شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية

شمس الدين السفيري

ترجمة السفيري

ترجمة السفيري نسبه وموطنة ومذهبه هو: شمس الدين محمد بن الشيخ زين الدين عمر بن الشيخ شهاب الدين السفيري الحلبي الشافعي، الإمام العلامة ولد بحلب سنة سبع وسبعين وثمانمائة. وعرف به ناسخ كتابه هذا فقال: العالم العلامة والبحر الفهامة المحدث شيخ الإسلام شمس الدين محمد بن أحمد بن زين الدين بن شهاب الدين السفيري. ثم قال: السفيري الأصل، حلبي المنشأ، الشافعي المذهب. شيوخه وعلمه وسفره في تحصيل العلم ومن أشهر شيوخه الحافظ الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة911هـ، ونقل عنه كثيراً في شرحه على صحيح البخاري. والعلاء الموصلي. والكمال ابن أبي شريف. وكمال الدين محمد بن علي القاهري الشافعي قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية، الشهير بالطويل، قال صاحب الشذرات: وأخذ بحلب عنه الشمس السفيري. وخليل بن نور الله المعروف بمنلا خليل الشافعي نزيل حلب، قال صاحب الشذرات: وأكب على القراءة عليه بها جماعة منهم الشمس السفيري. والبدر السيوفي، وغيرهم. وأما عن طلبه للعلم وإقباله عن شيوخه فقد قال نجم الدين الغزي في كتابه الكواكب السائرة، فقد أدرجه في الطبقة الثانية وقال: لازم العلاء الموصلي والبدر السيوفي في فنون شتى، وقرأ على الكمال بن أبي شريف في حاشيته على شرح العقائد النسفية، ورسالة العذبة له، وقدم مع أخيه الشيخ إبراهيم بن أبي شريف إلى دمشق فأجاز له ولبعض الدمشقيين، ثم إلى حلب فقرأ عليه بها رسالة مختصر الرسالة القشيرية له، وقرأ على أبي الفضل الدمشقي في شرحه النزهة في الحساب، وعلى الشيخ محمد الداديخي في شرح الشاطبية لابن القاصح، وعلى غيره. ودرس بالجامع الكبير بحلب، والعصرونية، والسفاحية، وجامع تغري بردي، وسافر إلى القاهرة سنة سبع وعشرين وتسعمائة، واجتمع بها بشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وحضر الصلاة عليه لما مات في تلك السنة، واجتمع بآخرين منهم: الشيخ نور الدين البحيري، وصحب في صغره الشيخ عبد القادر الدشطوطي، حين قدم

حلب، وفي كبره الشيخ شهاب الدين الأنطاكي. تلامذته الذين أجازهم للسفيري تلامذة أجازهم لما اجتمعوا به وحملت لنا المراجع اسمين فقط. فقد أجاز علاء الدين أبا الحسن علي بن سليمان بن أحمد بن محمد المرداوي السعدي ثم الصالحي الحنبلي. وعبد العزيز بن عبد الواحد بن محمد بن موسى المغربي المكناسي المالكي وحدث أنه لما زار بيت المقدس ودمشق في سنة 951 هـ، ثم ورد حلب فاستجاز بها شمس الدين السفيري، وموفق الدين ابن أبي ذر. مؤلفاته له غير شرحه لصحيح البخاري كتاب بعنوان: «تحفة الأخيار في حكم أطفال المسلمين والكفار» ذكره صاحب كشف الظنون. وفاته توفي رحمه الله تعالى سنة ست وخمسين وتسعمائة (¬1) . ¬

(¬1) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (1/317) ، وشذرات الذهب في المواضع الآتية (4/38) ، (4/311) ، (4/113) ، (4/220) ، (4/340) ، (4/342) ، وكشف الظنون (6/234) ، والكواكب السائرة (2/56) ، والموسوعة الذهبية في العلوم الإسلامية (28/635) .

المجلس الأول

بسم الله الرحمن الرحيم وعليه أتوكل (¬1) الحمد لله رب العالمين، وصلى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. المجلس الأول في ترجمة البخاري - رضي الله عنه - ونفعنا به وفي ذكر شيء من فضائله فإنه كان من أكابر العلماء، والأولياء والصالحين، وبذكر الأولياء والعلماء والصحابة تنزل الرحمة، كما تنزل على مجالس العلماء، فإن مجالس العلماء روضة من رياض الجنة، تنزل عليهم الرحمة كما ينزل المطر من السماء، تدخل العصاةُ مذنبين وينصرفون مغفوراً لهم، الملائكة تستغفر لهم، ما داموا جلوساً عندهم، إن الله تعالى ينظر إليهم، فيغفر للعالم والمستمع والمحب لهم، فكيف لا تجب محبتهم وإكرامهم، والله تعالى بسببهم ينزل الرحمة على كل من حضر المجالس التي فيها ذكرهم، وكذا ذكر أهل الخير والصلاح فعليك بمجالسة العلماء تنتفع بالحضور عندهم، فإنه من جالس الأخيار سلم، ومن جالس الأشرار ندم، ومن جالس العلماء غنم، نفعنا الله بهم في الدارين. نسب الإمام البخاري ولنبدأ بنسبه فنقول: أما نسبه فهو: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَة الجعفي. وجده «بَرْدِزْبَة» كان فارسياً مجوسياً على دين قومه، مات ولم يسلم. «بَرْدِزْبَة» لفظة بخارية ومعناه بالعربية: الزارع، وجده المغيرة والد «بَرْدِزْبَة» كان مجوسياً، ولكنه أسلم على يد اليمان الجعفي والى بخارى، فلهذا يقال للبخاري الجعفي لكون جده المغيرة أسلم على يد اليماني الجعفي بمذهب من يرى أن من أسلم ¬

(¬1) في الأصل: «توكل» ولعلها: «أتوكل» ، كما أثبتناه.

على يد شخص كان ولاؤه له (¬1) . وجده إبراهيم ولد المغيرة قال شيخ الإسلام ابن حجر (¬2) : لم نقف على شيء من أخباره. وأما والده إسماعيل فإنه كان من خيار الناس - رضي الله عنه - حضر الأكابر، وسمع منهم كالإمام مالك، وحماد بن زيد، وصحب عبد الله بن المبارك ومات والبخاري صغير فنشأ في حجر أمه. وكانت رضي الله عنها مجابة الدعوة، ومن كراماتها: أن البخاري ذهب بصره في صغره، فرأت أمه في المنام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال لها: يا هذه قد رَدَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك أو بكائك، فأصبح وقد رَدَّ الله بصره عليه. ولد - رضي الله عنه - ببخارى بالإجماع يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشر ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائه، وحج - رضي الله عنه - مع أمه وأخيه أحمد. مناقب البخاري وكان أخوه أسنَّ منه، فأقام هو بمكة يطلب العلم مجاوراً، ورجع أخوه أحمد إلى بخارى فمات بها. وأما حفظة وسيلان ذهنه ففي الغاية والنهاية، نقل عنه ورَّاقُه (¬3) أنه قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل. ونقل عنه أنه قال: أحفظ مائه ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح. واتفق له حكاية عجيبة تدل على قوة حفظه وهي: أنه لما دخل بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد إلى إسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة نفس، لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، فلما اجتمعوا وحضر في المجلس خلق كثير واطمأن المجلس ¬

(¬1) يراد به أن نسبة جد الإمام البخاري إلى الجعفي من باب الاعتراف بالفضل الذي صنعه اليماني من أنه كان سبباً في إسلام جد البخاري. (¬2) هو: أبو الفضل، شهاب الدين أحمد بن على بن محمد الكناني العسقلاني ابن حجر، من أئمة الحديث وعلومه، وله باع في التاريخ والسير، أصله من عسقلان بفلسطين، مولده سنة (773هـ) بالقاهرة، كان صبيح الوجه، فصيح اللسان، له مؤلفات كثيرة منها: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، وهو شرح عظيم الفائدة نقل منه السفيري بعض هذهه الفوائد في مواضع عدة من شرحه هذا، ولابن حجر أيضا في علم الرجال نهذيب التهذيب، وله جهود عظيمة ومباركة في خجمة السنة يعرفها القاصي والداني، وكانت وفاته بالقاهرة سنة (852هـ) . انظر: الأعلام (4/95) . (¬3) وهو: أبو جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري، والمراد بقوله «وراقه» أي: الذي يأتي له بالورق الذي يكتب عليه. انظر فتح الباري (9/568) .

بأهله، انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فمازال يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ والبخاري يقول له: لا أعرفه، فكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرجل، من كان لم يدر القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ، ثم انتدب رجل أيضاً من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول له: لا أعرفه، ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا. فلما عرف أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاة حتى أتى على تمام العشرة فرد كل سند إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل. قال شيخ الإسلام ابن حجر: هنا [يخضع للبخاري] (¬1) فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة. ذكر مشايخ البخاري وأما مشايخه الذين كتب عنهم فقد نقل عنه أنه قال: كتبت عن ألف وثمانين نفساً، ليس منهم إلا صاحب حديث. ونقل عنه أنه قال: ما قدمت على شيخ إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به. وأما الجماعة الذين قرؤوا عليه وأخذوا عنه الحديث فخلق كثيرون نحو مائة ألف أو يزيدون، أو ينقصون، وكان يحضر مجلسه أكثر من عشرين ألفاً يأخذون عنه. ذكر تعظيم الناس للبخاري وأما ثناء الناس عليه وتعظيمهم له فقد قال ابن خزيمة: «ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه وأحفظ» (¬2) . ¬

(¬1) ما بين [] هكذا بالأصل، وفي مقدمة فتح الباري (ص 486) يقول ابن حجر: قلت: هنا يخضع العالمين ... إلى آخره. وانظر أيضاً تغليق التعليق (5/415) . (¬2) انظر: التقييد (ص 32) ، وتذكرة الحفاظ (2/556) ، وابن حجر في تغليق التعليق (5/411) ، وفي مقدمة فتح الباري (ص 485) .

وقال بعضهم: «هو آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض» (¬1) . وقال له الإمام مسلم مؤلف الصحيح: «أشهد أنه ليس في الدنيا مثلك» (¬2) . وكان مسلم كلما دخل يسلم ويقول: «دعني أقبل رجليك يا طبيب الحديث في علله، ويا أستاذ الأستاذين، ويا سيد المحدثين» (¬3) . وقال أبو عيسي الترمذي: «لم أر مثله جعله الله زين هذه الأمة» (¬4) . وقال عبد الله بن حماد: «وددت أن لو كنت شعرة في جسد محمد بن إسماعيل» (¬5) . وحكي أن أهل بغداد كتبوا إلى البخاري كتاباً يثنون عليه فيه ومن جملته: ¬

(¬1) الذي قال ذلك رجاء الحافظ، قال الذهبي في السير (12/427) يقول أبو عمرو المستنير بن عتيق سمعت رجاء بن المرجى الحافظ يقول: فضل محمد بن إسماعيل على العلماء كفضل الرجال على النساء، فقال له رجل: يا أبا محمد كل ذلك بمرة، فقال: هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض. ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/25) من طريق محمد بن أبي حاتم، قال: سمعت أبا عمرو المستنير بن عتيق البكري، قال: سمعت رجاء بن المرجى يقول: ... فذكره. (¬2) حدث بذلك أبو عيسى الترمذي صاحب السنن المشهورة، ونقله عنه الحافظ ابن حجر. انظر: تغليق التعليق (5/411) ، ومقدمة فتح الباري (ص 485) . (¬3) رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث (1/113) قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الوراق قال سمعت أبا حامد أحمد بن حمدون القصار يقول سمعت مسلم بن الحجاج ... فذكره. ورواه أيضاً: الخطيب البغدادي (13/102) ، وذكره ابن حجر في مقدمة فتح الباري (ص 488) ، وفي تغليق التعليق (5/429) ، وانظر: سير أعلام النبلاء (12/432) ، وابن مفلح في المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد (2/95) ، وتهذيب الأسماء (1/88) . (¬4) ذكره الذهبي في السير (12/433) وعبارته: وقال أبو عيسى الترمذي: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير، فلما قام من عنده قال له: «يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة» قال الترمذي: استجيب له فيه. وذكره الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (9/45) بعبارة قريبة من هذا ففيه: قال له أبو عيسى الترمذي: «قد جعلك الله زين هذه الأمة يا أبا عبد الله» . (¬5) رواه عنه الخطيب في تاريخ بغداد (2/28) ، ونقله عنه الذهبي في السير (12/437) ، والنووي في تهذيب الأسماء (ص 88) . وانظر: تهذيب الكمال (24/458) ، والتقييد (1/33) ، ومقدمة فتح الباري (ص485) .

المسلمون بخير ما بقيت لهم ... وليس بعدك خير حين تفتقد (¬1) قال الحاكم: «ولوفتحنا باب الثناء عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذاك بحر لا ساحل له» (¬2) . رحلته في طلب الحديث وأما رحلته لأجل أخذ العلم والحديث من العلماء فقد رحل رحلات واسعات، وكتب عن شيوخ متوافرات، وافية متكاثرات، ونقل عنه أنه قال: «دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، لا أُحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين» (¬3) . كتابه الصحيح وسبب تأليفه وأما كتابة الصحيح فليس بعد القرآن كتاب أصح منه، وهو أصح من صحيح مسلم على الصحيح، واسمه «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه» كذا سماه هو - رضي الله عنه -. وروي عنه أنه قال: «صنفت كتاب الصحيح في ستة عشر سنة، وخرجت من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله عز وجل» (¬4) . وسبب تصنيفه لهذا الكتاب ما نقل عنه أنه قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام كأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال: أنت تذب الكذب عن حديثه - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي حملني على إخراج الصحيح» (¬5) . ونقل عنه أنه قال: «ما وضعت في كتابي هذا حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين» (¬6) . ¬

(¬1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/22) من طريق يحيى بن عمرو بن صالح الفقيه يقول: سمعت أبا العباس محمد بن عبد الرحمن الفقيه يقول: كتب أهل بغداد إلى محمد بن إسماعيل ... فذكره. وانظر: تهذيب الكمال (24/458) ، والتقييد (1/33) ، ومقدمة فتح الباري لابن حجر (ص485) . (¬2) نقله عن الحاكم الحافظ ابن حجر في المقدمة (ص 485) وقال: ذكر ذلك في كتابه الكنى. (¬3) انظر: سير أعلام النبلاء (12/407) . (¬4) ذكره النووي في تهذيب الأسماء (ص 91) . (¬5) ذكره النووي في تهذيب الأسماء (ص 92) . (¬6) رواه عنه الخطيب في تاريخ بغداد (2/9) ،، والمزي في تهذيب الكمال (24/443) ، والذهبي في السير (12/402) ، وانظر: تهذيب التهذيب (9/42) ، (ص 92) ، وطبقات الحفاظ (ص 253) .

قيل: كان تصنيفه لهذا الكتاب بمكة المشرفة، والغسل بماء زمزم، والصلاة خلف المقام. وقيل: كان بالمدينة الشريفة، وترجم أبوابه في الروضة المباركة، وصلى لكل ترجمة ركعتين (¬1) . وله تصانيف كثيرة غير الصحيح نقل عنه - رضي الله عنه - أنه قال: «أقمت بالبصرة خمس سنين مع كتبي، أصنف وأحج في كل سنة، وأرجع من مكة إلى البصرة، قال: وأنا أرجو أن الله يبارك للمسلمين في هذه المصنفات» ولقد بارك الله فيها. زهده وورعه وفضله وأما سيرته ومناقبه وشمائله وفضائله وزهده وروعة فكثيرة كلَّت الكتَّاب عن حصرها. قيل: إنه كان عنده شيء من شعرات النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعله في ملبوسه. ومن فضائله: أنه قال على سبيل التحدث بالنعمة: «إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحد من هذه الأمة» (¬2) . اسمع واتعظ يا من يغتاب الناس ويمزق أعراضهم: «أوحى الله إلى موسى - عليه السلام - من مات تائباً من الغيبة، فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار» . وجاء في الحديث: «من كف لسانه عن أعراض الناس قال الله عثرته يوم القيامة» (¬3) . وحكي عن داود الطائي - رضي الله عنه - أنه مر يوماً بموضع فوقع مغشياً عليه فحل إلى ¬

(¬1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/9) من طريق عبد القدوس بن همام يقول: سمعت عدة من المشايخ يقولون: حول محمد بن إسماعيل البخاري تراجم جامعه بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين. (¬2) رواه عنه المزي في تهذيب الكمال (24/446) ، والحافظ ابن حجر من طريقه في تغليق التعليق (5/397) ، ونقله الذهبي في السير (12/439) . وانظر: مقدمة فتح الباري (ص480) ، وصفة الصفوة (4/171) . (¬3) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1/279، رقم 454) عن أبي هريرة مرفوعاً: بطرف: «من أقال نادماً أقاله الله تعالى عثرته يوم القيامة ومن كف ... فذكره» .

منزله فلما أفاق سئل عن ذلك فقال: «ذكرت أني اغتبت رجلاً في هذا الموضع، فذكرت مطالبته إياي بين يدي الله تعالى» . قال بعضهم: «الغيبة فاكهة الفقراء، وضيافة الفساق، وبساتين الملوك، ومراتع النساء، ومزابل الأتقياء» . وقال حاتم الأصم: «المغتاب والنمام قردا أهل النار، والكذب كلب أهل النار، والحاسد خنزير أهل النار» . وحكي: أن عيسي - عليه السلام - رأى إبليس وفي يده عسلاً، وفي الأخرى رماداً، فسأله عن ذلك فقال: العسل أجعله في شفاه المغتابين، والرماد أجعله في وجوه الأيتام، حتى يرمدوا فيستقذرهم الناس فلا يفعلون معهم خيراً. ومنها: أن والده إسماعيل كان كثير المال، نقل عن والده أنه قال: لا أعلم في مالي درهماً من حرام، ولا درهما من شبهة، فلما مات والده إسماعيل انتقل المال إليه، فكان يعطيه مضاربة، فقطع له غريم خمسة وعشرين ألفاً، فقالوا له: استعن عليه بالوالي، فقال: لن أبيع ديني بدنياي، ثم صالح غريمه على أن يعطيه كل شهر عشرة دراهم، وذهب ذلك المال كله (¬1) . وحمل إليه بعض عماله بضاعة وكانت مطلوبة، فجاءت إليه التجار آخر النهار وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم فردهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة، فجاءه من الغد تجاراً آخرون فطلبوا منه البضاعة تربح عشرة آلاف درهم، فردهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إلى الأولين، فلا أغير نيتي ودفعها إليهم (¬2) . ونقل عنه أنه قال: كنت استغل كل شهر خمسمائة درهم فأنفقها في الطلب، وما عند الله خير وأبقى (¬3) . ومع كثرة هذا المال كان يأتي عليه نهار لا يأكل فيه، وكان أحياناً يأكل لوزتين أو ثلاثاً، وكان يتصدق بماله على الفقراء. ¬

(¬1) أورده الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (5/394) حكاية عن محمد بن أبي حاتم وراق الإمام البخاري، وذكره أيضاً في مقدمة فتح الباري (ص 479) . (¬2) ذكره ابن حجر في تغليق التعليق (5/395) وعزاه إلى غنجار في تاريخه، وانظر: صفة الصفوة (4/170) . (¬3) انظر: تغليق التعليق (5/395) ، ومقدمة فتح الباري (ص 480) .

طلبه العلم مع سعة ماله - رضي الله عنه - وطلبه العلم مع سعة هذا المال نقل عنه أنه قال: ما أشريت من حين ولدت من أحد بدرهم ولا بعت أحداً شيئاً، فسئل عن الورق الذي يكتب فيه والحبر فقال: كنت أوكل أنساناً يشتري لي، فكيف لا يكون ولياً. زهد البخاري وقد زهد في الدنيا وآثر غيره على نفسه، وصبر على شدة الجوع مع كثرة ما معه من مال، وكل هذا من علامات الأولياء. قال إبراهيم بن أدهم لرجل: أتحب أن تكون لله ولياً؟ قال: نعم، قال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة، وفرِّغ نفسك لله، وأقبل عليه بوجهك ليقبل عليك ويواليك. بل كثير من أولياء الله يأتيهم رزقهم من غير تعب ولا تكلف، كما حكي عن عتبة الغلام أنه دعا ربه أن يهب له ثلاث خصال في دار الدنيا، دعا أن يمن عليه بصوت حزين، ودمع غزير، وطعام من غير تكلف، فكان إذا قرأ بكى وأبكى، وكانت دموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله فيصيب قوته، ولا يدري من أين يأتيه. وحكي أن رابعة العدوية كانت تطبخ قدراً فاشتهت بصلاً فجاء طائر في منقاره بصلة فألقاها إليها. ومنها: أنه (¬1) وقف يصلي فلسعه زنبور سبع عشرة مرة، ولم يقطع صلاته (¬2) . وفاة البخاري وما ظهر من الكرامات عند وفاته وكانت وفاته (¬3) - رضي الله عنه - ليلة السبت ليلة عيد الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين، عن ¬

(¬1) الكلام على البخاري - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (2/12) عن أبي سعيد بكر بن منير يقول: كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات يوم فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء هذا الذي آذاني في صلاتي؟ فنظروا فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة عشر موضعاً، ولم يقطع صلاته. ورواه المزي في تهذيب الكمال (24/446) ، وانظر: تهذيب التهذيب (9/43) ، وتغليق التعليق (5/398) ، ومقدمة فتح الباري (ص 480) ، وسير أعلام النبلاء (12/441) . (¬3) وفي سبب وفاته قال ابن حجر في تغليق التعليق (5/441) : قال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري سمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه البخاري بخرتنك يقول: أنه أقام أياماً فمرض، واشتد به المرض، حتى وجه إليه رسول من سمرقند ليخرج، فلما وافى تهيأ للركوب، ولبس خفيه وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها، وأنا آخذ بعضده، ورجل آخر معي يقوده إلى الدآبة ليركبها فقال رحمه الله: أرسلوني فقد ضعفت، فدعا بدعوات ثم اضطجع، فقبض فسال منه عرق كثير، وكان أوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، قال: ففعلنا فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ودامت أياما وجعل الناس يختلفون إلى القبر أياماً يأخذون من ترابه إلى أن جعلنا عليه خشباً مشبكاً. وانظر: سير أعلام النبلاء (12/466، 467) .

اثنين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوماً وصفته: أنه كان نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير وحق أن ينشد فيه. تراه من الذكاء نحيف الجسم ... عليه من توقده دليل إذا كان الفتى ضخم المعالي ... فليس يضيره الجسد الضئيل (¬1) ولما دفن فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك، وكان الناس تأتي إلى قبره يأخذون التراب منه للتبرك به ولشمه، حتى ظهرت الحفرة للناس، ولم يكن يقدر على حفظ القبر بالحراس فنصبوا على القبر أخشاباً مشبكة منعوا الناس بها من الوصول إلى قبره، فكانت الناس تأخذ التراب والحصيات من حوالي القبر، دامت تلك الرائحة أياماً كثيرة، حتى توارت وشاعت في جميع تلك البلاد، ولا يبعد أن تكون هذه الرائحة رائحة صيامه الذي صامه في الحياة وأخفاه عن الناس، فأظهره الله لهم بعد موته، إظهاراً لفضله وعظيم منزلته عنده. قال العلامة ابن رجب في «اللطائف» : ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكلما اجتهد صاحبه على إخفائه فاح ريحه، ثم قال: لما دفن عبد الله بن غالب كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك، فرؤي في النوم فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره؟ فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ، ولله در من قال: وكاتم الحب يوم البين منهتك ... وصاحب الوجد لا تخفى سرائره (¬2) لم ينم الصادقون أحوالهم، وريح الصدق ينم عليهم، ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه ¬

(¬1) البيتان من بحر «الوافر» ، أنشدهما الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. انظر: معجم السفر لأبي طاهر أحمد بن محمد السلفي (ص 124) . (¬2) البيت للمتنبي. انظر: المدهش لأبي الفرج بن الجوزي (ص 441) .

الله رداءها علانية، وما أحسن قول القائل: كم أكتم حبكم عن الأغياري ... والدمع يذيع في الهوى أسراري كم أستركم هتكتموا أستاري ... من يخفي في الهوى لهيب النار وقيل: إن بعض العلماء رأي ليلة موته (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع قال: فسلمت عليه، وقلت: يا رسول الله ما وقوفك هاهنا قال: انتظر محمد بن إسماعيل. ونقل عن الفربري أنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد محمد بن إسماعيل البخاري، فقال: اقرأه مني السلام (¬2) . وقال أبو زيد المروزي الفقيه: كنت نائماً بين الركن والمقام، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام: فقال: يا أبا زيد إلى متي تدرس الفقه ولا تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ فقال: جامع ابن إسماعيل (¬3) . وقال الإمام القدوة أبو محمد بن أبي جمرة المالكي نفعنا الله ببركاته: قال لي من لقيته من العارفين عن من لقي من السادة المقر لهم بالفضل: أن صحيح البخاري ما قريء في شدة إلا فرجت، ولا رُكب به في مركب فغرق (¬4) . وحكي: أنه قريء مرة في حمص لرفع البلاء فرفعه الله. وجملة ما في صحيح البخاري من الأحاديث مع المكرر سبعة ألاف ومائتان وخمس وسبعون حديثاً كما جزم به ابن الصلاح، وبإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث (¬5) على ¬

(¬1) الكلام على الإمام البخاري. (¬2) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/10) بسنده عن أحمد محمد بن محمد بن مكي الجرجاني يقول: سمعت محمد بن يوسف الفربري يقول: ... فذكره، وكذا المزي في تهذيب الكمال (24/445) ، وانظر: تغليق التعليق (5/422) ، ومقدمة فتح الباري (ص 489) ، وسير أعلام النبلاء (12/443) ، تهذيب الأسماء (ص 86) . (¬3) رواه الرافعي في التدوين في أخبار قزوين (2/46) وفيه: «إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي ... » ، وأورده ابن حجر في تغليق التعليق (5/422) وقال الحافظ ابن حجر عقبه: قلت: «إسناد هذه الحكاية صحيح ورواتها ثقات أئمة، وأبو زيد من كبار الشافعية، له وجه في المذهب، وقد سمع صحيح البخاري من الفربري، وحدث به عنه، وهو أجل من حدث به عن الفربري» . وانظر: مقدمة فتح الباري (ص 489) ، وتهذيب الأسماء (ص 92) . (¬4) ذكره الحافظ السيوطي في تدريب الراوي (1/96) . (¬5) انظر: تدريب الراوي (1/104) .

ما قيل (¬1) . ومن شعره - رضي الله عنه - وأرضاه: اغتنم في الفراغ فضل الركوع ... فعسي أن يكون موتك بغتة كم صحيح رأيت من غير سقم ... ذهبت نفسه صحيحة فلتنه (¬2) وكم له من الكرامات - رضي الله عنه -، رفع الله ذكره الشريف وقد فعل، وجعل له لسان صدق في الآخرين وقد جعل. * * * ¬

(¬1) قال سراج الدين الأنصاري في المقنع (1/64) : إلا أن هذه العبارة-يقصد عدد ما في صحيح البخاري- قد تندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين وربما عد الحديث المروي بإسنادين حديثين. قلت: ولذا قال المصنف: على ما قيل. (¬2) ذكرهما ابن حجر في تغليق التعليق (5/400) ، ومقدمة فتح الباري (ص 481) .

كتاب بدء الوحي «قال الشيخ الحافظ الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم» . قال العلماء (¬1) : «بسم الله» جار ومجرور متعلق بمحذوف اتفاقاً، قدره بعضهم فعلاً نظراً إلى أن الأصل في العمل الأفعال، وقدره بعضهم مصدراً مرفوعاً على الابتدا نظراً إلى أن المقام مقام الابتدا، والتقدير على الأول: «بسم الله ابتدئ» وعلى الثاني: «ابتدائي ببسم الله ثابت» فحذف المبتدأ وخبره، وبقي معمول المبتدأ والتقدير الأول أولى، لأن المصدر لا يعمل محذوفاً. ولو قيل: إن «بسم الله» متعلق بالاستقرار على أنه في موضع الخبر لمبتدأ محذوف: والتقدير: «ابتدائي مستقر ببسم الله» لم يبعد وسلم من دعوى عمل المصدر في حالة حذفه، قاله في بعض المحققين، وقال: إنه لم يره مسطوراً. ويقدر متعلق «بسم الله» في كل موضع بحسبه، فإن جعلت «بسم الله» للأكل، قدرت: بسم الله آكل أو أكلي، أو للشرب قدرت: بسم الله أشرب أو شربي، وما أشبه. فالحاصل أن متعلق «بسم الله» إما «أبتدي» أو «ابتدائي» ، ويسمي «المجرور» حنيئذ «بالظرف اللغو» ، وإما أن يكون المتعلق الاستقرار ويسمي «بالظرف المستقر» ، والفرق بين الظرف اللغو والمستقر: أن الظرف اللغو ما كان عامله خاصاً كالابتداء ونحوه، والمستقر: ما كان عامله عاماً كالاستقراء ونحوه. وإضافة «اسم» إلى «الله» قيل: من إضافه العام إلى الخاص «كخاتم حديد» . وقيل: المضاف هنا مقتحم جيء به لإرشاد حسن الأداء. وقيل: الاسم هنا بمعني التسمية. وقيل: في الكلام حذف مضاف تقديره: باسم مسمى الله، «والله» علم على الذات المعبود بحق، وتفخم لامه وجوباً إذا ضم ما قبله، قال ابن الجزري: وفخم اللام من اسم الله ... عن فتح أو ضم كعبد الله و «الرحمن» على وزن فعلان مشتق من «رحم» بالكسر، «كغضبان» من غضب، وهو صفة مشبهة. فإن قيل: كيف يأتي من «رحم» بالكسر وهو متعدد، وهي لا تأتي إلا من فعل لازم؟ ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك أيضاً في التبيان في إعراب القرآن (1/1) .

أجيب عنه: بأنها بنيت من «رحم» بالكسر بعد النقل إلى فعل بالضم، أو بعد تنزيل المتعدي منزلة الفعل اللازم، كما في قولك: «فلان يعطي» . وههنا سؤال وهو: إن قيل: «الرحمن والرحيم» صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمة: رقة القلب، وهي في حق الله محال تعالى سبحانه عن أن يكون له قلب أو نحوه من صفات الأجسام؟ والجواب عنه: أن أسماء الله تؤخذ باعتبار الغايات، فإذا وصف الله بأمر ولم يصح وصفه به، يحمل على غاية ذلك، وهذه قاعدة في كل مقام، وغاية رقة القلب التفضل والإحسان فهو المراد هنا. وابتدأ البخاري -رحمه الله تعالى- كتابه «ببسم الله الرحمن الرحيم» اقتداء بالقرآن الكريم العظيم، وعملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» (¬1) أي: ذاهب البركة، رواه الخطيب بهذا اللفظ في كتابه الجامع، ¬

(¬1) ذكره النووي بهذا اللفظ في شرحه على صحيح مسلم (1/43) وعزاه إلى عبد القادر الرهاوي في كتابه «الأربعين» ، وكذا الحافظ السيوطي في الجامع الصغير انظر: فيض القدير (5/14) ، قال المناوي: ورواه كذلك الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة. قلت: ولم أقف عليه في تاريخ بغداد، وإنما أورده الخطيب بدون إسناد في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69، رقم 1209) وقد أشار السفيري -المصنف- إلى ذلك. وقد عدد النووي في شرحه على مسلم (1/43) الروايات في هذا الحديث فقال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع» ، وفي رواية: «بحمد الله» ، وفي رواية: «بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» ، وفي رواية: «لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم» وقال: روينا كل هذه في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي سماعاًٍ من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم الإنباري عنه، وروينا فيه أيضاً من رواية كعب بن مالك الصحابي - رضي الله عنه - والمشهور رواية أبي هريرة. وهذا الحديث حسن، وروي موصولاً ومرسلاً، ورواية الموصول إسنادها جيد، ومعنى: «أقطع» : قليل البركة، وكذلك «أجذم» بالجيم والذال المعجمة ويقال منه: «جذم» بكسر الذال «يجذم» بفتحها. والحديث حسنه برواياته العجلوني في كشف الخفاء (2/156) . إلا أن الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/220) قال: الرواية المشهورة فيه بلفظ: «حمد الله» وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية. وإنما حكم بأنه حديث حسن مع اختلاف لفظه بين حمد وتسمية وذكر لله كما سبق أن قرأنا ذلك عند الإمام النووي، لأن اللفظ الذي فيه «الحمد» هو المشهور كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهذا اللفظ المشهور أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان (1/174، رقم 2) ، والدارقطني (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة. ولكن يمكن الجمع بين الروايات في ذلك بأن البدء يكون بالجميع بالتسمية والتحميد وذكر الله، فإن الذي يبدأ بذلك فقد جمع بين الروايات وحاز فضل ذلك. قاله الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69) .

فلهذا ابتدء بها المصنفون في أول كتبهم. فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى ابتدء القرآن العظيم بالبسملة؟ فالجواب: كما قاله البشفي: إنه فعل ذلك سبحانه ليعملنا بابتدائه بالرحمة رضاه عنا، فإن السيد إذا كتب لعبده الغائب كتاباً، عرف رضا سيده وسخطه من عنوان كتابه، والله تعالى جعل عنوان كتابه «بسم الله الرحمن الرحيم» ولم يقل: بسم الجبار والقهار، بل بدأ بالرحمة، وجعلها سابقة على الكل، إشارة لها إلى أن رحمته قبل غضبه، وأن رضاه قبل سخطه، فله الحمد والمنة على ذلك. جاء في حديث: «أن الله تعالى كتب على نفسه قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي تغلب غضبي» (¬1) . وجاء أيضا: «إذا كان يوم القيامة أخرج الله تعالى كتاباً من تحت العرش فيه مكتوب: إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين» (¬2) . فيا أيها الرب الكريم وخير من ... ينادى به رباه رباه رباه تفضل علينا يا كريم برحمة ... تعم جميع الخلق وتغشاه وبارك لنا في الزرع والضرع دائماًً ... وغزر لنا شعب النبات وفرعاه وأرخص لنا الأسعار في كل بلدة ... واغن جميع الخلق كلاً بمعناه وسهل ونفس واقض كل إنابة ... وتب واعف واغفر كل ذنب عملناه ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (6/2694، رقم 6969) ، والإمام مسلم في صحيحه (4/2107، رقم 2751) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه عبد الرزاق عن معمر في الجامع (11/411، رقم 20858) من رواية الحكم بن أبان أنه سمع عكرمة يقول: «إن الله تبارك وتعالى إذا فرغ من القضاء بين خلقه أخرج كتاباً من تحت العرش فيه: رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين» ، ومن طريقه ابن جرير الطبري في تفسيره (7/155) ووقع عند الطبري أن الحكم بن أبان قال: عن عكرمة وحسبته أسنده.

لطيفة: قال الإمام الرازي: كتب عارف من العارفين لما دنا أجله «بسم الله الرحمن الرحيم» وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له: أي فائدة لك في هذا؟ قال: أقول يوم القيامة إلهي بعثت إلينا كتاباً وجعلت عنوانه «بسم الله الرحمن الرحيم» فعاملني بعنوان كتابك. واختلف العلماء في البسملة (¬1) هل هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة أم لا؟ فذهب إمامنا الشافعي إلى أنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة إلا براءة، للأخبار ولإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف أوائل السور سوى براءة، فلو لم تكن قرآنا لما أجازوا ذلك، لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً. بل ذكر الروياني من أصحابنا الشافعية في كتابة «البحر» : أن البسملة أفضل آي القرآن. والحكمة في عدم ابتداء سورة براءة بالبسملة: أنها نزلت في الخوف والقتال بالسيف، والبسملة آية أمان، والأمان والخوف لا يجتمعان. وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنها ليست آية من كل سورة. واختلاف العلماء فيها لا يكفر جاحدها ومنكرها بخلاف غيرها من أي القرآن إذا أنكره فإنه يكفر. والبسملة التي في أثناء النمل آية من القرآن بالإجماع. ومذهب الشافعي يستحب الجهر بها في الصلاة الجهرية (¬2) ، ومذهب أبي حنيفة وأحمد يسر بها مطلقاً، والإمام مالك لا يقرأها سراً ولا جهراً، وإذا قرأها خارج الصلاة ويأتي بها في أول الفاتحة وأول كل سورة إلا براءة، وإذا قرأ من أول الأجزاء لا من أول السورة فهو مخير بين البسملة وتركها. وقد ذكر العلماء فوائد متعلقة بالبسملة (¬3) : الأولى: أن كعب الأحبار قال: إن الباء من بسم الله بهاء الله، والسين سناوه، والميم ملكه. الثانية: اشتملت البسملة على ثلاثة أسماء «الله، الرحمن، الرحيم» أما «الله» فهو المستحق للعبادة، وهذا معناه، وهو علم على الله غير مشتق كما قاله طائفة من العلماء منهم الإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن، والغزالي. ونقل عن الأشعري أنه رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بقولي: إن الله علم على ذات الله تعالى، وهو اسم الله الأعظم. ¬

(¬1) فصل الألوسي في تفسيره روح المعاني (1/39) هذه لمسألة تفصيلا بديعياً فقال: اختلف الناس في البسملة في غير النمل إذ هي فيها بعض آية بالاتفاق على عشرة أقوال: الأول: إنها ليست آية من السور أصلاً. الثاني: أنها آية من جميعها غير براءة. الثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها. الرابع: أنها بعض آية منها فقط. الخامس: أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمناً وللفصل بينها. السادس: أنه يجوز جعلها آية منها وغير آية لتكرر نزولها بالوصفين. السابع: أنها بعض آية من جميع السور. الثامن: أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور. التاسع: عكسه. العاشر: أنها آيات فذة وإن أنزلت مراراً. فابن عباس وابن المبارك وأهل مكة كابن كثير وأهل الكوفة كعاصم والكسائي وغيرهما سوى حمزة وغالب أصحاب الشافعي والإمامية على الثاني. وقال بعض الشافعية وحمزة ونسب للإمام أحمد بالثالث. وأهل المدينة ومنهم مالك، والشام ومنهم الأوزاعي، والبصرة ومنهم أبو عمرو ويعقوب على الخامس. (¬2) انظر المجموع (3/280) وعبارته فيه: قال الشافعي والأصحاب: ويسن الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية في الفاتحة وفي السورة. (¬3) ومن الفوائد التي لم يذكرها المصنف ما قاله في فتح المعين (1/147) : ويسن وقف على رأس كل آية حتى على آخر البسملة، خلافاً لجمع منها أي: من الفاتحة وإن تعلقت بما بعدها للاتباع.

كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، وأكثر مشايخ التصوف والعارفين، فإنه لا ذكر لصاحب مقام فوق الذكر باسمه مجرداً. واستدلوا على ذلك بأشياء منها: أن الله تعالى لما خاطب موسي قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه: 14] فلو كان له اسم أعظم منه لقاله. ومنها: أنه لم يسم به غيره بدليل قوله تعالي {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} [مريم: 65] أي: هل تعلم أحد تسم غير الله. وفي الاسم الأعظم خلاف كثير سيأتي في محله. واسم الله أعرف المعارف، وقد ذكر هذا الاسم الشريف في القرآن في ألفين وثلاثمائة وستين موضعاً. وأما اسم «الرحمن» فهو اسم خاص به سبحانه، لأنه صفة لمن وسعت رحمته كل شيء، ومن لم يكن كذلك لا يسمي رحماناً. وتسمية مسيملة الكذاب برحمان فهو صادر من الكفار فلا عبرة بذلك، فلا يجوز للإنسان أن يسمي ولده بالرحمن بل بعبد الرحمن. قال السبكي: المختص بالله هو المعرف باللام دون غيره، فعلي قوله يجوز التسمية برحمان لا بالرحمن. وأما اسم «الرحيم» فإنه يطلق على غير الله أيضاً. فإن قيل: إذا كانت البسملة من الفاتحة فما الحكمة في ذكر الرحمن الرحيم في الفاتحة، بعد ذكرهما في البسملة؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدها: أن الله تعالى لما ابتدء كتابه بالحمد لله رب العالمين بعد البسملة عَلِم سبحانه أن النفوس ترهب من ذلك، فعقبة بقوله «الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ» ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه فيكون أعون على طاعته وأمنع من معصيتة، ونظير هذا قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50] ، وقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد» (¬1) قاله الغزالى في جواهر القرآن. ثانيهما: كررهما تأكيداً للرحمة وعناية بها، ومع ذلك عقبهما بقوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] لئلا يغتروا قاله النيابوري. و «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» اسمان من أسماء الله يجب على كل مكلف أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، وأرحم الراحمين. واختلف العلماء فيهما هل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد وصححه ابن العربي. والصحيح أن «الرحمن» أبلغ من «الرحيم» كما قاله الأكثرون، ومعنى كون «الرحمن» أبلغ: أن رحمته في الدنيا شاملة له وللكافر والصالح، وتلك الرحمة هي إيصال الرزق، وخلق الصحة والسلامة ورفع الأسقام والمصائب والدواهي. و «الرحمن» أبلغ من الرحيم، لأن الرحمة الناشئة من الرحمن عامة في حق الولي والعدو والصديق والزنديق، والرحمة الناشئة من الرحيم مختصة بالمؤمنين. وقد فرق العلماء بين: «الرحمن، والرحيم» بفروق: الأول: أن «الرحمن» خاص بأهل السماء، و «الرحيم» بأهل الأرض. الثاني: أن «الرحمن» هو الذي يرحم برحمته واحدة، و «الرحيم» بمائة رحمة فعلى هذا يكون «الرحمن» خاص بأهل الدنيا، و «الرحيم» بأهل الآخرة، ويدل عليه ما رويناه في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه الإمام مسلم (4/2109، رقم 2755) . وأخرجه أيضاً: الترمذي (5/549، رقم 3542) ، والإمام أحمد (2/334، رقم 8396) ، وابن حبان (2/56، رقم 345) ، وأبو يعلى (11/392، رقم 6507) ، والديلمي (3/349، رقم 5056) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه الإمام مسلم (4/2109، رقم 2753) . وأخرجه أيضاً: الطبراني في الكبير (6/255، رقم 6144) ، وابن المبارك في الزهد (ص 312، رقم 894) ، وهناد في الزهد (2/614، رقم 1319) عن سلمان - رضي الله عنه -.

الثالث: أن «الرحمن» ذو الرحمة الشاملة، الني وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معايشهم ومصالحهم، عمت الجميع المؤمن والكافر، وأما «الرحيم» فخاص بالمؤمنين، كما قال {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43] . وقيل غير ذلك. قال العلماء: «الرحمن» خاص بالله تعالى، لا يجوز أن يسمى به غيره بخلاف «الرحيم» وأما مسيلمة الكذاب فقد سماه قومه بذلك حيث قالوا. سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أباً ... وانت غوث الورى لازلت رحماناً عناداً وكفراً لزعمهم أنه كان نبياً، فهو استعمال باطل، صدر من الكفار فلا عبرة به. وقد ذكر العلماء أن التسمية تستحب في مواضع منها: في ابتداء المصنفات للتأسي والاقتداء بالقرآن والتبرك بها، قال في نزهة المجالس: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أول ما كتب القلم: بسم الله الرحمن الرحيم، ذا كتبتم فاكتبوها أوله، وهي مفتاح كل كتاب أنزل، ولما نزل بها جبريل - عليه السلام - ها ثلاثاً وقال: هي لك ولأمتك وأمرهم لا يدعوها في شيء من أمورهم، فإني لم أدعها طرفة عين مذ نزلت على أبيك آدم - عليه السلام - وكذلك الملائكة» (¬1) . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب أولاً «باسمك اللهم» فلما نزلت السورة هود فيها {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] كتب: «بسم الله» فلما نزلت سورة سبحان وفيها: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الاسراء: 110] كتب: «بسم الله الرحمن» فلما نزلت سورة النمل فيها {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] كتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» (¬2) . ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) رواه أبو داود في مراسيله (ص 90، رقم 35) عن أبي مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكره بهذا اللفظ الجصاص في أحكام القرآن (1/7) فقال: وروى أبو قطن عن المسعودي عن الحارث العكلي ... فذكره. وذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور (6/354) وعزاه إلى عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبه وابن أبي حاتم عن الشعبي، وأعقبه برواية ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران ولفظها: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب باسمك اللهم حتى نزلت ? إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?» . وذكره أيضا من ورواية قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر بلفظ: «لم يكن الناس يكتبون ... » . وذكره القرطبي في التفسير (1/92) من رواية الشعبي والأعمش. وانظر: تفسير البغوي (1/39) ، وفتح القدير (1/185) ، وروح المعاني (1/39) . وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه (6/337، رقم 31856) معناه عن عبد الله معبد الزماني قال: «لم تنزل بسم الله الرحمن الرحيم في شيء من القرآن إلا في سورة النمل: ? إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?» .

واتفق العلماء على جواز كتابتها أول العلم والرسائل، ومنع جماعة من كتابتها في أول ديوان الشعر، إلا إذا كان فيه مواعظاً وحكماً. وذكر الرازي -رحمه الله تعالى- وغيره فوائد متعلقة بالبسملة: الفائدة الأولى: قيل: لما أنزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» على آدم قال: الآن آمنت على ذريتي من العذاب فلما مات ارتفعت، ثم نزلت على نوح فنجاها من الطوفان، ثم ارتفعت بعد موته ثم نزلت على إبراهيم، فصارت النار عليه برداً وسلاماً، ثم نزلت على سليمان فاستقام ملكه، ثم نزلت على موسي فسلم في البحر، ثم ارتفعت ثم نزلت على عيسي، فأوحى الله إليه: قد نزلت عليك آية الأمان، فلما رفع ارتفعت، ثم نزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة يأخذ المؤمن كتابة بيمينه ويقول: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا هو أبيض لا شيء فيه، فيقال له: كان مملوءًا من السيئات ولكن محته «بسم الله الرحمن الرحيم» . الفائدة الثانية: لما أرسل الله موسى إلى فرعون وتمادى في الطغيان، فدعا عليه مدة، فقال تعالى: يا موسي أنت تنظر إلى كفره وأنا إلى ما هو مكتوب على باب قصره، وذلك أن جبريل - عليه السلام - كتب عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» فلذلك وصفه الله بالمقام الكريم. قال الرازي: ففي هذا إشارة إلى أن من كتب هذه الكلمة على باب داره أمن من الهلاك، وإن كان كافرًا، فكيف بالذي كتبها على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره لا يكون آمناً يوم القيامة من عذاب الله.

وروي عن علي أنه نظر إلى رجل يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: جودها فإن رجلاً جودها فغفر له (¬1) . واختلف الأئمة فيما إذا أرسل الإنسان كلباً له للصيد، ولم يقل «بسم الله الرحمن الرحيم» عند إرساله، وصاد الكلب هل يحل أكله أم لا (¬2) ؟ ذهب إمامنا الشافعي إلى أنه يحل أكله سواء ترك التسمية سواء ترك التسمية عمداً وسهواً، فإن التسمية عند إرسال الكلب ونحوه للصيد سنة عند الشافعي لا واجبة (¬3) . وذهب أبو حنيفة إلى أن ترك التسمية ناسياً حل أكله، وإن تركها عامداً لا يحل. مثل هذا ما إذا رمى الصيد بسهم فقتله فعلى مذهب الشافعي يحل، وعند أبي حنيفة كان ناسياً حل، وإن كان عامداً لا يحل. ومثل هذا الذبيحة ما إذا ذبح الإنسان شاة مثلاً وترك التسمية عند ذبحها هل تؤكل أم لا؟ مذهب إمامنا الشافعي يجوز أكلها سواء ترك لتسمية عامداً أو سهواً (¬4) ، وعند أبي حنيفة إن تركها عمداً لا تؤكل لقوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وإن تركها ناسياً تؤكل (¬5) . وأجاب الشافعي عن الآية بأنها محمولة على الذي ذبح لغير الله، فإنه لا يحل أكله. وأقل التسمية «بسم الله» وأكملها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ويسن أن يقول عند الذبح والقتال «بسم الله والله أكبر» لأن الوقت لا يليق به «الرحمن الرحيم» . قال ابن العماد: وكيفية التسمية عليه أن يقول: «بسم الله» ولا يقل: «الرحمن الرحيم» لأن المقام لا يناسب الرحمة، ولا يقل: بسم الله واسم محمد. الفائدة الثالثة: قال الحناطي من الشافعية في فتاويه: لا يجوز جعل الفضة والذهب في ورقة كتب فيها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فإن فعل ذلك مع العلم بالمنع أثم. الفائدة الرابعة: إذا رأى الإنسان ورقة ملقاة على الأرض وفيها البسملة، أو شيء من القرآن يستحب رفعها بل يجب، إذا خيف أن تداس بالأرجل. قال ابن الجوزي: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رفع قرطاساً من الأرض فيه «بسم الله الرحمن الرحيم» احتراماً لله تعالى حرم الله وجهه على النار» (¬6) . ¬

(¬1) ذكره القرطبي في تفسيره (1/91) . (¬2) قد ذكر الجصاص في أحكام القرآن (3/316) الأصل في التسمية عند إرسال الكلب المعلم فقال: وقد روي في التسمية على إرسال الكلب ما حدثنا محمد بن بكر ... فساق إسناده إلى الشعبي قال: قال عدي بن حاتم: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أرسل كلبي؟ قال: «إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه» وقال: أرسل كلبي فأجد عليه كلباً آخر؟ قال: «لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك» . قال الجصاص: فنهاه عن أكل مالم يسم عليه وما شاركه كلب آخر لم يسم عليه، فدل على أن من شرائط ذكاة الصيد التسمية على الإرسال، وهذا يدل أيضا على أن حال الإرسال بمنزلة حال الذبح في وجوب التسمية عليه. (¬3) انظر الأم (2/227) . (¬4) انظر الأم (2/227) . (¬5) انظر الهداية شرح البداية (4/63) . (¬6) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/87) ضمن أحاديث باب ثواب من رفع قرطاساً من الأرض فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم» وروي أحاديثاً عن علي وأنس وأبي هريرة، فذكر الروايات عنهم، ولم يورد هذا الحديث الذي ذكره المصنف بهذا اللفظ، وبالنظر في الرويات التي رواها ابن الجوزي عن علي وأنس وأبي هريرة وجدنا أن أقرب الألفاظ للحديث الذي أورده المصنف حديث أنس فقد رواه بلفظ: «من رفع قرطاساً من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً لله أن يداس كتب عند الله من الصديقين، وخفف عن والديه وإن كانا مشركين» . قال ابن الجوزي: وأما طريق أنس ففيه: العلاء بن مسلمة، قال ابن حبان: يروي الموضوعات والمقلوبات عن الثقات، لا يحل الاحتجاج به، وقال أبو الفتح الأزدي: كان العلاء رجل سوء لا يبالي ما روى لا يحل لمن عرفه أن يروي عنه، وفيه: أبو حفص العبدي، قال أحمد: حرقنا حديثه، وقال يحيى: ليس بشيء. وحديث أنس أخرجه أيضاً: الخطيب في تالي تلخيص المتشابه (2/458، رقم 274) ، وأورده العجلوني في كشف الخفاء (2/328) وعزاه لأبي الشيخ عن أنس. والحديث أخرجه ابن عدي في الكامل (5/49، ترجمة رقم 1220) وهي ترجمة: عمر بن حفص أبو حفص العبدي، وقال: ليس بالقوي، وقال في آخر ترجمته: الضعف بين على رواياته. وترجم له الذهبي في الميزان في (5/226، ترجمة 6081) ، قال الذهبي: قال علي: ليس بثقة، وقال النسائي: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف. وزاد الحافظ ابن حجر على الذهبي في اللسان (4/299، ترجمة 832) فقال: وقال أبو نعيم الأصبهاني: روى عن ثابت المناكير، وقال الساجي: متروك الحديث، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: أبو حفص العبدي يرفض حديثه.

وإذا رفعها جاز له غسلها بالماء وجاز له حرقها بالنار، لكن قال ابن عبد السلام الأولى أن يغسلها بالماء أو يحرقها بالنار، ويجعلها في شق الحائط أو غيره، ولأنها قد تسقط فتوطأ. وهل الحرق أولى أو الغسل بالماء؟ قال بعضهم: الحرق أولى من الغسل، لأنها بعد الغسل قد تقع على الأرض، ولا يكره الحرق إذا تعلق به غرض صحيح، كما إذا خاف أن توطأ تلك الورقة أو تستعمل في غير القراءة، فقد أحرق عثمان مصاحف، وكان فيها آيات وقرآن منسوخ ولم ينكر عليه. قال الزركشي: نعم يكره الحرق لغير حاجة (¬1) . الفائدة الخامسة: يحرم على الإنسان أن يضع على فراش أو نقش «بسم الله الرحمن الرحيم» أو بشيء من القرآن (¬2) . لطيفة خاتمة: كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن بي صداعاً لا يسكن، فإذا ¬

(¬1) وفي حكم ذلك يقول أبو بكر البكري في إعانة الطالبين (1/68) : عبارة فتوى ابن حجر -أي: في الورقة التي فيها ذكر الله هل تحرق أم تمزق أم تغسل؟ - تفيد أن المعتمد حرمة التمزيق مطلقاً، ونصها: سئل ابن حجر عمن وجد ورقة ملقاة في طريق فيها اسم الله تعالى ما الذي يفعل بها؟ فأجاب رحمه الله بقوله قال ابن عبد السلام: الأولى غسلها لأن وضعها في الجدار تعرض لسقوطها والإستهانة بها، وقيل: تجعل في جدار، وقيل: يفرق حروفها ويلقيها ذكره الزركشي. فأما كلام ابن عبد السلام فهو متجه والذي يتجه خلافه وأن الغسل أفضل فقط، وأما التمزيق فقد ذكر الحليمي في منهاجه أنه لا يجوز تمزيق ورقة فيها اسم الله أو اسم رسوله لما فيه من تفريق الحروف وتفريق الكلمة وفي ذلك ازدراء بالمكتوب، فالوجه الثالث شاذ إذ لا ينبغي أن يعول عليه. (¬2) قاله الشرواني في حواشيه (1/154) .

كان عندك دواءًا ابعثه إليَّ، فبعث إليه عمر قلنسوه فكان إذا وضعها على رأسه سكن صداعه، وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع، فتعجب من ذلك ففتش القلنسوة فإذا مكتوب فيها «بسم الله الرحمن الرحيم» . الفائدة السادسة: ذكر ابن الملقن في شرحه على البخاري عن النقاش أنه قال: حين نزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» سبحت الجبال فقالت قريش: سحر محمد الجبال (¬1) . قال: فإن صح ما ذكره فلذلك معنى، وذلك: أنها آية نزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح معه بنص القرآن العظيم. وقد ورد في فضلها عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «من أراد أن ينجيه الله من الزبائية التسعة عشر فليقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» فيجعل الله له بكل حرف جنة من واحدة (¬2) . وسنتكلم على التسمية وننقل فيها فوائد في باب الوضوء إن شاء الله تعالى. * * * ¬

(¬1) ذكره الحلبي في سيرتة الحلبية (1/403) من قول النقاش، وقال: قال السهيلي: إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود، وقد كان الجبال تسبح مع داود، وهذا هو ما قاله ابن الملقن كما نقله المصنف. (¬2) ذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور (1/26) وعزاه إلى وكيع والثعلبي عن ابن مسعود، وذكره القرطبي وابن كثير. قال الحافظ ابن كثير: ذكره ابن عطية والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث: «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، لقول الرجل: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه» من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفاً وغير ذلك. انظر: تفسير القرطبي (1/92) ، وتفسير ابن كثير (1/18) .

المجلس الثاني

المجلس الثاني في الكلام على قوله: كيف كان بدء الوحي (¬1) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي قوله تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه} [النساء: 163] . وفيه طرف من خصائص سيدنا نوح وطرف من فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: لأي شيء لم يبتديء البخاري في أول صحيحه «بالحمد» (¬2) وهو أمر مهم، وقد صح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ناقص البركة» رواه النسائي وابن ماجه (¬4) . وأجاب عنه شيخ الإسلام سراج الدين ابن الملقن بسبعة أوجه: الأول: أن هذا الحديث ليس على شرطه فإن قرة بن عبد الرحمن وهو ممن انفرد به مسلم عن البخاري. ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/43) : قوله «بسم الله الرحمن الرحيم كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» هكذا في رواية أبي ذر والأصيلي بغير «باب» وثبت في رواية غيرهما، فحكي عياض ومن تبعه فيه التنوين وتركه، وقال الكرماني: يجوز فيه الإسكان على سبيل التعداد للأبواب. فلا يكون له إعراب. (¬2) لفظ الحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ بحمد الله فهو أقطع» ، وفي رواية: «بحمد الله» ، وفي رواية: «بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» ، وفي رواية: «لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم» ، ولفظه المشهور هو ما بدأنا به، أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه في سننه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان في صحيحه (1/174، رقم 2) ، والدارقطني في سننه (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة. وقد مر في المجلس الأول الكلام بإسهاب عن رواياته وحكمها، وهو بهذا اللفظ حديث حسن. (¬3) هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، أسلم سنة (7هـ) عام خيبر، كان - رضي الله عنه - راوية الإسلام لكثرة روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكثرة ما نقله عن إخوانه من الصحابة فقد روي عنهم علماً كثيراً، قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وبلغ مسنده وعدد أحاديثه (5326) حديثاً، وكانت وفاته بقصره بالعقيق سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع وخمسين. انظر: الإصابة (7/444) . (¬4) لفظ الحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ بحمد الله فهو أقطع» ، وفي رواية: «بحمد الله» ، وفي رواية: «بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» ، وفي رواية: «لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم» ، ولفظه المشهور هو ما بدأنا به، أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه في سننه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان في صحيحه (1/174، رقم 2) ، والدارقطني في سننه (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة. وقد مر في المجلس الأول الكلام بإسهاب عن رواياته وحكمها، وهو بهذا اللفظ حديث حسن.

الثاني: أن المراد بالحمد الذكر والثناء، بدليل أنه جاء في رواية: «بذكر الله» (¬1) والتسمية مشتملة على ذلك، فاكتفي بها لأنها أبلغ الثناء. الثالث: يحتمل أن البخاري حمد الله بلسانه، لأن الذي اقتضاه لفظ الحمد أن يحمد لا أن يكتبه، وقيل في الجواب غير ذلك (¬2) . ¬

(¬1) انظر التخريج السابق. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/43) : وقد أجاب من شرح هذا الكتاب بأجوبة أخر فيها نظر: منها: أنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية والحمدلة، فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة، أو بالتسمية لم يعد مبتدئاً بالحمدلة فاكتفي بالتسمية. وتعقب بأنه لو جمع بينهما، لكان مبتدئاً بالحمدلة بالنسبة إلى ما بعد التسمية، وهذه هي النكتة في حذف العاطف، فيكون أولى لموافقته الكتاب العزيز، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسمية والحمد وتلوها، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول ذلك. ومنها: أنه راعى قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ? [الحجرات: 1] فلم يقدم على كلام الله ورسوله شيئا، واكتفى بها عن كلام نفسه. وتعقب بأنه كان يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى، وأيضاً فقد قدم الترجمة وهي من كلامه على الآية، وكذا ساق السند قبل لفظ الحديث، والجواب عن ذلك: بأن الترجمة والسند وإن كانا متقدمين لفظاُ، لكنهما متأخران تقديراً فيه نظر. وأبعد من ذلك كله، قول من ادعى: أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة، فحذفها بعض من حمل عنه الكتاب، وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري، وشيوخ شيوخه وأهل عصره كمالك في الموطأ، وعبد الرزاق في المصنف، وأحمد في المسند، وأبي داود في السنن، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة، ولم يزد على التسمية، وهم الأكثر، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة، أفيقال في كل من هؤلاء: إن الرواة عنهم حذفوا ذلك؟ كلا، بل يحمل ذلك من صنيعهم، على أنهم حمدوا لفظاً. ويؤيده ما رواه الخطيب في الجامع عن أحمد: أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كتب الحديث ولا يكتبها، والحامل له على ذلك إسراع أو غيره، أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصاً بالخطب دون الكتب، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة، حمد وتشهد كما صنع مسلم، والله سبحانه وتعالي أعلم بالصواب. وقد استقر عمل الأئمة المصنفين، افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل، واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعراً، فجاء عن الشعبي منع ذلك، وعن الزهري قال: مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم، وعن سعيد بن جبير جواز ذلك، وتابعه على ذلك الجمهور. وقال الخطيب: هو المختار.

وقوله «باب» قال الكرماني: يجوز فيه وفي نظائره ثلاثة أوجه: الأول: «باب» بالرفع والتنوين. والثاني: «بابُ» بالرفع بلا تنوين على الإضافة، وعلى التقديرين هو خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا باب. والثالث: «بابْ» بالسكون على سبيل التعداد للأبواب فلا إعراب له، قال البرماوي: ولا يخفى بُعده. و «بدء الوحي» بالهمز مصدر «بدء» بمعنى البداية، يقال: بدو الوحي بلا همز مصدر بدا يبدي بمعنى ظهر. و «الوحي» مصدر «وحى يحي» كوعد يعد، ويقال: «أوحى» رباعياً بمعناه، ولكن الأكثر في الاستعمال مصدر الثلاثي. ومعنى الوحي في اللغة: الإعلام بخفاء، وقيل: بسرعة ومنه الوحا. وأما في الشرع: فهو إعلام الله تعالى أنبياءه الشيء بكتاب أو برسالة أو ملك أو منام أو إلهام أو نحو ذلك (¬1) . واستعمل الوحي في كتاب الله بمعنى الأمر نحو: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ ¬

(¬1) فصل الحافظ ابن حجر في الفتح (1/45) معنى الوحي في اللغة والشرع والمراد به هنا فقال: قوله: «بدء الوحي» قال عياض: روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء، وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور. قلت: ولم أره مضبوطاً في شيء من الروايات التي اتصلت لنا، إلا أنه وقع في بعضها «كيف كان ابتداء الوحي» ، فهذا يرجح الأول، وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ. وقد استعمل البخاري هذه العبارة كثيراً، كبدء الحيض، وبدء الأذان، وبدء الخلق. «والوحي» لغة: الإعلام في خفاء، والوحي أيضا: الكتابة والمكتوب والبعث والإلهام والأمر والإيماء والإشارة والتصويت شيئا بعد شيء. وقيل: أصله التفهيم، وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي. وشرعاً: الإعلام بالشرع، وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي: الموحى، وهو: كلام الله المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد اعترض محمد بن إسماعيل التيمي على هذه الترجمة، فقال: لو قال: كيف كان الوحي لكان أحسن، لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي، لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط. وتعقب بأن المراد من بدء الوحي، حاله مع كل ما يتعلق بشأنه، أي: تعلق كان، والله أعلم.

آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] . وبمعني التسخير نحو: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] وهو اتخاذها من الجبل بيوتاً، ومن عبر عن ذلك بالإلهام أراد هدايتها لذلك، وإلا فالإلهام حقيقة إنما يكون للعاقل. وبمعني الإشارة نحو: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَة وَعَشِياًّ} [مريم: 11] وقد يطلق الوحي بمعنى الموحى به كالقرآن والسنة، من إطلاق المصدر على المفعول قال تعالى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] ، وسنذكر أقسام الوحي في المجالس الآتية. وإنما صدر البخاري - رضي الله عنه - كتابه بالوحي لأنه مادة الشريعة وقصده أن جميع أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي (¬1) لقوله الله سبحانه إخباراً عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] . وقوله «إلى رسول الله» المراد: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما قال: إلى رسول الله ولم يقل إلى الرسول لكراهة ذلك، فقد قال السخاوي (¬2) في القول البديع: أسند البيهقي (¬3) من طريق الشافعي قال: يكره للرجل ان يقول قال الرسول، ولكن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعظيماً له والله الموفق. وصرح شيخنا السيوطي (¬4) في خصائصه بذلك أيضاً قال: وكره الشافعي أن يقول في حقه: الرسول بل رسول الله، لأنه ليس فيه من التعظيم ما في الإضافة. فائدة: اختلف العلماء في الرسول والنبي هل هما بمعنى واحد؟ فقيل: هما بمعنى واحد فكل رسول نبي وكل نبي رسول. والجمهور على أن الرسول أخص من النبي فكل نبي رسول ولا عكس، إذ النبي إنسان أوحى الله إليه بشرع ولم يؤمر تبليغه، فإن أمر تبليغه فرسول أيضاً. وإنما قال: «إلي رسول الله» ولم يقل: إلى نبي الله، لأن الرسول المتصف بالرسالة، والنبي بالنبوة، والرسالة أفضل من النبوة، لأن الرسالة تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي كالعلم والعبادة. وذهب ابن عبد السلام (¬5) إلى أن النبوة أفضل من الرسالة، واحتج بأن النبوة: الوحي بمعرفة الله وصفاته، فهي متعلقة بالله من طرفها، والرسالة الأمر بالتبليغ فهي ¬

(¬1) مراده من ذلك أن السنة بما تحويه من أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وإقراراته وصفاته، هي وحي من عند الله، وهذا أيضاً فيه رد المطاعن عن سنة نبينا المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، وصيانة للشريعة من كيد الغالين، وانتحال المبطلين الذين لا يقرون السنة ولا يأخذون بها بدعوى أنها قول بشر يخطئ وينسى، وقد غفلوا أن الله عصمه - صلى الله عليه وسلم - أن يخطئ في شرعه ووحيه فسبحانه القائل: ?وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى? [النجم: 3، 4] ، فالسنة بهذا وحي من الله سبحانه وتعالى. وإذا أردت الزيادة فنقول لك: يدل على ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: ?وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً? [النساء: 113] ، والحكمة التي في الآية هي السنة، قال الشافعي في الرسالة (ص: 45) : فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفسير الحكمة بالسنة نقله الشافعي عن أئمة ارتضاهم في تفسير القرآن الكريم، وقد روي هذا التفسير تفسير الحكمة بالسنة عن الحسن وقتادة. انظر: الدر المنثور (1/193) ، والخطيب في الفقية (1/88) . وتوجد آيات أخر تفيد أن السنة وحي من الله - عز وجل - وينضم إليها أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تؤكد ذلك، فقد روى أبو داود في سننه (4/200، رقم 4604) ، والمروزي في السنة (1/70، رقم 244) ، وأحمد في المسند (4/130) عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ... الحديث» . ويوجد غيره من الأحاديث التي نشير إليها بهذا الحديث، وكلها دلالة قاطعة على أن السنة وحي أنزل من عند الله سبحانه وتعالى ولا يجادل في ذلك إلا معاند. والعلماء قسموا الوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - إلى قسمين: الأول: وحي إعلامي، والثاني: وحي إقراري، وللوحي الإعلامي كيفيات متعددة وهي سبع: الكيفية الأولى: أن يوحى إليه بواسطة الإلهام، فيلقي الله في قلبه المعاني، مع العلم اليقيني أن هذا من عند الله سبحانه، وهذه الكيفية هي المراد من قول الحق سبحانه وتعالى: ?وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً? [الشورى: 51] ، إذ يقابلها إجمال بقية الكيفيات في قوله بعد ذلك: ?أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ?، وبهذا قال أكثر المفسرين. انظر: السنة النبوية د. عبد المهدي بن عبد القادر (ص: 26) . الكيفية الثانية: أن يكلمه الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب، فلا يرى - صلى الله عليه وسلم - ربه، وإنما يسمع كلامه - عز وجل -، مع اليقين بأنه سبحانه يكلمه، وهذا هو مفهوم من قول الله سبحانه: ?وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ? فقوله سبحانه: ?أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ? هي الكيفية المذكورة هاهنا. وتكليم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إما في اليقظة، كما في ليلة الإسراء والمعراج ين فرضت الصلاة، وإما في النوم كما في حديث: «رأيت ربي في أحسن صورة قال: يما يختصم الملأ الأعلى ... الحديث» . رواه الدارمي في الرؤيا (2/51، رقم 2155) ، وأخرجه أحمد في المسند عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس، ومعاذ راجع المسند (1/368) ، (4/66) ، (5/243) ، (5/378) . وفي بعض الروايات ما هو أصرح من هذا ففيها أنه رأى ربه مناماً. الكيفية الثالثة: الرؤيا الصادقة فيرى - صلى الله عليه وسلم - الشيء في الرؤيا فهذا من الوحي، إذ رؤيا الأنبياء وحي، وهي حق كما جاء في هذا الحديث الذي معنا من هذا الشرح، وقد جاء ذلك مصرحاً به في روايات أخر نحو ما أخرجه البخاري في الصحيح (1/238، رقم 138) عن عبيد بن عمير بن قتادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن رؤيا الأنبياء وحي» ثم قرأ: ?إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ? [الصافات: 102] . وما ذكره السيوطي في الدر (5/280) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رؤيا الأنبياء وحي» . فرؤياه المنامية - صلى الله عليه وسلم - حق لا يعتريها تخييل أو تلبيس، وكذا جميع الأنبياء، تجد هذا جلياً واضحاً في قصة ذبح إبراهيم ولده، وكيف أن ذلك كان بناء على رؤيا منامية، وتجده أيضاً في قصة يوسف، وأن رؤياه الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين قد تحققت بعد سنوات. قال في الفتح (8/717) : قال ابن المرابط في تفسير الرؤيا الصالحة: هي التي ليست ضغثاً، ولا من تلبيس الشيطان، ولا فيها ضرب مثل مشكل أي لا يتوقف على تأويله. الكيفية الرابعة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، وقد تمثل له الملك رجلا، فيكلمه بما أمر به من الوحي. فأحياناً كان جبريل - عليه السلام - يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صورة دحية الكلبي، فيبلغه عن الله سبحانه وتعالى به. وأخرج حديث إتيان جبريل في صورة دحية الكلبي النسائي في الكبرى (8/101، رقم 4991) ، والبزار في مسنده (9/419، رقم 4025) كلاهما من حديث أبى هريرة. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1/260، رقم 758) ، وفي المعجم الأوسط (1/7، رقم 7) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه البيهقى في شعب الإيمان (5/175، رقم 6257) من حديث عائشة. وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/780، رقم 18) من حديث شريح بن عبيد. وأخرجه ابن سعد في الطبقات لكبرى (4/250) من حديث ابن عمر ولفظ الجميع: «كان جبرائيل يأتي النبي في صورة دحية الكلبي» . ودحية صحابي جليل شهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلا بدر، وكان جميل الهيئة. وربما تمثل له الملك شخصاً آخر على نحو ما ورد في الحديث عند مسلم في الصحيح (1/37، رقم8) عن عمر بن الخطاب قال: «بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً» قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» قال: فأخبرني عن إمارتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» قال: ثم انطلق، فلبثت ملياً ثم قال لي: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» . وهذه الكيفية من أهون كيفيات الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صرح بذلك في الحديث الذي معنا أيضا من رواية البخاري. الكيفية الخامسة: أن يوحى إليه بواسطة الملك ولا يرى الملك، وإنما يعلم بمجئ الوحي بعلامات تدل عليه من دوي كدوي النحل أو كصلصلة الجرس كما في الحديث هنا، فيكلمه الملك بالوحي، وهذه أثقل الكيفيات عليه - صلى الله عليه وسلم - حتى أن عائشة قالت في الحديث: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً» . ويدل على هذا أيضاً ما عند أحمد في المسند (1/34) من حديث عمر بن الخطاب: «كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل ... الحديث» . وفيما يعانية النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الوحي له حكم متعددة، منها: ما يترتب على ذلك من المشقة من زيادة الأجر، ورفعه الدرجات، ومنها: أن يتفرغ - صلى الله عليه وسلم - للوحي وتتفرغ جوارحه لما سيلقى عليه. ومن هذه الكيفية ما أخرجه البخاري في الصحيح (3/393) من حديث يعلى بن أمية أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة، وعليه جبة وعليه أثر الخلوق، وفيه أن يعلى رآه حال نزول الوحي محمر الوجه، يغط كما يغط البكر ... الحديث. الكيفية السادسة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، دون أن يرى الملك، ودون أن يكلمه، وإنما يلقي الملك في قلبه - صلى الله عليه وسلم - ما أمر به من الوحي. ومن هذه الكيفية ما أخرجه الحاكم (2/4) والشافعي في الرسالة (ص: 53) ، وأبو نعيم في الحلية (10/26، 27) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن روح القدس نفس في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» . الكيفية السابعة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، وقد ظهر الملك على صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح كما عند البخاري في الصحيح (8/610) ، وفي رواية أخرى عند النسائي وابن مردوية كما في الفتح (8

متعلقة بالله من أحد طرفيها، والرسالة الأمر بالتبليغ، فهي متعلقة بالله من أحد طرفيها وبالعباد من الطرف الآخر، والمتعلق بالله من الطرفين أفضل من المتعلق به من أحدهما. ورد عليه بأن الرسالة أخص من النبوة، كما أن الرسول أخص من النبي فهي مشتملة على النبوة وزيادة. فائدة أخرى: مبنية على الفرق بين الرسول والنبي أفادها علماء الحديث وهي: ما إذا وقع في الرواية قال رسول الله، أو عن رسول الله هل يجوز تغييره إلى قال النبي، أو عن النبي، وكذا لو ورد قال النبي، أو عن النبي هل يجوز يجوز تغييره إلى قال رسول الله، أو عن رسول؟ اختلف علماء الحديث في ذلك فقال ابن الصلاح (¬1) : والظاهر أنه لا يجوز وإن جازت الرواية بالمعنى، لاختلاف معنى النبي والرسول. وقال النووي (¬2) : الصواب الجواز لأنه لا يختلف به هنا معنى، وبه قال أحمد بن حنبل، وقد نبه العراقي (¬3) في ألفيته على ما ذكرنا فقال (¬4) : ¬

(¬1) ابن لصلاح هو: الإمام الحافظ شيخ الإسلام تقي الدين، أبو عمرو عثمان ابن الشيخ صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي، الشهرزوري، الشافعي، صاحب كتاب علوم الحديث، وشرح مسلم وغير ذلك. وسمع من ابن سكينة وابن طبرزد والمؤيد الطوسي وخلائق، ودرس بالصلاحية ببيت المقدس، ثم قدم دمشق وولي دار الحديث الأشرفية، وتخرج به الناس، وكان من أعلام الدين، أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه، مشاركاً في عدة فنون متبحراً في الأصول والفروع، يضرب به المثل، سلفياً زاهداً حسن الاعتقاد، وافر الجلالة، مات في خامس عشر من ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة. انظر: طبقات الحفاظ (1/503، ترجمة: 1107) ، وطبقات المحدثين (1/202، ترجمة: 2136) ، وشذرات الذهب (3/221) ، ووفيات الأعيان (3/243، ترجمة: 411) . (¬2) النووي هو: أبو زكريا، محيى الدين، يحيى بن شرف الدين بن مري بن حسن الحزامي الحوزاني الشافعي، علامة الفقه والحديث، مولده ووفاته في نوا من قى حوران بسوريا، له مصنفات كثيرة منها: تهذيب الأسماء واللغات، وشرح مسلم، ورياض الصالحين، والأذكار، توفي سنة (676هـ) . انظر: طبقات الشافعية (5/165) ، والنجوم الزاهرة (7/278) ، ومفتاح السعادة (1/398) . (¬3) العراقي هو: الحافظ الإمام الكبير الشهير أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي ولد بمنشأة المهراني بين مصر والقاهرة في جمادى الأولي سنة (725هـ) ، اشتغل بالعلوم وأحب الحديث، فأكثر من السماع وتقدم في فن الحديث بحيث كان شيوخ عصره يبالغون في الثناء عليه بالمعرفة كالسبكي والعلائي والعز بن جماعة والعماد بن كثير وغيرهم، وله تصانيف رائعة منها: ألفيتة في علوم الحديث، ونظم الاقتراح، والمغني عن حمل الأسفار في تخريج أحاديث كتاب إحياء علوم الدين للغزالى، وتفسير غريب القرآن، وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شهر شعبان سنة (806هـ) . انظر: شذرات الذهب (4/55) ، وطبقات الحفاظ (1/543) ، وطبقات المفسرين (1/309) . (¬4) لقد شرح الحافظ السخاوي في فتح المغيث (2/299) هذين البيتين فقال: «إن رسول» وقع في الرواية بأن قيل: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نبي» أي: بلفظ النبي «أبدلا» وقت التحمل والأداء والكتابة، «فالظاهر» كما قال ابن الصلاح «المنع» منه والتقيد بما في الرواية «كعكس فغلا» بأن يبدل الرواية فيه بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن جازت الرواية بالمعنى لأن المعنى هنا مختلف يعني بناء على القول بعدم تساوي مفهومهما، وقد كان الإمام أحمد بن حنبل فيما رواه عنه ابنه عبد الله إذا سمع من لفظ المحدث رسول الله ضرب من كتابه نبي الله، وكتب ذلك بدله، لكن قال الخطيب: إن ذلك ليس على وجه اللزوم بل على الاستحباب في اتباع المحدث في لفظه. «وقد رجى جوازه ابن حنبل» نفسه حيث قال: إذ سأله ابن صالح إنه يكون في الحديث رسول الله، فيجعل الإنسان بدله النبي؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، وكذا جوزه حماد بن سلمة، بل قال لعفان وبهز لما جعلا يغيران «النبي» يعني الواقع في الكتاب «برسول الله» يعني الواقع من المحدث: أما أنتما فلا تفقهان أبداً. «والإمام النووي» أيضاً «صوبه» أي: الجواز، «وهو جلي» واضح، بل قال بعض المتأخرين: إنه لا ينبغي أن يختلف فيه، وقول ابن الصلاح: إن المعنى فيهما مختلف لا يمنعه، فإن المقصود إسناد الحديث إلى سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حاصل بكل واحد من الصفتين، وليس الباب باب تعبد في اللفظ، لا سيما إذا قلنا إن الرسالة والنبوة بمعنى واحد، وعن البدر بن جماعة أنه لو قيل بالجواز في إبدال النبي بالرسول خاصة لما بعد، لأن في الرسول معنى زائد على النبي وهو الرسالة، إذ كل رسول نبي ولا عكس، وبيانه أن النبوة من النبأ وهو الخبر، فالنبي في العرف هو المنبأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفاً فإن أمر تبليغه إلى غيره فهو رسول، وإلا فهو نبي غير رسول، وحينئذ فالنبي والرسول اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترفا في الرسالة، فإذا قلت: فلان رسول تضمن أنه نبي رسول، وإذا قلت: فلان نبي لم يستلزم أنه رسول. ولكن قد نازع ابن الجزري في قولهم: كل رسول نبي حيث قال: هو كلام يطلقه من لا تحقيق عنده، فإن جبريل - عليه السلام - وغيره من الملائكة المكرمين بالرسالة رسل لا أنبياء، قلت: ولذا قيد الفرق بين الرسول والنبي بالرسول البشري، وحديث البراء في تعليم ما يقال عند النوم، إذ رد النبي - صلى الله عليه وسلم - إبداله لفظ النبي بالرسول فقال: «لا ونبيك الذي أرسلت» تمنع القول بجواز تغيير النبي خاصة بل الاستدلال به لمجرد المنع ممنوع بأن ألفاظ الأذكار توقيفية فلا يدخلها القياس، بل يجب المحافظة على اللفظ الذي جاءت به الرواية، إذ ربما كان فيه خاصية وسر لا يحصل بغيره، أو لعله أراد أن يجمع بين الوصفين في موضع واحد، ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - نبي مرسل فهو إذن أكمل فائدة، وذلك يفوت بقوله: «وبرسولك الذي أرسلت» وأيضاً فالبلاغة مقتضية لذلك لعدم تكرير اللفظ لوصف واحد فيه، زاد بعضهم: أو لاختلاف المعنى لأن برسولك يدخل جبريل وغيره من الملائكة الذين ليسوا بأنبياء.

إن رسول نبي أبدلا ... فالظاهر المنع كعكس فعلا قد رجي جوازه ابن حنبل ... والنووي صوبه وهو جلي ونظير هذه مسألة ذكرها الحليمي وهي: ما إذا قال الكافر: آمنت بمحمد النبي فإنه يصح إيمانه، بخلاف ما إذا قال: بمحمد الرسول، قال: لأن النبي لا يكون إلا لله، والرسول قد يكون لغيره، وهذا موافق لما قاله ابن الصلاح. قال ابن الملقن: وهو غريب. وقوله «صلى الله عليه وسلم» فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن يكتب اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي ويسلم عليه عقب كتابته، كما يستحب أن يصلي ويسلم عقب ذكره. فائدة: علامة كون الإنسان من أهل السنة كثرة صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر العلماء: أن الملائكة تصلي عليه على الدوام، وأن مهر آدم على حوآء كان الصلاة عليه، فإن الله لما خلق حوآء أراد آدم القرب منها، فطلبت منه المهر فقال: يا رب ماذا أعطيها؟ قال: يا آدم صلي على صفيّ محمد بن عبد الله عشرين مرة، ففعل ذلك. وإن بكاء الصبي مدة صلاة عليه، فقد ورد في خبر: «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم سنة، فإن أربعة أشهر منها يشهد أن لا إله إلا الله، وأربعة أشهر يصلي عليّ، وأربعة أشهر يدعو للوالدين» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (11/337، ترجمة: 6171) علي بن إبراهيم بن الهيثم بن المهلب أبو الحسن البلدي) وأخرج الحديث من طريقه عن نافع رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: هذا الحديث منكر جداً، ورجال إسناده كلهم مشهورون بالثقة سوى أبي الحسن البلدي. وترجم لأبي الحسن الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (4/191، ترجمة: 506) وقال نقلاً عن الذهبي: اتهمه الخطيب، ونقل الحافظ رواية الخطيب بإسنادها ثم نقل إنكار الخطيب للحديث ثم قال: قلت هو موضوع بلا ريب. وذكره في الموضوعات الحافظ السيوطي في اللالئ المصنوعة في الأأحاديث الموضوعة (1/99) .

وفي حديث آخر: «بكاء الصبي في المهد أربعة أشهر توحيد، وأربعة أشهر صلاة على نبيكم، وأربعة أشهر استغفار لأبويه» (¬1) . وفي حديث آخر: «فإذا استسقى نبع الله له ضرع أمه عيناً من الجنة فيشرب فيجزيه عن الطعام والشراب» (¬2) . وذكروا: أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - تزكية للأعمال ورفع للدرجات، ومغفرة للذنوب، وكفاية الدنيا والآخرة، ومحق للخطايا، ونجاة من الأهوال، ويحصل بها رضا الله ورحمته، وأمان من سخطه، ووجوب الشفاعة، والدخول تحت ظل العرش، ورجحان الميزان، وورد الحوض، والأمان من العطش، والعتق من النار، والجواز على الصراط، ورؤية المقعد المقرب من الجنة قبل الموت، وكثرة الأزواج في الجنة، وتقوم مقام الصدقة للمعسر، وينمو المال ببركتها، تقضى بها مائة حاجة من الحوائج بل وأكثر، وهي عبادة وأحب الأعمال إلى الله، وتزين المجالس، وتنفي الفقر وضيق العيش، وتنفع الإنسان وولده وولد ولده، وتقرب إلى الله وإلى رسوله، وتنصر على الأعداء، وتطهر القلوب من النفاق، وتوجب محبة الناس ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وتمنع صاحبها من الغيبة، وتنفع عند الهم والكرب والشدائد والفقر والغرق والطاعون، وهي من أبرك الأعمال وأفضلها، وأكثرها نفعاً في الدنيا. وتستحب في مواضع سنذكرها في محلها منها: كلما ذكر، بل ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة عليه تجب كلما ذكر، واختار هذا القول الحليمي (¬3) من الشافعية والطحاوي (¬4) من الحنفية، واللخمي (¬5) من المالكية وابن بطه (¬6) من الحنابلة، والصحيح عند إمامنا الشافعي (¬7) : أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تجب إلا في الصلاة في التشهد الأخير، وهي فيه ركن من أركان الصلاة، وأما خارج الصلاة فإنها ¬

(¬1) ذكره في الموضوعات بمعناه الحافظ السيوطي في اللالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (1/99) . (¬2) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وعلامات الوضع تلوح عليه كسابقيه. (¬3) هو: العلامة البارع رئيس أهل الحديث بما وراء النهر، القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، من أصحاب الوجوه، كان من أذكياء زمانه، ومن فرسان النظر له يد طولى في العلم والأدب، أخذ عن القفال وغيره، وله تصانيف مفيدة، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، ومات في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعمائة. انظر: طبقات الحفاظ (1/408، ترجمة: 923) . (¬4) هو: أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي، أبو جعفر: فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، ولد ونشأ في «طحا» من صعيد مصر سنة: 239هـ، وتفقه على مذهب الشافعي، ثم تحول حنفياً، ورحل إلى الشام سنة 268 هـ‍فاتصل بأحمد بن طولون، فكان من خاصته، وهو ابن أخت المزني، من تصانيفه: شرح معاني الآثار، في الحديث، وريالة تحت عنوان: بيان السنة، وكتاب: الشفعة، والمحاضر والسجلات، ومشكل الآثار طبع في أربعة أجزاء، في الحديث وأحكام القرآن، والمختصر في الفقه، وشرحه كثيرون، والاختلاف بين الفقهاء الجزء الثاني منه في دار الكتب وهو كبير لم يتمه، وتاريخ كبير منه مجلدات مخطوطة في اسطنبول باسم: مغاني الأخيار في أسماء الرجال ومعاني الآثار، ومناقب أبي حنيفة، وكانت وفاته بالقاهرة سنة: 321هـ. (¬5) هو: عبد المعطي بن محمود بن عبد المعطي ابن عبد الخالق، أبو محمد، ابن أبي الثناء اللخمي الاسكندري: فقيه مالكي، صوفي ضرير، ولد وعاش بالأسكندرية سنة: 563هـ، وكان له فيها رباط مشهور به. توفي بمكة ودفن بالمعلى سنة: 638هـ، له كتب أملاها، منها: شرح الدلالة على فوائد الرسالة للقشيري، وشرح منازل السائرين للهروي، وشرح الرعاية للمحاسبي. (¬6) هو: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله العكبري، المعروف بابن بطة: عالم بالحديث، فقيه من كبار الحنابلة، من أهل عكبرا ولد بها ابن بطة سنة: 304هـ‍، وتوفي أيضاً بها سنة: 387هـ، رحل إلى مكة والثغور والبصرة وغيرها في طلب الحديث، ثم لزم بيته أربعين سنة، فصنف كتبه وهي تزيد على مائة، منها: الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، ويسمى أيضاً: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، وله: الإنكار على من قضى بكتب الصحف الأولى، والتفرد والعزلة. (¬7) هو: أبو عبد الله، محمد بن إدريس بن العباس بن العباس بن شافع الهاشمي، أحد أئمة أهل السنة الأربعة، وإليه ينسب المذهب الشافعي، ولد في غزة بفلسطين سنة (150هـ) ، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين، وهو صاحب المذهبين القديم والجديد، من آثاره: كتاب الأم، وإختلاف الحديث، وتوفي بمصر سنة (204هـ) . انظر: الأعلام (6/26) ، وتذكرة الحفاظ (1/329) .

تستحب. واختلف القائلون بالوجوب كلما ذكر، هل هو على العين فيجب على كل فرد، أو على الكفاية فإذا صلى واحد من الحاضرين سقط عن الباقين، والأكثر قالوا: على العين. قال ابن حجر: وتمسك القائلون بالوجوب كلما ذكر بأحاديث تدل على إبعاد تاركها وشقاوته وبخله وجفاه وغير ذلك، وهي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلي عليً، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، وغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة» (¬1) . وروي البخاري في الأدب المفرد، والطبري (¬2) في تهذيبه، والدارقطني في الأفراد عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رقي المنبر، فلما رقي الدرجة الأولي قال: «آمين» ، ثم رقي الثانية فقال: «آمين» ، ثم رقي الثالثة فقال: «آمين» فقالوا: يا رسول الله سمعناك تقول: «آمين» ثلاث مرات قال: «لما رقيت الدرجة الأولي جاءني جبريل فقال: شقى عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: شقى عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، فقلت: آمين، ثم قال: شقى عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين» قال السخاوي: هو حديث حسن (¬3) . وذكر في كتاب شرف المصطفى لأبي سعيد الواعظ (¬4) : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أدلكم على خير الناس، وشر الناس، وأبخل الناس، وأكسل الناس، وألئم الناس، وأسرق الناس» قيل: يا رسول بلي، قال: «خير الناس من انتفع به الناس، وشر الناس من يسعي بأخيه المسلم، وأكسل الناس من أرق في ليلة فلم يذكر الله بلسانه وجوارحه، وألئم الناس من إذا ذكرت عنده فلم يصلي علي، وأبخل الناس من بخل ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (5/550، رقم 3545) عن أبي هريرة، وقال الترمذي عقبه: وفي الباب عن جابر وأنس، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وربعي بن إبراهيم هو أخو إسماعيل بن إبراهيم وهو ثقة، وهو ابن علية، ويروي عن بعض أهل العلم قال: «إذا صلى الرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة في المجلس أجزأ عنه ما كان في ذلك المجلس» . والحديث عند أحمد في مسنده (2/254، رقم 7444) ، وابن حبان في صحيحه (3/189، رقم 908) . (¬2) هو: محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر: المؤرخ المفسر الإمام. ولد في آمل بطبرستان 224هـ، واستوطن بغداد وتوفي بها سنة: 310هـ‍، وكان أسمر، أعين، نحيف الجسم، فصيحاً، قد عليه القضاء فامتنع، والمظالم فأبى، له: أخبار الرسل والملوك، وجامع البيان في تفسير القرآن، ويعرف بتفسير الطبري في 30 جزءاً، واختلاف الفقهاء، والمسترشد في علوم الدين، وجزء في الاعتقاد والقراءات وغير ذلك، وهو من ثقات المؤرخين، قال ابن الأثير: أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ، وفي تفسيره ما يدل على علم غزير وتحقيق، وكان مجتهدا في أحكام الدين لا يقلد أحداً، بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه. (¬3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 224) عن جابر. (¬4) هو: مشهور بالخراز واسمه أحمد بن عيسى الخراز، أبو سعيد، من مشايخ الصوفية، بغدادي، نسبته إلى خرز الجلود، قيل: إنه أول من تكلم في علم الفناء والبقاء. له تصانيف في علوم القوم منها: كتاب الصدق، أو الطريق إلى الله. ومن كلامه: إذا بكت أعين الخائفين، فقد كاتبوا الله بدموعهم. مات سنة 277هـ، وقيل: 286هـ.

بالتسليم على الناس، وأسرق الناس من سرق صلاته» قيل: يا رسول الله وكيف يسرق صلاته؟ فقال: «لا يتم ركوعها ولا سجودها» (¬1) . وفي شرف المصطفى أيضاً: أن عائشة (¬2) رضي الله عنها كانت تخيط شيئاً في وقت السحر، فسقطت الإبرة من يدها، وطفئ السراج، فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأضاء البيت بضوءه - صلى الله عليه وسلم - ووجدت الإيرة فقالت: ما أضوء وجهك يا رسول الله، قال: «ويل لمن لا يراني يوم القيامة» قالت: ومن لا يراك يوم القيامة؟ قال: «البخيل» قالت: ومن البخيل؟ قال: «الذي لا يصلي علي إذا سمع باسمي» (¬3) . وفي حلية الأولياء لأبي نعيم (¬4) : أن رجلاً مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ظبية قد اصطادها، فأنطق الله الظبية -سبحانه الذي أنطق كل شيء- فقالت: يا رسول الله: إن لي أولاداً، وأنا أرضعهم وإنهم جياع، فأمر هذا أن يخليني حتى أذهب فأرضع أولادي وأعود، قال: «فإن لم تعودي» قالت: إن لم أعد فيلعنني الله كمن تذكر بين يديهم ولم يصلوا عليك، أو كنت كمن صلى ولم يدع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أطلقها وأنا ضامنها» فذهبت الظبية، ثم عادت فنزل جبريل فقال: يا محمد الله يقرئك السلام ويقول لك: وعزتي وجلالي أنا أرحم بأمتك من هذه الظبية بأولادها، وأنا أردهم إليك كما رجعت الظبية إليك» (¬5) . ¬

(¬1) لم نقف عليه بهذا اللفظ. (¬2) ستأتي ترجمتها في المجلس السادس من كلام المصنف. (¬3) لم نقف عليه بهذا اللفظ. (¬4) أبو نعيم هو: أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، أبو نعيم: حافظ، مؤرخ، من الثقات في الحفظ والرواية، ولد سنة: 336هـ‍ في أصبهان، وكانت وفاته بها سنة430هـ‍، من تصانيفه: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ومعرفة الصحابة، وطبقات المحدثين والرواة، ودلائل النبوة، وذكر أخبار أصبهان، وكتاب الشعراء. (¬5) لم نجده في الحلية، ووقع في دلائل النبوة لأبي نعيم (ص 320) قصة كلام الظبية وليس فيه أن جبريل نزل بعد عود الظبية وكلام رب العزة على نحو ما في هذه الرواية، رواه أبو نعيم فيه عن أبي كثير بن أرقم. ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (8/295) من حديث أم سلمة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحراء فإذا مناد يناديه يا رسول الله فالتفت فلم ير أحداً، ثم التفت فإذا ظبية موثوقة فقالت: أدن مني يا رسول الله فدنا منها فقال: «حاجتك؟» فقالت: إن لي خشفين في هذا الجبل فخلني حتى أذهب فأرضعهما ثم أرجع إليك، قال: «وتفعلين؟» قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل، فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها، ثم رجعت فأوثقها، وانتبه الأعرابي، فقال: ألك حاجة يا رسول الله؟ قال: «نعم تطلق هذه» فأطلقها فخرجت تعدو وهي تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه أغلب بن تميم وهو ضعيف. وذكر الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى (2/101) القصة بهذا اللفظ عن أم سلمة وعزاها إلى الطبراني في الكبير وأبي نعيم. أما الرواية التي رواها أبو نعيم في الدلائل عن أبي كثير بن زيد بن أرقم فهي أشد وأنكر ضعفاً من رواية أم سلمة لذا لم نأت بلفظها، ففي سنده: يعلى بن إبراهيم الغزالي، ترجم له الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (6/311) وقال: لا أعرفه له خبر باطل عن شيخ واه، فساق الحديث بإسناد أبي نعيم إلى أبي كثير بن زيد بن أرقم ثم قال عقبه: هذا موضوع.

وعن جابر (¬1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حسب العبد من البخل إذا ذكرت عنده أن لا يصلي علي» رواه الديلمي (¬2) من طريق الحاكم (¬3) في غير المستدرك (¬4) . وعن قتادة (¬5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يصلي عليّ» (¬6) . وفي حديث أنس بن مالك (¬7) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من ذكرت بين يديه ولم يصل عليّ صلاة تامة فليس مني ولا أنا منه» ثم قال: «اللهم صل من وصلني، واقطع من لم يصلني» (¬8) . قال السخاوي: وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يصل على فلا دين له» أخرجه محمد بن نصر المروزي (¬9) وفي سنده من لم يسم (¬10) . ¬

(¬1) هو: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري، السلمي، يكنى: أبا عبد الله، وأبا عبد الرحمن، وأبا محمد أقوال أحد المكثرين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وله ولأبيه صحبة، وكان مع من شهد العقبة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد والغزوات كلها عدا بدر، يقال: أنه مات سنة ثلاث وسبعين، ويقال: إنه عاش أربعا وتسعين سنة. انظر: الإصابة (1/434) ، وتهذيب التهذيب (2/40-42) ، وتهذيب الكمال (4/443) ، وتذكرة الحفاظ (1/43) . (¬2) هو: شهردار بن شيروية بن شهردار الديلمي الهمذاني، أبو منصور: من رجال الحديث، من أهل همذان، يتصل نسبه بالضحاك بن فيروز الديلمي الصحابي، مولده سنة: 483هـ، له: مسند الفردوس اختصر به كتاب فردوس الأخيار لوالده، وكانت وفاته سنة: 558هـ. (¬3) محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم الضبي، الطهماني النيسابوري، الشهير بالحاكم، ويعرف بابن البيع، أبو عبد الله، مولده سنة: 321هـ، بنيسابور، من أكابر حفاظ الحديث والمصنفين فيه، رحل إلى العراق سنة 341 هـ‍، وحج، وجال في بلاد خراسان وما وراء النهر، وأخذ عن نحو ألفي شيخ، وولي قضاء نيسابور سنة 359 ثم قلد قضاء جرجان فامتنع، وكان ينفذ في الرسائل إلى ملوك بني بويه، فيحسن السفارة بينهم وبين السامانيين، وهو من أعلم الناس بصحيح الحديث وتمييزه عن سقيمه، صنف كتباً كثيرة جداً، قال ابن عساكر: وقع من تصانيفه المسموعة في أيدي الناس ما يبلغ ألفاً وخمسمائة جزء. منها: تاريخ نيسابور، قال فيه السبكي: وهو عندي من أعود التواريخ على الفقهاء بفائدة، ومن نظره عرف تفنن الرجل في العلوم جميعها، والمستدرك على الصحيحين، والاكليل، والمدخل، في أصول الحديث، وتراجم الشيوخ، والصحيح، في الحديث، وفضائل الشافعي، وتسمية من أخرجهم البخاري ومسلم، ومعرفة أصول الحديث وعلومه وكتبه المطبوع باسم: معرفة علوم الحديث. وكانت وفاته بنيسابور سنة: 405هـ‍. (¬4) لم نجده في مسند الفردوس من حديث جابر وفيه عن غيره بلفظ متقارب. (¬5) هو: قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر، الأمير المجاهد، أبو عمر الأنصاري الظفري البدري، من نجباء الصحابة وهو أخو أبي سعيد الخدري لأمه، وهو الذي وقعت عينه على خده يوم أحد فأتى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فغمزها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفه فردها، فكانت أصح عينيه، له أحاديث، روى عنه أبو سعيد وابنه عمر ومحمود بن لبيد وغيرهم، وكان على مقدمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما سار إلى الشام وكان من الرماة المعدودين، عاش خمساً وستين سنة، توفي في سنة ثلاث وعشرين بالمدينة ونزل عمر يومئذ في قبره. انظر: سير أعلام النبلاء (2/331، ترجمة: 66) ، وتقريب التهذيب (1/454، ترجمة: 5521) ، ومشاهير علماء الأمصار (1/27، ترجمة: 126) . (¬6) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2/217، رقم 3121) عن قتادة مرسلاً. قال المناوي في فيض القدير (6/7) : ورواه عنه أيضا النميري وعبد الرزاق في جامعه، قال القسطلاني: ورواته ثقات. (¬7) هو: أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه -، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدمه عشر سنين، مات سنة (92هـ) وقيل: (93هـ) وقد جاوز المائة - رضي الله عنه -. انظر: تقريب التهذيب (ص 115) . (¬8) رواه بهذا اللفظ دون الزيادة التي في آخره الديلمي في مسند الفردوس (3/634، رقم 5986) . والمشهور عن أنس في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مارواه النسائي في السنن الكبرى (6/21، رقم 9889) بلفظ: «من ذكرت عنده فليصل علي، ومن صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً» . وأخرجه أيضا النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 165، رقم 61) ، والطبراني في المعجم الأوسط (3/153، رقم 2767) ، وأبو يعلى في المسند (7/75، رقم 4002) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/347) . فائدة: ذكر الحافظ ابن حجر طرفاً من أحاديث فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتح الباري (11/168) ثم قال: وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة وواهية، وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة، وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك. (¬9) هو: محمد بن نصر المروزي، الفقيه أبو عبد الله الحافظ، روى عن يحيى بن يحيى النيسابوري، وعبدان بن عثمان، وأبي كامل الجحدري، وغيرهم. وروى عنه: ابنه إسماعيل، ومحمد بن إسحاق الرشادي، وعبد الله بن محمد بن علي البلخي، وخلق كثيرون. قال محمد بن عثمان بن سلم سمعته يقول: ولدت سنة اثنتين ومائتين، وكان أبي مروزيا وولدت أنا ببغداد، ونشأت بنيسابور، وقال الإدريسي: سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن إسحاق الدبوسي، حدثنا أبي قال: رأيت محمد بن نصر بسمرقند وكان بحراً في الحديث، قال: وسمعت الفقيه أبا بكر الشاشي يقول: لو لم يصنف محمد بن نصر إلا كتاب القسامة لكان من أفقه الناس فكيف وقد صنف غيره، وقال عبد الله بن محمد بن مسلم: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: كان محمد بن نصر المروزي عندنا إماماً. قال الخطيب: صنف الكتب الكثيرة ورحل إلى الأمصار في طلب العلم وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام، واتفقوا على أنه مات سنة أربع وتسعين ومائتين. وقال ابن حبان: كان أحد الأئمة في الدنيا ممن جمع وصنف، وكان من أعلم أهل زمانه بالاختلاف وأكثرهم صيانة في العلم، وكان مولده سنة مائتين قبل وفاة الشافعي بأربع سنين. انظر: تهذيب التهذيب (9/432، ترجمة: 800) ، وتاريخ بغداد (3/315، ترجمة: 1416) ، وطبقات الفقهاء (1/192) ، وطبقات الشافعية (2/84، ترجمة: 29) . (¬10) هذا الحديث فيه غلط في متنه فكلمة «عليَّ» مدرجة فيه، والصواب أنها ليست فيه، فالمروزي رواه في تعظيم قدر الصلاة (2/899، رقم 936) فقال: حدثنا عبد الله بن المسندي قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله قال: «من لم يصل فلا دين له» وقال: حدثنا الحسين بن منصور قال: حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن عاصم عن زر قال كنا عند عبد الله - رضي الله عنه - جلوساً إذ جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله أي درجات الإسلام أفضل فقال: «الصلاة من لم يصل فلا دين له» .

وعن عائشة مرفوعاً ولم أقف على سنده قال: «لا يرى وجهي ثلاثة أنفس: العاق لوالديه، وتارك سنتي، ومن لم يصل عليّ إذا ذكرت بين يديه» (¬1) . ففي الأحاديث المذكورة تحذير من ترك الصلاة عليه ما يذكر، وإخبار بحصول الشقاء، وأن من ترك الصلاة عليه أبخل الناس، ولا دين له، ولا يرى وجهه الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأنشد بعضهم فقال: من لم يصل عليه إن ذكر اسمه ... فهو البخيل وزده وصف جبان وإذا الفتى صلى عليه مرة ... من سائر الأقطار والبلدان صلى عليه الله عشراًً فليزد ... عبد ولا يجنح إلى نقصاني جججج والشافعي والجمهور أجابوا عن هذه الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه، وأن الأمر فيها للندب لا للوجوب، وقالوا: إن الصلاة عليه لكلٍ تستحب في مواضع منها: كلما ذكر، ومنها: عند كتابة اسمه كما تقدم، فقد ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى عليّ في كتابه لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب» (¬2) . قال ابن العربي (¬3) بعده في رواية أخرى: «لم تزل الملائكة تكتب له الحسنات ما دام اسمي في ذلك الكتاب» (¬4) . ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (2/232، رقم 1835) ، والرافعي في التدوين (4/107) عن أبي هريرة. قال العجلوني في كشف الخفاء (2/338) : رواه الطبراني في الأوسط وابن أبي شيبة والمستغفري في الدعوات بسند ضعيف. قال السيوطي في تدريب الراوي (2/75) : وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً فهو مما يحسن إيراده في هذا المعنى، ولا يلتفت إلى ذكر ابن الجوزي له في الموضوعات، فإن له طرقاً تخرجه عن الوضع وتقتضي أن له أصلاً في الجملة، فأخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة، وأبو الشيخ الأصبهاني والديلمي من طريق أخرى عنه، وابن عدي من حديث أبي بكر الصديق، والأصبهاني في ترغيبه من حديث ابن عباس، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان من حديث عائشة. (¬3) ابن العربي هو أبو بكر، أبو بكر بن بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، من حفاظ الحديث، ومن علماء المالكية، ولد بإشبيلية، ورحل إلى المشرق، وبرع رحمه الله في الفقه، والحديث، والأصول، وعلوم القرآن، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين من تصانيفه: شرح على الترمذي، وأحكام القرآن. توفي سنة (543هـ) . انظر: شذرات الذهب (4/141) ، وتذكرة الحفاظ (4/86) . (¬4) لم نقف على هذه الرواية.

وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى في كتاب كتب الله تعالى له على مر الأيام فضل الصلاة» (¬1) . وحكى ابن الملقن أن بعض أصحاب الحديث رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقيل له: بماذا؟ قال: بصلاتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن أبي بكر الصديق (¬2) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كتب عني علماً فكتب معه صلاة عليّ، لم يزل في أجر ما قريء ذلك الكتاب» أخرجه الدارقطني (¬3) وغيره (¬4) . وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم القيامة يجيئ أصحاب الحديث ومعهم المحابر فيقول الله لهم: أنتم أصحاب الحديث طال ما كنتم تكتبون الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - انطلقوا إلى الجنة» أخرجه الطبراني عن الديري عن عبد الزراق عن معمر بن راشد عن الزهري (¬5) عن أنس (¬6) . وعن سفيان ابن عيينة (¬7) قال حدثنا خلف صاحب الخلقان قال: كان صديق يطلب معي الحديث، فمات فرأيته في المنام، وعليه ثياب خضر جديده يجول فيها فقلت له: ألست كنت تطلب معي الحديث؟ فما هذا الذي أري؟ فقال: كنت أكتب معكم الحديث فلا يمر حديث فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كتبت في أسفله - صلى الله عليه وسلم - فإني بهذا الذي ترى. وإذا كتب الإنسان اسم النبي ينبغي أن يكتب معه - صلى الله عليه وسلم -، ويجمع بين الصلاة والسلام، ولا يقتصر على الصلاة فقط، بأن يكتب صلي الله عليه فقط، ولا يكتب وسلم فقط. حكي ابن عساكر (¬8) عن من حدثه عن أبي العباس بن عبد الدايم قال -وكان كثير النقل لكتب العلم على اختلاف فنونه- أنه حدثه في لفظه قال: كنت إذا كتبت في كتب الحديث وغيرها النبي أكتب لفظ الصلاة دون التسليم، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) هو: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أفضل الأمة وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثانيه في الغار، وصديقه الأشفق، ووزيره الأحزم، عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبى قحافة: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو قريش بن مالك بن النضر. وأم أبى بكر: أم الخير بنت صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. استخلف في اليوم الذي مات فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خطبهم اليوم الثاني من بيعته، وسموه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستقام له الأمر في السر والإعلان، فمضى أبو بكر - رضي الله عنه - على منهاج نبيه، باذلا نفسه وماله في إظهار دين الله والذب عن حرماته، والقيام بواجباته تجاه الدين إلى أن حلت المنية به ليلة الإثنين لسبع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً، وله يوم مات اثنتان وستون سنة ودفن بجنب رسول الله ليلاً. انظر: تذكرة الحفاظ (1/2، ترجمة: 1) ، والثقات (2/151) ، ومعرفة الثقات (2/387، ترجمة: 2092) . (¬3) هو: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن الدارقطني الشافعي، ولد في سنة: 306هـ‍، إمام عصره في الحديث، وأول من صنف القراءات وعقد لها أبواباً، ولد بدار القطن من أحياء بغداد، ورحل إلى مصر، فساعد ابن حنزابة وزير كافور الأخشيدي على تأليف مسنده، وعاد إلى بغداد فتوفي بها سنة: 385هـ، من تصانيفه: كتاب السنن، والعلل الواردة في الأحاديث النبوية، والمجتبى من السنن المأثورة، والمؤتلف والمختلف، والضعفاء، وأخبار عمرو بن عبيد. (¬4) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/270، رقم 564) من طريق أبي داود النخعي عن أيوب بن موسى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أبيه عن جده به. وأخرجه ابن عدي في الكامل في ترجمة أبو داود النخعي فأخرج الحديث من طريقه (3/249) وقال في آخر ترجمته: اجتمعوا على أنه يضع الحديث. (¬5) ستأتي ترجمته في المجلس الثامن من كلام المصنف. (¬6) أخرجه من هذا الطريق أيضاً: السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (ص 152) إلا أن فيه قتادة بدل الزهري. (¬7) ستأتي ترجمته في أول المجلس الثالث من هذا الكتاب. (¬8) ابن عساكر هو: ابن الحسن بن هبة الله، أبو القاسم، ثقة الدين ابن عساكر بالدمشقي: المؤرخ الحافظ الرحالة، كان محدث الديار الشامية، ورفيق السمعاني في رحلاته، مولده سنة: 499هـ‍، ووفاته: سنة 571هـ‍ بدمشق. له: تاريخ دمشق الكبير، يعرف بتاريخ ابن عساكر، وهو تاريخ رائع ومن أوسع التواريخ التي صنفت كان مخطوطا ويسر الله من طبعه، واختصره البعض، ولابن عساكر كتب أخرى كثيرة، منها: الإشراف على معرفة الأطراف، في الحديث، وتبيين كذب المفتري في ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري، وكشف المغطى في فضل الموطا، وتبيين الامتنان في الأمر بالإختتان، وأربعون حديثاً من أربعين شيخاً من أربعين مدينة، وتاريخ المزة، ومعجم الصحابة، ومعجم النسوان، وتهذيب الملتمس من عوالي مالك بن أنس، ومعجم أسماء القرى والأمصار، ومعجم الشيوخ والنبلاء يقع في 46 ورقة في شيوخ أصحاب الكتب الستة في الظاهرية.

فقال لي: تحرم نفسك أربعين حسنة قلت: وكيف يا رسول الله؟ قال: إذا جاء ذكري تكتب صلى الله عليه، ولا تكتب وسلم، وهي أربعة أحرف كل حرف بعشر حسنات، قال: وعدهن - صلى الله عليه وسلم - بيده. وكما قال ابن الصلاح ينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك مرة حرم حظاً عظيماً. ويتجنب أن يكتب «صلعم» مكان - صلى الله عليه وسلم - كما يفعله الكسالى والجهلة وعوام الطلبة، يأخذون من كل كلمة حرفاً الصاد من صلي، واللام من الله، والعين من عليه، والميم من وسلم، ويجمعونها «صلعم» . ولنا عوده إلى الكلام على بقية المواضع والأوقات التي تستحب فيها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى ذكر مسائل نفيسة متعلقة بذلك في مجلس آخر. فائدة: من أكثر من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتابة وغيرها ولو كان مسرفاً ثم استغاث به في الشدة فإنه يغيثه - صلى الله عليه وسلم -. فقد حكى ابن الملقن عن أبي الليث عن سفيان الثوري (¬1) أنه قال: كنت أطوف فإذا أنا برجل لا يرفع قدماً ولا يضع قدماً إلا ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا هذا إنك قد تركت التسبيح والتهليل، وأقبلت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل عندك من هذا شيء؟ فقال: من أنت عافاك الله؟ فقلت: أنا سفيان الثوري، فقال: لولا إنك غريب في أهل زمانك لما أخبرتك عن حالي، ولا أطلعتك على سري، ثم قال: خرجت أنا ووالدي حاجين إلى بيت الله الحرام، حتى إذا كنت في بعض المنازل مرض والدي، فقمت لأعالجه، فبينما أنا ذات ليلة عند رأسه إذ مات، فأسود وجهه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والدي فاسود وجهه، فجذبت الإزار على وجهه، فغلبتني عيناي فنمت، فإذا أنا برجل لم أر أجمل منه وجهاً، ولا أنظف منه ثوباً، ولا أطيب منه ريحاً، يرفع قدماً ويضع أخرى، حتى دنا من والدي، فكشف الإزار عن وجهه، فمد يده الشريفة على وجهه، فعاد وجهه أبيض ثم ولي راجعاً، فتعلقت بثوبه، فقلت: يا عبد الله من أنت الذي مَنَّ الله على والدي بك في دار الغربة؟ فقال: أو ما تعرفني أنا محمد بن عبد الله، وصاحب القرآن، أما إن والدك كان مسرفاً على نفسه، ولكن كان يكثر الصلاة عليّ فلما نزل به ما نزل فاستغاث بي، وأنا غياث من يكثر الصلاة عليّ، فانتبهت فإذا وجهه أبيض. ¬

(¬1) هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، أحد الأئمة الأعلام، روى عن أبيه، وزياد بن علاقة، وحبيب بن أبي ثابت، وأيوب وجعفر الصادق وخلق، وعنه: ابن المبارك ويحيى القطان وخلق وآخرهم موتا من الثقات علي ابن الجعد. قال شعبة وغير واحد: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان، وقال ابن مهدي: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، وقال شعبة: إن سفيان ساد الناس بالعلم والورع. ولد سنة سبع وتسعين، ومات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة. انظر: طبقات الحفاظ (1/95، ترجمة: 188) ، والتاريخ الكبير (4/92، ترجمة: 2077) ، والجرح والتعديل (4/222، ترجمة: 972) ، وتهذيب التهذيب (4/99) .

قال السخاوي في القول البديع: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله سيارة من الملائكة، إذا سمعوا حلق الذكر قال بعضهم: اقعدوا فإذا دعا القوم أمنوا على دعائهم، فإذا صلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا معهم حتى يفرغوا، ثم يقول بعضهم لبعض: طوبى لهؤلاء يرجعون مغفور لهم» رواه أبو القاسم التميمي في ترغيبه (¬1) . وحكي أن أبا العباس أحمد بن منصور يوم مات رآه رجل من أهل شيراز، وهو واقف بجامعها في المحراب، وعليه حلة وعلى رأسه تاج كامل بالجواهر، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي وأكرمني وتوجني وأدخلني الجنة، فقال له: بماذا؟ قال: بكثرة صلاتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه النميري. وقول البخاري: «وقول الله تعالى» يجوز فيه الجر عطفاً على محل الجملة التي هي كيف كان بدء الوحي، والرفع عطفاً على لفظ البدء قاله الكرماني. قال البرماوي: وضعف بأن كلام الله لا يكيف، ثم قال: قلت: يصح على تقدير مضاف، أي: كيف نزول قول الله أو كيف فهم قول الله أو نحو ذلك. أو أن المراد بكلام الله تعالى المنزل المتلو لا مدلوله، وهو الصفة القديمة القائمة بذاته. وذكر البخاري هذه الآية الكريمة وهي قوله {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] لأن عادته أن يبتذل للترجمة بما وقع له من قرآن وسنة مسندة وغيرها، وأراد: أن الوحي سنة الله وأنبيائه. ومعنى الآية: إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى سائر الأنبياء وحي رسالة لا وحي إلهام فقط (¬2) .. ¬

(¬1) ذكره الهندي في كنز العمال (حديث رقم 1876) معزواً إلى ابن النجار عن أبي هريرة. (¬2) فسر ابن حجر هذه الآية وتحدث عن وجه مناسبتها للحديث فقال: قوله: «وقول الله» هو بالرفع على حذف الباب عطفاً على الجملة، لأنها في محل رفع، وكذا على تنوين باب، وبالجر عطفاً على كيف، وإثبات باب بغير تنوين، والتقدير باب معنى قول الله كذا، أو الاحتجاج بقول الله كذا، ولا يصح تقدير كيفية قول الله، لأن كلام الله لا يكيف قاله عياض، ويجوز رفع «وقول الله» على القطع وغيره. قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... الآية? قيل: قدم ذكر نوح فيها لأنه أول نبي أرسل، أو أول نبي عوقب قومه، فلا يرد كون آدم أول الأنبياء مطلقاً. ومناسبة الآية للترجمة واضح من جهة: أن صفة الوحي إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين. ومن جهة: أن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا، كما رواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن عن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة. انظر الفتح (1/46) .

وسبب نزول هذه الآية: أن الكفار أنكروا الوحي فنزلت رداً عليهم. وخص نوحاً بالذكر ولم يذكر آدم مع إنه أبو البشر، وأول الأنبياء، بل هو أول المسلمين، فإنه نبي مرسل وإن رسالته بمنزلة التربية والإرشاد للأولاد، لأن نوحاً أول نبي من أنبياء الشريعة، وأول نذير على الشرك، وأول من عُذب أمته لردهم دعوته، وأُهلك أهل الأرض بدعائه، وأول مشرع عند بعض العلماء، وأول نبي عوقب قومه، فخصصه بالذكر تهديداً لقوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإعلاماً لهم أنكم ستعاقبون إذا خالفتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله «نوح» ونوح لفظ أعجمي معرب، ومعناه بالسريانية: الساكن، وهو لقب لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم -. واسم «نوح» عبد الغفار، وقيل: يشكر. واختلف العلماء في سبب تلقيبه «بنوح» فقيل: لقب بذلك لكثرة نوحه على نفسه في طاعة ربه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن يزيد الرقاشي. وقيل: لأنه مر بكلب فناح لذلك فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه: أعبتني أم عبت الكلب، فناح لذلك ولقب بنوح. وقيل: لأنه رأى كلباً ميتاً فكرهه، فأوحي الله إليه: هذا خلقنا فاخلق أنت مثله، فصار يبكي وينوح، قاله البوني. وقيل: إنه رأى كلباً له أربعة أعين فاستقبحه فقال له الكلب: يا نوح أتعيب لصنعتي، فلو كان الأمر إلىّ لم أكن كلباً، وأما الصانع فهو الذي لم يلحقه عيب فصار يبكي وينوح قاله في العقائق. ففي هذا إشارة إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يستقبح شيئاً من مخلوقات الله تعالى فإن الله لم يخلق شيئاً من العالم سدىً. حكى الكمال الدميري (¬1) عن القزويني (¬2) أن رجلاً رأي خنفساء فقال: ماذا يريد الله تعالى من خلق هذه؟ أحسن شكلها أم أطيب ريحها؟ فابتلاه الله بقرحه عجز عنها ¬

(¬1) الدميري هو: بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز، أبو البقاء، تاج الدين السلمي الدميري القاهري، فقيه انتهت إليه رياسة المالكية في زمنه، مصري نسبته إلى ميرة قرية قرب دمياط ومولده بها سنة: 734هـ‍،. أفتى ودرس وناب في القضاء بمصر، واستقل به سنة 791 - 792، وتوجه مع القضاة إلى الشام لحرب الظاهر وعاد الظاهر، فعزله بعد أن طعن في صدره وشدقه، وكان محمود السيرة لين الجانب، كثير البر، انتفع به الطلبة ولاسيما بعد صرفه عن القضاء. له كتب منها: الشامل على نسق مختصر خليل في الفقه، وقام بشرحه بعد ذلك، والمناسك في مجلدة، وشرح في ثلاثة مجلدات، وشرح مختصر خليل في الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح ألفية ابن مالك، والدرة الثمينة منظومة في نحو 3000 بيت، وشرحها، اطلع السخاوي على بعض هذه الكتب بخطه، وكانت وفاته سنة: 805هـ‍. (¬2) هو: الإمام العلامة قاضي القضاة جلال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني ثم الدمشقي، ولد سنة 666هـ، حدث وأفتى ودرس وولي الخطابة ثم القضاء بدمشق، ثم انتقل إلى قضاء مصر ثم عاد إلى قضاء الشام صنف: تلخيص المفتاح في المعاني والبيان، وشرحه المسمى: الإيضاح، وصنف في الأصول كتاباً حسناً، توفى بدمشق سنة 739هـ.

الأطباء حتى ترك علاجها، فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب فقال: هاتوه ينظر في أمري، فقالوا: ما تصنع بطرقي، وقد عجز عنك حذاق الأطباء؟ فقال: لابد لي منه، فلما أحضروه ورأى القرحة استدعى بخنفساء فضحك الحاضرون، فتذكر الرجل العليل القول الذي سبق منه فقال: احضروا ما طلب فإن الرجل على بصيرة، فاحضروا له الخنفساء ورد رمادها على قرحته فبريء بإذن الله تعالى، فقال للحاضرين ما وقع منه قال: إن الله أراد أن يعرفني أن أحسن المخلوقات أعز الأدوية. وخص نوح -صلوات الله وسلامة- عليه بخصائص منها: أنه لم يسم أحد من الأنبياء باسمه. ومنها: أنه كان أول أنبياء الشريعة، وأول داع إلى الله وأول من عُذبت أمته لعدم الإيمان به، وأهلك الله الأرض بدعوته، كما قال تعالى حكاية عنه {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26، 27] . ومنها: السفينة التي ركبها في الطوفان، وسنذكر قصة السفينة وكم كان طولها وعرضها، ومن أي شيء كانت، وكم أقام فيها في الكلام على عاشوراء. ومنها: أنه كان أطول الأنبياء عمراً كما صرح به النووي في تهذيب الأسماء واللغات، ولهذا يقال له كبير الأنبياء، وشيخ المرسلين عاش ألفاً وخمسمائه سنة قاله الكسائي والثعالبي، أو مائه وخمسين سنة قاله كعب الأحبار، وقيل: غير ذلك، وباقي الأنبياء لم يبلغوا هذا العمر. أما آدم فقيل: إنه عاش تسعمائه وستين سنة، لكن قال النووي في تهذيبه: اشتهر في كتب التاريخ أنه عاش ألف سنة، ولازالت أعمار الأنبياء في القصر والتناقص، فمنهم من عاش ثلاثمائه، ومنهم من عاش دون ذلك، وأما نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه عاش ثلاثاً وستين سنة، وهكذا أعمار غالب أمته ما بين الستين إلى السبعين كما ورد في الترمذي: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» (¬1) ، وفي ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/566، رقم 2331) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في سننه (2/1415، رقم 4236) ، والحاكم في المستدرك (2/463، رقم 3598) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه (7/246، رقم 2980) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/85، رقم 5872) ، وأبو يعلى في مسنده (10/390، رقم 5990) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/412، رقم 1668) ، والأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان (4/304، رقم 687) عن أبي هريرة.

رواية: «وجعل أمته آخر الأمم وأقصر الأمم أعماراً حتى لا يطول مكثهم تحت التراب، ولا يجتمع عليهم الذنوب الكثيرة» (¬1) . قال: ويدل على ذلك ما روي عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - عن ربه - عز وجل - قال: «إني مننت عليك بسبعة أشياء: أولها: أني لم أخلق في السماوات والأرض أكرم علي منك، والثاني: أن مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي كلهم مشتاقون إليك، والثالث: لم أعط أمتك مالاً كثيراً حتى لا يطول عليهم الحساب، والرابع: لم أطول أعمارهم حتى لا تجتمع عليهم الذنوب الكثيرة، والخامس: لم أعطهم من القوة كما أعطيت من قبلهم حتى لا يدَّعوا الربوبية كما ادعت الأمم السابقة، والسادس: أخرجهم في آخر الزمان حتى لا يطول مكثهم تحت التراب، والسابع: لا أعاقب أمتك كما عاقبت بني إسرائيل إذا أصابهم دم الحيض في ثيابهم أمرت بقطعه، ولا يجوز الغسل منه، وإذا أذنبوا ذنباً وجدوه مكتوباً على أبوابهم» (¬2) . ومن خصائص نوح: أنه عاش هذا العمر الطويل فلم تنقص له قوة. ومنها: أنه لم يبالغ أحد من الرسل في الدعوة مثل ما بالغ، فكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وإعلاناً كما قال تعالى حكاية عنه {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 5، 6] ولم يلق نبي من الضرب والشتم وأنواع الأذى والجفاء ما لقي. ومنها: أنه جعل ثاني النبي - صلى الله عليه وسلم - في الميثاق وفي الوحي قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] ، وقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] . ومنها: أنه أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أن الله حفظه ومن معه في الفلك من الغرق، وأجراه فوق الماء وسماه عبداً ¬

(¬1) لم نقف على هذه الرواية. (¬2) لم نقف عليه.

شكوراً فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3] . وأكرمه بالسلام والبركة فقال: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] . قال بعض العلماء: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. ومنها: أنه من قال حين يمسي: سلام على نوح في العالمين، لا تضرة تلك الليلة حية ولا عقرب، والسر في ذلك: أنه لما صنع السفينة وأمر أن يصنع فيها من كل زوجين اثنين، حضرت الحية والعقرب وقالا: احملنا معك فقال: لا لأنكما سبب الضر للناس، فقالا: احملنا ونحن نحلف لك أن لا نضر أحداً ذكرك في ليل أو نهار، فحلفها على ذلك. نبه على ذلك الدميري واستدل عليه بأحاديث. وكان له من الأولاد ثلاثة سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج. ويقال: لما حضرته الوفاة دعا ابنه ساماً فقال: يا بني أوصيك عن اثنين أو أنهاك عن اثنين فأما اللذان أنهاك عنهما فالإشراك بالله والكبر، فإنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الشرك والكبر. وقيل: قال له: فأما اللذان أنهاك عنهما فالشرك بالله والاتكال على غير الله، وكفى بالعبد خزياً أن يتكل في حاجة على غير الله، وأما اللذان أوصيك بهما فإني رأيتهما يكثران الولوج على الله تعالى قول لا إله إلا الله، وقول سبحان الله، فإن لا إله إلا الله لو جمعت السموات السبع والأرض السبع لخرقتها حتى تبلغ إلى ربها، ولو جعلت لا إله إلا الله في كفة ميزان وجيىء بالسماوات السبع وما فيها لرجحت لا إله إلا الله، وأوصيك بسبحان الله فإنها صلاة الخلق، وبها يرزقون، فلما فرغ من وصيته أتاه ملك الموت فقال: له السلام عليك يا نبي الله فارتعد نوح منه، وقال: وعليك السلام أيها الشخص من أنت؟ فقد ارتاع قلبي منك، فقال: أنا ملك الموت قد أتيت لقبض روحك، فتغير وجهه وتلجلج لسانه، فقال له ملك الموت: ما هذا الجزع يا نوح؟ أو لم تشبع من الدنيا طول عمرك؟ فقال نوح: يا ملك الموت ما شبهت ما مضى في عمري إلا بدار لها بابان، دخلت من هذا الباب، وخرجت من الآخر، قال: فالتفت نوح عن يمينه وشماله فلم يرى أحداً من أولاده، فناوله ملك الموت كأساً فيه شراب، وقال له: اشرب هذا حتى يسكن روعك فتناوله نوح - عليه السلام - فلما استوفى الشراب خر

ميتاً. لطيفه: سبب مجيىء أولاد حام سود أن نوحاً أمر أن لا يقرب ذكراً أنثى ما دام في السفينة، فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا الله نوح أن يغير نطفته، فجاء بالسودان. وقوله «والنبيين» قريء بالهمز وتركه، وهو جمع نبي، و «النبيء» بالهمز مأخوذ من النبأ بمعنى الخبر، لأنه مخبر عن الله، وبلا همز وهو الأكثر، فقيل: إنه مخفف المهموز أي: قلبت الهمز ياء، وأدغمت الياء في الياء. وقيل: إنه أصل مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة، لأنه مرفوع الرتبة عند الله على سائر الخلق. قال العلماء: وأول الأنبياء آدم - عليه السلام - وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد نطق القرآن والحديث بأنه خاتم النبيين قال تعالى {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] . وعن العرياض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طنيته» رواه أحمد والبيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد (¬1) . وقوله «لمنجدل» يعني طريحاً ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه. لطيفه: ذكر ابن الجوزي (¬2) في مولده: أن الله تعالى قال لنور محمد - صلى الله عليه وسلم - من أنا؟ فمن حلاوة الكلمة اهتز العرش فخرج منه قطرات كالمطر المترادف، فكان مائة ألف قطرة، وأربعة وعشرين ألف قطرة، فكل قطرة قطرت منه خلق الله منها نبياً هذا في البداية مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي يسعون في خدمته، وفي الآخرة يكونون تحت رآيته، يطلبون شفاعته (¬3) قال بعضهم: ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/127، رقم 17190) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/134، رقم 1385) ، والحاكم في المستدرك (2/656، رقم 4175) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد عن العرباض بن سارية. والحديث أخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (14/312، رقم 6404) ، والطبراني في مسند الشاميين (2/340، رقم 1455) ، واأبو نعيم في حلية الأولياء (6/90) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/149) ، والبخاري في التاريخ الكبير (6/68) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (2/398، رقم 865) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/76، رقم 230) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/223) : رواه أحمد بأسانيد والبزار والطبراني بنحوه، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان. (¬2) هو: الإمام العلامة الحافظ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن القرشي التميمي البكري البغدادي، المعروف: بابن الجوزي له مؤلفات عظيمة يقول الإمام الذهبي: ما علمت أحداً من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل. ولد سنة 510 هـ بالبصرة وتوفي في ليلة السابع من شهر رمضان سنة 597هـ. (¬3) هذا الكلام يحتاج إلى نقل صحيح فالمقام مقام الحديث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم نقف على رواية في ذلك والله تعالى أعلى وأعلم وهو أجل وأحكم.

لبست رداء الفخر في صلب آدم ... فما تنتهي إلا إليك المفاخر ولله بدر في السماء منور ... وأنت لنا بدر على الأرض زاهر وأما عدد الأنبياء والمرسلين فقد جاء في رواية مسند أحمد في حديث أبي ذر أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء منها قال: قلت: يا رسول الله كم عدد الأنبياء قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، الرسل من ذلك ثلاثمائه وخمسة عشر جماً غفيراً» (¬1) وكلهم خلقوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لكن قال العلماء: الأولى أن لا يقتصر على عدد في التسمية، فقد قال الله تعالى: ?مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ? [غافر: 78] ، ولأنه لا يأمن في ذكر العدد أن يدخل فيهم من ليس منهم، إن ذكر عدد أكثر من عددهم، ويخرج منهم من هو منهم إن ذكر عدداً أقل من عددهم، وكلهم -صلوات الله عليهم وسلامه- كانوا مخبرين مبلغين عن الله تعالى صادقين ناصحين، وهم معصومون من الكبائر والصغائر، قبل النبوة وبعدها، عمداً سهواً. وفي إرسال الرسل حكمة أي: مصلحة وعاقبة حميدة فإن الله تعالى أرسلهم مبشرين لأهل الإيمان والطاعة بالجنة والثواب، ومنذرين لأهل الشرك والطغيان بالنار والعقاب، ومبينين للناس ما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، فإن العقل لا يستقل بمعرفة كل ما يحتاج إليه الإنسان من أمور الدين والدنيا، فقد خلق الله الأجسام النافعة والضارة ولم يجعل للمعقول والمحسوس الاستقلال بمعرفتها، فكان من فضل الله ورحمته إرسال الرسل لبيان ذلك، كما قال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . فائدة: لولا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخلق الله نبياً من الأنبياء ولا شيئاً من الأشياء، فإن الله لما ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (5/178، رقم 21586) عن أبي ذر. وأخرجه أيضاً: الطيالسي في مسنده (ص 65، رقم 478) ، والطبراني في المعجم الكبير (8/217، رقم 7871) ، وابن حبان في صحيحه (2/76، رقم 361) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/32) ، وهناد بن السري في الزهد (2/516، رقم 1065) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/291، رقم 3576) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/159) : رواه أحمد والطبراني في الكبير، ومداره على علي بن يزيد وهو ضعيف.

خلق آدم - عليه السلام - قال له: ارفع رأسك فرفع آدم رأسه فرأى نور نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - شبحاً تحت العرش، فقال آدم: يارب ما هذا الشبح النور؟ فقال: هذا الشبح سرادق نور خلق من ذريتك اسمه في السماء أحمد وفي الأرض محمد، لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماءً ولا أرضاً ولا طولاً ولا عرضاً، قال: يارب لم سميته في السماء أحمد وفي الأرض محمد؟ قال: سميته في السماء أحمد لأن أحمد من حمدي، وسميته في الأرض محمد لأني جعلت كل من يحمدني يحمده (¬1) . * * * ¬

(¬1) لم نقف عليه بهذا اللفظ، ولكن وجدنا معناه في حديث آخر عند الطبراني في المعجم الأوسط (6/313، رقم 6502) عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما أذنب آدم بالذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى الله إليه وما محمد ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت، أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله إليه يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك، وإن أمته آخر الأمم من ذريتك، ولولا هو يا آدم ما خلقتك» . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/253) : رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم.

المجلس الثالث

المجلس الثالث في الكلام على رجال إسناد حديث «إنما الأعمال بالنيات» ونذكر فيه طرفاً من ترجمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ ... قوله: «حدثنا الحميدي» هذا هو أحد مشايخ البخاري أبو بكر عبد الله بن عبد الله بن الزبير منسوب إلى جده الأعلى حميد، وهو إمام كبير مصنف رافق الشافعي في الطلب عن ابن عينيه وطبقته، وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر، ورجع بعد وفاته إلى مكة، وكانت وفاته بها سنة تسع عشرة ومائتين (¬1) . وافتتح البخاري كتابة بالرواية عن الحميدي دون غيره من مشايخة لأنه قرشي، بل هو أفقه أهل قريش من أئمتنا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «قدموا قريشاً ولا تقدموها» (¬2) . ولتقديمه مناسبة أخرى وهي أنه مكي فناسب أن يذكر في أول ترجمة الوحي لأن ابتداءه كان من مكة (¬3) . ¬

(¬1) ترجم الحافظ ابن حجر في الفتح (1/46) للحميدي فقال: هو: أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسي، منسوب إلى حميد بن أسامة، بطن من بني أسد بن عبد العزى بن قصي، رهط خديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتمع معها في أسد، ويجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي، وهو إمام كبير مصنف، رافق الشافعي في الطلب. (¬2) أخرجه البزار في مسنده (2/112، رقم 465) عن علي - رضي الله عنه -، وأبو نعيم في حلية الأولياء (9/64) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، والإمام الشافعي في المسند (1/278) عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره، وأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة (2/637، رقم 1519) عن عبد الله بن السائب - رضي الله عنه -. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/46) : فكأن البخاري امتثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «قدموا قريشاً» فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدي، لكونه أفقه قرشي أخذ عنه، وله مناسبة أخرى: لأنه مكي كشيخه، فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي، لأن ابتداءه كان بمكة، ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك، لأنه شيخ أهل المدينة، وهي تالية لمكة في نزول الوحي وفي جميع الفضل، ومالك وابن عيينة قرينان، قال الشافعي: لولاهما لذهب العلم من الحجاز.

وقوله: «قال حدثنا سفيان» هذ هو سفيان بن عينيه، ويجوز في سين سفيان الفتح والضم والكسر، والضم أشهر وهو هلالي كوفي، ثم مكي، وهو من تابع التابعين سكن بمكة ومات بها، وكان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع والدين، ومن العلماء بكلام رب العالمين، وسنة سيد المرسلين. ومن فضائله - رضي الله عنه - أنه قرأ القرآن وهو ابن أربع سنين، وكتب الحديث وهو ابن سبع سنين، ولما بلغ خمس عشرة سنة قال أبوه يا بني اختلط بالخير تكن من أهله، واعلم أنه لن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم، فأطعهم وخذ منهم تقتبس من علمهم، قال: فجعلت لا أعدل عن وصية أبي. وكان كثير التلاوة والحج، حج نيفاً سبعين حجة، وفي كل يوم يقول: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، حتى قال في المرة الأخيرة: قد استحييت من الله تعالى من كثرة ما أساله، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت غرة رجب سنه ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون. ومن مناقبة ما حكي عن بعض أصحابه أنه قال: دخلت عليه وبين يديه قرصان من شعير فقال: يا أبا يوسف إنهما طعامي منذ أربعين سنة. وكان كثيراً ما ينشد: خلت الديار فسرت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسودد قال الشافعي في حقه: لولا مالك (¬1) وسفيان لذهب علم الحجاز وهو من مشايخ الشافعي ومن ينتهي إليه سلسلة أصحابه في الفقه ومنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا يلتفت إلى الشافعي ويقول: سلوا هذا. وكان يوماً جالساً وعنده أصحابه، وإذا بصبي قد دخل المسجد فتهاون به أهل المجلس لصغره، فقال سفيان: لأصحابه كذلك كنتم من قبل، فمنَّ الله عليكم، ثم التفت إلى واحد من أصحابه وقال له: يا فلان لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار، وأنا كشعلة من نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، وبغلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، مثل الزهري وعمرو بن دينار (¬2) ، أجلس بينهم كالمسمار، ومحبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا جلست فيهم قالوا: وسعوا للشيخ الصغير، ثم ابتسم ابن عيينة وضحك، وإنما قال ذلك: حثاً لهم على إكرام الصغير، وإعلاماً لهم بأن العلم فضل الله يؤتيه من يشاء ولقد أحسن من قال: وكم من صغير وفقه الله في حال صغره، فغاب عليه الخوف من الله. ¬

(¬1) هو: إمام دار الهجرة مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه ينسب المذهب المالكي، كان صلبا في دينه، بعيدا عن الإمارة، شديدا على الأمراء بعيدا عنهم له: الموطأ في الحديث، والمدونة الكبري، ولد بالمدينة وكانت وفاته بها سنة (93هـ) . انظر: الديباج المذهب (1/30) ، والوفيات (1/439) ، وتهذيب التهذيب (10/5) . (¬2) عمرو بن دينار هو: عمرو بن دينار الجمحي بالولاء، أبو محمد الأثرم: فقيه، كان مفتي أهل مكة، فارسي الأصل، مولده بصنعاء سنة: 46هـ هـ‍، ووفاته بمكة سنة: 126هـ‍. قال شعبة: ما رأيت أثبت في الحديث منه، وقال النسائي: ثقة ثبت، واتهمه أهل المدينة بالتشيع والتحامل على ابن الزبير، ونفى الذهبي ذلك، قال ابن المديني: له خمسمائة حديث.

قال الحسن البصري (¬1) : رأيت صغير يبكي فقلت: يا صبي من ضربك أبوك أم أمك؟ قال: يا عم ما ضربني أبي ولا أمي، ولكن أبكي من خوف جهنم، فقلت له: يا بني مع صغر سنك تخاف من جهنم؟ قال: يا عم رأيت أمي إذا طبخت تترك الحطب الصغار تحت الكبار، فأبكاني ذلك، ثم قلت: له يا بني هل لك ان تصحبني حتى أعلمك مما علمني الله من العلم، فقال: على شرط إذا جعت تطعمني، وإذا عطشت تسقيني، وإذا مرضت تشفيني، وإذا زللت تغفر لي، وإذا مت تحييني، قلت: لا أقدر على ذلك، قال: أنا على باب ملك يقدر على ذلك كله. قوله «قال حدثنا يحيى بن سعيد الانصاري» هذ هو سعيد بن سعيد ين قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري تابعي، اتفق العلماء على جلالته وعدالته وحفظه، وكانت وفاته سنه أربع أو ثلاث أو ست وأربعين ومائة بالعراق، وقيل: بالهاشمية. والأنصاري نسبة إلى الأنصار الذي هو كالعلم للقبيلتين الأوس والخزرج، ولهذا جاز النسبة إلى لفظ الجمع. وسموا أنصار لانهم نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] وواحد الأنصار نصير كشريف وأشراف. قوله: «قال أخبرنا محمد بن إبراهيم الشيمي» هذا هو عبد الله محمد بن إبراهيم الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن تميم بن مرة المدني القرشي التيمي، تابعي، وكانت وفاته بالمدينة سنة عشرين إحدى عشرين ومائة. قوله: «سمع علقمة بن أبي وقاص الليثي» قال الكرماني: «علقمة» بفتح العين المهملة، توفي بالمدينة في خلافة عبد الملك بن مروان، وهو منسوب إلى ليث بن عبد مناف، وهو تابعي على قول الأكثر، وقال ابن منده: إنه صحابي. وقوله: «يقول سمعت عمر بن الخطاب» هذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وقبل الكلام على نسبة ومناقبه نذكر نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - تبركاً به وتشرفاً، فإن نسب عمر - رضي الله عنه - يجتمع مع نسب - صلى الله عليه وسلم - فنقول: هو - صلى الله عليه وسلم - محمد بن عبد الله، سمي محمد لكثرة خصاله المحمودة، وسنذكر في المجالس الآتية أن والديه هل ماتا مؤمنين أو كافرين؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك. ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوئ، ولوئ يقرأ بالهمز وتركه. ¬

(¬1) هو: أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري، من سادات التابعين وكبرائهم، وكان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه، قيل: كان جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً ناسكاً، من المشهود لهم بالفضل، قال عنه الإمام الغزالي: كان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء، وأقربهم هجياً من الصحابة، وكان غاية في الفصاحة، أقواله كثيرة، ومتناثرة، ومشهورة، توفي رحمه الله تعالى بالبصرة في مستهل شهر رجب سنة 110هـ. انظر: الوفيات (ص: 109) ، والبداية والنهاية (5/301) ، تهذيب الكمال (4/297، ترجمة: 1198) ، والمناوي في الكزاكب الدرية (1/181) .

ابن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانه بن مدركة بن إلياس، هو أول من أهدى البدن إلى بيت الله الحرام، وهو أول من وضع مقام إبراهيم للناس بعد غرق البيت وانهدامه زمن نوح، فكان إلياس أول من ظفر به فوضعه في زاوية البيت، ولم تزل العرب تعظم إلياس. قال السهيلي (¬1) : ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تسبوا إلياس فإنه كان مؤمناً» (¬2) ، وذُكر أنه كان يسمع من صلبه تلبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج. ابن مضر بن نزار: بكسر النون مشتق من النذر، وهو القليل، سمي «بنزار» لأن أباه حين ولد له نظر إلى نور النبوة بين عينيه الذي كان ينتقل في الأصلاب، ففرح فرحاً شديداً، ونحروا طعم، وقال: هذا نذر في حق هذا المولود. ابن معد بن عدنان، إلى هنا أجمع العلماء على نسبه الشريف وحق أن ينشد فيه ينشد - صلى الله عليه وسلم -: نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ... ومن فلق الصباح عمودا ما فيه إلا سيداً وابن سيد ... حاز المكارم والتقى والجودا وأما رفع نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آدم فقد كرهه الإمام مالك، وقال: من أخبرك بذلك؟ ولكن الجمهور جوزوه لأنه يترتب عليه معرفة العرب من غيرهم، وقريش من غيرهم. وقد تنتقل - صلى الله عليه وسلم - في الأصلاب الطاهره الزكية، وكلما انتقل إلى صلب واحد يلوح عليه أنواره البهية، ولقد أحسن من قال: تنقلت في أصلاب قوم أعزة ... بك افتخروا في كل واحة ومحفل وأشرقت الأنوار في كل بقعة ... وفاح الثناء في كل واد ومنزل وأضحى لسان الدهر ينشد فرحة ... تنقل فلذات الهوى في التنقل وأما عمر بن الخطاب فهو: أمير المؤمنين، أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لوي بن غالب الفهري العدوي القرشي، يتلقي نسبة بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفص، كناه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رواه بن الجوزي. والحفص في اللغة: الأسد، واتفق العلماء على تسميته بالفاروق، قيل: لظهور ¬

(¬1) هو: الحافظ البارع أبو القاسم عبد لرحمن بن عبد لله بن أحمد السهيلي الخثعمي المآلقي الضرير، ويكنى أبا زيد وأبا الحسن، صاحب التصانيف منها: الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام، والإعلام بما أبهم القرآن من الأسماء الأعلام، وكتاب نتائج النظر. وكانت وفاته -رحمه الله تعالى- سنة (581هـ) . انظر: طبقات المحدثين (1/179) ، وشذرات الذهب (2/271) ، وأبجد العلوم (2/331) . انظر: الديباج المذهب (1/30) ، والوفيات (1/439) ، وتهذيب التهذيب (10/5) . (¬2) لم نقف عليه.

الفرق بين الحق والباطل بإسلامه. وقيل: سبب تسميته بالفاروق ما روي عن الشعبي (¬1) أن رجلاً من المنافقين ويهودياً اختصما فقال اليهود: ننطلق إلى محمد بن عبد الله، وقال المنافق: إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، وأتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى لليهودي، فلما خرجا قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إليه فقصا عليه القصة، فقال: رويداً حتى أخرج إليكما فدخل البيت واشتمل على السيف، ثم خرج وضرب عنق المنافق، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل جبريل فقال: إن عمر بن الخطاب فاروق الحق والباطل، فسمي الفاروق. خرجه الواحدي وأبو الفرج. واختلف العلماء فيمن سماه بالفاروق فقيل: ربه وهو ضعيف، وقيل: أهل الكتاب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر المحب الطبري (¬2) في كتابه الرياض النضرة أنه قال: روي عن ابن العباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين الفاروق عمر فيؤتى به، فيقول الله تعالى مرحباً بك يا أبا حفص، هذا كتابك فإن شئت فاقرأه، وإن شئت فلا، فقد غفرت لك» (¬3) . قال: وقد روي أن اسمه في السماء فاروق، وفي الإنجيل كافي، وفي التوراة منطق الحق. وهو أول من سمي أمير المؤمنين، وكان يقال: لأبي بكر - رضي الله عنه - خليفة رسول الله، فلما ولي عمر - رضي الله عنه - قيل له: خليفة خليفة رسول الله - رضي الله عنه - فاستطالوا ذلك، فقيل: إنه سمى نفسه فقال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم، وقيل: سماه غيره به. واختلف العلماء في وقت إسلامه فقيل: أسلم بعد خمس من النبوة، وقيل: أربع، والراجح بعد ست، وكان مكملاً لعدة أربعين رجلاً فقد ورد عن ابن عباس (¬4) قال: أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة وثلاثون رجلاً ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين رجلاً فنزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] خرجه الخلعي (¬5) والواحدي (¬6) . كما روي: أنه أسلم بعد أربعين رجلاً وإحدى عشر امرأة. وسبب إسلامه كما روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: خرج علينا متقلداً السيف، فلقيه رجل من بني زهرة فقال: أين تعمد أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمداً، ¬

(¬1) هو: أبو عمرو، عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الشعبي الحميري، راوية التابعين، يضرب المثل بحفظه، ولد ونشأ ومات فجأة بالكوفة، وكان -رحمه الله- سفير ورسول عبد الملك بن مروان إلى الروم، توفي سنة (102هـ) انظر: تهذيب التهذيب (5/65) ، ووفيات الأعيان (1/244) ، وحلية الأولياء (4/310) . انظر: الديباج المذهب (1/30) ، والوفيات (1/439) ، وتهذيب التهذيب (10/5) . (¬2) محب الطبري: هو فقيه الحرم محب الدين أبى العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبى بكر بن محمد الطبري ثم المكي، شيخ الحرم بمكة وفقيهه ومفتيه وحافظ الحجاز بلا مدافعة، ولد في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة. قال البرزالي ولد بمكة في يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة. له باع في الفتوى والتصنيف والتأليف، وهو من أئمة الفقه الشافعي وصنف فيه وبرع في مسائله وأفتى بمذهبه حتى قيل عنه شيخ الحرم ومفتيه، له من التصانيف: شرح التنبيه في فروع الشافعية وهو شرح مبسوط في عشرة أسفار كبار، ومسلك النبيه في تلخيص التنبيه وهو كبير، وتحرير التنبيه لكل طالب نبيه وهو مختصر صغير للتنبيه أيضاً، وعواطف النصرة في تفضيل الطواف على العمرة وهو كتاب في المناسك كما أشار إليه ابن قاضي شهبة، هذا في الفقه، أما في السير والتاريخ فله: الرياض النضرة في فضائل العشرة، وهو الذي نقل منه المصنف ههنا، وذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، والسمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين. توفى في جمادى الآخرة، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي القعدة سنة أربع وتسعين وستمائة، وحكى البرزالي عن بعض علماء الحجاز أن الشيخ محب الدين توفى فى جمادى الآخرة وولده توفى بعده فى ذى القعدة. انظر: شذرات الذهب (3/235، 236) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/162، 163) ، والبداية والنهاية (13/340، 341) ، والدرر الكامنة (5/210) ، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/18، 19، 20) ، والنجوم الزاهرة 08/74) ، وتذكرة الحفاظ (4/1474) ، وطبقات المحدثين (1/221) ، ومعجم المؤلفين (1/22، 23) ، والرسالة المستطرفة (1/108) ، وذيل التقييد (1/318) ، وكشف الظنون (1/20، 79، 465، 491، 727) ، و (2/1177، 1178، 11613) . (¬3) لم نقف عليه. (¬4) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله بالفهم في القرآن، فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه، وهو أحد المكثرين من الصحابة في رواية الحديث، وأحد العبادلة، ومن فقهاء الصحابة، شهد مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الجمل وصفين، وكف بصره في آخر حياته، وتوفي سنة (68هـ) . انظر: تقريب التهذيب (1/309) ، وصفة الصفوة (1/314) ، وحلية الأولياء (1/61) . (¬5) الخلعي هو: علي بن الحسن بن الحسين بن محمد، أبو الحسن الخلعي الشافعي: مسند الديار المصرية في عصره، أصله من الموصل، ومولده سنة: 405 هـ‍، ووفاته بها سنة: 492 هـ‍، فهو ينسب إليها لذلك. ولي القضاء فحكم يوما واحداً واستعفى، وانزوى بالقرافة، حتى قيل له: القرافي، وكان قبره فيها يعرف بقبر: قاضي الجن والإنس، صنف كتاب: الفوائد في الحديث، ويعرف بفوائد الخلعي، وخرج أحمد بن الحسين الشيرازي أجزاء من مسموعاته في الحديث، سماها: الخلعيات. (¬6) أخرجه الواحدي في أسباب النزول (ص: 196، رقم 496) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. والواحدي هو: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي، مفسر ومن علماء التأويل، أصله من ساوه، لزم الأستاذ أبو إسحاق الثعالبي وأخذ وأكثر عنه في النقل، وكان الواحدي له باع طويل في العربية واللهجات، وتصدر للتدريس مدة وعظم شأنه، وله شعر رائق، له من التصانيف: أسباب النزول وهو مشهور، مات بنيسابور في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة. انظر: طبقات المفسرين للسيوطي (ص: 70) ، البداية والنهاية (12/114) ، شذرات الذهب (3/330) ، طبقات الشافعية للسبكي (5/240) ، النجوم الزاهرة (5/104) ، العبر (3/267) ، وفيات الأعيان (2/464) .

قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمد؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي أنت عليه، قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر إن أختك وختنك قد صباءا وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خباب، فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت فدخل عليهما فقال: ما هذه الهيمنة التي سمعتها عندكم قال: وكانوا يقرؤون {طه} [طه: 1] فقالا: حديثاً تحدثناه بيننا، قال: قد صبوتما؟ فقال له ختنة: أرايت يا عمر إن كان الحق في دينك، فوثب عمر على ختنة فوطئه واشتدد عليه، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها، فدفعها دفعة بيده أدمى وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عمر إن كان الحق في غير دينك أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما تبين عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه، وكان عمر يقرأ الكتب، فقالت أخته: إنك نجس، ولا يمسه إلا المطهرون فقام واغتسل وتوضأ، ثم أخذ الكتاب فقرأ {طه} [طه: 1] حتى إلى قوله تعالى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت فقال: أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك ليلة الخميس: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام» وقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدار التي في أصل الصفا، فانطلق عمر حتى أتى الدار، قال: وعلى الباب حمزة وطلحة وناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أقبل وجل القوم، قال حمزة: نعم هذا عمر، وإن يرد الله بعمر خيراً هداه إلى الإسلام، وإن يرد غير ذلك فقتله علينا هين. فلما سمع به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم أنه جاء إلى الإسلام خرج إليه وأخذ بمجامع ثوبه نترة نترة، فما تمالك أن وقع على ركبتيه وقال: «ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل الله بالوليد بن المغيرة» ثم قال: «اللهم اهد عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب» فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعها أهل مكة، ونزل جبريل وقال: يا محمد استسر أهل السماء بإسلام عمر (¬1) . ¬

(¬1) انظر: ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/268) وقد روى قصة إسلامه بنحو ما هاهنا عن أنس بن مالك أيضاً، وانظر نوادر الأصول (1/227) ففيه قصة إسلام عمر ولكن من حديث عائشة. وروى الطبراني في المعجم الأوسط (2/240، رقم 1860) من هذه القصة: «عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عشية الخميس فقال: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام فأصبح عمر يوم الجمعة فأسلم» ، ورواه أيضاً الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (7/143، رقم 2576) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/62) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه القاسم بن عثمان البصري وهو ضعيف.

وقال ابن عبد البر عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب صدر عمر بن الخطاب حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول: «اللهم أخرج ما في صدره من غل، وأبدله إيماناً» يقولها ثلاثاً (¬1) . ولما أسلم قال: إني ذاهب إلى أبي جهل لأعلمه بإسلامي، فإنه أشد الناس عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهب إليه وطرق عليه الباب فخرج إليه وقال: مرحباً بعمر، وظن أنه باق على دينه، ما حاجتك؟ قال: جئتك أخبرك أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فضرب الباب في وجهه، وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به. وورد في الصحيح: «مازلنا أعزة منذ أسلم عمر» (¬2) . وذكر المحب الطبري من خصائصه أن الله جعله مفتاح الإسلام فقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إلى عمر فتبسم فقال: «يا ابن الخطاب أتدري لم تبسمت إليك؟» قال: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى ¬

(¬1) انظر: ابن عبد البر في الاستيعاب (3/1147) ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. والحديث أخرجه: الحاكم في المستدرك (3/91، رقم 4492) ، والطبراني في المعجم الكبير (12/305، رقم 13191) ، وفي المعجم الأوسط (2/20، رقم 1096) ، والأصبهاني في دلائل النبوة (ص 73، رقم 58) عن ابن عمر. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/65) : رجاله ثقات. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1348، رقم 3481) عن عبد الله بن مسعود من قوله. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه (15/304، رقم 6880) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/354، رقم 31972) ، والبزار في مسنده (5/274، رقم 1888) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/165، رقم 8821) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/211) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (3/270) . وانظر: الإستيعاب (3/1149) .

