب إلى العلم، هل يحب لغيره من أهل العلم أن يظفر بهذه الفائدة كما ظفر بها؟ لا شك أن هذا عزيز جداً، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم" بعض الناس يحزن إذا رأى آخاه المسلم حفظ ما لم يحفظ من القرآن، أو تقدم عليه في التلاوة مثلاً، أين هذا من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) الله المستعان. يقول الشافعي: "وددت أن الناس كلهم تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليّ منه شيء". في قوله -عز وجل-: {وَسَارِعُواْ} [(133) سورة آل عمران] {سَابِقُوا} [(21) سورة الحديد] هل في ذلك ما ينافي هذا الحديث؟ لأن المسارعة والمسابقة والمنافسة في الخيرات تقتضي أن الإنسان يسارع غيره، ويسابق غيره، فكيف نوفق ما قد يُفهم من هذه النصوص وما معنا من هذا الحديث؟ هل في ذلك معارضة؟ هل معنى هذا أنك إذا نافست زيداً من الناس أو سابقته أو سارعته إلى الخيرات؟ المقدم: كأنك تريد أكثر منه. أنك تسبقه. المقدم: نعم.

{سَابِقُوا} [(21) سورة الحديد] المسابقة لتسبقه، والمسارعة أن تسرع أمامه، وإلا وش معنى المسارعة؟ هل معنى هذا أنك تود أنك تصل إلى الهدف أنت وإياه في وقت واحد؟ هذه النصوص فيها الحث على المسابقة والمسارعة للأطراف كلها، وللمسلمين كلهم، وكون الإنسان يسابق ويسارع لا يعني ٍأنه يستأثر بهذا الأمر دون غيره، بل هو مجرد حث له على هذا العمل المطلوب شرعاً، فحث له وحفز على أن يسبق غيره في هذا وغيره أيضاً محثوث على أن يسبقه وهكذا، ففيه أمر للمسلمين كلهم بأن يسارعوا، هذا أمر من الله تعالى للمسلمين أن يسارعوا وأن يسابقوا، وحينئذٍ لا يكون فيه تعارض مع الخبر ...

حديث أبي موسى في باب تعليم الرجل أمته وأهله 1

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح حديث أبي موسى في باب تعليم الرجل أمته وأهله الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب "التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح". مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله بشرح أحاديث هذا الكتاب فأهلاً ومرحباً بكم فضيلة الدكتور. الكلام على حديث أبي موسى في باب تعليم الرجل أمته وأهله: لا زلنا في حديث أبي موسى -رضي الله عنه- في باب تعليم الرجل أمته وأهله، كنا عرضنا لموضوع أن. . . . . . . . . مما يجعل الضعف من أجر. . . . . . . . . وهذه الإشكالية أجبتم على شيء منها فيما مضى، وله تعلق بما تبقى من ألفاظ هذا الحديث، نبدأ بها أحسن الله إليكم لنستكمل موضوعنا. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا السؤال الذي أورده الكرماني في الحلقة السابقة، يقول: فإن قلت: فأجر المماليك ضعف أجر السادات، المسألة مفترضة في سيد له مملوك، السيد أدى حق الله -جل وعلا-، والمملوك أدى حق الله -جل وعلا-، وحق سيده،. . . . . . . . . هذا أن للملوك له ضعف أجر سيده بناءً على هذا الوعد المذكور في حديث الباب ((له أجران))، يقول: قلت لا محظور في التزام ذلك، أن يكون أجره ضعفه من هذه الجهة، وقد يكون للسيد جهات أخر يستحق فيها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما، يعني عبد في مقابل عبد، هل هذا أجره من أدى حق الله -جل وعلا-، ولم يؤدي حق الموالي، له نفس ما للعبد الذي أدى الحقين.

يقول: أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما، فإن قلت: فعلى هذا يلزم أن يكون الصحابي الذي كان مملوكاً كتابياً، على هذا يلزم أن يكون الصحابي الذي كان مملوكاً كتابياً أجره زائد على أجر أكابر الصحابة؛ لأن له من الحقوق كم؟ أربعة، أربعة حقوق، وذلك باطل بالإجماع. يعني من باب التقريب، بلال له, كم له حق؟ أجران، له أجران، وسيده أبو بكر له أجر واحد! هذا باطل بالإجماع، هذا اللازم باطل، نعم وإن كان الحديث يدل على شيء من هذا، لكن يبقى أن جهات التفضيل متعددة، فهذا فاضل من جهة، وذاك فاضلٌ من جهات. يقول: قلت: الإجماع خصصهم -خصص أكابر الصحابة- الإجماع خصصهم، وأخرجهم من ذلك الحكم، ويُلتزم ذلك في كل صحابي لا يدل دليلٌ على زيادة أجره على من كان كتابياً. . . . . . . . . . عبد الله بن سلام كان كتابي فأسلم له أجران، لكن عموم الصحابة، نعم الذين ليس لهم هذا الوصف، يعني إذا قارنا عبد الله بن سلام –مثلاً- بآحاد الصحابة الذين كانوا على الشرك ثم أسلموا،. . . . . . . . . الإسلام ما في ما يمنع، وأيضاً بلال له أجران يفضل آحاد الصحابة الذي ليس له من الخصوصيات ما جرت النصوص به. ويلتزم ذلك في كل صحابي لا يدل دليلٌ على زيادة أجره على من كان كتابياً. أقول أنا: التفضيل من جهة لا يقتضي التفضيل المطلق، مثال ذلك: إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وعلى نبينا أول من يكسى يوم القيامة، ومع ذلك لا يقتضي تفضيله على محمد –صلى الله عليه وسلم- ومن ذلك حديث أبي سعيد عند البخاري وحديث أبي هريرة -أيضاً- عنده عند البخاري, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أولَ من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ )) يعني هل هذا يقتضي أن موسى أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام؟ أبداً، يعني التفضيل من وجه لا يقتضي التفضيل المطلق.

ومن ذلك حديث أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [(105) سورة المائدة]، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً، ودنياً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل القبض على الجمر)) يعني الصبر على الدين, القبض على الدين والصبر عليه مثل القبض على الجمر ((للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاًٌ يعملون مثل عمله)) وزاد غيري، قال: "يا رسول الله: أجرٌ خمسين منهم؟ " قال: ((أجر خمسين منكم)) يعني من الصحابة، هل يعني هذا أن هذا المتأخر الذي صبر وقبض على دينه أفضل من الصحابة؟! وإسناده لا بأس به. في هذا يقول العلامة ابن القيم في نونيته، يقول: هذا وللمتمسكين بسنة الـ ... مختار عند فساد ذي الأزمانِ أجرٌ عظيمٌ ليس يقدر قدره ... إلا الذي أعطاه للإنسانِ فروى أبو داود في سنن له ... ورواه أيضاً أحمد الشيباني أثراً تضمن أجر خمسين امرئٍ ... من صحب أحمد خيرة الرحمن إسناده حسنٌ ومصداقٌ له ... في مسلم فافهمه فهم بيانِ إن العبادة وقت هرج هجرة ... حقاً إليّ وذاك ذو برهانِ يعني كون الإنسان يستمسك بدينه في مثل الظروف التي تكثر فيها الفتن، ويقل فيها الموافق والمعين له أجر خمسين، وخمسين من الصحابة، ولكن هل معنى هذا أنه يفضل أحداً من الصحابة من كل وجه؟ أبداً، شرف الصحبة والثواب المرتب عليها لا يدركه أحدٌ ممن جاء بعد الصحابة، يعني شرف الصحبة بمفرده لا يدركه أحد، كما جاء في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) متفق عليه. هذا ظاهر، يعني التفضيل من وجه لا يقتضي التفضيل المطلق.

يعني كون العبد من الصحابة أفضل ممن لم يتصف بهذا الوصف من هذه الحيثية بأن له أجرين، أو الصحابي الذي كان كتابياً له أجران أيضاً كما في هذا الحديث، لا يعني أنه أفضل من كل وجه من بعض الصحابة. وأسلفنا في الحلقة الماضية -أحسن الله إليكم- ما ذكرتم من النصوص التي تدل على أن هناك عمل له أجران، وعمل أفضل منه ولم ينص عليه أجران، الماهر في القرآن والذي يقرأه ويتعتع فيه. نعم، ((الذي يقرأه ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)) .. وذلك مع السفرة. ومثله الذي تيمم، ثم لما جاء أعاد الصلاة، والذي لم يعد الصلاة، هناك له أجران، وهذا أصاب السنة، يعني هل هذا مثل هذا؟. . . . . . . . . ورجلٌ كانت عنده أمة -هذا هو الثالث- وزاد في رواية أبي ذر نعم ((يطأها)) بالهمز، قال العيني: القياس "يوطؤها" مثل يوجل؛ لأن الواو إنما تحذف إذا وقعت بين الياء والكسرة، وهنا وقعت بين الياء والفتحة، مثل "يسمع"، قال الجوهري وغيره: إنما سقطت الواو منها؛ لأن فعل يفعل مما اعتل فاؤه لا يكون إلا لازماً، فلما جاء بين أخواتهما متعديين خولف بهما نظائرهما، يعني فحذفت الواو. وقال الكرماني: فإن قلت: فلو لم يطأها، لكن أدبها، يعني هل قوله في الحديث في هذه الرواية لأبي ذر ((يطؤها)) وصف مؤثر لحصول الأجرين، أو أنه غير مؤثر؟. . . . . . . . . لا يطؤها مستغنياً عنها، لكنه أدبها، أو ليس لديه القدرة على ذلك وأدبها وعلمها، ثم أعتقها فتزوجها ... يمكن الوطء على أساس في آخر الحديث أنه تزوجها. لا، ((له جارية يطؤها)) قبل العتق، إذن تصورنا هذا عنده جارية ليس بحاجة إلى وطئها مستغنياً عنها، ثم بعد ذلك سمع بهذا الخبر فنفذ ما فيه، يقول: فإن قلت: فلو لم يطأها ولكن أدبها إلى آخره هل له أجران؟ قلت: نعم، يقول الكرماني: نعم، إلا المراد بيطؤها يحل له وطئها، سواء صارت موطوءة أم لا.

معنى التأديب وانقسام الأدب إلى أدب النفس وأدب الدرس:

((فأدبها)) الأدب، يقول صاحب المصباح المنير: أدّبته أدباً، أدَبته أدَباً، أو أدْباً؛ لأنه يقول: من باب ضرب. ضرباً، يعني أدْباً، أدَبته أدْباً، من باب ضرب، علمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق، قال أبو زيد الأنصاري: الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقال الأزهري نحوه, فالأدب اسمٌ لذلك، والجمع آداب، مثل سبب وأسباب، "وأدّبته تأديباً" مبالغة وتكثير، ومنه قيل: أدبته تأديباً إذا عاقبته على إساءته؛ لأنه سبب يدعو إلى حقيقة الأدب، هذه المعاقبة تدعو، سببٌ يدعو إلى حقيقة الأدب، وأدَب من باب ضرب، صنع صنيعاً ودعا الناس إليه، فهو آدِب على فاعل، قال الشاعر أبو طرفة: نحن في المشتات ندعو الجفلا ... لا ترى الآدب فينا ينتقر يدعو جفلا، دعوت جفلا دعوت العامة، أما الجفلا فهي دعوة خاصة، النقاء، هذه دعوة الخاصة. أي لا ترى الداعي يدعو بعض الأدباء بل يعمم بدعواه في زمان القلة، وذلك غاية الكرم، واسم الصنيع المأدُبة، بضم الدال وفتحها. دعوة الجفلا دعوة العامة، يقول الحافظ العراقي في وصف المسانيد وفي رتبتها: ودونها، يعني دون السند ودونها في رتبة ما جعلا ... فيه على المسانيد يدعو الجفلا يعني الأحاديث تدعى الجفلا العامة، يعني فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها من الأحاديث أنواع، لا ينتقي, لا يكون ينتقر بمعنى أنه ينتقي، فيذكر بعضهم دون بعض كالصحاح مثلاً. معنى التأديب وانقسام الأدب إلى أدب النفس وأدب الدرس: فالتأديب: الحمل على محاسن الأخلاق ومكارمهما، وهذا ما يعرف عند بعضهم بأدب النفس، مقابلةً له بأدب الدرس الذي اشتهرت كتبه في أوساط المتعلمين مما يشتمل في كثيرٍ من أحيانه على ما يخالف الأدب المحمود، يعني تسمى كتب أدب، يعني لو سألتك كتاب الأغاني أيش، كتاب أيش؟ أدب، وكتاب مثلاً، الكتب الأخرى التي لا نطيل بذكرها، هذه يسمونها كتب أدب، هذا أيضاً يسمى أدب الدرس في مقابلة أدب النفس، والمطلوب أدب النفس.

كتب أدب الدرس اشتهرت في أوساط المتعلمين، وما يشتمل كثيرٌ منها في بعض الأحيان على ما يخالف الأدب المحمود في مصنفات ملأت دور الكتب مما يشتمل على الهزل والقصص والأخبار الماجنة كالأغاني ونحوه يسمى أهله بالأدباء، هذا أدب الدرس. روى السمعاني في أول أدب الإملاء والاستملاء عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله أدبني وأحسن تأديبي - أو أحسن أدبي - ثم أمرني بمكارم الأخلاق فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [(199) سورة الأعراف]، الآية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "معناه صحيح، ولكن لا يعرف له إسنادٌ يثبت" وضعفه أيضاً السخاوي في المقاصد، والألباني في الضعيفة، وقال الزركشي: معناه صحيح لكنه لم يأتِ من طريقٍ صحيح، وذكره ابن الجوزي في الواهيات، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير رمز الصحة, لكن كما قال أهل العلم: ليس له إسناد يثبت به، وإن كان معناه صحيحاً. هناك الكتب التي يستفاد منها في هذا الباب، ككتب الأدب من كتب السنة، كتاب الأدب من صحيح البخاري، أو كتاب الأدب من صحيح أبي داود، أو غيرهما من كتب السنة، هذه يستفاد منها. وكتب الأدب المفردة مثل: الأدب المفرد للبخاري والبيهقي وغيرهما، وهناك أيضاً، ليست باب من أبواب كتب، وأخلاق العلماء للآجري أيضاً يستفاد منه، وهناك أيضاً جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب، وتذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لبدر الدين بن جماعة، وهناك –أيضاً- مؤلفات خاصة مثل الآداب الشرعية لابن مفلح، وغذاء الألباب للسفاريني وهو شرح لمنظومة الآداب لابن عبد القوي، وفي كتب ابن القيم من ذلك شيء كثير، يمكن أن يستخلص منه مجلد كبير في هذا الباب، وهناك نضمٌ أيضاً يفاد منه, يستفيد منه طالب العلم كمنظومة عبد القوي في منظومة الآداب لابن عبد القوي، وشرحه المذكور آنفاً، والقصيدة الميمية في الوصايا والآداب العلمية للشيخ حافظ الحكمي، وغيرها كثير، هذه يستفيد منها طالب العلم، تهذب النفوس، وأيضاً الحافظ ابن رجب له كتابات يعض عليها بالنواجذ في هذا الباب. متفرقة.

متفرقة نعم .. ولا مانع من الاطلاع على الكتب كتب الأدب من النوع الثاني، مع الحذر مما فيها من المخالفات، ويحرص طالب العلم على العفيف منها، مثل زهر الآداب للحصري، وأيضاً مهذب الأغاني للخضري، مع أن الخضري لما هذب الأغاني ووجه بالنقد الشديد من قبل الأدباء، لأنه من وجهة نظرهم أهمل جانب حيوي من جوانب الآداب، وهو المجون. لكن يُحرص على الأدب العفيف، ويستفاد من هذه الكتب فوائد لو لم يكن منها إلا استجمام الذهن، وأيضاً الأخبار يستفاد منها، أخبار الأمم الماضية كما في كتب التاريخ، وأخبار الدول يتعرضون لهذا، كتب الأدب يتعرضون للتواريخ، ففيها اعتبار من جهة، وفيها أيضاً استجمام للذهن، لكن لا يوغل في هذا، بل يكون معوله على الكتاب والسنة. ((فأحسن تأديبها)) من غير عنف وضرب، بل باللطف والرفق؛ لأنه أدعى للقبول، وهكذا ينبغي أن يكون المربي على قدرٍ كبير من الحكمة ورعاية المصلحة، وقل مثل هذا في الداعية والمعلم والقاضي، فهم مربون في الحقيقة، لا بد أن يحسنوا التأديب، ولا ينفروا الناس. وعلمها من أحكام الشريعة ما يجب عليها، فأحسن تعليمها لتوخي الأسلوب المناسب، والتبريد في التعليم. يقول الكرماني: فإن قلت: أليس التأديب داخلاً تحت التعليم؟ نعم، إذا قلنا أن الأدب فرع من فروع العلم والمعرفة، فيكون التأديب داخل في التعليم، فيقول الكرماني: فإن قلت: أليس التأديب داخلاً تحت التعليم؟ قلت: لا، التأديب يتعلق بالمروءات، والتعليم بالشرعيات، أي الأول عرفي، والثاني شرعي، أو الأول دنيوي والثاني أخروي ديني. من أهل العلم حينما يشترطون في العدالة ملازمة التقوى والمروءة، ملازمة التقوى بالشرعية، بأن لا يرتكب محظور، أو يترك مأمور من الشرعيات، أما المروءة فهي مراعاة أحوال الناس، من حيث لا يخرج على عادة الناس وأعرافهم، فهي مسألة عرفية.

((ثم أعتقها فتزوجها)) وفي كتاب النكاح: وقال أبو بكر عن أبي حصير عن أبي بردة عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أعتقها ثم أصدقها))، قال الحافظ: كأنه أشار بهذه الرواية إلى أن المراد بالتزويج في الرواية الأخرى: أن يقع بمهرٍ جديد سوى العتق، يعني لا يكون العتق هو المهر، رواية الباب: ((ثم أعتقها فتزوجها)) ليس فيها ذكر للصداق، والرواية التي أوردها البخاري في كتاب النكاح: ((أعتقها ثم أصدقها)) يقول الحافظ: كأنه أشار بهذه الرواية إلى أن المراد بالتزويج في الرواية الأخرى أن يقع بمهرٍ جديد سوى العتق، لا كما وقع في قصة صفية، كما سيأتي في الباب الذي بعده، فأفادت هذه ثبوت الصداق، فإنه لم يقع التصريح به في الطريق الأولى فظاهره أن يكون العتق نفس المهر. الظاهر من قصة صفية أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعتقها وجعلها عتقها صداقها، حديث الباب: ((ثم أعتقها فتزوجها)) ظاهره عدم ذكر الصداق، لكن رواية البخاري لهذا الحديث: ((أعتقها ثم أصدقها))، ويستفاد من الرواية في كتاب النكاح أن الصداق لا بد منه، فالباب الذي في كتاب النكاح من صحيح البخاري، يقول -رحمه الله تعالى-: باب من جعل عتق الأمة صداقها، وساق بإسناده عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أعتق صفية وجعل عتقها صداقها))، قال ابن حجر: أخذ بظاهره من القدماء -يعني بعدم ذكر الصداق، وأنه يصح جعل العتق هو المهر- يقول: أخذ بظاهره من القدماء سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وطاووس والزهري، ومن فقهاء الأنصار الثوري وأبو يوسف وأحمد بن حنبل وإسحاق قالوا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها صح العقد، والعتق والمهر على ظاهر الحديث، يصح العقد -عقد النكاح- ويصح العتق، ويصح المهر، والمهر هو العتق.

وأجاب الباقون عن ظاهر الحديث أي: ((جعل عتقها صداقها)) وحديث الباب: ((ثم أعتقها فتزوجها)) أجاب الباقون عن ظاهر الحديث أجوبة أقربها إلى لفظ الحديث: أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجبت له عليها قيمتها، وكانت معلومة فتزوجها بها، حديث ((أعتق صفية وجعل عتقها صداقها)) كأنه قال: أعتقك على أن أتزوجك، بمعنى كأنه قال: يعتقك بمبلغ كذا، ويكون هو الصداق؛ لأنهم قالوا: أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجبت له عليها قيمتها وكانت معلومة فتزوجها بها، وقال آخرون: هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- له أن يجعل العتق صداقاً. وممن. . . . . . . . . من ذلك الماوردي، وقيل: أن هذا ظنٌ من أنس -رضي الله عنه-، أنس الذي قال: جعل عتقها صداقها، فهذا بناءً على فهمه هو. وقيل: إن هذا ظنٌ من أنس -رضي الله عنه-، وإلا فقد أصدقها أمة، يقال لها رزينة، كما عند البيهقي لكنه ضعيف لا تقوم به الحجة؛ لأنه لا يقال منه: ((وجعل عتقها صداقها))، وقال الترمذي بعد أن خرج الحديث، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق: وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها، حتى يجعل لها مهراً سوى العتق، والقول الأول أصح. قال ابن حجر: وكذا نقل ابن حزم عن الشافعي، والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، أي: لا يجعل العتق صداق، وإنما لا بد من تسمية مهر غير العتق. وقال ابن دقيق العيد: الظاهر مع أحمد ومن وافقه، والقياس مع الآخرين، فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس، وبين ظنٍ نشأ عن ظاهر الخبر، مع ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل، يعني خصوصية لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- في النكاح. أقول: تخصيصه -صلى الله عليه وسلم- بذلك ليس ببعيد، مثل اختصاصه بالواهبة، الواهبة المذكورة في سورة الأحزاب {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [(50) سورة الأحزاب] فمن خصائصه في النكاح من وهبت نفسها له دون صداق، وهذا لا يصح لغيره؛ لأن خالصة له -عليه الصلاة والسلام- من دون المؤمنين. فليقل مثل هذا من خصائصه.

يقول الحافظ ابن كثير: ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهرٍ إن شئت ذلك، وقصة الواهبة في البخاري وغيره، طلب النبي -صلى الله عليه وسلم-. . . . . . . . . من طلبها من الصحابة المهر، الآية منصوص على أنها خالصة له من دون المؤمنين, وهي محمولة على أنها بدون صداق، الواهبة التي جاءت في صحيح البخاري وغيره وهبت نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم-. يعني لو قبلها النبي -عليه الصلاة والسلام- لصح نكاحها من غير مهر، لكن لما أعرض عنها وطلبها الصحابي قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((التمس ولو خاتماً من حديد)) فدل على أنه لا بد من المهر من غيره -صلى الله عليه وسلم-. إذاً لعلنا إن شاء الله يا شيخ نبدأ بمثل هذه القضية وإشكالياتها في حلقة قادمة لانتهاء وقت هذه الحلقة، مع شكري الجزيل لكم بعد شكر الله على ما تفضلتم به.

حديث أبي موسى في باب تعليم الرجل أمته وأهله 2

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح حديث أبي موسى في باب تعليم الرجل أمته وأهله الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: أهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع مطلع هذه الحلقة نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحباً بكم شيخ عبد الكريم. حياكم الله وبارك فيكم وفي الأخوة المستمعين. ما زلنا أيها الأخوة والأخوات في حديث أبي موسى في باب تعليم الرجل أمته وأهله. توقفنا عند لفظة، "وآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم-". شيخ نبدأ بهذه اللفظة. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين. قوله في الحديث: ((وآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم-)) لفظ الحديث هنا: ((رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم-)) واللفظ من لفظ النبي -عليه الصلاة والسلام- وجاء في بعض الآثار: ((وآمن بي)) كونه رتب له الأجران على إيمانه بنبيه، وإيمانه بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فهذا الأجر. . . . . . . . . نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومقتضى إيمانه بنبيه إيمانه بأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو الموصوف بكتابه المنزل على نبيه، يعني هل مجرد الإيمان والتصديق كاف في ذلك قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ترون يهودي آمن بموسى ومقتضى الإيمان بموسى الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه سيبعث، وأن هذه أوصافه، قل مثل هذا في النصارى، يكفي هذا. أو قوله: ((ثم آمن بي)) ((أو وآمن بي)) يعني: دخل في اتباعي بعد بعثتي، لأن مجرد الإيمان به -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته من مقتضيات إيمانه بنبيه، إذ لو لم يؤمن بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الإيمان الإجمالي على حسب ما جاء عندهم، لم يكن مؤمناً لا بعيسى ولا بموسى -عليهما الصلاة والسلام.

يقول. . . . . . . . .: مؤمن أهل الكتاب لا بد أن يكون مع إيمانه بنبيه مؤمناً بمحمد -صلى الله عليه وسلم- للعهد المتقدم والميثاق في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [(81) سورة آل عمران]. المفسر بأخذ الميثاق من النبيين وأممهم مع وصفه تعالى له في التوراة والإنجيل، فإذا بعث -صلى الله عليه وسلم -فالإيمان به مستمر. يقول: فإن قلت فإذا كان الأمر كما ذكرت فكيف تعدد إيمانه حتى تعدد أجره، إذا كان الإيمان بمحمد -عليه الصلاة والسلام- من مقتضيات الإيمان بموسى وعيسى، فكيف تعدد إيمانه حتى تعدد أجره، أجيب بأن إيمانه أولاً تعلق بأن الموصوف بكذا رسول، وإيمانه ثانياً تعلق بأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو الموصوف بتلك الصفات فهما معلومان متباينان فجاء التعدد، كذا قال. يعني كأنه يقول: إيمانه بوقت نبيه من غير تسمية, هذا الذي يأتي هذا الموصوف رسول، ثم بعد ذلك إيمانه بمحمد الإيمان بالتسمية، وأن هذه الأوصاف لرسول يسمى محمد، لكن هذا متجه، يقول: فهما معلومات متباينان فجاء التعدد، التسمية جاءت حتى بالشرائع السابقة، ولهذا يقول عيسى -عليه السلام-: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [(6) سورة الصف]، أقول: كذا قال والذي يظهر لي أن إيمانه بمحمد -صلى الله عليه وسلم- في زمن نبيه إجمالي، وإيمانه به بعد بعثته تفصيلي، كإيماننا ببعض الأنبياء الذين لا نعرف عنهم إلا الأسماء، ونعرف شيئاً من أمورهم حسب ما ورد من شرعنا عنهم، إيمان إجمالي، فهل من مقتضى إيماننا بموسى وعيسى أن ندرس شرائعهم؟ شرائعهم منسوخة بالدين، لكن من مقتضى ذلك، ومن شرط صحة الإيمان، بل ركن من أركانه أن نؤمن بهما وبغيرهما ممن عرفناهم من الأنبياء.

((والعبد المملوك)) هذا هو الثاني من الثلاثة والمراد جنس العبد المملوك، قال الكرماني: وصف بالمملوك, وقيل: العبد، يدخل فيه العبيد والأحرار، يعني كلهم عبيد، ووصف بالمملوك لأن جميع الأناسي عباد الله فأراد تمييزه بكونه مملوكاً للناس، يقول أيضاً الكرماني: فإن قلت وهل. . . . . . . . . يراد، هذه إشكالات ويجاب عنها. والعين ينقلها بحروفها، وقد لا يعزوها في كثير من الحالات، فإن قلت هذا مخالف لسابقه ولاحقه لوجهين: من جهة التنكير والتعريف, ومن جهة زيادة كلمة إذا، والظاهر أن يقال عبد أن رجل مملوك أدى حق الله؛ لكي تكون الثلاثة على وتيرة واحدة، يقال: رجل من أهل الكتاب، ورجل كانت عنده أمه، وقال بينهما، والعبد المملوك، هذا مخالف لسابقه ولاحقه لوجهين من جهة التنكير والتعريف ومن جهة زيادة كلمة إذا، والظاهر أن يقال: عبد يعني بالنسبة للسياق، أن يقال: عبد أو رجل مملوك أدى حق الله إلى آخره، قلت: أي الكرماني: أورد هذا الإشكال ثم أجاب عنه، قلت: لا مخالفة عند التحقيق، نعم، إذا المعرف باللام الجنسية مؤداه مؤدى النكرة، العبد، العبد من صيغ العموم؛ لأن أل هذه جنسية، والنكرة اسم شائع في جنسهم فالمؤدى واحد، قلت: لا مخالفة عند التحقيق؛ لأن المعرف باللام الجنسية مؤداه مؤدى النكرة، وكذا لا مخالفة في دخول إذا؛ لأن إذا للظرف، وآمَن حال، والحال في حكم الظرف، والمعنى جاء زيد راكباً جاء في وقت الركوب وفي حاله. أورد إشكال يدل على التفريق ثم جمعها، وحمل بعضها على بعض، أو تقول خالف بينهما -هذا جواب ثان- خالف بينهما إشعاراً لفائدة عظيمة, وهي أن الإيمان بنبيه لا يفيد في الاستقلال للأجرين، بل لا بد من الإيمان في عهده حتى يستحق أجرين بخلاف العبد، فإنه في زمان الاستقبال أيضاً، يستحق الأجرين، بلفظ إذا الدالة على معنى الاستقبال. يعني على رأيه الذي أشرنا إليه.

يقول ابن حجر: "هو غير مستقيم" كلامه غير مستقيم، إشكاله أصلاًً غير وارد، نعم يرد بالنسبة لمعرفته هو وما اطلع عليه، يقول هو غير مستقيم؛ لأنه مشى فيه مع ظاهر اللفظ الذي عنده، والذي يشرحه الذي بين يديه، وليس متفقاً عليه بين الرواة, بل هو عند المصنف وغيره مختلف، وقد عبر في ترجمة عيسى بإذا في الثلاثة، في ترجمة إذا مؤثرة عنده في الإشكال وأجاب عنها يقول: بل هو عند المصنف وغيره مختلف، فقد عبر في ترجمة عيسى بإذا في الثلاثة، في الثلاثة المواضع، كلها بإذا، وعبر في النكاح بقوله: (أيما رجل ... ) في المواضع الثلاثة، فإشكال الكرماني في التفريق بين العبد المملوك وما قبله وما بعده في الروايات التي بينها وغفل عن الروايات اللاحقة في أحاديث الأنبياء في ترجمة عيسى وفي كتاب النكاح، وعبر في النكاح بقوله: (أيما رجل .... ) في المواضع الثلاثة وهي صريحة في التعميم، وأما الاختلاف في التعريف والتنكير فلا أثر له هنا؛ لأن المعرف بلام الجنس مؤداه مؤدى النكرة، والله أعلم.

تعقبه العيني، تعقب ابن حجر، وانتصر للكرماني, تعقبه العيني بقوله: ليس قصد الكرماني ما ذكره، وإنما قصده بيان المكتفي في ذكر أفراد الثلاثة المذكورة في الحديث، وإنما قصده بيان النكتة، في ذكر الأفراد الثلاثة المذكورة في الحديث لمخالفة الثاني الأول والثالث، حيث ذكر الأول بقوله: رجل من أهل الكتاب، والثالث بقوله: ورجل كانت عنده أمه، وذكر الثاني بقوله: والعبد المملوك بالتعريف، فخالف الأول والثالث بالتعريف والتنكير، وأيضاً ذكر الثاني بكلمة إذا، حيث قال إذا أدى حق الله وحق مواليه، وكان مقتضى الظاهر أن ُيذكر الكل على نسق واحد، بأن يقال وعبد مملوك أو رجل مملوك، ثم أجاب عن ذلك, أورد الإشكال وأجاب عنه، ثم أجاب عن ذلك بأنه لا مخالفة عند التحقيق، فيعني أن المخالفة بحسب الظاهر، ولكن في نفس الأمر لا مخالفة, ثم بين ذلك بقوله: "إذ المعرف بلام الجنس مؤداه مؤدى النكرة، وكذا لا مخالفة في دخول إذا؛ لأن إذا للظرف وآمن حال والحال في حكم الظرف" يعني كلام الكرماني السابق، أجاب عن كلامه بكلامه، إذ المعنى جاء زيد راكباً في وقت الركوب وفي حاله، يقول العيني: وتعليم هذا القائل، يعني ابن حجر، وتعليم هذا القائل قوله: وهو غير مستقيم بقوله: أنه مشى مع ظاهر اللفظ غير مستقيم، تعليل هذا القائل لكلام العيني يريد ابن حجر، قوله: وهو غير مستقيم لقوله بأنه مشى مع ظاهر اللفظ غير مستقيم؛ لأن بيان النكات بحسب ما وقع في ظواهر الألفاظ والاختلاف من الرواة في لفظ الحديث، لا يضر دعوى الكرماني من قوله: إن الأجرين لمؤمني أهل الكتاب، مثلاً في القرآن، في القرآن في سورة الأنعام مثلاً في سورة الأنعام، في قوله -جل وعلا-: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [(99) سورة الأنعام]، يعني لو جاء أحد من المفسرين وأراد أن يبين من مكتف كون الرمان منه المشتبه وغير متشابهة، لماذا ما قال مشتبهاً وغير مشتبه؟. لأنه غير متشابه.

إي نعم، جعلهما بلفظ واحد، فأراد أن يعلل وأوجد أيضاً لهذا هل يستدرك عليه في قوله فيما بعد، والرمان متشابهاً وغير متشابه ... رمان آخر ما هو نفسه، التنظير مطابق لما عندنا أو ... هل يلام الذي يوجد سبب لاختلاف اللفظين في الموضع الأول لأنه جاء في الموضع الثاني بلفظ واحد؟ ما يلام، وكل هذا من باب دراسة النصوص دراسة دقيقة، وإيجاد المخارج لما يوجد من بعض الإشكالات، وعلى كل حال يقول: لأن بيان النكات لحسب ما وقع في ظواهر الألفاظ والاختلاف من الرواة في لفظ الحديث لا يضر دعوى الكرماني من قوله: إن الأجرين للمؤمن من أهل الكتاب لا يقع في الاستقبال، أما وقوع إذا في الثلاثة، وإن كانت إذا للاستقبال فهو أن حصول الأجرين مشروط بالإيمان بنبيه، ثم بنبينا -صلى الله عليه وسلم- وقد قلنا إن بالبيان تنقطع دعوة غير نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا الإيمان بنبينا -عليه الصلاة والسلام- فلم يحصل الأجران فلم يحصل إلا أجر واحد، لانتفاء شرط الأجرين، وأما وقوع "أيما" وإن كانت تدل على التعميم صريحاً فهو في تعميم جنس أهل الكتاب، في تعميم جنس أهل الكتاب، ولا يلزم من تعميم ذلك، تعميم الأجرين، فهو في حق أهل الكتاب.

أقول توضيحاً لذلك، عندما ذكرنا من كلام الكرماني واستدراك ابن حجر عليه، الكرماني أورد إشكالات ترد على هذه الرواية، بغض النظر عن الروايات الأخرى، ابن حجر استدرك عليه لأن. . . . . . . . . تكلف الإجابة عن إشكالات ووردت في رواية هي محلولة بالروايات الأخرى، لماذا لا نرد الإشكال، إشكال النص بنص؟ فأقول: انتصار العيني للكرماني لا شك أنه له وجهه، وأيضاً كلام ابن حجر له وجه، فأقول: ابن حجر يرى أن ما كان مرده إلى اختلاف الرواة، الحديث واحد، ومخرجه واحد، فلا يقال عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مرة قاله كذا ومرة قاله كذا، إنما سبب الاختلاف اختلاف الرواة، فابن حجر يرى أن ما كان مرده إلى اختلاف الرواة لا يتكلف اعتباره ولا تقريره ولا الجواب عنه، هذا مفاد كلام ابن حجر، لكن مثل هذا قد لا يتسنى لكل أحد؛ لأن مقتضى هذا أننا لا نقدم على شرح حديث حتى نجمع جميع طرق الحديث وألفاظ الحديث، ليحل بعضها بعضاً، نعم أولى ما يفسر به الحديث الحديث، وأيضاً جمع الطرق تبين لنا العلل، فالباب إذا لم تجمع طرقه لا يتبين خطؤه، كما يقول أهل العلم، وإذا جمعنا الطرق والألفاظ تبين لنا حل كثير من الإشكالات، هذه وجهة نظر ابن حجر، لكن هل يتسنى هذا لكل أحد، نعم يتسنى للحافظ ولا يتسنى للكرماني، ولا يتسنى للعيني لأن الحافظ على اسمه, ما سمي حافظ إلا لأنه يحفظ من السنة شيء قد لا يدركه أكثر من. . . . . . . . . الصنعة، لكن مثل هذا قد لا يتسنى لكل أحد، فالحافظ على اطلاع واسع يمكنه من معرفة اختلاف الرواة في البخاري وغيره، مما لم يوجد مثله عند الكرماني ولا عند العيني. أحياناً الكرماني يستدرك أو يستنبط من حديث في البخاري يرده حديث في البخاري، حتى قال ابن حجر في بعض المواضع، إن هذا جهل بالكتاب الذي يشرحه،. . . . . . . . . الكرماني لا. . . . . . . . . صنعته في الحديث، بل ولا العيني، وإن شارك في الحديث، ما هم مثل ابن حجر، ليس مثل ابن حجر أبداً.

وأقول لك مثل هذا قد لا يتسنى لكل أحد فالحافظ على اطلاع واسع يمكنه من معرفة اختلاف الرواة في البخاري وغيره مما لا يوجد مثله عند الكرماني، ولا عند العيني أيضاً وجرت عادة الشراح، جاء بإشكالات والإجابة عنها، تلقيحاً لفهوم الطلاب يورد إشكال ما دام عندك جواب ليش. . . . . . . . . ما فيه إشكال، إذا كان إشكال محلول جوابه معروف، هل يسمى إشكال إذا كان إشكال محلول ما نلقيه، لكن بعضهم يورد مثل هذا الإشكال ويجيب عنه، يعني مثلما يطرح الكرماني وغيره. جرت عادة الشراح إيجاد الإشكالات والإجابة عنها تلقيحاً لفهوم الطلاب وتفتيحاً لقرائحهم ويوجد هذا عند المفسرين كثيراً، ليكون الطالب على علم بالإشكالات قبل إيراداها فيتمكن من الجواب عنها، ترون طالب ما تربى على هذه الطريقة، فأورد عليه إشكال يستطيع أن يحله؟ لا، ما يمكن، لكن إذا تربى على هذه الطريقة فأورد عليه إشكال لم يسمعه قبل، عنده ملكة، تكون لديه ملكة يستطيع أن يحل بها الإشكال، وإن لم يرد عليه قبل ذلك؛ لأن له نظائر تقدمت ومرت به، فيتمكن من الجواب عنها، وليكون على دربة تامة وخبرة في إجابة الشبه والإشكالات التي قد تورد على بعض الآيات وفي بعض الأحاديث، مع أن هذه الطريقة قد تشغل كثيراً من المتعلمين عن الأمور المهمة، وقد يتعب وراءها ولا يدرك شيئاً، لضعفه في فهمه، فمثل هذا ينبغي أن يوجه إلى حفظ النصوص واستنباط ما ظهر من أحكامها، وترك ما خفي من أحكام وإشكالات، للأذكياء من الطلاب، ولا شك أن العلم يدل بعضه على بعض، يعني ينبغي أن يوجد طلبة من النبهاء يمرنون على مثل هذا؛ لأن الإشكالات إن لم ترد من الموافق وردت من المخالف لكون نعرف أن هناك إشكالات يتمسك بها بعض المبتدعة، في بعض الآيات المشتبهات وبعض الأحاديث التي ظاهرها مع بعض التعارض، هل يعني هذا أننا نتركها حتى يرد علينا من يولد الإشكال ثم لا نستطيع الجواب عنه؟ نتأهب للخصم قبل الخصومة.