نظر إليك بالشفقة والرحمة ليلة عرفة، وجعلك مفتاح الإسلام» (¬1) . وعن عمران بن حصين (¬2) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا كان يوم القيامة وحشر الناس، جاء عمر بن الخطاب حتى يقف في الموقف فيأتيه شيء أشبه شيء به، فيقول: جزاك الله يا عمر خيراً، فيقول له من أنت؟ فيقول: أنا الإسلام، جزاك الله يا عمر خيراً ثم ينادي مناد: لا يدفعن لأحد كتاب حتى يدفع لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم يعطى كتابه بيمينه، ويؤذن به إلى الجنة» (¬3) فبكى عمر وأعتق جميع ما يملكه وهم تسعة. وقال ابن مسعود (¬4) : وكان إسلام عمر فتحاً وهجرته نصراً وإمامته رحمة، ولقد رأيتنا ما نستطيع أن نصلي في البيت حتى أسلم عمر، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه يصلون في البيت خفية، فقال عمر: يا رسول الله على من تخفي ديننا، ونحن على الحق وهم على الباطل، فقال: إنا قليلون، فقال والذي بعثك بالحق نبياً لا يبقى مجلس من المجالس التي جلست فيها إلا أقر الإيمان، ثم خرج عمر، وطاف بالبيت، وهو يظهر الشهادتين، فوثب إليه المشركون، فوثب عمر على واحد منهم وجلس على صدره، وأدخل أصبعيه في عينيه فصاح الرجل ففروا من عمر، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول لم يبق مجلس إلا وأظهرت فيه الإيمان فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدار وعمر أمامه وحمزة خلفه، حتى طاف بالبيت، وصلى الظهر جهرة. وهو من المهاجرين الأولين صلي إلى القبلتين، وشهد بدراً وبيعة الرضوان، وجميع المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بويع له بالخلافة يوم موت الصديق، وهو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخر سنة ثلاث عشرة بوصية الصديق إليه فإن أبا بكر - رضي الله عنه - لما أيس من حياته دعا عثمان وأملى عليه كتاب أبي بكر - صلى الله عليه وسلم - فلما كتب ضم الصحيفة وأخرجها للناس يوم موت الصديق، وأمرهم أن يبايعوا لمن في الصحيفة، فبايعوا حتى مرت بعلي (¬5) - رضي الله عنه - فقال: بايعنا لمن فيها وإن كان عمر، فوقع الاتفاق على خلافته، فسار بأحسن سيرة، وزين الإسلام بعدالته، وفتح في خلافته الفتوحات، وهو أول من ضرب ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) عمران بن الحصين هو: عمران بن حصين بن عبيد، أبو نجيد الخزاعي: من علماء الصحابة، أسلم عام خيبر سنة 7 هـ‍، وكانت معه رآية خزاعة يوم فتح مكة، وبعثه عمر إلى أهل البصرة ليفقههم في الدين، وولاه زياد قضاءها وتوفي بها عام: 52 هـ‍، وله في كتب الحديث 130 حديثاً. والواحدي هو: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي، مفسر ومن علماء التأويل، أصله من ساوه، لزم الأستاذ أبو إسحاق الثعالبي وأخذ وأكثر عنه في النقل، وكان الواحدي له باع طويل في العربية واللهجات، وتصدر للتدريس مدة وعظم شأنه، وله شعر رائق، له من التصانيف: أسباب النزول وهو مشهور، مات بنيسابور في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة. انظر: طبقات المفسرين للسيوطي (ص: 70) ، البداية والنهاية (12/114) ، شذرات الذهب (3/330) ، طبقات الشافعية للسبكي (5/240) ، النجوم الزاهرة (5/104) ، العبر (3/267) ، وفيات الأعيان (2/464) . (¬3) لم نقف عليه بهذا اللفظ، ولكن وجدنا معناه عند محب الدين الطبري في الرياض النضرة (1/332) طرفاً منه عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول من يعطى من هذه الأمة كتابه بيمينه عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس، فقيل له: فأين أبو بكر يا رسول الله قال: هيهات زفته الملائكة إلى الجنان» قال محب الدين الطبري: خرجه صاحب الديباج. (¬4) ابن مسعود هو: أبو عبد الرحمن، عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، أسلم قديما، ويقال: سادس من أسلم، وكان صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مات بالمدينة سنة (33هـ) . انظر: الإصابة (4/233) . (¬5) هو: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، أبو الحسن: أمير المؤمنين، رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين، وابن عم النبي وصهره، وأحد الشجعان الأبطال، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، وأول الناس إسلاماً بعد خديجة. ولد بمكة، وربي في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفارقه، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولما آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه قال له: «أنت أخي» ، وولي الخلافة بعد مقتل عثمان ابن عفان سنة 35هـ‍، فقام بعض أكابر الصحابة يطلبون القبض على قتلة عثمان وقتلهم وتوقى علي الفتنة، فتريث حتى لا تقوم فتنة عظيمة، وما توقاه علي لم يقبله بعض الصحابة، فوقع المسلمون في فتنة عظيمة دخلها الوشاة وأصحاب النفوس المريضة فقلبوا الأمور، وخلطوا الصالح بالسيئ عداوة منهم لدين الإسلام، ولهذه الفتنة تفصيل في كتب التاريخ ليس محل ذكره ههنا، والمؤلف السفيري سيترجم لعلي وسيتعرض للكلا على هذه الفتنة وسوف نعلق عليها بما يقتضيه المقام. ومن صفاته أنه كان أسمر اللون، عظيم البطن والعينين، أقرب إلى القصر، وكانت لحيته ملء ما بين منكبيه، وولد له 28 ولداً منهم 11 ذكراً و 17 أنثى. وقد أقام علي بالكوفة دار خلافته إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي غيلة في مؤامرة 17 رمضان المشهورة، واختلف في مكان قبره، فقيل: في قصر الإمارة بالكوفة، وقيل: في رحبة الكوفة، وقيل: بنجف الحيرة، وقيل: إنه وضع في صندوق وحمل على بعير يريدون به المدنية فلما كانوا ببلاد طيء أخذ بنو طيء البعير ونحروه ودفنوا علياً في أرضهم، ونقل عن المبرد، قال: أول من حول من قبر إلى قبر: علي - رضي الله عنه -. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجمعت خطبه وأقواله ورسائله في كتاب سمي: نهج البلاغة، وأكثر الباحثين شك في نسبته كله إليه، أما ما يرويه أصحاب الأقاصيص من شعره وما جمعوه وسموه: ديوان علي بن أبي طالب، فمعظمه أو كله مدسوس عليه.

بالدرة وحملها، وكانت درته أهيب من السيف. وله من الكرامات ما لا تحصى فمن كرامته أن العناصر الأربع وافقته، عنصر الماء والهواء والتراب والنار، وأما موافقة عنصر الماء له ففي قصة النيل، وذلك أن مصر لما انفتحت وتولى عمرو بن العاص بها في خلافه سيدنا عمر - رضي الله عنه - نائباً عنه، وجاء وقت زيادة النيل، اجتمع أهل مصر وجاءوا إلى عمرو بن العاص وقالوا: هذا النيل يحتاج في كل سنه إلى جارية بكر من أحسن الجوار من بنات مصر، وتحلى بأنواع الحلي والحلل، وتزين بأنواع الزينة كالعروس التي تزف إلى زوجها، ثم نلقيها فيه وإلا فلا يجري ويخرب البلاد، فقال لهم: لا أفعل شيئاً حتى أشاور أمير المؤمنين، فكتب كتاباً إلى عمر بن الخطاب يخبره فكتب إليه عمر كتاباً جواباً إليه عن كتابه وفيه رقعة مكتوب فيها: «من عبد الله عمر بن الخطاب أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجر ولا حاجة بنا إليك، وإن كان الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك» وأمره أن يلقيها في النيل، فلما ألقى البطاقة في النيل، أصبحوا وقد أجرى الله النيل، وطلع ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، ببركة عمر بن الخطاب، وأراح الله المسلمين من هذه البدعة القبيحة، التي كانت تصنع كل سنة من زمن فرعون إلى خلافة عمر - رضي الله عنه - وأنشد بعضهم في المعنى فقال: يا أيها النيل المبارك إن تكن ... من عند ربك تأت فاجر بأمره وإن تكن من عند نفسك تأتنا ... فالله يبسط في بره كم من بلاد ليس تعرف أرضها ... ملأ الإله بيوتها من بره ووافقه عنصر الماء مرة أخرى وذلك: أنه بعث جيشاً إلى مدائن كسرى، وأمرَّ عليهم سعد بن أبي وقاص، وجعل قائد الجيش خالد بن الوليد، فلما بلغوا شط دجله ولم يجدوا سفينة تقدم سعد وخالد فقالا: يا بحر إنك تجري بأمر الله فبحرمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعدل عمر خليفة رسول الله ألا ما خليتنا والعبور، فعبر الجيش بخيله وحماله ورجاله إلى المدائن ولم تبتل حوافرها. وأما موافقه عنصر الهواء فذلك: أنه أرسل جيشاً وأمرَّ عليهم شخصاً يقال له: سارية، فلما قربوا من العدو كمنوا لهم وراء جبل وكانت نجاتهم في الصعود على الجبل، وكان نهار جمعة، فلما صعد المنبر للخطبة أطلعه الله على جيشه الذي أرسله، وعلى الكمين، وكشفت الحجب له من مسافة بعيدة، فبينما هو في الخطبة نادي: يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثاً فاحتمل الهواء صوته حتى بلغ سارية فصعد الجبل وسلموا من

العدو، ثم أقبل على خطبته، فلما قضى صلاته سأله عبد الرحمن بن عوف، وكان ينبسط معه وقال له: يا أمير المؤمنين ما هذا الذي وقع منك في حال الخطبة؟ ناديت يا سارية الجبل، وجعلت للناس عليك كلاماً بإتيانك بشيء في الخطبة ليس منها، فقال: رأيت سارية وأصحابه يقاتلون عند جبل يؤخذون من جهته من بين أيديهم ومن خلفهم، فلم أملك أن قلت: يا سارية الجبل ليلحقوا بالجبل، فلم تمض أيام قليلة حتى عاد الجيش فقالوا: صلينا الصبح إلى أن حضرت الجمعة، فسمعت صوت مناد ينادي إلى الجبل، فلحقنا بالجبل فلم نزل قاهرين لعدونا، حتى هزمهم الله تعالى. وأما موافقة عنصر التراب له فذلك أن الأرض زلزلت في أيامه واضطربت، فضربها برجله، وقيل: بدرَّته وقال: أتزلزلين وأنا أعدل عليك، فما زلزلت في حياته بعد تلك المرة قط. ونقل السبكي عن إمام الحرمين أنه قال: إن الأرض زلزلت على زمن عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، والأرض ترتج ثم ضربها بدرته، وقال: أقري ألم أعدل عليك؟ فاستقرت من وقتها. قال السبكي: كان عمر على الحقيقة في الظاهر والباطن، وخليفة الله في الأرض، فهو يعزر الأرض ويؤدبها بما يصدر منها، كما يعزر ساكنيها على خطيأتهم. فإن قيل: أيجب على الأرض تعزير وهي غير مكلفة؟ فالجواب: أن سيدنا عمر استوى عنده الظاهر والباطن، فجاز له تعزيرها لذلك، فإن ظاهر الشرع ما يبحث عنه الفقيه وباطن يطلع الله عليه بعض أصفيائه كعمر - رضي الله عنه - ونظير فعل عمر ما فعله موسى بن عمران بالحجر، لما مر بثوبه فلحقه وهو يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، وضربه ستاً أو سبعاً. وقول سيدنا عمر للأرض: «ألم أعدل عليك» فيه إشارة إلى أن الظلم موجب الانتقام، وأن العدل موجب للرضا وأن الأرض مطيعة لله، وليس لها الارتجاج إلا في الوقت المعلوم وهو يوم القيامة كما قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] ، وكذلك وقت وقوع الجور من الحكام كما يدل ذلك قوله تعالى {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم: 90، 91] فدلت الآية على أن الأرض لولا أن الله يمسكها لانشقت من الجور والظلم والفجور الكائن عليها.

وأما موافقته عنصر النار فقد قال السبكي: إن ناراً كانت تخرج من كهف في جبل فتحرق ما أصابت، فخرجت في زمن عمر فأمر أبو موسى الأشعري أو تميماً الدري أن يدخلها الكهف، فجعل يحبسها بردائه، حتى أدخلها الكهف فلم تخرج بعد. قال: ولعله أراد بذلك منع أذاها. وورد في الموطأ عن مالك بن أنس أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل رجلاً عن اسمه فقال: جمرة، فقال عمر: ابن من؟ قال: ابن شهاب فقال: ممن؟ قال: من الحرقة، فقال: واين مسكنك؟ فقال: بحرة النار، فقال: بأيها؟ قال: بذات لظى، فقال: أدرك أهلك فقد احترقوا فكان الأمر كما قال عمر - رضي الله عنه - (¬1) . فقد وافقه عنصر النار في هذه ايضاً. وصفته - رضي الله عنه - أنه كان طوالاً جداً، جسيماً، كث اللحية، خفيف العارضين، أصلع شديد الصلع، أعسر يسر أي: قوة يديه على السواء، وكان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى، ثم يجمع أطرافه ويبث فكأنما خلق على ظهر فرسه، وكان يخضب بالحناء والكتم، وأنزل الله القرآن بموافقته في مواضع ستأتي في محلها، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة والجنة، وسماع سراج أهل الجنة، وأخبر أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه، وأن رضاه عز، وغضبه عدل، وسماه عبقرياً أي: سيداً، ومحدثاً، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لقد كان فيمن كان قبلكم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر» (¬2) . ¬

(¬1) رواه مالك في الموطأ (2/973، رقم 1753) عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب ... فذكره. وأورد الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/539، ترجمة1300 جمرة بن شهاب) فقال: له قصة مع عمر رويناها في فوائد أبي القاسم بن بشران من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر ... فذكره. وأخرجه البخاري في صحيحه (3/1349، رقم 3486) عن أبي هريرة. (¬2) يروى هذا الحديث عن أبي هريرة وعائشة: أما حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري في صحيحه (3/1349، رقم 3486) ، والترمذي في سننه (5/622، رقم 3693) وقال: هذا حديث صحيح، وابن حنبل في فضائل الصحابة (1/361، رقم 529) ، وابن أبي عاصم في السنة (2/583، رقم 1261) ، واللالكائي في كرامات الأولياء (1/93، رقم 41) . أما حديث عائشة: فأخرجه مسلم في صحيحه (4/1864، رقم 2398) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/39، رقم 8119) ، وأحمد في مسنده (6/55، رقم 24330) ، وابن حبان في صحيحه (15/317، رقم 6894) ، والحميدي في مسنده (1/123، رقم 253) ، والخلال في السنة (2/311، رقم 387) .

قال النووي (¬1) : اختلف في المراد «بمحدثون» فقيل معناه: ملهمون، وقيل: معناه مصيبون إذا ظنوا، وقيل: تكلمهم الملائكة ويؤيده أنه جاء في روايته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائه حديث وتسعة وثلاثون حديثاً اتفق البخاري ومسلم على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين، ومسلم بإحدى وعشرين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة وغيرهم، وروى عنه نحو خمسين صحابياً منهم عثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف وخلائق من التابعين. ولي الخلافة عشر سنين وخمسة أشهر أو ستة أشهر قولان، واستشهد يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة. واختلف في عمره على ثمانية أقوال ذكرها ابن الملقن في شرح هذا الصحيح وقال: الصحيح أنه مات ابن ثلاث وستين كسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، طلب من الله تعالى في آخر عمره فاستجاب له، فقد قال سعيد بن المسبب قال عمر: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، وكان دعاؤه في أيام التشريق، فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن. طعنة أبو لؤلوة طعنة أبو لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة نصراني، وقيل: مجوسي، وسبب طعنه لعمر - رضي الله عنه - أن المغيرة سيده كان يستغله أي: يأخذ منه كل يوماً أربعة دراهم، وكان يثقل على العبد أن يزن كل يوم أربعة دراهم، فجاء إلى عمر يشكو سيده، وقال يا أمير المؤمنين: إن المغيرة قد أثقل علىَّ غلتي فكلمه يخفف عني، فقال له عمر: اتق الله وأحسن إلى مولاك، فغضب العبد وقال: وسع الناس كلهم عدله غيري، وأضمر على قتله واصطنع خنجراً له رأسان، وقيل: سكينا ذا طرفين وسمهما، ثم جاء إلى عمر - رضي الله عنه - وهو في صلاة الصبح وطعنه ثلاث طعنات فقال: قتلني أو أكلني الكلب، وطعن معه ثلاثة عشر رجلاً مات منهم تسعة، وقيل: سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه فصار إلى لعنة الله وغضبه قال عمر - رضي الله عنه -: قاتله الله لقد أمرته بمعروف، ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل يدعي الإسلام، ثم حمل عمر - رضي الله عنه - إلى منزله، وبقي ثلاثة أيام، وقيل: سبعة ومات - رضي الله عنه -. ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/166) .

وقال الشعبي رحمه الله تعالى: لما طعن عمر بن الخطاب أتى بلبن فشرب منه، فخرج اللبن من طعنته، فقال: الله أكبر وعلم أنه يموت، وجعل جلساؤه يثنون عليه خيراً، فقال: وددت أن أخرج منها كفافاً كما دخلت، لا عليَّ ولا ليَّ، والله لو كان لي اليوم ما طلعت الشمس لافتديت به من هول المطلع، ولما احتضر غشي عليه، وكان رأسه على الأرض، فوضع ولده عبد الله رأسه في حجره، فلما أفاق قال له: ضع رأسي على الأرض فقال ابنه: يا أبت هل الأرض وحجري إلا سواء، قال: ضع رأسي بالأرض كما أمرتك، فوضعه فمسح خديه بالتراب، ثم قال: ويل لعمر، ويل لأم عمر إن لم يغفر الله لعمر، فإذا قبضت فأسرعوا بي إلى حفرتي، فإنما هو خير تقدموني إليه، أو شر تضعونه عن رقابكم. ولما توفي - رضي الله عنه - أظلمت الأرض فجعل الصبي يقول: يا أماه أقامت القيامة؟ فتقول: لا يا بني ولكن قتل عمر. وقال علي - رضي الله عنه - لما مات: وآعمراه قوَّم الأود، وأبر العمد، ومات تقي الثوب، قليل العيب. وروي أنه لما احتضر قال لابنه: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك السلام عمر، ولا تقل أمير المؤمنين فإني اليوم لست للمؤمنين أميراً، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل ابنه عليه قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أُذنت، فقال: الحمد الله ما كان شيء أهم لي من ذلك، فإذا أنا قبضت فاحملوني ثم سلم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإن أذن لي فأدخلوني فإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. غسله ولده الزاهد عبد الله الأكبر، وهو أفضل أولاده، وكان له عشرة أولاد ذكور، وكفنه في ثوبين سجوليين، ودفنه بالحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام. وكان له من البنات حفصه، وزينب، تزوج رسول - رضي الله عنه - بنته حفصه سنة ثلاث من الهجرة، وكان الإسلام في حياته كالرجل المقبل لا يزد إلا قرباً، فلما قتل كان الإسلام كالرجل المدبر، لا يزداد إلا بعداً، ونظم بعضهم في هذا المعني فقال: لقد أصبح الإسلام فيه كآبة ... لفقدك يا فاروق يا سيدي عمر وقد كان في عز بوجهك مقبلاً ... فها هو قد ولى وها هو قد دبر

ويكفيك أن الله أعطاك فضله ... لقربك بعد الموت من سيد البشر ومن فضائله: أنه أول من يسلم عليه الحق جل جلاله يصافحه. أخرجه ابن ماجة عن أبي بن كعب (¬1) . ¬

(¬1) أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، من بني النجار، من الخزرج، أبو المنذر: صحابي أنصاري، كان قبل الإسلام حبراً من أحبار اليهود، مطلعاً على الكتب القديمة، يكتب ويقرأ - على قلة العارفين بالكتابة في عصره، ولما أسلم كان من كتاب الوحي، وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يفتي على عهده، وشهد مع عمر بن الخطاب وقعة الجابية، وكتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس، وأمره عثمان بجمع القرآن، فاشترك في جمعه، وله في الصحيحين وغيرهما 164 حديثاً. وفي الحديث: «أقرأ أمتي أبي بن كعب» ، وكان نحيفاً قصيراً أبيض الرأس واللحية. مات بالمدينة سنة:21هـ‍.

المجلس الرابع

المجلس الرابع في الكلام على حديث «إنما الأعمال بالنيات» وفيما يتعلق بالنية وفيما يتعلق بالهجرة ورأيت أن أفتح هذا المجلس بخطبة الألفية للعراقي للمناسبة وهي: الحمد لله الذي قبل بصحيح النية حسن العمل، وحمل الضعيف المتقطع على مراسيل لطفه فاتصل، ورفع من أسند في بابه، ووقف من شذ عن جنابه وانفصل، ووصل مقاطيع حبه، وأدرجهم في سلسلة حزبه، فسكت نفوسهم عن الاضطراب والعلل، فموضوعهم لا يكون محمولاً ومقلوبهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له الفرد الأول، وأن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسله والدين غريب فأصبح عزيراً مشهوراً واكتمل، وأوضح به معضلات الأمور، وأزال به منكرات الدهور الأُول، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، ما علا إسناده ونزل، وطلع نجم وأفل. قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي رحمه الله تعالى ورضي عنه: «حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ ... » . بكسر الميم مشتق من النبر، وهو الارتفاع، وهو بلفظ الآلة، لأنه آلة الارتفاع، والألف واللام فيه للعهد أي: منبر مسجد رسول الله - رضي الله عنه -، وكان عمل المنبر في السنة السابعة من الهجرة، وقيل: في السنة الثامنة، وهو أول منبر في الإسلام، والصانع له اسمه باقول، وقيل: باقوم، وقيل: إصباح، وقيل: إبراهيم، وقيل: تميم الداري، وكان درجتين والمقعد، فلما كان في خلافة معاوية بعث إلى مروان: أن ارفع المنبر فزاده ست درجات من أسفل، فلما كان في دولة بني العباس اتخذوا المنبر أمشاطاً للِّحى لأجل البركة من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال النووي: واتخاذ المنبر سنة، ويستحب أن يكون على يمين المحراب، قريباً منه. وذكر البخاري في هذا الإسناد لفظ: «حدثنا» في ثلاثة مواضع، وذكر في الرابع: «أخبرني» (¬1) ، وفي الباقي: «سمعت» إشارة إلى الفرق بينهما، وهو قول ¬

(¬1) أفاد السيوطي في تدريب الراوي (2/16) أن حدثنا وأخبرنا ليس بمعنى وهذا ما ذهب إليه عبد الله ابن المبارك ويحيى بن يحيى التميمي، وأحمد بن حنبل، والنسائي وغيرهم. قال الخطيب: وهو مذهب خلق كثير من أصحاب الحديث، وجوزها طائفة قيل: إنه مذهب الزهري ومالك وسفيان ابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري وجماعات من المحدثين، ومعظم الحجازيين والكوفيين كالثوري وأبي حنيفة وصاحبيه والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وأبي عاصم النبيل ووهب بن جرير وثعلب والطحاوي وألف فيه جزء. ومنهم من أجاز فيها سمعت ومنعت طائفة حدثنا وأجازت أخبرنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق، وقيل: إنه مذهب أكثر المحدثين، وروي عن ابن جريج والأوزاعي وابن وهب، وروي عن النسائي أيضاً وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث. وفي الفرق بين هذه الألفاظ قال طاهر الجزائري في توجيه النظر إلى أصول الأثر (2/691) : إن حدث المحدث جاز أن يقال: حدثنا، وإن قرئ عليه لم يجز أن يقال: حدثنا ولا أخبرنا، -وإنما يقول: سمعت-، وإن حدث جماعة لم يجز للمحدث عنه أن يقول: حدثني، وإن حدث بلفظه لم يجز أن يتعدى ذلك اللفظ، وإن كان قد أصاب المعنى. وقال الزركضي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (3/484) : وقال قوم: حدثنا دال على أنه سمعه لفظاً، وأخبرنا دال على سمع قراءة عليه، وهذا عندنا باب من التعمق والأمر في ذلك كله واحد ولا فرق بينهما عند العرب. وقال في موضع آخر (3/2485) : وذكر ابن العربي في المسالك: أن بعضهم قال: حدثنا أبلغ من أخبرنا لأن أخبرنا قد تكون صفة للموصوف والمخبر من له الخبر.

الجمهور من علماء الحديث، وإن سوى ابن عينيه بينهما. ومن لطائف هذا الإسناد أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض وهم: يحيى، ومحمد، وعلقمة، وقد يقع أطرف من هذا وهو أربعة من التابعين روي بعضهم عن بعض. وفي هذا الإسناد لطيفة أخرى وهي: أن أوله مكيان والباقي مدينون. قال (¬1) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّمَا الأعمال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . قال النووي: وقع هذا الحديث هاهنا وهو مختصراً وهو طويل مشهور ذكره البخاري في سبعة مواضع من كتابه، فذكره ههنا ثم في الإيمان، وفي النكاح، والعتق، والهجرة، وترك الحيل، والنذور. وقال غيره: إنه سقط من رواية البخاري هنا ما هو ثابت في بقية الروايات وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله» . وقال آخر: هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع غير هذا الموضع، من غير طريق الحميدي (¬2) ، فجاء به كاملاً لم يسقط منه شيء، إلا في هذا الموضع، فإنه جاء به مجزؤاً قد ذهب جزؤه (¬3) . ¬

(¬1) القائل سيدنا عمر راوي هذا الحديث. (¬2) الحميدي هو: عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي، أبو بكر: أحد الأئمة في الحديث، من أهل مكة، رحل منها مع الإمام الشافعي إلى مصر، ولزمه إلى أن مات، فعاد إلى مكة يفتي بها، وهو شيخ البخاري، ورئيس أصحاب ابن عيينة، روى عنه البخاري 75 حديثاً، وذكره مسلم في مقدمة كتابه، توفي بمكة سنة: 219هـ‍. (¬3) قضية إسقاط البخاري جزءاً في هذا الحديث تكلم عليها ابن حجر في الفتح (1/56) فقال: قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا» كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ... إلى آخره» . قال الخطابي: وقع هذا الحديث في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروماً قد ذهب شطره، ولست أدري كيف وقع هذا الإغفال، ومن جهة من عرض من رواته؟ فقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي مستوفى، وقد رواه لنا الأثبات من طريق الحميدي تاماً، ونقل ابن التين كلام الخطابي مختصراً. وفهم من قوله «مخروماً» : أنه قد يربد أن في السند انقطاعاً، فقال من قبل نفسه، لأن البخاري لم يلق الحميدي، وهو مما يتعجب من إطلاقه مع قول البخاري: «حدثنا الحميدي» وتكرار ذلك منه في هذا الكتاب، وجزم كل من ترجمه بأن الحميدي من شيوخه في الفقه والحديث. وقال ابن العربي في مشيخته: لا عذر للبخاري في إسقاطه لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام. قال: وذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدثه هكذا فحدث عنه كما سمع أو حدثه به تاماً فسقط من حفظ البخاري. قال: وهو أمر مستبعد جداً عند من اطلع على أحوال القوم. وقال الداودي الشارح: الإسقاط فيه من البخاري، فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك انتهى. وقد رويناه من طريق بشر بن موسى وأبي إسماعيل الترمذي وغير واحد عن الحميدي تاماً، وهو في مصنف قاسم بن أصبغ ومستخرجي أبي نعيم، وصحيح أبي عوانة من طريق الحميدي، فإن كان الإسقاط من غير البخاري فقد يقال: لم اختار الابتداء بهذا السياق الناقص؟ والجواب: قد تقدمت الإشارة إليه، وأنه اختار الحميدي لكونه أجل مشايخه المكيين إلى آخر ما تقدم في ذلك من المناسبة. وإن كان الإسقاط منه، فالجواب ما قاله أبو محمد على بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري: إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال: لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدراً يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله، فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته، ونكب عن أحد وجهي التقسيم، مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام. (انتهى ملخصاً) . وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أو لا، فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة، فراراً من التزكية، وأبقى الجملة المترددة المحتملة تفويضاً للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي له بمقتضى نيته. ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم، وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط، وإيثار الأغمض على الأجلى، وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره، استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متناً وإسناداً. وقد وقع في رواية حماد بن زيد، في باب الهجرة تأخر قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» عن قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها» ، فيحتمل أن تكون رواية الحميدي وقعت عند البخاري كذلك فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة، كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث. وعلي تقدير أن لا يكون ذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من أثنائه. وهذا هو الراجح، والله أعلم. وقال الكرماني في غير هذا الموضع: إن كان الحديث عند البخاري تاماً لم خرمه في صدر الكتاب، مع أن الخرم مختلف في جوازه؟ قلت: لا جزم بالخرم، لأن المقامات مختلفة، فلعله -في مقام بيان أن الإيمان بالنية واعتقاد القلب- سمع الحديث تاماً، وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك القدر الذي روي. ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه، ثم إن كان منه فخرمه، ثم لأن المقصود يتم بذلك المقدار. فإن قلت: فكان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله. قلت: لعله نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس. (انتهى) وهو كلام من لم يطلع على شيء من أقوال من قدمت ذكره من الأئمة على هذا الحديث، ولا سيما كلام ابن العربي. وقال في موضع آخر: إن إيراد الحديث تاماً تارة وغير تام تارة إنما هو اختلاف الرواة، فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم من أحد، ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي يناسب كلا منها بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له، (انتهى) وكأنه لم يطلع حديث أخرجه البخاري بسند واحد من ابتدائه إلى انتهائه، فساقه في موضع تاماً وفي موضع مقتصراً على بعضه، وهو كثير جداً في الجامع الصحيح، فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه، لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحاً، وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد يتصرف في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق، ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سنداً ومتناً في موضعين أو أكثر إلا نادراً، فقد عني بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعاً.

قال العلماء: وحديث «إنما الأعمال بالنيات» حديث صحيح مشهور، ومتفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلالته، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب. وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، قال أبو عبد الله (¬1) : ليس في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء أجمع ولا أكثر فائدة منه. فلهذا جعله بعضهم ثلث العلم، وبعضهم ربع العلم، وبعضهم خمس العلم، فمن جعله ثلث العلم إمامنا الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل وجماعة، ووجَّه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها (¬2) . ¬

(¬1) هو إمام أهل الحديث في عصره صاحب المذهب أحمد بن حنبل وستأتي في مجلس خاص عقده المصنف لترجمة أرباب المذاهب. (¬2) بين الحافظ قدر هذا الحديث وتكلم على تواتره في الفتح (1/49) فقال: وقال ابن مهدي أيضاً: يدخل في ثلاثين باباً من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين باباً. ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة، وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضاً: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب، ووجه البيهقي كونه ثلث العلم، بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد: «نية المؤمن خير من عمله» فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين. ثم إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ، مغتراً بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك. وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردوداً لكونه فرداً، لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيي بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه، وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني. وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال لكن بقيدين: أحدهما: الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما. ثانيهما: السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم: «يبعثون على نياتهم» ، وحديث ابن عباس: «ولكن جهاد ونية» ، وحديث أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» متفق عليهما، وحديث ابن مسعود: «رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته» أخرجه أحمد، وحديث عبادة: «من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى» أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره. وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل، نعم قد تواتر عن يحيي بن سعيد: فحكي محمد بن على بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيي مائتان وخمسون نفساً، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمائة، وروى أبو موسي المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى. قلت: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم.

فائدة: روى أبو يعلى الموصلي (¬1) في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله عز وجل للحفظة يوم القيامة اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: ربنا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو في صحفنا، فيقول: إنه نواه» (¬2) . ¬

(¬1) أبو يعلى هو: أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي، أبو يعلى: حافظ، من علماء الحديث، ثقة مشهور، نعته الذهبي بمحدث الموصل، عمر طويلاً حتى ناهز المائة، وتفرد ورحل الناس إليه وتوفي بالموصل سنة: 307هـ‍. له كتب منها: المعجم في الحديث، ومسندان كبير وصغير. (¬2) لم نقف عليه مرفوعاً ولم نقف عليه في النسخة التي بين أيدينا من مسند أبي يعلى، ووقفنا عليه من قول أبي عمران الجوني، رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/313) .

فقد دل هذا على وحدها عبادة مستقلة، وقد أنشد الشيخ الفاضل شهاب الدين ابن حجر العسقلاني لنفسه: إنما الأعمال بالنيات في ... كل أمر أمكنت فرصته فانو خيراً وافعل الخير فإن ... لم تطفه أجزأت نيته قال الدارقطني: أصول أحاديث الإسلام أربعة: حديث «إنما الأعمال بالنيات» ، وحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وحديث «الحلال بين والحرام بين» وحديث «ازهد في الدنيا يحبك الله» ، وقد نظم العلامة أبو الحسن الأشبيلي (¬1) هذه الأربعة فقال: عمدة الدين عندنا كلمات ... أربع قالهن خير البرية اتق الشبهات وأزهد ودع ما ... ليس يعنيك وأعملن بنية قال البرماوي: إنما صدر البخاري كتابة بحديث «إنما الأعمال» لأمور: أحدها: أنه مناسب للآية المذكورة في الترجمة لأنه أوحي لكل الأنبياء الأمر بالنية قال تعالى ? وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? [البينة: 5] والإخلاص: النية. ثانيهما: أن أول واجبات المكلف القصد إلى النظر الموصل إلى معرفة الله، فالقصد سابق دائماً. ثالثهما: بيان أن كل أمر ينبغي أن يكون بإخلاص ونية، حتى يكون مقبولاً منتفعاً به، فلذلك لما أخلص البخاري النية، وصفى الطوية، نفع الله بكتابه البرية. رابعها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدنية خطب بهذا الحديث، لأن مبدأ لكمال ظهوره ونصره، فناسب الابتداء بذكره في ابتداء الوحي إليه، وافتتاح إخلاص العمل لله تعالى، المستحق الجامع للمحامد (¬2) . ¬

(¬1) هو: سلام به عبد الله بن سلام، أبو الحسن الأشبيلي الباهلي: أديب أندلسي الأصل، من إشبيلية، صنف: الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق، كانت وفاته بعد سنة: 839هـ‍. (¬2) حديث إنما الأعمال صدر البخاري به كتابه، وأدخله في نفس الوقت في كتاب بدء الوحي وهو ما اعترض به البعض البعض على البخاري. يقول ابن حجر: وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي، وأنه لا تعلق له به أصلاً، بحيث أن الخطابي في شرحه، والإسماعيلي في مستخرجه، أخرجاه قبل الترجمة، لاعتقادهما أنه: إنما أورده للتبرك به فقط، واستصوب أبو القاسم بن منده صنيع الإسماعيلي في ذلك. وقال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف، وقد تكلفت مناسبته للترجمة، فقال: كل بحسب ما ظهر له. (انتهى) وقد قيل: إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب، لأن في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة، فإذا صلح أن يكون في خطبة المنبر، صلح أن يكون في خطبة الكتب. وحكى المهلب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب به حين قدم المدينة مهاجراً، فناسب إيراده في بدء الوحي، لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين، ويعقبه النصر والظفر والفتح. (انتهى) وهذا وجه حسن، إلا أنني لم أر ما ذكره -من كونه - صلى الله عليه وسلم - خطب به أول ما هاجر- منقولا. وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية ... الحديث» ، ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة، أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدل عليه، ولعل قائله استند إلى ما روي في قصة مهاجر أم قيس. قال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به، وهذا لو صح لم يستلزم البداءة بذكره أول الهجرة النبوية. انظر: فتح الباري (1/48) .

ولصدور هذا الحديث سبب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد صنف علماء كبار في أسباب الحديث، كما صنفوا في أسباب النزول للقرآن، والسبب في صدوره منه: أن رجلاً من أهل مكة خطب أمرأة بمكة تسمي أم قيس قبل أن يهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فلما عزم - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة عزمت المرأة أن تهاجر معه - صلى الله عليه وسلم - وآثرته على أهلها ووطنها، فلما خطبها الرجل أبت أن تتزوج به حتى يهاجر معها، فهاجر لا لوجه الله، بل لقصد أن يتزوج بها، وكان يسمي «مهاجر أم قيس» (¬1) . ¬

(¬1) انظر الفتح (1/17) .

وأم قيس التي هاجر الرجل لأجلها قالوا: يحتمل أن تكون أخت عكاشة، فإنها أسلمت بمكة، وهاجرت إلى المدينة، واسمها: آمنة، وقيل: جذامة، وكنيتها: أم قيس، وقيل: الذي هاجر الرجل لها كان اسمها: قيلة، وهي غير أخت عكاشة، وكانت تكنى أيضا: أم قيس. وأما الرجل المهاجر فقال ابن حجر وغيره (¬1) : لم نقف على اسمه بل كان يسمى مهاجر أم قيس لعله للتستر عليه لم يعينوه. فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وصل إلى المدينة، وجلس على المنبر فقال مخاطباً بالخطاب العام، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يواجه أحداً بما يكره: «يا أيها الناس إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» . واستشكل العلماء كون النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب على المنبر أول قدومه بأن المنبر إنما اتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة في سنة سبع، وقيل: ثمان، وأجيب: بأن الاستشكال بأن المراد بالمنبر ما كان يخطب عليه إذ ذاك، وهو غير المعروف الذي اتخذه آخراً. والكلام في هذا المجلس على شطر الحديث وهو: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» والكلام على شطره الثاني يأتي في المجلس الآتي. فقوله «إنما الأعمال بالنيات (¬2) ، وإنما لكل امرئ ما نوى» جملتان أفادت الجملة ¬

(¬1) أوضح ابن حجر في الفتح (1/48) رواة قصة مهاجر أم قيس فقال: وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد من منصور قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال: من هاجر يبتغي شيئاً فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس. ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك. وأيضا فلو أراد البخاري إقامته مقام الخطبة فقط إذ الابتداء به تيمناً وترغيباً في الإخلاص، لكان سياقه قبل الترجمة كما قال الإسماعيلي وغيره. (¬2) بين ابن حجر في الفتح (1/51) الاختلاف الواقع في هذه الجملة فقال: قوله: «إنما الأعمال بالنيات» كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كل عمل بنيته. وقال الخوبي: كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده. ووقع في معظم الروايات بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها، بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد للواحد الذي لا شريك له، ووقعت في صحيح ابن حبان بلفظ: «الأعمال بالنيات» بحذف «إنما» وجمع الأعمال والنيات، وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي، ووصله في مسنده كذلك، وأنكره أبو موسى المديني، كما نقله النووي وأقره، وهو متعقب برواية ابن حبان، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ: «الأعمال بالنية» ، وكذا في العتق من رواية الثوري، وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد، ووقع عنده في النكاح بلفظ: «العمل بالنية» بإفراد كل منهما. كما أوضح ابن حجر معنى الباء في قوله: «بالنيات» فقال: قوله: «بالنيات» الباء للمصاحبة، ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى: أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله، قال النووي: النية: القصد، وهي: عزيمة القلب. وتعقبه الكرماني: بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد. وأوضح أيضاً معني الألف واللام في نفس الكلمة فقال: الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلاً صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضاً أو نفلاً، ظهراً مثلاً أو عصراً، مقصورة أو غير مقصورة. وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث. والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلاً ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم. انظر فتح الباري (1/53، 54) .

الأولى: أن الأعمال لا يترتب عليها الثواب والعقاب إلا بالنية، وأفادت الثانية: اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائت فقط، بل لابد من تعينها ظهراً مثلاً أو عصراً (¬1) . ¬

(¬1) هذه الجملة الثانية لم يتعرض لها السفيري بالشرح والحافظ ابن حجر الذي له اليد الطولى في شرح البخاري شرحها شرحاً بديعياً فإنه فرق بين «إنما» في الجملة الأولى «وإنما» في الجملة الثانية فقال: قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» قال القرطبي: فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة. وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى، لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك. والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه. وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئاً يحصل له -يعني إذا عمله بشرائطه- أو حال دون عمله له ما يعذر شرعاً بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصل له، ومراده بقوله: «ما لم ينوه» أي: لا خصوصاً ولا عموماً، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصاً لكن كانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء، ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى. وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلي الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد، فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها، لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة، فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح، لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه، بخلاف تحية المسجد والله أعلم. وقال النووي: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة، لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهراً مثلاً أو عصراً، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة. وقال ابن السمعاني في أماليه: أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة. وقال غيره: أفادت أن النيابة لا تدخل في النية، فإن ذلك هو الأصل، فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره، فإنها على خلاف الأصل. وقال ابن عبد السلام: الجملة الأولي لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها، وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له، كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة. ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثواباً. ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقاً، أي المجرد عن التفكر. قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب (انتهى) . ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: «في بضع أحدكم صدقة» ثم قال في الجواب عن قولهم «أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟» قال: «أرأيت لو وضعها في حرام» . وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده. وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة، فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة فإن عدتها تنقضي، لأن المقصود حصول براءة الرحم وقد وجدت، ومن ثم لم يحتج المتروك إلى نية. ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ محيي الدين كون المتروك لا يحتاج إلى نية: بأن الترك فعل وهو كف النفس، وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من قصد الترك، وتعقب بأن قوله: «الترك فعل» مختلف فيه، ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه. وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها؟ والذي أورده استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها؟ والتفاوت بين المقامين ظاهر، والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفاً من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد، والله أعلم. فائدة: قال الكرماني: إذا قلنا: إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» نوعان من الحصر: قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه، والتقديم المذكور. انظر: فتح الباري (1/55، 56) .

واتفق العلماء المحققون على «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» تركيب مفيد للحصر، وأن معناه لا عمل بالنية، ولكن اختلفوا على استفادته من

الأعمال، لأنه جمع، واللام فيه للاستغراق، وهو مستلزم للحصر، إذ معناه: كل عمل بالنية فلا عمل إلا بالنية، ولا يصدق كل عمل بالنية، وإنما على هذا القول لا تفيد إلا التأكيد، وهذا مثل: صديقي زيد، فإن الحصر فيه مستفاد من عموم المبتدأ المضاف إلى المعرفة وخصوص خبره، و «إنما الأعمال بالنيات» الحصر فيه من عموم المبتدأ باللام وخصوص خبره. وقيل: الحصر فيه من «إنما» ، وهو حصر المبتدأ في الخبر، ويعبر عنه البيانيون بقصر الموصوف على الصفة، وربما عبروا عنه بقصر المسند إليه على المسند. والقول بأن «إنما» تفيد الحصر هو ما ذهب إليه الأكثرين، ونقله البلقيني عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير منهم أن «إنما» تفيد الحصر استعمالها موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى ?إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ? [التحريم: 6] وقوله ?أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ? [المائدة: 92] وقال: ?مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ? [المائدة: 99] . وهل «إنما» تفيد الحصر بالمنطوق وبالمفهوم قولان، الأكثر على أنها تفيده بالمنطوق قاله ابن السبكي. وقال شرذمة قليلون: «إنما» تفيد بالمفهوم. ومعنى الحصر في «إنما» إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه أي: أن العبادة إذا صحبتها النية صحت، وإذا لم تصحبها لم تصح (¬1) . ¬

(¬1) زاد ابن حجر على هذا المبحث المتعلق بإنما مسائل مهمة فقال في الفتح (1/52) : واختلفوا: هل هي بسيطة أو مركبة، فرجحوا الأول، وقد يرجح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم: إن «إن» للإثبات و «ما» للنفي، فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد، بأن يقال مثلاً: أصلهما كان للإثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما، بل أفادا شيئا آخر. أشار إلى ذلك الكرماني قال: وأما قول من قال: إفادة هذا السياق للحصر، من جهة أن فيه تأكيداً بعد تأكيد، وهو المستفاد من «إنما» ومن الجمع. فمتعقب بأنه من باب إيهام العكس، لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد، ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر. وقال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة «إنما» للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث: «إنما الربا في النسيئة» ، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر. وتُعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا. وأما من قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله: «لا ربا إلا في النسيئة» لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه. وأوضح من هذا حديث: «إنما الماء من الماء» فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث: «إذا التقى الختانان» . وقال ابن عطية: «إنما» لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازاً يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وأن أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص، كقوله تعالى: ? إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ? [المائدة: 171] فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدرة، إلى غير ذلك من الأمثلة، وهي -فيما يقال- السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقاً.

فإن قيل: إن ظاهر الحديث يقتضي أن ذات العمل تنتفي عند انتفاء النية، وقد يوجد العمل ولا نية، إذ قد يفعل الإنسان العبادة بلا نية؟ فالجواب: أن ظاهر الحديث متروك، لأن الذوات غير منتفية، بل المراد أحكامها كالصحة، فلابد من تقدير مضاف. واختلف العلماء في تقديره فالذين اشترطوا النية مطلقاً كالإمام الشافعي وكثير من العلماء قدروا لفظ صحته فقالوا: إنما صحة الأعمال بالنيات ليفيد أن الأعمال لا تصح عند انتفاء النية، ورجح هذا التقدير على غيره من المفردات، لأن الأقرب لنفي حقيقة الشيء نفي صحته، وإن كان الكل مجازاً، والذين لم يشترطوا النية في الوسائل كأبي حنيفة قدروا لفظ «كمال» فقالوا: إنما كمال الأعمال بالنيات، قالوا: نفي الصحة يستدعي نفي الكمال وغيره فيكثر المجاز، بخلاف تقدير كمال فإنه تقليل المجاز، قال البرماوي: وضعف بأن نفي الكمال إنما هو بعد وجود الصحة، فليس في تقدير نفي الصحة إلا مجاز واحد. فإن قيل: إن قوله «إنما الأعمال بالنيات» يقتضي أن كل عمل يحتاج إلى نيات لا يكفيه نية واحدة، وليس كذلك. فالجواب: أن هذا من قبل مقابلة الجمع بالجمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد أي: إنما كل عمل بنية، وهي قاعدة مفردة في كتب الأصول، يتخرج عليها كثير من المسائل.

قال الكرماني (¬1) : فإن قلت: النيات جمع قلة كالأعمال، وهي للعشرة فما دونها، لكن المعنى: إن كل عمل إنما هو بنية سواء كان قليلاً أو كثيراً. قلت: الفرق بالقلة والكثرة إنما هو في النكرات لا في المعارف. سؤال: فإن قيل: أهل النية أفضل من العمل أو العمل أفضل من النية؟ الجواب: قيل: العمل أفضل لأن نية الحسنة يثاب عليها حسنة واحدة، والفعل الحسن يثاب عليه عشرة، وما يثاب عليه عشرة أفضل مما يثاب عليه واحدة، ويدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة» (¬2) . واستشكل هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «نية المؤمن خير من عمله» (¬3) فإنه يدل على أن النية أفضل من العمل. وأجيب عنه بأجوبة منها: أن المراد بهذا الحديث أن النية وحدها خير من عمل بلا نية إذ لو كان المراد خير من عمله مع النية، يلزم أن يكون الشيء خيراً من نفسه مع غيره، والقائل تفضيل العمل على النية مراده: العمل مع نيته أفضل من مجرد النية. وقيل: إن هذا الحديث ورد على سبب وهو أن شخصاً من المسلمين نوى بناء ¬

(¬1) هو: محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني ثم البغدادي شمس الدين، الإمام العلامة في التفسير والحديث والفقه، كانت ولادته في سنة سبع عشرة وسبعمائة في شهر جمادي الآخرة، من مصنفاته: شرح البخاري، وشرح المواقف، وشرح مختصر ابن الحاجب، وأنموذج الكشاف، وحاشية على تفسير البيضاوي إلى سورة يوسف، وكانت وفاته في طريق الحج في شهر محرم سنة ست وثمانين وسبعمائة، ثم نقل نعشه إلى بغداد ودفن في قرب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. انظر: طبقات المفسرين (1/298) ، وشذرات الذهب (3/294) ، وطبقات الشافعية (3/180، ترجمة: 707) ، والنجوم الزاهرة (11/303) . (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/279، رقم 2519) عن ابن عباس. ورواه ابن حبان في صحيحه (14/45، رقم 6171) خلال قصة عن خريم بن فاتك الأسدي، وكذا الطبراني في المعجم الكبير (4/206، رقم 4152) . (¬3) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6/185، رقم 5942) ، والديلمي في مسند الفردوس (4/285، رقم 6842) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/255) ، والخطيب في تاريخ بغداد (9/237) عن سهل بن سعد الساعدي. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/61) : رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون إلا حاتم بن عباد بن دينار الجرشي لم أر من ذكر له ترجمة. ونقل المناوي في فيض القدير (6/292) كلام الهيثمي وزاد عليه فقال: وأطلق الحافظ العراقي أنه ضعيف من طريقه. وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1/119، رقم 148) عن النواس بن سمعان الكلابي، وضعفه ابن حجر في فتح الباري (4/219) .

قنطرة على ساقية، يتضرر منها المارون فسبقه كافر فبناها، فعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: «نية المؤمن خير من عمله» أي: من عمل الكافر، ولا يلزم منه تفضيل نية المؤمن على عمله، وإنما تفضيل عمله على عمل الكافر. قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي: وكون هذا الحديث ورد على هذا السبب باطل لا أصل له. وذهب بعضهم إلى أن النية أفضل من العمل وقال: لأن العمل يدخله رياء بخلاف النية، ولأن النية فعل القلب، وفعل الأشرف أشرف، ولأن تخليد الله تعالى المؤمن في الجنة ليس بعمله، وإنما هو بنيته، إذ لو كان بعمله لكان خلوده فيها بقدر عمله، إلا أنه جازاه بنيته لأنه كان ناوياً أن يطيع الله أبداً، فلما اخترمته منيته دون نيته جازاه عليها فخلده أبداً، وكذا الكافر لو كان مجازى بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر كفره، فلما إن نوى أن يقيم على كفره أبداً لو بقي فجازاه على نيته، وخلده أبداً. فإن قلت: هل السيئة كالحسنة في أنه يعاقب عليها بمجرد النية كما يثاب على الحسنة بنيتها. فالجواب: أن الكرماني قال: المشهور أنه لا يعاقب عليها بمجرد النية، واستدلوا بقوله تعالى ? لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ? [البقرة: 286] فإن اللام للخبر، فجاء بالكسب الذي يحتاج إلى تصرف، بخلاف على فإنها لما كانت للشر جاء فيها بالاكتساب الذي لابد فيه من التصرف والمعالجة. ثم قال الكرماني: ولكن الحق أن السيئة أيضاً يعاقب عليها، بمجرد النية لكن على النية لا على الفعل، حتى لو عزم أحد على ترك صلاة بعد عشرين سنة يأثم في الحال وإن لم يتحقق ذلك أي: ترك الصلاة، لأن العزم من أحكام الإيمان، ويعاقب على العزم لا على ترك الصلاة. والفرق بين الحسنة والسيئة: أنه بنية الحسنة يثاب الناوي على الحسنة، وبنية السيئة لا يعاقب عليها بل على نيتها (¬1) . ¬

(¬1) وقبل أن نمضي مع المصنف في السبعة أسئلة التي يتكلم عليها بعد هذا الموطن نسأل هل ينوي العبد للأقوال كما ينوي للأعمال كما هو ظاهر من لفظ الحديث؟ يقول ابن حجر: قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها، وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل، وقد تعقب على من يسمي القول عملاً لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملاً فقال قولاً لا يحنث. وأجيب: بأن مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمى عملاً في العرف ولهذا يعطف عليه. والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازاً، وكذا الفعل، وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل. والمعرفة: وفي تناولها نظر، قال بعضهم: هو محال لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفاً قبل المعرفة. وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله: إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلاً بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالاً. انظر: فتح الباري (1/54) .

وههنا سبع سؤالات متعلقة بالنية نظمها الشيخ ولي الدين العراقي فقال: سبع سؤالات لذي فهم أنت ... تحكي لكل عالم في النية حقيقة حكم محل زمن ... وشرطها والقصد والكفية الأول: يقال ما حقيقة النية؟ ويجاب: إن حقيقة النية لغة: انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مألاً، والشرع: خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتعاء رضا الله تعالى وامتثال حكمه. والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده. وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل (¬1) . ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/53) : والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل، والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، إذ التقدير: لا عمل إلا بالنية، فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة. وقال شيخنا شيخ الإسلام: الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله في الحديث: «فمن كانت هجرته ... » إلى آخره. وعلي هذا يقدر المحذوف كوناً مطلقاً من اسم فاعل أو فعل. ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال.

الثاني: يقال: ما حكم النية، هل هي ركن أو شرط؟ والجواب: جمهور الفقهاء على أنها ركن لأنها داخل العبادة. وذهب جماعة على أنها شرط وإلا لافتقرت إلى نية أخرى، كما في أجزاء العبادة، والأولون أجابوا عن ذلك بلزوم التسلسل. وفصل شيخ الإسلام ابن حجر بأن إيجادها أول العمل ركن، واستصحابها حكماً لأنه لا يأت بمناف لما شرط (¬1) . والثالث: يقال ما محل النية؟ ويجاب: بأنها محل القلب في كل موضع، فلا يكفي التلفظ بها باللسان مع غفلة القلب، ولا يشترط التلفيظ مع القلب، بل القلب كافٍ لكن يستحب أن يتلفظ بما ينوي بقلبه ليساعد اللسان القلب، فلو نوى بقلبه وتلفظ بلسانه واختلف اللسان القلب فالعبرة بما في القلب، فلو أراد الإنسان أن يصلي الظهر فنوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر، صحت صلاته إذ العبرة بما في القلب، فلو نوى في هذه الصورة بقلبه العصر وبلسانه الظهر لم تصح عملاً بما القلب، ولو سبق لسان الإنسان إلى اليمين بلا قصد كأن قال: والله اشتريت ولم يكن اشترى لا ينعقد يمينه، ولا يلزمه كفاره يمين، وكذا لو قصد الحلف على شيء فسبق اللسان إلى غيره، هذا في الحلف بالله، أما إذا سبق اللسان إلى الحلف بالطلاق، فإنه يقع ولا يقبل قوله: «سبق لساني إليه» بلا قصد ظاهر لتعلق حق الغير، ومثله العتق فلو سبق لسان السيد إلى العتق كأن قال لعبده: «أنت حر» بلا قصد فإنه يعتق، ولو حلف الإنسان أن لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه، فإنه لا يحنث قال للكل سلام عليكم ونوى بقلبه إلا فلاناً، بخلاف ما لو حلف أن لا يدخل على زيد فدخل على ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/53) : واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط؟ والمرجح أن إيجادها ذكراً في أول العمل ركن، واستصحابها حكماً بمعنى: أن لا يأتي بمناف شرعاً شرط، ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقيل: تعتبر، وقيل: تكمل، وقيل: تصح، وقيل: تحصل، وقيل: تستقر. قال الطيبي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع، لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع، فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي. وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مآلاً، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه.

قوم هو فيهم واستثناه بقلبه، وقصد الدخول على غيره فإنه يحنث في الأصح، والفرق أن الدخول لا يدخله الاستثناء، إذا لا ينتظم أن يقال: «دخلت عليكم إلا على فلان» ، ويصح: «سلمت عليكم إلا على فلان» . وذكر العلماء الشافعية صور لا تكفي فيها النية بالقلب، بل لابد فيه من التلفيظ بها ما لو نوى النذر بقلبه لا ينعقد. ومنها: ما لو نوى الطلاق بقلبه ولم يتلفظ به لم يقع عليه. ومنها: ما لو اشترى شاة بنية الأضحية لم تصر أضحية حتى يتلفظ. ومنها: ما لو قال: أنت طالق ونوى بقلبه إن شاء الله وما تلفظ، وقع عليه الطلاق لا يقبل قوله: «أردت إن شاء الله» . الرابع: يقال: ما زمن النية؟ ويجاب: بأن العبادات بالتسمية إلى النية على ثلاثة أقسام قسم تجب النية في أوله كالوضوء والغسل، وقسم تجب فيه تقديم النية عليه كالصوم الواجب لابد فيه من إيقاع النية ليلاً قبل الفجر، فلو نوى مع الفجر لم يصح في الأصح، وقسم يجوز فيه تأخير النية عن أوله كالصوم المندوب، فإنه يجوز فيه تأخير النية إلى قبيل الزوال، ويجوز في الزكاة تقديم النية فيها على الدفع للمستحقين، فإذا عزل الإنسان شيئاً من ماله بنية الزكاة ثم دفعه بعد ذلك لأربابه لا يشترط إعادة النية، ولا إعلام المستحق أنه زكاة حال الدفع. الخامس: يقال: ما شروط النية؟ ويجاب بأن شروط أربعة: الأول: الإسلام، فلا يصح العبادات من كافر لعدم صحة نيته، نعم لنا صور تصح من كافر فيها النية من الكافر منها: الذمية تحت المسلم إذا حاضت وانقطع دمها فلا يحل الزوج وطئها حتى تغتسل، فإذا اغتسلت ونوت صحت نيتها، وغسلها للضرورة، ومنها: الكفارة تصح من الكافر ولابد فيها من النية، ويصح منه. الشرط الثاني: التمييز، فلا تصح عبادة صبي لا يميز ولا مجنون إذ لا نية لهما، نعم لنا صور تصح فيها عبادة غير المميز منها: الطفل في الإحرام بالحج إذا حرم عند وليه، ففي الطواف يوضأه وليه وينوي عنه، والمجنونة في الحيض إذ طهرت يغسلها سيدها وينوي عنها.

الشرط الثالث: العلم بالمنوي، فلو جهل فرضيه العبادة كفرضيه الوضوء أو الصلاة لا يصح منه فعلها. الشرط الرابع: أن لا يأتي بمناف للنية فلو ارتد في أثناء الصلاة أو الصوم أو غيرهما بطل ببطلان نيته أو في أثناء الوضوء أو الغسل لم يبطل ما فعل منها، فلو فعل شيئًا في زمن الرده لم يحسب، فإن عاد إلى الإسلام بني على ما تقدم، ولو ارتد بعد الفراغ من الوضوء والغسل لم يبطل أو بعد التيمم بطل لضعفه. السؤال السادس: يقال: ما العبادة التي يجب تعينها؟ ويجاب: بأن التعين واجب فيما يلتبس من العبادات دون غيره، ودليل وجوب التعين من الحديث قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» أي: ما عين لأن أصل النية فهم من أول الحديث فيجب تعيين النية في الفرائض لتساوي الظهر والعصر صورة وفعلاً فيميز بينهما إلا التعيين. ويجب في الرواتب التي مع الفرائض بأن يضيفها إلى الفرائض، ويجب التعيين في العيدين، في عيد الفطر بأن يضيفه إلى الفطر، وفي عيد الأضحى بأن يضيفه إلى الأضحى أوالنحر، وكذلك يجب التعيين في التراويح، والضحى، والوتر، والكسوف، والاستسقاء، وكذلك ركعتا الإحرام، والطواف، بخلاف تحية المسجد وسنة الوضوء، فإذا قال داخل المسجد والمتوضئ: أصلي ركعتين لله تعالى كفى، وإن لم يقل تحية المسجد أو سنة الوضوء. السؤال السابع: يقال: ما كيفية النية؟ ويجاب: بأن الكيفية تختلف باختلاف العبادات، فالوضوء لنيته كيفية، والغسل لنيته كيفية، والصلاة لنيتها كيفية، وسيأتي بيان ذلك في محله إن شاء الله تعالى. وقد دل هذا الحديث الجليل على فوائد كثيرة فإنه يدخل في سبعين باباً من الفقه كما قاله الإمام الشافعي، ففيه دليل على أن الطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم لا يصح إلا بالنية، وهو مذهب إمامنا الشافعي، وعند أبي حنيفة لا تجب النية في الوضوء والغسل، واحتج على ذلك بأن كل واحد منهما ليس مقصود النفس، لأن المقصود به النظافة فأشبه إزالة النجاسة، وعموم الحديث يرد عليه. وفيه دليل على اشتراط النية لسجود التلاوة لأنه عبادة.

وفيه دليل أن المتوضئ إذا نوى عند غسل الوجه يحصل له ثواب السنن السابقة وهو الأصح عندنا. وفيه رد على زفر حيث ذهب إلى أن صيام رمضان لا تشترط فيه النية للصحيح المقيم، لتعين الزمان. وفيه دليل على أن المطلق إذا أطلق بصريح لفظ الطلاق ونوى عدداً وقع ما نواه، وهو مذهب الشافعي ومالك وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقع إلا واحدة. وفيه دليل وحجة لمالك في إسقاط الحيل كمن باع ماله قبل الحول فراراً من الزكاة، فإنها لا تسقط عنه عند مالك لهذا الحديث. وتحرير القول في هذه المسألة أن الإنسان إذا ملك نصاباً ثم احتال في إسقاط الزكاة عنه بحيلة، بأن باع المال الزكوي أو ملكه لأحد من أولاده مثلاً قبل أن يحول عليه الحول ثم استرده فهل هذا الإسقاط مكروه أو حرام أو مباح؟ في المسألة خلاف عندنا قال الرافعي والنووي: إنه مكروه كراهة تنزية وليس بحرام، وتسقط الزكاة عنه. قال ابن الصلاح: إن المحتال في إسقاط الزكاة يأثم بقصده لذلك لا بفعله وتسقط عنه. وقال حجة الإسلام الغزالي (¬1) : لا يبرأ ذمته في الباطن ولكن تبرأ في الظاهر قال بعض المتأخرين: وهو المختار. وجزم بالتحريم جماعة، وقد نقل النسفي (¬2) في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام لله تعالى بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق. وتدخل النية في الوطء، فإذا وطئ زوجتة أو أمته، على ظن منه أنها أجنبية يزني بها عصي ولا يعاقب عليه في الآخرة عقاب المجترئ على معاصي الله تعالى المخالف لأمره، وكذا لو أقدم على شراب على ظن منه أنه خمر، أو أقدم على استعمال ملكه على ظن أنه لأجنبي فإنه يأثم اعتباراً بنيته، ويحرم عليه حكم الفاسق كما قاله ابن عبد السلام لجرأته على الله، بخلاف ما لو وطئ امرأة أجنبية على ظن أنها زوجته أو أمتة فلا أثم عليه، ولو شرب خمراً على ظن أنه شراب حلال مثلاً فإنه لا يأثم عملاً بنيته. فائدة: سئل بعض العلماء عمن يجامع زوجته ويفكر في حالة الجماع في غيرها ¬

(¬1) الغزالي هو: محمد بن محمد بن أحمد الطوسي المعروف بالغزالي، ولد بطوس سنة (450هـ) وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكان له في طوس، وهو صوفي، متكلم، أصولي، فقيه شافعي، درس منذ صغره العلم وبرع في الجدل والكلام والفلسفة والمنطق وذلك عندما قدم نيسابور والتقى بها بإمام الحرمين الجويني، الذي اعتني به لما ظهر نبوغه ووصفه بأنه «البحر المغدق» ، ولازم إمام الحرمين إلى وفاته سنة (478هـ) ، ثم رحل إلى بغداد واشتهر بها ودرس بها الفقه والأصول، وظهر له أعداء في بغداد وهم الباطنية فكانوا يترصدونه لما أبطل مذهبهم وأبطل أدلتهم، ومكث في بغداد سنوات ثم خرج منها إلى مكة ثم إلى المدينة فدمشق فالأسكندرية ثم عاد إلى بغداد ثم رجع إلى نيسابور بعد مكوثه في هذه الأسفار مدة عشر سنوات وكان ذلك سنة (498هـ) ، وكان رجوعه بأمر من الوزير فخر الملك علي بن نظام الملك الذي كان وزيراً في نيسابور لسنجر حاكم خراسان، بعد أن ألح عليه في الرجوع للتدريس بالنظامية ولبي الغزالي طلبه ورجع. وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة (505هـ) ، وله من التصانيف الكثير منها: إحياء علوم الدين، الأربعين في أصول الدين، الاقتصاد في الاعتقاد، بداية الهداية، تهافت الفلاسفة. انظر: طبقات الشافعية للسبكي (4/102وما بعدها) ، البداية والنهاية (12/173 – 174) . (¬2) النسفي هو: أبو البركات، حافظ الدين، عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، فقيه، حنفي، مفسر، من أهل إيذج من كور أصبهان، نسب إلى نسف من بلاد السند من تصانيفه: مدارك التنزيل، وهو تفسيره المشهور بتفسير النسفي، وله كنز الدقائق، وله الوافي في الفروع على مذهب الحنفية، وشرحه في الكافي الذي نقل عنه المصنف. وكانت وفاته بإذج سنة (701هـ) . انظر: الدرر الكامنة (2/247) ، ووفيات الأعيان (1/392) ، ومفتاح السعادة (2/19) ، وكشف الظنون (2/1997) .

حتى يتخيل أنه يطئ الأجنبية، هل يأثم بذلك فاعله أويستحب له أن يفعل ذلك لحديث: «إذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه» (¬1) . فأجاب: بأنه لا يحرم عليه ذلك، ولا يؤاخذ به لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها» (¬2) ولكن يكره ذلك، والله أعلم قاله الدميري (¬3) . وفيه دليل على أن ما ليس بعمل تشترط فيه النية كالتروك مثل ترك الزنا والخمر وباقي المعاصي، نعم إذا أراد تحصيل الثواب ولابد له من القصد، فمن ترك الزنا مثلاً بعد أن خطر على باله خوفاً من الله يثاب على هذا الترك، أما من لم يقصد ترك المعصية لا يثاب على تركها فمن لم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس كمن خطر في نفسه عنها خوفاً من الله. وفيه دليل على أن النجاسة لا تجب إزالتها وهو الأصح لأنه من باب التروك (انتهى) . وفيه دليل على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكارم الأخلاق حيث لم يصرح بالإنكار على من هاجر لأجل المرأة، بل أورده مورد الإيهام كقوله في حديث آخر: «ما بال أقوام يفعلون كذا» (¬4) وهذا من مكارم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/1021، رقم 1403) ، وأحمد في مسنده (3/348، رقم 14786) ، والطبراني في المعجم الأوسط (9/38، رقم 9073) من حديث جابر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2020، رقم 4968) ، ومسلم في صحيحه (1/116، رقم 127) ، والترمذي في سننه (3/489، رقم 1183) ، وأبو داود في سننه (2/264، رقم 2209) ، والنسائي في سننه (6/156، رقم 3433) ، وابن ماجه في سننه (1/658، رقم 2040) ، وأحمد في مسنده (2/425، رقم 9494) ، وأبو يعلى مسنده (11/278، رقم 6390) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (4/85، رقم 18062) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/82، رقم 6) ، والطيالسي في مسنده (ص: 322، رقم 2459) ، والحارث في مسنده (1/163، رقم 19) ، وابن منده في الإيمان (ص: 475، رقم 349) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/282) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/167، رقم 1114) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7/350، رقم 14830) جميعاً عن أبي هريرة. (¬3) الدميري هو: بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز، أبو البقاء، تاج الدين السلمي الدميري القاهري، فقيه انتهت إليه رياسة المالكية في زمنه، مصري نسبته إلى ميرة قرية قرب دمياط ومولده بها سنة: 734هـ‍،. أفتى ودرس وناب في القضاء بمصر، واستقل به سنة 791 – 792، وتوجه مع القضاة إلى الشام لحرب الظاهر وعاد الظاهر، فعزله بعد أن طعن في صدره وشدقه، وكان محمود السيرة لين الجانب، كثير البر، انتفع به الطلبة ولاسيما بعد صرفه عن القضاء. له كتب منها: الشامل على نسق مختصر خليل في الفقه، وقام بشرحه بعد ذلك، والمناسك في مجلدة، و (شرح) في ثلاثة مجلدات، وشرح مختصر خليل في الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح ألفية ابن مالك، والدرة الثمينة منظومة في نحو 3000 بيت، وشرحها، اطلع السخاوي على بعض هذه الكتب بخطه، وكانت وفاته سنة: 805هـ‍. (¬4) هذا ما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل النصيحة في الملأ بدون تصريح بالذين يقومون بالفعل المخالف الذي على أثره أتت النصيحة منه - صلى الله عليه وسلم -، وهو تعليم سديد ومنهج رشيد وأسوة حسنة، وكتب السنة فيها الأمثلة الكثيرة لذلك نحو ما رواه البخاري في صحيحه (2/981، رقم 2584) في قصة عن عائشة رضي الله عنها وفيه أنها قالت: ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط» . ونحو ما رواه مسلم في صحيحه (2/1020، رقم 1401) في قصة النفر الذين سألوا أزواج عن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقصة رواها سيدنا أنس بن مالك وفيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمع كلام النفر، حمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .

وفيه دليل على استجاب التخلق بمكارم الأخلاق، وما أحسن قول الشيخ برهان الدين القيراطي حيث قال: بمكارم الأخلاق كن متخلقا ... ليفوح مسك ثنائك العطر الشذي وانفع صديقك إن صدقت صدقه ... وادفع عدوك بالتي فإذا الذي وفيه دليل على أنه يستحب الستر على من وقع منه منكر. وفيه دليل على أنه لا بأس للخطيب أن يورد أحاديث في أثناء الخطبة. وفيه دليل على أن الإمام الأعظم يستحب له أن يخطب عند الأمور المهمة وتعليم الحكم المهمة، لأنه أبلغ في الإشاعة والإشتهار. واستدل الحديث بعضهم على وجوب النية على غاسل الميت، وهو وجه عندنا، والأصح في النية لا تجب على الغاسل، بدليل أنه لو غسله كافر عندنا صح، وهو ليس من أهل النية. وفيه دليل وحث على الإخلاص في النية، والإخلاص من أعمال القلب والفرق بينه وبين النية أن النية تتعلق بفعل العبادة، والإخلاص يتعلق بإضافه العبادة إلى الله تعالى فالنية لابد منها في صحة العمل، وأما الإخلاص فليس يتعين، فمن صلى ونوى ولم يضف الصلاة إلى الله تعالى صحت صلاته، لأن العبادة لا تكون إلا لله سواء أضافها إليه أم لا، نعم الإخلاص مع النية أكمل من النية وحدها. وأما الرياء فقد قال العراقي في «الفروق» : إنه حرام محصل للإثم ومبطل لثواب العبادة. الرياء على قسمين: أحدهما: أن يعمل الذي أمره الله ويقصد به وجه الله تعالى وأن تعظمه الناس أو بعضهم. ثانيهما: أن يعمل الذي أمره الله ولا يريد وجه الله تعالى بالنية بل الناس فقط،

ويسمى القسم الأول: رياء الشرك لأنه للخلق وللحق، والثاني: رياء الإخلاص لأنه لا شريك فيه بل هو خالص للخلق، ومقصود المرائي يعمله ثلاثة أشياء: تعظيم الخلق له، وجلب المنافع الدنيوية له، ودفع المضار الدنيوية عنه. وإنما كان حراماً لأنه شرك وتشريك مع الله في طاعته، وقد صح في صحيح مسلم وغيره: «إن الله تعالى يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته له، أو تركته لشريكي» (¬1) فهذا الحديث ظاهر في عدم الاعتداد بذلك العمل عند الله تعالى. وقد نقل أنه يقال يوم القيامة للمرائي بعمله: خذ ثواب عملك ممن كنت تعمل لأجلهم وهو حديث رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقال لمن أشرك في عمله: خذ أجرك ممن عملت له» (¬2) . وحمل حجة الإسلام الغزالي هذه الأخبار ونحوها على من يرد بعمله إلا الدنيا وهو القسم الثاني من الرياء، أما الأول فله فيه تفصيل حيث قال: والذي ينقدح لنا فيه -والعلم عند الله- أن ننظر إلى قدر قوة الباعث، فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفسي تقاوما وتساقطا، فصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان الباعث للرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع بل هو مضر ومقتض للعقاب، نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء، ولم يمتزج به شائبة التقرب، وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني، وهذا كقوله تعالى ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ? [الزلزلة: 8] ، وكقوله ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ? [النساء: 40] فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير بل إن كان غالباً على قصد الرياء ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2289، رقم 2985) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه في سننه (2/1405، رقم 4202) ، وابن خزيمة في صحيحه (2/67، رقم 938) ، وأبو يعلى في مسنده (11/430، رقم 6552) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/324، رقم 6529) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/329، رقم 6815) ، والأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان (4/275) . (¬2) لم نقف عليه من رواية أبي هريرة وإنما وجدناه من رواية أنس بن مالك مرفوعاً عند هناد في الزهد (2/435، رقم 854) بلفظ: «يؤتى بابن آدم يوم القيامة إلى الميزان، فيقول الله: يا ابن آدم أنا خير شريك ما عملت لي فأنا أجزيك به، وما عملت لغيري فاطلب ثوابه ممن عملت له» .

حبط من القدر الذي يساويه وبقيت زيادته، وإن كان مغلوباً أسقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد، نعم لنا تشريك في العبادة وتحصيل المال من الغنيمة فهذا لا يضره ولا يحرم عليه بالإجماع، لأن الله تعالى جعل له في هذه العبادة، نعم لا يساوي ثوابه من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلاً، بخلاف ما لو جاهد ليقول الناس: إنه شجاع، وليعظمه الإمام، فيكثر عطاؤه من بيت المال، فإنه يحرم حنيئذ ويكون رياء، أو نظير المجاهد من حج وشرك في حجة بأن قصد التجارة فإنه لا يقدح في صحة الحج، ولا يوجد إثماً ولا معصية، ولكن أكمل منه كذلك لو صام ليصح جسده، أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض، فلا يكون قادحاً في صومه، وكذلك وجود الوضوء ليحصل له التبرد فلا يكون قادحاً وضوءه، لأن جميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق بل هي تشريك أمور من المصالح، وما ليس للعظيم لا يقدح في العبادات وإن كان تشريك، نعم إن هذه المقاصد والأغراض الخالطة للعبادة قد تنقص الأجر، وإن العبادة إذا تجردت عنها عظم الأجر والثواب. ونختم المجلس بأخبار تطبيقية متعلقة بالإخلاص، وترك الرياء في العمل. قال الفضيل (¬1) - رضي الله عنه -: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وقال أبو سليمان الداراني - رضي الله عنه -: طوبي لمن صحت له خطوة واحدة، يريد بها وجه الله. وقال ذو النون المصري (¬2) - رضي الله عنه -: من علامات الإخلاص استواء المدح والذم. ونقل عن بعضهم أنه قال: قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت أصليها في الصف الأول لأني تأخرت يوماً فصليت في الصف الثاني، فخجلت من الناس حيث رأوني في الصف الثاني على خلاف عادتي، فعرفت أن نظر الناس لي في الصف الأول كان يعجبني. وذكر أن أعرابياً دخل المسجد وصلى صلاة خفيفة، فقام إليه علي بن أبي طالب بالدرة وقال: أعد الصلاة فأعادها، فقال: هذه خير أم الأولى؟ قال: الأولى لأني صليتها لله تعالى والثانية صليتها خوفاً من الدرة. وذكر شرف الدين بن يونس (¬3) في مختصر الإحياء في باب الإخلاص: إن من أخلص لله تعالى في العمل ظهرت بركته عليه وعلى عقبه إلى يوم القيامة. ¬

(¬1) هو: الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي أبو علي الزاهد الخراساني، محدث ثقة، ومن أئمة التصوف توفى عام 187هـ، قال ابن سعد: ولد بخراسان بكورة «أبيورد» وقدم الكوفة وهو كبير فسمع الحديث من منصور وغيره، ثم تعبد وانتقل إلى مكة فنزلها إلى أن مات بها في أول سنة سبع وثمانين ومائة، وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابداً ورعاً كثير الحديث، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: أقام بالبيت الحرام مجاوراً مع الجهد الشديد والورع الدائم والخوف الوافر والبكاء الكثير والتخلي بالوحدة ورفض الناس وما عليه أسباب الدنيا إلى أن مات بها. (¬2) هو: أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم الإخميمي المصري، ذو النون، وهناك خلاف بين العلماء في اسمه، كما أنه يوجد خلاف في سنة وفاته فقد قيل: إنه توفي في عام 425 هـ، وهو صوفي ومن أئمتهم الذين على أقوالهم بني التصوف، وكتب الصوفية مليئة بهذه الأقوال. انظر في ترجمته: النجوم الزاهرة (2/134- 238) ، طبقات الصوفية (ص: 15) ، حلية الأولياء لأبي نعيم (9/331) ، دول الإسلام للذهبي (1/148) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/347) ، صفة الصفوة (2/879) . (¬3) هو: أحمد بن موسى بن يونس، أبو الفضل، شرف الدين الأربلي، ويقال له: ابن يونس، مولده سنة: 575هـ‍ بالموصل، فقيه شافعي، من بيت رياسة وعلم. أصله من إربل، وولي التدريس بمدرسة سلطانها الملك المعظم، واختصر الإحياء للغزالي، وشرح التنبيه في الفقه وسماه غنية الفقيه، وقاته كانت بالموصل سنة: 622هـ‍.

كما قيل لما هبط آدم - عليه السلام - إلى الإرض جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره، فكان يدعو الكل حبس بما يليق به، فجاءته طائفة من الظباء فدعا لهن ومسح على ظهورهن فظهر فيهن نوافح المسك، فلما رأى بواقيها ذلك قالوا: من أين هذا لكن؟ فقلن: زرنا صفي الله آدم فدعا لنا، ومسح على ظهورنا، فمضى البواقي إليه فدعا لهن ومسح على ظهورهن فلم يظهر بهن من ذلك شيء، فقال الذين ظهر فيهم ذلك: نحن كان عملنا لله من غير شوب. فظهر ذلك في نسلهم وعقبهم إلى يوم القيامة ببركة الإخلاص. فائدة: غزال المسك يحل أكله من الغزلان هو أسود وهو كالغزال إلا أن له نابين أبيضين خفيفين خارجين من فيه كنابي الخنزير، كل واحد منها دون الفتر. وأصل المسك: دم يجتمع في سرتها في وقت معلوم، والمسك ثمر في كل سنة للشجرة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، والمسك أطيب الطيب وأفضله، وهو طاهر وإن كان أصله دماً إذا أخذ من الظبية، وهي حية يجوز استعمالها في البدن والثوب ويجوز بيعه، وهو مستثنى من قول الفقهاء: «ما أبين من حي فهو ميت» . ومن خواص المسك أنه يقوي البصر، وينشف الرطوبات، ويقوي القلب والدماغ، ويجلو بياض العين، وينفع من الخفقان، وهو ترياق السموم، ويقوي الأعضاء الباطنة والظاهرة شماً وشرباً، ومنافعه كثيرة فلهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعمله كثيراً. وحكى الإمام حجة الإسلام الغزالي: أن بعض العباد بلغه أن قوماً يعبدون شجرة من دون الله، فخرج العابد بنية قصد بها وجه الله، فاعترض له إبليس في صورة رجل وقال: إن قطعتها عبدوا غيرها فارجع إلى عبادتك، فقال: لابد من قطعها، فقاتله إبليس فصرع العابد إبليس وانتصر عليه، فقال له إبليس: أنت فقير ارجع إلى عبادتك، واجعل لك دينارين تحت رأسك كل ليلة، وقال للعابد: لو شاء الله لأرسل رسولاً يقطعها، وما عليك إذ لم تعبدها أنت، فمال العابد إلى قوله ورجع، فلما بات تلك الليلة وأصبح وجد دينارين، ثم في اليوم التالي وجدهما ثم في اليوم الثالث لم يجد شيئًا فخرج لقطعها لا لوجه الله، فعارضه إبليس في صفة رجل فقاتله فانتصر إبليس على العابد فقال العابد: كيف قدرت عليك في المرة الأولى بخلاف الثانية قال له إبليس: لأنك في المرة الأولى كان غضبك لله لا لأجل الدنيا بخلاف الثانية، فعرف من هذا أن الإنسان إذا أخلص في عمله قهر عدوه الشيطان، وإن لم يخلص كان مقهوراً مغلوباً مع الشيطان.

قال العلماء: بحسن نية الملك أو نائبه للناس يدخل الله الخيرات والبركات على الناس، وبشؤم نيته لهم تقل بركاتهم وتغلو أسعارهم. ويدل على ذلك ما نقله الغزالي في نصيحة الملوك عن وهب بن منبه أنه قال: إذا همَّ الوالي بالجور وعمل به أدخل الله تعالى النقص في أهل مملكته والزرع والضرع والثمر، وإذا همَّ بالعدل أدخل الله البركة في أهل مملكته، فقد كانت الحنطة في العصر الأول أكبر جرماً من هذا اليوم، وأكثر بركة، وأرخص سعراً. وروي الإمام أحمد بإسناده أنه وجد في خزائن بعض الملوك من بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها: «هذا كان ينبت العدل» . وحكي عن ابن عباس أنه قال: كان ملك من الملوك يخرج مستخفياً ليعلم أخبار مملكته، فنزل على رجل عنده بقرة تحلب حلاب ثلاثين بقرة، فلما أصبح حدث نفسه بأخذها فلم تحلب إلا الشيء اليسير الذي تدره له فقال له الملك: ما بال حلابها نقص عن عادتها، أرعت في غير موضعها الذي كانت فيه؟ فقال: لا ولكن ملكنا أظن أنه همَّ بالجور فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو همَّ بالظلم ذهبت البركة، فعاهد الملك الله تعالى في نفسه أن لا يأخذها ولا يظلم، فراحت بين الظعن فحلبت مثل عادتها الأولى، فتاب الملك إلى الله سبحانه وتعالى. * * *

المجلس الخامس

المجلس الخامس في بيان الهجرة والكلام على الشطر الثاني من حديث «إنما الأعمال بالنيات» قوله: «فمن كانت هجرته» . قال العلماء: الهجرة فعلة من الهجر ضد الوصل (¬1) ، ثم غلب ذلك على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية، وتقسيم الهجرة إلى ثمانية أقسام كما أفاده العراقي: الأولى: الهجرة الأولى إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة خرج من الصحابة سراً أحد عشر نسوة منهم: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثانية: الهجرة من مكة إلى المدينة. الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتعلم الشرائع، ثم يرجعون إلى الأوطان، ويعلمون قومهم. الرابعة: هجرة من أسلم من مكة ليأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع إلى مكة. الخامسة: هجرة ما نهي الله عنه. السادسة: الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة مرتين، فإنهم هاجروا إلى أرض الحبشة مرتين كما هو معروف في السير، وجميع من هاجر إلى أرض الحبشة إثنان وثمانون رجلاً سوى النساء والصبيان. السابعة: هجرة من كان مقيماً ببلاد الكفر ولا يقدر على إظهار الدين فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلاد الإسلام كما صرح به العلماء. الثامنة: الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن. ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/58) : الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه عن غيره. وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه. وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة. الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقياً.

ومعنى الحديث وحكمه يتناول جميع الأقسام لأن السبب الذي قدمنا ذكره يدل على أن المراد هنا بالهجرة الهجرة من مكة إلى المدينة. فإن قيل: هل الهجرة باقية إلى يومنا هذا أو انقطعت بفتح مكة؟ فالجواب: أن الأحاديث تعارضت في ذلك ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (¬1) فهذا يدل على انقطاعها. وقد روى أبو داود والنسائي مرفوعاً «لا تنقطع الهجرة حتى تقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (¬2) فهذا يدل على عدم انقطاعها، وجمع بينهما بأن الهجرة كانت إلى الإسلام فرضاً، ثم صارت بعد فتح مكة مندوباً إليها غير مفروضة، فالمنقطعة هي الفرض والباقية هي الندب، وقوله - صلى الله عليه وسلم - كما هو ثابت في بقية الروايات. قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» (¬3) يحتمل أن تكون «من» فيه شرطية فالفاء في «هجرته» داخلة في جواب الشرط، ويحتمل أن تكون «من» موصولة، وهي مبتدأ فالفاء في «هجرته» داخلة على الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وعلى الاحتمالين لابد من التغاير بين المبتدأ والخبر والشرط والجزاء، والظاهر هما هنا الاتحاد فلابد من تأويل التغاير بينهما، فقيل في تقدير ¬

(¬1) متفق عليه رواه البخاري في صحيحه (3/1025، رقم 2631) ، ومسلم في صحيحه (2/986، رقم 1353) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3/3، رقم 2479) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/217، رقم 8711) ، وأبو يعلى في مسنده (13/359، رقم 7371) ، والطبراني في المعجم الكبير (19/381، رقم 895) ، والديلمي في مسند الفردوس (5/156، رقم 7802) جميعاُ عن معاوية. ورواه الإمام أحمد في مسنده (1/192، رقم 1671) عن ابن السعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل، فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكروا نحوه، وكذا رواه أيضاُ: الطبراني في المعجم الأوسط (1/23، رقم 59) ، ورواه أيضاُ في الصغير كما في مجمع الزوائد للهيثمي (5/251) قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات. (¬3) سبق القول أن هذا الجزء لم يذكره البخاري في حديثه هنا، وقد أسهب ابن حجر في توجيه إسقاط البخاري لهذا الجزء ورد على المعارضين، وذلك قد مر بك في المجلس السابق، ولكن المصنف الإمام السفيري جاء به هنا من باب الإفادة، ولأنه يعلم أن الإمام البخاري أخرجه تاماً في مواضع أخرى، فتنبه هداك الله.

التغاير: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصداً، فهجرته إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً، ويكون المقدر منصوباً على التمييز كقوله تعالى ?إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ? [الأنفال: 65] أي: رجالاً أو نحوه لا منصوباً على الحال لأن الحال المبينة لا تحذف، ولهذا منع بعض العلماء تعلق الجار في ?بِسْمِ اللَّهِ? بحال محذوفة أي: ابتدئ متبركاً، وقيل: تأويل التغاير أن خبر الثاني محذوف والتقدير: فهجرته إلى الله رسوله (¬1) . وقيل: المراد ثواب من هاجر إلى الله ورسوله، فأقيم السبب مقام المسبب. وقيل: المراد في الثاني ما عهد في الذهن، وفي الأول المشخص في الخارج مثل أنا أبو النجم، وشعري شعري أي: شعري الذي سمعتموه هو شعري المستقل المعهود في الأذهان فلا حاجة لتقدير محذوف. فإن قيل: لأي شيء عدل عن الضمير إلى الظاهر حيث قال: «فهجرته إلى الله ورسوله» ولم يقل: «إليهما» مع إنه هو أخص. فالجواب: أنه فعل ذلك إما لأن في الظاهر استلذاذاً بذكره صريحاً، ولذلك لم ¬

(¬1) قد ألمح الحافظ ابن حجر في ذلك ملمحاً طيباً، وهو أن هذا الحديث فيه إتحاد الشرط مع جوابه اتحاداً بليغاً وكيف لا وقد صادر عن خير من نطق بالضاد ومن أجرى الله على لسانه الفصاحة والبلاغة - صلى الله عليه وسلم -. يقول ابن حجر: فإن قيل: الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال مثلاً: من أطاع أطاع وإنما يقال مثلاً من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين، فالجواب: أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلته قوله تعالى: ?وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً? [الفرقان: 71] ، وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس، كقولهم: أنت أنت أي: الصديق الخالص، وقولهم: هم هم أي: الذين لا يقدر قدرهم، أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب. وقال ابن مالك: قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظا كقول الشاعر: خليلي خليلي دون ريب وربما ألان امرؤ قولا فظن خليلا وقد يفعل مثل هدا بجواب الشرط كقولك: من قصدني فقد قصدني، أي فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده. وقال غيره: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير. انظر فتح الباري (1/59) .

يأت مثله في الجملة بعده إعراضاً عن تكرار لفظ الدنيا، وإما لئلا يجمع بين اسم الله ورسوله في ضمير واحد، بل يفردان، ولهذا جمع الخطيب بينهم في ضمير واحد حيث قال: «ومن يعصهما» قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بئس الخطيب قل ومن يعص الله ورسوله» (¬1) كما سيأتي في محله. وقوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا» قال العلماء: «دنيا» بضم الدال على المشهور، وحكى ابن قتيبة كسرها على وزن «فُعلا» من الدنو، وهو القرب سميت بذلك لدنوها إلى الزوال وجمعها دنى ككبرى، وهي مقصورة ليس فيها تنوين بلا خلاف. واختلف علماء الكلام في حقيقة الدنيا على قولين: أحدهما: أنها على الأرض الجواهر والأعراض الموجودة، قبل الدار الآخرة. قال ابن العطار (¬2) : وهو الأظهر، وتطلق الدنيا على كل جزء منها، فيقال للمال دنيا، وللقماش دنيا، وللأملاك دنيا، وأراد - صلى الله عليه وسلم - بدنيا متاعاً من متاعها (¬3) . وقوله: «أو امرأة» من عطف الخاص على العام، لدخول المرأة في مسمي الدنيا بدليل حديث: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» (¬4) . واعترض النووي على من قال: إنه من عطف الخاص على العام، بأن لفظ «دينا» نكرة وهي لا تعم في الإثبات، فلا يلزم دخول المرأة فيها. وأجيب عن الاعتراض: بأنها في سياق الشرط فتعم. ¬

(¬1) رواه مسلم في صحيحه (2/594، رقم 870) ، وأحمد في مسنده (4/256، رقم 18273) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/74، رقم 29574) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/86، رقم 406) عن عدي بن حاتم. (¬2) هو: علاء الدين علي بن محمود بن علي بن محمود بن علي بن محمود، ثلاثة على نسق، ابن العطار الحراني، سبط الشيخ زين الدين الباريني، ولد بعد الستين وسبعمائة، وتفقه على المذهب الشافعي علي يد الشيخ أبي البركات الأنصاري وغيره، وبرع في النحو والفرائض، وتصدى لنفع الناس، وتصدر بأماكن وكانت دروسه فائقة، كان جيد الحفظ، ذكر القاضي علاء الدين في تاريخ حلب أنه حفظ ربع ألفية العراقي في يوم واحد، ولو عمر لفاق الأقران لكن مات عن نيف وثلاثين سنة في شهر رمضان. انظر: شذرات الذهب (3/341) ، وطبقات المحدثين (1/235، ترجمة: 2401) . (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/60) : وقال التيمي في شرحه: قوله: «دنيا» هو تأنيث الأدنى ليس بمصروف، لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيث. وتعقب بأن لزوم التأنيث للألف المقصورة كاف في عدم الصرف، وأما الوصفية فقال ابن مالك: استعمال دنيا منكراً فيه إشكال لأنها أفعل التفضيل، فكان من حقها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى، قال: إلا أنها خلعت عنها الوصفية أو أجريت مجرى ما لم يكن وصفاً قط. (¬4) رواه مسلم في صحيحه (2/1090، رقم 1467) ، والنسائي في سننه (6/69، رقم 3232) ، وابن ماجه في سننه (1/596، رقم 1855) ، وأحمد في مسنده (2/168، رقم 6567) ، وابن حبان في صحيحه (9/340، رقم 4031) عن عبد الله بن عمرو.

لكن اعترض على من يقول: بأنه من عطف الخاص على العام أيضاً من جهة أن عطف الخاص على العام من الأحكام المختصة بالواو بين سائر حروف العطف، كما نص عليه ابن مالك (¬1) في شرح العمدة، وابن هشام (¬2) في المغني (¬3) ، فالصواب أن «أو» على بابها للتقسيم، وجعلت «المرأة» قسماً مقابلاً للدنيا تعظيماً لأمرها لأنها أشد فتنة، وعلى تقدير: أنها عطف الخاص على العام فالنكتة في التصريح بها مع دخولنا في الدنيا أمران: أحدهما التنبيه على زيادة التحذير، لأن الافتتان بها أشد. الثاني: أنها سبب الحديث، فحسن التصريح بها. وقال بعضهم: ذكر الدنيا تحذير للناس منها، وإفرد المرأة زيادة في التحذير، فقد ورد «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» (¬4) . وفي وصية لقمان لابنه: «اتق المرأة فإنها تشيبك قبل الشيب، واتق شرار النساء فإنهن لا يدعون إلى خير، وكن من خيارهن على حذر» . وذكر الدنيا في الحديث لأنها حقيرة لا يتبعها إلا الحقير فقد روى الترمذي وقال حسن صحيح عن سهل بن سعد (¬5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء» (¬6) . وأنشد بعضهم في هذا المعنى: إذ كان شيء لا يساوي جميعه ... جناح بعوض عند من أنت عبده واشغل جزء منه كلك ما الذي ... يكون على ذا الحال قدرك عنده معنى «هوان الدنيا على الله تعالى» : أن سبحانه لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقاً موصلاً إلى ما هو المقصود لنفسه، ولم يجعلها دار إقامة ولا جزاء، وإنما جعلها دار بلاء، وإنه ملكها في الغالب للجهلة والكفرة، وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال، وحسبك بها هو أنه سبحانه صغرها وحقرها وأبغضها أو أبغض أهلها ¬

(¬1) ابن مالك هو: العلامة حجة العرب، جمال الدين، أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجَيَّاني بفتح الجيم وتشديد التحتية ونون نسبة إلى جيان بلد بالأندلس، نزيل دمشق ولد سنة (600 أو 601هـ) كان شافعي المذهب، وقال الذهبي: صرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وحاز قصب السبق، وكان ينظم الشعر مع ما هو عليه من الدين المتين، وصدق اللهجة، وكثرة النوافل وحسن السمت، ورقة القلب، وكمال العقل، والوقار، والتؤدة، ومن تصانيفه: الألفية في النحو تسمي الخلاصة، وكتاب تسهيل الفوائد في النحو، وكتاب الضرب في معرفة لسان العرب، وكتاب الكافية الشافية وغيرها، وكانت وفاته رحمه -الله تعالى- في ثاني عشر شعبان سنة (672هـ) . انظر: أبجد العلوم (3/33، 34) ، وطبقات الشافعية (2/149، 150) ، وكشف الظنون (1/405، 2/1369) . (¬2) ابن هشام هو: أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري، ولد بالقاهرة سنة (708هـ) نحوي بارع، شافعي المذهب، أمام في اللغة، درَس ودرَّس، وانفرد بالفوائد، وبحث في الدقائق حتى خرج بالعجائب المستدركة، مع قدرته على توجيه الكلام التوجيه البديع، وكل ذلك واضح جلي من خلال مؤلفاته، له من المصنفات الكثير النافع منها: أوضح لمسالك إلى ألفية ابن مالك، وكتاب شذور الذهب في معرفة كلام العرب، وكتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وغيرها من كتبه التي أثرت المكتبة العربية، وكانت وفاته في سنة (762هـ) . انظر: الدرر الكامنة (2/208) ، بغية الوعاة (ص: 293) ، دائرة المعارف الإسلامية (1/295) . (¬3) انظر أيضاً شذور الذهب في معرفة كلام العرب لابن هشام (ص: 445) . (¬4) متفق عليه رواه البخاري في صحيحه (5/1959، رقم 4808) ، ومسلم في صحيحه (4/2097، رقم 2740) من حديث أسامة بن زيد. (¬5) هو: سهل بن سعد الخزرجي الأنصاري، من بني ساعدة: صحابي، ومن مشاهير الصحابة من أهل المدينة. عاش نحو مائة سنة. له في كتب الحديث 188 حديثاً، توفي في سنة: 91هـ‍. (¬6) رواه الترمذي في سننه (4/560، رقم2320) عن سهل بن سعد، وقال: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه أيضاً: أبو نعيم في حلية الأولياء (3/253) ، والروياني في مسنده (2/214، رقم 105) ، وابن حنبل في كتاب الزهد (ص: 63، رقم 128) .

ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزود منها والتأهب للارتحال عنها. فائدة: قال ابن الجوزي خلق الله تعالى ستة أشياء وملأها سماً وجعل ترياقها ستة أشياء: الأول: خلق الدنيا وجعل المساجد ترياقها. الثاني: خلق الشهور، وجعل ترياقها شهر رمضان. الثالث: خلق الأيام وملأها سماً، وجعل ترياقها يوم الجمعة. الرابع: خلق المعاصي وملأها سماً، وجعل ترياقها التوبة. الخامس: خلق الساعات وملأها سماً، وجعل ترياقها الصلوات الخمس. السادس: خلق الأمراض وملأها سماً، وجعل ترياقها بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا أردت أن تطيب فمك، وتطهر جسمك، وترفع اسمك، وتشفي سقمك فقل بسم الله الرحمن الرحيم. ولله دراً بقائك: كلامك والله يا سيدي ... ألذ وأحلى من العافية وأشهى إلى العين من غمضها ... وأطيب من عيشة راضية يا هذا: الدنيا دار غرور، ولا يدوم لها سرور، ولا يؤمن فيها محذور، جديدها يبلي، وحبيبها يقلي، الدنيا قدر يغلي، وكنيف يملأ، لا يغرنكم علو الدور والقصور، فإن مآلها إلى الخراب ومآل إلى القبور، لا يغرنكم الثياب الفاخرة، والوجوه النضرة، فإن منقلبها إلى الحافرة، والعظام النخرة، وقد أحسن من قال: أيا من قد تهاون بالمنايا ... ومن قد غره الأمل الطويل ألم تر إنما الدنيا غرور ... وأن جميع ما فيها يزول فلا يغررك من دنياك وعد ... فليس لوعدها أبداً حصول وقال القرطبي (¬1) في التذكرة وذكره ابن أبي الدنيا (¬2) قال: حدثنا أبو إسحاق بن الأشعث سمعت فضيل بن عياض يقول: قال ابن عباس: «يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة شمطاء زرقاء أنيابها مكشرة مشوهٌ خلقها، فتشرف على الخلائق، فيقال: هذه فيقولون: نعوذ بالله معرفة هذه، فيقال: الدنيا التي تفاخرتم عليها بها، تقاطعتم الأرحام، ولها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم فتنادي أي رب أتباعي وأشياعي فيقول الله: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها» (¬3) . ¬

(¬1) القرطبي هو: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله، القرطبي: من كبار المفسرين، صالح متعبد، من أهل قرطبة، رحل إلى الشرق واستقر بمنية ابن خصيب في شمالي أسيوط بمصر، وتوفي فيها سنة: 671هـ‍، وكان ورعاً متعبداً، طارحاً للتكلف، يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية. من كتبه: الجامع لأحكام القرآن يعرف بتفسير القرطبي، وقمع الحرص بالزهد والقناعة، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، والتذكار في أفضل الأذكار، والتذكرة بأحوال الموتى وأحوال الآخرة، والتقريب لكتاب التمهيد. (¬2) ابن أبي الدنيا: عبد الله بن محمد بن عبيد البغدادي، أحد الحفاظ المكثرين من التصانيف الحديثية والأجزاء المسندة التي تدل على سعة حفظه وعلمه وهو مشهور بمؤلفاته، وكانت وفاته رحمه الله سنة (381هـ) . انظر: تاريخ بغداد (10/89) ، وتهذيب التهذيب (6/12، 13) ، وتذكرة الحفاظ (2/224) . (¬3) رواه من طريق ابن أبي الدنيا البيهقي في شعب الإيمان (7/383، رقم 10671) عن ابن عباس، وكذا أبو سعيد ابن درهم في الزهد وصفة الزاهدين (ص: 46، رقم 70) .

وقال تعالى ?فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ? [التوبة: 38] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحمي عبده الدنيا، وهو يحميه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب» (¬1) . وعن البراء بن عازب (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله خواص يسكنهم الرفيع من الجنان في أعلى عليين كانوا أعقل الناس» قلنا: يا رسول الله كيف كانوا أعقل الناس؟ قال «كان همهم المسابقة إلى الله تعالى والمسارعة إلى ما يرضيه، زهدوا في الدنيا وفي فضولها في رياستها ونعيمها، فهانت عليهم فصبروا قليلاً فاسترحوا طويلاً» (¬3) . وذكر القرطبي: أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بجلساء الله يوم القيامة؟ قال: «هم الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيراً» قال: فهم أول الناس دخولاً الجنة؟ قال: «لا» قال: فمن أول الناس يدخلون؟ قال: «الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة، فتخرج إليهم الملائكة فيقولون: ارجعوا إلى الحساب فيقولون: على ما نحاسب ما أُفيضت علينا من الأموال في الدنيا فنقبض ونبسط، وما كنا أمراء نعدل ونجور، ولكن جاءنا أمر الله فعرفناه حتى أتانا اليقين» (¬4) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «اتقوا الله فإنه يقول يوم القيامة: أين صفوتي من خلقي فتقول الملائكة: من هم يا ربنا فيقول: الفقراء الصابرون الصادقون الراضون بقدري، أدخلوهم الجنة، فيدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، والأغنياء في الحساب يترددون» (¬5) . قال العلامي في تفسيره (¬6) : «إن إبليس يعرض الدنيا على من يريدها كل يوم، ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/321، رقم 10450) عن محمود بن لبيد، ولم نقف عليه عند غيره. (¬2) هو: البراء بن عاز ب بن الحارث الخزرجي، أبو عمارة: قائد صحابي من أصحاب الفتوح، أسلم صغيراً وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة، أولها غزوة الخندق، ولما ولي عثمان الخلافة جعله أميراً على الري بفارس سنة 24هـ‍، فغزا أبهر غربي قزوين وفتحها، ثم قزوين فملكها، وانتقل إلى زنجان فافتتحها عنوة، وعاش إلى أيام مصعب ابن الزبير فسكن الكوفة واعتزل الأعمال. وتوفي في زمنه سنة:71 هـ‍، روى له البخاري ومسلم. (¬3) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/17) ، والحارث في مسنده (2/814، رقم 844) عن البراء. (¬4) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/143) ، وابن المبارك في كتاب الزهد (1/80، رقم 283) عن سعيد بن المسيب مرسلا. (¬5) لم نقف عليه. (¬6) هكذا بالأصل: «العلامي» ، ويوجد في المصادر أن هناك تفسيراً يسمى بتفسير العلامي وهو مشهور بهذا الاسم إلا أنه من تصنيف القطب الشيرازي، قال في كشف الظنون (2/1235) : فتح المنان في تفسير القرآن وهو كبير في أربعين مجلداً للعلامة قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي المتوفى سنة عشر وسبعمائة وهو المعروف بتفسير العلامي، وانظر أيضاً في ذلك أبجد العلوم (2/186) . ولم يترجم له الحافظ السيوطي في طبقات المفسرين (1/198، ترجمة: 239) وإنما ترجم لرجل آخر قال فيه: محمود بن محمد الشيرازي الشهير بابن العلائي، العالم الفاضل العلامة قطب الدين أبو الفضل كان ماهراً في التفسير وصنف: فتح المنان في تفسير القرآن، توفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. فيحتمل أن يكون قد وقع تصحيف في الأصل من ابن العلائي إلى العلامي، ويحتمل أن يكون الشيرازي نفسه مشهوراً بهذه النسبة فأطلقوا على تفسيره هذا الاسم، كما في أبجد العلوم وكشف الظنون، ومن الممكن أن يكونا شخص واحد وأخطأت المصادر في سنة الوفاة فالأول توفي سنة 710، والثاني سنة 581. والله أعلم. انظر في ترجمة قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي طبقات الشافعية الكبرى (10/386، ترجمة: 1410) ، والدرر الكامنة (6/100، ترجمة: 2271) .

فيقول: من يشتري شيئًا يضره ولا ينفعه، وبهيمة لا تسره؟ فيقول أصحابها وعشاقها: نحن، فيقول: إنها معيبة فيقولون: لا بأس فيقول ثمنها ليس بالدراهم ولا بالدنانير، ولكن بنصيبكم من الجنة، فإني أشتريتها بأربعة أشياء بلعنة الله وغضبة وسخطه وعذابه، وبعت الجنة بها، فيقولون رضينا ذلك، فيقول: أريد أن أريح بأن توطنوا قلوبكم على أن لا تدعوها أبداً، فيقولون: نعم، فيبيعهم إياها على ذلك، ثم يقول: بئست التجارة» . وينبغي لكل أحد أن يرضى بما أعطاه الله من الرزق في الدنيا وقسمه له، ويشكر على ذلك ويراه كثيراً عليه، فإن فعل ذلك استراح وعظمت نعم الله في عينه، وإذا زاد من شكره وأجره، جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قال الله سبحانه تعالى: يا بني آدم وعزتي وجلالي لئن رضيت بما قسمت لك أرحتك، وأنت محمود، وإن لم ترض بما قسمت لك سلطت عليك الدنيا تركض فيها كركض الوحوش ثم لا يكون لك إلا ما قسمت لك وأنت مذموم» نقله الدميري في الوحش (¬1) . ويكفي في ذمها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنها حيث قال: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما أولاه عالم أو متعلم» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب (¬2) . ولا يعارض هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر» (¬3) لأن هذا محمول على ما كان من الدنيا يقرب من ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) رواه الترمذي في سننه (4/561، رقم 2322) ، وابن ماجه في سننه (2/1377، رقم 4112) عن أبي هريرة. (¬3) رواه الشاشي في مسنده (1/387، رقم 383) ، والديلمي في مسند الفردوس (5/10، رقم 7288) عن ابن مسعود. والحديث ضعيف جداً فيه: إسماعيل بن أبان الغنوي الكوفي الخياط، ترجم له الذهبي في الميزان (1/368، ترجمة: 825) وقال: كذبه يحيى بن معين، وقال أحمد بن حنبل: كتبنا عنه عن هشام بن عروة، ثم روى أحاديث موضوعة عن فطر وغيره فتركناه، وقال البخاري: ترك أحمد والناس حديثه، قلت: ومن مناكيره ... فساق هذا الحديث، ثم قال: وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات وهو، صاحب حديث السابع من ولد العباس يلبس الخضرة، وروى أحمد بن زهير عن ابن معين قال: وضع أحاديث على سفيان لم تكن.

الله، ويعين على عبادته، فإنه محمود بكل لسان، محبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب، بل يراعى فيه ويحب، كما أشار إلى ذلك في الحديث بقوله: «فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر» . وأما المباح لعنة الله من الدنيا فهو ما كان مبعداً عن الله، وشاغلاً عنه كما قال بعض السلف: كل ما شغلك عن الله من مال ولد فهو شؤم عليك، وهو الذي نبه الله سبحانه عليه بقوله ?اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ? [الحديد: 20] . وفي فتاوى ابن عبد السلام الموصلية: أن الدنيا التي لعنت: هي الحرمة التي أخذت بغير حقها أو صرفت لغير مستحقها، فلا يلهينك يا هذا عن اكتساب دار القرار، والاغترار بشيء من زخرف هذه الدار، فوالله ما هي بدار مقام، بل دار إن أضحكت اليوم أبكت، وإن سرت أعقب سرورها ردى، وإن أخصبت أجدبت، وإن جمعت فرقت، وإن ضمت شتت، وإن غمرت دمرت، وإن وهبت سلبت، وإن ولت عزلت، وإن وصلت قطعت، دار الهموم والأحزان، والغموم والأشجان، والبين والفراق، والشقاء والشقاق، والرحلة والانتقال والزوال، قليلة الصفاء، وبيلة الجفاء، عديمة الوفاء، لا ثقة لعهدها، ولا وفاء لوعدها، ولا وصل لبعدها، محبها ثعبان، وعاشقها سكران، قد سترت معائبها، وكتمت مصائبها، وأخفت نوائبها، وخدعت بباطلها، وغيرت ببراطيلها، ونصبت شباكها، ووضعت إشراكها، وأبدت ملامح، وسترت قبائح الفعال، ونادت: الوصال أيها الرجال، فمن رام وصالها وقع في حبالها، وبدله سوء حالها، وشدة وبالها، فعض يديه ندماً، وبكى بعد الدموع دماً، وأسلمه ما طلب إلى سوء المنقلب، وجهد في الفرار فما أمكنه الهرب، فتيقظ لنفسك يا هذا قبل الهلاك، وأطلق نفسك من أسرها قبل ن يعسر الفكاك، وأقبل على ما فيه عظيم نجاحك، وما هو في الدارين سبب صلاحك، من عبادة الله، ومداومة ذكره، وملازمة حمده على ذلك وشكره، وافعل الخير ما وجدت سبيلاً، فقد انتظر المقام المهول، ولقد أحسن من يقول: سألت عن الدنيا الدنيئة قيل له ... هي الدار فيها الدائرات تدور فإن أضحكت أبكت وإن أحسنت أساءت ... وإن عدلت يوماً ما فسوف تجور وقال آخر:

يا خاطب الدنيا الدنيئة إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار دار إذا ما أضحكت في يومها ... أبكت غداً بعداً لها من دار وقد جاء أخبار في الزهد من هذه الدنيا الفائتة، وفضل الفقراء، وما يعطي الله الفقير الصابر. فائدة: سبب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ما نقله المفسرون وغيرهم عن ابن عباس (¬1) وغيره: إذ قريش خافوا لما أسلمت الأنصار أن يعظم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه صار له شيعة وأنصاراً وأصحاباً من غيرهم، بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وخافوا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم وأن يحاربهم بالصحابة، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب، وكانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها، ليتشاورا في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءهم إبليس في صورة شيخ جليل عليه «بت» أي: طيلسان فقالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد، فلما سمعت باجتماعكم أردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً فقالوا: ادخل فدخل فقال أبو البحتري: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه، حتى يملك فيه فصرخ الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي هذا، والله لأن حبستموه يخرج أمره إلى أصحابه فيوشك أن ينقلبوا عليكم ويقاتلوكم، قالوا: صدق الشيخ النجدي فقال هشام بن عمرو: وأما أنا فأرى أن تحملوه على بعير فتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع إذا غاب عنكم واسترحتم، فقال إبليس: ما هذا برأي تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاؤكم فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم، ألم ترو حلاوة منطقه، وطلاوة لسانه، وأخذه القلوب ما تسمع من حديثه، والله لأن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل إلى قلوب قوم، ثم يسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فقال ¬

(¬1) رواية ابن عباس في ذلك أخرجها أحمد في مسنده (1/348، رقم 3251) ، والطبري في تفسيره (9/227) ، وعبد الرزاق في المصنف (5/389) ، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/407، رقم 12155) ، والخطيب في تاريخ بغداد (13/191) . ورواه محمد بن إسحاق في مغازيه كما في تفسير ابن كثير (2/303) . وأورده الحافظ السيوطي في الدر المنثور (4/50) وعزاه إلى عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس.

أبو جهل: فوالله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره إني أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش شاباً نسبياً، ثم يعطى كل واحد منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يطيقون حرب قريش كلها، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا ديته، فتودي قريش ديته، فقال إبليس: صدق هذا الفتى القول ما قال لا أرى غيره، فتفرقوا على قول أبي جهل فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله له عند ذلك بالهجرة إلى المدينة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي - رضي الله عنه - فنام في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وقال: تسجى ببردي هذا الأخضر فإنه لم يخلص إليك منهم أمر لكرهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - ينام في برده هذا إذا نام، فكان علي - رضي الله عنه - أول من جعل نفسه فداءً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أشار إلى ذلك بقوله: وقيت بنفسي خير من وطئ الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه الإله ذو الطول من المكر وخلف علياً بمكة حتى يدفع الودائع إلى أهلها فإنه - صلى الله عليه وسلم - كانت توضع الودائع عنده لصدقه وأمانته، فلما أمره الله بالخروج للهجرة قال لجبريل: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصديق، ثم احتاط الكفار وقت العتمة بدار النبي - صلى الله عليه وسلم - يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما علم بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حفنة من تراب وخرج عليهم، وقد أخذ الله أبصارهم فلم يره منهم أحد وجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ قوله تعالى ?إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? [يس: 8، 9] ولم يبق منهم رجل وقد وضع على رأسه تراباً. وكان خروجه مهاجراً في شهر ربيع الأول، ويقال: في صفر يوم الاثنين، وصحب معه أبو بكر - رضي الله عنه - واستأجر عبد الله بن أريقط دليلاً وهو على شركه، ثم أسلم بعد ذلك وصحب، واستأجروا عامر بن فهيره خادماً وأما الكفار الذين أحاطوا بالدار فلما أصبحوا دخلوا على علي قالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري فعلموا أنه ذهب فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه استمر سائراً هو ومن معه، فجعل أبو بكر يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك؟ قال: يا رسول

الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لآمن عليك، فمشى - صلى الله عليه وسلم - على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رأى أبو بكر أنها حفيت حمله على كاهله وجعل يسير به سيراً شديداً حتى وصل جبل ثور، وهو جبل بأسفل مكة فصعد عليه حتى أتى به الغار فأنزله عند بابه ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيناً لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئاً فكنسه، فوجد فيه ثقوباً فيها حيات وأفاعي فشق إزاره وسد تلك الثقوب خوفاً أن يخرج منها شيء يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي ثقب كبير فسده أبو بكر بقدمه، وفي رواية فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع رأسه في حجر أبي بكر ونام فجعلت الحيات والأفاعي تلسع رجل أبي بكر - رضي الله عنه - وهو لا يتحرك مخافة أن يتنبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعلت دموعه تتساقط على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتبه وقال: «مالك يا أبا بكر؟» فقال: لذغت فداك أبي وأمي، فتفل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب ما يجده من الألم، وقال: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكنيته أي: طمأنينته على أبي بكر. وقيل: إنه لما صعد الجبل لم ير فيه مكاناً يختفون فيه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فانفتح في الجبل غار بقدرة الله فدخل ذلك الغار، ثم أمر الله العنكبوت فنسج على بابه في الحال، وأمر حمامتين وحيتين فعششتا على بابه. قال السهيلي: وحمام الحرم من نسلهما، وأنبت الله في الحال على باب الغار شجرة يقال لها «الرآءة» مثل قامة الإنسان ولها زهر أبيض فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل لم يبق نسج العنكبوت على بابه، وبيض الحمام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع ما قالوا، فعلم أن الله - عز وجل - صدهم عن نبيه. وجاء في الحديث: إن الكفار لما وقفوا على باب الغار، وقال أبو بكر يا رسول الله لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالهما. قال الطبري: في هذا دليل على أن باب الغار كان من أعلى، وإلى ذلك أشار صاحب البرده بقوله: وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عمي فالصدق في الغار والصديق لم يريا ... وهم يقولون ما بالغار من آدم

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم ففي هذه إشارة إلى حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعدائه من الكفار وقعت بأضعف الأشياء مغنية عن أقوى الأشياء، وقعت بنسج العنكبوت وهو أضعف الأشياء قال تعالى ?وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ? [العنكبوت: 41] مغنية عن الدروع التي قال الله عنها: ?وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ? [الأنبياء: 80] . قال العلماء: نسج العنكبوت على جماعة غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، الأول: شخص من الصحابة يقال له: «عبد الله بن أنيس» بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأجل قتل شخص من الكفار يقال خالد بن نبيح الهذلي، فذهب إليه وهو بالغرفة فقتله ثم احتمل رأسه ودخل في غار فنسجت عليه العنكبوت، وجاءوا لطلبه فلم يجدوا شيئاً، فلما وصلوا إلى باب الغار نسج العنكبوت فانصرفوا راجعين، ثم خرج وسار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رأه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفلح الوجه» قال: وجهك يا رسول الله، ووضع الرأس بين يديه، وأخبره الخبر فدفع إليه عصى كانت بيده وقال: «تُخص بهذه في الجنة» فكانت عنده إلى أن حضرته الوفاة ووصى أهله أن يدفنوها في كفنه ففعلوا، وكانت مدة غيبته ثمان عشرة ليلة. الثاني: داود - عليه السلام - نسجت عليه مرتين حين كان جالوت يطلبه. الثالث: زيد بن علي بن الحسين بن على بن أبي طالب (¬1) لما انتهت إليه الخلافة وبايعه عليها خلق كثير حاربه والى العراق وهو يوسف بن عمر فظفر به وصلبه على خشبة عرياناً، ووجهه لغير القبلة، فدارت خشبته إلى القبلة وأرسل الله تعالى العنكبوت فنسج على عورته لبركة آبائه وإسلامه، وأقام مصلوباً أربع سنوات، ثم أحرقوا خشبته وجسده - رضي الله عنه - وكان ظهوره وخلافته في أيام هشام بن عبد الملك فقال له طائفة كثيرة من أهل الكوفة تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك فقال: لا، فقالوا: إذاً نرفضك، فمن ذلك اليوم سموا الرافضة. فائدة: أسند الثعلبي (¬2) وغيره عن علي بن أبي طالب قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيوت يورث الفقر. وقال أبو الليث السمرقندي (¬3) : تركه في الإصطبل يهزل الدوآب. وقال الزركشي من علماء الشافعية: إنه يجوز قتله، لأنه من ذوات السموم، ¬

(¬1) هو: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الإمام، أبو الحسين العلوي الهاشمي القرشي، ويقال له زيد الشهيد، مولده في سنة: 79هـ‍، عده الجاحظ من خطباء بني هاشم، وقال أبو حنيفة: ما رأيت في زمانه أفقه منه ولا أسرع جواباً ولا أبين قولاً، كانت إقامته بالكوفة، وقرأ على واصل بن عطاء رأس المعتزلة واقتبس منه علم الاعتزال، وأشخص إلى الشام، فضيق عليه هشام بن عبد الملك، وحبسه خمسة أشهر، وعاد إلى العراق ثم إلى المدينة، فلحق به بعض أهل الكوفة يحرضونه على قتال الأمويين، ورجعوا به إلى الكوفة سنة 120هـ‍، فبايعه أربعون ألفاً على الدعوة إلى الكتاب والسنة، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، ورد المظالم، ونصر أهل البيت. وكان العامل على العراق يومئذ يوسف بن عمر الثقفي، فكتب إلى الحكم بن الصلت وهو في الكوفة أن يقاتل زيداً، ففعل، ونشبت معارك انتهت بمقتل زيد في الكوفة في عام: هـ 122هـ‍، وحمل رأسه إلى الشام فنصب على باب مشق. ثم أرسل إلى المدينة فنصب عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وليلة، وحمل إلى مصر فنصب على الجامع، فسرقه أهل مصر ودفنوه. قال في الأعلام: ووقف المجمع العلمي في ميلانو مؤخراً على مجموع في الفقه رواه أبو خالد الواسطي عن زيد بن علي، فإن صحت النسبة كان هذا الكتاب أول كتاب دوِّن في الفقه الإسلامي، ومثله: تفسير غريب القرآن، ولابد من التثبت من صحت نسبته إليه، وإلى صاحب الترجمة نسبة الطوائف: الزيدية. (¬2) الثعلبي هو: أبو إسحاق، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي: مفسر، من أهل نيسابور، له اشتغال بالتاريخ، ومن تصانيفه: العرائس في قصص الأنبياء، وقد نقل عنه المصنف في هذا الشرح في بعض المواضع وقد بينا وجه الحق فيها، وله أيضاً تفسيره المسمي الكشف والبيان في تفسير القرآن، وكانت وفاته سنة (427هـ) . انظر: الأعلام (1/212) . (¬3) هو: نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي، فقيه، مفسر، صوفي، توفى رحمه الله تعالى سنة (373هـ) ، وقيل: سنة (375هـ) ، وقيل: سنة (393هـ) ، وكانت وفاته في الحادي عشر من جمادى الآخرة. من مصنفاته التي تركها: تفسير القرآن، بستان العارفين، تنبيه الغافلين، خزانة الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان. انظر: معجم المؤلفين (13/91) ، وتذكرة الحفاظ (3/169) ، وهدية العارفين (2/490) .

وورد في حديث ضعيف «العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه» (¬1) . فائدة لطيفة: روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة مجاهد أنه قال في قوله تعالى ?أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ? [النساء: 78] أنه قال: كان فيمن كان قبلكم امرأة وكان لها أجير فولدت جارية، وقالت لأجيرها: اقتبس لنا ناراً، فخرج فوجد بالنار رجلاً فقال: ما ولدت هذه المرأة؟ فقال: جارية، فقال: أما إن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة رجل ويتزوجها أجيرها ويكون موتها بالعنكبوت، فقال الأجير في نفسه: فأنا والله ما أريد هذه بعد أن تبغي بمائة رجل، لأقتلها وأخذ شفرة ودخل وشق بطن الصبية وخرج على وجهه، فركب البحر فخيط بطن الصبية وعولجت، فشفيت وشبت، فكانت تبغي ساحلاً من سواحل البحر فأقامت هناك تبغي، ولبث الرجل ما شاء الله ثم قدم ذلك الرجل ساحل البحر ومعه مال كثير فقال لامرأة من أهل ساحل البحر: اختاري لي امرأة في القرية أتزوج بها، فقالت: هاهنا امرأة من أجمل الناس ولكنها تبغي، قال: آتيني بها، فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير وقال لي: كذا، فقلت: كذا، فقالت: إني تركت البغاء ولكن إذا أراد تزوجته قال: فتزوجها فوقعت منه موقعاً، فبينما هو يوم عندها إذا أخبرها بأمره فقالت: أنا تلك الجارية وأرته الشق في بطنها، وقد كنت أبغي فما أدري بمائة أو أكثر أوأقل، قال: فإنه قال لي: يكون موتها بالعنكبوت، قال: نبني لها برجاً في الصحراء وشيده، فبينما هو يوماً في ذلك البرج إذا عنكبوت في السقف، فقال: هذا عنكبوت، فقالت: هذا يقتلني، لا يقتله أحد ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي في الكامل (6/313، ترجمة 1799 مسلمة بن علي أبو سعيد الخشني الشامي) وهذا الرجل هو آفة الحديث التي من أجلها عد ضعيفاً كما بين المصنف. قال ابن عدي: قال يحيى بن معين: مسلمة بن علي ليس بشيء، وعن حماد قال: قال البخاري: مسلمة بن علي أبو سعيد الخشني الشامي منكر الحديث عن الأوزاعي، وقال النسائي مسلمة بن علي الخشني متروك الحديث، وذكر جملة من أحاديثه ومنها هذا الحديث وقال في آخر ترجمته: ولمسلمة غير ما ذكرت من الحديث وكل أحاديثه ما ذكرته وما لم أذكره كلها أو عامتها غير محفوظة. وترجم له الذهبي في الميزان (6/423، ترجمة 8533) وقال: واه حدث عن يحيى بن الحارث الذماري وجماعة، تركوه، قال دحيم: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: لا يشتغل به، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك.

غيري فحركته فسقط فأتته، فوضعت إبهام رجلها عليه فساخ سم بين ظفرها ولحمها واسودت رجلها وماتت، فنزلت هذه الآية ?أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ? (¬1) . قال العلماء: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثة أيام وأبو بكر - رضي الله عنه - كل وقت من هذه الأيام الثلاثة عنده حزن خوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول له: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا أو كما قال، وقد أشار إلى ذلك أبو بكر بقوله: قال النبي ولم يجزع يوقرني ... ونحن في سدف من ظلمة الغار لا تخش شيئًا فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لنا منه بإظهار بعد الثالث خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الغار. فائدة: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغار ليلة الاثنين أول يوم من ربيع الأول حكاه ابن الجوزي عن الكلبي. وقيل: خرج منه ليلة الاثنين أربع ليال خلون من ربيع الأول قاله ابن الملقن عن ابن سعد في الطبقات (¬2) . وساروا والدليل أمامهم حتى مروا بمكان يقال له قديد يوم الثلاثاء، وهناك خيمة منصوبة لامرأة يقال لها: أم معبد واسمها عاتكة (¬3) ، وهي جالسة في خيمتها وعندها شاة ضعيفة مهزولة تخلفت عن المراعي لشدة هزالها، وذهب زوجها ببقية الأغنام إلى المرعي فاستضافها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي لا تعرفه، فقال لها: يا أم معبد هل عندك من لبن؟ فقالت: لو كان ما أحوجتكم إلى الطلب، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما في هذه الشاة لبن؟ فقالت: إنها هزيلة تختلف عن المرعى لذلك، فقال: أتأذنين لي في حلابها؟ قالت: والله ما ضربها من فحل قط فشأنك وإياها، فدعا بها فمسح رسول ¬

(¬1) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (3/289) . (¬2) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/232) ذكره من قول عبد الملك بن وهب بلاغاً. (¬3) ترجم لها ابن حبان في الثقات (3/325، ترجمة: 1067) ونسبها فقال: أم معبد الخزاعية التي نزل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اسمها: عاتكة بنت خالد بن خليف ويقال بنت خالد بن خلف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس الكعبية من خزاعة. وانظر ترجمتها في الاستيعاب (4/1876، ترجمة: 4023) ، وفي الإصابة لابن حجر (8/305، ترجمة: 12259) وحديث الهجرة المروي عنها.

الله - صلى الله عليه وسلم - ضرع الشاة وظهرها فحلب في الإناء، وكان إناء يفي رهطاً فشرب من لبنها وسقى أصحابه، ثم حلب في الإناء أيضاً وتركه عندها، واستمرت البركة في تلك الشاة ببركتة - صلى الله عليه وسلم - ومن نسلها ما هو باق إلى زماننا هذا. وأما زوجها قال السهيلي: لا يعرف اسمه وقد ورد بأن اسمه: أكتم بن أبي الجون، فإنه جاء من المرعى وقت المساء، بعد أن سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى عندها لبناً في الإناء فقال لها: من أين هذا ولا حلوب عندك؟ قالت: يا أبا معبد مر بنا رجل ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد، يخلو الشعر في عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما، وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر، ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنوؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره محفود، محشود لا عابث ولا مفند، قال هذه والله صفة صاحب قريش، ولو رأيته لاتبعته ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، ثم هاجرت بعد ذلك هي وزوجها فأسلما وكان أهلها يفرحون بنزول الرجل المبارك (¬1) . ثم لما فارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم معبد وكان كفار مكة قد جعلوا لمن يقتل أو يأسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر دية كل واحد منهما، فبلغ ذلك سراقة بن مالك بن جعشم، وكذا قد بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ساروا على طريق السواحل، ¬

(¬1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/231) وما هاهنا مستفاد من رواية أبو معبد الخزاعي التي عند ابن سعد. ولأم معبد رواية فيها حديث الهجرة تاماً، فيه قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها وأوصافه نحو ما هاهنا بألفاظ متقاربة، رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/288) ، ورواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/252، رقم 3485) . والحديث أيضاً مروي عن حبيش صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أخو عاتكة أم معبد، قال ابن عبد البر في الاستيعاب (4/1876) ذكر أبو جعفر العقيلي ... فساق حديث أم معبد في هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال عقبه: وقد روي حديث أم معبد هذا بكماله عنها في رواية العقيلي هذه، وروي عن أبي معبد زوجها، وعن حبيش ابن خالد أخيها بمعنى واحد والألفاظ متقاربة.

فطمع في المال فأخذ رمحه وركب فرسه وتتبعهم، فلما دنى منهم وأحسن به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليه، فعثرت فرسه وسط عنها، ثم ركبها وسار حتى قرب منهم وسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين فنزل عنها وزحف فلم تستطع النهوض فطلب الأمان فدعا له رسول - صلى الله عليه وسلم - ثم زجرها فنهضت، فلما استوت قائمة فركبها وسار نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقع في نفسه ما لقي من الحبس عنهم وما اتفق لفرسه أنه سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينتصر على أعدائه، فلما وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرض عليهم الزاد والمتاع فلم يقبلوا منه شيئًا بل قالوا: أُخف عنا، ثم رجع سراقة إلى قومه إلى قومه بني مدلج، وأخبرهم بما اتفق له مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: لابد وإن يظهر أمره فسمع بذلك أبو جهل فأنشد يقول: بني مدلج إني أخاف سفهيكم ... سراقة يستغوي بنصر محمد عليكم أن لا يفرق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز وسودد فأجاب سراقة: أبا حكم والات لو كنت شاهداً ... لأمر جوادي أن تسيخ قوائمه عجبت ولن تشك بأن محمد ... نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه عليك بكف الناس عنه فإنني ... أري أمره يوماً ستبدوا معالمه بأمر تود النصر فيه بأنها ... لو أن جميع الناس طراً تسالمه وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه مضى إلى المدينة وكان المسلمون من أهل المدينة قد سمعوا خروجه - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وكان المسلمون كل يوم يخرجون إلى مكان يقال له: الحرة، ينتظرونه حتى يشتد الحر، ثم يرجعون فلما كان يوم قدومه وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة يوماً خلت من ربيع الأول، خرجوا ثم رجعوا إلى بيوتهم بعد ما طال انتظارهم وإذا يهودي صعد على جبل لحاجة فنظر من فوق فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فنادى بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه قد أقبل فخرجوا إليه سراعاً وتلقوه، فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف، ولبث عندهم

بضع عشر ليلة كما [رواه البخاري من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير] (¬1) ، وقيل: غير ذلك. وأسس لهم المسجد الذي ذكر في القرآن أنه أسس على التقوى وصلى فيه، ثم ركب راحلته فسار يمشي ومعه الناس، وكلما مر على طائفه من أهل المدينة يقولون له: أقم عندنا فإننا أصحاب عدد وعدد ومتعة، وهو راكب ناقته وهم يحجزونها، فيقول لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلوا سبيلها فإنها مأموره، حتى بركت عند مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: نزلت على باب المسجد ثلاث مراراً بركت أول مرة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها لم ينزل، ثم قامت وسارت غير بعيد، ثم رجعت إلى مبركها أول مرة ثم تحلحلت ثم عادت إليه فنزل عنها - صلى الله عليه وسلم - فقال حين بركت به: هذا إن شاء الله هو المنزل ثم اشتراه من اليتيمين بعشرة دنانير، ثم بناه مسجداً، وكان ينقل معهم اللبن في بنائه ويقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر بنا وأطهر اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة فائدة: وقال ابن سيد الناس (¬2) قال عبد الله بن سلام (¬3) : ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فانجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه - صلى الله عليه وسلم - عرفت أن وجهه ¬

(¬1) ما بين [] في الأصل: «كما رواه أنس من طريق البخاري» وهو خطأ، وما أثبت من صحيح البخاري فقد رواه معلقاً من قول ابن شهاب الزهري كما أثبت. انظر: صحيح البخاري (3/1421، رقم 3694) . قال ابن حجر في الفتح (7/243) : قوله: «قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي الزبير في ركب» هو متصل إلى ابن شهاب بالإسناد المذكور أولاً، وقد أفرده الحاكم من وجه آخر عن يحيى بن بكير بالإسناد المذكور ولم يستخرجه الإسماعيلي أصلاً، وصورته مرسل لكنه وصله الحاكم أيضاً من طريق معمر عن الزهري قال أخبرني عروة أنه سمع الزبير به، وأخرجه موسى بن عقبة عن بن شهاب به وأتم منه. قلت: والحديث من طريق معمر أيضاً عند عبد الرزاق في المصنف (5/395) . والحديث رواه موصولاً أيضاً من طريق آخر: الطبري في التاريخ (1/571) قال: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره بنحوه. (¬2) ابن سيد الناس هو: فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الشافعي الإمام الحافظ اليعمري الأندلسي الأشبيلي الأصل المصري المعروف بابن سيد الناس، ولد في ذي القعدة –وقيل: في ذي الحجة- سنة إحدى وسبعين وستمائة بالقاهرة، وسمع الكثير، وتفقه على مذهب الشافعي، وأخذ علم الحديث عن والده وابن دقيق العيد، ولازمه سنين كثيرة وتخرج عليه وقرأ عليه أصول الفقه، وقرأ النحو على ابن النحاس، وولى دار الحديث بجامع الصالح، وخطب بجامع الخندق، وكانت وفاته فجأة في حادي عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ودفن بالقرافة، وصنف كتباً نفيسة: منها السيرة الكبرى سماها: عيون الأثر في مجلدين، واختصره في كراريس وسماه: نور العيون، وشرح قطعة من كتاب الترمذي إلى كتاب الصلاة في مجلدين، وصنف في منع بيع أمهات الأولاد مجلداً ضخما يدل على علمه الكثير. انظر: شذرات الذهب (6/108) ، والحسيني في ذيل تذكرة الحفاظ (ص: 16) ، وذيل طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 350) . (¬3) هو: عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، أبو يوسف، صحابي، قيل: إنه من نسل يوسف بن يعقوب، أسلم عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان اسمه: «الحصين» فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله، وشهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية، ولما كانت الفتنة بين علي ومعاوية، اتخذ سيفاً من خشب، واعتزلها، وأقام بالمدينة إلى أن مات، له 25 حديثاً، وكانت وفاته سنة: 43هـ‍.

ليس بوجه كذاب، فأول ما سمعته يقول: «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (¬1) قال: أشرقت المدينة بقدومه - صلى الله عليه وسلم - وسرى السرور إلى القلوب بحلوله بها. وعن أنس بن مالك قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول لله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء. قال البراء بن عازب: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسنذكر كم كان له باب في زمانه، وكم كان طوله وعرضه وارتفاعه، وغيره إن شاء الله تعالى. وأنزل الله تعالى في مشاورة قريش في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ?وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ? [الأنفال: 30] والمكر: التدبير، والمعنى: ويدبرون ويدبر الله خير المدبرين (¬2) . ¬

(¬1) الحديث رواه الترمذي في سننه (4/652، رقم 2485) عن عبد الله بن سلام، قال الترمذي: هذا حديث صحيح. والحديث عند: ابن ماجه في سننه (1/423، رقم 1334) ، وأحمد في مسنده (5/451، رقم 23835) ، والحاكم في المستدرك (3/14، رقم 4282) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن أبي شيبة في المصنف (7/257، رقم 35847) ، والدارمي في سننه (1/405، رقم 1460) ، والطبراني في المعجم الأوسط (5/313، رقم 5410) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص: 179، رقم 496) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/418، رقم 719) ، وابن قانع في معجم الصحابة (2/132) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/235) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/433، رقم 404) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/502، رقم 4422) وفي شعب الإيمان (6/424، رقم 8749) . (¬2) إلى هنا انتهى السفيري من شرح هذا الحديث، ولم يتعرض بالشرح لقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» وحتى يتم المعنى وتعم الفائدة نستكمل الشرح من فتح الباري ففيه من الفوائد التي لا غنى عنها في هذا المقام. يقول ابن حجر: قوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» يحتمل أن يكون ذكره بالضمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها، وإنما أبرز الضمير في الجملة التي قبلها وهي المحذوفة لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما، بخلاف الدنيا والمرأة، فإن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله: «إلى ما هاجر إليه» متعلقاً بالهجرة، فيكون الخبر محذوفاً والتقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلاً، ويحتمل أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت، انتهي. وهذا الثاني هو الراجح لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقاً، وليس كذلك، إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر، وتزوج المرأة معا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله، لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف. ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت تزوجتك. فأسلم فتزوجته. وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم. واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر، وأما إذا نوى العبادة وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصاً لم يضمره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره. والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأن فيه العمل يكون منتفياً إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة الحكم، وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد. وعلى أن من صام تطوعاً بنية قبل الزوال أن لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث، لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر. ونظيره حديث: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها» أي: أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى، وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئا لا يمكن غفلتهم عنه، ولم يذكره غيره أن ذلك لا يقدح في صدقه، خلافاً لمن أعل بذلك، لأن علقمة ذكر أن عمر خطب به على المنبر، ثم لم يصح من جهة أحد عنه غير علقمة. واستدل بمفهومه على أن ما ليس بعمل لا تشترط النية فيه، ومن أمثلة ذلك: جمع التقديم، فإن الراجح من حيث النظر أنه لا يشترط له نية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام وقال: الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة. ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطاً لأعلمهم به، واستدل به على أن العمل إذا كان مضافاً إلى سبب ويجمع متعدده جنس أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأن معنى الحديث: أن الأعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفارة -وشك في سببها- أجزأه إخراجها بغير تعيين. وفيه زيادة النص على السبب، لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزويج المرأة، فذكر الدنيا القصة زيادة في التحذير والتنفير. وقال شيخنا شيخ الإسلام: فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصاً، فيستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

المجلس السادس

المجلس السادس مشتمل علي شيء من ترجمة الإمام مالك وبقية الأئمة الأربع وترجمة عائشة وغيرها والكلام على الحديث الذي سأله الحارث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول كيف يأتيك الوحي، يأتي في المجلس السابع. قَالَ البُخَارِي: «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها ... » . قوله: «قال حدثنا عبد الله بن يوسف» هذا هو أبو محمد التنيسي، أصله من دمشق، وكانت وفاته سنه سبع وثمان عشرة ومائتين. ويجوز في يوسف ست لغات ضم السين وفتحها، وكسرها مع الهمزة تركها، وهذه اللغة جارية في يونس أيضاً. «أنبأنا مالك» هذا هو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة الأصبحي المدني، الإمام المجتهد أحد الأعلام الذي سارت به الركبان، ولد في خلافة الوليد بن عبد الملك، سنه أربع، وقيل: سنه ثلاث وتسعين، ومناقبه جمة أفردت بالتأليف، وثناء الناس عليه مشهور معروف، ولو سكتوا لأثنت عليه الحقائب، أخذ الرواية من تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائه من التابعين وستمائة ممن تابعهم ممن اختاره وارتقى دينه وفقهه وقيامه بحق الرواية وشروطها، وسكنت النفس إليه، ومن مناقبه بل أجلها: أنه العالم

الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ينقطع العلم فلا يبقى عالم أعلم من عالم المدينة» رواه الترمذي وغيره (¬1) . وحديث آخر: «ليس على ظهر الدنيا أعلم منه، فتضرب الناس إليه أكباد الإبل» . وفي لفظ آخر «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة» (¬2) . فالمراد بعالم المدينة في الأحاديث المذكورة هو الإمام مالك كما قاله التابعون وتابعوهم، ولم يعرف أن أحداً ضربت إليه أكباد الإبل مثل ما ضربت إليه. قال أبو مصعب (¬3) : كان الناس يزدحمون علي باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام لطلب العلم. وقال يحيى بن شعبة: دخلت المدينة سنة أربع وأربعين ومائة ومالك أسود الرأس واللحية، والناس حوله سكوت لا يتكلمون هيبة له، ولا يفتي أحد في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، فجلست بين يديه، وسألته فحدثني فاستردته فزادني، ثم غمزني أصحابه فسكت. وقال مالك: ما جلست للفتيا حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني مرضاة لذلك. ومن مناقبة ما حكاه محمد بن رمح قال: حججت مع أبي وأنا صبي لم أبلغ الحلم ¬

(¬1) هذا اللفظ ليس عند الترمذي وإنما اللفظ الذي عند الترمذي الآتي بعده بطرف: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل ... » ، وأما هذا الطرف «ينقطع العلم ... الحديث» لم نقف عليه بهذا اللفظ. (¬2) رواه الترمذي في سننه (5/47، رقم 2680) عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو حديث ابن عيينة، وقد روي عن ابن عيينة أنه قال في هذا: سئل من عالم المدينة؟ فقال: إنه مالك بن أنس، وقال إسحاق بن موسى سمعت ابن عيينة يقول: هو العمري عبد العزيز بن عبد الله الزاهد، وسمعت يحيى بن موسى يقول: قال عبد الرزاق هو مالك بن أنس، والعمري هو عبد العزيز بن عبد الله من ولد عمر بن الخطاب. وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (2/489، رقم 4291) ، والحاكم في المستدرك (1/168، رقم 307) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والحميدي في مسنده (2/485، رقم 1147) ، والخطيب في تاريخ بغداد (5/306) . (¬3) أبو مصعب هو: أحمد بن القاسم أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، أبو مصعب الزهري المدني، ولد سنة 150هـ‍، شيخ أهل المدينة في عصره وقاضيهم ومحدثهم، لزم الإمام مالكاً وتفقه به، وروى عنه «الموطأ» ومات وهو قاض سنة 242هـ‍. قال الدارقطني: أبو مصعب ثقة في الموطأ، وقال ابن حزم: آخر ما روي عن مالك: موطأ أبي مصعب، وموطأ أبي حذافة، وفيهما زيادة على الموطآت نحو مائة حديث.

فنمت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الروضة بين القبر والمنبر، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج من قبره فقمت فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت: يا رسول الله أين أنت ذاهب؟ فقال: أقيم لمالك الصراط المستقيم، فتنبهت وأتيت أنا وأبي فوجدت الناس مجتمعين علي مالك وقد أخرج الموطأ وكان أول خروجه. ومن مناقبة الجليلة: أن امرأة غسلت امرأة بالمدينة في زمنه - رضي الله عنه - فوضعت الغاسلة يدها علي فرج الميتة، وقالت: طال ما عصى هذا الفرج ربه، فألتصقت يد الغاسلة في فرجها، فسألوا علماء المدينة عن أمرها، فبعضهم قال: تقطع يد الغاسلة، وبعض آخر قال: يشق فرج الميتة، وبعض آخر تحير في أمرها، فاستفتي الإمام مالك فقالوا: اسألوا الغاسلة ما قالت في حق الميتة لما وضعت يدها على فرجها؟ فسألوها فقالت: طالما عصى هذا الفرج، فقال مالك: هذا قذف اجلدوها ثمانين جلدة تتخلص يدها، فجلدوها فتخلصت يدها فمن ثم قيل: لا يفتى ومالك في المدينة. ولما اشتهر - رضي الله عنه - بالعلم انتشر وصفه وذكره في البلاد، وحملت إليه الأموال لانتشار علمه فكان يفرقها على أصحابه، وأصحابه يفرقونها في وجوه الخير موافقة لفعله، وما كان يدخرها. وكان يقول: ليس الزهد فقد المال، وإنما الزهد فراغ القلب عنه. وكان يقول أيضاً: ما كان رجل صادقاً في حديثه لا يكذب إلا متعه الله بعقله ولم تصبه عند الكبر عند الهرم آفة ولا خرف. وكان يقول أيضاً: إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للناس فيه خير. ومن مناقبة ما نقله في الحلية لأبي نعيم عن مالك أنه قال: ما بت ليلة إلا ورأيت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) . ومن مناقبة ما قاله عبد الله بن المبارك (¬2) قال: كنت عند مالك، وهو يحدثنا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقطع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما تفرق الناس عنه قلت يا أبا عبد الله لقد رأيت اليوم منك عجب قال: نعم صبرت إجلالاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان يحب أن يعظم أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحدث بشيء من أحاديثه في الطريق أي: وهو قائم مستعجل، وكان إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك علي جلسائه، فقيل له: لم ذلك؟ فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم ما ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/317) . (¬2) هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التميمي، المروزي، أحد الأئمة الأعلام، ومن كبار الحفاظ، روى عن إبراهيم بن طهمان، وأسامة بن زيد وغيرهما، وروى عنه: إبراهيم بن شماس السمرقندي، وبقية بن الوليد، وسعيد بن عمرو الأشعثي، وغيرهم. أمه خوارزمية، وأبوه تركي، وكان عبداً لرجل من بني حنظلة، خرج إلى العراق سنة (141هـ) ، كان طالباً ومحباً للعلم حتى قال عنه أحمد بت حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه. له مؤلفات منها: كتاب الرقائق، وكتاب الجهاد، توفى رحمه الله سنة (181هـ) . انظر: تهذيب الكمال (1/466، ترجمة رقم: 303) ، الوفيات (ص: 143) ، حلية الأولياء (8/162) ، الكاشف (2/123، ترجمة: 2975) .

ترون. وعن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - قال: رأيت على باب مالك دوآباً من فراس خراسان جاءته هدية مني إليك، وقيل: من مصر ما رأيت أحسن منها، فقلت له: ما أحسن هذه الدوآب فقال: هي هدية مني إليك دع لنفسك منها دآبة تركبها، فقال: إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بحافر دآبة حملت به أمه ثلاث سنوات، وكان يمنع من الصلاة بعد العصر فدخل يوماً الجامع فقال له: قم فاركع ركعتين، فقام وصلى، فقيل له: كيف خالفت مذهبك؟ فقال: خشيت أن أكون من الذين قيل لهم: اركعوا ولا يركعون، وكان نقش خاتمه: حسبي الله ونعم الوكيل. ولما حضرته الوفاة تشهد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد، وكانت وفاته سنة سبع وسبعين ومائة بالمدينة، عن خمس وثمانين سنة، ودفن بالبقيع وهو أحد الائمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة المشهورة. وثانيهم إمام الأئمة الإمام الشافعي اسمه: محمد بن إدريس، أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً» (¬1) ، كما قاله العلماء من المتقدمين وغيرهم لأنه ¬

(¬1) رواه ابن أبي عاصم في السنة (2/637، رقم 1522) عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً بلفظ: «لا تسبوا قريشاً، فإن علم عالمها يملأ الأرض علماً» . وأخرجه الطيالسي (ص: 39، رقم 309) وفيه زيادة في آخره، وكذا أخرجه الشاشي في مسنده (2/169، رقم 728) . والحديث ضعيف فيه: النضر بن حميد الكندي يرويه عن أبي الجارود عن أبي الأحوص عن ابن مسعود، ترجم له العقيلي في الضعفاء (4/289، ترجمة 1883) وروى حديثه هذا. ولكن للحديث شواهد كلها تؤكد أنه حديث حسن فقد رواه أحمد بصيغة التمريض تحرزاً من ضعفه كما نقل عنه ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق (51/339) قال: روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبراً قلت: فيها يقول الشافعي لأنه إمام عالم من قريش وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عالم قريش يملأ الأرض علماً» وروى أحمد بن حنبل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: ولا يتصور أن الأمام أحمد بجلالته في الحديث أن يستشهد بحديث موضوع، وقد ناقش هذه القضية العجلوني في كشف الخفا (2/69) وقال: قال الحافظ العراقي: ليس بموضوع كما زعم الصغاني إذ كيف يذكر الإمام أحمد حديثاً موضوعاً يحتج به، أو يستأنس به للأخد في الأحكام بقول شيخه الإمام الشافعي، وإنما أورده بصيغة التمريض احتياطاً للشك في ضعفه، فإن إسناده لا يخلو عن ضعف. وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في كتاب سماه: «لذة العيش في طرق الأئمة من قريش» وبه يعلم أنه حسن وصرح بذلك الترمذي ونقله النجم عن المدخل للبيهقي عند أحمد بلفظ: «عالم من قريش يطبق الأرض علماً» ثم قال: ورواه الحاكم والأبدي كلاهما في المناقب عن علي بلفظ: «لا تؤموا قريشاً وأئتموا بها ولا تقدموا على قريش وقدموها، ولا تعلموا قريشاً وتعلموا منها، فإن أمانة الأمين من قريش تعدل أمانة اثنين من غيرهم، وإن علم عالم قريش يسع طباق الأرض» وفي رواية الأبدي: «فإن علم عالم قريش مبسوط على الأرض» . ورواه القضاعي عن ابن عباس بلفظ: «اللهم اهد قريشاً فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض، اللهم أذقت أولها نكالا فأذق آخرها نوالاً» ورجاله رجال الصحيح إلا إسماعيل بن مسلم ففيه مقال. وللحديث شواهد أخرى وكلها تنطبق كما قال العجلوني نقلاً عن الإمام أحمد تنطبق على إمامنا الشافعي. قال البيهقي وابن حجر: طرق هذا الحديث إذا ضمت بعضها إلى بعض أفادت قوة وعلم أن للحديث أصلاً. انظر: كشف الخفا (2/69) .

لم يكن في الأئمة قريشي قبل الشافعي، ولم يتصف بهذه الصفة أحد قبله ولا بعده فهو العالم المبعوث في رأس المائة الثانية. المشار إليه في حديث أبي داود «ويبعث الله على كل رأس مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» (¬1) فإنه مات سنه أربع بعد مائتين. وكان - رضي الله عنه - يختم القرآن في كل يوم مرة، وكان يختم في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة وكان بقول: من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وخالفها في قلبه فقد ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4/109، رقم 4291) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضاً: الحاكم في المستدرك (4/567، رقم 8592) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/323، رقم 6527) ، وأبو عمرو المقرئ في السنن الواردة في الفتن (3/742، رقم 364) ، والديلمي في الفردوس (1/148، رقم 532) . قلت: وأما قول المصنف: إن إمامنا الشافعي هو المشار إليه بهذا الحديث، فقد ورد ذلك عن أفاضل العلماء وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، فقد روى الخطيب في تاريخ بغداد (2/62) من طريق أبي سعيد الفريابي قال: قال أحمد بن حنبل: إن الله تعالى يقيض للناس في كل راس مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي - رضي الله عنه -. وقال الذهبي في السير (17/195) : قال ابن الصلاح والشيخ أبي حامد تأول بعض العلماء هذا الحديث فكان الشافعي على رأس المئتين.

كذب، وكان يقول أيضاً: ما حلفت بالله في عمري لا كذاباً ولا صادقاً. وسئل مرة عن مسألة فسكت، فقيل له: لم لا تجب؟ فقال: حتى أعلم الفضل في السكوت أم في الجواب. وأما سخاؤه فقد روى الحميدي أن الشافعي - رضي الله عنه - خرج إلى اليمن في بعض أشغاله ثم انصرف إلى مكة ومعه عشرة آلاف درهم، فضرب خيمته خارج مكة فكان الناس يأتونه، فما راح من مكانه حتى فرقها جميعها، وخرج يوماً من الحمام وقد أتى بمال كثير فدفعه إلى الحمامي. وسقط سوط من يده وهو راكب فرفعه إليه إنسان فأعطاه خمسين دينار. وكان عفيفاً عن اللغو والكلام الفاحش، مر يوماً برجل يسفه على رجل من أهل العلم فالتفت الشافعي فقال: نزهوا أسماعكم عن سماع الخنا كما تنزهوا ألسنتكم عن النطق به فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه لينظر إلى أحب شيء في وعائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم، ولو ردت كلمة السفيه لشقي رادها كما يشقي قائلها. ومن كلامه: أظلم الظالمين لنفسه الذي ارتفع جفاء أقاربه، وأنكر معارفه، واستخف بالأشراف، وتكبر علي ذوي الفضل. قال بعضهم للشافعي ثلاث كلمات لم يسبق إلى واحدة منهن قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقوله: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلى حرف منه، وقوله: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يظهر الله الحق علي يديه. وله شعر كثير يحتوي علي حكم ومواعظ، وله أدعيه كثيرة روى عبد الله بن مروان قال: كنت أجلس في حلقة العلم عند الإمام الشافعي، وأكتب ما أفهمه منه فآتيته سَحراً، فوجدته في المسجد وهو قائم يصلي فلبثت حتى فرغ من صلاته، ثم دعا بدعوات حفظتها منه فكان من جملة ذلك: اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة، وهب لنا تصحيح المعاملة فيما بيننا وبينك على السنة، وارزقنا صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك، وامنن علينا بكل ما يقربنا إليك مقروناً بالعافية في الدارين برحمتك يا أرحم الراحمين، قال: فلما فرغ من دعائه خرج من المسجد وخرجت خلفه فوقف ينظر إلى السماء ثم أنشد فقال: بموقف زلي عند عزتك العظمى ... بمخفي لا نحيط به علما بإطراق رأسي باعترافي بزلتي ... بمد يدي أسقط الجود والرحما

بأسمائك الحسنى التي بعض وصفها ... لعزتها تستغرق النثر والنظما بعهد قديم من ألست بربكم ... بمن كان مجهولاً فعلمته الأسما أذقنا شراب الأنس يا من إذا سقى ... محباً شراباً لا يضام ولا يظما قرأ بعضهم عنده يوماً قوله تعالى ?هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ? [المراسلات: 35، 36] فتغير لونه واقشعر جلده واضطربت مفاصله وخر مغشياً عليه، فلما أفاق قال: أعوذ بك من مقام الكاذبين، وإعراض الغافلين، اللهم خضعت لك قلوب العارفين، وذلت لهيبتك المشتاقون، إلهي هب لي جودك بسترك، واعف عني في تقصيرى بكرمك، يا ذا الجلال والإكرام. كان هذا خوف الشافعي مع علمه ويح للجاهلين الغافلين، أعمارهم تنهب، وآثامهم تكتب. وكان الإمام أحمد بن حنبل يعظم الشافعي ويذكره كثيراً ويثني عليه، وكانت له ابنة صالحة تقوم الليل وتقوم النهار، وتحب أخبار الصالحين الأخيار، وتود أن ترى الشافعي لتعظيم أبيها له، فاتفق مبيت الشافعي عند أحمد ففرحت البنت في ذلك طمعاً أن ترى أفعاله وتسمع، فلما كان الليل قام الإمام أحمد إلى وظيفة صلاته، وذكره والإمام الشافعي مستلق علي ظهره والبنت تراقبه إلى الفجر فقالت: لأبيها يا أبت أنت تعظم الشافعي وما رأيت في هذه الليلة منه لا صلاة ولا ذكراً ولا ورداً، فبينما هو في الحديث إذ قام الإمام الشافعي، فقال له الإمام أحمد: كيف كانت ليلتك فقال ما بت ليلة أطيب منها ولا أبرك ولا أربح، فقال: وكيف ذلك؟ قال: لأني رتبت في هذه الليلة مائة مسألة، وأنا مستلق علي ظهري كلها في منافع المسلمين ثم ودعه ومضى، فقال أحمد لابنته: هذا عمله الليلة وهو نائم أفضل من الذي عملته وأنا قائم. كانت حركاتهم وسكناتهم لله دافعاً لهم، وأقوالهم لله وذكرهم وفكرهم في الله، فقيامهم طاعة، ونيامهم صدقة، وذكرهم تسبيح، وسكونهم فكر، وعلمهم شفاء ورحمة للأمة لا جرم أن الله ذكرهم ومنحهم ومدحهم وجعلهم أئمة الإسلام وقدوة الأنام. وكان مولد الشافعي بغرة، وقيل: بعسقلان، وقيل: باليمن سنه خمسين ومائة وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وأذن له مالك ابن أنس في الفتوى وهو ابن خمس عشرة سنة وكانت وفاته رحمة الله تعالى يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين كما تقدم، بمدينة مصر ودفن في الفسطاس، وله قبة عظيمة هناك، وأسف على موته أحمد بن حنبل، وكان لأحمد ولد يقال له: عبد الله

قال لأبيه يوماً يا أبت أراك تكثر الثناء والمدح للإمام الشافعي وتكثر الدعاء، أي رجل كان الشافعي؟ فقال: يا بني إن الشافعي كالشمس للنهار، كالعافية للناس، فانظر هل لهذين خلف أو عنهما عوض. عن تلميذه الربيع (¬1) قال رأيت الشافعي في المنام بعد وفاته فقلت: يا أبا عبد الله ما صنع بك قال: أجلسني على كرسي من ذهب وتبر على لؤلؤ الرطب رحمه الله. وثالث الأئمة أرباب المذاهب: الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وأرضاه، وكان إمام أهل زمانه علماً وعملاً وورعاً. قال الإمام الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أروع ولا أعلم من أحمد بن حنبل، وكان يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، ودعا إلى الخلق، القول بخلق القرآن وإمكان الرؤية فامتنع، ضرب وسجن وهو مصر على الامتناع، وزلزلت الأرض يوم ضرب. قال الهلال بن العلاء: مُنَّ على هذه الأمة بالشافعي تفقه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس. ومن مناقبة العظيمة الجليلة ما حكاه ابن جماعة في كتاب أنس المحاضرة عن سلمه بن شيب قال كنا عند أحمد ابن حنبل فجاءه رجل فدق الباب أولاً وثانياً فقال أحمد: ادخل قال فدخل فسلم، وقال: أيكم فأشار بعضنا إليه قال: جئت من البحر من مسيرة أربعمائه فرسخ أتاني آت في منامي فقال: آت أحمد بن حنبل وسل عنه، فإنك تدل عليه، وقل له: إن الله عنك راض وملائكة سماواته عنك راضون، وملائكة الأرض عنك راضون، قال: ثم خرج فما سأله عن حديث ولا مسأله. وسيأتي في مناقب سفيان الثوري شيء من مناقبة، وكانت وفاته سنة إحدي وأربعين ومائتين عن سبع وسبعين سنة. قرأ على الإمام الشافعي كان إذا ركب الشافعي يمشي معه في ركابه أدباً، وكان كل منهما يزور الآخر فأنشد الشافعي في هذا المعنى: قالوا يزورك أحمد وتزوره ... قلت لفضائل ما تعدت منزله إن زارني أو زرته فبفضله ... فلفضله فالفضل في الحالين له ورابعهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت - رضي الله عنه - وكان من التابعين فإنه رأى أنس هكذا قيل، لكن قال ابن حجر في التهذيب: لم يثبت أنه رأى أحداً من الصحابة، وهو فقيه العراق، وإمام أهل الرأي قال فيه مالك: رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن ¬

(¬1) هو: أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي بالولاء، المصري، صاحب الإمام الشافعي وراوي كتبه، وأول من أملى الحديث بجامع ابن طولون، ولد سنة: 174هـ‍ في مصر، كان مؤذناً، وفيه سلامة وغفلة ووفاته كانت أيضاً بمصر سنة: 270هـ‍.

يجعلها ذهباً بحجته. وقال ابن المبارك: ما رأيت رجلاً في الفقه مثله. وقال الثوري: هو أفقه أهل الأرض. وقال أبو نعيم: هو صاحب غوص في المسائل. وقال الشافعي: الناس عيال علي أبي حنيفة في الفقه. وقال أسد بن عمرو: صلى أبو حنيفة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، وكان عامة الليل يقرأ جميع القرآن في ركعة، وكان يسمع بكاؤه في الليل حتى ترحمه الجيران. وطلبه ابن هبيرة ليالي القضاء فأبى، فضربه مائه سوط وعشرة أسواط في كل يوم سبعين ألف مرة. ومن مناقبة: أن امرأة جاءته وهو في الدرس فألقت له تفاحة نصفها أحمر ونصفها أصفر فأخذها وكسرها، وأعادها إليها ففهمت المرأة الجواب، فسئل عن ذلك فقال: قالت إنها ترى الحمرة والصفر فمتى اغتسل؟ فقلت لها: حتى ترى الطهر الأبيض كباطن التفاحة. ونقل ابن جماعة في كتاب أنس المحاضرة عن علي بن ميمون قال: سمعنا الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم يعني زائراً، فإذا عرضت له صليت ركعتين، وجئت إلى قبره وسألت الله الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تقضي. وكانت وفاته سنه إحدي وخمسين ومائة وهو ابن تسعين سنة وهو وأحمد بن حنبل مدفونان ببغداد فهؤلاء الأربعة الأعلام أئمة الإسلام، اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة. قال بعض الصالحين رأيت في المنام أني دخلت الجنة فرأيت في وسطها عموداً من نور، ورأيت أربعة يجرونه بأربعة سلاسل وهو ثابت لا يتغير من مكانه، فقلت: يا لله العجب، وهؤلاء من جهة واحدة لكان أسهل عليهم، فسألت بعض الملائكة عن ذلك فقال: هذا العمود هو دين الإسلام وهؤلاء الأربعة الذين يجرون هم أئمة الإسلام الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ومالك رضي الله عنهم، فاتفاقهم حجة قاطعة وقولهم حق، واختلافهم رحمة للمسلمين. هذه والله صفات العلماء الذين تبكي على فقدهم الأرض والسماء، فهم العلماء الزهاد، وأهل الإخلاص والسداد، حنت إليهم القلوب، وانقادت إليهم النفوس، وزلت لهم الصعاب، وخضعت لهم الرؤوس، فهم في الأقطار كالأقمار والشموس، لا جرم

صار ذكرهم مكتوباً باقي القرون، وأما من تصنع بالرياء، وعمل لأجل الدنيا، وغرته أمانيه، ويشتهي أن يمدح بما ليس فيه، فذلك من أهل الأذهان المعكوسة، والأفكار المولوسة، نشد بعضهم في الأربعة فقال: فالشافعي له علوم نشرت ... بين الورى وله ثناء يعبق ولمالك نشرت علوم مالها ... حد كبحر زاخر يتدفق ولأحمد تعزى العلوم لأنه ... يروي في الحديث وصدقه يتحقق وأبو حنيفة سابق فلأجل ذا ... وآثاره وعلومه لا تستبق فهم الأئمة خصهم رب العلى ... بالفضل منه فثناؤهم لا يلحق قوله: «عن هشام بن عروة عن أبيه» أما هشام فهو تابعي، ولد سنة إحدى وستين وتوفي ببغداد في ولاية المنصور سنة ست أربعين ومائة، وأما أبوه عروة فهو: أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويله بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي المدني التابعي الجليل، المجمع على إمامته، وتوثيقه ووفور علمه، وهو أحد فقهاء المدنية السبعة، وهم سعيد بن المسيب (¬1) ، وعروة بن الزبير (¬2) ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (¬3) ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - (¬4) ، وسليمان بن يسار (¬5) ، وخارجه بن زيد بن ثابت (¬6) ، وأبو بكر بن عبد الحارث بن هشام (¬7) ، وقد جمعهم بعض الفضلاء فقال: ألا إن من لا يقتدي بأئمة فقسمته ... ضيزي عن الحق خارجة فخذهم عبيد الله عروة وقاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجة فائدة: قال شيخ الإسلام كمال الدين الدميرى: من الفوائد المستغربه ما أخبرني به بعض أهل الخير أن أسماء الفقهاء السبعة الذين كانوا بالمدينة المشرفة إذا كتبت في رقعة وجعلت في القمح لا يسوس ما دامت الرقعة فيه. قال: وأفاداني بعض أهل الخير والتحقيق أن أسماءهم إذا كتبت وعلقت على الرأس، وذكرت عليها أزالت الصداع العارض لها. وأم عروة هي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وجمع عروة الشرف من وجوه فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صهره، وأبو بكر جده، والزبير والده، وأسماء أمه، وعائشة خالته. وقيل: كان عروة بحراً لا يدركه الدلاء. وقال ولده هشام: صام أبي الدهر وما مات إلا وهو صائم. ¬

(¬1) هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد، ولد سنة: 13هـ‍، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان يعيش من التجارة بالزيت، لا يأخذ عطاءاً، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، حتى سمي راوية عمر. توفي بالمدينة سنة: 94هـ‍. (¬2) هو: عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي أبو عبد الله، ولد سنة بن الزبير 22هـ‍، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان عالماً بالدين، صالحاً كريما، لم يدخل في شيء من الفتن، وانتقل إلى البصرة، ثم إلى مصر فتزوج وأقام بها سبع سنين وعاد إلى المدينة فتوفي فيها سنة: 93هـ‍، وهو أخو عبد الله بن الزبير لأبيه وأمه، و «وبئر عروة» بالمدينة منسوبة إليه. (¬3) هو: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله، مفتي المدينة، وأحد الفقهاء السبعة فيها، من أعلام التابعين، له شعر جيد أورد أبو تمام قطعة منه في: الحماسة، وأورد أبو الفرج كثيراً منه في الأغاني، وهو مؤدب عمر بن عبد العزيز. قال ابن سعد: كان ثقة عالماً فقيهاً كثير الحديث والعلم بالشعر، وقد ذهب بصره. مات بالمدينة سنة: 98هـ‍. (¬4) هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد، أحد الفقهاء السبعة في المدينة، ولد فيها سنة 37هـ‍، وتوفي «بقديد» بين مكة والمدينة حاجاً أو معتمراً سنة: 107هـ‍، وكان صالحاً ثقة من سادات التابعين، عمي في أواخر أيامه، قال ابن عيينة: كان القاسم أفضل أهل زمانه. (¬5) هو: سليمان بن يسار، أبو أيوب، مولى ميمونة أم المؤمنين، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان سعيد بن المسيب إذا أتاه مستفت يقول له: اذهب إلى سليمان فإنه أعلم من بقي اليوم، ولد في خلافة عثمان سنة: 34هـ‍، وكان أبوه فارسياً، قال ابن سعد في وصفه: ثقة عالم فقيه كثير الحديث، وكانت وفاته سنة: 107هـ‍. (¬6) هو: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري أبو زيد، من بني النجار، ولد سنة: 29هـ‍، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة، وأحد التابعين، أدرك زمان عثمان وتوفي بالمدينة سنة: 99هـ‍. (¬7) هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام المخزومي القرشي، ولد في خلافة عمر، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان من سادات التابعين، وكان مكفوفاً، ويلقب براهب قريش توفي في المدينة سنة: 94هـ‍.

ومن فضائله: أنه وقع له واقعة ومحنة عجيبة فلقاها بالصبر والرضا، وذلك أنه وقعت له أكلة في رجله فأمر الطبيب بقطعها فقال له: لا فعل لأن هذا شرفني الله به بل أصبر، فلما ارتفعت إلى الساق قيل له: إن ارتفعت إلى الركبة قتلتك، فأجاب إليه قطعها خوفاً من الله لئلا يكون قتل نفسه، فقال له الطبيب: اشرب دواء حتى لا تحس بالألم، فقال: لا امنع نفسي أجراً ساقه الله لي، فقيل لو أمسكك بعض أولادك، فقال: الرضا بقضاء الله يمنعني من ذلك فقطعها الطبيب، وهو يهلل ويكبر فلما رأى قدمه مع الطبيب خذها وقبلها، وقال: اللهم إنك تعلم أني ما مشيت في معصيتك، ثم بعد ساعة قيل له: أعظم الله أجرك فقال: إن كان في رجلي فقد احتسبتها عند الله، فقيل له: في ولدك فقال: اللهم إن كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد، وكان لي بنون أربعة فأخذت واحد وأبقيت لي ثلاثة. وكان مولده سنه عشرين، وكانت وفاته سنة أربع وتسعين. قوله: «عن عائشة» هذه الصديقة بنت الصديق والحبيبة بنت الحبيب أبي بكر عثمان بن عامر عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمية. كنيتها: «أم عبد الله» كناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير وقيل: بسقط لها (¬1) . ¬

(¬1) قال محب الدين الطبري في السمط الثمين (ص: 25) : يروى أنها أسقطت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت والصحيح أنها كانت تكنى بابن أختها عبد الله (انتهى) . قلت: والرواية التي فيها أنه كان لها سقط من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/313) بلفظ عن عائشة أنها قالت: «أسقطت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقطاً فسماه عبد الله وكناني به» ، وأخرجه أيضاً: الرافعي في في التدوين (1/464) . قال ابن حجر في التلخيص (4/147) : في إسناده داود بن المحبر وهو كذاب، وجزم بعدم صحة الخبر المناوي في فيض القدير (4/112) . ويؤيد عدم صحة الخبر ما أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/54، رقم 7117) عن عائشه وفيه أنها قالت: «فما زلت أكني به وما ولدت قط» أي: عبد الله ابن أختها. وبما أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/42، رقم 19858) ، ومن طريقه أحمد في المسند (6/151، رقم 25222) ، والطبراني في المعجم الكبير (23/18، رقم 35) عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة قالت يا رسول الله كل نساءك لهن كنية غيري، فقال لها: «اكتني أنت أم عبد الله» ، فكان يقال لها: أم عبد الله حتى ماتت ولم تلد قط. وبما أخرجه أبو داود (4/293، رقم 497) ، وأحمد في المسند (6/151، رقم 26285) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: كل صواحبي لهن كنى، قال: «فاكتني بابنك عبد الله» يعني ابن أختها. قال عبد الله بن الزبير: فكانت تكنى بأم عبد الله حتى ماتت. قال ابن حجر في التلخيص (4/148) سنده صحيح. وبما أخرجه الطبراني في الكبير (23/18، رقم 34) عن عائشة قالت: «كناني النبي - صلى الله عليه وسلم - أم عبد الله ولم يكن لي ولد قط» . وبما أخرجه الطبراني أيضاً: (23/19، رقم 39) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة ولم يولد لها» . وبمجموع هذه الروايات والأحاديث التي يشد بعضها بعضاً بان لنا بطلان من يقول أن لها سقط وكنيت به استناداً إلى رواية داود بن المحبر، قال ابن حجر في التلخيص (4/148) وهذا كله يضعف رواية داود بن المحبر، وقد سبق أن الحافظ قال: إنه كذاب.

تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبيل الهجرة سنتين وهي بنت ست ستين في شوال وبنى بها في المدينة بعد منصرفه من بدر في شوال أيضاً سنة ستين من الهجرة، وقيل: بعد سبعة أشهر من الهجرة، وهي بنت تسع سنين. والأحاديث في فضلها كثيرة مشهورة وعائشة تقرأ بالهمز، وقال الزركشي وعوام المحدثين: تقرأ بياء صريحة، مأخوذة من العيش، ويقال في لغة فصحية: عيشة، وكنية أمها أم رومان بفتح الراء وضمها، واسمها: زينب، وكان لعائشة أخ يقال له: عبد الرحمن. ولها فضائل وخصائص منها: أنها صورت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل عقده عليها، فقد ورد أن خديجة لما ماتت رضي الله عنها اغتم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه جبريل كما في الترمذي بصورتها في خرفة حرير خضراء، قال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة (¬1) . وقيل: جاءه بورقة من الجنة منقوش عليها صورة عائشة، وقال يا أحمد الجبار يقرئك السلام ويقول: إني زوجتك البكر التي تشبه هذه الصورة في السماء، فتزوجها أنت في الأرض، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الدلالة وقال: هل تعرفين في مكة بكر تشبه هذه الصورة، قالت: نعم بنت أبي بكر تشبه هذه الصورة، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وقال: إن ¬

(¬1) رواه الترمذي في سننه (5/704، رقم 3880) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمرو بن علقمة، وقد روى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن علقمة بهذا الإسناد مرسلاً، ولم يذكر فيه عن عائشة، وقد روى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من هذا. وأخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (16/6، رقم 7094) .

لك بنتاً تسمى عائشة زوجني الله بها في السماء، وأمرك أن تزوجني بها في الأرض قال: إنها صغيرة فقال: لو لم تكن صالحة ما زوجنيها الله، فعقد النكاح ورجع أبو بكر إلى منزله وأرسل مع عائشة طبقاً من التمر وقال: قولي له: هذا الذي سأل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا أدري هل يصلح فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته بذلك فقال يا عائشة: قبلنا ثم قبلنا. ومنها: أنها قالت يا رسول الله أدع الله أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر فرفع يده حتى رأت بياض إبطيه وقال: «اللهم اغفر لعائشة بنت أبي بكر مغفرة ظاهرة وباطنة، لا تغادر ذنباً ولا تكسب بعدها خطيئة ولا إثماً» ثم قال: «يا عائشة» قلت: إي والذي بعثك بالحق فقال: «والذي بعثني بالحق ما خصصتك بها من بين أمتي، وإنها لصلاتي في الليل والنهار، لمن مضى منهم ومن بقي إلى يوم القيامة، فأنا أدعو لهم والملائكة يؤمنون على دعائي» (¬1) . ومن فضائلها كما قاله في نزهة المجالس: ما روي عن النعمان بن بشير قال: جاء أبو بكر يوماً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له في الدخول، فوجد عائشة رافعة صوتها فغضب وقال: يا بنت أم رومان ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأراد ضربها، فحال النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبينها، فلما خرج أبو بكر جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يتراضاها ويقول: ألا ترين قد حلت بينك وبينه، ثم عاد أبو بكر فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يتراضاها ويضاحكها فقال ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/47، رقم 7111) عن عائشة بلفظ: «أنها قالت: لما رأيت من النبي - صلى الله عليه وسلم - طيب نفس قلت: يا رسول الله ادع الله لي فقال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر ما أسرت وما أعلنت، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيسرك دعائي؟ فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: والله إنه لدعائي لأمتي في كل صلاة» . ورواه أيضاً: البزار كما في مجمع الزوائد (9/244) قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة. ووقع عند ابن أبي شيبة في المصنف (6/390، رقم 32285) أن الذي طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدعاء أبويها وهو من رواية أبو بكر بن حفص قال: جاءت أم رومان وهي أم عائشة وأبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول الله ادع الله لعائشة دعوة نسمعها فقال عند ذلك: «اللهم اغفر لعائشة ابنة أبي بكر مغفرة واجبة ظاهرة وباطنة» . ورواه الديلمي في الفردوس (1/498، رقم 2032) عن عائشة بلفظ: «اللهم اغفر لعائشة مغفرة ظاهرة وباطنة واسعة محللة لا تغادر دنساً ولا تكتسب بها إثماً» .

رسول الله: أشركاني في سلمكما، كما أشركتماني في حربكما. ونقل النسفي أن عائشة قالت: للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً ما في بيتك شيء يؤكل، فغضب وخرج من البيت فأرادت مصالحته فسبقها بالخروج، فوضعت خدها على التراب وتضرعت إلى الله بالبكاء، فلما وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجله على باب المسجد وأراد الدخول جاء جبريل يطبق من الحلوى فقال: إن الله تعالى يقول: كان الصلح منا وطعام الصلح علينا. وهي أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روي لها من الأحاديث ألفاً حديث وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة عشر وسبعين حديثاً، وانفرد مسلم بثمانية وستين، والبخاري بأربعة وخمسين. ومما اجتمع لها من الفضائل: أنها زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت خليفته - رضي الله عنه - وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتها ورأسه في صدرها، وجمع الله بين ريقه وريقها، ودفن في بيتها، وكان ينزل عليه الوحي وهو في فراشها بخلاف غيرها، وخلقت طيبة ووعدت مغفرة، ولم يتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بكراً غيرها، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقيم لها ليلتين وليلة سوده بنت زمعه لأنها وهبتها ليلتها لما كبرت، ولنسائه ليلة ليلة، وكان يدور علي نسائه ويختم بعائشة. ومن فضائلها: أن الله أنزل برأتها من السماء لما تكلم في حقها أهل الإفك وقذفوها حيث قال ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ....? إلى آخر الآيات العشرة [النور: 11-20] ، وقذفها بعد نزول برأتها كفر، لأنه مكذب للقرآن. ورد في بعض الأخبار عن ابن عباس أنه قال: لم يكن لنبي امرأة زانية. وقال عروة: كانت عائشة أعلم الناس بالقرآن وبالحديث وبالشعر. وقال أبو موسى الأشعري (¬1) : ما أشكل علينا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً، واستقلت بالفتوى زمن أبي بكر وعثمان فمن بعدهم. وماتت رضي الله عنها في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين، وهي بنت ست وستين سنة، ودفنت بالبقيع ليلاً وصلى عليها أبو هريرة - رضي الله عنه - أقامت في صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أعوام وخمسة أشهر وتوفي عنها وهي بنت ثمان عشرة. ¬

(¬1) أبو موسى هو: أبو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولزمه وجاهد معه، وأرسله مع معاذ بن جبل - رضي الله عنه - والياً على شعب من اليمن، توفي - رضي الله عنه - سنة (44هـ) . انظر: غاية النهاية (1/442) ، وحلية الأولياء (1/256) ، والطبقات الكبرى (7/302) ، وتهذيب الأسماء للنووي (2/298) .

ونقل شيخنا الجلال السيوطي في الخصائص: أن في معاني الآثار للطحاوي قال أبو حنيفة: كان الناس لعائشة محرماً فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم، وليس لغيرها من النساء ذلك (¬1) . وقول البخاري عن عائشة أم المؤمنين وصفها بأم المؤمنين مقتبس من قوله تعالى ?وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ? [الأحزاب: 6] المراد: أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - المدخول بهن وغير المدخول بهن يقال لهن: أمهات المؤمنين. والقصد من تسميتهن بأمهات المؤمنين تحريم نكاحهن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوب احترامهن وطاعتهن، كما يحرم نكاح الأمهات، ويجب احترامهن وطاعتهن، وليس المقصود من تسميتهن بذلك أنه يجوز الخلوة بهن والنظر إليهن كما يجوز النظر والخلوة إلى الأمهات، بل كان نظر الأجنبي إليهن حراماً، وخلوته بهن كذلك، وكان نكاح بناته له جائز. والحكمة في تحريم نكاحهن بعده - صلى الله عليه وسلم - على أمته حتى لا يكن يوم القيامة تحت غيره، فإن المرأة تكون مع آخر زوج لها على خلاف في ذلك سيأتي. ويقال لهن: أمهات المؤمنين أيضاً على الراجح قاله ابن حجة. وهل يقال لرسول الله: أبو المؤمنين كما يقال لنسائه أمهات المؤمنين؟ الأصح الجواز قال البغوي (¬2) : إنه - صلى الله عليه وسلم - كان أباً للرجال والنساء وأما قوله تعالى ?مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أحد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ? [الأحزاب: 40] فالمراد منه: ما كان أبا أحدكم لصلبه، بل كان في الحرمة قال النووي: ولا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين، ولا بأيهن أجداد المؤمنين، ولا لأماتهن جدات المؤمنين، ولا لأخواتهن أخوال المؤمنين ولا لأخواتهن خالات المؤمنين. ويختلف العلماء في عدد نسائه - صلى الله عليه وسلم - اللاتي دخل بهن، فقال القرطبي: جملتهن ثنتا عشرة فارقهن قبل الدخول وخطب بنساء من غير عقد عليهن، وكان له أربع سراري. قال شيخ الإسلام ابن حجر: والحكمة في كثرة أزواجه أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليها فينقلها للناس، وقد جاء عن عائشة في ذلك الكثير الطيب. وزوجاته أفضل نساء العالمين، وأفضل زوجاته خديجة وعائشة واختلف العلماء فيهما ورجح جماعة من المتأخرين أن خديجة أفضل من عائشة، والذي يدل على أن ¬

(¬1) انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي (2/116) . (¬2) البغوي هو: الحسين بن مسعود البغوي، أحد أئمة الحديث والتفسير، ومن كبار علماء الشافعية، ولد سنة (436هـ) من مؤلفاته: شرح السنة، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن، وكانت وفاته سنة (516هـ) . انظر: طبقات الشافعية (4/48) ، وتذكرة الحفاظ (4/52) ، وطبقات المفسرين للداودي (ص 58) ، والنجوم الزاهرة لابن تغري (5/124) .

خديجة أفضل: أن عائشة أقرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل السلام من ربها. وهل فاطمة أفضل أم عائشة؟ قال شيخنا الجلال السيوطي تبعاً للسبكي قلنا: الصواب القطع بتفضيل فاطمة، وذهب بعضهم إلى أن عائشة أفضل لأنها يوم القيامة في الجنة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في درجته التي هي أعلى الدرجات بخلاف فاطمة. قال السبكي (¬1) : وهذا القول ساقط مردود ضعيف لا سند له من نظر ولا نقل. وهل هي أفضل أم أمها خديجة؟ قال السبكي: الذي نختاره وندين الله به: أن فاطمة أفضل ثم أمها خديجة ثم عائشة، واستدل على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فاطمة بضعه مني» (¬2) ولا أعدل ببضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحداً. وفي آخر: «فاطمة بضعه مني يربني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها» (¬3) . ويدل علي تفضيلها أيضاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ساورها ثانية عند موته قال لها: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة» . وثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة» (¬4) . وهل مريم أفضل أم فاطمة؟ قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي: لم يتعرض أحد للتفضيل بين مريم وفاطمة، والذي نختاره بمقتضى الأدلة تفضيل فاطمة عليها. فقد روى النسائي عن خديجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذا ملك من الملائكة استأذن ربه ليسلم علي، وبشرني أن حسناً وحسيناً سيدا شباب أهل الجنة، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة» (¬5) . وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند صحيح لكنه مرسل «مريم خير نساء ¬

(¬1) السبكي هو: أبو نصر، تاج الدين عبد الوهاب بن على بن عبد الكافي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري، الشافعي، السبكي، فقيه أصولي، مؤرخ، أديب، ناظم، ناثر، ولد بالقاهرة سنة (727هـ) وقيل: (728هـ) من تصانيفه: طبقات الشافعية الكبرى، والفتاوى، وكانت وفاته سنة (771هـ) . انظر: معجم المؤلفين (2/343) . (¬2) انظر تخريج الحديث الآتي بعده. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (5/2004، رقم 4932) ومسلم في صحيحه (4/1902، رقم 2449) عن المسور بن مخرمة. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (3/1326، رقم 3426) ، ومسلم في صحيحه (4/1905، رقم 2450) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬5) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5/80، رقم 8298) بلفظه عن حذيفة بن اليمان. أخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الكبير (22/402، رقم 1005) .

عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها» (¬1) . وهل مريم أفضل أم خديجة؟ قال السبكي: مريم، واختلف في نبوتها، فإن كانت نبية فهي أفضل، وإن لم تكن فالأقرب أنها أفضل أيضاً، لذكرها بالقرآن، وشهادته بصديقتها. وأفاد شيخنا العلامة الجلال السيوطي: أن علم الدين العراقي قال: إن فاطمة وأخاها إبراهيم أفضل من الخلفاء الأربعة باتفاق، ونقل عن مالك أنه قال: لا أفضل على بضعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد، وأفضل نسائه بعدها خديجة وعائشة وزينب كما قاله الشيخ برهان الدين الحلبي. لكن ظاهر الكلام السبكي أن حفصة أفضل بعد عائشة فإنه قال بعد ذكره فاطمة وخديجة وعائشة، وأما بقية الأزواج فلا يبلغن هذه المرتبة، وان كن خير نساء هذه الأمة بعد هؤلاء الثلاثة، وهن متقاربات في الفضل، لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله، لكن نعلم بحفصة بنت عمر من الفضائل تعتبر فما أشبه أن تكون هي بعد عائشة. ¬

(¬1) أخرجه الحارث بن أبي أسامة (زوائد الهيثمي) (2/909، رقم 990) عن هشام بن عروة عن أبيه.

المجلس السابع

المجلس السابع في الكلام علي الحديث الذي سأله الحارث بن هشام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي (¬1) قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رضي الله عنه - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الوحي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ -وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ- فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» . قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا (¬2) . ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/64) : اعترض الإسماعيلي فقال: هذا الحديث لا يصلح لهذه الترجمة، وإنما المناسب لكيف بدء الوحي الحديث الذي بعده، وأما هذا فهو لكيفية إتيان الوحي لا لبدء الوحي. قال الكرماني: لعل المراد منه السؤال عن كيفية ابتداء الوحي، أو عن كيفية ظهور الوحي، فيوافق ترجمة الباب. قلت: سياقه يشعر بخلاف ذلك لإتيانه بصيغة المستقبل دون الماضي، لكن يمكن أن يقال: إن المناسبة تظهر من الجواب، لأن فيه إشارة إلى انحصار صفة الوحي أو صفة حامله في الأمرين فيشمل حالة الابتداء، وأيضاً فلا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة، فضلاً عن أنا قدمنا أنه أراد البداءة بالتحديث عن إمامي الحجاز فبدأ بمكة ثم ثنى بالمدينة، وأيضاً فلا يلزم أن تتعلق جميع أحاديث الباب ببدء الوحي، بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضا، وذلك أن أحاديث الباب تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه، ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله، ناسب تقديم ما يتعلق بها، وهو صفة الوحي وصفة حامله إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه، فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال، الذي تقدم التقدير بأن تعلقه بالآية الكريمة أقوى تعلق، والله سبحانه وتعالي أعلم. (¬2) هذا الحديث روته عائشة فهل سمعت سؤال الحارث أم هو أخبرها بذلك. يقول ابن حجر: هكذا رواه أكثر الرواة عن هشام بن عروة، فيحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك، وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة. ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة، وهو محكوم بوصله عند الجمهور. وقد جاء ما يؤيد الثاني، ففي مسند أحمد ومعجم البغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث ابن هشام قال: سألت. وعامر فيه ضعف، لكن وجدت له متابعاً عند ابن منده، والمشهور الأول. انظر: فتح الباري (1/64) .

قوله: «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها وعن أبيها وعن جدها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ» هذا هو أخو أبي جهل عدو الله لأبويه، وابن عم خالد بن الوليد، شهد بدراً كافراً، وأسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين مائة من الإبل. وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم، وكان لأبي جهل أربعة أخوة الحارث المذكور هنا، وسلمة وخالد والعاص وكلهم أسلموا علي الصحيح، وكذلك أمهم أسلمت واسمها: سلمى وهي صحابية، وكذلك بنت أبي جهل أسلمت صحابية، إلا الشقي الخاسر والعنيد الكافر أبا جهل لعنه الله فإنه لم يسلم، وقد آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً بالغاً مع شهد منه من المعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة. ومما اتفق له مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قاله الماوردي في أعلام النبوة: «أن قريشاً كانوا مجتمعين مرة فكان بعضهم يحث بعضهم على قتله ويقول لهم: الموت لكم خير من الحياة إن بقي محمد، وكان بعضهم يقول: كيف نصنع؟ فقال أبو جهل لعنه الله: هل محمد إلا رجلاً واحدًا أليس فيكم من يزهد في الحياة ويقتله ويريح قومه فقالوا: من فعل هذا ساد بيننا؟ فقال: أبو جهل أفعل هذا وليس محمد بأقوى رجل منا، وإذا جاء أقوم إليه بحجر فأشدخ رأسه فإن قتلته فقد أرحت قومي منه، وإن أبقيت فذلك الذي أبقي، فخرجوا على هذه النية، ففي اليوم الثاني اجتمعوا في الحطيم فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد جاء فتقدم - صلى الله عليه وسلم - إلى الركن وقام يصلي، فنظروا إليه وهو يطيل الركوع والسجود، فقام أبو جهل وقال: الآن أريحكم منه فأخذ مهراساً أي: حجراً عظيماً ودنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد لا يلتفت إليه ولا يهابه وهو يراه، فلما دنا ارتعد وأرسل الحجر على رجله فرجع وقد هرست أصابعه وهو يرتعد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد، فقال أبو جهل لأصحابه: خذوني إليكم فالتزموه وقد غشي عليه ساعة، فلما أفاق قال له أصحابه ما الذي أصابك؟ قال: لما دنوت منه أقبل عليَّ فحل واقف علي رأسه، فاتح فاه، فحمل عليَّ وصك أسنانه فلم أتمالك وأنا أرى

محمد محجوباً» . وسنذكر أخباره ونذكر في أي غزوة قتل ومن قتله في مجلس آتى إن شاء الله تعالى. قوله: «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الوحي؟» قال العلماء: يحتمل أن يكون سؤاله عن صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون سؤاله عن صفة حامله، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك. وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي، ويسمى المجاز في الإسناد وأصله: كيف يأتيك حامل الوحي فأسند الإتيان إلى الوحي للملابسة التي بين الحامل والمحمول، وإما استعارة بالكناية أي: شبه الوحي برجل مثلاً وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به، فحاصل السؤال على أي كفيه ينزل عليك جبريل بالقرآن. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجواب «أَحْيَانًا» جمع حين، وهو الوقت يطلق علي الكثير والقليل حتى على الحظة (¬1) . ¬

(¬1) تكلم الحافظ ابن حجر في هذا المقام عن إتيان الوحي وكيفياته وقد سبق لنا أن تعرضنا لهذا الموضوع ونذكر كلام الحافظ اتماماً للفائدة: قال ابن حجر: قوله: «أحيانا» جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتا يأتيني، وانتصب على الظرفية، وعامله «يأتيني» مؤخر عنه. والبخاري رواه من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال: كل ذلك يأتي الملك، أي كل ذلك حالتان فذكرهما. وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه على كما يلقي الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني، ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني» وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى: ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ? [القيامة: 16] كما سيأتي، فإن الملك قد تمثل رجلاً في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي، وغير ذلك وكلها في الصحيح. وأورد على ما اقتضاه الحديث -وهو أن الوحي منحصر في الحالتين- حالات أخرى: إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحي، كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق. والجواب: منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله. وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين -كما في حديث عمر- يسمع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو - صلى الله عليه وسلم - بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه. وأما النفث في الروع، فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفس حينئذ في روعه. وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء. وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره. والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءاً من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً وليس كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له - صلى الله عليه وسلم - في المنام أيضاً على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني. وفيه نظر. وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعاً -فذكرها- وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر، وحديث: «إن روح القدس نفث في روعي» ، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود. انظر فتح الباري (1/66) .

والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله الحارث عن كيفية نزول جبريل عليه بالقرآن فقال: «يأتيني جبريل بالقرآن وله صوت مثل صلصلة الجرس» أي: له صوت متدارك أي: متوال كتوالي صوت الجرس. قيل: الحكمة في ذلك أن يتقرب سمعه - صلى الله عليه وسلم - ولا يبقى فيه مكان لغير صوت الملك ولا في قلبه، وكان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الحالة أشد وأصعب من الحالات عليه - صلى الله عليه وسلم -، فإن جميع حالات نزوله على النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت شديدة صعبة عليه (¬1) . ¬

(¬1) صلصلة الجرس وتشبيه الوحي بها من المسائل التي أسهب ابن حجر فيها فقال في الفتح (1/66) : قوله: «مثل صلصلة الجرس» في رواية مسلم «في مثل صلصلة الجرس» والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة: في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة، والجرس الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدوآب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس. وقال الكرماني: الجرس ناقوس صغير أو سطل في داخله قطعة نحاس يعلق منكوساً على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصلت الصلصلة. وهو تطويل للتعريف بما لا طائل تحته. وقوله: قطعة نحاس، معترض لا يختص به، وكذا البعير، وكذا قوله منكوساً، لأن تعليقه على تلك الصورة هو وضعه المستقيم له. فإن قيل: المحمود لا يشبه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبه الوحي وهو محمود، والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ والجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريباً لأفهامهم. والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة وجهة طنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، ويحتمل أن يكون النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور وفيه نظر. قيل: والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي، قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: بل هو صوت حفيف أجنحة الملك. والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقي فيه مكان لغيره، ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من الآلات.

«وهو أشده عليَّ» فإنه كان يغشاه عند نزوله عليه كرب (¬1) ، وذلك لما يلقى عليه من القرآن قال تعالى ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً? [لمزمل: 5] فكان نزوله ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/67) : يفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك. وقال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما في حديث ابن عباس: «كان يعالج من التنزيل شدة» قال، وقال بعضهم: وإنما كان شديداً عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع. وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد، وهذا فيه نظر، والظاهر أنه لا يختص بالقرآن، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.

على هذه الحالة أشد الحالات عليه، ويدل عليه أنه كان عند نزول جبريل عليه في شدة البرد تصبب منه العرق، ويسيل منه كما قالت عائشة «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليفصد عرقاً» (¬1) . وجاء أنه كان يعتريه حالة كحالة المحموم، وجاء في رواية عن عائشة «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يقطر رأسه ويتربد وجهه ويجد برداً في ثناياه، ويعرق حتى ينزل منه مثل الجمان» (¬2) . ¬

(¬1) قول عائشة هذا ورد في آخر متن هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه، ولم يقم أيضاً السفيري بشرحه وشرحه الحافظ ابن حجر فقال: قوله: «قالت عائشة» هو بالإسناد الذي قبله، وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف وغيره كثيراً، وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف. وقد أخرجه الدارقطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك مفصولاً عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام. ونكتة هذا الاقتطاع هنا اختلاف التحمل، لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييداً للخبر الأول. قوله: «ليتفصد» بالفاء وتشديد المهملة، مأخوذ من الفصد وهو: قطع العرق لإسالة الدم، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق. وفي قولها: «في اليوم الشديد البرد» دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية. وقوله: «عرقاً» بالنصب على التمييز، زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل: «وإن كان ليوحي إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحي إليه» . تنبيه: حكى العسكري في التصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأ «ليتقصد» بالقاف، ثم قال العسكري: إن ثبت فهو من قولهم: تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده (انتهى) . وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر، فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء، قال: فأصر على القاف، وذكر الذهبي في ترجمة ابن طاهر عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف، قال: فكابرني قلت: ولعل ابن طاهر وجهها بما أشار إليه العسكري. والله أعلم. وفي حديث الباب من الفوائد -غير ما تقدم- إن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل. والله أعلم. (¬2) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/379) عن عبد الحميد بن عمران بن أبي أنس عن أبيه، وفيه أن عائشة رضي الله عنها قالت هذا الكلام، ولكن الحديث من رواية عمران هذا.

والحكمة في ذلك ليختبر صبره ويحسن تأديبه، لاحتمال ما يكلف به من أعباء النبوة. وهذا الصوت هو كصوت الجرس يحتمل أن يكون صوت جبريل بالوحي أو أن يكون صوت أجنحته. و «الجرس» بفتح الراء والسين والعامة «جرص» بالصاد. فإن قيل: كيف شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت جبريل بصوت الجرس مع أن صوت جبريل محمود وصوت الجرس مذموم منهي عنه، فقد روينا في صحيح مسلم «إن الملائكة لا تصحب رفقة فيها كلب أو جرس» (¬1) ، وفيه «الجرس مزامير الشيطان» (¬2) ، والمحمود لا يشبه المذموم، ويلزم منه أن يفعل الملك من مثله الملائكة؟ فالجواب: أن المقصود تشبيه صوت شديد بصورة شديد على وجه خاص ولا يلزم في التشبيه تساوي المشبه والمشبه به في الصفات كلها، بل يكفي اشتراكها في صفة ما. والحاصل: أن صوت الجرس له جهتان جهة قوة وجهة طرب، فمن حيث القوة وقع التشبيه، ومن حيث الطرب وقع النهي عنه والتنفير منه، وعلل بكونه مزمار الشيطان. فإن قيل: لأي شيء كانت هذه الحالة أشد الحالات عليه وأصعبها؟ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1672، رقم 2113) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس» . والحديث رواه أيضاً: الترمذي في سننه (4/207، رقم 1703) ، قال الترمذي: وفي الباب عن عمر وعائشة وأم حبيبة وأم سلمة وهذا حديث حسن صحيح، والنسائي في السنن الكبرى (5/251، رقم 8810) ، واحمد في مسنده (2/262، رقم 7556) ، وابن خزيمة في صحيحه (4/146، رقم 2553) ، وابن حبان في صحيحه (10/554، رقم 4703) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/302، رقم 280) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/424، رقم 32592) والبغوي في الجعديات (1/391، رقم 2670) ، والدارمي في سننه (2/374، رقم 2676) ، والديلمي في الفردوس (5/75، رقم 7500) . (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1672، رقم 2114) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (2/372، رقم 8838) ، وأبو يعلى في مسنده (11/398، رقم 6519) ، والبيهقي في سننه الكبرى (5/253، رقم 10106) .

فالجواب: أن الفهم من كلام جبريل وصوته مثل صلصله الجرس، أشكل من الفهم من كلامه وهو على صورة رجل يخاطبه ويعلمه كما يعلم الإنسان غيره، بيان ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ملكياً بشرياً فتارة يأتيه جبريل على صورة الملك، فينسلخ - صلى الله عليه وسلم - عن وصف البشرية ويتصف بصفة الملك بأن يغلب عليه الروحانية، وإنما يقع له ذلك لأجل المناسبة، فإن العادة جرت بالمناسبة بين القائل السامع، وتارة يأتيه الوحي على صفة رجل، ويتصف بصفة الرجل البشر ولا شك أن انسلاخه من طور البشر أشد عليه من بقائه عليه. وفي صحيح مسلم «كان إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه، ونكس أصحابه رؤوسهم، فإذا أتلي عنه رفع رأسه» (¬1) . وورد في حديث «إنه كان يسمع عنده لما ينزل عليه جبريل دوي كدوي النحل» (¬2) . وروى أحمد والحاكم والترمذي من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي سمع عنده دوي كدوي النحل، فمكثنا ساعة ثم سري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا» ثم قال: «لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، أي: من عمل بهن ولم يخالف ما فيهن» ثم قال: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ? [المؤمنون: 1، 2] قال الحاكم: صحيح الاسناد (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1817، رقم 2335) عن عبادة بن الصامت. (¬2) انظر الحديث الآتي بعده فهو هو. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه (5/326، رقم 3173) وعقبه ساق إسناداً آخر فقال: حدثنا محمد بن أبان حدثنا عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري بهذا الإسناد نحوه بمعناه، قال أبو عيسى: هذا أصح من الحديث الأول، سمعت إسحاق بن منصور يقول: روى أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري هذا الحديث، قال أبو عيسى: ومن سمع من عبد الرزاق قديماً فإنهم إنما يذكرون فيه عن يونس بن يزيد، وبعضهم لا يذكر فيه عن يونس بن يزيد، ومن ذكر فيه يونس بن يزيد فهو أصح، وكان عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد وربما لم يذكره، وإذا لم يذكر فيه يونس فهو مرسل. ورواه أحمد في مسنده (1/34، رقم 223) ، والحاكم في المستدرك (1/717، رقم 1961) وصححه. وأخرجه أيضاً: عبد الرزاق في المصنف (3/383، رقم 6038) ، وعبد بن حميد (1/34، رقم 15) ، والبزار في مسنده (1/427، رقم 301) .

وقوله «فيفصم عني» فيه ثلاث روايات الأولى: «فيفصم» بفتح الياء وكسر الصاد. الثانية: «فيفصم» بضم الياء وفتح الصاد. الثالثة: فيفصم بضم الياء وكسر الصاد، ومعنى الروايتين الأولتين، مأخوذة من الفصم وهو القطع قال تعالى ?لاَ انفِصَامَ لَهَا? [البقرة: 256] أي: لا انقطاع لها، ويقال: الفصم الصدع أو الشق من غير إبانة، والمعنى: أن جبريل كان إذا نزل علي بالقرآن وله صوت كصوت الجرس فيفصم أي: فيفارقني على نية أن يعود إليَّ ولا يفارقني إلا وقد وعيت أي: حفظت وجمعت عنه جميع ما قاله لي. وأما الرواية الثالثة: فهي من أفصم المطر إذا أقلع. قوله: «وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» الألف واللام في الملك للعهد، والمراد به جبريل، أي: وأوقاتاً يتمثل لي جبريل في صورة رجل، وفي هذا دليل على أن الملائكة تتشكل بشكل البشر لها قوة على التشكل بأي شكل أراد، فقد قال أكثر العلماء: إنها أجسام لطيفة هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة (¬1) . وفي «جبريل» تسع لغات قرئ ببعضها، أفصحها «جبريل» ومعناه بالعربية: عبد ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/68) : قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية، و «رجلا» منصوب بالمصدرية، أي: يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو بالحال والتقدير هيئة رجل. قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد. وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجباً لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حياً، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلاً، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة. وقال شيخنا شيخ الإسلام: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشاً فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب.

الله، فإن «الجبر» هو و «إيل» هو الله، ومعنى ميكائيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عبد العزيز. وههنا سؤالان مشهوران: الأول: لما كان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجل فهيئته التي خلق الله عليها، ماذا يفعل بها؟ أجيب عن هذا السؤال بأجوبة: الأول: يحتمل أن الله تعالى الزائد من خلقه حتى صار في صورة رجل ثم خلقه بعد تبليغ الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أنه لا يفنيه ويعدمه بل يزيله عنه ويدخره له حتى يبلغ الوحي، ثم يعيده إليه بعد التبليغ قاله إمام الحرمين. الجواب الثاني: يجوز أن يكون إتيان جبريل بشكله الأصلي إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإن بلغ الوحي عاد إلى هيئته ومثال ذلك: القطن إذا جمع بعد أن كان منفعاً فإن بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم يتغير قاله البلقيني الكبير. الجواب الثالث: قال شيخ الإسلام ابن حجر: والحق إن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، ولكن معناه أنه ظهر بصورة الرجل تأنيساً لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط والله اعلم. السؤال الثاني: أبداه الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال: ما إن كان لقي جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجل فأين تكون روحه، فإن كان في الجسد العظيم الذي خلقه الله عليه فالذي أتى لا روح جبريل ولا جسده، وإن كانت في هذه التي في صورة رجل فهل يموت الجسد العظيم الذي خلقه الله عليه أم يبقى خالياً من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد الذي يشبه صورة رجل، ويبقى جسده العظيم حياً لا ينقص من معارفه شيء. قال: وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلاً بل بعادة أجراها الله في بني آدم فلا يلزم في غيرهم، وإذا قلنا: بأن الذي أتى هو جبريل ظهرت في صورة تأنيساً للمخاطب، والله أخفى الزائد من خلقه على الرائي فقط سقط السؤال الثاني والله اعلم (¬1) . وفي الحديث دلالة على أن الصحابة كانت تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كثير من المعاني، وكان - صلى الله عليه وسلم - يجمعهم ويعلمهم وكانت طائفة تسأل أخرى تحفظ وتؤدي وتبلغ حتى كمل الله دينه والحمد لله. ¬

(¬1) هذا السؤال الذي أبداه العز بن عبد السلام أورده الحافظ السيوطي في كتابه الحبائك (ص 217) .

فائدة: ظاهر هذا الحديث يقضي أن الوحي ينقسم إلى قسمين أن يأتيه جبريل في مثل صلصلة الجرس، الثاني: أن يأتيه في صورة رجل. وقال القاضي عياض (¬1) : إنه يقسم إلى ثلاثة أقسام، وقال السهيلي: أنه ينقسم إلى سبعة أقسام: الأول: وحي المنام. الثاني: أن يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس. الثالث: وحي تلق بالقلب وهو أن ينفث في روعه الكلام، ويدل عليه ما ورد «إن روح القدس نفث في روعي» (¬2) أي: في نفسي، قيل: كان هذا حال داود عليه الصلاة والسلام. الرابع: أن يتمثل له الملك رجلاً، وقد كان كثيراً ما يأتيه في صورة دحيه الكلبي الصحابي (¬3) . ¬

(¬1) هو: أبو الفضل، عاض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي، المشهور بالقاضي عياض، عالم المغرب، وإمام أهل الحديث في وقته، ولي القضاء بسبتة، ثم غرناطة، له مصنفات كثيرة منها: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، وشرح مسلم، توفي بمراكش سنة (544هـ) . انظر: وفيات الأعيان (1/392) ، ومفتاح السعادة (2/19) ، وقضاة الأندلس (ص: 101) . (¬2) رواه عبد الرزاق في الجامع عن معمر بن راشد (11/125، رقم 20100) عن معمر عن عمران صاحب له قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما تركت شيئاً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا قد بينته لكم، وإن روح القدس نفث في روعي وأخبرني أنها لا تموت نفس حتى تستوفى أقصى رزقها ... الحديث» . وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8/166، رقم 7694) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (10/27) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/72) : رواه الطبراني في الكبير وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف. ورواه القضاعي في مسند الشهاب (2/185، رقم 1151) عن عبد الله بن مسعود. ورواه الدارقطني في العلل عنه (5/273) وقال: فقال يرويه إسماعيل بن أبي خالد، واختلف عنه فقال هبيرة التمار: أبو عمر المقري عن هشيم عن إسماعيل عن زبيد عن مرة عن عبد الله، وغيره يرويه عن إسماعيل عن زبيد مرسلاً عن بن مسعود وهذا أصح، وقيل: عن عمر بن علي المقدمي عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود. (¬3) أخرج حديث إتيان جبريل فى صورة دحية الكلبى النسائى (8/101، رقم 4991) ، والبزار (9/419، رقم 4025) كلاهما من حديث أبى هريرة. وأخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير (1/260، رقم 758) ، وفى المعجم الأوسط (1/7، رقم 7) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقى فى شعب الإيمان (5/175، رقم 6257) من حديث عائشة. وأخرجه أبو الشيخ فى العظمة (2/780، رقم 18) من حديث شريح بن عبيد. وأخرجه ابن سعد فى الطبقات لكبرى (4/250) من حديث ابن عمر.

لطيفة: قال في كتاب زهرة العلوم: ومن اللطائف ما روي أن جبريل كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحيه الكلبي، فتعلق به الحسن والحسين رضي الله عنهم فقال: يا محمد هل عرفاني فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا وإنما يفعلان ذلك لأن الرجل الذي تأتيني فيه صورته، يحمل إليهما الفواكه فجاء جبريل برمانة فأكلاها ولو سقطت حبة منها لشفت أهل الأرض، ولكن الله جعلها رزقاً لهما. الخامس: أن يترائى جبريل في صورته التي خلقها الله تعالى له ستمائه جناح ينتشر منهما اللؤلؤ والياقوت. فائدة: قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي في الخصائص كان - صلى الله عليه وسلم - يسمع خفيق أجنحة وهو بعيد في سدرة المنتهى، ويشم رائحته إذا توجه إليه بالوحي. السادس: أن يكلمه من وراء حجاب، إما في اليقظة كسماع نبينا - صلى الله عليه وسلم - الكلام من الله بلا واسطة ليلة الإسراء، وكسماع موسى بن عمران كما دل عليه نص القرآن أو في النوم كما جاء في الحديث «أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى ... الحديث» (¬1) . السابع: وحي إسرافيل كما جاء عن الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل به إسرافيل فكان يترائى له ثلاث سنين، ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وكل به جبريل (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (5/367، رقم 3234) عن ابن عباس، وقال: حسن غريب. وأحمد في مسنده (1/368، رقم 3484) . قلت: وقد وردت هذه الكيفية من كيفيات الوحي في عدة أحاديث مختلفة الموضوعات ونكتفي بالعزو للترمذي وأحمد في وقوع هذه الكيفية. (¬2) رواه الطبري في التاريخ (1/573) ، وكذا ابن عبد البر في الاستيعاب (1/35) كلاهما عن الشعبي. وأورده ابن حجر في فتح الباري (1/27) وعزاه إلى التاريخ للإمام أحمد بن حنبل وأسهب في مناقشة هذه المسألة فقال: وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم بن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدره بثلاث سنين وهي ما بين نزول «أقرأ» و «يا أيها المدثر» عدم مجيء جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن فقط، ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: «أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة» . وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصراً عن داود بلفظ: «بعث لأربعين ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل» . فعلى هذا فيحسن بهذا المرسل إن ثبت الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل: ثلاث عشرة، وقيل: عشر، وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل (انتهى) . ولا يخفى ما فيه فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم. وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه - صلى الله عليه وسلم - بمكة فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفتره سنتان ونصف، وفي رواية أخرى: أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال ثلاث عشرة أضافهما، وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياماً. انظر: أيضاً هذه المسألة عند ابن عبد البر في التمهيد (3/14) .

وهذه المسألة مختلف فيها وهي أنه وكل بنبينا إسرافيل قبل جبريل أم لا؟ ذهب بعضهم إلى أنه وكل به إسرافيل أولاً ثلاث سنين ثم وكل به جبريل، واستدل عليه بأثر الشعبي فهو مرسل أو معضل. وقال شيخنا السيوطي في كتاب الإعلام: إن جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه، لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة، واستدل على ذلك بدلائل منها ما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة عن عائشة قالت: قال ورقة لخديجة جبريل أمين الله بينه وبين رسله (¬1) . ومنها: ما في كتاب العظمة لأبي الشيخ بن حيان عن ابن سابط قال في أم الكتاب: كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة، وكل به ثلاث من الملائكة، فوكل جبريل بالكتب والوحي إلى الأنبياء، ووكل أيضاً بالهلكات، إذا أراد الله أن يهلك قوماً، ووكله بالنصر عند القتال، ووكل ميكائيل بالمطر، وملك الموت بقبض الأنفس، فإذا كان يوم القيامة عارضوا بين حفظهم، وما كتب الله في أم الكتاب فيجدونه ¬

(¬1) انظر دلائل النبوة (ص: 57) .

سواء (¬1) . ومنها ما أخرجه أبو الشيخ أيضاً عن عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبريل في الملائكة خادم ربه (¬2) . ومنها: ما أخرجه ابن أبي زمين في كتاب السنة عن كعب قال: إذا أراد الله أن يوحي أمراً جاء اللوح المحفوظ يصفق جبهة إسرافيل فيرفع رأسه فينظر فإذا الأمر مكتوب، فينادي جبريل فيلبيه، فيقول: أمرت بكذا أمرت بكذا، فيهبط جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيوحي إليه (¬3) . ومنها: ما أخرجه أبو الشيخ أيضاً عن أبي سنان قال: اللوح المحفوظ معلق بالعرش فإذا أراد الله أن يقضي بشيء كتب في اللوح المحفوظ فيجيىء اللوح حتى يقرع جبهة إسرافيل فينظر فيه فإن كان إلى أهل السماء دفعه إلى ميكائيل، وإن كان إلى أهل الأرض دفعه إلى جبريل، فأول ما يحاسب يوم القيامة اللوح يدعى به ترعد فرائصه فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقول: من يشهد لك فيقول: إسرافيل، فيدعى إسرافيل فترعد فرائصه، فيقال: هل بلغك اللوح؟ فإذا قال: نعم، قال اللوح: الحمد لله الذي نجاني من سوء الحساب (¬4) . ومنها ما أخرجه ابن المبارك في الزهد عن حيان بن أبي جبلة يسنده قال: أول من يدعى يوم القيامة إسرافيل فيقول الله له: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم ربي قد بلغت جبريل، فيدعى جبريل فيقال: هل بلغك إسرافيل عهدي، فيقول: نعم فتجلى عن إسرافيل، فيقول لجبريل: ما صنعت في عهدي؟ فيقول: يارب بلغت الرسل، فتدعى الرسل فيقال لهم: هل بلغكم جبريل عهده؟ فيقولون: نعم ¬

(¬1) طرفه الأول رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/159، رقم 34968) عن ابن سابط، وأما باقيه من قوله: «وكل به ثلاث من الملائكة ... إلى آخره» فلم نقف عليه، ولم نقف عليه بتمامه في كتاب العظمة لأبي الشيخ. (¬2) رواه أبو الشيخ في العظمة (2/776) عن عبد العزيز بن عمير. (¬3) لم نقف عليه، ولكن معناه في الأثر الذي يليه. (¬4) رواه أبو الشيخ في العظمة (2/704) عن أبي سنان.

فينجلي عن جبريل ... الحديث (¬1) . فعرف بمجموع هذه الآثار اختصاص جبريل من بين الملائكة بالوحي إلى الأنبياء وعرف بها أيضاً أن جبريل إنما يتلقي الوحي عن الله تعالى بواسطة إسرافيل، وإن إسرافيل إنما يتلقي عن الله بواسطة اللوح المحفوظ، فالعباد يتلقون الأحكام الشرعية وغيرها عن الرسل، والرسل عن جبريل، وجبريل عن إسرافيل، وإسرافيل عن اللوح، واللوح عن الحق سبحانه وتعالى. فائدة: نقل الواحدي في تفسبره: «أن اللوح المحفوظ من درة بيضاء، ودفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابته نور الله فيه كل يوم ثلاثمائه نظرة» (¬2) . وزاد غيره: «يخلق فيها ويرزق ويحيى ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى ?كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ? [الرحمن: 29] » . وذكر غيره: «أن طوله ما بين السماء والأرض سبع مرات، معلق بالعرش مكتوب فيه إلى يوم القيامة» (¬3) . فائدة أخرى: قال بعض العلماء: نزل جبريل - عليه السلام - على آدم اثنتي عشرة مرة ونزل على إدريس أربع مرات، ونزل على نوح خمسين مرة، ونزل على إبراهيم أربعين مرة منها مرتان في صغره، ونزل على موسى أربعمائه مرة، ونزل على عيسى عشر مرات ثلاثاً في صغره وسبعاً في كبره ونزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرين مرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فائدة أخرى: أشرف الملائكة وأكرمهم أربعة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ويدل ذلك ما أخرجه أبو الشيخ عن عكرمة بن خالد أن رجلاً قال: يا رسول الله أي: الملائكة أكرم على الله؟ فقال: «جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، فأما جبريل فصاحب الحرب وصاحب المرسلين، وأما ميكائيل فصاحب كل قطرة تسقط وكل ورقة تنبت، وأما ملك الموت فهو موكل بقبض روح كل عبد في بر وبحر هو عزرائيل (¬4) . أما إسرافيل فأمين الله بينه وبينهم وجبريل أشرف الملائكة لوجوه: الأول: أنه صاحب الوحي إلى الأنبياء كما وصفه الله بذلك بقوله ?نَزَلَ بِهِ ¬

(¬1) رواه ابن المبارك في الزهد (ص: 557، رقم 1598) عن حيان بن أبي جبلة. ورواه أيضاً: الطبري (2/10) في تفسيره عنه. (¬2) رواه البغوي في تفسيره (4/472) عن ابن عباس. (¬3) رواه البغوي في تفسيره أيضاً (4/472) عن ابن عباس. (¬4) رواه أبو الشيخ في العظمة (3/811) عن عكرمة بن خالد.

الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ? [الشعراء: 194] . الثاني: أنه سبحانه وتعالى ذكره قبل سائر الملائكة في القرآن في قوله تعالى ?قُلْ مَن كَانَ عَدُواًّ لِّجِبْرِيلَ? [البقرة: 97] . والثالث: أن الله تعالى جعله ثاني نفسه قال تعالى ?فإن اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ? [التحريم: 4] . الرابع: سماه روح القدس كما قال تعالى في حق عيسى ?إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ? [المائدة: 110] . الخامس: أنه تعالى مدحه بصفات ستة فقال له: ?إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ? [التكوير: 19، 20، 21] الوصف الأول: «رسول» فهو رسول الله إلى جميع الأنبياء، فجميع الأنبياء والرسل أمته. الوصف الثاني: «كريم» وكرمه على ربه أن جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء. الوصف الثالث: «ذي قوة عند ذي العرش» وبلغ من قوته أنه قلع مدائن قوم لوط بما اتصل بها من الجبال دفعه واحدة إلى السماء وقلبها، ويشاركه غيره من الملائكة في القوة كإسرافيل، وإن بلغ من القوة أنه بنفخه واحدة منه في الصور يصعق من في السماوات والأرض، وبالنفخة الثانية يعودون أحياء، فاعرف عظيم هذه القدرة وحملة العرش العظيم، الذي السموات والأرض وما فيها بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، ومع هذه يحمله ثمانية كما نطق بذلك القرآن فأي قوة أعظم من هذه القوة. الوصف الرابع: «مكين» ومكانته عند الله أنه جعله ثاني نفسه في قوله ?فإن اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ?. الوصف الخامس: «مطاع» ووصف ذلك لأنه إمام الملائكة ومقتداهم. الوصف السادس: «أمين» ووصف بذلك هنا، وفي آية أخرى وهي ?نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ? [الشعراء: 194] لأنه أمين الله بينه وبين رسله كما تقدم. فائدة أخرى: في الحديث دلالة على إثبات الملائكة والرد على من أنكرهم من الملاحدة والفلاسفة، وقد نقل إلينا بالتواتر عن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- بإجماعهم أثبتوا الملائكة قال - صلى الله عليه وسلم -: «أطت السماء أي: صوتت وحق لها أن

تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفية ملك ساجد أو راكع» (¬1) . واختلف العلماء في أكثر الأجناس المخلوقة عدداً فقيل: الملائكة ويدل عليه ما روي: أن بني آدم عشر الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكل في ملائكة الكرسي نذر قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش، التي عددها ستمائة ألف، طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيها وما بينهما فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً صغيراً، وما من مقدار موضع إلا وفيه ملك ساجد وراكع أو قائم، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة لا يعلم عددهم الله تعالى ?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ? [المدثر: 31] وكلهم سامعون لا يفترون، مشتغلون بعبادته وبذكره يتسابقون في عبادته، ولا يستكبرون عنها آناء الليل ولا يسأمون، لا يعلم أجناسهم، ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عباداتهم. وقيل: الملائكة أكثر خلق الله لما روي في المستدرك للحاكم من حديث عبد الله بن عمر «إن الله عز وجل جزأ الخلق عشرة أجزاء فجعل تسعة أجزاء الملائكة وجزءاً سائر الخلق ... الحديث» (¬2) كلهم يصلون على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بنص القرآن ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/556، رقم 2312) وقال: وفي الباب عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وأنس. ثم قال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في سننه (2/1402، رقم 4190) ، وأحمد في مسنده (5/173، رقم 21555) ، والحاكم في المستدرك (2/554، رقم 3883) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/236) ، وأبو الشيخ في كتاب العظمة (3/982) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/77، رقم 233) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7/52، رقم 13115) جميعاً عن أبي ذر. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3/201، رقم 3122) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/422، رقم 597) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/217) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/258، رقم 250) عن حكيم بن حزام. وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/269) عن أنس بن مالك. وأخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/261، رقم 255) عن العلاء بن سعد. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/536، رقم 8506) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرجه أيضاً: الطبري في التفسير (17/13) .

وهذا مما خصه الله بدون سائر الأنبياء والمرسلين. وكل الله تعالى بقبره كل يوم وليلة ملائكة ينزلون إليه ويصلون عليه فقد نقل عن كعب الأحبار أنه قال: «ما من فجر إلا نزل سبعون الفاً من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا أمسوا عرجوا، وهبط سبعون ألف حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم -، سبعون ألفاً بالليل وسبعون ألفاً بالنهار، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفاً يزفونه» وفي لفظ «يوقرونه» رواه البيهقي في الشعب وغيره (¬1) . وقد وكل بكل آدمي عشرة ملائكة بالليل وعشرة بالنهار، واحد عن يمينه وواحد عن شماله، واثنان من بين يديه، ومن خلفه، واثنان على شفتيه، واثنان على جبينه، وآخر قابض على ناصيته فإن تواضع رفعه وان تكبر وضعه، والعاشر يحرسه من الحيتان تدخل يعني إذا نام. وقيل: إن كل إنسان معه ثلاثمائة وستون ملكاً. فائدة أخرى: سئل الحافظ العلامة ولي الدين العراقي بمكة المشرفة فقيل له: هل الملائكة خلقوا دفعة واحدة ويكون موتهم كذلك أم خلقوا شيئًا فشيئًا ويكون موتهم شيئًا فشيئًا؟ فأجاب: بأنه لم يثبت في ذلك شيء ولا يجوز الهجوم عليه بمجرد الاحتمال، ولا مجال للظن فيه. فائدة أخرى: هل يقع نكاح بين والجن وبين الإنس والملائكة؟ قال الدميرى: أفاد بعض العلماء أن التناكح قد يقع بين الإنس والجن بدليل قوله تعالى ?وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ? [الاسراء: 64] قال: فإن نساء الجن إذا عشقت رجال الإنس تتعرض لصرعهم لأجل الجماع، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس، قال: وأما الإنس والملائكة فلا يقع بينهم نكاح لعدم الشهوة فيهم وذهب بعضهم إلى أنه يقع بدليل أن ذا القرنين كانت أمة آدمية وأبوه من الملائكة. قال أبو الفرج بن الجوزي: خلق الله الخلق على أربعة أصناف، صنف منهم ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/492، رقم 4170) عن كعب الأحبار. وأخرجه أيضاً: الدارمي في سننه (1/57، رقم 94) ، وأبو الشيخ في العظمة (3/1019) ، وابن المبارك في الزهد (1/558، رقم 1600) .

ركب فيه الشهوة دون العقل وهي البهائم والأنعام، وصنف ركب فيهم العقل والشهوة وهم بنو آدم وذريته، وصنف ركب فيهم العقل دون الشهوة وهم الملائكة، وصنف لا عقل فيهم ولا شهوة وهم الجمادات. خاتمة: قد اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال العلامة شيخنا الشيخ جلال الدين السيوطي -رحمه الله تعالى-: وهذا شيء لا أصل له، ومن الدليل على بطلانه ما أخرجه الطبراني الكبير عن ميمونة بنت سعد قالت: يا رسول الله هل يرقد الجنب؟ قال لها: «أحب أن يرقد حتى يتوضأ، فإني أخاف أن يتوفى فلا يحضره جبريل» (¬1) فهذا الحديث يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض، ويحضر موت كل مؤمن حضره الموت وهو على الطهارة. ثم قال وقفت على حديث نزول جبريل إلى الأرض وهو ما أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن والطبراني من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف الدجال قال: «فيمر بمكة فإذا هو بخلق عظيم فيقولوا: من أنت؟ فيقول: أنا ميكائيل بعثني الله لأمنعه من حرمه، ويمر بالمدينة فإذا هو بخلق عظيم فيقول: من أنت فيقول: أنا جبريل بعثني الله لأمنعه من حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬2) . قال: ثم رأيت في قوله تعالى ?تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ... ? [القدر: 4] الآية عن الضحاك أن الروح هنا جبريل، وأنه ينزل هو الملائكة في ليلة القدر، ويسلمون على المسلمين، وذلك في كل سنة. فعلم من هذه الأخبار أن جبريل نزل إلى الأرض بعد موت نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما اشتهر بين ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (25/36، رقم 65) عن ميمونة بنت سعد ولفظه: قلت: ثم يا رسول الله هل يأكل أحدنا وهو جنب؟ قال: «لا يأكل حتى يتوضأ» قالت: قلت: يا رسول الله هل يرقد الجنب؟ قال: «ما أحب أن يرقد وهو جنب حتى يتوضأ، ويحسن الدفع، وإني أخشى أن يتوفى فلا يحضره جبريل - عليه السلام -» . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/275) : رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عثمان بن عبد الرحمن عن عبد الحميد بن يزيد، وعثمان بن عبد الرحمن هو الحراني الطرائقي، وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال أبو عروبة الحراني وابن عدي: لا بأس به يروي عن مجهولين، وقال البخاري وأبو أحمد الحاكم: يروي عن قوم ضعاف، وقال أبو حاتم: يشبه بقية في روايته عن الضعفاء. (¬2) أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن (2/543، رقم 1527) في حديث طويل راجعه بتمامه فيه عن عبد الله بن مسعود، وظاهر صنيع المصنف أنه أتى بموطن الشاهد فقط.

الناس من أنه حرم على نفسه نزول الأرض بعد موت نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو باطل، وعلم من هذه الأخبار أيضاً أنه يحضر عند موت كل مؤمن دنا أجله إذا كان على طهارة، وينزل عند خروج الدجال ويمنعه من الدخول إلى المدينة الشريفة، وينزل كل سنة ليلة القدر والله أعلم بالصواب. * * *

المجلس الثامن

المجلس الثامن في ترجمة الليث وخديجة الكبرى والزهري والكلام على بعض حديث: أول ما بُدِئَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤية لصالحة في النوم قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إليه الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ? قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ -وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ- فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ. قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ. قوله: «حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير» هذا هو أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن

بكير القرشي المخزومي المصري، ولد سنة أربع وخمسين ومائة، وكانت وفاته سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وبكير مصغر البكر (¬1) . قال «حدثنا الليث» هذا هو أبو الحارث الليث بن سعد عبد الرحمن الفهمي المصري، عالم أهل مصر من تابعي التابعين، ولد بقرقشنده على نحو أربع فراسخ من مصر سنة ثلاث أو أربع وتسعين، واتفق العلماء على إمامته وبراعته وجلالته وحفظه وإتقانه وفضله وورعه وعبادته، وغير ذلك من المحاسن والمكارم، ووصفه الشافعي بكثره الفقه إلا أنه ضيعه أصحابه، ولم يعتنوا بكتبه ونقلها والتعليق عنه، ففات الناس معظم علمه، قال يحيى بن بكير: كان الليث أفقه من مالك، ولكن كان الخطوة لمالك ورأيت من رأيت فما رأيت مثل الليث، كان عربي اللسان، حسن القراءة، ويحفظ الحديث والقرآن والشعر، حسن المذاكرة، وما زال يعدد خصالاً حميدة جميلة حتى عقد عشرة. وقال الإمام أحمد عنه: كان كثير العلم صحيح الحديث ما في هؤلاء المصريين أثبت منه ولا أصح حديثاً منه. وقال ابن سعد: استقل بالفتوى في زمانه. وكان ثرياً نبيلاً سخياً، ومناقبة جمة قال الشافعي: وما ندمت على أحد ما ندمت على الليث، وكان دخله في كل سنة ثمانين ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة قط لعدم إمساكها حتى يجول عليها الحول، ولما قدم المدينة أهدى له مالك من ظرفها فبعث إليه ألف دينار. وقال بعضهم: إن جماعة من أصحاب الليث وقفوا على باب الإمام مالك - رضي الله عنه - فامتنع من الخروج إليهم فقال بعضهم: هذا ليس ببشر صاحبنا فسمعه الإمام فخرج إليهم وقال: من صاحبكم؟ قال: الليث بن سعد، قال: أتشبهوني برجل كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب أولادنا فأرسل إلينا شيئاً صبغنا به ثياب أولادنا وثياب جيراننا وثيابنا، والفاضل بعناه بألف دينار. ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/70) : نسبه إلى جده لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس في الليث بن سعد الفهمي فقيه المصريين، «وعقيل» بالضم على التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب، وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نسب إلى جد جده لشهرته، الزهري نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبي - صلى الله عليه وسلم - على إتقانه وإمامته.

ومن الغرائب الدالة على سعة كرمة - رضي الله عنه - ما نقل عن منصور بن عمار وكان واعظاً عظيماً بالحجاز مشهوراً قال: دخلت إلى مصر في أيام الليث، ووعظت في الجامع، وكان إذا تكلم أحد في مصر واعظاً نفاه فلما وعظت سمع بي، فأرسل في طلبي، وقال لي الرسول: أجب الليث، فآتيته خائفاً منه، فقال: أنت الواعظ؟ قلت: نعم، قال: أعد علينا كلامك، فتكلمت فبكى ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور، فأعطاني ألف دينار، وقال: صن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولك في كل سنة مثلها فتكلمت في الجامع في الجمعة الثانية أرسل في طلبي، وقال: أعد علينا ما قلت، فتكلمت فبكى بكاء كثيراً ثم قال: انظر ما تحت الوسادة فرأيت خمسمائة دينار، فلما كان في الجمعة الثالثة آتيته مودعاً قاصداً بيت الله الحرام، فقال: انظر ما تحت الوسادة فرأيت ثلثمائة دينار، ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام منصور فأتت بأربعين ثوباً فقلت: يرحمك الله أنا يكفيني ثوبان فقال: أنت رجل كريم فيصبحك قوم فأعطهم، ثم قال: خذ الجارية أيضاً ومعها ألف دينار ولا تخبر ولدي فيراه قليلاً - رضي الله عنه -. وكانت وفاته في شعبان سنة خمسين وسبعين ومائة، وقبره بمصر يزار وعليه من الجلالة والبهاء ما هو لاق به، وليس في الكتب الستة من اسمه الليث بن سعد سواه. «عن عقيل» بضم العين المهملة وفتح القاف، هذا هو عقيل الحافظ بن خالد بن عقيل بفتح العين الأيلي بفتح الهمزة والياء المثناة التحتانية القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان الحافظ. «عن ابن شهاب» هذا هو الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي الزهري، المدني، سكن الشام، وهو تابعي صغير كذا في شرح ابن الملقن، وفي الكرماني هو تابعي كبير، سمع عشرة من الصحابة بل أكثر سمع أنساً وخلقاً من الصحابة، وسعيد بن المسيب وخلقاً من كبار التابعين ورأى ابن عمرو، وروى عنه، وصح عنه أنه قال: «ما استودعت حفظي شيئاً فخانتي» ، وصح عنه أيضاً أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة» كما قاله البخاري في التاريخ. قال الليث: ما رأيت عالماً أجمع من الزهري ولا أكثر علماً منه. وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أتقن للحديث من الزهري، وما رأيت أحداً الدنيار والدرهم أهون عنده، إن كانت الدراهم والدنانير عند بمنزلة البعر. قال الشافعي رحمه الله تعالى: لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة، والعلماء

متفقون على إمامته وجلالته وحفظه وإتقانه وضبطه وعرفانه، وقد وصفوه بأنه جمع علم جميع التابعين. وكانت وفاته بالشام سابع عشر رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، وهو ابن اثنين وسبعين سنة وأوصى بأن يدفن على الطريق بقرية يقال لها: «شغب وبدا» لينال من المارين بقربة، ولله القائل: بقارعة الطريق جعلت قبري ... لأحظى بالترحم من صديقي فيا مولى أنت أولى ... برحمة من يموت على الطريق «عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين» رضي الله عنهما، وعن أبويها وجديها «أنها قالت أول ما بدئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي (¬1) الرؤيا الصالحة (¬2) في النوم (¬3) ، فكان لا يرى إلا وجاءت في مثل فلق الصبح (¬4) » قال الإمام النووي: هذا الحديث من مراسيل الصحابة فإن عائشة لم تدرك زمان وقوع هذه القصة فروتها إما سماعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صحابي آخر. قال الطيبي (¬5) : والظاهر أنها سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقولها قال: «فأخذني فغطني» ، ومرسل الصحابة حجة عند جميع العلماء، إلا ما انفرد به أبو إسحاق الإسفرايني. قول عائشة «أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم» تصريح منها بأن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة أقسام الوحي، وهذا متفق عليه، وإنما بُدئ - صلى الله عليه وسلم - بالوحي في المنام قبل جميع أقسام الوحي السبعة ليكون تمهيداً وتوطئه بمجيىء الملك إليه في اليقظة بالوحي لئلا يأتيه بصريح النبوة بغتة، فهذا لا يتحمله القوى البشرية. ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/70) : يحتمل أن تكون «من» تبعيضية، أي: من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه القزاز. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/70) : قوله: «الرؤيا الصالحة» وقع في رواية معمر ويونس عند البخاري في التفسير «الصادقة» وهي التي ليس فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيداً وتوطئة لليقظة، ثم مهد له في اليقظة أيضاً رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/70) : قوله: «في النوم» لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازاً. (¬4) قال ابن حجر في الفتح (1/71) قوله: «مثل فلق الصبح» بنصب مثل على الحال، أي: مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أي: جاءت مجيئاً مثل فلق الصبح، والمراد بفلق الصبح: ضياؤه. وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه. (¬5) هو: أحمد بن أحمد بن بدر الدين، شهاب الدين الطيبي الصالحي الدمشقي، ولد سنة: 910هـ‍،، تفقه على مذهب الإمام الشافعي، وأصبح من أئمته، وكان متصوفاً، كان إماماً بجامع بني أمية، له: زاد الابرار وسلاح الأخيار، وله نظم وليس بشاعر، وكانت وفاته سنة: 979هـ‍.

وكانت مدة وحي المنام كما قاله البيهقي ستة أشهر. قال ابن حجر: على هذا فابتداء النبوة بالرؤيا من شهر مولده، وهو ربيع الأول، وابتداء الوحي يقظة وقع في رمضان. فائدة لغوية: «الرؤيا» مصدر الوحي كالرجعى مصدر رجع، ويختص برؤيا المنام كما اختص الرأي بالقلب، والرؤية بالعين. والصالحة يجوز أن يكون صفة موضحة للرؤيا، بناءً على أن غير الصالحة لا تسمى رؤيا تسمى بالحلم، كما ورد الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، ويجوز أن يكون صفة مخصصة بناءً على أن السنة تسمى بالرؤيا قال العلماء: الرؤيا على قسمين صالحة وتسمى صادقة، وهي بشارة من الله يبشرها عبده ليحسن بها ظنه، ويكثر عليها شكره، وكاذبة وتسمى: بالحلم وبأضغاث أحلام، وهي من الشيطان يراها الإنسان ليحزنه فيسوء ظنه بربه، ويقل حظه من شكره، ولذلك أمر بالنفوذ من شره وغيره كما سيأتي ليطرده. والرؤيا الصالحة لا تختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل يشاركه غيره فيها لكن خص - صلى الله عليه وسلم - بأن جميع ما كان يراه في منامه حق وصدق، ولهذا قالت عائشة «وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» وفلق: بفتح أولهما وثانيهما ضياؤه أي: جاءت مثل الوضوح والبيان. قال الكرماني: والصحيح أنه بمعنى المفلوق، وهو اسم للصبح، فأضيف أحدهما إلى الآخر لاختلاف اللفظين، والذي يدل على أن الفلق هو الصبح استعماله وحدة قال تعالى ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ? [الفلق: 1] ، وإنما عبرت عن صدق الرؤيا بفلق الصبح ولم تعبر بغيره: لأن شمس النبوة كان مبادئ أنوارها الرؤيا إلى أن تم نورها وبرهانها، وظهرت أشعتها وإلى هذا صاحب البرده أشار بقوله: لا ينكر الوحي من رؤياه أن له ... قلباً إذا نامت العينان لم ينم بخلاف رؤيا غيره - صلى الله عليه وسلم - فإنها قد تكون صادقة، وقد تكون أضغاث أحلام. وحقيقة الرؤيا الصالحة: أن الله يخلق في قلب النائم وفي حواسه الأشياء كما يخلقها في اليقظان، وهو سبحانه يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا غيره عنه فربما يقع ذلك في اليقظة كما رآه في المنام، وربما جعل ما رآه علماً على أمور أُخر يخلقها في ثاني الحال، أو كان قد خلقها فتقع تلك، كما جعل الله الغيم علامة للمطر وصلاح الرؤيا إما باعتبار تعبيرها.

وقال القاضي عياض: صلاحها حسن ظاهرها أو صحتها أو فسادها، إما بسوء ظاهرها وإما بسوء تأويلها. فائدة: ورد في الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة» (¬1) . وفي رواية: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» (¬2) . وفيه كثير غموض عن كثير من الناس وإيضاحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش ثلاثاً وستين سنة على الصحيح، ومدة نبوته منها ثلاث وعشرون سنة لأنه نبئ على رأس الأربعين، وكان نصف سنة يرى الوحي في المنام إلى المدة التي رآه فيها في اليقظة كانت نصف جزء من ثلاث وعشرين سنة، وذلك جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة. لكن المشكل رواية مسلم «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوة» (¬3) ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (6/2562، رقم 6582) ، ومسلم في صحيحه (4/1774، رقم 2264) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) هذه الرواية عند البخاري في الصحيح (6/2568، رقم 6593) من حديث أنس أيضاً بزيادة في أوله، وعند مسلم في الصحيح (4/1774، رقم 2263) عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت بلفظه. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1775، رقم 2265) عن ابن عمر. وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (4/383، رقم 7626) ، وابن ماجه في سننه (2/1283، رقم 3897) ، وابن أبي شيبة (6/173، رقم 30455) ، والطبراني في مسند الشاميين (1/410، رقم 714) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/186، رقم 4757) عن ابن عمر. والحديث جاء أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس: فأما رواية أبي سعيد فعند ابن ماجه في سننه (2/1282، رقم 3895) من طريق عطية عن أبي سعيد الخدري ... به. قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/153) : هذا إسناد ضعيف لضعف عطية العوفي. وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه البزار في مسنده (5/250، رقم 1864) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/217، رقم 9057) ، وأخرجه أيضاً: في المعجم الصغير (2/141، رقم 928) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/173) : رواه الطبراني في الكبير والصغير وقال فيه جزء من سبعين جزءا والبزار ورجال الصغير رجال الصحيح. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد في مسنده (1/315، رقم 2896) ، وأبو يعلى (4/466، رقم 2598) ، والطبراني في المعجم الكبير (11/277، رقم 11727) . ورواه البزار كما في مجمع الزوائد (7/172) قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.

فإنها لا يظهر لها وجه، وللرؤيا الصادقة شروط متى اختل شرط منها كانت أضغاث أحلام لا يصح تأويلها. منها: أن لا يكون الرائي خائفاً من شيء أو راجياً، وفي معنى الخوف والرجاء الحزن على شيء والسرور بشيء، فإذا نام من اتصف بذلك كذلك رأى في نومه ذلك الشيء بعينه. ومنها: أن لا يكون خالياً من شيء هو محتاج إليه كالجائع والعطشان يرى في نومه كأنه يأكل ويشرب. ومنها: أن لا يكون ممتلئاً من شيء فيرى كأنه يجتنبه، كالممتلئ من الطعام يرى أنه يقذفه. ومنها: أن لا يرى ما لا يكون كالمحالات وغيرها مما يعلم أنه لا يوجد، بأن يرى الله سبحانه وتعالى على صفة مستحيلة عليه، أو يرى نبياً يعمل عمل الفراعنة. ومنها: أن لا يكون ما رآه في النوم قد يراه في اليقظة، وإدراك حسه بعهد قريب قبل نومه، وصورته باقية في خياله فيراها بعينها في نومه. ومنها: أن لا يكون قد حدثته نفسه به في اليقظة وتفكر فيه قبل النوم بمدة قريبة. ومنها: أن لا يكون موافقاً ومناسباً لما هو عليه من تغيير المزاج، بأن تغلب عليه الحرارة من الصفراء فيراها في نومه نيراناً شمساً محرقة، أو تغلب عليه البرودة فيرى الثلوج، أو تغلب عليه الرطوبة فيرى الأمطار والمياه، أو تغلب عليه اليبوسة والسوداء فيرى الأشياء المظلمة والأهوال، فمتي اختل شرط مما ذكرنا كانت الرؤيا فاسدة لا تعبير لما ورد، وإذا وجدت هذه الشروط في رؤيا الإنسان غلب على الظن سلامة رؤياه من الفساد، وصح تعبيرها خصوصاً إذا انضم إلى ذلك كون الرائي من أهل الصدق والصلاح، فإن الظن يقوي بأنها صادقة صالحة، ففي الحديث «أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/532، رقم 2270) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود في سننه (4/304، رقم 5019) ، وابن ماجه في سننه (2/1289، رقم 3917) ، وأحمد في مسنده (2/507، رقم 10598) ، والحاكم في المستدرك (4/432، رقم 8174) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه (13/404، رقم 6040) ، والدارمي في سننه (2/168، رقم 2144) ، والطبراني في المعجم الأوسط (1/291، رقم 955) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/188، رقم 4762) جميعاً عن أبي هريرة.

ومن علامات صدق الرؤيا من حيث الزمان كونها في الأسحار، وكونها عند اقتراب الزمان ففي الحديث «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب» (¬1) واقتراب الزمان هو اعتداله وقت استواء الليل والنهار، وقيل: اقتراب الزمان قرب قيام الساعة. وعن جعفر الصادق (¬2) أنه قال: أصدق رؤيا النهار وقت القيلولة، لأن الحسين بن على رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «أتسرعون السير بكم إلى الجنة» فقال الحسين - رضي الله عنه -: يا أبت لا حاجة إلى الرجعة إلى دار الدنيا بعد رؤيتك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا بني لابد لك من الرجعة وهي ساعة لم يكذب فيها، ثم صلى الظهر وقتل شهيداً» (¬3) . ومن علامات صلاحها: أن تكون تبشيراً بالثواب على الطاعة أو تحذيراً من المعصية، وليس المراد من قولنا بأن هذه الرؤيا الصالحة أنها صالحة على سبيل القطع بل على غلبة الظن. قال ابن الصلاح: ومعلوم أن إدراك ما هو حق منها مما هو باطل، وعسر الطريق أن يظن إلا ظناً. فإن قيل: بأي شيء يرى الإنسان المنام بالروح أو بغيرها؟ فالجواب: أن مقاتلاً ذكر في تفسير قوله تعالى ?وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ? [الانعام: 60] أن الإنسان له حياة وروح ونفس، فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء، ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع كشعاع الشمس فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد، فيها ينقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه أسرع من طرفه عين، فإذا رجعت أخبرت الروح القلب فيصبح فيعلم أنه رأى رؤيا صالحة فيعرف بما رأى في منامه فتحيا النفس وتحيا الروح وتخبر الروح القلب، فإذا أراد الله تعالى أن يميت هذا الرائي في المنام يمنع النفس التي خرجت منه العود إلى البدن، ويقبض الروح إليها، فيموت في منامه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1773، رقم 2263) ، والترمذي في سننه (4/532، رقم 2270) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في مسنده (2/507، رقم 10598) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/188، رقم 4762) عن أبي هريرة. (¬2) جعفر الصادق هو: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي أبو عبد الله المدني الصادق، وأمُّه: أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها: أسماء بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر، فلذلك كان يقول ولدني أبو بكر مرتين. توفى رضي الله عنه عام 148هـ. قال عمرو بن أبي المقدام: «كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين» ، وقال عنه ابن حبان في الثقات: «كان من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا ... » ، وقال مالك: «اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصل وإما صائم وإما يقرأ القرآن ما رأيته يحدِّث إلا على طهارة» . (¬3) لم نقف عليه.

ونقل بعض علماء التعبير عن دانيال - عليه السلام - أنه قال: الأرواح يعرج بها إلى السماء السابعة حتى تقف بين يدي رب العزة فيؤذن لها بالسجود، فما كان طاهراً سجد تحت العرش، وما كان غير طاهر سجد قاصياً فلذلك، يستحب لمن أراد أن ينام، أن ينام على طهارة. فائدة: قال العلماء: وإذا كان الإنسان يقرع في منامه فليقل ما رواه ابن السني أنه قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا أنه يفزع في منامه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أويت إلى فراشك فقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فقالها فذهب عنه» ، وكان عبد الله بن عمرو (¬1) يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبهن فعقلهن عليه، نقل ذلك أبو داود وغيره (¬2) . وإذا رأى في نومه ما يحب فليحمد الله تعالى وليحدث بها، وإذا رأى ما يكرهه فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فقد ورد في هذا الصحيح عن أبي سعيد الخدري - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله تعالى عليها وليحدث بها» ، وفي رواية (¬3) «ولا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى غير ذلك مما يكره إنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا ¬

(¬1) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص، من قريش ولد قبل الهجرة بسبع سنوات، معدود في الصحابة، من النساك، من أهل مكة، كان يكتب في الجاهلية، ويحسن السريانية، وأسلم قبل أبيه، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يكتب ما يسمع منه فأذن له، وكان كثير العبادة حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لجسدك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً ... الحديث» ، وكان يشهد الحروب والغزوات، ويضرب بسيفين، وحمل رآية أبيه يوم اليرموك، وشهد صفين مع معاوية، وولاه معاوية الكوفة مدة قصيرة، ولما ولي يزيد امتنع عبد الله من بيعته، وانزوى كما في إحدى الروايات بجهة عسقلان، منقطعاً للعبادة، وعمي في آخر حياته، توفي سنة: 65هـ‍، واختلفوا في مكان وفاته، له 700 حديث. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4/12، رقم 3893) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/191، رقم 10602) ، وفي عمل اليوم والليلة (ص: 453، رقم 766) وفيه اسم الرجل الذي يفزع، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان خالد بن الوليد بن المغيرة رجلاً يفزع في منامه فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اضطجعت فقل باسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» فقالها فذهب ذلك عنه. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (2/181، رقم 6696) ، والحاكم في المستدرك (1/733، رقم 2010) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/50، رقم 23598) ، وأبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (1/462، رقم 116) . (¬3) هذه الرواية وردت في حديث آخر غير حديث أبي سعيد الآتي فهي عند البخاري في الصحيح (6/2582، رقم 6637) عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت أبا سلمة يقول: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت أبا قتادة يقول وأنا كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره» . وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/223، رقم 10730) .

يذكرها لأحد فإنها لا تضره» (¬1) . وينبغي إن رأى في منامه ما يكرهه أن ينفث أي: ينفخ عن يساره ثلاث مرات ويتعوذ من الشيطان، فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الرؤيا الصالحة» وفي رواية «الرؤيا الحسنة من الله والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره» ، وفي رواية «فليبصق» بدل «فينفث» . قال النووي: والظاهر المراد من النفث: وهو نفخ خفيف لا ريق معه. وكذلك لمن رأى ما يكره أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه فقد روينا في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» (¬2) . كذلك ينبغي لمن رأى ما يكره أن يقوم ويصلي ويحصل التعوذ المذكور في هذه الأحاديث بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن الأحسن أن يقول عند رؤية ما يكره: اللهم أعوذ بك من عمل الشيطان، وسيئات الأحلام كما ورد ذلك، والسنة للإنسان إذا قص عليه أحد رؤيا أن يقول له: «خيراً رأيت وخيراً يكون، وخيراً تلقى، وشرا توقى، خيراً لنا، وشراً لأعدائنا، الحمد لله رب العالمين» . وقول عائشة رضي الله عنها «ثم حبب إليه الخلاء» (¬3) أي: حبب الله له الخلوة ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2563، رقم 6584) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/223، رقم 10729) ، وأحمد في مسنده (3/8، رقم 11069) ، وأبو يعلى في مسنده (2/513، رقم 1363) عن أبي سعيد. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1772، رقم 2262) عن جابر. وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (4/390، رقم 7653) ، وابن ماجه في سننه (2/1286، رقم 3908) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/179، رقم 30494) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص: 319، رقم 1047) ، وأبو يعلى في مسنده (4/180، رقم 2263) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/188، رقم 4761) . (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/71) : قوله: «حبب» لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام. والخلاء بالمد: الخلوة، والسر فيه: أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له. وحراء بالمد وكسر أوله كذا في الرواية وهو صحيح، وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد حكي أيضاً، وحكي فيه غير ذلك جوازاً لا رواية، هو جبل معروف بمكة. والغار: نقب في الجبل وجمعه غيران.

فإن الخلاء بالمد الخلوة وهو شأن الصالحين وعباد الله العارفين، وإنما حبب إليه الخلوة لأن فيها فراغ القلب وهي معينة على الفكر، وينقطع بها عن مألوفات البشر ويخشع قلبه، فإن البشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة فلطف الله تعالى به في بدء أمره، فحبب إليه الخلوة وقطعه عن مخالطة البشر، ليجد الوحي له متمكناً كما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا وكان دخوله الخلوة بإلهام من الله تعالى لا من تلقاء نفسه، قال بعض أهل العلم: ففيه دليل على أن الإنسان إذا قصد الخلوة والانقطاع عن الناس فلابد له من إذن شيخه له في ذلك، وقد صرح بذلك العارف بالله الزاهد الكامل زين الدين أبو بكر الحراني الخراساني نفعنا الله به في وصيته لأصحابه حيث قال فيها ما معناه: من قصد سلوك طريق الأولياء وقصد الانقطاع والتبتل في الخلوة وترك الاختلاط فلا بد أن يكون ذلك بحضور الشيخ، وأمره الظاهر وأمره الباطن فإن المريد إذا صحت رابطتة مع شيخة وكان مسلماً لأوامره وإشاراته يرى شيخة في واقعته فيأمره وينهاه ويحل واقعته، ثم قال في وصيته: ولا ينبغي لمن أراد دخول الخلوة أن يقصد بدخوله أن يصير مكاشفاً أو ذا كرامة عيانية فإن من رحل على هذا القصد رأى الأشياء الباطلة في صورة الحق. ثم قال: دخل واحد من أصحابنا في خراسان الخلوة بغير إذن ولا وقت استحقاق دخولها، فجاء الشيطان إليه على صورة الخضر فقال له: أتريد أن تحصل لك العلوم الدينية فقال: نعم وكان مائلاً أن يتكلم في العلوم وأن يجري على لسانه، فقال له: افتح فاك فرمى الشيطان بزاقة في فمه، ثم بعد ذلك صنف كتاباً مشتملاً على أبواب من المعارف فلما وصل إلى الملاقاة والاجتماع بي عرض ما صنفه علي وحكى واقعته فقلت له: يا مسكين ذلك أن الشيطان جاء إليك في صورة الخضر ولعب بك وشغلك عن طاعة الله وذكره، إذهب واغتسل وتب إلى الله. والشيطان يجيىء على صورة الصالحين كثيراً ولا يقدم على التمثيل بصورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بصورة الشيخ إذا كان الشيخ تابعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - مأذوناً له بالإرشاد من شيخة المأذون وهكذا إلى حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم قالت عائشة: «فكان يخلو بغار حراء» الغار: نقب في الجبل وهو قريب من معنى الكهف، ويجمع الغار على غيران وحراء بكسر الحاء وتخفيف الراء جبل بينه وبين مكة شرفها الله تعالى نحو ثلاثة أميال عن يسارك إذا سرت إلى من شرفها الله، وفي «حراء وقباء» ست لغات المد والقصر والصرف وعدمه والتذكير والتأنيث، وقد نظم بعضهم ذلك فقال: قباء وحراء اذكروا أنثهما معاً ... ومد واقصر واصرفن وامنع الصرفا فمن صرف أراد أن اللفظ علم للمكان ونحوه، فيكون فيه االعلمية فقط، وهي وحدها لا تمنع الصرف، ومن منع الصرف أراد اللفظ علم للبقعة، فيكون فيه علتان العلمية والتأنيث، وكذا كل اسم مكان إن جعلت اللفظ علماً للبقعة أو الجهة فهو غير منصرف، وإن جعلته علماً للمكان ونحوه فهو منصرف فهي قاعدة كلية نبه عليها الكرماني وغيره. «فيتحنث فيه وهو التعبد (¬1) الليالي ذات العدد» مرادها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كان يخلو بغار حراء يتحنث أي يتعبد، ويتحنث بمعنى يتعبد، وإن تعبده كان في ليال معدودة في كل سنة فضمير «وهو التعبد» راجع إلى التحنث الذي دل عليه لفظ «فيتحنث» فهو كقوله تعالى ?اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة: 8] فتفسير التحنث بالتعبد إما من كلام عائشة وهو الظاهر، وإما من كلام الزهري في الحديث على عادته. وحقيقة التحنث في الأصل التجنب عن الحنث أي: الإثم فكان المتعبد يلقي الإثم عن نفسه بالعبادة. والمراد بقوله: «الليالي ذوات العدد» مع أيامهن على سبيل التغليب لأنها أنسب للخلوة، وكانت هذه الليالي التي يعبد فيها مع أيامها إلى شهر رمضان وأيامه في كل سنة. فائدة: إنما خصص - صلى الله عليه وسلم - جبل حراء بالخلوة والتعبد فيه دون غيره من جبال مكة ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/71) : قوله: «فيتحنث» هي بمعنى يتحنف، أي يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم. وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة «يتحنف» بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما. قوله: «وهو التعبد» هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله. نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج.

كجبل أبي قبيس مع أنه أول جبل وضعه الله على الأرض حين صارت قاله مجاهد، وكجبل شبير وغيره، لأن جبل حراء نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صعد على جبل بمكة يقال له: شبير وكان قد طالبه الكفار فقال له شبير بلسان القال لا بلسان الحال: انزل عن ظهري فإني أخاف أن تقتل على ظهري فيعاقبني الله تعالى فقال له جبل حراء: إليَّ يا رسول الله. وقيل: خصصه بذلك لأنه يرى بيت ربه منه وهو عبادة، كما اختلفوا في عبادته - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة. فائدة أخرى: قال البغوي في تفسيره: لما تجلى الله للجبل وصار دكاً طار منه ست أجبل وقعت ثلاثة بمكة وهي ثبير وحراء وثور، وثلاثة بالمدينة، وهي أحد وورقان ورضوي (¬1) . فائدة أخرى: اختلف العلماء رضوان الله عليهم في الغار بأي شيء كانت، كما اختلفوا في عبادته - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة فقيل: كان يعبد بشريعة إبراهيم، وقيل: بشريعة موسى، وقيل: بشريعة عيسى، وقيل: بشريعة نوح، وقيل: بشريعة آدم، وقيل: بشريعة غير ذلك، والذي عليه جمع وحذاق أهل السنة أنه لم يتعبد بشرع أحد بل كان يتعبد كما قاله ابن الملقن بالتفكر قال: ولاخلاف بين أهل التحقيق أنه عليه الصلاة والسلام قبل نبوته هو وسائر الأنبياء منشرح الصدر بالتوحيد والإيمان فانهم لا يليق بهم الشك في شيء من ذلك، ولا خلاف في عصمتهم من ذلك. وقولها «قبل أن ينزع إلى أهله» أي: كان تعبده في الغار قبل أن يحن إلى أهله ¬

(¬1) انظر تفسير البغوي (2/198) . قلت: وقد روي ذلك في حديث مرفوع أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/314) ، والخطيب في تاريخ بغداد (10/440) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/150، رقم 4407) عن معاوية بن قرة عن أنس مرفوعاً. وأورده ابن كثير في تفسيره (2/246) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وقال عقبه: وهذا حديث غريب بل منكر. وآفته أن فيه: الجلد بن أيوب ذكره ابن حبان في المجروحين (1/210، ترجمة 176) وأخرج حديثه هذا وقال: موضوع لا أصل له. وأورده ابن حجر في فتح الباري (6/430) فقال: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي مالك رفعه ... فذكر الحديث وقال عقبه: وهذا غريب مع إرساله.

ويشتاق إليهم، فيرجع إليهم. وقولها «ويتزود لذلك» مرفوعاً عطفاً على فيتحنث، وذلك إما إشارة إلى الخلاء وإما إلى التعبد، أو كان - صلى الله عليه وسلم - يتعبد في غار حراء، ويتزود لمدة خلوته وتعبده والتزود اتخاذ الزاد، والزاد هو الطعام الذي يستصحبه المسافر. وقولها «ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها» أي: كان بعد الفراغ من التعبد في هذه الليالي يرجع إلى خديجة، فإذا جاء وقت الليالي يتزود لمثلها أي: يصحب معه زاد يكفيه لمثل تلك الليالي. وخديجة هي: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشية، كانت تدعي في الجاهلية بالطاهرة (¬1) ، وكانت أكثر قريش مالاً وأعظمهم شرفاً، وهي التي وآزرته على النبوة، وهاجرت معه وواسته بنفسها ومالها، فإن العرب كانت تتمادح بكسب المال ولاسيما قريش، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة في التجارة، وخديجة كانت تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم عليه بشيء معلوم فلما بلغها حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعظيم أمانته، وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج مالها تاجراً إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره. وفي سيرة ابن مغلطاى: أنها استاجرته على أربع بكرات فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج في مالها مع غلام يقال له: ميسره، قال البرهان: وميسره هذا لا علم أحداً ذكر له إسلاماً، وكأنه توفى قبل النبوة، ولو أدرك النبوة لأسلم، فلما أرسلت ميسرة معه - صلى الله عليه وسلم - قالت له: لا تعص لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أمراً حتى قدم به سوق بصرى وهي مدينة حوران من أرض الشام. فإنه - صلى الله عليه وسلم - دخل أرض الشام أربع مرات: المرة الأولى: مع عمه أبي طالب وكان عمره اثنتى عشر سنة على أصح الأقوال الثلاثة فرآه بحيرا الراهب قال الذهبي في تجريده: بحيرا رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل المبعث وآمن به ذكره ابن منده في الصحابه. واسم بحيرا «جرجيس» فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفه بصفته فأخذ بيده وقال هذا سيد العالمين هذا يبعثه الله للعالمين فقيل له: وما علمك بذلك فقال: إنكم حين أشرفتم ¬

(¬1) قاله الزبير بن بكار رواه عنه الطبرانى في الكبير (22/447، رقم1091) من قوله، وكذا ابن عساكر في التاريخ (3/131) . انظر ترجمتها في: (الثقات 1/44، والاستيعاب 4/1817 ترجمة: خدبجة بنت خويلد برقم: 3311، والإصابة 7/600، ترجمة: خديجة بنت خويلد برقم 11086) .

به من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبي وإنا نجده في كتبنا وسأل أبا طالب أن يرده خوفاً عليه من اليهود. المرة الثانية: مع ميسره وكان عمره خمساً وعشرين سنة ويقال استاجرت معه رجلاً من قريش فلما دخلوا نزلوا تحت ظل شجرة بقرب نسطور الراهب، قال البرهان الحلبي: ولا أعلم أحداً ذكره في الصحابة بخلاف بحيرا فلما رآه نسطور قال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، وفي رواية: ما نزل تحتها قط إلا نبي. المرة الثالثة: ليلة الإسراء وصل إلى بيت المقدس. المرة الرابعة: إلى تبوك، فأما دمشق فإنه لم ينقل أنه دخلها - صلى الله عليه وسلم -. فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفر تجارة خديجة إلى مكة ونظرت خديجة ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - بربح كثير فحدثها ميسره بقول الراهب. وذكر في كتاب شرف المصطفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من بصرى وقرب من مكة قال له ميسرة: عجل إلى خديجة وبشرها بالربح الكثير، وكانت خديجة تصعد على سطح دارها أوقاتا لتنظر هل قدموا من السفر أم لا، فصعدت يوماً فرأت محمداً - صلى الله عليه وسلم - على بعيره وعلى يمينه ملك شاهر سيفه وعلى شماله ملك شاهر سيفه والغمامة على رأسه، فلما تحققت أمره امتلأ قلبها فرحاً ورغبت في التزوج به. قال العراقي: ورغبت فخطبت محمداً فيالها من خطبة ما أسعدها، فأرسلت إليه وعرضت نفسها عليه، ثم أرسلت شيئاً ليرسله لأبيها ليرغب فيزوجه، فذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأعمامه فخرج حمزة وأبو طالب (¬1) ، ورؤساء الحرم إلى خويلد بن أسد ¬

(¬1) نقل محب الدين الطبري في السمط الثمين (ص: 15) عن ابن إسحاق أنه قال: «وحضر أبو طالب ورؤساء مضر فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرماً آمناً وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجلاً إلا رجح به، فإن كان في المال قل، فإن المال زائل، وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا نبأ عظيم، وخطر جليل فتزوجها» . قلت: لم نقف عليه من رواية ابن إسحاق ووقفنا عليه من قول أبي الحسين بن فارس كما في السيرة الحلبية (1/226) ، وأورده ابن الجوزى في صفوة الصفوة (1/74) بقوله: «وقد ذكر بعض العلماء أن أبا طالب حضر العقد ومعه بنو مضر فقال أبو طالب ... فذكره» كما ذكره الإمام أحمد في مسائله (ص: 19) ولم يعزه إلى أحد.

وخطبوها فزجها أبوها، وقيل: أخوها، وقيل: عمها، ويجمع الأقوال بأن الثلاثة حضر وزوجها أبوها على الراجح (¬1) فنسب الفعل إلى كل واحد منهم. وأصدقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشر أوقية ونبشاً (¬2) ، وقيل: عشرين بكره (¬3) ، وكان عمره حين التزوج بها خمسة وعشرين سنة على الراجح من الأقوال الستة (¬4) ، وكان عمر خديجة أربعين سنة على الراجح من الأقوال (¬5) ¬

(¬1) صوب ابن سعد أن عمها عمرو بن أسد هو الذى زوجها له - صلى الله عليه وسلم -، وقد أورد ابن سعد الروايات التى ورد فيها أن أباها هو الذى زوجها إياه ثم قال: هذا كله عندنا غلط، والثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار وأن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال مثله الطبري في التاريخ نقلاً عن الواقدي. انظر: الطبقات الكبرى (1/133) ، والطبري في التاريخ (1/522) . (¬2) ورد ذلك في رواية أخرجها الدولابي في الذرية الطاهرة (ص30، رقم 14) بلاغاً. (¬3) هذا هو قول ابن إسحاق نقله عنه الحافظ الذهبي في السير (2/14) . وانظر السيرة لابن هشام (2/9) ، (6/57) ، والكلاعي في الاكتفاء (1/156) . (¬4) انظر: كلام أبو عمر ابن عبد البر في كتابه الإستيعاب (4/1818، 1819) وقوله بأنه - صلى الله عليه وسلم - حين تزوجها كان ابن خمس وعشرين سنة، وقد صرح في موضع آخر (1/35) أن من قال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وله إحدى وعشرين سنة هو الزهري. وقال: قال أبو بكر بن عثمان وغيره: كان ابن ثلاثين. وممن روى أن سنه كان وقت ذاك خمس وعشرين سنة ابن سعد في الطبقات (8/17) عن أبي حبيبة مولى الزبير قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة وهي ابنة أربعين سنة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن خمس وعشرين سنة، وكانت خديجة أسن مني بسنتين ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة وولدت أنا قبل الفيل بثلاثة عشرة سنة. (¬5) تجارته - صلى الله عليه وسلم - في مال خديجه وسفره بالتجارة وقصة بحيرا ورغبة خديجة رضي الله عنها في الزواج به - صلى الله عليه وسلم - ورد من رواية محمد بن إسحاق فقد قال: كانت خديجة رضى الله عنها امرأة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم عليه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوما تجاراً فلما بلغها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يتجر لها في مالها، ويخرج إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج في مالها ذلك ومعه غلامها ميسرة، حتى قدم الشام فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان فأطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم باع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، وكان ميسرة فيما يزعمون يقول: إذا كانت الهاجرة واشتد الحر نزل ملكان يظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريباً، وحدثها ميسره عن قول الراهب وعن ما كان يرى من إظلال الملكين إياه، بعثت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك، وسطتك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت امرأة حازمة لبيبة شريفة، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، كل قومها قد كان حريصاً على ذلك منها، لو يقدر على ذلك، فلما قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قالت، ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة بن عبد المطلب، حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: أخرجه الدولابى (ص 26، رقم 8) عن محمد بن إسحاق، وأخرج نحوه ابن سعد في الطبقات (8/16) عن نفيسة بنت أم أم أمية أخت يعلى بن أمية. وانظر السيرة لابن هشام.

ومن فضائلها ما ذكره في عقائق الحقائق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج خديجة كثر كلام الحساد فيها فقالوا: إن محمداً فقير قد تزوج بأغنى النساء فكيف رضيت خديجة بفقره فلما بلغها ذلك أخذتها الغيرة على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعير بالفقر، فأحضرت سادات الحرم، وأشهدتم أن جميع ما تملكه لمحمد، فإن رضي بفقري فذلك من كرم أصله فتعجب الناس منها، وانقلب القول فقالوا: محمد أمسى من أغنى أهل مكة وخديجة أمست من أفقر أهلها فأعجبها ذلك، وإلى ذلك أشار الله بقوله جل ذكره ?وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى? [الضحى: 8] على قول. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بم أكافئ خديجة؟ فجاءه جبريل وقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: مكافأة خديجة علينا فانتظر النبي - صلى الله عليه وسلم - المكافأة فلما كان ليلة المعراج ودخل الجنة وجد قصراً مد البصر فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فقال: يا جبريل لمن هذا القصر؟ قال: لخديجة، فقال: هنيئاً لها لقد أحسن الله مكافآتها. ومن فضائلها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة: هذا جبريل يقرئك السلام من ربك فقالت: الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام، إنما قالت: السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1389، رقم 3609) ، ومسلم في صحيحه (4/1887، رقم 2432) عن أبي هريرة، قال مسلم عقبه: قال أبو بكر في روايته عن أبي هريرة ولم يقل: «سمعت» ، ولم يقل في الحديث: ومني. وأخرجه أيضاً: أحمد (2/230، رقم 7156) ، وأبو يعلى (10/477، رقم 6089) ، وابن أبي شيبة (6/390، رقم 32287) ، وابن عساكر في التاريخ (50/11) .

قال السهيلي في الروض: لأنها علمت بفهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين. وفي رواية: قال جبريل: «يا محمد هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» (¬1) والقصب: اللؤلؤ المجوف، والصخب: الصياح، والنصب: التعب. والحكمة في كون البيت من قصب أنها أجازت قصب السبق إلى الإيمان فإنها أول من آمن من النساء بل أول من آمن مطلقاً على قول. ومن فضائلها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناءه عليها والاستغفار لها، فذكرها ذات يوم فأدركتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، فرأيته غضب غضباً شديداً فندمت وقلت: اللهم إن ¬

(¬1) الحديث عند النسائى في فضائل الصحابة (ص 75، رقم 254) عن أنس بلفظ: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده خديجة فقال: «إن الله يقرئ خديجة السلام فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» . وأخرجه الطبرانى في المعجم الكبير (23 /15، رقم 25) من حديث سعيد بن كثير عن أبيه. قال الهيثمى (9/225) : فيه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف. وأخرج نحوه الفاكهي في أخبار مكة (4/93، رقم 2429) من حديث ابن عباس والقاسم بن أبي بزة من طريقين في موضع واحد خلال قصة وفيه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: وهو أى جبريل يقرئك السلام من الرحمن الرحيم ثم يقرئك السلام فقالت رضي الله عنها: «إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام» . وأخرجه ابن عساكر في التاريخ (70/118) من حديث ابن عمر أن جبريل قال: معي إليها رسالة من الرب تبارك وتعالى يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب. قالت: الله السلام، ومنه السلام، والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله. وانظر السيرة النبوية (2/79) . وذكره الدولابي في الذرية الطاهرة (ص 37، رقم 27) بقوله: قال ابن هشام وحدثني من أثق به أن جبريل أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ... فذكره.

ذهب غيظ رسولك لم أعد أذكرها بسوء، ثم قال: «صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء» (¬1) . وفي رواية: فذكرها يوماً فقلت: يا رسول الله هل كانت إلا عجوز قد أخلفك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: «لا والله ما أخلف الله لي خيراً منها» فقلت في نفسي: لا أذكرها بسوء أبداً (¬2) . هي أم أولاده كلهم خلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها حتى ماتت، فقامت معه أربعاً وعشرين سنة وأشهراً، توفت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح، وقيل: بخمس، وقيل: بأربع، وكانت وفاتها بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام عن خمس وستين سنة، ودفنت بالحجون، ونزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبرها. وكان يسمى العام الذي ماتت فيه هي وعمه عام الحزن، فطمعت قريش بموتها في النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالغوا في آذاه وتزوجت قبل، النبي - صلى الله عليه وسلم - برجلين أولهما: عتيق بن عابد، ثم تزوجها أبو هالة (¬3) ، فولدت منه هاله والظاهر وهند، فعاش هند (¬4) وأدرك الإسلام ¬

(¬1) أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (ص 32، رقم 19) ، والطبرانى في المعجم الكبير (23/13، رقم 21) . قال الهيثمى (9/224) : رواه الطبراني وأسانيده حسنة. (¬2) أخرجه أبو عمر ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1824) . وأورده الحافظ في الإصابة (7/604) وعزاه إلى أبي عمر. (¬3) للمحب الطبري كلاماً طيباً في هذه المسألة نذكره ونوثقه إتماماً للفائدة فنقول: قال محب الدين الطبري في السمط الثمين (ص 11) : قال ابن شهاب: «تزوجت خديجة قبل النبى - صلى الله عليه وسلم - رجلين، الأول منهما: عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فولدت له حارثة، ثم خلف عليها بعده أبو هالة التيمى، وهو من بني أسيد بن عمير فولدت له رجلاً» . قلت: رواه عن الزهري ابن عساكر في التاريخ (3/174) ، والطبراني في الكبير (22/445، رقم 1087) . وأخرج ابن عساكر نحوه (3/69) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه. وقال المحب الطبري: قال ابن إسحاق: «تزوجت وهي بكر: عتيق بن عابد ثم هلك عنها فتزوجها: أبو هالة مالك بن النباش بن زرارة أحد بني عمر بن تيم، حليف بني عبد الدار فولدت له رجلاً وامرأة ثم هلك عنها فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . قلت: أخرج ذلك الدولابي في الذرية الطاهرة (ص: 25، رقم 4) ، وابن إسحاق في كتاب السيرة المسمى: المبتدأ والمبعث والمغازي (5/229، رقم 340) . وقال المحب: قال الدارقطنى: «أبو هالة مالك بن النباش بن زرارة» . قلت: بين الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (11/63) : أن الدارقطني حكاه في كتاب الأخوة، ونقل عن الزبير بن بكار مثله في الإصابة (6/517، ترجمة: هالة بن هالة بن أبي هالة التميمي برقم 8919) . وقال المحب الطبري: وعن قتادة قال: «أبو هالة هند بن زرارة بن النباش فولدت له هند بن هند» . قلت: أورد قول قتادة هذا الحافظ في الإصابة (6/557، ترجمة: هند بن أبي هالة التميمي برقم 9013) . وقال المحب الطبري: وروى عن ابن شهاب: «أنها تزوجت أولاً أبو هالة ثم عتيق، ذكره الدولابي، وأبو عمر وصحح أبو عمر قول ابن شهاب الثاني» ولم يذكر ابن قتيبة غير الأول. قلت: وقول ابن شهاب أخرجه الدولابي (ص 26، رقم 7) قال: كانت خديجة قبل النبي تحت أبي هالة أخي بني تميم وكانت بعد أبي هالة عند عتيق بن عابد المخزومي ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله «صحح أبو عمر قول ابن شهاب الثاني» وهو قوله: بأنها تزوجت أولاً بأبي هالة، وقد سبق قوله: بأنها تزوجت أولاً بعتيق بن عابد. ورجح زواجها بأبي هالة أولاً ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1817، ترجمة: خديجة بنت خويلد برقم 2311) . (¬4) قال أبو عمر بن عبد البر في الإستيعاب (4/1545) كان - رضي الله عنه - وصافاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد شرح أبو عبيدة وابن قتيبة وصفه ذلك لما فيه من الفصاحة وفوائد اللغة. وقول أبو عمر حكاه عنه الدارقطني في كتاب الأخوة. انظر: الإصابة (6/557) . قال المزي في تهذيب الكمال (30/315) : وحديثه من أحسن ما روي في وصف حلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي إسناد حديثه بعض من لا يعرف، وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود وذكر حديث ابن أبي هالة فقال: أخشى أن يكون موضوعاً. انتهى. قلت: قد أجاب أبو حاتم الرازى عن ذلك فيما نقله الحافظ في تهذيب التهذيب (11/63) فقال: قال أبو حاتم الرازي: روى عنه قوم مجهولون فما ذنب هند حتى أدخله البخاري في الضعفاء. انظر: الكامل في ضعفاء الرجال (7/134، ترجمة 2050 هند بن أبي هالة) ونقل عن البخارى قوله: هند بن أبي هالة روى عنه الحسن بن علي بن أبي طالب يتكلم في حديثه. وأما عن حديثه في صفة النبى - صلى الله عليه وسلم - فيقول الحافظ ابن حجر في الإصابة (6/557) روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه الحسن بن علي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الترمذي والبغوي والطبراني وغيرهم من طرق عن الحسن بن علي، ووقع لنا بعلو في مشيخه أبي علي بن شاذان من طريق أهل البيت، وأخرجه البغوي أيضاً وأخرجه ابن منده من طريق يعقوب التيمي عن ابن عباس أنه قال لهند بن أبي هالة صف لي النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: فحديثه في صفة النبى - صلى الله عليه وسلم - يروى من طريق الحسن وابن عباس كما قال الحافظ، فالحديث عند الترمذى في الشمائل المحمدية (ص، رقم 8) . ورواه في موضع آخر (ص 184، رقم 226) مختصراً. ورواه في موضع ثالث (ص 276، رقم 337) ولفظه أطول وجميعها من طريق الحسن بن على. ورواه من طريقه أيضاً: الطبرانى في المعجم الكبير (22/155، رقم 414) . قال الهيثمى في المجمع (8/278) : فيه من لم يسم. ورواه البيهقى في شعب الإيمان (2/154، رقم1430) ، وابن عدى في الكامل (7/134) ، وابن حبان في الثقات (2/145) في باب ذكر وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/422) . وأما حديث هند من طريق يعقوب التيمي عن ابن عباس فأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/437، رقم 1231) ، والبغوي وابن منده كما قال الحافظ. انظر: الإصابة (6/557) .

وكان يقول: أنا أكرم الناس أباً وأماً وأختاً أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمي خديجة وأخي القاسم وأختي فاطمة. قال السهيلي: مات بالطاعون، طاعون البصرة (¬1) ، وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفاً فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته فلم يوجد من يحملها فصاحت نادبته: واهند بن هنداه، ربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق جنازة إلا تركت واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: قتل مع على يوم الجمل والأول هو الصحيح (¬2) . * * * ¬

(¬1) انظر: الإستيعاب (4/1545) قال ابن عبد البر: هكذا قال الزبير. وغيره يقول: إن هند ابن أبي هالة هو الذي مات بالبصرة مجتازاً إذ مر بها فلم يقم سوق البصرة يومئذ وقالوا مات أخو فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح ما قاله الزبير في ذلك والله أعلم بأن هند بن أبي هالة قتل يوم الجمل وأن ابنه هند بن هند بن أبي هالة هو الذي مات بالبصرة في الطاعون. (¬2) قاله الزبير بن بكار. انظر: الإستيعاب (4/1545) ، وتهذيب الكمال (30/316) ، والإصابة (6/557) .

المجلس التاسع

المجلس التاسع في الكلام على بقية حديث أول ما بدئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا في النوم قول عائشة «حتى جاءه الحق (¬1) وهو في غار حراء» مرادها بالحق الوحي الكريم. وقولها «فجاءه الملك» أي: جبريل. فإن قيل: إن قوله له فجاءه الملك بالفاء التعقبية بعد قوله حتى جاءه الحق يقتضي مجيىء جبريل إليه بعد مجيىء الوحي مع أن جبريل هو النازل بالوحي؟ فالجواب: أن هذه الفاء تسمي بالفاء التفسيرية نحو قوله تعالى ?فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ? [البقرة: 54] إذ قتل النفس التوبة وهنا مجيىء الملك إليه هو ¬

(¬1) تحدث الحافظ ابن حجر عن اختلاف الرويات في إتيان الملك فقال: قوله: «حتى جاءه الحق» أي: الأمر الحق، وفي التفسير: حتى فجئه الحق - بكسر الجيم - أي بغته، وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولاً قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام. وسمي حقاً لأنه وحي من الله تعالى. وقد وقع في رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول شأنه يري في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل: «يا محمد» فنظر يمينا وشمالاً فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال: «يا محمد، جبريل جبريل» فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئاً، ثم خرج عنهم فناداه فهرب، ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه «اقرأ باسم ربك» ورأي حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود، وابن لهيعة ضعيف. وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: «لم أره - يعني جبريل - على صورته التي خلق عليها إلا مرتين» ، وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها، والثانية عند المعراج. وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة: «لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهي، ومرة في أجياد» وهذا يقوي رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى. ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حراء وأقرأه «اقرأ باسم ربك» ثم انصرف، فبقي متردداً، فأتاه من أمامه في صورته فرأى أمراً عظيماً. انظر: الفتح (1/72) .

عبارة عن مجيىء الوحي بالتفصيلية أيضاً لأن مجيىء الملك. وقوله «اقرأ» إلى آخر ما سيأتي تفصيل للمجمل الذي هو مجيىء الحق، والمفصل نفس المجمل، ومقصود عائشة أنه وحي المنام، وهو ستة أشهر كما تقدم، لما فرغت نزل عليه جبريل بالوحي في اليقظة، وهو في غار حراء، وكان نزوله عليه يوم الاثنين بعد مضي سبع عشر ليلة خلت من رمضان ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة وستة أشهر فقال: أول ما نزل عليه جبريل نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - «اقرأ» قال: قلت له: «ما أنا بقارئ» . قال العلماء: «ما» هنا نافية واسمها «أنا» و «بقارئ» خبرها، والباء زائدة لتأكيد النفي أي: ما أحسن القراءة. قال ابن الملقن وغيره: وغلط من جعلها استفهاميه لدخول الباء في خبرها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «فأخذني لما قلت له: ما أنا بقارئ فغطني» أي: ضمني وعصرني «حتى بلغ مني الجهد» أي: الطاقة «ثم أوصلني» أي: أطلقني من العصر «فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني الثالثة ثم أرسلني» . والحكمة في عصر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشغله عن الالتفات إلى شيء من أمور الدنيا ولبيالغ في أمره بإحضار قلبه لما يقول له. قيل: والحكمة في ذلك أن جبريل أراد بالعصر أن يوقفه على أن القراءة ليست من قدرته ولو أكره عليها، وكان كلما أمره بالقراءة فلم يفعل شدد عليه بالعصر لينبهه على أن القراءة ليست من قدرته ولا من طاقته ووسعه. والحكمة في عصره ثلاثاً مبالغة في التنبيه على ذلك. وقيل: الحكمة في فعل ذلك ثلاثاً الإشارة إلى أنه يبتلى بثلاث شدائد ثم يأتي الفرج، ولقي ذلك - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه حصل لهم شدة من الجوع في الشعب حين تعاقدت قريش أن لا يبيعوا منهم ولا يصلوا إليهم، وشده أخرى من الخوف والإبعاد بالقتل، وشدة أخرى من الإجلاء عن أحب الأوطان إليهم، ثم كانت العاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين. قال العلماء: في عصر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - دلالة على أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم، وأن يأمره بإحضار مجامع قلبه، وأن يكرر له ما يعلمه ثلاثاً، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا تكلم بكلمته أعادها ثلاثاً لتفهم عنه. وقد ورد في فضل تعليم القرآن وتعلمه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

«يا أبا هريرة تعلم القرآن وعلمه للناس، ولا تزل كذلك حتى يأتيك الموت، فإذا أتاك الموت وأنت كذلك حجت الملائكة إلى قبرك كما يحج المؤمنون إلى بيت الحرام» (¬1) . وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً، فيقرأ صبياً من صبيانهم في الكتاب ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ? [الفاتحة: 2] فيسمع الله عز وجل فيرفع عنهم العذاب أربعين سنة» (¬2) . وكذلك الواعظ ينبغي له أن يحتاط في أمر الحاضرين بإحضارهم قلوبهم ليفهموا ما يلقى إليهم، واستنبط القاضي شريح (¬3) من هذا الحديث أن مؤدب الأطفال لا يزيد على ضرب الصبي على التعلم على ثلاث ضربات، كما عصر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وفي صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عصره جبريل تنبيه على أن المتعلم ينبغي له أن يتواضع لمعلمه وإن كان أصغر منه. قالوا: العلم حرب للمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي. وقال ابن عباس: ذللت طالباً ففزت مطلوباً. وقال الإمام علي كرم الله وجهه: من حق المعلم عليك أن تسلم على الناس عامة، وتخصه من دونهم بالتحية وأن تجلس أمامه ولا تشيرن عنده بيدك، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تغمزن بعينيك، ولا تقولن قال فلان خلافاً لقوله، ولا تساور في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذ كسل، ولا تعرض أي: تشبع من طول صحبته. قال النووي قدس الله سره: ولا نعلم إلا ممن كملت أهليته وظهرت ديانته وتحققت معرفته واشتهر صيانته، فقد قال السلف الصالحون: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فقال: جبريل غط النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ويقول له: اقرأ وهو يقول: ما أنا بقارئ في المرة الرابعة ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? [العلق: 1، 2، 3] فقوله ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ? معناه: لا تقرأ القرآن بقوتك، ولا بمعرفتك، بل بحول ربك وإعانته فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم ومغمز الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى ¬

(¬1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (5/345، رقم 8385) عن أبي هريرة. (¬2) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/256) وعزاه إلى الثعلبي وكثير من المفسرين عن حذيفة، ثم قال: حديث موضوع كما قاله الحافظ العراقي وغيره، وقيل: إنه ضعيف. وذكره البيضاوي في التفسير (1/84) ، وأبو السعود في تفسيره (1/20) . (¬3) هو: شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية، من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، أصله من اليمن، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، واستعفى في أيام الحجاج، فأعفاه سنة 77 هـ‍، وكان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، له باع في الأدب والشعر، وعمر طويلاً، ومات بالكوفة سنة: 78 هـ‍.

صارت تكتب بالقلم يعني أنها كانت أمية. وقوله: ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ? فيه إذن وإعلام بأن الإنسان أشرف المخلوقات. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان فإن الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً مريداً حكيماً وهذه صفات الرب سبحانه وتعالى. وينبني على كون الإنسان أحسن المخلوقات سؤال وهو: ما لو قال شخص لزوجته: إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق هل تطلق زوجته بذلك إن لم تكن أحسن من القمر أم لا؟ قال العلماء: إنها لا تطلق وإن كانت زنجية لقوله تعالى ?لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ? [التين: 4] إذ المراد به إحكام الخلقة وكمال العقل. وقد وقعت هذه الواقعة في أيام الملك المنصور (¬1) لموسى بن عيسى الهاشمي كان يحب زوجته حباً شديداً فقال لها: يوماً أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر، فنهضت واحتجبت عنه وقالت: طلقني فإن القمر أحسن مني وبات في ليلة عظيمة، فلما أصبح ذهب إلى دار المنصور فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور حزناً عظيماً إذ طلب المنصور العلماء واستفتاهم في ذلك، فقال جميع من حضر وقع عليه الطلاق، إلا واحد من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتاً فقال المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال: لا تطلق يا أمير المؤمنين لأن الله تعالى قال: ?لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ? يا أمير المؤمنين الإنسان أحسن الأشياء ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى بن موسى الأمر كما قال الرجل، أقبل على زوجتك، وأرسل المنصور إلى زوجته أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقكي. وهذا الجواب ينقل عن إمامنا الشافعي - رضي الله عنه - هذا إن أريد بالحسن إحكام العقل، وكما أن العقل فإن أريد به الجمال الظاهر أنها إذا كانت قبيحة الشكل تطلق، نبه عليه الأذرعي. فإن قيل: الإنسان مخلوق من علقه واحدة كما في آية أخرى من نطفة ثم من علقة فكيف قال في هذه الآية ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ?؟ فالجواب: أن المراد جنس الإنسان خلق من علق فهو في معنى الجمع. فإن قيل: أي: مناسبة بين الخلق العلق، والتعليم بالعلم؟ فالجواب: إن الله سبحانه وتعالى نبه لقوله ?الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ? [العلق: 4، 5] بعد قوله ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ? على أن أدنى مراتب ¬

(¬1) المنصور العباسي هو: عبد الله بن محمد بن علي بن العباس، أبو جعفر، المنصور: ثاني خلفاء بني العباس، هو أول من عني بالعلوم من ملوك العرب، كان عارفاً بالفقه والأدب، مقدماً في الفلسفة والفلك، محباً للعلماء، ولد في الحميمة من أرض الشراة قرب معان سنة: 95هـ‍، وولي الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح سنة 136هـ‍، وهو باني مدينة «بغداد» أمر بتخطيطها سنة 145هـ‍، وجعلها دار ملكه بدلا من «الهاشمية» التي بناها السفاح، ومن آثاره مدينة «المصيصة» و «الرافقة» بالرقة، وزيادة في المسجد الحرام، وفي أيامه شرع العرب يطلبون علوم اليونانيين والفرس، وعمل أول أسطرلاب في الإسلام، صنعه محمد بن إبراهيم الفزاري، وكان بعيداً عن اللهو والعبث، كثير الجد والتفكير، وله تواقيع غاية في البلاغة، وهو والد الخلفاء العباسيين جميعاً، وكان أفحلهم شجاعة وحزماً إلا أنه قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه، توفي ببئر ميمون من أرض مكة محرماً بالحج، ودفن في الحجون بمكة سنة: 158هـ‍، ومدة خلافته 22 عاماً، يؤخذ عليه قتله لأبي مسلم الخراساني سنة 137هـ‍، ومعذرته أنه لما ولي الخلافة دعاه إليه، فامتنع في خراسان، فألح في طلبه، فجاءه، فخاف شره، فقتله في المدائن، وكان المنصور أسمر نحيفاً طويل القامة خفيف العارضين معرق الوجه، رحب اللحية يخضب بالسواد، عريض الجبهة، كأن عينيه لسانان ناطقان، تخالطه أبهة الملوك بزي النساك " أمه بربرية تدعى سلامة. وكان نقش خاتمه «الله ثقة عبد الله وبه يؤمن» .

الإنسان كونه علقة، وأعلاها كونه عالماً، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أحسن المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهي العلم. فإن قيل: لأي شيء خص الإنسان بالذكر بقوله ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ? مع أن جميع الحيوانات مخلوقات من علق؟ فالجواب: أنه إنما خصه بالذكر ليبين قدر نعمته عليه فأعلمه أن خلقه من نطفه مهينة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً مميزاً. وقوله تعالى: ?عَلَّمَ بِالْقَلَمِ? قال العلماء: القلم نعمة من الله على عبادة، وهو من أشرف المخلوقات لله، ولذا أقسم به في كتابه العزيز فقال: ?ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ? [القلم: 1] . والقلم أول ما خلقه الله تعالى في الحديث عن أبي هريرة قال سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قوله تعالى ?ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ? ثم قال له: اكتب قال: وما اكتب؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة» (¬1) . وفي الحديث «من عمل أو أجل أو رزق أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى ¬

(¬1) أخرجه الديلمي في الفردوس (1/12، رقم 3) ، والسمعاني في أدب الاملاء والاستملاء (1/158) عن أبي هريرة. وهو حديث باطل فقد أخرجه ابن عدي في الكامل (6/269، ترجمة 1753 محمد بن وهب بن عطية الدمشقي) قال ابن عدي بعد أن أخرج الحديث: وهذا بهذا الإسناد باطل منكر، وقال في نهاية الترجمة: ولمحمد بن وهب بن عطية غير حديث منكر ولم أر للمتقدمين فيه كلاما وقد رأيتهم قد تكلموا فيمن هو خير منه. وترجم له الذهبي في الميزان (6/362، ترجمة 8304) وقال: قال ابن عدي: له غير حديث منكر، وقال أبو القاسم بن عساكر: ذاهب الحديث. وانظر: لسان الميزان (5/419، ترجمة 1379) . وقد فرق الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب (9/446) ، بينه وبين رجل آخر في الثقات فقال: «محمد بن وهب بن مسلم القرشي ... أورد له بن عدي حديثه عن الوليد عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعة ... فذكر الحافظ الحديث ثم قال: قال بن عدي: هذا باطل، لكن ظن ابن عدي أنه الأول فقال هو: محمد بن وهب بن عطية وليس كما ظن وقد فرق بينهما أبو القاسم بن عساكر فأصاب. قلت فالضعيف منهما: محمد بن وهب بن مسلم القرشي. والحديث ذكره العجلوني في كشف الخفا (1/309) وعزاه إلى الحكيم الترمذي.

يوم القيامة» (¬1) ففي هذا الحديث دلالة على أن القلم هو المأمور بالكتابة. قال ابن عباس: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض. قال القرطبي: ويقال خلق الله القلم ثم نظر إليه فانشق نصفين فقال: اجر، فقال: يا رب بم أجرى؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ، ووضع الله هذا القلم فوق عرشه. وهل خلق قلماً واحداً لكتابه المقادير أو أقلاماً سيأتي بيان ذلك في حديث المعراج. وفي قوله ?عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ? بعد قوله ?عَلَّمَ بِالْقَلَمِ? تنبيه على أنه كما يحصل التعلم بالقلم يحصل بتعليم الله تعالى بلا واسطة لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يكتب حتى تعلم بالقلم. ومعنى قوله ?اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? [العلق: 3] الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم، وينعم على عباده النعم التي تحصى، ويحلم عليهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمته وارتكابهم المناهي، وتركهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم، فما لكرمه غاية ولا مد. وفي الحديث دليل على أن أول ما نزل من القرآن ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? إلى قوله ?مَا لَمْ يَعْلَمْ? [العلق:1-5] . وللعلماء في هذه المسألة أقوال أصحها أن أول ما نزل أوائل السورة ?اقْرَأْ? إلى قوله ?مَا لَمْ يَعْلَمْ?. وقيل: أول ما أنزل سورة الفاتحة، وقيل: بسم الله الرحمن الرحيم. واختلف العلماء في آخر آية نزلت فقيل آية الربا وهي قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا? [البقرة: 278] ، وقيل: آية الدين، وقيل: ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ... ? إلى آخر السورة [التوبة: 128، 129] ، ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (13/39) ، والحكيم في نوادر الأصول (2/354) عن علي ابن أبي طالب. قلت: وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة السابق ورد هذا الخبر على أنه تمام له، كما في رواية السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (1/158) .

والأرجح كما قاله ابن حجر وغيره: إن آخر ما أنزل قوله تعالى ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ? [البقرة: 281] لما فيها من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول. وقسم العلماء القرآن باعتبار نزوله إلى مكي ومدني وسفري وحضري وليلي ونهاري، وبين الليل والنهار، وسماوي وأرضي، وإلى ما نزل بين السماء والأرض، وما نزل تحت الأرض، وإلى صيفي وشتائي، وإلى فراشي ونومي. فأما المكي والمدني فالناس فيه اصطلاحات أشهرها المكي: ما نزل قبل الهجرة، والمدني: ما نزل بعدها سواء نزل بمكة وبالمدينة أم الفتح أو عام الوداع أم بسفر من الأسفار. ومن فوائد معرفة القلب الفرق بينهما العلم فيكون ناسخاً أو مخصصاً، قال ابن الحصار: فالمدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتى عشرة سورة، والباقي مكي باتفاق. وأما الحضري فأمثلته كثيرة. وأما السفري فقليل بالنسبة إلى الحضري، ومن أمثلته قوله تعالى ?وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ? [محمد: 13] ، وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما توجه مهاجراً إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى فنزلت. ومن أمثلته أيضاً ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ... ? الآية [الحجرات: 13] نزلت بمكة يوم الفتح لما رقى بلال على ظهر الكعبة وأذن، فقال بعض الناس: هذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة. وأما النهار فهو كثير نزل القرآن نهاراً. وأما الليلي فهو قليل بالنسبة إلى النهار ومن أمثلته أيضاً ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67] وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس في أول الأمر ليلاً حتى نزلت، وخرج رأسه من القبة فقال: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله، ومن أمثلته أيضاً سورة الأنعام ومريم فإنها نزلت ليلاً. وأما الذي بين الليل والنهار أي: في وقت الصبح فمن أمثلته آية التيمم في المائدة، وقوله تعالى ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ? [آل عمران: 128] . وأما الأرضي فكثير. وأما السماوي فمن أمثلته قوله تعالى ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ

وَالْمُؤْمِنُونَ ... ? [البقرة: 285] إلى آخرها نزلت هذه الآية ليلة الإسراء بقاب قوسين لما انتهى إلى سدرة المنتهي. وأما ما نزل بين السماء والأرض فأربع آيات فقط في الصافات ?ومنا وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ... ? الآيات الثلاث [الصافات: 164 - 166] ، وواحدة في الزخرف ?وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا ... ? الآية [الزخرف: 45] . وأما ما نزل تحت الأرض هو في الغار فسورة المرسلات كما في الصحيح عن ابن مسعود. وأما الصيفي والشتائي فمن أمثلتها آية الكلالة قال الواحدي: أنزل الله في الكلالة آيتين أحدهما في الشتاء، وهي أول النساء، والأخرى في الصيف، وهي التي في آخرها. وأما الفراشي فمن أمثلته ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67] ، وآية الثلاثة الذين خلفوا في الأرض (¬1) . وأما النومي فمن أمثلته سورة الكوثر فقد روى مسلم عن أنس قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا إذا غفي إغفأة، ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل على آنفاً سورة فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ ... ? إلى آخرها. ومن القرآن ما أنزل مرتين تعظيماً لشأنه وخوفاً من نسيانه فمن ذلك آية الروح، ومنه قوله تعالى ?وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ? [هود: 114] ، وذكر قوم منهم الفاتحة وسورة سبحان. وقيل: منه قوله تعالى ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ? [الإخلاص: 1] فإنها نزلت جواباً للمشركين بمكة ونزلت بأهل الكتاب بالمدينة. ومن القرآن ما نزل آيات مفرقة وهو غالب القرآن ومنه ما نزل جمعاً أي: السورة بكمالها من غير تفريق آياتها كسورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين نزلتا معاً والمرسلات والأنعام من القرآن ما نزل مفرداً على يد جبريل فقط. ومنه ما نزل مشيعاً أي: معه ملائكة كثيرون كسورة الأنعام نزلت ومعها سبعون ¬

(¬1) وهي قوله تعالى في سورة التوبة الآية (118) : ?وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?.

ألف ملك كما ورد عن أنس مرفوعاً بسند ضعيف أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب قال: «نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح والتقديس والأرض ترتج» (¬1) . وكذلك سورة الكهف سبعون ألف ملك. ومن القرآن ما نزل على بعض الأنبياء كـ ?سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ? [الأعلى: 1] . فائدة: قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا? [النساء: 58] نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في جوف الكعبة ولم ينزل في جوف الكعبة آية سواها، كما نبه على ذلك الدميري في أول كتاب الوديعة من شرح المنهاج. ثم قالت عائشة: «فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» بالآيات التي علمه جبريل وهي ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ? إلى قوله ?مَا لَمْ يَعْلَمْ? [العلق: 1 - 5] قاصداً بيت خديجة يرجف فؤاده أي: يخفق ويضرب فالرجف من شدة الحركة، والفؤاد هو القلب، وقيل: إنه عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب. فإن قيل: أين علمت خديجة برجفان فؤاده؟ فالجواب: إما إنها رأته حقيقة، وإما إنها لم تره وعلمته بقرائن وصورة الحال، وإما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرها بذلك. «فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني» أي: دثروني، وجاء في رواية أخرى: «دثروني وصبوا على ماءاً بارداً» (¬2) وقال ذلك - صلى الله عليه وسلم - لشدة ما لحقه من هول الأمر وشدة الضغط، ولولا ما جبل - صلى الله عليه وسلم - من الشجاعة والقوة ما استطاع على تلقي ذلك لأن الأمر جليل. «فزملوه حتى ذهب عنه الروع» أي: الفزع. «فقال لخديجة وأخبرها الخبر» أي: خبر ما وقع له من مجيىء الملك وغطه وقوله له ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/470، رقم 2433) . ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (7/20) قال الهثيمي: رواه الطبراني عن شيخه محمد بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي ولم أعرفها وبقية رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً: معجم شيوخ (2/552) . (¬2) هذه الرواية عند البخاري أيضاً في الصحيح (4/1874، رقم 4638) من حديث جابر. وأيضاً: عند أحمد في مسنده (3/392، رقم 15251) ، وابن حبان في صحيحه (1/220، رقم 34) .

اقرأ أو غير ذلك. «لقد خشيت على نفسي» أي: خفت عليها، وهو جواب قسم محذوف أي: والله لقد خشيت، وهو مقول قال، أي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أخبرها بخبر ما وقع مع جبريل، لقد خشيت على نفسي. قال شيخ الإسلام شهاب الدين ابن حجر: اختلف العلماء في مراده - صلى الله عليه وسلم - بالخشية المذكورة على اثنى عشر قولاً: فقيل: خشي أن يحصل له عند رؤية جبريل وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة. وقيل: خشي من العجز على أعباء النبوة. وقيل: خشي أن يعجز عن النظر إلى الملك من الرعب. وقيل: خشي من عدم الصبر على أذي قومه. وقيل: خشي من أن يقتلوه. وقيل: خشي من مفارقة الوطن وقيل خشي من تكذيبهم إياه. وقيل: خشي من تعييرهم إياه. والراجح: كما قاله ابن حجر من الأقوال أنه خشي من الموت من شدة الرعب أو من المرض أو دوام المرض (¬1) . فائدة: يستفاد من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر خديجة إلا بعد أن ذهب عنه الفزع أن العالم في حال خوفه ينبغي أن يسأل عن شيء حتى يزول عنه فزعه، وكذلك القاضي ينبغي أن لا يقض في حال فزعه، ولا يرفع إليه أمر في تلك الحال حتى أن الإمام مالك - رضي الله عنه - قال: إن الخائف المذعور لا يصح بيعه ولا إقراره، ولا غيره. قال: «لقد خشيت على نفسي قالت له: خديجة كلا والله ما يحزنك الله أبداً» معنى «كلا» هنا النفي والإبعاد أي: لا والله ما يخزيك الله أبداً أي: ما يفضحك ويهينك، ورواه مسلم «يحزنك» من الحزن خلاف السرور، ويجوز على هذا فتح الياء وضمها فيقال «يَحزيك ويُحزيك» ، فإنه جاء: «أحزنه وحزنه» لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع قال تعالى ?لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ? [الأنبياء: 103] من حزن ?قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ? [يوسف: 13] من أحزن على قراءة من قرأ بضم الياء. فائدة: الفرق بين الهم الحزن أن الحزن يكون على أمر قد وقع، كأن مات له ميت ¬

(¬1) انظر الفتح (1/74) .

فيحزن عليه، واما الهم فإنه يكون على أمر مستقل متوقع الوقوع ولم يقع. ثم قالت له خديجة: «إنك لتصل الرحم» أي: لتحسن إلى أقاربك، فيه دلالة على استجاب صلة الرحم، وهو الإحسان إلى الأقارب، فتارة تكون صلة الرحم بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيادة، وتارة بالسلام، وتارة بغير ذلك. «وتحمل الكل» أي: الثقل، والمعنى: أنك تعين الضعيف، وترفع ما عليه من الثقل. «وتكسب المعدوم» الرواية الفصيحة (¬1) الكثيرة المشهوه «تكسب» بفتح الياء واختلف في معناه على خمسة أقوال: فقيل: معناها وتعين المحتاج، فإن الرجل المحتاج العاجز عن الكسب كالمعدوم البت، أي: تعين هذا الذي كالمعدوم لعجزه فتعينه، وقيل في معناها غير ذلك. وروي «تكسب» بضم أوله بمعنى تكسب غيرك المال المعدوم، أي: تعطيه إياه فحذف أول مفعوله، وقيل: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من مكارم الأخلاق العلوم وغير ذلك. ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/75) : في رواية الكشميهني وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابي: الصواب المعدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب. قلت: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، والكسب هو الاستفادة، فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجوداً رغبت أنت أن تستفيد رجلاً عاجزاً فتعاونه. وقال قاسم بن ثابت في الدلائل: قوله يكسب معناه: ما يعدمه غيره ويعجز عته يصيبه هو ويكسبه. قال أعرابي يمدح إنساناً: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم وأنشد في وصف ذئب «كسوب كذا المعدوم من كسب واحد» أي: مما يكسبه وحده، (انتهى) . ولغير الكشميهني «وتكسب» بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح. قلت: قد وجهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت الرجل مالاً وأكسبته بمعنى. وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه مالا يصيب غيرك. وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة محظوظاً في التجارة. وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به، من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات.

«وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» (¬1) أي: على حوادث الحق، ومعنى كلام خديجة: أنك لا يصيبك مكروه لما جعله الله فيك من مكارم الأخلاق وجميل الصفات، فخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء، والمكارم سبب لدفع المكارة، وفي هذا دليل على جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة نظراً. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «احثوا في وجوه المداحين التراب» (¬2) فهو محمول على المدح بباطل أو يؤديه باطل. وفيه دليل على أنه ينبغي لمن حضر عند من حصل له مخافة من شيء أن يذكر له أسباب السلامة، وأن يذكر ما فيه من الفضائل كما فعلت خديجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه أبلغ دليل على كمال خديجة وجزالة رأيها وقوة نفسها وعظمتها، جمعت رضي الله عنها جميع أنواع المكارم وأمهاتها. ويدل على كمال عقلها وقوة معرفتها ما ذكره ابن إسحاق أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به فجاءه جبريل - عليه السلام - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخديجة رضى الله عنها: هذا جبريل - عليه السلام - قد جاءني، قالت: قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى قال: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس عليها فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/76) : وقولها: «وتعين على نوائب الحق» هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم. وفي رواية البخاري في التفسير من طريق يونس عن الزهري من الزيادة: «وتصدق الحديث» وهي من أشرف الخصال. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة «وتؤدي الأمانة» . وفي هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر، بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزلت به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/124، رقم 339) ، ومسلم في صحيحه (4/2297، رقم 3002) ، والترمذي في سننه (4/599، رقم 2393) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه (2/1232، رقم 3742) ، وأحمد في مسنده (6/5، رقم 23875) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/227، رقم 295) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/239، رقم 565) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/297، رقم 26259) ، وفي مسند الشاميين (1/274، رقم 479) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/413، رقم 711) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/242، رقم 20926) جميعاُ عن المقداد بن عمرو.

واقعد على فخذي الأيمن فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قال: فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: لا، قالت: يا ابن عم أثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان» (¬1) . وجاء في رواية أخرى: أنه لما كمل من العمر أربعون سنة قال لخديجة دعيني أتحنث، فكانت تصنع له الكعك والزبيب ثم يخرج إلى أجياد الأصغر، وقيل إلى غار حراء، فخرج يوماً فهتف به جبريل - عليه السلام - ولم يبد له، فغشي عليه، فجاء المشركون إليها وقالوا: دونك يا خديجة قد تزوجت مجنوناً فضمته إلى صدرها ووضعت رأسه في حجرها، وقبلته بين عينيه وقالت: تزوجت نبياً مرسلاً، فلما أفاق قالت: بأبي أنت وأمي ما الذي أصابك هل رأيت شيئاً أنكرته؟ فقال: ما أصابتي إلا أني سمعت صوتاً أفزعني، ففرحت خديجة واستبشرت ثم قالت: من الغد فعد إلى الموضع الذي كنت فيه بالأمس فإن يك ملكاً فسيرجع لك، وإن يك شيطان فليس براجع، فلما كان اليوم الآخر خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموضع، فهتف جبريل ولم يبد له، فغشي عليه فحملوه إليها قال: وفرحت قريش بذلك وقالوا: يتخطبه الشيطان، فحملوه إليها وقالوا مثل القول الأول، فردت عليهم مثل القول الأول، فلما أفاق سألته وقالت: بأبي وأمي رأيت اليوم شيئاً فقص عليها القصة ففرحت وقالت: إذا كان من الغد فارجع فرجع من الغد إلى موضعه فبدا له جبريل في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك أنت رسولي إلى الثقلين الإنس والجن، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله، ثم قال: ألا تعرفني؟ قال: لا، قال: أنا جبريل وأنت محمد، ولا نبي بعدك، وعرج جبريل إلى السماء، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجياد الأصغر وما مر بحجر أو شجر إلا وهو ينادي: السلام عليك يا رسول الله، حتى ذهب إلى خديجة وأخبرها بالكرامة التي أكرمه الله بها من الرسالة، فغشي عليها من الفرح، فنضح عليها الماء حتى أفاقت فآمنت بالله ورسوله وانشدوا في المعنى: رموا بالجنون نبي الورى ... وتاج الكرام ومزن الأوام وقالوا خديجة هذا الذي ... ملأت به قلبك المستهام ¬

(¬1) أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (1/35) ، والطبري فى التاريخ (1/533) كلاهما من طريق ابن إسحاق. وانظر: السيرة لابن هشام (2/75) .

أصابته من بيننا غشية ... فها هو ما إن يبين الكلام فقالت لهم أنتم بالذي ... تقولون أحرى برب الأنام فخلوا حبيبي وسيروا فما ... يؤثر فيه عندي الملام فضمته شوقاً إلى صدرها ... وقالت محمد ماذا الهيام فقال لها جاءني آنفاً ... من الله جبريل يقرئ السلام علي ويخبرني أنني ... رسول الإله لهذا الأنام ألا فأسلمي تسلمي من لظى ... فإنك أولى بهذا المقام فقالت له إنني قد شهدت ... بأن الإله قديم الدوام وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه أو تكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة إذا رجع إليها، فثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس. جاء في رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خرجت أي: من الغار حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل فرفعت رأسي فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، فلا أنظر في ناحية إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما تقدم أمامي ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ثم انصرف عني وانصرفت إلى أهلي، فقالت خديجة: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك، فحدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة (¬1) . وقولها «فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة (¬2) » . ¬

(¬1) هذه رواية ابن إسحاق فى السيرة (2/100، رقم 140) . وأخرجه الطبري فى التاريخ (1/532) ، وابن عساكر فى التاريخ (63/12) ، والفاكهي فى أخبار مكة (4/86، رقم 2420) جميعاً من طريق ابن إسحاق. وأورده ابن كثير فى البداية والنهاية (3/11) بقوله: «وقال ابن اسحاق: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي وكان داعية عن بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد الله كرامته … فذكره» . وانظر السيرة النبوية (2/69) ، والسيرة الحلبية (1/385) ، والإكتفاء للكلاعى (1/202) . (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/76) : قوله: «فانطلقت به» أي مضت معه، فالباء للمصاحبة. وورقة بفتح الراء. وقوله: «ابن عم خديجة» هو بنصب ابن ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين. قوله: «تنصر» أي: صار نصرانياً، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل، لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل.

إنما كان ورقة ابن عم خديجة لأنها: خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو: ورقة بن نوفل بن أسد، وورقة كان من علماء قريش وشعرائهم، وكان يدعى القس، وكان يعرف اللسان العربي والعبراني أي: صار نصرانياً وترك عبادة الأوثان، وفارق طريق الجاهلية. والجاهلية: المدة التي قبل نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كانوا عليه من فاحش الجهالات، وقيل: هو زمن من الفترة مطلقاً. «وكان أي: ورقة يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب» هكذا وقع هنا ووقع في كتاب «التصبير» وفي مسلم (¬1) : «وكان يكتب الكتاب العربي بالعربية» (¬2) . قال النووي: وحاصلة أنه تمكن من معرفة دين النصارى وكتابتهم، وتصرف حتى ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (1/139، رقم 160) . وحديث بدء الوحي وما كان من خديجة وورقة ابن عمها عند أبو عوانة في مسنده (1/102، رقم 328) ، وابن منده فى الإيمان (2/689، رقم 681) ، والبيهقي فى السنن الكبرى (9/5، رقم 17499) ، والدولابي في الذرية الطاهرة (ص 33، رقم 22) . وانظر: السيرة لابن هشام (2/217) . (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/76) : قوله: «فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية» . وفي رواية يونس ومعمر: ويكتب من الإنجيل بالعربية، ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربي، والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي، لتمكنه من الكتابين واللسانين. ووقع لبعض الشراح هذا خبط فلا يعرج عليه وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسراً، كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها: «أناجيلها صدورها» .

صار يكتب الإنجيل إن شاء بالعربية، وإن شاء بالعبرانية. قال ابن الملقن: فيه دليل على جواز ذكر العاهة بالشخص ولا يكون ذلك غيبة. «فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك» وفي رواية «يا عم» (¬1) . قال الكرماني: وكلاهما صحيح فإن ورقه كان ابن عم خديجة حقيقة كما في رواية البخاري، وسمته عمها كما في رواية مسلم مجازاً للاحترام، وهذا عادة العرب يخاطب الصغير الكبير بقوله له يا عم احتراماً له ورفعاً لمرتبته. وقول خديجة لورقة «اسمع من ابن أخيك» يقضي أن ورقة كان عماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ليس من أعمامه لكن أولو ذلك بأنها جعلته عماً له - صلى الله عليه وسلم - احتراماً له واستعطافاً على سبيل المجاز، وقيل غير ذلك. «فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس» اتفق على أن جبريل يسمي الناموس، وعلى أنه المراد في هذا الحديث، ومعنى الناموس في اللغة: صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر، سمي جبريل بذلك لأنه تعالى خصه بالغيب والوحي الذي يطلع عليه غيره، وإنما قال ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله موسى، ولم يقل على عيسى مع أنه الأقرب وورقة قد تنصر وكتب الإنجيل، لأن موسى متفق عليه على رسالته بين اليهود والنصارى بخلاف عيسى فإن بعض اليهود ينكرون نبوته، أو لأن النصارى يتبعون أحكام التوارة ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/77) : قولها: «يا ابن عم» هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم «يا عم» وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحاً لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة، وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربي لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه. وقالت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اسمع من ابن أخيك» لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته. أو قالته على سبيل التوقير لسنه، وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة: «اسمع من ابن أخيك» أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أبلغ في التعليم. قوله: «ماذا ترى؟» فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به في دلائل النبوة لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد في هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى.

ويرجعون إليها (¬1) . ثم قال ورقة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «ياليتني فيها» أي: في أيام نبوتك أو دعوتك أو دولتك «جذعاً» يعني شاباً فتياً قوياً حتى أبالغ في نصرتك، ويكون لي كفاية تامة لذلك. وها هنا سؤالان: أحدهما: فإن قيل: كيف أدخل حرف النداء في «يا ليتني» على حرف التمني، وحرف النداء من خواص الاسم، ويأتي السؤال في قوله تعالى ?يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا? [مريم: 23] . وأجيب عنه بجوابين أحدهما: أنه محمول على حذف المنادى تقديره: يا محمد ليتني كنت فيها حياً وضعفه ابن مالك بأن القائل قد يكون وحده لا يكون معه منادي ثابت، ولا محذوف كما في الآية. ثانيهما: أن «يا» حرف تنبيه كـ «ألا» في قول من قال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة. ¬

(¬1) فصل القول ابن حجر في هذه المسألة فقال: وقوله: «على موسى» ولم يقل: على عيسى مع كونه نصرانياً، لأن كتاب موسى - عليه السلام - مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى. وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى. كذلك وقعت النقمة على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرعون هذه الأمة وهو: أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر، أو قاله تحقيقاً للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيراً من اليهود ينكرون نبوته. وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال، لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل. على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى. والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف، نعم في دلائل النبوة لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أولاً أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: «لئن كنت صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم» فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - له قال له: ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم. انظر: الفتح (1/78) .

السؤال الثاني: فإن قيل: كيف وقع «جذعاً» هنا منصوباً وليت عملها تنصب الاسم وترفع الخبر، وجذعاً خبرها؟ أجيب عنه بأجوبة: الأول: أنه منصوب بليت بناء على نصبها الجزئين كما في قول الشاعر: «يا ليت أيام الصبا» وهو قول الكسائي. والثاني: أنه منصوب على الحال وخبر «ليت» فيها، وهذا القول للقاضي عياض والسهيلي، وقال النووي: أنه الصحيح الذي اختاره المحققون، وقيل: محذوف تقديره: يا ليتني فيها أو موجوداً في حال فتوة. الثالث: أنه منصوب على أنه خبر كان مقدر أي: ليتني كنت فيها جزعاً، يؤيده قوله بعده: «ليتني أكون حياً» قاله الخطابي (¬1) ، ورد بأن كان الناقصة إنما يطرد حذفها بعد إن ولو. الرابع: ليت أتمنى فنصب الجزئين قاله الفراء، ورد بأنه راجع للأول. ثم قال ورقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - «ليتني كنت حياً إذ يخرجك قومك» استعملت «إذ» هنا موضع «إذا» للاستقبال، من باب تنزيل المستقبل المقطوع بوقوعه منزلة الماضي الواقع (¬2) . ¬

(¬1) هو: حمد بن محمد بن إبراهيم ابن الخطاب البستي، أبو سليمان، فقيه محدث، من أهل بست، من بلاد كابل، من نسل زيد بن الخطاب، أخي عمر بن الخطاب له: معالم السنن شرخ فيه سنن أبي داود وبيان إعجاز القرآن، وإصلاح غلط المحدثين، وغريب الحديث، وشرح البخاري في كتاب أسماه: تفسير أحاديث الجامع الصحيح للبخاري، وله شعر أورد منه الثعالبي في اليتيمة نتفاً جيده، وكان صديقاً له، توفي في بست في رباط على شاطئ هيرمند سنة: 388هـ‍. (¬2) في هذا المقام لمحة لغوية لطيفة أوردها ابن حجر في الفتح (1/79) فقال: قوله: «إذ يخرجك» قال ابن مالك: فيه استعمال «إذ» في المستقبل كإذا، وهو صحيح، وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالى: ?وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ? [مريم: 39] هكذا ذكره ابن مالك وأقره عليه غير واحد. وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام: بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير «حين يخرجك قومك» وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم موسى، لما ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي، تحقيقاً لوقوعه أو استحضاراً للصورة الآتية في هذه دون تلك مع وجوده في أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولاً على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال. وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شاباً، هو مستحيل عادة. ويظهر لي أن التمني ليس مقصوداً على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.

فلما قال ذلك قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أو مخرجي هم؟» هذا استفهام إنكاري على وجه التفجع والتألم، كأنه استبعد - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوه من حرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل من غير سبب، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجاً، بل كانت منه المحاسن الظاهرات والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات، أنفسنا له الفداء - صلى الله عليه وسلم -. فلما قال: «أو مخرجي هم (¬1) ؟ قال له ورقة: نعم لم يأت رجل قط مثل ما جئت به إلا عودي (¬2) » يعني: أن أهل الحق لا يخلون من أهل الباطل يعادونهم ولله در القائل: إن العرانين تلقاها محسدة ……ولا ترى للئام الناس حساداً «وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً» أي: إن بقيت إلى يوم انتشار نبوتك أو يوم يخرجك قومك أنصرك نصراً قوياً بليغاً. «ثم لم ينشب ورقة» أي: لم يلبث (¬3) . ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/79) : قوله: «أو مخرجي هم» بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجي خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها. وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/79) : قوله: «إلا عودي» وفي رواية يونس «إلا أوذي» فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/80) : قوله: «ثم لم ينشب» بفتح الشين المعجمة أي: لم يلبث. وأصل النشوب التعلق، أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات. وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام. فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: وفتر الوحي، ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكراً بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع. وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان - صلى الله عليه وسلم - وجده من الورع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى البخاري في كتاب التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك.