إذا أدى حق الله تعالى مثل الصلاة والقيام وحق مواليه مثل خدمته, والمولى مشترك بين المعتِق والمعتَق وابن العم والناصر والجار والحليف وكل من ولي أمر أحد، والمراد هنا السيد، الذي هو المتولي لأمر العبد والقرينة المعينة له لفظ العبد. المعتِق والمعتَق، مولى آل فلان، يعني عبده. نعم، مولاهم, والبخاري موالاهم؛ لأنه أسلم على يديه. هنا المولى المراد به السيد. الموالي: جمع مولى والمراد به السيد، لأنه في مقابل العبد، هل يمكن إذا أدى العبد حق الله وحق مواليه يعني جيرانه؟ لا ما يمكن، إلى آخره. قاله العيني، وقبله الكرماني بحروفه، ثم قال: فإن قلت: لم لا يحمل على جميع المعاني؟ العبد،. . . . . . . . . و. . . . . . . . . المعاني الواردة، كما هو مذهب الشافعي -رحمه الله- إذ عنده يجب الحمل على جميع معانيه الغير المتضادة، قلت: ذلك عند عدم القرينة، أما عند القرينة فيجب حمله على ما عينته القرينة اتفاقاً، وقال: فإن قلت: لم عدل عن لفظ المولى إلى لفظ الموالي؟ من المفرد إلى الجمع؟ قلت: لما كان المراد العبد الجنس جنس العبيد جمع حتى يكون عند التولية لكل عبد مولى، لأن مقابلة الجمع بالجمع أو ما يقوم مقامه من الجنس مفيدة للتوزيع، العبد إذا أدى حق مواليه، العبد جنس، يشمل جميع العبيد، والموالي جمع فإذا قلنا أنه في حكم الجمع هذا يقابل هذا، فيقتضي أن لكل مولى عبد، كما في ركب القوم دوابهم، يعني كل واحد منهم ركب دابتة، مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة الأفراد كما يقرره أهل العلم، أو أراد أن استحقاق الأجرين إنما هو عند أداء جميع حقوق مواليه لو كان مشتركاً بين طائفة مملوكاً لهم. فإن قلت: فأجر المماليك على هذا ضعف أجر السادات، له أجرين، أجر المماليك غير أجر السادات، مفهوم، من خلال الحديث. ممكن؟ ممكن الحديث الإشارة إلى العبد يمكن أنه له أجرين، لكن لا يعني هذا أن له .. الآن هل له أجران؟ هنا لا.

هو ليس له أجرين من هذه الحيثية، فإن قلت: فأجر المماليك على هذا ضعف أجر السادات، قلت: لا محظور في التزام ذلك أو يكون أجره يفهم من هذه الجهة، وقد يكون للسيد جهات أخر يستحق بها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما، يعني المفاضلة بين عبد مؤدي وعبد ما أدى، نعم لا بين عبد وحر. لكن هل قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: له الأجر مرتين، يقتضي التفضيل مطلقاً؟ أما الذي أعاد الوضوء الصلاة له أجران، والذي لم يعد أصاب السنة أيهما أفضل؟ الذي أصاب السنة أجر أفضل، وأيضاً يقرأ القرآن ويتتعتع فيه له أجران، والماهر فيه مع السفرة، يعني ما يلزم أن يكون كون له أجرين يكون أفضل من غيره. فإن قلت على هذا يلزم أن يكون الصحابي الذي كان مملوكاً كتابياً، مملوكاً وكتابياً يكون له أربعة أجور أجره زائد على أجر أكابر الصحابة، وذلك باطل بالإجماع. يقول الكرماني: قلت: الإجماع خصصهم وأخرجهم من ذلك الحكم ويلتزم ذلك في كل صحابي لا يدل دليل على زيادة أجره على من كان كتابياً، فيه كلام حول التفضيل المطلق، هل هناك وقت له. لعلنا نرجؤه يا شيخ -إن شاء الله- إلى الحلقة القادمة. أيها الأخوة والأخوات لعلنا نكتفي بهذا ونعد الأخوة والأخوات استكمال الموضوع وبالذات أننا توقفنا عند التفضيل المطلق بالنسبة للمولى، أو العبد والحر. شكر الله لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، على ما بينه في هذه الحلقة شكراً لكم أنتم لقاؤنا بكم في حلقة قادمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حديث ابن عباس في باب عظة الإمام النساء وتعليمهن

التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح حديث ابن عباس في باب عظة الإمام النساء وتعليمهن الشيخ/ عبد الكريم الخضير الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين. أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحباً بكم فضيلة الدكتور. حياكم الله وبارك فيكم، وفي الأخوة المستمعين. قال المصنف -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج ومعه بلال فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن, وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يأخذ في طرف ثوبه". الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فراوي الحديث عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- حبر الأمة، وترجمان القرآن، مر ذكره مراراً، والحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: (باب عظة الإمام النساء وتعليمهن). قال الحافظ ابن حجر: "نبه بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصاً بأهلهم، الترجمة السابقة باب تعليم الرجل أمته وأهله، فنبه بهذه الترجمة على أن ما سبق ليس مختصاً بالأهل, بل ذلك مندوب للإمام الأعظم، أو من ينوب عنه، ولذا قال: باب عظة الإمام. واستفيد الوعظ للتصريح من قوله في الحديث فوعظهن، وكانت الموعظة بقوله: ((إني رأيتكن أكثر أهل النار)) أي: كما جاء في بعض الروايات المبسوطة التامة ((إني رأيتكن أكثر أهل النار)) ثم ذكر العلة، ((لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير)). واستفيد التعليم من قوله: "وأمرهن بالصدقة" استفيد التعليم؛ لأن الأصل باب عظة الإمام النساء، ثم طابقت العظة من قوله: "فوعظهن" لكن أين المطابقة للتعليم؟ التعليم من قوله: "وأمرهن بالصدقة" كأنه أعلمهن أن في الصدقة تكفيراً لخطايهن، الأمر بالصدقة. هو تعليم.

تعليم بلا شك، لأن مقتضى الأمر إما الوجوب أو الاستحباب، وهذا ضرب من ضروب التعليم، تعليم الحكم الشرعي، يقول الكرماني: فإن قلت: الحديث يدل على الوعظ فما وجه دلالته على التعليم، حديث يدل على الوعظ، فما وجه دلالته على التعليم، حتى يدل على تمام الترجمة؟ أجاب كعادته، قلت: من جهة أن الأمر بالصدقة يستلزم التعليم، والله أعلم. وقال العيني: "وجه المناسبة بين البابين هذا الباب -باب عظة الإمام النساء وتعليمهن- والذي قبله، باب تعليم الرجل أمته وأهله، من حيث أن المذكور في الباب السابق تعليم الرجل أهله، وهو خاص, والمذكور في هذا الباب تعليم الإمام النساء وهو عام، فتناسق من هذه الحيثية بجامع التعليم في كلٍ، في الترجمة الأولى، تعليم خاص، والثانية تعليم عام، والمراد بالإمام، هو الإمام الأعظم أو من ينوب عنه، وذكر وجه المطابقة بين الحديث والترجمة ما حاصله عند ابن حجر المتقدم. والعظة بكسر العين بمعنى الوعظ؛ لأنه مصدر من وعظ يعظ وعظاً فلما حذفت الواو تبعاً لفعله عوضت عنها الهاء، فلما حذفت الواو تبعاً لفعله عوضت عنها الهاء، مثل وعد، وعظ يعظ عظة، وعد يعد عدة، وزن يزن زنة، والوعظ هو التذكير بالعواقب. في المصباح المنير، وعظه يعظه وعظاً وعظة أمره بالطاعة ووصاه بها وعليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍٍ} [(46) سورة سبأ] أي أوصيكم وآمركم، وعظه يعظه وعظاً وعظة، فاتعظ، أي ائتمر وكف نفسه والاسم الموعظة وهو واعظ والجمع وعاظ، والموعظة والوعظ وما في معناه الإرشاد والدلالة والتوجيه كلها التذكير بالعواقب من أجل أخذ الحيطة مما يستقبل.

وفي الأصل قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بعد سياق الحديث: وقال إسماعيل عن أيوب، خذ في الأصل، في أصل الحديث المشروح، قال: عن أيوب قال: سمعت عطاء قال سمعت ابن عباس، قال: أشهد على النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قال عطاء: أشهد على ابن عباس، يعني هذا في الأصل مما حذفه المختصر؛ لأنه يقتصر على الصحابي فقط، وفيه على ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال عن ابن عباس، وهو في الأصل ذكر في مقدمة الكتاب، أنه يلتزم حتى الصيغ -صيغ الأداء- عن الصحابي، فالأصل أن يقول على ابن عباس، وقد التزم أن يورد ما في الأصل، والذي في الأصل، أشهد على ابن عباس، وهو هنا قال: عن ابن عباس، ولعله اعتمد الرواية التي أشار إليها البخاري على ما سيأتي ذكره بعد هذه، بنفس صلب الكتاب. قال عن أيوب قال سمعت عطاء، قال سمعت ابن عباس قال: أشهد على النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قال عطاء أشهد على ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال ابن حجر، معناه أن الراوي تردد، هل لفظ أشهد من قول ابن عباس أو من قول عطاء؛؛؛؛ لأنه قال سمعت ابن عباس قال: أشهد على النبي -صلى الله عليه وسلم- مقتضاه أن قوله أشهد من كلام ابن عباس، أو قال عطاء، هذا شك، أو قال عطاء أشهد على ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج، فمعناه أن الراوي تردد هل لفظ أشهد من قول ابن عباس أو من قول عطاء، وقد رواه بالشك أيضاً حماد بن زيد عن أيوب، أخرجه أبو نعيم في المستخرج، وأخرجه أحمد بن حنبل عن غندر عن شعبة جازماً بلفظ أشهد عن كل منهما، أشهد عن كل منهما، وإنما عبر بلفظ الشهادة تأكيداً لتحققه ووثوقاً بوقوعه، عبر بلفظ الشهادة، تأكيداً لتحققه ووثوقاً بوقوعه، وإلا فالأصل أنه خبر، إن كان على ابن عباس فقد شهد، يحتمل أن يكون شهد ما حصل، فكونه يشهد على ما رأى هذا لا إشكال فيه؛ لأنه يشهد عن رؤية، وإن كان عن عطاء أشهد على ابن عباس، أي الشهادة، والتعبير بلفظ الشهادة في الموضعين كله من أجل التأكيد.

وقال الكرماني: فإن قلت: لِمَ استعمل لفظ الشهادة بـ"على" لا باللام، أشهد لابن عباس أو أشهد لرسول الله، لم استعمل الشهادة بـ"على" لا باللام؟ تقول: شهدت له أو شهدت عليه؟ الآن ابن عباس يشهد للرسول أو يشهد على الرسول؟ يشهد له أنه فعل وبلغ، وعطاء يشهد لابن عباس أنه شهد وبلغ, أو يشهد عليه؟ لماذا عبر بـ"على" لا باللام؟ هذا كلام الكرماني، ومر بنا مراراً أن الكرماني يورد أسئلة ثم يجيب عنها. كأن الكرماني يقول: الأصل أن يقول أشهد "لِ" ما دام أورد هذا للإشكال. هذا الأصل الآن هو يشهد لابن عباس أو على ابن عباس؟ لابن عباس. أنه بلغ ما سمع وما رأى فهي شهادة له، وابن عباس يشهد للنبي -عليه الصلاة والسلام- أنه فعل هذا، قلت: ذلك أيضاً لزيادة التأكيد في وثاقته؛ لأنه يدل على الاستعلاء بالعلم على خروجه -صلى الله عليه وسلم- لأن الذي ينظر إلى الشيء من جهة العلو يدل على أنه متمكن من الإحاطة به, بينما الذي ينظر إليه لا من جهة العلو قد يخفى عليه بعض أموره وأحواله، فالتعبير بـ"على" هنا لزيادة التأكيد في وثاقته قال: لأنه يدل على الاستعلاء بالعلم على خروجه -صلى الله عليه وسلم- يقول الجوهري: الشهادة خبر قاطع، يقال منه: شهد الرجل على كذا، شهد الرجل على كذا، فدل على أن الاستعمال هنا لـ"على" لغوي، قول الجوهري في صحاحه، الشهادة خبر قاطع، يقول: ومنه شهد الرجل على كذا، لكن هذا على إطلاقه؟ الشهادة التي تؤدَّى إما أن تكون لفلان، أو على فلان، إما أن تكون لفلان، أو على فلان، وقد تكون الشهادة لفلان على فلان، يشهد زيد بأن لعمروٍ ديناً على بكر، فهي شهادة لشخص على شخص، فكلام الجوهري، وإن شهد لما رجحه الكرماني لكنها ليست مطردة، فالشهادة لصاحب الحق على خصمه، فهناك شاهد ومشهود له، ومشهود عليه، فلا. . . . . . . . . بكلام الجوهري، وإنما المفهوم من كلام الجوهري لغوي، ويقال منه شهد الرجل على كذا، لكن أيش علاقة المشهود عليه هنا بالحديث؟ هل هو أولى من المشهود له؟ لكن ما أورده الكرماني وجيه، من جهة التأكيد. . . . . . . . . .

وذكرنا أن من ينظر إلى المشهود عليه من فوق، لا شك أنه يحيط به، بخلاف من ينظر إليه من إحدى الجهات فإنه قد يخفى عليه من أمره ما يخفى، وبعض سياق الحديث، قال الإمام البخاري عن أيوب عن عطاء، وقال إسماعيل عن أيوب عن عطاء وقال عن ابن عباس: أشهد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال عن ابن عباس أشهد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، إسماعيل هو ابن علية، الذي يقال له، ابن علية، وأراد البخاري بهذا التعليق، أنه جزم عن أيوب بأن لفظ أشهد من كلام ابن عباس فقط؛ لأنه في التعليق الذي يليه بعد أن أورد البخاري الحديث الأصل، أردفه بهذا المعلق، وليس فيه عن عطاء أشهد على ابن عباس إنما فيه وقال عن ابن عباس أشهد على النبي -عليه الصلاة والسلام- فجزم أن الشهادة من قول ابن عباس؛ لأنه جزم عن أيوب بأن لفظ أشهد من كلام ابن عباس فقط، وكذا جزم به أبو داود الطيالسي، في مسنده عن شعبة وكذا قاله وهيب عن أيوب ذكره الإسماعيلي، وذكر ذلك كله الحافظ ابن حجر، وهو معلق؛ لأن البخاري لم يدرك إسماعيل بن علية؛ لأن إسماعيل مات في السنة التي ولد فيها البخاري سنة 194 [أربع وتسعين ومائة] مات ابن علية، وفيها ولادة البخاري، فالبخاري لم يدركه، فهذا معلق، في البخاري هذا قاله الكرماني والعيني، وقال الكرماني ويحتمل. . . . . . . . . بالاحتمال، ويحتمل أن يكون عطفاً على قال شعبة، يعني في الحديث الأصلي، في الحديث الأصل، حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن أيوب، الاحتمال الذي أورده الكرماني قال: ويحتمل أن يكون عطفاً على قال شعبة، فيكون المراد منه حدثنا سليمان قال حدثنا إسماعيل عن أيوب فيخرج من التعليق، وعلى هذا يكون على هذا الاحتمال معلقاً أم موصولاً؟ بهذا الاحتمال يكون موصول. بهذا الاحتمال يكون موصول بالإسناد السابق، فيكون الواسطة بين البخاري وبين إسماعيل سليمان بن حرب الموجود في الأصل، هذا الاحتمال أورده الكرماني، لكن هل مثل هذه العلوم تثبت بالاحتمالات؟

يقول ابن حجر: "وهو مردود-هذا الكلام مردود- فإن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلاً، لا لهذا الحديث ولا لغيره، فكيف يقول الكرماني: يحتمل أن يكون الواسطة سليمان بن حرب، لا رواية له عن إسماعيل أصلاً لا لهذا الحديث ولا لغيره. هذا الاحتمال أفضل. قول ابن حجر. إذا كان هذا الاحتمال قائم، ألا يقال أن لسليمان بن حرب رواية عن هذا؟. إذا كان قائماً؟ الآن أورد الاحتمال، أورد الاحتمال، والمعروف الذي قرره ابن حجر أن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلاً, ألا يمكن أن يقال أن رواية سليمان بن حرب عن إسماعيل ثبتت بهذا. بهذا الاحتمال. . . . . . . . . . كلام ابن حجر بقوة، يقول: لا رواية له عن إسماعيل، أصلاً لا لهذا الحديث ولا لغيره، والمعول في هذا على الأئمة، إن أثبتوا سماع سليمان بن حرب عن إسماعيل أثبتنا وإلا نفينا، تبعاً لهم، وقد أخرجه المصنف في كتاب الزكاة موصولاً عن مؤمل بن هشام عن إسماعيل كما سيأتي، ثم ذكر ابن حجر قاعدة يستفيد منها طلاب هذا الفن يقول: وقد قلنا غير مرة أن الاحتمالات العقلية -يعني المجردة- الاحتمالات العقلية كما ينص على ذلك في موضع آخر، الاحتمالات المجردة يقول: وقد ذكرنا غير مرة وقد قلنا غير مرة أن الاحتمالات العقلية لا مدخل لها في الأمور النقلية، يعني كونه يحتمل، يحتمل، لكن هل له حقيقة؟ هل قال بهذا أحد من الأئمة المتقدمين؟ ما قال به، قال: إن الاحتمالات العقلية لا مدخل لها في الأمور النقلية، ولو استرسل مسترسل لقال: يحتمل أن يكون إسماعيل هذا آخر غير ابن علية، أنتم تقولون سليمان بن حرب لم يسمع من إسماعيل بن علية، نفترض أن إسماعيل ما دام ما نقل أنه غير إسماعيل بن علية، يمكن يورد هذا الاحتمال، يحتمل أن يكون إسماعيل هنا آخر غير ابن علية، وأن أيوب أيضاً آخر غير السختياني، يعني لو أردنا أن نسترسل وراء الاحتمالات، أليس يقال مثل هذا؟ نعم، وأن أيوب آخر غير السختياني، وهكذا في أكثر الرواة، فيخرج في ذلك إلى ما ليس بمرضي.

وابن حجر رد على الكرماني في هذه المسألة في موضعين قبل هذا الموضع، فهي ثلاثة مواضع، وابن حجر قرر قاعدة في مثل هذا التصرف من الإمام البخاري، قاعدة فقال: البخاري حيث يريد التعليق، يأتي بحرف العطف، وقال إسماعيل عن أحمد، حيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف، وإن كان بالإسناد قبله بغير حرف العطف، وقد أتى هنا بحرف العطف فهو هنا معلق، لكن يرد على هذه القاعدة قوله في البخاري بعد الحديث رقم 22 قال: وهيب قال وهيب حدثنا عمرو الحياتي، بدل الحياء؛ لأن القول في نهر الحياة، وهذا تقدم، علقه البخاري، يقول علقه البخاري وحكم عليه بالتعليق مع أنه مجرد عن الواو، هو قال حيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف، وقال هنا في الموضع الذي معنا، وقال إسماعيل فيه الواو ماشي على القاعدة، لكن هناك في قول البخاري، قال وهيب حدثنا عمرو الحياتي يقول ابن حجر: علقه البخاري، وهو مجرد عن الواو، نعم مع أنه مجرد عن الواو، فهذا يرد على قاعدته التي ذكرها، فتكون القاعدة كلية أو أغلبية. أغلبية. أغلبية ستكون، وكثير من القواعد التي قررها ابن حجر، يوجد ما يخرمها، لكنه إنما يقرر عن استقراء، أما الاحتمالات التي يوردها الكرماني وغيره من الشراح الذين لا إحاطة لهم بالكتاب المشروح كإحاطة ابن حجر فيعتريها ما يعتريها من هذه الانتقادات. أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج -أي بين الصفوف- صفوف الرجال، إلى صف النساء، وهي جملة من أن واسمها وخبرها وخبرها خرج، ومعه بلال. يا دكتور متى خرجوا؟ في الحديث متى خرجوا؟. في العيد؟ في عيد الفطر، في عيد الأضحى. يأتي في طرق الحديث وتفاصيله ما يبين هذا بجلاء.

ومعه بلال, كذا للتشنيع وسقطت الواو للباقين، سقطت الواو للباقين، يعني خرج معه بلال، قال العيني وقبله الكرماني: جملة اسمية وقعت حالاً وحذف الواو جائز بلا ضعف، نحو قوله تعالى: {اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [(36) سورة البقرة]، فاستغني بالضمير عن الواو، استغني بالضمير معه بلال، فاستغني بالضمير عن الواو، واو الحال، وبلال هو ابن رباح الحبشي، يكنى أبا عبد الله، أو أبا عمرو، أو أبا عبد الرحمن، أو أبا عبد الكريم، يعني اختلف في كنيته، اختلافاً كثيراً، وهذه هي العادات فيمن اشتهر باسمه، من اشتهر باسمه لا شك أن الكنية تضيع، خلاف من اشتهر بالكنية، الاسم يضيع، فأبو هريرة اختلف في اسمه واسم أبيه على أكثر من ثلاثين قولاً؛ لأنه اشتهر بكنيته، وقتادة يندر من طلاب العلم من يعرف كنيته،. . . . . . . . . يستعرض اسمه، وشهرته باسم أمه حمامة، كان قديم الإسلام وهو أول من أظهر الإسلام وعذب على إسلامه مات سنة 20 في الشام. فظن -أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يسمع النساء، حين أسمع الرجال، وفي بعض النسخ فظن أنه لم يُسمِع بدون لفظة النساء، وأن مع اسمها وخبرها سدت مسد مفعولي ظن، وفي هذا ما يدل على بعد النساء عن مكان الرجال، وإلا لو كن قريبات من مكان الرجال، لسمعن الخطبة؛ لأن ما الذي دعاه أن يخص النساء بهذه الموعظة، إلا أنه ظن أنه لم يسمع، فظن أنه لم يسمع، ظن أنه ما أسمع النساء، دليل على أن النساء بعيدات عن مكان الرجال، ولو كن قريبات لظن أنهن سمعن، واكتفى بموعظته للرجال، ويدخل النساء معهم؛ لأن النساء شقائق الرجال. ولهذا يرد سؤال كثير -أحسن الله إليك- في مثل خطبة العيد، بعض الخطباء يخصص الجزء الأخير من الخطبة الثانية للنساء، يخصهن بالموعظة، هل لهذا أصل؟ وهل هذا الحديث يعتبر دليل على ذلك؟. أستأذن فضيلتكم أن يكون هذا هو بداية الحلقة القادمة بإذن الله تعالى. لنستكمل القول عن الحديث، وأيضاً الكلام عن هذا الموضوع بإذن الله. أيها الأخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح إلى كتاب الجامع الصحيح، نستكمل ما تبقى بإذن الله في الحلقة القادمة، وأنتم على خير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (1)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (1) الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهلاً ومرحباً بكم إلى شرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله بقبول دعوتنا فأهلاً ومرحباًَ بكم شيخ عبد الكريم. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. نبدأ في حلقات هذا البرنامج من شرح كتاب الحج في كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح بقول المصنف -رحمه الله-: كتاب: الحج فلعلنا نبدأ بالحديث حول هذه اللفظة أحسن الله إليك. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: كتاب: الحج تبعاً للأصل، تبعاً لصحيح البخاري -رحمه الله- يقول الحافظ ابن حجر: وفي ورواية الأصيلي: المناسك؛ ليشمل الحج والعمرة، نعم في رواية الأصيلي، أما في سائر الروايات كلها كتاب الحج. الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- قدم كتاب الحج على الصيام؛ لما اتفق عليه -رحمه الله- مع الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) فعلى هذا بنى على هذه الرواية التي اتفق على تخريجها الإمامان البخاري ومسلم، بنى الإمام البخاري ترتيب الكتاب. ومن المعلوم أن الجمهور جمهور المصنفين من الفقهاء والمحدثنين كلهم يقدمون الصيام على الحج، بناءً على ما جاء في صحيح مسلم من رواية سعد بن عبيدة عن ابن عمر بتقديم الصوم على الحج. قال: فقال رجل يستدرك على ابن عمر. المقدم: الصوم والحج. والحج وصيام رمضان. المقدم: هذه في الرواية الثانية يستدرك عليه؟

يستدرك عليه في الرواية التي تفرد بها مسلم، وقع في صحيح مسلم من رواية سعد بن عبيدة عن ابن عمر بتقديم الصوم على الحج، يعني الجادة عند أهل العلم عند الجمهور تقديم الصوم على الحج، أما الإمام البخاري فقدم الحج على الصيام بناءً على الرواية المتفق عليها. قال: فقال رجل: والحج وصيام رمضان، فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنكر على هذا المستدرك، مع أنه ثبت عنه كما في الصحيحين الرواية على ضوء هذا الاستدراك، بتقديم الحج على الصيام. يقول ابن حجر: "في هذا إشعار بأن رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى" الآن عندنا الرواية المتفق عليها، والرواية التي تفرد بها مسلم، يعني عند الجمهور التقديم لما اتفق عليه الشيخان، ثم ما تفرد به البخاري، ثم ما تفرد به مسلم. المقدم: إلا هنا. هذا رأي الجمهور، نعم. أول من صنف في الصحيحِ ... محمد وخص بالترجيحِ نعم يقول الحافظ -رحمه الله- العراقي: وأرفع الصحيح مرويهما ... . . . . . . . . . نعم. وأرفع الصحيح مرويهما ... . . . . . . . . . يعني المتفق عليه. . . . . . . . . . ... ثم البخاري فمسلم فما شرطهما حوى. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . إلى آخره.

المقصود أن المتفق عليه عند أهل العلم أن المتفق عليه بين الشيخين مقدم على ما يتفرد به البخاري، وما يتفرد به البخاري مقدم على ما يتفرد به مسلم، فإذا طبقنا هذه القاعدة اتجه لنا صنيع الإمام البخاري بتقديم الحج على الصيام؛ لأن تقديم الحج على الصيام متفق عليه، بينما تقديم الصيام على الحج من أفراد مسلم، يعني لو طبقنا هذه القاعدة لصوبنا صنيع الإمام البخاري، لكن أهل العلم عندهم أيضاً مخرج من مثل هذا، يقولون: قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقاً، مثال ذلك حديث جابر في صفة حج النبي -عليه الصلاة والسلام- مخرج في مسلم، مع أن حديث ابن مسعود وحديث أسامة وأحاديث أخرى في الصحيحين، وفي البخاري أيضاً، بعضها من مفردات البخاري، وبعضها متفق عليه، وفي حديث جابر: صلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، وفي غيره ما يدل على أذانين وإقامتين، وبصيغ أخرى، فقدم حديث جابر على غيره. المقدم: لأنه. عرض له ما يجعله فائقاً؛ لأن جابر -رضي الله تعالى عنه- بالنسبة لحجة الوداع ضبطها وأتقنها من خروجه -عليه الصلاة والسلام- من بيته إلى أن رجع إلى بيته، نعم، فبينما غيره من الصحابة ضبط شيئاً، وغاب عنه أشياء، فقدم حديثه هذا من أجل أن ننظر لما معنا، فأهل العلم ليس من فراغ أن يقدموا الصوم على الحج، مع أن هذا متفق عليه، وذاك من أفراد مسلم؛ لأنه يعرض للمفوق –المرجوح- ما يجعله فائقاً، يعني راجحاً، نعم. يقول ابن حجر: في هذا إشعار بأن رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى، يعني إنكار ابن عمر على المستدرِك حينما قال له: والحج وصيام رمضان، قال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج، ابن حجر يقول: هذا الاستدراك يدل على أن رواية البخاري مروية بالمعنى، وأن الصواب تقديم الصيام على الحج. مروية بالمعنى إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر، حنظلة ما سمع رد ابن عمر على المستدرِك، إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجلس، أو حضر ذلك ثم نسيه.

يقول: ويبعد ما جوزه بعضهم أن يكون ابن عمر -رضي الله عنهما- سمعه من النبي -عليه الصلاة والسلام- على الوجهين، ونسي أحدهما عند رده على الرجل، ووجه بعده أن تطرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي الذي هو حنظلة أولى من تطرقه إلى الصحابي، يقول: كوننا نقول: حنظلة نسي أفضل من أن نقول: إن ابن عمر نسي. يقول: وكيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج؟ فدل على أن حنظلة مرة يرويه بالتقديم، بتقديم الصوم، ومرة يرويه بتقديم الحج، وهماً منه، نعم لكن لو قال قائل: إن هذه الواو لا تقتضي الترتيب، فمرة يقدم الحج ومرة يقدم الصوم، المسألة ما تحتاج إلى ترتيب، نعم، ممكن؟ المقدم: ممكن. لكن غالباً في مثل هذه الأمور التي من الإسلام بالمكان المعلوم. المقدم: يأتي ترتيبها بناءً على أهميتها. يأتي ترتيبها على أهميتها، كما جاء في قوله -جل وعلا-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} [(158) سورة البقرة] النبي -عليه الصلاة والسلام- لما رقي الصفا قال: ((أبدأُ بما بدأ الله)) وفي رواية: ((ابدؤوا)) أمر ((بما بدأ الله به)) فلا شك أن الأولية لها دخل في الأولوية، هذا مقرر عند أهل العلم، لكن إذا أشكل لا شك أن الواو لمطلق الجمع، إذا لم يكن هناك مخرج. يقول: وكيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج، ويؤيده ما وقع عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة، أفيقال: إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه؟ هذا مستبعد، والله أعلم. وأبدى النووي سبباً آخر في إنكار ابن عمر على الراوي بأن ابن عمر أراد تأديب هذا الراوي، ابن عمر عند النووي يرويه على الوجهين، لكن كيف ينكر ابن عمر على الراوي هذا وجهاً ثبت عنده عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ورواه عنه بالأسانيد الصحيحة؟ يقول النووي .. ، أبدى النووي سبباً آخر في إنكار ابن عمر على الراوي بأن ابن عمر أراد تأديب الراوي. المقدم: لماذا يستدرك ... ؟

نعم، وأنه ليس له أن ينكر ما لا علم له به، وأنه عند ابن عمر على الوجهين، هذا رأي الإمام النووي، مع أن الاحتمال الذي استبعده ابن حجر السابق أن يكون ابن عمر سمعه على الوجهين ثم نسي، هذا أيضاً موجود عند النووي. ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- لما أراد أن يؤدب هذا الرجل الذي استدرك عليه، ترى هذا فيه درس، درس لطلاب العلم، يعني قد يسلكه بعض الشيوخ مع طلابه، نعم إذا رأى في طالب استشراف لمثل هذه الاستدراكات، وشم منه أنه يريد الاستدراك لذات الاستدراك، نعم؛ لأنه قد يشم من بعض الناس مثل هذا، فمثل هذا يؤدب بالرد. المقدم: لكن بشرط أن يكون الرد صحيح والأصل صحيح. أن يكون الوجهين صحيحين. لكن الإمام البخاري اعتمد رواية تقديم الحج، وأيد ذلك بقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [(97) سورة آل عمران]. المقدم: هذا البخاري؟ البخاري قال: كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله، وقول الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران] فالآية مشعرة بعظم شأن الحج، وقد ورد أحاديث وآثار تدل على ذلك مما لم يرد نظيره في الصيام؛ لأن تذييل الآية بقوله -جل وعلا-: {وَمَن كَفَرَ} [(97) سورة آل عمران] يعني هل هناك .. ، هل يمكن أن يقال: لا رابط بين الجملتين؟ الواو استئنافية ومن كفر؟ أو أنه لا بد من ارتباط الصدر مع العجز؟ لا بد من هذا. وأبدى الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح نقلاً عن شيخه السراج البلقيني في مناسبات الأبواب لصحيح البخاري فقال: "واختلفت النسخ في الصوم والحج أيهما قبل الآخر" نعم "وكذا اختلفت الرواية في الأحاديث، وترجم عن الحج بكتاب المناسك ليعم الحج والعمرة" هذا كلام ابن حجر، نقلاً عن شيخه البلقيني، لكن أولاً نعرف أن النسخ، عامة النسخ على وجه الأرض من صحيح البخاري ترجمتها كتاب الحج، وأكثر الرواة على هذا، ولم يقل: كتاب المناسك إلا على ما تقدم الأصيلي.

الأمر الثاني: أن قوله: اختلفت النسخ في الصوم والحج أيهما قبل الآخر أن عامة النسخ على تقديم الحج على الصيام، نعم. يقول: "وكذلك اختلفت الرواية في الأحاديث" الأحاديث نعم اختلفت في تقديم الحج وتقديم الصيام. "وما يتعلق بهما، وكان في الغالب من يحج يمر بالمدينة الشريفة" هذه في المناسبات، في ترتيب الأبواب، نعم يقول: غالب من يحج يمر بالمدينة الشريفة، فذكر ما يتعلق بزيارة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وما يتعلق بحرم المدينة. قلت – القائل ابن حجر-: "ظهر لي أن يقال في تعقيبه الزكاة بالحج" نعم يعني ابن حجر لا يراه معتمداً على الرواية. المقدم: وإنما لمعنىً آخر. نعم لمعنى أدركه برأيه. يقول: "ظهر لي أن يقال في تعقيبه الزكاة بالحج أن الأعمال لما كانت بدنية محضة، ومالية محضة، وبدنية مالية معاً رتبها كذلك، فذكر الصلاة لأنها. المقدم: بدنية محضة. ثم الزكاة لأنها. المقدم: مالية. مالية محضة، ثم الحج. المقدم: بينهما، مشتركاً. بينهما مشترك، ولما كان الصيام هو الركن الخامس المذكور في حديث ابن عمر: ((بني الإسلام على خمس)) عقب بذكره، وإنما أخره لأنه من التروك؛ والترك وإن كان عملاً أيضاً لكنه عمل النفس لا عمل الجسد، فلهذا أخره؛ لأنه قد يقول قائل: ما دام الصيام بدني؛ لأن الترك عمل، والعمل للبدن، نعم، لماذا ما عقبه بالصلاة لأنها بدنية؟ نعم قبل الزكاة لأنها مالية. قال: "والترك وإن كان عملاً لكنه عمل النفس لا عمل الجسد" يعني كالصلاة "فلهذا أخره، وإلا لو كان اعتمد على الترتيب الذي في حديث ابن عمر لقدم الصيام على الحج" لأن ابن عمر أنكر على من روى عنه الحديث بتقديم الحج على الصيام، لكن كيف يقدم الصيام على الحج وروايته للحديث بتقديم الحج على الصيام؟ هذا يمكن أن يفعله ثالث، طرف ثالث، يعني شخص خارج عن هذه الروايات، لكن شخص يروي الحديث، يبني ترتيب الكتاب على روايته، لا على رواية غيره، لا شك أن الترك عمل، ولذا يقول الصحابي: لما قعدنا والنبي يعملُ ... فذاك منا العمل المضللُ المقدم: فجعل الترك عمل. تركهم لمشاركة النبي -عليه الصلاة والسلام- في بناء المسجد عمل "فذاك منا العمل المضلل".

يقول: "وهو وإن كان ورد عن ابن عمر من طريق أخرى كذلك، فذلك محمول على أن الراوي روى عنه بالمعنى، ولم يبلغه نهيه عن ذلك، والله أعلم". ثم إن الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- رتب أبواب الحج على مقاصد متناسبة، فبدأ بما يتعلق بالمواقيت، يعني بعد وجوب الحج، وكيفية الحج الماشي والراكب وعلى الرحل، وفضل الحج المبرور ... إلى آخره، بدأ بما يتعلق بالمواقيت، لماذا؟ لأنه يبدأ بها فعلاً، فليبدأ بها قولاً، فبدأ بما يتعلق بالمواقيت، ثم بدخول مكة، يعني كأنه سائر يرسم صورة لمطبق، فبدأ بما يتعلق بالمواقيت، ثم بدخول مكة، وما معها، ثم بصفة الحج، ثم بأحكام العمرة، ثم بمحرمات الإحرام، ثم بصفة الحج، ثم بأحكام العمرة، ثم بمحرمات الإحرام. طيب بدأ بصفة الحج، والأصل أن العمرة تكون قبل، وبهذا أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- الصحابة أن يتحللوا من حجهم، ويجعلوها عمرة، فلو ذكر أحكام العمرة قبل أحكام الحج. المقدم: كان وفقاً للترتيب. للترتيب، لكن هل معنى هذا أن البخاري يرى التمتع أو يرى الحج الإفراد، أو يرى على ما سيأتي تقريره، يأتي رأيه في المسألة، نعم لكن بدأ بالحج لأهميته، ثم ثنى بأحكام العمرة؛ لأنها أقل في الأهمية من الحج الذي هو ركن الإسلام، ثم بمحرمات الإحرام؛ لأن الأصل في الحج أن يكون خالي من هذه المحرمات، هذا الأصل، ولذلك حديث جابر في صفة حج النبي -عليه الصلاة والسلام-، الذي يشرحه للناس مثلاً، ويجعله منسك، ويعتمد عليه منسك، ويقتصر عليه في صفة حج النبي -عليه الصلاة والسلام- من خروجه من بيته إلى رجوعه إليه يكفي منسك وإلا ما يكفي؟ المقدم: يكفي، يكفي. طيب هل نقول: إن الناس يفترض فيهم أن يكونوا مثل النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يرتكبون محظورات؟ كيف نعرف أحكام المحظورات؟ حجة النبي -عليه الصلاة والسلام- خالية تماماً من المحظورات، فلا بد من ذكر المحظورات؛ لأنه لا بد أن يقع فيها بعض الجهال. "ثم بمحرمات الإحرام، ثم بفضل المدينة، ومناسبة هذا الترتيب غير خفية على الفطن" قاله الحافظ.

أقول: بدأ الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بحكم الحج، فقال: "باب: وجوب الحج وفضله" واستدل بآية آل عمران {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [(97) سورة آل عمران] الآية، بدأ بحكم الحج فقال: باب وجوب الحج وفضله، لماذا؟ المقدم: الأصل ذكر الحكم، التأكيد على وجوب الحج. لا عندهم أن الحكم فرع عن التصور. المقدم: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. يعني هل نتصور الحج أولاً ثم نحكم عليه؟ أو نبين حكمه وأهميته في الشرع ليكون دافعاً إلى معرفة صفته؟ نعم؟ وأما قولهم: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره لما يحتاج إلى حكم؛ لما يخفى حكمه من حيث الاستدلال، يعني لو جاء شخص قال: ما حكم حجي يا شيخ مثلاً؟ المقدم: لازم نتصور حجه. لا بد أن نتصور حجه لكي نحكم عليه، لكن لو قال لنا: ما حكم الحج؟ وما صفته؟ قلنا: الحج ركن من أركان الإسلام وصفته كذا، نعم؛ لأن الحكم إنما يحتاج إلى تأخيره إذا كان هذا الحكم مبني على التصور، لكن حكم الحج معلوم من الدين بالضرورة، معلوم بالضرورة من دين الإسلام، فلا ينبني هذا الحكم على تصور الحج، ولذا قدمه الإمام البخاري. أقول: بدأ الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بحكم الحج فقال: باب وجوب الحج وفضله، واستدل بآية آل عمران، ولا شك أن الحج ركن من أركان الإسلام، لم يختلف في ذلك أحد من أهل العلم، ومن جحده كفر إجماعاً، من جحد وجوب الحج كفر إجماعاً، لا يتردد في كفره، واختلف فيمن تركه من غير جحد. المقدم: إيه بمجرد الترك. مجرد الترك، مقر معترف بأن الحج ركن من أركان الإسلام وتركه، من غير جحد لوجوبه مع القدرة عليه، فحكم بكفره بعض العلماء، هذه رواية معروفة عن الإمام أحمد، وقول لأصحاب مالك، يعني ككفر تارك بقية الأركان، المعروف أن من لم يأت بالشهادتين الركن الأول متفق عليه أنه ما دخل في الإسلام أصلاً، ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) إذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا بها دماءهم.