«أن توفى وفتر الوحي» أي: احتبس بعد تتابعه في النزول، وسنذكره في المجلس الآتي ببيان مدة الفترة. فائدة: قال الكرماني: فإن قلت: ما قولك في ورقة أيحكم بإيمانه؟ قلت: لا شك أنه كان مؤمناً بعيسى، وأما الإيمان بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فلم يعلم أن دين عيسى قد نسخ عند وفاته أم لا، ولئن ثبت أنه كان منسوخاً في ذلك الوقت فالأصح أن الإيمان التصديق، وقد صدقه من غير أن يذكر ما ينافيه والله اعلم. وقال البرماوي: علم من هذا أي: من قوله: «يا ليتني فيها جذعاً» إلى قوله: «وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً» أن ورقة آمن، لتصديقه رساله بنبينا - صلى الله عليه وسلم - بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال كما قاله البلقيني، خلافاً لما قاله العراقي في سيرته من أنه ثاني من أسلم حيث قال: فهو الذي آمن بعد ثانياً ... وكان براً صادقاً مواتياً ومنع بعضهم من إيمانه وقال: إنه أدرك نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا رسالته، وهذا مردود في كتب السير من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حضر عنده قال له: أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل موسى، وأنك نبي مرسل وأنك ستؤمر بالجهاد وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك. فإن هذا يدل على إيمانه بعد رسالته، ويدل عليه أيضاً ما في المستدرك الحاكم «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين» (¬1) . وفي حديث آخر «رأيته وعليه حلة خضراء يدخل في الجنة» (¬2) . وكان يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه، ومن قوله كما قاله الجوزي رحمه لله تعالى: ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/666، رقم 4211) عن عائشة، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه أيضاً: الديلمي في الفردوس (5/13، رقم 7297) . وأخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (9/416) قال الهيثمي: رواه البزار متصلا ومرسلا وزاد في المرسل: «كان بين أخي ورقة وبين رجل كلام فوقع الرجل في ورقة ليغضبه ... » والباقي بنحوه ورجال المسند والمرسل رجال الصحيح. وأورده الحافظ في فتح الباري (8/720) وسكت عنه. (¬2) لم نقف على هذه الرواية.

سبحان ذي العرش سبحاناً نعوذ به ... وقبل سبحه الجودي والجمد مسخر كل ما تحت السماء له ... لا ينبغي أن ينادي ملكه أحد لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقي الإله يودي المال والولد أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد (¬1) وأنشد أيضاً حين أتته خديجة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: فإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل قال ابن الملقن وغيره: اشتمل هذا الحديث على درر وفوائد: منها: أن الدراية منه - صلى الله عليه وسلم - لا بسبب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - جبل على الخير ابتداء من غير أن يكون معه من يحضره عليه، فحبب إليه الخلوة لأنها عبادة. ومنها: أن التبتل الكلي والانقطاع الدائم ليس من السنة، فإنه عليه الصلاة والسلام لم ينقطع بالكلية بل في شهر رمضان، ثم يرجع إلى أهله. ومنها: أن العبادة لا تكون على إعطاء الحقوق الواجبة وتوقيتها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرجع إلى أهله لإعطاء حقهم، فكذا غيره من الحقوق. ومنها: أن الرجل إذا كان صالحاً لنفسه تابعاً للسنة، يرجو أن الله يؤنسه الله بالمرائي الحميدة، إذا كان في زمان مخالفة وبدع. ومنها: أن البداية ليست كالنهاية لأنه - صلى الله عليه وسلم - أول ما بدئ في نبوته بالرؤيا ثم ترقى حتى جاءه الملك يقظة، ثم ما زال في الترقي حتى كان قاب قوسين أو أدني كذلك الاتباع يترقون في مقام الولايات ما عدا مقام النبوة حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا فمن نال مقاماً فدام عليه بأدبه ترقى إلى ماهو أعلى منه، ويشهد لذلك ما حكي عن بعضهم أنه ما زال في الترقي حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فنودي: هنا سُري بذات محمد السنية حيث سَرى سيرك، ولا يصل ولي أن يعرج بروحه وجسده في حال اليقظة إلى السماء، ومن ادعي ذلك فهو زنديق كافر يقتل. ومنها: أن فيه دليلاً على أن المربي أفضل من غيره. ومنها: أنه يدل على أن الأولى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، ويدل على أن ¬

(¬1) أورد هذه الأبيات لورقة الكلاعي في الإكتفاء (1/194) ، والسهيلي في الروض الأنف (1/330) ، والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/298) .

الخلوة عون الإنسان على تعبده وصلاحه. ومنها: أن فيه دلالة على مشروعيه الزاد لدخول الخلوة إذ يحصل بسببه إظهار وصف العبودية، ويحصل بتركه العجب والادعاء، ولهذا كان بعض أهل الطريق إذا دخل لخلوته أخذ رغيفاً وألقاها تحت وسادته وواصل أياماً. حكى الكمال الدميري في «المهر» من حياة الحيوان عن أبي عبد الله محمد بن حسان البسري أنه كان إذا جاء رمضان دخل بيتاً وقال لامرأته: غلقي على الباب وألقي على كل ليلة من الكوة رغيفاً، فإذا كان يوم العيد فتحت الباب، ودخلت فوجدت الثلاتين رغيفاً في زاوية البيت، فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام - رضي الله عنه -. وحكي من كراماته أنه كان في غزوة في فلاة من الأرض، فمات مهرة الذي كان يركبه فقال: اللهم أعرنا إياه فقام المهر فلما وصل بيته أخذ السرج عنه فسقط ميتاً، وهو منسوب إلى بصرى قرية الشام فأبدلت الصاد سينا. وفي اتخاذ الزاد في الخلوة فائدة أخرى وهي قطع تشوف النفس وقلقها اتخاذه لينافي التوكل فقد اتخذه سيد المتوكلين - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أن فيه دليلاً على أن الإنسان إذا خرج لتعبده أن يعلم أهله لأنه معرض للآفات. ومنها: أن فيه دلالة وإشارة إلى التسلي والصبر عند الحوادث، والوعد بالنصر كما في خلقه من علقه ثم طوره وإخرجه إلى الوجود. ومنها: أن فيه دلالة على جواز تأديب المعلم للمتعلم، وأن كتاب الله لا يؤخذ بقوة لأن جبريل ضمه -عليه الصلاة والسلام- إليه لتلقي ما يلقى عليه من القرآن بقوة، قال الله تعالى ليحيى ?يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ? [مريم: 12] . ومنها: أن فيه دلالة لما يقول الصوفية من أن التحلي لا يكون إلا بعد التخلي فيتخلى أولاً عن القبائح والرذائل، ثم يتحلى بالخصال الحميدة. وفيه دلالة على أن التحلي قسمان: مكتسب، وفيض من الرب جل جلاله، وقد جمعا له -عليه الصلاة والسلام- بالتحنث والغط، وقد يجتمعان لأفراد من أمته وقد ينفرد بعض بالكسب وبعض بالفيض، كالفضيل بن عياض وابن أدهم وكثيراً ما هم. ومنها: أنه يدل على أن الفكر أفضل الأعمال ولهذا ورد «تفكر ساعة خير من

عبادة سنة» (¬1) ، وفي رواية «من عبادة الدهر» لأن المرء إذا تفكر قوي إيمانه. ومنها: أن فيه دلالة على أن الإنسان إذا أصابه هم ينبغي له أن يحدث بذلك أهله، ومن يعتقد من أصحابه إذا كانوا أصحاب دين ونظر، وأن الإنسان إذا وقع له واقع يسأل أهل العلم والنُهى، كما عرضت خديجة ما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ورقة. ومنها: أن فيه دلاله على أنه ينبغي للإنسان أن يتمنى الخير لنفسه كما تمنى ورقة أن يكون جزعاً في أيام رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث فوائد كثيرة غير ذلك (¬2) . ¬

(¬1) أورده بهذا اللفظ علي القاري في المصنوع (1/82، رقم 94) وقال ليس بحديث إنما هو من كلام السري السقطي رحمه الله تعالى، وكذا قال العجلوني في كشف الخفاء (1/370) فقال: في لفظ «ستين سنة» عن ابن عباس، وذكره الفاكهاني بلفظ: «فكر ساعة» وقال: إنه من كلام سري السقطي. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/80) : «فائدة» : وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي، أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكي البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلي هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول «اقرأ» و «يا أيها المدثر» عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط، ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصراً عن داود بلفظ: بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل. فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم. وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى. ولا يخفي ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم. وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف. وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث عشر سنين، حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة، أضافهما. وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس: أن مدة الفترة المذكورة كانت أياماً.

المجلس العاشر

المجلس العاشر في بيان فتر الوحي، وفي ترجمة ابن عباس وسعيد بن جبير وغير ذلك قَالَ البُخَارِي: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أبو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ? إِلَى قَوْلِهِ ? وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ? فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ. وَتَابَعَهُ هِلاَلُ بْنُ رَدَّادٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ «بَوَادِرُهُ» (¬1) . قوله: «قال ابن شهاب» هذا هو: الزهري وقد قدمنا ترجمته. ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/82) : خرَّج المصنف بالإسناد في التاريخ حديث الباب عن عائشة، ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله «تتابع» : قال عروة -يعني بالسند المذكور إليه- وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت لخديجة بيتا من قصب، لا صحب فيه ولا نصب» قال البخاري: يعني قصب اللؤلؤ. وشرح ابن حجر هذا الجزء الأخير من الحديث وقد تركه المصنف فقال: وقوله: «تابعه» الضمير يعود على يحيى بن بكير، ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى وفيه من اللطائف: قوله: عن الزهري: سمعت عروة. قوله: «وأبو صالح» هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد أكثر البخاري عنه من المعلقات، وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالح عنه. ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير، ووهم من زعم - كالدمياطي - أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني، فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد في مسنده عن كاتب الليث. وقوله: «وتابعه هلال بن رداد» بدالين مهملتين الأولى مثقلة، وحديثه في الزهريات للذهلي. قوله: «وقال يونس» يعني ابن يزيد الأيلي، ومعمر هو ابن راشد. «بوادره» يعني: أن يونس ومعمراً رويا هذا الحديث عن الزهري فوافقا عقيلاً عليه، إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره، والبوادر: جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فالروايتان مستويتان في أصل المعنى لأن كلا منهما دال على الفزع، ما في رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا في أثناء السياق، والله الموفق.

«وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن» هذا هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو فرضي زهري مدني إمام جليل أحد فقهاء المدينة السبعة على قول، وكانت وفاته بالمدينة سنة أربع وتسعين عن اثنين وتسعين سنة في خلافة الوليد. وهذا الإسناد فيه سقط من أوله، وعند علماء الحديث إذا سقط من أول الإسناد واحد وأكثر يسمى تعليقاً (¬1) ، والقاعدة عند البخاري - رضي الله عنه - أن التعليق إذا كان صحيحاً عنده يأتي به بصيغة الجزم «قال» مثلما قال هنا «قال ابن شهاب» ، وإن كان ضعيفاً يأتي به بصيغة التمريض كقيل وروي، وصرح بذلك علماء الحديث فقالوا: إذا كان الحديث ضعيفاً لا يقال فيه، لأنه من صيغ الجزم بل يقال حكي أو قيل أو يقال بصيغة التمريض، وقد اعتنى البخاري بهذا الفرق في صحيحه فقال تارة بلفظ الجزم وأخرى بلفظ التمريض، وهذا مما يزيدك اعتقاداً في جلالته وتحققه. فقوله: «قال ابن شهاب وأخبرني» أتى «بقال» ليدل على أنه تعليق صحيح، وبالواو ليعلم أنه مبني على سند متقدم فكأنه قال: «حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني أبو سلمة» ، فيكون الأول مما حدث به ابن شهاب عن عروة، والثاني مما حدث به عن أبو سلمة. قالوا: الواو في «وأخبرني» عاطفة لما رواه شهاب عن أبي سلمة لما رواه أولاً عن عروة قال اخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا. «أن جابر بن عبد الله الانصاري» هذا هو جابر بن عبد الله الخزرجي الأنصاري المدني، وهو من كبار الصحابة، وهو أحد الستة المكثرين الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى ألف حديث وخمسمائه حديث وأربعون حديثاً اتفقا منها على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/81) : وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقدم شيء عطفته، وقد تقدم قوله: عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال: قال ابن شهاب -أي: بالسند المذكور- وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا، ودل قوله عن فترة الوحي وقوله الملك الذي جاءني بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن «يا أيها المدثر» أول ما نزل، ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع هذا الإشكال.

تسع عشر غزوة، وكانت وفاته بعد أن عمي بالمدينة سنة ثلاث، وقيل: ثمان وسبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة، وكان أبيض الرأس واللحية يصفرهما بالورس، وكان يحفي شاربه، ويؤم قومه وهو آخر الصحابة موتاً بالمدينة. «قال: أي: جابر بن عبد الله وهو يحدث عن فترة الوحي» جملة حالية من ضمير جابر أي: قال جابر في حالة التحديث عن فترة الوحي. قال العلماء رضي الله عنهم: فترة الوحي هي عبارة عن تأخر نزول القرآن عليه عليه الصلاة والسلام مدة من الزمان، واختلف في مدة الفترة، فقال السهيلي كانت سنتين ونصف كما جاء في حديث مسند. وأفاد شيخ الإسلام ابن حجر أنه وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كان ثلاث سنين، وبه جزم بن إسحاق وقال: ليس المراد بفترة الوحي المقدر بثلاث سنين عدم مجيىء جبريل، بل المراد بها عدم نزول القرآن عليه فيها فقط. وأما جبريل فإنه كان يتراءى له في هذه المدة كما ذكره البخاري في التعبير (¬1) عن معمر أنه قال وفترة الوحي فترة حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا غدا منه مراراً كي يتردى رؤس الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه يتراءى له جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد إنك رسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه، حتى يرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل جعل يتراءى له جبريل فقال له مثل ذلك. وفي آخر هذا الصحيح أيضاً أنه -عليه الصلاة والسلام- حين فتر الوحي كان يأتي شواهق الجبال أي: أعاليها يهم بأن يلقي نفسه فكان جبريل يتراءى له بين السماء والأرض فيقول له: يا محمد أنت رسول الله (¬2) . وإنما فتر الوحي وانقطع نزول القرآن عليه هذه المدة بعد تتابعه في النزول عليه ليذهب ما حصل له - صلى الله عليه وسلم - من الخوف والفزع عند نزول جبريل عليه بالقرآن، كما أشار لذلك البخاري وهو في غار حراء ويتشوق إلى عود الوحي إليه ثم بعد مضى مدة الفترة نزل عليه جبريل بالقرآن كما أشار إلى ذلك البخاري بقوله: فقال أي: جابر بن عبد الله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري (6/2561، رقم 6581) كتاب التعبير باب: أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة. (¬2) انظر الموضع السابق من صحيح البخاري.

بصري فإذا الملك الذي جاء بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله - عز وجل - ?يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ? [المدثر: 1 - 5] . «فحمي الوحي وتتابع» أي: كثر نزوله بعد ذلك وازداد. قوله «وتتابع» تأكيد «لحمي» لأنه بمعناه. وفي هذا الحديث دلالة على أنه سبحانه وتعالى أقدر الملائكة على التشكل والتصور بصور مختلفة من صور بني آدم وغيرهم، وأن لهم صوراً في أصل خلقهم مخصوصة بهم من بني آدم، وأن الله جعل الهواء لهم يتصرفون فيه كيف شاءوا، كما جعل الأرض لبني آدم يتصرفون فيها كيف شاءوا وهو ممسكم في الهواء بقدرته كما أنه سبحانه يمسك السماء أن تقع على الأرض بقدرته وقول الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - ?يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ? لاطفه في الخطاب من الكريم إلى الحبيب، إذ ناده بحاله وعبر عنه بصفته، ولم يقل له يا محمد أو يا فلان، ليتشعر الملاطفة من ربه - عز وجل - ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي لما خرج من بيته مغاضباً لفاطمة رضي الله عنها وجاء إلى المسجد ونام فيه فسقط رداءه وأصابه ترابه فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أصابه التراب فقال له ملاطفاً ومسكناً لغضبه: «قم يا أبا تراب» ، وكان أحب الأسماء إلى علي - رضي الله عنه -. ومعنى الآية: قم يا ذا الذي قد تدثر أي: تعطي بثيابه ونام، وأصل المدثر المتدثر، فإذا أدغمت التاء في الدال لتجانبها. ?قُمْ فَأَنذِرْ? أي: خوف أهل مكة وحذرهما العذاب إن لم يسلموا وقيل معنى أنذر: أعلمهم بنبوتك وقيل معناه: أدعهم إلى التوحيد. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظم سيدك ومليكك ومصلح أمرك أي: صفه بأنه أكبر من أن تكون له صاحبة وولد. قيل لما نزلت هذه الآية قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبر فكبرت خديجة وعلمت أنه الوحي من الله تعالى. واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى ?وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ? على أقوال ثمانية: فقيل: المراد بالثياب: العمل، أي: عملك فطهر فأصلح، فإن العرب كانت تقول إذا كان الرجل خبيث العمل فلان خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا فلان طاهر الثياب. وقيل: المراد بالثياب القلب، أي: قلبك فطهر من الإثم والمعاصي أي: فطهره من

الغدر أي: لا تغدر فتكون دنس الثياب. وقيل: المراد بالثياب النفس، أي: طهر نفسك من الذنوب. وقيل: المراد بها الأهل، أي: طهر أهلك من ارتكاب الخطايا بأن تعظهم وتؤدبهم، فإن الأهل يسمون بالثياب واللباس قال الله تعالى ?هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ? [البقرة: 187] . وقيل: المراد بالثياب النساء، أي: طهر نساك بأن تختار حال التزويج بهن النساء العفائف المؤمنات، وأن تستمتع بهن في الطهر لا في الحيض. وقيل: المراد بالثياب الخُلق، أي: حسن خلقك. وقيل: المراد بها الدين. وأكثر المفسرين على أن المراد بالثياب: ما يلبس على البدن. واختلفوا في تأويله على أربعة أقوال: الأول: أن المراد بالتطهير الإنقاء أي: وثيابك فأنق. الثاني: المراد بالتطهير من النجاسة. الثالث: المراد بالتطهير اللبس من الحلال أي: طهر ثيابك من لبس الحرام ولا تلبس ثيابك إلا من كسب الحلال. الرابع: المراد بقوله ?فَطَهِّرْ? فقصر فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة لأنها إذا أبحرت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها. قال علي كرم الله وجهه: قصر ثيابك فإنه أتقى وأنقى. والمراد بقوله ?وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ? الأوثان فاترك، وقيل: المأثم. فائدة: انقطع جبريل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة أيام، قيل: اثنا عشر يوماً، وقيل: خمسة عشر يوماً، وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقيل: أربعين يوماً وسببه كما ذكره المفسرون أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعن الروح فقال سأخبركم غداً ولم يقل: إن شاء الله، فانقطع جبريل عنه هذه المدة، فقال المشركون: إن جبريل محمداً ودعه وقلاه أي: تركه ربه وبغضه، وقالت أم جميل امرأة أبي لهب أبطأ عليه شيطانه فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم ?وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى? [الضحى: 1 - 3] فأراد الله بقوله: ?وَالضُّحَى? جميع النهار لأنه قابله بالليل، وقيل: أراد وقت ارتفاع الشمس لأنه وقت شريف كلم الله فيه موسى بن عمران، وخرت فيه سحرة فرعون سجداً لله - عز وجل - فلهذا أقسم الله به، فإن

قوله ?وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى? قسم بتقدير مضاف أي: ورب الضحى ورب الليل إذا سجى، ومعنى سجى سكن أي: سكن الناس فيه، ومعنى الآية ورب الضحى ورب الليل إذا سجى ?مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ? يا محمد كما تقول الكفار ?وَمَا قَلَى? أي: ما تركك ربك منذ اختارك ولا أبغضك منذ أحبك، وأنزل الله مع هذه الآية ?وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ? تحريضاً وتعليماً لمن عزم على فعل شيء مستقبل أن يقدم المشيئة ليقدره الله ببركة المشيئة على فعله، ويقضي حاجته وتنجح طُلبته. * * *

باب يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عَوَانَةَ (¬1) ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عباس، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى? لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ? قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابن عباس: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابن عباس يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ? قَالَ جَمْعُهُ لَهُ فِي صَدْرِكَ، وَتَقْرَأَهُ ?فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ? قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ?ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ? ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَرَأَهُ. قوله: «حدثنا موسى بن إسماعيل» هذا هو أبو سلمة المنقري البصري التبوذكي قيل: له التبوذكي لأنه اشترى دار بتبوذك، وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وعشرين. «حدثنا موسى بن أبي عائشة» هذا هو أبو الحسن الكوفي الهمداني. «حدثنا سعيد بن جبير» هذا هو الإمام المجمع على جلالته وثقته وعلو مرتبته في العلوم تفسيراً أو حديثاً وفقهاً وكان ابن عباس إذا أتى أهل الكوفة إليه يقول لهم: أليس فيكم سعيد بن جبير، وكان يقال له: جهبذ العلماء، وهو كوفي أسدي والبي، منسوب إلى «بني والبة» بالولاء. سمع سعيد بن جبير خلقاً من الصحابة منهم العبادلة، وأخذ عنه خلق من التابعين منهم الزهري، قتله الحجاج صبراً ولم يعش بعدها أياماً. قيل: إن الحجاج لما أرسل رسله في طلب سعيد بن جبير وحضروه بين يديه قال: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال: أنت شقي بن كسير، قال: كانت أمي أعلم باسمي منك، قال: شقيت أنت وشقيت أمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إليها، ثم أحضر الحجاج ألآت ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/83) : «أبو عوانة» هو: الوضاح بن عبد الله اليشكري مولاهم البصري، كان كتابه في غاية الإتقان.

الملاهي فبكى سعيد، فقال الحجاج ويلك يا سعيد، قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار فقال: اختر يا سعيد أي قتله تريد أن أقتلك، قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال: فتريد أن اعفو عنك؟ فقال: إن كان العفو فمن الله لي، وأما أنت فلا، قال: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج من الباب ضحك فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده فقال: ما أضحكك قال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط بين يديه فقال: اقتلوه، فقال سعيد: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، قال: وجهوه لغير القبلة، قال سعيد: أينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله قال: كبوه لوجهه، فقال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، فقال الحجاج: اذبحوه، فقال سعيد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي، فذبح على النطع -رحمه الله-. وعاش الحجاج بعده خمسة عشر ليلة، وكان الحجاج لا يصبر على سفك الدماء، وكان يخبر عن نفسه: أن أكبر لذاته سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره. وقيل: أحصى ما قتل صبراً فبلغ مائة ألف وعشرين ألفاً كذا رواه الترمذي في جامعه (¬1) ، وعرضت سجونه بعده فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب. قال خلف بن خليفة: حدثنا بواب الحجاج قال رأيت رأس سعيد بن جبير بعد ما سقط على الأرض يقول: لا إله إلا الله (¬2) . وقيل: إنه كان له ديك يقوم من الليل بصياحه فلم يصيح ليلة أصبح فلم يصل سعيد تلك الليلة فشق ذلك عليه فقال: مال قطع الله صوته فلم يسمع له صوت بعد ¬

(¬1) أخرج الترمذي في سننه (4/499، رقم 2220) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «في ثقيف كذاب ومبير» قال الترمذي: يقال «الكذاب» المختار بن أبي عبيد، و «المبير» الحجاج بن يوسف، ثم قال: حدثنا أبو داود سليمان بن سلم البلخي، أخبرنا النضر بن شميل، عن هشام بن حسان ... فذكره. (¬2) رواه أسلم الواسطي في تاريخ واسط (ص:91) حدثنا أسلم قال: حدثنا محمد بن إبان قال: حدثنا خلف بن خليفة قال: حدثني بواب الحجاج ... به. وأورده المزي في تهذيب الكمال (10/361) ، والنووي في تهذيب الأسماء (ص210) .

ذلك. وسنذكر بعض أخبار الحجاج في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا التقى المسلمان بسيفهما» (¬1) . وكانت وفاة سعيد بن جبير سنة خمس وتسعين عن تسع وأربعين سنة. «عن ابن عباس» هذا هو الحبر عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمه أم الفضل أخت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنما قيل: الحبر البحر لكثرة علومه، وكان يقال له: ترجمان القرآن وهو والد الخلفاء وأحد العبادلة الأربعة المشهورين الذي شاع ذكرهم وانتشر فضلهم وسارت الركبان نفعنا الله بهم وهم: عبد الله ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الإمام عمر بن الخطاب. دعا له الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة والتفقه في الدين وتعلم التأويل أي: تأويل القرآن فأخذ عنه الصحابة ذلك ودعا له مرة أخرى فقال: اللهم بارك فيه وانشر منه واجعله من عبادك الصالحين، اللهم زده علماً وفقهاً وفي هذا الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام ضمه إليه وقال: «اللهم علمه الكتاب» وهو أحد الستة الذين الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الإمام أحمد بن حنبل: ستة من الصحابة أكثروا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمرو، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأنس، وأبو هريرة أكثرهم حديثاً. وقال أحمد بن حنبل أيضاً: ليس أحد من الصحابة أكثر فتيا من عبد الله ابن عباس ومناقبة في الصحيح وغيره جمة أفردت بالتأويل منها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنكة بريقة. ومنها: أنه رأى جبريل فقد روى مجاهد عنه أنه قال: رأيت جبريل مرتين ودعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة مرتين. ومنها: أنه كان كثير البكاء، وكان لموضع الدمع من خديه أثر لكثرة بكائه، وكان عمر بن الخطاب يعظمه ويقدره على الكبار والصغار، وكان إذ ذكره يقول: ذاك فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول. ¬

(¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (1/20، رقم 30) ، ومسلم في صحيحه (4/2214، رقم 2888) من حديث أبي بكرة.

ومن مناقبة الدالة على غزارة علمه أن الناس كانوا يقصدون منزله من الآفاق، ويزدحمون على منزلة، ويسألون عن جميع العلوم فقد نقل عن أبي صالح أنه قال رأيت عند ابن عباس جلساء لو أن جميع قريش افتخرت به لكان لها فخر، ورأيت الناس اجتمعوا على باب منزله، ويسألوه من أنواع العلوم، حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر على المجيىء من ذلك الطريق والذهاب من كثرة الناس، قال أبو صالح: فدخلت عليه فأخبرته بالناس الواقفين على بابه، فقال: ادع لي بوضوء فتوضأ وجلس، ثم قال: لا تدخل على جميع الناس بل أخرج وقل من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أراد منه فليدخل، قال: فخرجت فأعلمتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم مثل ما سألوا عنه وأكثر، ثم قال انصرفوا حتى يدخل إخوانكم، ثم قال: لي أخرج فقل من أراد أن يسأل عن الحلال أو الحرام والفقه فليدخل، فقلت لهم: فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجر فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به، وزادهم بمثله، ثم قال انصرفوا حتى يدخل إخوانكم فخرجوا، ثم قال: أخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله، ثم قال: انصرفوا حتى يدخل إخوانكم، ثم قال: أخرج فقل: من أراد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم مثله، قال أبو صالح: فلو أن قريشاً كلها فخرت بذلك لكان فخراً فما رأيت مثل هذا لأحد. وكان ابن عباس جميلاً قال عطاء: ما رأيت القمر ليلة الرابع عشر إلا ذكرت وجه ابن عباس من حسنه. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث وستمائه وستين حديثاً، اتفقا منها على أربعة خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بمائة وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين وقد عمي في آخر عمره وكذا أبوه العباس وجده عبد المطلب، ولما سقط في عينيه الماء، وذهب بصره قيل له: خلي بيننا وبين عينيك نسيل ماءها ولكنك تمسك خمسة أيام لا تصلي فقال: لا والله ولا ركعة إني حدثت: «أنه من ترك صلاة واحدة متعمداً لقي الله وهو عليه غضبان» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/294، رقم 11782) ، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (4/828، رقم 1535) من حديث ابن عباس. ورواه أيضاً: البزار كما في مجمع الزوائد (1/295) قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الكبير وفيه: سهل بن محمود، ذكره ابن أبي حاتم، وقال: روى عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي، وسعدان بن يزيد، قلت: وروى عنه محمد بن عبد الله المخرمي ولم يتكلم فيه أحد، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ولد - رضي الله عنه - بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشر سنة على المشهور، وكانت وفاته بالطائف وقبره فيها مشهور يزار سنة ثمان وستين عن إحدى وسبعين على الصحيح، في أيام ابن الزبير، وصلى عليه محمد بن الحنفية وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة، ولما بلغ جابر بن عبد الله وفاته صفق بإحدى يديه على الأخرى وقال: مات أعلم الناس وأحكم الناس، ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة. ومن مناقبة الجليلة التي اتفقت له بعد موته ما نقل عن ميمون بن مهران قال: شهدت جنازة ابن عباس بالطائف فلما وضعت ليصلى عليه جاء طائراً أبيضاً من السماء، لم ير على خلقته حتى وقع له على أكفانه ثم دخل فيها، فالتمس فلم يوجد فلما سوى عليه التراب سمعنا صوتاً: ?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي? [الفجر: 27 - 30] . وقيل: إن هذا الطائر الأبيض علمه كما أفاده السيوطي في كتابه شرح الصدور. قوله «عن موسى بن أبي عائشة حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ? لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ? قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج (¬1) من لتنزيل شدة ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/84) : المعالجة محاولة الشيء بمشقة، أي: كان العلاج ناشئاً من تحريك الشفتين، أي: مبدأ العلاج منه، أو «ما» موصولة وأطلقت على من يعقل مجازاً، هكذا قرره الكرماني، وفيه نظر لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك، والصواب ما قاله ثابت السرقسطي أن المراد كان كثيراً ما يفعل ذلك، وورودهما في هذا كثير ومنه حديث الرؤيا: «كان مما يقول لأصحابه: من رأي منكم رؤيا» . الفم قلت: ويؤيده أن رواية البخاري في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة ولفظها: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل جبريل بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه» . فأتى بهذا اللفظ مجرداً عن تقدم العلاج الذي قدره الكرماني، فظهر ما قال ثابت. ووجه ما قال غيره: إن «من» إذا وقع بعدها «ما» كانت بمعنى ربما، وهي تطلق على القليل والكثير، وفي كلام سيبويه مواضع من هذا منها قوله: اعلم أنهم مما يحذفون كذا. والله أعلم. ومنه حديث البراء: «كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - مما نحب أن نكون عن يمينه ... الحديث» ، ومنه حديث سمرة: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا» .

فكان مما يحرك شفيه، وقال ابن عباس: فأنا أحركها لك كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركها، وقال سعيد بن جبير: أنا أحركها كما رأيت ابن عباس يحركها، فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ? (¬1) قال: جمعه له في صدرك (¬2) ?فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ? قال فاستمع له ونصت ?ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ? ثم إن علينا أن تقرأه» معنى الآية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحرك شفتيه بما يسمعه من جبريل قبل إتمام جبريل الوحي استعجالاً لحفظه وخوفاً من تفلته ونسيانه، وقيل: إنهما كان يذكره إذا نزل عليه من حبه وحلاوته في لسانه، فإن القرآن له حلاوة في اللسان. قال عياض: لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -: ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ¬

(¬1) قال ابن حجر (1/84) : قوله: «فحرك شفتيه» وقوله: فأنزل الله ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ? [القيامة: 16] لا تنافي بينهما، لأن تحريك الشفتين، بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان. أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك، وقد مضى أن في رواية جرير «يحرك به لسانه وشفتيه» فجمع بينهما. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة، ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، قاله الحسن وغيره. ووقع في رواية للترمذي: «يحرك به لسانه يريد أن يحفظه» ، وللنسائي: «يعجل بقراءته ليحفظه» ، ولابن أبي حاتم «يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره» ، وفي رواية الطبري عن الشعبي «عجل يتكلم به من حبه إياه» وكلا الأمرين مراد، ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك، فأمر بأن ينصت حتى يقضى إليه وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره، ونحوه قوله تعالى: ?وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ? [طه: 114] أي: بالقراءة. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/85) : قوله: «جمعه لك صدرك» كذا في أكثر الروايات وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز، كقوله: أنبت الربيع البقل، أي: أنبت الله في الربيع البقل، واللام في «لك» للتبيين أو للتعليل. وفي رواية كريمة والحموي «جمعه لك في صدرك» وهو توضيح للأول، وهذا من تفسير ابن عباس. وقال في تفسير «فاتبع» أي: فاستمع وأنصت، وفي تفسير «بيانه» أي: علينا أن تقرأه. ويحتمل أن يراد بالبيان بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته، فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الصحيح في الأصول.

وَالإِحْسَانِ? [النحل: 90] قال: والله إن له لحلاوة، وإن له لطلاوة، وإن أسلفه لمغدق، وإن أعلاه لمثمر وما هو بقول بشر. قال ابن حجر: وكلا الأمرين مرادفاً فأمره الله تعالى بالإنصات حتى يتم جبريل الوحي، ووعده بأنه آمن من تفلته بالنسيان وغيره بقوله ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ? أي: بالقرآن قبل فراغ جبريل منه لتعجل به خوفاً من أن يتفلت منك إن علينا جمعه وأن نجمعه لك في صدرك، فتقرأه ولا يفوتك منه شيء، فإذا قرأه رسولنا جبريل عليك فاستمع قرآنه أي: فاستمع وأنصت ?إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ? أي: ثم إن علينا أن تقرأه مرة أخرى. وفي صحيح مسلم: «علينا أن نبينه بلسانك» (¬1) ، وقيل المعنى: علينا أن نحفظك، وقيل المعنى: علينا أن نبين لك ما فيه من حلال وحرام، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما قرأه جبريل - عليه السلام -. قول ابن عباس: «فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركها» (¬2) استشكل به العلماء من جهة أنه لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرك شفتيه لم يره ابن عباس على تلك الحالة إذ لم يكن إذ ذاك ولد، لأن مولده قبل الهجرة بثلاث سنين أو أقل، وقضية تحريك الشفتين كانت قبل ذلك في أول البعثة. وأجابوا عنه بأنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره بذلك بعد، أو بعض الصحابة أخبره أن شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. قال ابن حجر: والأول هو الصواب لثبوتها في خبر. ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (1/330، رقم 448) في روايته لهذا الحديث عن سعيد بن جبير عن بن عباس ... به. (¬2) قال ابن حجر (1/84) في هذه المسأله: قوله: «فقال ابن عباس فأنا أحركهما» جملة معترضة بالفاء، وفائدة هذا زيادة البيان في الوصف على القول، وعبر في الأول بقوله: «كان يحركهما» ، وفي الثاني برأيت، لأن ابن عباس لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة، لأن سورة القيامة مكية باتفاق، بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر، وإلي هذا جنح البخاري في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره بذلك بعد، أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأول هو الصواب. فقد ثبت ذلك صريحاً في مسند أبي داود الطيالسي قال: حدثنا أبو عوانة بسنده، وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع.

فوائد بعضها مستفاد من الحديث والبعض الآخر ذكر بطريق المناسبة: الأولى: مثل هذا الحديث يسمى بالمسلسل بالتحريك، لكن في الطبقة الأولى طبقة الصحابة والتابعين لقول ابن عباس: إذا حركهما كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما، وقول سعيد بن جبير: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما لا في جميع الطبقات. الثانية: أن الحديث فيه دلالة على أنه يستحب للمعلم أن يتمثل للمتعلم بالفعل، فإنه أبلغ من القول، فكم من متعلم لا يفهم الشيء بالقول والوصف أي: لا يفهمه ولا يستقر، وإذا صور يحضره واستقر عنده. الثالثة: وقع في الكرماني هنا في الكلام على قوله «فاستمع» ما نصه: قال الفقهاء: سجدة التلاوة للمستمع لا للسامع، واعترضه البرماوي بأن الذي قاله وجه ضعيف عند الشافعية، مشى عليه صاحب الحاوي الصغير تبعاً للمحرر والمنصوص عليه عند الشافعي أن سجدة التلاوة تسن للسامع أيضاً، والفرق بين السامع والمستمع: أن المستمع من ألقى سمعه لآية سجدة التلاوة، والسامع من وقع في سمعه آية السجدة من غير قصد، وكلاهما يستحب السجود لعموم قوله ?وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ? [الإنشقاق: 20] . الرابعة: هل الإسراع في القرآن أفضل أم الترتيل أفضل؟ فذهب بعضهم إلى أن الإسراع أفضل استكثاراً للأجر، إذ يحصل بكل حرف عشر حسنات، إذا لم يفرط في الإسراع فإن فرط كره بالاتفاق، وإن أسرع بحيث ينتهي إلى عدم إقامته الأحرف فإنه غير جائز بخلاف، وذهب الأكثرون إلى أن الترتيل أفضل وقد صرح العلماء باستحبابه قال تعالى ?وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً? [المزمل: 4] . وروى أبو داود وغيره عن أم سلمة «أنها نعتت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة مفسرة حرفاً حرفاً» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (2/73، رقم 1466) عن أم سلمة. وأخرجه أيضاً: البخاري في خلق أفعال العباد (ص: 53) ، والترمذي في سننه (5/182، رقم 2923) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، والنسائي في سننه (2/181، رقم 1022) ، وأحمد في مسنده (6/294، رقم 26569) ، وابن خزيمة في صحيحه (2/188، رقم 1158) ، والحاكم في المستدرك (1/453، رقم 1165) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير (23/292، رقم 645) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/391، رقم 2156) ، وابن المبارك في كتاب الزهد (ص 421، رقم 1195) .

وعن ابن مسعود: «لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكون هم أحدكم آخر السورة» (¬1) . قال النووي: وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراة جزئين في قدر ذلك الزمان بلا ترتيل. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إليَّّ من أن أقرأ القرآن كله» . وعن مجاهد (¬2) - رضي الله عنه -: أنه سئل عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران، والآخر البقرة وحدها وزمنها وركوعهما وسجودهما وجلوسهما سواء، قال: الذي قرأ البقرة وحدها أفضل قال: واستحباب الترتيل للتدبر ولأنه أقرب إلى الأجل والتوقير، وأشد تأثيراً في القلب، ولهذا استحب للأعجمي الذي لا يفهم معناه. وقال بعضهم: وأحب أن ثواب قراءة الترتيل أجل قدراً، وثواب الكثرة أكثر عدداً. الخامسة: في الحديث دلالة على أن أحداً لا يحفظ القرآن العظيم إلا بعون الله وفضله وكرمه، قال تعالى: ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ? [القمر: 17] بخلاف التوراة والإنجيل فإنه لم يكن متيسراً لحفظهما كتيسر حفظ القرآن العظيم الذي خصت به هذه الأمة المحمدية. خاتمة غريبة: قال بعض الصالحين كان رجل يحفظ القرآن، وكان يحب الدنيا ويسعى لها، فلا تزداد منه إلا بعداً فجاء إلي وقال: قد أصابني أمر أريد أن تكتمه على فقلت: ما هو؟ فقال: قد كنت ترى مني حب الدنيا وطلبها فرأيت الليلة في منامي قائلاً يقول لي تبيعني أربع سور مما تحفظه من القرآن بهذه بعشرين ديناراً، فقلت: نعم فطرح الدنانير في كفي، ثم انتبهت فلم أر شيئاً فطلبت أن أقرأ شيئاً من السور التي عينها فلم استطع، وقد جئتك لتلقينها في خلوة، قال: فخلوت به وجعلت أقرأ الآية من السور فيقرأها معي فإذا أمسكت عجز عن القراءة فبقينا على ذلك مدة فلم يحفظ منها آية، فقال لي بعد مدة: لا تتعب معي فإنها نزعت مني. السادسة: ذكر الغزالي في أسرار القرآن فيمن يطرأ عليه نسيان القرآن بعد حفظه ¬

(¬1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/256، رقم 8733) من قول عبد الله بن مسعود. وأورده السيوطي في الدر المنثور (5/158) وعزاه إلى ابن أبي شيبة. (¬2) هو: مجاهد بن جبير، ويقال: ابن جبير المكي، كان فقيهاً عابدًا ورعًا، من أئمة التفسير، روى عن جمع من الصحابة، توفي رحمه الله بمكة وهو ساجد سنة (102هـ) ، وقيل (103هـ) . انظر: مشاهير علماء الأمصار (ص 82) ، وتهذيب التهذيب (10/284) ، وحلية الأولياء (3/279) .

عن الكلبي أنه قال: كان لي ولد يقرأ القرآن وكلما قرأ منه شيئاً نسيه، فرأيت في المنام قائلاً يقول لي أكتب في إناء سورة ?الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ? [الرحمن: 1 - 5] ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ? [القيامة: 16 - 19] ?بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ? [البروج: 21 - 22] وألق عليه من ماء زمزم واسقه ولدك يحفظ القرآن، فحفظ القرآن. السابعة: هل الجهر بالقراءة أفضل أم السر؟ قال النووي - رضي الله عنه -: الإخفاء أفضل إن خاف الرياء أو كان يتأذى به مصلون، أو من ينام، والإجهار أفضل في غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى على السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد عنه النوم ويزيده في النشاط. وقال بعض العلماء: يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها لأن المرء قد يمل فيأنس بالجهر، والجهر قد يشكل فيستريح بالإسرار. الثامنة: وهي مشتملة على مسائل: يكره قطع القراءة لمكالمة أحد، لأن كلام الله لا ينبغي أن يؤثر كلام أحد عليه. ويكره أيضاً: الضحك والعبث، والنظر إلى ما يرى. ويستحب تقبيل المصحف قياساً على تقبيل الحجر الأسود، ولأنه هدية من الله فشرع تقبيله، كما يستحب تقبيل الولد الصغير. ويستحب تطيبه، وجعله على كرسي ويحرم توسده لأن فيه إذلالاً وامتهاناً، وكذا يحرم مد الرجلين إليه كما قاله الزركشي، ويجوز تحليته بالفضة إكراماً له على الصحيح. وأما القيام للمصحف إذا حضر فقال النووي: إنه يستحب لما فيه من التعظيم وعدم التهاون به، كما يستحب القيام لأهل الفضل إكراماً لهم خلافاً لما قاله ابن عبد السلام أن القيام بدعة. ولا ينبغي للإنسان أن يصغر المصحف ويقول: مصيحف فقد أخرج أبو داود عن ابن المسيب قال: «لا يقول أحدكم مصحيف ولا مسيجد فما كان الله فهو عظيم» . التاسعة: في فضل القرآن وفضل حملته:

دل الكتاب والسنة على ذلك قال الله ?إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ... ? الآية [فاطر: 29] . قوله ?يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ? أي: يقرأونه ويداومون على تلاوته وقوله ?يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ? لن تكسد ولن يتعذر الربح فيها، وهو إشارة إلى الإخلاص أي: يفعلون تلك الأفعال من التلاوة، والصلاة والإنفاق يقصدون بذلك وجه الله لا الرياء ولا السمعة. وروينا في هذا الصحيح عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (¬1) . وروي في البلدانيات عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا هريرة تعلم القرآن وعلمه الناس، فإنك إن مت أنت كذلك زارت الملائكة قبرك» (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» متفق عليه (¬3) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» رواه ¬

(¬1) أخرجه البخاري في الصحيح (4/1919، رقم 4739) عن عثمان. وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (2/70، رقم 1452) ، والترمذي في سننه (5/173، رقم 2907) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/19، رقم 8036) ، وابن ماجه في سننه (1/76، رقم 211) ، وأحمد في مسنده (1/57، رقم 405) ، وابن حبان في صحيحه (1/324، رقم 118) . (¬2) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (4/380) ، والديلمي في مسند الفردوس (5/345، رقم 8385) عن أبي هريرة. (¬3) هاكذا وقع في الأصل «متفق عليه» إلا أن البخاري رواه معلقاً صحيح البخاري (6/2743) فقال: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم» . قال الحافظ في فتح الباري (13/518) : وأصل الحديث تقدم مسنداً في التفسير لكن بلفظ: «مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة» (انتهى) وربما قال المصنف: «متفق عليه» باعتبار هذا الوجه الذي قاله الحافظ في الفتح. قلت: وأخرجه البخاري بهذا اللفظ مسنداً في كتاب خلق أفعال العباد (ص 73) : قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة ... به. والحديث أخرجه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ (1/549، رقم 798) .

مسلم (¬1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اقرؤ القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» رواه مسلم (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (¬3) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الرب سبحانه وتعالى: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، ففضل كلام الله سبحانه وتعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه» رواه الترمذي وقال حديث حسن (¬4) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (¬5) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/559، رقم 817) عن عمر - رضي الله عنه -. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه في سننه (1/79، رقم 218) ، والدارمي في سننه (/536، رقم 3365) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/89، رقم 4904) . (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1/553، رقم 804) عن أبي أمامة الباهلي. وأخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الأوسط (1/150، رقم 468) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/395، رقم 3862) ، وفي الصغرى (1/547، رقم 998) ، وفي الشعب (2/451 رقم 2372) . (¬3) أخرجه الترمذي في سننه (5/175، رقم 2910) عن أيوب بن موسى قال: سمعت محمد بن كعب القرظي قال سمعت عبد الله بن مسعود ... به مرفوعاً. قال الترمذي: ويروى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود، ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود رفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، سمعت قتيبة يقول: بلغني أن محمد بن كعب القرظي ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحمد بن كعب يكنى أبا حمزة. (¬4) أخرجه الترمذي في سننه (5/184، رقم 2926) عن أبي سعيد الخدري، وقال: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه أيضاً: الدارمي في ستته (2/533، رقم 3356) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/353، رقم 2015) . (¬5) أخرجه الترمذي في سننه (5/177، رقم 2913) عن ابن عباس قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (1/223، رقم 1947) ، والحاكم في المستدرك (1/741، رقم 2037) ، والدارمي في سننه (2/521، رقم 3306) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (9/232) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/328، رقم 1943) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/537، رقم 525) ، والجرجاني في تاريخ جرجان (1/412) .

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قرأ القرآن وعمل به ألبس والده تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا» رواه أبو داود (¬1) . وروي الدارمي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال «اقرأ القرآن فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن» (¬2) . وروى الدارمي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن دخل فيه فهو آمن» (¬3) . وروى الدارمي عنه أيضاً: «من أحب القرآن فليبشر» (¬4) . وفي حديث «القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى دونه» (¬5) . وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2/70، رقم 1453) عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه. وأخرجه أيضاً: الحاكم في المستدرك (1/756، رقم 2085) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬2) رواه الدارمي في سننه (2/524، رقم 3319) عن أبي أمامة من قوله. ورواه أيضاً: البخاري في خلق أفعال العباد (ص: 87) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/133، رقم 30079) . (¬3) رواه الدارمي في سننه (2/525، رقم 3322) عن عبد الله بن مسعود من قوله. (¬4) أخرجه الدارمي في سننه (2/525، رقم 3323) عن عبد الله بن مسعود من قوله. وأخرجه أيضاً: ابن أبي شيبة في المصنف (6/133، رقم 30080) . (¬5) أخرجه أبو يعلى في مسنده (5/159، رقم 2773) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/186، رقم 276) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/229، رقم 4677) عن أنس بن مالك مرفوعاً. قال المناوي في فيض القدير (4/535) رواه أبو يعلى وكذا الطبراني في الكبير، قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، وبينه تلميذه الهيثمي فقال: فيه يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف. انظر مجمع الزوائد للهيثمي (7/158) .

مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانه، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر» رواه البخاري ومسلم وذكره النووي في كتابه (¬1) . فائدة: حكي عن بعض القراء أنه اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعاً، فرأى في المنام كأن قائلاً يقول: إن نسيناك سورة الأنعام لك ألف دينار قال: لا، قال: فسورة هود، قال: لا، قال: فسورة يوسف، قال: لا، قال: فمعك قيمة ألف دينار وأنت تشكو فأصبح وقد سري عنه. وسنذكر فوائده متعلقة بالقرآن وشيئاً من فضائله أيضاً في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى. * * * ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (4/1917، رقم 4732) ، ومسلم في صحيحه (1/549، رقم 797) من حديث أبي موسى.

المجلس الحادي عشر

المجلس الحادي عشر في قصة هرقل وما فيها قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ، فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ

يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإيمان حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإيمان حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإِسْلاَمَ، وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْىَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاَحِ

وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإيمان قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَىَّ، وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ. قوله: «حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره» . قال العلماء: أبو سفيان بن حرب هو أبو معاوية وأخوه واسمه صخر بن حرب وهو قرشي أموي مكي، وكما يكنى بأبي سفيان يكنى بأبي حنظلة أيضاً، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة فتح مكة، وكان شيخ مكة حينئذ ورئيس قريش، وشهد مع الله - صلى الله عليه وسلم - حنيناً وفتح الطائف وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة من الأبل وأربعين أوقية، وفقئت عينه الواحدة يوم الطائف والأخرى يوم اليرموك تحت رآية يزيد قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذهبت عينه وهي في يده: «أيهما أحب اليك عين في الجنة، وأدعو الله أن يردها عليك، قال: بل في الجنة» (¬1) ولو طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يردها لردها. فإنه كان من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - إبراء المريض فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - رد عين قتادة بن النعمان يوم أحد بعدما ما وقعت جبينه وكانت أحسن عينيه (¬2) . وتفل في عين علي - رضي الله عنه - يوم خيبر فشفيت. هذا الذي رد عيناً بعد ما قلعت ... وريقة قد شفا عين الإمام علي وقطع أبو جهل يد معوذ بن عفراء، وجاء يده فبصق عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) ذكر ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1680) في ترجمة أبي سفيان مسألة فقء عينه ولم يذكر الحديث الذي أورده المصنف هاهنا. (¬2) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/187) عن زيد بن أسلم وغيره كذا قال. وأورده ابن عبد البر الإستيعاب (3/1275) من رواية عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر بن عبد الله قال أصيبت عين قتادة بن النعمان يوم أحد وكان قريب عهد بعرس فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فأخذها بيده فردها فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظراً. ورواه الطبري في التاريخ (2/66) عن محمد بن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ... به. وانظر: السيرة لاين هشام (4/31) .

وألصقها فلصقت (¬1) . ورد الله على أعمي بصره بتوسله به - صلى الله عليه وسلم - فقد روى النسائي عن عثمان بن حنيف: «أن أعمي قال: ادع لنا الله أن يكشف لي عن بصري فقال له: انطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قال: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بحرمه محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري، اللهم شفعه فيَّ قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره» (¬2) . إن كان عيسى أبرأ الأعمي بدعوته ……فكم بتفلة قد رد من بصر نزل أبو سفيان المدينة ومات بها سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة أربع وثلاثين وهو بن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع. ¬

(¬1) بينت الروايات والأخبار أن اللقاء بين معوذ وأبو جهل كان في غزوة بدر الكبري، وبينت الأخبار أيضاً أن معوذ استشهد في نفس الغزوة بعد أن ساهم في قتل أبي جهل هو وأخوه عوف أجهدا أبو جهل حتى وقع على الأرض صريعاً وبعدها قتله عبد الله بن مسعود، ولم نقف على ما أورده المصنف هاهنا. يقول ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/492) : معوذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم، وأمه عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار في رواية محمد بن إسحاق وحده، وشهد بدراً وهو الذي ضرب أبا جهل هو وأخوه عوف بن الحارث حتى أثبتاه وعطف عليهما أبو جهل لعنه الله يومئذ فقتلهما، ووقع أبو جهل صريعاً فذفف عليه عبد الله بن مسعود رحمه الله، وليس لمعوذ بن الحارث عقب. وقال ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1442، ترجمة 2473) شهد بدراً مع إخوته معاذ وعوف بني عفراء هو الذي قتل أبا جهل بن هشام يوم بدر ثم قاتل حتى قتل يومئذ ببدر شهيداً قتله أبو مسافع. وانظر أيضاً في ذلك الإصابة (6/193) . (¬2) رواه النسائي في السنن الكبرى (6/168، رقم 10494) عن عثمان بن حنيف بلفظ: «أن رجلا أعمى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني رجل أعمى فادع الله أن يشفيني قال: «بل أدعك» قال: أدع الله لي مرتين أو ثلاثا قال: «توضأ ثم صل ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة» فقال: يا محمد إني أتوجه بك إلى الله أن يقضي حاجتي أو حاجتي إلى فلان أو حاجتي في كذا وكذا: اللهم شفع في نبيي وشفعني في نفسي. وأخرجه أيضاً: أحمد (4/138، رقم 17280) ، والحاكم في المستدرك (1/700، رقم 1909) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/30، رقم 8311) ، وفي المعجم الصغير (1/306، رقم 508) .

«أن هرقل» : هذا هو ملك الروم، و «هرقل» اسمه بكسر الهاء وفتح الراء كدمشق، ويقال: «هرقل» بإسكان الراء وكسر القاف، والهرقل بلغتهم وهو لا ينصرف للعلمية والعجمية وهو صاحب حروب الشام. أقام في الملك إحدى وثلاثين سنة وفي ملكه مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقبه قيصر، وكذا كل من ملك الروم يقال له قيصر، ومن ملك الفرس يقال له: كسرى، وكل من ملك الترك يقال له: خاقان، وكل من ملك الحبشة يقال له: النجاشي، وكل من ملك مصر يقال له: العزيز، وكل من ملك حمير يقال له: تبع. واما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده» (¬1) فالمراد منه: أنه لا قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق، بل يكونان في غير هذين الأقليمين قاله إمامنا الشافعي في المختصر. ومعنى قيصر: «البقير» ، ولقب بذلك لأن أمة لما أتاها الطلق به ماتت وبقي يضطرب في جوفها فبقر بطنها أي: شق فخرج حياً وكان يفخر بذلك لأنه لم يخرج من فرج، وكان شجاعاً جباراً مقداماً في الحروب وهو أول من ضرب الدنانير وأحدث البيعة. وسئل الشافعي عنه هل يقال هرقل أم قيصر؟ فقال: هرقل هو وقيصر الأول علم له والثاني لقباً، كما يقال على أمير المؤمنين. «أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام» قال ابن عسار: الشام مهموز، ويجوز تخفيفه، وفي لغة يجوز فيقال: شأم بفتح السين والمد وهو مذكر وجوز ثأنيثه، وحد الشام طولاً من العريش إلى الفرات، وقيل: إلى بالس ورجحه ابن حبان في صحيحه فقال: أول الشام بالس، وآخره العريش (¬2) ، وعرضاً من جبل طيء من نحو القبلة إلى بحر الروم، وما سامت ذلك من البلاد وهو ديار الأنبياء، وقدمنا ان نبينا - صلى الله عليه وسلم - دخل أرض الشام أربع مرات مرتين قبل النبوة ومرتين بعدها، ودخله عشرة آلاف صحابي. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (3/1325، رقم 3422) ، ومسلم في صحيحه (4/2236، رقم 2918) من حديث أبي هريرة. (¬2) قاله ابن حبان في الصحيح (16/294) عقب حديث (رقم 7305) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستخرج عليكم نار في آخر الزمان من حضرموت تحشر الناس» قال: قلنا بما تأمرنا يا رسول الله قال: «عليكم بالشام» قال أبو حاتم: أول الشام بالس وآخره عريش مصر.

«في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان كفار قريش فآتوه وهم بإيلياء» وإيلياء هو بيت المقدس، وفيه أربع لغات إيلياء بالمد موزون كبرياء، وإيلياء بالقصر والياء بوزن إعطاء، وإيلياء بتشديد الياء ومعناه بيت الله. ولمسجد بيت المقدس فضائل وخصوصيات منها: أنه أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» (¬1) . ومنها: أن الله تعالىسماه مباركاً حيث قال ?إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ? [الإسراء: 1] قال مجاهداً: سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي، ومنه يحشر الناس يوم القيامة، وقيل: سماه مباركاً من بركة نشأت منه فعمت جميع الأرض، لأن مياه الأرض كلها انفجارها كان من تحت الصخرة. ومنها: أن الدجال لا يدخله قال - صلى الله عليه وسلم - «إن الدجال يدخل الأرض إلا أربعة مساجد: مسجد المدينة ومسجد مكة والأقصى والطور» (¬2) رواه أحمد بن حنبل في المسند. ومنها: أن الصلاة فيه بألف صلاة فقد أخرج ابن ماجه وأبو داود عن ميمونة مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها قالت في بيت المقدس قال: «أرض المحشر والمنشر إتيوه وصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة» (¬3) . ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/398، رقم 1132) ، ومسلم في صحيحه (2/1014، رقم 1397) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (5/364، رقم 23139) عن جنادة بن أبي أمية قال: أتينا رجلاً من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخلنا عليه فقلنا حدثنا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تحدثنا ما سمعت من الناس، فشددنا عليه فقال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا فقال: «أنذركم المسيح وهو ممسوح العين أحسبه قال: العين اليسرى، تسير معه جبال الخبز وأنهار الماء، علامته يمكث في الأرض أربعين صباحاً يبلغ سلطانه كل منهل لا يأتي أربعة مساجد الكعبة ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى والطور» . وأخرجه أيضاً: ابن أبي شيبة أبي شيبة في المصنف (7/495، رقم 37506) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/343) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال ابن حجر في فتح الباري (13/105) : رجاله ثقات. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (1/125، رقم 457) ، وابن ماجه (1/451، رقم 1407) عن ميمونة. وأخرجه أيضاً: إسحاق بن راهويه في مسنده (1/106، رقم 1) ، وأبو يعلى في مسنده (12/523، رقم 7088) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/216، رقم 3448) ، والطبراني في المعجم الكبير (25/32، رقم 54) ، ومحمد بن عبد الواحد المقدسي في فضائل بيت المقدس (ص 49، رقم 16) ، والديلمي في الفردوس (2/25، رقم 2159) مختصراً. قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/14) : وإسناد طريق ابن ماجة صحيح رجاله ثقات، وهو أصح من طريق أبي داود فإن بين زياد بن أبي سودة وميمونة: عثمان بن أبي سودة كما صرح به ابن ماجة في طريقه، وكما ذكره العلاء بن صلاح الدين في المراسيل.

ومنها: أن من زاره حط الله عنه أوزاره، ومن صلى فيه كفر الله عنه ذنوبه، ولنا عوداً إلى كلام على فضائله في المجالس الآتية. قال العلماء: حديث هرقل الذي ساقه البخاري هنا حديث جليل مشتمل على كثير من الفوائد، قال ابن رجب (¬1) : من أظن أن هذا الحديث سمر من الأسمار وخبر من الأخبار لا يتضمن علماً كما يحكى عن بعض المتأخرين فهم في غاية الجهل والعمى والطغيان، وإنما أخرجه البخاري في بدء الوحي إن لم يكن فيه بدء الوحي لتضمنه من أعلام النبوة وبراهنيها. فائدة: هرقل قيل: كان ساكناً في مدينة في مدينة حمص، وكانت دار ملكة وكانت في زمانهم أعظم من دمشق وكان فتحها على يد أبي عبيدة بن الجراح سنه ستة عشر بعد قصة هرقل بعشر سنين، سميت بحمص باسم رجل من العمالقة اسمه: حمص بن المهر بن حاف، كما سميت حلب بحلب بن المهر، قاله ابن الملقن. فائدة: دخل مدينة حمص من الصحابة تسعمائة رجل قاله الثعلبي. فائدة أخرى: حمص هي إحدى مدائن الجنة الخمسة ورد عن كعب الأحبار: «خمسة مدن في الدنيا في الجنة مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق وحمص، وخمسة مدن في الدنيا في النار رومية وقسطنطينية وهي أسطنبول وأنطاكيه وصنعاء وتدمر» قيل: المراد بأنطاكية المحترقة لا هذه، وبصنعاء بلد بأرض الروم لا صنعاء اليمن. فائدة أخرى: ورد في مسند أحمد بن حنبل لكن ضعيف أن من أهل حمص سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب (¬2) . ¬

(¬1) ابن رجب هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي، أبو الفرج، زين الدين: حافظ للحديث، من العلماء. ولد في بغداد سنة: 736 هـ‍، ونشأ وتوفي في دمشق في سنة: 795 هـ‍، من كتبه: شرح جامع الترمذي وجامع العلوم والحكم في الحديث، وهو المعروف بشرح الأربعين، وفضائل الشام، والإستخراج لأحكام الخراج، والقواعد الفقهية، ولطائف المعارف، وفتح الباري شرح صحيح البخاري لم يتمه، وذيل طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، والاقتباس من مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس، وأهوال القبور، وكشف الكربة في وصف حال أهل الغربة رسالة في شرح حديث بدأ الإسلام غريباً، والتوحيد، ورسالة في معنى العلم. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (1/19، رقم 120) عن حمزة بن عبد كلال قال سار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الشام ... فذكر قصة لعمر فيها: فسمعته يقول: ردوني عن الشام بعد أن شارفت عليه لأن الطاعون فيه، ألا وما منصرفي عنه مؤخر في أجلي، وما كان قدومه معجلي عن أجلي، ألا ولو قد قدمت المدينة ففرغت من حاجات لا بد لي منها فيها لقد سرت حتى أدخل الشام ثم أنزل حمص فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليبعثن الله منها يوم القيامة سبعين ألفاً لا حساب ولا عذاب عليهم، مبعثهم فيما بين الزيتون وحائطها في البرث الأحمر منها» . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/61) رواه أحمد وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو ضعيف. وأخرجه أيضاً: البزار (1/449، رقم 317) بنحو لفظ أحمد إلا أنه قال: «تسعين ألفاً» . وأعله الهيثمي في مجمع الزوائد (10/408) بعد عزوه للبزار بأبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم أيضاً. وأخرجه من طريق آخر ليس فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الحلكم في المستدرك (3/95، رقم 4504) من طريق راشد بن سعد أن أبا راشد حدثهم يرده إلى معدي كرب بن عبد كلال أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سافرنا مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - آخر سفره إلى الشام ... فذكره وأعقبه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ومشي هرقل مرة من حمص إلى بيت المقدس، قال العلماء: وقصة هرقل وسبب مشية إلى بيت المقدس كما ذكره الطبري وغيره أن كسرى أرسل جيشه إلى بلاد هرقل فخربوا كثيراً منها ثم استبطأ كسرى الأمير الذي أرسله إلى بلاد هرقل واسمه: «شهر براده» فعزله وأضم على قتله، وولي أمير غيره يقال له فارخان فسمع المعزول أن كسرى عزله فصالح هرقل واتفق معه على كسرى، وانهزم عنه بجنود فارس فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكر الله تعالى على كشف جنود فارس عنه، وكان يبسط البسط ويوضع عليها رياحين فيمشي. فلما وصل إلى بيت المقدس سنة ست من الهجرة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك فقال: «من ينطلق بكتابي هذا إلى قيصر فله الجنة» قالوا: وإن لم يقيل يا رسول الله قال: «وإن لم يقبل» فانطلق به دحية إلى أمير بصرى وهو: الحارث بن أبي شمر الغساني، فأرسله أمير بصرى إلى هرقل فوصل دحية بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل فقال هرقل قبل قراءة كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبعض بطارقته: «قلب لي الأرض ظهراً والبطن وأتني بمن يعرف هذا الرجل» يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: فتش لي على أحد يعرف هذا النبي الذي أرسل لنا هذا الكتاب حتى نسأله عن أحواله وعلامته الثابتة عندنا في التوراة والإنجيل، فذهب ذلك البطريق إلى غزة فرأى في غزة أبا سفيان ومعه جماعة من أهل مكة يبلغون ثلاثين، وقيل: عشرين وكلهم كانوا إذ ذاك كفاراً أو خرجوا من مكة إلى غزة للتجارة، فإن أهل مكة إذ ذاك يسافرون إليها للتجارة وكان

أبو سفيان كبيرهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صالح أهل مكة على ترك القتال عشر سنين، وذلك في الحديبية في أخر السنة السادسة، فخرج أبو سفيان ومن معه إلى غزة فرآهم البطريق هناك. هذا معنى قول البخاري: إن هرقل أرسل إلى أبي سفيان في ركب من قريش أي: حال كونه في ركوب وكانوا تجاراً بالشام. «في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها كفار قريش» أي: مصالحاً فيها أبا سفيان وكفار فريش، «وماد» فعل ماض من المفاعلة وهو الاتفاق على مدة مأخوذ من المداد ومن المدة. فلما رأى البطريق أبا سفيان ومن معه ساقهم إلى بيت المقدس حتى أحضرهم عند هرقل كما قال البخاري وهم بإيلياء. «فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم» ، والمراد: فدعاهم حال كونه جالساً في محل حكمه لا في خلوة ولا في الحرم أي: أمر بإحضارهم. وجاء في رواية: أنه كان على رأسه التاج وعظماء الروم مطبقون به من جوانبه. فائدة: الروم اسم لهذا الجبل المعروف من ولد الروم بن عيصوا فكأنه اسم أبيهم عليهم. «ثم» حضروا مجلسة ودعاهم أي: أستدعاهم. «ودعا ترجمانه» والترجمان: بفتح الياء والجيم وقد تضم التاء اتباعاً لها هو الذي يعبر لغة بلغة. فقال هرقل للترجمان قل لهم «أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان فقلت: أنا أقربهم نسبا به» وإنما كان أقربهم لأنه من بني عبد مناف، وعبد مناف الأب الرابع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا لأبي سفيان. قال أبو سفيان: وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيرى، وإنما خص هرقل الأقرب بالسؤال عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مطلع على أمره ظاهراً أو باطناً أكثر من غيره، وإلا يعد لا يؤمن أن تحمله العداوة على الكذب والقدح فيه بخلاف القريب فإن نسبه يمنعه من ذلك. «قال: أي هرقل لأصحابه أدنوه مني» أي: قربوا أبا سفيان مني «وقربوا أصحابه فأجعلوهم عند ظهره» ، والحكمه في جعل أصحابه وراء ظهره أنه إذا سأله عن شيء من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذب ردوا عليه أصحابه وبينوا كذبه، بخلاف ما إذا

جلسوا مواجهين له فقد يمنعهم الحياء من أن يواجوه بالتكذيب، إذا المقابلة بالتكذيب في الوجه صعبة. «ثم قال» أي: هرقل «لترجمانه قل لهم» أي: لأصحاب أبي سفيان «إني سائل هذا» أي: صاحبكم أبا سفيان «عن هذا الرجل» أي: الذي يزعم أنه نبي «فإن كذبني» أي: نقل إلى عن محمد بأن قال فيه خلاف الواقع «فكذبوه» أي: لا تستحيوا منه فتسكتوا عن تكذيبه بل كذبوه. «قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً بالكذب عليه» ، وفي نسخة «لكذبت عنه» وهي إما بمعنى لأخبرت عنه بالكذب، وإما بمعنى: على أي: لكذبت عليه. معنى كلام أبي سفيان: لولا الحياء من أن رفقتي يرون عني ويحكون في بلادي كذباً فأعاب به لأن الكذب قبيح وإن كان على العدو، لكذبت عليه لبغضي إياه ولمحبتي نقصه، ويعلم من هذا أن الكذب كان قبيحاً في الجاهلية. فائدة: صرح فقهاؤنا بأن شهادة العدو على عدوة لا تقبل للتهمة، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تقبل شهادة ذي غمر» (¬1) بكسر الغين أي: عدو حقود على أخيه ويفرح بمصيبته ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/545، رقم 2298) عن عائشة مرفوعاً بلفظ: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حداً ولا مجلودة ولا ذي غمر لأخيه ... الحديث» . قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، قال: ولا نعرف معنى هذا الحديث ولا يصح عندي من قبل إسناده، والعمل عند أهل العلم في هذا أن شهادة القريب جائزة لقرابته، واختلف أهل العلم في شهادة الوالد للولد، والولد لوالده، ولم يجز أكثر أهل العلم شهادة الوالد للولد ولا الولد للوالد. وقال بعض أهل العلم إذا كان عدلاً فشهادة الوالد للولد جائزة، وكذلك شهادة الولد للوالد ولم يختلفوا في شهادة الأخ لأخيه أنها جائزة، وكذلك شهادة كل قريب لقريبه. وقال الشافعي: لا تجوز شهادة الرجل على الآخر وإن كان عدلاً إذا كانت بينهما عداوة، وذهب إلى حديث عبد الرحمن الأعرج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا: «لا تجوز شهادة صاحب إحنة» يعني صاحب عداوة، وكذلك معنى هذا الحديث حيث قال: «لا تجوز شهادة صاحب غمر لأخيه» يعنى صاحب عداوة. والحديث رواه أبو داود (3/306، رقم 3600) من طريق سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه» . وأخرجه أيضاً: سنن ابن ماجه (2/792، رقم 2366) إلا أنه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ... به. قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/54) : هذا إسناد ضعيف لتدليس حجاج بن أرطأة، رواه من طريقه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده ... به، وله شاهد من حديث عائشة رواه الترمذي في الجامع.

ويحزن لمسرته، والعداوة وقد تكون من الجانبين وقد تكون من أحدهما، نعم لنا صورة تصح فيها شهادة العدو على عدوه، وهي ما كان بينهما عداوة دينية كشهادة المسلم على الكافر، والسني على المبتدع، فإن البغض لله ليس قادحاً في الشهادة فيمن أبغضته لفسقه قبلت شهادتك عليه، وأما الشهادة للعدو فأنها تقبل إذا لم يبغضه لعدم التهمة، والفضل ما شهدت به الأعداء. قال أبو سفيان: «ثم كان أول ما سألني عنه هرقل على لسان الترجمان أن قال: كيف نسبه فيكم» يعني هل من أشرافكم «قلت: هو فينا ذو نسب» أي: صاحب نسب عظيم. «قال» أي: هرقل «فهل قال هذا القول منكم أحد قط» يعني هل أدعى النبوة من قومكم قريش أو العرب أحد قط قبله؟ «قلت: لا» . «قال: فهل كان من آبائه من ملك» أي: من تولي الملك «قلت: لا» . «قال: فأشراف الناس» أي: كبارهم وأهل الأحساب منهم «اتبعوه أم ضعفاءهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم» . قول أبي سفيان أن الضعفاء اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الأكابر نظراً إلى غالب أتباعه، فلا يشكل بمن سبق إلى أتباعه من أكابر أشراف دينه كالصديق والفاروق وحمزه وغيرهم، وإنما كان أتباع الرسل الضعفاء دون الأشراف، لأن الأشراف يأنفون من تقديم مثلهم عليهم والضعفاء لا يأنفون بل يسرعون إلى الانقياد أتباع الحق. «قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد منهم أحد سخطة لدينه» أي: كرهه له بعد أن يدخل فيه، «قلت: لا» أي: لا يرتد أحد منهم لأجل كراهته لدين الإسلام بل إما مكرهاً وإما رغبة في غيره لحظ نفساني كما وقع لعبيد الله بن حجش. وارتد بعد الصحابة أيضاً جماعة لحظ نفساني كما يحكى أن مؤذناً أذن في منارة أربعين سنة فصعد يوماً وأذن حتى بلغ حي على الصلاة فوقع بصره على امرأة نصرانية

فذهب عقله ولبه، وترك الأذان وذهب إليها وخطبها فقالت: مهري ثقيل عليك، فقال وما هو؟ فقالت: تدخل في ديني فكفر بالله ودخل في دينها، فقالت: إن أبي في أسفل الدار فأنزل إليه واخطبني منه فنزل وزلت رجله فسقط ومات كافراً ولم يقض شهوته نسأل الله تعالى أن يمتنا على الإسلام بمنه وكرمه. «قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا» أي: لا نتهمه بالكذب، لكن ذكر ابن سيد الناس في السيرة أنه يروى في خبر أبي سفيان أنه قال لقيصر قد كذب قال: وما هو؟ قال: أنه زعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيليا ورجع في تلك الليلة قبل الصباح قال: وبطريق إيليا عند قيصر، فقال: صدق ما قال، وما أعلمك بهذا قال إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت بعمالى ومن يحضرني فلم نستطيع أن نحركه، كأنما نزاول جبلاً فدعوت النجاري فنظر إليه فقال: هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان فلا تستطيع أن نحركه حتى نصبح، فنظر من أين أتى فرجعت وتركت البابين مفتوحين فلما أصبحت غدوت عليها، فإذا الجبل الذي في زاوية المسجد منقوب، وإذا فيه أثر ربط الدآبة، فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا هذا، فقال قيصر: يا معشر الروم أنتم تعملون أن بين عيسى وبين الساعة نبياً بشركم به عيسى ترجون أن يجعله الله فيكم قالوا: بلى قال: فإن الله قد جعله في غيركم في أقل منكم عدداً وأصغر منكم بلاداً وهي رحمة يضعها حيث شاء. «قال فهل يغدر» أي: ينقض العهد «قلت: لا، قال أبو سفيان: ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها» . يعنى: صالحناه على ترك القتال مدة لا ندري ما يفعل في هذه المدة، وهذا منه أشارة إلى عدم الجزم بغدره. «قال أي: أبو سفيان ولم تملكني كلمة أدخل فيها شيئاً» أي: انتقصه به غير هذه الكلمة يعني قوله «ونحن في مدة منه لا ندري ما هو فاعل» فيها من قبيل إطلاق الكلمة على الكلمة. قال ابن مالك: * وكلمة بها كلام قد يؤم * ولم يمكنه أن ينتقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان يعلم من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - الوفاء والصدق.

«قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال» أي: نوبة لنا ونوبة له، ولله درمن قال: يوم علينا ويوم لنا ويوم نساء يوم لنرى السجال: جمع سجل وهو الدلو الكبير، والمتحاربين كالمستقين يستقي هذا دلو ذاك. وقوله: «ينال منا وتنال منه» قال البلقينى: هذا فيه دسيسة لأنهم لم ينالوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - قط والذي وقع في أحد أن بعض المقاتلين قتل وكان العزة والنصر للمؤمنين. «قال ماذا يأمركم قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول أباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف» أي: الكف عن المحارم وخوارم المرؤة. «والصلة» أي: صلة الرحم، وكم أمر الله به أن يوصل بالبر والإكرام والمراعاة ولو بالسلام والترحم، وأشار بقوله: «لا تشركوا، واتركوا» إلى التخلي عن الرذائل، وبقوله: «يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف» إلى التحلي بالفضائل، ومحصله أنه ينهانا عن النقائص ويأمرنا بالكمالات. «فقال» أي: هرقل فرغ من أسألته لأبي سفيان «للترجمان قل له» لأبي سفيان «سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذا الرسل تبعث في قومها» . يعني يكونون أفضل القوم أشرفهم لأن من شرف نسبه كان أبعد من انتحال الباطل وأقرب الانقياد الناس إليه. «وسألتك هل قال أحد منك هذا القول فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل تأسى» وفي رواية «يتأسى» ومعنى كل منهما يقتدي ويتبع بقول قيل قبله. «وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد عرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل» . معناه: أن أتباع الرسل في الغالب أهل الإستكانة لا أهل استكبار، الذين أصروا على الشقاق بغياً وحسداً كأبي جهل وأشياعه إلى أن أهلكهم الله تعالى، وأنقذ بعد

حين من أراد سعادته منهم، وكذلك أتباع العلماء العاملين هم أهل الاستكانة، لا أهل الذين جعلوا الدنيا نصب أعينهم. «وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم» . قال العلماء: وزيادتهم دليل على صحة النبوة لأنهم يرون كل يوم يتجدد فيدخل فيه كل يوم طائفة. «وسألتك أيرتد منهم أحداً سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب» فإن الإيمان لا يدخل قلباً فيخرج منه فإنه يظهر نوراً، ثم لا يزال حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وغيرها. لطيفة: حكى الإخباريون أنه كان في زمن فرعون امرأة ماشطة مؤمنة بموسى في الباطن، فبينما هي تمشط جارية من جواري فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت تعساً لفرعون ومن يعبده، فقالت لها الجارية: يا هذه ما هذا الكلام الذي سمعت؟ فقالت: هو كما سمعت، فقالت الجارية لها: فكلامك هذا يدل على أن ربك غير فرعون، فقالت: ورب الكعبة الله ربي وربك ورب فرعون ورب الخلائق أجمعين لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون، قالت الجارية: وأين يكون ربك هذا؟ قالت: في السماء قدرته وفي الأرض سلطانه، قالت لها الجارية: فأنا أخبر فرعون بهذا، قالت الماشطة: دونك وفرعون فأخبريه بما شئت، فدخلت الجارية على فرعون وخرت له ساجده وقالت له: إن فلانة الماشطة تزعم أن لها رباً غيرك فغضب فرعون وبعث إلى زوجها وقال: ما هذا الذي تقول زوجتك؟ قال: وما الذي تقول؟ قال فرعون: تزعم أن لها رباً سواي، قال زوج الماشطة: صدقت، الله ربنا وربك ورب الخلائق أجمعين لا إله إلا الله هو رب العرش العظيم، فاشتد غضبه من كلامه، وقال: لئن لم تنهيا عن هذا الكلام لأغلين لكما الزيت ولأطرحنكما فيه، قال: دونك فأصنع ما أنت صانع، فأمر فرعون بإحضار قدرة ثم ملئت زيتا ثم غلي الزيت، فلما نظرت المرآة إلى غليانة أيقنت بالهلاك والموت، فأقبلت على فرعون وقالت له: إن لي عندك حاجة فقال لها: تقضى، فقالت: إن كان ولابد من عذابنا فقدم أولادي أمامي وفعلت ذلك ليعظم أجرها بصبرها، فأمر فرعون بأولادهم في الزيت وهي تنظر إليهم، فنادها الولد الصغير: يا أماه العجل العجل فإنك على الحق وفرعون على الباطل، وهو من يعبده في النار،

فألقت نفسها على أثر أولادها، ثم تبعها أبو أولادها (¬1) . فانظر إلى هذا الثبات على الإيمان والصبر على العذاب لحصول النعيم االأبدي. «قال هرقل لأبي سفيان وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر» . أي: لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، وبخلاف من طلب الآخرة فإنه لا يرتكب غدراً ولا غيره من القبائح. «وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف» . ثم قال هرقل بعد فراغه من الأسئلة وأجوبتها «فإن كان ما تقول يا أبا سفيان حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين» . أي: بيت المقدس وأراد الشام وفي مسلم: «فإن يك ما يقوله حقاً فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج فلم أكن أظن أنه منكم معاشر العرب» (¬2) كأنه استبعد أن يتنبأ من العرب. فإن قيل: من أين كان يعلم بخروج المصطفي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال: كنت أعلم أن خارج؟ فالجواب: أن الكرماني قال في هذا: اعلم أن كل الذي قاله هرقل مأخذه إما من القرائن العقلية، وإما من الأحوال العادية، وإما من الكتب القديمة. وقال ابن الملقن: إنما علم ذلك من التوراة والإنجيل. وقال المازري (¬3) : هذه الأشياء الذي يسأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة إلا أنه يحتمل أنه كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه، لأنه قال: وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم. ثم قال هرقل «فلو أني أعلم أني أخلص إليه» أي: أصل إليه «لتجشمت لقاؤه» أي: لتكلفت لقاؤه على خطر ومشقة، وحملت نفسي على الارتحال إليه لو كنت أتيقن الوصول إليه، لكني أخاف أن يعوقني عائق فأكون قد تركت ملكي، ولم أصل إلى خدمته. «ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه» أي: مبالغة في العبودية والخدمة، واقتصاره على غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه إذ وصل إليه ولاية، ولا منصباً وإنما ¬

(¬1) هذا مشهور بماشطة وله ألفاظ متقاربة فأخرجه أحمد في مسنده (1/309، رقم 2822) ، وابن حبان في صحيحه (7/163، رقم 2903) ، والحاكم المستدرك على الصحيحين (2/538، رقم 3835) ، وأبو يعلى (4/394، رقم 2517) ، والطبراني في المعجم الكبير (11/450، رقم 12279) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/243، رقم 1636) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/275، رقم 288) عن ابن عباس. (¬2) انظر: رواية الإمام مسلم للحديث في صحيحه (3/1393، رقم 1773) . (¬3) المازري هو: محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، أبو عبد الله، محدث، من فقهاء المالكية مولده سنة: 453 هـ‍، نسبته إلى «مازر» بجزيرة صقلية، ووفاته بالمهدية له: المعلم بفوائد مسلم في الحديث، وهو ما علق به على صحيح مسلم، حين قراءه، ومن كتبه: التلقين في الفروع، والكشف والانباء في الرد على الإحياء للغزالي، وإيضاح المحصول في الأصول، وكتب في الأدب، وكانت وفاته سنة: 536هـ‍.

يطلب ما يحصل البركة. قال العلماء: ولا يحكم بإيمانه بقوله هنا: إني أخاف أخلص إليه لتجشمت لقاؤه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولا بقوله فيما سيأتي، حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروجه - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي، ولا بقوله: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي، وإنما لم يحكم بإيمان بذلك لأنه ظهر منه ما ينافيه حيث قال: قلت: مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فعلمنا أن ما صدر منه لم يصدر عن التصديق القلبي والاعتقاد الصحيح، بل لامتحان الرعية، بخلاف إيمان ورقة بن نوفل فإنه صحيح لأنه لم يظهر منه ما ينافيه. وقال النووي: لا عذر له في قوله: لو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاؤه» لأنه قد عرف صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما شح بالملك ورغب بالسياسة، وآثرها على الإسلام كما ورد في هذا الصحيح، ولو أراد الله لوفقه كما وفق النجاشي ومازالت عنه الرئاسة. وقال الخطابي: إذا تأملت معاني استقراؤه من أوصافه تبينت قوة إدراكه، فلله درة من رجل ما كان أعقله لو ساعد معقوله مقدوره. وقال شيخ الإسلام ابن حجر: يقوي أن هرقل آثر ملكه على الإيمان واستمر على الضلال أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين. ويدل على عدم إيمانه أيضاً ما رواه ابن حبان في صحيحة أنه قارب الإجابة ولم يجب (¬1) . وورد أيضاً في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني مسلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كذب بل هو باق على نصرانيته» (¬2) . ¬

(¬1) لم نقف عليه عند ابن حبان بهذا اللفظ وسيأتي في تخريج الحديث الآتي لفظ آخر عند ابن حبان، وربما رواه في غير الصحيح، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (1/37) وعزاه إليه من حديث أنس بن مالك قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أيضاً من تبوك يدعوه وأنه قارب الإجابة ولم يجب. (¬2) لم نقف عليه في مسند أحمد وأورده أيضا الحافظ في الفتح (1/37) ، إلا أننا وقفنا على رواية لابن حبان بمعناه (10/357، رقم 4504) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ينطلق بصحيفتي هذه الى قيصر وله الجنة» فقال رجل من القوم: وإن لم أقتل؟ قال: «وإن لم تقتل» فانطلق الرجل به فوافق قيصر، وهو يأتي بيت المقدس قد جعل له بساط لا يمشي عليه غيره، فرمى بالكتاب على البساط وتنحى فلما انتهى قيصر إلى الكتاب أخذه ثم دعا رأس الجاثليق فأقرأه فقال: ما علمي في هذا الكتاب إلا كعلمك فنادى قيصر: من صاحب الكتاب فهو آمن، فجاء الرجل فقال: إذا أنا قدمت فأتني فلما قدم أتاه فأمر قيصر بأبواب قصره فغلقت، ثم أمر مناديا ينادي ألا إن قيصر قد اتبع محمدا - صلى الله عليه وسلم - وترك النصرانية فأقبل جنده وقد تسلحوا حتى أطافوا بقصره، فقال لرسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترى إني خائف على مملكتي، ثم أمر مناديا فنادى ألا إن قيصر قد رضي عنكم وإنما خبركم لينظر كيف صبركم على دينكم، فارجعوا فانصرفوا وكتب قيصر الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني مسلم وبعث إليه بدنانير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ الكتاب: «كذب عدو الله ليس بمسلم وهو على النصرانية» وقسم الدنانير.

وورد أيضاً بطريق ضعيف كما قاله الطبراني أنه قال: أعرف أنه كذلك، أنه نبي ولكن لا أستطيع أن أفعل أن أبايعه، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم (¬1) . قال شيخ الإسلام ابن حجر (¬2) : لو تفطن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابه: «أسلم تسلم» وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله سبحانه وتعالى. وأما قول صاحب الاستيعاب: «آمن» فمحمول على أنه أظهر الإيمان لكنه لم يستمر عليه، وشح بملكه وخاف أن يقتله قومه وآثر الفانية على الباقية والله الموفق. وقال أبو سفيان «ثم دعا هرقل بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث» أي: أرسله «مع دحية إلى عظيم بصرى» أي: أميرها «فدفعه إلى هرقل» . قال العلماء: يجوز في دال دحية الفتح والكسر، ويقال له دحية الكلبي وهو دحية بن خليفة، وكان - رضي الله عنه - من أجمل الصحابة وجهاً ومن كبارهم وكان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا على صورته (¬3) . ¬

(¬1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/225، رقم 4198) عن دحية الكلبي. ورواه أيضاً: الأصبهاني في دلائل النبوة (ص 153، رقم 168) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/306) : رواه الطبراني وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف. (¬2) انظر: فتح الباري (1/37) . (¬3) حديث إتيان جبريل في صورة دحية الكلبي أخرجه النسائي (8/101، رقم 4991) والبزار (9/419، رقم 4025) كلاهما من حديث أبي هريرة. وأخرجه الطبراني فى المعجم الكبير (1/260، رقم 758) ، وفي المعجم الأوسط (1/7، رقم 7) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/175، رقم 6257) من حديث عائشة. وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/780، رقم 18) من حديث شريح بن عبيد. وأخرجه ابن سعد في الطبقات لكبرى (4/250) من حديث ابن عمر جميعاً بلفظ: «كان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي» .

وذكر السهيلي عن ابن عبد السلام في قوله تعالى ?أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا? [الجمعة: 11] قال: كان اللهو ونظرهم إلى وجه دحية لجماله. وروي أنه كان إذا قدم الشام لم تبق امرأة مخدرة إلا خرجت تنظر إليه، أسلم قديماً ولم يشهد بدراً وشهد المشاهد بعدها، وبقي إلى خلافة معاوية وسكن «المزة» قرية بقرب دمشق. «فأخذ هرقل الكتاب فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله» إنما قال: عبد الله تعريضاً ببطلان ما تقوله النصارى من أن المسيح هو ابن الله، لأن حكم الرسل كلهم واحد في كونهم عباد الله، وقال: عبد الله ورسوله ولم يعكس من باب الترقي. «إلى هرقل عظيم الروم» إنما قال - صلى الله عليه وسلم - عظيم الروم، ولم يقل ملك الروم لأنه معزول عن الملك بحكم دين الإسلام، ولا سلطنة لأحد إلا من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن لم يُخْلِه - صلى الله عليه وسلم - من نوع الإكرام في المخاطبة، ليكون أخذ بأدب الدين في تليين القول لمن يدعوه إلى دين الحق، فلهذا قال: عظيم الروم، أي: الذي تعظمه الروم ولم يقل إلى هرقل فقط وقد أمر الله بتليين القول لمن يدعى إلى الإسلام فقال ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ? [الإسراء: 125] . «سلام على من اتبع الهدى» لم يقل - صلى الله عليه وسلم -: سلام عليك، إذ الكافر لا سلام عليه دون لأنه مخزي في الدنيا بالحرب والقتل والسبي، وفي الآخرة معذب بالعذاب الأبدي، وفيه إشعار بأنه إذا اتبع الهدى كان من أهل السلامة. فائدة: قال العلماء: لا يجوز للمسلم أن يسلم على الكافر لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ذلك بقوله «لا تبدأو اليهود والنصارى بالسلام» (¬1) . وليس المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «على من اتبع الهدى» التحية بل معناه: سلم من ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1707، رقم 2167) ، والبخاري في الأدب المفرد (ص 380، رقم 1111) ، والترمذي في سنن الترمذي (4/154، رقم 1602) ، وأحمد في مسنده (2/266، رقم 7606) جميعاً عن أبي هريرة.

عذاب الله لمن أسلم، فلو سلم على من لم يعرفه فبان ذمياً أُستحب أن يسترد سلامة بأن يقول: استرجعت بسلامي تحقيراً له، نعم يجوز للمسلم أن يحيي الذمي بغير السلام بأن يقول: هداك الله أو أنعم الله صباحك، ولو سلم الذمي على المسلم وجب أن يرد عليه ولم يزد في الرد على قوله وعليك لخبر الصحيحين «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» (¬1) ، وفي هذا الصحيح «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم فقولوا وعليك» (¬2) . «أما بعد» يجوز في دال أما بعد أربعة أوجه الضم والفتح والرفع مع التنوين والنصب معه أيضاً، واختلف العلماء في أول من نطق بها على أقوال: فقيل: داود، وقيل: قس بن ساعده، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: سحبان، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولها في خطبة وشبهها روى ذلك عنه عدة من الصحابة. «فأنا أدعوك بدعائه الإسلام» أو بدعوة الإسلام، أي: آمرك بكلمة التوحيد وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله التي يدعى إليها الأمم. وفي هذا الصحيح في الجهاد: «أدعوك بدعاية الإسلام» أي: بالكلمة الداعية إلى الإسلام «أسلم تسلم» أي: إن أسلمت تبق سالماً وهذا من محاسن الكلام وبليغة وإيجازه واختصاره، وفيه نوع من البديع وهو الجناس فهو كقوله تعالى ?وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ? [النمل: 44] . «يؤتك الله أجرك مرتين» جواب ثاني للأمر إن أسلمت تسلم يؤتك الله أجرك مرتين عند الإسلام، كونه كان مؤمناً بعيسى ثم آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. قال البرماوي آخر كتاب النكاح: «فائدة: قال العلماء: في قوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه الذي كتبه إلى قيصر: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» هذا يدل على أن قيصر كان على دين عيسى - عليه السلام - حين كان حقاً قبل التبديل والنسخ، وإلا فلم يكن له أجره مرتين لو أسلم» . ويدل على أنه وأصحابه أهل كتاب لأنه خاطبه بيأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ويحتمل أنه يكون تضعيف الأجر له مرتين من جهة إسلامه ومن ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2309، رقم 5903) ، ومسلم (4/1705، رقم 2163) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: صحيح البخاري (5/2309، رقم 5902) رواه البخاري عن ابن عمر.

جهة أن إسلامه يكون سبباً لدخول اتباعه في دين الإسلام. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن توليت» أي: أعرضت عن الإسلام «فإن عليك إثم الأَرِيسِيِّينَ» أي: الأكارين وهم الفلاحون، وأرد - صلى الله عليه وسلم - أن عليك إثم جميع رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك، وإنما اقتصر على الزارعين منهم لأنهم كانوا هم الأغلب فيهم، لأنهم أسرع في الانقياد، فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا، حذره - صلى الله عليه وسلم - إذا كان رئيساً متبوعاً مسموعاً أن يكون عليه إثم الكفر وإثم من عمله، قال عليه الصلاة والسلام: «من عمل سيئة كان له إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة» (¬1) وتقديم لفظ عليك على اسم أن مفيد للحصر أي: ليس أثمه إلا عليك. قال شمس الأئمة الكرماني: فإن قلت: فكيف يكون إثم غيره عليه وقال تعالى ?وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الزمر: 7] قلت: المراد إثم الإضلال عليه والإضلال أيضاً كالضلال على أنه معارض لقوله تعالى ?وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ? [العنكبوت: 13] . قال ابن حجر: وفي الكلام حذف دل المعنى عليه وهو فإن عليك مع إثمك إثم الأَرِيسِيِّينَ لأنه إذا كان إثم الأتباع عليه بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر، فلأن يكون عليه إثم نفسه. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - ?يَا أَهْلَ الكِتَابِ? وهو عطف على بسم الله الرحمن الرحيم ?تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? [آل عمران: 64] . والحكمة في تخصيص هذه الآية بالإرسال إلى هرقل دون غيرها من الآي أنه نصراني، والنصارى جمعت هذه الأمور الثلاثة عبدوا غير الله وهو عيسى، وأشركوا بالله فقالوا إنه ثالث ثلاثة، واتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، قال الله تعالى ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ? [التوبة: 31] . قال أبو سفيان «فلما قال» يعني هرقل «ما قال» أي: من الأسئلة والأجوبة ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2059، رقم 1017) عن جري بطرف: «من سن سنة ... » . وأخرجه أيضاً: الترمذي (5/43، رقم 2675) ، والنسائي في سننه (5/75، رقم 2554) ، وابن ماجه (1/74، رقم 203) ، وأحمد في مسنده (4/361، رقم 19223) ، والدارمي في سننه (1/141، رقم 514) .

«وفرغ من قراءة الكتاب» أي: كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، «كثر عنده» أي: عند هرقل، «الصخب» أي: اللغط وهو أصوات مختلفة مبهمة لا تفهم، فلا أدري ما قالوا، «وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي: أخرجنا» أي: من مجلسه «لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة» هذا جواب لقسم محذوف تقديره: والله قد أمر أي: أعظم أمر أبن أبي كبشه أي: أمر محمد. وأختلف العلماء في أبي كبشه الذي نسبه إليه أبو سفيان هنا فقيل كان رجلاً من خزاعة خالف قريشاً في عبادة الأوثان، وكان يعبد الشعرى، ولم يوافقه أحد من العرب على ذلك، فشبهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعلوه ابناً له لمخالفته إياهم في دينهم كما خالفهم أبو كبشه. وقيل: أبو كبشة جد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل أمه من الرضاع، وقيل: من قبل أمة وإنما نسبوه إلى هذا الجد تحقيراًٍ له بنسبته إلى غير نسبه المشهور، فإنه كان من عادة العرب إذا انتقضت أحداً نسبه إلى جد غامض. فائدة: لم يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده قط أحداً سوى أبي بن خلف قاله في البرهان في شرح السيرة، ولما طعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: طعنني ابن أبي كبشة قاله ابن الملقن. ثم قال أبو سفيان «إنه يخافه ملك بني الأصفر» أي: ملك الروم وسمى الروم الأصفر فقيل: لأن جدهم روم بن غيص بن إسحاق بن إبراهيم تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد، فقيل له: الأصفر، وقيل لأولاده بنو الأصفر، وقيل: لهم بني الأصفر لأن جيشًا من الحبشة غلب على ناحيتهم في وقت، فوطئ نساءهم فولدن أولادًا صفرًا من سواد الحبشة وبياض الروم. قال أبو سفيان «فمازالت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام» وتقدم أنه أسلم ليلة الفتح، قال بعضهم: لم يسلم ليلة الفتح إلا في الظاهر فلهذا أظهر النفاق بعدها في غزوة حنين، ثم حسن إسلامه في الطائف، وإيمانه - رضي الله عنه - صحيح خلافاً لما يقع في بعض التواريخ، وتقدم أن أبا سفيان كان يسمى بصخر، وكان يسمى أبوه حرب، وكان جده يسمى بأميه بن أبي الصلت، وكان أميه شاعراً وكان شعره مشتملاً على الوحدانية والبعث، وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - شعره فقال: «لقد كاد أن يسلم» قال ذلك لما سمع قوله: لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ... فلا شيء أعلا منك حمداً وأمجدا وكان أبوه قد قرأ التوراة والإنجيل في الجاهلية، وكان يعلم بأمر - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه

فطمع أن يكون هو، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وصرفت النبوة عن أميه حسده وكفر وأنزل في حقه كما قاله عبد الله بن عمرو بن العاص ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ? [الأعراف: 175] ، وأما ولده حرب جده معاوية فإن الجن قتلوه بمفازة وأنشدوا فيه. وقبر حرب بمكان فقر وليس قرب قبر حرب قبر ولقتله سبب ذكره الكمال الدميرى في الغراب. قال الإمام النووي - رضي الله عنه -: اعلم أن هذه القطعة أي: من قصة هرقل مشتملة على جميل من القواعد ومهمات من الفوائد: منها: جواز مكاتبة الكفار وقد كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة من ملوك الكفار غير هرقل كما سنذكرهم في محلهم إن شاء الله تعالى. ومنها: دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم. ومنها: استحباب تصدير الكتب بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافراً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر قبل نزول البسملة يصدر كتابه باسمك اللهم على طريقة قريش حتى نزلت ?بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا? [هود: 41] فكتب بسم الله حتى نزلت ?قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ? [الإسراء: 110] فكتب بسم الله الرحمن حتى نزلت ?إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? [النمل: 30] فكتبها. ومنها: أن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس أن بيد الكتاب بنفسه فيقول من فلان إلى فلان، وإن كان المرسل إليه أعظم من المرسل كما عليه الأكثر، قال الربيع بن أنس ما كان أحد أعظم حرمة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان أصحابه يكتبون إليه مبتدين بأنفسهم وهم مقتدون في ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه بدأ بنفسه لما كاتب هرقل وغيره فقال: من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. وروى: أن هرقل لما أخرج كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقرأه فرأى أخو هرقل أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بنفسه فأخذ الكتاب ليمزقه فأخذه هرقل وقال: أنت أحمق صغير وأحمق كبير , وقرأه. ومنها: أن فيه دلالة على جواز معاملة الكفار بالدراهم المنقوشة فيها بسم الله للضرورة، ونقل عن مالك الكراهة. ومنها: أن فيه دلالة على جواز مسافرة المسلم إلى أرض الكفار. ومنها: أن فيه دلالة على جواز بعث آية من القرآن ونحوها إليهم، نعم لا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الكفر، وكذلك لا يجوز المسافرة بحمله منه خوفاً من وقوعه

في أيدي الكفار، وعليه يحمل النهي عن المسافرة بالقرآن إلى بلاد العدو. ومنها: أن فيه دلالة على أن العدو لا يؤمن أن يكذب على عدوه. ومنها: وجوب العمل بخبر الواحد، وإلا لما بعثه مع دحية وحده، وذلك بإجماع من يعتد به. ومنها: أن فيه دلالة على جواز مس الجنب أو الكافر ما في الكتاب وغيره إذا كان غير القرآن أكثر. ومنها: أنه لابد من استعمال الورع في الكتابة، فلا يفرط ولا يفرط، ولهذا قال له: هرقل عظيم الروم. ومنها: استحباب البلاغة والإيجاز، وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة، فإن قوله: أسلم تسلم في نهاية الاختصار والبلاغة وجمع المعاني. ومنها: أن من أدرك نبيين متبعاً لهما فله أجره مرتين. ومنها: أن صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلاماته كان معلوماً لأهل الكتاب علماً قطعيًا، وإنما ترك الإيمان منهم من تركه عنادًا وخوفًا على فوات مناصبهم. ومنها: أن من كان سببًا للضلالة أو منع هداية كان إثما. ومنها: استحباب أما بعد في الخطب والمكاتبات ونحوها. فائدة: ذكر بعض شراح البخاري أن دحية لما قدم على هرقل قال له: يا قيصر أرسلني من هو خير منك، والذي أرسله خير منه ومنك، فاسمع بذل وأجب تنصح، فأنك إن لم تذل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف، قال: هات، قال: هل تعلم أكان المسيح يصلي؟ قال: نعم، قال فأني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له، وأدعوك إلى من خلق السماوات والأرض، والمسيح في بطن أمه، وأدعوك إلى هذا النبي الأمي الذي بشر به موسى وبشر به عيسى بن مريم بعده، وعندك من ذلك آثار من علم يكفي من العيان، ويشفي من الخبر، فإن أحببت كان لك الدنيا والآخرة وإلا ذهبت عنك الآخرة وشوركت في الدنيا، اعلم أن لك رباً يقصم الجبابرة ويقرر النعم، فأخذ قيصر الكتاب فوضعه على عينه ورأسه وقلبه، ثم قال: والله ما تركت كتاباً إلا قرأته ولا عالماً إلا سألته، فما رأيت إلا خيراً فأمهلني حتى انظر من كان المسيح يصلي له، وأنا أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غداً ما هو أحسن منه، فأرجع عنه فيضرني ولا ينفعني، أقم حتى انظر فلم يلبث أن أتته وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. خاتمة: روي أن هرقل وضع كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه في قصعة من ذهب تعظيماً

له، وأنهم لم يزالوا يتوارثون كابرًا عن كابر في أرفع صوان وأعز مكان. قال شيخ الإسلام ابن حجر: أنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي قال: حدثني سيف الدين المنصوري قال: أرسلني ملك الإفرنج في شفاعة فقبلها وعرض على الإقامة عنده فقال: لأتحفنكم بتحفة سنية، فأخرج لي صندوقًا مصحفًا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب فأخرج منه كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، مازلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا أباؤنا عن أبائهم إلى قيصر أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصاري ليدوم الملك فينا. ويؤيد هذا ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء جواب هرقل قال: «ثبت ملكه» (¬1) . قال ابن حجر: ثم قال البخاري «وكان ابن الناظور» روي بالطاء المهلمة وبالظاء المعجمة ومعناه: حافظ الزرع والناظز إليه، وهو معطوف على وأخبرني عبيد الله، والتقدير: عن الزهري، وأخبرني عبيد الله ... فذكر الحديث، ثم قال الزهري: «وكان الناظور صاحب إيلياء وهرقل أسقفاً على نصارى الشام» ، وهرقل مجرور بالعطف على إيلياء أي: كان ابن الناظور صاحب إيلياء وصاحب هرقل أسقفًا. قال الكرماني: ولفظ الصاحب هذا بالنسبة إلى هرقل حقيقة فإنه بمعني الصديق وبالنسبة إلى إيلياء مجازًا إذا المراد الأحكام فيه، وإرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ واحد باستعمال واحد جائز عند الشافعي، وإما عند غيره فهو مجاز بالنسبة إلى المعنيين باعتبار معنى شامل لهما، ومثله يسمى بعموم المجاز، ويجوز في صاحب النصب على الاختصاص أي: على الحال، والرفع على أنه مبتدأ محذوف، وقوله «يحدث» خبر «كان» . فائدة: النصارى جمع نصراني سمو بذلك لنصره بعضهم بعضاً، أو لأنهم نزلوا موضعاً يقال له نصرانه أو ناصره، أو لقوله تعالى ?مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ? [الصف: 14] والمعنى: أن هرقل لما وصل إلى بيت المقدس، وكان إذ ذاك ببيت المقدس حاكم يقال له ابن الناظور وكان صاحب هرقل وكان أسقفاً على نصارى الشام أي: عالمهم وقاضيهم ومقتداهم «وكان يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء» أي: في الأيام التي انتصرت جنوده على جنود فارس وأخرجهم من بلاده , «وأصبح يوماً خبيث ¬

(¬1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/177، رقم 18386) من قول الشافعي.

النفس» أي: رديء النفس غير طيبها أي: أصبح ما غير نشط ولا منبسط «فقال له بعض بطارقته» أي: خواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم «قد استنكرنا هيئتك» أي: أنكرنا حالتك أي: رأيناها مخالفة لسائر الأيام «قال ابن الناظور: وكان هرقل حَزَّاءً ينظر في النجوم» يحتمل أن يكون خبراً ثانياً لكان لأنه ينظر في الأمرين، ويحتمل أن يكون تفسيراً لحزاء، فإن الكهان تارة تستدل إلى اللقاء الشيطان الشياطين، وتارة يستفاد من إحكام النجوم، وكان كلاً من الأمرين في الجاهلية شائعاً ذائعاً، إلى أن أظهر الله الإسلام فانكسرت شوكتهم وأبطأ الشرع الاعتماد عليهم. وقال لهم هرقل حين سألوه أي: عما استنكره منه «إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان» أي: رأيت الطائفة الذين يقطعون الجلدة التي فوق الحشفة «قد ظهر» أي: غلبوا وملكوا يعني له نظره في النجوم، أن الملك ينتقل عنهم إلى الطائفة الذين يختتنون، فإن النصارى لا تختتن، وكان أدرك ذلك وحصله من حساب المنجمين، فإنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج العقرب، وهم يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي المثلثة بروجها في ستين سنة، فكان في ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيىء جبريل بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر ومكة ظهور الإسلام، وعندهم أن برج العقرب مائي وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون وكان دليلاً على انتقال الملك للعرب. فإن ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية قول المنجمين والاعتماد على ما يدل أحكامهم. فالجواب: أنه قصد أن يبين أن البشارات بالنبي جاءت من طريق، وعلى كل لسان رفيق من كاهن أو منجم محق أو مبطل. ثم سأل هرقل «فمن يختتن من هذه الأمة» أي: من أهل هذا العصر وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز «قالوا: ليس يختتن إلا اليهود» والحصر في قوله «إلا اليهود» بمقتضي علمهم لأن اليهود كانوا بإيليا تحت الذل مع النصاري بخلاف العرب، ثم قالوا: «فلا يهمنك شأنهم» أي: هم أحقر من أن تهتم لهم أو تبالي بهم «واكتب مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم» أي: في هذه المشورة أبي هرقل برجل أرسل إليه به أي: صاحب بصرى واسمه الحارث بن أبي شمر هلك على كفره، وكان من ملوك اليمن سكنوا الشام «يخبر عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما استخبره هرقل» أي: سأله عن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره عنها قال:

«اذهبوا به» أي: بالرجل المخبر «فانظروا أمختتن أو لا» أي: أمختونا هو أم لا «فنظروا إليه فحدثوه انه مختتن» . قال الكرماني: وهذا صحيح وصريح في أن العرب قبل البعثة كانوا يختتون. «وسأله عن العرب فقال: هم يختتون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة» أي: ملك أهل العرب قد ظهر، «ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية» ويجوز فيها تخفيف الياء وتشديدها كما ضبطه الكرماني بذلك؟ وقال ابن الملقن: رومية بضم الراء تخفيف الياء مدينة معروفة بالروم وكانت مدينة رياستهم، ويقال: إن روماس بناها. قال البلقيني (¬1) : اسم صاحبه برومية ضغاطر الأسقف الرومي، وقيل: بقاطر آمن برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتل بين يدي هرقل أي: كتب إليه من بيت المقدس يسأله عن هذا الأمر «وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص» يفارقها حتى «أتاه كتاب من صاحبه» أي: الذي برومية «يوافق رأي هرقل على خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي» . قال شيخ الاسلام ابن حجر: هذا يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لكن هرقل لم يستمر على ذلك بخلاف صاحبه، «فأذن حينئذ هرقل لعظيم الروم في دَسْكَرَةٍ له بحمص» والدسكرة بفتح الدال والكاف والراء وسكون السين بينهما بناء كالقصر حواليه بيوت ومنازل للخدم والحشم، والمعنى: أذن هرقل لعظماء الروم في دخول الدسكره، وكانه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التي حوله، وأذن للروم في دخولها ثم أغلقها بعد دخولهم ثم أطلع عليهم كما صرح بذلك بقوله «ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم أطلع» أي: خرج من حرمه وظهر للناس «فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح» أي: في الفوز «والنجاة والرشد» أي: الخير «أن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي» هكذا أكثر الأصول في البيعة، وفي بعضها «فتتابعوا» من المتابعة، وهو الاقتداء «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ» أي: نفروا حين سمعوا منه هذا الكلام وكروا راجعين نفرة الوحوش، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل، وعدم الفطنة بل هم أضلوا حتى وصلوا إلى الأبواب فوجدها قد غلقت «فلما رأى» أي: هرقل «وأيس من الإيمان» أي: إيمانهم لما أظهروه، وايمانه أنه كان شح بنفسه بملكه، وكان يحسب أن يطيعوه فيستمر ملكه «قال: ردوهم علي فقال: إني قلت مقالتي الساعة» ويجوز فيه المد وهو الأكثر الأشهر ويجوز القصر «اختبر بها شدتكم ¬

(¬1) البلقيني هو: صالح بن عمر بن رسلان البلقيني الشافعي شيخ الاسلام، مولده سنة: 791 هـ‍، قاض، من العلماء بالحديث والفقه، مصري، تفقه بأخيه عبد الرحمن بالقاهرة، وناب عنه في الحكم، ثم تصدر للافتاء والتدريس بعد موته سنة 824 هـ‍، وولي قضاء الديار المصرية سنة من سنة 825 إلى 827، وعزل وأعيد ست مرات، وتوفي وهو على القضاء، من كتبه: ديوان خطب، والغيث الجاري على صحيح البخاري، والجوهر الفرد فيما يخالف فيه الحر العبد، وهي رسالة، وتتمة التدريب، أكمل به كتاب أبيه، والتجرد والاهتمام بجمع فتاوي الوالد شيخ الإسلام، والتذكرة، والقول المقبول فيما يدعى فيه بالمجهول، توفي بالقاهرة سنة: 868 هـ‍.

على دينكم» أي: امتحن فيها رسوخكم في دينكم «وقد رأيت منكم الذي أحببت، فسجدوا له ورضوا عنه وكان ذلك آخر شأن هرقل» أي: في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصته. وقد ذكر البخاري حديث هرقل في كتابه في عشر مواضع والله أعلم (¬1) . قال ابن رجب: قوله «وكان آخر شأن هرقل» الظاهر أنه من كلام الزهري ومراده: أن هذا آخر ما بلغه من خبره والله اعلم بالحال وإليه المرجع وإنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير. * * * ¬

(¬1) بالإستقراء وجدناه في أحد عشر موضعاً: الأول: هاهنا، والثاني: (1/28، رقم 51) ، والثالث: (2/952، رقم 2535) ، والرابع: (3/1032، رقم 2650) ، والخامس: (3/1074، رقم 2782) ، والسادس: (3/1087، رقم 2816) والسابع: (3/1158، رقم 3003) ، والثامن: (4/1657، رقم 4278) ، والتاسع: (5/2230، رقم 5635) ، والعاشر: (5/2310، رقم 5905) ، والحادي عشر: (6/2632، رقم 6771) وهو في هذه المواضع مسنداً في بعضها بتمامه وفي أكثرها بأجزاء منه. ورواه معلقاً في ثلاثة مواضع: الأول: (1/116) باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ... وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم و ? يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة ... ? الآية. الثاني: (1/135) باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء وقال بن عباس حدثني أبو سفيان في حديث هرقل فقال: يأمرنا يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة والصدق والعفاف. والثالث: (6/2742) باب: ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها ... وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأه.

المجلس الثاني عشر

المجلس الثاني عشر كتاب الإيمان في الكلام على الإيمان وشروط الإسلام وفيه فوائده ولطائف كثيرة وأفتح هذا المجلس بخطبة فتح الباري لشيخ الإسلام ابن حجر لمناسبتها وانساجمها فأقول: الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإيمان بالهدى، ونكت في قلوب أهل الطغيان فلا تعي الحكمة أبدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً فرداً صمداً وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، ما أكرمه عبداً وسيداً وأعظمه أصلاً ومحتداً، وأطهره مضجعاً ومولداً، وأبهره صدراً ومورداً صلى الله عليه وسلم وعلى إله وصحبه غيوث الندا، وليوث العدا، صلاةً وسلاماً دائمين من اليوم وإلى أن يبعث الناس غدا. «كتاب الإيمان» لما فرغ البخاري رحمه الله من كتاب بدء الوحي عقبة بذكر الإيمان، وقدوم الإيمان على الصلاة وغيرها لأنه أصل لجميع العبادات، أو شرط لصحتها فالعبادات كلها مبينة عليه، وبه النجاة في الدارين. والكتاب: في اللغة الضم والجمع، وأما الكتاب في اصطلاح المصنفين فهو اسم لضم مخصوص، أو لجملة مختصة من العلم مشتملة على أبواب وفصول، أو مسائل غالباً، وهو مصدر كتب لكنه اسم مفعول مجاز أي: المكتوب فهو على حد قوله تعالى ?هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي? [لقمان: 11] أي: مخلوقه. والإيمان في اللغة: التصديق مطلقاً، مصدر أمن، وأصله: «أمان» قلبت الهمزة الثابتة ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها في علم الصرف من أن الهمزتين إذا التقتا في كلمة واحدة ثانيتهما ساكنة وجب قبلها بحركة ما قبلها، «وأمن» أصله «أمن» قلبت الثانية ألفاً لانفتاح ما قبلها وهمزة «أمن» يجوز أن تكون للتعدية بمعنى: أن المصدق جعل الغير آمنا من تكذيبه، ويجوز أن تكون للضرورة بمعنى: أن المصدق صار ذا أمن من أن يكون مكذوباً، وهو تارة يتعدى باللام وتارة يتعدى بالياء باعتبار تضمنه معنى الإذعان، والقول يعدى باللام كما في قوله تعالى ?فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ? [العنكبوت: 26] وباعتبار تضمنه معنى الإقرار والاعتراف يعدى بالباء كما في قوله: ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ? [البقرة: 285] وقوله ?يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ? [البقرة: 3] كأنه قال يؤمنون معترفين وهو حكم واحد لكنه يقع تعليقه بمتعلقات متعددة

باعتبارات مختلفة، مثل: آمنت بالله بأنه واحد متصف بكل كمال منزه عن كل وصف لا كمال فيه، وآمنت بالرسول بأنه مبعوث من الله، وآمنت بالملائكة أي: بأنهم عباد الله المكرمون المعصومون، وآمنت بكتب الله أي: بأنها منزلة من عند الله وبكل ما تضمنته حق وصدق. وأما الإيمان في الشرع ففيه أقوال والمشهور منها أربعة: الأول: أنه التصديق بالقلب فقط أي: قبول القلب وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال، كالوحدانية والنبوة والبعث والجزاء وجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها، ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالاً كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلاً كجبريل وميكائيل وموسي وعيسي والتوراة والإنجيل، حتى أن من لم يصدق الواحد منها فهو كافر، وهذا القول هو المختار عند جمهور الأشاعرة، والتلفيظ بالشهادتين على هذا القول من القادر عليه شرط لإجراء أحكام الدين من الصلاة خلفه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وعصمة الدم ونكاح المسلمة ونحوها شرطاً لصحة الإيمان، وإنما كان الإقرار شرطاً لاجراء الأحكام: لأن التصديق أمر باطن لا اطلاع لنا عليه فلابد من علامة فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله، وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا، ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق فهو مؤمن في أحكام الدنيا، وإن لم يكن مؤمناً عند الله، والنصوص معاضدة مقوية لهذا القول قال الله تعالى ?أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ? [المجادلة: 22] وقال تعالى ?وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ? [النحل: 106] وقال تعالى ?وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ? [الحجرات: 14] . وقال - صلى الله عليه وسلم - «اللهم ثبت قلبي على دينك» (¬1) ، وقال لأسامة حين قتل من قال لا إله إلا ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/448، رقم 2140) عن أنس. قال الترمذي: وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمرو وعائشة، وهذا حديث حسن، وهكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس وروى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث أبي سفيان عن أنس أصح. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه (2/1260، رقم 3834) ، وأحمد في مسنده (3/112، رقم 12128) ، وأبو يعلى (6/359، رقم 3687) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/168، رقم 30405) ، والطبري في تفسيره (3/189) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/478، رقم 1954) .

الله: «هل شققت قلبه» (¬1) . الثاني: أنه تصديق بالقلب واللسان معاً ويعبر عنه: بأنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان، وهذا القول منقول عن أبي حنيفة مشهور عن أصحابه، وقال به كثير من المحققين كما قاله في شرح المقاصد. فماهية الإيمان على هذا من أمرين إقرار باللسان وتصديق بالجنان، فمن أخل بواحد منهما فهو كافر فالإقرار باللسان على هذا شطر، وعلى الأول كما تقدم شرط فلا يثبت الإيمان على هذا القول إلا بهما عند العجز عن النطق والإكراه، فإنه يثبت بتصديق القلب فقط فالتصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمله كما في العاجز عن النطق والمكره. الثالث: أنه التصديق بالقلب والاقرار باللسان وعمل سائر الجوارح فماهيتة على هذا مركبة من أمور ثلاثة الإقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، فمن أخل بشيء منها فهو كافر، وهذا القول للخوارج، ولذا كفروا بالذنب فقالوا: إن مرتكبه مطلقاً كافر لانتفاء جزء الماهية، والذنوب كلها عندهم كبائر، وهذا القول مردود باطل لأنه ورد في الكتاب السنة عطف الأعمال عليه كقوله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? [البقرة: 277] مع القطع بأن العطف يقتضي المغايرة، وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه، ورد أيضاً بجعل الإيمان شرطاً لصحة الأعمال كما في قوله تعالى ?وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ? [طه: 112] مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لامتناع اشتراط الشيء بنفسه، ورد أيضاً بإثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى ?وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا? [الحجرات: 9] مع القطع بأنه لا تحقق للشيء بدون ركنه. نعم جمهور السلف من المتكلمين والمحدثين والفقهاء ذهبوا إلى أن الأعمال شرط في كمال الإيمان وفي صحته. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/96، رقم 96) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/176، رقم 8594) ، وأحمد في مسنده (5/207، رقم 21850) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/556، رقم 28932) ، وأبو عوانة في مسنده (1/68، رقم 192) ، وابن منده في الإيمان (1/206، رقم 61) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/119) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/19، رقم 15625) جميعاً عن أسامة بن زيد.

ونقل هذا المذهب عن الإمام الشافعي وهو مذهب البخاري - رضي الله عنه - فإنه عقد أبواباً بإطلاق الإيمان على الأعمال، فالسلف أرادوا إطلاق الإيمان على الأعمال كما قاله ابن حجر على أنها شرط في كماله لا في صحته. والخوارج أرادوا بذلك أن الأعمال ركن من أركانه كما تقدم، فعند السلف متى فسد العمل بطل كمال الإيمان لا أصله وهو مقصود البخاري بإطلاق الإيمان على الأعمال. الرابع: الإيمان تصديق باللسان فقط أي: الإتيان بكلمتي الشهادة، وهذا قول الكرامية، وهذا القول أيضاً مردود باطل، ويدل على بطلان صحة نفي الإيمان عن بعض المقرين باللسان قال الله تعالى ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ? [البقرة: 8] ، وقال الله تعالى: ?قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا? [الحجرات: 14] . قال المولى سعد الدين: وأما المقر باللسان وحده فلا نزاع في أنه يسمى مؤمناً لغة وتجري عليه أحكام الإيمان ظاهراً، وأما النزاع في كونه مؤمناً بينه وبين الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده كانوا يحكمون بإيمان من تكلم بكلمة الشهادة، وكانوا يحكمون بكفر المنافق، فدل على أن المعتبر في الإيمان إقرار اللسان فقط، وأيضاً الإجماع منعقد على إيمان من صدق بقلبه وقصد الإقرار باللسان فمنعه مانع من خرس ونحوه. فائدة: تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء سمي إيماناً لأن العبد إذا صدقه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أمن من القتل الدنيوي، والعذاب الأخروي. فائدة: ذكر العلماء من الشافعية لصحة الإسلام أي: للإقرار بالشهادتين من الكافر سواء جعلناه شطراً أو شرطاً ست شرائط نظمها بعضهم فقال: شرائط إسلام حقيقاً بصحة ... نعم ستة تعزى لأهل البصيرة بلوغ وعقل واختيار ولفظة ... وقول مجهرالترتب تمت الشرط الأول: البلوغ فلا يصح إسلام صبي استقلالاً كما قاله في الروضة. وأما الصبي المميز ففيه أوجه الصحيح المنصوص عليه أنه لايصح إسلامه، لكن يشكل ذلك بإسلام سيدنا علي كرم الله وجهه فإنه كان قبل البلوغ، ولهذا كان بدر الدين بن جماعة قاضي مصر يقضي بصحة إسلامه، وبصحة إسلامه قال الأئمة الثلاثة قالوا: إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا علياً إلى الإسلام فأجابه، قالوا أولاً يلزم من كون غير مكلف لا يصح منه الإسلام فإن عباداته من صلاة وصيام ونحوها صحيحة فكذلك

إسلامه. وقال إمام الحرمين (¬1) : قد صححوا إسلامه، والمعتمد عند الشافعية عدم الصحة، وأجابوا عن إسلام سيدنا علي بأجوبة من أحسنها ما نقله البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار، وهو أن الأحكام إنما علقت بالبلوغ بعد الهجرة عام الخندق. وقال ابن العماد في شرح سيرته (¬2) : إنما علقت به عام خيبر، وعبارته: «وفي عام خيبر رفع القلم عن الصبي والمجنون والنائم، وكان قبل ذلك موضوعاً على ما نقل عن البيهقي أنه قال: واستمر عليهم التكليف إلى عام خيبر ثم رفع قال: ولهذا صح إسلام علي - رضي الله عنه - في حال الصبا لأنه كان في قبل رفع القلم والصبيان إذ ذاك مكلفون وظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاثة» (¬3) يشهد لما قاله فإن الرفع يدل على سبق وضع (انتهى) . فانظروا إلى هذا التنافي في النقل عن البيهقي، وأما قبل ذلك فكانت متعلقة بالتمييز فصح، وحنيئذ فيسقط الإشكال، وأجابوا عن القياس على الصلاة ونحوها بأن صلاة الصبي وصومه ونحوهما يقع نفلاً، والإسلام لا ينتقل له، قاله أمامنا الشافعي - رضي الله عنه -. وإذا نطق الصبي من أولاد الكفار بالشهادتين لا يصح إسلامه، لكن يحال بينه ¬

(¬1) هو: العلامة الفقيه الأصولي أبو محمد عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني إمام الحرمين، كان مولده سنة 419هـ، ومن آثاره: نهاية المطلب في معرفة المذهب في الفقه، قال ابن خلكان: لم يؤلف في الإسلام مثله، وكانت وفاته سنة 487هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (18/475) ، ومعجم البلدان (2/193) ، وأبجد العلوم (3/119) ، ووفيات الأعلام (3/168) ، والنجوم الزاهرة (5/121) ، وشذرات الذهب (3/360) . (¬2) ابن العماد هو: أحمد بن عماد بن يوسف بن عبد النبي، أبو العباس، شهاب الدين الأقفهسي ثم القاهري، مولده سنة: 750هـ‍، فقيه شافعي، كثير الإطلاع، في لسانه بعض حبسة. له: التعقبات على المهمات للأسنوي، وشرح المنهاج، والسر المستبان مما أودعه الله من الخواص في أجزاء الحيوان، وكانت وفاته سنة: 08 هـ‍. (¬3) رواه البخاري معلقاً في صحيحه (5/2019) بقوله: «وقال علي ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة» . والحديث مسنداً إلى سيدنا علي عند أبو داود في سننه (4/141، رقم 4403) ، والترمذي في سننه (4/32، رقم 1423) وقال: حديث علي حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر بعضهم: «وعن الغلام حتى يحتلم» ولا نعرف للحسن سماعاً من علي بن أبي طالب، وقد روي هذا الحديث عن عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا الحديث، ورواه الأعمش عن أبي ظبيان عن بن عباس عن علي موقوفاً ولم يرفعه، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، قال الترمذي: قد كان الحسن في زمان علي وقد أدركه ولكنا لا نعرف له سماعاً منه، وأبو ظبيان اسمه حصين بن جندب. والنسائي في السنن الكبرى (4/324، رقم 7346) ، وابن ماجه في سننه (1/659، رقم 2042) ، وأحمد في مسنده (1/116، رقم 940) ، وابن حبان في صحيحه (1/356، رقم 143) ، وابن خزيمة في صحيحه (4/348، رقم 3048) ، والطيالسي في مسنده (ص: 15، رقم 90) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (2/41، رقم 415) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/99، رقم 87) .

وبين أبويه وأهله الكفار استحباباً، لئلا يفتنوه، ولأنه ربما يثبت على ما وصفه من الإسلام إلى ما بعد بلوغه، فإن بلغ ووصف الكفر هدد فإن أصر رد إليهم، وينبغي أن يتلطف بوالديه ليؤخذ منهما، فإن أبيا فلا حيلولة هذا في أحكام الدنيا، وأما في الآخرة، فإذا أضمر الصبي كما أظهر ثم مات بعدها كان من الفائزين بالجنة، ويعبر عن هذا بصحة إسلامه باطناً لا ظاهراً نعم قال العلماء: يحكم بصحة إسلام الصبي بطريق التبع في ثلاث صور: الأولى: تبعية الدار فإذا وجد الصبي لقيط في دار الإسلام لا يعرف له أهل يحكم بإسلامه، وان كان فيها أهل ذمة تغليباً للإسلام، أما إذا وجد اللقيط في دار الكفر لم يكن فيها مسلم فاللقيط الموجود فيها محكوم بكفره. الثانية: تبعية السابي فإذا سبي المسلم طفلاً منفرداً عن أبويه حكم بإسلامه تبعاً للسابي، لأنه صار تحت ولايته كالأبوين، سواء كان السابي بالغاً أو غير بالغ، أو مجنوناً أما إذا سباه ومعه أبواه أو أحدهما فإنه لا يحكم بإسلامه، وكذا لو سباه ذمي لا يحكم بإسلامه ولو باعه لمسلم. الثالثة: تبعية أصوله فمن كان أحد أبويه مسلماً يوم علوقه، حكم بإسلامه لأنه جزء من مسلم، وكذا إذا كانا كافرين يوم العلوق، ثم أسلما أو أحدهما قبل بلوغ الولد حكم بإسلامه في الحال، وفي معنى الأبوين الجد والجدة سواء الجد للأب وللأم تبعه الطفل سواء كان الأب حياً أو ميتاً لأن التبعية للفرعية، وهي لا تختلف بحياة الأب أو بموته. الشرط الثاني من شروط الإسلام: العقل فلا يصح إسلام المجنون استقلالاً بل بطريق التبع كما في الصبي، سواء بلغ مجنوناً أو عاقلاً ثم جن. الشرط الثالث من شروط الإسلام: الاختيار فلا يصح إسلام المكره على الإسلام، وظاهر النظم يقتضي أانه لا فرق بين الذمي وغيره، وليس كذلك بل يقال إذا أكره الذمي على التلفيظ بالشهادتين لا يصح إسلامه في الأصح، بخلاف ما إذا أكره الحربي أو المرتد على الإسلام فإنه يصح إسلام كل منهما، صرح بذلك النووي في الأذكار فقال: لو أكره مسلم كافراً على الإسلام فنطق بالشهادتين، فإن كان الكافر حربياً صح إسلامه، لأنه إكراه بحق، وإن كان ذمياً لم يصر مسلما لأنا إلتزمنا الكف عنهم فأكرهه بغير حق. الشرط الرابع: التلفيظ بالشهادتين فلا يصح إسلام من صدق بقلبه ولم يتلفظ

بلسانه، وهل يتعين في صحة الإسلام التلفيظ بالقول المعروف أعني: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، أو يحصل الإسلام بما يؤدي معناها؟ فال الروياني والماوردي: يتعين اللفظ المعروف ولا يحصل الإسلام بغيره، والمذهب المعتمد أنه لا يتعين اللفظ المعروف بل يحصل الإسلام به وبغيره مما يؤدي معناه، كما قاله الحليمي في منهاجه وأقروه عليه. فلو قال: لا إله سوى الله، أو لا إله ما عدا الله، أو ما من إله إلا الله، ولا إله إلا الله الرحمن، أو لا رحمن إلا الله، أو لا إله الله البارئ، أو لا بارئ إلا الله كان كقوله: لا إله إلا الله، ولو قال: أحمد رسول الله أو أبو القاسم رسول الله كان كقوله محمد رسول الله، ولو قال كافر: آمنت بالله أو أسلمت بالله أو أسلمت وجهي لله فإن كان يشرك بالله غيره لم يصر مؤمناً بدون ذلك، ولو قال آمنت بالله وبمحمد كان مؤمناً بالله لإثبات الإله، ولا يكون مؤمناً بنبوة محمد حتى يقول بمحمد النبي أو محمد رسول الله، ولو قال: آمنت بمحمد النبي صح إيمانه برسول الله بخلاف ما لو قال: آمنت بمحمد الرسول، لأن النبي لا يكون إلا لله تعالى، والرسول قد يكون لغيره، ولو قال: الكافر لا إله إلا الملك أو لا إله إلا الرازق لم يكن مؤمن لأنه قد يريد بذلك السلطان الذي له جند يرتب أرزاقهم، بخلاف ما لو قال لا ملك إلا الله ولا رازق إلا الله فإنه يحكم بإسلامه، وهو قال يهودي إني بريء من اليهودية أو نصراني أنا بريء من النصرانية لم يحكم بإسلامه لأن ضد اليهودية والنصرانية غير منحصر في الإسلام. ولو قال الكافر الإسلام وحق لم يكن مؤمناً، لأنه قد يقر بالحق ولا ينقاد له، ولو نطق الكافر بالشهادتين بغير إكراه فإن كان على سبيل الحكاية بأن قال: سمعت زيداً يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يحكم بإسلامه، وإن نطق بهما بعد استدعاء مسلم بأن قال له مسلم قل لا إله إلا الله محمد رسول الله فقالهما صار مسلماً، وكذا لو نطق بهما ابتداء من غير استدعاء ولا حكاية فإنه يحكم بإسلامه كما قاله الجمهور. ولو نطق الكافر بالشهادتين صح إسلامه وإن لم يقل وأنا برئ من كل دين يخالف دين الإسلام، إلا أن يكون من كفار يعتقدون اختصاص الرسالة بالعرب، فلا يحكم بإسلام العيسوية من اليهود وهم أبتاع أبي عيسى الأصبهاني اليهودي يقولون: إنه أرسل إلى العرب خاصة، دون بني إسرائيل فلا يكفي في إسلام واحد منهم الإتيان بالشهادتين فقط، بل لابد من البراءة المذكورة، أو يقول محمد رسول الله إلى جميع الخلق.

ولو قال الكافر: الصلاة واجبة علي الصوم أو غيره من أركان الإسلام وهو على خلاف عقيدته التي كان عليها لا يصير بذلك مسلماً على الأصح، ولو اقتصر الكافر على قول لا إله إلا الله لا يكون مسلماً على الأصح الذي عليه الجمهور. وقيل: ويطالب بالشهادة فإن أبي جعل مرتداً ولو أشار الأخرس الكافر بالشهادتين إشارة مفهمة إسلامه، وقيل: لا يحكم بإسلامه إلا إذا صلى. فائدة: يصح إسلام الكافر بجميع اللغات كما ذكره النووي في الروضة في الظهار، فلو نطق أعجمي بلسان صح إسلامه، وإن كان قادراً على النطق بالعربية لوجود الإقرار، ولكن إذا لقن الكافر الأعجمي كلمتي الإسلام بالعربية فنطق فصح بشرط أن يعلم معنى الشهادتين، فإن لم يعرف معناها لم يحكم بإسلامه، وكذا إذا نطق بهما بغير لغته أيّ لغة كانت يصح إسلامه بشرط أن يعرف المعنى. قال في الأنوار: وأن يعرفه غيره ويكفي واحد. فائدة أخرى: لو قال الكافر لا إله إلا الله عيسى رسول الله وموسى رسول الله وكذا غيره من الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم بإسلامه، لأن الإقرار برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إقرار برسالة من قبله لأنه شهد لهم وصدقهم. قال الرافعي (¬1) : ويتوجه أن يقال كما أن محمد - صلى الله عليه وسلم - شهد لهم وصدقهم فقد شهدوا له وبشروا به أي: فينبغي الصحة بذلك. وأجاب القاضي زكريا عن ذلك: بأن شريعته ناسخة لما قبلها باقية بخلاف شريعة غيره. الشرط الخامس: الجهر بما تلفظ به، قال المولى سعد الدين في شرح المقاصد: ولا يخفى أن الإقرار لأجل الأحكام لابد، وأن تكون على وجه الإعلان والإظهار للإمام وغيره. الشرط السادس: الترتيب بين كلمتي الشهادة، بأن يقول أولاً لا إله إلا الله ثم يقول محمد رسول الله، فلو قال الكافر أولاً محمد رسول الله ثم قال ثانياً لا إله إلا الله لا يصح إسلامه. قال ابن الملقن: وهذا الشرط اشترطه القاضي أبو الطيب من أصحابنا ولم أر من وافقه ولا من خالفه. ¬

(¬1) الرافعي هو: عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، أبو القاسم الرافعي القزويني ولد سنة: 557 هـ‍، فقيه، من كبار الشافعية، كان له مجلس بقزوين للتفسير والحديث، وتوفي فيها سنة: 623 هـ‍، نسبته إلى رافع بن خديج الصحابي. له: التدوين في ذكره أخبار قزوين، والإيجاز في أخطار الحجاز، والمحرر في الفقه، وفتح العزيز في شرح الوجيز للغزالي في الفقه أيضاً، وشرح مسند الشافعي، وغيرها من المصنفات المفيدة في بابها.

وقال شيخ الإسلام ابن حجر (¬1) : اشترط الباقلاني في صحة الإسلام تقدم الإقرار بالتوحيد على الرساله، ولم يتابع مع أنه إذا دقق فيه بأن وجهه ويزداد اتجاهاً إذا فرقهما فليتأمل. وسمعت من بعض مشايخي شرطاً سابعاً للإسلام وهو: أن يأتي بكلمة الشهادة بصيغة التنجيز دون التعليق فإن أتى بصيغة كأن قال: إذا فرغ الشهر فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ومحمد رسول الله لا يحكم بإسلامه، وقد صرح بالمسألة في الأنوار فقال: والعزم عليه في المستقبل ليس بإسلام حتى لو قال الكافر: أنا أسلم لا يحكم بإسلامه في الحال. وأما المولاة بين الشهادتين فلا تشترط كما ذكره الحليمي وغيره، فلو قال كافر: أول النهار لا إله إلا الله ثم قال في آخره محمد رسول الله حكم بإسلامه. وقد ردد بعض العلماء للمؤمن علامات يتميز بها عن غيره وهي في الحقيقة موعظة فقالوا: المؤمن إذا أدب تأدب، وإذا أهذب تهذب، المؤمن خفيف له من الله معونة كالنحلة إذا وقعت على عود لا تكسره، وهي تأكل طيبها، ويصدر عنها طيب، والمؤمن يأكل الحلال، فيصدر عنه صالح الأعمال، النحلة لعابها صاف، وشرابها شاف، والمؤمن رؤيته شفاء وموعظته دواء، ينتفع برؤيته قبل روايته، خيره بادر وشره نادر. قال الفضيل: المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل. وقال: المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأحقر كل شيء قدراً، زاجر عن كل شر، حاضر على كل خير، لا حقود ولا حسود، ولا مرتاب ولا سباب ولا مغتاب، يكره الرفعة ويبغض السمعة، طويل الهم كثير الغم، حليف الصمت عزيز الوقت، لا متافك ولا متهتك، ضحكه تبسم، واستفهامه تعلم، ومراجعته تفهم، لا يبخل ولا يعجل، ولا يضجر، ولا يجهر، لا جزع، ولا هلع، ولا صلف، ولا عنف، قليل المنازعة، جميل المراجعة، عدل إن غضب، دقيق إن طلب، خليص الود، وثيق العهد، وفي الوعد شفوق، وصول حليم، حمود قليل الفضول، راض عن مولاه، مخالف لهواه، لا يغلظ على من يؤذيه، ولا يخوض فيما لا يعنيه، إن سب أو أوذي لم يسب، وإن طلب ومنع لم يغضب، لا يشمت بمصيبة، ولا يذكر أحد بعيبه، هشاش بشاش، لا فاحش ولا غشاش، كظام بسام صوام قوام، دقيق النظر، عظيم الحذر، وهذا هو المؤمن حقاً. ¬

(¬1) انظر: فتح الباري (1/50) .

وجاء في الحديث: «المؤمن كالجمل الأنوف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على جمرة استناخ» (¬1) ومعناه: أن المؤمن إذا دعي لخير أجاب بسهولة كالجمل المخروم في أنفه ولله در القائل في المعنى. ومازال بي شوقي إليك يقودني ... يذلل مني كل ممتنع صعب إذا كان قلبي سائراً بزمامه ... فكيف بجسمي بالمقام بلا قلب وكما الجمل الأنوف إذا أُنيخ على جمرة استناخ، كذلك المؤمن مقيم على باب مولاه صابر على بلواه، تارك لشكواه، مقبل عليه بقلبه، ملازم لذكره وحبه، كلما ازداد المؤمن من بلواه ضراً، أكثر لمولاه طاعة وشكراً. حكاية في المعنى: قال عبد الواحد بن زيد مررت في بعض الجبال بشيخ أعم أصم مقطوع اليدين والرجلين وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي متعتني بجوارحي حيث شئت، وأخذتها حيث شئت، وتركتني حسن الظن والأمل فيك، يا برياً يا وصول، فقلت في نفسي: أي بر من الله على هذا وأي وصل فقال: إليك عني أليس ترك لي قلباً يعرفه، ولساناً يذكره، فهو نعيم الدارين، فمن أكثر الشكوى، ولم يصبر على البلوى فليس عنده من الغرام سوى الدعوى، ولقد أحسن من من قال في المعنى: خيانه أهل الحب أن يظهروا شكوى ... وأن يسأموا من صحبة الضر والبلوى ومن لم يذق هجر الحبيب كوصله ... فما ذاق من طعم الغرام سوى الدعوى ويقال: الإيمان كخاتم سليمان، العزم في جوده والذل عند فقده، الإيمان كعصى موسى تلقف عصى السحره وتطرد العصاة والبغاة والفجرة وكذلك الإيمان عنده الشبهات والتخيلات، وتغفر مع صحبته الخطايا والسيئات، الإيمان كالماء والطهور يطهر الوسخ والدرن، وكذلك الإيمان يغسل الذنوب ما ظهر وما بطن. ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه (1/16، رقم 43) ، وأحمد في مسنده (4/126، رقم 17182) ، والحاكم في المستدرك (1/175، رقم 331) ، والطبراني في المعجم الكبير (18/247، رقم 619) ، واللالكائي في إعتقاد أهل السنة (1/74، رقم 79) ، وابن أبي عاصم في السنة (1/19، رقم 33) جميعاً عن العرباض بن سارية. وقال محققه الألباني: حديث صحيح رجاله كلهم ثقات لولا أن عبد الله بن صالح ويكنى بأبي صالح فيه ضعف لكنه لم يتفرد به فالحديث صحيح، وأبو مسعود هو: أحمد بن الفرات الضبي الرازي وهو ثقة حافظ، والحديث أخرجه الحاكم من طريقين آخرين عن أبي صالح ... به وأخرجه أحمد وعنه الحاكم وسنده صحيح وابن ماجه أيضاً.

خرج أبو حفص النيسابوري يوماً فرأى يهودياً مغشياً عليه فلما أفاق سئل عن ذلك فقال: رأيت رجلاً عليه لباس العدل، ورأيت عليّ لباس الفضل، فخشيت أن يبدل الله لباسي بلباسه. لطيفة: دخل يهودي على بعض الصالحين، وفي يديه قلم يبريه فقال الرجل الصالح لليهودي: أسلم وإلا أقطع رأس القلم فامتنع اليهودي من الإسلام، وقال للرجل الصالح: اقطع رأس القلم فقطعه فوقع رأس اليهودي عن جسده، قالها في روض الأفكار. لطيفة أخرى: قال النسفي: مر بعض العباد على رجل يعبد بقرة من دون الله تعالى فقال: قل لا إله إلا الله، فقال: لا، فقال العابد: بحق لا إله إلا الله يا بقرة كوني جمرة نار فكانت بإذن الله تعالى، فقال له: قل لا إله إلا الله وإلا فتصير مثلها. لطيفة غريبة: ذكر ابن جماعة في كتابه أنس المحاضرة: أن يهودياً كان له دين على شخص من الصالحين يقال له: إبراهيم الآجري كان يصنع «الكلس» (¬1) ، فجاء اليهودي إليه وطلب من دينه فقال له إبراهيم: أسلم، فقال له: أرني شيئاً أعرف به شرف الإسلام وفضله على ديني قال له: وتفعل، قال: نعم، قال: هات رداءك، فأخذ رداء اليهودي فجعله في رداء نفسه ولف رداءه عليه ورمى الردائين في النار، نار الأتون، ثم دخل بعد أن ألقاه في الأتون وداس على جمر النار، واليهودي ينظر إليه فأخذ الردائين وخرج من النار ففتح رداء نفسه فإذا هو صحيح، وأخرج رداء اليهودي من وسط ردائه فإذا هو حراق أسود فلما رأى اليهودي ذلك أسلم. حكاية في المعنى: نقل الإخباريون أنه كان ببلد الهند شيخ كبير يعبد صنماً دهراً طويلاً، ثم حصل له أمر مهم وشده يوماً من الأيام فاستغاث به فلم يغثه فقال: أيها الصنم ارحم ضعفي، فقد عبدتك دهراً طويلاً، فلم يجب فانقطع عند ذلك رجاؤه منه، ونظر الله بعين الرحمة فخطر بباله بأن يدعو الصمد، فرمق بطرفه نحو السماء، وقد وقع في الخجل وقال: يا صمد فسمع صوتاً من الهواء يقول: لبيك يا عبدي أطلب ما تريد فأقر لله بالوحدانية فقالت الملائكة: ربنا دعى صنمه دهراً طويلاً ولم يجبه، ودعاك مرة واحدة فأجبته، فقال يا ملائكتي: إذ دعى الصنم فلم يجبه، ودعى الصمد فلم يجبه فأي ¬

(¬1) قال ابن منظور في لسان العرب (6/197) : «الكِلْسُ» : مثل الصَّارُوج يُبْنَى به، وقيل: الكِلْسُ الصَّارُوجُ، وقيل: الكِلْسُ ما طُلِيَ به حائط أَو باطن قصْر شِبْهُ الجِصِّ من غير آجُرَ.

فرق بين الصنم والصمد. وحكاية غريبة: مر بعض حواري عيسى عليه الصلاة والسلام على أولاد يلعبون وفيهم ابن وزير كافر، فلعب معهم ثم أخذه ابن الوزير إلى أبيه وأحضر له طعاماً قال له: يا أبت هذا غريب، فحضرت الشياطين ليأكلوا من الطعام، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم فهربت الشياطين، فسأله الوزير عن أمره وقال له: من أين أتيت ومن أنت؟ فقال: أنا من أصحاب عيسى أرسلني إليكم لتؤمنوا بالله وتتركوا عبادة الأصنام، فأسلم الوزير ولم يعلم الملك بذلك، ثم بعد مدة مات فرس للملك فقال له الوزير: قد مات فرس للملك وكان عزيزاً عنده فقال له صاحب عيسى: قل له: إن أطاعني أحيا الله فرسه، فأخبره الوزير بذلك، فقال له الملك: نعم، فأحضر الوزير عند الملك، فقال: خذ أيها الملك بعضو الفرس، وأبوك بعضو، وولدك بعضو، وأمك بعضو: وقولوا: لا إله إلا الله فلما قالوا تحرك كل عضو بيد قائليها، ووثب الفرس حياً بإذن الله تعالى. * * *

المجلس الثالث عشر

المجلس الثالث عشر في بيان زيارة الإيمان ونقصانه وفيه فوائده كثيرة متعلقة بالإيمان قَالَ البُخَارِي: بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الإيمان باب الإِيمَانِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ» وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْل، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ اللَّهُ تعالى: ? لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ?، ? وَزِدْنَاهُمْ هُدًى?، ? وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى?، ? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ?، ? وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً?، وَقَوْلُهُ ? أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ?، وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ?فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً?، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ?وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً?. وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ (¬1) . وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ للإيمان فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُوداً وَسُنَناً، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا (¬2) لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/112) قوله: «والحب في الله والبغض في الله من الإيمان» هو لفظ حديث أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة ومن حديث أبي ذر ولفظه: «أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله» ، ولفظ أبي أمامة: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» . وللترمذي من حديث معاذ بن أنس نحو حديث أبي أمامة، وزاد أحمد فيه: «ونصح لله» ، وزاد في أخرى: «ويعمل لسانه في ذكر الله» ، وله عن عمرو بن الجموح بلفظ: «لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله» . ولفظ البزار رفعه: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» ، وسيأتي عند البخاري: «آية الإيمان حب الأنصار» . واستدل بذلك على أن الإيمان يزيد وينقص، لأن الحب والبغض يتفاوتان. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/113) : قوله: «فإن أعش فسأبينها» أي: أبين تفاريعها لا أصولها، لأن أصولها كانت معلومة لهم جملة، على تجويز تأخير البيان عن وقت الخطاب إذ الحاجة هنا لم تتحقق. والغرض من هذا الأثر أن عمر بن عبد العزيز كان ممن يقول بأن الإيمان يزيد وينقص حيث قال: استدل ولم يستدل. قال الكرماني: وهذا على إحدى الروايتين، وأما على الرواية الأخرى فقد يمنع ذلك لأنه جعل الإيمان غير الفرائض. قلت: لكن آخر كلامه يشعر بذلك وهو قوله: «فمن استكملها» أي: الفرائض وما معها «فقد استكمل الإيمان» وبهذا تتفق الروايتان، فالمراد أنها من المكملات، لأن الشارع أطلق على مكملات الإيمان إيماناً.

بِحَرِيصٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: ?وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? (¬1) . وَقَالَ مُعَاذٌ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً (¬2) . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ (¬3) . ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/114) : قوله: «وقال إبراهيم عليه السلام: ولكن ليطمئن قلبي» أشار إلى تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله: «ليطمئن قلبي» أي: يزداد يقيني. وعن مجاهد قال: لأزداد إيماناً إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم - عليه السلام - مع أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد أمر باتباع ملته كان كأنه ثبت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ذلك. وإنما فصل البخاري بين هذه الآية وبين الآيات التي قبلها، لأن الدليل يؤخذ من تلك بالنص ومن هذه بالإشارة. والله أعلم. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/114) : قوله: «وقال معاذ» هو ابن جبل، وصرح بذلك الأصيلي، والتعليق المذكور وصله أحمد وأبو بكر أيضاً بسند صحيح إلى الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: «اجلس بنا نؤمن ساعة» ، وفي رواية لهما: كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه: «اجلس بنا نؤمن ساعة» ، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه. وعرف من الرواية الأولى أن الأسود أبهم نفسه، ويحتمل أن يكون معاذ قال ذلك له ولغيره. ووجه الدلالة منه ظاهرة، لأنه لا يحمل على أصل الإيمان لكونه كان مؤمناً وأي مؤمن، وإنما يحمل على إرادة أنه يزداد إيمانا بذكر الله تعالى. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا تعلق فيه للزيادة، لأن معاذاً إنما أراد تجديد الإيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضاً، ثم يكون أبداً مجدداً كلما نظر أو فكر، وما نفاه أولاً أثبته آخراً، لأن تجديد الإيمان إيمان. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/115) : قوله: «وقال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله» هذا التعليق طرف من أثر وصله الطبراني بسند صحيح، وبقيته: والصبر نصف الإيمان. وأخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعاً، ولا يثبت رفعه. وجرى البخاري على عادته في الاقتصار على ما يدل بالإشارة، وحذف ما يدل بالصراحة، إذ لفظ النصف صريح في التجزئة. وفي الإيمان لأحمد من طريق عبد الله بن عكيم عن ابن مسعود أنه كان يقول: «اللهم زدنا إيماناً ويقينا وفقها» وإسناده صحيح، وهذا أصرح في المقصود، ولم يذكره المصنف لما أشرت إليه.

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ (¬1) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ?شَرَعَ لَكُمْ? أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِيناً وَاحِداً (¬2) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ?شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً? سَبِيلاً وَسُنَّةً (¬3) . ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/115) : قوله: «وقال ابن عمر ... إلى آخره» المراد بالتقوى: وقاية النفس الشرك والأعمال السيئة والمواظبة على الأعمال الصالحة. وبهذا التقرير يصح استدلال المصنف. وقوله: «حاك» بالمهملة والكاف الخفيفة أي: تردد، ففيه إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كنه الإيمان وحقيقته، وبعضهم لم يبلغ. وقد ورد معنى قول ابن عمر عند مسلم من حديث النواس مرفوعاً، وعند أحمد من حديث وابصة، وحسن الترمذي من حديث عطية السعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس» وليس فيها بشيء على شرط البخاري، فلهذا اقتصر على أثر ابن عمر، ولم أره إلى الآن موصولاً. وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي الدرداء قال: «تمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراماً» . (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/116) : قوله: «وقال مجاهد» وصل هذا التعليق عبد بن حميد في تفسيره، والمراد أن الذي تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة هو شرع الأنبياء كلهم. «تنبيه» : قال شيخ الإسلام البلقيني: وقع في أصل الصحيح في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل من تعرض لبيانه، وذلك أن لفظه: وقال مجاهد: «شرع لكم» أوصيناك يا محمد وإياه ديناً واحداً. والصواب: أوصاك يا محمد وأنبياءه. كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطبري وابن المنذر في تفاسيرهم، وبه يستقيم الكلام، وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة (انتهى) . ولا مانع من الإفراد في التفسير، وإن كان لفظ الآية بالجمع على إرادة المخاطب والباقون تبع، وإفراد الضمير لا يمتنع، لأن نوحاً أفرد في الآية فلم يتعين التصحيف، وغاية ما ذكر من مجيء التفاسير بخلاف لفظه أن يكون مذكوراً عند المصنف بالمعنى. والله أعلم. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/116) : قوله: «وقال ابن عباس» وصل هذا التعليق عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح. والمنهاج: السبيل: أي: الطريق الواضح. والشرعة والشريعة بمعنى، وقد شرع أي: سن، فعلى هذا فيه لف ونشر غير مرتب. فإن قيل: هذا يدل على الاختلاف والذي قبله على الاتحاد، أجيب: بأن ذلك في أصول الدين وليس بين الأنبياء فيه اختلاف، وهذا في الفروع وهو الذي يدخله النسخ.

«بسم الله الرحمن الرحيم» ابتداء البخاري - رضي الله عنه - كتاب الإيمان وكذا غيره من الكتب الآتية عملاً بالحديث الذي أسلفناه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» (¬1) . فإن قيل: البسملة في أول الكتاب مغنية عن إعادتها في كتاب الإيمان وغيره. ¬

(¬1) ذكره النووي بهذا اللفظ في شرحه على صحيح مسلم (1/43) وعزاه إلى عبد القادر الرهاوي في كتابه «الأربعين» ، وكذا الحافظ السيوطي في الجامع الصغير انظر: فيض القدير (5/14) ، قال المناوي: ورواه كذلك الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة. قلت: ولم أقف عليه في تاريخ بغداد، وإنما أورده الخطيب بدون إسناد في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69، رقم 1209) وكما أن المصنف قال ذلك أيضاً (محقق) . وقد عدد النووي في شرحه على مسلم (1/43) الروايات في هذا الحديث فقال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع» ، وفي رواية: «بحمد الله» ، وفي رواية: «بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» ، وفي رواية: «لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم» وقال: روينا كل هذه في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي سماعاًٍ من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم الإنباري عنه، وروينا فيه أيضاً من رواية كعب بن مالك الصحابي - رضي الله عنه - والمشهور رواية أبي هريرة وهذا الحديث حسن، روي موصولاً ومرسلاً، ورواية الموصول إسنادها جيد، ومعنى: «أقطع» : قليل البركة، وكذلك «أجذم» بالجيم والذال المعجمة ويقال منه: «جذم» بكسر الذال «يجذم» بفتحها والله أعلم. والحديث حسنه برواياته هذه العجلوني في كشف الخفاء (2/156) . إلا أن الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/220) قال: الرواية المشهورة فيه بلفظ: «حمد الله» وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية. وإنما حكم بأنه حديث حسن مع اختلاف لفظه بين حمد وتسمية وذكر لله كما عدد ذلك النووي، لأن اللفظ الذي فيه «الحمد» هو المشهور كما أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح، وهذا اللفظ المشهور أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه في سننه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان في صحيحه (1/174، رقم 2) ، والدارقطني في سننه (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة. ولكن يمكن الجمع بين الروايات في ذلك بأن البدء يكون بالجميع بالتسمية والتحميد وذكر الله، فبذلك قد عمل بالروايات وحيز فضل ذلك. انظر في هذا: الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69) .

فالجواب: أن البخاري - رضي الله عنه - كررها في كل كتاب لزيادة الاعتناء بها، ولأجل المحافظة التمسك بالسنة وظهر وجه آخر في إعادتها في كل كتاب، وهو أن صحيح البخاري ليس بعد كتاب الله كتاب أصح منه وابتدأ الله تعالى سورة منه بالبسملة إلا براءة فابتدأ البخاري كل كتاب من صحيحة بها إقتداء بالكتاب العزيز، ليكون مزيد اعتناء، ومتمسكاً مزيد تمسك بالكتاب والسنة. ولشدة الاعتناء بها افتتح شيخ الإسلام أبو الفرج ابن الجوزي في بعض مصنفاته كل مجلس بذكرها والوعظ بها، فقال في بعض المجالس: «بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله في الغدو والآصال، نسأل الله القرب والاتصال، قل بسم الله مع الإخلاص تظفر بالنجاة والإخلاص، هي كلمة القرب والوصال، كلمة تنفصل لها الأوصال، كلمة تخشع له القلوب وتهرب منها الذنوب، كلمة هي للصدور شفاء، كلمة فيها نيل الأماني، وتوجب القرب والتدابير، من سمع الله على الحقيقة طاش، ومن سمع الرحمن الرحيم على الحقيقة عاش، بسم من تحيا القلوب بآلائه، وتحيا الأجسام بنعمائه، وتحيا الأرواح بعطائه، وتحيا الأسرار بلقائه، أين المشتاقون إلى الله، أين الخائفون من الله، علامة المشتاق إلى الله إذا ذكر الله طار قلبه شوقاً إلى الله، وعلامة المحب لله إذا سمع ذكر الله هام قلبه سروراً بالله، بسم الله يزول الهموم وتستر السرائر، بسم الله من بأمره أقدار تجري، وبمشيئة النجوم تسري، بسم من يعلم الخطرات، ويحصي عدد القطرات، بسم من حارت في صفته عقول العلماء، وارتعدت من خيفته الجبال والماء. «باب الإيمان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: نبي الإسلام على خمس» (¬1) هذا بعض حديث سيأتي تمامة قريباً، ويجوز الاقتصار على بعض الحديث إذا تعلق به غرض صحيح. قال ابن رجب في شرحه على هذا الكتاب: إنما صدر البخاري كتاب الإيمان بباب بني الإسلام على خمس لأنه يرى أن الإسلام والإيمان واحد، فصدره به لينبه على ذلك، والبخاري - رضي الله عنه - رتب كتابه ترتيباً حسناً لم يسبقه أحد في مثل ذلك، ترتيبه ومحاسنه كثيرة منها أنه بعد ذكر الوحي ذكر كتاب الإيمان ثم بكتاب الصلاة بسوابقها من الطهارة وغيرها، ثم باب الزكاة وما يتعلق بها، ثم بكتاب الحج وأبوابه، ثم بكتاب الصوم، وإنما رتبه هذا الترتيب ليوافق الترتيب الذي رتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/111) : قوله: «باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: بني الإسلام على خمس» ، سقط لفظ «باب» من رواية الأصيلي، وقد وصل الحديث بعد تاماً، واقتصاره على طرفه فيه تسمية الشيء باسم بعضه، والمراد باب هذا الحديث.