الركن الثاني الصلاة من جحد وجوبها أو وجوب أي ركن من الأركان يكفر إجماعاً، لكن الكلام في تركها مع الإقرار بوجوبها جاءت الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تدل على كفره، كفر تارك الصلاة ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)). بالنسبة لبقية الأركان الزكاة والصوم والحج مسألة خلافية، فالقول بكفره رواية عن الإمام أحمد، وقول عند أصحاب مالك، لكن المرجح عند جماهير أهل العلم أنه لا يكفر، لكنه على خطر عظيم، يعني من ترك الركن الذي هو جانب الشيء الأقوى من تُرك ركنه يكاد أن يتهدم، وليس معنى هذا أنه إذا قيل: إن تارك الزكاة أو تارك الصيام أو تارك الحج لا يكفر إن هذا تقليل من شأنه أبداً، ليس هذا معناه التقليل من شأنه، لكن المسألة مسألة حكم شرعي، فمثل هذا ينبغي أن ينتبه له، وعلى المعتمد عند جمهور أهل العلم أنه لا يكفر، لكنه على خطر عظيم، وقد جاء من قول عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه كتب إلى الأمصار وعمر بن عبد العزيز: انظر إلى من كان ذا جدة فلم يحج فاضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين. وجاء في المرفوع من حديث أبي أمامة وحديث حذيفة وحديث أبي هريرة من طريق متعددة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً)) والحديث مضعف بجميع طرقه عند أهل العلم مضعف، له طرق كثيرة تدل على أن له أصل كما يقول الحافظ ابن حجر في التلخيص، لكن ابن الجوزي أدخله في الموضوعات. المقدم: أحسن الله إليكم. الذين كتبوا من بعض الكتاب المعاصرين مع كل أسف ممن ينتسبون إلى دائرة الإسلام، وكتبوا أن الحج أشبه ما تكون بطقوس وثنية، وأخرجوا في هذا روايات وكتابات، هل هؤلاء يدخل حكمهم في من جحد وجوب الحج؟ لا شك أن مثل هذا خطر عظيم، وسيأتي النقل عن القرطبي في أن هذا قول لبعض الملاحدة، سيأتي النقل عن القرطبي في هذا، وأنه ينافي المروءة، رجل معروف بحشمته وهيبته يتجرد من ثيابه، رجل يسعى سعياً شديداً، وهذا خلاف يعني الوقار، رجل يرمي شيء من غير مرمى، فهذا عبث، يعني قيل هذا، لكل قوم وارث، وسيأتي النقل عن القرطبي في هذه المسألة.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، ولعلنا نستكمل -بإذن الله- ما تبقى من الكلام حول الحج وأحكامه، وكتاب الحج أيضاً وشرح أحاديث في حلقات قادمة. أيها الإخوة والأخوات -بإذن الله تعالى- سيكون لنا لقاءات متكررة لشرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح مع ضيفنا الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، شكر الله له، شكراً لكم على طيب المتابعة. نسأل الله تعالى أن يتقبل من حجاج بيته، وأن يوفقهم ويسددهم، ويردهم إلى أوطانهم سالمين غانمين. نلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (2)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (2) الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع لقاءنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحباًَ بكم شيخ عبد الكريم. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. قال المصنف رحمنا الله وإياه: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)) وذلك في حجة الوداع. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أولاً: الحج عرفوه في اللغة بأنه القصد، وقال الخليل: كثرة القصد إلى معظم. وفي المصباح: حج حجاً من باب قتل، قصد، فهو حاج، هذا أصله، ثم قُصر استعماله في الشرع على قصد الكعبة للحج أو العمرة، ومنه يقال: ما حج ولكن دج، فالحج القصد للنسك، والدج القصد للتجارة، لكن الاستعمال العرفي للكلمة؟ المقدم: دج يعني ضاع، ما له أي قيمة. نعم. المقدم: معناه يُتمدح بها أحياناً. هو قصد التجارة سواءً ربح أو خسر، لعلها من قصد التجارة مع الخسارة، يعني الاستعمال العرفي. فالحج القصد للنسك، والدج القصد للتجارة. والاسم –يعني اسم المصدر- الحِج بالكسر، إذا كان المصدر الحَج؛ لأن عندنا حج من باب قتل، قتل قتلاً، حج حجاً، إذاً ماذا يكون إذا كان المصدر الفتح الحج، فالكسر الحِج اسم المصدر، والحِجة المرة بالكسر على غير قياس، لكن القياس؟ حَجة "وفعلةٌ لمرةٍ". المقدم: واحدة. لا، ابن مالك.

على غير قياس، والجمع حجج، يقول: مثل سدرة وسدر، تجي وإلا ما تجي؟ المقدم: سدرة واحدة. سدرة واحدة، يعني مثل حجة واحدة، لكن الجمع حجج؟ المقدم: سِدَر. سدر كذا؟ هذا كلامهم، والجمع حجج مثل سدرة. المقدم: سدرة سدر. حجج سدر، قد يكون أصلها الفتح، لكنها سكنت للتخفيف، سدَر مثل حجج. قال ثعلب: قياسه الفتح، ولم يسمع من العرب، سدر، وبها الحجة سمي الشهر ذو الحِجة بالكسر، يعني عكس القعدة، وبعضهم يفتح في الشهر يقول: ذو الحَجة، وجمعه ذوات الحِجة، والحجة أيضاً السنة، والجمع حجج نعم. من سار نحو الدار سبعين حجة ... فقد حان منه الملتقى وكأن قدِ نعم الحجة السنة، والجمع حجج، والحُجة الدليل والبرهان، والجمع حُجج. المقدم: وهي عند العرب قبل الإسلام. وين؟ المقدم: يطلقون الحَجة والحِجة على السنة في بعض أشعارهم. وجد نعم، يقول: "ثمانين حولاً" لبيد، تحفظ شيء في إطلاق الحج؟ المقدم: أبداًَ، لا. يحتاج إلى مراجعه في إطلاقهم، المقصود أنها تطلق ويراد بها السنة، كما يطلق السبت ويراد به الأسبوع. والحُجة الدليل البرهان والجمع حجج مثل غرفة وغرف. والحج في الشرع القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة. قال ابن حجر: "وهو بفتح المهملة وكسرها" الحَج والحِج، لغتان نقل الطبري أن الكسر لغة أهل نجد، يقولون: حِج، مستعملة إلى الآن، والفتح لغيرهم الحَج، ونقل عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم، والكسر المصدر، وعن غيره عكسه، يعني ما تقدم أن حج من باب قتل، فيكون المصدر حجاً، والحج اسم المصدر. هنا يقول: "نقل عن حسين الجعفي أن الفتح الاسم، والكسر المصدر" عكس ما تقدم، وعن غيره عكسه. يقول -رحمه الله تعالى- في الحديث: "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان الفضل بن العباس رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" إلى آخره.

راوي الحديث عبد الله بن عباس بن عم النبي -عليه الصلاة والسلام-، حبر الأمة، ترجمان القرآن، مر ذكره مراراً، وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: باب وجوب الحج وفضله، وقول الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران]. يقول القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {وَلِلّهِ} [(97) سورة آل عمران] اللام لام الإيجاب والإلزام، ثم أكده بقوله تعالى: {عَلَى} [(97) سورة آل عمران] يعني على الناس، و (على) هذه من صيغ الوجوب عند أهل العلم. يقول: ثم أكده بقوله تعالى: {عَلَى} [(97) سورة آل عمران] التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، نعم. المقدم: التأكيد الأول. قوله: {وَلِلّهِ} [(97) سورة آل عمران] نعم؛ لأن اللام هذه لام الإيجاب والإلزام، ثم أكد هذا الوجوب والإلزام بقوله: {عَلَى} [(97) سورة آل عمران] التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربي: لفلان علي كذا، فقد وكده وأوجبه، فذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته، ولا خلاف في فريضته، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر. وقال بعض الناس –هذا كلام القرطبي-: وقال بعض الناس: يجب في كل خمسة أعوام مرة، ورووا في ذلك حديثاً، أسندوه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحديث باطل لا يصح، والإجماع صاد في وجوههم. ثم قال القرطبي: وذكر عبد الرزاق –يعني في مصنفه- في الجزء الخامس صفحة ثلاثة عشرة، قال: حدثنا سفيان الثوري عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يقول الرب -عز وجل-: إن عبداً أوسعت عليه الرزق فلم يفد)) نعم في القرطبي ((فلم يعد)) في مصنف عبد الرزاق ((فلم يفد)) وكذا في بقية المصادر من كتب السنة ((فلم يفد إلي في كل أربعة أعوام لمحروم)).

يقول القرطبي: حديث مشهور من حديث العلاء عن المسيب بن رافع الكاهلي، من أولاد المحدثين، روى عنه غير واحد منهم، منهم من قال: في كل خمسة أعوام، ومنهم من قال: عن العلاء بن خباب عن أبي سعيد بغير ذلك من الاختلاف. الحديث الباطل الذي لا يصح الذي أشار إليه القرطبي الذي هو مستند من قال: إن الحج يجب كل خمسة أعوام هو هذا الحديث؟ لا. المقدم: لأن هذا الحديث لو قيل: إنه مستندهم ليس فيه دليل على الوجوب. لا، هو لعله وقف على حديث فيه تنصيص على وجوبه في كل خمسة أعوام. يقول: والحديث باطل لا يصح، والإجماع صاد في وجوههم، ثم ذكر الحديث القرطبي، والحديث خرجه ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن عبداً صححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة، يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم)) وذكره الهيثمي في المجمع، وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، ورجال الجميع رجال الصحيح.

على كل حال الحديث لا شك أنه قوي، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند البيهقي وغيره، والحديث قابل للتصحيح، يكون صحيح لغيره، ولذا صححه الألباني -رحمه الله تعالى-، لكن ليس فيه حجة لمن أوجب الحج كل خمس سنوات، على ما نقله القرطبي عن بعضهم؛ للإجماع على أنه لا يجب إلا مرة واحدة، لكن الحرمان ظاهر فيمن تيسر له أداء هذه العبادة العظيمة، وتوفرت له الأسباب، ولم يمنعه من ذلك مانع، مع ما ثبت في فضل المتابعة بين الحج والعمرة، ولعل الحديث مستند لمن أفتى بمنع تكرار الحج في كل سنة لا سيما مع الحاجة الداعية لذلك؛ لكثرة الحجيج في السنوات الأخيرة، لعله يستمسك بهذا، يعني مفهومه أن الذي لا يحج إلا كل خمس سنوات، يعني إذا حج كل خمس سنوات ليس بمحروم، فعلى هذا لا مانع من منعه من الحج ما دام ليس بمحروم، وهذا قد يحتاج إليه في تأييد المصلحة المترتبة عليه؛ لأن الحاجة داعية إلى التحديد، يعني لو ترك المجال للناس مع تيسر الأمور قد يكون هذا على حساب الذين لم يؤدوا الفريضة، ولذا أفتى جمع من أهل العلم بأن لولي الأمر أن يمنع؛ لأنه لا شك أن الحاجة داعية إلى مثل هذا، لكن يبقى أن النصوص الأخرى يعني باقية على أصلها ((تابعوا بين الحج العمرة)) لمن لا يكون له أثر سلبي وجوده على بقية الحجاج؛ لأن بعض الناس ينفع أكثر، فمثل هذا لا مانع من أن يحج كل سنة. على كل حال الحرمان ظاهر فيمن تيسر له الحج فلم يحج، والحرمان أمر نسبي، يعني ليس معناه أنه محروم أنه فعل محرماً، نعم الحرمان أمر نسبي، يعني من ترك الواجب محروم، وهو أعظم في من ترك مستحب، وهو أيضاً محروم، يعني ماذا عن رجل قيل له: الصلاة على الجنازة بدأت، افتتحت الآن، قم فصل، قال: أنا صليت أمس على جنازة، هذا حرمان ظاهر، ومع ذلك ما نقول: إنه آثم؛ لأنه ترك مستحب، صلاة الجنازة فرض كفاية قام به من يكفي، لكن الحرمان ظاهر بالنسبة لهذا، فالحرمان من الأمور النسبية. يقول القرطبي: "وأنكرت الملحدة" يعني جنس الحج "فقالت: إن فيه تجريد الثياب، وذلك يخالف الحياء".

المقدم: هذا مثل سؤالنا في الحلقة الماضية عن بعض الكتبة بكل أسف ممن قال: في الحج بعض الطقوس الوثنية، يلفون حول الكعبة، يقبلون حجر، يرمون حصى، يقفون في بيداء وغير ذلك. لكن المسلم بل الجن والإنس الهدف الشرعي، الهدف الرباني من إيجادهم وخلقهم تحقيق العبودية، والعبودية لا تتم إلا بالدخول بالإسلام الذي هو الاستسلام الكامل، وقدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم، لا بد أن يستسلم الإنسان للأوامر والنواهي بغض النظر عرف الحكمة لا بأس، لم يعرف الحكمة عليه أن يستسلم، ما دام ثبت الأمر والنهي عليه أن يقول: سمعنا وأطعنا، ولذا لو لحظت مثلاً كتب التفسير عند المتقدمين وعند المتأخرين، في قوله -جل وعلا-: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [(27) سورة الحج] تجد المتأخرين يطنبون في بيان هذه المنافع، بينما عند المتقدمين إشارات يسيرة جداً، وبعضهم لا يلتفت إليها، لماذا؟ المقدم: المصلحة العظمى ... لأن الامتثال عند المتقدمين ما يحتاج إلى معرفة حكمة، بينما كثر التساؤل عند المتأخرين، لماذا كذا؟ لماذا شرع كذا؟ لماذا نفعل كذا؟ فصار العلماء يعنون ببيان الحكمة، وإظهارها لهم، إضافة إلى أن الأصل في الامتثال هو النص، نعم. يقول: "أنكرت الملحدة الحج فقالت: إن فيه تجريد الثياب، وذلك يخالف الحياء، وفيه السعي" والمفهوم أنه معروف السعي بين الصفا والمروة بين العلمين النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يسعى سعياً شديداً حتى كانت الركب تنكشف. "والسعي وهو يناقض الوقار" الجري يناقض الوقار "ورمي الجمار لغير مرمى، وذلك يضاد العقل" لكن هذا الذي يقول هذا الكلام في تجريد الثياب إذا أراد أن يزاول الرياضة التي نصحه الأطباء بها يجرد الثياب، ويسعى ويجري، نظراً لمصلحة بدنه، أما مصلحة الدين هذا يخرق الحياء، وأيضاً يناقض الوقار، ورمي الجمار لغير مرمى ذلك يضاد العقل، وتجده يقول ويفعل ما يناقض العقل في كل لحظة. "فصاروا إلى أن هذه الأفعال كلها باطلة، إذ لم يعرفوا لها حكمة ولا علة، وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به" يعني لو افترضنا أن السيد قال: خذ هذا مبلغ اشتر كذا، هل للعبد أن يقول: لماذا أشتري؟

المقدم: وماذا تريد منه؟ وما هي الحكمة؟ نعم له ذلك؟ المقدم: أبداً. وهذه مسألة يعني عبودية ناقصة فكيف بالعبودية لله -جل وعلا-، الذي لا يسأل عما يفعل. "وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه، وإنما يتعين عليه الامتثال، ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود، ولهذا المعنى كان -عليه الصلاة والسلام- يقول في تلبيته: ((لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً)) امتثال عبودية تامة ((لبيك إله الحق)). في تفسير الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- المسمى: (أضواء البيان) في قوله -جل وعلا-: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [(27) سورة الحج] اللام هي لام التعليل، وهي متعلقة بقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [(27) سورة الحج] الآية، أي: إن تؤذن فيهم يأتوك رجالاً وركباناً؛ لأجل أن يشهدوا. المقدم: منافع. أي: يحضروا منافع لهم، والمراد بحضورهم المنافع يعني مجرد مشاهدة المنافع، أو حصول هذه المنافع لهم؟ المقدم: حصولها. والمراد بحضورهم المنافع حصولها لهم. وقوله: {مَنَافِعَ} [(27) سورة الحج] جمع منفعة، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي؟ وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، ومنها ما هو أخروي، أما الدنيوي فكأرباح التجارة؛ لأن الله أباح لهم أن يبتغوا فضلاً من ربهم، فكأرباح التجارة، إذا خرج الحاج بمال تجارة معه، فإنه يحصل له الربح غالباً، وذلك نفع دنيوي. يعني إذا كسدت البضاعة في بلده، واصطحبها معه إلى الحج لا بد أن يجد زبون، وذلك نفع دنيوي ... إلى آخر ما قال -رحمه الله تعالى-. قلت: أما المنافع الأخروية فلو لم يكن منها إلا ما صح به الخبر من أن ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) يعني هذه يقابلها شيء؟ ((والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). في التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور هذا تفسير من المعاصرين، تفسير جيد، فيه فوائد ونفائس، وفيه أيضاً إطلاع للقارئ على أسرار التعبير القرآني، وإعجازه وبيانه.

المقدم: ابن عاشور معاصر. إي نعم هو متوفى، لكنه من المتأخرين. المقدم: مصري يا شيخ؟ لا، تونسي. المقدم: تونسي، له غير التحرير والتنوير؟ إيه له، له، مكثر -رحمه الله-، وهو صاحب تحرير، والكتاب على اسمه، نعم. قوله: {لِيَشْهَدُوا} [(27) سورة الحج] يتعلق بقوله: {يَأْتُوكَ} [(27) سورة الحج] فهو علة لإتيانهم الذي هو مسبب عن التأذين بالحج، فآل إلى كونه علة في التأذين بالحج. ومعنى {لِيَشْهَدُوا} [(27) سورة الحج] ليحضروا منافع لهم، أي: ليحضروا فيحصلوا منافع لهم، إذ يحصل كل واحد ما فيه نفعه، وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم -عليه السلام- من الثواب، فكنى بشهود المنافع عن نيلها، ولا يعرف ما وعدهم الله ذلك بالتعيين، وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه. وتنكير منافع للتعظيم المراد منه الكثرة، وهي المصالح الدينية والدنيوية؛ لأن في مجمع الحج فوائد جمة للناس لأفرادهم من الثواب، والمغفرة لكل حاج، يعني بشرطه، مع انتفاء المانع، لا شك أن الحج سبب للمغفرة، لكن لا بد مع وجود الشرط والسبب انتفاء المانع؛ لئلا يعتمد على مثل هذا؛ لأن بعض الناس يضمن أنه حج خلاص رجع من ذنوبه، لا يلزم، قد يتلبس بمانع يمنع من قبول حجه، ولمجتمعهم؛ لأن في الاجتماع صلاحاً في الدنيا بالتعارف والتعامل. انتهى كلامه -رحمه الله-. أقول: للعلماء من هذه المنافع أوفر الحظ والنصيب، حيث يلتقون من أقطار الأرض، العلماء من المشرق ومن المغرب، ومن كافة الأقطار والأقاليم، حيث يلتقون من أقطار الأرض، ويبحثون ويتباحثون ما يشكل عليهم من مسائل علمية، ويروي بعضهم عن بعض، يعني بعض الناس ما يتيسر له أن يرحل من المشرق إلى المغرب والعكس والرحلة معروفة عند أهل العلم. المقدم: ولذلك يلقى بعضهم بعضاً في الحج. في الحج. المقدم: ويروي بعضهم عن بعض. ويروي بعضهم عن بعض، ويتباحثون بعض المسائل، وعند بعضهم إشكالات، وعند الآخر إشكالات ليست عند الآخر، وتتلاقح الأفكار في مثل هذه الاجتماعات الطيبة.

ويروي بعضهم عن بعض وهكذا، وكم في رحلاتهم إلى هذه المشاعر من فوائد علمية عظيمة، نعم، يعني لو أخذنا مثال رحلة ابن رشيد، يعني رحلة في خمسة أسفار، مملوءة بالفوائد العلمية اسمها: (ملئ العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى مكة وطيبة) يعني التقى بالعلماء في طريقه كله، ولا شك أن الرحلات فيها فوائد كثيرة، لكن بعضها هي متفاوتة، يعني على أقدار المؤلفين وقدراتهم، بعض الرحلات لا قيمة لها، بل بعضها ضار، يعني لا يعني أن كل الرحلات فيها فوائد، نعم فيها متعة من جهة، لكن يبقى أن بعض الرحلات بعض الرحالة، يعنى بأمور حقيقة إماتتها أفضل من ذكرها، وقد يرتكب في رحلاته بعض المخالفات، فيسطر هذه المخالفات، ويشهد الناس عليها، وهذا موجود في المتقدمين والمتأخرين، يعني رحلة ابن بطوطة مشحونة بالأمور المخالفة لتوحيد الإلهية، لا يعني أننا إذا مدحنا هذه الرحلات أن الرحلات كلها نافعة، لا، لكن رحلات أهل العلم، أهل الورع أهل التقى لا شك أنها نافعة. الساسة أيضاً لهم نصيبهم من هذه المنافع، بحيث يبحثون ويتباحثون ما يصلح شئون رعاياهم، وللعامة أيضاً ما يناسبهم من منافع، ولذلك جاءت المنافع نكرة، ونكرة في سياق الامتنان، فدلت على عموم هذه المنافع. المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، ولعلنا نكتفي بهذا، على أن نعد الإخوة والأخوات -بإذن الله- أن نستكمل ما تبقى من شرح هذا الحديث في كتاب الحج في حلقة قادمة. أيها الإخوة والأخوات كنا وإياكم مع صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، شرح بداية حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. نستكمل -بإذن الله- في حلقة قادمة، وأنتم على خير، شكراً لطيب متابعتكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (3)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (3) الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير المقدم: مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير الذي يتولى شرح أحاديث هذا الكتاب، ونشكر له تفضله بقبول دعوتنا، فأهلاً ومرحباًَ بكم يا شيخ. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. لا زلنا في أول حديث في هذا الكتاب في باب وجوب الحج وفضله، في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. أشرتم إلى حديث في باب وجوب الحج وفضله، فيما يبدو في الحلقة الماضية. نستكمل يا شيخ. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بقي الحديث عن مناسبة الحديث للترجمة، والرابط بين الحديث وما ترجم به الإمام البخاري من قوله: باب وجوب الحج وفضله، وذكر الآية، آية آل عمران. المناسبة لا شك أنها ظاهرة؛ لأنها قالت –أعني الخثعمية- ماذا قالت؟ "إن فريضة الله على عباده في الحج". المقدم: ما يعني أنها تعلم بوجوب الحج. نعم فرضية الحج ووجوبه أمر مستفيض، حيث قالت: "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة". يقول الحافظ ابن حجر: "وأما فضله فمشهور، ولا سيما في الوعيد على تركه في الآية؛ لأنه قال في الآية: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران]. يقول: وسيأتي في باب مفرد، ولكن لم يورد المصنف في الباب غير حديث الخثعمية، وشاهد الترجمة منه خفي، نعم الترجمة باب وجوب الحج وفضله، وهي تقول: "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي" كيف يقول الحافظ ابن حجر: شاهد الترجمة منه خفي؟ المقدم: لأنه لم يأتِ الفضل إلى الآن في الحديث. يعني إذا أثبتنا الفريضة لا يثبت الفضل من باب أولى؟ يعني إذا ثبت الفضل للنفل، فكيف بالفرض؟ إذا كان النفل فيه فضل، فكيف بما افترض الله؟! المقدم: يعني هذا يمكن يقال: إنه مجرد فهم، لكن دائماً أهل العلم يفصلون بين الوجوب وبين الفضل، يسوقون أدلة الفضل في أبواب مستقلة يا شيخ. ((وما تقرب إلي عبدي)).

المقدم: ((بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) ((مما افترضته عليه)) وهذا عين الفضل، قد يكون هناك أحاديث تبين فضل الحج، فيها الفضل أظهر من هذا الحديث، وإن كان فضل الفريضة ظاهر ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) والأحاديث كثيرة جداً في هذا الباب. قال: ولكن لم يورد المصنف في هذا الباب غير حديث الخثعمية، وشاهد الترجمة منه خفي، وكأنه أراد إثبات فضله من جهة تأكيد الأمر به بحيث إن العاجز عن الحركة إليه يلزمه أن يستنيب غيره، ولا يعذر بترك ذلك. وهذا يرجع إلى قولها: "إن فريضة الله" لأنه إذا لم يسقط عن العاجز فهو فريضة، هذا الكلام الذي ليس بصريح، ليس بصريح كلام الحافظ، أصرح منه قولها: "إن فريضة الله على عباده" يعني كون العاجز لا يعفى ولا يعذر، بل عليه أن يستنيب هذا يدل على الفضل وإلا على الفرضية؟ المقدم: على الفرضية يا شيخ. على الفرضية، نعود إلى ما هو أصرح منه من قولها: "إن فريضة الله على عباده". المقدم: أدركت أبي. نعم، يقول: وكأنه أراد إثبات فضله من جهة تأكيد الأمر، بحيث إن العاجز عن الحركة إليه يلزمه أن يستنيب غيره ولا يعذر بترك ذلك. ويقول العيني: مطابقته للترجمة تُدرك بدقة النظر، وذلك أن الحديث يدل على تأكيد الأمر بالحج، حتى إن المكلف لا يعذر بتركه عند عجزه عن المباشرة بنفسه، بل يلزمه أن يستنيب غيره، وهذا يدل على أن في مباشرته فضلاً عظيماً. يقول: فمن هذا تؤخذ المطابقة بين الترجمة والحديث، قريب من كلام ابن حجر، قريب جداً من كلام ابن حجر، ونعود إلى أنهم استنبطوا الفضل بالمفهوم، يعني مفهوم كونه لم يعذر مع العجز يدل على أن هذا لا يسقط حتى عن العاجز، وهذه حقيقة الفرض، وقد نصت على أنها فريضة، فكيف نلجأ إلى الاستنباط من المفهوم وعندنا المنطوق؟ واضح وإلا ما هو بواضح؟ المقدم: واضح جداً، والمنطوق أولى. بلا شك. هم أرادوا أن يقرروا أنها بقولها: "أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أنه عاجز، ولم يعذر، ولم يعف من ذلك، بل عليه أن ينيب. المقدم: مما يدل على الفرضية.

فهذا يدل على الفرضية، هذا أخذاً من مفهوم قولها، وعندنا منطوق قولها: "إن فريضة الله على عباده في الحج" والاستدلال بالمنطوق أولى من الاستدلال بالمفهوم، نعم يتظافر الأمران، نستدل بالمنطوق أولاً، ثم نردفه بدلالة المفهوم، وإذا أثبتنا أنه فريضة، وأنه لا يسقط عن العاجز، فهو أحب إلى الله من النوافل، والنوافل فيها فضل عظيم، إذاً الفرائض هي أكثر فضلاً، وأعظم أجراً. المقدم: لكن ألا يمكن أن يقال بأن سؤالها –أحسن الله إليكم يا شيخ- في فرضية الحج هي تعتقد عندما سألت أن تشريعاً معيناً سيكون في إسقاط الحج عن العاجز، ولهذا سألت، فهي سألت وهي لا تدري هل يجب عليه وإلا ما يجب؟ إذ لو كانت تعلمه وجوبه على والدها في حال عجزه لما سألت. لم تسأل. المقدم: إي نعم، فبالتالي هي تقول: فريضة لا شك، وهي تعلم أن فريضة الله على العباد هي الحج، ومفروض، لكنها سألت لترى هل يسقط عنه أو لا يسقط أو ينيب؟ فبالتالي استدلالهم بالمفهوم يكون لهذا السبب. لا نختلف معهم في أن سؤالها له وجه ووجيه، سؤالها وجيه، لكنها قالت: "فريضة" وأقرها النبي -عليه الصلاة والسلام- أنها فريضة، وهم استدلوا بكونها لا تسقط عن العاجز أنها فريضة، يعني ما راحوا بعيد، استدلوا بما يفهم من كونها لا تسقط، استدلوا به على أن الحج فريضة، ولا يعذر بتركه، ولو كان عاجزاً. المقدم: لكن في فرائض يا شيخ منصوص على فرضيتها تسقط في حالات معينة. هذا لو قيل: لماذا سألت وهي تعتقد أنه فرض؟ هي تسأل عن قبول هذا الفرض للنيابة، يعني هل هو مثل الصلاة ما يقبل النيابة؟ التبس عليها الأمر، فهي تسأل عن هذا، ولا إشكال عندها في أنه فريضة، بدليل أنها قالت: "إن فريضة الله" فهي تسأل عن هذه الفريضة هل تقبل النيابة أو لا؟ فسؤالها وجيه من جهة أنها تريد أن تحج عن أبيها. "كان الفضل بن العباس" في الاستيعاب لابن عبد البر الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا محمد، أمه أم الفضل، لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية، أخت ميمونة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-.

غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حنيناً، وشهد معه حجة الوداع، وشهد غسل النبي -عليه الصلاة والسلام-، تغسيله، وهو الذي كان يصب الماء على علي يومئذٍ، واختلف في وقت وفاته. المقدم: هو أكبر من عبد الله يا شيخ. إيه، أكبر بلا شك. المقدم: عبد الله ما حضر حجة الوداع؟ إلا حضر. المقدم: عبد الله بن عباس؟ حضر نعم، حضر وهو راوي الحديث. المقدم: لأنه يروي أحياناً دون .... يروي عن أخيه، بدليل أنه لم يحضر القصة، هو يرويه عن أخيه الفضل لم يحضر القصة، لماذا؟ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قدمه في الضعفة، عبد الله بن عباس كان فيمن قدم من الضعفة. المقدم: وبالتالي يرويها عن أخيه الحادثة. عن أخيه، فالحديث من مسند ابن عباس، والقصة لأخيه، يروي قصة أخيه عنه. اختلف في وقت وفاته، فقيل: أصيب في يوم أجنادين في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- سنة ثلاث عشرة، وقيل: مات الفضل في طاعون عمواس في الشام، سنة ثمان عشرة، وقيل: إنه قتل يوم اليرموك سنة خمس عشرة، في خلافة عمر -رضي الله تعالى عنه-. وكان الفضل أجمل الناس وجهاً، ولم يترك ولداً إلا أم كلثوم تزوجها الحسن بن علي، ثم فارقها، فتزوجها أبو موسى الأشعري. "كان الفضل رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" الرديف: الذي تحمله خلفك على ظهر الدابة، تقول: أردفته إردافاً وارتدفته فهو رديف وردف، ومنه ردف المرأة عجزها، والجمع أرداف، واستردفته سألته أن يردفني، وأردفت الدابة ورادفت إذا قبلت الرديف، وقويت على حمله، وجمع الرديف رُدافى على غير قياس، وقال الزجاج: ردفت الرجل بالكسر إذا ركبت خلفه، وأردفته إذا أركبته خلفك، وردفته بالكسر أيضاً لحقته وتبعته، وترادف القوم تتابعوا، وكل شيء تبع شيئاً فهو ردفه ورديفه. جاء في نصوص كثيرة عن الصحابي أنه كان رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول معاذ: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول ابن عباس: كان الفضل رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد جمع ابن منده الأصبهاني كتاباً ذكر فيه أسماء من أردفه النبي -صلى الله عليه وسلم- على الدابة، فبلغ بهم نيفاً وثلاثين رجلاً. ولا شك أن في هذا تواضع من النبي -عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: وسمى الكتاب؟ ذكر من أردفهم النبي -عليه الصلاة والسلام-. المقدم: موجود يا شيخ؟ هم ذكروه الشراح، وأنا ما وقفت عليه. يقول: في هذا تواضع من النبي -عليه الصلاة والسلام- حيث من عادة أهل الكبر ألا يركب معهم أحد، بينما الرسول -عليه الصلاة والسلام- أردف، وفيه أيضاً فضل للفضل بن عباس، حيث حصل على هذه المكرمة من النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفيه أيضاً جواز الإرداف على الدابة شريطة أن تكون تطيق ذلك، والملحوظ في الدواب عدم تحميلها أكثر مما تطيق؛ لأنها تحس وتتألم، لكن فماذا عن الآلات التي تنقل عليها الأمتعة والبضائع؟ إذا قرر المصنع أن حمولة هذا السيارة خمسة طن، فقال صاحبها: هي ملكي ولا تتأثر وتتحمل، أشل عليها سبعة ثمانية عشرة يلام وإلا ما يلام؟ لماذا؟ المقدم: يلام حتى ما يؤثر على مثلاً على الطرق. هذه مسألة يعني إما أن يؤثر على الآلة نفسها. المقدم: أو على الآلة نفسها. وفي هذا إتلاف وضياع للمال. الأمر الثاني: أنه يتلف بها الطريق ونحوه، وقد تتعرض لمخاطر. المقدم: وهذا ملحوظ. العجلات وغير العجلات تسبب في حوادث وكوارث، ولذا جعلت الموازين على السكك، من أجل إيش؟ أن يحافظ على هذه الأموال، نعم قد يحمل الإنسان الطمع فيغفل عن أمور أخرى، وكما جاء في الخبر: "رب عجلة تهب ريثاً" هذا يريد أن يحمل هذه البضائع في مرة واحدة، وهي تحتاج إلى مرتين. المقدم: فيتأخر خمس مرات. فيتأخر نعم، المقصود أن مثل هذا لا بد من ملاحظته. "فجاءت امرأة من خثعم" في جمهرة أنساب العرب لابن حزم يقول: ولد خثعم: حُلف بن خثعم، بالحاء غير منقوطة مضمومة ولام ساكنة، وفي الناس من يقول: حلِف بلام مكسورة، فولد حُلف عفرس، فولد عفرس ناهس وشهران، يقول: إليهما العدد والشرف من خثعم، وفي نهاية ... كلام طويل لابن حزم لا نحتاج إليه.

في نهاية الأرب لمعرفة أنساب العرب للقلقشندي يقول: بنو خثعم بطن من أنمار، من أراش من القحطانية، وبلادهم مع أخوتهم بجيلة، سروات اليمن والحجاز إلى تبالة، وفيه -في الكتاب المذكور- أنهم تفرقوا في الآفاق أيام الفتح، فلم يبق منهم في مواطنهم إلا القليل، ويقدم الحجاج منهم بمكة في كل سنة، وهم المعروفون بين أهل الموسم بالسروات. وذكر الحازمي في عجالة المبتدي في النسب، يقول: الخثعمي منسوب إلى خثعم بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، وقيل: خثعم هو أفتل بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الخيار بن الغوث ... إلى آخر كلامه. وقال ابن الكلبي: خثعم جمل كان يحمل لهم، وكان يقال: احتمل آل خثعم. وقال غيره: لما تحالفوا على بجيلة نحروا بعيراً فتلطخوا بدمه، وهذا البعير كان يسمى خثعم، أو فتخثعموا بدمه أي تلطخوا، أولاً ابن الكلبي يقول: خثعم: جمل كان يحمل لهم، وكان يقال: احتمل آل خثعم، وقال غيره: لما تحالفوا على بجيلة نحروا بعيراً فتخثعموا بدمه أي تلطخوا. وقال ابن إسحاق: خثعم هو أفتل بن أنمار، وخثعم جبل تحالفوا عنده، يقول: منهم أسماء بنت عميس الخثعمية وغيرها من الصحابة والتابعين وأهل العلم. في معجم قبائل العرب لعمر رضا كحالة: خثعم: قبيلة تقع ديارها على طريق الطائف أبها، بين منازل شمران في الشمال والغرب وبلقرن في الجنوب والشرق. من أقسامها: آل مرة، والسرهدان، والمزارقة، والسلمان وقال: خثعم بن أنمار: قبيلة من القحطانية، ثم ذكر نسبهم على ضوء ما تقدم. يقول: منازلهم كانت بجبال السراة، وما والاها، جبل يقال له: شي، وجبل يقال له: بارق، وجبار معهما، حتى مرت بهم الأزد في مسيرها من أرض سبأ، وتفرقها في البلاد فقاتلوهم، فأنزلوهم من جبالهم، وأجلوهم عن منازلهم. ونزلت خثعم ما بين بيشة وتَربة وظهر تبالة على محجة اليمن، يعني على طريق اليمن، من مكة إليها، وما صاقب تلك البلاد، وما والاها، فانتشروا فيها إلى أن أظهر الله الإسلام وأهله فتيامنت، يعني لعلها قرب من اليمن.

يقول ابن حجر في هدي الساري: "امرأة من خثعم لم تسم" في المقدمة يقول: "امرأة من خثعم لم تسم" وفي عمدة القاري نقلاً عن التوضيح: "هذه المرأة يجوز أن تكون غاثية أو غايثة". "فجعل الفضل ينظر إليها" وجاء في وصفها كما في رواية شعب في الاستئذان أنها كانت وضيئة، فأعجبه حسنها. "وتنظر إليه" لأنه أيضاً كان رجلاً وضيئاً، أي جميلاً كما في رواية شعيب المذكورة آنفاً. "وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر" أي: إلى الجهة الأخرى، وفي رواية: ولوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لو لويت عنق ابن عمك، قال: ((رأيت شاباً وشابة فلم آمن عليهم الشيطان)). "فقالت: يا رسول الله" والقصة لامرأة من خثعم. يقول ابن حجر: "اتفقت الروايات كلها عن ابن شهاب أن السائلة كانت امرأة، وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق، فاتفق الرواة عنه على أن السائل رجل، ذكر الحافظ ابن حجر الطرق والروايات للحديث. ثم قال: "والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل، وكانت ابنته معه، فسألت أيضاً. المقدم: سألت عن أبيها؟ تأتي بقية الكلام، أبوها حاج. المقدم: إي نعم هذا الغريب. يقول: وكانت ابنته معه، فسألت أيضاً، والمسئول عنه أبو الرجل. المقدم: الجد. الجد، وأمه جميعاً، ويقرب ذلك ما رواه أبو يعلى بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال: كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأعرابي معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجاء أن يتزوجها" ونحتاج هذا الكلام فيما بعد، فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجاء أن يتزوجها، وجعلتُ ألتفت إليها، الفضل، ويأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- برأسي فيلويه، يعني لعل الفضل فهم من القصة أن الرجل هذا جاء بابنته يعرضها على النبي -عليه الصلاة والسلام-، وجعلت تتكلم معه، تسأله؛ لتدخل إلى قلبه، رجاء أن يتزوجها فتحصل على الشرف العظيم ولأبيها كذلك.

الفضل كأنه فهم أيضاً من القصة هذا، جاء يعرضها للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وفهم من حال النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه ليس له بها حاجة، فجعل ينظر إليها علها أن تقع في نفسه، ويقع في نفسها فيتزوجها، كما جاء في قصة الواهبة لما صعد النبي -عليه الصلاة والسلام- النظر فيها وصوبه. المقدم: قيل: يا رسول الله إن لم يكن لك بها بك حاجة فزوجني. قال صحابي من الصحابة: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. لكن ماذا عن باقي القصة؟ هل تزوجها الفضل أو لم يتزوجها؟ ما ذكر، والذي يغلب على الظن أنه ما تزوجها؛ لأنه لو تزوجها نقلت، وقد يكون الرد من قبل أبيها، قد طمع بأمر عظيم وهو مصاهرة النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا يقنع بدونه. "وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبي -عليه الصلاة والسلام- برأسي فيلويه" فعلى هذا فقول الشابة: إن أبي لعلها أرادت به جدها؛ لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- ليسمع كلامها، ويراها، رجاء أن يتزوجها، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه، ولا مانع أن يسأل أيضاً عن أمه؛ لأنه جاء في بعض الروايات أن الرجل سأل عن أمه، وهذه البنت سألت عن أبيها، فتكون سألت عن جدها، والأب سأل عن أمه فتلتئم الروايات. يقول ابن حجر: تحصل من هذه الروايات أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعمي. والكلام له بقية. المقدم: إذاً لعلنا -إن شاء الله- نستكمل ما تبقى من هذا الموضوع، خصوصاً أن ثمة أسئلة في هذه القضية، نرجئها مع الإخوة والأخوات بإذن الله في الحلقات القادمة لاستكمال هذا الحديث. أيها الإخوة والأخوات كان هذا هو صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، نلقاكم -بإذن الله- لاستكمال حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في إرداف الفضل بن العباس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حلقة قادمة -بإذن الله- وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (4)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (4) الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهلاً ومرحباً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب التجريح الصريح لأحاديث الجامع الصحيح شرح كتاب الحج. مع بداية حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونسعد بالترحاب بكم مع مطلع حلقتنا، فأهلاً بكم فضيلة الدكتور. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. لا زلنا في باب وجوب الحج وفضله في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. توقفنا عند التعريف بالمرأة الخثعمية هذه وبوالدها، ومنهما، وأيضاً عن تحقيق القصة هل السائل الأب أو هي في الحلقة الماضية نستكمل يا شيخ. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. السؤال الذي تضمنه حديث ابن عباس في الحج عن الغير، وقع فيه أكثر من قصة، فهذه قصة الخثعمية قد سألت النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الحج عن أبيها نيابة، وجاء ما يدل على أن أباها أيضاً سأل عن أمه. يقول ابن حجر: ووقع السؤال عن هذه المسألة من شخص آخر، وهو أبو رزين -بفتح الراء وكسر الزاي- العقيلي بالتصغير، واسمه لقيط بن عامر، ففي السنن وصحيح ابن خزيمة وغيرهما من حديثه أنه قال: "يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، قال: ((حج عن أبيك واعتمر)) وهذه قصة أخرى، يقول ابن حجر: ومن وحد بينها وبين حديث الباب فقد أبعد وتكلف. "إن فريضة الله" فريضة بمعنى مفروضة، فريضة فعيلة بمعنى مفعولة. "فريضة الله على عباده" من المكلفين في الحج "أدركت أبي شيخاً" حال "كبيراً لا يثبت" صفة له، ويحتمل أن تكون أيضاً حالاً، ويكون من الأحوال المتداخلة، يعني أوصاف متداخلة، يعني كونه لا يثبت. المقدم: شيخ كبير لا يثبت على الراحلة. أوصاف متقاربة ومتداخلة، كونه شيخ يعني كبير، كونه لا يثبت على الراحلة؛ لأنه شيخ كبير، نعم.

يقول: ويكون من الأحوال المتداخلة، والمعنى أنه وجب عليه الحج بأن أسلم وهو بهذه الصفة، أو حصل له المال في هذه الحالة، يعني لما كان مستطيعاً للحج ببدنه كان عاجزاً عن الوصول إلى تلك الأماكن لعدم القدرة على المال وعدم الاستطاعة، فحصل له المال بعد أن صار شيخاً كبيراً. المقدم: كيف يا شيخ؟ نعم؟ المقدم: كيف الحج ... ؟ يقول: المعنى أنه وجب عليه الحج بأن أسلم وهو بهذه الصفة. المقدم: لكن قصدك العام الماضي كان عنده لأنه ما في حج أصلاً. والمعنى أنه وجب عليه الحج بأن أسلم وهو بهذه الصفة، أو حصل له المال في هذه الحالة، تقول: هذه حجة الوداع. المقدم: إي نعم، إي نعم، كيف يكون أدرك الحج ولا عنده مال، ثم لما أدرك المال صار كبيراً في السن؟ ما يستقيم هذا. يعني أسلم، نعم أسلم وعنده مال. المقدم: طيب، لكن ليس هناك حج. لكن لما أدركه الحج لا ينطبق عليه الوصف. المقدم: هذا هو نعم. هو كونه أسلم بهذا الصفة. المقدم: لم يجب عليه الحج بعد لأنه لم يوجب الحج. أسلم وهو بهذه الصفة، أنت تظن أنه من لازم هذه العبارة أن يكون إسلامه قرب حجة الوداع؟ المقدم: لا ليس بالضرورة. ما يلزم، أسلم قديماً مثلاً وهو بهذه الصفة عاجز، أو أسلم قديماً وهو قادر بالنفس والمال ولم يفرض الحج إلا بعد. "لا يثبت على الراحلة" وفي رواية: "لا يستطيع أن يستوي" وفي رواية ابن عيينة: "لا يستمسك على الرحل" وفي رواية: "وإن شددته خشيت أن يموت" وعند ابن خزيمة: "وإن شددته بالحبل على الراحلة خشيت أن أقتله" كيف يشد؟ يمكن أن يشد على الراحلة؟ المقدم: إي نعم كانوا يربطونهم يا شيخ؟ يربطونه وإلا يربطون ما يستمسك بحيث يجلس عليه؟ لأن الركوب على الراحلة، تصور أن الركوب على الراحلة لا بد أن يشد مثلما يشد. المقدم: حزام الأمان مثلاً يا شيخ. ما يكفي، حزام الأمان أنت عن يمينك باب وعن يسارك راكب. المقدم: لكن كانوا يربطون أرجلهم في مؤخرة الرحل، ويربط أحياناً يمكن يربط أكتافه، ولو شده لقتله. هو يلزم من هذا أن يشد مثلما يشد المتاع وإلا يسقط. المقدم: إي نعم هذا هو.

لأن الركوب على الراحلة ما هو مثل الركوب على السيارة، فيها غلق، وفيها أبواب، لا، يعني تصور لو وضعنا حزام الأمان على بعير وربطناه. المقدم: ما يستقيم. ما يمكن يسقط، ولذا لا بد أن يشد مثلما يشد العفش، وهذا يقتله بلا شك. "وإن شددته خشيت أن يموت" وعند ابن خزيمة: "وإن شددته بالحبل على الراحلة خشيت أن أقتله" لكن بالإمكان أن يشد هودج وإلا محفة وإلا شيء، ويجلس فيه يكون وضعه مثل وضعه في السيارة. قال ابن حجر: وهذا يفهم منه أن من قدر على غير هذين الأمرين من الثبوت على الراحلة، أو الأمن عليه من الأذى لو ربط لم يرخص له في الحج عنه، كمن يقدر على محمل موطأ كالمحفة. "أفأحج عنه؟ " أي: أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه؟ لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدر، يقول الكرماني: فإن قلت: الهمزة تقتضي الصدارة، والفاء تقتضي عدم الصدارة، لماذا؟ نعم الهمزة تستحق الصدارة، لها الصدارة، لكن الفاء لماذا لا تقتضي عدم الصدارة؟ لأنها عاطفة، لا بد أن تكون بعد معطوف عليه. يقول: فأين المعطوف عليه؟ قلت: هي عاطفة على مقدر بعد الهمزة أي: أنوب عنه، فأحج عنه، وفي رواية "فهل يقضي عنه أن أحج عنه" وفي حديث علي: "هل يجزئ عنه أن أحج عنه؟ ". قال: ((نعم)) وفي حديث أبي هريرة: ((احجج عن أبيك)) وتقدم في حديث أبي رزين عند ابن خزيمة وغيره: ((حج عن أبيك واعتمر)) وذلك في حجة الوداع. المقدم: كل الروايات بالرفع "أفأحج" يا شيخ؟ إي نعم إيه. وذلك في حجة الوداع، قال الكرماني: بكسر الحاء وفتحها حَجة وحِجة، وسميت بذلك لأنه -عليه الصلاة والسلام- ودع الناس فيها، وليست هذه الإضافة للتقييد التمييزي؛ لأنه لم يحج بعد الهجرة إلا هذه الحجة، يعني لو قال: وذلك في حجة الوداع هل يفهم منه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حج قبلها؟ المقدم: أبداً.

نعم، يقول: وليست هذه الإضافة للتقييد التمييزي؛ لأنه لم يحج بعد الهجرة إلا هذه الحجة، نعم حج -عليه الصلاة والسلام- قبل الهجرة مرة أو مرتين على طريقة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه لم يكن الحج فرض، ولذلك استنكر جبير بن مطعم وقوف النبي -عليه الصلاة والسلام- بعرفة مع أفناء الناس، ما وقف، الحمس ما يخرجون عن الحرم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- من قريش الذين هم من الحمس، فلما أضل بعيره جبير بن مطعم، وذلك قبل أن يسلم؛ لأنه جاء في فداء أسرى بدر، ثم أسلم بعد ذلك، قبل أن يسلم رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- واقف بعرفة مع الناس فاستنكر. المقدم: هذا قبل الهجرة. قبل الهجرة، وهذه في الصحيح القصة. الحديث فيه فوائد كثيرة جداً، الإحاطة بها، وتفصيلها يحتاج إلى وقت طويل، يعني يستوعب كل الوقت، لكن أشرنا سابقاً إلى جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة، وتقدم النقل عن ابن منده أنه جمع كتاباً فيه أسماء من أردفه النبي -عليه الصلاة والسلام- معه الدابة، فبلغ بهم نيفاً وثلاثين رجلاً، ولا شك أن هذا يختلف باختلاف أوزان الأشخاص، بعض الأشخاص لا يجوز أن يردِف، بعض الأشخاص لا يجوز أن يردَف لثقله، نعم يؤثر على الدابة سواءً أردف أو أُردف؛ لأنه ثقيل، وبعض الدواب تطيق ثلاثة أو أربعة من الذين أوزانهم خفيفة، فهذه مسألة تقدر بقدرها، والمنظور إليه هو طاقة الدابة وعدم ظلمها؛ لأنها تتألم. وأما الحمل على الآلات من غير ذوات الأرواح تقدم الكلام فيه. يقول النووي والكرماني: فيه جواز سماع صوت الأجنبية عند الحاجة، في الاستفتاء والمعاملة وغير ذلك، شريطة أمن الفتنة، وعدم الخضوع في القول.

وكون صوت الأجنبية عورة أو ليس بعورة محل خلاف بين أهل العلم، لكن دلت النصوص على أن المرأة تستفتي، وتجاب تسمع كلام الرجل ويجيبها، لكن مشروط بأمن الفتنة، وعدم الخضوع المنهي عنه {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [(32) سورة الأحزاب] ومع وجود هذه الآلات من الهاتف والإنترنت وغيره زادت الفتنة بحيث يخلو الإنسان يستطيع الخلوة من خلال الجهاز بامرأة بعيدة عنه كل البعد وبواسطته تقرب، ويكثر السؤال مع الاسترسال في الحديث الذي هو مجرد تبادل مشاعر وشجون كما يقول الشباب والشابات، لكن هذا هو الذي جر الكوارث والمصائب، يعني إذا كان مبدأ الفتنة من النظر، فأيضاً الكلام جر كوارث. . . . . . . . . . ... والأذن تعشق قبل العين أحياناً وبعض الناس يضيع من الأوقات، ويهدر من الأوقات يتحدث مع فلان وفلانة من خلال الإنترنت، بما جر المصائب، وبما أيضاً حملهم على ترك الواجبات، والتساهل في كثير من المحرمات، لا شك أن مثل هذه الأمور تحتاج إلى حزم، وعلى الشاب أن يبتعد كل البعد عن مواطن الشبه. المقدم: أحسن الله إليكم، الذين قالوا بأن صوت المرأة عورة، هل استثنوا يعني كثرة الاستثناءات في حكمهم هذا؟ استثنوا الاستفتاء، استثنوا الرد. يستدلون بأدلة منها أنه ليس على المرأة أذان ولا إقامة، وأنها لا ترفع صوتها بالتلبية، وأمور كثيرة. المقدم: إيه، لكن استثناءاتهم؟ وين؟ المقدم: عن هذا الحكم هل استثنوا أن المرأة تخرج صوتها في مناسبات في أوقات وإلا لا؟ يعني إن كثرت ... يجعلون الأصل المنع. المقدم: وكثرة الاستثناءات ألا تضعف؟ هم يجعلون الأصل المنع، وإبداء هذا الصوت للضرورة والضرورة تقدر بقدرها، بحيث لو وجد مثلاً امرأة بحاجة إلى فتوى بالهاتف مثلاً، تتصل على الشيخ فلان وتستفتيه، هذا على قول من يقول بالجواز ما فيه إشكال. المقدم: وعلى قول من يقول بالحرمة أيضاً ما فيه إشكال؟ لا فيه إشكال إن كان أبوها موجود، إن كان أخوها موجود، إذا كانت الحاجة تقوم بغيرها، فيه إشكال. المقدم: إذاً تضييق هذه الاستثناءات.

إيه بلا شك، والاحتياط مطلوب، والتوسع الموجود الآن من النساء غير مرضي بلا شك؛ لأنه جر مشاكل؛ لأن الأصوات فاتنة الآن، سواءً كانت من قبل بعض النساء، أو من قبل بعض الرجال، وكم من امرأة عفيفة صالحة صينة دينة وقعت في حبائل بعض الناس من خلال الهاتف. المقدم: صحيح. فلا شك أن القول بأن صوتها عورة من باب الاحتياط للمحارم والأعراض، وإن دلت الأدلة الكثيرة على أنه مع أمن الفتنة، وعدم الخضوع هو صوت يعني. يقول النووي: فيه تحريم النظر إلى الأجنبية. يقول الشنقيطي -رحمه الله-: ومحل الشاهد من الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- صرف وجه الفضل عن النظر إليها، فدل على أن نظره إليها لا يجوز. ولا شك أن الإنكار باليد أبلغ من الإنكار باللسان، فكونه صرف وجهه ولوى عنقه. المقدم: عنقه، نعم كدت تقتل ابن عمك. أو لويت عنق ابن عمك. يقول: فيه تحريم النظر إلى الأجنبية، ووجوب غض البصر من الطرفين للأمر الصريح به في القرآن، هو انتهى كلامه عند الأجنبية. أنا أقول: ووجوب غض البصر من الطرفين للأمر الصريح به في القرآن الكريم، فكما أن الرجل مطالب بغض البصر فالمرأة كذلك، فكما أن الرجل {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [(30) سورة النور] {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [(31) سورة النور] الأسلوب واحد، ولذا التفريق بين الرجل والمرأة من حيث النظر وتكراره وتحديده لا وجه له؛ لأن السياق واحد. قد يقول قائل: إن هناك وقائع وقصص تدل على أن بعض النساء رأت الرجال، والنبي -عليه الصلاة والسلام- ستر عائشة، وجعلها تنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون. نقول: النظر إلى العموم لا إشكال فيه، لكن تحديد بشخص بعينه هذا هو المأمور بغض البصر عنه، فكما أن الرجل مطالب بغض البصر فالمرأة كذلك، فلا يجوز للرجل أن يرسل بصره في النظر إلى الأجنبيات، وجاء العفو عن نظر الفجأة غير المقصودة، وأما النظرة الثانية فليست له بالنص، وكذلك المرأة لا يجوز لها أن تردد النظر في رجل بعينه، ويستوي ذلك النظر المباشر، ومن خلال الآلات، لو كان النظر بواسطة آلات من وسائل إعلام من صحف ومجلات وقنوات كل هذا لا يجوز.

يقول الحافظ ابن كثير في تفسير آية النور: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [(30) سورة النور] يقول: "هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغمضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعاً، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس بن عُبَيد عن عمرو بن سعيد عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير عن جده جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله تعالى عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرفَ بَصَري. وكذلك رواه الإمام أحمد عن هُشَيْم عن يونس بن عبيد به. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثه أيضاً، وقال الترمذي: حسن صحيح، وفي رواية لبعضهم: ((أطرقْ بصرك)) يعني: انظر إلى الأرض، والصرف أعم ((اصرف بصرك)) أعم من الإطراق؛ لأنه يتجه إلى أي جهة من الجهات غير الجهة التي فيها هذه المنظورة، فالصرف أعم؛ فإنه يكون إلى الأرض وإلى جهة أخرى، والله أعلم. وقال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن موسى الفَزَاري حدثنا شَريك عن أبي ربيعة عن عبد الله بن بُرَيْدة عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: ((يا علي لا تتبع النظرة النظرةَ، فإن لك الأولى، وليس لك الآخرة)). ثم قال ابن كثير: ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب، كما قال بعض السلف: "النظر سهم سم إلى القلب" يعني سهم مسموم، ولابن القيم كلام طويل حول النظر، وتأثيره على القلب، كلام طويل جداً في النظر والبصر وإرساله، وفضول النظر إلى ما لا يحتاج إليه، فكأن فضول النظر إلى غير المحرمات له أثر على القلب لأنه يشتت الذهن، فكيف بالنظر إلى ما حرم الله -جل وعلا-؟! استدل بالحديث من يرى جواز كشف الوجه بالنسبة للمرأة، قالوا: الإخبار عنها بأنها كانت وضيئة يفهم منها أنها كانت كاشفة عن وجهها.

وأجاب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عن ذلك من وجهين، ونستحضر ما ذكرناه في الحلقة السابقة أنه في طرق الحديث ما يدل على أن أباها هو الذي جاء يعرضها للنبي -عليه الصلاة والسلام-، يعرض بها، عله أن يتزوجها، والنبي -عليه الصلاة والسلام- له أن ينظر إلى النساء، وليس عليهن حجاب عنه -عليه الصلاة والسلام- في قول جمع من أهل العلم، وهذا القول له مرجحاته، والنصوص الكثيرة تدل على ذلك. المقدم: والشنقيطي رد وين يا شيخ؟ في الأضواء؟ الشنقيطي في أضواء البيان في الجزء السادس صفحة ستمائة وما بعدها أجاب عن هذا الاستدلال من وجهين الأول: الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رآها كاشفة عن وجهها، ليس فيه تصريح، وأنه أقرها على ذلك؛ لأن عندنا من حيث الدلالة عندنا نص ما يحتمل، وعندنا ظاهر، يعني ظاهر الحديث أنها كاشفة، لكن ليس بنص على أنها كاشفة، ما في تنصيص على أنها كاشفة. وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- رآها كاشفة عنه وأقرها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة، وفي بعض روايات الحديث: أنها حسناء. المقدم: وين هذا تعرف منه؟ ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كاشفة عن وجهها، وأنه -صلى الله عليه وسلم- أقرها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها، تعرف الآن مسألة ركوب على دواب، ما هي المسألة مسألة استقرار بحيث تتحكم المرأة بسترها. بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها، يقول: كما أوضحناه في رواية جابر في حديث سفعاء الخدين، يمكن الخمار من غير قصد، وهذا يحصل كثير ترى، يحصل كثير يعني نساء متحجبات من ذوات التحري، ومع ذلك قد يبدو منها ما يبدو. المقدم: خصوصاً في موس الحج. وأما الوضاءة واللون قد من أنملة، من أناملها يبين هذا. نعم يقول: ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها.

"مع أن جمال المرأة -هذا من كلام الشيخ رحمه الله- قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة، وذلك لحسن قدها وقوامها" وهذا يفتن كثير من الرجال "وذلك لحسن قدها وقوامها، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط كما هو معلوم، ولذلك فسر ابن مسعود: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [(31) سورة النور] بالملاءة فوق الثياب. ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر: طافت أمامة بالركبان آونة ... يا حسنها من قوام. . . . . . . . . إيش؟ طافت؟ المقدم: أمامة، هذا بيسوقه الآن لبيان أنها تعرف جمالها وقوامها حتى لو لم تكشف، ولو كانت غير كاشفة. ولو كانت غير كاشفة، يقول: طافت أمامة بالركبان آونة ... يا حسنها من قوام ما ومنتقبا فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستوراً بالثياب لا منكشفاً. الوجه الثاني: أن المرأة محرمة، وإحرام المرأة في وجهها وكفيها، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها، وعليها ستره من الرجال في الإحرام، كما هو معروف عن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهن، ولم يقل أحد أن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل بن عباس، والفضل منعه النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها، وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذاً لإحرامها لا لجواز السفور. بقي لا ينظر إليها إلا النبي -عليه الصلاة والسلام- والفضل، الفضل صرفه النبي -عليه الصلاة والسلام- ما بقي إلا النبي -عليه الصلاة والسلام-، وذلك كما قرر أهل العلم أنه في حقه جائز. فإن قيل: كونها مع الحجيج مظنة أن ينظر الرجال إلى وجهها إن كانت سافرة؛ لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال.

فالجواب: أن الغالب على أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- الورع، وعدم النظر إلى النساء، فلا مانع عقلاً ولا شرعاً ولا عادة من كونها لم ينظر إليها أحد منهم، ولو نظر إليها لحكي كما حكي نظر الفضل إليها، ويفهم من صرف النبي -صلى الله عليه وسلم- بصر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة كما ترى، وقد دلت الأدلة على أنه يلزمها حجاب جميع بدنها عنهم. وبالجملة -يقول الشيخ-: فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية، وداع إلى الفتنة، والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع بعضهم يقول: قلت: اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقومُ المقدم: أعوذ بالله. أيرضى الإنسان أو يسمح له -لمثل هذا- بهذه النظرة إلى نسائه وأخواته وبناته، مثل هؤلاء الذين يتحينون الغرات من المؤمنات الغافلات، يسمح لهم أن ينظروا إلى الوجوه مع تقرير الشرع لجواز الكشف؟ الوجه هو مجتمع المحاسن، أيضاً أنا أقول: يحتمل أن المحل الذي فيه النبي -عليه الصلاة والسلام- في الرواية، أو هذه الرواية التي تدل على أن النبي -عليه الصلاة والسلام- رأى هذه المرأة يحتمل أنه كان في زاوية خالية من الناس، وهي العادة يعني إذا أرادت المرأة أن تستفتي ... المقدم: تأخذ زاوية. تأخذ زاوية، وتأخذ بيده، أو تشير إليه أن ينعزل عن الناس، يحتمل أنها في زاوية خالية من الناس سواه -عليه الصلاة والسلام- ورديفه. والمرجح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا حجاب عنه، وقد صرف وجه الفضل لا سيما إذا صحت الرواية التي تدل على أن أباها قصد ذلك ليتزوجها النبي -عليه الصلاة والسلام-، وتركها أيضاً تتحدث من أجل أن تدخل إلى قلبه -عليه الصلاة والسلام-. والحديث له بقية، فيه أحكام، وفيه أيضاً هذه المسألة تحتاج إلى مزيد بسط، وذكر لبعض الأدلة. المقدم: إذاً نرجئها -بإذن الله- إلى الحلقة القادمة لاستكمال ما تبقى من أحكام، وأطراف أيضاً هذا الحديث.

أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة في شرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. لقاءنا بكم في الحلقة القادمة -بإذن الله- وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ترى مناسب جداً أننا نتطرق للحجاب. المقدم: اللي تشوفه. يعني ولو باختصار.

كتاب الحج (5)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (5) الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهلاً بحكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله بقبول دعوتنا، فأهلاً ومرحباً بكم فضيلة الدكتور. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. شيخنا -أحسن الله إليك- في الحلقتين الماضيتين أو الثلاث كان الحديث في حديث ابن عباس، وفي إرداف النبي -صلى الله عليه وسلم- للفضل بن العباس، كنا توقفنا في مسألة الحجاب في هذا الحديث، ورؤية الفضل بن العباس للمرأة الخثعمية. لعلنا نبدأ الحديث في هذه الحلقة عن الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع في هذا الحديث، ثم نستكمل -بإذن الله-. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد تقدم الكلام على استدلال بعضهم بالحديث على جواز الكشف، كشف المرأة عن شيء من بدنها؛ لأن هذه المرأة الخثعمية وصفت بأنها كانت حسناء جميلة وضيئة، وقالوا: إنه لا يمكن إدراك ذلك إلا بالكشف.

تقدم الجواب عن هذا من كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- من وجهين، وزدنا أن المرأة كانت مع أبيها، وقد جاء ليعرضها على النبي -عليه الصلاة والسلام- عله أن يتزوجها، وفي مثل هذا المجال قد يبدى شيء من الزينة التي تُرغب في نكاحها، ولما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- هو صاحب الشأن المعروضة عليه، والفضل بن العباس ليس له دخل في هذا الموضوع صرفه النبي -عليه الصلاة والسلام-، كما ذكرنا سابقاً في حديث الواهبة أنها وهبت نفسها للنبي -عليه الصلاة والسلام-، فصعد النظر وصوبه، فيجوز النظر إلى المخطوبة، والفضل بن عباس كأنه ترخص في النظر إليها؛ لما رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- ليست له بها حاجة، فتعرض لها ونظر إليها، ونظرت إليه علها أن تقبله. المقدم: لكن ما يرد إشكال -أحسن الله إليك- في مسألة الخطبة في الحج، ومقدمات الخطبة، أو لم يرد النهي فيها، وإنما كان في النكاح، ومقدمات النكاح فحسب؟ المقصود أن مثل هذا قد يخفى على .. ، أولاً: ليس فيه تصريح بأنها خطبة، لا من قبل أبيها، لم يصرح بأنه يعرضها، ولا النبي -عليه الصلاة والسلام- صرح بخطبتها، أقول: مثل هذه الأمور التي ليس فيها تصريح الممنوع الخطبة، والخطبة بالكلام. أقول: لما استدلوا بمثل هذا الحديث على جواز الكشف -كشف الوجه-، ولهم أدلة أخرى نذكر منها: قول الله -جل وعلا-: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [(31) سورة النور] ويستدلون بتفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [(31) سورة النور] قال: وجهها وكفيها والخاتم، هكذا قال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- يقول: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [(31) سورة النور] أي: لا يُظهرْنَ شيئاً من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه.

قال ابن مسعود: كالرداء والثياب، يعني: على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المِقْنعة التي تُجَلِّل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه، الثياب كيف تخفى؟ لا يمكن أن تخفى، الثياب الظاهرة، وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النَّخَعي وغيرهم. ثم ذكر قول ابن عباس حيث فسر الاستثناء بقوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [(31) سورة النور] قال: وجهها وكفيها والخاتم. ثم قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "يحتمل أن يكون -يعني قول ابن عباس- تفسيراً للزينة التي نهين عن إبدائها {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [(31) سورة النور] قال: الوجه والكفين، فيكون الوجه والكفان في حيز المنهي عن إبدائه، فيتفق قول ابن عباس مع قول ابن مسعود. قلت: ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عنه عن ابن عباس، قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [(31) سورة النور] قال ابن عباس: الكف ورقعة الوجه، الآن التفسير للاستثناء أو للمستثنى منه؟ للمستثنى منه، بدليل ما ذكره ابن أبي شيبة عنه. قال ابن عباس: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [(31) سورة النور] قال: الكف ورقعة الوجه. المقدم: مما يعني أن الزينة هنا المراد بها الوجه والكف. الزينة المنهي عن إبدائها الوجه والكفين. المقدم: طيب، والمستثنى منه جاء نص عن ابن عباس؟ {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [(31) سورة النور] فيكون الذي لا بد منه كفها. المقدم: جاء عن ابن عباس؟ ما جاء عن ابن عباس، لكن الآن صار فيه احتمال. المقدم: لكن لو جاء عن ابن عباس تفسير الزينة بما ظهر من الملابس لانتهى الإشكال؟ انتهى تصير مطابقة، يكون عندنا كلام ابن مسعود صريح، وكلام ابن عباس محتمل، لكن الذي يرجح الاحتمال الثاني فيكون كلامه موافقاً لقول ابن مسعود رواية ابن أبي شيبة. وروى ابن جرير عن الضحاك في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [(31) سورة النور] قال: الكف والوجه، صار هذا هو الزينة المنهي عن إبدائه الكف والوجه.

وحمل البيضاوي في تفسيره ما روي عن ابن عباس على العورة في الصلاة لا في النظر، قال: فإن كل بدن الحرة عورة، يعني في النظر، أما بالنسبة للصلاة فالوجه والكفان ليس بعورة. يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في تفسيره: تفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة الوجه، والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول -يعني المنسوب إلى ابن عباس- فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه. كلام الشيخ -رحمه الله- يقول: تفسير الزينة {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [(31) سورة النور] ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، متصور؟ الآن ما قيل عن ابن عباس أن المستثنى الوجه والكفان، وهذا الذي يتداوله الناس عنه، وقلنا: إن الوجه والكفين بالنسبة لتفسير ابن عباس راجع إلى الزينة نفسها، الزينة هي الوجه والكفان. المقدم: ويؤيده رواية ابن أبي شيبة. رواية ابن أبي شيبة. الشنقيطي -رحمة الله تعالى عليه- يذهب إلى أبعد من ذلك، أن الزينة لا يجوز إبداؤها قدر زائد على بدن المرأة، التي استثني منها، يعني الزينة لو افترضنا أن عليها ... المقدم: خلخال مثلاً. نعم أمور .. ، قدر زائد على ما في الخلقة، عليها ثوب مطرز، يجوز إبداؤه؟ المقدم: أبداً بناءً على ... لا يجوز إنما لا بد أن تجلله بشيء يغطي هذه الزينة، فيكون المستثنى ما ظهر من الثوب المجلل. المقدم: تمام. أقول: ومما يدل على ذلك -يعني على كلام الشنقيطي- أنه لا تفسر الزينة بشيء من بدن المرأة، ما يدل على ذلك أن الزينة والتزين والتزيين جاء في القرآن الكريم، ورد لما كان خارجاً وقدراً زائداً على الأصل، يعني القدر الزائد على الأصل، هل المرأة تتزين بوجهها، أو تزين وجهها بشيء قدر زائد عليه؟ المقدم: قدر زائد. قدر زائد عليه، ولذا يقول الله -جل وعلا-: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [(31) سورة الأعراف]. المقدم: وهو القدر الزائد. يقول: خذوا وجوهكم وإلا خذوا ثياب جميلة للمسجد؟ إنما قدر زائد على الخلقة. المقدم: والأرض ازخرفت ... تأتي هذه.

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [(79) سورة القصص] {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [(60) سورة النور] {أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [(24) سورة يونس] أي: تلونت بالأنوار. المقدم: وهذا قدر زائد على الأرض. وهذا قدر زائد على الخلقة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وأما ما يروى عن ابن عباس فهو يعني الحالة الأولى، وتفسير ابن مسعود يعني آخر الأمرين" يعني كان في أول الأمر كشف الوجه والكفين جائز، وبهذا قال ابن عباس، وعليه يحمل قول ابن عباس، وآخر الأمرين قول ابن مسعود، هذا ما يراه شيخ الإسلام، ويميل إليه الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، وجمع من أهل العلم، لكن لسنا بحاجة إلى مثل هذا مع ما تقدم. المقدم: ورواية ابن أبي شيبة تصح. نعم جيدة، إسنادها جيد. المقدم: إذاً تكون فصل في الغالب. والضحاك أيضاً نفس التفسير، وهو من كبار المفسرين. لو سلمنا قول ابن عباس، وأنه لا يحتمل التأويل، وأن هذا رأيه أنه يجوز كشف الوجه والكفين، فهو قول صحابي مخالَف من قبل صحابي آخر، فلا يكون قوله حجة ملزمة، وعلى كل حال كلامه محتمل، وعرفنا ما فيه، فلماذا نذهب إلى قول محتمل، ونترك الأقوال الصريحة؟ من الأدلة قوله -جل وعلا-: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [(53) سورة الأحزاب] هذه الآية وإن كان سياقها في نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، نعم السياق {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} نساء النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبعضهم يخصها، يخص الآية بهن، إلا أن العلة المذكورة طهارة القلوب {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [(53) سورة الأحزاب] يعني هل نساء المؤمنين في غنية عن طهارة القلوب؟ المقدم: أبداً. العلة المنصوصة أمامنا إذا وجدت دار معها الحكم، فالعلة المذكورة هي طهارة القلوب عامة شاملة للجميع، وقرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين أن غير أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، قاله الشنقيطي -رحمه الله-.

قال: وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعم معلولها، وبهذا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء، لا خاص بأزواجه -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان أصل اللفظ خاص بهن؛ لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [(53) سورة الأحزاب] هو علة قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [(53) سورة الأحزاب] وهو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، عموم العلة، الآن إذا اشتركا فرع وأصل في علة يقاس عليه، لكن لا نقول: إن هذا من باب .. ؟ هل نقول: إن هذا من باب القياس تقاس نساء المؤمنين على أمهات المؤمنين ... ؟ المقدم: في كل شيء. لا، لاشتراكهن في العلة، أو نقول: عموم العلة يتناول نساء المؤمنين كتناوله لأمهات المؤمنين؟ فتكون الآية نص على نساء المؤمنين أيضاً. المقدم: لكن ما نقول: إنه يشمل نساء المؤمنين من باب أولى العلة عندهن أظهر وأولى؟ يعني بعد الريبة والتهمة عن أمهات المؤمنين؟ المقدم: إي نعم، فبالتالي يكون أولى لهن. وغيرهن أقرب منهن؟ المقدم: إي نعم. يعني تريد قياس الأولى. المقدم: الأولى. أما مسألة عموم العلة وشمولها فهو ظاهر للجميع. وضابط هذا المسلك مسلك الإيماء والتنبيه يقول الشيخ -رحمه الله-: "وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيباً عند العارفين". يعني لو كان هذا الوصف وهو طهارة القلوب لا ارتباط له بالحكم الشرعي يكون عيب في الكلام، يعني لو سئل شخص مثلاً هذه مسألة واقعية، قيل له: ما رأيك في الزواج المبكر؟ قال: أرى أنه لا يصلح؛ لأننا في عصر الإنترنت، هذه علته، هل هذه علة مؤثرة في الحكم؟ المقدم: لا، ما لها أي دعوة. هذا كلام معيب يعني بالفعل. المقدم: صحيح ما في أي علاقة. ما في أدنى ارتباط، الله المستعان.

الدليل الثالث قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} [(59) سورة الأحزاب] قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "يقول تعالى آمراً رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات -خاصة أزواجه وبناته لشرفهن". الآن الأمر للنبي -عليه الصلاة والسلام- أن يقول لأزواجه وبناته على سبيل الخصوص ونساء المؤمنين على سبيل العموم، وهذا من عطف العام على الخاص، للعناية بشأن الخاص، لكن لا يعني أن العام وجوده مثل عدمه، لا، بل هو داخل في الأمر، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية، اللاتي عرفن بالتبرج، وسمات الإماء، والجلباب هو: الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد هو بمنزلة الإزار اليوم. وقال الجوهري: الجلباب: هو الملحفة. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة. هذا يرويه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة" وهذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فيها مقال عند أهل العلم. وقال محمد بن سيرين: سألت عَبيدةَ السّلماني عن قوله -عز وجل-: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} [(59) سورة الأحزاب] فغطى وجهه ورأسه، وأبدى عينه اليسرى. ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "قال غير واحد من أهل العلم: إن معنى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} [(59) سورة الأحزاب] أنهن يسترن جميع وجوههن، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها" يعني للحاجة وإلا فالأصل ستر الكل "وممن قال به ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني وغيرهم".

أقول: مما يدل على هذا التفسير -يعني تغطية الوجه من جهة الرأس من الجلباب- ما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة والبيهقي وغيره من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنه- قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه، يعني عامة أهل العلم على أن إحرام المرأة في وجهها، بل بعضهم يحرم على المرأة أن تغطي وجهها وهي محرمة، فلا يترك مثل هذا الواجب، ويرتكب هذا المحظور إلا لأمر أوجب منه، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. المقدم: في قولها: "إحدانا". إحدانا نعم. المقدم: تعم النساء؟ نعم إيه. المقدم: لأنه في إشكال أن يقال: إن هذا خاص بنساء المؤمنين. "كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". المقدم: الراوي عائشة؟ عائشة، إيه. المقدم: لكن قولها: "كنا" و"إحدنا" يشمل الجميع. يشمل الجميع، نعم. المقدم: لأنه قد يأتي من يقول: بأنه لنساء المؤمنين مثل ما قيل في الدليل الأول. لكن أجيب عن الدليل الأول، فيدخل هذا تبعه، نعم. المقدم: من باب أولى. ومن أوضح الأدلة من السنة على وجوب الحجاب للوجه وجميع البدن حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- في قصة الإفك الطويلة المخرجة في البخاري وغيره من دواوين الإسلام، وفيها: لما تخلفت عائشة في البحث عن العقد ونامت. المقدم: قال: "كنت أعرفها قبل الحجاب". وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من رواء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، يعني لو كان كشف الوجه جائز أو مألوف عندهم أو معروف تقول مثل هذا الكلام؟ المقدم: أبداً. ما يحتاج إليه، ما يحتاج أن تقول قبل الحجاب الآن، تقول: فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه، يعني لما قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما يحتمل تأويل؟ المقدم: أبداً. ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ... الحديث بطوله.

والشاهد منه قولها: "فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب" وفي قولها: "فخمرت وجهي بجلبابي" ومن الأدلة على ... المقدم: لكن يرد عليه ما يرد على الأول، ونرد عليه بنفس الرد يا شيخ. نفس الرد، نعم. ومن الأدلة على ذلك الأمر برؤية المخطوبة، يعني لو كان كشف الوجه جائز وسائغ، ومألوف عندهم يأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- برؤية المخطوبة؟ المقدم: أبداً. فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- جابراً بذلك. روى أبو داود بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) قال: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها". لو كان كشف الوجه جائزاً لما عُلق ذلك بالاستطاعة، كل إنسان يستطيع، لو كان جائز، لو كان كشف الوجه جائزاً لما علق ذلك بالاستطاعة، ولما احتاج جابر -رضي الله عنه- إلى أن يتخبأ لها، وينظر إليها من غير علمها. وأما حديث جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: "شهدت العيد" يعني من أقوى أدلتهم حديث الخثعمية، وأجبنا عنه، حديث جابر -رضي الله تعالى عنه- وهو في الصحيحين، قال: "شهدت العيد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وأمر بالصدقة، وفيه: فقامت امرأة من سطة النساء، سفعاء الخدين، الحديث متفق عليه. هذا الحديث محمول على أنها كانت من القواعد، أقول: يعتريه ما يعتريه من الاحتمالات. المقدم: لكن حدد أي عيد هو؟ كيف؟ المقدم: في الرواية. بيأتي شيء منه. يقول: هو محمول على أنها كانت من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً، فيباح لها كشف وجهها بالنص، أو أن ذلك قبل نزول الحجاب، فآية الحجاب في سورة الأحزاب سنة خمس أو ست من الهجرة. المقدم: وصلى قبلها. وصلاة العيد شرعت قبل ذلك في السنة الثانية من الهجرة، أو أنها كانت جارية أي أمة، والأمة لا يلزمها الحجاب، كما قال السندي وغيره. نلاحظ أن الأدلة التي يستدلون بها كلها محتملة، وعنها أجوبة، نعم. المقدم: صحيح.

يقول بعضهم: أو أنه انكشف وجهها من غير قصد، ومع هذه الاحتمالات لا تترك الأدلة الصحيحة الصريحة من أجل ذلك، من أجل هذه الأدلة المحتملة. في حديث ترويه عائشة، حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعليها ثياب رقاق -يستدلون به- فأعرض عنها، وقال: ((يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا)) وأشار إلى وجهه وكفيه، رواه أبو داود، وقال أبو داود: هذا مرسل، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة. وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود: "وفي إسناده سعيد بن بشير، تكلم فيه غير واحد". أقول: ومتنه منكر، أسماء بنت أبي بكر ذات النطقين. المقدم: التقية. المعروفة الصالحة تدخل على النبي -عليه الصلاة والسلام- ... المقدم: بثياب رقاق. بثياب رقاق لا يمكن أن يتصور مثل هذا. وهو مخالف لما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر، وهذا الحديث صححه الألباني وغيره، وإسناده صحيح بلا شك عند مالك. تقول فاطمة بنت المنذر: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر؛ لأنه لو كان هذا من مذهبها، وما نسب إليها ثابت، والمحرمة ممنوعة من تخمير الوجه ما ساغ لهم ذلك. المقدم: شيخنا لعلنا نستكمل ما تبقى -بإذن الله- في حلقة قادمة. بهذا نصل وإياكم أيها الإخوة إلى ختام هذه الحلقة في شرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. بقي بعض المسائل فيما يتعلق بهذا الحديث -بإذن الله- نستكملها في حلقة قادمة، وأنتم على خير. شكراً لطيب متابعتكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (6)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (6) الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أهلاً بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، والذي نسعد فيه باستضافة صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحباً بكم شيخنا الكريم. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمتعين. المقدم: بقي بعض المسائل في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في إرداف النبي -صلى الله عليه وسلم- للفضل بن العباس، لعلنا نستكملها في هذه الحلقة يا شيخ. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. تقدم الكلام في مسألة الحجاب وأريد أن .. ، أحب أن أضيف ما قاله ابن العربي في عارضة الأحوذي يقول: "في حديث ابن عمر: "ولا تنتقب المرأة" يقول: وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض. المقدم: المرأة وإلا المحرمة يا شيخ؟ نعم تنتقب المرأة المحرمة معروف؛ لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به؛ لأن سترها وجهها بالبرقع فرض، يعني تغطية الوجه، والبرقع هو النقاب، والنهي عن الانتقاب في حال الإحرام صحيح ثابت في الصحيح وغيره، وإن حاول بعضهم أن يعل هذه اللفظة. المقدم: لا تنتقب المحرمة. نعم، هروباً من إيش؟ من إقرار النقاب في غير الإحرام، يريد أن يسد الباب على ... المقدم: من المعاصرين. من المعاصرين، وفيه إشارات من المتقدمين كأبي داود وغيره، لكن يبقى أن الحديث في الصحيح، والبخاري مقدم على غيره.