«بني الإسلام على خمس» الذي فيه قواعد الدين وأركان الإسلام، وسنذكر في الكلام على الحديث المذكور وحكمه الترتيب المذكور وسره. ومن محاسنه أيضاً أنه يميز بين الأجناس بالكتب وبين أنواع كل جنس بالأبواب. ثم قال البخاري «وهو قول وفعل ويزيد وينقص» (¬1) الضمير عائد إلى الإيمان أو ¬

(¬1) فصل معنى ذلك ابن حجر في الفتح (112) فتحدث عن الأقول في زيادة الإيمان ونقصانه والكلام عن الفرق المخالفة والرد عليها فقال: قوله: «وهو» أي: الإيمان «قول وفعل ويزيد وينقص» ، وفي رواية الكشميهني: «قول وعمل» وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك، ووهم ابن التين فظن أن قوله: «وهو ... إلى آخره» مرفوع لما رآه معطوفاً، وليس ذلك مراد المصنف، وإن كان ذلك ورد بإسناد ضعيف. والكلام هنا في مقامين: أحدهما: كونه قولاً وعملاً، والثاني: كونه يزيد وينقص. فأما القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. ومن هنا نشأ ثم القول بالزيادة والنقص. والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته. والسلف جعلوها شرطاً في كماله، وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى. أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فَعَل فِعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأثبتت المعتزلة الواسطة فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر. وأما المقام الثاني فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين وقالوا متى قبل ذلك كان شكاً. قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة. ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه: «تعظيم قدر الصلاة» عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم. وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في «كتاب السنة» عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة، وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك، بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين. وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة. وقال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية من وجه آخر عن الربيع وزاد: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ثم شرع البخاري يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة.

إلى الإسلام إن قلنا: أنهما بمعنى واحد، كما مال إليه البخاري أي: الإيمان قول وفعل ويزيد وينقص، وإنما قال البخاري الإيمان قول وفعل، ولم يقل: واعتقاد بالقلب مع أن الاعتقاد بالقلب هو الأصل في الإيمان إما لأن الاعتقاد بالقلب متفق عليه بين العلماء في أنه إيمان، وإنما وقع النزاع بينهم في القول واللسان والعمل بالجوارح هل يصدق عليهما الإيمان أم لا؟ فذكر المتنازع فيه وسكت عن المتفق عليه، وإما لأن الفعل صادق على فعل الجوارح وعلى فعل القلب. واعترض على هذا بأن القول أيضاً على فعل اللسان، فلا حاجة إلى ذكره لدخوله في الفعل. واختلف العلماء في الإيمان هل يزيد وينقص أم لا؟ فذهب الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس وسفيان الثوري، وجماعة كثيرون من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وأكثر الأشاعرة إلى أنه يزيد بزيادة الطاعات، وينقص ينقصانها للقطع بأن إيمان آحاد الأمة ليس كأيمان أبي بكر فضلاً عن إيمان الأنبياء والملائكة. قال النووي: المختار أن التصديق يزيد وينقص لكثرة النظر ووضوح الدلالة، ولهذا

كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريه الشبهة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قلنا: يا رسول إن الإيمان يزيد وينقص قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» (¬1) . وقال سفيان بن عينيه: الإيمان قول وفعل ويزيد ينقص، فقال له أخوه إبراهيم: لا تقل ينقص فغضب، وقال: أسكت يا صبي ينقص حتى لا يبقى منه شيء. وممن قال بزيادة الإيمان ونقصانه حافظ العصر البخاري، روي عنه أنه قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، واستدل البخاري على ذلك بآيات وآثار مصرحة بذلك. «قال الله تعالى ? لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ?، ? وَزِدْنَاهُمْ هُدًى?، ? وَيَزِيدُ اللَّهُ لَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى?، ? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ?، ? وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً? وقوله ? أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ?، وقوله جل ذكره ?فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً?، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ?وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً?» وإسناد الزيادة إلى غير الله في بعض هذه الآيات من قبيل المجاز إذ لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى. فإن قيل: هذه الآيات دلت على زيادة الإيمان فقط، والمقصود زيادته ونقصانه. فالجواب: أن كل ما قبل الزيادة لابد وأن يكون قابلاً للنقصان ضرورة. وذهب أبو حنيفة والصحابة وإمام الحرمين وجمع كثير من الأشاعرة إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقالوا: متى كان قبل الزيادة كان شكاً وكفراً. مسائل مفيدة متعلقة بالإيمان المسألة الأولى: اختلف العلماء في الإيمان والإسلام هل هما بمعنى واحد أومختلفان؟ فذهب البخاري وجماعة إلى أن معناهما فيهما ويؤيده قوله تعالى ?فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ? [الذاريات: 35، 36] . وذهبت طائفة إلى أن الإسلام غير الإيمان واحتجوا بقوله: تعالى ?قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا? [الحجرات: 14] . قال الخطابي: والصحيح في هذا أن يقيد الكلام، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً ¬

(¬1) لم نقف عليه بهذا اللفظ.

في بعض الأحوال ولا يكون في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال وكل مؤمن مسلم ولا عكس. المسألة الثانية: هل يوصف الإيمان بأنه مخلوق أو ليس بمخلوق؟ اختلف مشايخ الحنفية وغيرهم في هذه المسألة فنقل عن أهل سمرقند وجماعة أنه مخلوق، ونقل عن البخاريين من مشايخ الحنفية وعن أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أنه غير مخلوق، ومال إلى هذا القول إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري وقال: إن إطلاق القول بأنه مخلوق يصدق على الإيمان الذي هو من صفات الله تعالى لأن من صفات الله تعالى الحسنى «المؤمن» كما نطق به القرآن العظيم، ولا يقال إيمان الله تعالى محدث ولا مخلوق تعالى أن يقوم به حادث. قال بعض المحققين المتأخرين: الصواب التفضيل في هذه المسألة، وهو أن يقال: إن إيمان العبد مخلوق لأنه فعل قلبي يكتسب بمباشرة أسباب يحصله المخلوق فلا يتجه خلاف في كونه مخلوقاً، وأن إيمان الله سبحانه وتعالى الذي دل عليه اسم المؤمن قديم غير مخلوق، ومعنى إيمان الله أنه المصدق بوحدانيته في قوله ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ? [آل عمران: 18] ، وقوله: ?أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا? [طه: 14] ، ولا يتجه تصديقه رسله بإظهار المعجزات على أيديهم فهو من صفات الأفعال، والخلاف فيها معلوم بين الأشاعرة والماتريدية. المسألة الثالثة: هل الإيمان باق مع النوم والإغماء والغفلة والموت أو ليس بباق؟ ذهبت المعتزلة إلى أنه ليس بباق مع هذه الأمور لأنها تضاد التصديق. وذهب أهل السنة إلى بقائه حكماً معها، وقالوا: المؤمن من آمن في الحال وفي الماضي لأنه حقيقة فيه، بل لأن الشارع يعطي الحكم حكم المحقق، واستدلوا لبقائه حكماً ببقاء وصف النبوة معها، فإنا إذا قلنا: إن النبوة من الأنبياء، والنبي معناه: المنبئ عن الله تعالى ولا شك أنه ليس منبئاً في حال النوم، ولا مبلغاً في حال السكوت والموت، مع أن الحكم بالنبوة باق إلى الأبد وإن لم يبلغ عن الله إلا مرة واحده، واستدلوا على بقائه حكماً ببقاء أحكام العقود حيث قالوا: الاتفاق واقع على أن حكم النكاح وحكم سائر العقود باق بعد فناء الإيجاب والقبول، الذي هو مسمى العقد لحاجة الناس إلى ذلك قالوا: والحاجة فيما نحن فيه من الإيمان إلى بقاء حكمه أمس وآكد، لأن عصمه الدم والمال منوطة به.

المسألة الرابعة: اختلف العلماء في إيمان المقلد، والمقلد هو أن يسمع إنسان الناس يقولون: إن للخلق رباً خلقهم وخلق كل شيء، ويستحق العبادة عليهم وحده لا شريك له، فيجزم بما سمعه منهم، والمختار الذي عليه الفقهاء وكثير من العلماء صحته من غير نظر واستدلال، لحصول الجزم بالإيمان الذي يحصله الاستدلال، ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون إيمان عوام الأمصار التي فتحوها من العجم حال كون إيمانهم صادراً تحت السيف، ولا استدلال. ومنع كثير من المعتزلة صحته وورد عليهم بأنه يلزم من قولهم تكفير العوام وهو غالب المؤمنين. المسألة الخامسة: اختلف في أنه هل يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؟ فذهب أبو حنيفة وأصحابه وكثير من العلماء إلى أنه ليس له أن يقول: ذلك، وإنما يقول: أنا مؤمن حقاً. والذي ذهب إليه الإمام الشافعي وأصحابه والإمام مالك وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وأكثر العلماء وأكثر السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى جواز قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى وبه قالت الأشعرية هذا إذا كان جازماً بالإيمان حال التكلم، أما إذا شك في إيمانه حال التكلم وقال: إن شاء الله للشك في إيمان فإن إيمانه يكون منفياً لأن الشك في ثبوته الحال كفر وليس محل قول إن شاء الله بالاتفاق بل محل النزاع بين الفريقين إنما هو إيمان الموافاة وهو الذي يموت العبد عليه، ويأتي متصفاً به آخر حياته أول منازل آخرته، وهو المعتبر في النجاة في الدار الآخرة، وهو الملحوظ عند المتكلم بالمشيئة، فإذا جزم الإنسان بالإيمان في الحال ولكن لا يعلم هذا الحال يبقى هذا الإيمان إلى الوفاة أم، فله عند الفريق الثاني أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى أي: أنا أموت على الإيمان إن شاء الله وهو أمر مستقبل فالقائل: أنا مؤمن إن شاء الله مقتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعامل بقوله تعالى ?وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ? [الكهف: 23، 24] أيضاً يقول: إن شاء الله للتبرك بالمشيئة خوفاً من سوء الخاتمة، مع جزمه بالإيمان في الحال فكان القائل: أنا مؤمن إن شاء الله يقول: أطلب حسن الخاتمة، فكم من إنسان سلب الإيمان عند موته، نسأل الله العظيم أن يختم لنا وللمسلمين بخير في عافية بلا محنة. وحكى الإمام الغزالي حجة الإسلام قدس الله روحه في منهاج العابدين: أن تلميذ

الفضيل بن عياض حضرته الوفاة فدخل عليه الفضيل وجلس عند رأسة وقرأ سورة ياسين فقال يا أستاذ ألا تقرأ هذه؟ فسكت ثم لقنه، وقال له: قل لا إله إلا الله، فقال: لا أقولها آناء نهاري ومات على ذلك، فدخل الفضيل منزله وجعل يبكي أربعين يوماً ولم يخرج من البيت، ثم رآه في النوم وهو يسحب إلى جهنم أجارنا الله منها بمنه فقال: بأي شيء نزع الله المعرفة عنك وكنت أعلم تلاميذي؟ فقال: بثلاثة أشياء أولها: النميمة فإني قلت لأصحابي بخلاف ما قلت لك، والثاني: الحسد حسدت أصحابي، والثالث: كان بي علة وجئت إلى طبيب وسألته عنها فقال: تشرب في كل سنة قدحاً من خمر فإذا لم تفعل تبقى في تلك العلة، فكنت أشربه نعوذ بالله من سخطه الذي لا طاقة لنا به. وقال في الروض الفائق: يروى أن أخوين كان أحدهما عابداً والآخر مسرفاً على نفسه، وكان العابد يتمنى أن يرى إبليس في محرابه فتمثل به إبليس فقال: له وأسفا عليك ضيعت عمرك أربعين سنة في حصر نفسك وإتعاب بدنك، وقد بقي من عمرك ما مضى، فأطلق نفسك في شهواتها وتلذذ، ثم تب بعد ذلك وعد إلى العبادة فإن الله غفور رحيم فقال: العابد لعلي نزل وحي في أسفل الدار أوافقه على اللهو واللذات عشرين سنة، ثم أتوب وأعبد الله في العشرين التي تبقى من عمري فنزل، وقال أخوه المسرف على نفسه: قد أفنيت عمري في المعاصي وأخي العابد يدخل الجنة، وأنا أدخل النار والله لأتوبن وأصعد إلى أخي العابد وأوفقه في العبادة ما بقي من عمري، فلعل الله أن يغفر لي، فطلع على نية التوبة ونزل أخوه على نية المعصية فزلت المعصية رجله فوقع على أخيه، فماتا جميعاً في السلم، فحشر العابد على نية المعصية وحشر المسرف المسلم على نية التوبة. ففرغوا قلوبكم للاعتبار فيما يجري في الليل والنهار، كم من بعيد قرب وكم من قريب أبعد، وجفاه الأهل والجيران، كان حظ الأول الجنة، وحظ الثاني النار فاعتبروا يا أولي الإبصار، ندم العابد على تغيير نيته بلا شك ولا خفاء، وبكى على تفريطه بعد عبادته إذ زل، وهنا يود لو أن يرد ويرجع إلى الوفاء، وسيعلم أنه كان يبني على شفا جرف هار فاعتبروا الإبصار، ولقد أحسن من قال: أناس عرضوا عنا ... بلا جرم ولا معنى أساؤا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا فإن عادوا لما عدنا ... وإن خانوا فما خنا

وإن كانوا قد استغنوا ... فأنا عنهم أغنى وقال الإمام أبو محمد رحمه الله تعالى: خرج ثلاثة من الزهاد يريدون الحج إلى بيت الله الحرام في وسط السنة متوكلين بغير زاد، فنزلوا قرية بها نصارى فوقع نظر رجل منهم على محاسن امرأة فتعلق بها، فلما عزموا على السفر احتال بحيلة، فقعد وسار صاحباه وتركاه في القرية، فأفشى سره لأبي المرآة وخطبها منه فقال: مهرها كثير لا تقدر عليه فقال: وما هو فقال: تترك دين الإسلام وتدخل في دينها دين النصرانية، فتنصر وتزوجها وولد له منها ولدان ومات على دين النصرانية، فرجع صاحباه من سياحتهما وسألا عنه فقيل لهما: إنه توفى على دين النصرانية ودفنوه في مقابرهم، فذهبا إلى المقبرة فوجد امرأته وولديه يبكيان عليه، فجعل صاحباه يبكيان من بعيد فقالت لهما المرآة: مما تبكيان من بعيد، فقصا عليها القصة وذكرها عبادته وزهده وصلاحه، فلما سمعت رق قلبها إلى الإسلام فأسلمت هي وولداها فقال الشيخ أبو محمد: سبحان الله مات من كان مسلماً على الكفر وأسلم من كان كافراً، فلذلك ينبغي أن يخاف المسلم عاقبة أمره ويسأل الله حسن الخاتمة ولله در القائل: سبحان من خلف الأشياء وقدرها ... ومن يجود على العاصي يستره يخفي القبيح ويبدي كل صالحة ... ويغمر العبد إحسانا ويشكره ويغفر الذنب للعاصي ويقبله ... إذا تاب وبالغفران يجبره ومن يلوذ به في دفع نائبة ... يعطيه من فضله عزاً وينصره ولا يضيع مقالاً لمجتهد ... في ماله بل يربيه ويدخره ومن يكن قلبه من ذنبه فاسداً ... فبالمدامع والتقوى طهره فليس للعبد تصريف وأن له ... مولاه إن شاء يغنيه ويفقره فلا الحذار ينجي العبد من قدر ... يريده الله وأمر يدبره فنسأل الله حقاً حسن خاتمة ... عند الممات وصفواً لا يكدره وعن أبي يزيد البسطامي -رحمه الله- أنه كان إذا توضأ وقعت الزلزلة على أعضائه إلى أن يقوم إلى الصلاة ويكبر فيسكن عنه ذلك، فقيل في ذلك فقال: أخاف أن تدركني الشقاوة فأخطي إلى كنائس اليهود والنصارى وبيعهم، فتعوذ بالله من مكر الله. وعن سفيان الثوري -رحمه الله- أنه خرج إلى مكة حاجاً فكان يبكي من أول الليل إلى آخره في المحمل فقال له شيبان الراعي: يا سفيان، فما بكاؤك فإن كان لأجل

المعصية فلا تعصه فقال: أما الذنوب فما خطرت ببالي قط كبيرها وصغيرها، وليس بكائي يا شيبان من أجل المعصية ولكن خوف العاقبة، لأني رأيت شيخاً كبيراً كتبنا عنه العلم، وكان تلتمس بركته ويستقى به الغيث، فلما مات تحول وجهه عن القبلة ومات على الشرك كافراً، فما أخاف إلا من سوء الخاتمة فقال له: إن ذلك من شؤم المعصية والإصرار على الذنوب، فلا تعص ربك طرفة عين. وقال منصور بن عمار -رحمه الله-: إذا دنا موت العبد قسم حاله على خمسة أقسام المال للوارث، والروح لملك الموت، واللحم للدود، والعظم للتراب، والحسنات للخصوم، ثم إن ذهب الوارث للمال يجوز، وإن ذهب ملك الموت بالروح يجوز، فيا ليت الشيطان لا ينهب بالإيمان عند الموت، فيكون فراقاً من الرب سبحانه وتعالى، نعوذ بالله من ذلك، فإن كل فراق إلى اجتماع، وفراق الرب سبحانه صعب لا يدركه أحد. وعن محمد بن نعيم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما جاءني جبريل - عليه السلام - إلا وهو رعد فرقاً وخوفاً من الجبار - عز وجل -» (¬1) . وقيل: لما ظهر على إبليس ما ظهر من المخالفة والطرد بعد القرب والعبادة، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان فأوحى الله إليهما ما لكما تبكيان هذا البكاء وإني لا أظلم أحداً قالا: يا رب لا نأمن مكرك أي: ما نأمن أن تقضي علينا بالبعد بعد القرب، وبالشقاوة بعد السعادة فقال: الله تعالى هكذا كونا لا تأمنا مكري. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه خرج إلى صلاة الجمعة فلقيه إبليس في صورة شيخ عابد فقال: له إلى أين يا عمر؟ فقال له: إلى الصلاة، فقال: قضينا الصلاة وفاتتك الجماعة، والجمعة فعرفه فمسكه بتلابيبه وخنقه وقال له: ويلك ألم تك رأس العابدين وقدوة الزاهدين، فأمرت بسجدة واحدة فأبيت واستكبرت وكنت من الكافرين، وطردت وأبعدت إلى يوم القيامة فقال: تأدب يا عمر هل كانت الطاعة بيدي أم الشقاوة بمشيئتي، إني كنت أبسط سجادة عبادتي تحت قوائم العرش، ولم أترك في السماوات بقعة إلا فيها سجدة وركعة ومع هذا القرب قيل لي: أخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين، فإن كنت يا عمر أمنت مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فقال له عمر: اذهب فلا طاقة لي بكلامك، أين الذين كانوا في اللذات يتقلبون ويتجبرون على الخلق ويتكبرون، مزجت لهم كؤوس المنون، فهم لها يتجرعون، وتركوا الأموال التي كانوا لها يجمعون، وفارقوا الذي كانوا به، وفاتهم النعيم الذي كانوا به ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون، فلو رآهم يا هذا في حلل الندامة ¬

(¬1) لم نقف عليه.

يرفلون، ويساقون يوم القيامة إلى العذاب وهم ينظرون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وأنشدوا في المعنى: إليك من مكرك يا سيدي ... محل البرايا بذا يحذرون فكم ذنوب في عيوب مضت ... ونحن عنها سيدي غافلون نضيع العمر نكسب الخطأ ... فنحن في أوقاتها لاعبون نشاهد الموتى ولا نعتبر ... ولا تنبهنا الريب المنون فنحن يا رب الورى كلنا ... إليك من زلاتنا هاربون لكننا نسأل رب السماء ... عفواً وصفحاً كي تقر العيون فائدة: إبليس عبد الله ثمانين ألف سنة ثم قيل له: أخرج منها فإنك رجيم صرح بذلك الغزالي في منهاج العابدين. فائدة أخرى: رأى إسرافيل - عليه السلام - في اللوح المحفوظ أن عبداً يعبد ربه ثمانين ألف عام، ثم ترد عليه عبادته ويلعنه فبكى إسرافيل خوفاً أن يكون هو ذلك العبد، فسألته الملائكة عن ذلك فأخبرهم بما رآه في اللوح فبكوا جميعاً فكل منهم يخاف أن يكون هو ذلك العبد، ثم قالوا: نذهب إلى عزرائيل فإنه مجاب الدعوة فيدعو لنا، فأخبروه فدعا لهم وقال: اللهم لا تغضب عليهم ونسي أن يدعو لنفسه معهم ولم يقل: اللهم لا تغضب علينا. وقيل: إنه رأى على باب الجنة مكتوباً: إن لله عبداً يعبده من المقربين يأمره فلا يمتثل أمره فقال: ائذن لي أن ألعنه فلعن نفسه بنفسه ألف عام، وكان اسمه في سماء الدنيا العابد، وفي الثانية الراكع، وفي الثالثة الساجد، وفي الرابعة الخاشع، وفي الخامسة القانت، وفي السادسة المجتهد، وفي السابعة الزاهد، ثم بعد ذلك سمي إبليس لأنه أبلس من رحمه الله. وذكر الغزالي في الإحياء عن عيسى أنه قال: نبياً من الأنبياء شكى الجوع والعري والقمل سنتين، فأوحى الله إليه ما رضيت أن عصمت قلبك أن يكفر بي حتى تسألني الدنيا، فأخذ التراب وجعله على رأسه وقال: قد رضيت يا رب فاعصمني من الكفر. خاتمة مشتملة على فوائد: قال النووي في الأذكار يحرم أن يقول الشخص: إني إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، أو برئ من الإسلام ونحو ذلك، فإن قال ذلك وأراد حقيقة تعليق خروجه عن الإسلام ذلك صار كافراً في الحال، لأن تعليق الكفر كفر، في الحال لابد له أن يرجع عن معصيته ويندم على ما فعل وأن يعزم أن لا يعود إليه أبداً ويستغفر الله تعالى ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

قال: ويحرم عليه تحريماً مغلظاً أن يقول للمسلم: يا كافر، بل قال العلماء إذا قال للمسلم: يا كافر بلا تأويل كفر لأنه سمى الإسلام كفراً. روينا في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بهما أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه» (¬1) . وروينا في الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله وليس كذلك إلا جاء عليه» هذا اللفظ رواه مسلم، ولفظ البخاري بمعناه، ومعنى «جاء عليه» رجع عليه (¬2) . قال: ولو دعا مسلم على مسلم فقال: اللهم أسلبه الإيمان، عصى بذلك وأصح الوجهين أنه لا يكفر بذلك، ومثل هذا قال: لا ختم الله له بخير. قال: ولو أكره الكفار مسلماً على كلمة الكفر فقالها وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر بنص القرآن قال تعالى ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ? [النحل: 106] وأجمع المسلمون على ذلك، ولكن هل الأفضل في هذه الحالة أن يتكلم بها ليصون نفسه عن القتل أو لا؟ في المسألة خمسة أوجه فقيل: الأفضل أن يتكلم بها ليصون نفسه عن القتل، وقيل: إن كان في بقائه مصلحة للمسلمين بأن كان يرجو النكاية في العدو والقيام بأحكام الشرع، فالأفضل أن يتكلم، وإن لم يكن كذلك فالصبر على القتل أفضل، وقيل: إن كان من العلماء ونحوهم ممن يقتدي بهم، فالأفضل الصبر ولئلا يغتر به العوام، وقيل: يجب عليه التكلم لقوله تعالى ?وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ? [البقرة: 195] والصحيح: أن الأفضل أن يصبر على القتل ولا يتكلم بالكفر، والأحاديث الصحيحة وفعل الصحابة رضي الله عنهم مشهورة. حكاية غريبة في المعنى وهي خاتمة المجلس: حكي أن عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته أرسل أصحابة إلى الروم لأجل الغزاة فانهزمت أصحابه وأسر عشرون منهم، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2264، رقم 5753) ، ومسلم في صحيحه (1/79، رقم 60) عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2247، رقم 5698) ، ومسلم في صحيحه (1/79، رقم 61) عن أبي ذر. قلت: لفظ البخاري بمعناه كما قال المصنف فقد رواه البخاري بلفظ: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» .

وأحضروا بين يدي ملك الروم فأمر ترجمانه أن يسألهم عن من هو أكبرهم، فأشاروا إلى ثلاثة منهم، فأمر الملك واحداً من الثلاثة أن يدخل في دينه وأن يعتقد أن المسيح ابن الله، وأن النظر إلى الصليب عبادة، وقال: إن فعلت ذلك أعطيتك كذا وأخلع عليك الخلع، وأجعلك أقرب من في حضرتي، وإن أنت أبيت ولم وتدخل في ديني وإلا ضربت عنقك فقال المسلم: معاذ الله أن أبيع ديني بالدنيا، فأمر بضرب عنقه، فلما ضرب عنقه وطار رأسه في الميدان دار ثلاث مرات وهو يقول: ?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي? [الفجر: 27 - 30] فغضب الملك الخاسر، وأمر الثاني بمثل ما أمر الأول وقال: أعمل معك كذا وكذا ووعد ومناه، فأبي وقال: معاذ الله أن أبيع ديني بدنياك فأمر بضرب عنق الآخر بحضرته فلما ضرب عنقه وطار رأسه دار في الميدان ثلاثة دورات وهو يقرأ قوله تعالى ?فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ? [الحاقة: 21 - 24] فسكن عند الرأس الأول فغضب الملك الكافر غضباً شديداً، وأمر الثالث فأحضر بين يديه فقال له: ما تقول أنت أتدخل في ديني حتى أجعلك أميراً وبين يدي مشيراً وإلا قتلتك كصاحبيك، فقال الثالث: أدخل في دينك، وأبيع ديني بدنياك، وأبلغك في ذلك مناك، وغلبت عليه الشقاوة، وقال الملك لوزيره: اخلع عنه الخلع، وكتب له مثالاً بالحكم والتولية والإمرة فقال الوزير: ليس هذا من العقل أن تبادر بإكرام هذا وتوليته من غير تجربة فقال: الملك جربه، فقال الوزير له: يا هذا لا نأمنك ولا نصدقك حتى تقتل رجلاً من أصحابك، فقام وأخذ واحداً من المسلمين فقتله لغلبة الشقاوة عليه، فقال الملك: الآن استحق المثال والإماره والخلع فقال الوزير: أيها الملك هذا ليس صواباً إذا كان الرجل فعل مع الذي ولد معه ونشأ معه وتربى معه هكذا وقتله بيده ولم يرع حقه، فكيف يرعانا حقاً، أو كيف يبدي لنا صدقاً والرأي عندي أن تقتله وتلحقه بإخوانه فقال الملك: نعم الوزير أنت ونعم المشير افعل ما بدا لك، فأمر بضرب عنقه وطار رأسه في الميدان ودار ثلاث مرات وهو يقرأ قوله تعالى ?أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ? [الزمر: 19] ثم سكن وسط الميدان، ولم يخالط أخويه وصار إلى عذاب الله وغضبه، ونعوذ بالله من مكر الله، ولقد أحسن من قال في المعنى: وكم من بائع دنيا بدين ... فلم تحصل الدنيا ولم يحصل الدين ولو حصلت ما فات منها بطائل ... وأصبح مغبوطاً بها وهو مجنون * * *

المجلس الرابع عشر

المجلس الرابع عشر في ترجمة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ونفعنا به بمنه وكرمه الحمد لله الذي تعزز في وحدانيته فهو الواحد العزيز، وتفرد في أزليته وأغرق العالم في بحر الحيرة والتعجيز، أتقن خلق الموجودات فليس في إتقان صنعته نقص ولا تعويذ، زين شقة حلة السماء بنعوت إليها وطرزها بالكواكب المشرقة أي تطريز، ورقم كميها برقم الشمس والقمر كالفضة النقية والذهب الإبريز، وحرسها من استراقاق السمع بالشهب الثواقب أتم وأمنع تحجيز، وجلاها على عيون المعتبرين أولى العقل والتميز، وسطح الأرض على تيار الماء وأبرزها بقدرته أحسن تبريز، وثبتها برواسي الجبال وجعلها مسكناً للرجال والأقطاب والصالحين والأنجاب وخلع عليهم التكريم والتعزيز، صرف عنهم الدنيا فلم يعرفوا الإدخار والتكنيز، وجعلهم قائمين بحقه خلفاء على خلقه لمن فهم الأشاير والتلفيز، وخص منهم من شاء بالرفق في بلاده، والنصيحة لعباده كالصحابة ومن تابعهم مثل عمر بن عبد العزيز. قال البخاري «وكتب عمر بن عبد العزيز» هذا هو الإمام العادل خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي التابعي، الخليفة الراشد المجمع على جلالته وزهده وعلمه وشفقته على المسلمين. ترجمته أفردت بالتأليف، ويكنى أبا حفص، وكان مولده بالمدينة سنة ثلاث وستين وهي السنة التي ماتت فيها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان كثير الخوف - رضي الله عنه -. وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أكثر خوفاً من الحسن ومن عمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما. وقال الحارث بن زيد جار عمر بن عبد العزيز رحمه الله: لقد سمعت عمر بن عبد العزيز لما أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو يتململ كالسقيم، ويبكي بكاء الحزين وهو يقول: يا دنيا إليَّ تعرضت أم إليً تشوقت، هيهات هيهات غري غيري قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك فعمرك قصير، وغنيك فقير وعيشك حقير وخطرك كبير. وكان - رضي الله عنه - إذا صلى الصبح أخذ المصحف في حجره، ودموعه تنحدر تبل لحيته، فكلما مر بآية تخيفه رددها فلا يتجاوزها من كثرة البكاء حتى تطلع الشمس، أنشد بعضهم:

وآسفا فراق قوم ... هم المصابيح والحصون والمزن والأمن والتمني ... والخير والعقل والسكون بعدهم العيش ليس يصفوا ... كيف تغلبيهم المنون فكل نار لنا قلوب ... وكل ماء لنا عيون وكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله. وروي أنه قرأ يوماً ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ? [يونس: 61] فبكى بكاء شديداً حتى بكى معه أهل الدار، فجاءته زوجته فجلست تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ولده عبد الملك فدخل عليهم وهم يبكون فقال: يا أبت ما يبكيك؟ قال يا بني ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار. يا هذا إذا كان عمر بن عبد العزيز يخاف مع عدله وأنت تأمن مع جورك وظلمك. ورؤي في المنام بعد اثنى عشر سنة فقال: الآن تخلصت من حسابي. اسمع يا من أمن الأقدار، وليس له عند مولاه اعتذار ولله من قال: تشاغل بالدنيا أناس فأصبحوا ... عن الباب محجوبين قد منعوا القربا وأهل التقى لله تسري قلوبهم ... إلى غاية نالوا بها الشرب العذبا فجاءوا بنور العلم في روضة التقى ... بها نفس الأبرار قد ملئت حبا هم قطعوا الدنيا بخوف وعبادة ... فذكرهم للموت ورثهم كربا وعن عطاء رحمه الله قال: كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء كل ليلة ويتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، فلا يزالون يبكون حتى كان بين أيديهم جنازة. وعن ابن حيان -رحمه الله- قال: صليت الصبح خلف عمر بن العزيز فقرأ ?وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ? [الصافات: 24] فجعل يكررها ولا يستطيع أن يتجاوزها من البكاء. وعن سفيان قال: كان عمر بن عبد العزيز ساكتاً وأصحابه يتحدثون فقالوا له: مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أتفكر في أهل الجنة كيف يتزاورون، وفي أهل النار كيف يطرحون فيها، ثم بكى، وكان إذا بكى فوق غرفة تتحدر دموعه من الميزاب.

وعن الحسن بن الحسين قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز يبكي حتى رأيته بكى الدم، وكان خوفه بعد أن ولي الخلافة أشد وأعظم مما قبلها، فإنه كان رجلاً جسيماً فلما ولي الخلافة صار نحيفاً خوفاً من عدم القيام بحقوق العباد والمطالبة بذلك في الدار الآخرة. قال ابن أبي شبيب: شهدت عمر بن عبد العزيز وهو يطوف البيت وإن ربطة إزاره لغائبة في بدنه من سمنه، ثم رأيته بعد ما استخلف ولو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسها. لطيفة مناسبة: نقل في كتاب لطائف المعارف عن عون بن عقبة أنه قال: بنى ملك من الملوك ممن كان قبلكم مدينة فتأنق في بنائها، ثم صنع طعاماً ودعا الناس إليه وأقعد على أبوابها أناساً يسألون كل من خرج هل رأيتم فيها عيباً؟ فيقولون: لا، حتى جاء في آخر الناس قوم أكسية فسألوهم: هل رأيتم فيها عيباً؟ فقالوا عيبين اثنين فأدخلوهم على الملك فقال لهم: هل رأيتم فيها عيباً؟ قالوا: رأينا فيها عيبين، قالوا: وما هما؟ قالوا: تخرب ويموت صاحبها، ثم دعوه وشوقوه إليها فأجابهم وانخلع من ملكه وتعبد معهم إلى أن مات، فحدث عون بهذا الحديث لعمر بن عبد العزيز فوقع منه موقعاً عظيماً، واشتد خوفه بسبب ذلك وهمَّ أن يخلع نفسه من الملك، فأتاه ابن عمه مسلمة فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فوالله لئن فعلت لتقتلن الناس بأسيافهم فقال: ويحك يا مسلمة حملتني ما لا أطيق وجعل يرددها، ومسلمة يناشده حتى سكن. وعن أبي حازم الخناصري الأسدي قال: قدمت دمشق في خلافة عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة والناس رائحون إلى الجمعة فقلت: إذا إن صرت إلى الموضع الذي أريد نزوله فاتتني الصلاة ولكن أبدأ بالصلاة فصرت إلى باب المسجد، فأنخت بعيري ثم علقته ورحت المسجد، فإذا أمير المؤمنين على الأعواد يخطب الناس فلما أن أبصرني عرفني فناداني: يا أبا حازم إليَّ مقبلاً، فلما أن سمع الناس نداء أمير المؤمنين إليَّ أوسعوا لي فدنوت من المحراب، فلما أن نزل أمير المؤمنين فصلى بالناس التفت إليَّ فقال: يا أبا حازم متى قدمت بلدنا؟ قلت: الساعة وبعيري معقول على باب المسجد، فلما أن تكلم عرفته فقلت: أنت عمر بن عبد العزيز قال: نعم، قلت له: بالله لقد كنت عندنا بالأمس بخناصرة أميراً لعبد الملك بن مروان فكان وجهك وضاء، وثوبك نقياً، ومركبك وطياً، طعامك شهياً، وحرسك شديداً فما الذي غير بك وأنت أمير المؤمنين فقال: يا أبا حازم أناشدك الله إلا حدثيني الحديث الذي حدثني بخناصرة قلت: نعم

سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن بين أيديكم عقبة كؤوداً لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول» (¬1) قال أبو حازم: فبكى أمير المؤمنين بكاء عالياً حتى علا نحيبه ثم قال: يا أبا حازم فتلومني أن أضمر نفسي لتلك العقبة، لعلي أن أنجوا منها، وما أظنني منها بناج قال أبو حازم: فأغمي على أمير المؤمنين فبكى بكاءً عالياً حتى علا نحيبه ثم ضحك ضحكاً عالياً حتى بدت نواجذه، وأكثر الناس فيه القول فقلنا: اسكتوا وكفوا فإن أمير المؤمنين لقي أمراً عظيماً قال أبو حازم: ثم أفاق من نحيبه فبدرت الناس إلى لومه فقلت: يا أمير المؤمنين لقد رأيت منك عجباً قال: أرأيتم ما كنت فيه؟ قلت: نعم، قال: إني بينما أنا أحدثكم إذ غمي عليَّ فرأيت أن القيامة قد قامت وحشر الله الخلائق، وكانوا عشرين ومائه ألف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ثمانون صفاً وسائر الأمم من الموحدين أربعون صفاً، إذا وضع الكرسي ونصب الميزان ونشرت الدواوين، ثم نادى المنادي أين عبد الله بن أبي قحافة؟ فإذا بشيخ طوال يخضب بالحناء والكتم، فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه إمام الله تعالى فحوسب حساباً يسيراً، ثم أمر ذات اليمن إلى الجنة ثم نادى المنادي: أين عمر بن الخطاب؟ فإذا بشيخ طوال يخضب بالحناء فأخذت الملائكة بضبعية فأوقفوه إمام الله تعالى فحوسب حساباً يسيراً، ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، ثم نادى مناد: أين عثمان بن عفان؟ فإذا بشيخ طوال يصفر لحيته فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه إمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، ثم نادى مناد: أين علي بن أبي طالب؟ فإذا بشيخ طوال أبيض الرأس واللحية عظيم البطن رقيق الساقين، فأخذت الملائكة بضبعية فأوقفوه إمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة فلما رأيت الأمر قد قرب مني، اشتغلت بنفسي فما أدري ما فعل الله بمن كان بعدي، إذ نادني المنادي أين عمر بن عبد العزيز؟ فقمت على وجهي ثم قمت فوقعت على وجهي ثم قمت فوقعت على وجهي وأتاني ملكان فأخذا بضبعي فأوقفاني إمام الله تعالى فسألني عن النقير والقطير والفتيل، وعن كل قضية قضيت بها حتى ظننت أني لست بناج ثم إن ربي تفضل عليَّ وتداركني منه برحمته وأمر بي ذات اليمين إلى الجنة، فبينما أنا مار مع الملكين الموكلين بي فمررت بجيفة ملقاة على رماد فقلت: ما هذه الجيفة؟ قالوا: أدن منه وسله يخبرك، فدنوت منه فوكزته برجلي فقلت له: من أنت؟ فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا عمر بن عبد العزيز، قال لي: ما فعل الله بك وبأصحابك؟ قلت: أما أربعة ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/299) ، والقصة بتمامها عنده عن أبي حازم الخناصري.

فأمر بهم ذات اليمين إلى الجنة ثم لا أدري بمن كان بعد علي فقال لي: أنت ما فعل الله بك؟ قلت: تفضل علي ربي وتداركني برحمته، وقد أمر بي ذات اليمين إلى الجنة، فقال: أنا كما صرت ثلاثاً، قلت له: من أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قلت له: الحجاج أرددها ثلاثاً، قلت: ما فعل الله بك قال لي قدمت على رب شديد العقاب ذي بطشة فقتلني بكل قتلة قتلت بها مثلها، ثم ها أنا موقوف بين يدي ربي أنتظر ما ينتظره الموحدون من ربهم، إما إلى الجنة وإما إلى نار. قال أبو حازم فأعطيت الله عهداً بعد رؤيا عمر بن عبد العزيز أن لا أوجب لأحد من هذه الأمة ناراً. وروي أنه - رضي الله عنه - منذ ولي الخلافة لم يضع لبنة على لبنة ولا أحدث له دآبة ولا امرأة ولا جارية، حتى لحق بالله. قال له بعض أصحابه: لأي شيء لا تحدث لك بناء؟ قال هذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من الدنيا ولم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة. وعن أبي داود الرومي قال: كان لعمر بن عبد العزيز درجة يصعد عليها، وكانت تتحرك كلما نزل وطلع، وكان يرتاع منها ويرتعب، فأصلحها بعض أصحابه وشدها بطين في غيبته بغير إذنه، فلما صعد عمر ورآها قد ثبتت فسأل عمن أصلحها؟ فقيل له: إن فلاناً أصلحها، فقال: أعيدوها إلى ما كانت عليه فإني عاهدت الله منذ وليت أن لا أضع لبنة على لبنة ولا أجرة على أجرة. اسمع واتعظ يا من أفنى في عمارة الدنيا عمره، وأقل من فعل الخيرات فيها وأكثر فيها ضرره، وكان السلف لصالح يخربون الدنيا ويعمرون بها الآخرة، ولا أنت يا مسكين عكست ذلك وغفلت أنك عن قريب ستصل إلى الحافرة ولله در من قال. زيادة المرء في دنياه نقصان ... وفعله غير فعل الخير خسران يا عامر لخراب الدار مجتهداً ... تالله هل لخراب الدار عمران يا مستأنساً بالمنازل والدور، وكاسات الموت عليه تدور، يا مظلم القلب وما للقلب نور، الباطن خراب والظاهر معمور، لو ذكرت الأجداث والقبور، لأبطلت عمارة الدنيا أيا المغرور، ستحاسب على الأيام والشهور، يا من يصلي بلا حضور، ويصوم والصوم بالغيبة مغمور، كم نتلطف بك يا نفور، كم ننعم عليك يا كفور، تبارز بالمعاصي وأنت مستور، ويحلم عليك إنه حليم غفور، يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور، إلى متى تلهى بدار الغرور، وفي تمادي الغي تفنى الدهور، يا ناسياً الموت يا

غافلاً عليه كاسات المنايا تدور، وما تزودت ليوم النشور، فانهض وتب من كل ذي ذنب متى تحظى برضوان العزيز الغفور. ومن فضائله: أنه كان يعجبه ويحب من يذكر له شيئاً قصر فيه أو نسيه ويرى له الفضل في ذلك. قال عمرو بن مهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلابيبي ثم هزني وقل: يا عمر ما تصنع. فانظر يا هذا إلى خوف عمر بن عبد العزيز مع اجتهاده، فكيف بك مع تقصيرك، الدنيا مزرعة الآخرة، فما عملته في هذه وجدته في تلك. فأنت اليوم تعمل وغداً ترى، فإن كنت غافلاً فأبك على ما قد جرى، وإذ كنت نائماً فستذهب عنك لذة الكرى، لو بكت عيناك يا هذا دماً ما تقدمت إلينا قدماً، كيف يصفوا لك ود بعد ما نشر العذر علينا علماً، إنما يصفوا وداد مرء حفظ العهد وراعى الذمما، لو أردناك لنا ما فتنا، ووصلنا حبلنا ما انصرما، ما رأينا منصفاً عامله منصف في صفقة إلا فاختصما، كانت الدنيا إذا قدمت على الصالحين قدموها إلى الآخرة. كان عمر بن عبد العزيز يأتيه خراج اليمن فيدخله بيت المال، ويبيت في الظلام. وكان يقول: إذا سهرت في أمر العامة أشعلت سراجاً من بيت المال، وإذا سهرت في أمر نفسي أسرجت عليَّ من مالي. وأما عدله - رضي الله عنه - فإنه قد ملأ الأرض قسطاً وعدلاً وخضعت الوحوش لعدله وصارت الذباب في أيامه ترعى الغنم مع المغنم. فقد حكي مالك بن دينار أنه لما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز قال رعاء الشاة من رؤوس الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس، فقيل لهم: من أعلمكم بصلاحه؟ قالوا: إنه قد قام خليفة صالح كفت الذئاب والأسد عن شائنا (¬1) . قال جسر القصاب: مررت في خلافة عمر بن عبد العزيز بشياه، وفيها نحو ثلاثين وحشاً أحسبهم كلاباً فقلت للرعاة لقد أكثرتم من الكلاب بين أغنامكم، فقالو: إنهم ذئاب فقلت لهم: العجب، فقالوا: إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس (¬2) . ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/255) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (5/386) . (¬2) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/255) .

صلى أنس بن مالك خلفه قبل خلافته ثم قال: ما رأيت أحد أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى. وكان - رضي الله عنه - عفيفاً زاهداً ناسكاً مؤمناً تقياً صالحاً رضياً وهو الذي أزال ما كان يذكر به علياً على المنابر، فإن بني أمية كانوا يلعنون علياً على المنابر، فأزاله عمر بن عبد العزيز ووضع مكانه: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر، وإلي هذا أشار كثير عزة بقوله: وليت لم تسب علياً ولم تخف ... بريئا ولم تقبل مقالة مجرم وصدقت بالقول الفعال مع الذي ... أتيت فأمسى راضياً كل مسلم فما بين شرق الأرض والغرب كلها ... منا ينادى من فصيح وأعجم يقول أمير المؤمنين ظلمني ... بأخذك ديناري ولا أحد يهم فاربح بها من صفقة لمبايع ... وأكرم بها أكرم بها ثم أكرم وهو الذي بعثه الله على رأس المائة الأولى لهذه الأمة ليصح لها دينها، فقد قال أحمد بن حنبل يروي هذا الحديث: «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة دينها» (¬1) فنظرنا في المائة الأولى فإذا عمر بن عبد العزيز. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (¬2) : حمله العلماء في المائة الأولى على عمر بن عبد العزيز، وفي الثانية على الشافعي وفي الثالثة على ابن شريح، وقيل: على الشيخ أبي الحسن الأشعري، وفي الرابعة على أبي سهل الصعلوكي وقيل: على القاضي الباقلاني، وقيل: على أبي حامد الإسفرائيني، وفي الخامسة على الغزالي. قال الكرماني: ولا يبعد أن يكون مع السادسة الإمام الرازي، وقال: كيف لا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4/109، رقم 4291) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضاُ: الحاكم في المستدرك (4/567، رقم 8592) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/323، رقم 6527) ، وأبو عمرو المقرئ في السنن الواردة في الفتن (3/742، رقم 364) ، والديلمي في الفردوس (1/148، رقم 532) . وكلام الإمام أحمد رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/62) من طريق أبي سعيد الفريابي قال: قال أحمد بن حنبل: إن الله تعالى يقيض للناس في كل راس مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي راس المائتين الشافعي - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: تهذيب الأسماء (ص 27) للنووي.

ولولاه لامتلأت الدنيا من شبه الفلاسفة فهو الداعي إلى الله في إثبات القواعد الحقانية، وحجة الحق على الخلق في تصحيح العقائد الإيمانية. وأفاد الكرماني: أن المراد بالمصحح لهذه الأمة دينها في رأس كل مائة سنة، من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه قال: وقد كان قبيل كل مائة أيضًا من يصحح ويقوم بأمر الدين قال: ويحتمل التعدد في المصحح. وأما شيخنا الجلال السيوطي قال: إن هذا البعث من خصائص هذه الأمة، وإن عيسى ابن مريم يبعث في آخر مائة ليجدد لهذه الأمة أمر دينهم. وكان يترنم بهذه الأبيات: نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم يغرك ما يغني وتشغل بالمنى ... كما غر باللذات في النوم حالم ويشغل فيما سوف يكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم ومن فضائله وزهده ما قاله مسلمة بن عبد الملك قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز في مرضه فإذا عليه قميص وسخ فقلت لزوجته فاطمة بنت عبد الملك: اغسلي قميص أمير المؤمنين فقالت: نفعل إن شاء الله، ثم عدته فإذا القميص على حاله فقلت: يا فاطمة لم أمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين، فإن الناس يعودونه فقالت: والله ما له قميص غيره. وكان مرضه الذي مات فيه أول شهر رجب سنة إحدى ومائة. وروي أن مسلمة بن عبد الملك دخل عليه في مرضه الذي مات فيه فقال: يا أمير المؤمنين من توصي بأهلك، وكان له من الأولاد الذكور بضعة عشر وإذ ذكر فقال: إن ولييَّ فيهم الله وهو يتولى الصالحين. ويروي أنه قال: يا أمير المؤمنين إنك افتقرت ولدك من هذا المال، وتركتهم عيلة لا شيء لهم، فلو أوصيت بهم إلىّ فقال: اسندوني ثم قال: أما قولك: إني أفقرت أفواه ولدي من هذا المال، فوالله ما منعتهم حقاً هو لهم ولم أعطهم ما ليس لهم، وأما قولك: لو أوصيت فاعلم أن وصيتي وولييَّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، ثم قال: بني أحد رجلين إما رجل يتقي الله تعالى فسيجعل له مخرجاً، وإما رجل منكب على المعاصي فلم أكن مقويه على معاصي الله تعالى، ثم بعث إليهم فلما حضروا ونظر إليهم فزرفت عيناه وقال: بنفسي أفدي الفتية الذين تركتهم لا شيء لهم، فإني بحمد الله تركتهم بخير، أي بني: إن أباكم بين أمرين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار،

وتفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فلأن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، قوموا عصمكم الله تعالى، ولما وكلهم إلى مولاهم فتح الله عليهم بالمال الكثير. حكى الكمال الدميري في الحمام: أن بعض العلماء الأكابر اجتمع بالمنصور وأمير المؤمنين فقال المنصور لذلك الرجل العالم يوماً من الأيام: عظني وأخبرني بأعجب ما رأيت، قال له: يا أمير المؤمنين من غريب ما رأيت أن عمر بن عبد العزيز مات وخلف إحدى عشر ولداً فبلغت تركته سبعة عشر دينار تصدق بخمسة دنانير واشترى له موضع القبر بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهماً. ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابنا فورث كل واحد منهم ألف ألف دينار ثم إني رأيت رجلاً من أولاد عمر بن عبد العزيز حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله ورأيت رجلاً من أولاد هشام يسأل أن يتصدق عليه قال: وهذا غير عجيب فإن عمر بن عبد العزيز وكلهم إلى ربه فكفاهم وأغناهم، وهشام وكلهم إلى دينارهم فأفقرهم مولاهم. وعن الأوزاعي أنه قال: إن عمر بن عبد العزيز قال ما أحب أن يخفف عني سكرات الموت لأنه آخر ما يرفع للمؤمن من الأجر. وفي رواية قال: ما أحب أن يخفف سكرات الموت لأنه آخر ما يكفر به عن المؤمن. وروي أنه لما ثقل عليه المرض قال لمسلمة بن عبد الملك: خذ من مالي دينارين فاشتري لي كفنا فقال: يا أمير المؤمنين أن الدينارين لا يحصل بهما كفن بمثلك فقال: يا مسلمة إن كان الله - عز وجل - عني راضياً فسيبدلني لي بما هو خير منه، وإن كان ساخطاً فإنما أكون حطباً للنار. ويروى أنه دخل عليه شخص يقال له: سابق في مرضه فقال: له يا سابق عظني وأوجز فأنشد: إذا أنت لم ترحل بزاد التقى ... وافيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون شريكه ... وأرصدت قبل الموت ما كان أرصدا فبكى عمر حتى وقع مغشياً عليه ودخل سابق مرة أخرى عليه فأنشده قصيدة طويلة: فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتتة المنايا بغتة بعدما هجع فلم يستطيع إذ جاءه الموت بغتة ... فراراً ولا منه بقوته امتنع

فأصبح تبكيه النساء مقنعا ... ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق بعدما كان بالأمس قد جمع فلا يترك الموت الغني لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع فلم يزل عمر يضطرب ويبكي حتى غشي عليه. وكان بوجهه شجة فلهذا كان يقال له: شجيج بني أمية لأن ضربته دآبة في وجهه. وهو منسوب إلى عمر بن الخطاب لكن من جهة النساء. ومن كرامات عمر بن الخطاب أنه كان يقول: من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلاً هو عمر بن عبد العزيز فإنه - رضي الله عنه - من أولاد عمر بن الخطاب من جهة الأم فإن أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. لطيفة: مر عمر بن الخطاب ليلة ببيت فسمع امرأة تقول لابنتها: أخلطي الحليب بالماء فقالت البنت: يا أماه أو ليس نادى عمر بن الخطاب أن لا يخلط أحد الحليب بالماء؟ قالت: إنه لا يرانا، فقالت: نطيعه في الملأ ونعصيه في الخلاء، فلما أصبح عمر دعا أولاده عبد الله وعبيد الله وعاصماً وعرض عليهم الجارية وقال: لو كان لأبيكم من حركة ما سبقه إليها من أحد، فتزوجها عاصم فولدت بنتا ثم ولدت الثانية عمر بن عبد العزيز. وقال ابن رجب في اللطائف: خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها، فيها: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاد ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله من قضي نحبه وانقضى أجله فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب غنياً عما خلف، فقيراً إلى ما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته وإني لا أقول لكم هذه المقالة وما أعلم على أحد من الذنوب أكثر ما أعلم عندي، ولكني استغفر الله وأتوب إليه، ثم رفع طرف درائه فبكى حتى شهق، ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله تعالى. وعن عبيدة بن حسان قال: لما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: اخرجوا عني فلا

يبقى عندى أي أحد وكان عنده مسلمة بن عبد الملك، فخرجوا وقعد مسلمة وأخته فاطمة زوجة عمر على باب فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه ليست بوجوه إنس ولا جان، قال سمعنا صوتا من ناحية الباب يقول: ?تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [القصص: 83] ثم دخلوا عليه وقد مات رحمة الله واستقبل القبلة وغمض عينيه وطبق فاه (¬1) . قيل: إن بعض الجان بعد موته رثاه فقال: عنا جزاك مليك الناس صالحة ... في جنة الخلود والفردوس يا عمر أنت الذي لا نرى عدلاً نسر به ... من بعده ما جرت شمس ولا قمر ورثاه جرير فقال: تنعي النعاة أمير المؤمنين لنا ... مفضل حج بيت الله واعتمرا حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به ... وسرت فيهم بحكم الله مؤتمرا ورثاه الفرزدق بقصيدة طويلة منها: لو أعظم الموت خلقاً أن يواقعه ... لعدله لم يصبك الموت يا عمر كم من شريعة حق قد نعت لهم ... كادت تموت وأخرى منك تنتظر قال الأوزاعي: شهدت جنازة عمر وخرجت إلى مدينة «قنسرين» فمررت على راهب يسير على ثورين أو حمارين فقال: يا هذا ما أحسبك شهدت جنازة هذا الرجل فقلت له: نعم فبكى فقلت وما يبكيك ولست من أهل دينه قال إنما أبكي على نور كان في الأرض فطفيء. ¬

(¬1) روى ابن المبارك في الزهد خبر موته (ص 309، رقم 887) عن مغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة: كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم أخف عليهم موتى ولو ساعة من نهار قالت: فقلت له يوماً: يا أمير المؤمنين ألا أخرج عنك عسى أن تغفي شيئاً فإنك لم تنم، قالت: فخرجت عنه إلى بيت غير البيت الذي هو فيه، قالت: فجعلت اسمعه يقول: ?تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [القصص: 83] يرددها مراراً ثم اطرق فلبث طويلاً لا أسمع له صوتا فقلت لوصيف له كان يخدمه: ويحك انظر، فلما دخل صاح، قالت: فدخلت عليه فوجدته ميتاً قد أقبل بوجهه على القبلة، ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينه. ورواه أيضاً: ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/406) ، والطبري في التاريخ (4/72) . وانظر: سير أعلام النبلاء (5/141) .

ويوم موته وثب ذئب على شاه فقال: الرعاة كأن الرجل الصالح قد مات فنظروا فوجدوا عمر قد مات تلك الليلة - رضي الله عنه -، ولي الخلافة بعده ابن عمه سليمان بن عبد الملك سنة تسع وتسعين. وكانت خلافته مثل خلافة أبي بكر الصديق سنتين وخمسة أشهر، وكانت وفاته يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وستة أشهر، ومات بدير سمعان قرية من قري حمص، وكان قد أرسل لصاحب الأرض الذي يساومه على موضع قبره فقال: يا أمير المؤمنين والله إني لأتبرك بقبرك وقد حاللتك منه فأبى أن يقبله إلا بثمن، وبايعهم على موضع قبره بدينارين، وقال لهم: إنما أريد بطن الأرض، فإذا دفنت فاحرثوا أرضكم وأزرعوا فيها وابنوا وانتفعوا فلا يضرني ذلك، ودفن هناك وكان عنده شيء من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأظفاره فأوصى أن تدفن معه. لطيفة: قال يوسف بن ماهك: بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر إذا سقط علينا من السماء رق مكتوب عليه: بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار. وقال خالد الربعي: مكتوب في التوراة أن السماء تبكي على عمر بن عبد العزيز أربعين صباحاً. لطيفة أخرى: قال الغزالي في منهاج الفائزين روي أن بعض الصالحين قال: كان لي ولداً استشهد فلم أره في المنام إلا ليلة توفي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، إذا تراءى إليَّ تلك الليلة فقلت: يا بني ألم تك ميتاً فقال: لا ولكني استشهدت وأنا حي عند الله أرزق، فقلت ما جاء بك فقال: نودي في السماء أن لا يبقى نبي ولا صديق ولا شهيد إلا وحضر الصلاة على عمر بن عبد العزيز فجئت لأشهد الصلاة ثم جئتكم لأسلم عليكم. قال البخاري «وكتب بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي» (¬1) هذا هو السيد ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/113) : قوله: «وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي» أي: ابن عميرة الكندي، وهو تابعي من أولاد الصحابة، وكان عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة فلذلك كتب إليه، والتعليق المذكور وصله أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان لهما من طريق عيس بن عاصم قال: حدثني عدي بن عدي قال: كتب إلى عمر بن عبد العزيز: «أما بعد فإن للإيمان فرائض وشرائع ... إلى آخره» . وقوله: «إن للإيمان فرائض» كذا ثبت في معظم الروايات باللام، وفرائض بالنصب على أنها اسم إن. وفي رواية ابن عساكر: «فإن الإيمان فرائض» على أن الإيمان اسم إن وفرائض خبرها، وبالأول جاء الموصول الذي أشرنا إليه. وقوله: «فرائض» أي: أعمالاً مفروضة، «وشرائع» أي: عقائد دينية، «وحدوداً» أي: منهيات ممنوعة، «وسنناً» أي: مندوبات.

الجليل أبو فروة الكندي الجزري التابعي، وقد اختلفوا في أنه صحابي أم لا، والصحيح أنه تابعي. وسبب الاختلاف في أنه روى أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فظنه بعضهم صحابياً. وكان عدي عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة والموصل، واستعمال عمر له يدل على أنه ليس بصحابي لأنه عاش بعد عمر، ولم يبق أحد من الصحابة في خلافته واتفقوا على جلالة عدي. فقال البخاري: عدي سيد أهل الجزيرة. وقال أحمد بن حنبل: عدي لا يسئل عن مثله وتوفي في ستة عشرين ومائة. «أن للإيمان فرائض وشرائع وحدودتا وسننا» هذا الذي قاله البخاري من قوله «وكتب عمر بن عبد العزيز أن للإيمان ... إلى آخره» تعليق ذكره بصيغة الجزم وهو حكم منه بصحته، ومقصود البخاري بهذا الأثر المنقول عن عمر بن عبد العزيز الاستدلال على مذهبه من زيادة الإيمان ونقصانه، وأن عمر بن عبد العزيز كان قائلاً بأن الإيمان قول وفعل، وكان قائلاً: بأنه يزيد وينقص حيث قال: «فمن استكملها فقد ستكمل الإيمان» واستدل بكلامه لأنه جمعها بجلالته وفضله وعلمه كما قدمنا ذلك، والفرق بين الفرائض والشرائع والسنن ظاهر، وذلك أن المراد بالفرائض: الأعمال المفروضة، وبالشرائع: العقائد الدينية، وبالحدود: المنهيات، وبالسنن: المندوبات، هكذا فسرها الكرماني والبرماوي. قال البرماوي: وفسرناها بذلك حذراً من التكرار فيكون ذلك وفاء بالاعتقاد وبالعمل والترك واجبين ومندوبين. * * *

المجلس الخامس عشر

المجلس الخامس عشر في قوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى? [البقرة: 260] وفيه فوائد كثيرة متعلقة بالسيد إبراهيم صلاة الله وسلامه عليه «وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ?وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي?» مقصود البخاري بهذه الآية الاستدلال أيضاً على مذهبه من زيادة الإيمان ونقصانه، وهي دليل ظاهر على قبول الزيادة، وفصل هذه الآية عن الآيات التي استدل بها على زيادة الإيمان ونقصانه لأن تلك دلت على الزيادة بالصريح، وهذا بطريق اللزوم، ففصل ليشعر بالتفاوت، ووجه الاستدلال أن السيد إبراهيم سئل أن يريه إحياء المولي فقال: ?رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى?، وإنما سأل ليزداد يقيناً وبصيرة، فإنه إذا انضم عين اليقين إلى علم اليقين لا شك أن الإيمان يكون أقوى فلما سأل ذلك قال الله تبارك وتعالى ?أَوَلَمْ تُؤْمِن? ألم تصدق بأني أحي الموتى، وهو سبحانه عالم بأن إبراهيم يصدق بذلك ولكن قال له ذلك ليظهر إيمانه لكل سامع فقال إبراهيم في جواب ربه: بلى ومن بأنك تحي الموتى ولكن سألتك ?وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? أي: ليزداد يقيني إذ ليس سمع كمن رأى وليس الخبر كالعيان ولله در القائل: ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المشاهدة الخليل فطلب -صلوات الله وسلامه عليه- رؤية إحياء الموتى ليصير علم اليقين عنده بالاستدلال عين اليقين بالمشاهدة، فإنه ليس ما يصل إلى القلب بالخبر كالدي يصل إليه بالنظر لأن الكذب في الخبر ممكن وفي العيان غير ممكن. وذهب بعض أهل التصوف إلى أن السيد إبراهيم - عليه السلام - إنما قصد بالسؤال رؤية الباري جل وعلا، وجعل السؤال عن كيفية إحياء الموتى وسيلة إلى ذلك فكأنه قال: رب أرني ذاتك وأنت تحي الموتى، فلما سأل من ربه أن يريه كيف يحي الموتى ليزداد يقينه قال الله تعالى ?فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ? قيل: خذ الطاووس والديك والغراب والنسر، قيل: الحمامة بدل النسر والبطة بدل الطاووس. ?فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ? أي: ضمهن إليك ولتبرهن واعرف هيئتهن ثم قطعهن ثم اخلط لحمهن ورشهن ودمهن بعضه ببعض، ثم أمسك رؤوسهن عندك، ثم جزئهن ثم اجعل على كل جبل من جبال أرضك وكانت سبعة، وقيل: أربعة أجزاء. ?ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً? أي: قل لهم تعالين بإذن الله يأتينك ساعيات

مسرعات في طيرهن أو مشيهن على رجلهن، ففعل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كما أمره الله تعالى أخذ هذه الطيور الأربعة وذبحها وقطع رؤوسها ووضع الرأس عنده ثم قطع لحمها قطعاً قطعاً، وخلط الجميع وقسمه سبعة أقسام على عدد الجبال، ووضع على كل جبل منها جزءاً كما أمره الله تعالى، ثم قال لهذه الأجزاء تعالين بإذن الله فعاد كل جزء إلى جسده، وأتى كل جسد إلى رأسه الذي معه وقيل: قال: أيتها الطيور المنقطعة والأعضاء المتفرقة عودي كما كنت بإذن الله تعالى، فعادت أجنحة هذا إلى مكانها ورأس هذا إلى بقيته وأعضائه والتأم هذا إلى هذا، وإبراهيم ينظر إليها وأقبلت أربعتها تسعي بإذن الله تعالى فعندها قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، فقال: له عند ذلك ربه ?أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ? [البقرة: 131] . وقال بعضهم: لما قال السيد إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قيل: له أنت شاك في قدرتنا حتى تقف في حقيقتنا وتقول: أرني فقال: يا رب أنت أريتني بعين بصيرتي فأرني بعين بصري لأجمع بين النظريين، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحها ويفرق أجزائها ويجعل على كل جبل منهن جزء وأمره أن يأخذ رؤؤس الأربعة فيجعلها بين أصابعه، ويدعوها ففعل ذلك، فهب بنسيم من جانب القدرة، وجمع تلك الأجزاء المتفرقة وأتوا نحوه واختطف كل منها رأسه من بين أصابعه، وطار حياً بقدرة الله سبحانه وتعالى فعكفوا على رأس إبراهيم، ونادوه بلسان فصيح وقلب جريح: يا إبراهيم أي شيء أردت بنا حتى سفكت دمنا، يا إبراهيم تأدب فربما باسطك ربك بمثل ما باسطته، ففي تلك الليلة رأى إبراهيم ربه في المنام يقول له: اذبح ولدك كأنه يقال له إبراهيم نحن أريناك أحياء الموتى فأرنا أنت إماتة الأحياء. فائدة: قال ابن العماد في الذريعة لم يتعرض المفسرون لوجه الحكمة في كونها أربعة، وظهر لي والله اعلم أن العناصر لما كانت أربعة ناسب الحصر في الأربعة، ويؤيد ذلك ما قاله أن الله أوحى إليه أن يأخذ بطة خضراء وغراباً أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمراً، فإن الأخضر بمثابة الصفراء أو الأسود بمنزلة السود والأبيض كالبلغم والأحمر الدم والله أعلم. والحكمة في أمره بالأخذ من الطير دون غيره من الحيوانات: أن الطير أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواص الحيوان. قال بعض العلماء: وإنما أخذ هذه الطيور الأربعة دون غيرها من الطيور لنكتة لطيفة وهي: أن أعداء الآدمي أربعة: الدنيا والهوى والنفس والشيطان كما أشار إليه

بعضهم بقوله: إني بليت بأربع ما سلطوا ... إلا لعظم بليتي وعنائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... كيف السبيل وكلهم أعدائي فكأنه أشار بأخذه لهذه الطيور ووضعها على الجبال أن ينفي عنه ما أتصف كل واحد منها من هذه الأعداء الأربعة، فأشار بالطاووس إلى نفي نية الدنيا لأنه أكثر الطيور زينة، وأشار الغراب إلى نفي الحرص لأنه أكثر الطيور روضاً، وأشار بالديك إلى نفي الشهوة لأنه أكثر الطيور شهوة، وأشار بالنسر إلى نفي العجب لأنه أكثر الطيور عجباً، فكأنه تعالى بقوله: خذ هذه الأربعة واجعل كل منها على جبل، فالحرص على جبل الترك، والزينة على جبل الزهد، والعجب على جبل التواضع، والشهوة على جبل الإخلاص. فائدة في أحكام هذه الطيور: أما الطاووس فهو طائر معروف في طبعه العفة وحب الزهو والخيلاء والإعجاب بريشة، يلقي ريشة في الخريف كما يلقي الشجر ورقة، فإذا بدأ طلوع الأوراق من الشجر طلع ريشة، ومع حسنة يتشأم به ونكره الناس إقامته في البيت. وسببه: أنه لما كان سبباً لدخول إبليس الجنة وخروج آدم منها، وسبباً لخلو تلك الدار من آدم مدة دوام الدنيا كرهت أقامته في الدور، وكان غير مبارك فيها، ويحرم أكله لخبث لحمه، ويصح بيعه للتفرج على لونه. وأما الديك فكنيته أبو اليقظان ويسمى الأنيس والموأنس، وقد ذكر العلماء أنه يجوز الاعتماد على الديك المجرب في أوقات الصلوات، وكانت الصحابة يسافرون معهم بالديك تعرفهم أوقات الصلاة. ويحل أكله ويكره سبه كما روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عن زيد بن خالد الجهني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة» (¬1) حديث إسناده جيد. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4/327، رقم 5101) عن زيد بن خالد الجهني. وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/234، رقم 10781) ، وأحمد في مسنده (5/192، رقم 21723) ، والحميدي في مسنده (2/356، رقم 814) ، والطيالسي في مسنده (ص 129، رقم 957) ، وعبد بن حميد (1/117، رقم 278) ، والطبراني في المعجم الكبير (5/240، رقم 5210) ، وأبو الشيخ في العظمة (5/1758) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/299، رقم 5172) .

قال الحليمي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه يوقظ للصلاة» على أن كل ما استفيد منه خير لا ينبغي أن يسب، بل حقه أن يكرم ويشكر ويتلقى بالإحسان. ويروى في حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الديك الأبيض حبيبي وحبيب حبيبي جبريل - عليه السلام - يحرس بيته وستة عشر بيتاً أبيض» (¬1) . وأما الغراب فهو من الفواسق الخمس يستحب قتله في الحل والحرم، ويحرم أكل الغراب الأبقع والغراب الأسود الكبير الجبلي، وأما غراب الزرع فإن أكله حلال ويسمى غراب الزيتون لأنه يأكله. وأما النسر فهو عريف الطيور يقول: في صياحه ابن آدم عش ما شئت فإن الموت ملأ قلبك كذا قاله الحسن بن على. وفي هذا مناسبة لما خص به النسر من العمر الطويل فقد قيل: يعيش ثمانين سنة وهو سيد الطيور لحديث ورد في ذلك ذكره الدميري في النسر وسنذكره في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى ويحرم أكله لاستنجاسه بأكله الجيف. وأما الحمام فإنه يصدق على الذكر والأنثى من الفواخت والقمارى والقطا والوراشين واليمام والقلاب والمنسوب وأشباه ذلك، ويحل أكله بجميع أنواعه لأنه من الطيبات، وتربية الحمام لأجل البيض والإفراخ والأنس وحمل الكتب جائز بلا كراهة، وأما اللعب بها والتطير والمسابقة فقيل: يجوز لأنه يحتاج في الحرب لنقل الأحبار، والأصح كراهته فقد روي عن سفيان الثوري أنه قال: كان اللعب بالحمام من عمل قوم لوط. وقال النخعي: من لعب بالحمام الطيارة لم يمت حتى يذوق ألم الفقر. ¬

(¬1) رواه أبو الشيخ في العظمة (5/1757) عن أنس مرفوعاً. وهو حديث منكر فيه: أحمد بن محمد بن أبى بزة المقرئ، أورده العقيلي في الضعفاء (1/127، ترجمة: 155) وأخرج الحديث من طريقه وقال: وقال منكر الحديث ويوصل الأحاديث ومن حديثه ... فساق حديثه هذا. وترجم له الذهبي في الميزان (1/288، ترجمة 563) وقال: أحمد لين الحديث ونقل قول العقيلي فيه، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث لا أحدث عنه، وقال ابن أبي حاتم: روى حديثاً منكراً. وانظر ترجمته أيضاً في لسان الميزان (1/283، ترجمة 843) ، ومع أنه منكر في الحديث، إلا أنه ثبت في القراءة قاله الذهبي في المغني في الضعفاء (1/55، ترجمة 428) . وعموماً فحديثه هذا أنكره العلماء انظر في ذلك كشف الخفاء (1/497، رقم 1323) .

وروى ابن وهب (¬1) أن حمام مكة أظلت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة فدعا لها بالبركة. ومما يدل على كراهة اللعب بالحمام الطيارة ما في سنن أبي داود وابن ماجة والطبراني وابن حبان بإسناد جيد عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يتبع حمامة فقال: «شيطان يتبع شيطانة» (¬2) . وهو محمول على إدمان صاحب الحمام على طيرانه والاشتغال به، والارتقاء بسببه إلى السطوح التي يشرف منها على بيوت الجيران وحرمتهم لأجله، وسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحمام شيطاناً لأنه لا يكاد يخلو من عصيان العاصي يقال له: شيطان قال تعالى ?شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ? [الأنعام: 112] وأطلق على الحمامة شيطان مجاورة، ولا ترد الشهادة بمجرد اللعب عندنا بها، خلافاً لأبي حنيفة ومالك فإن انضم إليه قماراً ونحوه ردت الشهادة. واستشكل العلماء سؤال السيد إبراهيم إحياء الموتى ليزداد يقينه وإيمانه يقول سيدنا علي: لو كشف الغطاء ما ازدادت يقيناً أي: لو كشف لي الغطاء عن الأمور المغيبة، من الحشر والنشر والحساب وكيفية إحياء الموتى ونحوها بأن شدتها واقعة ما ازددت بسبب وقوعها يقيناً بها. ووجه الإشكال أن قول سيدنا علي يقتضي أنه لا يزداد يقينه عند رؤية إحياء الموتى ولا عند جميع الأمور المغيبة، والسيد إبراهيم طلب ذلك لأجل يقينه وإيمانه فيلزم أن يكون مقام سيدنا علي أعلى من مقام السيد إبراهيم مع أن مقام إبراهيم أعلى بالإجماع للقطع بأنه لا يصل ولي إلى درجة الأنبياء، وقد جمع العلماء بين القولين بما لا نطول بذكره. «وإبراهيم» سرياني معناه بالعربية «أب راحم» ، وقيل: «رحيم» ذكره الله تعالى في القرآن في إحدى وسبعين موضعاً، وفيه سبع لغات أشهرها إبراهيم، ويقال: «إبراهام» وبها قرئ في السبعة، وكان مولده -صلوات الله وسلامه عليه- ببابل من أرض السواد بناحية يقال لها: «كوش» كما صححه ابن الملقن في زمان النمروذ بن ¬

(¬1) ابن وهب هو: أحمد بن سليمان بن وهب، أبو الفضل: كاتب له شعر، من أهل بغداد، من بيت وزارة وفضل. تقلد أعمالاً منها النظر في جباية الأموال، وله ديوان شعر، وديوان رسائل. وكانت وفاته في سنة: 285 هـ‍. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4/285، رقم 4940) ، وابن ماجه في سننه (2/1238، رقم 3765) ، وابن حبان في صحيحه (13/183، رقم 5874) عن أبي هريرة. والحديث عند البخاري في الأدب المفرد (1/441، رقم 1300) ، وأحمد في المسند (2/345، رقم 8524) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/213، رقم 20730) ، وفي شعب الإيمان (5/244، رقم 6534) .

كنعان. وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف مائة سنة ومائتان وثلاث وستون سنة، وبينه وبين آدم ثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثون سنة، والنمروذ عليه اللعنة كان جباراً عنيداً دعا الناس إلى عبادته وهو أحد الملوك الأربعة الذين ملكوا الأرض كلها ورد في الحديث: «ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران أما المؤمنان فسليمان بن داود والإسكندر ذو القرنين عليهما السلام، وأما الكافران فنمرود عليه اللعنة وبخت نصر» (¬1) . وكان عند النمروذ كهان ومنجمين فلما أراد الله إيجاد السيد إبراهيم قالوا: إنا نجد في علمنا أنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يده، فأمر يذبح كل مولود يولد في تلك الناحية في تلك السنة، فلم يولد فيها غلام إلا ذبحه. وأما أم إبراهيم فإنه لما حملت به لم يعلموا بحبلها، فإنها كانت جارية حديثة السن تعلم الحبل، ولم يستبن في بطنها شيء، فلما حملت به أمه قالت الكهان للنمرود: إن المولود الذي أخبرناك قد حملت به أمه هذه الليلة، فلما عظم بطنها خشي آزر أن يعلموا بها فيذبحوها وولدها، فانطلق بها إلى أرض بين البصرة والكوفة فأنزلها في سرب من الأرض، وجعل عندها ما يصلحها وجعل يكتم ذلك من أصحابه، فولدت إبراهيم فيه وشب فكان ابن سنة كابن ثلاثين سنة، وكانت أمه كلما دخلت عليه وجدته يمص أصابعه فقالت ذات يوم نظرت إليه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبناً ومن إصبع عسلاً ومن إصبع زبداً ومن إصبع سمناً. لطيفة وقعت لشخص في الصغر نظير ما وقع للسيد إبراهيم: نقل الشيخ كمال الدين الدميري عن عبيد بن واقد الليثي البصري قال: كنت أريد الحج فوقفت على رجل بين يديه غلام أحسن الغلمان وأكثرهم حركة فقلت: من هذا؟ قال لي ابني وسأحدثك عنه، خرجت مرة حاجاً ومعي أم هذا الغلام وهي حامل به، فلما كنا في بعض المنازل ضربها الطلق فولدت هذا وماتت، وحضر الرحيل فأخذت الصبي فلففته في خرقة وجعلته في غار وبنيت عليه أحجاراً، وارتحلت وأنا أرى أنه يموت من ساعته، فقضيت الحج فلما نزلنا ذلك بادر بعض رفقتي إلى الغار فنقض الأحجار فإذا بالصبي ¬

(¬1) رواه الطبري في تاريخه (1/142) فقال: عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ملتقم إبهامه فنظرنا فإذا اللبن يخرج منها، فاحتملته معي فهو هذا الذي ترى. واختلف في إقامة إبراهيم في الغار وقيل: سنة، وقيل: خمسة عشر شهراً، وقيل: سبعة أشهر فلما شب إبراهيم في السرب، وتكلم قال لأمه من ربي؟ قالت: أنا، فقال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن رب أبي؟ فقالت: النمروذ، قال: فمن رب النمروذ؟ قالت: اسكت فسكت، ثم رجعت إلى أبيه فقالت: المولود الذي يغير دين أهل الأرض هو ولدك وأخبرته بما قال، فأتاه أبوه فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: النمروذ، قال: فمن رب النمروذ؟ فلطمه لطمةً وقال: اسكت فسكت. وهذا هو الرشد الذي أشار إليه بقوله ?وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ? [الأنبياء: 51] أي: هديناه وأصلحناه من قبل موسى وعيسى وقيل: معنى قبل أي: من قبل بلوغه. ولما كان في السرب لم ير شيئاً مما على الأرض من الحيوانات أو غيرها ولا السماء وما فيها من الشمس والقمر والنجوم فقال لأبويه: أخرجاني فأخرجاه آخر النهار حين غابت الشمس، فنظر إلى الإبل والبقر والغنم والخيل فسأل عن أسمائها فسماها له، قال هذا الجنس يقال له: غنم، وهذا يقال له: بقر، وهذا يقال له: إبل، فقال: ما لهذه لابد أن يكون لها من خالق إله خالق ورازق. وقيل: إنه قال لأمة: هذه الخلائق هذا طويل وهذا قصير، وهذا قوي وهذا ضعيف، وهذا غني وهذا فقير، وهذا صحيح وهذا مريض، من صنع هذا كله؟ فقالت له: النمروذ، قال لها: ومن خلق النمروذ؟ فلطمته وقالت: اسكت. ثم رق قلبها له وقالت: ألك حجة على أنه ليس برب؟ قال: نعم، قالت: وما هي؟ قال: له زيادة ونقصان، وتحريك وإسكان، وهل يقوم ويقعد، ويأكل ويشرب، ويستيقظ وينام؟ فقالت: نعم، قال: هذا صفات الأجسام، المفتقر إلى الشهوة والطعام، وعزل سلطنته قريب، وورآه من الموت يوم عصيب، يا أمي من تؤلمه بقة وتقتله شرقة وتوجعه إبره وتجعله الحوادث عبرة، ويجوع ويظمأ، ويسمن ويضنأ، ويعمل فيه البرد والحر، وليس بيده نفع ولا ضر، لا يكون إلهاً كأنك بملكه قد تناهى، قالت: فمن إله السماوات والأرض، قال: الذي لا يغلب ولا يقهر، ولا ينام ولا يسهر، ولا عرض ولا جوهر، يعلم ما يسر من القول ما يجهر، خالق الليل الدامس، ومخرج الثمرة من اليابس، قالت له: فأين هذا الرب؟ قال: لا يوصف بأين ثم انظر وتفكر في خلق

السماوات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني أسقاني ربي، مالي إله غيره، ثم نظر إلى السماء فإذا المشترى قد طلع، وقيل: الزهرة، وكانت الليلة في النصف الثاني من الشهر فرأى الكوكب قبل القمر فقال: هذا ربي فلما أفل أي: غاب قال: لا أحب الآفلين، ثم طلع القمر قال هذا ربي كما قال تعالى ?فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ? [الأنعام: 77] ثم طلعت الشمس فلما رآها قال هذا ربي كما قال: ?فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ? [الأنعام: 78، 79] . قال القاضي عياض: استدلال إبراهيم بالكواكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمسة عشر شهراً واسم أبيه تارح، ولقبه آزر كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ? [الأنعام: 74] ومعناه الشيخ الكبير، وقيل: معناه قبيح الفعل، وقيل: سمي آزر لشدة كفره، وقيل: آزر اسم لصنم الذي كان يعبده فلقب به لملازمته لعبادته، وقيل: أطلق عليه بحذف مضاف أي: لأبيه عابد آزر، وكان نجاراً يصنع الأصنام، فلما بلغ إبراهيم من العمر سبع سنين كان أبوه يعطيه الأصنام ليبيعها، فيذهب بها إبراهيم فينادي عليها من يشتري شيئاً يضره ولا ينفعه فلا يشتري أحداً منه شيئاً، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى آزر فيضرب رأسها فيه ويقل: اشربي ثلاث مرات استهزاء منه بها وبقومه وما هم عليه من الضلال والجهالة، حتى فشي أمره بين الناس فاستهزأ به قومه وأهل بلدته. وقال بعضهم: كان آزر ينحت الأصنام لفرط حبه لها فإذا كثرت عليه يبيعها وكان يعطيها لأولاده ويبيعوها، وكان يعطي إبراهيم الصنم ليبيعه فيربط إبراهيم في رقبته حبلاً ويبله في الماء ويسحبه على التراب ويرميه تحت أرجل الكلاب، ويلطخها بالعذرة ويقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه فقال له: أبوه ويحك لم لا يشترون منك؟ فقال: سوق آلهتكم كاسد، فقال له أبوه: فامدحه حتى يشترون منك لنأكل من ثمنه الخبز قال إبراهيم: كيف أمدحه إن قلت: سميع كذبت وإن قلت: بصير كذبت ?يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً? [مريم: 42] ، قال آزر: ?أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ? [مريم: 46] قال: نعم، قال آزر: ?وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً? أي: حينا من الدهر حتى لا يجر عليك مني ما لا تريد فقال

إبراهيم: ?سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي? [مريم: 47] معناه إنك مني سالم لا أوذيك لو آذيتني سألت الله تعالى لا يعاقبك بأذيتي، وإنما قال ?وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً? لأنه أعاب الصنم عنده بثلاثة أشياء قال: لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عن عبده فلا تصلح له الربوبية، إنما الربونية لرب يأتي إليه في ليلة ظلماء فيقضي حاجته، ويراه في ظلمة الليل ويسمع قوله ويعلم، ثم قال: وأما ما طلبت من الهجر بقولك اهجرني فقد هجرتك ولن تراني قط عندك، هذا فراق ليس بعده تلاق، ووداع ليس بعده اجتماع. وقيل: إن إبراهيم أقام عند أبيه سبع عشرة سنة كاشف قومه وقال لهم: ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ? [الأنبياء: 52] يعني ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها قالوا: ?وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ? [الأنبياء: 53] يعني إننا نقتدي في عبادتها بأباءنا ونقلدهم قال: ?لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ? [الأنبياء: 54] . ثم اظهر دينه -صلوات الله عليه وسلامه- قال: ?أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ? [الشعراء: 75، 76، 77] فقالوا: من تعبد أنت يا إبراهيم؟ قال: رب العالمين، فقالوا: يعني النمروذ قال لا ?الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ? [الشعراء: 78 - 82] . فلما ظهر أمره للناس حتى بلغ النمروذ الجبار دعاه: يا إبراهيم إلهك الذي بعثك وتدعوا الناس إلى عبادته وتذكر من قدرته، وتعظمها له على غيره صفة لنا فقال إبراهيم: ?رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ?، قال النمروذ: ?أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ? قال له إبراهيم: كيف تحي وتميت؟ قال: أخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي فأقتل أحدهما فأكون قد أمته ثم أعفو عن الآخر فأكون قد أحييته فقال له إبراهيم عند ذلك إلزاماً على وجه يعجز الإتيان بنظيره ?فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ? فبهت عند ذلك النمروذ ولم يرد جواباً ولزمته الحجة كما قال تعالى ?فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ? [البقرة: 285] . ثم إن إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، وعجزها إلزاماً للحجة، فجعل ينظر وقتاً يخل فيه مكان الأصنام إلى أن حضرهم عيد، فإنهم كان لهم في كل سنة عيد يخرجون إليه يجتمعون فيه، وكانوا إذا رجعوا من

عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان العيد قال آزر لإبراهيم: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج إبراهيم معهم، فلما كان في أثناء الطريق ألقى إبراهيم نفسه إلى الأرض، وقال إني سقيم أي: ضعيف اشتكي برجلي، فتوهموا صدقه وهو صريع على الأرض، فلما مضوا نادى واحداً منهم في آخرهم ?وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ? [الأنبياء: 57] فسمعه ذلك ثم رجع إبراهيم من الطريق إلى بيوت الأصنام والآلهة، فرآهم في مكان عظيم، واختلف في عدد تلك الأصنام فقيل: كانت اثنين أو ثلاثة وسبعين صنماً وقيل: كانت ثلاثمائة وستين صنماً، وكان بعض هذه الأصنام بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من نحاس وبعضها من حديد وبعضها من حجارة، وكان فيهم صنم عظيم من الذهب على رأسه تاج مرصع بالجوهر وعيناه ياقوتتان، والأصنام عن يمينه وشماله نصفان، فأصنام الفضة أقرب إليه من الحديد، والحديد أقرب إليه من الحجارة، وهم قد وضعوا بين يدي الأصنام طعاماً وقالوا إذا رجعنا وقد باركت الآلهة في طعامنا أكلنا، وهذه كانت عادتهم وكانت الشياطين تأكله فيزداد القوم بذلك طغياناً ويقولون: ربنا أكل طعامنا، وقيل: أنفا منا، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلي ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: ألا تأكلون، فلما لم يجيبوه قال لهم ?مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ? [الصافات: 92، 93] أراد باليمين القسم التي كان أقسم بها في قوله: ?وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم? أي: مال عليهم ضرباً لأجل اليمين التي أقسم بها، وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه، ثم خرج كما قاله تعالى ?فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ? [الأنبياء: 58] ضمير إليه راجع إلى كبيرهم، إلا الصنم الكبير فإنه تركه لعلهم يرجعون إليه فيظنون أنه فعل ذلك، وقيل: ضمير إليه راجع إلى إبراهيم أي: كسرهم السيد إبراهيم لعلهم يرجعون إليه أي: إلى دينه، فلما جاء القوم من عيدهم جاءوا إلى بيت آلهتهم فرأوها على تلك الحالة قالوا: ?قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ? [الأنبياء: 59، 60] وهو الذي صنع هذا، فبلغ النمروذ ذلك وأشراف قومه ?فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ? [الأنبياء: 61] عليه أنه هو فعل ذلك وكرهوا أن يأخذوه بغير ذنبه. وقيل: معناه لعلهم يشهدون ما صنع به ونعاقبه، فلما أحضروه قالوا: ?قَالُوا أَأَنْتَ

فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا? [الأنبياء: 62، 63] فإنه غضب من أن تعبدوا معه هذه الأصنام الصغار، وهو أكبر منها فكسرهم ?فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ? [الأنبياء: 63] . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات في قوله إنه سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم، وقوله: عن سارة زوجته هي أختي» (¬1) . قال العلماء: ما قاله السيد إبراهيم في هذه الثلاث يشبه الكذب وليس كذباً في الحقيقة، لما قدمنا من أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر عمداً وسهواً قبل النبوة وبعدها، وقوله صدق عند البحث عنه والتفتيش، وإطلاق الكذب باعتبار فهم السامعين لا باعتبار الحقيقة، أما قوله: إني سقيم فمعناه أنه ساقم، لأن الإنسان عرضة للأسقام وسقيم لما قدر على من الموت، أو كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت، أو سقيم القلب أي: مغتم بسبب ضلالتهم، وأما قوله: بل فعله كبيرهم فمعناه أنه سبب في الفعل لا أنه فعل حقيقة فالإسناد إليه باعتبار السببية، أو الإسناد إلى الكبير مشروط بقوله: ?إِن كَانُوا يَنطِقُونَ? أو الوقف عند قوله: ?بَلْ فَعَلَهُ? أي: فعله فاعله وكبيرهم هذا ابتداء كلام، وأما قوله في حق زوجته سارة هي أختي فمعناه: أنها أخته في الإسلام. قال ابن العماد: ويجوز أن يكون الله أذن له لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم كما أذن يوسف - عليه السلام - حين آمر منادياً فقال لإخوته: أيتها العير إنكم لسارقون، على أن العلماء اجمعوا على أن الكذب جائز وواجب في صور عند الحاجة كما سنذكر ذلك في باب علامات المنافق. فلما قال لهم إبراهيم ذلك، ?فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ? [الأنبياء: 64] اختلفوا في معنى هذه الآية فقيل: معناها إنكم الظالمون لهذا الرجل في سؤالكم إياه وهذه ألهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرة فأسالوهم، وقيل: معناها إنكم أنتم الظالمون بعبادتكم الأوثان الصغار مع هذا الكبير، ?ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ? [الأنبياء: 65] متحيرين مكسورين منكوسين وعلموا إنها لا تنطق ولا تبطش فقالوا: ?لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ? [الأنبياء: 65] فلما اتجهت له الحجة ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/1225، رقم 3179) ، ومسلم في صحيحه (4/1840، رقم 2371) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

عليهم فقال لهم إبراهيم: ?أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [الأنبياء: 66، 67] فلما ألزمهم الحجة وعجزوا عن الجواب قالوا: ?حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ? وسنذكر تحريقه بالنار في الكلام على السواك إن شاء الله تعالى. فائدة: أفاد ابن الملقن أن إبراهيم كان يتكلم أولاً بلغة السريانية فبلغه يوماً أن النمروذ يريد قتله، فهرب منه فأرسل رسله في طلبه فقالوا: لا نعرفه، فقال: إذا رأيتم فتى يتكلم بالسريانية فردوه، وكان هناك نهر فعبر إبراهيم النهر فأدركه رسل النمروذ، واستنطقوه فحول الله لسانه عبرانياً وهو لا يعرف فكلمهم باللغة العبرانية، وكان ذلك التحويل حين عبر النهر فسميت تلك اللغة بذلك. فائدة أخرى: إبراهيم -صلوات الله والسلام عليه- من أولي العزم من الرسل الذي أشار الله لهم بقوله العزيز: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ? [الأحقاف: 35] واختلف في عددهم على أقوال أصححها: أنهم خمسة قاله شيخنا الجلال السيوطي في الإتقان: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وقد نظمتهم في بيت فقلت: أولي العزم إبراهيم موسى محمد ... وعيسى ونوح ذا الصواب المحمود وسموا بأولي العزم لثباتهم وصبرهم على الشدائد أكثر من غيرهم. قال العلماء: أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد اتفاقهم على أن نبينا أفضل المخلوقات فقيل: آدم، وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى. لكن قال شيخنا العلامة الشيخ جلال الدين السيوطي في شرح نظمه لجمع ألوامع أفضل الخلق بعده - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم الخليل نقل بعضهم الإجماع على ذلك، وبعد الخليل موسى وعيسى ولم أقف على نقل أيهم أفضل، والذي يقدح تفضيل موسى، ثم عيسى ثم نوح وهؤلاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أولوا العزم المذكورون في سورة الأحقاف أي: أصحاب الجد والاجتهاد ثم بعدهم سائر الرسل فهم أفضل من الأنبياء. وذكر الشيخ عز الدين ابن جماعة أن ابن عبد السلام في كتابة شجرة المعارف فيما نقله عنه البرهان الفزاري أن المرسلين أفضل من النبيين، ثم الأنبياء فهم أفضل من الملائكة عند الجمهور. وذهب المعتزلة وبعض أصحابنا كالقاضي والأستاذ أبي إسحاق وأبي عبد الله الحكم والإمام في المعالم وليس المراد فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو عليه.

وقال السبكي: لو أقام الإنسان عمره لم يخطر بباله مسألة المتفضل بين الملائكة والأنبياء لم يسأله الله عن ذلك، وسنذكر الأدلة من الطرفين في محله أن شاء الله تعالى. وقد قدمنا أن إبراهيم - عليه السلام - عاش مائة سنة على خلاف في ذلك. فائدة أخرى: أفاد البغوي في تفسير قوله تعالى ?يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ... ? [آل عمران: 65] الآية، أنه كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة صلى الله عليهم وسلم. ويشكل على اتفاق العلماء على أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل المخلوقات ما ورد في الصحيح: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا خير البرية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك إبراهيم - عليه السلام -» (¬1) . فإن هذا الحديث يدل على أن نبينا إبراهيم أفضل من نبينا ومن سائر الأنبياء. وأجاب النووي عنه بوجهين الأول: أنه قال تواضعاً وأدباً، الثاني: أنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم فلما علم أخبر به. خاتمة: لما أراد الله تعالى قبض روح إبراهيم أرسل إليه ملك الموت في صورة رجل هرم، وكان إبراهيم لا يأكل إلا مع الضيف، فبينما هو جالس يأكل مع الضيف، فإذا هو بشيخ يمشي في الخلوة فبعث إليه حماراً فركبه حتى وصل، فأجلسه على الطعام وقال له: كل، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، فجعل الشيخ يريد يأخذ اللقمة حتى يجعلها في فيه فيدخلها في عينه ومرة في أذنه ثم يدخلها، وكان إبراهيم سأل أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت فقال إبراهيم حين رأى حاله: ما بالك يا شيخ تصنع هكذا؟ قال الشيخ: من الكبر، فقال له: إبراهيم ابن كم أنت؟ فأخبره، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4/218، رقم 4672) ، والترمذي في سننه (5/446، رقم 3352) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في السنن الكبرى (6/520، رقم 11692) ، وأحمد في مسنده (3/184، رقم 12930) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/315) ، والطبراني في المعجم الأوسط (2/100، رقم 1382) ، والخلال في السنة (1/192، رقم 207) . قال الخلال عقب هذا الحديث: قد روي غير هذا أنه قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض» وقال الله عز وجل: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? [آل عمران: 110] وذهب فيه إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد التواضع به. قلت: ومراد الخلال أن يشير بذكر الآية أنه إذا كانت الأمة خير أمة أخرجت فنبي الأمة خير الأمم التي خلقها الله.

فوجد إبراهيم عمر الشيخ قد يزيد على عمره بسنتين فقال: يا بني إنما بيني وبينك سنتان فإذا بلغت عمرك صرت مثلك، فحينئذ قال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك فقام الشيخ فقبض روحه قدسها الله تعالى في الحال. * * *

المجلس السادس عشر

المجلس السادس عشر في الكلام على حديث «بني الإسلام على خمس» وذكر بعض ترجمة عبد الله بن عمر وذكر فوائد ولطائف وأفتتح هذا المجلس بخطبة مناسبة: الحمد لله الذي رفع قدر من أقر بالشهادتين، ونصب الدليل على وجود ذاته، وخفض قدر من لم يجزم بوحدانيته، ولم يعترف بقدم صفاته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي جاء بالدين، وجاءه الفتح المبين، وكسر جيش الكافرين وأسكن الرعب في قلوب المارقين، ببركاته وعلى آله وصحبه وزوجاته وذريته صلاة وسلاماً دائمين. باب دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ قَالَ البُخَارِي:. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» . قوله «حدثنا عبيد موسى قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان (¬1) عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر» هذا الإمام الصالح عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المكي، زاهد الصحابة وعالمهم، أسلم بمكة قديماً مع أبيه وهو صغير، وهاجر معه، ذكره البخاري في الهجرة. قال ابن الملقن: ولا يصح قول من قال: إنه أسلم قبل أبيه وهاجر واستصغر في غزوة أحد فلم يحضرها، وحضر الخندق وما بعدها من الغزوات. ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/117) قوله: «حنظلة بن أبى سفيان» هو قرشي مكي من ذرية صفوان بن أمية الجمحي. وعكرمة بن خالد هو: ابن سعيد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو ثقة متفق عليه، وفى طبقته عكرمة بن خالد بن سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو ضعيف، ولم يخرج له البخاري، نبهت عليه لشدة التباسه، ويفترقان بشيوخهما، ولم يرو الضعيف عن ابن عمر. زاد مسلم في روايته عن حنظلة قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوساً أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت.. فذكر الحديث.

ومن فضائله: أنه أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية، من العبادلة الأربعة، وهو أكثر الصحابة رواية بعد أبي هريرة، وهو أحد الساردين للصوم فإنه كان في الصحابة جماعة يسردون الصوم أي: يصومون الدهر عبد الله بن عمرو والده عمر بن الخطاب وعائشة وأبو طلحة وحمزة. ومن فضائله: أنه كان لا ينام إلا قليلاً وروي عنه أنه قال: رأيت في المنام كان ملكين أخذاني وذهبا بي إلى النار، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع، فقصصتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» (¬1) ، وكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً. ومن فضائله: أنه كان إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه، وكان أرقاءه قد عرفوا ذلك منه فربما شمر أحدهم ولزم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه، فيقول أصحابه: والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا. وكان له عبد يقال له: نافع قال ابن الملقن: أعطى فيه عشرة آلاف دينار فامتنع من بيعه فقيل له: لم تمتنع أتنتظر أكثر من ذلك فقال: بل ما هو خير من ذلك هو حر لوجه الله. وقيل: إن إعتاقه لنافع كان وهو واقف يصلي، فقد ذكر ابن الجوزي: أن عبد الله بن عمر كان قائماً يصلي ومولاه نافع قام ناحية فأشار ابن عمر إلى مولاه نافع بيده وهو في الصلاة، فلم يفهم نافع إشارته، فلما سلم من صلاته قال له نافع: يا مولاي رأيتك تشير إلي في صلاتك ولم أفهم إشارتك قال: إني قرأت ?لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ? [آل عمران: 92] ولم يكن في بهذه الساعة شيء أحب إليَّ منك فأشرت إليك أنت حر لوجه الله تعالى. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/388، رقم 1105) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن بيدي قطعة إستبرق، فكأني لا أريد مكاناً من الجنة إلا طارت إليه، ورأيت كأن اثنين أتياني أرادا أن يذهبا بي إلى النار، فتلقاهما ملك فقال: لم ترع خليا عنه، فقصت حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى رؤياي ... فذكره. وأخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (15/547، رقم 7070) ، وإسحاق بن راهوية (1/191، رقم 7) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (4/147) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/501، رقم 4417) .

وأما زهده وكرمه وكثرة صدقاته فقد شاع ذلك عنه وذاع، فإن الله قد فتح عليه بالمال الكثير. وروي عن ميمون بن مهران قال: أتت ابن عمر اثنان وعشرين ألف دينار في مجلس، فلم يقيم حتى فرقها، وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً. وما مات حتى أعتق ألف إنسان أو يزيدون على ذلك، وكان لا يأكل طعاماً إلا على خوانه. وكان يحيي الليل ثم يقول: أسحرنا فيقال: لا فيعاود الصلاة ثم يقول: أسحرنا فيقال: نعم فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح. وكان إذا سبح قال: اللهم اجعلني من أعظم عبادك نصيباً في كل خير تقسمه الغداة، ونور تهدي به، ورحمة تنشرها، ورزق تبسطه، وضر تكشفه، وبلاء ترفعه، وفتنة تصرفها. وشرب - رضي الله عنه - يوماً ماء مبرداً فبكى فقيل له: ما يبكيك قال: ذكرت آية في كتاب الله وهي ?وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ? [سبأ: 54] فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئاً شهوتهم الماء البارد. وقال جابر - رضي الله عنه -: ما أدركت أحداً إلا مالت به الدنيا ومال بها إلا عبد الله بن عمر. وفضائله في المتابعة للآثار وإعراضه للدنيا ومقاصده واحتياطه في الفتوى وعلمه بالمناسك غزيرة، ومناقبة لا تحصى شهد له الشارع بالصلاح، وعاش بعد ذلك بزيادة على ستين سنة يترقى في الخيرات. ومن فضائله: ما رواه ابن سبع السبتي في شفاء الصدر عنه - رضي الله عنه -: أنه خرج في بعض أسفاره فبينما هو يسير إذ بقوم وقوف فقال: مال هؤلاء قالوا: أسد على الطريق قد أخافهم فنزل عن دآبته ثم مشى إليه حتى أخذ بإذنه ونحاه عن الطريق حتى جاءت القافلة، وقال: إني استحي من ربي - عز وجل - أن يرى من قلبي أني أخاف غيره قال: ما كذب عليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما سلطت على ابن آدم من مخافته غير الله، ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله لم تسلط عليه ولو أنه لم يرى إلا الله لما وكله إلى غيره نقله الدميري في الأسد. ووقع له مرة واقعة لطيفة قال نافع: خرجت مع ابن عمر رضي الله عنهما إلى بعض نواحي المدينة المشرفة ومعه أصحابه، فنزلنا بواد فوضعوا سفرة لهم يأكلون

طعاماً إذ مر عليهم قطيع غنم يتبعهم عبد أسود صغير السن فقال له: عبد الله بن عمر هلم للعيش فأصب معنا، قال: يا سيدي أنا صائم، فتعجب منه وقال له: في مثل هذا اليوم في هذا الحر العظيم خلف هذا الغنم في هذه الأودية والشعاب؟ قال: نعم يا سيدي اغتنم الأيام الفانية لأيام الباقية، فتعجب عبد الله من كلام هذا العبد وحسن نيته وأدبه فقال له: يا أسود بعنا من غنمك شاة نذبحها ونطعمك من لحمها ونعطيك ثمنها فقال: يا سيدي الغنم ليست لي وإنما هي لسيدي فقال ابن عمر: إذا سألك سيدك عنها فقل له: أكلها الذئب فقال: العبد إذا قلت له أكلها الذئب فأين الله، فبكى ابن عمر وجعفر يقول: قال الراعي فأين الله يعني إذا كذبت على مخلوق فكيف بي إذا كذبت على مخلوق، عرضت على الخالق فلما دخل ابن عمر المدينة سأل عنه فاشتراه وأعتقه. ومن فضائله: نقل عن نافع أن ابن عمر كان مرضياً فاشتهى سمكه فالتمست له المدينة فلم توجد حتى وجدت بعد كذا وكذا فاشتريت بدرهم ونصف وشويت وحملت له على رغيف، فقام سائل على الباب فقال للغلام: لفها برغيفها وادفعها إليه فقال له الغلام: أصلحك الله اشتهيتها منذ كذا فلم نجدها وجدناها واشتريناها بدرهم ونصف، أمرت بدفعها نحن نعطيه ثمنها فقال: لفها وادفعها إليه فقال: الغلام للسائل بعد أن دفعها إليه هل لك أن تأخذ درهماً وتضع هذه السمكة، فأخذ منه درهماً وردها فعاد الغلام إلى عبد الله وقال له: دفعت درهماً وأخذتها منه ثم وضعها بين يديه وقال: إني دفعتها إليه فرأيته محتاجاً إلى ثمنها فاشتريتها منه بدرهم ورأيته أشتد سروراً بالدرهم منه بالسمكة فقال: فادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أيما أمريء اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر الله له» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي في الكامل (5 /126، ترجمة 1289 عمرو بن خالد أبو خالد الكوفي) وقال: عن وكيع قال: كان عمرو بن خالد في جوارنا يضع الحديث، فلما فطن به تحول إلى واسط. وعن يحيى قال: عمرو بن خالد كوفي كذاب غير ثقة ولا مأمون حدث عنه أبو حفص الأبار وغيره، يروي عن زيد بن علي عن آبائه وقال في موضع آخر: عمرو بن خالد الواسطي ليس بثقة. وروي عن يحيى بن معين قال: عمرو بن خالد الذي يروي عنه أبو حفص الأبار شيخ كوفي كذاب يروي عن زيد بن علي عن آبائه عن علي - رضي الله عنه -. وروي عن أحمد بن حنبل قال: عمرو بن خالد الواسطي كذاب، سمعت بن حماد يقول: عمرو بن خالد كوفي روى عنه إسرائيل منكر الحديث، وقال النسائي: عمرو بن خالد يروي عن حبيب بن أُبي، روى عنه الحسن بن ذكوان كوفي ليس بثقة. ثم أخرج الحديث من طريقه، وترجم له أيضاً ابن حبان في المجروحين (2/76، ترجمة 624) وقال: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها من غير أن يدلس، كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأورد له هذا الحديث. وانظر ترجمته أيضاً وأقوال العلماء فيه في: الميزان للذهبي (5/311، ترجمة 6365) .

روى لعبد الله بن عمر من الأحاديث ألفاً حديث وستمائة حديث وثلاثون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها على مائه وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بإحدى وثلاثين. مات - رضي الله عنه - بفخ قرب مكة يسمى واد الزاهر سنة ثلاث وقيل: أربع وسبعين بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر عن أربع وثمانين سنة وقيل: وثمانين سنة. فائدة: مذهب البخاري أن أصح الأسانيد ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر وهذه المسألة وقع فيها خلاف في علوم الحديث فقيل: أصح الأسانيد ما رواه الزهري عن سالم عن أبيه وقيل: أصحها ما رواه ابن سيرين عن عبيدة عن علي وقيل: أصحها ما رواه الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه علي وقيل: أصحها كما قاله إمام الصنعة الحافظ البخاري: ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر. فعلى هذا إذا زيد في الإسناد راو بعد مالك، فأصح الأسانيد ما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، ولاجتماع الأئمة الثلاثة في هذا الإسناد يسمى سلسلة الذهب. لكن المعتمد المختار كما قاله النووي: أنه لا يحكم في إسناد أنه أصح الأسانيد مطلقاً، وفي هذا الإسناد الذي ساقه البخاري أعني قوله: حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر من الطريف أن رواته مكيون قرشيون، إلا عبيد الله فإنه كوفي. «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» قال النووي: أدخل البخاري هذا الحديث في هذا الباب لينبئ أن الإسلام يطلق على الأفعال وأن الإسلام والإيمان قد يكونان بمعنى واحد، فقوله: «بني الإسلام على

خمس» بدون دعائم أو قواعد أو خصال (¬1) . وفي صحيح مسلم «بني الإسلام على خمسة» (¬2) مقدرة بخمسة أشياء، أو أركان، أو أصول، وها هنا دقيقة جليلة نحوية وهي: أن أسماء العدد إنما يكون تذكيرها بالتاء، وتأنيثها بسقوط التاء، إذا كان المميز مذكوراً أما لو لم يكن مذكوراً فيجوز فيها الأمران صرح به النحاة. قال الكرماني: فإن قيل: الإسلام هو الإتيان بالشهادتين فقط، ولهذا حكم بإسلام من تلفظ بها، فلما ذكر الأخوات أعني أقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان معهما؟ فالجواب: أنه ذكر الأخوات معهما تعظيماً لأخواتها، قال النووي: حكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين وإنما أضيف الصلاة ونحوها لكونها إظهار شعائر الإسلام تعظيمها، وقيامه بها ينم عن استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله. فإن قيل: الإسلام هو هذه الأمور الخمسة والمبني لابد أن يكون غير المبني عليه، وإلا يلزم عليه بناء الشيء على نفسه. فالجواب: أن الإسلام عبارة عن المجموع والمجموع غير كل واحد من أركانه وأحسن من هذا الجواب ما أجاب به الشمني في حواشي مغني اللبيب: ولا يرد معه السؤال أصلاً وهو أن يقال: إن على هنا بمعنى من أي: بني الإسلام من خمس، وبه ¬

(¬1) قال ابن حجر في فتح الباري (1/117) قوله: «على خمس» أي: دعائم. وصرح به عبد الرزاق في روايته، وفي رواية لمسلم «على خمسة» أي: أركان. فإن قيل: الأربعة المذكورة مبنية على الشهادة، إذ لا يصح شيء منها إلا بعد وجودها، فكيف يضم مبني إلى مبنى عليه في مسمى واحد؟ أجيب: بجواز ابتناء أمر على أمر ينبني على الأمرين أمر آخر. فإن قيل: المبني لا بد أن يكون غير المبني عليه. أجيب: بأن المجموع غير من حيث الانفراد، عين من حيث الجمع، ومثاله البيت من الشعر يجعل على خمسة أعمدة أحدها أوسط والبقية أركان، فما دام الأوسط قائما فمسمي البيت موجود، ولو سقط مهما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمى البيت، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء، وأيضاً فبالنظر إلى أسه وأركانه، والأس أصل، والأركان تبع وتكملة. (¬2) انظر الحديث عند مسلم بهذا اللفظ في صحيحه (1/45، رقم 16) من حديث عبد الله بن عمر أيضاً.

يندفع ما أورد على أمثاله. فإن قيل: الأربعة الأخيرة مبنية على الشهادتين، لا يصح شيء منها إلا بعد الشهادة فالأربعة مبنية والشهادة مبنى عليها فلا يجوز إدخالها في سلك واحد. فالجواب: أنه لا محذور في أن يبنى أمر على أمر ثم الأمران يكون مبنياً عليهما شيء آخر. قال قيل: مفهوم هذا الحديث يقتضي إن لم يباشر الإسلام لا يصح منه، فيشكل عليه الصور التي يصح فيها إسلام الصبي بطريق التتبع ولم يباشر الإسلام بنفسه. فالجواب: أن عموم هذا الحديث مخصوص بمنطوق قوله تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم? [الطور: 21] ويكون في الحديث دليل على تخصيص عموم مفهوم السنة بخصوص منطوق القرآن. فإن قيل: لأي شيء لم يذكر الجهاد معها. فالجواب عنه: بأنه فرض كفاية ولا يعين إلا في بعض الصور. فإن قيل: ظاهر الحديث يقتضي أن من ترك شيئاً من الأربعة الأخيرة لا يكون مسلماً. فالجواب: أن الإجماع صرف الحديث عن ظاهره فإن الإجماع قائم على أن الإنسان يدخل في الإسلام بالشهادتين، وإنما ذكر الباقي معها تعظيماً للشأن كما تقدم، فلا يخرج عن الإسلام بترك واحد منها. قال البرماوي وغيره: أجمعوا على أنه لا يكفر بترك الصوم والصلاة، وأما قول أحمد بن حنبل بكفر تارك الصلاة فدليل آخر نحو «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» وسنذكر الجواب عنه في محله. وقوله «شهادة أن لا إله إلا الله» وما عطف عليه مجرور بأنه بدل من خمس، بدل الكل من الكل، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: في أحدها شهادة أن لا إله إلا الله، أو على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: منها شهادة أن لا إله إلا الله. و «أن» في «أن لا إله إلا الله» مخففة من الثقيلة ولهذا عطف عليه «أن محمد رسول الله» . والمراد بإقام الصلاة: المداومة أو مطلق الإتيان بها، والمراد بإيتاء الزكاة: إخراج جزء من المال على وجه مخصوص، وتسمى هذه الخمسة أركان الإسلام ودعائمه. قال العلماء: شبه - صلى الله عليه وسلم - الإسلام بشيء له دعائم فذكر المشبه وأسند إليه ما هو

خاص بالمشبه به، وهو البناء ويسمى ذلك استعارة بالكناية. ووجه انحصار الإسلام في الخمسة المذكورة: أن العبادة إما قولية وهي الشهادتين، وغير قولية، وغير القولية إما روحي وهو الصوم، وإما فعلي وهو الصلاة، وإما مالي وهو الزكاة أو مركب منهما، وهو الحج. وقدم - صلى الله عليه وسلم - الشهادتين على باقي الأركان لأنهما الأصل لبقية الأركان، لتوقف كل من الصلاة والزكاة وغيرهما عليهما، فقطب الأركان ومدارها على الشهادة فهما مكفرات للذنوب، وشفاء للقلوب من الأمراض والعيوب (¬1) . لطيفة: مرض الشبلي فأرسل له الخليفة طبيباً نصرانياً وأوصاه به فعالجه فازداد مرضه، فتحير النصراني وقال للشبلي: يا شيخ المسلمين لو علمت أن شفاك في قطع عضو من أعضائي لفعلت فقال: شفائي في قطع زنارك فقطعه وأسلم، فوثب الشبلي كأن لم يكن به مرض، فلما سمع الخليفة قال: ظنت أني أرسلت الطبيب إلى المريض، وإنما أرسلت المريض إلى الطبيب. لطيفة أخرى: قال الجنيد قدس الله روحه: خرجت يوماً من الأيام إلى الحج إلى بيت الله الحرام ووجهت الناقة إلى جهة الكعبة، فتحولت إلى طريق القسطنطينية فرددتها نحو الكعبة، فتحولت نحو المدينة المذكورة، فتركتها وقلت في نفسي: لله في هذا سر عظيم خفي، وقلت: إلهي وسيدي ومولاي ليس لي حيلة إن كنت تريد أن تزودني عن بيتك فالأمر إليك كله لك، وجعلت الناقة تسير سيراً سريعاً حتى دخلت ¬

(¬1) قال ابن حجر في فتح الباري (1/118) : وقع هنا تقديم الحج على الصوم، وعليه بنى البخاري ترتيبه، لكن وقع في مسلم من رواية سعد بن عبيدة عن ابن عمر بتقديم الصوم على الحج، قال: فقال رجل: والحج وصيام رمضان. فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ففي هذا إشعار بأن رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى، إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجلس، أو حضر ذلك ثم نسيه، ويبعد ما جوزه بعضهم أن يكون ابن عمر سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجهين، ونسي أحدهما عند رده على الرجل، ووجه بعده أن تطرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي أولى من تطرقه إلى الصحابي، كيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج، ولأبي عوانة -من وجه آخر عن حنظلة- أنه جعل صوم رمضان قبل، فتنويعه دال على أنه روي بالمعنى. ويؤيده ما وقع عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة، أفيقال: إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه؟ هذا مستبعد، والله أعلم.

البلد فرأيت أهلها في قيل وقال، فسئلت عن ذلك فقيل: إن ابنة الملك قد أصابها الجنون، وهم يطلبون لها طبيباً يداويها فقلت في نفسي وعزة ربي لهذا صرفت عن بيته في هذا العام فقلت: أنا أداويها فأدخلوني فنادت من داخل الباب: يا جنيد كم تجذبك الناقة إلينا وأنت تردها، فلما رأيتها فإذا هي من أجمل النساء، والفل في عنقها ورجليها فقالت: ما أحسنك من طبيب يا طبيب القلوب صف لي صفة ننجو بها من الكروب قال: فقلت لها: قولي: لا إله إلا الله محمد رسول الله فرق صوتها ذلك فسقط الفل من عنقها ورجليها فقال أبوها: ما أحسنك من طبيب فداوني بدوائك، فقلت له: قل كما قالت، فأسلم وأسلم معه خلق كثير، ثم أتت أمها وفرحت وأسلمت وأسلم كل من كان في البلد معهم، قال الجنيد: فحمدت الله على ذلك وعزمت على الخروج، فقالت الجارية: يا جنيد لا تعجل بالخروج فإني سألت الله أن يتوفاني وأنت حاضر حتى تصلي على وتحضر جنازتي، ثم تشهدت وخرت ميتة رحمة الله تعالى عليها، ولله در من قال: يا منقذ الجهالة من ظلماتها ... يا خير من حطت النزال من ذاق حبك لم يزل متلهجاً ... أنت الإله القادر الفعال انشأتني وهديتني ورحمتني ... فاغفر فأنت المنعم المفضال ومننت منك تفضلاً وتكرماً ... أنت الإله وما عداك محال وروي أن الفرزدق الشاعر كان مقصراً في طاعة الله، فماتت زوجته فخرج في جنازتها وجهاء البصرة وفيهم الحسن، فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها يقول: إذا جاء يوم القيامة قائداً ... عنيفاً وسواقاً ليسوق الفرزدق أخاف وراء القبر إن لم تعاقبني ... أشد من القبر التهاباً وأضيفا لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا فلما فرغ ونهض الناس لينصرفوا قال الفرزدق للحسن: يا أبا سعيد أما تسمع ما يقول الناس؟ قال: ما يقولون؟ قال يقولون: اجتمع في بهذه الجنازة خير الناس وشر الناس يعنوك ويعنوني، فقال الحسن: ما أنا بخيرهم وما أنت بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم فقال: شهادة إن لا إله إلا الله منذ ستين سنة فبكى الحسن ثم التزمه وقال له الفرزدق: لقد كنت من أبغض الناس إلي، وإنك اليوم من أحب الناس إلي. بشارة: ورد في الحديث «إن العبد إذا قال لا إله إلا الله يصعد بها الملك إلي السماء فيتقبله في السماء ملك آخر فيقول: من أين؟ فيقول: وأنت إلى أين؟ فيقول

أنا صاعد بشهادة فلان إلى الله تعالى فيقول الآخر: وإنا نازل إليه من عند الله ومعي براءة من النار» (¬1) . يقول الله تعالى: عبادي سارعوا إلى بابي أكتبكم من أحبابي، سارعوا إلى خدمتي أسبغ عليكم نعمتي، سارعوا إلى دعائي وسؤالي غفر لكم ولا أبالي، سارعوا إلى الطاعة أغفر لكم في الحال والساعة، يا عبدي كل من قصد باب ملك وجد عليه بواباً ثم المرتب ثم الحاجب، ثم صاحب الستر قبل أن يصل إلى الملك، وأنا يا عبدي ليس على بابي بواب ولا دوني حجاب، متى أتيت بابي وقصدتني وصلت إلي ووجدتني، وإلى ذلك أشار من قال: إذا ما الليل غلق كل باب ... وأسدلت الملوك لها ستورا أتاك القاصدون بكل معنى ... أصابوا الباب مفتوحاً منيرا من أركان الإسلام الصلاة، وهي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين، بل أفضل العبادات البدنية فرضها ونفلها، فلهذا ذكرها - صلى الله عليه وسلم - بعد الشهادتين وقدمها على بقية الأركان، وإنما قلنا أفضل العبادات البدنية الصلاة احتراز عن شيئين، عن العبادات القلبية كالأيمان والمعرفة والتوكل ونحوهما، فإنها أفضل من العبادات البدنية، وعن العبادات المالية فإن العلماء اختلفوا فيها في العبادات البدنية. فذهب الفارقي إلى أن المالية كالزكاة أفضل من البدنية «الصلاة» لتعدي النفع بها، ونازعة في ذلك ابن عبد السلام، ورجح أن الصلاة أفضل من الزكاة قال: ويؤيده أن البيهقي نقل عن الشافعي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الصلاة أعظم من الزكاة» (¬2) والله أعلم. ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) هذا الخبر لم نقف عليه عند البيهقي، وربما رواه الشافعي في مذهبه القديم وأسنده، فإننا وجدنا أن الشافعي رحمه الله أتى به في الأم (1/255) ولكن لم يشر إلى أنه حديث وذلك في: فصل الحكم في تارك الصلاة، أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي رحمه الله تعالى: من ترك الصلاة المكتوبة ممن دخل في الإسلام قيل له: لم لا تصلى؟ فإن ذكر نسياناً قلنا: فصل إذا ذكرت وإن، ذكر مرضاً قلنا: فصل كيف أطقت قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً أومومئاً، فإن قال: أنا أطيق الصلاة وأحسنها، ولكن لا أصلى وإن كانت علي فرضاً، قيل له: الصلاة عليك شيء لا يعلمه عنك غيرك، ولا تكون إلا بعملك، فإن صليت وإلا استتبناك فإن تبت وإلا قتلناك، «فإن الصلاة أعظم من الزكاة» والحجة فيها ما وصفت من أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: «لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه لا تفرقوا بين ما جمع الله» .

ولها فضائل كثيرة منها: أنها تنهى من دوام عليها عن الفحشاء والمنكر ويرزقة الله التوبة ببركتها قال الثعلبي في قوله تعالى ?إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ? [العنكبوت: 45] . قال أنس - رضي الله عنه -: كان رجل يصلي الخمس مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه فأخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: «إن صلاته تنهاه يوماً» ، فلم يلبث أن تاب وحسنت توبته وحسن حاله فقال: «ألم أقل لكم إن صلاته تنهاه» (¬1) . واتفق من الوقائع كما حكاه النيسابوري: أن رجلاً رواد امرأة عن نفسها فأخبرت بذلك زوجها فقال: قولي له: صل خلف زوجي أربعين صباحاً حتى أطيعك، فقالت له: ففعل ثم دعته إلى نفسها فقال: إني تبت إلى الله تعالى فأخبرت زوجها فقال: صدق الله تعالى في قوله الحق ?إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ?. قال في روض الأفكار: واعلم أن مثل الصلاة مثل ملك اتخذ عرساً، واتخذ وليمة هيأ فيها ألوان الأطعمة والأشربة، لكل لون لذة، وفي كل لون منفعة، فكذلك الصلاة دعاهم الرب سبحانه وتعالى إليها وهيأ لهم فيها أفعالاً مختلفة تعبدهم بها، ليلذذهم بكل نوع من العبادة فالأفعال كالأطعمة، والأذكار كالأشربة. قال العلامي في تفسيره: الصلاة عرس الموحدين، فإنه يجتمع فيها ألوان العبادة كما أن العرس يجتمع فيه ألوان الطعام، فإذا صلى العبد ركعتين يقول له الله تعالى: عبدي مع ضعفك أتيت بألوان العبادة قياماً وركوعاً وسجوداً وقرأةً وتهليلاً وتحميداً وتكبيراً وسلاماً، فأنا مع جلالي وعظمتي لا يجمل مني أن أمنعك جنة فيها ألوان النعيم، أوجبت لك الجنة بنعيمها كما عبدتني بأنواع العبادة، وأكرمك برؤيتي كما عرفتني بالوحدانية، فإني لطيف، أقبل عذرك وأقبل منك الخير برحمتي، فإني أجد من أعذبه من الكفار، وأنت لا تجد إليها غيري، يغفر سيئاتك ويكفر عنك الذنوب والأوزار، عبدي لك بكل ركعة قصر في الجنة، وبكل ركوع حوراء، وبكل سجود نظرة إلى وجهي الكريم، ولله در القائل: إلا في الصلاة الفضل والخير جمع ... لأن بها الأبواب لله تخضع ومن قام بالتكبير لاقته رحمة ... وكان كعبد مولاه يقرع وأول شرع من شرائع ديننا ... وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع ¬

(¬1) لم نقف عليه.

نرفع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديناً يبقى ولا ما نرفع أيها العبد العاصي كلما أمرتك النفس بالمعاصي والشهوات فاستعن عليها بالصلوات، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، من داوم عليها شرب من الحوض والكوثر، والصلاة تنهى عن المنكرات، الصلاة تكفر الخطيئات، الصلاة ترفع الدرجات، الصلاة تقضي الحاجات، الصلاة فيها القرب والمناجات. الركن الثالث من أركان الإسلام: الزكاة وإنما ذكرها - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة لكونها قرينة الصلاة في كتاب الله - عز وجل - فإن الله تعالى لم يذكر الصلاة في القرآن إلا وقرنها بالزكاة غالباً قال الله تعالى ?وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ? [المزمل: 20] وقال تعالى ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ? [الحج: 41] إلى غير ذلك من الآيات. وإنما قرنها بها لأن الصلاة حق الله تعالى والزكاة حق عباده، ومرجع جميع العبادات إليهما يحصل التعظيم لأمر الله والشفقة على خلقه، لأنها قنطرة الإسلام وكم ورد في فضائلها من آيات أحاديث. وكم ذكر العلماء لها فضائل وفوائد منها: أنها تطهر صاحبها من الذنوب والخطايا ويدل على ذلك القرآن العظيم قال تعالى ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا? [التوبة: 103] ، والصدقة تشمل الزكاة والصدقة المستحبة، قال العلماء: الكافر يحرم دمه وماله بأخذ الجزية، ومن كرم الله تعالى أن المؤمن يحرم لحمه ودمه على النار في الآخرة إذا أخرج الزكاة بطيب نفس. ومن فوائد الصدقة أيضاً: أنها تطهر المال قال - صلى الله عليه وسلم - «يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة» (¬1) . ومن فوائدها أنها ترفع البلاء والأمراض قال - صلى الله عليه وسلم -: «الصدقة تسد سبعين باباً من الشر» (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/477، رقم 15962) عن أبي وائل يحدث عن قيس بن أبي غرزة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نبيع في السوق ونحن نسمي السماسرة فقال ... فذكره. وأخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الكبير (18/355، رقم 905) . (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/274، رقم 4402) عن رافع بن خديج. ورواه الديلمي في الفردوس (2/413، رقم 3835) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/109) : رواه الطبراني في الكبير وفيه: حماد بن شعيب، وهو ضعيف. وحماد بن شعيب ترجم له ابن عدي في الكامل (2/242، ترجمة 419 حماد بن شعيب الحماني التميمي) قال أحمد بن سعد سألت يحيى بن معين عن حماد بن شعيب فقال: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وعن يحيى قال: حماد بن شعيب ليس بشيء، يقال له: أبو شعيب الحماني وهو كوفي، وفي موضع آخر قال: حماد بن شعيب ضعيف. روي عن البخاري قال: حماد بن شعيب التميمي أبو شعيب الحماني كوفي عن أبي الزبير فيه نظر، وقال النسائي: حماد بن شعيب كوفي ضعيف. ثم أخرج له ابن عدي هذا الحديث، وفي آخر ترجمته قال: ولحماد بن شعيب غير ما ذكرت من الحديث، وأحاديثه أكثرها مما لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه مع ضعفه.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «داووا مرضاكم بالصدقة» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/128، رقم 10196) ، وفي المعجم الأوسط (2/274، رقم 1963) عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/64) : رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه: موسى بن عمير الكوفي وهو متروك. والحديث من طريقه عند الخطيب في تاريخ بغداد (6/333) وقال: تفرد بروايته موسى بن عمير، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/237) وقال: غريب، والقضاعي في مسند الشهاب (1/401، رقم 691) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/382، رقم 6385) وقال عقبه: تفرد به موسى بن عمير، وإنما يعرف هذا المتن عن الحسن البصري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ورواه ابن عدي في الكامل (6/340، ترجمة 1819 موسى بن عمير القرشي) وروى ابن عدي هذا الحديث مع حديثين آخرين وقال: وهذه الأحاديث الثلاثة عن الحكم بهذا الإسناد ولا أعلم يرويها عن الحكم غير موسى بن عمير، وهي بهذا الإسناد أحاديث غير محفوظة، وقال في آخر ترجمته: وموسى بن عمير هذا له غير ما ذكرت أحاديث وعامة ما يرويه مما لا يتابعه الثقات عليه. وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/493، رقم 815) قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، تفرد به موسى بن عمير، قال يحيى: ليس بشيء، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه، قلت: وإنما روي هذا مرسلاً. وكما رأينا أن البيهقي وابن الجوزي كلاهما قال: إن هذا الحديث يروى مرسلاً فوجدناه كما قالا عن الحسن رواه أبو داود في المراسيل (ص: 127، رقم 105) . والحديث يروى من طرق أخرى فأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/282، رقم 3556) عن ابن عمر. ورواه أيضاً: البيهقي في شعب الإيمان (3/282، رقم 3558) عن مطرف بن سمرة بن جندب عن أبيه مرفوعاً.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كسى مسلماً ثوباً لم يزل في ستر الله ما دام عليه منه خيط أو سلك» (¬1) رواه الحاكم. ولكونها قنطرة الإسلام شدد الله على المقصرين بقوله العزيز: ?وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ? [التوبة: 34، 35] . قال ابن عمر كل مال تؤدي زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً، وكل مال لا تؤدي زكاته فهو كنز، وإن لم يكن مدفوناً. ومعنى قوله: ?وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ? لا يخرجون الزكاة عنها، قال العلماء الأعلام: على الإنسان ولا أثم عليه إذا كان معه مال كثير وأخرج عنه الزكاة الواجبة فيه فقد قال عبد بن الله بن عمر: ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده وزكاته وأعمل بطاعة الله فيه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (¬2) فالمال الصالح هو ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/217، رقم 7422) عن حصين قال: كنت عند ابن عباس فجاء سائل فسأل فقال له ابن عباس: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: وتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، وتصلي الخمس؟ قال: نعم، قال: وتصوم رمضان؟ قال: نعم، قال: أما أن لك علينا حقاً، يا غلام اكسه ثوباً فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 112، رقم 299) عن موسى بن علي قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمرو بن العاص قال: بعث إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرني أن آخذ علي ثيابي وسلاحي، ثم آتيه ففعلت، فأتيته وهو يتوضأ فصعد إلى البصر ثم طأطأ ثم قال: «يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله، وأرغب لك رغبة من المال صالحة» قلت: إني لم أسلم رغبة في المال إنما أسلمت رغبة في الإسلام فأكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (4/197، رقم 17798) ، وابن حبان في صحيحه (8/6، رقم 3210) ، والطبراني في المعجم الأوسط (9/22، رقم 9012) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/91، رقم 1248) ، والديلمي في الفردوس (4/257، رقم 6757) جميعاً عمرو بن العاص. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/64) تعليقاً على هذا الحديث: رواه أحمد، وقال كذا في النسخة «نعما» بنصب النون وكسر العين، قال أبو عبيدة: بكسر النون والعين، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وقال فيه: «ولكن أسلمت رغبة في الإسلام، وأكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «نعم ونعما بالمال الصالح للمرء الصالح» ، ورواه أبو يعلي بنحوه، ورجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح.

الزكي والرجل الصالح هو المزكي، نعم الملام والإثم على مانع الزكاة وإن كان ماله قليلاً، فإن ذا المال إذا لم يؤد حق الله وتصرف في ماله، فقد تصرف في حق المستخفين فيخشى عليه من تلفه في الدنيا وعقابه في الآخرة، فلهذا قال تعالى ?يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا? أي: على الكنوز نار جهنم فتكوى بها جباههم أي: فتحرق بها جباه كانزها وجنوبهم وظهورهم، وقال - صلى الله عليه وسلم - «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت عيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» (¬1) . قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يوضع دينار على دينار ودرهم على درهم، ولكن يوسع له حتى يوضع كل درهم ودينار في موضع على حده. فإن قيل: لم خص الله سبحانه وتعالى الجباه والجنوب والظهور بالكي، دون باقي البدن؟ فالجواب: إنما حض الله هذه بالكي لأن الغني صاحب الكنز إذ رأى الفقير قبض جبهته، ووارى ما بين عينيه وعبس بوجهه في وجهه فإذا ألح عليه الفقير جنبه إليه معرضاً عنه، فإذا وقف ولم يبرح أعطاه وتركه وانصرف، فعاقب الله هذه الأعضاء لذلك. وبعض الصوفية ذكر لذلك توجيهاً آخر فقال: إنما خص الله الجباه والجنوب والظهور بالكي، لأن أصحاب الأموال لما طلبوا المال والجاه متوجهين إليه، ولم يخرجوا حق الله منه شاه الله وجوههم، ولما طووا كشحاً عن الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم، ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتماداً عليها كويت ظهورهم. وقوله: ?هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ? أي: يقال لمانعي الزكاة يوم القيامة على جبهة التوبيخ هذا ما كنزتم لأنفسكم ?فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ? أي: ما كنتم تمنعون حقوق الله في أموالكم. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/680، رقم 987) ، وأبو داود في سننه (2/124، رقم 1658) ، والنسائي في سننه (5/12، رقم 2442) ، وأحمد في مسنده (2/383، رقم 8965) . عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

لطيفة: كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فقيراً اسمه: ثعلبة بن حاطب فشكى فقره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرزقه الله مالاً ويؤدي منه كل ذي حق حقه، فدعا له فوسع عليه، فانقطع عن الجمعة والجماعة، ومنع الزكاة فجمع مالاً عظيماً ودعا له بالبركة، وعاهده على إخراج حق الله منه، فكثر ماله فطلب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة فقال: إن الجزية تؤخذ من اليهود والنصارى لا من قريش، فطلب منه ثانياً وقال له: - صلى الله عليه وسلم - «إما الزكاة وإما السيف» فأرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغناماً صفافاً فنزل جبريل وقال: يا محمد الله قد نزع لباس الإيمان عنه ولبس لباس الكفر، والي هذا أشار الله بقوله العزيز ?وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ? [التوبة: 75 - 77] . قال بعض المفسرين (¬1) : جاء بعد نزول هذه الآية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بزكاته فقال: «إن الله منعني أن أقبل منك» ، فجعل يحثوا التراب على رأسه، ثم جاء بها إلى أبي بكر فلم يقبلها، ثم إلى عمر فلم يقبلها، ثم إلى عثمان فلم يقبلها ومات. وروينا في هذا الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه، ثم يأخذ بلهزمته يعني شدقيه ثم يقول: أنا ملكك أنا كنزك، ثم تلى ?وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ? [آل عمران: 180] » (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما من رجل يموت يترك غنماً أو إبلاً أو بقراً لم يؤد زكاتها، إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه، حتى تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس كلما تقدمت أخراها عادت عليه أولاها» (¬3) . ¬

(¬1) روى قصة ثعلبة وما كان منه ورجوعه بعد نزول الآيات الطبري في تفسيره (10/190) من حديث ابن عباس. وانظر: تفسير ابن كثير (2/375) . (¬2) انظر رواية البخاري في صحيحه (2/508، رقم 1338) عن أبي هريرة. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/530، رقم 1391) ، ومسلم في صحيحه (2/686، رقم 990) من حديث أبي ذر.

وروينا في سنن ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لم تظهر الفاحشة في قوم إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنن، وشدة المؤنة، وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا المطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم فأخذ بعضهم ما كان في أيديهم، وإذا لم يحكم بينهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (¬1) . وذكر العلامة أبو الفرج ابن الجوزي في بعض مصنفاته أنه جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أدى زكاة ماله سمي في سماء الدنيا سخياً، وفي الثانية جواداً، وفي الثالثة مطيعاً، وفي الرابعة باراً، وفي الخامسة وفياً، وفي السادسة مباركاً محفوظاً منصوراً، وفي السابعة مغفوراً له، ومن منع زكاة ماله سمي في سماء الدنيا بخيلاً، وفي الثانية لئيماً، وفي الثالثة ممسكاً، وفي الرابعة مقتراً، وفي الخامسة عاصياً، وفي السادسة منزوعاً عنه بركة ماله، وفي السابعة مردوداً عليه عمله مضروباً به وجهه» (¬2) . وروى الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «السخي قريب من ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه (2/1332، رقم 4019) عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن ... فذكره. وأخرجه أيضاً: الحاكم في المستدرك (4/583، رقم 8623) / والطبراني في مسند الشاميين (2/390، رقم 1558) ، وفي المعجم الأوسط (5/61، رقم 4671) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/196، رقم 3314) ، وأبو عمر القاري في السنن الواردة في الفتن (3/691، رقم 327) . قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/186) : رواه الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه المستدرك في آخر كتاب الفتن مطولاً من طريق عطاء بن أبي رباح ... به، قال: هذا حديث صحيح الإسناد، هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلف في ابن أبي مالك وأبيه، فأما الولد فاسمه خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الدمشقي، فوثقه أبو زرعة الدمشقي وأبو زرعة الرازي وأحمد بن صالح المصري، وضعفه أحمد وابن معين والنسائي والدارقطني، وأما أبوه فهو قاضي دمشق وكان من أشمة التابعين، وثقه ابن معين وأبو زرعة الرازي وابن حبان والدارقطني والبرقاني، وقال يعقوب بن سفيان في حديثهما ليث يعني خالد وأبوه، ووراه البزار والبيهقي من هذا الوجه، ورواه الحاكم بنحوه من حديث بريدة وقال: صحيح الإسناد، ورواه مالك بنحوه موقوفاً على ابن عباس، ورفعه الطبراني وغيره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) لم نقف عليه.

الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد عن الله بعيد عن الناس بعيد من الجنة قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل» (¬1) ، وفي رواية «من العالم البخيل» . فائدة: اختلف العلماء في البخيل من هو؟ فنقل الرافعي عن صاحب «التتمة» : أن البخيل من لا يؤدي الزكاة، ولا يقري الضيف. وقال الأسنوي: العرف يقتضي أن البخيل من لا يقري الضيف. فعلى القول الأول كان من أدى لزكاة ماله وقرى الضيف فليس ببخيل، ومن لم يفعل شيئاً من ذلك فهو بخيل، وعلى القول الثاني من قرى الضيف وإن لم يؤدي زكاة ماله فليس ببخيل. واختلف العلماء في البخل والشح فقيل: هما بمعنى واحد، وفرق بعض العلماء بينهما فقال: البخل أن يبخل بما في يده، والشح أن يؤد ما في أيدي الناس في يده بالحل والحرمة. والسخاء والكرم سبب لستر العيوب، والبخل والشح سبب جالب لكشفها كما أشار إليه بعضهم بقوله: ويظهر عيب المرء في الناس بخله ... ويستره عنهم جميعاً سخاؤه تغط بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه خاتمة لطيفة مناسبة: قال الشبلي قال لي خاطري يوماً: أنت بخيل فقلت: ما أنا بخيل فقال: نعم أنت بخيل، فنوديت أن أول شيء يفتح أن أرفعه لأول فقير ألقاه، فما ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/342، رقم 1961) وقال: غريب. وأخرجه أيضاً ابن عدي (3/403) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/429، رقم 10851) جميعاً عن أبي هريرة. وروي من طريق أخرى عند البيهقي في شعب الإيمان (7/428، رقم 10848) عن جابر بن عبد الله. وأخرجه أيضاً: البيهقي في شعب الإيمان (7/428، رقم 10847) والطبراني في المعجم الأوسط (3/27، رقم 2363) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/27) : فيه سعيد بن محمد الوراق وهو ضعيف.

تم خاطري حتى دفع إلى رجل خمسين ديناراً فخرجت، فرأيت فقيراً أعمى بين يدي حلاق يحلق رأسه فناولته إياها فقال: ادفعها للمزين فقلت: إنها دنانير فقال: ما قلنا لك إنك بخيل فدفعتها للمزين فقال: أنا حلقت له لله تعالى فتعجب الشبلي - رضي الله عنه - من زهدهما وأخذها. وسيأتى الكلام على الركن الرابع والخامس وهما الحج وصوم رمضان في محله إن شاء الله تعالى. * * *

المجلس السابع عشر

المجلس السابع عشر في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - «الإيمان بضع وستون شعبة» وفيه ترجمة لأبي هريرة - رضي الله عنه - مع فوائد ولطائف الحمد لله الذي نور قلوب العارفين بضياء الإلهام، وأيقظ أسرار القاصدين فلاح لهم الأعلام، وشغل أسماعهم بلذة خطابة عن سماع الملام، واستنهض عزائمهم فساروا في جنح الظلام، حاديهم الوجد ودليلهم القصد وسائقهم الغرام، شمروا حتى وصلوا وطلبوا حتى حصلوا ووقفوا حتى قبلوا، وأهل الغفلة نيام، ليس المقبول كالمطرود، ولا المحبوب كالمردود، ولا الوصال كالصدود، ولا الخلي المستهام، أفلا تستحي ممن وجدك وأحياك وعرفك وهداك وأيدك وولاك وخاطبك وناداك ووعدك بشرف المقام، أحمده على ما ألهم وأنعم وأكرم وأبرم من الأحكام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له إله انتظمت أفعاله بحسن الإتقان والإحكام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أقام به أركان الإسلام، وأبطل به الأنصاب والأزلام، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه هداة الأنام، صلاة دائمين باقية على مر الأيام. قَالَ البُخَارِي: باب أُمُورِ الإِيمَانِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ? لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ?. وَقَوْلِهِ ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? الآيَةَ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» . قوله «باب أمور الإيمان» (¬1) الإضافة فيه بيانية أي: الأمور التي في الإيمان لأن ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/119) : قوله: «باب أمور الإيمان» ، وللكشميهني «أمر الإيمان» بالإفراد على إرادة الجنس، والمراد بيان الأمور التي هي الإيمان والأمور التي للإيمان.

الأعمال والأقوال هي الإيمان عنده، ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى اللام أي: الأمور التي للإيمان في تحقق حقيقته واكتمال ذاته. وساق البخاري هذه الترجمة للدلالة على إطلاق اسم الإيمان على الأعمال، وقصد به الرد على المرجئة القائلين: إن الإيمان قول بلا عمل فلا تضر المعصية مع الإيمان. فائدة: للعلماء مذاهب في المعصية مع الإيمان: الأول: مذهب المرجئة يقولون: إن المعصية لا تضر مع الإيمان ولا يستحق صاحبها العذاب. الثاني: مذهب المعتزلة يقولون: إنها تضر وإن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر فيثبتونه المنزلة بين المنزلتين، ويقولون في مثله: فاسق مخلد في النار. الثالث: مذهب الخوارج يقولون: إنها تضر وإن مرتكب الكبيرة مخلد، بل ومرتكب الصغيرة أيضاً كافر يخلد في النار، ومذهبهم كمذهب المعتزلة مبني على أن الأعمال ركن من حقيقة الإيمان. والخوارج سبع فرق أولهم الذين خرجوا على علي بن طالب وكفروه. الرابع: مذهب الحسن البصري يقول: إن مرتكب الكبيرة منافق. الخامس: مذهب أهل السنة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة لا يكفر بها بل هو باق على إيمانه ولا يخلد في النار إن عذب، ولابد من دخوله الجنة هذا هو المذهب الحق، فالمعصية عند أهل السنة لا تضر في أصل الإيمان في كماله فيقال: الشارب الخمر مثلاً عندهم مؤمن ناقص الإيمان، وعند المعتزلة يقال: إنه فاسق ولا مؤمن ولا كافر، وعند الخوارج كافر، وعند الحسن البصري منافق. واستدل البخاري - رضي الله عنه - على أن الإيمان يطلق على الأعمال يأتي من كتاب الله تعالى حيث قال «وقول الله عز وجل ?لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ... ? الآية، وتمام الآية الشريفة ?وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ? [البقرة: 177] . وفي قوله: ?وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ? مضاف مقدر، إما في البر تقديره ولكن صاحب البر من آمن، وإما من تقديره لكن البر من آمن ليصبح المعنى.

ووجه الاستدلال بالآية: أنها حصرت المتقين على أصحاب هذه الصفات والأعمال والمراد: المتقون من الشرك وهم المؤمنون الكاملون. وقوله - عز وجل -: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ... ? الآية، وتمام هذه الآية الشريفة: ?الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ?. أفلح: فعل لازم بمعنى دخل في الفلاح، قال الكرماني: فعلم منها أن الإيمان الذي به الفلاح والنجاة الإيمان الذي فيه الأعمال المذكورة. قال ابن حجر: وكأن المؤلف أشار إلى مكان عدد الشعب من هاتين الآيتين (¬1) . «حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو عامر العقدي قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح، عن أبي هريرة» قال: اختلف العلماء في اسم أبي هريرة واسم أبيه على نحو ثلاثين قولاً أصحها عند أكثر العلماء: عبد الرحمن بن صخر. وسبب الاختلاف في ذلك أنه قتل شخصاً في الجاهلية وهرب، وصار كلما دخل ¬

(¬1) وللحافظ كلام طيب في الفتح (1/119) عن هاتين الآيتين فقد قال: قوله: «وقول الله تعالى» بالخفض، ووجه الاستدلال بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب، تظهر من الحديث الذي رواه عبد الرزاق وغيره، من طريق مجاهد أن أبي ذر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، فتلا عليه: ? لَيْسَ الْبِرَّ ... ? إلى آخرها، ورجاله ثقات. وإنما لم يسقه المؤلف لأنه ليس على شرطه، ووجهه: أن الآية حصرت التقوى على أصحاب هذه الصفات، والمراد المتقون من الشرك والأعمال السيئة، فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون. والجامع بين الآية والحديث: أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى البر، كما هي داخلة في مسمى الإيمان. فإن قيل: ليس في المتن ذكر التصديق؟ أجيب: بأنه ثابت في أصل هذا الحديث كما أخرجه مسلم وغيره، والمصنف يكثر الاستدلال بما اشتمل عليه المتن الذي يذكر أصله ولم يسقه تاماً. قوله: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? ذكره بلا أداة عطف، والحذف جائز، والتقدير: وقول الله: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ?، وثبت المحذوف في رواية الأصيلي، ويحتمل أن يكون ذكر ذلك تفسيراً لقوله المتقون، أي: المتقون هم الموصوفون بقوله: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? إلى آخرها.

إلى قرية وبلد يسمي نفسه وأباه باسم غير الاسم السابق. قال ابن عبد البر: لم يختلف في اسم في الجاهلية ولا في الإسلام كالاختلاف في اسمه، روي عنه أنه قال: «كان اسمي في الجاهلية عبد شمس، وسميت في الإسلام عبد الرحمن» . واسم أمه ميمونة وقيل: أميمة وقد أسلمت بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها بعد أن كانت تتكلم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يليق. قيل: إن أبا هريرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أمي أسمعتني فيك ما أكره، فقال: «اللهم اهد أم أبي هريرة» (¬1) قال: فخرجت أعدو لأبشرها فرأيت الباب مردوداً فلما أحست بي خرجت وهي تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فرجعت وأنا أبكي من الفرح كما كنت أبكي من الحزن، وقلت: يا رسول الله قد استجاب الله دعاك، أدع لي أن يحببني أنا وأمي إلى المؤمنين، فما من مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يحبنا. وهو أزدي دوسي يماني مدني، قال - رضي الله عنه - نشأت يتيماً وهاجرت مسكيناً وكنت أجير البرة بنت غزوان خادماً لها في مالها، فزوجنيها الله فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبي هريرة إماماً. وكان يخطب على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ويشكر الله على ما أعطاه فيقول: «الحمد لله الذي هدى أبي هريرة في الإسلام، وعلمه القرآن ومنَّ عليه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الحمد لله الذي أطعمني الخمير، وألبسني الحبير، الحمد لله الذي زوجني بنت غزوان بعد ما كنت أجيراً لها بطعام بطني. قدم المدينة عام خيبر وأسلم بها سنة ستة، وشهد خيبر مع رسول الله صلى - صلى الله عليه وسلم - ثم لزمه وواظب عليه أناء الليل والنهار، ولا يشغله عنه أهل ولا مال، وصبر على الفقر الشديد حتى أفضى به إلى الظل المديد، وكان عريف أهل الصفة، وكان يدور مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في هذا الصحيح، وكان - رضي الله عنه - حريصا على سماع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد في هذا الصحيح عنه - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1938، رقم 2491) ، وأحمد في مسنده (2/319، رقم 8242) عن أبي هريرة.

يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه» (¬1) . وكان - رضي الله عنه - آدم اللون ذا ضفيرتين محفياً لشاربه مزاحاً، وكان ينزل بذي الحليفة بقرب المدينة، وله دار تصدق بها على مواليه. قال إمامنا الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث. ومن فضائله: أنه كان يسبح كل يوم اثنا عشر تسبيحه ويقول: أسبح بقدر ديتي يعني أن دية الآدمي اثنا عشر ألف درهم، فهو يسبح بعددها لتكون فكاكه من النار، وكان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح. قال - رضي الله عنه -: ما وجع أحب إلىّ من الحمى لأنها تعطي كل عضو قسطه، وإن الله يعطي كل مفصل قسطاً من الأجر، وتحمل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العلم شيء كثيراً، وهو أكثر الصحابة رواية بإجماع العلماء رضي الله عنهم. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة آلاف حديث وأربع وسبعون حديثاً، اتفقا على ثلاثمائه وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري ومسلم بمائة وتسعين. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قلت: ثم يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً فأنساه قال: «أبسط رداءك» ، فبسطته قال: فغرف بيديه ثم قال «ضمه» فضممته فما نسيت بعد ذلك من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/49، رقم 99) ، والنسائي في السنن الكبرى (3/426، رقم 5842) ، وأحمد في مسنده (2/373، رقم 8845) ، وابن منده في الإيمان (2/862، رقم 905) ، وابن أبي عاصم في السنة (2/394، رقم 825) قال محققه الألباني: إسناده جيد على كلام يسير في ابن حميد، والحديث أخرجه البخاري وابن خزيمة، والآجري وأحمد من طريق إسماعيل بن جعفر أخبرنا عمرو بن أبي عمرو ... به، وتابعه معاوية بن معتب عن أبي هريرة ... به، وأخرجه ابن خزيمة ورجاله ثقات كلهم غير معاوية بن معتب قال الحسيني: وثقة ابن حبان وهو مجهول وأقره الحافظ في التعجيل. (انتهى) ؟ ويلاحظ أن كلام الألباني خاص بكل مصدر يعزوك إليه فرب حديث صحيح عند البخاري ضعيف عند ابن خزيمة لجهالة معاوية بن معتب فتنبه هداك الله. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (1/56، رقم 119) ، والترمذي في سننه (5/684، رقم 3835) وقال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه عن أبي هريرة. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/362) . وانظر: الاستيعاب (4/1771) ، والإصابة (7/436) ، وسير أعلام النبلاء (12/174) .

روى عنه الحديث أكثر من ثمانمائة رجل من صاحبي وتابعي، منهم ابن عباس وجابر وأنس. وروي أنه بكى في مرضه فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود أو أهبط على جنة أو نار، لا أدري في أيهما يأخذني. وكانت وفاته - رضي الله عنه - بالمدينة الشريفة، وقيل: بالعقيق سنة سبع وخمسين، وتوفيت عائشة رضي الله عنها قبله في السنة التي مات فيها، وصلى عليها وكان سنة يوم موته ثمانية وسبعين سنة، ودفن بالبقيع، وما اشتهر من أن قبره بقرب عسقلان، قال ابن الملقن: لا أصل له فاجتنبه، ثم قال: نعم هناك قبر «جندرة بن خشينة» الصحابي فاعلمه. ومن كراماته التي ظهرت بعد موته: ما روى عن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فوقعت عنده مسألة، وتنازع فيها الخصوم، وعلت أصواتهم فاحتج بعض العلماء الحاضرين على دعواه بحديث رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد بعض الخصوم الحاضرين المنازعين الحديث وقال: أبو هريرة غير مقبول فيما يرويه، ومال الرشيد نحو هذا البعض القائل هذا القول ونصر قوله، قال عمر بن حبيب: فرددت قول هذا القائل وقلت: الحديث صحيح وأبو هريرة صحيح النقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه قال: فلما قلت هكذا نظر إليَّ الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب فدخل إليَّ فقال: أجب أمير المؤمنين إجابه مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك - صلى الله عليه وسلم - فأجللت نبيك - صلى الله عليه وسلم - أن يطعن في أصحابه، فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على الكرسي من ذهب حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع، فلما رأني قال: يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد بالرد ودفع قولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي حاولت عليه فيه إزراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء إذا كان أصحابه كذا فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام من الصلاة والصيام والنكاح والحدود كلها مردودة غير مقبولة، فرجع الرشيد إلى نفسه ثم قال: احييتني يا ابن حبيب حياك الله ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم. كرامة أخرى له - رضي الله عنه -: حكي في تاريخ ابن النجار عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه قال: سمعت القاضي أبا الطيب يقول: كنا في حلقة النظر بجامع المنصور فجاء شاب

خراساني حنفي المذهب يسأل الشافعية عن مسألة المصراة وطالب بالدليل فقال له شخص من الشافعية: الدليل عليها ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصرو الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر» (¬1) فقال الشاب الحنفي: أبو هريرة غير مقبول الحديث، قال القاضي: فما أتم كلامه حتى سقطت عليه حيه عظيمة من سقف الجامع فهرب الناس، وتبعت الشاب دون غيره فقيل له: تب تب فقال: تبت فغابت الحية، كأن لم يكن لها أثر. يحتمل أن تكون هذه الحية ملكاً تشكل في صورة الحية وجاء ناصراً لأبي هريرة - رضي الله عنه - كرامة له، فقد أيد الله نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - كثيراً بذلك. فقد ذكر العلماء من ذلك: أن أبا جهل لعنه الله اشترى من رجل جملاً وماطله، فأتى الرجل نادى قريش مستعيناً بهم في تخليص ثمن الجمل فأحالوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاء وقالوا له: إذهب إلى محمد يخلص حقك منه، فجاء الأعرابي إليه - صلى الله عليه وسلم - وقص عليه قصته مع أبي جهل فمضى معه النبي - صلى الله عليه وسلم - فطرق باب أبي جهل فخرج فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصل له دهشته ورعب، فأوسعه إلا أن قال أهلاً بأبي القاسم فقال: «إعط هذا حقه» فأعطاه من فوره، فحدث قومه فقال: إني رأيت ما لم تروا رأيت والله على رأسي تنيناً فاتحاً فاه ولو أبيت لالتهمني. ومن نصرة الله لنبيه أن معمر بن زيد كان أشجع قومه استعانت به قريش وشكوا إليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان شجاعاً مطاعاً فقال لهم: إني قادم عليكم بعد ثلاثة أيام أريحكم منه، وعندي عشرون ألف مقاتل فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي، وإن سألوا الدية أعطيتهم عشر ديات ففي مالي سعة، وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر، وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس، فلبس سلاحه ولبس درعين، وجاء في اليوم الذي واعد قريشاً فرآهم في الحطيم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجحر يصلي وقد عرفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما التقت ولا تزعزع ولا قصر في صلاته فقالت قريش لعمر بن زيد: هذا محمد ساجد فسل سيفه واقبل نحوه فلما دنى منه وإذا به قد رمى سيفه ورجع مسرعاً مهرولاً، حتى وصل إلى باب الصفا عثر بدرعه فسقط، فقام وقد أدمى وجهه بالحجارة التي سقط عليها وهو يعدو كأشد ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/755، رقم 2041) ، ومسلم في صحيحه (3/1159، رقم 1524) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

العدو، حتى بلغ البطحاء وهو لا يلتفت إلى الخلف، فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا: ما شأنك ماذا أصابك قال: ويحكم المغرور من غررتموه، ما رأيت كاليوم دعوني حتى ترجع إليَّ نفسي، فتركوه ساعة ثم قالوا له: ما الذي أصابك قال: إني لما دنوت من محمد فأردت أن أضربه بسيفي فرأيت عند رأسه شجاعين أقرعين ينفخان بالنيران تلمع أبصارهما، قصداني فعدوت منهما، ولست بعد هذا اليوم أعود إلى مقربة محمد بشيء. فالشجاعان الأقرعان كانا ملكين من الملائكة فكذلك الحية التي سقطت من سطح المسجد وتبعت من سب أبا هريرة لا يبعد أن يكون ملكاً. وأبو هريرة أول من كني بهذه الكنية واختلفوا فيمن كناه بها فروي عنه - رضي الله عنه - أنه قال: كنت أرعى غنماً وكان لي مهرة صغيرة ألعب بها فكنوني بها، وقيل: كان المكني له بذلك أبوه، وقيل: رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كمه هرة فقال: يا أبا هريرة، وكان - رضي الله عنه - يحب الهرة ويحملها ويألفها وكان يقول: بعدم جواز بيعها، والصحيح جواز بيعها وحل أكل ثمنها كما ذهب إليه إمامنا الشافعي - رضي الله عنه - وكافة العلماء. أما ما ورد في صحيح مسلم وغيره بسند صحيح من أن رسول الله - رضي الله عنه - نهى عن أكل الهرة وأكل ثمنها (¬1) ، فهو محمول على الوحشي الذي لا نفع فيه كذا قاله الشافعي والجمهور. وهاهنا فوائد ولطائف مناسبة: الفائدة الأولى: قال العلماء اتخاذ الهرة وتربيتها مستحب قالوا: وإنها تشبه الإنسان في أمور وهي أنها تعطس وتتثاوب وتتمطى، وتتناول الشيء بيدها وتمسح وجهها، وإذا تلطخ شيء من بدنها نظفته. الثانية: قيل: إنها مخلوقة من عطسة الأسد وسببه أن أهل سفينة نوح تأذوا من الفأر، فمسح نوح - عليه السلام - جبهة الأسد فعطس ورمي الهرة، من ذلك كانت أشبه شيء بالأسد بحيث لو قيل للمصور صور لي هرة فلا تخرج إلا صورة الأسد. الثالثة: سئل بعض العلماء عن حكمة ستر الهرة إذا هي بالت دون غيرها من ¬

(¬1) أخرجه أيضاً: أبو داود (3/278، رقم 3480) ، وابن ماجه في سننه (/1082، رقم 3250) ، والحاكم في المستدرك (2/40، رقم 2246) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والدارقطني في سننه (4/290) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 319، رقم 1044) ، والطبراني في مسند الشاميين (2/16، رقم 835) من حديث جابر - رضي الله عنه -.