أقول: من أراد أن يغمز هذه الكلمة، وهي في الصحيح، ولعله من حسن نية وقصد؛ لئلا يفهم منه أن غير المحرمة تنتقب، ويريد بذلك أن يمنع النقاب الموجود الآن، النقاب العرفي الذي تعارف الناس عليه الآن ويسمونه نقاب أو برقع؟ أقول: النقاب الموجود الآن ليس بنقاب، وإنما هو سفور؛ لأن النقاب الأصل فيه مأخوذ من النقب، وهو الفتحة الصغيرة التي تبدي سواد العين فقط، أما إذا تعدى ذلك فأظهر شيئاً من البشرة ولو كان يسيراً صار سفور، وليس بنقاب. فأولاً: نحدد معنى النقاب الذي دل الحديث على جوازه، دل مفهوم الحديث على جوازه في غير الإحرام، نقول: في غير الإحرام دل مفهومه على جوازه، لكن نحدد المقصود بالنقاب، يعني النقاب العرفي هل يمكن أن يوصف بأنه شرعي؟ لا، لأنه سفور في الحقيقة. فإذا جاز للمرأة أن تستر وجهها وهي محرمة عن نظر الرجال مع إجماعهم، بعضهم نقل الإجماع على وجوب كشف المرأة وجهها للإحرام، والواجب لا يترك إلا لواجب، إذا علم هذا فليحذر أولئك الذين يطالبون بنزع الحجاب. أولاً: مسألة الوجه والكفين والخلاف في كونهما عورة أو ليس بعورة المسألة خلافية، لكن الحكم النصوص هي الحكم {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [(59) سورة النساء]. المقدم: لكن هم اتفقوا -أحسن الله إليك- حتى الذين قالوا: بكشف الوجه والكفين اتفق الجميع على أنه في حال الفتنة يجب الحجاب. بلا شك لأن الفتنة، كل ذريعة تصل إلى الفتنة يجب سدها، وكل شيء يوصل إلى محرم فالوسائل لها أحكام الغايات.

أقول: من أداه اجتهاده إلى أحد القولين، والمسألة مسألة اجتهاد ليست مسألة تطاول على النصوص؛ لأنه فرق بين من يبحث عن المسألة من خلال أدلتها ليريد أن يتوصل إلى الحق، وينصر ما يراه الحق، وبين من يبحث في النصوص ليجد فيها ما يؤيد هواه، فأقول: إذا علم هذا فليحذر أولئك الذين يطالبون بنزع الحجاب لهوى في أنفسهم، وليسوا أهلاً للنظر والاجتهاد، فهؤلاء ممن يتتبع خطوات الشيطان الذي كان من وظائفه الأولى من وظائف الشيطان الأولى كما قال الله -جل وعلا- عنه: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [(27) سورة الأعراف] هذه من وظائف الشيطان الأولى؛ لأنه تعهد أن يغوي الناس أجمعين. وهي أيضاً من وظائف أتباعه من المنافقين، والذين في قلوبهم مرض، كما قال -جل وعلا- بعد ذكر آية الحجاب مباشرة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [(59) سورة الأحزاب] قال بعد ذلك مباشرة: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [(60 - 61) سورة الأحزاب] فالارتباط وثيق بين الآيتين. يقول البرهان البقاعي في تفسيره المبني على التناسب (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) البرهان للبقاعي، يقول: "ولما كان المؤذون بما مضى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ} [(58) سورة الأحزاب] ولما كان المؤذون بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [(59) سورة الأحزاب] من الذي يؤذيهن؟ أهل النفاق، ومن أذاهم لهن مطالبتهن بنزع الحجاب.

يقول: ولما كان المؤذون بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم، حذرهم بقوله مؤكداً دفعاً لظنهم دوام الحلم عنهم: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} [(60) سورة الأحزاب] أي عن الأذى {الْمُنَافِقُونَ} [(60) سورة الأحزاب] الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [(60) سورة الأحزاب] أي مقرب من النفاق حامل على المعاصي {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [(60) سورة الأحزاب] وهم الذين يشيعون الأخبار المخيفة لأهل الإسلام التي تضطرب لها القلوب سواء كانوا من القسمين الأولين أم لا {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [(60) سورة الأحزاب] أي: بأن نحملك على أن تولع بهم بأن نأمرك بإهانتهم، ونزيل الموانع من ذلك، ونثبت الأسباب الموصلة إليه ... إلى آخره. المقصود أن الارتباط وثيق بين الآيتين، وهناك كتابات يشم منها. المقدم: صحيح. يشم منها شيء من هذا أنه مجرد إشباع رغبة، وإلا لو بحثت المسألة من قبل أهل العلم، ولا تبحث المقدمات وتلقى على عوام الناس بشبه تزحزحهم عن ثوابتهم، هذه مسألة علمية يبحثها أهل العلم، أهل النظر والاجتهاد، على أن الاحتياط لأعراض المسلمين ونسائهم أمر مطلوب، حتى لو ترجح عند إنسان أن الكشف جائز بالأدلة، وما أشبه ذلك عليه أن يتقي الله -جل وعلا- لا سيما في البلدان التي التزمت هذا الحجاب. الحديث حديث الباب يستفاد منه كما قال النووي: "إزالة المنكر باليد لمن أنكره" لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صرف وجه الفضل بيده، والإنكار باليد هو المرتبة الأولى من مراتب التغيير، ففي الحديث الصحيح: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) خرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد. ومن فوائده: جواز النيابة في الحج عن العاجز "أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)) جواز النيابة في الحج عن العاجز الميؤوس منه بهرم أو زمانة أو موت، الهرم ميؤوس منه أنه يُشفى، وكذلك الزمانة المقعد مثلاً ميئوس منه، وكذلك الميت. واستدل الكوفيون بعمومه على جواز حج من لم يحج نيابة عن غيره. المقدم: يعني لا يشترط أن يحج النائب عن نفسه.

عن نفسه قبل ذلك؛ لأنه ما في استفصال هنا "أفأحج عنه؟ قال: "نعم إن كنت حججت عن نفسك". المقدم: بل جزماً أنها لم تحج وإلا لا؟ الحجة هذه. المقدم: إلا كان هذه صحيح، هي الآن حاجة. الحجة هذه عن نفسها، وتريد أن تسأل عن المستقبل، هي محرمة لنفسها الآن، فهل نحتاج أن نقول بمثل هذا؟ استدل الكوفيون بعمومه على جواز صحة حج من لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور، فخصوه بمن حج عن نفسه، واستدلوا بما في السنن وصحيح ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً يلبي عن شبرمة، فقال: ((أحججت عن نفسك؟ )) فقال: لا، قال: ((هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة)). قال الحافظ في بلوغ المرام، الحافظ ابن حجر في البلوغ: "رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والراجح عند أحمد وقفه. لكن الحديث صحح البيهقي إسناده، ورجح أحمد في رواية ... المقدم: وقفه يا شيخ وقفه على الصحابي. إيه يعني أنه موقوف على ابن عباس. المقدم: إيه، لكن مثل هذه الحوادث لما تذكر كيف يصحح وقفه هي ليست قولاً هي فعلاً في الغالب؟ يعني هل السؤال المسئول النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ المقدم: هو ليس سؤال، الآن هي حادثة وأوقفه قال: من شبرمة؟ حججت عنه، يعني يشكل علي أحياناً أن الفعل يقول: يصح وقفه، ليس مثل القول، القول يمكن يصح وقفه، لكن الفعل يا شيخ؟ هذا لما سمعه ابن عباس يلبي لبيك عن شبرمة قال: من شبرمة؟ قال: قريب لي، أو أخ لي، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة في إشكال؟ المقدم: إيه في إشكال بالنسبة للراوي عن ابن عباس. ويش فيه؟ المقدم: كيف ينسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو رأى أصلاً، يعني القول ممكن ينسب، لكن الفعل. هذا ما فيه أدنى إشكال، تعارض الوقف والرفع يرد هنا. المقدم: في القول؟ حتى في القول. المقدم: في القول ممكن، لكن في الفعل يا شيخ! يعني الذي روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- كيف ينسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو رأى ابن عباس. ما يلزم الذي بعده، ما يلزم أن يكون التابعي هو الذي رفعه، مشياً على الجادة، لا، تعارض الوقف والرفع يرد هنا.

الإمام أحمد في رواية ابنه صالح صحح أنه مرفوع. العيني وهو حنفي، يعني مذهب الحنفية جواز النيابة ممن لم يحج عن نفسه، لا سيما إذا كان غير مستطيع للحج، فحج نيابة عن غيره بالأجرة، ماذا يقول؟ يقول: نعم الراجح الوقف خلاف ما تذكر أنت، الراجح الوقف لماذا؟ يعني كيف النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع ما حج أحد قبله، يقول: حججت عن نفسك؟ متى حج عن نفسه؟ المقدم: نعم هذا هو الإشكال. عكس ما تقول، يعني عكس ما ذكرت أنت. المقدم: لا هنا العيني يرجح الوقف لا ... إيه يرجح الوقف، يقول: هذه حجة الوداع، ولم يحج النبي -عليه الصلاة والسلام- قبلها بعد فرض الحج. المقدم: كيف يسأل هذا السؤال؟ فكيف يسأل هذا السؤال حججت عن نفسك؟ متى؟ يعني يحتمل أنه حج مع أبي بكر، وعلي في السنة التاسعة احتمال؟ المقدم: يرد. النبي -عليه الصلاة والسلام- بعث أبا بكر وبعث علياً ... المقدم: لتطهير، للحج الأول، وتطهير البيت من الأوثان ومن العراة. البيت من العراة، من الأوثان لا، في الفتح. المقدم: في الفتح ألا يطوف في البيت بعد العام عريان. لا يحج. المقدم: ألا يطوف بالبيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان. لا يحج بعد العام مشرك وألا يطوف بالبيت عريان. المقدم: هذا نداء كان في السنة التاسعة. في السنة التاسعة. المقدم: وحج أبو بكر وعلي -رضي الله عنهما-. في السنة التاسعة. المقدم: حجاً كاملاً يعني وفقاً. هو بعثهم النبي -عليه الصلاة والسلام- وحجوا، وهذه قد تكون الصورة ظاهرة عندهم من قوله -عليه الصلاة والسلام-، وقد تكون ... المقدم: أو يكونوا حجوا على ... على طريقة إبراهيم -عليه السلام-، كما حج النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل الهجرة. المقدم: ومعهم وفود حجت؟

ما أعرف أن معهم أحد، المقصود أن هذا وجهة نظر العيني، لكن لا يمتنع أن يقال: هل حججت عن نفسك؟ مع العلم بأنه لم يحج عن نفسه، من باب تأكيد الأمر في النفس وتثبيته، كما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((هل صليت ركعتين؟ )) وهو يراه قد جلس، هو يراه دخل وجلس، وهذه طريقة نبوية في تقرير المسائل العلمية والعملية، أحياناً قد يخفى عليك الأمر لو قلت لشخص: قم فصل ركعتين احتمال يكون صلى وأنت ما رأيته، فمن باب الأدب أن تقول: هل صليت ركعتين؟ وهذا مأخوذ من الأدب النبوي، وأنت تعرف هذا الشخص ما سبق أن حج، تقول: هل حججت عن نفسك؟ لتبين له الحكم مقروناً بعلته، تبين له الحكم مقرون بعلته، فتبين له أنه لا بد أن تحج عن نفسك أولاً، ثم تحج عن غيرك. من فوائد الحديث: جواز حج المرأة عن الرجل؛ لأنها قالت: أفأحج عنه؟ ومنع ذلك بعض العلماء، لماذا؟ زعم أن المرأة تلبس في الإحرام ما لا يلبسه الرجل، فلا يحج عنه إلا رجل مثله، وهذا القول نسبه النووي إلى الحسن بن صالح. وقال النووي: وفيه وجوب الحج على من هو عاجز بنفسه مستطيع بغيره كولده، هذا في الحديث، الأب أو الجد على ما تقدم في الروايات الشيخ الكبير هذا الذي لا يثبت على الراحلة عاجز بنفسه، لكنه مستطيع بولده، وقد بعضهم يستطيع بماله، فلا يسقط عنه الحج. وقال ابن حجر: واستدل به على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكية فقال: من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب، وأجابوا عن حديث الباب بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع، وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، لكن تقدم لنا في حديث أبي رزين: ((حج عن أبيك واعتمر)) أمر. المقدم: لكن ألا يكون إجابة ((حج عن أبيك واعتمر)) إجابة عن سؤال فهم منه التبرع؟ فهم منه التبرع ولا يلزم، هل يلزم الولد أن يحج عن أبيه؟ المقدم: لا ما يلزم. ما يلزم حتى على القول بجوازه. يبقى أنه يمكن أن يستدل بـ ((دين الله أحق أن يقضى)). وأجابوا عن حديث الباب بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع، وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، وبأنها عبادة بدنية، فلا تصح النيابة فيها كالصلاة، وقد نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة.

قالوا: ولأن العبادات فرضت على جهة الابتلاء، وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن، فبه يظهر الانقياد أو النفور، قالوا: بخلاف الزكاة فإن الابتلاء فيها بنقص المال، وهو حاصل بالنفس وبالغير، يعني الحج لا بد من أن تؤديه بنفسك؛ لأنه عبادة بدنية على كلامهم، والصلاة لا بد أن تؤدى بالنفس؛ لأنها عبادة بدنية، الزكاة إذا أخرجتها، وتركت شخصاً يدفعها إلى الفقير نقص المال حاصل، لكن يبقى أنه يقبل النيابة من هذه الحيثية. وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح؛ لأن عبادة الحج مالية بدنية معاً، فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة. يعني لو قيل: إنه ينتابها قياس الشبه، لو خلت من الأدلة، عندنا عبادة بدنية كالصلاة لا تجوز فيها النيابة، عبادة مالية كالزكاة تجوز فيها النيابة، الحج عبادة مالية بدنية ينتابها الأمران، فهل تلحق بالصلاة باعتبارها بدنية، أو تلحق بالزكاة باعتبارها مالية؟ وهذا يسمونه قياس الشبه، يتردد فرع بين أصلين، فيلحق بأكثرهما شبهاً، هذا لو خلت المسألة من النصوص، والمسألة فيها نص. ولهذا قال المازري: من غلّب حكم البدن في الحج ألحقه بالصلاة، ومن غلب حكم المال ألحقه بالصدقة. وقد أجاز المالكية الحج عن الغير إذا أوصى به، ولم يجيزوا ذلك في الصلاة، فتبين أن هناك فرق حتى عند المالكية. المقدم: لكن هل المسألة الآن مسألة الإنابة هي نفسها مسألة وصول الثواب في العبادات أو تختلف؟ من قال بالإنابة يقول بوصول الثواب في العبادات؟ يعني إهداء الثواب؟ المقدم: إهداء الثواب. شخص يريد أن يحج عن أبيه مثلاً. المقدم: يصله الثواب. يريد أن يحج عن أبيه تطوع مثلاً، هذا في الفريضة ما في إشكال، هذا شخص يريد أن يحج عن أبيه تطوع، هذه مسألة إهداء الثواب، يصل أو لا يصل؟ مسألة يأتي تقريرها -إن شاء الله تعالى-. المقدم: لكن الذين قالوا بالخلاف هنا وهنا هي نفس المسألة وإلا يختلف؟ لا، لا، يختلف. المقدم: تصور المسألة يختلف. حتى من صحح النيابة في الفرض اختلفوا في النفل. المقدم: نعم جيد.

ادعى بعضهم أن هذه القصة مختصة بالخثعمية، كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير، حكاه ابن عبد البر، وتعقب هذا بأن الأصل عدم الخصوصية، وما ورد مما يدل على الخصوصية ضعيف، فيه خبر مرسل. وادعى آخرون أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه، قال ابن حجر: ولا يخفى أنه جمود. نعم الأسئلة التي وجهت من هذا النوع كلها تقول: إن أبي، إن أمي، فالنيابة خاصة بالابن، ولا شك أن هذا جمود، إذا صح من الابن صح من الأخ ونحوه. المقدم: لكن الأبناء دائماً أقرب للسؤال عن .... بلا شك، نعم. واختلفوا فيما أذا عوفي المعضوب الذي لا يستطيع الحج، إذا عوفي، شخص أناب ابنه أو ناب ابنه عنه، ثم عوفي بعد ذلك. المقدم: هل تسقط عنه فريضة الحج أو لا؟ نعم. فقال الجمهور: لا يجزئه، الحج الذي حج عنه؛ لأنه تبين أنه لم يكن ميئوساً منه، وقال أحمد وإسحاق: لا تلزمه الإعادة؛ لئلا يفضي إلى إيجاب حجتين. نظير ذلك؟ المقدم: يعني يتصور فيمن حكم عليه يا شيخ بالسجن المؤبد مثلاً في بعض الدول. أو مريض، مريض قرر الأطباء أنه ميئوس منه، ثم عوفي. المقدم: وهذا أيضاً خرج هل إذا حج عنه ثم عوفي أو خرج من سجنه يلزمه الحج؟ الأمل في المسجون أكبر منه في المريض، لكن المسألة نظيرها مثلاً خصال الكفارة الواجب الأول في الكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم، هذا شخص ما استطاع الرقبة ولا استطاع الصيام أطعم ثم وجد رقبة. المقدم: تسقط وإلا ما تسقط؟ يجزئ الصيام أو لا يجزئ؟ إن قلنا: إنه لا يجزئ فعليه أن يعتق، قلنا: أوجبنا عليه كفارتين، وإذا قلنا: لا يجزئ .. ، إذا قلنا يجزئ .. ، إذا قلنا: لا يجزئ أوجبنا عليه كفارتين، وإذا قلنا: لا يجزئ عرفنا أنه ليس بميئوس من الخصلة الأولى من خصال الكفارة. الحديث فيه تواضع النبي -عليه الصلاة والسلام- كما سبق، وفيه منزلة الفضل بن العباس منه، وفيه بيان ما ركب في الآدمي من الشهوة، وجبلت طباعه عليه من النظر إلى الصور الحسنة. قال ابن حجر: وفيه أن إحرام المرأة في وجهها، فيجوز لها كشفه في الإحرام، قال: ويحتمل أن ذلك قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب.

وفي الحديث بر الوالدين، والاعتناء بأمرهما، والقيام بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقة وغير ذلك من أمور الدين والدنيا. قال ابن العربي: حديث الخثعمية أصل متفق على صحته في الحج خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أنه ليس للإنسان إلا ما سعى، رفقاً من الله في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله. وتعقب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي، الولد من سعيه ومن كسبه، وبأن عموم السعي في الآية مخصوص اتفاقاً، وبقي مواضع، وبقيت أطراف الحديث. المقدم: ولعلنا -إن شاء الله- نعد الإخوة والأخوات بأن تكون أو يكون الحديث عن أطراف هذا الحديث في الحلقة القادمة -بإذن الله تعالى-. أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، كان معنا صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير شكر الله له. شكراً لكم على طيب متابعتكم، نستكمل -بإذن الله تعالى- أطراف حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في حلقة قادمة، وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (7)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (7) الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. طابت أوقاتكم جميعأً بكل خير، وأهلاً ومرحباً بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله بقبول دعوتنا، فأهلاً ومرحباًَ بكم فضيلة الدكتور. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. بقي معنا -أحسن الله إليكم- في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في باب وجوب الحج وفضله، بقية أطراف الحديث، وعدنا الإخوة أن نستكملها في هذه الحلقة. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا الحديث خرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في خمسة مواضع من صحيحه: الموضع الأول: في كتاب الحج، في باب وجوب الحج وفضله، وقول الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [(97) سورة آل عمران]. قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان الفضل رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاءت امرأة من خثعم ... الحديث بتمامه على ما تقدم، وتقدم ذكر مناسبته، والربط بين الحديث والترجمة. الموضع الثاني: في كتاب جزاء الصيد، في باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، في كتاب جزاء الصيد، وهو جزء من كتاب الحج. المقدم: يعني ما أفرد كتاباً خاصاً بجزاء الصيد؟ كيف؟ المقدم: كتاب خاص بجزاء الصيد وإلا هو جزء من كتاب الحج؟

هو سماه كتاب، وعرفنا مراراً أن محمد فؤاد عبد الباقي عمد إلى تقسيم البخاري إلى سبعة وتسعين كتاباً لتتوافق مع المعجم المفهرس؛ ليخدم بذلك طلاب العلم، وإلا ما علاقة الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة بكتاب جزاء الصيد؟ المقدم: صحيح. نعم. المقدم: هو الأصل أن يكون كتاب الحج. وجزاء الصيد في كتاب الحج أيضاً، يعني باب من أبواب الحج، كما تقدم لنا أنه أدخل كثير من أبواب الصلاة في كتاب الأذان؛ ليتوافق ترقيمه مع المعجم المفهرس؛ لكي يخدم طلاب العلم. يقول: كتاب جزاء الصيد في باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة: قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن ابن عباس عن الفضل بن عباس. في السياق الأول عن عبد الله بن عباس قال: كان الفضل. المقدم: الراوي ابن عباس. يعني الحديث من مسند ابن عباس، عبد الله بن عباس، وهنا الحديث من مسند الفضل، والرواية الأخرى في هذا الباب قال؛ لأنه في حاء التحويل هنا، ح وحدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، هنا من الأول قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن ابن عباس عن الفضل بن عباس -رضي الله عنهما- أن امرأة ح حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة حدثنا ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأة من خثعم ... الحديث. أولاً: هذه الحاء يسمونها حاء التحويل، لكن هل هنا من فائدة من ذكرها هنا؟ لماذا؟ لأنه بعد نهاية الإسناد، ما تختصر لنا شيء، فهذا يرجح أن ... المقدم: أن الحاء هنا ليست للتحويل. إنما هي الحديث على ما يقول المغاربة، الحديث. في الإسناد الأول الطريق الأول عن ابن عباس عن الفضل بن عباس، فهو من مسند الفضل، ورواية الباب التي شرحناها هي من مسند عبد الله بن عباس. الرواية الأخرى في الباب الثاني الحج عمن لا يستطيع أيضاً هي من مسند عبد الله بن عباس، ابن عباس تقدم لنا أنه ممن قدمه النبي -عليه الصلاة والسلام- مع الضعفة، فيحتمل أن يكون لم يشهد هذه القصة، وإنما سمعها من أخيه.

وعلى افتراض كونه لم يشهد هذه القصة وتعبيره بقوله: كان الفضل، تكون إيش؟ يعني ابن عباس يحكي قصة لم يشهدها. المقدم: مرسل صحابي. مرسل صحابي، وهو مقبول بالاتفاق، ما خالف في هذا إلا أبي إسحاق الإسفرائيني، ونقل الاتفاق على أنه مقبول. أما الذي أرسله الصحابي ... فحكمه الوصل على الصوابِ قال: جاءت امرأة من خثعم ... الحديث، والمناسبة الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة. المقدم: للباب ظاهر. نعم ظاهرة. المقدم: لكن للكتاب؟ ما قلنا: إن جزاء الصيد جزء من كتاب الحج، والمراد الحج عمن لا يستطيع دخوله في الكتاب الأعم. الموضع الثالث في كتاب جزاء الصيد أيضاً، باب حج المرأة عن الرجل. قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان الفضل رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءت امرأة من خثعم ... الحديث. والمناسبة ظاهرة حج المرأة عن الرجل، هذه المرأة الخثعمية تسأل عن الحج عن أبيها، وفيه رد على من زعم كالحسن بن صالح أن حج المرأة لا يصح عن الرجل؛ لأنها تلبس ما لا يلبسه الرجل، فالحديث رد عليه. الموضع الرابع في كتاب المغازي في باب حجة الوداع. قال: حدثنا أبو اليمان قال: حدثني شعيب عن الزهري، وقال محمد بن يوسف: حدثنا الأوزاعي قال: أخبرني ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن ابن عباس، الحاء هذه تنفع، تكون حاء تحويل هنا؛ لأنها اختصرت. وقال محمد بن يوسف، مر بنا مراراً أن البخاري إذا قال: وقال، جزم بذلك هل هو من قبيل المتصل أو من قبيل المعلق؟ المقدم: المتصل إذا جزم. ومحمد بن يوسف من شيوخه، وروى عنه بصيغة التحديث، وجزم به، جزم بالنسبة إليه، وقال، فهل هو بمثابة قوله: حدثنا محمد بن يوسف أو أنه معلق؟ ولو أراد الاتصال لقال كما هي العادة: حدثنا محمد بن يوسف، مرت بنا مراراً هذه المسألة، وعرفنا أن رأي ابن الصلاح والحافظ العراقي، وجمع من أهل العلم أنها تحمل على الاتصال، وأن حكمها حكم العنعنة، تحمل على الاتصال بالشرطين المعروفين: أن يبرأ الراوي من وصمة التدليس، وأن يكون الراوي قد لقي من روى عنه، أو عاصره على مذهب مسلم. المقدم: وكلاهما متحقق.

وهنا البخاري روى عن محمد بن يوسف ولقيه، وهو أبعد أو من أبعد خلق الله عن التدليس، ابن القيم -رحمه الله- يقول: "هو أبعد خلق الله عن التدليس" لكن لو قال: من كان أحوط. . . . . . . . . . أما الذي ... لشيخه عزا بـ (قال) فكذي عنعنة كخبر المعازفِ ... لا تصغ لابن حزم المخالفِ الحافظ ابن حجر كأنه يميل إلى أنها من نوع المعلق المجزوم به، وهكذا يدل صنيع المزي في تحفة الأشراف على أنه من باب التعليق المجزوم به، ولذلك يعلم على مثل هذا بعلامة التعليق: خت، خاء تاء، وعلى كل حال سواءً كان موصولاً أو معلقاً فهو مجزوم به، وثبت وصله من طرق كثيرة سمعناها. وقال محمد بن يوسف: حدثنا الأوزاعي، قال: أخبرني ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن امرأة من خثعم استفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، والباب باب حجة الوادع، والكتاب المغازي، إيش دخل حجة الوداع؟ مناسبة الحديث للباب ظاهرة، استفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، والباب باب حجة الوداع، المناسبة ظاهرة، لكن ما مناسبة حجة الوداع لكتاب المغازي؟ المقدم: خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- في جمع. نعم. المقدم: يعني هم يعتبرون خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل المغازي. يدخلون أحواله وشمائله، وبعض أخباره في مغازيه -عليه الصلاة والسلام-، ولو ذهبنا إلى أبعد من هذا قليلاً فقلنا: إن الحج جهاد، عليهن جهاد لا قتال فيه الحج، فهو باب من أبواب الجهاد، حجة الوداع جهاد من هذه الحيثية. الموضع الخامس: في كتاب الاستئذان في باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [(27) سورة النور] الآيات.

وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن -الحسن البصري- وسعيد أخوه: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن قال: اصرف بصرك عنهن، يقول الله -عز وجل-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [(30) سورة النور] قال قتادة: عما لا يحل لهم {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [(31) سورة النور] خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه. كتاب الاستئذان، ثم ذكر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا} [(27) سورة النور] الآيات. وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن -الحسن البصري- وسعيد أخوه: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن قال: اصرف بصرك عنهن. المقدم: يعني فيه ملمح. يعني بصرك عنهن فيه صرف بصر الإيش؟ الفضل. المقدم: والاستئذان غالباً يمنع الإنسان من أن يقع بصره. بصره نعم. المقدم: أن يقع بصره على ما لا يحل له. يقول الله -عز وجل-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [(30) سورة النور] قال قتادة: عما لا يحل لهم. {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [(31) سورة النور] خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه. إحنا ذكرنا مراراً أن البخاري إذا مرت أدنى مناسبة لكلمة في رواية أخرى، أو في آية من القرآن، فإنه يفسر فيها غريب الحديث، وغريب القرآن. وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليه، وإن كانت صغيرة. يعني ليس العبرة بالسن، وإنما العبرة بلفت أنظار الرجال، وتحريك شهوتهم، كثير من الناس يحضر بنته التي تناهز الاحتلام كاشفة في المجالس، أو في الأسواق والطرقات، وإذا سئل قال: لا ما كلفت، يعني هل الذي يريد أن ينظر إليها يطلب من هذا الرجل دفتر العائلة لينظر متى كان ميلادها؟! لا، أبداً، هي مجرد ما تفتن الرجال تحجب، ولذا يقول: وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء: لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليه، وإن كانت صغيرة.

وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا لمن يريد أن يشتري، حتى الجواري، وإن لم يكن عليهن حجاب. قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سليمان بن يسار، قال: أخبرني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: أردف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته ... الحديث. المناسبة: يعني ما قدمه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في الباب يرتبط بعضه ببعض، الآية {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [(27) سورة النور] وثيقة في الاستئذان، وقول سعيد بن أبي الحسن لأخيه الحسن: إن نساء العجم، فقال: اصرف بصرك، له ارتباط بالحديث، وكلام قتادة والزهري كله له ارتباط وثيق بالحديث، وكذلك النظر إلى الجواري في كلام عطاء وكراهيته ذلك. لكن ارتباط الحديث بكتاب الاستئذان؟ المقدم: ما يفهم ما قلت يا شيخ، ما هو بقريب منه. ويش يقول؟ المقدم: يعني الآن الاستئذان في الغالب أنه سبب لمنع الإنسان أن يقع بصره على ما لا يحل له. ولذلك جاء في الحديث الصحيح: ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)). المقدم: البصر، والحديث فيه أن الفضل صرف بصره. فيه صرف البصر، فتبينت المناسبة في هذا الحديث صرف النبي -عليه الصلاة والسلام- وجه الفضل لما طفق ينظر إلى المرأة، ففيه التوجيه العملي بغض البصر، ولا يخفى أن الاستئذان إنما شرع من أجل البصر. ترجم الإمام البخاري في كتاب الاستئذان: باب الاستئذان من أجل البصر، وذكر فيه حديث سهل بن سعد وفيه: ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) فالارتباط وثيق بين النظر إلى الأجنبيات مع الاستئذان. قال -رحمه الله- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يركب راحلته بذي الحليفة، ثم يهل حتى تستوي به قائمة. نعم راوي الحديث الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب تقدم ذكره مراراً.

وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: باب قول الله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [(26 - 27) سورة الحج] فجاجاً: الطرق الواسعة. المقدم: هذه الترجمة كاملة للباب؟ نعم، يقول: باب قول الله تعالى:: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [(26 - 27) سورة الحج] فجاجاً: الطرق الواسعة. فجاجاً هذه جاءت في إيش؟ {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [(20) سورة نوح] فجاءت في القرآن، وفسرها البخاري -رحمه الله تعالى- هنا للمناسبة، فسرها للمناسبة. يقول ابن حجر: قيل إن المصنف أراد أن الراحلة ليست شرطاً للوجوب، ولذا قال: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} [(27) سورة الحج]. وقال ابن القصار: في الآية دليل قاطع لمالك أن الراحلة ليست من شرط السبيل، فإن المخالف يزعم أن الحج لا يجب على الراجل، وهو خلاف الآية، انتهى، وفيه نظر. أقول: لا شك أن الراحلة شرط بالنسبة لبعض الناس، وليست بشرط بالنسبة لقوم آخرين، كيف؟ المقدم: حسب القدرة. نعم، شرط لمن لا يستطيع المشي، وأما من يستطيع الوصول إلى المشاعر مشياً، فإن الراحلة ليست شرطاً في حقه. وأما ما جاء في تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فهو ضعيف. ولذا بدأ الله -عز وجل- بالرجال قبل الركبان. قال بعضهم فيما نقله ابن حجر: مناسبة الحديث للآية أن ذا الحليفة فج عميق، والركوب مناسب لقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [(27) سورة الحج]. نعم، ذو الحليفة فج عميق، وكونه -عليه الصلاة والسلام- يركب راحلته يناسب ركباناً، ففيه مناسبة. يقول: مناسبة الحديث للآية أن ذا الحليفة فج عميق والركوب مناسب لقوله: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [(27) سورة الحج]. وقال الإسماعيلي: "ليس في الحديثين" اللذين ذكرهما الإمام البخاري هذا الحديث والحديث الذي يليه إن إهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذي الحليفة حين استوت به راحلته، حديث جابر. المقدم: وهو ليس عندنا في المختصر. ليس في المختصر يغني عنه حديث ابن عمر.

يقول الإسماعيلي: ليس في الحديثين شيء مما ترجم الباب به، ورد بأن فيهما الإشارة إلى أن الركوب أفضل. وقال العيني: مطابقته للترجمة من حيث إن فيه ذكر الركوب وذكر الفج العميق. أما الركوب فهو قوله: يركب راحلته، وأما الفج العميق فهو ذو الحليفة؛ لأنه لا شك أن بينها وبين مكة عشر مراحل، فهو فج عميق، يعني بعيد، واختلف أهل العلم في الركوب والمشي أيهما أفضل؟ أيهما أفضل الركوب أو المشي؟ فقيل: المشي أفضل؛ لأن الله -عز وجل- بدأ به، ولما فيه من التعب والنصب، يعني الحج مشياً أكثر تعباً من الحج ركوباً. المقدم: والتعب مطلوب في الحج؟ يأتي هذا. وقال الجمهور: الركوب أفضل؛ لفعل النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ ولكونه أعون على الدعاء والابتهال؛ ولما فيه من المنفعة. أقول: التعب ليس مقصداً شرعياً لذاته، لكن التعب إذا وجد تبعاً لما أمر به أجر الإنسان عليه، كما جاء في الحديث: ((أجركِ على قدر نصبكِ)) هذا إذا كان تابعاً للعبادة، أما يتعب الإنسان لذات التعب ليس هدفاً شرعياً، الله -جل وعلا- عن تعذيب الإنسان نفسه غني، ولذا لو قال شخص: أنا بيني وبين المسجد مائة خطوة، لماذا لا أدور على الحي لأكسب ألف خطوة؟ نقول: لا؛ لأن التعب ليس مطلوباً لذاته، وقد يقول: لماذا وبيني وبين مكة ما يقرب من ألف كيلو، أدور على الجزيرة لأمشي في سيارتي عشرة آلاف كيلو وأتعب، أتعب نفسي، وأكلل راحلتي لأزداد من الأجر، نقول: لا، الأجر إنما يثبت للتعب إذا جاء تابعاً لعبادة. والحديث مختصر هذا، حديث الباب مختصر من رواية سبقت في كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين، ولا يمسح على النعلين، فذكره الإمام هناك مطولاً، واقتصر منه هنا على قدر الحاجة فقط. قوله: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يركب راحتله" الراحلة المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى، ويقال أيضاً للناقة التي تصلح لأن ترحل، قاله الكرماني. وقال العيني: الراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيه للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة، وتمام الخلق وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت بتميزها.

"بذي الحليفة" في معجم ما استعجم للبكري يقول: ذو الحليفة تصغير حلفة، وهي ماء بين بني جشم بن بكر بن هوازان، وبين بني خفاجة العقيليين، بينه وبين المدينة ستة أميال، وقيل: سبعة، وهو كان منزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من المدينة لحج أو عمرة؛ فكان ينزل تحت شجرة في موضع المسجد، الذي بذي الحليفة اليوم، فإذا قدم راجعاً هبط بطن الوادي، فإذا ظهر من بطن الوادي أناخ بالبطحاء. المقدم: وهو معروف عند العرب. معروف. المقدم: يعني قبل النبي -صلى الله عليه وسلم-. هو موضع معروف، نعم. وفي فتح الباري يقول: ذا الحليفة بالمهملة والفاء مصغراً مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين قاله ابن حزم، ابن حزم حج وإلا ما حج؟ ما حج، وتقديره لهذه المسافات بالنقل عن غيره، يعني بين مكة والمدينة كم كيلو؟ أربعمائة كيلو. المقدم: وبين ذي الحليفة ومكة مائتين ميل على كلامه، مائة وثمانية وتسعين ميل. أين؟ المقدم: بين ذي الحليفة ومكة. مائة وثمانية وتسعين ميل، والميل؟ المقدم: كيلو وزيادة. كيلوين إلا ثلث، ألف وسبعمائة تقريباً، فيكون مقدارها ثلاثمائة وأربعين تقريباً، لا شك أن الطرق والمسالك تختلف، لا يمكن ضبطها. وقال غيره: بينهما عشر مراحل. المقدم: والمرحلة؟ المرحلة مسافة أربعين كيلو؛ لأن اليومين القاصدين هي مسافة القصر قدروها بثمانين كيلو، فعشر مراحل مقاربة. وقال النووي: بينها وبين المدينة ستة أميال، ووهم من قال: بينهما ميل واحد، وهو ابن الصباغ. وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة، خراب، وبها بئر يقال لها: بئر علي. "ثم يهل" الإهلال رفع الصوت بالتلبية، قال الزمخشري في الفائق: الإهلال رفع الصوت بالتلبية، ومنه: إهلال الهلال واستهلاله، إذا رُفع الصوت بالتكبير عند رؤيته، واستهلال الصبي تصويته عند ولادته. "حتى تستوي به الراحلة" واستواؤها كمال قيامها، قائمة حال، وموضع الإهلال إهلال النبي -عليه الصلاة والسلام- فيه كلام طويل، وفيه روايات، ولا بد من التوفيق بينها. المقدم: يعني نتركها إلى حلقة أخرى؟ نعم. المقدم: النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع واعد الناس في ذي الحليفة، وإلا واعدهم في أثناء الطريق؟

لا، قدموا المدينة، منهم من قدم المدينة، ومنهم من أدركه بذي الحليفة، ومنهم من أدركه بعد ذلك، لكنهم بذي الحليفة كما يقول جابر مد البصر. المقدم: كثروا. كثروا جداً. المقدم: والذين لم يأتوا على طريقة أحرموا من المواقيت التي عرفوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حددها. التي حددت لهم. المقدم: يعني مثل الذين أتوا من اليمن؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث الخثعمية أو غيرها جاءوا من اليمن، أو بعض الأقوام جاءوا من اليمن. نعم كل هذا يأتي في حديث المواقيت -إن شاء الله-. أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم. أيها الإخوة والأخوات نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب الحج في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، بقي معنا بعض المواضع والمسائل في مسألة المواقيت في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وما سيتبعه -بإذن الله- من حلقات شرح هذا الكتاب. حتى نلقاكم في حلقة قادمة نستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (8)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (8) الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير فأهلاً ومرحباً بكم شيخ عبد الكريم. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. لا زلنا في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يركب راحلته بذي الحليفة، ثم يهل حتى تستوي به قائمة. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: ففي الحديث "ثم يهل" يقول الزمخشري: الإهلال رفع الصوت بالتلبية، ومنه: إهلال الهلال واستهلاله، إذا رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته؛ لأنه جرت العادة أن يرفع الصوت عند رؤية الهلال، ومنه استهلال الصبي، وهو صوته عند ولادته. "حتى تستوي به الراحلة" واستواؤها كمال قيامها "قائمة" حال، و"حتى" هنا "حتى تستوي به قائمة" دلالة حتى أنه يبدأ قبل أن تستوي ويستمر حتى تستوي. المقدم: فإذا استوى انقطع. يكون انقطاعه عند استوائها "حتى تستوي" في بعض الروايات: "حين تستوي به الراحلة" حين تستوي، ويكون إهلاله بعد استوائها، وسيأتي ما للعلماء من كلام في هذه المسألة، وجاء في حديث جابر عند الإمام البخاري وهو الذي يلي هذا الحديث، حديث الباب، مما لم يذكره المختصر: أن إهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذي الحليفة حين استوت به راحلته، وسيأتي أيضاً بعد أحاديث عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أهل إلا من عند المسجد، وسيأتي أيضاً -إن شاء الله تعالى- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب راحلته ... المقدم: وكانت زاملته. المقدم: ركب راحلته؟

نعم، حتى استوى على البيداء هو وأصحابه. إهلاله -عليه الصلاة والسلام-، وفي حديث ابن عمر: "بيداؤكم التي تكذبون فيها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا من عند المسجد" على ما سيأتي، فكونه روي عنه بالسند الصحيح أنه أهل حين استوت به راحلته، أو من عند المسجد، أو من عند الشجرة، كلها أحاديث صحيحة. المقدم: إذاً أهل بها كلها. في حديث ابن عباس عند أبي داود والحاكم أنه -صلى الله عليه وسلم- لما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أهل بالحج حين فرغ منهما، يعني في مكانه بعد أن سلم من ركعتين أهل، فسمع قوم فحفظوه، وقالوا: إنه أهل من المسجد. المقدم: ثم أهل مرة أخرى. فلما استقرت به راحلته أهل، وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوا في المرة الأولى فسمعوه حين ذلك، فقالوا: إنما أهل حينما استقلت به راحلته، ثم مضى فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه فنقل كما سمع. المقصود أنه بدأ الإهلال من بعد الصلاة مباشرة، ثم كرره لما استقلت به راحلته، فلما علا -عليه الصلاة والسلام- على ظهر البيداء أهل، وما زال يلبي حتى .. ، المحرم متى يقطع التلبية؟ المقدم: بالنسبة للحج؟ نعم. المقدم: بعد رمي جمرة العقبة. إذا رمى جمرة العقبة أو إذا بدأ الرمي، على الخلاف الذي سيأتي. المقصود أنه يرفع صوته بالتلبية؛ لأن الإهلال رفع الصوت بالتلبية، فهل يقول قائل: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما أهل إلا لما دخل مكة مثلاً لأنه استمر يلبي؟ في حديث ابن عباس الجمع بين هذه الأحاديث وكلها صحيحة، كلها في الصحيح، فمن قال: إنه أهل من المسجد سمعه يهل في المسجد، ومن قال كابن عمر: أهل حينما استوت به راحلته إنما رآه كذلك. المقدم: ومن قال عند الشجرة كذلك. كذلك، وعلى ظهر البيداء كذلك. المقدم: وابن عباس -رضي الله عنهما- ... وفي حديث ابن عباس فيه الجمع، الجمع بين .. ، فهذا فيه جمع بين الأحاديث المختلفة في موضع إهلاله -عليه الصلاة والسلام-.

يقول صاحب عون المعبود: "وهذا يدل على أن الأفضل لمن كان ميقاته ذا الحليفة أن يهل في مسجدها بعد فراغه من الصلاة، ويكرر الإهلال بعد أن يركب على راحلته، وبعد أن يمر بشرف البيداء. يعني يكرر الإهلال. يقول ابن حجر: وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل. الأفضل في إيش؟ المقدم: متى يبدأ؟ متى يبدأ، هل يبدأ من المسجد أو يبدأ حين تستقل به راحلته، أو يبدأ إذا علا على البيداء؟ الخلاف في الأفضل، وإذا اعتمدنا الجمع الذي ذكره ابن عباس قلنا: إنه يبدأ من المسجد، ويكرر ذلك إذا استقلت به راحلته واستوت، ويستمر إذا علا على شرف البيداء بعد ذلك، الكلام في البداءة. يقول: اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل. روى مسلم وأبو داود وغيرهما عن ابن عمر قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها، ما أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا من عند المسجد، يعني ذا الحليفة، الذين قالوا: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- أهل من البيداء؛ لأنهم سمعوه كذلك، فهل يقال: إن كلامهم كذب، الكذب هنا يراد به الخطأ، فمن قال: إنه -عليه الصلاة والسلام- أهل من البيداء أخطأ من وجهة نظر ابن عمر؛ لأنه عنده إنما أهل حينما استوت به راحلته. وفي رواية عنه إلا من عند الشجرة، ومعنى تكذبون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي تقولون: إنه أحرم فيها ولم يحرم فيها، وإنما أحرم قبلها من مسجد ذي الحليفة، ومن عند الشجرة التي كانت هناك، وكانت عند المسجد. قال ابن حجر: وإنكار ابن عمر على من يخص الإهلال بالقيام على شرف البيداء، الذي يخص الإهلال، يعني يبدأ الإهلال على شرف البيداء، ولا يهل قبل ذلك. يقول العيني: والحديث احتج به مالك، وأكثر الفقهاء على أن يهل الراكب إذا استوت به راحلته قائمة. احتج به مالك وأكثر الفقهاء على أن يهل الراكب إذا استوت به راحلته قائمة، واستحب أبو حنيفة أن يكون الإهلال عقيب الصلاة إذا سلم منها، وقال الشافعي: "يهل إذا أخذت ناقته بالمشي" وأما أكثر أصحاب مالك فقالوا: "يستحب أن يهل إذا استوت به ناقته إن كان راكباً، وإن كان راجلاً فحين يأخذ في المشي".

على كل حال الأمر فيه سعة، إذا صلى قبل الإحرام إن كان وقت فريضة فهو الأصل، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أوقع إحرامه بعد الفريضة. المقدم: صلى الظهر يا شيخ؟ نعم هو صلى بذي الحليفة الظهر والعصر، أو صلى الظهر في المدينة على خلاف بين النووي وابن القيم، صلى الظهر أربع بالمدينة، ثم صلى العصر ركعتين، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر، ثم الظهر خمس صلوات، ويكون إهلاله بعد صلاة الظهر. المقدم: وبين ذي الحليفة والمدينة عشرة كيلو. عشرة كيلو. المقدم: يعني بمجرد ما ... يعني مكث يوم كامل أو أكثر من يوم. المقدم: في هذه العشرة كيلو؟ في هذه العشرة كيلو، والناس يتضايقون من مثل هذه التصرفات، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- معه الجموع من المدينة، عل بعضهم أن يطرأ له أمر غاب عن باله فيرجع إلى أهله فيقضيه، عل بعضهم نسي حاجة، هذا رفق بالأمة. الحديث الذي يليه. الحديث عرفنا أنه تقدم في كتاب الوضوء مطولاً، وأطرافه هناك. المقدم: قال -رحمه الله-: وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حج على رحل، وكانت زاملته. راوي الحديث الصحابي الجليل أنس بن مالك، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تقدم ذكره مراراً. والحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: باب الحج على الرحل، وفيه: عن ثمامة بن عبد الله بن أنس قال: حج أنس على رحل ولم يكن شحيحاً. حج أنس يعني جده على رحل ولم يكن شحيحاً، وحدث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حج على رحل وكانت زاملته. المطابقة ظاهرة الترجمة باب الحج على الرحل، وفي الحديث أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- حج على رحل، والرحل بفتح الراء وسكون المهملة هو للبعير كالسرج للفرس، وأراد أن يشير بهذه الترجمة وبما ذكر تحتها إلى أن التقشف أفضل من الترفه، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر.

وكانت زاملته أي: الراحلة التي ركبها، وهي وإن لم يجر لها ذكر، لكن دل عليها ذكر الرحل، الرحل لا يكون إلا على راحلة، كانت هذه الراحلة زاملته، والزاملة: البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع من الزمل وهو الحمل، ومراده بذلك أنه لم تكن معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه، بل كان ذلك محمولاً معه على راحلته، وكانت هي الراحلة وهي الزاملة، الزاملة التي تحمل الطعام والمتاع، والمراد بذلك أنه لم يكن معه رواحل أخرى. المقدم: يعني ما سبقه أقوام بالتجهيزات كما يفعل ... ؟ بالأثاث. المقدم: والأثاث الله المستعان. المقدم: ونقل كامل قبله. معه، معه، في راحلته، في زاملته. المقدم: -عليه الصلاة والسلام-. يعني راحلة واحدة تحمله مع أثاثه، مع طعامه، ومع متاعه. المقدم: الله المستعان. مراده أنه لم تكن معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه، بل كان ذلك محمولاً معه على راحلته، وكانت هي الراحلة وهي الزاملة. وقوله: "ولم يكن" يعني جده أنس شحيحاً أي: بخيلاً، لم يترك الهودج أو عموم وسائل الراحة للبخل، واقتصر على الرحل للمتابعة التامة للنبي -عليه الصلاة والسلام-. المقدم: هذا في أصل الحديث يا شيخ؟ نعم إيه، ولم يكن شحيحاً. المقدم: وليس عندنا في المختصر. إيه هو اقتصر على المرفوع، صاحب المختصر يقتصر على المرفوع. المقدم: الذي قال: ولم يكن شحيحاً، الراوي عن أنس.

الراوي ثمامة عن جده أنس؛ لأنه فتحت له الدنيا أنس بدعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- كثر ماله، ومع ذلك لم يكن شحيحاً، وحج على رحل، لماذا؟ للمتابعة، وفي هذا الحديث التقشف في المعيشة في المأكول والمركوب وغيرهما، من شئون الحياة، والمراد بذلك ترك القدر الزائد من التنعم، وهذه حاله، وهذا عيشه -عليه الصلاة والسلام-، في سفره وإقامته، وجاء في صفة عيشه -عليه الصلاة والسلام- أنه قد يمر عليه الهلال والثاني والثالث ثلاثة أهلة في شهرين لا توقد في بيته نار، وفراشه من خوس، قد أثر في جنبه -عليه الصلاة والسلام-، ووساده من أدم حشوها ليف، فالدنيا ليست هدف، إنما عنايته بما يحقق ما خلق له -عليه الصلاة والسلام-، وهكذا ينبغي أن تكون العناية لأتباعه، وليس معنى هذا أن الإنسان يحرم نفسه من الضروريات حتى يبين الضر في بدنه، ولا الحاجيات فيعذب نفسه، فالله -سبحانه وتعالى- عن تعذيب الإنسان نفسه غني، بل إنه -جل وعلا- يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لكن المطلوب التوسط لا سيما فيما يتعلق بالعبادات بما يقرب إلى الله -جل وعلا-، الإنسان إذا جاء لعبادة مثلاً يحرص أن يتجه لما هو بصدده من هذه العبادة من تكميلها والإقبال عليها، وفي الغالب أن الإنسان إذا اعتنى أو اتجهت همته لغير ما هو بصدده ينشغل عنه، فإذا تصورنا أن شخصاً أراد الحج مثلاً ثم بحث عن الحملات الأكثر راحة مع الأسف أصحاب الحملات يتنافسون بالدعاية لحملاتهم. المقدم: بالترفيه الزائد. الزائد. المقدم: يخرجون صور الأسرة والتلفزيونات الآن صارت تدخل في المخيمات يا شيخ، يبرز صورة التلفاز ويقول: نوفر لك كامل القنوات الفضائية التي تريد وسيارة خاصة.

نسأل الله العافية، المقصود أن العبادة شأنها أعظم، وإلا فالمسلم مطلوب منه ترك المحرمات على كل حال، فكيف بهذه المحرمات في وقت أداء العبادة؟! لماذا يتعب الإنسان نفسه، ويتجشم المصاعب والمتاعب من أجل أداء هذه العبادة، وقد تكون نافلة، فيسأل عن أغلى الحملات، وذكرت مبالغ خيالية تنفق على أسر مدة طويلة، يتنافسون، يذهب الإنسان في العشر الأواخر إلى الديار المقدسة من أجل الفراغ والخلوة في هذه الأوقات الشريفة التي ترجى فيها ليلة القدر، وفي هذا المكان الطيب الطاهر، ويسأل عن أفخر الفنادق، لا أدري كيف يجتمع القلب في هذه الأماكن الفخمة الضخمة المزخرفة إذا أراد أن يؤدي ما يؤدي من عبادة؟ لأنه إذا كان الهدف أن يقال: إنه سكن في كذا، وأكل كذا، وشرب كذا، وركب كذا، هذه حقيقة مرة، يجلس في بيته أفضل له، وإن كان المراد من ذلك أن يؤدي ما طلب منه، وما يقربه إلى الله -جل وعلا-، فالأمر دون ذلك، بدون ذلك يتأدى. المقصود أن على المسلم أن يتوسط في أموره كلها، لا يزاول ما يقذر به، ويشان به، ويعاب به، بحيث يستقذره الناس، أو يرمونه بوصف لا يستحقه، ولا يتوسع توسع غير مرضي، بل عليه أن يتوسط. سيأتي ما كان -عليه الصلاة والسلام- من الزهد في الفانية، والرغبة في الباقية، وما يقرب إليها -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل. نعم. المقدم: قال -رحمه الله-: عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: ((لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور)). راوية الحديث أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، عائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنها وعنه-، مر ذكرها مراراً. وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: "باب فضل الحج المبرور" والمطابقة ظاهرة؛ لأن السؤال عن إيش؟ المقدم: عن الجهاد، عن أفضل الأعمال. لأن السؤال عن أفضل الأعمال، هي لما ذكرت الجهاد بعد أن عرفت فضله بنصوص الكتاب والسنة، ففضله ثابت متقرر، فدلت على ما هو أفضل منه، الجهاد هي تسأل عن جهاد العدو وقتاله، وقد تقرر أنه من أفضل الأعمال بالأدلة من نصوص الكتاب والسنة، فدلت على ما هو أفضل منه، فهذا يدل على فضل الحج.

تقول: "نرى الجهاد" أي: نعتقد ونعلم ونجزم، والمراد بالجهاد قتال العدو، وذلك لكثرة ما ورد في فضله من نصوص الكتاب والسنة، فالرؤية المذكورة مبنية على نصوص، وليست رأياً مجرداً، مبنية على نصوص، ولذلك تمنت أم سلمة الغزو والجهاد كالرجال، بل تمنت أن لو كانت رجلاً يغزو ويجاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فروى الإمام أحمد والترمذي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، فأنزل الله -جل وعلا-: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [(32) سورة النساء]. "نرى الجهاد أفضل العمل" أي: أفضل العمل المقرب إلى الله -عز وجل-، الموصل إلى جناته، "أفلا نجاهد" الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا)) أي: لا تجاهدن؛ لأنه ليس على النساء جهاد كما سيأتي. لكن قال ابن حجر: اختلف في ضبط إيش؟ لكنّ أو لكُنَّ، عندك؟ المقدم: لكنّ "نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال: ((لا)). المقدم: لكنّ أفضلَ، هذه عندنا. أو لكُن أفضل الجهاد حج مبرور. المقدم: ممكن هذه وهذه. يقول ابن حجر: اختلف في ضبط هذه اللفظة، فالأكثر بضم الكاف خطاب للنسوة، "لكُن" وقال القابسي: وهو الذي تميل إليه النفس. "لكُن" لأنه لو كانت "لكن" استدراك ((أفضل الجهاد حج مبرور)) لشمل الرجال والنساء، واضح؟ المقدم: واضح، نعم. يكون على إطلاقه ((لكن أفضل الجهاد حج مبرور)) بالنسبة للرجال والنساء. المقدم: ما يرد على مثل هذا القول أن المخاطبة هي عائشة والسؤال منها. العبرة بعموم اللفظ؛ لأنه لو قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور، لاقتضى هذا تفضيل الحج على الجهاد مطلقاً للرجال والنساء، وعلى الضبط الذي ذكره ابن حجر، وأضافه ونسبه للأكثر، بضم الكاف خطاب للنسوة، يكون الخطاب موجه للنساء دون الرجال، فيكون الحج أفضل بالنسبة للنساء دون الرجال. المقدم: يعني هذه مسألة ستأخذ وقت، وهي مسألة الحديث عن الجهاد بالنسبة للنساء، فنستأذنك فضيلة الدكتور أن تكون -بإذن الله- في مطلع حلقتنا القادمة لاستكمال أيضاً ألفاظ هذا الحديث.

بهذا أيها الإخوة والأخوات نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب الحج في كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. نحن وفي حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- في باب فضل الحج المبرور، نستكمله -بإذن الله- مع مطلع حلقتنا القادمة، وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (9)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (9) الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله في قبول دعوتنا في شرح أحاديث هذا الكتاب، فأهلاً ومرحباً بكم فضيلة الدكتور. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. لا زلنا في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في باب فضل الحج المبرور، توقفنا عند الكلام عن قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) أو ((لكن أفضل الجهاد حج مبرور)). الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أشرنا في حلقة مضت أن الرواة اختلفوا في ضبط هذه الكلمة: لكن أو لكُن. يقول ابن حجر: اختلف في ضبط هذه الكلمة. المقدم: لكن من أخوات إن. إي نعم استدراك. المقدم: ولكُن اللي هو المقصود الجار والمجرور. إي نعم، فالأكثر بضم الكاف خطاب للنسوة، قال القابسي: وهو الذي تميل إليه النفس. رواية الحموي: لكن بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة؛ لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج، وعلى جواب سؤالها عن الجهاد. نعم يقول: الأول أكثر فائدة؛ لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج "لكُن" كيف اشتمل على إثبات فضل الحج؟ قال: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) فدل على فضله، وهذا بالنسبة للنساء؛ لأن الخطاب موجه إليهن، وعلى جواب سؤالها عن الجهاد؛ لأن اللام هذه للتخصيص ((لكُن)) فإذا كانت هذه اللام للتخصيص فلهن أفضل الجهاد الذي هو الحج، فعلى هذا الجهاد قتال العدو ليس لهن، لكن لو كانت بالاستدراك لكان لهن الحج وأيضاً لهن الجهاد، لكن الحج أفضل من الجهاد. المقدم: وفي المقابل للرجال أن الحج أفضل.

للجميع لو كان استدراك. وسماه جهاداً لما فيه من مجاهدة النفس، بالكف عن شهواتها وجهاد الشيطان، فلا شك أن في الحج ضرب من الجهاد، مجاهدة النفس لا شك أن مثل هذه العبادة لا تنال إلا بشق الأنفس، فمجاهدة النفس ظاهرة، ومجاهدة الشيطان أيضاً ظاهرة، فهو جهاد من هذه الحيثية بمعناه الأعم. وقال العيني: "على رواية الاستدراك، لكن أفضل الجهاد، على رواية الاستدراك، اسم (لكن) هو قوله: أفضل الجهاد بالنصب، لكن أفضل الجهاد، وخبرها قوله: ((حج مبرور)) والمستدرك منه يستفاد من السياق تقديره ليس لكن الجهاد، ولكن أفضل الجهاد في حقكن حج مبرور. وعلى الرواية الأولى (لكُن) رواية الأكثر، أفضلُ الجهاد مرفوع على الابتداء، وخبره الجار والمجرور المتقدم عليه لكُن، تقديره أفضل الجهاد لكُن حج مبرور. والتقديم هنا ((لكُن أفضل الجهاد)) تقديم الخبر الجار والمجرور على المبتدأ للاختصاص، مثل تقديم المعمول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [(5) سورة الفاتحة] مثلاً. وفي رواية النسائي: "ألا نخرج فنجاهد معك، فإني لا أرى عملاً في القرآن العظيم أفضل من الجهاد، فقال: ((لكُن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور)). وفي رواية ابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)) ونحتاج إلى هذا فيما بعد عند حج أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- بعده، ومنع عمر لهن في أول الأمر، ثم إذنه بذلك في آخر خلافته. المقدم: منعه إياهن أن يحججن؟ نعم بعد النبي -عليه الصلاة والسلام-، سيأتي هذا، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((هذه ثم لزوم الحصر)). المقدم: نعم ((هذه والزمن الحصر)). مع قوله -جل وعلا-: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [(33) سورة الأحزاب]. أفضل الجهاد بالنسبة للنساء وإلا فقد أخرج البخاري في هذا الباب باب فضل الحج المبرور، أخرج حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهاد في سبيل الله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)). المقدم: فقدم الجهاد على الحج.

بلا شك، هو أفضل منه بالنسبة للرجال في بعض الأحوال، وتقدم شرح الحديث حديث أبي هريرة في كتاب الإيمان، وتقدم أيضاً ذكر أقوال أهل العلم في اختلاف أجوبته -عليه الصلاة والسلام- عن أفضل الأعمال. المقدم: أحياناً تغير الإجابة بتغير الحال أو السائل. نعم وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل، وترك ما علمه السامعون؛ لأنه قد يسأل عن أفضل الأعمال وهو يعرف أفضل الأعمال، يعرف مثلاً أن الإيمان أفضل الأعمال، لكن يريد غيره الذي بعده، فيترك ما يعلمه السائل والسامعون ويذكر غيره. وبعضهم يقدر لفظة (من) أفضل الأعمال والمراد من أفضل الأعمال، كما يقال: فلان خير الناس. المقدم: والمقصود من خير الناس. نعم، أو أعقل الناس، والمراد من أعقل الناس، يعني مثلما أشرنا سابقاً في قول ابن القيم: وكان أبعد خلق الله عن التدليس، المراد من أبعد خلق الله. ((أفضل الجهاد حج مبرور)) قال ابن خالويه: المبرور المقبول، وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي. وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي: أنه الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، وقيل: هو الذي لا رياء فيه، وعلامة قبول الحج وبر الحج أن تكون حال الحاج بعده أفضل من حاله قبله. يعني الهدف الذي يحققه الحج المبرور أن يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [(203) سورة البقرة] "لمن اتقى" خاصة بمن تأخر أو بمن تقدم أو للجميع؟ للجميع، لا بد أن يتقي الله -جل وعلا- في حجه، فيأتي بجميع ما أوجب الله عليه، ويترك جميع ما نهاه الله عنه؛ ليرتفع عنه الإثم، ويرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، يعني الآن الآية يؤخذ منها إيش؟ تفضيل التعجيل أو التأخير؟ أو لا هذا ولا هذا؟ المقدم: لا هذا ولا هذا. {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [(203) سورة البقرة] شريطة أن يكون. المقدم: ممن اتقى. قد اتقى الله -جل وعلا- في حجه.

{وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [(203) سورة البقرة] ارتفع إثمه، من تعجل ارتفع إثمه، من تأخر ارتفع إثمه، لكن شريطة أن يكون قد اتقى الله -جل وعلا-، لكن هل التعجل والتأخر حكمهما واحد في الفضل؟ المقدم: لا. لماذا؟ المقدم: هو أولاً: اتباع سنة. لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- تأخر، وإلا الآية لا يؤخذ منها تفضيل التعجيل ولا التأخير، المقصود أنه يؤخذ منها أنه لا إثم على الحاج يرتفع عنه الإثم إذا اتقى الله -جل وعلا- في حجه سواءً تعجل أو تأخر. ولذا من يعود إلى ما كان يزاوله قبل حجه من مخالفات الذي يغلب على الظن أن حجه ما أدى الهدف الذي من أجله شرع الحج، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقل مثل هذا في سائر العبادات. المقدم: ولذلك في الآيات -فضيلة الدكتور- النص في الآية: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [(197) سورة البقرة] يعني يعلق بعض الكتاب المعاصرين في مسألة تزودوا؛ لأن الزاد في الغالب يؤخذ للأمام، فالمتزود بالحج لا بد أن يأخذ زاداً يدفعه إلى سنوات كثيرة من خلال هذا التقوى. بلا شك. المقصود أن العبادات إنما شرعت لتطهير النفوس والقلوب والأبدان من الأدران، فالصيام الذي لا يورث التقوى لن تترتب عليه آثاره، وإن كان صحيحاً مجزئاً مسقطاً للطلب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة] هذا الهدف الأول من شرعية الصيام.

الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، لكن الصلاة التي لا تترتب عليها هذه الآثار، صحيح قد تكون صحيحة ومسقطة للطلب، لكن لم تحقق الهدف الأصلي منها، وقل مثل هذا في الحج، وقل مثل هذا في سائر العبادات، ولذا جاء قول الله -جل وعلا-: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة] مع أن الآثار المترتبة من غفران الذنوب، وترتب الأجور على هذه العبادات إنما يكون بالتقوى، وما عدا ذلك يكون مسقط للطلب، مجزئ، صحيح عند الفقهاء، لكنه لا تترتب عليه آثاره؛ لأن نفي القبول يطلق ويراد به نفيه الصحة، ويطلق ويراد به نفي الثواب المترتب على العبادة وهذا منه، إذ لا يوجد أحد من أهل العلم يقول: إن الفاسق إذا صلى عليه أن يعيد الصلاة؛ لأن صلاته ما قبلت، أو الحج يعيد الحج لا، بل المراد من ذلك ما ذكرنا. يقول ابن بطال: قال المهلب: وقوله -صلى الله عليه وسلم- ... عرفنا أن علامة القبول وعلامة بر الحج أن تتغير الحال، ذكرناً مثالاً سبق، وهو أن بعض الناس يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فإذا سمع الخبر خرج، عادي يخرج، بغروب الشمس تنتهي العشر، ليلة العيد تنتهي العشر يخرج عادي يعني، انتهى الاعتكاف، انتهى وقته، لكن الإشكال في صلاة العشاء إذا فاتته صلاة العشاء؟ المقدم: ما ترتبت الآثار. الاعتكاف لا بد أن يكون في خلل مثلاً، من غير عذر، أو نام عن صلاة الصبح، أو سهر ليلة العيد على بعض المحرمات، فعلى الإنسان أن يراجع نفسه. سيأتي عند البخاري قول عائشة في الحديث: "فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني لما سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) تقول: "فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

يقول ابن بطال: قال المهلب: قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) يفسر قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33] يعني إذا كانت المصلحة راجحة في خروج المرأة من بيتها مع التزام الحشمة التامة، وعدم الاختلاط بالرجال، وعدم التعرض لفتنة الرجال، أو الافتتان بهم، بالضوابط الشرعية، إذا كانت المصلحة راجحة لا يعارض قوله -جل وعلا-: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] لكن الأصل القرار في البيوت. يقول المهلب: وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) يفسر قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33] لأنه إذا قررن في بيوتهن ما تبرجن على أي حال، لكن التبرج إنما يحصل بالخروج من البيت. يقول: إنه ليس على الفرض، ليس واجباً أن تقر في بيتها، وإن كان الأصل في الأمر الوجوب، هذا كلامه، لكن إذا قلنا: إن الأصل فيه الوجوب، والقرار واجب إلا إذا كانت المصلحة راجحة، انتهينا من كلامه؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب، والأفضل في المرأة ألا ترى الرجال ولا يرونها. يقول: إنه ليس على الفرض لملازمة البيوت، كما زعم من أراد تنقص عائشة في خروجها إلى العراق للإصلاح بين المسلمين، وهذا الحديث يخرج الآية عما تأولوها؛ لأنه قال: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) ومن لازم الحج الخروج، من لازم الحج الخروج من البيوت، فدل على أن لهن جهاداً غير جهاد الحج لكن الحج أفضل منه. التركيب صحيح؟ ((لكن أفضل الجهاد حج مبرور)) فدل على أن لهن جهاداً غير جهاد الحج، والحج أفضل منه. المقدم: ما دام جعل فيه أفضل، معناه أن في شيء دونه. لكنه مفضول. المقدم: إي نعم مفضول. يشتركان في الفضل، هي تسأل عن الجهاد الذي هو قتال العدو، فقال: أفضل منه الحج، إذاً هو فاضل حتى بالنسبة. المقدم: للنساء. إي نعم.

قال ابن حجر: يحتمل أن يكون المراد بقوله: ((لا)) في جواب قولهن: "ألا نخرج فنجاهد معك؟ " أي: ليس ذلك واجباً عليكن، كما وجب على الرجال، ولم يرد بذلك تحريمه عليهن، فقد ثبت في حديث أم عطية أنهن كن يخرجن فيداوين الجرحى، وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره، ولذا كانت لا تدع الحج، قالت: "فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" ففهمت من هذا الترغيب إباحة تكرير الحج، كما أبيح للرجال تكرير الجهاد، وخص به عموم قوله: ((هذه ثم ظهور الحصر)) وقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [(33) سورة الأحزاب] وكأن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان متوقفاً في ذلك. المقدم: يعني في خروج أمهات المؤمنين. نعم في حجهن بعده -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه قال: ((هذه ثم ظهور الحصر)) يعني الزمن ظهور الحصر البيوت. وكأن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان متوقفاً في ذلك، ثم ظهر له قوة دليلها. المقدم: يعني معنى ذلك ما حججن في عهد أبي بكر -رضي الله عنهم- جميعاً؟ أقول: في عهد عمر هو الذي منعهن. المقدم: إيه، لكن منع عمر يدل على خروجهن في عهد أبي بكر وإلا ما يلزم؟ ما يلزم، هذا مسكوت عنه. المقصود أن عمر كان متوقف في ذلك للحديث، ثم ظهر له قوة دليلها، فأذن لهن في آخر خلافته، ثم كان عثمان بعده يحج بهن في خلافته أيضاً، وقد وقف بعضهن عند ظاهر النهي. المقدم: اللي هو لزوم الحصر ولم تحج. نعم، لم تحج سيأتي ذكره. المقدم: طبعاً خروجهن -رضي الله عنهن- جميعاً يستأذن الخليفة في الغالب أمير المؤمنين. بلا شك نعم إيه؛ لأن سلطته على الجميع. المقدم: وكان شأنهن برعاية أمير المؤمنين طبعاً. نعم بلا شك، نعم. ففي البخاري في باب حج النساء، وقال لي أحمد بن محمد: حدثنا إبراهيم عن أبيه عن جده أذن عمر -رضي الله عنه- لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف.

وروى أبو داود وأحمد من طريق واقد ابن أبي واقد الليثي عن أبيه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لنسائه في حجة الوداع: ((هذه ثم ظهور الحصر)) زاد ابن سعد من حديث أبي هريرة "فكان نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- يحججن إلا سودة وزينب، فقالا: لا تحركنا دابة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إسناد حديث أبي واقد صحيح كما قال ابن حجر. ويمكن الجمع بين حديث الباب: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) وبين حديث: ((هذه ثم لزوم الحصر)) وصنيع أمهات المؤمنين، وحجهن بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بإذن عمر -رضي الله تعالى عنه- أن الحج مستثنى من لزوم الحصر، فهذه الحجة وفي حكمها الحج مراراً، وأما ما عدا الحج فلزوم الحصر، كأنهن فهمن من لزوم الحصر لامتثال قوله: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) هذا حديث قولي، له عمومه، فهمن من قوله: ((لزوم الحصر)) يعني في غير ما تترجح مصلحته كالحج. المقدم: لكن قوله: ((لزوم الحصر)) كانت في خروجهن للحج ((هذه ولزوم الحصر)). نعم ((هذه ثم لزوم الحصر)) وكأنهن فهمن أنه ليس على سبيل الإلزام، بدليل أنه قال: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) يصير لغو هذا، يكون لغو، إذا قلنا: يجب عليهن أن يلزم الحصر ولا يحججن، يكون قوله: ((لكُن أفضل الجهاد حج مبرور)) لغو. المقدم: طيب -أحسن الله إليك- في الحديث الأول حديث عائشة قلنا: بأن الأصل عموم اللفظ "لكُن" يعني للنساء، وهنا في لزوم الحصر قلنا: لأمهات المؤمنين، ما الذي صرف هذا وجعله خاص بأمهات المؤمنين وعمم ذاك لجميع النساء؟ لأن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يمنع أمهات المؤمنين. المقدم: فيكون فهم عمر لهذا النص أنه خاص بهن. خاص بهن. هذا الحديث خرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في خمسة مواضع: الأول: هنا في كتاب الحج، في باب فضل الحج المبرور: قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك قال: حدثنا خالد قال: أخبرنا حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: يا رسول الله ... الحديث، وتقدم ذكر المناسبة. والموضع الثاني في كتاب جزاء الصيد. المقدم: من كتاب الحج.

نعم من كتاب داخل كتاب الحج على ما أشرنا سابقاً. باب حج النساء قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا حبيب بن أبي عمرة قال: حدثتنا عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- قالت: قلت: يا رسول الله ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: ((لكُن أحسن الجهاد)) أو ((لكن)) على الضبط المتقدم، فما هناك يرد هنا ((لكُن أحسن الجهاد وأجمله الحج حج مبرور)) فقالت عائشة: "فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". والمناسبة ظاهرة؛ لأنه في حج النساء. الموضع الثالث: في كتاب الجهاد والسير، في باب فضل الجهاد. قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا خالد قال: حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله ... فذكره. والمناسبة ظاهرة لفضل الجهاد. نعم "نرى الجهاد أفضل العمل" المناسبة ظاهرة لفضل الجهاد من قولها: "نرى الجهاد أفضل العمل" وأقرها النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكنه قال: أفضل منه بالنسبة للنساء الحج المبرور، ودلالة أفعل التفضيل على فضل الجهاد ظاهرة؛ لأن أفضل أفعل تفضيل، تدل على أن هناك شيئين يشتركان في الوصف الذي هو الفضل، ويفوق أحدهما الآخر في هذا الفضل، فدل على فضل الجهاد. والرابع في كتاب الجهاد أيضاً في باب جهاد النساء. قال: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان عن معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- قالت: استأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجهاد، فقال: ((جهادكن الحج)). جهاد النساء في هذه الترجمة جهادهن الحج، استأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجهاد، فقال: ((جهادكن الحج)) فجهاد النساء الحج. والموضع الخامس في الباب المذكور من الكتاب المذكور قال: حدثنا قبيصة قال: حدثنا سفيان عن معاوية بهذا –يعني بالإسناد السابق- وعن حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله نساؤه عن الجهاد؟ فقال: ((نِعم الجهاد الحج)) وهذا هو جهاد النساء.

قال ابن بطال: دل حديث عائشة على أن الجهاد غير واجب على النساء، ولكن ليس في قوله ((جهادكن الحج)) أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد، وإنما لم يكن واجباً عليهن لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر، ومجانبة الرجال، فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد. قال ابن حجر: قلت: وقد ألمح البخاري بذلك في إيراده الترجمة مجملة، جهاد النساء، يقول: باب جهاد النساء في كتاب الجهاد، يقول: قد ألمح البخاري بذلك في إيراده الترجمة مجملة، وتعقيبها بالتراجم المصرحة بخروج النساء إلى الجهاد. المقدم: وعقبها بتراجم. بعد هذه الترجمة جهاد النساء، قال -رحمه الله-: باب غزو المرأة في البحر، ثم قال: باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه، ثم قال: باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، ثم قال: باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو، ثم قال: باب مداواة النساء الجرحى في الغزو، ثم قال: باب رد النساء الجرحى والقتلى، يعني إلى المدينة، فدل على أن لهن المشاركة، وإن لم تكن واجبة عليهن كالرجال. المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بكم. لعلنا نكتفي بهذا على أن نستكمل -بإذن الله- ما تبقى من الأحاديث في حلقة قادمة. أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب الحج في كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. لقاء يتجدد بكم -بإذن الله- مع حديث آخر، وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (10)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (10) عبد الكريم بن عبد الله الخضير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات، مستمعينا الكرام في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أهلاً ومرحباً بكم وطابت أوقاتكم جميعاً بكل خير، ونحييكم إلى حلقة جديدة في شرح الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، لازلنا في كتاب الحج كما أشرنا ويسرنا أن نرحب بضيف البرنامج فضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، ونشكر له تفضله بقبول دعوتنا في شرح أحاديث هذا الكتاب فأهلاً ومرحباً شيخ عبد الكريم. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. المقدم: قال المصنف -رحمه الله-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)). الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فراوي الحديث أبو هريرة الدوسي حافظ الأمة، مر ذكره مراراً، والحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله- بقوله: باب فضل الحج المبرور، الترجمة السابقة. المقدم: نعم. ((من حج)). المقدم: الحديث الأول لعائشة والثاني لأبي هريرة في نفس الباب. في نفس الباب نعم. ((من حج)) يعني حج البيت الحرام، مخلصاً لله -عز وجل- من مال حلال، بحيث تتوافر الأسباب، وتنتفي الموانع، موانع القبول، استيفاء الشروط والأركان والواجبات، وعدم ما ذُكر من الموانع في الحديث وغيرها، فإنه يرجع كيوم ولدته أمه، بالوعد المذكور. في قوله: ((فلم يرفث)) الفاء عطف على الشرط ((من حج فلم يرفث)) الفاء عاطفة، وجوابه رجع ((فلم يرفث)) بتثليث الفاء يرفُث، ويرفَث، ويرفِث، بتثليث الفاء، قاله العيني، ولم يذكر الحافظ الفتح، بل اقتصر على الضم والكسر في كتاب الصيام، في كتاب الصيام لم يذكر الفتح، وإنما اقتصر على الضم والكسر. المقدم: في كتاب الصيام؟! نعم. المقدم: هذا الحديث؟!

لا ما هو بها الحديث، المادة رفث يرفث، ما مر الرفث في كتاب الصيام؟ المقدم: بلى. إيه، هنا قال: فأما فاء الرفث فمثلثة في الماضي والمضارع، والأفصح الفتح في الماضي، والضم في المستقبل، إذا كانت مثلثة في الماضي ماذا نقول؟ رفَث. المقدم: ورفِث. ورفُث. المقدم: ورفُث. وفي المضارع؟ المقدم: يرفَث، يرفِث، يرفُث. نعم، الأفصح في الماضي الفتح، رفَث، والأفصح في المستقبل الضم يرفُث. المقدم: في المستقبلٍ؟! إيه المضارع، مضارع. المقدم: إذاً يُرفث. يَرفُث. المقدم: الراء يعني المراد، نعم. الفاء، الكلام كله على الفاء. المقدم: على الفاء، نعم. نعم. المقدم: فاء الفعل. تصير فاء الفعل؟ المقدم: فاء الفعل الأصلي ذاته وليس الوزن. الفاء الذي معنا. المقدم: الذي معنا. إيه الذي معنا، أما هو يكون إيش؟ الفاء بالنسبة؟ المقدم: العين. العين، عين الكلمة. المقدم: عين الفعل، نعم. والمراد ... المقدم: لكن في التثليث بالنسبة للماضي يا شيخ؟ رفَث. المقدم: أيوه. رفُث رفِث، لكن الأفصح فيه الفتح. المقدم: في الماضي. نعم، والمضارع كما ذكرنا. المقدم: يرفُث. يرفُث يرفَث يرفِث، فهي مثلثة، والمراد بالرفث: الكلام الفاحش، ويطلق على هذا -يعني على الكلام الفاحش- وعلى الجماع، وعلى مقدماته، وعلى ذكره مع النساء، أو مطلقاً، وعلى ذكره مع النساء يعني مواجهة النساء بالكلام. المقدم: الفاحش. الفاحش، المتعلق بهن، وبالصلة بهن، أو مطلقاً، يعني حتى مع الرجال، ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها، يقول الأزهري في تهذيبه: قال الليث، من الليث؟ مر بنا مراراً. المقدم: المحدث. الليث بن سعد؟ المقدم: الليث بن سعد. لا، ما يجي. المقدم: أو اللغوي يا شيخ؟ اللغوي، لكن إيش؟ الليث بن؟ مر بنا مراراً. المقدم: إحنا سجلناه، إيه صحيح، الليث اللغوي. أي نعم إيه، الليث إيش؟ ذكرنا مراراً أن ممن يعاني تحقيق الكتب ... المقدم: يقع في ... إذا مر به ترجم لليث بن سعد، إذا مر به في كلمة لغوية، وفي نقل عن كتب أهل اللغة. المقدم: فليس المراد به الليث بن سعد جزماً.