الحيوانات فأجاب: إن الله تعالى خلقها لأجل الفأر، وقد طبع الفأر الخوف منها، بحيث أن الفأرة إذا رأت الجمل لا تهرب، وإذا رأت الهرة أو شمت رائحتها تهرب منها خوفاً، فألهم الله تعالى الهرة إذا بالت أن تستر بولها حتى لا يشم رائحته الفأر فيهرب، فإذا بالت الهرة تشم رائحة بولها أولاً فإن كان له رائحة شديدة غطته، وبالت في غطائه وإلا اكتفت بأيسر التغطية. الرابعة: الهرة على ثلاثة أنواع أهلية ووحشية وهرة الزباد ويحرم أكل الجميع على الأصح، وأما الزباد فالصواب كما قاله النووي: طهارته وصحة بيعه إلا إذا اختلط بشيء من شعر الهرة. الخامسة: قال العلماء إذا أخذت الهرة حمامة مثلاً، وهي حية في فمها جاز ضرب فمها أو قطع أذنها لترسلها، وإذا قصدت الحمام أو غيرها، وكانت ضارية مفسدة فقتلها الإنسان في حال إفسادها دفعاً جاز ولا ضمان عليه ولا إثم إذا لم تكن حاملاً، إما إذا كانت حاملاً فعندها قال الدميري: لا يجوز قتلها لأن في قتل الحامل قتل أولادها، ولم يتحقق منهم جناية، وأمَّا قتلها في غير حالة الإفساد فغير جائز على الأصح خلافاً للقاضي حسين حيث جوزه من غير ضمان وألحقها بالفواسق الخمس. السادسة: قال العلماء: سؤرها طاهر لطهارة عينها فلا يكره وورد في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (¬1) فإن تنجس فمها بأن أكلت شيئاً نجساً ثم ولغت في الحال في ماء قليل أو غيره من المائعات، فإنها تنجسه إذا غابت بعد أن أكلت النجس، واحتمل ولوغها في ماء طاهر يطهر فمها في غيبتها فإنها لا تنجس ما ولغت فيه. السابعة: روى صاحب الإستيعاب عن سلمان الفارسي خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالهرة وقال: «إن امرأة عذبت في هرة ربطتها ... » (¬2) الحديث، قال ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه (1/19، رقم 75) عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت بن أبي قتادة أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء، حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال ... فذكره مرفوعاً. وأخرجه أيضاً: النسائي في سننه (1/55، رقم 68) ، وأحمد في مسنده (5/296، رقم 2258) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/478) . (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1760، رقم 2243) ، وأحمد في مسنده (2/424، رقم 9478) ، والطيالسي في مسنده (ص 199، رقم 1400) ، وأبو يعلى في مسنده (11/12، رقم 6152) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (2/305، رقم 546) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

العلماء: وهذه المرأة كانت كافرة فاستحقت العذاب بكفرها، لا بحبسها للقطة حتى ماتت، فإن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة، على ذلك ما روي في مسند أبي داود الطيالسي من حديث الشعبي عن علقمة قال: كنا عند عائشة ومعنا أبو هريرة فقالت: يا أبي هريرة أنت الذي تحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن امرأة عذبت بالنار من أجل هرة» فقال: أبو هريرة نعم سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة: المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة قالت: إنما كانت المرأة مع ذلك كافرة يا أبا هريرة، إذا حدثت عن رسول الله فانظر كيف تحدث (¬1) . لطيفة: حكى ابن خلكان وغيره عن الشيخ الإمام أبي الحسن بن باب شاذ النحوي وكان من أكابر العلماء وكان فقيراً جداً فلازم بعض السلاطين وخدمه لأجل فقره وقعت بعد ذلك واقعة ترك بسببها خدمة السلطان، كما حكي عنه أنه كان يوماً في سطح جامع مصر يأكل شيئاً وعنده بعض أصحابه فحضر قط فرموا له لقمة فأخذها في فيه وغاب عنهم، ثم عاد إليهم فرموا له شيئاً فأخذه وذهب ثم عاد ففعل ذلك مراراً كثيرة وهم يرمون له وهو يأخذ ويغيب يعود من فوره فتعجبوا منه فتبعوه فإذا هو يأخذ الطعام، ويدخل إلى خزنة فيها شبه البيت الخراب في سطح ذلك البيت قط أعمى فإذا هو يصح الطعام بين يديه فتعجبوا من ذلك، فقال الشيخ ابن باب شاذ: إذا كان حيواناً أخرس قد سخر له هذا القط، وهو يقوم بكفايته ولم يحرم الرزق فكيف يضيع مثلي ثم قطع الشيخ علائقه، وترك خدمة السلطان ولزم بيته مشتغلاً متوكلاً على الله إلى أن مات. لطيفة أخرى: وروى ابن عساكر في تاريخه عن بعض أصحاب الشبلي قال رأيت الشبلي في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا أبا بكر أتدري بماذا غفرت لك؟ فقلت: بصالح عملي فقال: لا، فقلت بإخلاصي في عبوديتي، قال: لا، فقلت: بحجي وصومي وصلاتي، ثم قال: ما غفر لك بذلك، فقلت: بهجرتي إلى الصالحين، قال: لا، فقلت: بإدامة أسفاري في طلب العلم فقال: لا، فقلت ¬

(¬1) ورواه أيضاً أحمد في مسنده (2/519، رقم 10738) عن الشعبي عن علقمة ... به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/116) : رجاله رجال الصحيح.

يارب هذه المنجيات التي كنت أعقد عليها خنصري ظناً أنك بها تعفو عني، قال: كل هذه لم أغفر لك، فقلت: إلهي بماذا؟ قال: أتذكر حين كنت تمشي في دروب بغداد، فوجدت هرة صغيرة قد أضعفها البرد تنزوي من جدار إلى جدار من شدة البرد والثلج، فاخذتها رحمة بها فإذا دخلتها في فرو كان عليك، وقاية لها من البرد، فقلت: نعم، قال: برحمتك لتلك الهرة رحمتك. «عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الإيمان بضعة وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» . قوله: «بضعة» بالهاء هو الواقع في أكثر نسخ البخاري، وفي بعض النسخ «بضع» بلا هاء، والبضع والبضعة بكسر الياء على اللغة المشهورة، وبها جاء القرآن العظيم، ويجوز فتحها في لغة قليلة: هو عدد مبهم مستعمل فيما بين الثلاثة والتسعة على الراجح، فإذا قلت له: عندي بضعة عشر درهماً يحتمل أن يكون ثلاثة عشر فأربعة عشر وهكذا إلى تسعة عشر، وإذا قلت له: عندي بضعة وأربعين درهماً يحتمل أن يكون ثلاثة وأربعين أو أربعة وأربعين، وهكذا إلى تسع وأربعين وهكذا. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وستون شعبة» (¬1) يحتمل أن يكون ثلاثة وستين أو أربعة ¬

(¬1) شرح الحافظ ابن حجر في الفتح (1/120) هذه الجملة شرحاً بديعاً فقال: قوله: «بضع» بكسر أوله، وحكي الفتح لغة، وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع كما جزم به القزاز. وقال ابن سيده: إلى العشر، وقيل: من واحد إلى تسعة، وقيل: من اثنين إلى عشرة، وقيل: من أربعة إلى تسعة، وعن الخليل: البضع: السبع. ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى: ?فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ? [يوسف: 42] ، وما رواه الترمذي بسند صحيح: أن قريشاً قالوا ذلك لأبي بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعاً. ونقل الصغاني في العباب أنه خاص بما دون العشرة وبما دون العشرين، فإذا جاوز العشرين امتنع. قال: وأجازه أبو زيد فقال: يقال: بضعة وعشرون رجلاً وبضع وعشرون امرأة. وقال الفراء: وهو خاص بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة ولا بضع وألف. ووقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث ويحتاج إلى تأويل. قوله: «وستون» لم تختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلف في ذلك، وتابعه يحيى الحماني -بكسر المهملة وتشديد الميم- عن سليمان بن بلال، وأخرجه أبو عوانة من طريق بشر بن عمرو عن سليمان بن بلال فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه فقالوا: «بضع وسبعون» من غير شك، ولأبي عوانة في صحيحه من طريق: «ست وسبعون أو سبع وسبعون» ، ورجح البيهقي رواية البخاري لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه فتردد أيضاً لكن يرجح بأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية الترمذي بلفظ: «أربع وستون» فمعلولة، وعلي صحتها لا تخالف رواية البخاري، وترجيح رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة -كما ذكره الحليمي ثم عياض- لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لاسيما مع اتحاد المخرج. وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري، وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن. قوله: «شعبة» بالضم أي: قطعة، والمراد الخصلة أو الجزء. قوله: «والحياء» هو بالمد، وهو في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه. وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر: «الحياء خير كله» . فإن قيل: الحياء من الغرائز فكيف جعل شعبة من الإيمان؟ أجيب: بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقاً، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثاً على فعل الطاعة وحاجزاً عن فعل المعصية. ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، لأن ذاك ليس شرعيا. فإن قيل: لم أفرده بالذكر هنا؟ أجيب: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر.

وستين. فائدة: لا يستعمل بضع ولا بضعة إلا مع عشراً مع العشرين أو مع الثلاثين وهكذا إلى التسعين، ولا يستعمل مع المائة ولا مع الألف، فلا يقال بضع ومائه، ولا بضع ألف. و «شعبة» بضم الشين هي في أصل الوضع غصن الشجرة وفرع كل أصل وهي هنا بمعنى خصلة. قال العلماء: شبة النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بشجرة ذات أغصان وشعب، كما شبه الإسلام في حديث «بني الإسلام» أنه ذا أعمدة، وحاصل معنى الحديث أن الإيمان يتشعث من شعب كثيرة كما تتشعب من الشجرة أغصان كثيرة ضبطها - صلى الله عليه وسلم - هنا في رواية البخاري وحصرها في بضع وستين شعبة منها الإيمان فيقال: لا إله إلا الله شعبة من شعب الإيمان، ويقال للصلاة من شعب الإيمان، ويقال للأمر بالمعروف شعبة من شعب

الإيمان، ويقال للحياء شعبة من شعب الإيمان، ويقال لإزالة الحجر من طريق المسلمين شعبة من شعب الإيمان. ولم يبين هنا - صلى الله عليه وسلم - أعلا شعب الإيمان أو أدناها لكن بين - صلى الله عليه وسلم - أعلاها وأدناها في حديث آخر كما ثبت في الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: «أعلاها لا إله إلا الله» (¬1) ، وفي رواية: «أفضلها لا إله إلا الله» (¬2) ، وفي رواية: «أعظمها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذي عن الطريق» (¬3) ، وفي رواية: «إماطة العظم عن الطريق» (¬4) فبين - صلى الله عليه وسلم - أن أعلا الشعب التوحيد على كل مكلف، والذي لا يصح غيره من الشعب إلا بعد صحته وإن أدناها ما يتوقع منه ضرر للمسلمين، وبقي بينهما تمام العدد فيجب علينا الإيمان به، وإن لم نعرف أعيان جميع أفراده كما نؤمن بالأنبياء والملائكة وإن لم نعرف أعيانهم وأسمائهم. وقد صنف العلماء في تعيين هذه الشعب كتباً كثيرة من أعظمها منهاج الحليمي (¬5) . ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/420، رقم 191) ، والطبراني في المعجم الأوسط (9/20، رقم 9004) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/169، رقم 30416) ، وابن منده في الإيمان (1/334، رقم 171) عن أبي هريرة. (¬2) هذه الرواية عند البخاري في الأدب المفرد (ص 209، رقم 598) ، وأبو داود في سننه (4/219، رقم 4676) ، والنسائي في سننه (8/110، رقم 5004) ، وأحمد في مسنده (2/414، رقم 9350) ، وابن منده في الإيمان (1/297، رقم 147) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/429، رقم 428) . (¬3) هذه اللفظ عند ابن أبي شيبة في المصنف (5/212، رقم 25339) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الإيمان بضع وستون باباً أو بضع وسبعون باباً أعظمها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» . (¬4) هذه الرواية عند أبو داود في سننه (4/219، رقم 4676) ، وأحمد في مسنده (2/414، رقم 9350) . (¬5) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/121) : قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان. ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه. وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره، وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن. فأعمال القلب: فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان بالله، ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، واتباع سنته، والإخلاص، ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق، والتوبة، والخوف، والرجاء، والشكر، والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء والتوكل، والرحمة، والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير، وترك الكبر والعجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغصب. وأعمال اللسان: وتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم، وتعليمه، والدعاء، والذكر، ويدخل فيه الاستغفار، واجتناب اللغو. وأعمال البدن: وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حساً وحكماً، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة، والصلاة فرضاً ونفلاً، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف، والصيام فرضا ونفلاً، والحج، والعمرة كذلك، والطواف، والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك، والوفاء بالنذر، والتحري في الإيمان، وأداء الكفارات. ومنها ما يتعلق بالاتباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق، وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد. ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد، ومنه المرابطة، وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذي عن الناس، واجتناب اللهو وإماطة الأذي عن الطريق، فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها تسعاً وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر. والله أعلم.

وقد ورد في فضل من أزال من طريق المسلمين ما يضرهم من حجر أو شوك أو عظم أو غير ذلك أحاديث. وورد أن فعل ذلك مكتوباً لفاعله في ديوان الصدقة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائه مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظم وآمن

فنهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائه، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار» (¬1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، ونصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (¬3) . لطيفة: وروي عن أبي حفص النيسابوري أنه اشتغل قلبه بحب جارية، فاستشار بعض أصحابه كيف يتحيل إليها حتى يصل إليها، فأشار إليه أن يمضي إلى فلان اليهودي ليحتال له في أمرها فمضى إليه وأطلعه على حاله فأمره اليهودي أن لا يصلي أربعين يوماً ولا يعمل عملاً يرضاه الله تعالى، ففعل ذلك ثم ذهب إلى اليهودي بعد الأيام الأربعين وأعلمه بما فعل فشرع اليهودي في حيلة يحتال بها في أمره ليجمع بينه وبين الجارية، فلم يقدر على ذلك فقال اليهودي: أظن أنك قد عملت في هذه المدة شيئاً يرضاه الله تعالى من أفعال البر، فتفكر أبو حفص وقال: والله ما عملت شيئاً غير ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/698، رقم 1007) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/209، رقم 10673) ، وابن حبان في صحيحه (8/173، رقم 3380) ، والبيهقي في السنن (4/188، رقم 7611) ، وفي شعب الإيمان (7/511، رقم 11161) ، وأبو الشيخ في العظمة (5/1620) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/820، رقم 816) جميعاً من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/307، رقم 891) ، وابن حبان في صحيحه (2/287، رقم 529) ، والترمذي في سننه (4/339، رقم 1956) وقال: وفي الباب عن ابن مسعود وجابر وحذيفة وعائشة وأبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب. ورواه البزار في مسنده (9/457، رقم 4070) جميعاً من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬3) بهذا اللفظ رواه أبو بكر البغدادي في تكملة الإكمال (1/495) عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -. ورواه الطبراني في المعجم الصغير (2/131، رقم 907) حذيفة بن اليمان مرفوعاً بلفظ: «من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لا يصبح ويمسي ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم» . ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء (3/48) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/361، رقم 10586) عن أنس بن مالك مرفوعاً بلفظ: «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم للمسلمين فليس منهم» . قال البيهقي: إسناده ضعيف.

أني أزلت حجراً عن طريق المسلمين برجلي فقال اليهودي: هذا رب كريم لم يضيع لك هذا المقدار، وعصمك بسبه من هذه الأوزار، فكيف يليق بك أن تعصيه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «والحياء شعبة من الإيمان» إنما أافرد - صلى الله عليه وسلم - هذه الخصلة من خصال الإيمان في هذا الحديث وخصها بالذكر دون غيرها من باقي شعب الإيمان، لأن الحياء كالداعي إلى باقي الشعب، فإن صاحب الحياء يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر، فلما كان الحياء كالسبب لفعل باقي الشعب خص بالذكر ولم يذكر غيره معه. واستشكل العلماء جعل الحياء من شعب الإيمان فقالوا: إن الحياء من الأمور التي طبع الإنسان وغرز عليها، وليس من كسبه فكيف يعد من شعب الإيمان وشعب الإيمان كسبيه لا غريزة فيها؟ وأجيب عن هذا الإشكال بأن: الحياء قد يكون غريزة وقد يكون تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر، وأيضا يقال: وإن كان غريزياً ولكن استعماله على وفق الشرع وقانونه يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان بهذا الاعتبار. لطيفة في الحياء: قال في الروض الفائق: قال مالك بن دينار: كان لي جار مسرف على نفسه فاجتمع الجيران إليَّ يشكونه، فأحضرته وقلت له: إنته عن عصيانك، واتق الله فإما أن تتوب وإما أن تخرج من هذه المحلة، قال: أنا في ملكي ما أخرج منه، قلت له: نشكوك إلى سلطان فقال: أنا من أصحابه، قلت: فندعو الله عليك، قال: ربي أرحم بي منكم ثم نهض، فلما كان الليل رفعت يدي وقت السحر وقلت: سيدي قد آذانا هذا الرجل فافعل به ما شئت، فهتف بي هاتف لا تدع عليه فإنه من أوليائنا قال: فقمت من ساعتي وطرقت عليه الباب فخرج، وظن أني قد خرجت لأخرجه من المحلة، فخرج وهو يبكى ويقول: يا سيدي السمع والطاعة أنا أخرج من المحلة قال: فقلت: يا حبيبي ما جئتك لهذا، وإنما الساعة تضرعت إلى الله فهتف هاتف لا تدع عليه فإنه من أوليائنا، فبكى بكاء شديداً وتاب وحسنت توبته، فأصبح الناس يزورونه ويتبركون به كثيراً، فخرج إلى مكة شرفها الله تعالى ماشياً وأقام بها فحججت في العام فبينما أنا في وقت الظهيرة في المسجد الحرام بحائط وإذا بجماعة قد اجتمعوا في جانب المسجد فقمت إليهم فإذا هم قد أحدقوا برجل فتأملته فإذا هو صاحبي وهو ملقى على التراب وهو يجود نفسه، فجلست عند رأسه أبكي ففتح عينيه فرآني فقال: يا مالك أترى يعفوا عن تلك السيئات، ويرحم هذه العبرات، إنما خرجت من تلك المحلة،

وفارقت وطني حياء منك وأنت مخلوق، فكيف أقف غداً بين يدي الخالق، ثم تنفس وتحسر ومات، رحمة الله تعالى عليه. ولله در القائل: «من كان وكان، ما كل واصل مواصل، ولا العناء يدني المنى، هذي سوابق لواحق، لمن يشاء الوهاب، قل لي إذا لم تصبر وتحتمل، إيش لك عمل، تقدر بقوة عزمك تغالب الغلاب، سلم قيادك تسلم، واخضع لمالك مهجتك تغنم، إذا اعتنى بك أتاك من أقرب الأبواب،، كم من موفق تائب، قد بان له سبل الهدى، وكم شقي وعاص، إلى السعة ما تاب، ويحك عروس المنايا، لبيت لحدك خبئت، وذا مشيبك وافى في جملة الخطاب، كأس المنايا دائر على البرايا كلهم، فقل لمن هو حاضر يخبر لمن قد غاب، غداً تبين الفضائح، ويشتهر ما قد خفي، وفي القيامة ينادى هل من قصدنا خاب؟» . فائدة: الحياء محمود وحقيقته: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، فيستفاد من هذا أن الحياء خير لأنه يبعث الإنسان على فعل الخير ويمنعه من فعل المعصية، فلهذا جاء في حديث: «الحياء خير كله» (¬1) ، وفي حديث آخر: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (¬2) . واستشكل العلماء هذا أيضاً بأن الحياء قد يمنع من الخير ومن قول الحق، وما يمنع من فعل الخير وقول الحق كيف يكون خير. وأجابوا عن هذا أيضاً: بأن هذا ليس بحياء حقيقي شرعي بل هو عجز، وجوزوا تسميته حياء بطريق المجاز، سماه بعض أهل العرف حياء الشبهة بالحياء الحقيقي. وقد ورد في فضل الحياء وفضل من تخلق به أحاديث قال - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم لأصحابه: «استحيوا من الله» قالوا: إنا نستحي من الله يا رسول الله والحمد لله فقال: «ليس ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/64، رقم 37) ، وأبو داود في سننه (4/252، رقم 4796) ، وأحمد في مسنده (4/426، رقم 19830) ، والبزار في مسنده (9/29، رقم 3537) ، والروياني في مسنده (1/128، رقم 127) ، والطيالسي في مسنده (ص 114، رقم 854) ، والطبراني في المعجم الكبير (18/171، رقم 387) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/76، رقم 70) عن عمران بن حصين. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2267، رقم 5766) ، ومسلم في صحيحه (1/64، رقم 36) من حديث عمران بن حصين أيضاً.

ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة وله نية الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» (¬1) . ومعنى «أن تحفظ الرأس وما وعى» حفظه من السمع والبصر واللسان، فلا يستعملها إلا فيما يحل، وقوله: «والبطن وما حوى» يريد لا يجمع فيه إلا الحلال ولا يأكل إلا الطيب، ويحتمل أن يراد بما حوى الفرج والقلب والرجل. وفي بعض كتب الله المنزلة يقول الله: ما انصفني ابن آدم يدعوني فأستحي أن أرده، ويعصيني ولا يستحي مني. وفيها أيضاً يقول الله تعالى: عبدي إنك ما استحيت مني أنسيت الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت من أم الكتاب زلاتك، ولم أناقشك يوم الحساب يوم القيامة. وفيها أيضاً يقول الله تعالى: إن كنتم لا تعلمون أني أنظر إليكم فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعملون أني أنظر إليكم فلم جعلتموني أهون الناظرين. وكان الفضيل رحمه الله تعالى يقول: يا مسكين تغلق بابك وترخي سترك وتستحي من الناس ولا تستحي من الملكين الذين معك، ولا تستحي من القرآن الذي في صدرك، ولا تستحي من الجليل سبحانه وتعالى وهو لا يخفي عليه خافية، ولله در القائل في المعنى حيث يقول: كن حييا إذا خلوت بذنب ... ليس يخفى عن الرقيب الشهيد أتهاونت بالإله ... وتواريت عن عيون العبيد يروى أن رجلاً حبشياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة؟ قال: «نعم» ، قال: فهل كان الله يراني؟ قال: «نعم» ، فصاح الحبشي ووقع ميتاً. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/637، رقم 2458) وقال: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد، وأحمد في مسنده (1/387، رقم 3671) ، والحاكم في المستدرك (4/359، رقم 7915) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو يعلى في مسنده (8/461، رقم 5047) ، والطبراني في المعجم الكبير (10/152، رقم 10290) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/354، رقم 10561) عن عبد الله بن مسعود.

لطيفة: مر منصور بن عمار فوجد شاباً يحدث امرأة فانصرف الشاب، لما رأى منصور بن عمار فتقدم منصور فكلمها أن تذهب فمشت خلفه حتى دخلت منزله، فقعدت في منزله ووقف منصور يصلي فطول عليها، فلما سلم قالت: يا هذا طولت عليَّ فقال لها: ما تقولين في رجل عليه حق بأربعة شهود، والحاكم يعلم به هل يقدر أن يمتنع منه بجحود؟ قالت: لا والله، قال: فإن معي ملكين ومعكي ملكين، والحاكم يعلم بنا ويرانا، فاضطربت المرأة ووقعت ميتة. وقيل: إن المنافق إذا لم ير أحداً دخل مدخل السوء، وإذا لم ير أحداً بطش، إنما يراقب الناس ولا يراقب الله عز وجل، وإن المؤمن يعلم أن الله يراه ويعلم سره ونجواه فإنما قلبه بين يدي الله. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثر غلطه، ومن كثر غلطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ودعه مات قلبه. فسبحان من تفضل على قوم فعرفهم ورفعهم، واختصهم لخدمته واصطعنهم، وتكبر على قوم فأذلهم بحجابه، وضعهم وطردهم عن بابه، ومنعهم وختم عنهم باب الوصل وقطعهم، ولقد جاءهم الإنذار فما نفعهم ولو علم فيهم خيراً لأسمعهم، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم. لطيفة: كان طاووس بمكة فراودته امرأة عن نفسها فلم يزل بها حتى أتى بها إلى المسجد الحرام، والناس مجتمعون فقال لها: قصي ما كنت تردين قالت: أفي هذا الموضع والناس ينظرون، قال لها فالحياء من نظر الله حق، فتابت المرأة وحسنت توبتها ولقد أحسن من قال: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفيه عنه يغيب * * *

المجلس الثامن عشر

المجلس الثامن عشر في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» الحمد لله المنفرد بالكمال والكبيراء والجلال، والبقاء والعز الذي لا نفاد له، الملك الكريم الذي يغفر لمن استغفره، ويقبل من استقاله، ويجيب من سأله الجميل، الذي غمر العباد ببره فبحار عطائه سائلة، الغفور الذي ستر عباده عند المسألة، القريب الذي قرب أحبابه فوجدوا لذة المعاملة، فقلوبهم لذكره حاضرة، وعيونهم في خدمته ساهرة، وأبدانهم من مخافته ناحلة، العزيز الذي قطع المبعدين عن بابه، وأذابهم بأليم حجابه، السعيد من قربه المولى الكريم، والطريد من أبعده الملك الحكيم، والقلوب بسر تدبيره جاهله، استوى على العرش من غير تكييف، علو عظمته وقهره، وكيف يحمل العرش حامله، القلوب تعرفه بصفته، والرقاب خاضعة لعزته، والعقول في تعظيمه حائرة ذاهلة، صفاته قديمة وتخيلات المشبهين والمعطلين باطلة، لا يرد أفعاله كم ولا كيف، ولا ينسب شيء من أحكامه إلى حين، فاقطع لسان الاعتراض وكف كف المجادلة، فكلما تصوره وهمك فهو حادث مخلوق، وكيف يشبه المفعول فاعله، أحمده على ما أسبغ علينا من نعمه الكاملة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله ضمن الربح الجزيل لمن عامله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، نبي أوضح كل مشكل، وبين حكم كل نازلة، فأضحت شمس الإيمان مشرقة، ونجوم البهتان آفلة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابة صلاة دائمة متواصلة وسلم. قَالَ البُخَارِي: باب الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ (¬1) حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ (¬2) ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ (¬3) ، وَإِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/123) : قوله «باب» سقط من رواية الأصيلي وكذا أكثر الأبواب، وهو منون ويجوز فيه الإضافة إلى جملة الحديث لكن لم تأت به الرواية. وقوله: «المسلم ... » استعمل لفظ الحديث ترجمة من غير تصرف. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/123) : قوله: «أبي إياس» اسمه ناهية بالنون وبين الهاءين ياء أخيرة، وقيل اسمه: عبد الرحمن. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/123) : قوله: «أبي السفر» اسمه سعيد بن يحمد، وإسماعيل مجرور بالفتحة عطفاً عليه، والتقدير: كلاهما عن الشعبي.

«الْمُسْلِمُ (¬1) مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (¬2) . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ (¬3) : حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (123) : قوله: «المسلم» قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل أي: الكامل في الرجولية، وتعقب بأنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملاً، ويجاب: بأن المراد بذلك مراعاة باقي الأركان. قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين. وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكر مثله في علامة المنافق، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه، لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/125) : هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، بخلاف جميع ما تقدم من الأحاديث المرفوعة، على أن مسلماً أخرج معناه من وجه آخر، وزاد ابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث أنس صحيحاً: «المؤمن من أمنه الناس» وكأنه اختصره هنا لتضمنه لمعناه، والله أعلم. (¬3) قال الحافظ بن حجر في الفتح (1/125) : قوله: «وقال أبو معاوية حدثنا داود» هو ابن أبي هند، وكذا في رواية ابن عساكر عن عامر وهو الشعبي المذكور في الإسناد الموصول. وأراد بهذا التعليق بيان سماعه له من الصحابي، والنكتة فيه رواية وهيب بن خالد له عن داود عن الشعبي عن رجل عن عبد الله بن عمرو، حكاه ابن منده، فعلى هذا لعل الشعبي بلغه ذلك عن عبد الله، ثم لقيه فسمعه منه. ونبه بالتعليق الآخر على أن عبد الله الذي أهمل في روايته هو عبد الله بن عمرو الذي بين في رواية رفيقه، والتعليق عن أبي معاوية وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريقه ولفظه: «سمعت عبد الله بن عمرو يقول: ورب هذه البنية لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده» فعلم أنه ما أراد إلا أصل الحديث. والمراد بالناس هنا: المسلمون كما في الحديث الموصول، فهم الناس حقيقة عند الإطلاق، لأن الإطلاق يحمل على الكامل، ولا كمال في غير المسلمين، ويمكن حمله على عمومه على إرادة شرط وهو إلا بحق، مع أن إرادة هذا الشرط متعينة على كل حال، لما قدمته من استثناء إقامة الحدود على المسلم، والله سبحانه وتعالي أعلم.

عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: «عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما» هذا هو الزاهد العابد الصحابي أبي عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، كنيته أبو محمد على الأصح، أسلم قبل أبيه، وكان بينه وبين أبيه في السن اثنتا عشر سنة، وقيل: إحدى عشر سنة، قالوا: ولا نعرف أحداً بينه وبين هذا القدر غيره، وكان غريزاً في العلم مجتهداً في العبادة وكان أكثر حديثاً من أبي هريرة لأنه كان يكتب، وأبو هريرة لا يكتب، ومع ذلك فالذي روى له قليل بالنسبة إلى ما رواه أبو هريرة. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعمائه حديث، اتفقا منهما على سبعة عشر وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، وكان - رضي الله عنه - أحمر عظيم البطن، وعمي في آخر عمره، واختلفوا في أي مكان توفى، فقيل: بمكة، وقيل: بالطائف وقيل: بمصر في شهر ذي الحجة سنة خمس وستين، وقيل: سنة ثلاث وسبعين عن ستين وسبعين سنة «عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» اشتمل هذا الحديث على جملتين الأولى قوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» واختلف العلماء في معنى هذه الجملة فقيل: معناها المسلم الكامل من سلم المسلمون من لسانه ويده، فتكون الألف واللام في المسلم للكمال نحو زيد الرجل الكامل في الرجولة، فإن إثبات الشيء للشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، فقد صرح سيبوية بأن الجنس إذا أطلق محمولاً على الكامل ويسقط ما استشكل منه إذا المفهوم من الحديث: أن من لم يسلم المسلمون من لسانه لا يكون مسلماً، نعم يخرج عن الإسلام الكامل إذا لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، ولم يخرج عن أصل الإسلام. وقيل: معنى الحديث والمراد به الإشارة إلى حسن معاملة العبد ربه لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فالأولى أن يحسن معاملة ربه من باب التثنية بالأدنى على الأعلى. فإن قيل: إن قوله: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» يقتضي ويفهم أنه لا يحب الكف عن الكفار في تحصيل الإسلام الكامل بل يحصل له الإسلام الكامل إن لم يكف لسانه ويده عنهم وليس كذلك. والجواب: أن هذا الحديث خرج مخرج الغالب أن يكف مفهوم له، وخص المسلمون بالذكر لأجل أنه يتأكد على المسلم أن يكف الأذى عن أخيه المسلم، لا لأجل أنه لا يجب الكف عن الكافر.

أو يقال في الجواب: الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه فصح الاحتراز عنهم بالمسلمين. فإن قيل: قوله «المسلمون» بصيغة جمع التذكير يقتضي أنه لا يجب الكف عن المسلمات في تحصيل الإسلام الكامل، وليس كذلك بل ولابد وإن يكف لسانه ويده عن المسلمين والمسلمات ليحصل له الإسلام الكامل. جوابه: أن الإتيان بجمع التذكير هنا للتغليب فالمسلمات يدخلن في ذلك. فائدة: إنما خص - صلى الله عليه وسلم - اللسان واليد بالذكر مع أن الأذي قد يحصل بغيرهما إلا أن الإيذاء باليد واللسان أكثر من غيرهما، فاعتبر الغالب أيضاً. وخص اللسان لأنه يعبر عما أضمره الإنسان في نفسه، وخصت اليد بالذكر لأن سلطته الأفعال إنما تظهر باليد إذ بها البطش والقطع والأخذ والمنع والإعطاء ونحوه. وقال أبو ذر ابن الشيخ برهان الدين المحدث في شرحه: وإنما جمع بينهما - صلى الله عليه وسلم - ولم يقتصر على أحدهما لأن كف اليد قد يكون بسبب الضعف والبعد، فإذا انضم إليه كف اللسان علم أن كف اليد كان للإسلام قاله السخاوي. وأفاد الشيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر في الفتح هنا مناسبة لطيفة فقال (¬1) : في ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكته وهي لأجل أن يدخل فيها اليد المعنوية، فإن اليد على قسمين: يد الجارحة، وهي معلومة، واليد المعنوية وهي الاستيلاء على حق الغير بغير حق فإنه يقال: وضع فلان يده على مال فلان أي: استولى عليه باليد المعنوية، فعلى هذا يشترط في تحصيل الإسلام الكامل سلامه المسلمين من لسانه ويده أعم من تكون يد الجارحة أو يد المعنى، فمن استولى على أموال الناس بغير حق يصدق عليه أنه لم يسلم المسلمون من يده فلا يكون مسلماً كاملاً، وإن لم يؤذهم بلسانه ويد الجارحه. فائدة أخرى: إنما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللسان على اليد لأن أذى اللسان أعم من أذى اليد، واللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بخلاف اليد فإنها تختص بالموجود. قال شيخ الإسلام ابن حجر (¬2) : نعم يشارك اللسان في ذلك الكتابة، وإن أثرها في ¬

(¬1) انظر الفتح (1/124) . (¬2) انظر الفتح (1/124) .

ذلك عظيم فإنه يمكن أن يؤدي الإنسان بكتابة الماضين والموجودين والحادثين كما يؤدي بلسان ذلك. وهذا الذي قاله - رضي الله عنه - أخذه من قولهم المشهور: القلم أحد اللسانين، بل ربما يترتب على الكتابة من الضرورة والنكاية عظيم ما يترتب على النطق باللسان، كما يقع ذلك من شهود الزور، ومن دواوين الملوك، ومن الموقعين عند القضاء، أما الشهود فهم قوم غالب المعاش وحقوق الناس متعلقة بكتابتهم، فإذا كتب الشاهد على شخص مسطور بمبلغ من الدراهم مثلاً لشخص آخر، والحال أنه ليس عليه من ذلك الحق شيء، بل زود عليه كثير من الفساق الذي يبيع دينه بدنيا غيره فقد ضره وآذاه بشهادته، وكتابته الزور ضرراً أعظم من ضرر النطق باللسان فكيف مثل هذا الشاهد المزور القيامة بين يدي الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، وقد نص العلماء على أن قول الزور من الكبائر والكتابة قائمة مقام ذلك قال الله تعالى: ?وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ? [الفرقان: 72] ، وجاء في حديث: «لا تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار» (¬1) قال العلماء: شاهد الزور ارتكب ذنوباً: أحدها: الكذب والافتراء على من شهد عليه والله تعالى يقول في كتابه ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ? [غافر: 28] . وثانيها: أنه ظلم الذي يشهد عليه حتى أخذ بشهادته ماله وعرض روحه للهلاك. وثالثها: أنه ظلم الذي شهد له، بأن ساق له المال الحرام فأخذه ووجبت له النار قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قضي له من مال أخيه بغير حق فلا يأخذه، فإنما اقتطع قطعة من النار» . ورابعها: أنه أباح ما حرم الله ومعصيته من المال والدم والعرض وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» (¬2) متفق عليه. وقد ذم الشهود جماعة من الصالحين ونظموا فيها أبياتاً: قال سفيان الثوري: الناس ¬

(¬1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (10/39، رقم 5672) ، والطبراني في المعجم الأوسط (8/191، رقم 8367) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/264) عن ابن عمر. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/336) : في إسناده محمد بن الفرات وهو كذاب. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/939، رقم 2511) ، ومسلم في صحيحه (1/91، رقم 87) عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.

كلهم عدول إلا العدول. وقال عبد الله بن المبارك: الشهود هم السفلة. وقال بعض الفضلاء فيهم: قوم إذا غضبوا كانت رماحهم ... بث الشهادة بين الناس بالزور هم السلاطين إلا أن حكمهم ... على السجلات والأملاك والدور وقال آخر: إياك أحقاد الشهود فإنما ... أحكامهم تجري على الحكام أقوم إذا خافوا عداوة فادر ... سفكوا الدماء بأسنة الأقلام وقال آخر: احذروا نية الشهود ... الأخسرين الأرذلينا قوم لئام يسرقون ... ويحلفون ويكذبونا وقال الشيخ زين الدين بن الوردي: شهود ولكن آبين عن الهدى ... عدول عن الحق المبين عدول وقال ابن السبكي: ومن سلك من الشهود أمر به، واجتنب ما نهى عنه، فهو محمول مأجور غير أنه غلب على أكثرهم التسارع إلى تحمل الشهادة من غير تأمل وتحرير لما يشهد به، وذلك مذموم. وأما أخذ الشاهد من الأجر على الشهادة عند القاضي فهو حرام، وإنما يستحق الأجرة على تحمل الشهادة، وكتابة السطور، وأما قسمته ما يتحصل للشهود في الحانوت، فهي غير جائزة لأنها شركة أبدان، وأما دواوين الملوك ودواوين نوابهم فمن حقهم الواجب عليهم إذا وقف أحد إلى الملك في واقعة ان يتلطفوا ويواصلوا تلك الواقعة إلى ذهن الملك، ويكرروها عليه ليفهمها، وإلا فمتى ظلم الملك واحداً في واقعة لعدم فهمه، ككثير من هؤلاء الأتراك وكان كاتب السر والموقع هو الذي قرأ عليه القصة في تلك الواقعة، كان شريكاً له في ذلك الظلم، ومن حقهم أيضاً أن يحترزوا عن الكتابة في قطع الأرزاق، فإن يقطع أحد رزق أحد بلسانه وقلمه ما أفلح قط، خصوصاً في أرزاق أهل العلم الشريف، وما أحسن ما نقشه بعض الدواوين على دواته حيث قال: حلفت من يكتب بي ... بالواحد الفرد الصمد

أن لا يمد مده ... في قطع رزق لأحد وللشيخ تاج الدين السبكي بيتان قريبان من هذين البيتين نقشهما بعض الأمراء على دواته فقال: حلفت من يكتب بي ... بالله رب العالم أن لا يمد مد ... تؤلم قلب عالم وأيضاً يقال: إنما قدم - صلى الله عليه وسلم - اللسان على اليد لأن نكايته أعظم وأشد تأثيراً في القلب من نكاية اليد، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «أهج المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبل» (¬1) وقال الشاعر: جراحات السنان لها التأم ... ولا يلتأم ما جرى اللسان وقد ورد في شؤم اللسان، وفي فضل كفه، وفي الأمر بإمساكه، وفي النهي عن التكلم به بما لا يفيد أحاديث وآثار عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين روينا في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها –أي: ما يتفكر في أنها خير أم لا-، يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» (¬2) . وروينا في هذا الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً، رفع الله بها درجات» أي: يرفع الله بها درجاته أو يرفعه الله بها درجات «وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم» (¬3) . وروينا في كتاب الترمذي والنسائي وابن ماجة عن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به قال: «قل ربي الله ثم استقم» قلت: يا ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/38، رقم 3582) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/238، رقم 20895) عن عائشة بطرف: «اهجوا قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق النبل» . (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2377، رقم 6112) ، ومسلم في صحيحه (4/2290، رقم 2988) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2377، رقم 6113) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضاً: البيهقي في السنن الكبرى (8/164، رقم 16442) ، وفي شعب الإيمان (4/246، رقم 4955) .

رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: «هذا» (¬1) . قال الترمذي حديث حسن صحيح. وروينا في كتاب الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» (¬2) . وروينا أيضاً عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك وليسعك بينك، وأبك على خطيئتك» (¬3) قال الترمذي: حديث حسن. روينا فيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان أي: تخضع له فتقول اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإذا اعوججت اعوججنا» (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/607، رقم 2410) وقال: هذا حديث حسن صحيح وقد روى من غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي، والنسائي في السنن الكبرى (6/458، رقم 11489) ، وابن ماجه (2/1314، رقم 3972) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/413، رقم 15454) ، والحاكم في المستدرك (4/349، رقم 7874) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه (3/221، رقم 942) ، والطيالسي في مسنده (ص 171، رقم 1231) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/222، رقم 1584) ، والطبراني في المعجم الكبير (7/69، رقم 6396) . (¬2) أخرجه الترمذي في سننه (4/605، رقم 2406) وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (4/148، رقم 17372) ، والروياني في مسند (1/146، رقم 157) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/239، رقم 4930) جميعاً عن عقبة بن نافع. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه (4/607، رقم 2411) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب. (¬4) أخرجه الترمذي في سننه (4/605، رقم 2407) عن شيخه محمد بن موسى، ثم ساق اسناداً عقبه فقال حدثنا هناد، حدثنا أبو أسامة عن حماد بن زيد نحوه، ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث محمد بن موسى، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن زيد، وقد رواه غير واحد عن حماد بن زيد ولم يرفعوه حدثنا صالح بن عبد الله حدثنا حماد بن زيد عن أبي الصهباء عن سعيد بن جبير عن أبي سعيد الخدري قال أحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر نحوه. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/95، رقم 11927) ، وأبو يعلى في مسنده (2/403، رقم 1185) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 302، رقم 979) ، الطيالسي في مسنده (ص 293، رقم 2209) .

قال الغزالي: معناه والله أعلم أن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخزلان والله اعلم. هذا المعنى ما حكي عن مالك بن دينار أنه قال: إذا رأيت قساوة في قلبك، ووهنا في بدنك، وحرمانا في رزقك، فاعلم أنك قد تكلمت بما لا يعنيك. وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجة عن أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كل كلام ابن آدم عليه إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله تعالى. وروينا في هذا الصحيح عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» (¬1) . وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من وقاه الله شر ما بين لحيية وشر ما بين رجليه دخل الجنة» (¬2) قال الترمذي حديث حسن. وروينا في كتاب الترمذي عن معاذ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: «لقد سئلت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟» قالت: بلى قال: «الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ثم تلى ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ ... ? حتى بلغ ?يَعْمَلُونَ? [السجدة: 16، 17] ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟» قلت: بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه قال: «كف عليك هذا» فقلت: يا نبي الله وإنا المؤاخذون بما ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2376، رقم 6109) ، والترمذي في سننه (4/606، رقم 2408) ، وأحمد في مسنده (5/333، رقم 22874) ، وأبو يعلى في مسنده (13/548، رقم 7555) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/235، رقم 913) عن سهلا بن سعد. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه (4/606، رقم 2409) عن أبي هريرة، قال الترمذي: أبو حازم الذي روى عن أبي هريرة اسمه سلمان مولى عزة الأشجعية، وهو كوفي وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعيد هو أبو حازم الزاهد مدني، واسمه سلمة بن دينار وهذا حديث حسن غريب.

نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (¬1) . قال الترمذي: حديث حسن. وحصائد الألسن ما حصلة الإنسان واكتسبه من الإثم بالكلام فيما لا ينفع، وهذا الكلام استفهام إنكاري تقديره: ما يكب الناس إلا حصائد ألسنتهم. فإن قيل: هذا الحديث يقتضي أن كل من يكب في النار فسبب كبه فيها اللسان مع أن بعض الناس يكب في النار بعمله لا بلسانه؟ فالجواب: أنه عام قيد خاص. فائدة: قال ابن القيم في كتابه أقسام القرآن: فإن قيل: ما الحكمة في جعل الله سبحانه وتعالى اللسان عضواً لحمياً لا عظم فيه ولا عصب؟ ثم أجاب بإذن الله خلقه كذلك لتسهل حركته، ولهذا لا تجد في الأعضاء من لا يكترث بكثرة الحركة سواه، فأي عضو من الأعضاء حركته كما يحرك اللسان لم يطاوعك كما يطاوعك اللسان، بل لابد أن يحصل التعب والملل إلا اللسان فلو كان عظماً لم ينتهي منه الكلام التام ولا الذوق التام. ثم قال فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى جعل على اللسان علقين أحدهما الأسنان والثاني الشفتان، وجعل على العين غطاء واحد ولم يجعل على الأذن غطاء، ثم أجاب بأنه سبحانه وتعالى جعل ذلك إشارة إلى أن آفة الكلام أكثر من آفة النظر وآفة النظر أكثر من آفة السمع، فجعل الأكثر آفات طبقتين لخطره وشرفه، وخطر حركاته، وكونه في الفم بمنزلة القلب في الصدر وجعل، للمتوسط طبقة واحدة، وجعل الأقل آفة بلا طبقة فتبنه لهذه اللطيفة الإلهية والحكمة الربانية. وقال ابن جماعة في شرح الأربعين فإن قيل: لم تعددت العين والأذن والأنف والخد دون اللسان. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (5/11، رقم 2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/428، رقم 11394) ، وابن ماجه (2/1314، رقم 3973) ، وأحمد في مسنده (5/231، رقم 22069) ، والحاكم في المستدرك (2/447، رقم 3548) ، والطيالسي في مسنده (ص 76، رقم 560) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 68، رقم 12) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/73، رقم 137) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/38، رقم 2806) ، وهناد في الزهد (2/529، رقم 1090) ، والديلمي في الفردوس (4/341، رقم 6986) .

ثم أجاب: بأن الله صنع ذلك إشارة إلى مطلوبية قلة الكلام. قال العلماء: في الحديث دلالة على التحذير من أذى اللسان ومن آفاته، وآفاته كثيرة لا تنحصر، وأكثر معاصي ابن آدم فيه من أقبحها وأضرها للناس وأفحشها الغيبة. والغيبة: أن يذكر الإنسان غيره بما يكرهه وإن كان فيه، حتى أن قلت عن طويل: فلان طويل أو عن قصير: فلان قصير، وكان يكره ذلك فإنه حرام ويعد غيبة، وهي حرام سواء بلقبك أو لسانك أو خطك أو إشارتك بعين ورأس أو نحوها، وسواء كان في ماله أو ولده أو زوجته أو نحو ذلك. والذي يدل على إنها محرمة الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال الله تعالى ?وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ? [الحجرات: 12] . ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً? [الإسراء: 36] . واختلف العلماء رضي الله عنهم فيها: هل هي من الكبائر أو من الصغائر فقال صاحب «العدة» وأقره الرافعي: أنها من صغائر الذنوب لعموم البلوى. وقال القرطبي في تفسير القرآن: إنها من الكبائر بلا خلاف، قال الزركشي: وقد ظفرت بنص الإمام الشافعي على إنها من الكبائر فالقول: بأنها صغيرة ضعيف أو باطل. لكن قال القاضي زكريا: يمكن حمل نص الشافعي على ما إذا أصر على الغيبة، فإنها تصير من الكبائر بلا خلاف، وكذا لو اغتاب عدلاً. قال الشيخ ولي الله تقي الدين الحصيني: وقد يحتقر الشخص بالكلمة الواحدة من الغيبة، لكثرة إدمانه عليها، وتعود لسانه بها ومخالطته من الاعتناء له بحفظ أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما المتفقهة والصوفية، فإن غيبتهم غالباً تكون في المساجد، والربط المبنية لذكر الله تعالى وعبادته، فيرتكبون مخالفة أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أطهر البقاع مع علمهم بأن الكلمة الواحدة من الغيبة عظيم أمرها، فقد صح في الحديث أن عائشة رضي الله عنها اغتابت ضرتها صفية وقالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية إنها كذا أي: يكفيك منها إنها امرأة قصيرة فقال - صلى الله عليه وسلم -: «قلت كلمة لو مزجت

بماء البحر لمزجته» (¬1) أي: خالطتة مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها. رواه الترمذي وحسنه وصححه. فهذا حديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة إذا كان هذا شأن كلمة هي في المقول فيها، فإن عائشة قالت عنها: إنها قصيرة وكانت قصيرة، فكيف حال من يتكلم في غيره بكلمة مفتراه فيه، إنا لله وإنا إليه راجعون من كلمة توقع الإنسان في الهلاك. وجاء في حديث عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا أخي يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (¬2) رواه أبو داود. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله» (¬3) رواه مسلم. قال العلماء: وسامع الغيبة شريك المغتاب فكما تحرم الغيبة يحرم استماعها، ويجب إنكارها إن لم يخف ضرراً وإن خاف ضررا فارق ذلك المجلس، فإن لم يقدر على المفارقة بذكر أو غيره لا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع، فيجب على كل من سمع غيبة أخيه أن يرى باباً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من فعل ذلك فقد فار فوزاً عظيما، فقدر ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة» (¬4) رواه الترمذي وقال حديث حسن. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4/269، رقم 4875) ، والترمذي في سننه (4/660، رقم 2502) ، وأحمد في مسنده (6/189، رقم 25601) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/301، رقم 6721) عن عائشة. (¬2) أخرجه أبو داود فس سننه (4/269، رقم 4878) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/224، رقم 13364) ، والطبراني في المعجم الأوسط (1/7، رقم 8) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/299، رقم 6716) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/430، رقم 5319) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (6/265، رقم 2286) . (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1986، رقم 2564) ، والترمذي في سننه (4/325، رقم 1927) ، وابن ماجه في سننه (2/1298، رقم 3933) ، وأحمد في مسنده (2/277، رقم 7713) ، والبيهقي في السنن الكبرى (6/92، رقم 11276) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه الترمذي في سننه (4/327، رقم 1931) عن أبي الدرداء وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (6/449، رقم 27576) ، والحارث في مسند (2/836، رقم 881) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/110، رقم 7634) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/258) .

وإن لم يرد غيبة أخيه، أو كان من عادته عدم اعتنائه بالدين وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا وأمثاله قد وقعوا في شر عظيم، يوجب غضب الله تعالى وغضب رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر العلماء: أن الغيبة تباح بل تجب في صور منها الفاسق المجاهر بالفسق، والمبتدع المجاهر ببدعة كشارب الخمر المجاهر به، فيجوز غيبة تلك العصبة دون غيرها إلا كان لجواز ذكره بغيرها سبب آخر. قال في الإحياء: إلا أن يكون المجاهر بها عالما يقتدى به فتمتنع غيبته لأن الناس إذا اطلعوا على زلته تٍساهلوا في ارتكاب الذنب، وغيبة الكافر محرمة أيضاً إن كان ذمياً لأن فيها تنفير لهم عن قبول الجزية وتركاً لوفاء الذمة، ومباحة إن كان حربياً لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر حسان أن يهجوا المشركين. ومنها: أن الإنسان إذا استشار في امرأة يريد أن يتزوجها أو امرأة في رجل تريد أن تتزوجه فيجب عليه ما ذكر فيها أو فيه من الغيبة، وليس ذكر هذا من باب الغيبة، بل من باب النصيحة، فيشترط للرجل إذا استشير في ذلك أن يذكر للخاطب أو للمخطوبة ما فيها أو فيه، على وجه النصيحة لا الوقيعة، فإن الدفع يمجرد قوله لا نفعل هذا أو لا تصلح لك فلانه، أو قال لها: لا يصلح لك فلان، أو خير لك فيه أو نحوه، ولم تجز الزيادة بذكر باقي عيوبه، وإذا استشير في أمر نفسه بالنكاح فإن كان فيه ما ثبت الخيار فيه وجب ذكره للزوجة، وإن كان فيه ما يعدل الرغبة عنه ولا يثبت الخيار كسوء الخلق والشح استحب، وإن كان فيه شيء من المعاصي وجب عليه التوبة في الحال وستر نفسه. وتجوز الغيبة في صور أخرى غير ما ذكر، وقال حجة الإسلام الغزالي: من لم يصن لسانه وأكثر الكلام يقع لا محال في غيبة الناس كما قيل: من كثر لغطه كثر سقطه. والغيبة هي الصاعقة المهلكة للطاعة على ما قيل: إن مثل من يغتاب الناس مثل من نصب منجنيقاً لحسنات فهو يرمي بها شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً. وبلغنا عن الحسن - رضي الله عنه - أنه قيل: له يا أبا سعيد إن فلاناً اغتابك فبعث إليه بطبق فيه رطب، وقال: بلغني أنك اهديت إليَّ حسناتك فأحببنا أن نكافئك. وذكروا: فات بعض الصالحين قيام الليل فعزته زوجته فقال: إن أقواماً صلوا الليل البارحة، فلما أصبحوا نالوا مني فتكون صلاتهم يوم القيامة في ميزاني. قال سفيان الثوري: لا تتكلم بلسانك ما تكسر به أسنانك.

وقال آخر: لا تبسط لسانك فيفسد عليك شأنك. وقال ابن المبارك: احفظ لسانك إن اللسان سريع إلى المرء في قتله، وإن اللسان دليل الفؤاد يدل الرجال على عقله. وقال آخر: لسان المرء ليث في كمين ... إذا خلى عليه له إغارة فصنه عن الخنا بلجام صمت ... يكن لك من بليته ستارة وقال آخر: احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدعنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه ... قد كانت تهاب لقاءه الشجعان لطيفة: ذكر ابن الجوزي أبو نعيم عن الشعبي أنه قال: مرض الأسد فعادته السباع خلا الثعلب، فنم عليه الذئب وقال له: إن جميع السباع عادوك إلا الثعلب فقال: إذا حضر فأعلمني، فلما حضر عليه فعاتبه في ذلك فقال: كنت في طلب الدواء لك، قال: أي شيء أصبت؟ فقال: خرزة في ساق الذئب ينبغي أن تخرج فضرب الأسد مخالبه في ساق الذئب فمر به الذئب بعد ذلك ودمه يسيل فقال له الثعلب: يا صاحب الخف الأحمر إذا قعدت عند الملوك فانظر إلى ما يخرج من رأسك. قال أبو نعيم: يقصد الشعبي من هذا سوي ضرب المثل تعليم للعقلاء وتنبيه الناس وتأكيد الوصية في حفظ اللسان في تهذيب الأخلاق والأدب بكل طريق، وفي ذلك قيل: احفظ لسانك لا تقل فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: أنت أيها المتكلم لا يخلوا إما أن تتكلم بكلام حرام كالغيبة، أو مباح من فضول الكلام الذي لا يعنيك، فإن تكلمت بكلام حرام كأن وقعت بين المسلمين ففيه عذاب الله تعالى الذي لا طاقة لك به، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلة أسري بي نظرت في النار قوماً يأكلون الجيف، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده (1/257، رقم 2324) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/550، رقم 544) عن ابن عباس - رضي الله عنه -. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/92) : رواه أحمد وفيه قابوس وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «اقطع لسانك عن حملة القرآن وطلاب العلم، لا تمزق الناس بلسانك فتمزقك كلاب النار» (¬1) . روى أبو قلابة - رضي الله عنه -: إن في الغيبة خراب القلب من الهدى، فنسأل الله العصمة بفضله وكرمه قال. وإن تكلمت بكلام غير مباح ففيه أربعة صور: أحدها: شغل الكرام الكاتبين بما لا خير فيه ولا فائدة، وحق للمرء أن يستحي منهما فلا يؤذيهما قال تعالى ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ? [ق: 8] . والثاني: إرسالهم كتاب إلى الله - عز وجل - من اللغو والهذر، فليحذر العبد من ذلك، وليخش الله - عز وجل -. وذكر أن بعضهم نظر إلى رجل تكلم بالخنا فقال: يا هذا إنما تملي كتاباً إلى ربك سبحانه فانظر ماذا تملي. الثالث: قراءته بين يدي الملك الجبار جل جلاله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بين الشدائد والأهوال، وأنت جوعان عطشان عريان منقطعاً عن الجنة محبوساً عن النعمة. والرابع: اللوم والتعيير بقول الله: يا عبدي لما قلت كذا وكذا فتقطع حجته، ويحصل له الحياء من رب العزة جل جلاله، ولهذا قيل: إياك والفضول فإن حسابه يطول. وقال الإمام الشافعي لصاحبه الربيع: يا ربيع لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا ¬

(¬1) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (1/38، رقم 59) ضمن حديث طويل روي عن معاذ - رضي الله عنه - فيه أن رجلاً قال حدثني حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت، ثم سكت ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي: «يا معاذ» قلت له: لبيك بأبي أنت وأمي قال: «إني محدثك حديثاً إن أنت حفظته نفعك، وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة، يا معاذ إن الله خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلق السماوات فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بواباً عليها ... الحديث» . قال المنذري: رواه ابن المبارك في كتاب الزهد عن رجل لم يسمه عن معاذ، ورواه ابن حبان في غير الصحيح والحاكم وغيرهما، وروي عن علي وغيره وبالجملة فآثار الوضع ظاهرة عليه في جميع طرقه وبجميع ألفاظه.

تكلمت بالكلمة ملكتك ولا تملكنا. فقال: بعضهم اللسان كالسبع إن لم توثقه أكلك. وقال الغزالي في الإحياء: كان أبو بكر - رضي الله عنه - يضع في فمه حجراً ليمنع نفسه من الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وقال ابن مسعود: والذي لا إله إلا الله هو ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان. وقال لقمان: قال لي سيدي: اذبح هذه الشاة وائتنا بأطيب ما فيها، فجاء بالقلب واللسان، وقال له مرة أخرى إذبح شاة وائتنا بأخبث لحمها، فأتى بالقلب واللسان، فقيل له في ذلك فقال: ليس في الجسد مضغتان أطيب منها إذا طابا، ولا أخبث إذا خبثا. ونقل عن إمامنا الشافعي أنه قال: المؤمن إذا أراد أن ينور الله قلبه فليترك الكلام فيما لا يعنيه. وقال أيضاً: ثلاثة تزيد في العقل مجالسة العلماء أو مجالسة الصالحين، وترك الكلام فيما لا يعنيه. وقال معروف الكرخي: الكلام فيما لا يعنيك خذلان من الله. وقال وهب بن منبه: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت، واحدة في الهرب من الناس. ولقد أحسن من قال: وكم ساكن طال المنى بسكوت ... وكم ناطق يجني عليه لسان قال سليمان - عليه السلام -: إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب. فائدة: روى قس بن ساعده وأكتم بن صيفي اجتمعنا فقال أحدهما لصاحبه: وجد في ابن آدم من عيب فقال: عيوب ابن آدم أكثر من أن تحصى، الذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجد خصلة إن استعملها ستر العيوب، كأنه قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: يا لسان قل خيراً تغنم أو أسكت تسلم من قبل أن تندم. قيل: يا أبا عبد الرحمن هذا شيء تقوله من عندك أو شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

قال: بل سمعته يقول: «إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه» (¬1) . لطيفة: قال رجل لنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله لا أزيد على الصلوات الخمس ورمضان، وليس لي مال أتصدق به ولا أحج، أين أنا إن مت؟ قال: «في الجنة» ، قال: معك تبسم وقال «نعم إن حفظت قلبك من الحسد، ولسانك من الكذب، وعينيك من النظر إلى محارم الله، وأن لا تزدري بها مسلماً، دخلت الجنة معي على راحتي هاتين» (¬2) وينبغي للإنسان الحلم والصفح عن عثرات الإخوان، فإذا بلغه عن أحد أنه تكلم في حقه بكلام فاحش أن يعفو عنه، ولا يقابله بإسأته، بل يسكت أو يقابله بحسن الخلق، ولين الكلام ?وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ? [آل عمران: 134] . وورد في الحديث: «والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فاعفو يعزكم الله» (¬3) . وجاء في حديث آخر عن ابن عباس أنه قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أؤنبئكم بأشراركم» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «إن أشراركم الذي ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «من يبغض الناس ويبغضونه أفلا أنبئكم بشر من ذلك» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «الذين لا يقيلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، أفلا أنبئكم بشر من ذلك» قالوا: بلى يا رسول الله قال: ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/197، رقم 10446) ، والشاشي في مسنده (2/82، رقم 602) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/107) ، وابن المبارك في الزهد (ص 128، رقم 378) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/240، رقم 4933) ، والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/458) جميعاً عن عبد الله - رضي الله عنه -. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/300) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬2) لم نقف عليه. (¬3) رواه ابن عدي في الكامل (2/34، ترجمة 470 الحسن بن عبد الرحمن بن عباد بن الهيثم) المعروف بالاحتياطي وضعفه ابن عدي وقال في آخر ترجمته: لا يشبه حديثه حديث أهل الصدق. والحديث أورده أبو الفرج ابن الجوزي في صفوة الصفوة (1/214) ضمن أحاديث ساقها في جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -. وأفاد العجلوني في كشف الخفاء (1/384، رقم 1028) أنه جزء من حديث: «التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله» وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذم الغضب فقال: عن محمد بن كثير العبدي بزيادة: «والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم» .

«من لا يرجى خيره ولا يؤمن من شره» (¬1) . وجاء في حديث آخر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا بعث الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد من العرش ثلاثة أصوات يا معشر الموحدين لله قد عفا الله عنكم فليعف بعضكم عن بعض» (¬2) . وحكي عن علي - رضي الله عنه - كان له غلام فدعاه فلم يجبه فدعاه ثانياً فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعاً قال: ما حملك على ترك جوابي؟ قال: آمنت من عقوبتك فقال: أنت حر لوجه الله. ونقل عن زين العابدين من ذرية الحسين بن علي أن رجلاً اغتابه فقال له: إن كنت صادقاً في قولك فغفر لله لي، وإن كنت كذاباً في قولك فغفر الله لك. وخرج يوماً إلى الجامع فسبه رجل، فأقبل عليه فقال: ما خفي عليك من أمرنا أكثر ثم قال له: ألك حاجة فاستحى الرجل فدفع إليه زين العابدين ألف درهم وألقى عليه ثوبه فذهب الرجل وهو يقول: إنني أشهد أنك ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ونقل بعضهم: أن الله أوحى إلى موسى - عليه السلام - أتحب أن يدعو لك كل شيء طلعت عليه الشمس والقمر؟ قال: نعم، قال: اصبر على خلقي كما صبرت على من كفر ويعبد غيري. وقال بعضهم: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله أخالط الناس أم أعتزلهم؟ فقال: خالط الناس واحتمل أذاهم. ونقل عن عمر بن الخطاب أو غيره أنه قال: رأيت رب العزة في المنام فقال: يا ابن الخطاب تمنى عليّ، فسكت فقال في الثانية: يا ابن الخطاب أعرض عليك ملكي وملكوتي وأقول لك تمنى عليَّ وأنت إلى ذلك تسكت؟ فقلت: يا رب شرفت الأنبياء بكتب أنزلتها عليهم فشرفني بكلام منك بلا واسطة فقال: يا ابن الخطاب من أحسن إلى من أساء إليه فقد أخلص لله شكراً، ومن أساء إلى من أحسن إليه فقد بدل نعمة الله كقراً. ويُرجى من كرم الله وفضله أن يكفر ما وقع من اللسان من الآفات، بما يقع منه ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/318، رقم 10775) ، وأحمد في كتاب الزهد (ص 295) عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/183) : رواه الطبراني وفيه عنبس بن ميمون وهو متروك. (¬2) لم نقف عليه.

من الفوائد. فتكفر الغيبة ونحوها بذكر الله والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقراءة القرآن وغيرها من فوائد اللسان، فإن كرم الله واسع وحلمه عظيم. فائدة: ينبغي لمن هو فاحش اللسان أن يلازم الاستغفار فقد ورد في الحديث: شكى رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذرب اللسان فقال: «أين أنت من الاستغفار، إني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة» (¬1) . لطيفة: حكي عن الشبلي رحمه الله تعالى قال: مات رجل من جيراني، فرأيته في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: يا شبلي مرت بي أهوال عظيمة، وذلك أني ارتج عليَّ عند السؤال فقلت في نفسي من أين أوتي عليَّ، ألم أمت على الإسلام، فنوديت هذه عقوبة إهمالك للسانك في الدنيا، فلما أتاني الملكان حال بيني وبينهما رجل جميل الوجه طبيب الرائحة، فذكرني حجتي فذكرتها فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا شخص خلقت لكثرة صلاتك على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرت أن أنصرك في كل كرب. ذكره ابن بشكوال. فتأمل رحمك الله تعالى بركة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفعها في وقت الحاجة والشدة. ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى علي َّفي اليوم مائة مرة قضى الله له مائة حاجة، سبعين من حوائج الآخرة، وثلاثين من حوائج الدنيا» (¬2) أخرجه ابن منده. ولقد أحسن من قال: يا من أتى ذنباً وقارف زلة ... ومن يرتجي الرحماء من الله والقربى تعاهد صلاة الله في كل ساعة ... على خير مبعوث وأكرم من نبا فتكفيك هماً أي هم تخافه ... وتكفيك ذنباً جئت أعظم به ذنباً ومن لم يكن يفعل فإن دعائه ... يجد قبل أن يرقى إلى ربه حجبا ¬

(¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/117، رقم 10282) ، وأحمد في مسنده (5/396، رقم 23410) ، والحاكم في المستدرك (1/691، رقم 1882) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في شعب الإيمان (1/439، رقم 643) عن حذيفة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البيهقي في شعب الإيمان (3/111، رقم 3035) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

عليك صلاة الله ما لاح بارق ... وما طاف بالبيت الحجيج وما لبى لطيفة أخرى: يروى أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخلت على مريض من الأنصار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في سكرات الموت فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تب» فلم يقدر، فحال بطرفه نحو السماء، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - فسئل عن ذلك فقال: «لما لم يعمل بلسانه أومئ بقلبه نحو السماء وندم قال الله تعالى: يا ملائكتي عبدي عجز عن التوبة بلسانه فندم بقلبه، أشهدكم أني قد غفرت له ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر» (¬1) . في قوله - صلى الله عليه وسلم - «من سلم المسلمون» من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق كما في «أسلم تسلم» (¬2) ، وأما الجملة الثانية أعني قوله - صلى الله عليه وسلم - «والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه» فقد اختلف معناها فقيل: معناها أن مكة لما فتحت وانقطعت الهجرة وفواتها على من يدركها من الصحابة، فطيب قلوبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمهم بأن حقيقة الهجرة تحصل بهجر ما نهى الله عنه. وقيل في معناها: أن هذه الهجرة على ضربين ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن. وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلموا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع، فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أن المهاجر الكامل من هجر وترك ما نهي الله عنه، مع مفارقته الوطن، وليس المهاجر الكامل من فارق وطن فقط. قال ابن الملقن: اشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام وفي الحديث: الحث على ترك أذى المسلمين، بكل ما يؤذي، ليكون الإنسان بذلك حسن التخلق مع العالم، ومعدوداً من الأبرار، وقد فسر الأبرار بأنهم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون بالشر. ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/124) : قوله: «والمهاجر» هو بمعنى الهاجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل من اثنين، لكنه هنا للواحد كالمسافر، ويحتمل أن يكون على بابه لأن من لازم كونه هاجراً وطنه مثلاً أنه مهجور من وطنه، وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان. والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن. وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييباً لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام.

المجلس التاسع عشر

المجلس التاسع عشر في الكلام على حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يجب لأخيه ما يجب لنفسه» وفيه شيء من ترجمة أنس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ البُخَارِي: باب مِنَ الإِيمَانِ (¬1) أَنْ يُحِبَّ لأخيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُؤْمِنُ أحدكم حَتَّى يُحِبَّ لأخيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . قوله: «باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه» فاعل يحب مضمر في الفعلين تقديره المكلف أو المؤمن أو الرجل. «حدثنا مسدد» هذا هو مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن أرندل بن سرندل بن عرندل بن ماسك بن مستورد الأسدي البصري، الحافظ الثقة، وكان أبو نعيم يقول عند سماع نسبه هذا: رقية للعقرب، وقيل: لو كان في هذه النسبة بسم الله الرحمن الرحيم كانت رقية عقرب، ويقارب هذا النسب في الغرابة: حجدب بن جرعب أبو أصعب الكوفي. «حدثنا يحيى» هذا هو الإمام الحافظ يحيى بن سعيد القطان التميمي البصري، والإجماع قائم على جلالته وإمامته وعظم علمه وإتقانه وبراعته، أقام عشرين يختم القرآن في كل يوم وليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، ورأى في المنام وعلى قميصه مكتوب بين كتفيه: بسم الله الرحمن الرحيم براءة ليحيى بن سعيد من النار، وبشر قبل موته وله عشرين سنة بأمان من الله من النار يوم القيامة، ولد سنة عشرين ومائة، ومات سنة عشرين ومائتين. قال إسحاق بن إبراهيم الشهيدي: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/129) : قوله: «من الإيمان» قال الكرماني قدم لفظ الإيمان بخلاف أخوته من حيث قال: «إطعام الطعام من الإيمان» إما للاهتمام بذكره أو للحصر، كأنه قال: المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان. قلت -أي ابن حجر-: وهو توجيه حسن إلا أنه يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معاً وهو قوله: «باب حب الرسول من الإيمان» فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقدمه، والله أعلم.

إلى أصل منارة مسجده فيقف بين يدية: على بن المديني وسليمان بن داود وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، يسألون عن الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب لا يقول لواحد: اجلس ولا يجلسون هيبة وإعظاماً. «عن شعبه عن قتادة عن أنس» هذا هو السيد الجليل أنس بن مالك الأنصاري البخاري البصري، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خدام كثيرون كربيعه بن كعب صاحب وضوءه، وابن مسعود حامل نعليه، وعقبة بن عامر يقود بغلته، وأيمن بن أم أيمن صاحب مطهرته وغيرهم، ولكن أنس كان ألزمهم لرسول لله - صلى الله عليه وسلم - كما قال العراقي، فأنس ألزمهم لخدمته - صلى الله عليه وسلم -، وأمه هي: أم سليم بنت ملحان. ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجراً لم يبق أحد بالمدينة إلا وأهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية قال: وكانت والدتي امرأة أرملة فقيرة، وكان عمري سبع سنين فأخذتني أمي وذهبت بي إلى باب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونادت السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا صفوة أنارت الظلمات وانكشف بك الغمام، لم يبق أحد بالمدينة إلا وأهدى إليك هدية، وأنا امرأة ضعيفة ما لي شيء أحب ولا أعز علي من ولدي وقد أهديته لك يا رسول الله، بالذي بعثك بالحق نبياً اقبل هديتي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد قبلناها، وما وقع هدية أقرب إلى قلبي وأحب إليَّ من هديتك يا أمة الله» فقربني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي قط لشيء صنعته لم صنعته ولا شيء تركته لم تركته، بل كان يقول: «لو قضى الله بشيء لكان» (¬1) رواه الترمذي وغيره. ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطول العمر وكثرة الأموال والأولاد والمغفرة، فقد روى عنه أنه قال: جاءت بي أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت يا رسول خادمك أنس أدع الله له، فوضع يده المباركة على رأسي وقال: «بارك الله لك في عمرك ونسلك ومالك وغفر لك» فاستجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيما دعا له. أما في طول عمره فإنه عاش كما قيل: مائة سنة وزيادة، ونقل عن أنه قال: ولقد بقيت حتى سئمت الحياة. وأما في النسل فقد رزقه الله تعالى مائة ولد قال - رضي الله عنه -: إن ولدي وولد ولدي ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/368، رقم 2015) وقال: وفي الباب عن عائشة والبراء وهذا حديث حسن صحيح. والحديث عند مسلم في الصحيح (4/1805، رقم 2309) .

ليعادون اليوم عليَّ نحو المائة، ولقد دفنت بيدي هاتين من ولدي مائة غير اثنين، أو قال مائة واثنين. وقال الكرماني عنه: ولقد دفنت من صلبي مائة إلا اثنين. وأما في المال فقد نقل عنه أنه قال: فوالله إن مالي لكثير ما أعلم أحد أصاب من رخاء العيش ما أصبت، وكان له بستان يحمل الثمر كل سنة مرتين، وكان في البستان ريحان يشم منه رائحة المسك. وأما في المغفرة فقد نقل عنه أنه قال: وأنا أرجوا الرابعة أي: المغفرة فإنها لله تعالى ليست بيد العبد. فائدة: قال ابن قتيبة ثلاثة من أهل البصرة لم يمت أحد منهم حتى يرى مائة ولد من صلبه: أنس وأبو بكر وخليفة بن بدر. وكنية أنس: أبو حمزة، وروي له ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفقا على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بإحدى وسبعين، وهو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية، ومناقبه جمة، وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وتسعين زمن الحجاج، ودفن في قصره على نحو فرسخ ونصف من البصرة وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة. «وعن حسين المعلم (¬1) قال حدثنا قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يؤمن (¬2) ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/129) : قوله: «وعن حسين المعلم» هو ابن ذكوان، وهو معطوف على شعبة، فالتقدير عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة، وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما، فأورده المصنف معطوفاً اختصاراً، ولأن شعبة قال: عن قتادة، وقال حسين: حدثنا قتادة. وأغرب بعض المتأخرين فزعم أنه طريق حسين معلقة، وهو غلط، فقد رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق إبراهيم الحربي عن مسدد شيخ المصنف عن يحيى القطان عن حسين المعلم، وأبدى الكرماني كعادته بحسب التجويز العقلي أن يكون تعليقاً أو معطوفاً على قتادة، فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة، إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئاً من علم الإسناد. وأضاف ابن حجر لطيفة في الإسناد فقال: المتن المساق هنا لفظ شعبة، وأما لفظ حسين من رواية مسدد التي ذكرناها فهو: «لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ولجاره» ، وللإسماعيلي من طريق روح عن حسين: «حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير» فبين المراد بالأخوة، وعين جهة الحب. وزاد مسلم في أوله عن أبي خيثمة عن يحيى القطان: «والذي نفسي بيده» ، وأما طريق شعبة فصرح أحمد والنسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس، فانتفت تهمة تدليسه. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/130) : قوله: «لا يؤمن» أي: من يدعي الإيمان، أحد، ولابن عساكر: «عبد» ، وكذا لمسلم عن أبي خيثمة، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم كقولهم: فلان ليس بإنسان. فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا وإن لم يأت ببقية الأركان. أجيب: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله: «لأخيه المسلم» ملاحظة بقية صفات المسلم. وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: «لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان» ومعنى الحقيقة هنا الكمال، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافراً، وبهذا يتم استدلال المصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهي داخلة في التواضع.

من أحدكم حتى يحب (¬1) لأخيه ما يحب لنفسه (¬2) » الحديث محمول على نفي الكمال لا على نفي الصحية، فإن نفي اسم الشيء على معنى الكمال عنه مستفيض من كلامهم، والمعنى لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/130) : قوله: «حتى يحب» بالنصب لأن «حتى» جارة، وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون «حتى» عاطفة فلا يصح المعنى، إذ عدم الإيمان ليس سبباً للمحبة. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/130) : قوله: «ما يحب لنفسه» أي: من الخير كما تقدم عن الإسماعيلي، وكذا هو عند النسائي، وكذا عند ابن منده من رواية همام عن قتادة أيضاً. «والخير» : كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها. «والمحبة» : إرادة ما يعتقده خيراً، قال النووي: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله إما لذاته كالفضل والكمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضرر. والمراد «بالميل» هنا: الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضاً أن يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له، لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له لا مع سلبه عنه ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال. وقال أبو الزناد بن سراج: ظاهر هذا الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل، لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل في جملة المفضولين. قلت: أقر القاضي عياض هذا، وفيه نظر، إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة، لأن المقصود الحث على التواضع، فلا يحب أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والغل والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة. فائدة: قال الكرماني: ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء، والله أعلم.

لأخيه ما يحب لنفسه أي: من الخير كما جاء ذلك في رواية النسائي. و «اللام» في قوله: «لأخيه» تدل أيضاً على أن المراد: الخير والمنفعة، وكذلك قوله «ما يحب لنفسه» يدل عليه أيضاً، إذ الشخص لا يحب لنفسه إلا الخير، والخير كلمة جامعة لجميع أنواع البر والطاعات أو المباحات الدنيوية والأخروية وتخرج المنهيات. وليس المراد بالحديث أنه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب أن يحصل لأخيه عين ما يحصل كما قاله ابن الصلاح، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحملين محال، بل المراد حتى يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له لا لعينه، سواء كان ذلك في الأمور المحسوسة أو المعنوية. قال الكرماني: ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه أي: من الشر ولم يذكره، لأن حب الشيء مستلزم بغض نقيضه، فيدخل تحت ذلك، وإما لأن الشخص لا يبغض خيراً لنفسه فلا يحتاج لذكره، وليس المراد بالأخ في هذا الحديث الأخ في النسب فقط بل المراد كل أخ في الإسلام، رجلاً كان أو امرأة تعميما للحكم، قال الله تعالى ?إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? [الحجرات: 10] شملت الآية كل أخ سواء كان في النسب أو في الله تعالى، أو في الإسلام. ففي الحديث دليل وحث على أنه للإنسان أن يحب لأخيه المؤمن من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فإن فعل ذلك فهو كامل الإيمان، وإن لم يفعله فهو ناقص الإيمان. وقد ورد بذلك أحاديث أخر: روى الطبراني في معجمه عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أوصيك بتقوى الله فإنها رأس أمرك، وعليك بتلاوة القرآن، وذكر الله فإن ذلك لك نور في السماوات ونور في الأرض» قال قلت: زدني يا رسول الله قال: «لا تكثر من الضحك فإنه يميت القلب، ويذهب نور الوجه» قلت: زدني يا رسول الله قال: «عليك بالصمت فإنه مرد للشيطان وعون لك على أمر دينك» قلت: يا رسول الله زدني قال: «انظر إلي من هو دونك ولا تنظر إلى من فوقك، فهو أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك» قلت: يا رسول الله زدني قال: «صل قرابتك ولو قطعوك» قلت: يا رسول الله زدني قال: «لا تخف في الله لومة لائم» قلت: يا رسول الله زدني قال: «تحب للناس ما تحب لنفسك» ثم ضرب بيده على صدري فقال: «يا أبا ذر لا عقل إلا بالتدبير، ولا ورع إلا بكف النفس، ولا حسب إلا

حسن الخلق، وحصل زادك ليوم معادك» (¬1) . وقال في كتاب إيقاظ القارئ والمستمع: وقال لقمان لابنه يا بني إني موصيك بست خصال، ليس منها خصلة إلا تقربك إلى الله تعالى، وتباعدك من سخطه؛ الأولى: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً. الثانية: الرضا بقدر الله تعالى فيما أحببت أو كرهت. الثالثة: أن تحب في الله وتبغض في الله. الرابعة: أن تحب للناس ما تحب لنفسك. الخامسة: كظم الغيظ والإحسان إلى من أساء إليك. السادسة: ترك الورى ومخالفة الهوى. وكما ينبغي للإنسان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ينبغي له إذا رأى أخاه المؤمن صالحاً مواظباً على الطاعات تاركاً للمعاصي والمنكرات أن يحبه في الله، وإذا رآه تاركاً للطاعات، مصراً على المعاصي والمنكرات، أو مرتكباً لشيء من البدع القبيحات أن يبغضه في الله وينبغي له أن يتخذ له أحباباً وإخواناً صالحين صادقين ناصحين مخلصين في المحبة تحبهم ويحبون في الله لا لعلة ولا لغرض دنيوي، فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة، جاءت أخبار في فضل الحب الله والبغض في الله، وفي فضل اتخاذ الأحباب والإخوان في الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الأعمال الحب في الله، والبغص في الله» (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (¬3) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2/157، رقم 1651) عن أبي ذر. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/216) : رواه الطبراني وفيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم وأبو زرعة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4/198، رقم 4599) ، والبزار في مسنده (9/461، رقم 4076) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/405، رقم 394) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/355، رقم 1429) جميعاً عن أبي ذر. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4/220، رقم 4681) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/130، رقم 34730) ، والطبراني في مسند الشاميين (2/239، رقم 1260) ، وفي المعجم الكبير (8/134، رقم 7613) ، وفي المعجم الأوسط (9/41، رقم 9083) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/492، رقم 9021) عن أبي أمامة الباهلي. وأخرجه أحمد في مسنده (3/440، رقم 15676) عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه بنحوه.

ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (¬1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (¬2) رواه مسلم. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» (¬3) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» (¬4) رواه مالك الموطأ بإسناد صحيح. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/14، رقم 16) ، ومسلم في صحيحه (1/66، رقم 43) من حديث أنس. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1988، رقم 2566) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (2/338، رقم 8436) ، وابن حبان في صحيحه (2/334، رقم 574) ، والدارمي في سننه (2/403، رقم 2757) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/232، رقم 20856) . (¬3) أخرجه الترمذي في سننه (4/597، رقم 2390) عن أبي مسلم الخولاني حدثني معاذ بن جبل ... به. قال الترمذي: وفي الباب عن أبي الدرداء وابن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وأبي مالك الأشعري، وقال: هذا حديث حسن صحيح وأبو مسلم الخولاني اسمه عبد الله بن ثوب. وأخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (2/338، رقم 577) ، والحاكم في المستدرك (4/466، رقم 8296) ، والحارث في مسنده (2/991، رقم 1108) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/87، رقم 167) . (¬4) أخرجه مالك في الموطأ (2/953، رقم 1711) عن معاذ بم جبل. وأخرجه أيضاً: أحمد في المسند (5/233، رقم 22083) ، وابن حبان في صحيحه (2/335، رقم 575) ، والحاكم في المستدرك (4/186، رقم 7314) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد جمع أبو إدريس بإسناد صحيح بين معاذ وعباد بن الصامت في هذا المتن. ورواه أيضاً: عبد بن حميد (ص 72، رقم 125) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/80، رقم 150) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/322، رقم 1449) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (3/587) .

ويستحب للإنسان إذا أحب شخصاً في الله أن يعلمه بذلك وأن يقول له: إني أحبك في الله. روينا في سنن الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» (¬1) قال الترمذي حديث حسن صحيح. ويستحب لمن قال له إنسان: إني أحبك في الله، يقول في جوابه: أَحبَك الذي أحببتني فيه. وروينا في سنن أبي داود عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فمر رجل فقال يا رسول الله إني لأحب هذا فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعلمته؟» قال: لا، قال: «أَعلمه» فلحق به فقال: إني أحبك في الله فقال: أَحبك الذي أحببتني له (¬2) . وفي سنن أبي داود والنسائي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: «يا معاذ إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (¬3) . وفي المعارف أن أبا مسلم الخولاني قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنهما: إني أحبك في الله، قال: أبشر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لطائفه من الناس كراسي حول العرش يوم ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه كما في تحفة الأحوذي (7/60) عن المقدام بن معدي كرب. والحديث عند البخاري في الأدب المفرد (ص 191، رقم 542) ، وأبو داود في سننه (4/332، رقم 5124) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/59، رقم 10034) ، وأحمد في مسنده (4/130، رقم 17210) ، والحاكم في المستدرك (4/189، رقم 7322) ، والطبراني في مسند الشاميين (1/282، رقم 491) ، وفي المعجم الكبير (20/279، رقم 661) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/393، رقم 2440) . (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4/333، رقم 5125) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/54، رقم 10010) ، وأحمد في مسنده (3/140، رقم 12453) ، وابن حبان في صحيحه (2/330، رقم 571) ، والطبراني في المعجم الأوسط (3/227، رقم 2994) . (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (2/86، رقم 1522) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/32، رقم 9937) ، وأحمد في مسنده (5/244، رقم 22172) ، وابن خزيمة في صحيحه (1/369، رقم 751) ، وابن حبان في صحيحه (5/364، رقم 2020) ، والحاكم في المستدرك (1/407، رقم 1010) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير (20/60، رقم 110) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/241) جميعاً عن معاذ.

القيامة، وجوهم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «هم المتحابون في الله» (¬1) . وينبغي أن يكثر كل من المتحابين المتواخين في الله الدعاء للآخر بظهر الغيب، وأن يقول أحدهم للآخر لا تنسانا من دعائك، فإن دعاء الإنسان لأخيه بظهر الغيب مستجاب. فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربعة دعوتهم مستجابة: الإمام العادل، والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب، ودعوة المظلوم ورجل يدعو لوالديه» (¬2) . وأخرج الطبراني في الكبير عن أنس عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب» (¬3) . وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب» (¬4) . ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) رواه أبو نعيم في الحلية كما في فيض القدير (1/470) عن واثلة بن الأسقع، ولم نجده بعد طول بحث عن ثوبان. قال المناوي: وفيه مخلد بن جعفر جزم الذهبي بضعفه، وفيه محمد بن حنيفة الواسطي قال في الميزان: قال الدارقطني: غير قوي،، وفيه أيضاً: أحمد بن الفرج أورده الذهبي في الضعفاء، وضعفه أبو عوف. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (10/152) عن ابن عباس. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي وهو ضعيف. وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/130) : رواه الطبراني وله شواهد كثيرة. (¬4) أخرجه الخاري في الأدب المفرد (ص 218، رقم 623) عن عبد الله بن عمرو. وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (2/89، رقم 1535) ، والترمذي في سننه (4/352، رقم 1980) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والأفريقي يضعف في الحديث، وهو عبد الله بن زياد بن أنعم وعبد الله بن يزيد هو أبو عبد الرحمن الحبلي، وعبد بن حميد في مسنده (1/133، رقم 327) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/265، رقم 1328) ، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب (1/369، رقم 1490) .

وأخرج أحمد عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «إن دعوة المرء المسلم مستجابة لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال: آمين، ولك مثل ذلك» (¬1) . بل هي أسرع الدعوات إجابة كما ورد ذلك في حديث. وأما أهل المعاصي والبدع فقد ورد في تجنبهم وبغضهم والإعراض عنهم وترك السلام عليهم أخبار وآثار. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أعرض عن صاحب بدعة بغضاً له لله ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً، ومن انتهره صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر، ومن سلم على صاحب بدعة ولقيه بالبشرى، واستقبله بما يسره فقد استخف بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» (¬2) . وقال الفضيل: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. قال في نزهة المجالس: وقال عيسى -عليه الصلاة والسلام- تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتوبوا إلى الله بالتباعد منهم، والتمسوا رضا الله بسخطهم قالوا: يا روح الله فمن نجالس؟ قال: جالسوا من يذكركم الله رؤيته، ومن يزيد في عملكم كلامه، ومن يرغبكم في الآخرة عمله. ففي هذا زجر عن صحبته أهل المعاصي والبدع، وعن مجالستهم وحث على صحبته أهل الخير والصلاح ومجالستهم لنفعهم في الدنيا والآخرة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان، وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي في النار ما لنا من شافعين ولا صديق حميم» (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده (5/195، رقم 21755) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -. وأخرجه أيضاً: مسلم في الصحيح (4/2094، رقم 2732) ، والبخاري في الأدب المفرد (1/ 19، رقم 625) ، وأبو داود (2/89، رقم 1534) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/98، رقم 201) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/133، رقم 3356) . (¬2) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/200) ، والخطيب في تاريخ بغداد (10/263) عن ابن عمر. (¬3) لم نقف عليه.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استكثروا من الإخوان فإن ربكم حييٌ كريم، يستحي أن يعذب عبده بين إخوانه يوم القيامة» (¬1) . وقال علي كرم الله وجهد: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألم تسمع إلى قول أهل النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. وقال إمامنا الشافعي رحمه الله: وأكثر من الأخوان ما اسطعت إنهم ... بطون إذا استنجدتهم وظهور وليس كثير ألف خل وصاحب ... وإن عدواً واحداً لكثير وقال بعض السلف: استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة، ومن علامة صدق الأخوة والمودة: أن يكون نفس المتآخين كنفس واحدة امتزاجاً وائتلافاً حتى أن كل واحد يجد في فمه لذة ما يأكل أخوه. فائدة: ذكر بعض الحنفية في كتاب شَرَعَهُ آداباً للمآخاة والصحبة فقال منها: أن لا يؤاخي ويصادق إلا من يثق به وأمانته ويعرف صلاحه وتقواه فإن المرء يكون مع من أحب، ويحشر على دين خليله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (¬2) ولله در القائل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي إذا كنت في قوم فاصحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى قال ابن جماعة في أنس المحاضرة: قال قس بن محمد لولده يا بني إياك ومصاحبة الأندال فإن مصافاتهم إلى زوال، وهم أهل خلاف واختلاف، وسرعة إقبال وانصراف، إن رأوك بخير كرهوك، وإن رأوك في غبطة حسدوك، ولا تقبل قول واش أي: نمام في حق أخيك، ولا تفش سر أخيك لأحد كما قال الشاعر: إذ الواشي نعى إليك صديقاً ... فلا تجف الصديق بقول واشي ولا تصحب قرين السوء وانظر ... لنفسك من تجالس وتماشي ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4/259، رقم 4833) ، وأحمد في مسنده (2/334، رقم 8398) ، وصححه الحاكم في المستدرك (4/188، رقم 7319) ، والطيالسي في مسنده (ص 335، رقم 2573) ، وعبد بن حميد (ص 418، رقم 1431) ، وأبو هريرة في حلية الأولياء (3/165) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ولا تخبر بسرك كل سر ... إذا ما جاوز الاثنين فاشي ومنها: أن لا يغلو في الحب والبغض فيكون حبه كلفاً، وبغضه تلفاً، بل يكون مقتصداً فيهما. ومنها: أن ينظر في وجه أخيه حباً له وشوقاً إليه، ففي الحديث: «نظر المؤمن إلى المؤمن عبادة، وتبسم الرجل في وجه أخيه المسلم يحط الخطايا عنهما» (¬1) . ومنها: ينبغي أن يحذر كل منهما عما يوجب الفرقة بينهما، ففي الحديث: «ما تحاب اثنان ففرق بينهما إلا بذنب يصيبه أحدهما» (¬2) . ومنها: أن يخلص له الود، ففي الحديث: «ثلاث يصفين لك ود أخيك، تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه» (¬3) . ومنها: أن يوافق أخاه فيما أباح الشرع، فإن ذلك خير من الشفقة عليه، فإذا قال أخوه في شيء لا، يقول: لا، وإذا قال في شيء: نعم، قال: نعم وقد نظم عبد الله بن المبارك فقال: وإذ صاحبت فاصحب صاحبا ... ذا حياء ووفاء كريم قوله للشيء لا إن قلت ... وإذا قلت نعم قال نعم وإذا قال له أخوه: قم بنا لا يقول: إلى أين؟ وإذا طلب منه شيئاً من ماله لا يقول له: كم تريد؟ أي شيء تصنع به؟. ومنها: أن يفرح بما يرى عليه من النعم ويغتم بما يلقى عليه من الكرب والغم، ويسعى في تفريجه عنه. ومنها: أنه ينبغي أن يستعمل مع أخيه بشاشة الوجه، ولطف اللسان، وسعة القلب، وكظم الغيظ، وإسقاط الكبر، وملازمة الحرمة، وقول المعذرة الكاذبة ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) لم نقف عليه. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/485، رقم 5815) عن شيبة بن عثمان الحجبي عن عمه عثمان بن طلحة. ووراه أيضاً: الطبراني في المعجم الأوسط (8/192، رقم 8369) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/82) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن عبد الملك ابن عمير وهو ضعيف.

والصادقة. ومنها: أن يرى لأخيه من الحق والفضل على نفسه أكثر مما يرى له أخوه. ومنها: أن يهدي إلى أخيه المسلم مما تيسر عن طيبة نفسه، ويقبل منه ما يهدي إليه وإن قل، ويزد له حباً ويكافئه بخير من ذلك أن وجد ويشكر له ويثني عليه خيراً، ويدعو له ويقول: جزاك الله خيراً، فإنه أبلغ الثناء والدعاء، ولا يكتم صنيعه. ومنها: أن يزور أخاه المسلم غباً إن خاف سآمته، أو كل يوم إن من ذلك طالباً بذلك جزيل الثواب من الله. ومنها: أنه إذا أتى باب أخيه استأذن الدخول عليه، ولا يقوم قبالة الباب ويستأذن ثلاثاً يقول: في كل مرة السلام عليكم يا أهل البيت، أيدخل فلان ويمكث بعد كل مرة مقدار يفرغ الأكل والمتوضئ والمصلي بأربع، فإذا أذن له وإلا رجع سالماً، وإذا نودي من داخل البيت: من على الباب لا يقول: أنا، فإنه ليس بجواب بل يقول: فلان. قال النووي في الأذكار: ويستحب استحباباً مؤكداً زيارة الصالحين والإخوان، والجيران والأصدقاء والأقارب وغيرهم، وإكرامهم وبرهم وصلتهم، وينبغي أن يكون زيادته لهم على وجه لا يكرهون وفي وقت يرتضونه. وقد ورد في فضل زيارة الإخوان في الله في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد على مدرجته أي: على طريقه ملكاً قال أين تريد؟ قال: أريد أخاً في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها أي: تحفظها وترعاها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى قال: فإني رسول الله تعالى إليك فإن الله قد أحبك كما أحببته فيه» (¬1) . وفي كتاب الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة أيضاً قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عاد مريضاً أو زار أخاً له في لله تعالى نادى مناد: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً» (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1988، رقم 2567) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضاً: البخاري في الأدب المفرد (ص 128، رقم 350) ، وأحمد في مسنده (2/462، رقم 9959) ، وابن حبان في صحيحه (2/331، رقم 572) . (¬2) أخرجه الترمذي في سننه (4/365، رقم 2008) عن أبي هريرة، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في سننه (1/464، رقم 1443) . وأخرجه أيضاً: البخاري في الأدب المفرد (ص 126، رقم 345) ، وأحمد في مسنده (2/344، رقم 8517) ، وابن حبان في صحيحه (7/228، رقم 2961) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/423، رقم 1451) ، وابن المبارك في الزهد (ص 246، رقم 708) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/493، رقم 9026) .

ويستحب أن يطلب الإنسان من صاحبه الصالح أن يزوره، وأن يكثر من زيارته فقد ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام -: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت ?وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ? [مريم: 64] » (¬1) . ومن آداب المزور أن يكرم الزائر، ومن مستحباته: أن يكرم الزائر، وأن يلقي السجادة أو نحوها تحته، وأن يقوم بخدمته، ولا ينبغي للزائر أن يرد كرامة المزور عليه، وأن يقول أحدهما للآخر: كيف أصبحت وكيف حالك؟ فيقول له: صاحبه أصبحت مؤمناً أو في خير وعافية والحمد لله رب العالمين، ثم إذا استقر به المكان قدم له ما حضر من طعام أو شراب لله در القائل: قدم لزائرك الطعام وحيه ... حتى يراه كأنه في حيه والبيت إن لم يلق مأكول به ... لا فرق بين الميت فيه وحيه ومنها: أنه يتهيأ للقاء الإخوان ويتجمل لهم فيلبس من أنظف ثيابه، ويتطيب ويتوضأ وضوء للصلاة، ويتزين لهم ما استطاع ثم يخرج إليهم. قال صاحب الأنوار في آخر كتاب الغسل، ويستحب لمن يصحب الناس التنظيف بالسواك، وأخذ الشعر، واستعمال الطيب، وقطع الروائح الكريهة، وحسن الأدب معهم، لتزويد المودة والوقار، وأن يتمسك بصحبته الصديق الصدوق. فقد كان السلف إذا ظفروا بما يصلح للصداقة يتمسكون به ولم يضيعوه، علماً بأن الصديق الصدوق أعز من الكبريت الأحمر. ومنها: أن يكون أولاد أخيه في الله أولاده فقد كان كثير من السلف الصالح يقوم بكلفة أولاد إخوانهم في الله، ويصرفون إليهم كسيهم كما يصرفونها إلى أولادهم. كما حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: أتيت بعض البلاد فنزلت في مسجد، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4/1760، رقم 4454) عن ابن عباس. وأخرجه أيضاً: الترمذي في سننه (5/316، رقم 3158) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/394، رقم 11319) ، وأحمد في مسنده (1/357، رقم 3365) ، والطبراني في المعجم الكبير (12/33، رقم 12385) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/116) .

فلما كان وقت العشاء وصلينا أتاني الإمام بعد انصراف الناس، وقال: قم وأغلق باب المسجد، فقلت له: أنا رجل غريب، وهذه الليلة باردة أبيت هاهنا ولك الخير والأجر والثواب، فقال: قم ولا تكثر الكلام، فإن الغرباء يسرقون الحصر والقناديل، فقلت له: أنا إبراهيم بن أدهم فقال: قد أكثرت عليَّ الحديث وعلا على رجلي وقبضها وجعل يجرني على وجهي، حتى مر بي على باب أتون الحمام فدخلت الأتون وإذا أنا بالوقاد يقد النار فقلت: السلام عليك ورحمة الله فلم يرد علي السلام، بل أشار لي أن اجلس فجلست وأنا خائف منه لما رأيته تارة ينظر عن يمينه وتارة ينظر شماله، فلما فرغ من وقوده التفت إلى وعليك السلام فقال لي: يا هذا إنني أجير قوم فخفت أن أسلم عليك فأنشغل بالسلام فآثم وأخون، فقلت: رأيتك تنظر عن يمينك وشمالك أتخاف من أحد؟ قال: نعم قلت: ممن؟ قال: من الموت لا أدري من أين يأتيني أمن يميني أو من شمالي، فهو أكبر همي قلت له: بكم تعمل كل يوم قال: بدرهم ونصف، قلت: وما تصنع به؟ قال: آكل منه النصف وانفق الدرهم على أولاد أخي، قلت: أخوك من أمك وأبيك؟ قال: لا بل أحببته في الله تعالى، ومات وأنا أقوم بأهله وأولاده، فقلت له: عملك هذا عمل المتقين، هل دعوت الله في حاجة فأجابك؟ قال: لي حاجة عنده منذ عشرين سنة أدعوه بها وما قضاها، قلت: وما هي؟ قال: بلغني أن في الغرب رجلاً قد تميز على الزاهدين وفاق العابدين يقال له: إبراهيم بن أدهم دعوت الله - عز وجل - أن يجمع بيني وبينه حتى أراه وأموت، فقلت له أبشر يا أخي قد قضى الله حاجتك وما رضي أن يأتي بي إليك إلا سحباً على وجهي، قال فوثب من مكانه وعانقني وسمعته يقول: اللهم كما قضيت حاجتي وأجبت دعوتي فارفعني إليك، قال: فنظرت إليه فإذا هو يرجف فتمدد على الأرض فأتيت إليه فحركته فإذا هو قد مات رحمه الله عليه، وهو مشهور بعبد الله الوقاد. واعلم أن أنفع الأصدقاء هو الذي يوافق فعله قوله، وألا يكون كمن قال الله فيه ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ? [الصف: 2، 3] أنشد بعضهم: لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يصدق ما يقول بفعال فإذا وزنت فعاله بمقاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال * * *

المجلس العشرون

المجلس العشرون في قوله - صلى الله عليه وسلم - «والذي نفسي بيده لا يؤمن من أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده» قَالَ البُخَارِي: باب حُبُّ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الإِيمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ (¬1) ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أحدكم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» . قوله «باب حب الرسول من الإيمان» (¬2) والمراد بالرسول، سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا جنس الرسول ولا لاستغراق بقرينه قوله - صلى الله عليه وسلم -. «حتى أكون» وإن كانت محبة الرسل واجبه فاللام في الرسول للعهد. قوله «والذي نفسي بيده» أي: وحق الذي نفسي بيده وهو الله - عز وجل - وفي هذا دليل على جواز الحلف على الأمر المهم توكيداً له وإن لم يكن هناك مستحلفاً. قال الرازي: وقد تواتر النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «والذي نفسي بيده» وإطلاق اليد على الله في أحاديث أخر منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي» (¬3) . ¬

(¬1) قوله: «شعيب» هو ابن أبي حمزة الحمصي، واسم أبي حمزة دينار. وقد أثمر المصنف من تخريج حديثه عن الزهري وأبي الزناد. ووقع في غرائب مالك للدارقطني إدخال رجل -وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن- بين الأعرج وأبي هريرة في هذا الحديث، وهي زيادة شاذة، فقد رواه الإسماعيلي بدونها من حديث مالك، ومن حديث إبراهيم بن طهمان. وروى ابن منده من طريق أبي حاتم الرازي عن أبي اليمان شيخ البخاري هذا الحديث مصرحاً فيه بالتحديث في جميع الإسناد، وكذا النسائي من طريق على بن عياش عن شعيب. انظر الفتح (1/131) . (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/131) : قوله: «باب حب الرسول» اللام فيه للعهد، والمراد سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقرينة قوله: «حتى أكون أحب» ، وإن كانت محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن الأحبية مختصة بسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (6/2700، رقم 6986) ، ومسلم في صحيحه (4/2107، رقم 2751) من حديث أبي هريرة.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يفتح أبواب السماء في ثلثي الليل الباقي، فيبسط يده فيقول: ألا من عبد فيسألني فأعطيه، قال: فما يزال كذلك حتى يطلع الفجر» (¬1) للعلماء فيه قولان: أحدهما: إلحاقة بالمتشابه والسكوت عنه وتفويض علمه للعليم الخبير، وهو أسلم. والثاني: تأويله بما يليق بجنابه الكريم بأن يقال: ليس المراد باليد هنا حقيقتها وهي الجارحة، فإنها في حقه سبحانه وتعالى محال، بل المراد القدرة فإن اليد تستعمل في القدرة مجازاً فإنه يقال: يد السلطان فوق يد الرعية أي: قدرته عالية فوق قدرتهم، ويقال: هذه البلدة في يد الأمير وإن كان مقطوع اليد، بمعنى في قدرته. فقوله: «والذي نفسي بيده» مؤول بقدرته، وهذا القول أحكم ونزول الآيات الواقعة في كتاب الله بهذا التأويل مثل قوله تعالى ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ? [المائدة: 64] ، وقوله: ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ? [الفتح: 10] . وقوله: «لا يؤمن أحدكم» محمول على نفي الكلام أي: لا يكمل إيمان أحدكم حتى أكون أجب إليه من والده وولده، فمن لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من والده وولده فهو ناقص الإيمان. قال الخطابي معناه: لا تصدق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسك، وتؤثر رضائي على هواك وإن كان فيه هلاكك. وقال ابن بطال (¬2) : معنى الحديث: أن من استكمل الإيمان علم أن حق الرسول آكد عليه من حق ولده ووالده والناس أجمعين، لأنه به استنقذنا من النار وهدينا من الضلال. قال العلماء: هذا الحديث من جوامع الكلم الذي أوتيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن المحبة ثلاث أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد للوالد، ومحبة شفعة ورحمة كمحبة الوالد لولده، ومحبة مشاكله واستحسان كمحبة سائر الناس فجمع أصناف المحبة في محبته. وليس المراد بمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو حبه اعتقاد وتعظيمه وإجلاله فإنه لا شك في كفر من لم يعتقد ذلك، وتنزيل هذا الحديث على هذا المعنى غير صحيح، لأن اعتقاد الأعظمية ليس بالمحبة ولا الأحبية ولا مستلزماً لها، إذ قد يجد الإنسان من نفسه إعظام ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده (1/446، رقم 4268) ، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (3/449، رقم 765) عن عبد الله بن مسعود. (¬2) ابن بطال هو: سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي، أبو أيوب، فقيه باحث، له أدب وشعر، تعلم بقرطبة، واشتهر بكتابه: المقنع في أصول الاحكام، قالوا فيه: لا يستغني عنه الحكام، وكان من الشعراء أيضاً، كانت وفاته سنة: 404هـ‍.

شخص ولا يجد محبته، بل المراد بالمحبة: الميل إلى المحبوب وتعلق القلب بعد اعتقاد تعظيمه. وإنما اقتصر في هذا الحديث على ذكر الولد والوالد ولم يذكر غيرهما من الأهل، لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان عنده أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس في هذا الحديث أيضاً. وإنما لم يذكر «الأم» - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إما لأنها تدخل في لفظ «الوالد» إن أريد به من له الولد، وإما أنه لم يذكر الأم اكتفاء بذكر الأب في هذا الحديث عهنا، كما يكتفي بذكر أحد الضدين عن الآخر. وإنما قدم - صلى الله عليه وسلم - لفظ «الوالد» على الولد في هذا الحديث مع أن محبة الإنسان لولده أعظم من والده غالبا ًللأكثر، فإن كثير من الناس لا ولد له، وكل واحد له والد فلذلك قدما الأعم الأكثر وقوعاً على غيره. وجاء في تقديمه رواية الولد على الوالد وسببه أن محبة الإنسان لولده أعظم من محبته لوالده غالباً، فلذلك قدم فيها. وجاء في رواية زيارة: «الناس أجمعين» وهو من عطف العام على الخاص وهو كثير. وهل تدخل النفس في عموم قوله: «والناس أجمعين» قال ابن حجر: الظاهر دخولها مع أنه وقع التنصيص على النفس في حديث. فائدة: ورد في هذا الصحيح في الأيمان والنذور أن عمر بن الخطاب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفيك فقال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم» أي لا يكمل إيمانك «حتى أكون أحب إليه من نفسه» (¬1) فقال له عمر: فإنه الآن أنت أحب لي من نفسي فقال: الآن يا عمر أي: الآن كل إيمانك. فاستفيد من جميع الروايات أنه يحب على الإنسان أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه وأهله وماله، وأن الإيمان لا يكمل إلا بذلك فإن الإنسان إذا تأمل من ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2445، رقم 6257) عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال ... فذكره. وأخرجه أحمد في مسنده (4/233، رقم 18076) ، والبزار في مسنده (8/383، رقم 3459) ، والطبراني في المعجم الأوسط (1/102، رقم 317) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/189) .

النفع له من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، على أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الإشفاعات فاستحق لذلك أن تكون محبته أفرض من غيره لأن النفع الذي تأت به المحبة حاصل أكثر من غيره. فائدة: كل من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إيماناً صحيحاً لم يخل عن محبته - صلى الله عليه وسلم - غير أن الناس متفاوتون في تلك المحبة، فمنهم من أخذ منها بالحظ الأوفر كالصحابة رضي الله عنهم أجمعين لما فازوا من رؤية ذاته الشريفة، والاطلاع على معجزاته وأحواله فمحبتهم له أعظم من غيرهم. ومن الناس من يكون مستغرقاً بالشهوات محجوباً بالغفلات عن ذكره، ومحبته - صلى الله عليه وسلم - أوقاته لكنه إذا ذكر - صلى الله عليه وسلم - أو شيء من فضائله اهتاج لذكره واشتاق لرؤيته، يؤثر رؤيته بل رؤية قبره ومواضع آثاره على أهله وماله وولده ووالده ونفسه والناس أجمعين، ثم يزول عن ذلك سرعة لغلبته شهوته وتوالي الغفلات، فهذا داخل فيمن أحبه - صلى الله عليه وسلم - لكن يخاف عليه بسبب غلبته الشهوات وتوالي الغفلات، من ذهاب أصل تلك المحبة. وقد دل الكتاب والسنة على وجوب محبته - صلى الله عليه وسلم - وكثرة ثوابها وفضلها كما دل على وجوبها الحديث المذكور وقال الله تعالى ?قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ? [التوبة: 24] . قال القاضي عياض: فيكفي بهذه الآية حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوبها وعظم خطرها واستحقاقه لها - صلى الله عليه وسلم -، إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله: ?فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ? فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله. وروى أنس أن رجلاً أتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: «ما أعددت لها؟» فقال: ما أعددت لها من كثير صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكن أحب الله ورسوله قال: «أنت مع من أحببت» (¬1) . ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح (3/1349، رقم 3485) ، ومسلم في صحيحه (4/2032، رقم 2639) من حديث أنس بن مالك.

وورد عن صفوان بن قدامة قال هاجرت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآتيته فقلت: يا رسول الله ناولني يدك أبايعك، فناولني يده فقلت: يا رسول أحبك، قال: «المرء مع من أحب» ، وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن حجر: وقائل هل عمل صالح ... أعددته يدفع عنك الكرب فقلت حسبي خدمة المصطفى ... وحبه فالمرء من أحب وروي أن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان شديد الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما غير لونك» فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتوحش وحشة شديدة، حتى ألقاك، وإني لأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك، فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتها لا أراك فأنزل الله تعالى ?وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً? [النساء: 69] فدعا به قرأها عليه. وأما محبة السلف من الصحابة والتابعين وابتاع التابعين والأئمة والأعلام فمن بعدهم له - صلى الله عليه وسلم - فقد نقل إلينا من ذلك شيء كثير. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رأني بأهله وماله» (¬1) . ويروي أن امرأة قالت لعائشة بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكشفي قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكشفته لها فبكت حتى ماتت. وسئل على بن أبي طالب - رضي الله عنه - كيف كان حبكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. وخرج عمر ليلة فرأى مصباحاً في بيت وإذا عجوزاً تنفش صوفاً، وتقول: على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار قد بكيت بكاء في الأسحار ... يا ليت شعري والمنايا أطوار هل تجمعني وحبيبي الدار ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2178، رقم 2832) ، وأحمد في مسنده (2/417، رقم 9388) ، والخطيب في تاريخ بغداد (5/358)

تعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. فائدة: لمحبته - صلى الله عليه وسلم - علامات، فإن من أحب شيئاً ظهرت عليه آثاره وعلامات محبته عليه، وإلا فلا يكون صادقاً في حبه، وكان مدعياً. فمن علامات محبته - صلى الله عليه وسلم -: استكمال سنتة ونصرها والذب عنها، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطة ومكرهه. قال أنس بن مالك قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بني إن استطعت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل» ثم قال لي: «يا بني وذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» (¬1) . قال أبو القاسم نفعنا الله به: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقال أيضاً: طريق السادات المقربين السابقين مقيد بالكتاب والسنة الصوفية على الحقيقة، والعلماء العاملون بالشريعة والطريقة، وهم وراث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتبعون له في أقواله وأفعاله وأخلاقه وأحواله أعاد الله علينا من بركاتهم، ومن إيثار ما شرعه حض عليه على هوى نفسه وموافقة شهوته قال الله تعالى ?وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ? [الحشر: 9] . ومنها: إسخاط العباد في رضاه ورضى الحق سبحانه وتعالى، بأن يفعل شيئا يرضي ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (5/46، رقم 2678) عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. قال الترمذي: وفي الحديث قصة طويلة، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ثقة وأبوه ثقة وعلي بن زيد صدوق إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره قال وسمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد قال شعبة حدثنا علي بن زيد وكان رفاعاً ولا نعرف لسعيد بن المسيب عن أنس رواية إلا هذا الحديث بطوله. وقد روى عباد بن ميسرة المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب. قال الترمذي أيضاً: وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن أنس هذا الحديث ولا غيره، ومات أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين ومات سنة خمس وتسعين. والحديث بقصته التي أشار إليها الترمذي عند الطبراني في المعجم الأوسط (6/123، رقم 5991) .

الله ورسوله، وإن كان فيه إسخاط العباد، فمن أرضى الله واسخط العباد كان محباً للمولى الجواد، ومحباً لسيد العباد - صلى الله عليه وسلم -، أنشد مشايخي بيتين في هذا المعنى: لا تغضب الحق وترضي الورى ... وقدم الخوف ليوم الوعيد وأرضي الله فأشقى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد ومنها: كثرة ذكره له فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره. ومنها: كثرة شوقة إلى لقائه فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، ولما قدم الأشعريون المدينة من فرحهم كانوا يقولون: غدا نلقى الأحبة محمداً وصحبه. ومنها: تعظيمه وتوقيره عند ذكره وإظهار الخشوع والانكسار عند سماع اسمه فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يذكرونه إلا خشوعاً واقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كثير من التابعين منهم من يقم ذلك له وشوقاً إليه، ومنهم من يفعله تعظيماً له وتوقيراً له، ومنهم من يفعله لحبه لمن كان يحبه - صلى الله عليه وسلم -، وبغضه لمن كان يبغضه، كحب آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم، كما كانت الصحابة تحب الذي يحبه - صلى الله عليه وسلم -، ويبغضون الذي يبغضه - صلى الله عليه وسلم -. قال أنس بن مالك: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل الديك ويحبه قال: فما زلت أحبه لمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد تواتر النقل عن أصحابه أنهم أحبوه وقاتلوا آباءهم في مرضاته. ومنها: أنه يحب القرآن الذي أتى به - صلى الله عليه وسلم - وأن يهتدي به، وحبه للقرآن بتلاوة والعمل به. قال عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلامة حب النبي - صلى الله عليه وسلم - حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا لا يدخر منها إلا زاداً. ومنها: شفقتة على أمته ومحبته لهم وسعيه في مصالحهم ودفع المضار عنهم كما كان - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً. ومنها: تمني حضور حياته فيبذل ماله ونفسه بين يديه - صلى الله عليه وسلم -، حكى الإمام القشيري - رضي الله عنه - عن عمرو بن الليث أحد ملوك خراسان أنه رؤي بعد موته في النوم فقيل له: ماذا فعل الله بك؟ فقال: غفر لي فقيل: بماذا؟ قال صعدت ذروة جبل فأشرفت على جنودي فأعجبتني كثرتهم فتمنيت أني لو كنت حياً في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضرت القتال معه ونصرته فشكرت الله على ذلك وغفر لي.

ومحبته - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به والإيمان بنبوته ورسالته وقعت لكثير من الحيونات والجماد. فائدة: وهي معجزة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - روى الدارقطني والبيهقي وشيخه ابن عدي عن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضباً وجعله في كمه ليذهب إلى رحلة فرأى جماعة محتفين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما بال هؤلاء الجماعة؟ فقالوا: هذا محمد فأتى فقال: يا محمد ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك، فلولا أن تسميني العرب عجولاً لقتلك فسررت بقتلتلك الناس أجمعين فقال عمر: يا رسول الله دعني أقتله فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبياً» ثم أقبل الأعرابي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: واللات والعزى لما آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضب، وأخرج الضب من كمه، فطرحه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن آمن بك آمنت بك فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا ضب» فكلمه الضب بلسان فصيح عربي يفهمه القوم جميعاً: لبيك وسعديك يا رسول العالمين فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من تعبد؟» قال: أعبد الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه، قال: «فمن أنا يا ضب؟» قال: أنت رسول رب العالمين خاتم النبيين، قد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله حقاً، والله لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض لي منك، والله لأنت الساعة أحب إليَّ من نفسي ومن ولدي، فقد آمن بك شعري وبشري وداخلي وخارجي وسري وعلانيتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحمد لله هداك لهذا الدين، الذي يعلوا ولا يعلى عليه ولا يقبله الله إلا بصلاة، ولا يقبل الصلاة إلا بقرآن» قال: فعملني، فعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة الحمد، وقل هو الله أحد، فقال: يا رسول الله ما سمعت في البسيط ولا في الرجز أحسن من هذا فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا كلام رب العالمين وليس بشعر، إذا قرأت قل هو الله أحد قرأت ثلث القرآن، وإن قرأتها مرتين فكأنما قرأت ثلثي القرآن، وإن قرأتها ثلاثاً فكأنما قرأت القرآن كله» فقال الأعرابي: إن إلهنا يقبل اليسير ويعطي الكثير، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألك مال فقال: ما في بني سليم قاطبة رجل أفقر مني، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أعطوه، فأعطوه فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله إني أعطيته ناقة عشراً أهديت لي يوم تبوك فقال: «قد وصف ما تعطي، أو أصف لك ما يعطيك الله جزاء لك» قال: نعم قال: «لك ناقة من درة بيضاء جوفاء فوائمها من زمرد أخضر، عيناها من زبرجد أخضر، عليها هودج وعلى الهودج السندس والإستبرق تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف» .

فخرج الأعرابي من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقي ألف أعرابي على ألف دآبة بألف سيف وألف رمح فقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: نريد الذي يكذب ويزعم أنه نبي، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا له: صبوت فحدثهم بحديثه، فقالوا كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قالوا: يا رسول الله مرنا بأمرك فقال: «كونوا تحت رآية خالد بن الوليد» فلم يؤمن من العرب ألف غيرهم (¬1) . نقل ابن الجوزي في بعض مصنفاته عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الضب أنشأ يقول: ألا يا رسول إنك صادق ... فبوركت مهدياً وبوركت هاديا شرعت لنا دين الحنفية بعد ما ... عبدنا كأمثال الحمير الطواغيا فيا خير مدعي ويا خير مرسل ... إلى الجن ثم الإنس لبيك داعيا أتيت ببرهان من الله واضح ... فأصبحت فينا صادق القول داعيا فبوركت في الأحوال حياً وميتاً ... وبوركت مولوداً وبوركت ناشئا والضب حيوان بري معروف يعيش سبعمائه سنة فصاعداً، ويبول في كل أربعين يوم قطرة، ولا يسقط له سن، ويقال: إنه سنة قطعة واحدة وأكله حلال بالإجماع، لكن ما أكله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى الشيخان عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: أحرام هو؟ قال: «لا ولكنه لم يكن بأرض قومي» (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعحم الأوسط (6/126برقم 5996) ، وفي المعجم الصغير (2/153برقم 948) ، والأصبهاني في دلائل النبوة (ص:321) عن ابن عمر. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/294) : رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن شيخه محمد بن علي بن الوليد البصري قال البيهقي: والحمل في هذا الحديث عليه، قلت -أي الهيثمي -: وبقية رجاله رجال الصحيح. ومحمد بن على بن الوليد ترجم له الذهبى فى المغنى (2/616رقم 5837) ، والميزان (6/263رقم7970) وقال: يروي عن العدني، وروى عنه الطبراني وابن عدي، وروى البيهقي حديث الضب من طريقه بإسناد نظيف، ثم قال البيهقي: الحمل فيه على السلمي هذا، وصدق البيهقي فالخبر باطل، وتبع الحافط ابن حجر الذهبى فى اللسان (5/292) وزاد عليه بقوله: وروى عنه الإسماعيلي في معجمه، وقال: بصري منكر الحديث. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2060، رقم 5076) ، ومسلم في صحيحه (3/1543، رقم 1945) من حديث ابن عباس.

وفي رواية لمسلم «لا آكله ولا أحرمه» (¬1) . وفي أخرى «كلوه فإنه من حلال لكنه ليس من طعامي» (¬2) ، ولا يكره أكله عندنا خلافاً لبعض أصحاب أبي حنيفة. لطيفة: ذكر حجة الإسلام الغزالي في الإحياء عن أبي جعفر الصيدلاني قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ومعه جماعة وإذا بملكين نزلا من السماء مع أحدهما طست والآخر إبريق فغسل النبي - صلى الله عليه وسلم - يده ثم واحد بعد واحد حتى أتوا إليّ فقال أحدهم: ليس هو منهم، فقلت: يا رسول الله أنت قلت: المرء مع من أحب، وأنا أحب هؤلاء فقال - صلى الله عليه وسلم -: صبوا على يده فإنه منهم. فائدة: محبة الله أعظم القربات، وأفضل الطاعات، وهي متوقفة على امتثال أوامره واجتناب نواهية، ويدل على ذلك قول الله تعالى ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [آل عمران: 31] . وعلامة محبة العبد لله طاعة له وعدم عصيانه كما أشار إلى ذلك بعضهم بقوله: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يجب مطيع فمحبة العبد للرب طاعة ومحبة الرب سبحانه وتعالى للعبد عفوه عنه، وإنعامه عليه برحمته. قال في الروض الفائق: كان داود - عليه السلام - يقول: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي وأهلي ومن ¬

(¬1) الرواية عند مسلم في الصحيح (3/1542، رقم 1943) عن نافع عن ابن عمر قال سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الضب ... فذكره. ورواه البخاري معلقاً (6/2677) في «باب الأحكام التي تعرف بالدلائل» . (¬2) هذه الرواية عند البخاري في الصحيح (6/2652، رقم 6839) عن توبة العنبري قال: قال لي الشعبي أرأيت حديث الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاعدت ابن عمر قريباً من سنتين أو سنة ونصف فلم أسمعه يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا قال: كان ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم سعد فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه لحم ضب فأمسكوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلوا أو اطعموا فإنه حلال أو قال لا بأس به شك فيه ولكنه ليس من طعامي» . وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه (3/1542، رقم 1944) .

الماء البارد. وقال أنس بن مالك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب الله فليحبني ومن أحبني فليحب أصحابي، ومن أحب أصحابي فيلحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد فإن المساجد أبنية الله، وأبنية أذن الله برفعها وتطهيرها، بارك فيها فهي ميمونة بأهلها فهم في صلاتهم والله تعالى في قضاء حوائجهم، وهم في مساجدهم والله تعالى في حج مقاصدهم» (¬1) . وعن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى: إذا أحب عبداً نادى جبريل» (¬2) ، وفي رواية: إن جبريل ينادى في أهل السماء والأرض، إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فعند ذلك يلقي حبه في الأرض، ويقع في الماء فيشربه البر والفاجر فيحبه البر والفاجر، وإذا بغض الله عبداً أمر الله تعالى جبريل أن ينادي بالعكس من ذلك فيبغضه البر والفاجر. وكان أبو يزيد البسطامي يقول في مناجاته: إلهي لست أعجب من حبي لك، وأنا عبد حقير، وإنما أعجب من حبك لي وأنت رب جليل، تحب عبداً ذليلاً. وجرت مسألة المحب بين الشيوخ بمكة، فتكلموا فيها ثم قالوا للجنيد: هات ما عندك يا عراقي فقال: المحب عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه ناظراً إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده بالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى المشايخ. قال ابن الجوزي: من ادعى أربعاً من غير أربع فهو كذاب: من ادعى حب الجنة ولم يعمل بالطاعة فهو كذاب، ومن ادعى خوف النار ولم يترك المعصية فهو كذاب، ومن ادعى حب الله تعالى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولا يجالس الفقراء والمساكين فهو كذاب، ومن ادعى حب الله تعالى وهو يشكو لأحد من البلاء فهو كذاب. من أطاع الله تعالى وأحبه عاش، ومن التفت إلى الخلق حجب عن الحق، ومن أقبل على غير الله سقط من عين الله، ومن بذل نفسه لله وصل إلى الله، ومن وصل إلى الله عرف الله، ومن ألف إلى الله نظر بقلبه إلى الله، ومن كان يعرف مولاه وقدرته ¬

(¬1) لم نقف عليه. (¬2) سبق تخريجه.

فليس تغمض طول الليل عيناه، ورد في الحديث يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: «قربوا مني أهل لا إله إلا الله فإني أحبهم» (¬1) . أهل التوحيد في مقعد صدق عند مليك مقتدر، سبقت محبتهم لي قبل خلقهم، وطاعتهم لي قبل إيجادهم فصاروا أولياء بالموهبة القديمة لا جرم جاء مدحهم في الآيات المكنونة يحبهم ويحبون ولقد أحسن من قال: نالوا مرادهم بحب حبيبهم ... وتمتعوا بدنو وصاله وعليهم ظهر الجمال لأنهم ... بقلوبهم نظروا لحسن جماله وبحبه قد اشتغلوا ويا طوبى لمن ... قد أصبح المحبوب من أشغاله * * * ¬

(¬1) لم أقف عليه.

باب (¬1) بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ، عَائِذُ اللَّهِ (¬2) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - وَكَانَ شَهِدَ بَدْراً، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» . فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ (¬3) . «عبادة بن الصامت» هذا هو أبو الوليد عبادة بضم العين بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، شهد العقبتين الأولى والثانية وبدراً وأحداً وبيعة الرضوان والمشاهد كلها وهو أول من ولي فلسطين، ولاه عمر وكان طويلاً جسيماً فاضلاً ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/140) : قوله «باب» كذا هو في روايتنا بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلاً، فحديثه عنده من جملة الترجمة التي قبله، وعلى روايتنا فهو متعلق بها أيضاً، لأن الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء. ووجه التعلق أنه لما ذكر الأنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن أول ذلك كان ليلة العقبة لما توافقوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند عقبة منى في الموسم. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/140) : قوله: «عائذ الله» هو اسم علم أي: ذو عياذة بالله، وأبوه عبد الله ابن عمرو الخولاني صحابي، وهو من حيث الرواية تابعي كبير، وقد ذكر في الصحابة لأن له رؤية، وكان مولده عام حنين. والإسناد كله شاميون. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/140) : وقد أخرج البخاري حديث هذا الباب في مواضع أخر: في باب من شهد بدراً لقوله فيه: «كان شهد بدراً» ، وفي باب وفود النصارى لقوله فيه: «وهو أحد النقباء» ، وأورده هنا لتعلقه بما قبله. ثم إن في متنه ما يتعلق بمباحث الإيمان من وجهين آخرين: أحدهما: أن اجتناب المناهي من الإيمان كامتثال الأوامر. وثانيهما: أنه تضمن الرد على من يقول: إن مرتكب الكبيرة كافر أو مخلد في النار.

جميلاً خيراً. قال الإستيعاب: وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين، وكان معاوية قد خالفه في شيء من مسائل الربا أنكره عليه عبادة فأغلظه معاوية في القول فقال له عبادة: لا أسكنك بأرض واحد أبداً ورحل إلى المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك فأخبره فقال: ارجع إلى مكانك فقبح الله أرضاً لست فيها ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية: لا أمره لك عليه. روي له مائة حديث وواحد وثمانون حديثاً أتفق منهما على ستة، وانفرد كل واحد بحدثين. روى عنه جمع من الصحابة منهم أنس وكانت وفاته بفلسطين، وقيل: بالرملة ستة أربع وثلاثين عن ثنتين وسبعين سنة، وقبره ببيت المقدس معروف. وإنما قال البخاري: في حق عبادة «وكان شهد بدراً» أي: غزوة بدر مع أنه شهد غيرها من المشاهد لأن غزوة بدر كانت أفضل الغزوات كما قاله البرماوي وغيره، وتسمى «بدر الكبرى وبدر العظمى» ، أما «بدر القتال» فهي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها. قيل: سميت غزوة بدر لبئر هناك يسمى بدراً باسم حافره بدر بن الحارث. وقيل: بدر بن كلدة، وقيل: كالبدر وقيل: لرؤية البدر فيه. فائدة: قال ابن كثير (¬1) : انتصار المسلمين على الكفار في غزوة بدر في يوم يسمى يوم الفرقان، الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ودمغ فيه الشرك وحزبه، هذا مع قلة عدد المسلمين وكثرة العدو، مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد والعدة الكاملة والخيل المسومة والخيلاء الزائد، فأعز الله وحيه وتنزيله وبيض وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبيله، وأخزي الشيطان وجيله، ولهذا قال الله تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: ?وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ? [آل عمران: 123] أي: قليل عددكم لتعلموا أن النصر هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد. فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الأفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار وأعز من حضرها من المسلمين فهو عنده من الأبرار، وكان خروجهم يوم السبت لثنتي عشر خلت من رمضان على رأس تسعة عشر شهراً، وكان عدد المسلمين في غزوة بدر ¬

(¬1) ابن كثير هو: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضو بن درع القرشي البصروي ثم الدمشقي، أبو الفداء، عماد الدين حافظ مؤرخ فقيه، ولد في قرية من أعمال بصرى الشام سنة 701هـ‍، وانتقل مع أخ له إلى دمشق سنة 706هـ‍، ورحل في طلب العلم، وتوفي بدمشق سنة: 774 هـ‍، تناقل الناس تصانيفه في حياته، من كتبه: البداية والنهاية في التاريخ على نسق الكامل لابن الأثير والكتاب مطبوع شائع بين الناس، وشرح صحيح البخاري لم يكمله، وله: طبقات الفقهاء الشافعيين، وتفسير القرآن الغظيم، وجامع المسانيد، واختصار علوم الحديث وهي رسالة في المصطلح شرحها أحمد محمد شاكر في كتابه الباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث.

ثلاثمائه وخمساً، وحضر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها الأنصار ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عدد المشركين فيها ألفاً وقيل: غير ذلك، وكانت من غير قصد المسلمين إليها ولا ميعاد كما قال تعالى: ?وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً? [الأنفال: 42] . واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون وأنهزم الباقون، وغنم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متاعهم وكان العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة الأسارى السبعين. لطيفة أخرى: قال علماء السير وغيرهم: لما التقى الناس في غزوة بدر ودنا بعضهم من بعضهم بعض أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفنة من الحصباء أي: من التراب فاستقبل بها قريشاً ثم قال: «شاهت الوجوه» (¬1) ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال: شدوا، فكانت تلك الحصباء عظيم شأنها، لم تترك من المشركين رجلاً إلا ملأت عينيه فانهزموا، وجعل المسلمون يقتلون ويأسرون وبادر كل واحد من الكفار مكباً على وجهه لا يدري أين يتوجه، يعالج التراب حتى ينزعه من عينيه، وكانت الملائكة تقاتل مع المسلمين في هذه الغزوة. قال ابن سيد الناس: ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر بل كانوا يحضرون من غير قتال عدداً ومدداً لا يضربون أحداً بخلاف غزوة بدر فإنهم كانوا يقاتلون فقد نقل عن أبي داود المازني: وكان شهد بدراً قال: إني لاتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه إذ تقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري أي: من الملائكة. وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمراء، وكان على جبريل ذلك اليوم عمامة صفراء وكان شعارهم: «أحد» . وسبب نزول الملائكة في غزوة بدر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى المشركين وهم ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده (1/303، رقم 2762) ، وابن حبان في صحيحه (14/430، رقم 6502) ، والحاكم في المستدرك (1/268، رقم 583) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/218، رقم 230) عن ابن عباس. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/228) : رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.

ألف وأصحابه ثلاثمائة وخمسة أو سبعة عشر رجلاً فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف: «اللهم أنجز لي ما وعدتني» فأنزل الله عند ذلك: ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ? [الأنفال: 9] أي: فأمده الله بألف من الملائكة. وروي أن جبريل نزل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صور الرجال، على خيل بلق عليهم ثياب بيض، وعلى رؤوسهم عمائم بيض قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم. وقال ابن عباس: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين عمائم خضر. وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن شماله يوم بدر رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام يقاتلان كأشد القتال (¬1) . فلما انهزم الكفار قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لقي العباس فلا يقتله وإنه خرج مستكرها» فلما أسره المسلمون مع جملة الأسرى السبعين وأوثقوهم في تلك الليلة، فجعل العباس يئن من شدة الوثاق، فترك النبي - صلى الله عليه وسلم -: النوم، فقيل: ما يسهرك يا رسول الله قال: «أقلقني أنين العباس فقام الرجل وأرخى وثاقه» (¬2) . ونقل بعض أهل السير: أن العباس لما كتف وانتصف الليل وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألماً وضراً فجعل يشتكي منه ويتضرع إلى الله، فهبط جبريل وقال: يا سيد البشر إن كنت تريد أن يزول عنك هذا البأس فسارع في حل كتاف العباس فقال: يا جبريل هو من جملة الأساري التاركين دين الإسلام فقال: جبريل بل يقول لك ربك: إنه ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1802، رقم 2306) عن سعد. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (1/171، رقم 1468) ، وابن حبان في صحيحه (15/446، رقم 6987) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/376، رقم 32153) ، والشاشي في مسنده (1/185، رقم 133) ، والطيالسي في مسنده (ص 28، رقم 206) ، واللالكائي في كرامات الأولياء (ص 128، رقم 77) ، والدورقي في مسند سعد (ص 137، رقم 77) . (¬2) أخرجه ابن سعد في الطبقات االكبرى (4/13) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/89، رقم 17924) عن ابن عباس.

شيخ كبير وللشيخ عندنا حرمة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جماعة من أصحابه قاصدين نحو العباس فلما رآهم ظن أنهم إلى قتلة قاصدين فواقعة الخوف فقال: يا ابن أخي ما جاء بك بالليل فقال: لا بأس عليك يا عمي قد عاتبني ربي من أجلك، فجعل العباس يبكي ويقول: يا مولاي أنا أحيد عن توحيدك وأنت تطلف بأقل عبيدك، ثم قال: يا سيد الأكوان أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ففرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه فخلع عمامته عليه وضجت الملائكة والصحابة بالصلاة والسلام عليه، ونزل جبريل فقال: يقول لك الله عز وجل: جعلت على العباس العمامة ونحن لأجلك نخلع عليه الخلافة إلى يوم القيامة. فائدة أخرى: ذكر العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث ثلاث سنين في أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة، فأظهر نفسه ودعى الناس إلى الإسلام عشر سنين في كل عام في الموسم لعله يجد أحد يعينه وينصره فلا يجد أحداً ينصره، حتى أنه كان يسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، ويعرض نفسه عليها لعله يجد لعل أن يأووه عندهم وينصروه حتى يبلغ رسالة ربه، فيأتي إليهم الشيطان فيصدهم عن إيوائه - صلى الله عليه وسلم - ونصرته فيرددون عليه أقبح رد، ويؤذونه ويسخرون به ويقولون قومك أعلم بك. ولما أراد الله إظهار دينه ساقة إلى هذا الحي من الأنصار، فأقبل منهم اثنان إلى مكة فدعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما، ثم أقبل منهم في العام القابل ستة فدعاهم فأسلما، ثم لا زالوا يزدادون حتى فشا فيهم الإسلام ولم تبق دار من الأنصار بالمدينة الشريفة إلا وفيها ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال البخاري في حق عبادة ابن الصامت: «وهو أحد النقباء ليلة العقبة» (¬1) و «النقباء» جمع «نقيب» وهو الناظر على القوم، وضمينهم وعريفهم، والمراد بالنقباء هاهنا الأنصار الذين تقدموا البيعة - صلى الله عليه وسلم -. والمراد «بالعقبة» في ليلة العقبة التي تنسب إليها جمرة العقبة، وعندها وقعت «المبايعة» ، و «المبايعة» هي المعاقدة والمعاهدة، شبهت بعقود المال لأن كلاً يعطي ما ¬

(¬1) هنا لطيفة ذكرها ابن حجر في الفتح (1/140) فإنه قال: يحتمل أن يكون قائل ذلك أبو إدريس، فيكون متصلاً، إذا حمل على أنه سمع ذلك من عبادة، أو الزهري فيكون منقطعاً. وكذا قوله: «وهو أحد النقباء» .

عنده بما عند الآخر، فما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - الثواب والخير الكثير، وما عندهم إلتزام الطاعة. وحقيقة المبايعة: أن يعقد الإمام العهد مع رعيته بما يأمرهم كما عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه. قال العلماء: وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات: البيعة الأولى: للأنصار وكانوا اثنا عشر رجلاً وكانت هذه المبايعة بمنى، وتسمى البيعة الأولى من بيعتي العقبة، بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام دون القتال لأنه لم يفرض يومئذ وسماهم بالأنصار. والثانية: للأنصار أيضاً وكانوا سبعين رجلاً جاءوا للحج بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفية بالليل أوسط أيام التشريق، قال لهم رسول - صلى الله عليه وسلم -: «أخرجوا إلىّ منكم اثنا عشر نقيباً حتى أبايعهم، وإنما طلب - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر نقيباً إقتداء بقول الله تعالى في قوم موسى: ?وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً? [المائدة: 12] فأخرجوا له منهم اثنا عشر نقيباً، وأسماءهم معروفة في كتب السير منهم: عبادة بن الصامت كما قال البخاري: «وهو أحد نقباء ليلة العقبة» فتقدموا لمبايعته - صلى الله عليه وسلم - فبايعهم فيها على القتال وعلى حرب الأحمر والأسود، وكان أول آية أنزلت في الإذن بالقتال: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ? [الحج: 39] وجعل ثوابهم الجنة، وهذه البيعة الثانية من بيعتي العقبة. والبيعة الثالثة: بعد هاتين البيعيتين «بيعة الرضوان» بايعهم - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة وكانوا ألفاً وثلاثمائة بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يفروا. وإلى هذه البيعة أشار الله تعالى بقوله: ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً? [الفتح: 18] وهذه البيعة كانت بعد الهجرة بخلاف البيعتين الأولتين. وذكر البخاري هنا كيفية الأولى بقوله: «عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله (¬1) عصابة من أصحابه» (¬2) أي: جماعة من أصحابه والعصابه بكسر ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/141) : قوله: «وحوله» بفتح اللام على الظرفية. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/140) : قوله: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» سقط قبلها من أصل الرواية لفظ «قال» وهو خبر أن، لأن قوله: «وكان» وما بعدها معترض، وقد جرت عادة كثير من أهل الحديث بحذف «قال» خطأ لكن حيث يتكرر في مثل «قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» ولا بد عندهم مع ذلك من النطق بها، وقد ثبتت في رواية البخاري لهذا الحديث بإسناده هذا في باب من شهد بدراً فلعلها سقطت هنا ممن بعده. ولأحمد عن أبي اليمان بها الإسناد أن عبادة حدثه.

العين ما بين العشرة إلى الأربعين، وكانوا في هذه البيعة اثنا عشر كما تقدم. «بايعوني» أي: عاهدوني وعاقدوني (¬1) . «على أن لا تشركوا بالله شيئا» (¬2) أي: على أن تعبدوه وتوحدوه ولا تشركوا به شيئاً والشرك بالله تعالى هو أن تجعل لله نداً وتعبد معه غيره من حجر وبشر أو شمس أو قمر أو نبي أو شيخ أو جني أو ملك أو نجم أو غير ذلك وهو ذنب عظيم لا يغفر قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ? [النساء: 48] ، وقال الله تعالى: ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان: 13] ، وهو أكبر الكبائر فلهذا أبايعهم على تركه قبل غيره. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله» (¬3) فمن أشرك بالله ثم مات مشركاً فهو من أصحاب النار قطعاً. وأيضاً إنما بايعهم عل ترك الشرك أولاً لأن المبايعة على التوحيد الذي هو أصل الإيمان وأساس الإسلام. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تسرقوا» والسرقة من الكبائر قال تعالى: ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/141) : والمبايعة عبارة عن المعاهدة، سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/143) : قال الطيبي: الحق أن المراد بالشرك الشرك الأصغر وهو الرياء، ويدل عليه تنكير شيئاً أي: شركاً أيا ما كان. وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك. ويجاب: بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز، فما قاله محتمل وإن كان ضعيفاً. ولكن يعكر عليه أيضاً أنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2229، رقم 5631) ، ومسلم في صحيحه (1/91، رقم 87) عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.

حَكِيمٌ? [المائدة: 83] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» (¬1) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (¬2) . قيل: وينبغي إن يقال عند سماع هذا أعاذنا الله من ذلك، وإنما تكون السرقة من الكبائر إذا سرق ما قيمته ربع دينار أما سرقة ما دون ذلك فهو من الصغائر، إلا إذا كان المسروق منه مسكيناً لا غنى له عن ذلك، فيكون كبيرة لا من جهة السرقة بل من جهة الأذى، وحد السارق قطع اليد إذا كان المسروق ربع دينار. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تزنوا» الزنا أيضاً من الكبائر قال الله تعالى: ?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً? [الإسراء: 32] . وقال تعالى: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ َأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ? [النور: 2] . وأجمع أهل الملل على تحريمه ولهذا كان حده أشد الحدود لأنه جناية على الأعراض والأنساب. فائدة: قال النووي: يكره للإنسان إذا ابتلي بمعصية أو نحوها أن يخبر غيره بذلك، بل ينبغي له أن يستر على نفسه وأن يتوب إلى الله تعالى، فإن أخبر بمعصيتة شيخه أو شبهه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً من معصيتة، أو يعمله ما يسلم من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها، أو يدعو له ونحو ذلك فلا بأس به بل هو حسن، وإنما يكره إذا انتفت هذه المصلحة. روينا في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» (¬3) من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (6/2489، رقم 6401) ، ومسلم في صحيحه (3/1314، رقم 1687) من حديث أبي هريرة. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/1282، رقم 3288) ، ومسلم في صحيحه (3/1315، رقم 1688) من حديث عائشة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2254، رقم 5721) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/329، رقم 17377) ، والديلمي في الفردوس (3/267، رقم 4795) عن أبي هريرة. وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/378، رقم 632) عن أنس بن مالك عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنهما. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/192) : فيه عون بن عمارة وهو ضعيف.

يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ويصبح يكشف ستر الله عليه. وفي حديث: «من أتى بهذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد» (¬1) رواه الحاكم. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تقتلوا أولادكم» (¬2) إنما بايعهم على ترك قتل الأولاد مع أن قتل غير الأولاد بغير حق حرام لأن قتل البنات كان فاشياًَ أكثر من قتل غيرهم، وهو المسمى بوأد البنات الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (¬3) متفق عليه. ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تأتوا ببهتان» أي: بكذب يبهت سامعه أي: يدهشه لفظاعته. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/272، رقم 7615) عن عبد الله بن عمر، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه أيضاً: البيهقي في السنن الكبرى (8/330، رقم 17379) . وأخرجه مالك في الموطأ (2/825، رقم 1508) عن زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط، فأتي بسوط مكسور فقال: «فوق هذا» فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: «دون هذا» فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلد، ثم قال: «أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله ... » فذكره بنحوه. وأخرج رواية مالك في الموطأ البيهقي في السنن الكبرى (8/326، رقم 17352) من طريق مالك. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/141) : قال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره: خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كان شائعاً فيهم، وهو وأد البنات وقتل البنين خشية الإملاق، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/848، رقم 2277) ، ومسلم في صحيحه (3/1341، رقم 593) من حديث المغيرة بن شعبة.

«تعترونه» أي: تختلقونه. «بين أيدكم وأرجلكم» فإن قيل: كيف أضاف - صلى الله عليه وسلم - البهتان إلى الأيدي والأرجل مع أنها لا مدخل لها في البهتان، فإنه يكون باللسان فقط؟ أجيب عنه بأوجه: منها: أن البهتان ناشئ عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل، ثم يبرزه بلسانه (¬1) . ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تعصوا في معروف» (¬2) قال في النهاية: «المعروف اسم جمع ¬

(¬1) شرح الحافظ ابن حجر هذه الجملة شرحاً بديعاً في الفتح (1/141) حيث قال: قوله: «ولا تأتوا ببهتان» البهتان: الكذب يبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال: هذا بما كسبت يداك. ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحاً وبعضكم يشاهد بعضاً، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان، قاله الخطابي، وفيه نظر لذكر الأرجل. وأجاب الكرماني: بأن المراد الأيدي، وذكر الأرجل تأكيداً، ومحصله أن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضياً فليس بمانع. ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه، فلذلك نسب إليه الافتراء، كأن المعنى: لا ترموا أحداً بكذب تزورونه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم. وقال أبو محمد بن أبي جمرة: يحتمل أن يكون قوله: «بين أيديكم» أي: في الحال، وقوله: «وأرجلكم» أي: في المستقبل، لأن السعي من أفعال الأرجل. وقال غيره: أصل هذا كان في بيعة النساء، وكني بذلك -كما قال الهروي في الغريبين- عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولاً. والله أعلم. (¬2) إلى هنا انتهت المنهيات المبايع عليها وقد يسأل سائل لما نص على المنهيات دون المأمورات وقد تكلم على هذه المسألة الحافظ ابن حجر فقال: فإن قيل: لم اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب: أنه لم يهملها، بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله: «ولا تعصوا» إذ العصيان مخالفة الأمر. والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات: أن الكف أيسر من إنشاء الفعل، لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح، والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل. انظر الفتح (1/142) .

لكل ما عرف من طاعة الله والإحسان إلى الناس، وما ندب الشرع إليه من حسن ونهى عنه من قبيح» . وقال النووي: يحتمل أن يكون المعنى ولا تعصوني ولا أحد أولي الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقييد بالمعروف متعلقاً بشيء بعده. ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن وفى منكم» أي: ثبت على ما بايع عليه. «فأجره على الله» أي: بطريق التفضل والإحسان كما يقوله أهل السنة، لا بطريق الاستحقاق والوجوب كما يقوله المعتزلة، فإن الله لا يجب عليه إثابة المطيع ولا تعذيب العاصي، إن أثاب المطيع فبفضله، أو عذب العاصي فبعدله (¬1) . ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ومن أصاب من ذلك» إشارة إلى غير الشرك بقرينة قوله: «ثم ستره» أي: فمن فعل من الذي بويع على تركه «شيئاً» غير الشرك كأن سرق أو زنى أو قتل أو أتى بهتان أو عصى الله في معروف. «فعوقب في الدنيا» أي: بذلك الذي فعله قطعت يده في السرقة أو حد في الزنا أو استوفى منه القصاص في القتل، أو حد في القذف وغير ذلك. «فهو كفارة له» أي: فالعقاب الذي استوفى منه في الدنيا فهو كفارة له فلا يطالب به في الدار الآخرة، وإن لم يتب وهذا هو مذهب الأكثرين (¬2) . ¬

(¬1) في هذا المعنى قال الحافظ في الفتح (1/142) : قوله: «فأجره على الله» أطلق هذا على سبيل التفخيم، لأنه لما أن ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت ذكر الأجر في موضع أحدهما. وأفصح في رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث في الصحيحين بتعيين العوض فقال: «الجنة» ، وعبر هنا بلفظ «على» للمبالغة في تحقق وقوعه كالواجبات، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القائمة على أنه لا يجب على الله شيء. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/143) : قال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء أن الحدود كفارات واستدلوا بهذا الحديث، ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا» ، لكن حديث عبادة أصح إسناداً. ويمكن -يعني على طريق الجمع بينهما- أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولاً قبل أن يعلمه الله، ثم أعلمه بعد ذلك. قلت: حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وهو صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر، وذكر الدارقطني أن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله. قلت: وقد وصله آدم ابن أبي إياس عن ابن أبي ذئب وأخرجه الحاكم أيضاً فقويت رواية معمر، وإذا كان صحيحاً فالجمع -الذي جمع به القاضي حسن-، لكن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة، لما بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيعة الأولي بمنى، وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون حديثه متقدماً؟ وقالوا في الجواب عنه: يمكن أن يكون أبو هريرة ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - قديماً ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمعه عبادة، وفي هذا تعسف. ويبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه، وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك. والحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح وهو ما تقدم على حديث عبادة، والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما كان ليلة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن حضر من الأنصار: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه.

سئل النووي - رضي الله عنه - فقيل له: ما تقول في إنسان قتل فاستوفى منه القصاص أو الديه في الدنيا هل تبقى عليه العقوبة في الآخرة؟ قال: فأجاب بسقوط العقوبة عنه وعدم المطالبة في الآخرة، قال: وظواهر الشرع تدل على ذلك واستدل عليه بحديث البخاري وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن أصاب شيئا من هذه القاذورات فعوقب به كان كفارة له ... الحديث» . واستشكل العلماء ذلك بقوله: تعالى: ?ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ? [المائدة: 33] فإن الآية تدل على أن الطلب لا يسقط في الآخرة وإن حد في الدنيا؟ أجاب العلماء عن الآية بوجهين: أحدهما: أنها في حق الكفار، فإن عقابهم في الدنيا لا يسقط العقاب عنهم في الآخرة. والثاني: أن حديث البخاري مخصص لها. وذهب بعض العلماء إلى أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لا يسقط عنه الطلب في الآخرة، لأن المقتول لم يصل إليه حقه فالطلب له باق في الآخرة، قال: وإنما

وجب قتل القاتل في الدنيا لأجل إرداع غيره وزجره. قال ابن حجر: هذا القول مردود بأن المقتول وصل إليه حق وأي حق وهو تكفير الخطايا والذنوب عنه بالقتل ظلماً فقد ورد: «إن السيف محاء للخطايا» (¬1) أخرجه ابن حيان وغيره وصححوه، فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، فأي حق يصل إليه أعظم من هذا، فالصواب عدم المطالبة في الآخرة، خصوصاً إن مات عن توبة. ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» في هذا دلالة وإشارة إلى أنه لا يجب على الله عقاب عاص وإذا لم يجب عليه هذا لا يجب عليه ثواب المطيع أيضاً. وفيه دلالة على أن الإنسان إذا ارتكب كبيرة ومات ولم يتب منها فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. وبطل به قول المعتزلة: أنه يجب على الله تعذيب العاصي إذا مات بلا توبة، وقول الخوارج الذين يكفرون العبد بارتكابه للكبائر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخبر أنه تحت المشيئة ولم يقل: إنه يعذب كما تقوله المعتزلة أو يكفر كما تقوله الخوارج (¬2) . وحاصل الحديث من مات صغيراً أو كبيراً ولا ذنب له بأن مات عقب بلوغه أو عقب توبته أو عقب إسلامه قبل إحداث معصية فهو محكوم له بالجنة بفضل الله ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/185، رقم 17693) ، وابن حبان في صحيحه (10/519، رقم 4663) ، والدارمي في سننه (2/272، رقم 2411) ، والطبراني في المعجم الكبير (17/125، رقم 310) ، وفي مسند الشاميين (2/116، رقم 1023) ، والطيالسي في مسنده (ص 178، رقم 1267) ، وابن المبارك في الجهاد (ص 30، رقم 7) ، وابن أبي عاصم في كتاب الجهاد (ص 370، رقم 131) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/164، رقم 18304) عن عتبة بن عبد السلمي، وفي بعض المصادر الأسلمي. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/146) : قوله: «إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه» يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب، وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقي عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن مكر الله لأنه لا اطلاع له هل قبلت توبته أو لا. وقيل: يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، واختلف فيمن أتى ما يوجب الحد، فقيل: يجوز أن يتوب سراً ويكفيه ذلك، وقيل: بل الأفضل أن يأتي الإمام ويعترف به، ويسأله أن يقيم عليه الحد كما وقع لماعز والغامدية. وفصل بعض العلماء بين أن يكون معلنا بالفجور فيستحب أن يعلن بتوبته وإلا فلا.

ورحمته، ولا يدخل النار ولكن يردها كما قال تعالى: ?وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ? [مريم: 71] ، وفي الورود خلاف يأتي الكلام عليه، وإن مات مصراً على كبيرة فهو إلى الله تعالى إن شاء سامحه وعفا عنه وأدخله مع أول الداخلين، وإن شاء عاقبه في النار ثم أخرجه وأدخله الجنة، ولا يخلد أحد في النار مات على التوحيد. وفيه دليل وإشارة إلى أنه لا يشهد أحد لأحد بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من ورد النص فيه بعينه كالعشرة المبشرون بالجنة وغيرهم ممن ورد أنه من أهل الجنة فيشهد لهم بذلك، أو ورد أنه من أهل النار كأبليس وأبي جهل وفرعون فيشهد لهم بالنار، ومن عداهم أمرهم إلى الله تعالى. اللهم اختم اعمالنا بالصالحات، وكفر عنا الخطايا والسيئات، لا تؤاخذنا بما ارتكبناه من الزلات، ووقفنا إلى التوبة قبل الممات، يا من يقبل التوبة من عبادة ويعفو عن السيئات. جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (¬1) . وجاء في الحديث أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أذنب ذنباً فأوجعه قلبه غفر الله له ذلك الذنب، وإن لم يستغفر» (¬2) . وأفاد بعض العلماء: أن آدم عليه الصلاة والسلام لما هبط إلى الأرض بكى على ذنبه وقال: يا رب إني تبت وأصلحت فاقبلني، فأوحى الله إليه: يا آدم إني كتبت على عرشي من قبل أن أخلق السماوات والأرض: وإني لغفار لمن تاب، يا آدم احشر التائبين ضاحكين مستبشرين، ودعاؤهم مستجاب. وذكر الإمام حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: العبد إذا كان مسرفاً على نفسه وأراد أن يتوب فيرفع يديه ويقول: يا رب حجبت الملائكة صوته أولاً وثانياً وثالثاً، ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/659، رقم 2499) عن أنس، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة، وابن ماجه في سننه (2/1420، رقم 4251) ، وأحمد في مسنده (3/198، رقم 13072) ، وأبو يعلى في مسنده (5/301، رقم 2922) ، والحاكم في المستدرك (4/272، رقم 7617) وصححه. (¬2) لم نقف عليه.

في الرابعة يقول الله تعالى: لما تحجبون صوت عبدي عني، قد علم أنه ليس رب يغفر الذنوب غيري أشهدكم أني قد غفرت له. وجاء في الخبر أيضاً: «إذا كثرت ذنوب ابن آدم يثقل العرش على الحملة فيعلمون ذلك فيقولون: يا كريم العفو حتى يخف عنهم، وإذا قال العبد يا كريم، يقول: الله تعالى ماذا رأيت من كرمي وأنت في السجن، اصبر حتى ترى كرمي في الجنة. وحكي في كتاب «نرجس القلوب» : أن بعص الصديقين أصاب ذنباً فجاء إلى البحار وقال: أيتها البحار البعيدة غوراً، الكثيرة أمواجاً، قد أصبت ذنباً فهل تغيبوني عن الله ساعة واحدة، فأمر الله تعالى البحار أن تجيبه ما فيها موجة إلا وعليها ملك، فأتى الجبال فنادي أيتها الجبال الشامخة قد أصبت ذنباً فهل تغيبوني عن الله ساعة واحدة، فأمر الله الجبال أن تجيبه ما فيها صخرة وإلا عليها ملك، فجاء إلى الأشجار كذلك فنادته ما عليها ورقة إلا وعليها ملك، فبرز وقال: يا إلهي يا إلهي عذبني بما شئت وافعل فيّ ما شئت، فخرج النداء يا حبيبي لأسكنك جنتي. * * *

المجلس الثاني العشرون

المجلس الثاني العشرون في الكلام على باب «مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ» وبيان ما في حديثه من الفوائد واللطائف، وفي ذكر العزلة والخلطة وذكر أيهما أفضل قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» . قوله: «باب من الدين الفرار من الفتن» فإن قيل: لأي شيء قال: «من الدين» ولم يقل: «من الإيمان» كما قال في غيره من الأبواب؟ فالجواب: أنه قال ذلك مراعاة للفظ الحديث (¬1) حيث قال فيه: «يفر بدينه» وتعبيره - رضي الله عنه - بقوه من الدين مع أن الكتاب معقود للإيمان، يشعر بأن معناها كما أن الإيمان والإسلام عنده أيضاً بمعنى واحد، قال الله تعالى: ?إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ? [آل عمران: 19] . وقال الطيبي: اصطلحوا على ترادف الإيمان والإسلام ولا مشاحة في الاصطلاح. «حدثنا عبد الله بن مسلمة» هذا هو القعنبي الحارثي المدني البصري، منسوب إلى جده قعنب، سكن البصرة وأقام بالمدينة، وكان رضي الله عنه مجاب الدعوة، وأجمع العلماء على إمامته وإتقانه وثقته وجلالته وحفظه وصلاحه وورعه وزهده. قال أبو حاتم: لم أر أخشع منه. وقال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجل في عيني منه. وقيل: إن عبد الله القعبني قدم فقال: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض. وقيل له: حدثت ولم تكن تحدث فقال: رأيت كأن القيامة قد قامت فصيح: يا أهل العلم فقاموا فقمت معهم، فصاح بي: أجلس، فقلت: يا إلهي ألم أكن معهم أطلب؟ قال: بلى ولكنهم نشروا فحدثت. ¬

(¬1) قاله الحافظ ابن حجر في الفتح (1/147) وزاد: ولما كان الإيمان والإسلام مترادفين في عرف الشرع صح إطلاق الدين في موضع الإيمان.

روى عنه البخاري ومسلم فأكثرا، وكان - رضي الله عنه - حريصاً على سماع الحديث، رحل إلى البصرة ليسمع الحديث من شعبة، وكان شعبة إماماً فلما دخل البصرة صادف المجلس قد انقضى وقد انصرف شعبة إلى منزله، فحمله الحرص والشره إلى أن سأل عن منزل شعبة، فأرشد إليه فوجدا الباب مفتوحاً فدخل من غير استئذان فصادف شعبة جالساً على البالوعة فقال: السلام عليكم رجل غريب قدم من بلد بعيد لتحدثني بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستعظم ذلك شعبة فقال: يا هذا دخلت منزلي بغير إذني وتكلمني وأنا على مثل هذا الحال، تأخر عني واصبر على حتى أصلح من شأني، فأكثر عليه في الإلحاح وشعبة يخاطبه وذكره في يده يستبرئ فلما أكثر قال له اكتب: حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فافعل ما شئت» (¬1) ثم قال: والله لأحدثنك بهذا الحديث ولا حدثت قوماً تكون فيهم. ذكر هذه الحكاية عنه ابن جماعة في أنس المحاضرة وذكرها السخاوي في شرح ألفية الحديث في آداب طالب الحديث. وكانت وفاته سنة إحدى وعشرين ومائتين. «عن مالك» هذا هو إمام دار الهجرة إمام المسلمين، وقد قدمنا بعض فضائله التي لا تعد ولا تحد. «عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري» واسمه: سعد على الصحيح، وقيل: سنان، استصغر يوم أحد فرد، وغزى بعد ذلك اثنا عشر غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من الحفاظ المكثيرين، والعلماء العقلاء، وأحد نجباء الأنصار وعلمائهم مع حداثة سنه، بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا تأخذه في الله لومة لائم مع جماعة. ويقال له: «عفيف المسألة» لأنه عف فلم يسأل أحداً قط، ولما مات والده لم يترك له مالاً فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسأله فقال حين رآه: «من يستعن أعانه الله، ومن ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2268، رقم 5769) ، وأبو داود في سننه (4/252، رقم 4797) ، وابن ماجه في سننه (2/1400، رقم 4183) ، وأحمد في مسنده (4/121، رقم 17131) ، والطيالسي في مسنده (ص 86، رقم 621) ، وابن حبان في صحيحه (2/371، رقم 607) ، والبغوي في في الجعديات (1/130، رقم 819) ، والطبراني في المعجم الكبير (17/235، رقم 651) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/186، رقم 1153) عن أبي مسعود البدري.

يستعف أعفه الله» فقال: ما تريد غيري فرجع. وأبو سعيد الخدري صحابي بن صحابي وقتل والده يوم أحد ولم يرو عنه شيء كما قاله العسكري. «ودال» الخدري مهمله وهو منسوب إلى خدره أحد أجداده أو إحدى جداته. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث ومائة وسبعون حديثاً، روى البخاري منها اثنين وستين حديثاً، وبلغ من العمر أربعاً وسبعين سنة، وكانت وفاته بالمدينة سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة أربع وستين، ودفن بالبقيع. فائدة: اشتمل هذا الإسناد على لطيفة ظريفة وهي أن رجاله كلهم مدنيون. «عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (¬1) . قوله: «يوشك» بمعنى يقرب أي: كون خير مال المسلم غنم أشار - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث إلى أن الفتن تكثر في آخر الزمان، ويحل فساد كثير بين الناس فينبغي لمن يخاف على دينه من مخالطة أهل الشر والفساد، أن ينعزل عنهم في رؤوس الجبال وبطون الأودية، وأن يكون عنده أغنام يرعاها في هذه المواضع وينتفع بدرها ونسلها، وإنما ¬

(¬1) لخص الحافظ ابن حجر معناه في الفتح (1/148) فقال: قوله: «يوشك» بكسر الشين المعجمة أي: يقرب. قوله: «خير» بالنصب على الخبر، وغنم الاسم، وللأصيلي برفع خير ونصب غنماً على الخبرية، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر ويقدر في يكون ضمير الشأن قاله ابن مالك، لكن لم تجيء به الرواية. قوله: «يتبع» تشديد التاء ويجوز إسكانها. «وشعف» بفتح المعجمة والعين المهملة جمع شعفة كأكم وأكمة، وهي رؤوس الجبال. قوله: «ومواقع القطر» بالنصب عطفاً على شعف، أي: بطون الأودية، وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى. قوله: «يفر بدينه» أي: بسبب دينه. و «من» ابتدائية. قال الشيخ النووي: في الاستدلال بهذا الحديث للترجمة نظر، لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار ديناً، وإنما هو صيانة للدين، قال: فلعله لما رآه صيانة للدين أطلق عليه اسم الدين. وقال غيره: إن أريد بمن كونها جنسية أو تبعيضية فالنظر متجه، وإن أريد كونها ابتدائية أي: الفرار من الفتنة منشؤه الدين فلا يتجه النظر. ثم قال الحافظ: وهذا الحديث قد ساقه البخاري أيضاً في كتاب الفتن، وهو أليق المواضع به.

يفعل ذلك لأجل إحراز دينه وسلامته من الكدورات التي تحصل من خلطة الناس. وإنما خص - صلى الله عليه وسلم - الغنم بكونها خير مال المسلم لما فيها من السكينة والبركة. فائدة: الغنم اسم جنس لا واحد له من لفظه يقع على الذكر والأنثى، وهو صادق على الضأن والمعز واتفق العلماء على أن الضأن أفضل من المعز كما صرحوا بذلك في الأضحية فإنهم قالوا: الضأن في الأضحية أفضل من المعز. قال النووي في منهاجه: وأفضلها بعير ثم بقرة ثم ضأن ثم معز ولأن الله في كتابه العزيز بدأ يذكر الضأن فقال: ?مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ? [الأنعام: 143] وتقديم الشيء على غيره يدل على تفضيله عليه، فالبركة في الضأن أيضاً أكثر من البركة في المعز، فإن الضأن تلد في السنة مرة والمعز تلد مرتين وتثني وتثلث، والموجود من الضأن أكثر. أيضاً قالوا: إن الضأن إذا رعت شيئاً من الكلأ فإنه ينبت عوضه وإذا رعته المعز لا ينبت عوضه، ولحم الضأن أطيب وانفع من لحم المعز. قال في الطب النبوي: إن أكل لحم المعز يحرك السوداء ويورث النسيان والدم ويورث الهم ويخبل الأولاد، وهو قليل الحرارة يابس وخلطة المتولد منه ليس بفاضل وليس يجيد الهضم ولا محمود الغذاء، ولحم التيس شديد اليبس مطلقاً، ولا سيما المسن فيه، وإناث الماعز أنفع من ذكوره، بخلاف الضأن فإنه حار رطب يولد الدم المحمود القوي، يصلح لإخصاب الأفرجه الباردة والمعتدلة، ولأهل الرياضيات التامة في المواضع والفصول الباردة، يقوي الذهن والحفظ وأجوده لحم الذكر الأسود، فإنه أخف وألذ وأنفع، والخصي أنفع من غيره، والأيمن من الحيوانات أخف وأجود من الأيسر والمقدم أفضل من المؤخر. ففي الحديث دلالة على أن اقتناء الغنم أفضل من اقتناء غيرها لبركتها أو كثرة نفعها، فإذا أراد الإنسان أن يقتني شيئاً من الحيوانات لينتفع به فاقتناء الغنم أفضل من اقتناء الإبل والخيل وغيرهما، ويدل ذلك ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: افتخر أهل الإبل والغنم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: «السكينة والوقار في أهل الغنم والفخر والخيلاء في أهل الإبل» (¬1) ، وفي رواية: «في أهل الخيل والوبر» (¬2) . ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (4/1594، رقم 4127) ، ومسلم في صحيحه (1/73، رقم 52) من حديث أبي هريرة. (¬2) هذه الرواية عند مسلم في الصحيح (1/72، رقم 53) ، وأحمد في مسنده (2/450، رقم 9812) ، وابن حبان في صحيحه (16/280، رقم 7291) ، وأبو يعلى في مسنده (11/226، رقم 6340) ، وابن منده في الإيمان (1/524، رقم 428) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/101، رقم 4280) عن أبي هريرة.

أراد - صلى الله عليه وسلم - «بالسكينة» السكون، «والوقار» التواضع، «وبالفخر» التفاخر بكثرة الأموال والجاه وغير ذلك من مراتب أهل الدنيا، «والخيلاء» التكبر والتعاظم. والمعنى: أن الوقار والسكينة والتواضع غالباً يوجد في أهل الغنم، وأن التكبر والتفاخر غالباً يوجد في أهل الإبل والخيل، وقد ينعكس الحال. فائدة أخرى: لا نقص ولا عيب في رعي الأغنام فقد رعاها الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم، لأنها سهلة الانقياد، خفيفة المؤن، كثيرة النفع، وروينا في هذا الصحيح وسنن ابن ماجه واللفظ له عن أبي هريرة - رضي الله عنه - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم» فقال: له أصحابه وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بقراريط» (¬1) يعني كل شاة بقيراط. والمراد: أنه رعاها - صلى الله عليه وسلم - بالأجرة كل شاة بقيراط، وهي جزء الدرهم، وقيل: المراد بالقراريط في الحديث اسم مكان وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما رعى بالأجرة قط. قال الحربي: وهو الصحيح. قال ابن الجوزي: عن أبي إسحاق والواقدي أن عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رعى الغنم كان عشرين سنة. وفي غريب الحديث للقتبي: «بعث موسى عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم، وبعث داود عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم أهلي بأجياد» (¬2) . فقد رعى الأغنام نبينا محمد عليه الصلاة وأتم التسليم في صغره أيضاً، فقد قال ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (2/789، رقم 2143) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/125) ، والرافعي في التدوين (2/288) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 0 (17/84) من طريقل أبي إسحاق عن نصر بن حزن قال: افتخر أهل الإبل والغنم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره. وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/126) عن أبي إسحاق قال كان بين أصحاب الغنم وبين أصحاب الإبل تنازع فاستطال عليهم أصحاب الإبل قال: فبلغنا والله أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. ورواه أيضاً: الفاكهي في أخبار مكة (4/11، رقم 2305) .

النووي: وإنما جعل الله الرعي في الأنبياء تقدمة لهم ليكونوا رعاة الخلق وليكون أممهم رعايا لهم. وأفاد بعض العلماء: قال بعضهم: إنما رعوا الأغنام لأنهم إذا خالطوا الغنم زاد حلمهم وشفقتهم، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان عند مرضعته رضي الله عنها في السنة الرابعة قال: «يا أماه ما لي لا أرى أخوتي في الحي نهاراً» . وأراد بهم إخوته من الرضاعة، وإخوته من الرضاعة اسم جماعة وهم: ابن ثويبة، وعمه حمزة وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمه وصاحبه أبو سلمه وأولاد حليمة، وأما سيدنا مدرك الصحابي المدفون بقرب قرية حجيرا من غوطة دمشق فليس بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخوة من الرضاعة ولكن الناس يغلطون في ذلك كثيراً كما نبه عليه بعض العلماء. فلما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما لي لا أرى أخوتي في الحي نهاراً» قالت له: إنهم يرعون الأغنام فقال: دعيني أخرج معهم فأخذ عصاة ومزودة وخرج معهم لرعي الأغنام، قالت حليمة: وغاب - صلى الله عليه وسلم - يومه ذلك، فأقبل وقت المساء وقد سبقته الأنوار، والأغنام تلوذ به وتقبل أقدامه. وكان في الغنم شاة رماها أخوه «ضمرة» بحجر فكسر ساقه، فجعلت تلوذ به كالشاكية فقبض يده الكريمة علهيا فكأن الوجع لم يكن. ثم قالت حليمة لولدها: كيف وجدت أخاك القرشي؟ قال: يا أماه ما مر بحجر ولا مدر ولا شجر ولا سهل ولا جبل ولا وحش ولا طير إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله، وإذا نام في الشمس تأتي غمامة تظله، والوحوش تأتي إليه تقبل أقدامه، وإذا مشي في الرمل فالأثر لا يبين، وإذا مشي في الصخر يكون تحت قدميه كالعجين، وإذا استقينا من بئر فار الماء من أعلاه. قال: ولقد دخلنا إلى وادي الوحوش فإذا نحن بسبع عظيم قد جمع نفسه ليشب علينا، فلما نظر إلى أخينا محمد - صلى الله عليه وسلم - خضع له ورمى نفسه على الأرض وتكلم بكلام فصيح، وقال: السلام عليك يا محمد فتقدم إليه محمد وكلمه في أذنه فذهب الأسد يعدو. وفي رواية: قال ضمرة: إن أسداً عظيماً انحدر عليه فأخذ شاة وصعد بها إلى الجبل فلحق أخي محمد فأخذ الشاة منه ثم فتل أذنه وسار، وإذ الأسد يقبل أقدامه ثم انصرف.

وعدنا إلى المرعى فلما كان بعد ساعة أتى إلينا أسد آخر فنفرت الأغنام منه فضرب ثلاث شياه فكسرها، فلما رآها أخي القرشي مسح بيده على ظهورها فانجبرت، وأما الأغنام فإن أمرها بالمسير سارت وإن أمرها بالوقوف وقفت. قالت حليمة: وحصل عندنا في الحي ضجة عظيمة فقلت ما الخبر قالوا: غلام وقع في البئر ولم يقدروا على إخراجه، فجاء ولدي محمد إلى جانب البئر ومد يده فطف الماء فقبض على الغلام ونشله فإذا هو خارج البئر، فتعجب الناس من فعله وتعجبت فقال لي: يا أماه لا تعجبي كيف أنشلهم من الآبار بل تعجبي وأنا أنقذتهم غداً من النار. وقالت حليمة رضي الله عنها: أجلست ولدي محمد تحت شجرة وقت رضاعة فتعلق ببعض الشجرة فاخضرت الشجرة بلمسه إياها - صلى الله عليه وسلم -، وكان إذا أصاب أحداً من وجع أمر يده المباركة عليها فيبرأ من ساعته، وإذا انقطع الغيث يتوسلون به فيمطرون في وقتهم وساعتهم. وقد رعاها كثير من الأولياء والصالحين من الرجال والنساء اقتداء بالأنبياء ولبركتها وخفة مؤنتها. قال عبد الواحد بن زيد: سألت الله ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة فقيل لي: يا عبد الواحد رفيقك ميمونة السوداء، فقلت: وأين هي؟ فقيل: في بني فلان في الكوفة فذهبت إلى الكوفة أسأل عنها فإذا هي ترعى غنماً، فأتيت إليها فإذا غنمها ترعى بين الذئاب وهي قائمة تصلي، فلما فرغت من صلاتها قالت لي: يا ابن زيد ليس هذا الموعد إنما الموعد في الجنة، فقلت لها: وما أدراك أني زيد؟ قالت: أما علمت أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، قلت لها: عظيني، فقالت: يا عجباً لواعظ يوعظ، قلت لها: ما لي أرى أغنامك بين الذئاب؟ قالت: إني أصلحت ما بيني وبين الله فأصلح الله ما بين غنمي والذئاب. لطيفة: اتفق من الغرائب أن موسى بن عمران عليه الصلاة السلام اجتاز بعين ماء في سفح جبل فتوضأ منها، ثم ارتقى على الجبل ليصلي، إذ أقبل فارس فشرب من ماء العين وترك عندها كيساً فيه دراهم، فجاء بعده راعي الغنم فرأى الكيس فأخذه ومضى، ثم جاء بعده شيخ عليه أثر البؤس وعلى رأسه حزمة حطب فوضعها هناك واستلقى يستريح، فما كان إلا قليلاً حتى عاد الفارس يطلب كيسه فلم يجده، فأقبل على الشيخ يطالبه به ولم يزل يضربه حتى قتله، فقال موسى: يا رب كيف العدل في

هذه الأمور؟ فأوحى الله تعالى إليه أن الشيخ كان قد قتل أبا الفارس، وكان على أبي الفارس دين لأبي الراعي مقدار ما في الكيس، فجرى بينهما القصاص ووقضي الدين وأنا حكم عادل. وقوله: «يبيع بها» أي: بالغنم. «شعف الجبال» أي: رؤوس الجبال. «ومواقع القطر» أي: بطون الأودية والصحاري، وخص هذه المواضع بالذكر لأنها مظان المرعى. وقال البرماوي: وذكر هذه المواضع لما فيها من الخلوة لأنها أسلم غالباً من الكدر، فإنها مواضع خالية من ازدحام الناس ومن المقاولات المؤدية إلى الكدورات. وقوله: «يفر بدينه من الفتن» أي: فر مما يفتنه في دينه. في هذا الحديث فوائد كثيرة: منها: فيه دلالة على فضل العزلة في أيام الفتن لأجل إحراز الدين، ولئلا تقع عقوبة فتعم، فإن العقوبة قد تعم العاصي والطائع، ويهلك الله الطائع بذنب العاصي، فقد ورد في هذا حديث: أن زينب قالت: أنهلك وفينا الصالحون قال: «نعم إذا كثر الخبث» (¬1) . ويروى أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول: يا رب كيف تعذب عبادك بذنب رجل واحد؟ فأمهله الله حتى جلس تحت شجرة، فلذغتة نملة فأحرق جميع النمل، فأوحى الله إليه هلا نملة واحدة أي: هلا أحرقت نملة واحدة وهي التي لذغتة فكيف أحرقت غيرها معها بلا موجب، فأراه ذلك في النملة ليعلم أن العقوبة تعم العاصي والطائع، فإذا انعزل الإنسان سلم، اللهم إلا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة فإنه يجب عليه السعي في إزالتها إما فرض عين أو فرض كفاية بحسب المال والمكان. ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/1317، رقم 3403) من طريق الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان حدثتها عن زينب بنت جحش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعاً يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعه وبالتي تليها فقالت زينب ... فذكره» . والحديث عند مسلم في صحيحه (4/2207، رقم 2880) .

وأما في غير أيام الفتنة فقد اختلف العلماء في العزلة والخلطة بالناس أيهما أفضل؟ فذهب الإمام الشافعي والأكثرون إلى تفضيل الخلطة، لما فيها من اكتساب الفوائد، وشهود الشعائر، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال الخير إليهم بعيادة المرضى وتشييع الجنائز، وإفشاء السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وإغاثة المحتاج، وحضور جماعاتهم في الجمعة وباقي الصلوات، والاجتماع في الوقوف عرفات وغير ذلك مما يقدر عليه كل أحد. واهتمام الشارع - صلى الله عليه وسلم - بالاجتماع والخلطة معلوم، ولهذا قال الفقهاء: يجوز نقل اللقيط من البادية إلى القرية ومن القرية إلى البلد ولا يجوز العكس، فإن كان الإنسان صاحب علم أو زاهد ونحو ذلك تأكد في حقه فضل اختلاطه بالناس. وذهب جماعة آخرون إلى تفصيل العزلة لما فيها من السلامة المحققة لكن بشرط أن يكون عارفاً بوظائف العبادة التي تلزمه وما يكلف به، قد ورد في فضل العزلة أحاديث وأخبار روينا في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي» (¬1) والمراد: «بالغني» عن النفس، «وبالخفي» المنعزل عن الناس. وقيل: يا رسول الله أي: الناس خير قال: «رجل يجاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره» (¬2) . وعن عقبة بن عامر (¬3) - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك» (¬4) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان القابض فيهم على دينه كالقابض على ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2277، رقم 2965) عن عامر بن سعد قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم، فضرب سعد في صدره فقال أسكت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (1/177، رقم 1529) ، والبزار في مسنده (4/27، رقم 1188) ، وأبو يعلى في مسنده (2/85، رقم 736) ، والدورقي في مسند سعد (ص 49، رقم 18) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/296، رقم 10370) . (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/1026، رقم 2634) ، ومسلم في صحيحه (3/1503، رقم 1888) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) هو: عقبة بن عامر بن عبس بن مالك الجهني، أمير من الصحابة، كان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد صفين مع معاوية، وحضر فتح مصر مع عمرو بن العاص، وولي مصر سنة 44هـ‍، وعزل عنها سنة 47هـ‍، وولي غزو البحر، ومات بمصر سنة: 58هـ‍، كان شجاعاً فقيهاً شاعراً قارئاً، من الرماة، وهو أحد من جمع القرآن، له 55 حديثاً. (¬4) أخرجه الترمذي في سننه (4/605، رقم 2406) وحسنه، وقد مر تخريجه.

الجمر» (¬1) . وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: كفى بالله محباً، وبالقرآن مؤنساً، وبالموت واعظاً، اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً. وقال الحسن رحمه الله: كلمات احفظهن من التوراة: «قنع ابن آدم فاستغنى، واعتزل الناس فسلم، وترك الشهوات فصار حراً، وترك الحسد فظهرت مروءته، وصبرقليلاً فتمتع طويلاً» . ودخل بعض الأمراء على حاتم الأصم فقال: ألك حاجة؟ قال: نعم لا تراني ولا أراك. وقال الغزالي رحمه الله: كل من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راياهم، ومن راياهم وقع فيما وقعوا فيه وهلك كما هلكوا. وقال الإمام الشافعي رحمه الله ليونس بن عبد الأعلى: يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط. وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين، فكيف المشهودين، هذا زمان سوء ينتقل فيه الرجل من قرية إلى قرية، يفر بدينه من الفتن. وقال الفضيل بن عياض: هذا زمان سوء، احفظ لسانك، واخف مكانك، وعالج قلبك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر. وقال سفيان الثوري: هذا زمان السكوت، ولزوم البيوت، والرضا بالقوت، إلى أن تموت. وقال داود الطائي: صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة، وفر من الناس فرارك من الأسد وأنشدو في العزلة: هذا الزمان الذي كنا نحاذره ... في قول كعب وفي قول ابن مسعود دهر به الحق مردود بأجمعه ... والظلم والبغي فيه غير مردود إن دام هذا ولم يحدث له خير ... لم يبك ميت ولم يفرح بمولود ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (4/526، رقم 2260) عن أنس بن مالك، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقال بعضهم: ومازلت مذ لاح المشيب بمفرقي ... أفتش عن هذا الورى وأكشف فما إن عرفت الناس إلا ذمتهم ... جزى الله خيراً كل من لست أعرف وقال آخر: وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور ولست بسائل ما دمت حياً ... أسار الجيش أم ركب الأمير وهذا الحديث علم من أعلام نبوته إذا أخبر فيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يكون في آخر الزمان فتن وفساد بين الناس، فالأولى والأحسن أن يكون عند الإنسان غنم يرعاها في رؤوس الجبال وبطون الأودية والصحاري، للجمع بين الرفق والربح، ويصون عليه دينه، وقد وقع كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - فكم من فتن في هذه الأزمان وقبلها، وسنقع أيضاً في غيرها، وكم أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن أمور مستقبلة فوقعت كما أخبر. نقل ابن الجوزي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه، ينفلت الدين من أمتي كما ينفلت السهم من القوس» قالوا: في أي زمن ذلك يا رسول الله؟ قال: «إذا قطعوا أرحامهم، وتدابروا، وأكلوا الربا علاينة، وفشت فيهم الفواحش، وأكلوا الأمانات، وأظهروا الرياء والسمعة، وحرصوا على الدنيا حتى لا يهمهم غيرها، ويظهر المنكر حتى أن الرجل ليمر بالقوم فيرى من المنكر ما يغيظه فلا يقدر أن يغيره، وإن غير استطال فاعله عليه، عند ذلك يقع الموت في العلماء، فلا ترى عالماً، ثم تنزع الرحمة من قلوبهم، ويندرس العلم والحكمة بينهم، فلا يطلبها طالب، وتقل مكاسب الحلال، وتكثر مكاسب الحرام، ويمنعون الزكاة، ويقل نبات الأرض وتغلوا الأسعار، وتهلك الثمرات، وتموج الناس كالبهائم، وتقل صدقاتهم، وتقسو قلوبهم ... الحديث» . ولله در القائل من قال: يا نفس دعي الدنيا التي ... قرن الحرص بها والشره وألزمي النسك فما أربحه ... ودعي الغي فما أخسره أي عذر في التصابي لامرئ ... فاقد من عمره أكثره أي عذر فلا تقبله ... قتل الإنسان ما أكفره فتعين في هذا الزمان الانعزال عن الناس إلا لضرورة بالغة، تحوجه إلى الاختلاط

بهم ويسلم من ضرهم، كتعلم ما ينفعه في دينه ودنياه، واكتساب ما يحتاج إليه من أمور المعاش والقوت، فيختلط بقدرها، وينعزل عنهم ليسلم من شرهم، وهذا لا يقع إلا لبعض الخواص الذي حصلت له عناية من مولاه. وقد نقل عن كثير من السلف الصالح أنهم انعزلوا عن الناس وتركوا أهلهم وأوطانهم وماتوا غرباً. كما حكي عن بعض الساده أنه قال: كنت أسكن بغداد، وكان لي بها دويرة، احتجت لبناء حائط سقط منها، فخرجت إلى موقف البنائين لأنظر رجلاً يعمل فيه، قال: فوقعت عيني على شاب نحيف، ذي وجه نظيف، فجئت إليه ووقفت عليه، وقلت: يا حبيبي أتريد الخدمة؟ قال لي: نعم، ثم قال: أعمل عندك ولكن بشروط أشرطها عليك، قلت: حبيبي وما هي؟ قال: الأجرة درهم ودانق، قال: وإذا أذن المؤذن تركني حتى أصلي مع الجماعة، قلت: نعم، قال: فانصرف معي إلى المنزل، فخدم خدمة لم أر مثلها، وذكرت له الغداء فقال: لا فعلمت أنه صائم، قال: فلما سمع الأذان قال لي: الشرط، قلت: نعم، قال: فحل حزامه وتفرغ للوضوء فتوضأ ما رأيت أحسن منه ثم خرج إلى الصلاة فصلى مع الجماعة، ثم عاد ورجع إلى الخدمة إلى أن سمع المؤذن من العصر، فقال لي: الشرط فخرج وصلى مع الجماعة، ثم رجع إلى الخدمة، فقلت: حبيبي إنما خدمة البنائين إلى العصر، فقال: سبحان الله إنما خدمتي إلى الليل، قال: فخدم إلى المغرب فأعطيته درهمين فلما رآها قال: ما هذا؟ قلت: والله هي بعض أجرتك ولاجتهادك في خدمتك، فرما بها إلىّ وقال: لا أزيد على ما اشترطه بيني وبينك شيئاً، فرغبته فلم أقدر عليه فأعطيته درهماً ودانقاً وسار. فلما كان من الغد بكرة إلى الموقف فلم أجده فسألت عنه فقيل لي: إنه لا يأتي هاهنا إلا من سبت إلى سبت، قال: فتعلق به قلبي وقلت لا أعمل شيئاً إلى يوم السبت، فلما كان يوم السبت آتيته فوجدته فقلت: بسم الله فقال: على الشروط التي تعلمها، قلت: نعم، قال: فأخذته فخدم يومه ذلك وزاد فيه على ما تقدم، فلما كان الليل دفعت له أجرته فأخذها وسار. فلما كان السبت الثالث جئت إلى الموقف فلم أجده فسألت عنه فقيل لي: هو مريض في خيمة فلانه، وكانت المذكورة عجوزاً لها خيمة قصب بالجبانة مشهورة بالصلاح، قال: فسرت إلى الخيمة ودخلت عليه فإذا هو مضطجع على الأرض ليس تحت شيء، وتحت رأسه صخرة فسلمت عليه فرد عليّ السلام، فقعدت عند رأسه

أبكي لغربته وصغر سنه ثم قلت: ألك حاجة؟ قال: نعم، قلت: وما هي؟ قال: إذا كان في غد تصل إلى هاهنا عند الضحى تجدني ميتاً، فتغسلني وتحفر قبري ولا تعلم بذلك أحداً، وتكفنني في هذه الجبة التي عليّ بعد ما تفتق جيبها وتخرج ما فيه وتمسكه عندك، فإذا صليت عليّ وواريتني في التراب إذهب إلى هارون الرشيد وادفع له ما تجده في الجيب وتقرئ عليه مني السلام. شعر في المعنى: بلغ أمانة من وفيت منيته ... إلى الرشيد فإن الأجر في ذاكا وقل غريب له شوق لرؤيتكم ... على تمادي الهوى والبعد لباكا ما صد عنك كره ولا ملك ... لأن قربته في لثم يمناكا وإنما أبعدتي عنك يا أبتي ... نفس لها عفة من نيل دنياكا إن فاتني الجمع في دار الدنا بكم ... فإننا نلتقي في يوم أخراكا قال: فلما كان من الغد وصلت إلى الخيمة عند الضحى فوجدته قد مات رحمه الله، فحفرت قبره بيدي وغسلته ثم فتقت جيبيه فإذا في جيبه ياقوته تساوي آلاف من الدنانير، فقلت: لقد زهد هذا في الدنيا، قال: فدفنته وصرت أرتقب خروج هارون الرشيد إلى أن خرج فتعرضت له في الطريق ورفعت له الياقوته فعرفها فلما رآها خر مغشياً عليه، فأمسك بي خدمته فأفاق، وقال: خلوا عنه فخلى سبيلي فقال بعد ما أخذني إلى قصره وأدخلني بيته: يا أخي ما فعل صاحب هذه الياقوتة؟ فقلت: إنه قد مات فوصفت له حاله فجعل يصيح: انتفع الولد وخاب الوالد، ثم نادى يا فلانة فخرجت امرأة فلما رأتني أرادت أن ترجع فقال لها: ما عليك منه؟ فسلمت ودخلت فرمى لها الياقوتة فصاحت صحية عظيمة وغشي عليها وقالت: يا أمير المؤمنين ما فعل ولدي؟ فقال لي: صف لها حاله فوصفت لها قصته، فجعلت تبكي وتقول وتصيح: ما أشوقني إلى لقائك يا قرة عيني، يا ليتني كنت عندك حتى أسقيك إذ لم تجد ساقياً، وأونسك إذا لم تجد مؤنساً. شعر: أبكي غريباً أتاه الموت منفرداً ... لم يلق ألفاً له يبكي الذي وجدا من بعد عز وشمل كان مجتمعاً ... أضحى فريداً وحيداً لا يرى أحدا يبني إلى الناس من الأيام تخلقه ... والرب يبني ما يبقى له أبدا

يا غائباً قد قضى مولاي فرقته ... فصار مني بعد القرب مبتعدا إن أنيس الموت من لقياك ياولدي ... فصار مني بعد الموت مبتعدا فقال لي أمير المؤمنين: يا أخي هذا ولدي وكان معي قبل ولايتي الملك، يزور العلماء ويجالس الصالحين، فلما وليت الملك نفر عني وتباعد، وطلب العزلة، فقلت: لأمه هذا ولدي منقطع إلى الله تعالى، ولابد من أن تصيبه الشدائد، ادفعي له هذه الياقوتة ليجدها وقت الاحتياج إليها فدفعتها إليه، وعزمت عليه أن يمسكها فغاب عنا حديثه إلى أن رمى إلينا دنيانا، ولقى الله عز وجل تقياً نقياً، ثم قال يا أخي: أرني قبره فخرجت معه إليه فبكى طويلاً عليه، فسألني الصحبة فقلت يا أمير المؤمنين لي في ولدك عظة وعبرة. شعر في المعنى: أنا الغريب فلا آوي إلى أحد ... أنا الغريب وإن أمسيت في بلدي أنا الغريب فلا أهل ولا ولد ... وليس لي أحد يأوي إلى أحد هكذا هذه الحكاية في زهر الكمام، ونقلها في صفوة الصفوة على وجه آخر، قال: إنه أصح الأوجه المروية، وبين وجهاً آخراً بعده خلاف ما ذكره صاحب زهر الكمام، وبين أن اسم هذا الشاب كان «أحمد» وإنه مشهور «بالسبتي» . * * *

المجلس الثالث والعشرين

المجلس الثالث والعشرين في الكلام على باب: قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ» وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ? وذكر ما فيها من الفوائد واللطائف قَالَ البُخَارِي: «باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أعلمكم بالله» (¬1) وأن المعرفة (¬2) فعل القلب لقول الله (¬3) ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ?» . قيل: قصد البخاري بهذه الترجمة الرد على الكرامية في قولهم: إن الإيمان قول باللسان ولا يشترط عقد القلب، واستدل على بطلان قولهم بالآية، وهي: ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ? [البقرة: 225] أي: بما استقر فيها. فإن الآية وإن وردت في «الأيمان» بفتح الهمزة، فالاستدلال بها في «الإيمان» بكسر الهمزة واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة بينهما على مدار القلب، وقيل: قصد بالترجمة بيان تفاوت درجات الناس في العلم بالله، وإن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه في أعلى الدرجات (¬4) . ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قوله: «أنا أعلمكم» كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه. وفي رواية الأصيلي: «أعرفكم» وكأنه مذكور بالمعنى حملاً على ترادفهما هنا، وهو ظاهر هنا وعليه عمل البخاري. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قوله: «وأن المعرفة» بفتح أن والتقدير: باب بيان أن المعرفة. وورد بكسرها وتوجيهه ظاهر، وقال الكرماني: هو خلاف الرواية والدراية. (¬3) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قوله: «لقوله تعالى» مراده الاستدلال بهذه الآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه والاعتقاد فعل القلب. (¬4) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : وقوله: «بما كسبت قلوبكم» أي: بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان بالفتح فالاستدلال بها في الإيمان بالكسر واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب. وكأن البخاري لمح بتفسير زيد بن أسلم، فإنه في قوله تعالى ?لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ? [المائدة: 89] قال: هو كقول الرجل إن فعلت كذا فأنا كافر، قال: لا يؤاخذه الله بذلك حتى يعقد به قلبه، فظهرت المناسبة بين الآية والحديث، وظهر وجه دخولهما في مباحث الإيمان، فإن فيه دليلاً على بطلان قول الكرامية: إن الإيمان قول فقط، ودليلا على زيادة الإيمان ونقصانه لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أعلمكم بالله» ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقاً. ثم أتى الحافظ بفائدة عن النووي فقال: قال النووي: في الآية دليل على المذهب الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل» فمحمول على ما إذا لم تستقر. قلت: ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله: «أو تعمل» لأن الاعتقاد هو عمل القلب.

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ كَانَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ قَالُوا إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ: «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا» . إنما كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر الناس من الأعمال بما يطيقون الدوام عليه، شفقة عليهم ورفقاً بهم ورحمة لهم، لئلا يتجاوز طاقتهم فيعجزوا، وخير العمل مادام وإن قل، وإذا حملوا ما لا يطيقونه تركوه أو بعضه بعد ذلك، فصاروا في صورة ناقضي العهد والراجعين عن عادة جميلة، واللائق بطالب الآخرة الترقي وإلا فالبقاء على حاله، ولأن الإنسان إذا اعتاد من الطاعة ما يمكنه الدوام عليه دخل فيها بانشراح واستلذذ، ونشاط لا يلحق ملل، وقد ذم الله من اعتاد عبادة ثم فرط بقوله: ?وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ? [الحديد: 27] . وإنما قالوا: «لسنا كهيئتك» أي: كمثلك يا رسول الله ليأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزيادة من الأعمال رغبة في الخير، فإنهم كانوا يشاهدونه - صلى الله عليه وسلم - يدأب في العبادة ويجتهد فيها مع أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكأنهم يقولون: أنت مغفور لك ما تحتاج إلى عمل، ومع ذلك مواظب على الأعمال فكيف بنا وذنوبنا كثيرة، فأمرنا بالزيادة من العمل عليك يا رسول الله، فكان إذا قالوا له هذا القول يغضب من قولهم حتى يعرفوا الغضب في وجهه، ويرد عليهم ويقول لهم: أنا أولى بالعمل لأني أعلمكم وأتقاكم وأخشاكم لله. وقولهم: «إن الله قد غفر ما تقدم من ذنبك وما تأخر» من قول الله تعالى: ?لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً

مُّسْتَقِيماً? [الفتح: 2] . وقد استشكل العلماء ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الذنوب والكبائر قبل النبوة وبعدها عمداً وسهواً، وكذا سائر الأنبياء، فما ذنبه الذي غفر له؟ وللعلماء في هذه الآية أقوال بعضها مقبول وبعضها مردود: والقول الأول: المراد ليغفر لك الله الذنب الذي كان قبل النبوة، فهذا مردود لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم قبل النبوة وبعدها. الثاني: ليغفر لأبويك آدم وحواء، وهذا مردود أيضاً لأن آدم معصوم لا ينسب إليه ذنب، وذنوب أمته كلها لم تغفر بل منهم من يغفر له، ومنهم من لا يغفر له. وأحسن ما يقال في الجواب: أنه تعالى قصد بهذه الآية تشريف النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يكون هناك ذنب، فأخبره الله - عز وجل - أنه قد غفر له من ذنبه وما تأخر، وإن لم يكن ذنب، تشريف له - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً لمقامه الكريم، ولم يخبر أحداً من الأنبياء بمثل ذلك إظهاراً لشرفة عليهم. وقد قال المحققون جواباً آخر: وهو أن المغفرة هنا كناية عن العصمة، فمعنى: ?لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ? ليعصمك الله فيما ما تقدم من عمرك وفيما تأخر منه، وهذا القول في غاية الحسن وإلي هذا الجواب أشار البرماوي بقوله: والصواب أن معنى الغفران للأنبياء الإحالة بين الأنبياء وبين الذنوب، فلا يصدر منهم ذنب لأن الغفر: هو الستر، فالستر إما بين العبد والذنب، وإما بين الذنب وعقوبته، فاللائق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام القسم الأول، واللائق بالأمم القسم الثاني. فائدة: يأتي نظير هذا الإشكال في الحديث الوارد في هذا الصحيح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة» (¬1) . وفي الحديث الوارد في صحيح مسلم عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2324، رقم 5948) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/114، رقم 10268) ، وابن ماجه في سننه (2/1254، رقم 3815) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/172، رقم 35071) ، والديلمي في الفردوس (1/56، رقم 154) جميعاً عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2075، رقم 2702) عن الأغر وفيه سمعت ابن عمر يحدث ... فذكره. وأخرجه أيضاً: البخاري في الأدب المفرد (ص: 218، رقم 621) . ورواه عن الأغر بدون ذكر ابن عمر، النسائي في السنن الكبرى (6/116، رقم 10280) ، وأحمد في مسنده (4/211، رقم 17880) ، وابن حبان في صحيحه (3/209، رقم 929) ، والطبراني في المعجم الكبير (1/301، رقم 882) ، والروياني في مسنده (2/468، رقم 1489) والطيالسي في مسنده (ص 166، رقم 1202) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/349) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (6/49) .

وفي الحديث الوارد في أبي داود الترمذي وصححه وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مائة مرة: «رب اغفر ليّ، وتب علىّ إنك أنت التواب الرحيم» (¬1) . فإنه يقال: التوبة والاستغفار يقتضيان الذنب، وهو في الرتب العليا من العصمة - صلى الله عليه وسلم - وأجابوا عن هذا: بأن توبته واستغفاره - صلى الله عليه وسلم - ليسا عن ذنب وإنما توبته الرجوع إلى مولاه في ستر ما استقصره من الشكر بالنسبة إلى ما ارتقى إليه من المقامات الأكملية، فإنه عليه أفضل الصلاة والسلام كلما بدا له من جلال الله وكبريائه قدراً، كان مرتقياً من كمال إلى أكمل فيستقصر بنظره إليه مما هو فيه من القيام بشكر الله تعالى على تلك الإنعامات العظيمة وطاعته، فيرجع إلى الاعتصام به تعالى ويطلب الستر لما ظهر من قصور الشكر. وفي الحديث فوائد: الأولى: أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية والغرف العلية، فإنها ترفع الدرجات وتمحوا عنه الخطيئات. الثانية: أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها كان ذلك ادعى إلى المواظبة عليها، استبقاء للنعمة واستزادة لها بالشكر عليها. الثالثة: فيه من الفوائد أنه ينبغي للإنسان أن يقف عند ما حد الشارع من عزيمته ورخصته، وأن يأخذ من العمل بالأرفق الموافق للشرع، وهو أولى من أن يأخذ بالأشق المخالف. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (5/494، رقم 3434) ، وأبو داود في سننه (2/85، رقم 1516) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/119، رقم 10292) ، وأحمد في المسند (2/21، رقم 4726) ، وابن حبان في صحيحه (3/206، رقم 927) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 251، رقم 786) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/438، رقم 641) عن ابن عمر.

والرابعة: أن الأولى في العبادة القصد، والملازمة لا المبالغة المقتضية إلى الترك، فقد ورد في حديث آخر «المنبت» أي: المجد في السير «لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى» (¬1) . الخامسة: فيه دلالة وتنبيه على فضل الصحابة وشدة رغبتهم في العبادة وطلبهم الازدياد وفعل الخير. السادسة: فيه مشروعية الغضب عند مخالفته الأمر الشرعي، والإنكار على مرتكب ذلك، وإن كان صادقاً متأهلاً لفهم المعنى تحريضاً على التيقظ. السابعة: فيه دليل على جواز تحدث المرء بما فيه من فضل، بحسب الحاجة لذلك، عند الأمن من المباهاة والتعاظم، خصوصاً إذ دخل إلى بلد لا يعرف فيها. لطيفة: كان دانيال - عليه السلام - عارفاً بالطب، فأراد أن يظهر نفسه لملك زمانه، فأمر طباخه أن يزيد دانقاً في ملح الطعام على القدر المحتاج إليه، ففعل ذلك فضعف نظر الخليفة، فسأل دانيال عن ذلك فقال: إن الطباخ زاد في ملح الطعام فسأله فقال: نعم، قال: ولم فعلت ذلك قال أمرني دانيال بذلك، فسأله فقال: نعم، لأنك لم تحتج إلى علمي فأردت أن أجعلك تحتاج إليه. الثامنة: فيه من الفوائد أن الصالح ينبغي له أن لا يترك اجتهاده في العمل اعتماداً على صلاحه، فانظر إلى سيد الصالحين ورسول رب العالمين كيف كان اجتهاده في العمل - صلى الله عليه وسلم -. التاسعة: في دلالة وحث على العمل الصالح وعلى المداومة عليه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله» (¬2) رواه الترمذي في سننه. وفي صحيح مسلم عن أبي عبد الله ثوبان مولى الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد سجدة إلا رفعك الله بها ¬

(¬1) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2/184، رقم 1147) ، والرافعي في التدوين (1/238) . ورواه البزار كما في مجمع الزوائد (1/62) جميعاً عن جابر. قال الهيثمي: وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب، وهو في السند عند الجميع. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه (4/565، رقم 2329) عن عبد الله بن بسر أن أعرابياً قال: يا رسول الله من خير الناس؟ ... فذكره. قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة وجابر، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

درجة، وحط بها عنك خطيئة» (¬1) . وفي الصحيحين عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يتبع الميت ثلاث أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله» (¬2) . وفي مسند أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سألت ربي أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح عند الأمم، فأوحى الله إلي: يا محمد بل أنا أحاسبهم فإن كان منهم زلة سترناها عنك حتى لا يفتضح عبدي عندك، ولا يحزن قلبك» . وقالت عائشة: نظرت يوماً إلى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته فرحاناً مسروراً فسألته فقال: «يا عائشة سئلت ربي في أبناء الأربعين فقال: يا محمد قد غفرت لهم، فقلت: فأنباء الخمسين قال: إني غفرت لهم، قلت: فأبناء الستين قال: قد غفرت لهم، قلت: فأبناء السبعين، قال: يا محمد إني لأستحي من عبدي إذا عمرته سبعين سنة يعبدني لا يشرك بي شيئاً أن أعذبه بناري، فقلت فأبناء الأحقاب أبناء الثمانين والتسعين فقال: أقيل عليهم وأقول لهم: أدخلوا من أحببتم معكم الجنة، فإنكم أحبائي، أفنيتم أعماركم في توحيدي وطاعتي» . ولله در القائل: من كان وكان يا غافلاً يتمادى، في اللهو كم هذا الزلل، غداً عليك ينادى، يا ناكثا خوان، لا تغتر بالدنيا، فليس هي الباقية، الدار دار الأخرى، فجد بالبنيان، أبناء عشر تواصوا بالخير فيما بينكم، فالخير لا شك عادة من الصغر قد بان، أبناء عشرين جدوا واستغنموا لشبابكم، ما دام غصن الشيبة، غض رطب ريان، يا ابن الثلاثين، بادر إلى المتاب فربما تأتي المنايا بغتة وتحرم الإمكان، وأنت ماذا عذرك، ذا الوقت يا ابن الأربعين، وقد بلغت أشدك فأسبق إلى الإحسان، أبناء خمسين هذا ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الصحيح (1/353، رقم 488) عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال لقيت ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت بأحب الأعمال إلى الله فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله ... فذكره. وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (1/242، رقم 724) ، وأحمد في المسند (5/276، رقم 22431) . (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2273، رقم 2960) ، والترمذي في سننه (4/589، رقم 2379) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في سننه (4/53، رقم 1937) ، وأحمد في المسند (3/110، رقم 12101) عن عبد الله بن أبي بكر.

وقت الرجوع عن الزلل، فليس عند الزيادة شيء من النقصان، أبناء ستين كونوا من المنون على حذر، فما أحد قط يعطي من المنون أمان، أبناء سبعين وافى جيش المشيب فما بقى للزرع إلا حصاده وينشر الديوان، يا ابن الثمانين، قل لي في الدهر ماذا تنتظر، قد حان وقت رحيلك، وشالت الركبان، أبناء تسعين فوزوا فقد كتب توقيعكم من ربكم بالإنابة والعفو والغفران، يا ابن المائة إن وقتك ما بقي لك من عمل، إلا التوجه إلى الله في السر والإعلان، قد حان وقت رحيلك، فقم تجهز للسفر، وحصل الزاد وإلا تبقى عليه ندمان. وقيل: لا يفوت الإنسان عمل اعتاده إلا بذنب. قال سفيان الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب واحد، قيل: ما هو؟ قال رأيت رجلاً يبكي فقلت هذا مرائي. وقال أبو يزيد البسطامي (¬1) : قمت ليلة فتذكرت أهل الغفلة من النائمين، فكوشفت بأن الرحمة تنزل عليهم كالقائمين، فتعجبت من ذلك فهتف بي هاتف يا أبا يزيد هؤلاء ذكروا عذابي فقاموا، وهؤلاء ذكروا رحمتي فناموا. الفائدة العاشرة: في الحديث دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاذ رتبة الكمال الإنساني، لأن الكمال الإنساني إما بالعلم، وإما بالعمل، وقد جمع - صلى الله عليه وسلم - الكمالين، وأشار إلى الأول بقوله: «أعلمكم بالله» ، والي الثاني: «أتقاكم» وهو - صلى الله عليه وسلم - أعرف خلق الله بالله، وأتقى خلق. ومعرفة الله هي: تحقيق العلم، بإثبات الواحدانية (¬2) . ¬

(¬1) أبو يزيد البسطامي هو: طيفور بن عيسى البسطامي، أبو يزيد، ويقال: بايزيد، مولده سنة: 188هـ‍، زاهد مشهور، له أخبار كثيرة، كان ابن عربي يسميه أبا يزيد الأكبر، نسبته إلى بسطام بلدة بين خراسان والعراق أصله منها، ووفاته فيها سنة: - 261هـ‍، قال المناوي: وقد أفردت ترجمته بتصانيف حافلة. (¬2) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قال إمام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، واختلفوا في أول واجب فقيل: المعرفة، وقيل: النظر. وقال المقترح: لا اختلاف في أن أول واجب خطاباً ومقصوداً المعرفة، وأول واجب اشتغالاً وأداء القصد إلى النظر. وفي نقل الإجماع نظر كبير ومنازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإجماع في نقيضه، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام ممن دخل فيه من غير تنقيب، والآثار في ذلك كثيرة جداً. وأجاب الأولون عن ذلك: بأن الكفار كانوا يذبون عن دينهم ويقاتلون عليه، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم. ومقتضى هذا: أن المعرفة المذكورة يكتفي فيها بأدنى نظر، بخلاف ما قرروه. ومع ذلك فقول الله تعالى: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا? [الروم: 30] ، وحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» ظاهر أن في دفع هذه المسألة من أصلها. وقد نقل القدوة أبو محمد بن أبي جمرة عن أبي الوليد الباجي عن أبي جعفر السمناني -وهو من كبار الأشاعرة- أنه سمعه يقول: إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب.

وقيل: هي حياة القلب مع الله. وقيل: نسيان غير الله، وقد دل على فضلها ومدحها الكتاب والسنة، قال الله تعالى: ?وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ? [الأنعام: 91] أي: ما عرفوا حق معرفته، وقال: ?وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ? [المائدة: 83] . وجاء في الحديث عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن دعامة البيت أساسه، ودعامته الدين المعرفة بالله تعالى» . وقد تكلم المشايخ الصوفية فيها، فكل منهم نطق بما وقع له منها، وأشار إلى ما وجده منها في وقته. قال الأستاذ أبو علي الدقاق: من أمارة المعرفة بالله حصول الهيبة من الله تعالى فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته منه، ومن ازدادت هيبته استقامت حالته، وعظمت بين الخليقة حرمته. وقال الشبلي (¬1) : ليس للعارف بالله علاقة أي: حظ في غير مولاه. وقال بعضهم: من عرف الله انقطع بل خرس وانقمع. وقال آخر: من كان بالله اعرف كان له أخوف. وقال بعضهم: من عرف الله تبرم بالبقاء أي: كره البقاء، وضاقت عليه الدنيا بسعتها. قال بعضهم: للعارف أمارة وهي: قلبه إذا نظر فيها تجلي فيها مولاه. وقال ذا النون المصري: ركضت أرواح الأنبياء في ميدان المعرفة، فسبقت روح نبينا - صلى الله عليه وسلم - أرواح الأنبياء إلى روضة الوصال. وقال أيضاً: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى في أن يحتملك ويحلم عنك تخلقاً بأخلاق الله تعالى، فمتى صحبته وعفا عن كل ذنب يكون منك زال عنك برؤيته الفتور والكسل، وتخلقت بأخلاقه الحميدة. واختلف العلماء في أول واجب على المكلف فالجمهور على أن واجب على المكلف معرفة الله لأنها أصل لسائر الأعمال الواجبة، إذ لا يصح بدونها واجب، بل ¬

(¬1) الشبلي هو: دلف بن جحدر الشبلي: ناسك، كان في مبدأ أمره والياً في دنباوند من نواحي رستاق الري، وولي الحجابة للموفق العباسي، وكان أبوه حاجب الحجاب، ثم ترك الولاية وعكف على العبادة، فاشتهر بالصلاح، وله شعر جيد، ومتفرقات في آداب السلوك تناقلها الناس، سلك به مسالك المتصوفة، مولده سنة: 247هـ‍، وأصله من خراسان، ونسبته إلى قرية شبلة من قرى ما وراء النهر،، ووفاته ببغداد سنة: 334هـ‍، واختلف في اسمه ونسبه، فقيل: دلف بن جعفر، وقيل: جحدر بن دلف، وقيل: دلف ابن جعترة، وقيل: دلف بن جعونة وقيل: جعفر ابن يونس.

ولا مندوب. وقيل: النظر المؤدي إليها. وقيل: أول النظر. وقيل: القصد إلى النظر. وحقيقته سبحانه وتعالى مخالفة لسائر الحقائق، فلا يشاركه شيء في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله. واختلف العلماء هل حقيقته معلومة للناس في الدنيا؟ فقال المحققون: إنها ليست معلومة في الدنيا، قال الرازي: وكلام الصوفية يشعر به، ولهذا قال الجنيد: والله ما عرف الله إلا الله، وإذا كان الإنسان لم يدرك حقيقة نفسه فكيف يدرك حقيقة خالقه كما قيل: حقيقة المرء ليس يدركها ... فكيف كيفية الجبار في القدم وأما حديث: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (¬1) فلم يصح ولم يثبت كما قاله النووي في فتاويه، وهو من كلام يحيى بن معاذ الرازي لا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. واختلف العلماء في معناه على أقوال، فقال النووي: معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار إلى الله والعبودية له، عرف ربه بالقوة والقهر والربوبية والكمال المطلق والصفات العليا. ¬

(¬1) ذكره الهروي في المصنوع (ص:189) وقال: قال ابن تيمية: موضوع. وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/343) : قال ابن تيمية: موضوع، وقال النووي قبله: ليس بثابت، وقال أبو المظفر بن السعاني في القواطع: أنه لا يعرف مرفوعاً، وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ الرازي يعني من قوله، وقال ابن الغرس بعد أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت قال: لكن كتب الصوفية مشحونة به يسقونه مساق الحديث كالشيخ محي الدين بن عربي وغيره، قال: وذكر لنا شيخنا الشيخ حجازي الواعظ شارح الجامع الصغير للسيوطي بأن الشيخ محي الدين بن عربي معدود من الحفاظ، وذكر بعض الأصحاب أن الشيخ محي الدين قال: هذا الحديث وإن لم يصح من طريق الرواية فقد صح عندنا من طريق الكشف. وللحافظ السيوطي فيه تأليف لطيف سماه: «القول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه» . وقال النجم: قلت: وقع في أدب الدين والدنيا للمارودي عن عائشة سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أعرف الناس بربه قال أعرفهم بنفسه» .

وقال بعض العارفين: معناه من عرف نفسه بذلها وعجزها وفقره، عرف الله بعزته وقدرته وغناه، فيكون معرفة النفس أولا ثم معرفة الله من بعد. وقال بعض أهل الله: لما كانت الروح في الجسد لا تدرك بالبصر ولا تمثل بالصور، علمنا سبحانه أنه لا تدركه الأبصار ولا يمثل بالصور والآثار، ولا يشبه بالشموس والأقمار ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فطوبي لمن عرف وبذنبه اعترف. أشار بعض مشايخي في هذا المعنى فقال: قل لمن يفهم عني ما أقول ... قصر القول فذا شرح يطول هو شيء غامض من دونه ... ضربت والله أعناق الفحول أنت لا تعرف إياك ولا ... تدر من أنت ولا كيف الوصول لا ولا تدري صفات ركبت ... فيك حارت في خفاياها العقول كيف تدر من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النزول كيف تجلى أم ترى كيف يرى ... فلعمري ليس ذا إلا فضول هو لا كيف ولا أين له ... وهو في كل النواحي لا يزول جل ذاتاً وصفاتاً وسما ... وتعالى ملكه عما أقول وذهب كثير من المتكلمين إلى أنها معلومة للناس في الدنيا، واحتجوا بوجهين: أحدهما: أنا مكلفون بمعرفة وحدانيته، فلذلك يتوقف على معرفة حقيقته، فلم نوجبها لكلفة ما لا يطاق وهو ضعيف، لأنا لا نسلم أنها متوقفة على معرفته بالحقيقة، وإنما تتوقف على معرفته بوجه. ثانيهما: أنا نحكم على ذات الله - عز وجل - بأحكام، والحكم مسبوق بتصور المحكوم عليه، وهو ضعيف أيضاً، لأن تصور المحكوم كان بوجه ما. قال الزركشي: والأحسن القول الأول وهو أنها ليست معلومة للناس في الدنيا قال تعالى: ?وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً? [طه: 110] . واختلف العلماء هل يمكن علمها في الآخرة؟ فقيل: لا، لأن علمها يقتضي الإحاطة به تعالى وهي ممتنعة. وقيل: نعم، لحصول الرؤية فيها، ورد بأن الرؤية لا تفيد الحقيقة، والواجب على المكلف في الدنيا معرفته بوجه، وهو: بصفاته كما به أجاب موسى لفرعون لما قال: ?وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ? فقال: ?قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم

مُّوقِنِينَ? [الشعراء: 24] إجابه بالصفة لتعذر الجواب بالماهية، فظن فرعون أن موسى مخطئ في الجواب لعدوله عن الجواب المطابق لسؤاله، ولم يعلم بغباوته أنه هو المخطئ في السؤال، وأن ما أتى به الكليم في الجواب أقصى ما يمكن. قال الرزركشي: وغاية معرفة الإنسان لربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها وأعراضها المحسوسة والمعقولة، ويعرف أنها موضوعة ومحدثة، وأن محدثها يصح ارتفاع كلها مع قيامه، ولا يصح بقاؤها وارتفاعه. وفي هذا المقام قال الصديق الأكبر: سبحان من لم يجعل لخله سبيلاً إلى معرفته، إلا بالعجز عن معرفة شيء. قال الرازي: واعلم أن من عرف الله لا يخلو عن قبض وبسط، فإذا استغرق في عالم الجلال والعزة والاستغناء وقع في القبض والهيبة، فيصير كالمعدوم الفاني، وإذا استغرق في عالم الجمال والرحمة والكرم وقع في البسط والفرح والسرور، فيصير فرحاً بربه. قيل: كان يحيى - عليه السلام - الغالب عليه الحزن والقبض، وكان عيسى - عليه السلام - الغالب عليه الفرح والسرور والبسط فتحاكما في هذه الواقعة إلى حضرة رب العزة، فأوحى الله تعالى إليهما إن أقربكما إليّ أحسنكما ظناً بي. واستدل كثير من السلف على معرفة الله تعالى بطرق. لطيفه: سأل جماعة من الكفار وكانوا سبعة عشر نفساً الإمام الشافعي ما الدليل على معرفة الصانع؟ فقال: ورقة الفرصاد أليس طعمها ولونها وريحها واحد عندكم قالوا: نعم فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبرسيم، والنحلة فيخرج منها العسل، والشاة فيخرج منها البعرة والظبية فينعقد في نوافحها المسك، فمن ذا الذي جعلها كذلك، مع أن الطبع واحد، فاستحسنوا منه ذلك وآمنوا على يديه. وسئل أبو حنيفة عن معرفة الصانع فقال: إن الوالد يريد الذكر فيكون أنثى، ويريد الأنثى فتكون ذكراً، فدل ذلك على معرفة الصانع. واستدل أحمد بن حنبل على معرفة الله تعالى بالبيض وخروج الفرخ منها، وقال: الدليل على الصانع قلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها أي: لا باب، كالفضة المذابة والذهب الإبريز ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فدل ذلك على اللطيف الخبير.

وسأل هارون الرشيد مالكاً عن الصانع، فاستدل عليه بخلاف الأصوات، وتردد النغمات، وتفاوت اللغات. وسأل الأصمعي بعض الأعراب فقال له: كيف عرفت الله: فقال: البعرة تدل على البعير، والروث يدل على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وأبحر ذات أمواج ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير. وسئل أبو نواس الشاعر عن الدليل على الصانع فقال: النرجس وأنشد فيه: تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك أصول من لجين زاهرات ... على أطرافها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق عن أبي بكر الأصبهاني قال: رؤي أبو نواس في المنام فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها في النرجس (¬1) . سؤال: هل الطيور والبهائم البرية والبحرية عارفة بربها أم لا؟ قال الإمام فخر الدين الرازي: أكثر أرباب الآثار والأخبار جوزوا ذلك، وقالوا إن كونها عارفة بربها مشتغلة بتسبيحه أمر جائز في العقول، فوجب الاعتراف بذلك، وإن حصول الفهم والعلم في ذوات هذه الحيوانات من جملة الممكنات والله تعالى قادر على كل الممكنات، واستدلوا على ذلك بأنه يحصل منها أفعال لا تصدر إلا من العقلاء بل من أفاضل العقلاء، فدل ذلك كونها عارفة بربها. ثم بين ذلك بوجوه: منها: أن النحلة أعطاها الله من الذكاء أنها تبني البيوت المسدسة، من غير نظر ولا آلة ولا شكل، وإن البشر لا يقدرون على بناء البيت المسدس إلا عند استعانة بالآلات الكثيرة، وإنها تسعي في تحصيل قوتها وتؤخره لعلمها أنها قد تحتاج إليه في الأزمنة المستقبلية، ولا تكون قادرة على تحصيله في تلك الأوقات فسعت وادخرته، وذلك لا يصدر إلا من عاقل عارف بربه. ومنها: أن الجمل والحمار وغيرهما إذا ذهب في طريق في ليلة ظلماء مرة واحدة، المرة الثانية يقدر على السلوك بتلك الطريق من غير إرشاد مرشد، وما ذاك إلا لعقله ¬

(¬1) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (13/465) عن أبي بكر أحمد بن محمد بن موسى الأصبهاني بأصبهان قال ... فذكره.

ومعرفته بربه. ومنها: أن الفأرة تدخل ذنبها في قارورة الدهن إن كان رأسها ضيقاً ولا تدخل رأسها ويحصل مقصودها بهذا الطريق، وهذا يدل على عقلها. ومنها: أن العنكبوت تبني بيتها على وجه عجيب وعلى نسجه الشبكة التي تصيد بها الذباب. وهذه أفعال فكرية فوجب الإقرار بثبوت العقل لها، وإذا أثبت كونها مهتدية عارفة بهذه الدقائق، فأي بعد في كونها عارفة بربها مسبحة لمالكها، ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى: ?قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ? [النمل: 18] وهذا لا يصدر إلا من الفاهم العاقل. ويدل على ذلك أيضاً ما رواه مكحول عن بعض الأحبار أنه قال: «قام داود النبي عليه الصلاة والسلام ليلة على ساحل البحر يصلي ويسبح لله ويحمد، ويقول في دعائه: إلهي هدأت الأصوات، وغارت النجوم، ونامت العيون، وعين داود لم تنم، وأنت الحي القيوم، فهو متعجب بقيام ليله، فأوحى إلى ضفدع أن أجيبه فقال الضفدع: يا داود أعجبك قيام ليلة واحدة وأنا في مكاني هذا منذ سبعين سنة لم يفتر لساني من التسبيح والتقديس لربي، قال داود: فبأي شيء تسبحين؟ قالت: فإني أقول: سبحان ربي المعبود بكل مكان، سبحان ربي المشكور بكل لسان، سبحان ربي المحمود في كل أوان» . وأما ما يتعلق بالتقوى التي دل عليها في الحديث قوله: «أتقاكم» فهو: أن البرماوي وغيره قالوا: إن التقوى على ثلاث مراتب: الأولى: وقاية النفس عن الكفر وهذه المرتبة للعموم. الثانية: وقاية النفس عن المعاصي وهي للخواص. الثالثة: وقاية النفس عما سوى الله وهي لخواص الخواص. قال حجة الإسلام الغزالي: التقوى كنز عزيز، ولئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف، وخير كثير، ورزق كريم، فوز كبير، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فجعلت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى، وتأمل ما في القرآن من ذكرها كم علق بها من خير، وكم وعد عليها من ثواب، وكم أضاف إليها من سعادة. قال: وأنا أعد لك من جملها اثنا عشر خصلة:

أولها: المدح والثناء قال تعالى: ?وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ? [آل عمران: 186] . الثاني: الحفظ والحراسة من الأعداء قال تعالى: ?وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ? [آل عمران: 120] . الثالث: التأييد والنصرة قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ? [النحل: 128] ، وقال تعالى: ?وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ? [البقرة: 194] . والرابع: النجاة من الشدائد والرزق الحلال قال الله تعالى: ?وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ? [الطلاق: 2، 3] . والخامس: إصلاح العمل قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً? [الأحزاب: 70، 71] . السادس: غفران الذنوب كما قال تعالى: ?وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ? [الأحزاب: 71] . والسابع: محبة الله قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ? [التوبة: 4] . والثامن: القبول قال الله تعالى: ?إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ? [المائدة: 27] . والتاسع: الإكرام والإعزاز قال الله تعالى: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13] . والعاشر: البشارة عند الموت قال الله تعالى: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ? [يونس: 64] . والحادي عشر: النجاة من النار قال الله تعالى: ?ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا? [مريم: 27] ، وقال تعالى: ?وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى? [الليل: 17] . والثاني عشر: الخلود في الجنة قال الله تعالى: ?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ? [آل عمران: 133] . فهذا كله خير وسعادة في الدارين تحت خصلة واحدة وهي التقوى، ولا تنس نصيبك منها أيها الرجل وفسروا قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ

تُقَاتِهِ? [آل عمران: 102] بأن يطاع الله فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، هذا أعلى درجات التقوى، وهذا عزيز وربما يعجز الإنسان عنه، ولهذا لما نزلت الآية وسمعها الصحابة خافوا العجز عن القيام بذلك، فأنزل الله تخفيفاً عنهم: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16] . وكان سهل بن عبد الله يقول: لا معين إلا الله، ولا دليل إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا زاد إلا التقوى، ولا عمل إلا الصبر عليه. وقال بعض العارفين: من لزم التقوى اشتاق إلى مفارقة الدنيا، لأن الله تعالى يقول: ?وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا? [يوسف: 109] . وقيل: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكل منه على الله فيما لم ينل من الرزق، وحسن الرضا منه فيما قد نال منه، وحسن البصر منه على ما فات مما يحبه. وجاء في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله أوصني فقال: «عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم، وعليك بذكر الله فإنه نور لك أي: يهديك إلى الصراط المستقيم. وأنشد ذو النون المصري قدس الله سره: ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم ... تحن إلى التقوى وترتاح للذكر وعن عائشة أنها قالت: ما أعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أعجبه أحد إلا ذو التقى. وعن قتادة - رضي الله عنه - أنه قال: «مكتوب في التوراة يا ابن آدم اتق الله ونم حيث شئت» . وكتب على بعض القبور: ليس زاد إلا التقى فخذ منه أو دع. وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «من اتقى الله عاش قوياً وسار في بلاده آمنا» . وقال ابن لقمان لأبيه أي الخصال خير؟ قال: الدين، قال: فإن كانت اثنتين؟ قال: الدين والمال، قال: فإن كانت ثلاثة؟ قال: الدين والمال والحياء، قال: فإن كان أربعاً؟ قال: حسن الخلق، قال: فإن كانت خمساً؟ فقال: السخاء، قال: فإن كانت ستاً؟ قال: يا بني إذا اجتمعت فيه هذه الخمس خصال فهو تقي لله ولي، ومن الشيطان بري، ولقد صدق من قال: من اتقى الله فذاك الذي ... سبق إليه المتجر الرابح من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذك الشقي ماذا على الطائع ما ضره ... في طاعة الله ماذا لقي

ما يصنع العبد بعز الغنى ... والعز كل العز للمتقي لطيفة: نزل ضيف على سليمان الفارسي ولم يكن عنده شيء، فخرج إلى الصحراء فوجد ظباء وطيور فأشار إلى ظبي وطير فاقبلا فقال: الضيف سبحان الله قد سخر لك الظباء والطير فقال سلمان: هل رأيت عبدا أطاع الله فعصاه شيء. لطيفة أخرى: خرج شاب بالمدينة لصلاة العشاء في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فرأته امرأة فعرضت نفسها عليه فتبعها إلى منزلها، ثم تذكر قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ? [الأعراف: 201] أي: خطرة ونزعة من الشيطان، ?تَذَكَّرُوا? أي: تذكروا أنهم وقع منهم شيء يغضب الله تعالى، فلما قرأ الشاب هذه الآية وقع مغشياً عليه فطرحته المرأة على باب دراها، فخرج أبوه فلما أفاق سأله عن حاله فقص حاله على أبيه، فلما قرأ الآية ثانياً خرجت روحه فلما دفنوه بلغ ذلك عمر، فوقف على قبره وناداه: يا فلان ?وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ? [الرحمن: 46] فأجابه من القبر يا عمر قد أعطاينهما ربي بفضله. * * *

باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الأَعْمَالِ (¬1) قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (¬2) ، قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ (¬3) أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمان. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا أَوِ الْحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً» . قَالَ وُهَيْبٌ (¬4) حَدَّثَنَا عَمْرٌو (¬5) «الْحَيَاةِ» (¬6) . وَقَالَ: «خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ» (¬7) . في هذا الإسناد لطيفة وهو أن رجاله كلهم مدنيون. بهمز قطع قوله: «أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة (¬8) » بهمزة قطع وهو خطاب ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/152) : قوله: «باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال» : «في» ظرفية، ويحتمل أن تكون سببية، أي: التفاضل الحاصل بسبب الأعمال. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/152) : قوله: «حدثنا إسماعيل» هو ابن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي المدني ابن أخت مالك، وقد وافقه على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب ومعن بن عيسي عن مالك، وليس هو في الموطأ، قال الدارقطني: هو غريب صحيح. (¬3) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/152) : قوله: «يدخل» للدار قطني من طريق إسماعيل وغيره «يدخل الله» وزاد من طريق معن «يدخل من يشاء برحمته» وكذا له وللإسماعيلي من طريق ابن وهب. (¬4) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «قال وهيب» أي: ابن خالد. (¬5) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «حدثنا عمرو» أي: ابن يحيى المازني المذكور في سند هذا الحديث. (¬6) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «الحياة» بالخفض على الحكاية، ومراده: أن وهيباً وافق مالكاً في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يحيي بسنده، وجزم بقوله: «في نهر الحياة» ولم يشك كما شك مالك. (¬7) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «وقال خردل من خير» هو على الحكاية أيضاً، أي: وقال وهيب في روايته: مثقال حبة من خردل من خير، فخالف مالكاً أيضاً في هذه الكلمة. وقد ساق البخاري حديث وهيب هذا في كتاب الرقاق عن موسي ابن إسماعيل عن وهيب، وسياقه أتم من سياق مالك، لكنه قال: «من خردل من إيمان» كرواية مالك، فاعترض على المصنف بهذا. ولا اعتراض عليه، فإن أبا بكر بن أبي شيبة أخرج هذا الحديث في مسنده عن عفان بن مسلم عن وهيب فقال: «من خردل من خير» كما علقه المصنف، فتبين أنه مراده لا لفظ موسي. وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر هذا، لكن لم يسق لفظه. ووجه مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهر، وأراد بإيراده الرد على المرجئة لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود. (¬8) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/152) : قوله: «مثقال حبة» بفتح الحاء، هو إشارة إلى ما لا أقل منه. قال الخطابي: هو مثل ليكون عياراً في المعرفة لا في الوزن، لأن ما يشكل في المعقول يرد إلى المحسوس ليفهم. وقال إمام الحرمين: الوزن للصحف المشتملة على الأعمال، ويقع وزنها على قدر أجور الأعمال. وقال غيره: يجوز أن تجسد الأعراض فتوزن، وما ثبت من أمور الآخرة بالشرع لا دخل للعقل فيه. والمراد بحبة الخردل هنا: ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد، لقوله في الرواية الأخري: «أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة» .

للملائكة، والمعنى ثم يقول الله بعد إدخال عصاة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى النار لملائكته: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبه من خردل من إيمان. ويجوز أن تكون همزة وصل ويكون الخطاب للعصاة الذين أدخلهم الله النار، والمعنى: أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل إيمان، وإنما أتى «بحبه الخردل» دون غيرها من البذورات لأنها في غاية الصغر، فلهذا يشبه بها للبالغ في القلة أي: أخرجوا من النار من بلغ إيمانه إلى غاية القلة، بحيث لا يكون فيها أحد إيمانه أقل من منه، هذا دليل على أنه لا يبقى في النار من أهل الإيمان من العصاة أحد من قل إيمانه أو كثر، تفضلاً منه سبحانه وكرماً. وكم من عاص تفضل الله عليه وعفا عنه وسامحه، من غير سبق عذاب في البرزخ ولا في الآخرة، بل عامله بحسن ظن فأدخله الجنة. لطيفة: روي عن إبراهيم بن أدهم قال: بينما أنا أمشي في بعض الأذقة، وإذا امرأة تحمل ميت والناس يرجمونه بالحجارة، فقلت لها: ما يكون هذا الميت قالت ولدي وكان يعصي الحق ولا يستحي من الخلق، فلما حضره الموت سمعته يقول: يا محسنا لمن رجاه، يا من لا يهتك عبداً عصاه، فلما مات هجره الخلق ورجموه، فلا أدري كيف أتجه به، فقلت: أنا أحمله وأصلي عليه، فحملته معها فجهزناه ودفناه، فمضت أمه، فتفكرت أنا عند قبره فأخذتني سنة النوم، فرأيت ملكين قد نزلا عليه فانشق القبر فأجلساه وشم أحدهما جميع مفاصله فقال: لرفيقه ما في جسده مثقال حبة من خير فقال رفيقه: ربه أعلم به فنوديا: شقا قلبه، فخرج منه شامة بيضاء تتلألأ كالقمر، فنوديا: يا أيها الملكان هذه شهادة أن لا إله إلا الله، توفى عليها، وهو يرجوني ويقصدني فيكف أخيب من قصدني. فإن قيل: من أين تعرف الملائكة العصاة الذين أدخلوا النار وفي قلوبهم مثقال حبة من خردل من خردل حتى يخرجوهم والإيمان أمر قلبي؟ فالجواب: أن الله تعالى يجعل له علامات يعرفون بها، كما يعلمون بأنهم من أهل التوحيد بعلامات السجود. وقوله: «فيخرجون منها قد اسودوا» أي: صاروا سود كالحمم من آثار النار. «فيلقون في نهر الحياء» أي: في نهر المطر (¬1) . ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/153) : قوله: قوله: «في نهر الحياء» كذا في هذه الرواية بالمد، وفي غيرها بالقصر، وبه جزم الخطابي وعليه المعنى، لأن المراد كل ما به تحصل الحياة، والحيا بالقصر هو المطر، وبه تحصل حياة النبات، فهو أليق بمعنى الحياة من الحياء الممدود الذي هو بمعنى الخجل.

«أو الحياة» أي: النهر الذي ينغمس فيه الحي. «فينبتون كما تبنت الحبة من جانب السيل» و «الحبة» (¬1) بكسر الحاء تجمع على حبب، وهو بذر العشب، وإنما شبه - صلى الله عليه وسلم - نبات العصاة الذين أخرجوا من النار في نهر الحياة بنبات العشب لسرعة نباته وخروجه من الأرض، قيل: إنه ينبت في يوم وليلة بخلاف غيرها من الحبب لا ينبت كذلك. وقوله: «ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية» . فائدة: هذا اللون مفرح يسر الناظرين، قال تعالى في حق بقرة إسرائيل: ?بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ? [البقرة: 69] ونقل القرطبي عن علي بن أبي طالب أنه قال: من لبس نعلاً أصفراً قل همه. ولهذا كان الحناء سيد رياحين الجنة لصفرته، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية» (¬2) والفاغية: نَوْرُ الحناء. وقال أنس: «كان أحب الرياحين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاغية» (¬3) رواهما البيهقي. والمعنى: أن العصاة إذا خرجوا من النار وألقوا في نهر الحياة، يخرجون من ذلك النهر منورين منبسطين متبخترين كخروج هذه الريحانة من جانب السيل، ويسمى هؤلاء الذين أخرجوا من النار «عتقاء الله» فإنهم يدخلون الجنة ومكتوب على جباههم وبين أعينهم «عتقاء الله» . وروي أنهم إذا أدخلوا الجنة بعد ذلك فتكون تسميتهم الجهنميين، فيكرهون هذا الاسم ويسألون الله تعالى أن يزيله عنهم، فيثور في الجنة شبه الضباب فينقلهم الله إلى منازل لا يعرفون فيها، ويزول عنهم هذا الاسم. وفي رواية: إذا دخلو الجنة قال أهل الجنة هؤلاء الجهنميين، فعند ذلك يقولون إلهنا لو تركتنا في النار كان أحب إلينا من العار، فيرسل الله تعالى ريحاً من تحت العرش يقال لها: ¬

(¬1) في معناها قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/153) : قوله: «الحبة» بكسر أوله، قال أبو حنيفة الدينوري: الحبة: جمع بزور النبات واحدتها حبة بالفتح، وأما الحب فهو: الحنطة والشعير، واحدتها حبة بالفتح أيضاً، وإنما افترقا في الجمع. وقال أبو المعالي في المنتهى: الحبة بالكسر: بزور الصحراء مما ليس بقوت. (¬2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/92، رقم 5904) عن عبد الله بن بريدة عن أبيه. قال البيهقي: ورواه جماعة عن أبي هلال الراسبي، تفرد به أبو هلال محمد بن سليم. وأخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الأوسط (7/271، رقم 7477) ، والديلمي في مسند الفردوس (2/325، رقم 3482) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/35) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعيد بن عبية القطان ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. (¬3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/131، رقم 6074) عن أنس بن مالك.

المثيرة، فتهب على وجوههم فتمحوا الكتابة أي: ما هو مكتوب بين أعينهم. فقد روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه أخرج كتاباً من تحت العرش، إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال مثلي أهل الجنة، مكتوب بين أعينهم عتقاء الله» . وقوله: «مثقال حبة من خردل من إيمان» المثقال من الذهب عند الفقهاء عبارة عن اثنين وسبعين شعيره، فإن قيل: الإيمان عرض فكيف يوزن؟ فالجواب: أن هذا مثل، فيكون عياراً في المعرفة لا في الوزن، لأن الإيمان ليس بجسم فيوزن، ولكن ما يشكل من المعقول يرد إلى المحسوس ليفهم، ويشبه ليعلم. وقيل: الذي يوزن إنما هي الصحف المشتملة على الأعمال. ويستفاد من الحديث أنواع من العلوم: منها: إثبات دخول طائفة من عصاة الموحدين النار، وهذا أمر دلت عليه النصوص الظاهرة، وأجمع عليه من يعتد به، ولهذا لا يجوز كما قاله ابن عبد السلام وغيره أن يقول الإنسان في الدعاء: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات جميع ذنوبهم، ولا اللهم لا تدخل أحداً منهم النار، قالوا: لأنا نقطع بخبر الله وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أن منهم من يدخل النار. ولا يشكل على هذا القول مع قول نوح - عليه السلام -: ?رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ? [نوح: 28] لأنه ورد بصيغة الفعل في سياق الإثبات، وذلك لا يقتضي العموم، لأن الأفعال نكرات، ولجواز أن يكون نوح عليه الصلاة والسلام قصد معهوداً خالصاً وهو أهل زمانة مثلاً بل جميع المؤمنين والمؤمنات من أهل زمانه وغيرهم. وفي الحديث أيضاً: دلالة على أنه لابد من إخراج العصاة ولا يخلدون في النار، ولو كانوا من أصحاب الكبائر، وهنا غرائب مناسبة: الأولى: فإن قيل: إذا أدخل الله العصاة النار هل يميتهم الله في النار ثم يخرجهم بالشفاعة أو لا يميتهم؟ في المسألة قولان: أحدهما: ورجحه القرطبي: أن الله يميتهم في النار إماتة حقيقية تكريماً لهم حتى لا يحسوا بألم العذاب بعد الاحتراق، ثم يخرجهم منها، والدليل على ذلك ما ورد في بعض الأحاديث: «فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً، أذن في الشفاعة فيهم» (¬1) أكد ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/172، رقم 185) ، وابن ماجه في سننه (2/1441، رقم 4309) ، وأحمد في مسنده (3/11، رقم 11092) ، وابن حبان في صحيحه (16/530، رقم 7485) ، وأبو عوانة (1/158، رقم 456) ، والدارمي في سننه (2/427، رقم 2817) ، وأبو يعلى في مسنده (2/348، رقم 1097) عن أبي سعيد.

ذلك بالمصدر فدل على أن الإماتة حقيقية، بخلاف الكفار المخلدين فيها قال الله تعالى في حقهم: ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ? [فاطر: 36] بل كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها كما قال الله تعالى: ?كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ? [النساء: 56] . ثانيهما: أنهم إذا دخلوا النار لا يموتون فيها، بل إماتتهم المذكورة في الحديث عبارة عن أن الله يلقي عليهم في النار النوم حتى يعينهم عن ألم العذاب، وليس بموت على الحقيقة فإن النائم قد يغيب عن كثير من الألم والملاذ، وقد سماه الله تعالى وفاة بقوله العزيز: ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ? [الزمر: 42] . فإن قيل: إذا أماتهم في النار على القول الأول وألقى عليهم النوم على القول الثاني، فأي حكمة وفائدة في إدخالهم النار ولا شعور لهم بأليم العذاب، الذي هو المقصود من دخول النار؟ أجاب العلماء عن ذلك: بأنه يدخلهم إلى النار وإن لم يحسوا بأليم العذاب، تأديباً لهم ويكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم، كالمحبوس في السجن، فإن الحبس عقوبة له وإن لم يكن معه غل ولا قيد والله أعلم. الثانية: العصاة الذين يدخلهم الله النار من المؤمنين متفاوتون في العذاب، بحسب أعمالهم فمنهم من تأخذه النار إلى صدره، فقد جاء في خبر عن كعب الأحبار: «يا مالك قل للنار لا تحرق ألسنتهم فقد كانوا يقرؤون القرآن، يا مالك قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم» فالنار أعرف بهم بمقدار استحقاقهم من الوالدة بولدها، بخلاف الكافر فإن العذاب يشمل جميع جسده، ولا تعاف منه شيئاً، كما اشتمل في الدنيا على الكفر تشمله النار في الآخرة قال تعالى: ?لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ? أي: ما فوقهم ظلل لهم وما تحتهم ظلل. ويعظم جسد الكافر في النار وأعضاؤه كأسنانه ويديه ورجليه وباقي أعضائه ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2189، رقم 2851) ، والترمذي في سننه (4 /704، رقم 2579) ، وأحمد في مسنده (2/328، رقم 8327) ، وابن حبان في صحيحه (16/532، رقم 7487) عن أبي هريرة.

وفي حديث آخر للترمذي: «إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم كما بين مكة والمدينة» (¬1) . وكذلك تسود وجوه الكفار في النار، وتزرق عيونهم، ويغلون بالأغلال. والعصاة من المؤمنين فإنهم يسلمون من ذلك كله، ويتفاوتون في قدر البقاء في النار فمنهم من يمكث فيها ساعة، ومنهم من يمكث فيها يوماً، ومنهم من يمكث شهراً، ومنهم من يمكث فيها سنة، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي وماتوا عليها فهم في الباب الأول من جهنم لا تسود وجوهم، ولا تزرق عيونهم، ولا يغلون بالأغلال، ولا يقرنون مع الشياطين، ولا يضربون بالمقامع، ولا يطرحون في الأدراك، منهم من يمكث فيها ساعة ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها يوماً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها شهراً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج، وأطولهم مكثاً فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت، وذلك سبعة آلاف سنة ... الحديث» (¬2) . الثالثة: فإن قيل: إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة هل يعرفون منازلهم وأمكنتهم التي أعدها الله بهداية من الله، أو أن الملائكة تدلهم على منازلهم؟ في المسألة قولان: أحدهما: أن الملائكة إذا وصلت بأهل الجنة إلى بابها يقولون لهم: تفرقوا إلى منازلكم، فيذهب كل واحد منهم إلى منزله فيها، وهو أعرف بمنزله في الجنة وموضعه فيها من منزله الذي كان في دار الدنيا، كما أن أهل صلاة الجمعة مثلاً إذا أخرجوا من المسجد يعرف كل واحد منزله، كذاك أهل الجنة وهذا القول هوالراجح ويدل عليه قول الله تعالى: ?وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ? [محمد: 6] . ثانيهما: إنهم لا يعرفون منازلهم إلا بالملائكة يمشي مع كل واحد ملك بين يديه إلى منزله، وهو الملك الموكل بعمله. الرابعة: أفاد بعض العلماء أنه يمكن معرفة أهل الجنة من أهل النار في الدنيا بعلامة وهي: أن الشخص إذا ملأ الله أذنيه من ثناء الناس عليه فهو من أهل الجنة، وإذا ملأ الله أذنيه من ذم الناس له فهو من أهل النار، واستُدل على ذلك بحديث في صحيح مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت وجبت وجبت» ومر بجنازة فأثني عليها شراً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت وجبت وجبت» فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: فداك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: «وجبت وجبت وجبت» ومر ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/703، رقم 2577) عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش. (¬2) رواه الحكيم في نوادر الأصول (2/36) عن أبي هريرة.

بجنازة فأثني عليها شراً فقلت: «وجبت وجبت وجبت» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض» (¬1) . وفي بعض طرق البخاري عن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» فقلنا: وثلاثة فقال: «وثلاثة» فقلنا: واثنان فقال: «واثنان» ثم لم نسأله عن الواحد. والحديث السابق يعطي العموم، وإن من كثرت شهوده وانطلقت ألسنة المسلمين فيه بالخير والثناء الصالح، كانت له الجنة والله اعلم. ومرت جنازة على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فقال لرجل قم فانظر من أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ فقال الرجل: وما يدريني من أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ قال: انظر إلى ثناء الناس عليه فإنهم شهداء الله في الأرض. وغير مستنكر إذا أحب الله عبداً أن يلقي على ألسنة المسلمين الثناء عليه، وفي قلوبهم المحبة له قال الله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُداًّ? [مريم: 96] . قدمنا أنه ورد في الحديث: أن الله تعالى إذا أحب عبداً فدعا جبريل فقال: إن الله يحب فلاناً فأحبه قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وفي البغضاء مثل ذلك. قال القرطبي: وقد شوهد رجال من المسلمين علماء صلحاء كثر الثناء عليهم، وصرفت القلوب إليهم في حياتهم وبعد مماتهم. الخامسة: جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما سأل الله عبداً الجنة في يوم سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب إن عبدك فلاناً سألني فأدخلنيه» (¬2) . وفي حديث آخر: «ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار: يا رب إن عبدك فلاناً استجار مني فأجره، ولا سئل عبد الجنة سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب إن عبدك فلاناً سألني فأدخله الجنة» (¬3) . فالرب تعالى جواد له الجود كله يجب أن يسأل ويطلب منه ويرغب إليه، فخلق من ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح (1/460، رقم 1301) ، ومسلم في صحيحه (2/655، رقم 949) من حديث أنس بن مالك. (¬2) لم نقف عليه. (¬3) أخرجه أبو يعلى في مسنده (11/54، رقم 6192) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/249، رقم 213) عن أبي هريرة. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (4/243) وقال: رواه أبو يعلى بإسناد على شرط البخاري ومسلم.

يسأله وألهمه سؤاله، وخلق له ما يسأله، فهو خالق السائل وسؤاله ومسؤوله، وذلك لمحبته لسؤال عبده له، ورغبتهم إليه، وطلبهم منه، وهو يغضب إذا لم يُسأل، وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالاً، وهو يحب الملحين في الدعاء كلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه وأعطاه فأكثروا من طلب الجنة ومن الاستعاذة من النار. فقد ورد في حديث آخر عنه - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم سأل الله الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار بالله من النار ثلاثاً قالت النار: اللهم أجره من النار» (¬1) رواه الترمذي وغيره. وفي حديث آخر: «أكثروا مُساءلة الله الجنة واستعيذوا به من النار فإنهما شافعتان مشفعتان، وإن العبد إذا أكثر مساءلة الله الجنة، قالت الجنة: يا رب عبدك هذا الذي سألنيك فأسكنه إياي، وتقول النار: يا رب عبدك هذا الذي استعاذ بك مني فأعذه» (¬2) . وقد كان جماعة من السلف لا يسألون الله الجنة، ويقولون: حسبنا أن يجيرنا من النار. وجاء في حديث آخر يقول الله عز وجل: «انظروا في ديوان عبدي فمن رأيتموه سألني الجنة أعطيته، ومن استعاذني من النار أعذته» (¬3) . وفي حديث آخر: «أطلبوا الجنة جهدكم، اهربوا من النار جهدكم، فإن الجنة لا ينام طالبها، وإن النار لا ينام هاربها، وإن الآخرة اليوم محفوفة بالمكاره، وإن الدنيا محفوفة باللذات والشهوات فلا تلهينكم عن الآخرة» (¬4) . * * * ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (/699، رقم 2572) عن أنس بن مالك. قال الترمذي: هكذا روى يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق هذا الحديث عن بريد بن أبي مريم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وقد روي عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أنس بن مالك موقوفاً أيضاً. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/155، رقم 12607) ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/717، رقم 1960) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو يعلى في مسنده (6/356، رقم 3682) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (4/390، رقم 1560) . (¬2) لم نقف عليه. (¬3) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/175) عن أنس بن مالك. قال ابن رجب في التخويف من النار (ص:44) : إسناده ضعيف. (¬4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/200، رقم 449) ، وفي المعجم الأوسط (4/73، رقم 3643) عن كليب بن حزن. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/230) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار عنه وفيه معلى بن الأشدق وهو ضعيف جداً.

قَالَ البُخَارِي (¬1) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ (¬2) ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ (¬3) ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ (¬4) ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ (¬5) يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ (¬6) ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَىَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ» . قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الدِّينَ» . في هذا الحديث فوائد: الأولى: دل على استحباب تأويل دليل الرؤيا إذا كان عارفاً به، أو أنه يسأل العالم بها عنها، كما أول - صلى الله عليه وسلم - المنام الذي رآه لسيدنا عمر لما سألوه عنه «بالدين» . وإنما أول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القميص بالدين، لأن الدين للإنسان كالقميص له في أنه يستره من النار، ويحجبه عن كل مكروه، كما أن القميص يستر عورة الإنسان. وظاهر الحديث يقتضي أن القميص على أي لون كان يؤول بالدين إذا كان يجره على الأرض. وفصل علماء التعبير في ذلك وقالوا: القميص الأبيض والأخضر يؤول بالدين، وأما الأزرق فإنه لا يحمد في المنام لقوله تعالى: ?وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً? [طه: 102] . أما الأحمر فإنه يدل على الشهرة والخيلاء في المنام فإن كان معتاداً بلبسه فهو دليل ¬

(¬1) بعدما تكلم المصنف عن شرح حديث في تفاضل أهل الإيمان أتى بعد ذلك بحديث آخر من أحاديث الباب فشرحه فتنبه هداك الله. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «حدثنا محمد بن عبيد الله» هو أبو ثابت المدني وأبوه بالتصغير. (¬3) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «عن صالح» هو ابن كيسان تابعي جليل. (¬4) قال الحافظ في الفتح (1/154) : قوله: «عن أبي أمامة بن سهل» هو ابن حنيف كما ثبت في رواية الأصيلي، وأبو أمامة مختلف في صحبته، ولم يصح له سماع، وإنما ذكر في الصحابة لشرف الرؤية، ومن حيث الرواية يكون في الإسناد ثلاثة من التابعين أو تابعيان وصحابيان، ورجاله كلهم مدنيون كالذي قبله. وأفاد ابن حجر أنه سيشرح هذا مفصلاً في كتاب التعبير إلا أنه علق على وروده هاهنا في هذا الباب فقال: والحديث ومطابقته للترجمة ظاهرة من جهة تأويل القميص بالدين، وقد ذكر أنهم متفاضلون في لبسها، فدل على أنهم متفاضلون في الإيمان. (¬5) قال الحافظ في الفتح (1/154) : قوله: «بينا أنا نائم رأيت الناس» أصل «بينا» : بين ثم أشبعت الفتحة، وفيه استعمال «بينا» بدون «إذا» وبدون «إذ» ، وهو فصيح عند الأصمعي ومن تبعه وإن كان الأكثر على خلافه، فإن في هذا الحديث حجة. (¬6) قال الحافظ في الفتح (1/154) : وقوله: «الثدي» بضم المثلثة وكسر الدال المهملة، وتشديد الياء التحتانية جمع ثدي بفتح أوله وإسكان ثانيه والتخفيف، وهو مذكر عند معظم أهل اللغة، وحكي أنه مؤنث، والمشهور أنه يطلق في الرجل والمرأة، وقيل: يختص بالمرأة وهذا الحديث يرده، ولعل قائل هذا يدعي أنه أطلق في الحديث مجازاً، والله أعلم.

على رفعة وسودد يحصل له، وإن لم يكن معتاداً بلبسه، فهو هم وحزن. وأما القميص الأصفر فهو دليل على مرض يحصل للابسه في المنام، فإن رأى أنه لبسه وغسله أو خلعه نجا من ذلك المرض، ومن رأى أن عليه قمصاً كثيرة، أو على غيره فذلك دليل على أن له عند الله أجراً عظيماً. ومن رأى قميص تخرق على جسمه استغنى من قبل امرأته، وإن رآه تفتق فارق امرأته أوشريكه. ومن رأى قميصاً بلا كمين عليه أو على غيره فذلك دليل على حسن شأن لابسه في دينه ودنياه وأنه ليس له مال. ومن رأى قميص شق طولاً فهو دليل على كلام يحصل له وهم يزول عنه، وإن رآه شق عرضاً فهو دليل على كلام يقال في عرضه. ومن رأى أنه قَدْ قُدَّ من وراءه فإنه يتهم بتهمة هو برئ منها، فإن رأه قُدَّ من قبله فالذي يرمى به صحيح لقصة يوسف: ?إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ? [يوسف: 26، 27] . ومن رأى أنه لبس قميصاً مقلوباً فإنه يدل على تغير حاله إلى خلاف عادته. ومن رأى أنه لبس قميصاً خلقاً وسخاً فهو دليل على فقر ودَين. ومن رأى أنه لبس جديداً صفيقاً فهو دليل على قوة في دين صاحبه، ويفسره للمرأة بالزوج، وللرجل بالمرأة إذ لبساه لقوله تعالى: ?هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ? [البقرة: 187] . ومن رأى أن جيب قميصه انشق انفتح عليه باباً من الفقر، ومن رأى أنه لبس قميصاً قصيراً لم يستر ركبتيه، فذلك دليل على نقص في دينه للحديث السابق الذي ساقه البخاري. ومن رأى أنه أهدى إليه قميص فإنه يبشر ببشارة حسنة لقوله تعالى في قصة يوسف: ?فَلَمَّا أَن جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ? [يوسف: 96] . فائدة مناسبة: ذكر بعض المفسرين أن يوسف الصديق صلوات الله وسلامه عليه كان له ثلاثة أقمصة، قميص العلامة، وقميص الشهادة، وقميص البشارة، أما قميص العلامة فقد أشار الله إليه بقوله: ?وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ? [يوسف: 18] فإن أخوة يوسف كانوا إحدى عشر لما ألقوه في الجب وأخذوا قميصاً فذبحوا شاة ولطخوا قميصه بدمها فلما تأخروا عن الوقت الذي كانوا يروحون فيه إلى يعقوب أحس قلبه بالشر، فقام ليستقبلهم فلم يطق النهوض فتوكأ على جارية، وجعل يمشي حتى أشرف على الوادي، فرمى نفسه هناك، فلما أشرفوا على الوادي شقوا ثيابهم وحثوا التراب على

رؤوسهم، وهم يضجون في البكاء والصياح، فلما رآهم يعقوب على هذه الحالة وقع مغشياً عليه، فلما أفاق قال: مالي لا أرى قرة عيني فيكم؟ قالوا: كما أخبر الله عنهم: ?ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ? [يوسف: 17] قال: لم يبق له عضو من أعضائه تأتوني به أستانس به وأشم ريحه منه فقالوا: هذا قميصه ملطوخ بدمه، فقلبه فلم ير فيه شقاً ولا تمزيقاً وشمه فلم يجد ريحة فيه، فقال: سبحان الله ما كان أشفق وأرفق هذا الذئب حيث أكله فلم يمزق ثوباً ولم يبق له عضواً، وأحس في نفسه أن الذئب لم يأكله، فصار يبكي ويقول: قرة عيني ليت شعري، في أي بئر طرحوك، ليت شعري لأي سبع عرضوك. قال بعضهم لبعض: ألا ترون أن أبانا يكذبنا ولا يصدق مقالتنا، تعالوا حتى نصطاد ذئباً ونلطخه بالدم ونأتي به إليه ونقول هذا هو الذئب الذي أكله، فلعله أن يسليه ذلك عما هو فيه، قالوا: نعم فاصطادوا ذئباً وأوثقوه وأتوا به إلى يعقوب، فلما مثلوه بين يديه نظر يعقوب إليه وقال لهم: ما هذا؟ فقالوا هذا الذئب الذي يغشي أغنامنا وأكل أخانا وأفجعنا فيه، فقال لهم: أطلقوه فأطلقوه فجعل الذئب يببصبص بذنبه ويدنوا إليه ويعقوب يقول: أدن أدن فجعل يدنوا حتى ألصق خده بخده، فرفع يعقوب إلى السماء رأسه وقال: اللهم إن كنت أجبت لي دعوة، ورحمت لي عبرة، فأنطق لي هذا الذئب بقدرتك، فإنك على كل شيء قدير، فأنطق الله لسان الذئب وقال: السلام عليك يا نبي الله فقال: وعليك السلام أيها الذئب بأي جرم أفجعتني في ولدي، وأورثتني هماً طويلاً فقال الذئب: وحقك ما أكلت لحمه، ولا شربت دمه، ولا نتفت شعره، ومالي بولدك عهد، وإني لذئب غريب أقبلت من ناحية مصر في طلب أخ لي غاب عني منذ سنين، فلا أدري أحي أخي أم ميت فاحتسبته، وإن لحوم الأنبياء محرمة على جميع السباع، فقال يعقوب لبنيه: لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم، هذا خرج في طلب أخيه وأنتم ضيعتم أخاكم، ولقد علمت أن الذئب برئ مما نسبتم إليه ?قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ? [يوسف: 18] . وقال في أنس المحاضرة: خرج بنو يعقوب - عليه السلام - إلى الصحراء فأمسكوا ذئباً فشدوا وثاقه، وأتو به إلى أبيهم يعقوب، فقالوا: يا أبانا هذا الذي أكل أخانا، قال: حلوا ثاقة، وقال له يعقوب - عليه السلام -: أنت أكلت حبيبي يوسف؟ فقال: يا نبي الله ألست تعلم أنه محرم علينا لحوم الأنبياء، قال: صدقت، فمن أين جئت؟ قال من مصر، قال: والي أين تريد؟ قال: إلى خراسان، قال: في ماذا؟ قال في زيارة أخ لي، قال: وما بلغك فيه؟ قال: حدثني أبي عن جدي عن الأنبياء السالفين: أنه من زار أخاه له في الله كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة فقال يعقوب لبنيه: اكتبوا هذا الحديث عن الذئب، فقال: معاذ الله أن أملي عليهم لأنهم كذبوا علي وقالوا ما لم أفعل. وكذلك للمؤمن ثلاثة أقمصه قميص الخدمة، قوله تعالى: ?يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا

زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ? [الأعراف: 31] ، وقميص العفة، قوله تعالى: ?وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ? [الأعراف: 26] ، وقميص الكرامة قوله تعالى: ?وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ? [الكهف: 31] . وفي كل قميص يعطى فائدة، ففي قميص الخدمة يناجي مولاه، وفي قميص العفة يغلب شهوته وهواه، وفي قميص الكرامة يرى من جل عن الأشباه. وأما قميص الشهادة فقد أشار الله إليه بقوله: ?وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ? [يوسف: 27] . وأما قميص البشارة فقد أشار الله إليه بقوله: ?اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً? [يوسف: 93] . وهذا القميص كان قميص إبراهيم الذي لبسه حين ألقي في النار، كان في عنقه في الجب وهو من الجنة أمره جبريل بإرساله، وقال: إن فيه ريحك ولا يلقى على مبتلى إلا عوفي. ففي كل واحد منها فائدة، ففي قميص العلامة عوفي من البلوى، وفي قميص الشهادة برئ من الدعوى، وفي قميص البشارة جميع بينه وبين من يهوى. وفي الحديث دليل على فضل سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وغزارة دينه ونفعه للمسلمين حياً ومياً، فإن القميص يؤول بالدين كما أوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقمصة: قميص العطية حين سألته المرأة فأعطاها قميصاً لم يكن له سواه، فجاءت الصلاة فلم يجد ما يلبسه ويخرج به إلى الصلاة فأنزل الله تعالى: ?وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً? [الإسراء: 29] . وقميص الهدية: وذلك أن عبد الله بن أبي سلوك كان رأس المنافقين فلما جاءه الموت قال: سيروا إلى محمد وأرغبوه أن يعطيني قميصه، فادفنوه معي في قبري، فأخبروا بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «خذوه إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً» فلما رأى ذلك المنافقون قالوا: إذا كان سيدنا يتبرك بثوبه فنحن أولى أن نتبرك بنفسه، فأخلص في ذلك اليوم ألف منافق. وقميص المعجزة وهو أن ما لبس ثوباً طال أو قصر إلا وكأنه خيط عليه، فإن كان طويلاً قصر حتى ساوى كعبيه وإن كان قصيراً طال حتى ساواها. وفي كل قميص ذكر فائدة: ففي قميص العطية وقع التعليم، وفي قميص الهدية بأن قدره العظيم، وفي قميص المعجزة ظهر الحق لمن كان في قفر الشك يهيم. وجره يؤول ببقايا آثاره الجميلة الحسنة بعد موته ليقتدى به وبسنته، ويتخلق بأخلاقه. وقد نفع عمر - رضي الله عنه - الناس في حياته ومماته:

أما في حياته فقد تواتر نفعه للناس حيث كان يقضي حوائج المحتاج من الأرامل واليتامى وغيرهم، ويحرس بيوت الناس ليلاً، فقد نقل أنه خرج في ليلة مظلمة فدخل بيتاً ثم خرج منه، ودخل بيتاً آخر وطلحة ينظره، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فرأى عجوزاً عمياء مقعده فقال لها طلحة: ما بال هذا الرجل يأتيك في كل ليلة؟ فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، ويأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذي أي: البول والغائط. وكان - رضي الله عنه - مع هذا الدين الغزير أحياناً يعاتب نفسه ويبكي حتى يبل لحيته، وربما يغشى عليه. قال أنس - رضي الله عنه - سمعت عمر - رضي الله عنه - وبيني وبينه حائط يقول: والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذنك. وكان أحياناً يضرب ظهره بدرته وأخذ يوماً تبنة من الأرض وقال: يا ليتني هذه التبنة، يا ليت أمي لم تلدني ياليتني كنت نسياً منسياً. وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، جاءه أعرابي له بنات فأنشده يا عمر الخير رقيت لجنة ... اكسوا بناتي وأمهن وكن لنا من الزمان جُنة ... أقسم بالله لتفعلنه فلم يرتج لترققه ولا راعه قسمه عليه بل قال: إن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذاً يا أبا حفص لأذهبنه، فقال: وإذا ذهبت يكون ماذا؟ فقال: يكون حالي لتسألنه، وموقف المسئول تنتهينه إما لي نار وإما إلى الجنة، فلما ذكر له الجنة والنار والموقف بين يدي الله تعالى بكى حتى اخضلت لحيته بدموعه، وقال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذاك اليوم لا لشعره، أما والله لا أملك غيره. فانظر ما حصل عنده من رقة القلب لم ينعم عليه إلا بما هو من خاصة ماله، ولم يجد غير قميصه، وقد كانت خزائن الأرض مملوءة بين يديه ذهباً، ولم يعطه من بيت مال المسلمين، وإن كان الأعرابي فقيراً مستحقاً، لأنه لما استنزله بشعره ولم يكن العطاء لمصلحة المسلمين فلم يعطه من مالهم. وأما نفعه للناس بعد موته: فقد أفاد بعض العلماء أنه لما مات - رضي الله عنه - جلس علي بن أبي طالب على قبره يسمع بماذا يجب الملكين، قال: وكان الله أعطى علياً علم البرزخ، فلما دخل الملكان عليه ارتعد منهما ثم أجابهما فقالا: نم يا ابن الخطاب، فقال: كيف أنام وقد أصابني منكم هذه الرعدة وقد صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن أشهد عليكما الله وملائكته أن لا تدخلا على مؤمن ولا على مؤمنة إلا في أحسن صورة ففعلا، فقال له على بن أبي طالب: نم يا ابن الخطاب فجزاك الله عن المسلمين خيراً، لقد نفعت الناس في حياتك وبعد مماتك. سؤال: فإن قيل: يلزم من الحديث أن يكون سيدنا عمر أفضل من أبي بكر لأن المراد بالأفضل الأكثر ثواباً، فمن كان دينه أكثر كان ثوابه أكثر، مع أن العلماء أجمعوا على

خلاف ذلك؟ جوابه: لا يلزم ذلك، إذ القسمة غير حاصرة لجواز قسم رابع، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قسم من عرض عليه في ثلاثة أقسام، قسم عليهم قميص تبلغ الثدي، وقسم عليهم قميص لا تبلغها، وقسم ثالث وهو عمر بن الخطاب عليه قميص يجره. ويحتمل أن يكون قسم رابع لم يذكره - صلى الله عليه وسلم -، ويكون أبا بكر - رضي الله عنه - سلمنا انحصار القسمة، لكن لم يخصص - صلى الله عليه وسلم - القسم الثالث بعمر، ولم يقصره عليه سلمنا التخصيص به، لكنه معارض بالأحاديث الدالة على أفضلية الصديق التي تواتر القدر المشترك بها، فدليلكم ودليلنا متواتر سلمنا التساوي بين الدليلين، لكن الإجماع منعقد على أفضليته وهو دليل قطعي، وهذا دليل ظني، والظني لا يعارض القطعي. ومما يدل على تفضيل أبي بكر على عمر وعلى غيره من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته أقامة مقامة في إمامة الصلاة حيث قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» (¬1) واتفق العلماء على أن السنة أن يقدم على القوم أفضلهم علماً وقراءة وخلقاً وورعاً. وصح في هذا الصحيح أن محمد بن الحنفية قال لأبيه علي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر ... الحديث (¬2) . * * * ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/240، رقم 646) ، ومسلم في صحيحه (1/316، رقم 420) من حديث أبي موسى. (¬2) انظر حديث محمد بن الحنفية في صحيح البخاري (3/1342، رقم 3468) . والحديث عند أبو داود في سننه (4/206، رقم 4629) .

المجلس الرابع والعشرون

المجلس الرابع والعشرون في الكلام على باب ?فإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ? [التوبة: 5] وعلى باب من قال: الإيمان هو العمل قوله: «باب ? فإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ? [التوبة: 5] » . الرواية «بابٌ» بالتنوين ويجوز تركه بالإضافة، والتقدير على الأول: باب في تفسير قوله تعالى: ?فإن تَابُوا? وعلى الثاني: باب تفسير قوله تعالى: ?فإن تَابُوا? وإنما جعل الحديث الآتي تفسير للآية لأن المراد بالتوبة: الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، يفسره قوله في الحديث: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» . ومعنى: «تَابُوا» : خلعوا الأوثان وأقبلوا على عباده الرحمن، وهذه الآية آخر آية نزلت من القرآن على قول، والصحيح: أن آخر آية نزلت من القرآن ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ? [البقرة: 281] إلى آخر الآية كما قدمنا ذلك. قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أبو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ سَمِعْتُ أبي يُحَدِّثُ، عَنِ ابن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ وإن مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فإذا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإسلام، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «أمرت» أي: أمرني الله، لأنه لا آمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل. والحاصل: أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس. قوله: «أن أقاتل» أي: بأن أقاتل، وحذف الجار من «أن» كثير. قوله: «حتى يشهدوا» جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه: أن من شهد وأقام وآتى، عُصم دمه ولو جحد باقي الأحكام. والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله: «إلا بحق الإسلام» يدخل فيه جميع ذلك. فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة؟ فالجواب: أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما، لأنهما أمَّا العبادات البدنية والمالية. قوله: «ويقيموا الصلاة» أي: يداوموا على الإتيان بها بشروطها، أو المراد بالقيام: الأداء -تعبيراً عن الكل بالجزء- إذ القيام بعض أركانها. والمراد بالصلاة: المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا، وإن صدق اسم الصلاة عليها. وقال الشيخ محيي الدين النووي: في هذا الحديث: أن من ترك الصلاة عمداً يقتل. وسئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب: بأن حكمهما واحد لاشتراكهما فى الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا. والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهراً، بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة، ولم ينقل أنه قتل أحداً منهم صبراً. وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظراً للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل. والله أعلم. وقد أطنب ابن دقيق العيد فى شرح العمدة فى الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل. وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله. قوله: «فإذا فعلوا ذلك» فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان. قوله: «عصموا» أي: منعوا. قوله: «وحسابهم على الله» أي: فى أمر سرائرهم، ولفظة «على» مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه، أي: هو كالواجب على الله فى تحقق الوقوع. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء فى قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافاً لمن أوجب تعلم الأدلة، ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن. فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد؟ فالجواب من أوجه: أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخراً عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى ?فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ? [التوبة: 5] . ثانيها: أن يكون من العام الذى خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم. ثالثها: أن يكون من العام الذى أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله: «أقاتل الناس» أي: المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ «أمرت أن أقاتل المشركين» . فإن قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية. أجيب: بأن الممتنع فى ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما فى الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية. رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل فى بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة. خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها. سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتى فيه ما فى الثالث وهو آخر الأجوبة، والله أعلم. انظر فتح الباري (1/75 - 77) .

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت» قال ابن حجر: معناه أمرني الله حيث لا آمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: «أمرت» فالمعنى: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر وإذا قاله التابعي احتمل، والحاصل: أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الأمر له هو ذلك الرئيس. والمراد «بالناس» عبده الأوثان دون أهل الكتاب، لأن أهل الكتاب سقط عنهم القتال بقبول الجزية لقول الله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? [التوبة: 29] . والمعنى: أمرني ربي أن أقاتل عبدة الأوثان إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر مع أنه يجب قتال من منع واجباً من واجبات الإسلام، لأنهما أصل العبادات البدنية والمالية، فلذلك تسمى الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام. وقوله: «فإذا فعلوا ذلك» أي: قالوا أشهد أن لا إله إلا الله، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وفي قوله: «فعلوا ذلك» التعبير بالفعل عما بعضه قول إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم إذا القول فعل ذلك. ومعنى: «وحسابهم على الله» أي: إنها أدعى على أفعالهم الظاهرة، فلا أدع أحداً أن يترك فرضاً من فرائض الله تعالى، وإن يظلم أحداً فإن ما يخفون في بواطنهم ويسرون في ضمائر من النيات والعقائد فليس له إليه سبيل، فيثيب المخلص ويعاقب المنافق، ويجزي المصر بفسقه أو يعفو عنه، وليس معنى: «على» هنا الوجوب فإن الله لا يحب عليه شيء، بل يكون بمعنى اللام أي: على سبيل التشبيه أي: هو كالواجب

على الله في تحقق الوجوب (¬1) . وفي هذا الحديث فوائد: الأولى: وجوب قتال الكفار إذا طاقه المسلمون حتى يسلموا أو يبذلوا الجزية إن كانوا ممن تقبل منهم. الثانية: وجوب قتال تاركي الصلاة والزكاة. الثالثة: قتل تاركي الصلاة عمداً مع اعتقاد وجوبها. واعلم أن مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - أن من ترك صلاة واحدة من الصلوات الخمس كسلاً وهو يعتقد وجوبها لا يكفر، وإنما يكفر إذا جحد وجوبها، ولكنه يقتل إذا أخرجها عن وقت الجمع لهذا الحديث ولما رواه أبو داود وابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن فلم يضيع منهن استخفافاً بحقهن، كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يأت فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» (¬2) فلا يقتل بترك الظهر إلا إذا غربت الشمس، ولا يقتل بترك المغرب إلا إذا طلع الفجر، ويقتل بترك كل من العصر والعشاء والصبح إذا خرج وقتها. قيل: تقول الملائكة لتارك الفجر يا فاجر، ولتارك الظهر يا خاسر، ولتارك العصر يا عاص، ولتارك المغرب يا كافر، ولتارك العشاء يا مضيع ضيعك الله. وجاء في الخبر: «من نام عن صلاة العتمة نادته الملائكة لا نامت عيناك ولا قرتا، حبسك الله بين الجنة والنار كما حبستنا» . وينبغي أن يستتاب تارك الصلاة قبل قتله، واختلفوا هل هي واجبة أو مستحبة؟ ذهب جماعة إلى وجوبها لكن المرجح في التحقيق للنووي استحبابها، وإذا تاب تارك الصلاة بأن فعلها فإنه لا يقتل، واستشكل ذلك الأسنوي بأنه يقتل حداً والحدود لا ¬

(¬1) قال ابن حجر في ذلك: ولفظة «على» مشعرة بالإيجاب وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه أي: هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع، وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافاً لمن أوجب تعلم الأدلة. انظر: فتح الباري (1/77) . (¬2) أخرجه أبو داود (1/115، رقم 425) ، وابن حبان (5/23، رقم 1732) . وأخرجه أيضاً: الطبراني فى الأوسط (5/56، رقم 4658) ، والبيهقي (2/215، رقم 2985) ، والضياء (8/320، رقم 385) جميعاً عن عبادة بن الصامت.

تسقط بالتوبة، والقتل على التأخير عن الوقت وقد وجد، وكيف تنفع فيه التوبة قال: وهذا كمن سرق نِصَاباً ثم رده فإن القطع لا يسقط. وأجاب عنه الزركشي وقال: لا خلاف عندنا أن تارك الصلاة إذا تاب يترك، وقول من قال الحدود لا تسقط بالتوبة قضية كليتها غير مسلمة، فالحد لا يسقط في ثلاث صور: قاطع الطريق إذا تاب قبل القدر عليه، والذمي إذا زنا ثم أسلم كما نص عليه الشافعي، وتارك الصلاة إذا تاب. وذهب أبو حنيفة وجماعة إلى أن تارك الصلاة عمداً يعزز ويحبس ولا يقتل، واختلف العلماء من الشافعية في صلاة الجمعة إذا تركتها وقال أصلي عوضها ظهراً فقال الغزالي: لا يقتل لكن الذي رجحه النووي أنه يقتل بتركتها، وإن كان يصلي الظهر لأنه لا يتصور قضاؤها، وليست الظهر قضاء عنها، وإذا ترك المكلف الوضوء وصلى بلا طهارة عمداً قتل عند الإمام الشافعي - رضي الله عنه - لأن الامتناع منه امتناع من الصلاة، لأنه شرط لها لا تصح بدونه، وكذا إذا صلى لغير القبلة فإنه يقتل كترك الوضوء. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الإنسان إذا صلى بلا طهارة لغير القبلة يكفر، وأما إذا وجب على الإنسان التيمم لفقد الماء مثلاً فصلى بلا تيمم عمداً، فإن كان ذلك التيمم تسقط الصلاة به فهو كالوضوء يقتل بتركه، وإن كان لا تسقط الصلاة به فلا يقتل بتركه، وإذا نذر صلاة في وقت فتركها عمداً حتى خرج وقتها المعين لا يقتل، وإذا ترك فاقد الطهورين الصلاة عمداً مع إنها واجبة عليه لحرمة الوقت لا يقتل لاختلاف العلماء في وجوبها عليه. وإذا قدم تارك الصلاة عمداً للقتل فأبدى عذراً كأن قال: تركتها ناسياً أو للبرد أو لعدم الماء ولنجاسة كلب ونحو ذلك من الأعذار فالمذهب لا يقتل. فائدة: قال الإمام أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي وجماعات من الصحابة: إن الإنسان المكلف إذا ترك الصلاة من غير جحة يكفر، وتجري عليه أحكام المرتدين فلا يورث ولا يغسل ولا يصلى عليه، وتبين منه امرأته واستدل على ذلك بحديث مسلم وغيره: «إن بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/88، رقم 82) عن جابر بن عبد الله.

وحديث الترمذي: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» (¬1) . وقال أبو هريرة وعبد الله بن شقيق العقيلي كما رواه الترمذي: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة (¬2) . لكن جمهور العلماء كالإمام الشافعي وغيره لا يكفر إلا الجاحد بوجوبها، وأجاب عن هذه الأدلة بأنها على مقاربة الكفر وعلى كفر النعمة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (¬3) على أن معناها أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل، وإنما أولناها بهذا التأويل وإن كان خلاف الظاهر كما مر في الحديث السابق: «ومن لم يأت فليس له عند عهد الله إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» فلو كفر بذلك لامتنع دخوله الجنة. ومن الأدلة على أن تارك الصلاة لا يكفر بتركها ما ورد في السنن: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة مكتوبة، فإن أتمها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» (¬4) . وإذا قتل عند الشافعية حداً على ترك الصلاة فهو كسائر أهل الكبائر من المسلمين يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ولا يطمس قبره. وإذا ترك صوم رمضان عمداً وهو معتقد لوجوبه لا يقتل بحبس، ومنع من الطعام الشراب نهاراً، لأن الظاهر أنه ينوبه لاعتقاد وجوبه عليه. وإذا ترك الزكاة عمداً وامتنع من إعطائها للمستحقين لا يقتل ولكن تؤخذ منه قهراً ويعذر على تركها. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (5/13، رقم 2621) ، وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أيضاً: النسائي (1/231، رقم 463) ، وابن ماجه (1/342، رقم 1079) جميعاً عن بريدة. (¬2) انظر: سنن الترمذي (5/14، رقم 2622) . (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/27، رقم 48) ، ومسلم في صحيحه (1/81، رقم 64) ، والترمذي في سننه (4/353، رقم 1983) وقال: حسن صحيح. والنسائي في سننه (7/122، رقم 4108) ، وابن ماجه في سننه (1/27، رقم 69) جميعاً عن ابن مسعود. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (1/229، رقم 864) ، والترمذي في سننه (2/269، رقم 413) وقال: حسن غريب، والنسائي في سننه (1/233، رقم 466) ، وابن ماجه في سننه (1/458، رقم 1425) جميعاً عن أبي هريرة.

وفي الحديث دلالة على أن من أظهر الإسلام وفعل الأركان نكف عنه، ولا نتعرض له. وفيه دلالة على قبول توبة الزنديق، وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام وإن تكرر منه الارتداد والإسلام، وعند الإمام مالك لا تقبل توبته، نعم إن كان صادقاً نفعه الله تعالى. وفيه دلالة على تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع. وفيه دليل على تحريم الامتناع من دفع الزكاة وعلى تحريم إخراج الصلاة عن وقتها، وقد نص العلماء على أن إخراج الصلاة عن وقتها عمداً من كبائر الذنوب وتجب المبادرة إلى قضائها. قال ابن حزم: لا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بغير حق. وقد ذم الله تعالى ورسوله من تركها قال الله تعالى: ?فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ? [مريم: 59] وضمير «بَعْدِهِم» راجع إلى النبيين المذكورين قبل هذه الآية. «والخلف» بسكون اللام يستعمل في الصالح «والخلف» بالفتح يستعمل في الصالح، ومعنى الآية: فخلف من بعد النبيين قوم سوء أضاعوا الصلاة أي: تركوا الصلاة المفروضة. وقيل: معنى أضاعوها أخروها عن وقتها بأن لا يصلي الظهر حتى يدخل وقت العصر، ولا العصر حتى تغيب الشمس. ومعنى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} أنهم ارتكبوا المعاصي كشرب الخمر أي: آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله. {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ} والغي قيل: نهر في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه. وقيل: وادي في جهنم، وأن أودية جهنم نستعيد بالله من حرها أعدت للزاني المصر عليه، ولشارب لخمر المدمن عليه، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولتارك الصلاة. وقال تعالى: ?فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ? [الماعون 4، 5] أي: مضيعون لوقتها.

فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية فقال: «هي إضاعة الوقت» (¬1) وقيل: معنى {سَاهُونَ} لا يبالون صلوها أو لم يصلوها. وقيل معناه: غافلون يتهاونون به. وقيل معناه: أنهم الذين إن صلوها صلوها رياء، وإن فاتتهم لا يندموا عليها. وقيل: لا يصلونها لوقتها ولا يتمون ركوعها وسجودها. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يحافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً [ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان] ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف» (¬2) رواه أحمد. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، فإن فسدت فقد خاب وخسر» (¬3) حسنه الترمذي. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا إيمان لمن لا أمانه له، ولا صلاة لمن لا طهور له، ولا دين لمن لا صلاة له، وإنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد» (¬4) رواه الطبراني. قال العلماء: لا تسقط الصلاة عن الإنسان بعد بلوغه ما دام عاقلاً بحال. قال الإمام الغزالي: ولو زعم زاعم أنه بلغ بينه وبين الله حالة أسقطت عنه الصلاة وأحلت له شرب الخمر وأكل مال السلطان، كما زعمه بعض المتصوفة فلا شك في وجوب قتلة، وإن كان في دخوله في النار نظر، وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر، وإن ضرره أكثر. فإذا عجز المكلف عن فعلها قائماً صلاها قاعداً، ولا ينقص ثوابه لأنه معزور. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (2/214، رقم 2983) وقال: هذا الحديث إنما يصح موقوفا وعكرمة بن إبراهيم قد ضعفه يحيى بن معين وغيره من أئمة الحديث. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (2/169، رقم 6576) قال الهيثمي (1/292) : رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً الدارمي في سننه (2/390، رقم 2721) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (3/46، رقم 2823) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/139، رقم 353) جميعاً عن ابن عمرو. وما بين المعكوفتين سقط من الأصل وأثبت من مسند أحمد. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه عن أبي هريرة (2/269، رقم 413) وقال: حسن غريب. (¬4) أخرجه الطبراني فى الأوسط (2/383، رقم 2292) ، وفى الصغير (1/113، رقم 162) ، قال الهيثمي (1/292) : تفرد به الحسين بن الحكم الحبري.

أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى قاعداً فله نصف أجر القائم» (¬1) فهو محمول على المتنفل، وإن عجز على فعلها قاعداً صلى مضطجعاً على شقيه الأيمن كما يوضع الميت في اللحد، ويجوز على الأيسر ولكن الأيمن أولى مراعاة للتيامن، فإن عجز الاضطجاع صلى مستلقياً على ظهره ورجلاه إلى القبلة، وإذا صلى مضجعا أو مستلقياً وأمكنه الركوع والسجود وجب عليه فعلها، وإن لم يمكنه ذلك لشدة مرضه أومأ إلى صوب القبلة بالركوع والسجود، ويومئ بالسجود أشد من الركوع حيث يقرب رأسه من الأرض ليتميز الركوع عن السجود، فإن عجز عن الإيماء برأسه أومأ بطرفه، فإن عجز عن تحريك أجفانه والنطق بلسانه صلى بقلبه، بأن يجري الأفعال والقرآن والأذكار على قلبه فلا تسقط بحال إلا إذا أختل عقله. وهنا فوائد متعلقة بتارك الصلاة: الأولى: قال فقهاؤنا: لا قصاص ولا دية ولا كفارة على من قتل تارك الصلاة، بل دمه هدر إذا قتله المصلي، أما إذا قتله شخص آخر تارك الصلاة فيجب القصاص على القاتل، كالزاني المحصن إذا قتله مسلم لا يقتل إلا إن يكون القاتل مثله فإنه يقتل. الثانية: لو خير الإنسان بين زواج ذمية بشرطه ومسلمة تاركة للصلاة كسلاً فالذمية أولى، لأن تاركة الصلاة إذا أصرت على تركها صارت مرتدة على مذهب أحمد بن حنبل فيصير في نكاحها خلاف، والذمية متفق على صحة نكاحها قاله ابن العماد. الثالثة: إذا اشترى الإنسان رقيقاً عبداً أو جارية فوجده تارك الصلاة فهو عيب فيه، فللمشتري رده على البائع بذلك إن أراد. الرابعة: يجوز غيبة تارك الصلاة لأنه يفسق، وقد ورد في الخبر: «لا غيبة لفاسق» (¬2) . ¬

(¬1) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه (1/375، رقم 1064) ، والترمذي في سننه (2/207، رقم 371) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه (3/223، رقم 1660) ، وابن ماجه في سننه (1/388، رقم 1231) جميعاً عن عمران بن حصين. (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/418، رقم 1011) ، قال الهيثمي (1/149) : فيه العلاء بن بشر ضعفه الأزدي. والبيهقي فى شعب الإيمان (7/109، رقم 9665) وقال: قال أبو عبد الله (يعنى الحاكم) : غير صحيح. وأخرجه أيضاً: القضاعي في مسند الشهاب (2/202، رقم 1185) جميعاً عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.

الخامسة: نقل شهاب الدين الأذرعي (¬1) عن فتاوى ابن البزري (¬2) أنه يجب على الرجل أن يأمر زوجته بالصلاة، قال تعالى: ?وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا? [طه: 132] وقال تعالى: ?يَا أيها الَّذِينَ آمنوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً? [التحريم: 6] قال: فإن أصرت على تركها فعليه إن يطلقها. السادسة: وهي واقعة وقعت أيام الشيخ الإمام العالم الصالح سيدي عبد العزيز الديريني (¬3) : شخص حلف بالطلاق أن لا يدخل على زوجته إلا في يوم مشؤم غير مبارك، فسأل العلماء عن ذلك فقالوا جميع الأيام مباركة متى ما دخلت عليها في يوم من الأيام وقع عليك الطلاق، ثم سئل الشيخ عبد العزيز الديريني فقال له: صليت اليوم شيئاً من الصلوات فقال: لا. فقال له الشيخ: ادخل عليها ولا يقع عليك الطلاق لأنه يوم مشؤم عليك غير مبارك بتركك الصلاة فيه. لطيفة من نزهة المجالس: ركب بعض الأكابر في البحر، فرأى السمك يأكل بعضه بعضاًَ فتوهم أن القحط وقع في البحر، فهتف به هاتف أنه قد شرب من البحر رجل تارك الصلاة فلما علم ملوحته قذفه من فمه في البحر، فوقع القحط من ذلك في الماء الذي قذفه من فمه فيه. أخرى: قال في نزهة المجالس: مر عيسى - عليه السلام - على قرية كثيرة الأشجار والأنهار والأرزاق فأكرمه أهلها فعجب من طاعتهم، ثم مر عليهم بعد ثلاث سنين فرأى الأشجار يابسة والأنهار ناشفة وهي خاوية على عروشها فتعجب من ذلك، فأوحى الله إليه أن قد مر على هذه القرية رجل تارك الصلاة فغسل وجهه في عينها فنشفت، ويبست الأشجار وخربت القرية، يا عيسى لما كان تارك الصلاة سبب لهدم الدين كان سبباً لخراب الدنيا. أخرى: قال أبو الليث السمرقندي: حكي أن رجلاً دفن أختاً له ثم ذكر أنه نسي كيساً له في قبرها، فأتى القبر فنبشه فوجد الكيس، ثم رفع ما على اللحد فرأى القبر يشتعل ناراً، فسأل أمه عن عمل أخته، فقالت: كانت تؤخر الصلاة ولا تصلي بطهارة كاملة، وتأتي أبواب الجيران لتسمع حديثهم لتمشي بالنميمة. قال شيخ الإسلام ابن حجر في فتح الباري في الكلام على التشهد: فائدة: قال القفال في فتاويه: ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين، لأن المصلي يقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولابد أن يقول في التشهد السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فيكون مقصراً بخدمة الله وفي حق رسوله وفي حق نفسه وفي حق كافة المسلمين ¬

(¬1) الأذرعي هو: أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد، أبو العباس، شهاب الدين الأذرعي فقيه شافعي، ولد بأذرعات بالشام سنة: 708 هـ‍، وتفقه بالقاهرة، وولي نيابة القضاء بحلب، وراسل السبكي بالمسائل الحلبيات وهي في مجلد، وجمعت فتاويه في رسالة، وله من المصنفات: جمع التوسط والفتح، بين الروضة والشرح في عشرون مجلداً، وشرح المنهاج شرحين أحدهما: غنية المحتاج، والثاني: قوت المحتاج، وفي كل منهما ما ليس في الآخر. وعاد إلى القاهرة سنة 772 هـ‍، ثم استقر في حلب إلى أن توفي سنة 783 هـ‍. (¬2) هو: عمر البزري واسمه: عمر بن محمد بن أحمد بن عكرمة البزري، فقيه شافعي، كان إمام جزيرة «ابن عمر» وفقيهها ومفتيها، مولده في سنة 471 هـ، في هذه الجزيرة، ووفاته فيها أيضاً سنة: 560 هـ‍، له من المؤلفات: الأسامي والعلل، وشرح إشكالات المهذب للشيرازي. (¬3) الديريني هو: عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الدميري المعروف بالديريني، فقيه شافعي من الزهاد. نسبته إلى «ديرين» في غربية مصر ولد بها سنة: 612هـ‍، ووفاته سنة: 694 هـ‍، وقبره بها، ومن كتبه: التيسير في علم التفسير وهو كتاب به أرجوزة تزيد على 3000 بيت، في غريب القرآن ومعانيه، والدرر الملتقطة في المسائل المختلطة وطهارة القلوب، والخضوع لعلام الغيوب في التصوف، وإرشاد الحيارى.

ولذلك عظمت المعصية بتركها. واستنبط منه السبكي: في الصلاة حقاً للعباد مع حق الله وإن تركها أخل بحق جميع المؤمنين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة، لوجوب قوله فيها السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (¬1) . * * * ¬

(¬1) انظر: فتح الباري (2/317) .

قَالَ البُخَارِي: باب مَنْ قَالَ: «إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ» لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ?وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الزخرف: 72] . وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أهل الْعِلْمِ فِي قوله تَعَالَى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الحجر: 92، 93] عَنْ قَوْلِ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ. وَقَالَ تعالى: ?لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ? [الصافات: 61] . قوله: «باب من قال: الإيمان هو العمل لقول الله عز وجل ?وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الزخرف: 72] » مقصود البخاري بهذا الباب الرد على المرجئة القائلين: بأن العمل لا يحتاج إليه مع الإيمان، وغلط غلاتهم فقالوا: إن ناطق الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقدها. وأراد «بالعمل» ما هو أعم من عمل القلب واللسان والجوارح، واستدل على ذلك بآيات من كتاب الله تعالى، وحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الآية الأولى: ?وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الزخرف: 72] يحتمل أن تكون مصدرية أي: بعملكم، ويحتمل أن تكون موصولة أي: بالذي كنتم تعملون، ووجه الاستدلال بها: لأن «تَعْمَلُونَ» بمعنى تؤمنون كما قاله المفسرون، فأطلقوا العمل وأريد به الإيمان، واستشكل العلماء هذه الآية وقالوا: الإرث يقتضي مورثاً، وهو الذي ينتقل منه الشيء بعد موته إلى غيره، ووارثاً هو الذي انتقلت إليه التركة، فإن أريد بالمورث في قوله: ?أُورِثْتُمُوهَا? الله، فالله سبحانه وتعالى حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم فكيف يقال ورث الجنة للمؤمنين؟ وأجابوا عن هذا الإشكال بأوجه: الأول: أن المورث هو الكافر فإن الكافر لولا كفره لكان له نصيب في الجنة، فلما مات كافراً انتقل نصيبه إلى المؤمن، بسبب كفره الذي هو موت روحه، فالمورث هم الكفار والورثة هم المؤمنون. الثاني: أن المورث هو الله تعالى والإرث هنا مجاز عن الإعطاء على طريقة إطلاق الكل وإرادة الجزء. واستشكل العلماء أيضاً من جهة أخرى وقالوا: إن ظاهرها يقتضي أن دخول العبد إنما هو بسبب عمله مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يدخل أحدكم الجنة

بعمله» (¬1) فإن ظاهره يدل على أن العمل ليس سبباً لدخول الجنة. وأجابوا عنه وجمعوا بين الآية والحديث من وجوه أحسنها كما قاله شيخ الإسلام ابن حجر: أن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول، والمثبت في الآية دخولها في العمل المتقبل والمقبول إنما يحصل برحمة الله تعالى فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله تعالى (¬2) وحاصل معنى الحديث: لن يدخل أحدكم الجنة بسبب عمله الذي لم يتقبل منه، ومعنى الآية: وتلك الجنة التي أورثتموها بسبب عملكم المقبول برحمة الله تعالى. فالحاصل: أن الدخول برحمة الله وليس عمل العبد مستقلاً بدخولها فقد روى أبو نعيم من حديث أبي الزبير أن جابراً قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا بتوحيد الله» (¬3) وإسناده على شرط مسلم. نعم العمل نافع في الدرجات فقد نقل عن سفيان وغيره أنه قال: كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمته، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال. وفي الحديث أيضاً: «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أن أحداً منكم لن ينجو بعمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (¬4) وهي سعة رحمة الله تعالى. يقول الحسن: يقول الله تعالى يوم القيامة: جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا جنتي برحمتي، واقتسموها بأعمالكم. وجاء في الحديث: «ينادى مناد من تحت العرش: يا أمة محمد ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم وبقيت التبعات، فتواهبوها فيما بينكم وادخلوا الجنة برحمتي» (¬5) . لطائف وأخبار في أن الدخول الجنة برحمة الله: اللطيفة الأولى: قال في الروض الفائق: قال عبد الواحد بن زيد رحمة الله تعالى: ¬

(¬1) جزء من حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (5/2373، رقم 6102) ، ومسلم في صحيحه (4/2171، رقم 2818) . (¬2) انظر فتح الباري (1/78) . (¬3) الحديث أصله في صحيح مسلم (4/2171، رقم 2817) . (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2373، رقم 6102) ، ومسلم في صحيحه (4/2171، رقم 2818) . (¬5) أخرجه الديلمي في الفردوس (5/496، رقم 8871) عن أنس بن مالك.

خرجنا جماعة من الفقراء نريد سفراً في البحر، فعصفت الريح بنا فطردتنا إلى جزيرة في البحر فرأينا فيها رجلاً يعبد صنماً من دون الله فقلنا له: أي شيء تعبد؟ فأومأ بأصبعه إلى الصنم، فقلنا له: يا مسكين إن معنا في السفينة من يحسن أن يصنع مثل هذا، وإن هذا ليس إلهاً يعبد، قال: فأنتم تعبدون من؟ قلنا: نعبد الله. قال: وما الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي البحر سبيله وفي الأحياء والأموات قضاؤه. قال: فكيف علمتم به؟ قلنا: أرسل إلينا رسولاً أخبرنا بذلك. قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: لما أدى رسالة الملك قبضه إليه. قال: فما ترك عندكم علامة من الملك؟ قلنا: بلى ترك عندنا كتاب الملك. قال: أروني كتاب الملك فإن كتاب الملوك حسان. فأتيناه بالمصحف فقرأناه عليه سورة فما زال يسمع ويبكي إلى أن تممنا السورة فقال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعص، فأسلم فحملناه معنا وعلمناه شرائع الإسلام وشيئاً من القرآن، فلما أقبل الليل صلينا العشاء وأخذنا مضاجعنا للنوم، فقال: يا قوم الإله الذي دللتموني عليه ينام؟ قلنا: لا يا عبد الله هو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. قال: فبئس العبيد أنتم تنامون ومولاكم لا ينام. فأعجبنا كلامه فلما وصل إلى عَبْادان (¬1) وأردنا أن نفترق جمعنا له دراهم، وقلنا: أنفق هذه عليك. فنظر إلينا مغضبا وقال: لا إله إلا الله دللتموني على طريق ولم تسلكوها، أنا كنت في جزيرة في البحر أعبد صنماً من دونه فلم يضيعني، فكيف الآن وقد عرفته. ثم تركنا، ومضى عبد الواحد فلما كان بعد ثلاثة أيام أتاني أت فأخبرني عنه أنه بأرض كذا وهو يعالج سكرات الموت فجئته وقلت له: ألك حاجة قال: قد قضى حوائجي من عرفتني به، فبينما أنا أكلمه إذ غلبتني عيناي فنمت، فرأيت في المنام روضة خضراء وفي الروضة قبة وفيها سرير وعليه جارية أجمل من الشمس والقمر وجهاً وهي تقول: سألتك بالله ألآ ما عجلت به علي فانتبهت فإذا به قد مات فجهزته ودفنته في قبر، فلما نمت رأيته في المنام في القبة التي رأيتها أولاً والجارية إلى جانبه وهو يتلو قوله تعالى: ?وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ? [الرعد: 23، 24] فهذا أسلم ولم يعمل إلا قليلاً، وقد تفضل عليه مولاه بدخول الجنة برحمته من غير عمل كثير، وهذا وإن كان مناماً فهو شيء يستأنس لما ذكرناه. ¬

(¬1) هكذا بالأصل ويبدو أنه اسم مكان وصلوا إليه.

الثانية: ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «خرج من عندي أخي جبريل آنفاً وقال: يا محمد والذي بعثك بالحق إن لله عبداً من عباده عبد الله تعالى خمسمائه عام على رأس جبل، عرضه وطوله ثلاثون ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، والبحر يحيط به أربعة آلاف فرسخ، من كل ناحية وأخرج الله له عيناً عذبة بعرض الأصبع تفيض بماء عذب، وأنبت شجرة رمان كل يوم تخرج رمانة، فإذا أمسي نزل إلى العين توضأ من الماء وأخذ الرمانة وأكلها تغنيه عن كل طعام، ثم يقوم إلى الصلاة فيصلي فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه إليه وهو ساجد ولا يجعل للأرض ولا لشيء على جسده سبيلاً حتى يبعثه وهو ساجد ففعل، قال جبريل: ونحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا صعدنا وهو ساجد، فنحن نجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول الرب تبارك وتعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول العبد: بل بعملي يارب، فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ثلاثاً، فيقول العبد: بل بعملي يارب، فأين عبادتي خمسمائة عام فيقول الله: حاسبوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائه سنة، وبقيت نعمة الجسد، فيقول: فأين عبادتي؟ فيقول الله تعالى: من خلقك ألم تك شيئاً؟ فيقول: أنت يارب، فيقول: من قواك على عبادة خمسمائه سنة؟ فيقول: أنت يارب، فيقول: من أنزلك في هذا الجبل وأخرج لك عينا من الماء الزلال، وأنبت لك كل يوم رمانة، وإنما تخرج في السنة مرة، وسألتني إن أقبضك ساجداً ففعلت، قال: نعم يارب، قال الله تعالى: فأعطني حق نعمتي عليك، قال: فبهت العبد بهتة شديدة فيقول الله تعالى: خذوه إلى النار فيسحبوه حتى إذا أشرف على جهنم التفت إلى الله تعالى كالمتوسل فيقول الله وهو أعلم: ما تريد يا عبدي؟ فيقول: إلهي أنعمت علي في الدنيا برحمتك، وردني إلى الجنة برحمتك فيؤمر به إلى الجنة، ويقول جل جلاله: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فنعم العبد كنت، يا عبدي إنما الأشياء برحمة الله» (¬1) . ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوارد الأصول في الأصل السابع. ¬

(¬1) ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1/94) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/278، رقم 7637) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي فى شعب الإيمان (4/150، رقم 4620) جميعاً عن جابر.

الثالثة: ذكر الإمام الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة: أنه يؤتى برجل يوم القيامة فما يجد حسنة يرجح بها ميزانه، وقد اعتدل ميزانه بالسوية فيقول الله تعالى: هل لك من حسنة، إذهب في الناس فالتمس من يعطيك حسنة ترجح ميزانك وتدخل الجنة، قال: فيحوس بين خلال العالمين فما يجد أحداً يكلمه في ذلك الأمر إلا يقول: أنا خائف من خفة ميزاني، قال: فييأس، فيقول له رجل: ما الذي تطلب؟ فيقول: حسنة واحدة يرجح بها ميزاني، فيقول ذلك الرجل: نظرت أنا في صحيفتي فما وجدت فيها سوى حسنة واحدة فما أظنها تغني عني شيئاً إلا أن يرحمني بكرمه، فخذها هبة مني لك، فينطلق فرحاً مسروراً فيقول الله تعالى له: ما بالك؟ وهو أعلم، فيقول: يارب كل الخلائق ما نظر منهم أحد لي سوى عبدك هذا، فينادي سبحانه وتعالى بصاحبه الذي وهبه الحسنة، ويقول له: يا عبدي لأي شيء وهبته الحسنة فيقول: إلهي نظرت في صحيفتي فما رأيت فيها سوي حسنة واحدة، فقلت: إذا كان المولى كريماً فما تنفع الحسنة للعبد السقيم، فيقول سبحانه وتعالى: كرمي يا عبدي أوسع من كرمك، خذ بيد صاحبك فادخلا الجنة بكرمي ورحمتي. وروي أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أمتي أمة مرحومة، عجل عقابها في الدنيا بالزلازل والفتن، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجل من أهل الكتاب، فيقال: هذا فداؤك من النار» (¬1) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يتجلى الله تبارك وتعالى لنا يوم القيامة ضاحكاً يقول: أبشروا يا معشر المسلمين، فإنه ليس أحد منكم إلا وقد جعلت مكانه في النار يهودياً ونصرانياً» (¬2) . وعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورقة، ثم وضعها على العرش ثم نادى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم من قبل أن تستغفروني، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/410، رقم 19693) ، والحاكم في المستدرك (4/283، رقم 7649) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي فى شعب الإيمان (7/148، رقم 9799) ، والروياني في مسنده (1/334، رقم 505) . (¬2) جزء من حديث أخرجه أحمد في مسنده (4/407، رقم 19671) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/191، رقم 540) كلاهما عن أبي موسى.

أدخلته الجنة» (¬1) . ولله در القائل: ذنوبي كثيرة ما أطيق احتمالها ... وعفوك عن ذنبي أجل وأكبر وقد وسعتني رحمة منك ... وإني لها يوم القيامة أفقر وقيل: إن الله تعالى إذا أراد أن يستر عبده يوم القيامة ولا يفضحه على رؤوس الأشهاد، فيعطيه كتابة بيمينه وهو مشحون بالسيئات، وذلك العبد خائف مما في الكتاب، لعلمه أن ذنوبه كثيرة فيقرأ في الوجه الذي فيه السيئات سراً ويقول في نفسه: ليس لي حسنة واحدة، وتقول الخلائق: سبحان الله ليس في كتاب هذا العبد سيئة واحدة فإذا فرغ من قرأته يقول الله تبارك وتعالى عبدي: هذه حسناتك في ظهر كتابك أظهرتها لخلقي، وسترت عنهم سيئاتك في الدنيا والآخرة، يا ملائكة امضوا به إلى الجنة بعفوي ورحمتي. ولقد أحسن من قال: يا من له ستر عليَّ جميل ... هل لي إليك إذا اعتذرت قبول أيدتني ورحمتني وسترتني ... كرماً فأنت لمن رجاك كفيل وعصيت ثم رأيت عفوك واسعاً ... وعليَّ سترك دائماً مسبول فلك المحامد والممادح في الثناء ... يا من هو المقصود والمسئول وروى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن رجلين ممن يدخل النار يشتد صياحهما فيقول الله تعالى: أخرجوها ثم يقال: لأي شيء صياحكما؟ فيقولان: فعلنا كذلك لترحمنا، فيقول: إن رحمتي بكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما في النار حيث كنتما، فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها عليه برداً وسلاماً، ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه، فيقول له الرب تبارك وتعالى: ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقي صاحبك نفسه، فيقول: يارب إن لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد أن أخرجتني منها، فيقول الرب تبارك وتعالى: لك رجاؤك فيدخلان معاً الجنة برحمة الله» (¬2) . وقال بكر بن سليم الصواف: دخلنا على مالك بن أنس - رضي الله عنه - في العشية التي قبض ¬

(¬1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (4/415، رقم 7206) عن عمرو بن عبسة. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه (4/714، رقم 2599) عن أبي هريرة، قال الترمذي: إسناد هذا الحديث ضعيف.

فيها فقلنا له: يا عبد الله كيف تجدك؟ قال: لا أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون من لطف الله ورحمته ما لم يكن لكم في حساب، فما برحنا من عنده حتى غمضناه. وقيل: إن الله سبحانه وتعالى ألطف وأرحم ما يكون بعبده إذا وضع في لحده ووضع خشن التراب على لين جلده، وجفاه من كان يرغب في قبوله ووده، فإذا وضع الميت على المغتسل أولاً، ودرج في ثيابه، وآيس من أحبابه فينادي: واسوأتاه وافضيحتاه، ولا يسمع نداءه إلا مولاه، فيجيه الحق جل جلاله ويقول: أنا سترك في الدنيا وأنا أسترك في الآخرة. وقال لله دره: يا من له ستر الجميل على الورى ... ويجود بالإفضال منه وبالقرى ايدتني ورحمتني وسترتني ... وهديتني لطفاً وكنت مقصرا وارحم بعفوك زلتي يا سيدي ... ومصون وجهي في التراب معفرا وإذا خرج الميت من الدار على النعش فإنه يصيح: واغربتاه، فيقول الحق سبحانه وتعالى: عبدي إذا كنت اليوم غريباً فإني منك ما زلت قريباً، لا تخف فإني مقيل عثرتك، وراحم عبرتك، ومؤنس وحدتك. وقال لله دره: يا راحم الغرباء من جوده ... قد عمني يا مؤنسي في وحدتي أمسيت من أهلي غريباً مفرداً ... ولأنت يا مولاي راحم غربتي فإذا وضعوه في اللحد ووضعوا خشن التراب على لين جلده، ثم تركوه وانصرفوا ومضوا عنه فيصيح: يا وحدتاه، فيناديه الكريم الرؤوف الرحيم: عبدي هل تستوحش وأنا أنيسك، هل تشكو الوحدة وأنا جليسك، يا عبدي ألست بربك؟ فيقول: بلى يا ربي، فيقول: كيف تركت ما أمرتك به وتبعت ما نهيتك عنه، أما علمت أن مرجعك إليّ، وأعمالك معروضة علي وبين يدي، أنسيت عهدي أم أنكرت وعيدي ووعدي، فالآن تخلى عنك الصاحب والصديق، وتجردت عن المال الوثيق، فلا المال نفعك في مآلك، ولا الصديق خلصك من قبح أفعالك، فما حجتك ومعذرتك؟ فيقول: يارب احتوى على قلبي حب الدنيا وحب المال، فحملاني على الذنوب والأثقال وها أنا قد صرت في دوارك وأنا الليلة ضيفك، فلا تعذبني بنارك، وإن لم ترحمني أنت فمن يرحمني؟ فيقول الله تعالى: يا عبدي مضوا عنك وتركوك، ولو أقاموا عندك ما نفعوك، إلى بأبي وجهوك، وعلى كرمي خلفوك، يا عبدي طب نفساً وقر عيناً فأنت الليلة

ضيفي، والكريم لا يخيب ضيفه، يا ملائكتي أحسنوا في ضيافته وكونوا عليه أشفق من أهله وقرابته، ولله در القائل حيث قال: إذا ما الموت في جسمي السقيم ... سرى وأتى على عظمي الرميم وبت مجاور الرب الكريم ... فقولوا لي وافى نعيمي لك البشرى قدمت على كريم تولى العمر واقترب الرحيل ... وزادي من التقى زاد قليل وفي لحدي إذا حان النزول فهنؤني أحبائي وقولوا ... لك البشرى قدمت على كريم وقيل: إن موسى - عليه السلام - قال في بعص مناجاته: يارب. فقال له: لبيك يا موسى. فقال موسى - عليه السلام -: يارب أنت أنت فمن أنا حتى تجبني بالتلبية؟ فقال: يا موسى إني آليت على نفسي أنه لا يدعوني عبد من عبادي بالربوبية إلا أجبته بالتلبية. فقال موسى: يارب هذا لكل عبد طائع؟ قال: ولكل عبد مذنب. قال: يارب أما الطائع فبطاعته فما بال المذنب؟ قال الله تعالى: يا موسى إني إذا جازيت المحسن بإحسانه، وضيعت المسيئ لإساءته فأين جودي وكرمي. تعصي وتجهر بالعصيان إعلاناً ... وأستر الذنب إنعاماً وإحسنانا ولا أجازي مسيئاً في إساءته ... ولا الذي في العصيان عدوانا ومن أتى ببابنا بالذل منكسراً ... نعطيه من فضلنا عفواً وغفرانا ثم استدل البخاري - رضي الله عنه - على استعمال العمل بمعنى الإيمان لأجل الرد عل المرجئة بالآية الثانية فقال: «وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الحجر: 92، 93] عن قول لا إله إلا الله» المعنى: وقال جماعة من أهل العلم من الصحابة التابعين وغيرهم منهم أنس وابن عمر ومجاهد أن المراد بقوله: ?يَعْمَلُونَ? في قوله تعالى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ?: هو قول لا إله إلا الله، فأطلق العمل على قولهم وأريد به عمل الإنسان فقط، ومقتضى الآية على تفسيرهم: أن المكلفين لا يسألون يوم القيامة إلا عن قول لا إله إلا الله فقط. فقد اعترضه النووي فقال: الظاهر أن المراد لنسألنهم عن أعمالهم كلها أي: الأعمال التي يتعلق بها التكليف، والتخصيص بقول لا إله إلا الله دعوي لا دليل لها.

وقد استشكل العلماء هذه الآية بقوله تعالى: ?فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلاَ جَانٌّ? [الرحمن: 39] فإن هذه الآية تعارض الآية التي ذكرها البخاري، وبيانه: أن قوله تعالى ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين? [الحجر: 92] تدل على أن كل أحد يسأل يوم القيامة، وقوله تعالى ?فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلاَ جَانٌّ? [الرحمن: 39] تدل على أنه لا يسأل أحد في القيامة، وقد جمع العلماء بين الآيتين من وجوه: الأول: أن في القيامة مواقف مختلفة وأزمنه متطاولة، أعاننا الله الكريم على أهوالها ففي موقف أو زمان يسألون، وعليه يحمل قوله: ?فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلاَ جَانٌّ? [الرحمن: 39] . الثاني: المراد بقوله تعالى: ?فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلاَ جَانٌّ? [الرحمن: 39] أنهم لا يسألون سؤال استخبار بل سؤال التوبيخ وتقريع. الثالث: أن المراد لا يسأل عن ذنبه غيره من الإنس والجان كما لا يحمل ذنبه غيره كما قال تعالى: ?وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى? [الأنعام: 164] . ثم استدل البخاري بالآية الثالثة فقال: «وقال الله - عز وجل -: ?لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ? [الصافات: 61] والمعنى: لمثل هذا الفوز العظيم فليؤمن الكافرون، فأطلق العمل وأراد به الإيمان. * * *

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالاَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ «الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ» (¬1) . قوله: «حدثنا أحمد بن يونس وموسى بن إسماعيل، قال: أنبانا إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب» هذا هو إمام التابعين سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، من الفقهاء وأبيه وجده صحابيان. والمسيب بفتح الياء على المشهور وقيل: بكسرها، وكان يكره فتح الياء ويحب أن يقال المسيب بكسر الياء، واجتمع بعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وسمع منهم الأحاديث، وروى عنهم وعن أبي هريرة، وكان زوجاً لابنته وأعلم الناس بحديثه، ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «سئل» أبهم السائل وهو أبو ذر الغفاري. قوله: «قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد» وقع في مسند الحارث أبي أسامة عن إبراهيم ابن سعد «ثم جهاد» فواخى بين الثلاثة في التنكير، بخلاف ما عند المصنف. وقال الكرماني: الإيمان لا يتكرر كالحج، والجهاد قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال. إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل. وتعقب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطي الكمال. وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد، وهو يعطي الإفراد الشخصي، فلا يسلم الفرق. قلت: وقد ظهر من رواية الحارث التي ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة، لأن مخرجه واحد، فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة، والله الموفق. قوله: «حج مبرور» أي: مقبول ومنه بَرَّ حجك. وقيل: المبرور الذى لا يخالطه إثم. وقيل: الذى لا رياء فيه. فائدة قال النووي: ذكر في هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان، وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثم الجهاد، وفي الحديث المتقدم ذكر السلامة من اليد واللسان. قال العلماء: اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه، ويمكن أن يقال: إن لفظة «من» مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس، والمراد من أعقلهم، ومنه حديث: «خيركم خيركم لأهله» ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس. فإن قيل: لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن؟ فالجواب: إن نفع الحج قاصر غالباً، ونفع الجهاد متعد غالباً، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين -ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر- فكان أهم منه فقدم والله أعلم. انظر فتح الباري (1/78) .

وأخذ عن خلق من الصحابة وأخذ عنه خلق من التابعين وغيرهم، واتفق العلماء عل جلالته وأمانته، وهو أفضل التابعين كما قاله أحمد بن حنبل. وأما ما ورد في صحيح مسلم من أن «خير التابعين رجل يقال له أويس» (¬1) فهو محمول على أنه أفضل في الزهد، وأما سعيد بن المسيب فإنه أفضل التابعين في العلم الشرعي قاله النووي (¬2) . ومن فضائله - رضي الله عنه - أنه جاء رجل وهو مريض مضطجع على شقه فسأله عن حديث من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس بمشقة وحدثه به، فقال الرجل: وددت أنك حدثتني عنه وأنت مضطجع حتى لا تجهد نفسك، فقال: كرهت أن أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مضطجع (¬3) . ومن فضائله أيضاً: أنه صلى صلاة الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة (¬4) . وقال مولاه: ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد (¬5) . ومن كلامه - رضي الله عنه -: لا تمدوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة (¬6) . ومن كلامه أيضاً: ما أكرمت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله (¬7) . ومنه أيضاً: كفى نصرة من الله إن يرى عدوه يعمل بمعصية الله (¬8) . ومنه أيضاً: من استغنى بالله افتقر إليه الناس (¬9) . ومنه أيضاً: إن الدنيا نذلة، فهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1968، رقم 2542) عن عمر. (¬2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (16/95) . (¬3) أورده أبو نعيم في الحلية (2/169) . (¬4) أورده أبو نعيم في الحلية (2/163) . (¬5) أورده أبو نعيم في الحلية (2/163) . (¬6) أورده أبو نعيم في الحلية (2/170) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (4/232) . (¬7) أورده أبو نعيم في الحلية (2/164) . (¬8) أورده أبو نعيم في الحلية (2/164) . (¬9) أورده أبو نعيم في الحلية (2/173) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (4/239) .

حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في غير سلبها (¬1) . مات - رضي الله عنه - في خلافة الوليد بن عبد الملك بالمدينة سنة ثلاث وتسعين «سنة الفقهاء» لكثرة من مات فيها منهم. «عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العمل أفضل قال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جح مبرور» . السائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال هو أبو ذر - رضي الله عنه -. والجهاد هو: القتال مع الكفار لأجل إعلاء كلمة الله، وإنما كان أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله من غيره لأنه بذل النفس في سبيل الله، قال بعضهم: والجود بالنفس أقصى غاية الجود. قال الحليمي: لولا دفع الله المشركين بالمؤمنين وتسليط المؤمنين على دفعهم عن بيضة الإسلام، لقلب الشرك على الأرض وارتفعت الديانة، فثبت أن سبب بقاء الدين هو الجهاد. وهو أفضل من العزلة والتفرغ للعبادة فقد أخرج ابن عساكر بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أخبركم بخير الناس منزلة رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، إلا أخبركم بخير الناس منزلة بعده رجل معتزل في غنم له يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئاً» (¬2) . وكتب عبد الله بن المبارك إلى فضيل بن عياض وهو بمكة يحثه على الجهاد، وكان الفضيل قد اعتزل الناس ولازم العزلة والعبادة وترك الجهاد فقال: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت إنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تخضب أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبحية تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي وغبار خيل الله في ... أنف امرء ودخان نار تلهب ¬

(¬1) أورده أبو نعيم في الحلية (2/170) . (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (2/523، رقم 10789) ، والحاكم في المستدرك (2/77، رقم 2379) وقال: صحيح على شرط الشيخين.

هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب فلما سلمت إليه هذه الأبيات ذرفت عيناه ثم قال: صدق عبد الله ونصحني (¬1) . وظاهر الحديث يقتضي أن الجهاد أفضل من الحج، وهو محمول على حج النافلة، وأما حجة الإسلام فإنها أفضل من الجهاد، هذا إذا كان الجهاد فرض كفاية، أما إذا كان فرض عين فإنه مقدم على حجة الإسلام قطعاً لوجوب فعله على الفور. والحج هو قصد الكعبة لأجل النسك مع الوقوف بعرفة والحج المبرور قيل: هو المقبول، ومن علامة قبول حج الإنسان أنه إذا رجع يكون حاله خيراً من الحال الذي كان قبله، وقيل: هو الذي لا رياء فيه، وقيل: هو الذي لا يعقبه معصية، وقيل: هو الذي لا يرتكب فيه المعاصي، قال بعضهم: فمن كان بالمال الحرام حجيجه ... فعن حجة والله ما كان غناه إذا هو لبى الله كان جوابه ... من الله لا لبيك حجك رددناه * * * ¬

(¬1) أورده ابن عساكر في التاريح (32/449) .

المجلس الخامس العشرون

المجلس الخامس العشرون في الكلام على باب: كفران العشير وكفر دون كفر وما في حديثه من الفوائد واللطائف قَالَ البُخَارِي: باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قوله: «باب كفران العشير وكفر دون كفر» قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه على هذا الصحيح: أراد البخاري في ترجمته أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيماناً. كذلك المعاصي تسمى كفراً. وإطلاق الكفر عليها مجاز بمعنى كفر النعمة لا كفر الحجة. و «العشير» بمعنى معاشر وهو الزوج. بمثل كيل بمعنى مواكل. قيل له: عشير لأنه يعاشر المرأة وتعاشره. وهو مأخوذ من قوله تعالى: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [النساء: 19] فكفران مصدر مضاف إلى المفعول الفاعل متروك. والمعنى: باب إنكار المرأة وجحدها إحسان زوجها إليها. وخص هذا الذنب بالذكر دون غيره من الذنوب وأطلق عليه الكفر لرقيقة بديعة. وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (¬1) وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية كان ذلك دليلاً على تناولها بحق الله تعالى. فلذلك أطلق عليها الكفر لكنه كفر نعمة لا يخرج عن الملة. قال الإمام النووي: ويجوز أن يراد «بالعشير» الخليط والصاحب أي: مطلق المعاشر سواء كان زوجة وغيرها. فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل. والمعنى: باب كفران الصاحب إلى إنكار الصاحب والمخالط إحسان صاحبه مخالطه. قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ. عَنْ مَالِكٍ. عَنْ زَيْدِ بْنِ أسلم. عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ. عَنِ ابن عَبَّاسٍ. قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أكثر أهلها النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ» . قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ. وَيَكْفُرْنَ الإحسان. لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» . ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (3/465. رقم 1159) . وقال: حسن غريب. والبيهقي في سننه الكبرى (7/291. رقم 14481) عن أبي هريرة.