لا، أبداً، هو الليث بن المظفر، وذكرنا أنه قد يتكايس بعضهم فيقول: إن لم يكن ابن سعد فلا أدري من هو؟ وهذا كله دليل على عدم معاناة. المقدم: البحث. البحث من مظانه وعن أهله، يعني: التفنن في العلوم، فكل علم يؤخذ من أهله. قال الليث: الرفث كالجماع، وأصله قول الفحش، قال الله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [(197) سورة البقرة] وقال الزجاج: أي لا جماع، ولا كلمة من أسباب الجماع، وأنشد: . . . . . . . . . ... عن اللّغَا ورفث التكلمِ قال: والرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من أهله، وذكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يدل على أن الرفث خاص بما خُوطبت به المرأة، أما إذا كنت تتحدث مع الرجال. المقدم: ما تقول رفث. لا، افعل ما شئت، لا تواجه النساء بالكلام هذا، بهذا الكلام الرفث. المقدم: نعم. وينسب له حتى ابن كثير -رحمه الله- ذكره في تفسيره، وذكره الأزهري في تهذيبه، وذكره ابن دريد في الجمهرة، ذكره بيت لا أدري يثبت عن ابن عباس أو لا يثبت: "إن تصدق الطير" فأتى بكلمة سافلة، لا تليق بمقامه -رضي الله عنه وأرضاه-. المقدم: فضلاً عن أن تصدق الطير ما يقول هذا. عن كونه تشاؤم، نعم. المقدم: ولذلك يذكرها بعض المفسرين مع الأسف في كتبهم. يذكرونها. المقدم: كابن كثير وغيره. بلا شك، الكلمة مجيئها في مثل هذا البيت يختلف عن مجيئها في حديث ماعز مثلاً، الكلمة الفاحشة هذه. المقدم: أي نعم. نعم، يعني لو أن شخصاً يقرأ في تفسير، أو في أي كتاب في المسجد مثلاً يقرأ على الناس ويأتي بهذه الكلمة في مثل هذا البيت. المقدم: يختلف عن .. يختلف عن حديث؛ لأن الحديث التصريح بالكلمة مقصد وهدف، التصريح بالكلمة التي يترتب عليها الحد، ولذلك من الأدب في الكلام أن لا تنسب لنفسك قولاً ترويه عن غيرك، ولو كنت ناقلاً أو آثراً، ما تقول: يقول فلان: أنا كذا، وهو كلام ليس بطيب، كما في حديث: "هو على ملة عبد المطلب" نعم. المقدم: صحيح ما يقول: أنا، ما ينسبها لنفسه. هو نفسه ماذا قال؟ المقدم: هو قال: أنا. لكن الناقل ما يقول: أنا. المقدم: نعم، ما يجيب ضمير المتكلم. نعم؛ لأن هذا يقبح به أن يتلفظ بمثل هذا الكلام.

المقدم: مثل كلام الفقهاء مثلاً عن المرأة إذا تحدثت على أن زوجها واقعها، وصرحت بالفعل الذي يدل على مواقعة الزوج لزوجته، عندما ينقل الفقهاء هذا الكلام ينقلونه على ضمير المتحدث الغائب. المناسب لها. المقدم: أي نعم، لا ينقلونه على المتكلم. لكن في حديث ماعز، كل الرواة يتتابعون على رواية قوله: "إني زنيت". . . . . . . . . يترتب عليه حد، لو قال الرواة مثلاً قال: إنه زنى، والمسألة تحتاج إلى. المقدم: دقة في النقل. نعم، لا بد من أن يكون اللفظ يترتب عليه الحكم، لا يحتمل. المقدم: نعم. ومثل هذا الكلام أنا في شك من ثبوته عن ابن عباس، ذكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يدل على أن الرفث خاص بما خوطبت به المرأة، فأما أن يرفث في كلامه ولا تسمع امرأة رفثه فغير داخل في قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ} [(197) سورة البقرة] ونحوه في الجمهرة، نحو هذا الكلام المذكور في تهذيب اللغة في جمهرة، إيش؟ المقدم: جمهرة اللغة. جمهرة اللغة لمن؟ لابن دريد، كتاب مشهور في اللغة، والكلام فيه وفيه مؤلفه أيضاً معروف. المقدم: نعم. لكنه كتاب نفيس، يعني من أمهات كتب اللغة مهما قيل يعني. المقدم: متقدم يعني. إيه جداً. المقدم: يعني الذين أتوا بعده أفادوا منه كثيراً. بلا شك، نعم نقلوا عنه. المقدم: أيهما الأول هو أو القزاز يا شيخ؟ القزاز بيجي ها الحين. المقدم: صاحب الجامع. بيجي ها الحين. يقول ابن حجر: الذي يظهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك، وإليه نحا القرطبي، وهو المراد بقوله في الصيام: ((فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث)) يعني: يراد به العموم، الكلام الفاحش والبذيء من القول سواء كان وجهت به النساء أو الرجال. ((ولم يفسق)) قال الراغب: فسق فلان خرج عن حجر الشرع، وذلك من قولهم: فسق الرطب إذا خرج عن قشره، وهو أعم من الكفر؛ لأن الكافر يقال له: فاسق، مرتكب الذنب يقال له: فاسق، فهو أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنب وبالكثير، لكنه تُعوريف فيما كان كثيراً، هذا تبع كلام الراغب، الفسق يقع بالقليل من الذنب وبالكثير لكن تُعوريف بما كان كثيراً، يعني مع الإصرار والاستمرار عليه يوصف بالفسق، هذا كلامه لكن القلة والكثرة.

المقدم: نسبية. ولا ينظر إليها إلا من جهة أن صاحب السوابق أعظم من الذي تقع منه الهفوة، لكن المنظور إليه من جهة أخرى إلى عظم الذنب، وأكثر ما يقال: الفاسق لمن التزم حكم الشرع، وأقر به، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه، يعني: الفاسق شخص غير ملتزم بأحكام الشرع، الغير ملتزم بأحكام الشرع بالكلية هذا لا يقال له: فاسق في الغالب، على الخلاف في اشتراط العمل. المقدم: يقال له إذن؟ هم عندهم من لا يشترط العمل في مسمى الإيمان قد يسميه ... المقدم: يسميه فاسق. قد يسميه فاسق من هذه الحيثية، لكن الذي يشترط العمل وهو القول المرجح عند أهل السنة، وعند سلف هذه الأمة. المقدم: ما يسميه فاسق. الذي يترك العمل بالكلية يسميه كافر؛ لأنه ... المقدم: ترك الصلاة. على القول الراجح والمفتى به أنه يكفر، ولذلك قال في الأول: وأكثر ما يقال: فاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه، بجميع أحكامه كيف يسمى فاسق وهو يقول: إن الفسق أعم من الكفر؟ أو باعتبار أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان عنده. المقدم: أي نعم. احتمال. وسميت الفأرة فويسقة لم اعتقد فيها من الخبث والفسق، وقيل: لخروجها من بيتها مرة بعد أخرى، يقول ابن الأعرابي ... المقدم: يعني لكثرة خروجها من بيتها تسمى فويسقة؟ هذا كلامه. قال ابن الأعرابي ... لعل المأخذ الأصلي لكونها مؤذية كالفساق، وجاء في الحديث: ((خمس كلهن فواسق، يقتلن في الحل والحرم)) ويأتي -إن شاء الله تعالى-. المقدم: ومنها الفأرة. ومنها الفأرة، يقول ابن الأعرابي ... المقدم: فأرة، عفواً يا شيخ -أحسن الله إليك- الفأرة المراد بها فأرة المنازل. جميع ما يطلق عليها هذا الاسم. المقدم: يعني حتى فأرة البر؟ كيف؟ المقدم: الفأرة التي في البر. الفأرة فرق بين الفأرة والجربوع. المقدم: لا، أشبه ما تكون بالفأرة، الجرذي الصغير يسمونه فأرة الآن. إذا كانت فأرة والجرذي من الفئران، نوع كبير من الفئران. المقدم: لكنه في البر ليس مثل الجربوع أبداً. المقصود أنه تختلف حقيقته عن حقيقة بالجربوع. المقدم: أي طبعاً. فالفأر كله فواسق سواء كبر حجمه أو صغر، ويشترك في الأذى.

قال ابن الأعرابي: لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان في كلام العرب، وإنما قالوا: فسقت الرطبة عن قشرها، يريد أن يقول: إن هذا الاصطلاح وهذا اللفظ إسلامي، لا يعرفه العرب في بني آدم، فيمن خرج عن طاعة الله -عز وجل- من بني آدم، إنما يقولون للرطبة إذا خرجت عن قشرها: فسقت، وتعقبه ابن حجر بأنه كثر استعماله في القرآن، وحكايته عمن قبل الإسلام. المقدم: إن أذنت لي يا شيخ سؤال حول ما دمنا نتكلم عن يرفُث ويفسُق، يعني يكثر كلام العلماء هذا من باب ضرب. الموازين، الموازين الصرفية. المقدم: يعني هل قياس مطرد؟ مطرد، مطرد. المقدم: أنا أعرف في كل الأفعال أعرف مثلاً أن فسق يفسق، رفث يرفث، هل لها ميزان متسق أعرفه بحيث أني أعرف ... ؟ لا، هم قد يختلفون في بعض الكلمات، لكنه عندهم مطرد. المقدم: إذا قال من باب ... ولا يمكن أن يتعلم الطالب إلا على هذه الطريقة، لا يتعلم الصرف إلا إذا عرف الموازين. المقدم: أي نعم. عندنا الكلام يحتاج إلى ... ، كلام ابن الأعرابي يقول: لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان لكلام العرب، وإنما قالوا: فسقت الرطبة عن قشرها، تعقبه ابن حجر بأنه كثر استعماله في القرآن، وحكايته عن ما قبل الإسلام. المقدم: يحتاج إلى ... ! يحتاج إلى مزيد إيضاح، يعني كون القرآن يطلق على بعض الكفار أو بعض الأمم بأنها فسقت أو فاسقة، هل يعني هذا أن العرب يعرفون هذا اللفظ، وأنه مقترن بمن اتصف بهذا الوصف؟ إذا نظرنا إلى الأمم السابقة التي لا تنطق بالعربية مثلاً، ووصفت بهذا الوصف. المقدم: معناها أنهم يعرفون. كيف؟ المقدم: أقول: معنى ذلك أنهم يعرفون أو ما يعني هذا؟ هل هذا الوصف الذي جاء في القرآن ينطبق على ما نزل على الأنبياء السابقين أنهم وصفوا في وقتهم على ألسنة أنبيائهم. المقدم: بنفس اللفظ، ليس بالضرورة يا شيخ! لأن كثير منهم ليسوا من العرب. المقدم: ليس بالضرورة. لا ينطقون بالعربية. المقدم: لا ليس ضرورة، لكن في المقابل هل كونه أطلق في القرآن أنه حادث ولم يستخدم قبل عند العرب، ولا تعرف أنه معناه كذا.

أولاً: لا سيما العرب الذين هم قرب عهد النبوة، أهل الفترة كيف يصفون الرجل بأنه فاسق؟ يعني خرج عن المألوف عنهم فقالوا: فاسق، أو أن الحقيقة المعروفة في الشريعة ... المقدم: أطلقت هذا اللفظ. لا، أنا أقول: اللفظ الفاسق الذي يطلق على المخالف لأحكام الله -جل وعلا-. المقدم: هذا شرعاً يا شيخ. هذا معروف. لكن إذا قلنا: إن العرب أطلقوه على من خرج عن أمر الله -جل وعلا- كلهم فساق. المقدم: صحيح. أن الواصف والموصوف لأنه جلهم خرجوا عن ... المقدم: لكنهم يطلقون على من خرج عن شيء مألوف عندهم أو عرف عنه تمرده الظاهر يطلقون عليه فاسق وفسق وفسوق. على كلامهم لا، على كلام ابن الأعرابي لا. المقدم: هذا هو السؤال. نعم. المقدم: هذا الأهم. على كلام ابن الأعرابي لا. المقدم: يعني لا يعرف عنهم. الاسم إسلامي، اسم إسلامي. المقدم: ألفاظ القرآن في مسألة الفسق كثيرة. نعم بلا شك. المقدم: {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [(3) سورة المائدة]. نعم. المقدم: يعني كونه ... لكن هذا الوصف إسلامي لذلك الفعل الذي حصل في الجاهلية. المقدم: يعني حتى إطلاقه في بعض أفعالهم: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [(121) سورة] هل المراد فقط إشعار العرب بأن هذه اللفظة من الفسق جاءت بدلالة شرعية جديدة؟ ابن حجر لما تعقب ابن الأعرابي بأنه كثر استعماله في القرآن، وحكايته عمن قبل الإسلام، يعني هل القرآن يحكي عمن قبل الإسلام أو يصف من قبل الإسلام؟ المقدم: لا، يصف. فرق بين هذا وهذا، كونه يصف لا يلزم أن يكون معروفاً عند العرب. المقدم: وهذا ممكن جداً. يقول: وحكايته عمن قبل الإسلام، هل القرآن حكى عمن قبل الإسلام أنهم تكلموا بهذه الكلمة؟ المقدم: أبداً. يقول الكرماني في تفسير ((ولم يفسق)) أي: لا خروج عن حدود الشريعة، الآية فيها {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [(197) سورة البقرة]. المقدم: {وَلاَ جِدَالَ} [(197) سورة البقرة]. {وَلاَ جِدَالَ} [(197) سورة البقرة]. في الحديث اقتصر على إيش؟ المقدم: الرفث والفسوق. فقط.

المقدم: وليس هناك جدال. نعم، يقول الكرماني: إنما لم يذكر الجدال في الحديث اعتماداً على الآية، يعني: من باب الاكتفاء، الآية التي يعرفها الخاص والعام، فهي في حكم المذكور، اكتفاء بالآية، أفاد الطيبي كما نقله ابن حجر عن غيره عنه أن الحديث إنما لم يذكر الجدال كما ذكر في الآية على طريق الاكتفاء، بذكر البعض وترك ما دل عليه ما ذُكر. المقدم: أي نعم، صح. {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [(81) سورة النحل]. المقدم: ولم يذكر ... ولم يذكر البرد، نعم. المقدم: من باب أولى. لا من باب الاكتفاء. المقدم: أي نعم. يقول فيما نقل عن الطيبي: أن الحديث إنما لم يذكر الجدال كما ذكر في الآية على طريق الاكتفاء بذكر البعض وترك ما دل عليه ما ذكر، لكن يحتمل أن يقال: إن ذلك تختلف، الجدال مراتبه تختلف بالقصد. المقدم: بعض الجدال قد يكون حق. نعم، وبعض الجدال لا يؤثر في المغفرة؛ لأن وجوده قد لا يؤثر في ترك المغفرة إن كان المراد به المجادلة في أحكام الحج بمعنى المناقشة، يعني: مدارسة العلم في هذه الأحكام "فلا جدال في الحج" يعني: لا مناقشة في مسائل الحج، هذا المقصود به في الآية؟ لا، إنما الجدال والمناقشة في مسائل الحج للوصول إلى الحق هذا مطلوب، هذا علم، هذا دين، هذه عبادة، يقول: لأن وجوده لا يؤثر في ترك المغفرة إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحج فيما يظهر من الأدلة، أو المجادلة بطريق التعميم، فلا يؤثر أيضاً، فإن الفاحش داخل في عموم الرفث، هم قالوا في تعريف الرفث: إنه القول الفاحش. المقدم: كل قول فاحش. إذن إذا كان الجدال فاحش دخل في فلا يرفث. المقدم: وإذا كان حق. والحسن منه ظاهر في عدم التأثير، والمستوي الطرفين، يعني ليس بفاحش وليس بحسن، إنما هو من الكلام والجدال المباح، لا يؤثر أيضاً، لكن لا شك أن تركه أولى. المقدم: يظهر -والله أعلم- أن تركه هو الأولى. بلا شك. المقدم: وغير كذا يمكن أنه لم يذكر استناداً لأدلة أخرى يا شيخ إذا استوى ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)). ((فليقل خيراً)) المقدم: ((أو ليصمت)).

ولذا الخلاف معروف عند أهل العلم فيما يكتب، هل يكتب كل شيء؟ {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [(18) سورة ق] هذا الأصل أنه يكتب كل شيء، حتى الكلام المباح يكتب، منهم من يقول: إنه ما يكتب إلا ... المقدم: ما يحسب. ما يحسب، إما ملك اليمين أو ملك الشمال. المقدم: حسنة أو سيئة. نعم؛ لأنه إن كان حسناً كتبه. المقدم: اليمين. اليمين، وإن كان سيئاً. المقدم: كتبه الشمال. وإن كان لا هذا ولا هذا؟ المقدم: لا يكتب. هذا قول. ((كيوم)) قرأته أنت إيش؟ المقدم: كيومَ وكيومِ، أنا قرأتها حسب التشكيل كيومِ، وهي تقرأ "كيومَ ولدته أمه". طيب لماذا؟ الكاف حرف جر. المقدم: يومَ على الظرفية. كيف؟ المقدم: يومَ. هو ظرف على كل حال. المقدم: أي نعم. نعم. المقدم: يصح فيها الوجهين، يومَ ويومِ. لماذا؟ نعم، ((كيومَ ولدته أمه)) أو ((كيومِ)). المقدم: كيومِ أو كيومَ. أو كيومَ، أي: صار بلا ذنب. المقدم: طيب. يقول الكرماني: تقديره رجع مشابهاً لنفسه في البراءة عن الذنوب في يوم ولدته أمه. المقدم: ما رأيك شيخ أن نترك. في يومَ ولدته أمه، أو هو بمعنى صار. المقدم: يعني نترك الإجابة عليه في الحلقة القادمة -بإذن الله- تشويقاً للإخوة. طيب. المقدم: خصوصاً كيومَ أو كيومِ، ولماذا؟ هذا ما سيكون في مطلع الحلقة القادمة -بإذن الله تعالى-. أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام حلقتنا من شرح كتاب الحج في كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. نستكمل -بإذن الله- في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في الحلقة القادمة، وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (11)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (11) الشيخ: عبد الكريم الخضير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهلاً ومرحباً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح الحج من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحباً بك شيخ عبد الكريم. حياكم الله وبارك فيكم في الإخوة المستمعين. المقدم: لا زال الحديث حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيومَ ولدته أمه)) توقفنا عند لفظة: كيومَ، كيومِ، ووعدنا الإخوة والأخوات بأن نبدأ في هذه الحلقة للتعرف على السبب في الوجهين: يومَ ويومِ. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. في قوله: ((كيومَ ولدته أمه)) أو ((كيومِ)) يوم الكاف لا شك أنها جارة. المقدم: أي نعم. الكاف جارة، ويوم مجرور بالكاف، والمختار بناؤه على الفتح، لماذا؟ لأنه أضيف إلى جملة صدرها مبني، نعم ((كيومَ ولدته)) الآن الجملة التي بعده ((ولدته أمه)) هو مضاف إليها، وهي جملة صدرها يعني أولها مبني فعل ماضي. المقدم: نعم. لكن في مثل قوله -جل وعلا-: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ} [(119) سورة المائدة] هذه صدرها معرب، ولذلك ... المقدم: جاءت معربة يومُ. أعربت، فالمختار بناؤه على الفتح؛ لأنه أضيف إلى جملة صدرت بماضٍ وهو مبني ويجوز إعرابه، وقد روي البناء والإعراب في قوله: على حينَ -أو على- حينِ عاتبت المشيب على الصبا. بفتح نون حين على البناء، وكسرها على الإعراب، وما وقع قبل فعل معرب، يعني إذا كانت الجملة التي تليها، التي أضيفت إليها صدرها معرب أو قبل مبتدأ مثلاً، فالمختار فيه الإعراب، ويجوز البناء، هناك المختار البناء يجوز الإعراب في مثل الحديث. المقدم: أي نعم، إذا كان.

وعكسه إذا كان صدره معرب الأصل فيه أنه معرب يجوز فيه البناء. المقدم: البناء، يعني يصلح: "هذا يومَ ينفعُ". نعم. المقدم: يصلح هذا. ويأتي. يقول ابن مالك: وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا ... واختر بنا متلو فعل بُنيا وقبل فعل معرب أو مبتدأ ... أعرب ومن بنى فلن يفندا نعم، الكلام الأول. المقدم: أعرب. فيما وابن أو أعرب، ابن على الفتح أو أعربه، مثل ما عندنا. المقدم: أي نعم، جيد. وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا ... واختر بنا. . . . . . . . . يعني: اختر يكون الراجح بناء متلو فعل بُنيا، فعل مبني، مثل ما عندنا. المقدم: أي نعم. "وقبل فعل معرب" هذا يومَ ينفع. المقدم: أي نعم. وقبل فعل معرب أو مبتدأ ... أعرب ومن بنى فلن يفندا المقدم: لا تثريب عليه. لا تثريب عليه، وقد قرئ في السبع: ((هذا يومُ ينفع الصادقين صدقهم)) بالرفع على الإعراب وبالفتح على البناء، هذا ما اختاره ابن مالك، ومذهب البصريين أنه لا يجوز فيما أضيف إلى جملة فعلية صدرت بمضارع أو إلى جملة اسمية إلا الإعراب، وعلى هذا في قوله -جل وعلا-: ((هذا يومُ ينفعُ)) لا يجوز بناؤه، وهم يقولون: قرئ في السبع، السبع متواترة، وهي حجة على كل من خالفها، مذهب البصريين أنه لا يجوز فيما أضيف إلى جملة فعلية صدرت بمضارع أو إلى جملة اسمية إلا الإعراب، ولا يجوز البناء إلا فيما أضيف إلى جملة فعلية صدرت بماضٍ. المقدم: القراءة السبعية يومَ يا شيخ أيضاً؟ يومُ .... . . . . . . . . . معروف، يومَ هذا الذي عليه قراءتنا، لكن يقولون: قرئ في السبعة هذا. المقدم: التي عليها قراءتنا يومُ. إيه إيه. المقدم أنا أقصد يومَ قرأت بالسبع؟ قرئ في السبع بالرفع على الإعراب وبالفتح على البناء. المقدم: إيه، والآن البصريين يخالفون. وهذا ما اختاره ابن مالك، ولذ قال: "ومن بنى فلن يفندا". المقدم: والبصريون يخالفون في النصب؟ في مثل هذا، يقولون: لا يجوز البناء في هذه الحالة. قال ابن حجر: ظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات؛ لأن فيه ((رجع كيومَ ولدته أمه)) إذا قلنا: إنه لا يغفر إلا الصغائر كيف يرجع؟ يعني: ظاهر الحديث أنه يغفر كل شيء. المقدم: كل شيء.

نعم، وللحافظ ابن حجر كتاب أسماه: (قوة الحِجاج في عموم المغفرة للحاج). المقدم: الله أكبر. نعم، يقول: ظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وش التبعات؟ يعني ما يتعلق بحقوق العباد، الصغائر والكبائر من حقوق الله -جل وعلا-، والتبعات فيما يتعلق بحقوق العباد. يقول: "وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك" والحافظ يشير إلى ما أخرجه أبو داود مختصراً، وأخرجه ابن ماجه عن العباس بن مرداس الأسلمي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب ((إني قد غفرت لهم ما خلا المظالم، فإني آخذ من للمظلوم منه)) يعني: ما خلا الظالم فإني آخذ للمظلوم منه. قال: أي ربي إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم، فلم يجب عشيته، فلم أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو قال: تبسم -عليه الصلاة والسلام-، فقال له أبو بكر وعمر: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، يعني ساعة دعاء، وساعة ذكر، يعني ما هي بساعة ... المقدم: أنس وضحك. نعم، ولا يتشبث بمثل هذا من كان الغالب عليه الهزل، حتى في أشرف البقاع، بعض الناس يضحك، وبعض الناس ينكت، ويمزح، وقد يتراءى له إن كان اطلع على مثل هذه الأحاديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تبسم، نعم لكن لا يعني هذا أن الإنسان يغلب عليه الحزن، وتتكدر حياته بمثل هذا، نعم يرجو ربه ويخاف، فيكون بين الرجاء والخوف، فلا إفراط لا تفريط.

فقال له أبو بكر وعمر: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها فما الذي أضحكك أضحك الله سنك؟ قال: ((إن عدو الله إبليس لما علم أن الله -عز وجل- قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه)) هذا الحديث سكت عنه الحافظ في فتح، والعادة أنه في مثل هذه السورة لا يسكت إلا عن حديث صحيح، أو عن حسن، ما يسكت ابن حجر إلا عن حديث صحيح أو حسن كما بين ذلك في مقدمة شرحه، لكن في إسناده عبد الله بن كنانة، قال عنه ابن حجر في التقريب: مجهول، ثم قال ابن حجر: وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري، هذه المسألة وهي تكفير الذنوب بأنواعها صغائر وكبائر مسألة خلافية بين أهل العلم، لكن الجمهور على أن هذه الأعمال إنما تكفر ... المقدم: الصغائر. الصغائر دون الكبائر، وأما الكبائر ... المقدم: تحتاج إلى توبة. فلا بد لها من توبة، ولذا تكرر في أحاديث ... المقدم: ((ما لم تغش كبيرة)). مثلاً ((الصلوات الخمس، رمضان إلى رمضان، الجمعة إلى الجمعة، العمرة إلى العمرة مفكرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) في بعض الروايات: ((ما لم تغش كبيرة)) لكن هل من هذه الحج؟ لأنه قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)). المقدم: بعدها قال: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). ((ليس له جزاء إلا الجنة)) فهذا يقوي تكفير الحج للجميع، لكن لا يعتمد الإنسان على مثل هذا الفضل ويغرق في الذنوب والمعاصي ويسترسل فيها، ويقول: أحج ويكفر عني! لكن هل من بيت هذه النية يوفق بترك الرفث والفسوق؟ هل يوفق؟ لا يوفق، فلا يوفق لما رتب عليه هذه المغفرة؛ لأن بعض الناس يقول يسترسل والله غفور رحيم، ويحج ويمحو أثر الذنوب والمعاصي، كبائرها وصغائرها، نقول: لا يا أخي، ولذا جاء في الحديث في صحيح البخاري: ((من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دخل من أي أبواب الجنة الثمانية)). المقدم: شاء.

قال البخاري -وبعضهم يجعلها من المرفوع-: "ولا تغتروا" أي لا يغتر بمثل هذه النصوص، وإلا فما الفائدة من نصوص الوعيد؟! وما الفائدة من ترتيب الحدود على هذه المعاصي؟ لا بد من التنبه لمثل هذا، فلا يسترسل الإنسان في منكراته وجرائمه، ويقول: ((من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع يكون ولدته أمه)) ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) كيف توفق لحج مبرور وأنت مبيت مثل هذه النية؟ المقدم: الله المستعان. وبعض الناس يقول: الحج في مثل هذه الظروف التي نعيشها لا يزيد على أربعة أيام. المقدم: يروحون يوم عرفة. يوم عرفة والعيد. المقدم: وإحدى عشر واثنا عشر ويرجع. ويرجع، أربعة أيام، ويقول أيضاً، بل تمنيه نفسه أنه سوف يطبق هذا الحديث، وهو طول العام كلامه في الرفث والفسق واللغو والقيل والقال، يقول: أربعة أيام نستطيع أن نحفظ هذه الأيام الأربعة. المقدم: بعضهم يا شيخ جعلها ثلاثة، يسمونه الحج الخفيف، وهذا يعلن عنه مع كل أسف. هذا يمكن. المقدم: يمشون يوم عرفة يا شيخ في الليل. بعد صلاة. . . . . . . . . نعم بالليل. المقدم: بالليل. ويدركون الوقوف قبل طلوع الصبح. المقدم: فيقف قبل طلوع الصبح من ليلة النحر. يدركون الوقوف. المقدم: بدقائق، معناها أنه ما مكث إلا اليوم العاشر، ويوم الحادي عشر يوم الثاني عشر ظهراً يرمي ويمشي، يعني يومين ونصف تقريباً. إيه، لكن هل البر بالإيضاع؟ المقدم: أبداً، لكن أنا. . . . . . . . . البر بالاقتداء. المقدم: صحيح، في معرض الحديث عن هؤلاء الذين جعلوا الحج مثل هذا التساهل مع الأسف ... البر بالاقتداء بلا شك، وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: ((خذوا عني مناسككم)) وقد فعل -عليه الصلاة والسلام- الحج الكامل، بشروطه وأركانه وواجباته وسننه، وبعض الناس يتخفف، السنن يتجاوز فيها كثير من الناس، فلا يحاولون تطبيقها؛ لأنها لا وزر فيها، وأمرها أسهل من الواجبات، والواجبات أسهل من الأركان، لكن يبقى أن الإنسان عليه أن يقتدي {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لمن؟ المقدم: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [(21) سورة الأحزاب].

نعم، أما من يريد أن يقول: حججت، أو يقول: حجي ما كلف كذا، ما أخذ منا ولا ثلاثة أيام، ويحضر قبل الناس في المجالس يتحدث أنا أخر من وصل، وأول من قدم، هذه حقيقة مرة إن كان هذا هدف لبعض الناس، والله المستعان. المقدم: الحكم على الحديث إذن يا شيخ؟ أي حديث؟ المقدم: الأخير، حديث المرداس. إذن ما دام فيه راو مجهول، ولا يعرف فيه جرح ولا تعديل كما يقول كثير في كتب الرجال. المقدم: إذن هذا خروج الحافظ عن قاعدته. ضُبط عليه بعض الأحاديث، لا سيما في ما يستروح إلى القول به، هو بشر، يكفيه أنه جمع هذا الديوان العظيم، وكفى به مفخرة، لكن هو بشر على كل حال، والاعتماد أيضاً على فضل الله -جل وعلا- له أصل، يجعله يندرج تحت أصل عام، وهو عموم فضل الله -جل وعلا-، ورحمته التي وسعت كل شيء، لكن مع ذلك الحديث فيه ضعف. والحديث -حديث أبي هريرة- خرجه الإمام البخاري في ثلاثة مواضع: الأول هنا في كتاب الحج، في باب فضل الحج المبرور: قال: حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا سيار أبو حكم قال: سمعت أبا حازم قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول، وسبق ذكر المناسبة، المناسبة ظاهرة وإلا ما هي بظاهرة؟ المقدم: بلى. ترتيب الثواب العظيم يدل على مزيد الفضل. المقدم: الفضل، نعم. وسبق ذكر المناسبة. يقول هنا: سمعت أبا حازم، يكثر ذكر أبي حازم، وهما اثنان: أحدهما يروي عن أبي هريرة، والأخر يروي عن سهل بن سعد، فالذي يروي عن أبي هريرة اسمه: سلمان، وذاك سلمة بن دينار الزاهد المعروف، الموضع الثاني في كتاب المحصر. المقدم: يا دكتور قبل الموضوع الثاني، أشرنا إلى أن الشاهد واضح في فضيلة الحج، فضله. بلا شك؛ لأنه رتب عليه هذا الثواب العظيم. المقدم: وكونه الحج مبرور في الحديث الأول جاء نصاً ((حج مبرور)) فالحج المبرور مطابق لترجمة، وهنا ألا يمكن أن نقول: إنه أيضاً جاء بالمعنى أنه حج مبرور؟ الذي لم يرفث ولم يفسق، الذي لا يخالطه الإثم. المقدم: ليس فيه رفث ولا فسوق. المعنى واحد. المقدم: فهو حج مبرور. يستحضر فيه ما استحضر في الحديث السابق. المقدم: نعم.

في الموضع الثاني في كتاب المحصر: في باب قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ} [(197) سورة البقرة] ويقال في هذا الكتاب المحصر مثل ما قلنا في جزاء. المقدم: في جزاء الصيد. في جزاء الصيد وغيره، أنها سميت كتب ورقمت من أجل أن تطابق ... المقدم: الترقيم .... المعجم المفهرس. المقدم: المعجم. وهذا الذي وضع الأرقام والأطراف محمد فؤاد عبد الباقي؛ ليفيد طلاب العلم، ويسهل عليهم. في قول الله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ} [(197) سورة البقرة] قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره وفيه: ((فلم يرفث)) والترجمة "فلا رفث" فالمناسبة ظاهرة. والموضع الثالث في كتاب المحصر أيضاً، في باب قول الله -عز وجل-: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [(197) سورة البقرة]. قال: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكره. والمناسبة -مناسبة الحديث- للآية ظاهرة أو غير ظاهرة؟ {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [(197) سورة البقرة] والحديث فيه: ((فلم يرفث ولم يفسق)). نعم. المقدم: قال -رحمه الله-: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غيرهن، ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك من حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة. نعم، راوي الحديث عبد الله بن عباس، حبر الأمة، ترجمان القرآن، مر ذكره مراراً، والحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله ... المقدم: باب مهل أهل اليمن. لا. المقدم: آه، إذن عندنا. ترجم عليه الإمام -رحمه الله تعالى- بقوله: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة. المقدم: عجيب! مهل. وترجم عليه هذا. المقدم: ترجمتين يا شيخ؟! تراجم كثيرة، لكن المطابق الترجمة الأولى. المقدم: مهل أهل مكة. نعم، باب مهل أهل مكة للحج والعمرة.

المقدم: عجيب، والذي أتى عندنا، وأتى به المحقق مهل أهل اليمن. سيأتي والحديث فيه، لكن فيه بعض الاختلاف، أولاً: ليس الموضع الأول من روايته في الصحيح، الأمر الثاني: فيه بعض الاختلاف، والذي ذكرناه باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، هو المطابق بحروفه وهو الموضع الأول، وذاك طرف من أطرافه، الموضع الذي ترجم به المحقق. المقدم: لكن في الترقيم يا شيخ الترقيم الموجود في البخاري، كم يأخذ الحديث ألف وخمسمائة وثلاثين؟ وأربعة وعشرين. المقدم: ألف وخمسمائة وأربعة وعشرين؟! نعم. المقدم: معناها أن الذي قام بالاختصار هنا لم يضبط حتى الأرقام. ما هو بالاختصار بـ. . . . . . . . . المقدم: بالتحقيق عفواً. بالتحقيق. المقدم: أي نعم. هو ذهب وهله، وجد الحديث هناك، هو الحديث نفسه إلا أن فيه ... المقدم: ألفاظاً. اختلاف بعض الحروف. المقدم: وفي مهل أهل اليمن يا شيخ؟ إيش فيه؟ المقدم: الباب، باب مهل أهل اليمن. هو رقم ثلاثين. المقدم: هو يأخذ ألف وخمسمائة وثلاثين؟ نعم، إيه. المقدم: إيه، إذن هو. هو وقع نظره على ذلك الموضع. المقدم: على ذاك. نعم. المقدم: اتضحت الصورة. وإلا فالأصل أن يكون الحديث الآن المختصر بيترك هذا ويروح هناك؟ المقدم: مستحيل يقفز. وهو يمشي على الكتاب بالترتيب. المقدم: لا، مستحيل يقفز. ما يمكن. المقدم: فأعطاه إذن ... عندك: ((ولكل آت أتى عليهن من غيرهن))؟ المقدم: لا. هذا في مهل أهل اليمن. المقدم: أي نعم. بينما في مهل أهل مكة، نفس ((هنا لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة)) بالحرف. المقدم: إيه. فالمرجح أن يكون المختصر اختار الموضع الأول، ولذا أتى به بحروفه.

والشاهد من الحديث للترجمة في قوله في الحديث: ((حتى أهل مكة من مكة)) قول البخاري -رحمه الله- تعالى: باب مهل أهل مكة، وفي الحديث: ((حتى أهل مكة من مكة)) إلا أن البخاري -رحمه الله تعالى- يرى أن مهل أهل مكة من مكة للحج والعمرة، ظاهر الترجمة أن البخاري -رحمه الله تعالى- يرى أن المكي حكمه ذلك في الحج والعمرة، فلا يلزمه الخروج إلى الحل حتى في العمرة؛ ليحرم سواء كان بحج أو عمرة استدلالاً بعموم الحديث: ((ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة)) وعموم الحديث يشمل ... المقدم: الحج والعمرة. الحج والعمرة. يقول الصنعاني في سبل السلام: واعلم أن قوله: ((حتى أهل مكة من مكة)) يدل على أن ميقات عمرة أهل مكة مكة كحجهم، وكذلك القارن منهم ميقاته مكة، لكن الحديث محمول عند الجمهور على الحاج خاصة، وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، قد يقول قائل: لماذا لا يلزم الحجاج بأن يخرجوا إلى الحل كإلزام المعتمر؟ نقول: الحاج سوف يخرج إلى الحل للوقوف بعرفة، لا بد عند الجمهور من الجمع بين الحل والحرم في النسك، سواء كان حج أو عمرة، هو في الحج سوف يخرج إلى عرفة وهي من؟ المقدم: الحل. الحل، أما بالنسبة للعمرة فلن يخرج، فلا بد أن يحرم من الحل. المقدم: وهذه العلة نصوا عليها يا شيخ؟ نعم. المقدم: ينصوون على هذه العلة لهذا السبب. إيه، ودليلهم واضح سيأتي ذكره. قال المحب الطبري: لا أعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة، مع أنه ... المقدم: صنيع البخاري. صنيع البخاري، يعني هل نقول: إن المحب الطبري ما وقف على كلام البخاري؟ احتمال يكون ذهل عنه، احتمال أن يكون قد ذهل عنه، الذهول حاصل.

الإمام مالك يقول: لا أعلم أحداً قال: برد اليمين، مع أن قضاة عصره ابن أبي ليلى وابن شبرمة يقولون برد اليمين، والأمثلة كثيرة، يعني ما هو مفترض بالعالم أن يكون محيطاً بكل شيء، والنووي نقل الإجماع في مسائل واضحة، يعني نقل الإجماع على أن عيادة المريض سنة، مع أن الإمام البخاري قال: باب وجوب عيادة المريض، ونقل الإجماع على أن صلاة الكسوف سنة مع أن أبا عوانة ترجم في صحيحه: باب وجوب صلاة الكسوف، يعني ما هو مفترض بالعالم أن يكون ... المقدم: أن يحيط بكل هذا. يحيط بكل شيء، لكن الدقة مطلوبة يعني، والتحري مطلوب والتثبت، وكونه ينفي علمه أسهل من كونه يهجم على الإجماع فينقله، يقول: إجماعاً واتفاقاً بعض الناس يجزم، مع أن المسألة يكون فيها قول آخر. وقال ابن عباس: يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر، وقال أيضاً: من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم ويجاوز الحرم. المقدم: فضيلة الدكتور فيما يتعلق بالخلاف بين أهل العلم في مسألة ميقات أهل مكة في العمرة والحج، أستأذنك في أن نجمع أطرافه في مطلع الحلقة القادمة لتتضح الصورة للإخوة والأخوات، فيكون هو بداية الحديث -بإذن الله تعالى-. أيها الإخوة والأخوات نستكمل -بإذن الله تعالى- ما يتعلق بهذا الحديث؛ لنبدأ الحلقة القادمة بالحديث عن ميقات أهل مكة، فيما يتعلق بالعمرة أو الحج. شكراً لطيب متابعتكم، نستكمل -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (12)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (12) الشيخ: عبد الكريم الخضير المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح كتاب الحج. مع بداية حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحباً بكم شيخ عبد الكريم. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. المقدم: في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- كنا توقفنا عند مسألة ميقات أهل مكة بالنسبة للعمرة والحج، وعدنا الإخوة أن نعيد أطراف الموضوع لنستكمله -بإذن الله- في هذه الحلقة. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عرفنا فيما تقدم ترجمة الإمام البخاري على حديث ابن عباس بقوله: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، ويسوي بينهما، وأن مهلهم من مكة، استناداً إلى قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((حتى أهل مكة من مكة)) فالحديث بعمومه يشمل الحج والعمرة، فظاهر الترجمة أن البخاري -رحمه الله تعالى- يرى أن المكي حكمه ذلك في النسُكين، فلا يلزمه الخروج إلى الحل ليحرم سواء كان في حج أو عمرة.

الصنعاني في سبل السلام يقول: اعلم أن قوله: ((حتى أهل مكة من مكة)) يدل على أن ميقات عمرة أهل مكة مكة كحجهم، وكذلك القارن منهم ميقاته مكة، لكن الحديث محمول عند الجمهور كما ذكرنا سابقاً على الحاج خاصة، وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل؛ ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، وذكرنا أن المحب الطبري قال: إنه لا يعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة، وذكرنا كلام ابن عباس في المسألة وقوله: يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها -يعني بينه وبين مكة- بطن محسر، يعني: يخرج إلى الحل، وقال أيضاً: من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم، ويجاوز الحرم، وثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر أخته عائشة من التنعيم، يعمر عائشة من التنعيم، الصنعاني وهو يرى رأي البخاري أجاب عن قول الطبري: لا أعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة أجاب عنه الصنعاني بأنه -صلى الله عليه وسلم- جعل مكة ميقاتاً لها بهذا الحديث، يقول: وما روي عن ابن عباس آثار موقوفة لا تقاوم المرفوع. المقدم: هذا رأي. وهذه كثير ما يرددها الصنعاني والشوكاني، آثار موقوفة لا تقاوم المرفوع، لكنهم حينما يحتاجون هذه الآثار. المقدم: يتشبثون بها. يحتجون بها. "وأما ما ثبت من أمره -عليه الصلاة والسلام-" هذا من كلام الصنعاني "وأما ما ثبت من أمره -صلى الله عليه وسلم- لعائشة بالخروج إلى التنعيم لتحرم بعمرة فلم يكن إلا لتطييب قلبها بدخولها مكة معتمرة كصواحبتها؛ لأنها أحرمت بالعمرة معه، ثم حاضت فدخلت مكة، ولم تطف بالبيت كما طفن، كما يدل قولها: قلت: يا رسول الله يصدر الناس بنسُكين، وأصدر بنسك واحد! قال: ((انتظري فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه)) الحديث.

فهو يرى أن إخراجها إلى التنعيم لا لأن الإحرام يجب من التنعيم، وإنما لتدخل محرمة كصواحباتها من الحل إلى الحرم، تأتي بعمرة مستقلة أحرمت لها من الحل، هذا كلامه، لكن يقول: فإنه يحتمل أن معناها إنما أرادت أن تشابه الداخلين من الحل إلى مكة بالعمرة، ولا يدل على أنها لا تصح العمرة إلا من الحل لمن صار في مكة، ومع هذا الاحتمال لا يقاوم حديث الباب، حديث الباب صريح، وهذا احتمال، لكن من جهة أخرى أن حديث الباب عام، وحديث الأمر بخروجها إلى التنعيم ... المقدم: خاص. خاص، أقول: عندي أن خبر عائشة من أقوى الأدلة للجمهور؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لا يمكن أن يحبس صحابته انتظاراً لعائشة مع كونها يجزئها أن تحرم من مكانها، هذه المسألة بعد حج بعد أداء نسك، بعد تعب. المقدم: والناس يتشوفون للذهاب. نعم، ويحبسهم إلى آخر الليل ينتظرون عائشة تحرم من التنعيم وليس هذا بواجب! يعني يكفيها أن يجبر خاطرها أن تأتي بعمرة، كونهم أحرموا من الميقات لعمرتهم هي أحرمت من الميقات لحجها، يعني دخلت مكة محرمة، يبقى الفرق بين صنيعها وصنيعهم أنها غيرها من صواحباتها أتينا بعمرة مستقلة، وهي أتت بعمرة داخلة في الحج؛ لأنها لما حاضت ... المقدم: قال: ((افعلي كما يفعل الحاج)). نعم ((غير ألا تطوفي بالبيت)) وضاق عليها الوقت فأدخلت الحج على العمرة، فصارت قارنة، فهي تريد أن تأتي بعمرة مستقلة كصواحباتها، أما كونها تحرم من الحل، وتدخل الحرم محرمة هي فعلت ذلك مثل صواحباتها، ولا فرق بين فعلها وفعلهم، إنما الذي جبر به خاطرها كونه أنتظرها لتأتي بعمرة، أما كونه -عليه الصلاة والسلام- يخرجها إلى الحل هذا يدل ... المقدم: هذا يدل .... هذا يدل على أنه لا بد منه. أقول: ويكفي في جبر خاطرها وتطييبه أن تأتي بعمرة مفردة كصواحباتها، ولما حبس نفسه -عليه الصلاة والسلام- وصحابته علم أن ذلك أمر لا بد منه.

إذا عرفنا هذا فهل يتعين الإحرام من التنعيم أو يكفي غيره من الجهات من جهات الحل؟ يعني رأينا في بعض المناسك المطبوعة وضعوا جداول للمواقيت، وجعلوا التنعيم ميقات العمرة بالنسبة للمكي، يعني مثل ذو الحليفة ميقات أهل المدينة، الجحفة ميقات أهل الشام، يلملم ميقات أهل اليمن. المقدم: قرن المنازل. قرن المنازل ميقات. المقدم: أهل نجد. أهل نجد، وذات عرق ميقات أهل العراق، والتنعيم عمرة. المقدم: مكة. أهل مكة لمن أراد العمرة، ميقات أهل مكة لمن أراد العمرة، فجعلوه بإزائها، كأنه ميقات محدد كغيره كالمواقيت التي حددت، فأقول: إذا عرف هذا فهل يتعين الإحرام من التنعيم أو يكفي غيره من جهات الحل؟ قال ابن حجر: روى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سيرين قال: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل مكة التنعيم، ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم، أو إلى الجعرانة فليحرم منها، وأفضل ذلك أن يأتي وقتاً، أي: ميقاتاً من مواقيت الحج، هذا كلام عطاء، فليس فيه ما يدل على أن التنعيم مقصود لذاته، وإنما المقصود عند أهل العلم أن يجمع في نسكه بين الحل والحرم، والأكثر على أن ميقات العمرة الحل، وإنما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- عائشة بالإحرام من التنعيم؛ لأنه أيسر لها، فعرف بهذا أن ميقات أهل مكة للعمرة الحل، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء، وبهذا نعرف مناسبة الحديث للترجمة، بهذا الكلام كلام الإمام البخاري، وتأييد الصنعاني، واختلاف أهل العلم نعرف أن الترجمة التي ترجم بها البخاري ... المقدم: باب مهل أهل مكة. نعم، من مكة، للحج والعمرة، واستند إلى قوله في الحديث: "حتى" ... يعني دلالة قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((حتى أهل مكة من مكة)) للترجمة واضح، يعني الربط واضح، لولا أنه عام وحديث عائشة ... المقدم: خاص.

خاص، والخاص مقدم على العام، قوله: "وقتّ" أي: حدد، وأصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضاً، قال ابن الأثير: التوقيت والتأقيت الأصل أن المادة مهموزة أو واوية؟ وقت أو أقت؟ {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [(11) سورة المرسلات] ومثله: ورخ وأرخ، فهل نقول: تأقيت أو توقيت؟ المقدم: وتأريخ. وتأريخ أو توريخ؟ كله هكذا مستعمل، يقول ابن الأثير: التوقيت والتأقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، يقال: وقتّ الشيء بالتشديد يوقته ووقته بالتخفيف يقته إذا بين مدته، ثم اتسع فيه فقيل للموضع: ميقات، الأصل أن الميقات للزمان؛ لأنه من الوقت والوقت إيش؟ المقدم: زمان. زمان، لكن توسع في المادة، فأخذ منها ما يشمل المكان، وقال ابن دقيق العيد: قيل: إن التوقيت في اللغة التحديد والتعيين فعلى هذا فالتحديد من لوازم الوقت، وفي شرح الكرماني: وقتّ عينّ، والتوقيت التعيين، فلا يقال: إن ذا الحليفة هو الميقات المكاني لا الزماني فلما قال: وقتّ؟ وقتّ: عينّ، إذا أشربنا هذه المادة أو هذه الكلمة وقتّ عينّ، معنى عينّ صارت شاملة للوقت والمكان، وهذا يسمونه تضمين. المقدم: وأين الوقت هنا؟ الحج؟ إذا قلنا: وقت، وهذا ميقات، فما يخص المكان يكون للمكان، وما يخص الزمان، هذا ميقات زماني، وهذا ميقات مكاني. "لأهل المدينة" أي: مدينته -عليه الصلاة والسلام- "ذا الحليفة" تقدم الكلام فيه "ولأهل الشام" قال ياقوت في معجمه: الشأم بفتح أوله وسكون همزته، والشأم بفتح همزته، مثل نهْر ونَهر، لغتان ولا تمد، يعني: ما يقال: شآم، وفيها لغة ثالثة وهي الشام بغير همز، كذا يزعم اللغويون، وقد جاءت في شعر قديم ممدودة: الشآم، وقد تذكر وتؤنث. يقول أبو بكر الأنباري: في اشتقاقه وجهان: يجوز أن يكون مأخوذاً من اليد الشؤمى وهي اليسرى، ويجوز أن تكون فعلاء من الشؤم.

قال أبو القاسم: قال جماعة من أهل اللغة يجوز ألا يهمز فيقال: الشام، الشام يا هذا! فيكون جمع شامة، يعني: إذا نظرنا إلى الشام، وأنه مقابل لليمن بالنسبة للكعبة، شممنا من اللفظين أن الشأم مقابل اليمن، اليمن فيه اليُمن والتيمن واليمين، والشأم فيه ضده، فيكون هذا عن يمين الكعبة، وهذا عن شمالها، أبو القاسم يقول: فيكون جمع شامة، سميت بذلك لكثرة قراها، وتداني بعضها من بعض، فشبهت بالشامات، وقال أهل الأثر: سميت الشام بسام بن نوح -عليه السلام-، وذلك أنه أول من نزلها فجعلت السين شيناً لتغير اللفظ العجمي، يعني كأنه تعريب. المقدم: نعم. وورد في فضائل الشام أحاديث، منها ما يثبت، ومنها ما لا يثبت، لكن في فضلها أحاديث صحيحة، وتقع بلاد الشام شمال جزيرة العرب، وتشمل سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، هذا الأصل. المقدم: حالياً. نعم. الجحفة ... المقدم: لكن الأحاديث الواردة في الشام بعامة، وفيها أحاديث خصت دمشق. أنت لو قلت في أحاديث نعم في دمشق وفي بيت المقدس، منها ما مقبول، ومنها ما هو مردود. المقدم: الذين ألفوا أحسن الله إليكم .... وفيها أيضاً: ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)) صححه الألباني وغيره. المقدم: المقصود بعامة. نعم. المقدم: وفيه من ألف في فضائل الشام، كتب ألفت في فضائل الشام. الجحفة بضم الجيم وسكون المهملة هي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ست، وفي قول النووي في شرح المهذب: ثلاث مراحل نظر، سميت بذلك؛ لأن السيل اجتحفها وأجحف بها. وتسمى مهيعة كما في حديث ابن عمر الذي ذكره البخاري في مهل أهل نجد، ومهيعة بزنة علقمة، وقيل: مهيعة بزنة لطيفة، وسيأتي في فضائل المدينة دعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- للمدينة وفيه -في الحديث الذي فيه الدعوة-: ((وانقل حماها إلى الجحفة)) فاختصت بالحمى فلا ينزلها أحد إلا حُمّ، حتى قيل: إنه لو مر بها طائر حُمّ، أجيبت الدعوة النبوية، وكانت وقت الدعوة النبوية مسكناً لليهود، قد يقول قائل: كيف تجعل ميقات وفيها الحمى المذكورة؟ لأن مقتضى جعلها ميقات أن يُمر بها ... المقدم: وإذا مر بها أصابت ... نعم. المقدم: لأنه وقتت قبل ما ينقل إليها يا شيخ المرض، يُدعى بها. لا.

المقدم: التوقيت جاء بعد. بعد، إيه. فإن قيل: كيف جعلت ميقاتاً وفيها الحمى المذكورة مع أن في ذلك ضرراً على المسلمين؟ أجيب بأن نقل الحمى إليها مدة مقام اليهود بها، كانت مسكناً لليهود. المقدم: أي نعم. ثم زالت الحمى عنها بزوالهم، ثم بعد ذلك صارت ميقات، ولذا لها أثر الحمى الآن؟ ما لها، زالت بزوالهم، ووقع عند النسائي من حديث عائشة: "ولأهل الشام ومصر الجحفة" قال ابن حجر: هو المكان الذي يحرم منه المصريون الآن رابغ بوزن فاعل، بلد قريب من الجحفة. "ولأهل نجد" أي: وقتّ لأهل نجد، قال ابن حجر: نجد كل مكان مرتفع، وهو اسم لعشرة مواضع، والمراد منه هنا التي أعلاها تهامة واليمن، وأسفلها الشام والعراق. قال العيني: النجد في اللغة ما أشرف من الأرض واستوى، ويُجمع على أنجد ونجود ونُجُد بضمتين، قال القزاز: سمي نجداً لعلوه، القزاز صاحب كتاب؟ المقدم: القزاز الجامع الذي ذكرناه قبل. نعم، قال القزاز: سمي نجداً لعلوه، وقيل: سمي بذلك لصلابة أرضه، وكثرة حجارته، وصعوبته، من قولهم: رجل نجد، إذا كان قوياً شديداً، والعادة أن أهل النجدة. المقدم: أقوياء. أهل قوة، الضعاف ما ينجدون أنفسهم فضلاً أن ينجدون غيرهم، وهي معروفة تشمل ما كان شرق الحجاز، ونجد العراق. المقدم: نجد العراق الذي يدخل فيها أطراف العراق حالياً تعتبر من نجد. نجد العراق، ما هو بنجد اليمامة، وما والاها. المقدم: أيه، أيه. قرن المنازل ... المقدم: لكن يا شيخ حددت الآن عند أهل المعرفة أن حدود نجد كذا عند العرب. هم عند العرب تعرف أن حدودهم ليست. المقدمة: ليست دقيقة. بالدقة مثلما يعمله الجغرافيون الآن في خرائطهم وفي نسبهم، ليست دقيقة، يقولون مثلاً: فيد موضع بين مكة والبصرة. المقدم: أوه وين مكة ووين البصرة؟ نعم، هذه طريقتهم في التحديد، لكن هم باعتبار الحاج من البصرة لا بد أن يمر مع هذا الطريق. المقدم: فيعرفها. فيقع على هذا المكان. المقدم: لكن يصح بعض الآثار فيما أذكر من أرضى فقد أنجد أو كذا، يعني: من وصل إلى رضوه فكأنما دخل إلى نجد، وهو عائد من مكة، كأني أذكر أثراً قريباً من هذا. هو معروف أن من أنجد يعني دخل في نجد. المقدم: أي نعم.

وأتهم دخل في تهامة، لكن هذه الحدود لا شك أنها معروفة حدودها عند أهلها، لكن الذي يتحدث عنها من غير أهلها، مثل ياقوت في معجم البلدان يقول مثل هذا الكلام، يعني: يحدد نجد بين مثل ما قالوا هنا، التي أعلاها تهامة واليمن، وأسفلها الشام والعراق، حتى بعضهم يجعل الطائف من نجد، المقصود أن هذه أمور أمرها يسير، وكانت تحديداتهم ليست مبنية على الدقة، ومسافاتهم بالمراحل، مرحلتين، ثلاث مراحل. "قرن المنازل" المنازل بلفظ جمع المنزل، وقرن المنازل من المتضايفين، قرن مضاف، والمنازل مضاف إليه، اسم المكان، ويقال: قرن بلا إضافة، وهو بإسكان الراء بعدها نون، وضبطه الجوهري في صحاحه بفتح الراء، وغلطوه، يعني: أخطأ هنا الجوهري فقال: قرَن، وجعل منه أويس القرَني، فأخطأ في أمرين: في الضبط. المقدم: وفي النسبة. وفي النسبة، قرَن قبيلة. وغلطوه، وبالغ النووي فحكى الاتفاق على تخطئته في ذلك، لكن حكى القاضي عياض عن القابسي: أن من قاله بالإسكان أراد الجبل، ومن قاله بالفتح أراد الطريق، والجبل المذكور بينه وبين مكة مرحلتان، وهناك قرن أخر يقال له: قرن الثعالب، ذكر الفاكهي في أخبار مكة أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع، يعني ما يقرب من كيلو إلا ربع، وقيل له: قرن الثعالب لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب، وليس من المواقيت، وقد غلط صاحب المصباح حيث قال: وقرن بالسكون ميقات أهل نجد، وهو جبل مشرف على عرفات، ويقال له: قرن المنازل وقرن الثعالب، المصباح لمن؟ المصباح المنير؟ نقلنا عنه كثيراً. المقدم: أيه. نعم. المقدم: المصباح المنير. نعم، هذا موضوع الكتاب غريب كتاب الرافعي شرح الوجيز، قلنا مراراً: إن الفقهاء لهم عناية بغريب كتبهم. المقدم: نعم، نعم. نعم، النووي ألف تهذيب اللغات في تهذيب الأسماء وتهذيب اللغات، وهذا ألف المصباح المنير، والبعلي ألف المطلِع على أبواب المقنع، المطرزي ألف المغرب تبع الحنفية، وهكذا، هذا في غريب الرافعي الكبير، ويقال له: قرن المنازل وقرن الثعالب.

يقول الشيخ عبد الله بن جاسر في منسكه مفيد الأنام: قرن المنازل هو ميقات أهل نجد، وهو معروف مشهور، ويسمى الآن بالسيل الكبير، ابن جاسر له منسك اسمه: مفيد الأنام ونور الظلام، منسك في جزأين، في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام، في جزأين، منسك جامع، لكنه قابل للاختصار؛ لأنه ينقل الكلام من كتاب، من كتب مثلاً الحنفية، وينقل من كتاب آخر نفس الكلام، وهكذا من كتب الحنابلة بكثرة، فهو قابل للاختصار، والمنسك فيه فوائد عظيمة جداً؛ لأن الشيخ اشترك في لجان. المقدم: وقفت. كلفت من قبل الدولة، وقفت على المشاعر، وحددتها بدقة، وأثبت هذا في منسكه، فالكتاب مهم لطالب العلم. المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الدكتور، لعلنا نستكمل -بإذن الله- ما تبقى في حلقة قادمة، وأنتم على خير. أيها الإخوة والأخوات شكراً لطيب متابعتكم لقاؤنا بكم -بإذن الله- في حلقة قادمة لاستكمال شرح حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- حتى نلقاكم نستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الحج (13)

بسم الله الرحمن الرحيم شرح: التجريد الصريح - كتاب الحج (13) الشيخ: عبد الكريم الخضير المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع بداية حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير. فأهلاً ومرحباً بكم فضيلة الدكتور. حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين. المقدم: كنا في الحلقة الماضي في ذكر بعض الألفاظ في حديث ابن عباس في توقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، وقفنا عند ميقات أهل نجد. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. انتهينا من ميقات أهل نجد. المقدم: قلنا: إنه ... بقي ميقات أهل اليمن. المقدم: قلنا: قرن المنازل الذي هو السيل الآن يا شيخ؟ نعم، هو السيل المعروف الآن بالسيل الكبير. المقدم: ويوازيه السيل الصغير الذي على طريق الطائف كرى؟ يعني محاذاة من أجل صحة الإحرام؟ يحاذيه الهَدى. المقدم: الذي هو على طريق كرى هذا. أي نعم. المقدم: هو هذا بالمحاذاة وإلا ليس أيضاً هو هذا الموقت. الموقت السيل الذي هو إيش؟ قرن المنازل. المقدم: إيه. وبالمحاذاة من ... المقدم: السيل الصغير يسمونه أو الكرى. لا، لا. المقدم: ما يسمى السيل الصغير؟ السيل الصغير قريب من السيل الكبير. المقدم: آه.

يقول: "ولأهل اليمن" اليمن كل ما كان على يمين الكعبة، والنسبة إليه يمني على القياس، ويماني على غير القياس، لكن إذا قلت: يمني أصل اليمن تضيف إليها ياء النسب المشددة، فتقول: يمنيٌّ، وهذه يمنيّةٌ بالتشديد، لكن إذا جئت على غير القياس، وذكرت الألف يماني التي هي عوض عن الياء الثانية في ياء النسب، ولذا تخفف تقول: يماني، ما تقول: يمانيٌ، لا، وهذه يمانية، لكن لو نسبت على القياس قلت: يمنيّة؛ لأن الأصل أن ياء النسب مشددة. ياء كيا الكرسي زيدت للنسب ... . . . . . . . . . ولذلك الذي يقول: تيميّة وتيمية هذا قياس وإلا غير قياس؟ ياء النسب مشددة. "يلملم" بفتح التحتانية واللام، وسكون الميم بعدها لام مفتوحة، ثم ميم مكان على مرحلتين من مكة، ويقال له: ألملم بالهمزة، وهو الأصل، والياء تسهيل لها، وحكى ابن السِيد ابن السِيد كذا أو السَيد؟ المقدم: ابن السِيد. ابن السيد البطليوسي هذا، السِيد ما هو؟ الذئب، نعم. وحكى ابن السيد فيه: يرمرم، برائين بدل اللامين، قال في المصباح: ألملم جبل بتهامة على ليلتين من مكة، وهو ميقات أهل اليمن، ووزنه فعلعل، وقد غلب الاسم على البقعة، فيمنع حينئذٍ من الصرف للعلمية والتأنيث، قال ابن حجر: أبعد المواقيت من مكة ذو الحليفة ميقات أهل المدينة، فقيل: الحكمة في ذلك أن تعظم أجور أهل المدينة، وقيل: رفقاً بأهل الآفاق؛ لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة، أي: ممن له ميقات معين، لكن من كان منزله قبل مثلاً السيل بشيء يسير، هو أقرب إلى مكة من المدينة، أهل الحوية مثلاً لهم ميقات أو ليس لهم ميقات؟ المقدم: بلى. السيل، وهم أقرب من المدينة، ولذلك قال: وقيل: رفقاً بأهل الآفاق؛ لأن أهل المدينة أقرب الآفاق إلى مكة، يرد عليه ما ذكرنا، لكن أما كونها تعظم أجور أهل المدينة فهذا صحيح؛ لأنه كلما طال التلبس بالإحرام، زاد الأجر، باعتبار أنه أشق على النفس من الثياب، ولذا يقولون: ينبغي أن يحرم من أول الميقات لا من آخره. المقدم: لزيادة الأجر.

نعم، ((هن)) أي هذه المواقيت ((لهن)) أي: لتلك البلدان المذكورة، والمراد لأهلها، ووقع في بعض الروايات: ((هن لهم)) وفي رواية: ((هن لأهلهن ولمن أتى)) أي: مر عليهن على المواقيت ((من غيرهن)) أي: غير تلك البلدان، فهذه المواقيت التي عينها النبي -صلى الله عليه وسلم-. المقدم: اللهم صل وسلم على رسول الله ... لمن ذكر من الآفاق، وهي أيضاً مواقيت لمن أتى عليها، وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة، فإنه يلزمه الإحرام منها، إذا أتى عليها قاصداً الإتيان لمكة لأحد النسكين. ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) المدني ميقاته ذو الحليفة. المقدم: ذو الحليفة. هن لهن، طيب الشامي إذا مر بالمدينة أو نجدي إذا مر بالمدينة ميقاته؟ المقدم: ميقات أهل المدينة لأنه ... لماذا؟ المقدم: يشملهم. لأنه أتى عليهن. المقدم: من أتى ... وإن كان من غير أهلهن، قال ابن حجر: الشامي إذا أراد الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة؛ لاجتيازه عليها، يعني لقوله: ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي، فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور، وأطلق النووي الاتفاق، ونفى الخلاف في شرحه لمسلم والمهذب في هذه المسألة، يعني أنه يلزمه الدم، يعني: النجدي إذا مر بالمدينة. المقدم: هل النجدي فقط أو هذا على الإطلاق؟ والشامي إذا مر بالمدينة. المقدم: لأنها ترد أحسن الله إليك ... اليمني إذا مر على قرن المنازل. المقدم: إيه هي تريد هكذا بالنسبة لليمني الذي نوى الحج، ولكنه أراد زيارة المدينة قبل إتيانه لمكة. نعم. المقدم: يعني جاء مثلاً في اليوم الأول من ذي الحجة، فإنه جزماً اليمني يمر على ميقاته ذاهباً إلى المدينة بخلاف النجدي مثلاً الذي قد لا يمر على ميقاته، فاليمني يتجاوز ميقاته ذاهباً إلى المدينة، وقد نوى الحج ثم يعود مرة أخرى، إذا عاد يعتبر ضمن هذا ((لمن أتى عليهن من غير أهلهن)). هذه المسألة التي ذكرتَها تختلف عن ما أطلقوا عليه الاتفاق هنا، هنا يقول: الشامي إذا دخل المدينة مريداً الحج ميقاته ذو الحليفة. المقدم: ذو الحليفة. بالجملة الثانية. المقدم: نعم، ((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)).

((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) لكن الجملة الأولى تقتضي أن يؤخر الإحرام إلى الجحفة ((هن لهن)) نعم، هذا المقتضى. المقدم: أي نعم. والجملة الثانية تقتضي أن يكون ميقاته ... المقدم: ما مر عليه. ذو الحليفة، ولذا يختلف أهل العلم في هذه المسألة، شامي قال: أنا لا أريد أن أحرم من المدينة أربعمائة كيلو، أنا أنتظر حتى أصل إلى الجحفة، له ذلك أو ليس له ذلك؟ عند الجمهور ليس له ذلك. أطلق النووي الاتفاق، ونفى الخلاف في شرحه لمسلم والمهذب في هذه المسألة، فلعله أراد في مذهب الشافعي، أنه يسيء ويلزمه دم، وإلا فالمعروف عند المالكية أن للشامي مثلاً إذا جاوز دو الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصلي وهو الجحفة جاز له ذلك، وإن كان الأفضل خلافه، وبه قال الحنفية، يقولون: يجوز له أن يؤخر، وكونه يعمل بالجملة الأولى هذا الأصل: ((هن لهن)) كون ذو الحليفة ميقات للشامي إذا مر به هل هو ميقات أصلي أو طارئ بسبب المرور؟ بسبب المرور. المقدم: بسبب المرور نعم. وأما ميقاته الأصلي فهو الجحفة، الجمهور يرون أنه يسيء وعليه دم، إذا جاوز ذا الحليفة؛ لأنه أتى عليه ومر به وهو مريد الحج والعمرة ولم يحرم، المعروف عند المالكية أن الشامي مثلاً إذا جاوز ذا الحليفة بغير إحرام إلى ميقاته الأصلي وهو الجحفة جاز له ذلك، وإن كان الأفضل خلافه، وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، الآن الشامي واضح ميقاته الجحفة، وتأخر إلى ميقاته، لكن النجدي إذا تجاوز ذا الحليفة وأحرم من الجحفة ... المقدم: النجدي تجاوز قرن المنازل. لا، تجاوز الحليفة هو مر بالمدينة. المقدم: آه. نعم، وتجاوز ذو الحليفة وأحرم من الجحفة مثل ما فعل الشامي. المقدم: لا، ما ينطبق. لا يشمله لا الجملة الأولى ولا الثانية. المقدم: ولا الثانية. لكن لو تجاوز ذا الحليفة، وانطلق إلى قرن المنازل، صار نظير الشامي الذي لم يحرم من ذي الحليفة، وأحرم من ميقاته الأصلي، فهل يشمل كلام الإمام مالك يشمل النجدي إذا مر بذي الحليفة وأحرم من الجحفة أو يشمله الكلام إذا تجاوز ذا الحليفة وأحرم من السيل؟ واضح. المقدم: أي نعم، يشمله الثاني.

لكن تصور أن مثلاً من نجد بالطائرة ما انتبه إلا وهو في جدة. المقدم: أي نعم. وقال: أنا أريد أن أرجع إلى رابغ أقرب وأحرم منه، أو نقول: اذهب إلى السيل؟ المقدم: اذهب إلى السيل. الأصل أن يذهب إلى السيل، في منسك الشيخ ابن جاسر -رحمه الله- الذي أشرنا إليه سابقاً، عند المالكية إذا مر المصري والشامي والمغربي بذي الحليفة فالأفضل لهم أن يحرموا منها، ولهم التأخير للجحفة، وفي منسك الشيخ يحيى الحطاب من المالكية، قال مالك: ومن حج في البحر من أهل مصر والشام وشبههما أحرم إذا حاذ الجحفة، قال شارحه: ولا يؤخره إلى البر؛ لأنه يحاذي وهو في البحر، لا يؤخره إلى أن يصل إلى البر إلى جدة مثلاً، إنما يحرم إذا حاذ وهو في البحر، فإن أخره إلى البر أساء وعليه دم عندهم، وعند الحنفية: إن من سلك طريقاً ليس فيه ميقات معين براً أو بحراً اجتهد وأحرم إذا حاذ ميقاتاً منها، ومن حذو الأبعد أولى، يعني إن أحرم من حذو الأبعد منهما أولى وأحوط، وإن لم يعلم المحاذاة ما يدري، ماسك طريق من السفلت ما يعرف هل حاذى أو ما حاذى؟ كيف يصنع؟ وإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة، المرحلتين كم كيلو؟ ثمانين كيلو. المقدم: باعتبار أقرب ميقات إلى مكة. نعم، ثمانين كيلو، وعندهم أن من ترك ميقاته الذي جاوزه، وأحرم من ميقات آخر ولو إلى أقرب إلى مكة من الأول سقط عنه الدم، يعني عند الحنفية أن النجدي مثلاً إذا مر بميقات المدينة مثلاً ذي الحليفة ثم تجاوزه إلى الجحفة وأحرم منها عندهم لا يلزمه أن يذهب إلى السيل، وقل مثل هذا من غفل ونزلت به الطائرة إلى جدة يرجع إلى؟ المقدم: رابغ. رابغ، إذا كان أيسر له من السيل على قولهم، لكن الحديث يلزم إما في ميقاته الذي حدد له، ولجهته، أو لما مر به، لكن لو حصل مثلاً، قال: والله لما وصلت جدة قالوا لي: اذهب إلى رابغ وأحرم، وأحرمت وحصل هذا وانتهى في قول الحنفية سعة. وعندهم أن من ترك ميقاته الذي جاوزه وأحرم من ميقات آخر ولو أقرب إلى مكة من الأول سقط عنه الدم، وأن المدني إذا جاوز ذا الحليفة غير محرم إلى الجحفة كره، المدني! ميقاته الأصلي؟ المقدم: ذو الحليفة.

ذو الحليفة، ومر بذي الحليفة، وتجاوزه من غير إحرام إلى الجحفة. المقدم: ومع ذلك يقول: كره. يقول: كره، لماذا؟ لأن هذا ميقات معتبر شرعاً، له أو لأخيه من الآفاقي من المسلمين، لحجاج مثله، فهذه وجهة نظرهم إلا أنه يكره لوجود الخلاف القولي في المسألة، الجمهور على خلافه، وفي لزوم الدم عندهم خلاف، والصحيح عدم وجوبه؛ لأنه إذا كان في طريقه ميقاتان، فالسالك مخير في أن يحرم من الأول وهو الأفضل، أو يحرم من الثاني فإنه رخصة له، في منتهى الإرادات من كتب الحنابلة، بل هو من أمتن كتبهم: من لم يمر بميقات أحرم إذا علم أنه حاذى أقربهما منه، وسن أن يحتاط، فإن تساويا قرباً فمن أبعدهما من مكة، فإن لم يحاذ ميقاتاً أحرم عن مكة بمرحلتين. وفي الإقناع أيضاً وهو من مشاهير كتب الحنابلة: الأفضل أن يحرم من أول الميقات، وهو الطرف الأبعد عن مكة، وإن أحرم من الطرف الأقرب من مكة جاز، وهي لأهلها، هذه المواقيت لأهلها، ولمن مر عليها من غير أهلها، ممن يريد حجاً أو عمرة، فإن مر الشامي أو المدني أو غيرهم على غير ميقات بلده، فإنه يحرم من الميقات الذي مر عليه؛ لأنه صار ميقاته ((ممن أراد الحج والعمرة)) ترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام، ودخل ابن عمر وإنما أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة، ولم يذكره للحطابين ولا لغيرهم. قال ابن حجر: حاصل كلام المصنف أنه خص الإحرام بمن أراد الحج والعمرة، نص ممن أراد. المقدم: الحج والعمرة. الحج والعمرة، مفهومه أن الذي لا يريد الحج والعمرة. المقدم: لا يلزم. ولو دخل مكة. المقدم: ما يلزمه الإحرام. لا يلزمه الإحرام. حاصل كلام المصنف أنه خص الإحرام لمن أراد الحج والعمرة، واستدل بمفهوم قوله في حديث ابن عباس: ((من أراد الحج والعمرة)) استدل يعني: البخاري. المقدم: أي نعم.

بمفهوم قوله في حديث ابن عباس: ((ممن أراد الحج والعمرة)) فمفهومه أن المتردد إلى مكة لغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام، وقد اختلف العلماء في هذا، فالمشهور في مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقاً، وفي قول يجب مطلقاً، يعني عنده، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب، وأولى بعدم الوجوب، والمشهور عند الأئمة الثلاثة: الحنفية المالكية الحنابلة الوجوب أنه لا يدخل مكة من غير إحرام، وفي رواية عن كل منهم لا يجب، يعني قول آخر من مذاهبهم، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن وأهل الظاهر، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات. وزعم ابن عبد البر أن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب، ومفهوم الحديث صريح في عدم الوجوب. المقدم: نعم. مفهوم الحديث صريح؛ لأنه يقول: ((ممن أراد)) ولأنه ثبت بالاتفاق أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة، يعني لو ألزمنا كل داخل أن يحرم لأوجبنا الحج عليه أكثر. المقدم: أكثر من مرة. أكثر من مرة، والإجماع قائم على أن الحج لا يجب في العمر. المقدم: إلا مرة واحدة. إلا مرة واحدة، ومثله العمرة عند من أوجبها. ((ومن كان دون ذلك)) أي بين الميقات ومكة ((فمن حيث أنشأ)) أي فميقاته من حيث أنشأ الإحرام، إذ السفر من مكانه إلى مكة، وهذا متفق عليه، إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: ميقات هؤلاء نفس مكة، من كان بين مكة والميقات يدخل إلى مكة غير محرم، ميقاته نفس مكة، واستدل به ابن حزم على أن من ليس له ميقات، فميقاته من حيث شاء، ليس له ميقات، يعني ابن حزم يرى أن هذه المواقيت خاصة بأهل هذه الجهات، هناك جهات ما لها مواقيت. المقدم: يختار ما شاء. نعم، يعني لو افترضنا أهل عُمان مثلاً، وأهل خرسان، وأهل الجهات الأخرى التي لم تذكر في النصوص، ما الذي حمله على هذا؟ المقدم: ولا يمرون بالمذكورة. لو مروا. المقدم: يتبعونهم يا شيخ. استدل به ابن حزم على أن من ليس له ميقات فميقاته من حيث شاء؛ لأن عندهم الظاهرية يجمدون على ما ذكر. المقدم: بالنص. بالنص نعم. ولا دلالة فيه لأنه يختص بمن كان دون الميقات إلى جهة مكة، وأيضاً يرد عليه قوله؟ المقدم: ((هن لهن ولمن أتى عليهن)).

((ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) لكن كلامه مفترض فيمن لم يذكر بالتحديد ولا يمر؛ لأن الذي يمر ولو لم يذكر يشمله قوله: ((ولمن أتى)). قال ابن حجر: ويؤخذ منه أن من سافر غير قاصد للنسك فجاوز الميقات، ثم بدا له بعد ذلك النسك أنه يحرم من حيث تجدد له القصد، ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات لقوله: ((فمن حيث أنشأ)) شخص كلف بعمل بجدة، وذهب إلى جدة غير محرم، وجدة دون الميقات، وجد فرصة مثلاً من أين يحرم؟ نعم من حيث أنشأ من جدة. المقدم: نعم. لأنه دون الميقات. ((حتى أهل مكة)) يجوز فيه الرفع والكسر ((من مكة)) أي يحرمون من مكة، فلا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه، بل يحرمون من مكة، وهذا خاص بالحج، وتقدم ذكر إحرام المكي بالنسبة للعمرة، وما قيل فيه من خلاف، وعرفنا اختيار الإمام البخاري في المسألة، واختلف العلماء فيمن جاوز الميقات مريداً للنسك فلم يحرم. المقدم: أي نعم. جاوز الميقات مريداً للنسك فلم يحرم. المقدم: نعم، هل يرجع أو ما يرجع؟ فقال الجمهور: يأثم ويلزمه دم، أما الإثم فلتركه الواجب، فرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه المواقيت، وقتّ هذه المواقيت، بمعناه أنه أوجبها وألزم بها، فلترك الواجب أم الدم فلخبر ابن عباس؛ لأنه ترك نسك، وذهب عطاء والنخعي إلى عدم الوجوب، ومقابله قول سعيد بن جبير: لا يصح حجه، وبه قال ابن حزم، إذا تجاوز الميقات من غير إحرام لا يصح حجه، يعني يتقابل القولان لا شيء عليه ولا حج له، ويقع في الوسط قول الجمهور، أنه يصح حجه لكن عليه دم.

وقال الجمهور: لو رجع إلى الميقات قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم، روى أبو داود في سننه والنسائي عن عائشة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- وقت لأهل العراق ذات عرق، وهو في صحيح مسلم إلا أن راويه شك في رفعه، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما فتح هذان المصران، أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حد لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وأنا إن أردنا قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق، حديث أبي داود وما جاء في صحيح مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه يدل على أن تحديد ذات عرق مرفوع من النبي -عليه الصلاة والسلام-، والذي في البخاري عن ابن عمر يدل على أن عمر هو الذي حدد لهم ذات عرق، وظاهر هذا أن عمر حدد لهم ذات عرق باجتهاد منه، وبه قطع جمع من العلماء، وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية أنه منصوص، يعني مرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- بالنص. وقال المجد بن تيمية في المنتقى، المجد جد شيخ الإسلام صاحب المنتقى: النص بتوقيت ذات عرق ليس في القوة كغيره، ليس مثل ذا الحليفة أو قرن المنازل، مما نص عليه الحديث الصحيح، ليس بالقوة كغيره، فإن ثبت فليس ببدع وقوع اجتهاد عمر على وفقه، فإنه كان موفقاً للصواب، كأن عمر لم يبلغه الحديث فاجتهاد بما وافق النص، وقد انعقد الإجماع على ذلك. وأما ما جاء عند أحمد وأبي داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل المشرق العقيق فهو حديث ضعيف. والحديث أخرجه الإمام البخاري في خمسة مواضع: الأول: في كتاب الحج في باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل المدينة، فذكره وسبق ذكر المناسبة. الموضع الثاني: في كتاب الحج باب مهل أهل الشام، حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: وقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكره، والمناسبة ظاهرة حيث ذكر ميقات أهل الشام في الحديث وأنه الجحفة.

الثالث: في كتاب الحج أيضاً، باب مهل من كان دون المواقيت، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا حماد عن عمرو عن ابن طاووس عن طاووس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، وفيه: ((فمن كان دونهن فمن أهله)) والمناسبة ظاهرة، مهل من كان دون المواقيت، والتنصيص على أن من كان دون هذه المواقيت فمن أهله. والرابع: في كتاب الحج أيضاً في باب مهل أهل اليمن، حيث قال: حدثنا معلى بن أسد قال: حدثنا وهيب عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، وفيه: "ولأهل اليمن يلملم" والمناسبة مهل أهل اليمن ظاهر. المقدم: نعم. نعم، والخامس في كتاب جزاء الصيد في باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام، الذي أشرنا إليه آنفاً. قال -رحمه الله-: حدثنا مسلم، يعني: ابن إبراهيم، قال: حدثنا وهيب عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، الحديث، وفيه: ((هن لهن، ولكل من أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة)) وسبق الحديث فيه هذه المسألة، والمناسبة ظاهرة. المقدم: إذن ننبه الإخوة الذين يتابعوننا بأن النسخة التي نحن نقرأ منها قد أخطأ فيها المحقق بعدم وضع الأطراف، وقد ذكرها فضيلة الدكتور في خمسة مواضع كما ذكرنا، وبالتالي يتابع معنا -بإذن الله-، شكر الله لكم فضيلة الدكتور، ونفع بعلمكم، ونسأل الله تعالى أن يجزيكم عنا خير الجزاء، كما نسأله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإياكم جميعاً لكل خير، وأن يهدينا سبل السلام، إنه جواد كريم. شكراً لكم أيها الإخوة والأخوات، نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقات قادمة، وأنتم على خير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1