وها هنا فوائد بعضها مستفاد من الحديث والبعض الآخر بطريق المناسبة: الأولى: الكفر قد يطلق على غير الكفر بالله بأن يراد كفر النعمة أي: إنكارها ودليل هذه الفائدة من الحديث قوله: «يكفرن العشير. ويكفرن الإحسان» ويؤخذ منه صحة تأويل الكفر في أحاديث بكفر النعمة والحقوق كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» (¬1) المعنى: لا ترجعوا بعدي كفاراً للنعمة والحقوق. ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم. فقد كفر حقهم ونعمتهم» (¬2) . الثانية: ينبغي لولي الأمر وأصحاب الولايات وكبار السن أن يعظوا رعاياهم واتباعهم. ويحذروهم من المخالفات لأوامر الله تعالى ونواهيه. ويحرضوهم على الطاعات. الثالثة: للمتعلم أن يراجع العالم فيما سمعه منه إذا لم يظهر له معناه ليبينه له. الرابعة: دل الحديث المذكور على أن كفران الحقوق. وجحد الإحسان حرام معدود من كبائر الذنوب. ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توعد من فعل ذلك بالنار. فجحد المرأة إحسان زوجها عليها. كأن قالت: ما رأيت منك خيراً قط. حرام معدود من كبائر الذنوب. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/56. رقم 121) . ومسلم في صحيحه (1/81. رقم 65) عن جرير. وأخرجه البخاري في صحيحه (6/2518. رقم 6474) . وأبو داود في سننه (4/221. رقم 4686) . والنسائي في سننه (7/126. رقم 4125) . وابن ماجه في سننه (2/1300. رقم 3943) عن ابن عمر. وأخرجه البخاري في صحيحه (6/2593. رقم 6667) . والنسائي في سننه (7/127. رقم 4130) عن أبي بكرة. وأخرجه البخاري في صحيحه (2/619. رقم 1652) . والترمذي في سننه (4/486. رقم 2193) عن ابن عباس. وقال: حسن صحيح. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (1/83. رقم 68) . وأحمد في مسنده (4/365. رقم 19263) . والطبراني في المعجم الكبير (2/320. رقم 2332) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/382. رقم 8596) جميعاً عن جرير.

وكذا كل من وصل إليه إحسان من غيره. سواء كان ذلك الإحسان مالاً أو علماً أو جلب نفع أو دفع ضرر. إذا أنكره وجحده. كأن قال: فلان لم يفعل معي خيراً قط. حرام وكبيرة. فإذا قرأ إنسان على غيره قرآناً أو علماً من العلوم أو سلكه أو رباه أو دله طريق من طرق أهل الخير ونحو ذلك. ثم أنكر ذلك. وقال: فلاناً لم أقرأ عليه شيئاً. أو لم يسلكني. أو ليس بشيخي. أو لم أنتفع به. أو نحو ذلك فهو حرام. لما في ذلك من حجد النعمة التي وصلت إليه. وإنما كان جحد النعمة حراماً معدوداً من الكبائر لأن المرأة إذا جحدت نعمة زوجها فقد جحدت نعمة الله. لأن هذه النعمة التي وصلت إليها من زوجها هي بالحقيقة واصلة من الله. قال شيخ الإسلام تاج الدين السبكي: اعلم أن كل من وصل إليك على يديه خير من المخلوقين فهو في قبضة رب العالمين. فاشكره وحده لا تشرك به أحداً. واعلم أن المخلوق مضطر. سلط الله عليه الإرادة. وألقى في قلبه أن يعطيك فلم يجد بعد ذلك سبيلاً إلى دفعك. ولا يعطيك إلا لغرض نفسه. لا لغرضك. ولو لم يكن له غرض في الإعطاء لما أعطاك ولو لم يعتقد أن له نفعاًَ لما نفعك. فهو إذاً إنما يطلب نفع نفسه بنفعك. ويتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى يرجوها لنفسه. وما أنعم عليك إلا الذي سخره لك. وألقى في قلبه ما حمله على الإحسان عليك. وهنا سؤال وهو أن يقال: إذا كان المنعم بالحقيقة هو الله. وأن النعمة التي صدرت من العبد إنما هي من الله أجراها على يد العبد. فلأي شيء يستحق العبد شكر هذه النعمة كما ورد في سنن أبي داود عن أبي هريرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» (¬1) . وفي الترمذي: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله» (¬2) لفظ آخر: «من لم يشكر ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4/255 رقم 4811) . وابن حبان في صحيحه (8/198. رقم 3407) . وأحمد في مسنده (2/295. رقم 7926) . والطيالسي في مسنده (ص: 326. رقم 2491) . والبيهقي في سننه الكبرى (6/182. رقم 11812) . والبخاري في الأدب المفرد (1/85. رقم 218) . والقضاعي في مسند الشهاب (2/35. رقم 829) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/516. رقم 9117) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه عن أبي هريرة (4/339 رقم 1954) وقال: حسن صحيح.

الناس لم يشكر الله» (¬1) . وفي حديث آخر: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير. ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله. والتحدث بنعمة الله شكر. وتركه كفر» (¬2) . وفي حديث آخر: «إن أشكر الناس لله أشكرهم للناس» (¬3) . فهذه الأحاديث تدل عل استحقاق العبد الشكر عن صدور النعمة منه. فالجواب: أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - إنما حث على شكرك إياه لا لكون النعمة صدرت منه. بل لكونها جرت على يده. فإذا شكرته عليها حمله ذلك الشكر على أن يزيد من فعل الخير. والمنعم بالحقيقة هو الله. فإذا شكرت عبداً لكونه أحسن إليك في الدنيا فإن شكره لكون الشارع - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك. لا لاعتقاد أنه فاعل ذلك. فإن شكرته معتقداً أن النعمة صدرت منه كنت مشركاً لا شاكراً. فإن العبد لا ينفع ولا يضر وربما تغير عليك. وانقلب حبه غضباً بأيسر الأسباب. والمحسن على الدوام الذي لا يتغير ولا يحول ولا يزول رب الأرباب. الخامسة: دل الحديث على تعذيب جاحد الإحسان. وعلى أن إيمان النساء يزيد بشكر نعمة العشير. السادسة: نساء الجنة مطهرات من الحيض والنفاس والبول والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر. وكل أذى يكون من نساء الدنيا. وطهر الله بواطنهن من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة. وطهر لسانهن من الفحش والنطق بالكلام السيئ. وطهر طرف كل واحدة منهن من إن تنظر به إلى غير زوجها. وطهر أثوابهن من أن يعرض لها دنس أو وسخ. ويدل على ذلك كله قوله تعالى: ?وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ? [البقرة: 25] . قيل: كانت أولاً حواء على صفة نساء الجنة مطهرة من الحيض وغيره. فلما أكلت ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/339. رقم 1955) وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (3/32. رقم 11298) . وأبو يعلى في مسنده (2/365. رقم 1122) عن أبي سعيد. (¬2) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (4/375. رقم 19370) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/516. رقم 9119) . (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (5/212. رقم 21895) . والضياء المقدسي في المختارة (4/306. رقم 1490) . والبيهقي في السنن الكبرى (6/182، رقم 11813) . والطيالسي في مسنده (ص: 141، رقم 1048) عن الأشعث بن قيس.

من الشجرة ابتلاها الله بالحيض وغيره. السابعة: نساء الدنيا وهن الآدميات في الجنة أفضل وأحسن من الحور العين. ويدل على هذا ما رواه الطبراني عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله - عز وجل -: ?وَحُورٌ عِينٌ? [الواقعة: 22] قال: «حور عين ضخام العيون» إلى أن قلت: يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: «بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الطهارة على البطانة» قلت: يا رسول الله وبم ذلك؟ قال: «بصلاتهن وصيامهن وبعبادتهن الله. ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الألوان. خضر الثياب. صفر الحلي. مجامرهن الدر. وأمشاطهن الذهب. يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبداً. ونحن الناعمات فلا نبتئس أبداً. ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً. ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً. طوبى لمن كنا له وكان لنا» (¬1) . الثامنة: الحور جمع حوراء. سميت بذلك قيل: لأن الطرف يحار فيها من رقة جلدها وصفاء لونها. «العين» جمع «عيناء» وهي العظيمة العين من النساء. قال العلامة ابن القيم: من محاسن المرأة اتساع عينها في طول. وضيق العين في المرأة من العيوب. وإنما ينبغي الضيق منها في أربعة مواضع: في وجهها وصدرها وكاهلها وهو ما بين كتفها وجبينها. وينبغي القصر منها في أربعة وهي معنوية: لسانها ويدها ورجلاها وعينها. فتكون قاصرة الطرف قصيرة الرجل واللسان عن الخروج وكثرة الكلام. قصيرة اليد بتناول ما يكره الزوج وعن بذله. وينبغي الرقة منها في أربعة: خصرها وفرقها وحاجبها وأنفها (¬2) . التاسعة: الحور مخلوقات من الزعفران لم يلدهن آدم ولا حواء. أنشأهن الله في الجنة من غير ولادة بين الآباء والأمهات. وقيل: خلقهن الله من الزعفران وغيره. فقد ورد في أثر عن ابن عباس أنه قال: «خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتها من الزعفران. ومن ركبتها إلى ثديها من المسك الأذفر. ومن ثديها إلى عنقها من العنبر. ومن عنقها إلى رأسها من ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (23/367. رقم 870) . وفي الأوسط (3/278. رقم 3141) . قال الهيثمي (7/119) : فيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدى. (¬2) انظر: حادي الأرواح لابن القيم (1/151) .

الكافور الأبيض» (¬1) . وروي أبو نعيم عن أنس يرفعه: «لو أن حوراء بصقت في سبعة أبحر لعذبت البحار من عذوبة فمها» (¬2) . كما قيل: فلو بصقت في البحر والبحر مالح ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذباً وروي: «لو أن يداً من الحور العين دليت من السماء لأضاءت لها الأرض كما تضيئ الشمس لأهل الدنيا» (¬3) هذه اليد فكيف بالوجه مع بياضه وحسنه وجماله. العاشرة: قالوا: إن الحور العين يعلمن بأزواجهن في الدنيا. فلا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله. فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا. وورد أنهن يدعون لأزواجهن يقلن: «اللهم أعنه على دينك. وأقبل بقلبه على طاعتك. وبلغه بعزتك يا أرحم الراحمين» (¬4) . الحادي عشر: إذا نفخ إسرافيل في الصور نفخة الموت هل تموت الحور من نفخه كما يموت غيرهن؟ ذهب أبو حنيفة وطائفة إلى أنهن لا يمتن وأنهن مما استثني الله تعالى بقوله: ?فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ? [الزمر: 68] . قال المفسرون: دخل تحت قوله: ?إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ? الحور والولدان وغيرهما. ويقوي هذا ما ورد في الحديث: «أنهن يقلن نحن الخالدات فلا نبيد» (¬5) . الثاني عشر: الذين ذكرهم الله في كتابه بقوله: ?يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَلْدَانٌ ¬

(¬1) أورده القرطبي في تفسيره (17/206) . والمناوي في فيض القدير (3/449) وعزاه لابن الملقن في شرح البخاري. (¬2) أورده ابن القيم في حادي الأرواح (1/162) وعزاه لأبي نعيم. (¬3) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (4/299) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا جلوسا مع كعب يوماً فقال ... الحديث. وقال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا وفي إسناده عبيد الله بن زحر. (¬4) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (4/299) وقال: رواه ابن أبي الدنيا مرسلاً عن عكرمة. (¬5) أخرجه الترمذي في سننه (4/696. رقم 2564) وقال: غريب. وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/156. رقم 1342) عن علي - رضي الله عنه -.

ممُّخَلَّدُونَ? [الواقعة 17] هل هم أولاد المسلمين الذين يموتون ولا حسنة لهم ولا سيئة يكونون خدماً لأهل الجنة. لأن الجنة لا ولادة فيها. وكذلك قيل في أطفال المشركين: إن الله يجعلهم خدم أهل الجنة. قال ابن القيم: والأشبه أن هؤلاء ولدان خلوقون من الجنة كالحور العين خدماً لهم وغلماناً قال تعالى: ?وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ? [الطور: 24] وهؤلاء غير أولادهم. فإن من تمام كرامة الله أن يجعل أبناءهم مخدومون معهم ولا يجعلهم غلمانهم (¬1) . الثالثة عشر: هل النساء في الجنة أكثر أم الرجال وكذلك في النار؟ مقتضى الحديث الذي ذكره البخاري وهو قوله: «أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء» أي: أن النساء في النار أكثر. واختلفت الرويات في هذه المسألة ففي بعض الروايات ما يدل على أن النساء في الجنة أكثر وفي بعضها ما يدل على أن الرجال في الجنة أكثر. وجمع العلماء بين الروايات وقالوا: إن النساء في الجنة أكثر بالحور العين وأما نساء الدنيا فهن في الجنة أقل من الرجال وفي النار أكثر. قال القرطبي: محل كون نساء الدنيا في الجنة أقل يحتمل أن يكون في وقت كون النساء في النار. أما بعد خروجهن بالشفاعة ورحمة الله حتى لا يبقى فيها أحد ممن مات على التوحيد فالنساء في الجنة أكثر والله اعلم. وهذا جمع حسن ومحصلة: أن النساء في الجنة أقل من الرجال. وفي النار أكثر منهم حالة الدخول. وأما بعد الشفاعة فهم في الجنة أكثر. الرابعة عشر: إذا وطئ الإنسان في الجنة ثم قام عنها رجعت مطهرة بكر كما ورد في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكاراً» (¬2) ولا ينزل منه ولا منها المني. لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء. ولا يلحق أهل الجنة بالجماع جنابة فيحتاجون إلى التطهير. لا تكليف في الجنة ولا ضعف. ولا إنحال قوة بل وطئهم وطئ التلذذ لا آفة فيه بوجه من الوجوه. وأكمل الناس لذة في الجماع في الجنة أصونهم لنفسه في هذه الدار من الحرام. فمن زنا في الدنيا فقد كمال لذة الجماع في الآخرة إن مات من غير توبة. ونظير هذا من شرب الخمر في ¬

(¬1) انظر: حادي الأرواح (1/148) . (¬2) أخرجه الطبراني في الصغير (1/160. رقم 249) . قال الهيثمي (10/417) : فيه معلى بن عبد الرحمن الواسطي وهو كذاب. وأبو الشيخ في العظمة (3/1081. رقم 583) عن أبي سعيد.

الدنيا لم يشربها في الآخرة. ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. ومن أكل في صحائف الذهب والفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة قال عليه الصلاة والسلام: «إنه لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (¬1) فمن استوفى طيباته ولذاته وأذهبها في هذه الدار حرمها الله عليه في الآخرة. هذا إذا مات من غير توبة فمن ترك اللذة المحرمة لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون. ومن استوفى هنا حرم هناك أو نقص كمالهم. الخامسة عشر: زوجة الإنسان في الدنيا هي زوجته في الآخرة. فإن تزوجت بأزواج قيل: تخير بين الأزواج. قال القاضي أبو بكر بن العربي: إذا كانت المرأة ذات أزواج فهي لمن مات عنها من الأزواج آخراً. وعلى هذا جماعة من العلماء. فلهذا حرم الله نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده على أمته حتى لا يكن مع غيره يوم القيامة. قال حذيفة لامرأته: «إذا سرك أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي من بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها» (¬2) . ولما مات أبو الدرداء خطب زوجته معاوية فأبت وقالت سمعت أبا الدرداء - رضي الله عنه - يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المرأة لآخر أزواجها في الآخرة» وقال: «إن أردت أن تكوني زوجتي في الآخرة فلا تتزوجي من بعدي» (¬3) . قال في نزهة المجالس: مات رجل من بني إسرائيل وخلف امرأة وثلاث بنات. فلما انقضت عدتها تزوجت. فلما كان قبل الدخول بليلة رأت زوجها الأول مهموماً في المنام فسألته وقالت له: كيف حالك؟ قال: ما أسرع ما نسيتيني. قالت: ما نسيتك؟ فقال: لو لم يقع النسيان لما تزوجت بفلان. فلما أصبحت أخبرت نبي ذلك الزمان بما رأته وقالت: يا نبي الله أسأل فلاناً أن يطلقني فسأله فطلقها. فأوحى الله إليه قل للمرأة: ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2133. رقم 5310) . ومسلم في صحيحه (3/1638. رقم 2067) . وأبو داود في سننه (3/337. رقم 3723) . والترمذي في سننه (4/299. رقم 1878) وقال: حسن صحيح. والنسائي في سننه (8/198. رقم 5301) . وابن ماجه في سننه (2/1130. رقم 3414) عن حذيفة. (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/69. رقم 13199) . (¬3) أخرجه الطبراني في الأوسط (3/275. رقم 3130) . وفي الشاميين (2/359. رقم 1496) . وقال الهيثمي (4/270) : فيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط.

لما عاملت زوجها بالوفاء غفرنا ما كان بينه وبينها من الجفاء وأعطيناها بكل شعره على بدنها جارية تخدمها ونجمع بينها وبين زوجها في الجنة. وقيل: إنها تكون لأحسن الزوجين خلقاً. فسألت أم حبيبة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -: المرأة يكون لها زوجان في الدنيا ثم يموتون فيجتمعون في الجنة لأيهما تكون الأول أو للآخر؟ قال: «هي لأحسنهما خلقاً كان معها. يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة» (¬1) . السابعة عشر: قال أبو هريرة - رضي الله عنه - يتزوج أحدكم بفلانة بنت فلان بالمال الكثير. ويتزوج بالحور العين باللقمة والتمرة والكسرة. قال مالك بن دينار: كان لي أجزاء أقراؤها كل ليلة. وإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن وجمال وبيدها رقعة فقالت لي: أتحسن القراءة؟ فقلت: نعم فدفعت إلى الرقعة فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات: لهاك النوم عن طلب الأماني ... وعن تلك الأوانس في الجنان تعيش مخلداً لا موت فيها ... وتلهو في الخيام مع الحسان تنبه من منامك إن خيراً ... من النوم التهجد بالقرآن الثامنة عشر: في الحديث دلالة على التحذير من كيد النساء وفتنتهن. وقد دل الكتاب والسنة على ذلك وعلى أن فيهن صالحات قال الله تعالى: ?وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ ? [الفتح: 25] . وقال تعالى: ?إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... ? [الأحزاب: 35] إلى آخر الآية. وسبب نزول هذه: أن النساء قلن يا رسول الله قد ذكر الله الرجال دون النساء فما فيهن من خير فأنزلها الله - عز وجل -. فقرن الله تعالى ذكر النساء الصالحات بالرجال الصالحين. وللنساء أحوال وزهد وخير وصلاح كما في الرجال. وفي النساء من لها الأوراد ¬

(¬1) أخرجه عبد بن حميد في مسنده (1/365. رقم 1212) . والطبراني في الكبير (23/222. رقم 411) . قال الهيثمي (8/24) : فيه عبيد بن إسحاق وهو متروك وقد رضيه أبو حاتم وهو أسوأ أهل الإسناد حالاً.

والسياحات والكشوفات وغير ذلك من الخصوصيات. التي خصهن الله تعالى بها. ولكن الصالحات قليلٌ بالنسبة إلى غيرهن فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المرأة الصالحة في النساء إلا كمثل الغراب الأعصم» (¬1) أي: الأبيض. مضى في الصدر الأول من النساء الصالحات كثير مثل رابعة العدوية من فضائلها: أنها كانت تصلي الليل كله فإذا قرب طلوع الفجر هجعت في محرابها هجعة خفيفة حتى يطلع الفجر ثم تقوم وهي فزعة تقول: «يا نفس كم تنامين يوشك أن تنامين نومة لا تقومين إلا يوم النشور» فكان هذا دأبها حتى ماتت (¬2) . من كراماتها: أنها نامت فجاء اللص فأخذ ثيابها ثم أراد الخروج فلم يجد الباب فهتف هاتف إن كان المحب نائماً فالمحبوب يقظان. ضع الثياب وأخرج من الباب. ولقلة الصالحات فيهن وكثرة ضررهن وشؤمهن ذمهن الله ورسوله. وحذر الرجال منهن قال الله تعالى في كتابه العزيز في حقهن: ?إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ? [يوسف: 28] . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها. فينظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (¬3) . وقال عمر: «إلتجئوا إلى الله من شرار النساء واحذروا خيارهن» . وفي وصية لقمان لابنه: «اتق المرأة السوء فإنها تشيبك قبل الشيب. واتق شرار النساء فإنهن لا يدعون إلى خير. وكن من خيارهن على حذر» (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/201. رقم 7817) عن أبي أمامة. قال الهيثمي (4/273) : فيه مطرح بن يزيد. وهو مجمع على ضعفه. (¬2) أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/242) . (¬3) جزء من حديث طويل أخرجه الترمذي في سننه (4/483. رقم 2191) وقال: حسن صحيح. والطيالسي في مسنده (ص: 286. رقم 2156) . وأحمد (3/19. رقم 11159) . وعبد بن حميد في مسنده (1/273. رقم 864) . وأبو يعلى في مسنده (2/352. رقم 1101) . والحاكم في المستدرك (4/551. رقم 8543) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/309. رقم 8289) عن أبي سعيد. (¬4) أورده العزالي في إحياء علوم الدين (2/44) .

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (¬1) . وقال الحسن رحمه الله: «والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا أكبه الله في النار» (¬2) . ومن كلام علي - رضي الله عنه -: «أيها الناس لا تطيعوا النساء على حال. ولا تأمنوهن على مال. فإنهن أفسدن الممالك. وعصين المالك. وجدناهن لا دين لهن في خلواتهن. ولا ورع لهن شهواتهن الجنة. واللذة بهن يسيره. والحيرة بهن كثيرة. فأما صوالحهن ففاجرات. وأما طوالحهن فعاهرت. وأما المعصومات منهن لمعدومات. فيهن ثلاث خصال من اليهود يتظلمن وهن ظالمات. ويحلفن وهن كاذبات. ويتمنعن وهن راغبات فاستعيذوا بالله من شرارهن وكونوا على حذر من خيارهن» (¬3) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا هلك الرجال حين أطاعوا النساء» (¬4) . وقال عمر - رضي الله عنه -: «خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة» (¬5) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الزوجة» (¬6) . قال الغزالي رحمه الله: فإنما ذلك لأنه إذا أطاعها في هواها فهو عبدها وقد تعس. فإن الله ملكه المرأة فملكها نفسه. فإذا ملكها نفسه فقد عكس الأمر وأطاع الشيطان كما قال تعالى: ?وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ? [النساء: 114] إذ حق الرجل أن يكون متبوعاً لا تابعاً (¬7) . قال الغزالي: وكان نساء العرب العرباء يعلمن بناتهن اختبار الأزواج. كانت المرأة تقول لابنتها: اختبري زوجك قبل الإقدام والجرأة عليه. انزعي زج رمحه. فإن سكت لذلك فقطعي اللحم على ترسه. فإن سكت فكسري العظام بسيفه. فإن صبر فاجعلي ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2600. رقم 6686) . والترمذي في سننه (4/527. رقم 2262) . وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في سننه (8/227. رقم 5388) . وأحمد (5/51. رقم 20536) عن أبي بكرة. (¬2) أخرجه أحمد في الزهد (1/280) . وأبو نعيم في الحلية (6/198) . (¬3) انظر: كشف الخفاء (2/81) . (¬4) أورده الذهبي في الكبائر (1/134) . (¬5) أخرجه البغوي في الجعديات (1/436. رقم 2971) . (¬6) أورده العجلوني في كشف الخفاء (2/5) . والذهبي في إحياء علوم الدين (2/44) . (¬7) انظر: إحياء علوم الدين (2/44) .

الأكاف على ظهره وامتطيه فإذا هو حمارك (¬1) . وحكي عن جعفر بن محمد الصادق - رضي الله عنه - قال: كان في بني إسرائيل رجل صالح وله امرأة جميلة فرآها شاب فعشقته وصنعت له مفتاحاً يدخل عليها متى شاء. فقال زوجها لها في بعض الأيام: قد انكرت حالك فلا بد أن تحلفي لي على عدم الخيانة. قالت: نعم. فلما خرج من عندها ودخل الشاب فأخبرته بذلك. فقال: كيف الخلاص؟ فقالت: إلبس ثياب المكاري وخذ حماراً وقف على باب المدينة. فلما جاء زوجها وطلب يمينها على جبل معظم عندهم يحلفون عنده. فخرجت معه فلما وصلت إلى باب المدينة ورأت المكاري قالت: لابد من ركوبي. فأركبها فلما صعدوا الجبل ألقت نفسها عن الحمار فانكشف شيء من بدنها فرأها زوجها والمكاري. ثم حلفت وقالت: والله ما رأني غيرك إلا هذا المكاري. ولبست عليه فظن أنها تريد أن رأها حين ألقت نفسها عن الحمار. فاضطرب الجبل من تحتهم اضطراباً شديداً فذلك قوله تعالى: ?وَإِن كان مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ? [إبراهيم: 64] . وشتان ما بين هذه المرأة وبين ما حكي أن رجلاً فاسقاً دخل على امرأة عفيفة. وكان له مدة يتطلبها. فلما دخل عندها قال لها: امضي أغلقي أبواب الدار جميعاً وأحكمي إغلاقها. فمضت المرأة ثم عادت وقالت قد أغلقت سائر الأبواب وأوثقت إغلاقها سوى باب واحد. فإني عجزت عن إغلاقه. فقال: أي باب؟ فقالت: الباب الذي بيننا وبين الخالق جلت عظمته. ما قدرت عليه ولا استطيع أن أغلقه وهو مفتوح بحاله. فوقع في نفس الرجل من هذا الكلام الهيبة وتاب وأخلص التوبة وأقلع عن ذنبه وعاد إلى طاعة ربه. حكى الغزالي في كتابه نصيحة الملوك: أن ملكاً كان يقال له: «خسرير» وكان يحب أكل السمك كان يوماً جالساً في المنطرة وامرأته «شيرين» عنده. فجاء الصياد ومعه سمكة كبيرة فأهداها إلى «خسرير» ووضعها بين يديه فأعجبته. فأمر له بأربعة ألاف درهم. فقالت شيرين: بئس ما فعلت. قال: ولما؟ قالت: لأنك إذا أعطيت بعد هذا لأحد من حشمك هذا القدر احتقره وقال: أعطاني عطية الصياد. وإن أعطيته أقل منه قال: أعطاني أقل مما أعطى الصياد. فقال خسرير: لقد صدقت ولكن يقبح بالملوك أن يرجعوا في هباتهم وقد فات هذا. قالت شيرين: أنا أدبر هذه الحالة. فقال: ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (2/45) .

كيف ذلك؟ فقالت: تدعو الصياد وتقول له هذه السمكة أذكر أم أنثى. فإن قال ذكر فقل: إنما أردنا أنثى. وإن قال هذه السمكة أنثى فقل: إنما أردنا ذكراً. فأقبل الصياد فقالت له ذلك. فقبل الصياد الأرض وقال: هذه السمكة خنثى لا ذكر ولا أنثى. فضحك خسرير من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى. فمضى الصياد إلى الخازن فقبض منه ثمانية آلاف درهم. ووضعها في جراب كان معه. وحملها على عنقه وهم بالخروج فوقع منه درهم واحد. فوضع الصياد الجراب عن كاهله. وانحنى إلي الدرهم وأخذه. والملك وشيرين ينظران إليه فقالت شيرين: أيها الملك أرأيت إلي خسة هذا الرجل وسفالته سقط منه درهم واحد فألقى عن ظهره ثمانية آلاف. وانحنى عليه فأخذه ولم يسهل عليه أن يتركه ليأخذه بعض الغلمان. فغضب خسرير من ذلك وقال: صدقت يا شيرين ثم أمر بإعادة الرجل وقال له: يا ساقط الهمة لست بإنسان وضعت مثل هذا المال عن عنقك لأجل درهم واحد. وأسفت أن تتركه في مكانه. فقبل الصياد الأرض وقال: أطال الله بقاء الملك إنني لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عنده. وإنما رفعته من الأرض لأن على أحد وجهيه صورة الملك. وعلى الوجه الآخر اسمه فخشيت أن يضع أحد قدمه فأكون أنا المأخوذ بالذنب. فعجب خسرير من كلامه واستحسن ما ذكره فأمر بأربعة آلاف أخرى. فعاد الصياد من عند الخازن بإثنا عشر ألف درهم. فأمر خسرير مناديا ينادي: لا يتدبرن أحد برأي النساء. فإنه إن تدبر برأيهن. وأتمر بأمرهن خسر درهمه درهمين. * * *

المجلس السادس والعشرون

المجلس السادس والعشرون في الكلام على شيء من ترجمة أبي ذر وفي الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - له: «إنك أمر فيك جاهلية» قَالَ البُخَارِي: باب الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلاَ يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلاَّ بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنك امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» . وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ? [النساء: 48] حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنِ الْمَعْرُورِ، قَالَ لَقِيتُ أبا ذَرٍّ بِالرَّبَذَة ِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «يَا أبا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إنك امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخوانكم خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كان أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «وعليه حلة وعلى غلامه حلة» هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة عنه، لكن في رواية الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة «أتيت أبا ذر، فإذا حلة عليه منها ثوب وعلى عبده منها ثوب» وهذا يوافق ما في اللغة أن الحلة ثوبان من جنس واحد، ويؤيده ما في رواية الأعمش عن المعرور عند المؤلف في الأدب بلفظ: «رأيت عليه بردا وعلى غلامه بردا فقلت: لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة» وفى رواية مسلم «فقلنا: يا أبا ذر، لو جمعت بينهما كانت حلة» ولأبي داود «فقال القوم: يا أبا ذر، لو أخذت الذي على غلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة» فهذا موافق لقول أهل اللغة، لأنه ذكر أن الثوبين يصيران بالجمع بينهما حلة، ولو كان كما في الأصل على كل واحد منهما حلة لكان إذا جمعهما يصير عليه حلتان، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه كان عليه برد جيد تحته ثوب خلق من جنسه وعلى غلامه كذلك، وكأنه قيل له: لو أخذت البرد الجيد فأضفته إلى البرد الجيد الذي عليك وأعطيت الغلام البرد الخلق بدله لكانت حلة جيدة، فتلتئم بذلك الروايتان، ويحمل قوله في حديث الأعمش «لكانت حلة» أي: كاملة الجودة، فالتنكير فيه للتعظيم. والله أعلم. وقد نقل بعض أهل اللغة أن الحلة لا تكون إلا ثوبين جديدين يحلهما من طيهما، فأفاد أصل تسمية لحلة. وغلام أبي ذر المذكور لم يسم، ويحتمل أن يكون أبا مراوح مولى أبي ذر، وحديثه عنه في الصحيحين. وذكر مسلم في الكنى أن اسمه سعد. قوله: «فسألته» أي: عن السبب في إلباسه غلامه نظير لبسه، لأنه على خلاف المألوف، فأجابه بحكاية القصة التي كانت سبباً لذلك. قوله: «ساببت» في رواية الإسماعيلي «شاتمت» وفي الأدب للمؤلف «كان بيني وبين رجل كلام» وزاد مسلم «من إخواني» وقيل: إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولى أبي بكر، وروى ذلك الوليد بن مسلم منقطعاً. ومعنى «ساببت» : وقع بينى وبينه سباب بالتخفيف، وهو من السب بالتشديد وأصله القطع. وقيل: مأخوذ من السبة وهي حلقة الدبر، سمي الفاحش من القول بالفاحش من الجسد، فعلى الأول المراد قطع المسبوب، وعلى الثاني المراد كشف عورته لأن من شأن الساب إبداء عورة المسبوب. قوله: «فعيرته بأمه» أي: نسبته إلى العار، زاد في الأدب «وكانت أمه أعجمية فنلت منها» وفي رواية «قلت له: يا ابن السوداء» والأعجمي: من لا يفصح باللسان العربي سواء كان عربياً أو عجمياً، والفاء في «فعيرته» قيل: هي تفسيرية كأنه بين أن التعيير هو السب، والظاهر أنه وقع بينهما سباب وزاد عليه التعيير فتكون عاطفة، ويدل عليه رواية مسلم قال: «أعيرته بأمه؟ فقلت: من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: إنك امرؤ فيك جاهلية» أي: خصلة من خصال الجاهلية. ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلهذا قال كما عند المؤلف في الأدب «قلت: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم» كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعا، وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذاً بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة. وفي السياق دلالة على جواز تعدية «عيرته» بالباء، وقد أنكره ابن قتيبة وتبعه بعضهم، وأثبت آخرون أنها لغة. وقد جاء في سبب إلباس أبى ذر غلامه مثل لبسه أثر مرفوع أصرح من هذا وأخص، أخرجه الطبراني من طريق أبي غالب عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى أبا ذر عبداً فقال: «أطعمه مما تأكل، وألبسه مما تلبس» وكان لأبي ذر ثوب فشقه نصفين، فأعطى الغلام نصفه، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: قلت يا رسول الله: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون» قال: نعم. انظر فتح الباري (1/86 – 87) .

«أبو ذر» هذا هو الصحابي الكبير أبو ذر ويقال فيه: أبو الذر أيضاً، واسمه جندب بضم الجيم وضم الدال، «ويجوز» فتح الدال، «ابن جنادة» بضم الجيم وبالنون «ابن سفيان الغفاري» . «وغفار» بكسر الغين المعجمة قبيلة من كنانة، أسلم قديماً كان رابع أربعة في الإسلام، وخامس خمسة، أسلم بمكة ثم رجع إلى بلاده بأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقام بها

حتى مضت غزوة بدر والخندق، قدم المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه إلى أن توفى - صلى الله عليه وسلم - وكان - رضي الله عنه - في أيام الجاهلية يعبد صنماً وكان لا يفارقه في حضر ولا سفر، فخرج به يوماً إلى السفر فوضعه في مكان ووضع عنده حوائجه وأمتعته، وقال: أيها الصنم احفظ حوائجي حتى أعود، ثم ذهب لحاجة، فلما ذهب جاء الثعلب وبال عليه، فلما رجع أبو ذر وجده مبلولاً فقال: السماء لم تمطر فمن أين هذا البلل؟ ثم نظر في الأرض فوجد أثر الثعلب، فعلم أنه بول الثعلب فمقته ورمق بطرفه نحو السماء وأنشد يقول - رضي الله عنه -: أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب برئت من الأصنام في الأرض كلها ... وآمنت بالله الذي هو غالب وترك عبادة الأصنام وكان ذلك قبل بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحد الجماعة الذين آمنوا قبل البعثة وتركوا عبادة الأصنام. قال البغوي (¬1) في تفسيره: الذين آمنوا قبل البعثة حبيب النجار، وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأبو ذر، وسلمان الفارسي ووفد النجاشي (¬2) . وزاد ابن الجوزي في كتابة التلقيح جماعة أخرين آمنوا قبل البعثة. وفي ذكر «حبيب النجار» مع الجماعة الذين آمنوا قبل البعثة إشارة إلى أنه كان عبداً صالحاً، ولم يكن نبياً. وهذه المسألة وقع فيها خلاف فالذي ذهب إليه أكثر أهل التفسير كما قاله ابن الأثير في الكامل: أنه كان رجلاً صالحاً ولم يكن نبياً. والذي ذهب إليه أكثر أهل السير: أنه كان نبياً. وقيل: كان نبياً مرسلاً إلى أصحاب الرس. وأبو ذر زاهد هذه الأمة، شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيسى بن مريم، وأفاد بعضهم بأنه إنما كني بأبي ذر لأنه - رضي الله عنه - كان عنده خبز، فطلع عليه الذر فوزنه والذي عليه فلم يزد شيئاً فقال: انظروا إلى هذا الذر لم يظهر له أثر في ميزان الدنيا، ولم يرجح بسبه الميزان، وميزان الآخرة مع عظمه يطيش ويرجح بذرة واحدة فكني بأبي ذر. و «الذر» هو النمل الأحمر الصغير واحده «ذرة» . قال النووي: ويحل قتله دون النمل الأسود. ¬

(¬1) هو: الحسين بن مسعود البغوي، أحد أئمة الحديث والتفسير، ومن كبار علماء الشافعية، ولد سنة: 436هـ من مؤلفاته: شرح السنة، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن، وكانت وفاته سنة: 516هـ. انظر: طبقات الشافعية (4/48) ، وتذكرة الحفاظ (4/52) ، وطبقات المفسرين للداودي (ص 58) ، والنجوم الزاهرة لابن تغري (5/124) . (¬2) انظر تفسير البغوي (1/79) .

روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائتا حديث وإحدى وثمانون حديثاً، ذكر البخاري منها أربعة عشر. وكان مذهب أبي ذر: أنه يحرم على الإنسان ما زاد عن حاجته. وصفته: أنه كان طوالاً أبيض الرأس واللحية، سيره عثمان إلى الربذة، وتوفي بها في سنة ثنتين وثلاثين وصلى عليه ابن مسعود، وعاد إلى المدينة فأقام عشرة أيام ثم توفى. و «الربذة» موضع قريب من المدينة منزل من منازل العراق. عن المعرور قال: «لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة» . و «الحلة» إزار ورداء ولا يسمى حلة حتى يكون ثوبين أي: على غلامه مثل ما عليه، واسم غلام أبي ذر: «أبو مرواح» كما قاله ابن حجر. قال المعرور: «فسألته عن ذلك» عن سبب مساواته غلامه في اللبس، وقلت له: ما السبب في أن على غلامك حلة كما عليك حلة؟ وإنما سأله عن ذلك لأن عادة العرب وغيرهم أن يكون ثياب المملوك دون ثياب سيده، وقال أبو ذر للمعرور في جواب السؤال: «إني ساببت رجلاً» أي سببت عبداً «فعيرته بأمه فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أبا ذر أعيرته بأمه» الاستفهام فيه للإنكار التوبيخي «إنك امرؤ فيك جاهلية» . وأصل هذه القصة أن أبا ذر كان بينه وبين بلال بن حمامة (¬1) كلام وخصومة، وكانت أم بلال سوداء نوبية، فعير أبو ذر بلال بسواد أمه، وقال: يا ابن السوداء. فانطلق بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر له ما وقع من أبي ذر فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: «شتمت بلال وعيرته بسواد أمه؟» قال: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك امرؤ فيك جاهلية» أي: إنك في تعيير أمه على خلق من أخلاق الجاهلية، ولست جاهلياً محضاً. وروي أنه قال: «ما كنت أحسب أنه بقي في صدرك من كبر الجاهلية شيء» . وروي أيضاً أنه قال له: «ارفع رأسك ما أنت أفضل ممن ترى من الأحمر والأسود إلا أن تفضل في دين» فألقى أبو ذر نفسه على الأرض، ثم وضع خده على التراب وقال: «والله لا أرفع خدي منها حتى يطأ بلال خدي بقدمه» فوطئ خده بقدمه منه. قال ابن حجر: ويظهر لي أن ذلك وقع من أبي ذر قبل أن يعرف تحريم السب ¬

(¬1) وهو بلال بن رباح سماه المصنف باسم أمه فإن أمه كان اسمها «حمامة» وهو مولى أبو بكر الصديق. انظر: صفة الصفوة (1/434) ، ومسائل الإمام أحمد (ص 91) .

فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده فلهذا لما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك امرؤ فيك جاهلية» على ساعتي هذه من كبر السن قال: «نعم» كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذاً بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي المواساة لا المساواة. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: «إخوانكم خولكم» (¬1) قيل: هو من باب القلب المورث لملاحه الكلام الشاعر: نُمَّ وإِنْ لَمْ أَنَمْ كَرَاي كَرَاكا ... شاهدي الدمع إِنَّ ذاك كَذَاكا (¬2) والأصل في حديث: «إخوانكم خولكم» أي: عبيدوكم وإماؤكم إخوانكم أي: في الإسلام، وإنما قيل لهم: «خول» لأنهم يتخولون الأمر أي: يصلحونها. «جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتوهم فأعينوهم» في الحديث دلالة على تحريم سب العبيد وتعييرهم بأبائهم، وفيه حث على الإحسان إليهم وإلى كل من يوافقهم في المعنى، ممن جعله الله تعالى تحت يد ابن آدم كالأجير والخادم، فلا يجوز لأحد أن يعير خادمه سواء أكان رقيقاً أو غيره ولا أجير بشيء من المكروه، يعرفه في أصوله وخاصة نفسه، إذ لا فضل لأحد على غيره إلا بالإسلام والتقى. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقى» (¬3) وقال الله تعالى: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13] . وهذه الآية نزلت في حق بلال فإنه يوم فتح مكة رقى على ظهر الكعبة وأذن فقال بعض أهل مكة هذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة، فأنزل الله الآية (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5/2248، رقم 5703) . (¬2) البيت للشيخ أبي علي، وهو من بحر الخفيف، قاله شيخ البلاغين عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز (ص 281) وقال: ينبغي أن يكون «كراي» خبراً مقدماً، ويكون الأصل «كراك كراي» أي: نم وإن لم أنم فنومك نومي، كما تقول: قم وإن جلست فقيامك قيامي. (¬3) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (4/289، رقم 5137) عن جابر. (¬4) أورده السيوطي في الدر المنثور (7/578) وقال: أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن أبي مليكة.

وقد قدمنا في أول الكلام على صحيح البخاري أن السودان من أولاد حام بن نوح، وذكرنا أن سبب مجيئهم سودان مع أن أباهم حاماً كان أبيض هو: أن نوحاً أمر أن لا يقرب ذكر أنثى ما دام في السفينة، فواقع حام امرأته في السفينة، وخالف أباه فدعى الله نوح أن تُغير نطفته وغيرها الله تعالى، ورزقه ولداً أسود وجاءت جميع أولاده سودان. في الحديث دلالة كما قاله النووي على أن الدوآب ينبغي أن يحسن إليها. وفيه دلالة على تحريم ترفع الإنسان على المسلم، وإن كان عبداً. وفيه دلالة على إطلاق الأخ على الرقيق. وقد ذكر العلماء مسائل متعلقة بالرقيق، ومسائل متعلقة بالدآبة: أما المتعلق بالرقيق، فمما قالوا: لا يجوز للسيد أن يكلف رقيقه من العمل إلا ما يطيق الدوام عليه، فلا يجوز أن يكلفه عملاً يقدر عليه يومين أو يوماً ثم يعجز عنه فإذا استعمله نهاراً أراحه ليلاً، وكذا بالعكس، ويريحه في الصيف في وقت القيلولة، ويستعمله في الشتاء بالنهار مع طرف الليل، ويتبع في جميع ذلك العادة الغالبة، ويجب على العبد بذل المجهود، وترك الكسل. ومنها: أنه يجب على السيد نفقته وكسوته ولو كان صغيراً أو أعمى أو مرهوناً أو مستأجراً. وفي الحديث: «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عن من يملك قوته» (¬1) . فإن كان العبد كسوباً فكسبه لسيده، فإن شاء أخذه وأنفق عليه من ماله، وإن شاء أنفق عليه من كسبه فإن لم يكف كسبه بالنفقة فالباقي على السيد، وإن زاد فالزيادة للسيد، ولا يجوز الاقتصار بالكسوة على ستر العورة، وإن كان لا يتأذى بحر ولا برد، ولو تنعم السيد في الطعام والكسوة استحب له أن يدفع للعبد مثله، كما كان أبو ذر بعد قصته مع بلال يساوي عبده في ذلك، ولا يجب عليه ذلك، وإذا كان للإنسان عبيد يستحب له أن يسوي بينهم في الطعام والكسوة، ويكره له أن يفضل النفيس على الخسيس، بخلاف ما إذا كان له جوار فيستحب له أن يفضل ذات الجمال والرفاهية على غيرها. ومنها: إذا تولى رقيقه معالجة طعامه وحمله وجاء به إليه، فيبنغي له أن يجلسه على ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/692، رقم 996) عن عبد الله بن عمرو.

الطعام، فإن ذلك أقرب إلى التواضع ومكارم الأخلاق، وكان سيد الأولين والآخرين يأكل مع الخادم - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يفعل السيد أو قال له السيد: اجلس معنا فامتنع فينبغي أن يدفع له لقمة أو لقمتين. ومنها: أنه يجوز للسيد المخارجه على العبد وهو أن يضرب عليه خراجاً معلوماً يؤديه إليه كل يوم أو أسبوع من كسبه إذا رضي السيد والعبد بذلك. ومنها: إذا امتنع السيد من الإنفاق على مملوكه باع الحاكم شيئاً من ماله وأنفق منه على العبد فإن لم يجد الحاكم له مالاً أمره بأن يبيعه أو يؤجره أو يعتقه، فإن لم يفعل ذلك باعه الحاكم أو أجره فإن لم يقبله أحد أنفق عليه من بيت المال، فإن لم يكن فيه مال فهو ومن محاويج المسلمين فعليهم القيام بكفايته. وأما المتعلقة بالدآبة فمنها: أنهم قالوا إذا ملك دآبة فعليه علفها وسقيها، ويقوم مقام العلف والسقي تخليتها لترعى وترد الماء، إن كان ما ترعى وتكتفي به بخصب الأرض ونحوه، ولم يكن مانع ثلج وغيره. ومنها: يحرم تكليف الدآبة من ثقيل الحمل وإدامة السير أو نحو ذلك فإذا كانت الدآبة لها طاقة وقدرة على أن تحمل خمسين رطل فحملها ستين مثلاً، أو على أن تمشي سبع فراسخ متوالية فإن ذلك حرام، لأنه تكليف نفس بما لا تطيقه. لطيفة: قال أبو سليمان الخواص - رضي الله عنه - ركبت حماراً في بعض الأيام فجعل يطاطئ رأسه من الذباب فضربته على رأسه، فرفع رأسه وقال: هكذا تضرب على رأسك. ومنها: لا يجوز حلب لبن الدآبة بحيث يضر ولدها وإنما يحلب ما فضل عن ري ولدها، والمراد بالري ما يقيمه حتى لا يموت، ويكره ترك الحلب إذا لم يكن فيه إضرار بها تضييع للمال، ويستحب أن يقص الحالب أظفاره لئلا يؤذيها. ومنها: ينبغي أن يبقي للنحل شيئاً من العسل، فإن كان أخذه للعسل في الشتاء وزمن تعذر خروج النحل ترك لها أكثر، وإن قام شيء مقام العسل لغذائها لم يتعين إبقاء العسل. ومنها: دود القز عيشه بورق التوت فعلى مالكه تحصيله له لئلا يهلك من غير فائدة، وهذا كله من باب الشفقة والرحمة على خلق الله، وقد جاءت أخبار كثيرة في هذا المعنى. وروينا في سنن النسائي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه

الذي مات فيه: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» (¬1) . وروينا في الغريب للترمذي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه نشر الله عليه كنفه وأدخله الجنة: رفق بالضعيف، وشفقة على الوالدين، والإحسان للمملوك» (¬2) . وروينا في سنن النسائي عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهب علياً غلاماً فقال: «لا تضربه فإني نهيت عن ضرب المصلين، وقد رأيته يصلي» (¬3) . وروينا في سنن أبي داود عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كم تعفو عن الخادم؟ فصمت ثم أعاد عليه الثانية والثالثة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اعف عنه في كل يوم سبعين مرة» (¬4) . وروينا في سنن أبي داود أيضاً عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لائمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون، واكسوه مما تلبسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله» (¬5) . وفي الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قذف مملوكه وهو برئ جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قاله» (¬6) . ¬

(¬1) أخرجه النسائي في الكبرى (4/259، رقم 7100) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (6/290، رقم 26526) ، وابن ماجه في سننه (1/519، رقم 1625) ، قال البوصيرى (2/56) : صحيح على شرط الشيخين. والطبراني في الكبير (23/306، رقم 90) ، وأبو يعلى في مسنده (12/365، رقم 6936) . (¬2) أخرجه الترمذي في سننه (4/656، رقم 2494) وقال: حسن غريب. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (5/258، رقم 22281) ، والطبراني في الكبير (8/275، رقم 8057) ، قال الهيثمي (4/238) : مدار الحديث على أبي غالب وهو ثقة وقد ضعف. (¬4) أخرجه أبو داود (4/341، رقم 5164) . وأخرجه أيضاً: الترمذي في مسنده (4/336، رقم 1949) وقال: حسن غريب. والبيهقي في السنن الكبرى (8/10، رقم 15577) . (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (4/340، رقم 5157) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (5/168، رقم 21521) ، والبزار في سننه (9/357، رقم 3923) ، والبيهقي في سننه الكبرى (8/7، رقم 15556) . (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2515، رقم 6466) ، ومسلم في صحيحه (3/1282، رقم 1660) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/341، رقم 5165) ، والترمذي في سننه (4/335، رقم 1947) وقال: حسن صحيح. جميعاً عن أبي هريرة.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لا يرحم لا يرحم» (¬1) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» (¬2) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنزع الرحمة إلا من قلب شقي» (¬3) . قال - صلى الله عليه وسلم -: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (¬4) . فندب - صلى الله عليه وسلم - إلى الرحمة والعطف على جميع الخلق من جميع الحيوانات، على اختلاف أنواعها في غير حديث، وأشرفها الآدمي، وإذا كان كافر فكن رحيماً لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه، فمن كثرت منه الشفقة على خلقه والرحمة على عباده رحمه الله برحمته، وأدخله دار كرامته، ووقاه عذاب قبره، وهول موقفه، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2239، رقم 5667) ، ومسلم في صحيحه (4/1809، رقم 2319) ، وأحمد في صحيحه (4/366، رقم 19282) ، والطبراني في صحيحه (2/333، رقم 2388) عن جرير. وأخرجه البخاري في صحيحه (5/2235، رقم 5651) ، ومسلم في صحيحه (4/1808 رقم 2318) ، وأبو داود في سننه (4/355، رقم 5218) ، وأحمد في مسنده (2/228، رقم 7121) ، وابن حبان في صحيحه (15/431، رقم 6975) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2686، رقم 6941) ، ومسلم في صحيحه (4/1809، رقم 2319) ، والترمذي في سننه (4/323، رقم 1922) وقال: حسن صحيح. جميعاً عن جرير. وأخرجه الترمذي في سننه (4/591، رقم 2381) وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (3/40، رقم 11380) عن أبي سعيد. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (4/286، رقم 4942) ، والترمذي في سننه (4/323، رقم 1923) وقال: حسن. وابن حبان في صحيحه (2/213، رقم 466) ، والحاكم في المستدرك (4/277، رقم 7632) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في السنن الكبرى (8/161، رقم 16420) عن أبي هريرة. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4/285، رقم 4941) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/41، رقم 17683) ، والترمذي في سننه (4/323، رقم 1924) قال: حسن صحيح. والحاكم (4/175، رقم 7274) ، وأحمد في مسنده (2/160، رقم 6494) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/476، رقم 11048) عن ابن عمرو.

وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته، وقد أنشد كثير من العلماء في حديث: «الراحمون يرحمهم الله عز وجل إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» أبياتاً فمن أنشد فيه أبو القاسم بن عساكر فقال: بادر إلى الخير يا ذا اللب مغتنماً ... ولا تكن من قليل العرف محتشما واشكر لمولاك ما أولاك من نعم ... فالشكر يستوحب الإفضال والكرما وارحم بقلبك خلق الله وأرعهم ... فإنما يرحم الرحمن من رحما ومما أنشد في ذلك الشهاب الحجازي حيث قال: إن كنت لا ترحم المسكين إن عدما ... ولا الفقير إذا يشكو لك العدما فكيف ترجو من الرحمن رحمته ... وإنما يرحم الرحمن من رحما وأنشد فيه بعضهم فقال: الراحمون لمن في الأرض يرحمهم ... من في السماء فباعد عنك وسواسا وقل أعوذ برب الناس منك إذ ... لا يرحم الله من لا يرحم الناسا فائدة: قال العلماء إذ ملك الإنسان جارية وولدها، فإن كان الولد غير مميز فإنه يحرم عليه أنه يفرق بينهما ببيع أو هبة أو قسمه، فإذا باع الأم وحدها ترك عنده الولد، أو باع الولد وحده وترك عنده الأم إثم بذلك وبطل البيع بالإجماع. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (¬1) حسنة الترمذي، وصححه الحاكم. أما إذا كان الولد مميزاً فيجوز التفرقة بينه وبين أمه بالبيع وغيره، لاستغناء المميز عن الحضانة والتعهد أشبه البالغ. وحكم المجنون كحكم غير المميز عن الحضانة والتعهد، وكذا يحرم التفريق بين الولد وجدته عند فقد أمه، وبين الولد وأبيه عند عدم أمه، أما إذا كانت الأم موجودة فباعها سيدها مع ولدها وترك الأب عنده جاز، وباع الأب وترك الجارية مع ولدها ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/134، رقم 1566) وقال: حسن غريب. والحاكم في المستدرك (2/63، رقم 2334) وقال: صحيح علي شرط مسلم. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (5/412، رقم 23546) ، والدارمي في سننه (2/299، رقم 2479) ، والدارقطني في سننه (3/67) ، والطبراني في الكبير (4/182، رقم 4080) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/126، رقم 18089) عن أبي أيوب.

جاز، ولا يجوز أن يباع الولد مع أبيه وتترك الأم لأن الشفقة للأم أشد، فالحكم للأم دون غيرها، فلو تصرف في أحدهما ببيع وهبة وقسمه بأن أعتق الأم دون الولد والولد دون الأم جاز ذلك، لعدم التفرق المزيل للمالك. قيل: إن يعقوب إنما فرق بينه وبين ولده يوسف مدة لأنه فرق بين جارية وولدها فقد ذكر الثعلبي - رضي الله عنه - أن يعقوب رأى ملك الموت قد زاره فقال له: السلام عليك أيها الكظيم، فاقشعر جسده وارتعدت فرائصه، فرد عليه السلام، ثم قال له: من أنت ومن أدخلك هذا البيت وقد أغلقت على نفسي بابه، كيلا يدخل عليَّ أحد لأشكو بثي وحزني إلى الله، فقال له: يا نبي الله أنا الذي أيتم الأولاد، وأرمل الأزواج، قال: فأنت ملك الموت إذن، قال: نعم، قال له: يا ملك الموت أنشدك الله هل تقبض روح من تأكله السباع؟ قال: نعم، قال: فأخبرني عن الأرواح تقبضها مجموعة أو متفرقة؟ قال: أقبضها متفرقة روحاً روحاً، قال: فهل مر بك روح يوسف في الأرواح؟ قال: لا، قال: فجئتني زائراً أو داعياً؟ قال: يا نبي الله ما جئتك إلا مسلماً والله تعالى لا يميتك حتى يجمع بينك وبين يوسف، ولو كان في الصخرة التي عليها قرار الأرض، وما أذن الله في زياريك إلا لأبشرك وأجيبك عما تسألني، وإن شئت أعلمتك لما ابتليت بفقد ولدك، قال: فأعلمني، قال: يا إسرائيل هل تذكر الجارية الذي اشتريتها عام كذا في شهر كذا وفرقت بينها وبين أبويها؟ قال: نعم يا ملك الموت كان بالأمس، فقال له ملك الموت: فلذلك ابتليت بفقد الولد، وهل تعلم لما ابتليت بذهاب البصر؟ قال: لا، قال: أمرت يوماً بجذعة فذبحتها وشويتها في يوم كذا في شهر كذا، فمر تميم العابد العبد الصالح بك وهو صائم، ما أفطر منذ أسبوع فاشتم قثار الشواء فلم تطعمه، قال: فدعا عند ذلك يعقوب من كان بحضرته من العبيد والإماء فاعتقهم جميعاً، وأمر أن يذبح من أغنامه كل يوم كبشان ويفرق لحمها على الفقراء والمساكين فقبل الله ذلك منه وشكره وآتاه بالفرج (¬1) . فائدة أخرى: يجوز التفريق بين البهيمة وولدها إذا استغنى الولد عن لبن الأم، أما إذا لم يستغن فإن فرق بالذبح بأن ذبح الولد وترك الأم جاز، وإن ذبح الأم وترك الولد لا يجوز كما قاله السبكي، وإن فرق ببيع ونحوه فإنه لا يجوز لعدم استغناء الولد عن لبن الأم. * * * ¬

(¬1) ذكره الثعلبي في كتابه قصص الأنبياء المسمى بالعرائس (ص: 80) من قول وهب بن منبه، وأمثال هذه الأخبار فيها من الغرابة ما لا نسلم به فالمقام مقام أنبياء والله أعلم.

المجلس السابع والعشرون

المجلس السابع والعشرون في الكلام على باب علامات المنافق وما في حديثه من الفوائد وفيه شيء من ترجمة سفيان الثوري قَالَ البُخَارِي: بَابُ عَلاَمَاتِ المنَافِقِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (¬1) . ¬

(¬1) شرح السفيري حديثين من هذا الباب هذا الحديث والذي يليه، قال الحافظ ابن حجر: قوله: «آية المنافق ثلاث» الآية: العلامة، وإفراد الآية إما على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، والأول أليق بصنيع المؤلف، ولهذا ترجم بالجمع وعقب بالمتن الشاهد لذلك. وقد رواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ: «علامات المنافق» فإن قيل: ظاهره الحصر في الثلاث فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ «أربع من كن فيه ... الحديث» ؟ أجاب القرطبي: باحتمال أنه استجد له - صلى الله عليه وسلم - من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وأقول: ليس بين الحديثين تعارض، لأنه لا يلزم من عد الخصلة المذمومة الدالة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق، لاحتمال أن تكون العلامات دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق. على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر، فإن لفظه: «من علامة المنافق ثلاث» وكذا أخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري، وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت، وببعضها في وقت آخر. وقال القرطبي أيضاً والنووي: حصل من مجموع الروايتين خمس خصال، لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة، وزاد الأول الخلف في الوعد والثاني الغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة. قلت: وفي رواية مسلم الثاني بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد كما في الأول، فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه لأن معناهما قد يتحد، وعلى هذا فالمزيد خصلة واحدة وهي الفجور في الخصومة. والفجور: الميل عن الحق والاحتيال في رده. وهذا قد يندرج في الخصلة الأولى وهي الكذب في الحديث. ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبهة على ما عداها، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول، والفعل، والنية. فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف. لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارناً للوعد، أما لو كان عازماً ثم عرض له مانع أو بدا له رأى فهذا لم توجد منه صورة النفاق، قاله الغزالي في الإحياء. وفي الطبراني في حديث طويل ما يشهد له، ففيه من حديث سلمان «إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف» وكذا قال في باقي الخصال، وإسناده لا بأس به ليس فيهم من أجمع على تركه، وهو عند أبي داود والترمذي من حديث زيد بن أرقم مختصر بلفظ: «إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه» . قوله: «إذا وعد» قال صاحب المحكم: يقال وعدته خيراً، ووعدته شراً. فإذا أسقطوا الفعل قالوا في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته. وحكى ابن الأعرابي في نوادره: أوعدته خيراً بالهمزة. فالمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير، وأما الشر فيستحب إخلافه. وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة. وأما الكذب في الحديث فحكى ابن التين عن مالك أنه سئل عمن جرب عليه كذب فقال: أي نوع من الكذب؟ لعله حدث عن عيش له سلف فبالغ في وصفه، فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصداً الكذب. انتهى. قال النووي: هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره. قال: وليس فيه إشكال، بل معناه صحيح والذي قاله المحققون: إن معناه أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم. قلت: ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز، أي: صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر. وقد قيل في الجواب عنه: إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه. وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة: هل تعلم في شيئاً من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل. ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله: «كان منافقا خالصاً» . وقيل: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال وإن الظاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطابي. وذكر أيضاً أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا. قال: ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرر الفعل. كذا قال. والأولى ما قاله الكرماني: إن حذف المفعول من «حدث» يدل على العموم، أي: إذا حدث في كل شيء كذب فيه. أو يصير قاصراً، أي: إذا وجد ماهية التحديث كذب. وقيل: هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال، وتهاون بها، واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالباً. وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، ومنهم من ادعى أنها للعهد فقال: إنه ورد في حق شخص معين أو في حق المنافقين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه. وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/89 – 91) .

وَقَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى

يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (¬1) . قوله: «حدثنا قبيصه بن عقبة قال: حدثنا سفيان» هذا هو الإمام الكبير العالم الرباني أحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، القائم بالحق غير خائف في الله لومة لائم سفيان بن سعيد الثوري منسوب إلى جده بثور الكوفي إمام أهل الكوفة، وهو تابعي التابعين ومناقبه جمة. قال عبد الله بن المبارك: كتبت عن ألف ومائه شيخ ما كتبت عن أفضل منه (¬2) . وكان ابن المبارك يتسابق على سفيان ويقول: لما لم أطرح نفسي بين يدي سفيان ما أصنع بفلان وفلان (¬3) . وكان مولده سنة سبع وتسعين، ومن فضائله أنه قال ما استودعت فهمي شيئاً فخانني. ومن كراماته: أن أبا جعفر المنصور بلغه أن سفيان كان يتكلم فيه بسبب ظلم الناس فكان يتطلبه، فلما حج المنصور بعث الخشابين قدامه إلى مكة، وكان سفيان في مكة فقال المنصور: إذا رأيتم سفيان فاصلبوه، فوصلوا مكة ونصبوا الخشبة، ونودي سفيان فإذا رأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجله في حجر ابن عينيه فقالوا: يا سفيان لا تشمت بنا الأعداء، فقام وذهب وأخذ بأستار الكعبة وقال: ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر: قال الشيخ محيي الدين: إنما أوردها البخاري على طريق المتابعة لا الأصالة. وتعقبه الكرماني بأنها مخالفة في اللفظ والمعنى من عدة جهات، فكيف تكون متابعة؟ وجوابه: أن المراد بالمتابعة هنا كون الحديث مخرجا في صحيح مسلم وغيره من طرق أخرى عن الثوري، وعند المؤلف من طرق أخرى عن الأعمش، منها رواية شعبة المشار إليها، وهذا هو السر في ذكرها هنا. وكأنه فهم أن المراد بالمتابعة حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وليس كذلك إذ لو أراده لسماه شاهدا. وأما دعواه أن بينهما مخالفة في المعنى فليس بمسلم، لما قررناه آنفاً. وغايته أن يكون في أحدهما زيادة وهى مقبولة لأنها من ثقة متقن. والله أعلم. فائدة: رجال الإسناد الثاني كلهم كوفيون، إلا الصحابي وقد دخل الكوفة أيضاً. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/91) . (¬2) أورده ابن القيسراني في تذكرة الحفاظ (1/204) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (7/237) . (¬3) أورده الخطيب في تاريخ بغداد (9/156) .

برئت منها إن دخل المنصور، فسقط المنصور من فوق الدآبة ومات قبل أن يدخل مكة فخرج سفيان وصلى عليه (¬1) . ومن فضائله ما حكاه بعض العلماء عن محمد بن خزيمة قال: لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غماً شديداً فبت ليلتي فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته، فقلت: يا أبا عبد الله أي مشية هذه؟ قال: مشية الخدام في دار السلام. فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال: يا أحمد هذا بقولك إن القرآن كلامي، ثم قال لي: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي كنت تدعو بها في دار الدنيا، فقلت: يا رب كل شيء بقدرتك على كل شيء لا تسألني عن شيء واغفر لي كل شيء. فقلت: وما فعل الله بك؟ قد فعل ثم قال: يا أحمد هذه الجنة فقم وادخل إليها فدخلت فإذا سفيان الثوري، وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، ويقول: ?الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ? [الزمر: 74] (¬2) . ومن فضائله ما حكاه في الروض الفائق فقال: «قيل: لما بلغ سفيان الثوري - رضي الله عنه - من العمر خمسة عشر قال: لأمه يا أماه هبيني لله، فقالت: يا ولدي إنما يهدى للملوك من يصلح لهم وأنت لا تصلح لله، فاستحيا من أمه، ودخل بيتاً فأقام فيه سنتين متوجهاً إلى الله تعالى بالعبادة، فدخلت عليه أمه بعد ذلك فوجدته مجتهداً في العبادة وعليه آثار السعادة، فقبلت بين عينيه وقالت: يا ولدي الآن قد وهبتك لله فخرج عنها وغاب عشر سنين في سياحته متلذذاً في عبادته، فاشتاق إلى أمه فزارها ليلاً، فلما طرق الباب نادته من وراء الحجاب يا سفيان من وهب لله شيئاً فلا يعود فيه، وأنا قد وهبتك لله فلا أراك إلا بين يديه، ولله در من قال: ولا تحسبوا أني نسيت ودادكم ... وإني وإن طال الأمد لست أنساكم قطعت لكم عهداً قديماً وحرمة ... ونحن على العهد الذي قد عهدناكم ونحن على ما تعهدون من الوفا ... يودكم قلبي وبالغيب يرعاكم ولست بناس عهدكم بعد بعدكم ... وما دام قلبي عندكم كيف ينساكم ¬

(¬1) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (7/41) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (7/251) . (¬2) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (9/190) .

ومن فضائله ما قاله حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في كتابه منهاج العابدين عن بعض الصالحين أنه قال: رأيت سفيان الثوري في النوم بعد موته فقلت: ما حالك يا أبا عبد الله؟ فأعرض عني وقال: ليس هذا زمان الكنى فقلت: كيف حالك يا سفيان فأنشأ سفيان يقول: نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هنيأ رضائي عنك يا ابن سعيد لقد كنت قواماً إذا الليل قد دجا ... بعبرة مشتاق وقلب عميد فدونك فاختر أي قصر تريده ... وزرني فإني عنك غير بعيد ومن فضائله ما ذكره في كتاب أنس المحاضرة عن بشر بن الحارث: أن سفيان الثوري كان عليلاً، وكان بلبل يجيىء ويصيح في داره، فلما أن مات وحملت جنازته طار فوق الجنازة فلما دفن تمرغ على القبر ومات. وكانت وفاة الثوري بالبصرة سنة ستين ومائة. «قال: حدثنا سفيان عن الأعمش» هذا هو سليمان بن مهران بكسر الميم الكوفي التابعي، وكان في عينه ضعف. قال يحيى القطان: كان الأعمش من النساك، وكان علامة الإسلام (¬1) . وكانت الملوك والسلاطين عنده أحقر الناس مع فقره وحاجته، وكان كثيراً ما يلبس الفروة جلدها على جلده، وصوفها إلى خارج ويذهب إلى الصلاة وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين. « ... عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أربع مَنْ كُنَّ فِيهِ كان مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ» . استشكل جماعة من العلماء هذا الحديث وقالوا: إن هذه قد توجد في المسلم المصدق بقلبه ولسانه ولا يحكم بكفره بالإجماع، ولا بنفاق يجعله الله في الدرك الأسفل من النار، ثم أجابوا عن الاستشكال بأوجه: أحدها: أن المراد بالنفاق هنا النفاق العملي الإيماني فإن النفاق على قسمين ¬

(¬1) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (5/50) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (6/232) .

أحدهما: أن يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر فيقال له: منافق نفاق الكفر، ويقال له: زنديق فهو وإن كان في الظاهر مسلماً فهو في الباطن كافر مخلد في النار، والمنافقون الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نفاقهم نفاق كفر، وكان رأسهم وكبيرهم عبد الله بن أبي سلول. وقد أنزل الله في حقهم: ?إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ? [المنافقون: 1] أي: فيما أضمروه ومن تكذيبك خلاف ما قالوه. القسم الثاني: أن يترك الإنسان المحافظة على أمور الدين سراً ويفعلها ويحافظ عليها علنا، كما إذا خلا الإنسان بنفسه لا يصلي ولا يعمل شيئاً من العبادة، وإن اجتمع الناس صلى وحافظ على العبادة فيسمى مثل هذا منافق أيضاً، ولكن دون النفاق الأول فإن هذا نفاق في العمل لا يخرجه عن الإسلام، والأول نفاق في الاعتقاد وكثير من الجهال الفساق على هذا النفاق لا يعمل شيئاً من الطاعات إلا بين الناس، وإذا خلا بنفسه تركها. فقوله: «آية المنافق» أي: علامة المنافق ذكر - صلى الله عليه وسلم - للمنافق في الحديث الأول ثلاث علامات، وفي الثاني أربع علامات. قال النووي: حصل من مجموع الروايتين خمس خصال للمنافق وهي: الكذب والخيانة والخلف والغدر والفجور. أما الكذب فهو: الأخبار عن الشيء على خلاف الواقع سواء كان عمداً أو جهلاً، لكن لا إثم عليه في الجهل، بخلاف العمد وهو حرام، وقبيح في الجاهلية والإسلام، وهو من الكبائر إن كان يترتب عليه ضرر لأحد من الناس، فمن كذب على إنسان وقال عنه: أنه سرق ولم يسرق فقطعوا يده بقوله، وكذا الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه من الكبائر. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» (¬1) . ¬

(¬1) حديث متواتر: أخرجه البخاري في صحيحه (1/52، رقم 108) ومسلم في صحيحه (1/10، رقم 2) ، والترمذي في سننه (5/35، رقم 2660) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبري (3/458 رقم 5914) ، وابن ماجه في سننه (1/13، رقم 32) ، وأحمد في مسنده (3/98، رقم 11960) ، والطيالسي في مسنده (ص 277، رقم 2084) عن أنس. وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/13، رقم 33) ، وأحمد في مسنده (3/303 رقم 14294) والدارمي في سننه (1/87، رقم 231) ، وأبو يعلي في مسنده (3/376، رقم 1847) عن جابر. وأخرجه البخاري في صحيحه (1/52، رقم 107) ، وأبو داود في سننه (3/319، رقم 3651) ، والنسائي في الكبري (3/457، رقم 5912) ، وابن ماجه في سننه (1/14 رقم 36) ، وأحمد في مسنده (1/165، رقم 1413) ، والطيالسي في مسنده (ص 27، رقم 191) عن الزبير. وأخرجه الترمذي في سننه (5/36، رقم 2662) عن علي، وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/14، رقم 37) ، وأبو يعلي في مسنده (2/428، رقم 1229) عن أبي سعيد. وأخرجه الترمذي في سننه (5/35، رقم 2659) ، وابن ماجه في سننه (1/13، رقم 30) عن ابن مسعود.

أما إذا لم يترتب على الكذب ضرر لأحد فهو من الصغائر القبيحة الفاحشة، وقد دل على تحريمه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال الله تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ? [الإسراء: 36] . قال قتادة (¬1) : أي لا تقل رأيت وأنت لم تره، وسمعت ولم تسمعه، وعلمت ولم تعلم (¬2) . وقال تعالى: ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ? [ق: 18] . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» (¬3) . قال الغزالي رحمه الله: قال ابن عباس: «أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر» (¬4) . وقال بشر بن الحارث (¬5) : «من عامل الله بالصدق استوحش من الناس» (¬6) . ¬

(¬1) هو: أبو الخطاب، قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز السدوسي البصري، مفسر، حافظ، ضرير، أكمه، قال أحمد بن حنبل: قتادة أحفظ أهل البصرة، وكان مع علمه بالحديث إماما في العربية ومفردات اللغة، توفي سنة (118هـ) . انظر: تذكرة الحفاظ (1/115) ، ووفيات الأعيان (1/427) . (¬2) أورده ابن جرير في تفسيره (15/86) . (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2261، رقم 5743) ، ومسلم في صحيحه (4/2012، رقم 2607) ، وأبو يعلي في مسنده (9/71، رقم 5138) ، وابن حبان في صحيحه (1/508، رقم 273) ، والبيهقي في سننه الكبرى (10/243، رقم 20927) عن ابن مسعود. (¬4) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) . (¬5) وهو المعروف بالحافي، واسمه: بشر بن الحارث بن علي بن عبد الرحمن المروزي، أبو نصر، المعروف بالحافي، ولد سنة: 150 هـ‍، وهو من كبار الصالحين، له في الزهد والورع أخبار، وهو من ثقات رجال الحديث، من أهل مرو سكن بغداد وتوفي بها سنة: 227هـ‍. ومن فضائله أن المأمون قال: لم يبق في هذه الكورة أحد يُستحيى منه غير هذا الشيخ بشر بن الحارث. (¬6) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .

وقال بعضهم: رأيت منصور الدينوري في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ورحمني وأعطاني ما لم أؤمل، فقلت له: أحسن ما توجه به العبد إلى الله ماذا؟ فقال: الصدق وأقبح ما توجه به الكذب (¬1) . وقال أبو سليمان: «اجعل الصدق مطيتك، والحق سيفك، والله تعالى غاية طلبك» (¬2) . وقال محمد بن علي الكناني: «وجدنا دين الله مبنياً على ثلاثة أركان على الحق والصدق والعدل، فالحق على الجوارح، والعدل على القلوب، والصدق على العقول» (¬3) . وقال وهب بن منبه: «وجدت على حاشية التوراة اثنين وعشرين حرفاً كان صلحاء بني إسرائيل يجتمعون فيقرءونها: لا كنز أنفع مع العلم، ولا مال أربح من الحلم، ولا حسب أوضع من الغضب، ولا قرين أزين من العقل، ولا رفيق أشر من الجهل، ولا شرف أعز من التقوى، ولا كرم أوفى من ترك الهوى، ولا عمل أفضل من الفكر، ولا حسنة أعلى من الصبر، ولا سيئة أخزى من الكبر، ولا دواء أنفع من الرفق، ولا داء أوجع من الخرق، ولا رسول أعدل من الخلق، ولا دليل أنصح من الصدق، ولا فقر أذل من الطمع، ولا غنى أشقى من الجمع، ولا حياة أطيب من الصحة، ولا معيشة أهنأ من العفة، ولا عبادة أحسن من الخشوع، ولا زهد خير من القنوع، ولا حارس أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت» (¬4) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع» (¬5) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب» (¬6) . ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) . (¬2) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) . (¬3) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) . (¬4) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) . (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (4/298، رقم 4992) ، والحاكم في المستدرك (1/195، رقم 381) ، وابن حبان في صحيحه (1/213، رقم 30) عن أبي هريرة. (¬6) أخرجه أحمد في مسنده (5/252، رقم 22224) عن أبي أمامة. قال الهيثمي (1/92) : منقطع بين الأعمش وأبي أمامة.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنوكم» (¬1) . وعن عبد الله بن جراد قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: «قد يكون ذلك» ، المؤمن يسرق؟ قال: «قد يكون ذلك» ، المؤمن يكذب؟ قال: «لا» . قال الله تعالى: ?إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ? [النحل: 105] . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك القوم ويل له، ويل له» (¬2) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد ليقول الكلمة لا يقول إلا ليضحك بها الناس، يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإنه ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه» (¬3) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهو كذبه» (¬4) رواه أحمد. وعن عبد الله بن عامر - رضي الله عنه - دعتني أمي يوماً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد في بيتنا فقالت: هاك تعالى أعطيك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها: «أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة» (¬5) رواه أبو داود والبيهقي. ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/12، رقم 7) ، وأحمد في مسنده (2/349، رقم 8580) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (4/297، رقم 4990) ، والترمذي في سننه (4/557، رقم 2315) وقال: حسن. والنسائي في الكبرى (6/509، رقم 11655) ، والطبراني في المعجم الكبير (19/403، رقم 951) ، والحاكم في المستدرك (1/108، رقم 142) ، والدارمي في سننه (2/382، رقم 2702) ، وأحمد في مسنده (5/5، رقم 20058) ، وهناد في الزهد (2/554، رقم 1150) ، والروياني في مسنده (2/107، رقم 910) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. (¬3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/213، رقم 4832) ، وابن المبارك في الزهد (1/255، رقم 734) عن أبي هريرة. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (2/452، رقم 9835) عن أبي هريرة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/142) : رواه أحمد من رواية الزهري عن أبي هريرة ولم يسمعه منه. (¬5) أخرجه أبو داود في سننه (4/298، رقم 4991) ، والبيهقي في الكبرى (10/198، رقم 20628) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/447، رقم 15740) ، والضياء في المختارة (9/483، رقم 466) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/236، رقم 25609) .

وقال عبد الله المبارك: «من عقوبة الكذاب أنه يرد عليه صدقه» (¬1) . وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كذب العبد كذبة تباعد منه الملك مسيرة ميل من نتن ما جاء به» (¬2) . وفي الموطأ عن ابن مسعود قال: «لا يزال العبد يكذب وتنكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه كله، فيكتب ثم الله من الكاذبين» (¬3) . نعم يجوز الكذب في صور ويجب في صور، أما الصور التي يجب فيها الكذب فثلاث: الأولى: في الحرب بأن يظهر لمن يراه الناس خلاف ما يبطن لأجل الحرب، فإن الحرب خدعة ففي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يريد غزوة يغزوها إلا وري بغيرها (¬4) . الثانية: في الإصلاح بين شخصين أو طائفتين. الثالثة: الكذب لأجل إرضاء زوجته كأن يشتري لها شيئاً بثمن لا ترضى به إلا أن يكون بأكثر فيخبرها الأكثر كاذباً. ففي الصحيحين أن أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً أو يقول خيراً» (¬5) . وزاد مسلم في رواية: «قالت أم كلثوم ولم أسمعه يرخص في شيء مما تقوله الناس إلا في ثلاث» يعني في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها. ¬

(¬1) أورده الخطيب في الكفاية في علم الرواية (1/117) . (¬2) أخرجه الترمذي في سننه (4/348، رقم 1972) وقال: حسن غريب. وابن عدي في الكامل (5/283، ترجمة 1421 عبد الرحيم بن هارون) ، وأبو نعيم في الحلية (8/197) . (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (2/990، رقم 1794) . (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1078، رقم 2787) ، ومسلم في صحيحه (4/2128، رقم 2769) عن كعب بن مالك. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (2/958، رقم 2546) ، ومسلم في صحيحه (4/2011، رقم 2605) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/280، رقم 4920) ، والترمذي في سننه (4/331، رقم 1938) ، وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (6/403، رقم 27313) ، والطبراني في المعجم الكبير (25/77، رقم 192) عن أم كلثوم بنت عقبة.

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الكذب مكتوب إلا أن يكذب الرجل في الحرب فإنه خدعه، أو يكذب بين اثنين فيصلح بينهما، أو يكذب لامرأته ليرضيها» (¬1) . وأما الصور التي يجب فيها الكذب فمنها: ما إذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله وسأله شخصاً مسلماً عنه هل يعرف محله فإنه يجب عليه الكذب، وإذا حلف وجب عليه أن يحلف أنه لا يعلم مكانه، ولا إثم عليه بل يثاب على هذا الكذب ثواب الواجب، نعم إن كان الحلف في هذه الصورة بالطلاق وقع عليه. ومنها: لو كان عند إنسان وديعة لشخص فسأله ظالم عنها ليأخذها منه، وجب عليه الكذب، فإن حلَّفه الظالم بالله تعالى جاز له الحلف كاذباً لمصلحة الوديعة ووجب عليه تكفير يمينه، فلو لم يحلف وأخبره بأن الوديعة عنده فأخذها الظالم قهراً وجب ضمانها عليه، وإن أكرهه الظالم في هذه الصورة على الحلف بالطلاق فهو مخير بين الحلف وبين الاعتراف والتسليم، فإن اعترف وسلم ضمن على المذهب لأنه فدى زوجته بالوديعة، وإن حلف بالطلاق أن الوديعة ليست عنده طلقت زوجته على المذهب، لأنه فدى الوديعة بزوجته. فائدة: الكذب على المسلم كأن قال رأيت في منامي ولم ير شيئاً حرام. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين طرفي شعيرة، ومن استمع بحديث قوم وهم له كارهون صب أذنيه الآنك، ومن صور صورة كلف أن ينفخ فيها روح وليس بنافخ» (¬2) رواه البخاري. ومعنى «تحلم» : قال إنه حلم في نومه، ورأى كذا وكذا، وهو كاذب. «والآنك» بالمد وضم النون وتخفيف الكاف: الرصاص المذاب قاله النووي. وأما «الخيانة» : فهي التصرف في الأمانة على خلاف الشرع كالجناية في الوديعة فإنها أمانة في يد المودع، فإذا تلفت الوديعة تحت يده من غير تقصير فلا ضمان عليه لعدم خيانته، أما إذا قصر فيها فإنه يضمن، وأسباب الضمان كثيرة نقلها الفقهاء رضي الله عنهم. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/204، رقم 4798) . (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2581، رقم 6635) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/306، رقم 5024) ، والترمذي في سننه (4/231، رقم 1751) وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (1/359، رقم 3383) .

ويدل على تحريم الخيانة في الأمانة الحديث الذي ذكره البخاري حيث جعل الخيانة إحدي علامات المنافق. وقول الله تعالى: ?فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ? [البقرة: 283] . وقوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أهلها? [النساء: 58] . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (¬1) حسنة الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم. وأما الغدر وهو مخالفة العهد، فالذي يدل على تحريمه الحديث الذي ذكره البخاري. وقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ? [المائدة: 1] . وقوله تعالى ?وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كان مَسْئُولاً? [الإسراء: 34] . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال هذه غدرة فلان» (¬2) . لطيفة في الوفاء بالعهد وعدم الغدر: نقل الإخباريون عن عبد الله بن المبارك أنه كان في غزوة فالتقى هو ومجوسي للقتال فدخل وقت الصلاة، فقال للمجوسي: دخل وقت الصلاة عبادتنا اصبر على حتى أصلي، وعاهدني على أن لا تقصدني بمكروه حتى أفرغ من الصلاة، فعاهده على ذلك، ثم توضأ عبد الله بن المبارك ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (3/564، رقم 1264) وقال: حسن غريب، والحاكم في صحيحه (2/53، رقم 2296) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/290، رقم 3535) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/271، رقم 21092) عن أبي هريرة. وأخرجه الطبراني في الكبير (1/261، رقم 760) ، وفي الصغير (1/288 رقم 475) ، والدارقطني (3/35) ، وأبو نعيم في الحلية (6/132) ، والحاكم في المستدرك (2/53، رقم 2297) وقال: على صحيح على شرط مسلم. والبيهقي في السنن الكبرى (10/271، رقم 21093) ، والضياء في المختارة (7/281، رقم 2738) عن أنس. قال الهيثمي (4/145) : رواه الطبراني في الكبير والصغير، ورجال الكبير ثقات. وأخرجه الطبراني في الكبير (8/127، رقم 7580) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/271، رقم 21092) وقال: ضعيف. كلاهما عن أبي أمامة. قال الهيثمي (4/145) : فيه يحيى بن عثمان بن صالح المصري، قال ابن أبي حاتم: تكلموا فيه. (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه (2/959، رقم 2872) ، وأبو يعلى في مسنده (9/234، رقم 5342) .

وصلى، والمجوسي ينظر ولا يتكلم حفظاً للعهد، فلما فرغ من صلاته التقيا للقتال فلم يقدر أحدهما على الآخر إلى أن جاء وقت غروب الشمس، وعبادة المجوسي هي السجود للشمس وقت طلوعها وغروبها، فقال المجوسي لعبد الله بن المبارك: دخل وقت عبادتنا عاهدني أنت أيضاً كما عاهدتك واصبر على حتى أفرغ من عبادتي ولا تغدر. فعاهده عبد الله بن المبارك على ذلك، فلما سجد للشمس وثب عليه عبد الله بن المبارك بسيفه ليقتله وهو ساجد، فهتف به هاتف: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، فرجع فلما فرغ المجوسي قال له: مالك هممت بي ثم رجعت؟ قال: سمعت هاتفاً يقول كذا، فقال المجوسي: نعم الرب ربك يعاتب وليه لأجل عدوه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. لطيفة أخرى: عاهد بعض الصالحين ربه - عز وجل - أن لا يستغيث بأحد من الخلق إلا به سبحانه وتعالى، فخرج إلى الحج فمر في طريقه على بئر والنوم في عينيه فسقط فيه، ولم يقدر على الخروج منه، فمر بالبئر رجلان فقال أحدهما للآخر: هذا البئر يضر بالمارين فلا نبرح حتى نطمه من طريق الناس، وهو يسمع ما قالاه من أسفل البئر، فأراد أن يستغيث بهما فذكر العهد فسكت فطماه وذهبا، فأرسل الله سبعاً ففتح البئر وناوله يده فرفعه بها فسمع هاتفاً يقول: من التجأ في مهماته إلينا، ولم يتكل على سوانا، وناجاني في الغيب فنجيناه من التلف. وأنشد في المعنى: إذا لم يكن بيني وبينك مرسل ... فريح الصبا مني إليك رسول لطيفة ثالثة: طلب الحجاج رجلاً ليقتله فقال: أيها الأمير عندي ودائع للناس فأمهلني حتى أردها، فأعرض عنه وقال: لا أطلقك إلا بكفيل، فخرج الرجل يطلب كفيلاً يكفله ومعه جماعة الحجاج، فوجد رجلاً جميل الوجه من أقارب الحجاج فقاله له: ما اسمك؟ فقال: عبد الكريم، فأخبره بقصته مع الحجاج، فقال: أنا أكفلك عنده. وكفله عند الحجاج، فقال له الحجاج: إن لم يأت أقتلك مكانه وإن بيني وبينك قرابة. قال: نعم، فذهب الرجل ورد ودائع الناس فلما أبطأ على الحجاج طلب الكفيل، وأمر بقتله فقال له: دعني أصلي ركعتين ثم أفعل ما أردت، فصلى ركعتين ثم قال: يا رب إن الرجل اطمأن إليَّ لأني عبد الكريم وأنت الكريم. ثم رفع السياف سيفه وأراد ضربه، وإذا بالرجل قد أقبل فقال له السياف: كيف رجعت

إلى القتل؟ والحجاج يسمع فقال: ردني قوله تعالى: ?وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ? [النحل: 91] ?وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ? [البقرة: 40] والوفاء بالعهد من الإيمان، فلا أخرج من الإيمان لأجل حياة زائلة، فقال الحجاج: أذهبا فقد عفوت عنكما. وأما الفجور في الخصومة فهو حرام كما يدل على تحريمه الحديث المذكور، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفي بالمرء إثما أن لا يزال مخاصماً» (¬1) . والخصومة: لجاج في الكلام ليستوفي به الإنسان مقصوده من مال أو غيره، نعم إن خاصم الإنسان بحق يستوفي حقه فليس ذلك بحرام، وإنما الحرام المذموم من المخاصمة أن يخاصم بباطل أو بغير علم، كبعض وكلاء القضاة فإنه يتوكل بالخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب فيخاصم بغير علم، فالخصومة مبدأ الشر، وهي توغر الصدر وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، فأطلق كل واحد منهما لسانه في حق الآخر، فينبغي للعاقل أن لا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرروة بالغة، وحينئذ يحفظ لسانه وقلبه عن آفاتها. قال بعضهم: ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أشغل للقلب من الخصومة. فائدة: قال العلماء: ينبغي للإنسان إذا قال خصمه: بيني وبينك كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال العلماء المسلمين أو نحو ذلك، أو قال: اذهب معي إلى حاكم المسلمين، أو للمفتي للفصل في الخصومة التي بيننا وما أشبه ذلك أن يقول: سمعنا وأطعنا، أو سمعاً وطاعة، أو نعم وكرامة أو شبه ذلك. قال الله تعالى: ?إِنَّمَا كان قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ? [النور: 51] . وإذا قال له خصمه في المخاصمة والمنازعة في أمر: اتق الله، أو خف الله تعالى، أو راقب الله تعالى، أو اعلم أن الله مطلع عليك، أو اعلم أن ما تقوله يكتب عليك أو تحاسب عليه، أوقال له: قال الله تعالى ?يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ? [آل عمران: 30] ، وقال تعالى ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (4/359، رقم 1994) ، وقال: غريب. والطبراني في الكبير (11/57، رقم 11032) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/340، رقم 8432) عن ابن عباس.

اللَّهِ? [البقرة: 281] ، أو نحو ذلك فيبنغي أن يتأدب ويقول سمعاً وطاعة، أو سل الله التوفيق، أو اسأل الله الكريم لطفه، ويتلطف في مخاطبة من قال ذلك، وليحذر كل الحذر من تساهله عند ذلك في عبارات فإن كثيراً من الناس يتكلمون عند ذلك بما لا يليق، وربما يتكلم بعضهم بما يكون كفراً. وأما الخلف في العهد فهو حرام جداً عند جماعة من العلماء، وبه قال عمر بن العزيز، والذي يذهب الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والجمهور من العلماء أن خلف الوعد ليس بحرام بل مكروه كراهة تنزيه كراهة شديدة، وقالوا: يستحب الوفاء به، وعند المالكية إن ارتبط الوعد بسبب كقوله: تزوج، أعط كذا فوجب الوفاء به وكان خلفه حراماً، وإن كان وعداً مطلقاً فلا يجب الوفاء به. فالحاصل: أن خلف الوعد إما حراماً وإما مكروهاً. قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ? [الصف: 2، 3] . والوفاء بالوعد من أخلاق الأنبياء والأولياء والصالحين نفعنا الله بهم أجمعين. قال القاضي عياض: باع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث من إنسان شيئاً وبقي له بقية، فقال له ذلك الإنسان: قف مكانك يا محمد حتى آتيك بالبقية، فذهب ونسي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان، فاستمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان ثلاثة أيام حفظاً للوعد، ثم تذكر بعد اليوم الثالث فجاء فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد شققت عليَّ أنا ههنا منذ ثلاثة أيام انتظرك» (¬1) . وذكر بعض المفسرين في قوله حكاية عن إسماعيل: ?إِنَّهُ كان صَادِقَ الوَعْدِ? [مريم: 54] أن رجلاً قال له: اجلس يا إسماعيل في هذا المكان حتى آتيك فجلس فيه سنة، ثم جاءه فقال له: مكانك حتى آتيك فجلس فيه سنة أخرى، فقال له: مكانك حتى آتيك فغاب عنه سنة، ثم جاءه وهو في ذلك المكان لم يتغير، فلذلك وصفه الله بأنه كان صادق الوعد. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4/299، رقم 4996) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (7/59) ، والضياء في المختارة (9/260، رقم 226) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/198، رقم 20624) عن عبد الله بن أبي الحمساء.

وأفاد بعضهم أنه وقع نظير هذا للشيخ العارف بالله تعالى الرباني سيدي عبد القادر الكيلاني، وكان القائل الخضر. لطيفة خاتمة: قال في روض الأفكار: خرج رجل من أهل اليمن لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له جماعة: سلم لنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر، فلما دخل المدينة وزار قبره الشريف - صلى الله عليه وسلم - نسي تبليغ السلام عليه وعلى صاحبيه فخرج مع القافلة، فذكر ما حمله ذلك الرجل من السلام، فترك القافلة ورجع إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال يا رسول الله: فلان ابن فلان يسلم عليك وعلى صاحبيك. ثم رجع ليلحق القافلة فوجدهم قد رحلوا فرجع بقلب مكسور إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونام فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر فقال أبو بكر: هذا الرجل يا رسول الله؟ قال: نعم. فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا أبا الوفاء. قلت: يا رسول الله كنيتي أبو العباس. فقال: أنت أبو الوفاء، وأخذ بيدي فوضعني في مكان غير مكاني، فانتبهت فرأيت نفسي في المسجد الحرام، فأقمت بمكة ثمانية أيام حتى جاء الحجاج. * * *

المجلس الثامن والعشرون

المجلس الثامن والعشرون في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - من تبع جنازة مسلم وما فيه من الفوائد الحمد الذي أيقظ من شاء من سنة الغفلة، ورفع من أحب لقاءه إلى عليين، ووضع عنه أوزاره وثقله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله المبعوث بأشرف ملة، المخصوص بأكرم خلة - صلى الله عليه وسلم - وصحبه السادة الجلة. قَالَ البُخَارِي: باب اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَانِ ختم البخاري التراجم التي وقعت له من شعب الإيمان بهذه الترجمة لأن ذلك آخر أحوال الدنيا. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إيماناً وَاحْتِسَابًا، وكان مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فإنه يَرْجِعُ مِنَ الأجر بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فإنه يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «من اتبع» هو بالتشديد، وللأصيلي «تبع» بحذف الألف وكسر الموحدة، وقد تمسك بهذا اللفظ من زعم أن المشي خلفها أفضل، ولا حجة فيه لأنه يقال تبعه إذا مشى خلفه أو إذا مر به فمشى معه، وكذلك اتبعه بالتشديد وهو افتعل منه، فإذا هو مقول بالاشتراك، وقد بين المراد الحديث الآخر المصحح عند ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر في المشى أمامها، وأما اتبعه بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه، ولم تأت به الرواية هنا. قوله: «وكان معه» أي: مع المسلم، وللكشميهني «معها» أي: مع الجنازة. قوله: «حتى يصلي» بكسر اللام ويروى بفتحها، فعلى الأول لا يحصل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثاني قد يقال: يحصل له ذلك ولو لم يصل، أما إذا قصد الصلاة وحال دونه مانع فالظاهر حصول الثواب له مطلقا، والله أعلم. قوله: «ويفرغ» بضم أوله وفتح الراء، ويروى بالعكس، وقد أثبتت هذه الرواية أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط واحد، وهذا هو المعتمد خلافاً لمن تمسك بظاهر بعض الروايات فزعم أنه يحصل بالمجموع ثلاثة قراريط. انظر فتح الباري (1/108 – 109) .

تَابَعَهُ عُثْمَانُ الْمُؤَذِّنُ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَهُ (¬1) . في هذا الحديث فوائد: الفائدة الأولى: الحث على الصلاة على الميت واتباع جنازته وحضور دفنه. قال أبو الزناد (¬2) : خص الشارع على التواصل في الحياة بقوله: «صل من قطعك، وأعط من حرمك، ولا تقاطعوا ولا تدابروا» وخص على التواصل بعد الموت بالصلاة والتشييع إلى القبر والدعاء له، والتشييع إلى القبر من حق المسلم وقد وردت به الأخبار ودلت عليه الآثار، على أن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب والأوزار لمن تبع جنازة المؤمن إلى قبره. فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عاصم حديثاً مرفوعاً: «إن أول ما يتحف به المؤمن في قبره أن يقال له: أبشر فقد غفر لمن تبع جنازتك» (¬3) . وأخرج (¬4) عن جابر بن عبد الله عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أول تحفة المؤمن أن يغفر لمن خرج في جنازته» (¬5) . وأخرج البزار وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أول ما يجازى به المؤمن بعد موته، أن يغفر لجميع من تبعه» (¬6) . الفائدة الثانية: القيراط الذي يحصل بالصلاة على الميت وبحضور دفنه اسم لمقدار ¬

(¬1) قوله: «تابعه» أي: روح بن عبادة، وعثمان هو ابن الهيثم وهو من شيوخ البخاري، ولفظه موافق لرواية روح إلا في قوله: «وكان معها» فإنه قال بدلها: «فلزمها» . وفي قوله «ويفرغ من دفنها» فإنه قال بدلها: «وتدفن» . وقال في آخره: «فله قيراط» بدل قوله: «فإنه يرجع بقيراط» ، والباقي سواء. ولهذا الاختلاف في اللفظ قال المصنف: «نحوه» وهو بفتح الواو، أي: بمعناه. انظر فتح الباري (1/109) . (¬2) أبو الزناد هو: عبد الله بن ذكوان القرشي المدني، محدث، من كبارهم، ولد سنة: 65 هـ‍، قال الليث: رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب فقه وعلم وشعر وصرف، وكان سفيان يسميه أمير المؤمنين في الحديث، وكان يغضب إذا قيل له: أبو الزناد، ويكتني بأبي عبد الرحمن. قال مصعب الزبيري: كان فقيه أهل المدينة، وكان صاحب كتابة وحساب، وفد على هشام بحساب ديوان المدينة، وكان ثقة في الحديث عالما بالعربية فصيحاً، توفي فجأة بالمدينة سنة: 131هـ‍. (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في تنزيه الشريعة لابن عراق (2/370، رقم 22) . (¬4) أي ابن أبي الدنيا أيضاً. (¬5) أخرجه أيضا الخطيب (5/274) عن جابر. (¬6) أخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (3/29) قال الهيثمي: فيه مروان بن سالم الشامي وهو ضعيف. وأخرجه ابن عدي (6/384، ترجمة 1870 مروان بن سالم الجزري القرقساني) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/7، رقم 9258) وضعفه.

من الثواب يقع على القليل والكثير، بين في هذا الحديث أنه مثل أحد، وفي رواية للحاكم: القيراط أعظم من أحد، وفي رواية أخرى للحاكم: «والذي نفسي بيده لهو في الميزان أثقل من أحد» . والمقصود من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه يرجع من الأجر بقيراطين» أي: أنه يرجع بحصتين من جنس الأجر. و «أحد» جبل بجانب المدينة على نحو ميلين منها، وإنما خصه بالذكر دون غيره من الجبال لأنه أعظم جبال المدينة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويقول: «جبل أحد يحبنا ونحبه» (¬1) . وتحرير الكلام في تحصيل القيراط أن للانصراف عن الجنازة أربع مراتب: الأولى: أن ينصرف عقب الصلاة ولهذا من الأجر قيراط بهذا الحديث، لكن هذا القيراط لا يحصل إلا إذا شهد الجنازة من مكانها إلى حين الصلاة، كما يدل عليه قوله: «وكان معه» أي: مع المسلم، وفي رواية: «معها» أي: مع الجنازة، فلو لم يشهد الجنازة من مكانها بل سبقها إلى المصلى لم يحصل القيراط، وإن حصل له أجر الصلاة، لأن القيراط ليس على الصلاة مطلقاً بل عليها بشرط شهودها من مكانها، ولو شهد الجنازة من مكانها إلى المصلى ولم يصل هو بل صلى غيره عليها لم يحصل له القيراط، لظاهر قوله: «حتى يصلي» بكسر اللام. لكن قال شيخ الإسلام ابن حجر على رواية: «حتى يصلى» بفتح اللام: قد يقال يحصل ذلك ولو لم يصلي، قال: أما إذا قصد الصلاة وحال دونه مانع فالظاهر حصول الثواب له مطلقاً والله تعالى أعلم. فلو شهد جنازتين من مكانهما إلى المصلى، وصلى عليها صلاة واحدة، فإن تعدد مكانهما حصل له بكل واحدة قيراط بلا شك، وإن اتحد مكانهما بأن كانا في موضع واحد ومشى معهما حتى صلى عليهما صلاة واحدة. قال السبكي: فالذي يظهر أنه يحصل له قيراط بكل ميت نظراً إلى تعدد الجنائز، ولا يمنع من ذلك اتحاد الصلاة لأن الشارع ربط القيراط بوصف وهو حاصل في كل ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (4/1610، رقم 4160) عن سهل بن سعد. وأخرجه البخاري في صحيحه (3/1058، رقم 2732) ، ومسلم في صحيحه (2/1011، رقم 1393) ، والترمذي في سننه (5/721، رقم 3922) ، وقال: حسن صحيح. وابن حبان في صحيحه (9/42، رقم 3725) ، وأبو يعلى في مسنده (5/325، رقم 2948) عن أنس.

ميت، وكذا لو صلى على جنائز شهدها من دويرة أهلها، وصلى على الكل صلاة واحدة، حصل له بكل ميت قيراط. المرتبة الثانية من مراتب الانصراف: أن يتبعها حتى توضع في القبر، وينصرف قبل إهالة التراب، وحديث الباب يدل على أن هذا لا يحصل به القيراط الثاني، فإنه قال فيه: «وكان معها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها» وهو المختار في الروضة والصحيح في المجموع. لكن اختار إمام الحرمين الحصول ويقويه ما في صحيح مسلم: «حتى يوضع في اللحد» (¬1) لكن رد ذلك العلماء بأنها مؤولة بالفراغ من الدفن جمعاً بين الرواتين قاله ابن الملقن. المرتبة الثالثة: أن يقف إلى فراغ القبر وينصرف من غير دعاء وهذا يحصل له القيراط الثاني. المرتبة الرابعة: أن يقف بعده ويستغفر للميت ويدعو له هذا أقصى الدرجات في الفضيلة، ويشترط لتحصيل القيراط الثاني أن يشهدها من مكانها إلى الدفن كما في الصلاة، فمن سبق إلى القبر لا يحصل له ثواب الدفن. وذهب بعضهم إلى أنه يحصل له ثلاثة قراريط بالصلاة مع الدفن أخذاً من ظاهر بعض الأحاديث، ومن تبعها حتى يدفن فله قيراطاً أي: قيراط بالصلاة وقيراطان بالدفن، ورد هذا بأن معناه فله تمام قيراطين بالمجموع. وذهب بعض آخر إلى الحصول أربعة قراريط لحديث: «من أوذن بجنازة فأتى أهلها فعزاهم كتب الله له قيراط، فإن شيعها كتب الله له قيراطين، فإن صلى عليها كتب الله له ثلاثة قراريط فإن، شهد دفنها كتب الله له أربعة قراريط، القيراط مثل أحد» (¬2) . الفائدة الثالثة: دلَّ الحديث على أن لمن حضر الدفن أن ينصرف بغير إذن أهل الميت، وحكي عن مالك أنه لا ينصرف إلا بأذن، وظاهر هذا الحديث يرده. الفائدة الرابعة: تمسك أبو حنيفة بظاهر قوله في هذا الحديث: «من اتبع» وقال إن المشي وراء الجنازة أفضل من المشي أمامها، وعند الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/652، رقم 945) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه ابن حبان في الضعفاء (3/40، ترجمة 1092 معدي بن سليمان) عن أبي هريرة.

وأحمد بن حنبل أن المشي أمامها أفضل، وحملوا الاتباع على المعنى العرفي، إذ لو تقدم عليها أو حذاها أو تأخر بحيث ينسب إلى الجنازة ويعد من شيعتها، كان له حكم الاتباع عرفاً، والذي يرجح قول الأئمة الثلاثة ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والشيخين كانوا يمشون أمامها، وأيضاً: المشيعون للجنازة كالشفعاء لها، ولهذا يقولون في الدعاء: وقد جئناك شفعاء له، ومن شأن الشفيع أن يتقدم بين يدي المشفوع له، فلو مشي خلفها حصل له فضيلة أصل المتابعة وفاته كمالها. قال النووي: المشي أمام الجنازة أفضل للراكب والماشي، والأفضل أن يكون قريباً منها، بحيث لو التفت لرآها ولا يتقدمها إلى المقبرة فلو تقدم لم يكره. الفائدة الخامسة: قوله: «من تبع جنازة مسلم» يقتضي أنه لا أجر في اتباع الكافر. وهل اتباع جنازته حرام أو مكروه، أو لا حرام ولا مكروه؟ قال العلماء: إن كان الميت الكافر من أقارب الشخص كأبيه أو أخيه فلا يحرم اتباعه ولا يكره، وتلحق الزوجة والمملوك والجار بالقريب. فقد روى أبو داود وغيره عن علي - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن عمك الضال قد مات فقال: «إذهب فواره» (¬1) وإسناده ضعيف، وقيل: حسن، وإن كان غير قريب أو ما في معناه فاتباع جنازته حرام، وكما يجوز للمسلم اتباع جنازة قريبة الكافر يجوز له زيارة قبره. الفائدة السادسة: دلَّ الحديث المذكور على أن الثواب المذكور وهو القيراطان إنما يحصل لمن تبعها إيماناً واحتساباً أي: لوجه الله طالباً للثواب من الله تعالى، فإن حضور الجنازة على ثلاثة أقسام احتساب، ومكأفاة، ومخافة. والأول هو الذي يجازى عليه الأجر ويحط عنه به الوزر، والثاني لا يبعد ذلك في حقه، والثالث والله أعلم بما فيه، قاله ابن الملقن. الفائدة السابعة: دل على وجوب الصلاة على الميت ووجوب دفنه، وهو مجمع عليه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (3/214، رقم 3214) وأخرجه أيضاً: النسائي في سننه (4/79، رقم 2006) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/304، رقم 1348) ، والضياء في الأحاديث المختارة (2/363، رقم 746) .

الفائدة الثامنة: في الحديث حث على الاجتماع للصلاة على الميت وحضور دفنه. ويلحق بهذه الفوائد مسائل مناسبة وفوائد: قال العلماء: يكره أن تتبع الجنازة بنار في مجمرة أو غيرها، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع عليه، وكذا يكره أن يكون عند القبر مجمرة، ويكره اللغط في المشي والحديث في أمور الدنيا، بل المستحب التفكر في الموت وما بعده، وفناء الدنيا وأن هذا آخرها. قال النووي: والمختار والصواب ما كان عليه السلف من السكون في حال السير معها، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما، لأنه أسكن للخاطر، أو أجمع للفكر، فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال. وكره الحسن وغيره قولهم: «استغفروا لأخيكم» . وسمع ابن عمر قائلاً يقول: «استغفروا له غفر الله لكم» فقال: لا غفر الله لك. وإذا مرت جنازة بالإنسان ولم يرد الذهاب معها لم يقم لها، بل نص أكثر العلماء على كراهة القيام، وإذا كان معها فقعد قبل أن توضع فلا كراهة في ذلك، ولا يستحب له القيام عند إقبالها وهو عند القبر جزم به جمهور العلماء. قال النووي: ويستحب لمن مرت به جنازة أن يدعو لها، وأن يثنى عليها إن كان أهلاً لذلك، ويستحب أن يقول من رآها: سبحان الحي الذي لا يموت، أو سبحان الملك القدوس، أو يقول ما رواه الطبراني عن ابن عمر أنه كان يقول إذا رأى جنازة: «هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، اللهم زدنا إيماناً وتسليماً» . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى جنازة فقال: الله أكبر صدق الله ورسوله هذا ما وعدنا الله ورسوله، اللهم زدنا إيماناً وتسليماً كتب له عشرون حسنة» . قال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: وليس في حمل الجنازة دنأة ولا إسقاط مروءة، بل ذلك بر وإكرام للميت، وفعل أهل الخير، فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الصحابة ثم التابعون، ويحرم حمله بهيئة مزرية كحملة في غرارة أو قتة بل يحمل على سرير أو لوح أو محمل أو أي شيء حمل عليه أجزأ، فإن لم يوجد شيء يحمل عليه وخيف من تغيره وانفجاره فلا بأس أن يحمل على الأيدي والرقاب كما يحمل الطفل. وكذلك يحرم حملها على هنة يخشى سقوطه منها وحمل الجنازة بين العمودين أفضل من الترابيع، والحمل بين العموديين أن يتقدم شخص ويضع الخشبتين المقدمتين على عاتقيه ورأسه بينهما، ويحمل المؤخرتين رجلان، ولا يدخل واحد بينهما لأنه لا يري ما بين قدميه، فإن عجز المقدم عن الحمل أعانه اثنان، فحامل الجنازة بلا عجز

ثلاثة واحد مقدم واثنان مؤخران، ومع العجز خمسة ثلاثة مقدمة وآخران واثنان مؤخران. فإن عجز الخمسة فسبعة أو تسعة أو أكثر، بحيث يكونون وتراً بحسب الحاجة، والتربيع أن يتقدم رجلان آخران وهذا الحمل فيه أيضاً فضيلة، ولكن الحمل بين عمودين أفضل. وأما ما يفعله كثير من الاقتصار على اثنين أو واحد فمكروه مخالف للسنه، وهذا في غير الطفل الذي جرت العادة بحمله على الأيدي. فائدة: ورد أن الملائكة تمشي مع الجنازة. أخرج ابن أبي الدنيا أن داود سأل ربه فقال: إلهي ما جزاء من شيع الجنازة ابتغاء مرضاتك، قال: «جزاوه أن تشيعه الملائكة لتمشي ويقولون ما قدم فلان وتقول الناس ما ترك فلان» . فائده أخرى: ورد أن الميت يعلم بمن يغسله ويجهزه ويسمع ما يقال فيه، والجنازة مارة. أخرج أحمد وغيرة عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الميت يعرف من يغسله ويحمله ومن يكفنه ومن يدليه في حفرته» . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ميت يموت إلا وهو يعرف غاسله ويناشد حامله إن كان بشر بروح وريحان وجنة نعيم أن يعجله، وإن كان بشر بنزل من حميم ونصليه جحيم أن يحسبه» أخرجه أبو الحسن بن البراغي عن ابن عباس بسند ضعيف. وأخرج أبو نعيم عن عمرو بن دينار قال: «ما من ميت يموت إلا وروحه في يد ملك ينظر إلى جسده، كيف يغسل وكيف يكفن وكيف يمشي به، ويقال له وهو على سريره: إسمع ثناء الناس عليك» . أخرج بن أبي الدنيا عن بكر بن عبد الله المزني قال: «بلغني أنه ما من ميت يموت إلا وروحه في يد ملك الموت فهم يغسلونه ويكفنونه وهو يرى ما يصنع أهله، فلو يقدر على الكلام لنهاهم عن الرنه والعويل» . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا وضعت الجنازة واحتملها الناس على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلي أين تذهبون، ويسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق أي: لمات» . قال بعضهم:

لو كلم الميت من يكلمهم ... لقال لا تغترن فأنت أنا قد كنت أرجو فعزني أملي ... عاجلني الموت ما بلغت منى وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ميت يوضع على سريره إلا تكلم بكلام يسمعه من شاء الله إلا الثقلين الإنس والجن، يقول: يا إخواتاه ويا حملة نعشاه: لا تغرنكم الدنيا كما غرتني ولا يلعبن بكم الزمان كما لعب بي، خلفت ما تركت لورثتي والديان يخاصمني ويحاسبني، وأنتم تشيعوني وتدعوني» أخرجه ابن أبي الدنيا. وأخرج أحمد في الزهد عن أم الدرداء قالت: «إن الميت إذا وضع على سريره فإنه ينادي يا أهلاه ويا جيراناه ويا حملة سريراه: لا تغرنكم الدنيا كما غرتني ولا تلعبن بكم كما تلاعبت بي، فإن أهلي لم يحملوا عني من وزري شيئاً» . فائدة أخرى: كما يعرف الميت من يغسله ويحمله ويكفنه يعلم بمن يزور قبره، أو من ولد أو والد أو جار أو صاحب ويسير بذلك. وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مصعب بن عمير حين رجع من أحد فوقف عليه وعلى أصحابه فقال: «أشهد أنكم أحياء عند الله، فزوروهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحداً إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة» وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن محمد بن واسع قال: «بلغني أن الموتى يعلمون زوارهم يوم الجمعة ويوماً قبله ويوماً بعده» . وأخرج أيضاً عن الضحاك قال: «من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة» . فائدة: زيارة القبور في حق الرجال، وينبغي لمن عزم عليها أن يتأدب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف على الأحداث فقط، فإن هذه حالة تشاركه فيها البهيمة ونعوذ بالله من ذلك، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن، ويجتنب المشي على المقابر والجلوس عليها، ويخلع نعلية إذا دخل المقابر ويخاطبهم خطاب الحاضرين، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، كذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول، وكنى بالدار عن عمارها وسكانها، ولذلك خاطبهم بالكاف والميم، والعرب تعتبر بالمنزل عن أهله. فإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه يسلم عليه فيقول: السلام عليك وآتاه من قبل وجهه في زيارته كمخاطبة حياً، ولو خاطب حياً لكان الأدب في استقباله بوجهه،

وكذلك هاهنا. قالت عائشة الأندلسية رحمها الله تعالى وكانت من الصالحات: مات ولدي فكنت أزوره في كل أسبوع مرة، فكنت إذا اقتربت من قبره سمعت جيرانه من الموتى يقولون: يا فلان هذه أمك قد جاءت تزورك فكنت، انظر إلى قبره كأنه يضحك فأسر بذلك. وروي عن الفضيل بن الموفق رحمه الله قال: كنت آتى قبر أبي المرة والمرتين وأكثر من زيارته فشيعت جنازة إلى المقبرة التي فيها أبي وكان ورائي شغل فتعجلت الرواح، فلم أزر قبره فلما كان الليل رأيته في المنام، فقال: يا بني إنك قد جئت بالأمس ولم تأتني؟ فقلت: يا أبي فإنك لتعلم بي إذا آتيتك؟ فقال: والله يابني إنك لا تأتي فلا أزل انظر إليك حتى تقطع القنطرة إلى أن تصل إليَّ وتقعد عندي ثم تقوم، فلا أزل انظر إليك حتى تعدي. فائدة أخرى: يستحب للزائر أن يسلم عليهم بأن يقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين لأنتم السابقون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم» . فقد روى ابن عبد البر بإسناد حسن خبر: «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن يعرفة في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» وأنشد بعضهم: تناجيك أجداث وهن سكوت ... وسكانها تحت التراب خفوت أيا جامع الدنيا لغير بلاغة ... لمن تجمع الدنيا وأنت تموت وإنكم لما علينا تسلموا ... نرد عليكم واللسان صموت ويروى أن بعض المتعبدين أتى قبر صاحب له كان يألفه في الحياة فأنشد يقول: مالي مررت على القبور مسلماً ... قبر الحبيب فلم يرد جوابي أحبيب مالك لا تجب منادياً ... أملكت بعدي خلة الأصحاب لو كان ينطق بالجواب لقال لي ... أكل التراب محاسني وشبابي قال فهتف به هاتف من جانب القبر يقول: قال الحبيب وكيف لي جوابكم ... وأنا رهين جنادل وتراب أكل التراب محاسني فنسيتكم ... فحجبت عن أهلي وعن أحبابي فعليكم مني السلام تقطعت ... عني وعنكم خلة الأصحاب وتمزقت تلك الجلود صفائحها ... يا طالما لبست رقيق ثياب

وتساقطت تلك الأنامل من يدي ... ما كان أحسنهم يخط كتابي وتساقطت تلك الثنايا لؤلؤاً ... ما كان أحسنهم لرد جوابي وتسايلت فوق الخدود نواظري ... يا طالما نظرت بهم أحبابي فائدة أخرى: ورد أن القبر يجعل الله له لساناً حتى بنطق ويتكلم كل يوم ويكلم الميت حين يوضع في قبره. روينا في سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مصلاه فرأى أناساً يكثرون الضحك، فقال: «أما إنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى يعني الموت، فأكثروا ذكر هاذم اللذات الموت، فإنه لم يأت يوم على القبر إلا يتكلم فيه فيقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب، وأنا بيت الدود، فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً أما إن كنت أحب من يمشي على ظهري، فإذا آويتك اليوم وصرت إليَّ فسترى صنعي بك، فيتسع له مد البصر وينفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا مرحباً ولا أهلا أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري فإذا آويتك اليوم فسترى صنعي بك قال: فيلتئم عليه حتى تلتقي وتختلف أضلاعه قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعه فأدخل بعضها في بعض، قال: ويقيض له تسعون تنيناً أو قال تسعة وتسعون تنيناً، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً حتى يفضى به إلى الحساب» . وعن أبي عبد الله بن عبد الله بن عمير قال: يجعل للقبر لساناً ينطق به فيقول: ابن آدم كيف نسيتني أما علمت أني بيت الأكله وبيت الدود وبيت الوحده، أنا بيت الدود. ويقال: إن الأرض تنادي كل يوم خمس مرات، أول نداء تقول: «تأكلك الديدان ثم مصيرك في بطني، والنداء الثاني: تقول يا ابن آدم تأكل الألوان على ظهري وسوف تأكلك الديدان في بطني، والنداء الثالث: تقول يا ابن آدم تفرح على ظهري وسوف تحزن في بطني، والنداء الرابع: تقول يا ابن آدم تذنب على ظهري وسوف تعذب في بطني، والنداء الخامس: تقول يا ابن آدم تضحك على ظهري وسوف تبكي في بطني» . وقد جاءت الأخبار ودلت الآثار على رحمة الله لعبده إذا دخل قبره، قال عطاء الخراساني: ارحم ما يكون الرب بعبده إذا دخل في قبره وتفرق الناس عنه وأهله، ولله در القائل:

أيها الواقف اعتباراً بقبري ... واستمع فيه قول عظيمي الرميم أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلموها بأديمي قلت لا تجزعوا علي فإني ... حسن الظن بالرؤوف الرحيم ودعوني بما اكتسبت رهينة ... علق الرهن عند مولى كريم قال العلماء: نسيان الميت بعد موته نعمة من الله على أهله وأصحابه، وكذلك الغفله والأمل نعمتان من الله. روي عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن مشيعي الجنازة قد وكل بهم ملك، فهم مهمومين محزونون، حتى إذا أسالموه في القبر ورجعوا راحلين أخذ كفاً من تراب فرمي به وهو يقول: ارجعوا ارجعوا إلى دنياكم أنساكم الله موتاكم، فينسون ميتهم يأخذون في شرابهم وبيعهم كأنهم لم يكونوا منه ولم يكن منهم» ولقد أحسن من قال: ضعوا خدي على لحدي ضعوه ... ومن عفر التراب فوسدوه وشقوا عنه أكفاناً رقاقاً ... وفي الرمس البعيد فغيبوه فلو أبصرتموه إذا انقضت ... صبيحة ثالث أنكرتموه وقد سالت نواظر مقلتيه ... على وجناته وانفض فوه وناداه البلى هذا فلان ... هلموا فانظروا هل تعرفوه حبيبكم وجاركم المفدى ... تقادم عهده فنسيتموه وقال الحسن: الغفلة والأمل نعمتان عظيمتان على ابن آدم، ولولاهما مشي المسلمون في الطرق. وقال مطرف بن عبد الله: لو علمت متى أجلي لخشيت ذهاب عقلي، ولكن الله سبحانه وتعالى مَنَّ على عباده بالغفلة عند الموت، ولولا الغفلة ما تهنوا بعيش، ولا قامت بينهم الأسواق (انتهى) . * * *

المجلس التاسع والعشرين

المجلس التاسع والعشرين في بيان فضل العلم قَالَ البُخَارِي: بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْعِلم إنما قدم البخاري - رضي الله عنه - كتاب العلم على سائر الكتب الآتية وهي: كتاب الوضوء والغسل والتيمم والصلاة وغيرها لأنها من باب العمل والعلم ينبغي أن يكون قبل العمل، وآخره يكون كذلك وهو مبتدأ كل خير. باب فَضْلِ الْعِلْمِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ?يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ? وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ?رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا?. نفعنا الله بالعلماء، وأنزل علينا ببركاتهم وذكر فضائلهم الرحمة من السماء، وزادهم الله تعالى في الدنيا والآخرة من مدده الفياض شرفاً وكرماً وبعد. فقد دل الكتاب والسنة والأخبار والآثار المنقولة عن الأئمة على فضل العلماء وفضل العلم وفضل تعلمه وفضل تعليمه وفضل حضور مجلسه. قال الله تعالى: ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ? [آل عمران: 18] جعل الله مرتبتهم بعد الملائكة. وجعل النبي صلي - صلى الله عليه وسلم - مرتبتهم بين الأنبياء والشهداء، فقد ورد عند ابن ماجة وغيرة عن عثمان بن عفان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» (¬1) . قال بعض العلماء: أعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ? [فاطر: 28] القراءة المشهورة بنصب لفظ الجلالة، ورفع العلماء. وقد قرئ: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءَ? [فاطر: 28] برفع اسم الله، ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه (2/1443، رقم 4313) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/260) : هذا إسناد ضعيف. وأخرجه أيضاً: البيهقي في شعب الإيمان (2/265، رقم 1707) .

ونصب العلماء. وقد استشكلوا هذه القراءة وقالوا: كيف يخشى الله من عبادة العلماء، والله تعالى لا يخاف من مخلوقاته أحداً بل الكل تحت قهره. وأجابوا عن الاستشكال بأن يخشى هنا مؤول بيعظم أي: إنما يعظم الله من عبادة العلماء، وأول بغير ذلك أيضاً. وقال الله تعالى: ?هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ? [الزمر: 9] . وقال الله تعالى: ?يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ? [المجادلة: 11] . قال ابن عباس: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام (¬1) . وعن أبي أمامه - رضي الله عنه - قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان أحدهما عالم والآخر عابد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وملائكة يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت يصلون على معلم الناس الخير» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (¬2) . وعن صفوان بن عسال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب» (¬3) . وقد ذكر العلماء في معنى وضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم أقوالاً: الأول: أن المراد بالموضع بسط الأجنحة أي: فرشها تحت أقدامه إذا مشى لتكون وطاء له. الثاني: أن المراد به التواضع تعظيماً لطالب العلم. ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/5) . (¬2) أخرجه الترمذي في سننه (5/50، رقم 2685) . وأخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الكبير (8/233، رقم 7911) . (¬3) أخرجه الترمذي في سننه (5/545، رقم 3535) وقال: حسن صحيح. والطيالسي في مسنده (1/160، رقم 1165) ، وأحمد في مسنده (4/239، رقم 18114) ، والدارمي في سننه (1/113، رقم 357) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/276، رقم 1225) ، والطبراني في المعجم الكبير (8/63 رقم 7373) .

الثالث: أن المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران. الرابع: أن المراد به إظلالهم بها، فمعنى تضع أجنحتها على هذا القول تجعلها فوق رأسه كالظلة، وعلى القول بأن المراد إظلالهم بها فمعنى: «تضع أجنحتها» على هذا القول، بأن المراد يوضع الأجنحة فرشها. حكى النووي: أن رجلاً سمع هذا الحديث فجعل في نعليه مسامير من حديد، وقال أريد أن أطأ بهما أجنحة الملائكة، فوقعت الأكلة رجليه. وحكي عن بعضهم أنه قال: كنا نمشي إلى بعض المحدثين فقال رجل: ارفعوا أقدامكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها كالمستهزئ، فما زال من موضعه حتى يبست رجلاه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: «لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» حديث متفق عليه (¬1) . وقال أيضا لمعاذ - رضي الله عنه - لما بعثه إلى اليمن: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها» رواه أحمد (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص آثامهم شيئاً» رواه مسلم (¬3) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1357، رقم 3498) ، ومسلم في صحيحه (4/1872، رقم 2406) . وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (5/110، رقم 8403) ، وابن حبان في صحيحه (15/377، رقم 6932) عن سهل بن سعد. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (5/238، رقم 22127) ، قال الهيثمي (5/334) : رجاله ثقات إلا أن ذويد بن نافع لم يدرك معاذاً. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2060، رقم 2674) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/201، رقم 4609) ، والترمذي في سننه (5/43، رقم 2674) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في سننه (1/75، رقم 206) ، وأحمد في سننه (2/397، رقم 9149) ، وأبو يعلى في مسنده (11/373، رقم 6489) ، وابن حبان في صحيحه (1/318، رقم 112) ، والدارمي في سننه (1/141، رقم 513) عن أبي هريرة.

أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم (¬1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» رواه الترمذي (¬2) . أنشد محمد بن الحسن رحمه الله تعالى: تعلم فإن العلم زين لأهله ... وفضل وعنوان لأهل المحامد وكن مستفيداً كل يوم زيادة ... من العلم واسبح في بحور الفوائد تفقه فإن الفقه أوصل قائد ... إلى البر والتقوى وأعدل قاصد هو العلم الهادي إلى سنن الهدى ... هو الحصن منجي من جميع الشدائد فإن فقيهاً واحد متورعاً ... أشد على الشيطان من ألف عابد وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه، وما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين» رواه الدارقطني (¬3) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضا بما يطلب، وإن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1255، رقم 1631) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/117، رقم 2880) ، والترمذي في سننه (3/660، رقم 1376) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في سننه (1/88، رقم 242) ، والنسائي في سننه (6/251، رقم 3651) ، وأحمد (2/372، رقم 8831) ، والبخاري في الأدب المفرد (1/28، رقم 38) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه (5/48 رقم 2681) وقال: غريب. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه في سننه (1/81 رقم 222) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/267، رقم 1715) ، والطبراني في الكبير (11/78، رقم 11099) ، وفي الشاميين (2/161، رقم 1109) ، والديلمي في الفردوس (3/148، رقم 4398) عن ابن عباس. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (3/79) . وأخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (6/194، رقم 6166) قال الهيثمي (1/121) : فيه يزيد بن عياض، وهو كذاب. والبيهقي في شعب الإيمان (2/266 رقم 1712) وقال: فيه يزيد بن عياض ضعيف. والخطيب (2/402) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/150، رقم 206) عن أبي هريرة.

درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه الترمذي (¬1) . وهنا سؤال وهو: هل استغفار الحوت ونحوه من الحيوانات التي لا تعقل بلسان الحال أو بلسان القال؟ والمرجح كما قال النووي: إنها تستغفر وتسبح بلسان القال، إذ لا يمتنع عقلاً إن يجعل الله فيها قوة تنطق بها وتميز، كما يجوز ذلك في بعض الجمادات كقوله تعالى في الحجارة: ?وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ? [البقرة: 74] . وقوله تعالى: ?وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ? [الإسراء: 44] . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء، فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم» رواه الطبراني في الكبير (¬2) . وقيل في قوله تعالى: ?يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى? [الأعراف: 26] . إن المراد باللباس: العلم. وبالريش: اليقين. وبلباس التقوى: الحياء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان عريان ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وثمرته العلم والعمل والجهاد، أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل» (¬3) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فقيه واحد أفضل عند الله من ألف عابد» . ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه (5/48، رقم 2682) وقال: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة وليس هو عندي بمتصل. ثم أورد له إسناداً وقال هذا أصح. وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/317، رقم 3641) ، وابن ماجه في سننه (1/81، رقم 223) ، وابن حبان في صحيحه (1/289، رقم 88) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/262، رقم 1696) ، وأحمد في مسنده (5/196، رقم 21763) عن أبي الدرداء. (¬2) أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (1/126) قال الهيثمي: فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف جدّاً. وأخرجه أيضاً: الروياني في مسنده (1/353، رقم 542) ، والطبراني في المعجم الأوسط (4/302، رقم 4264) عن أبي موسى. (¬3) أورده الغزالي في إحياء علوم الدين (1/5) ، وقال العراقي: أخرجه الحاكم في تاريخ نيسابور من حديث أبي الدرداء بإسناد ضعيف.

وإنما فضل العالم على العابد لأن الشيطان يدع البدعه للناس فينظرها العالم فيزيلها، والعابد مقبل على عبادته لا يتوجه إليها ولا يعرف بها. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمد إلى المسجد لا يريد إلا إن يتعلم خيراًُ أو يعلم، كان له كأجر حاج تاماً حجته» رواه الطبراني بإسناد لا بأس به (¬1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم» (¬2) . وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه دخل المسجد فرأى مجلسين أحد المجلسين يذكرون الله تعالى ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه فقال - صلى الله عليه وسلم -: «كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من الآخر، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيعلمون الجهال، وإنما بعثت معلماً، فهؤلاء أفضل ثم جلس معهم» (¬3) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن تغدوا فتتعلم باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة» (¬4) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (¬5) . ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/94، رقم 7473) ، قال الهيثمي (1/123) : رجاله موثقون كلهم. وأخرجه أيضاً: في مسند الشاميين (1/238، رقم 423) عن أبي أمامة. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (6/367 رقم 6636) قال الهيثمي (1/136) : فيه الحكم بن عبد الله، قال أبو حاتم: كذاب. وأبو نعيم في الحلية (8/188) ، وابن عدي في الكامل (2/79 ترجمة 302 بقية بن الوليد) وقال: حديث منكر المتن. والخطيب في تلريخ بغداد (6/100) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (2/553 رقم 1128) عن عائشة. (¬3) أخرجه الطيالسي في مسنده (ص: 298، رقم 2251) ، والبزار في مسنده (6/428، رقم 2458) ، والحارث كما في بغية الباحث (1/185، رقم 40) عن ابن عمرو. (¬4) أخرجه الديلمي في الفردوس (5/338، رقم 8362) ، وأورده الذهبي في إحياء علوم الدين (1/8) ، وقال العراقي: أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي ذر، وليس إسناده بذاك. (¬5) أخرجه ابن عدي في الكامل (1/202، ترجمة 48 أحمد بن هارون بن موسى) وقال: له نسخ موضوعة مناكير ليس عند أحد منها شىء كنا نتهمه بوضعها. والبيهقي في شعب الإيمان (2/254، رقم 1665) ، وأبو يعلى في مسنده (5/223، رقم 2837) ، والطبراني في الأوسط (1/7، رقم 9) ، وفي الصغير (1/36، رقم 22) ، وأبو نعيم في الحلية (8/323) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/136، رقم 175) ، والبزار في مسنده (1/172، رقم 94) عن أنس. وأخرجه الطبراني في الأوسط (4/245، رقم 4096) عن ابن عباس، قال الهيثمي (1/120) : فيه عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد ضعيف جداً. وأخرجه الرافعي (2/340) ، وابن عدي في الكامل (1/179، ترجمة 19 أحمد بن إبراهيم بن موسى) وقال: هذا الحديث منكر بهذا الإسناد. كلاهما عن ابن عمر. وأخرجه الطبراني في الأوسط (8/258، رقم 8567) ، قال الهيثمي (1/120) : فيه يحيي بن هاشم السمسار كذاب. والبيهقي في شعب الإيمان (2/254، رقم 1667) ، والخطيب (4/427) ، والقضاعي (1/135، رقم 174) عن أبي سعيد. وأخرجه الطبراني في الكبير (10/195، رقم 10439) ، وفي الأوسط (6/96، رقم 5908) كلاهما ابن مسعود، قال الهيثمي (1/119) : فيه عثمان بن عبد الرحمن القرشي عن حماد بن أبي سليمان وعثمان هذا قال البخاري مجهول ولا يقبل من حديث حماد إلا ما رواه عنه القدماء شعبة وسفيان الثوري والدستوائي ومن عدا هؤلاء رووا عنه بعد الاختلاط.

وقال: «اطلبوا العلم ولو بالصين» (¬1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله، ولا للعالم أن يسكت عن علمه» (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جاءه ملك الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام، فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة» . وقال علي - رضي الله عنه -: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذماً أن يتبرأ منه من هو فيه فلله در العلم ومن به تردى، وتعساً للجهل ومن في أوديته تردى. ومن نظم سيدنا على كرم الله وجهة ورضي عنه: الناس من جهة التمثال أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء إن لم يكن لهم في أصلهم شرف ... يفاخرون به فالطين والماء ما الفضل إلا لأهل العلم بينهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء ¬

(¬1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/230، ترجمة 777) ، وابن عدي (4/118، ترجمة 963) كلاهما في ترجمة طريف بن سلمان أبو عاتكة. والبيهقي في شعب الإيمان (2/253، رقم 1663) ، وقال: هذا الحديث شبه مشهور، وإسناده ضعيف، وقد روى من أوجه كلها ضعيفة. والخطيب (9/363) جميعاً عن أنس. قال العجلوني (1/154) : ضعيف بل قال ابن حبان: باطل. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (5/298، رقم 5365) . قال الهيثمي (7/165) : فيه محمد بن أبي حميد وقد أجمعوا علي ضعفه. وأخرجه الديلمي في الفردوس (5/139، رقم 7748) عن جابر.

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء وقال معاذ بن جبل: «تعلموا العلم فإن تعلمه خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهلة قربة، وهو الأنس في الوحده، والصاحب في الخلوة» (¬1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «العلم خزائن ومفاتيحها السؤال، فإنه يؤجر فيها أربعة السائل والعالم والمستمع والمحب» (¬2) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أن الدنيا ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً» رواه الترمذي (¬3) . وقال الرازي في تفسيره: قال عليه الصلاة والسلام: «كن عالماً ومتعلماً ومستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك» (¬4) . ثم قال وجه التوفيق بين هذه الرواية والأخرى وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيهم» (¬5) أن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم. وقال في روض الأفكار: سافر رجل سبعمائة فرسخ ليسأل عالماً عن سبع كلمات: الأولى: ما أثقل من السماوات؟ قال: البهتان على البريء. ¬

(¬1) أخرجه الديلمي في الفردوس (2/41، رقم 2237) ، وأبو نعيم في الحلية (1/239) . (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/192) وقال: غريب من هذا الوجه لم نكتبه إلا بهذا الإسناد. والرافعي في التدوين (3/4) ، والديلمي في الفردوس (3/68، رقم 4192) ، قال المناوي (4/389) : قال الحافظ العراقي: ضعيف. قال العجلوني في الكشف (2/85) : رواه أبو نعيم والعسكري بسند ضعيف. جميعاً عن علي. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه (4/561 رقم 2322) وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه في سننه (2/1377 رقم 4112) عن أبي هريرة. (¬4) أخرجه الدارمي في سننه (1/91، رقم 248) ، والبخاري في التاريخ الكبير (4/99) ، والبيهقي في المدخل إلي السنن الكبرى (1/268، رقم 380) وقال: وهو منقطع. جميعاً عن ابن مسعود موقوفاً. (¬5) أخرجه الطبراني في الأوسط (7/307، رقم 7575) عن ابن مسعود بلفظ: «الناس رجلان عالم ومتعلم هما في الأجر سواء ولا خير فيما بينهما من الناس» . قال الهيثمي (1/122) : فيه نهشل بن سعيد وهو كذاب. وأخرجه أيضاً في الكبير (10/201، رقم 10461) عن ابن مسعود بلفظ: «الناس رجلان عالم ومتعلم ولا خير فيما سواهما» . قال الهيثمي (1/122) : فيه الربيع بن بدر وهو كذاب.

الثانية: ما أوسع من الأرض؟ قال: الحق. الثالثة: ما أغنى من البحر؟ قال: القلب الغني. الرابعة: ما أبرد من الثلج؟ قال: طلب الحاجة من الصديق ولم يقضها. الخامسة: ما أحر من النار؟ قال: الحسد. السادسة: ما أقسى من الحجر؟ قال: قلب الكافر. السابعة: ما أذل من اليتيم؟ قال النمام عند المقابلة. وقال الرازي في التفسير: أربع لا ينبغي للشريف أن يأنف فيها وإن كان أميراً قيامة من مجلسه لأبية، وخدمته لضيفه، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه، وسؤاله عما لا يعلم ممن هو أعلم منه. وقال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان طالب العلم وطالب الدنيا، وهما لا يستويان، أما طالب العلم فيزداد في رضا الرحمن، وأما طالب الدنيا فيزداد في الطغيان، ثم قرأ: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ? [فاطر: 28] ثم قرأ: ?كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى? [العلق: 6، 7] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: العلم أفضل من المال. لأن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة. ولأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال. ولأن العلم لا يعطيه الله إلا لمن يحبه، والمال يعطيه من يحب ومن لا يحب. ولأن العلم لا ينقص بالبذل والإنفاق، والمال ينقص بهما. ولأن صاحب المال إذا مات انقطع ذكره، والعالم إذا مات فذكره باق. ولأن صاحب المال يسأل عن كل درهم من أين أكتسبه وأين أنفقه، وصاحب العلم له بكل حديث درجة في الجنة. وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه كان في حال الموت ورجل عنده يكتب له العلم، فقيل له في مثل هذه الحالة؟ فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم تبلغني بعد. ويقال: إن العلماء سرج الأزمنة، فكل عالم مصباح أهل زمانه يستضئ به أهل عصره (¬1) . ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/7) .

وقال أبو مسلم الخولاني (¬1) : مثل العلماء كالنجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا، وإذا خفيت عنهم تحيروا. وقال إمامنا الشافعي - رضي الله عنه -: العلم أفضل من صلاة النافلة. وقال: ليس بعد الفريضة أفضل من طلب العلم. وقال: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعمل. وقال: من لا يحب العلم فلا خير فيه، ولا يكون بينك وبينه معرفة وصداقة. وقال: العلم مروءه من لا مروءة له. وقال: إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء فليس لله ولي. وقال: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن نظر كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يعين نفسه لم ينفعه علمه. في كلامه هذا إشارة إلى أنه ينبغي للعالم أن يأخذ من كل علم ما يحتاج إليه. ونسب إلى الإمام الشافعي أنه قال: ما حوى العلم جميعاً أحد ج ... لا ولو دارسه ألف سنه إنما العلم كبحر زاخر ... فخذوا من كل شيء أحسنه وسئل عبد الله بن المبارك: من الناس؟ فقال: العلماء. قيل: من الملوك؟ قال: الزهاد. قيل فمن السفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه (¬2) . قال الإمام حجه الإسلام الغزالي: لم يجعل غير العالم من الناس، لأن الخاصية التي يتميز بها عن سائر البهائم هو العلم، والإنسان إنسان بما هو شريف، لأجله وليس ذلك لقوته فإن الجمل أقوى منه، ولا لأكله فإن الجمل أوسع بطناً منه، ولا لجماعه فإن أخس العصافير أقوى على ذلك منه، بل لم يتميز إلا بالعلم (¬3) . قال الإمام الرازي في تفسيره: إن من جلس عند العلماء ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئاً فله سبع كرامات: أولها: ينال فضل المتعلمين. الثاني: مادام جالساً عنده كان محبوساً عن الذنوب. ¬

(¬1) أبو مسلم الخولاني هو: عبد الله بن ثوب -بضم ففتح- الخولاني تابعي، فقيه عابد زاهد، أصله من اليمن، أدرك الجاهلية، وأسلم قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، فقدم المدينة في خلافة أبي بكر، وهاجر إلى الشام، وفي أكثر المصادر: وفاته بدمشق سنة: 62 هـ‍، وكان يقال: أبو مسلم حكيم هذه الأمة، وقيل: توفي بالشام، وهو قول ضعيف. (¬2) انظر: إحياء علوم الدين (1/7) . (¬3) انظر: إحياء علوم الدين (1/7) .

الثالث: إن خرج من منزله طالباً للعلم نزلت الرحمة علية. الرابع: إذا جلس في حلقة العلم فتتنزل الرحمة فينال نصيبه منها. الخامس: ما دام في الاستماع يكتب له طاعة. السادس: إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه لحرمانه عن إدراك العلم فيصير ذلك وسيلة إلى حضرة الرب سبحانه وتعالى لقوله: «أنا عند قلوب المنكسرة قلوبهم لأجلي» . السابع: إذا حضر العاصي مجلس العلم وسمع فربما يرق قلبه ويخشع فؤاده، فيكون ذلك وسيلة إلى توبته. فلهذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجالسة العلماء، ونقل عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن الرجل ليخرج من منزلة وعليه من الذنوب مثل جبال تهامه، فإذا سمع العلم خاف واسترجع من ذنوبه، فينصرف إلى منزلة وليس عليه ذنب، فلا تفارقوا مجلس العلماء، فإن الله تعالى لم يخلق تربة على وجه الأرض أكرم من مجالس العلماء (¬1) . قال الفقيه أبو الليث: من جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبه فيها. ومن جلس مع الفقراء حصل له الشكر والرضا بقسمة الله. ومن جلس مع السلاطين زاده الله القسوة والكبر. ومن جلس مع النساء زاده الله الشهوة. ومن جلس مع الصبيان زاده الله المزاح. ومن جلس مع الفساق ازداد من الجراءة على الذنوب وتسويف التوبة. ومن جلس مع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات. ومن جلس مع العلماء ازداد من العلم والورع. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من خرج يطلب باباً من العلم ليرد به باطلاً إلى الحق وضلالاً إلى الهدى كان علمه كعبادة أربعين عاماً» . وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين، فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة، وبني له بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفوراً له، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/349) .

الله من النار» (¬1) . وثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء» (¬2) . وقال علية الصلاة والسلام: «من تعلم على يد عالم كتب الله له بكل خطوة عتق رقبة، ومن قبل رأس عالم كتب الله له بكل شعرة حسنة» . وقال علية الصلاة والسلام من رواية أبي هريرة: «بكت السماوات السبع ومن فيهن ومن عليهن، والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن، العزيز ذل، وغني افتقر، وعالم تلعب به الجهال» . وسائر كتب الله ناطقة بفضل العلم قال الله تعالى في التوراة لموسى عليه الصلاة والسلام: «عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له، فتعلمها ثم أعمل بها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة» . وقال الله في الزبور لداود: «قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء، فإن لم تجدوا فيهم تقياً فحادثوا العلماء، فإن لم تجدوا فيهم عالماً فحادثوا العقلاء، لأن التقى والعلم والعقل ثلاث مراتب ما جعلت واحده منهن في أحد من خلقي وأنا أريد هلاكه» . وقال في الإنجيل: «اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم، وإن لم يرفعكم لم يضعكم، وإن لم يغنكم لم يفقركم، وإن لم ينفعكم لم يضركم» . لطيفة في محبه العلماء والصالحين: قال ابن الجوزي في كتابه «سوق العروس» قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كان شيخ قوام بالذنوب مدمن على شراب الخمور، إلا أنه كان يحب الصالحين ويحضر مجالس العلم ويحسن الظن فيهم، فمرض واشتد مرضه فحضرته الوفاة، فقال لولده: يا ولدي إني أري أعمالي جميعها معروضة عليَّ، وما أرى لي حيله غير محبتي للصالحين، وحسن ظني بالعلماء، وإني أرى الموت الحق قد نزل بي لا محالة، وقد ندمت هذه الساعة على ما فرطت في جنب الله، فليت شعري هل يقبل المولى توبتي أم لا؟ ثم قال: يا ولدي لي إليك حاجة قال: وما هي يا أبت؟ قال: اسمع ما أقول لك ثم أنشد يقول: ¬

(¬1) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/290) : كذب موضوع. (¬2) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/337) : ذكر السخاوي أنه لم يقف عليه.

نُح على ما فات ... مني من قبيح التبعات نُح إذا صارت عظامي ... في العظام الناخرات نُح بدمع ثم لا ... تبخل بفيض العبرات نُح إذا عاينت قبري ... في عظامي الدارسات نُح إذا ما صرت وحدي ج ... في القفار الموحشات بين دور وهوام وتراب ودقات ... نح لتذكار الخطايا وقطيع المنكرات ثم بكي الشيخ حتى غشي عليه، فلما أفاق قال: يا ولدي بحق التربية لا تضيعني، فأنا كنت المفرط في نفسي، والمضيع لحقي من يخلصني من عذاب الله، واشقوتاه، أنا المعترف بذنبي وخطيئتي أترى المولى يقبل توبتي ويرحم شيبتي ويمحوا زلتي، ثم خرجت روحة وأسود وجهة، فبكى ولده عند ذلك لما رأى من حال أبية، وإذا بهاتف يهتف به: يا هذا أبشر فقد أعتقه الله من النار بحسن ظنه بربه - عز وجل - وحبه وصحبته للصالحين والعلماء، ثم عاد وجهة في الحال أبيض، يتهلل نوراً وعلى جبهته مكتوب: ?وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ? [التوبة: 102] ولله در القائل حيث قال: يا من أساء ثم اعتدى ثم أقترف ... ثم أرعوى ثم انتهى ثم أعترف أبشر بقول الله في تنزيله ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف * * *

المجلس الثلاثون

المجلس الثلاثون في حديث «إن من الشجر شجراً لا يسقط ورقها» وما فيه من الفوائد واللطائف الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، الحليم الستار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الجبار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، الذي سلمت علية الأحجار، وسعت إلى خدمته الأشجار. قَالَ البُخَارِي: باب طَرْحِ الإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ» . قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ» . معنى الحديث: أنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة من الصحابة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وعبد الله بن عمرو كان طفلاً صغيراً، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من جمار النخل فصار يأكل منه، وكان من عادته - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمع بأصحابه في بعض الأحيان يلقي عليهم بعض المسائل ليختبر أفكارهم ويحرضهم في طلب العلم، فألقى عليهم مسألة وقال لهم: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي تشبه المسلم، حدثونى وأخبروني ما هي؟ فذهب وفكر كل واحد من الصحابة الحاضرين إلى نوع من أنواع شجر البوادي فسار يفسرها بذلك النوع وذهلوا وغفلوا عن النخلة. قال عبد الله بن عمر: فلما رأيت جمار النخل في يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يأكل منه وقع في نفسي أنها النخلة، ولكن استحيت أن أتكلم عنده - صلى الله عليه وسلم -، وعنده الأكابر مثل أبي بكر وعمر هيبة منهم وتوقيراً لهم، فما عرف عبد الله ابن عمر أنها النخلة إلا من الجمار الذي كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفى هذا إشارة إلي أنه ينبغي للشخص إذا ألقى عليه شخص سؤلاً خفياً، ويسمى لغزاً، أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال كما تفطن عبد الله إلي أنها النخلة بالجمار.

وينبغي للسائل إذا ألقى لغزاً على غيره أن لا يبالغ في تعتيمه وإخفائه على المسئول، بحيث لا يحصل باب يدخل منه، بل ينبغي أن يقرب له حتى يقع في فكره فيحصله كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ألقى السؤال عليهم والجمار في يده، لعل أن يهتدوا بها إلى النخلة، وما اهتدى منهم إلا عبد الله. وكما ألغز شيخ الإسلام ابن حجر في عود الأراك فقال: أراك تروم إدراك المعاني ... ثم أرعوى ثم انتهى ثم أعترف فما شيء له طيب وطعم ... وذاك الشيء في شعري مسما فأول ما قال في لغزه: أراك، ليبقى للمسئول باباً لمعرفته. وجاء في رواية: أن عبد الله بن عمر قال حدثني أبي بما وقع في نفسي بعد أن فسرها لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها النخلة، وقلت: عرفتها ولكن كرهت أن أتقدم عليكم بالكلام، فقال له أبوه لأن تكون قلتها أحب لي من كذا وكذا. وإنما تمنى عمر أن يكون ولده أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على السؤال قبل أن يبينه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما طبع عليه الإنسان من محبة الخير لنفسه ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، ليزداد من النبي - صلى الله عليه وسلم - حظوة، ولأنه كان يرجو أن يدعو إلى ذلك في الزيادة في الفهم. فقوله في الحديث: «وإنها مثل المسلم» أي: تشبه المسلم، فاختلف العلماء في وجه الشبه بين النخلة والمسلم. فقيل: وجه الشبه أن النخلة إذا قطع رأسها تموت، وقيل: وجه الشبه أنها لا تحمل حتى تلقح وكذلك المسلم، وقيل: وجه الشبه أنها تموت إذا غرقت وكذلك المسلم، وقيل: وجه الشبه أن لطلعها رائحة مني الآدمي، وقيل: وجه الشبه أنها تعشق كما يعشق المسلم. فقد حكي في كتاب مصارع العشاق أن بعض العارفين مر على نخلتين متغايراتين أحدهما خضراء يانعة، والأخرى صفراء متغيرة، فعرف بعين الفراسة أن الصفراء عاشقة للخضراء، فأخذ حبلاً وربط رأس الصفراء برأس الخضراء وواصل بينهما وتركهما ومضى ثم عاودهما فرأى الصفراء قد صارت باتصالها، والخضراء يانعة مثلها. وقيل: وجه الشبه أنه تشرب من أعلاها كالمسلم. قال شيخ الإسلام: وكل هذه الأوجه ضعيفة لأن الكافر يشارك المسلم في ذلك، وقيل: وجه الشبه أنه خلقت من فضلة طينة آدم، فهي عمة لكل آدمي.

فقد حكي في كتاب نديم الكرماء: أن آدم لما أهبط إلى الأرض وباشر الحرث والزرع، تعب وتشعث جسده وشعره، فجاء جبريل فأزال العرق والغبار عن جسده، وأخذه من شعره ومن جسده، فأخذ آدم ذلك كله ودفنه في الأرض، ثم نام وانتبه وقد أنبت الله تعالى إلى جانبه نخلة عظيمة طارحة في ساعة واحدة، فكان خشبها من طين جسده وليفها من شعره، وجريدها من ظفره، فلهذا ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ترجموا عمتكم النخلة» . هذا والصحيح أن هذا ضعيف فقد ضعفه ابن حجر وغيره وقال: قول من زعم أنها تشبه المسلم لكونها خلقت من فضلة طينة آدم ضعيف، فإن الحديث الوارد في ذلك لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فما ينقله بعض الناس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكرموا عمتكم» قيل: ومن عمتنا؟ قال: «النخلة» (¬1) لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - والصحيح في وجه الشبه بين المسلم والنخلة كما ذهب إليه أكثر أهل العلم أنها أشبهت المسلم في كثرة برها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها ووجوده على الدوام، فمن حين أن يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس، وبعده يتخذ منه منافع كثيرة من خشبها وورقها وأغصانها، فتستعمل جذوعاً وحطباً وعصياً، وحصراً وحبالاً وأواني وغير ذلك، ثم ينتفع بنواها علفاً للإبل وغيرها، والمؤمن خير كله من كثر طاعاته ومكارم أخلاقه ومواظبته على عبادته من صلاته وصيامه وقراءته وذكره وصلته وصدقته وسائر الطاعات. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة: منها: أنه يستحب للعالم أن يلقي المسائل الخفية على الطلبة ليمتحن أذهانهم ويختبر أفهامهم، ويبين ذلك لهم إن لم يفهموا وأما ما ورد في الحديث كما راوه أبو داود «أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات» (¬2) وهي صعاب المسائل، فهو محمول على ما إذا سأل الإنسان شيئاً لا نفع فيه، وسأل ليعنت المسؤول أو يعجزه، فإن ذلك لا يجوز، وأما إذا سأل ليفيد وينفع فإنه سنة. ¬

(¬1) أخرجه أبو يعلي في مسنده (1/353، رقم 455) ، والرامهرمزي في أمثال الحديث (1/73، رقم 35) ، والديلمي في الفردوس (1/ 68، رقم 198) ، وأبو نعيم في الحلية (6/123) عن علي. قال الهيثمي (5/39) : فيه مسرور بن سعيد، وهو ضعيف. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3/321، رقم 3656) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (5/435، رقم 23738) ، والطبراني في الكبير (19/380، رقم 892) ، وفي الأوسط (8/137، رقم 8204) عن معاوية.

ومنها: أنه يستحب للعالم أن يحرض الناس ويحثهم على العلم وفهمه. ومنها: أنه يستحب للإنسان الحياء خصوصاً بحضرة الأكابر، ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت. ومنها: أن فيه دلالة على أنه ينبغي الأدب مع الأكابر والإخوان والأصحاب، والأدب هو ما يتولد من صفاء القلب وحضوره، ويقال: هو الخلق على بساط الصدق ومطالعة الحقائق بقطع العلائق، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تعالى أدبني فأحسن تأديبي، وأثنى علي بحسن الأدب حتى قال: ?مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى? [الرحمن: 17] » (¬1) . وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي» (¬2) قيل معناه: أن كمال النعيم في حسن الخلق، وكمال الأدب في حسن الخلق. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله بعد خيراً جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه» (¬3) . ومنها: أنه يستحب للصغير أن يوقر الكبير، ويستحب للولد أن يقدم أباه في القول على نفسه، وأن لا يتقدم عليه بما فهمه وإن ظن أنه الصواب توقيراً له وإجلالاً، فقد ورد في مسند ابن ماجة القزويني (¬4) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جالس العلماء تعرف في السماء، ووقر كبير المسلمين تجاورني في الجنة، واعطف على الطفل الصغير تكن في شفاعتي يوم القيامة» . وفي الحديث دليل على أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض المسائل، ويحصلها من هو دونه، لأن العلم مواهب الله، والله يؤتي الحكمة من يشاء، كما خفي على أبي بكر وعمر وغيرهما سؤال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفهمه عبد الله على صغر سنه. وفيه دليل على جواز تجمير النخل كتتويب التين، ولا يعد ذلك من باب إضاعة المال. ومثل هذا السؤال الذي سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه يسمى لغزاً وتعمية، وقد صنف العلماء كتباً في ألغاز المسائل اقتدوا في ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر فقهاؤنا مسائل كثيرة ¬

(¬1) أورده بنحوه ابن الجوزي في العلل (1/178، رقم 284) عن علي. (¬2) أخرجه أحمد (6/68، رقم 24437) ، قال الهيثمي (10/173) : رجاله رجال الصحيح. (¬3) أخرجه هناد في الزهد (1/290، رقم 506) ، وأبو نعيم في الحلية (2/264) عن أم سلمة. (¬4) هاكذا بالأصل: مسند ابن ماجة القزويني، ويحتمل أن له مسنداً غير السنن وقف عليه المصنف، والحديث ليس في سننه والله أعلم.

من هذا الباب منها: أنهم قالوا: أي إنسان يجوز له مس المصحف وحمله وهو جنب، مع أن المحدث حدثاً أصغر لا يجوز له مسه ولا حمله، فضلاً عن الجنب قال الله تعالى ?لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ? [الواقعة: 79] ؟ وبينوا ذلك وصورة بما إذا كان الإنسان جنباً ولم يتمكن من الطهارة، وعنده مصحفاً، وخاف عليه إن تركه في مكانه من غرق أو حرق أو نجاسة أو كافر يأخذه، فإنه يأخذه في هذه الحالة وجوباً للضرورة، بل قال النووي: «إذا أراد التخلي وخاف من وضع المصحف من يده أن يأخذه غاصب، فإنه يتغوط وهو معه» . ومنها: أنهم قالوا: أي صلاة يجب أداؤها وإذا فاتت لا يجب قضاؤها بل لا يجوز مع أن الصلاة إذا فات وقتها وجب فعلها خارج الوقت وتكون قضاء؟ وصور وذلك بصلاة الجمعة فإنها إذا فاتت لا تقضى جمعة، وإنما تقضى ظهراً والظهر صلاة أخرى ليست بدلاً عن الجمعة. ومنها: أنهم قالوا: أي يوم يجب فيه على المكلف أكثر من ألف صلاة من غير نذر، والكل أداء ليس فيها واحدة قضاء ولا منذورة؟ وبينوا ذلك وصوروه بوقت خروج الدجال فإنه يستمر أربعين يوماً يوم كسنه ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كهذه الأيام، فاليوم الذي كسنه لا يكفي خمس صلوت، بل كل وقت منه كقدر يومنا هذا يصلي فيه خمس صلوات، وهكذا إلى آخره. ومنها: أي امرأة مات عنها زوجها وليست بحامل انقضت عدتها في نصف يوم، مع أن عدتها أربعة اشهر وعشرة أيام قال الله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً? [البقرة: 234] وبينوا ذلك وصوروه باليوم الذي كسنه عند خروج الدجال، فإنه من حين خروج الشمس إلى زوالها نصف نهار وهو مقدار ستة أشهر من هذه الأيام فتنقضي. ومنها: أنهم قالوا: أي أذان يستحب لغير الصلاة، وأي إقامة تستحب لغير الصلاة؟ وصوروا ذلك بالمولود حال ولادته فإنه يستحب أن يؤذن في أذانه اليمين ويقام في أذنه اليسرى، وفي صورة أخرى وهي: ما إذا تمردت الجان كما قاله النووي في الأذكار. ومنها: أنهم قالوا: أي شيء يستحب الإتيان به في القضاء دون الأداء؟ وصوروا ذلك بالجهر والإسرار فإذا فات الإنسان صلاة الظهر مثلاً فقضاها مثلاً ليلاً يستحب له أن يجهر في الركعتين الأولتين كصلاة العشاء، ولا يستحب الجهر فيها لو صلاها

أداء، وإذا فات الإنسان صلاة العشاء مثلاً فقضاها نهاراً يستحب الإسرار فيها، ولا يستحب الإسرار فيها لو صلاها أداء. ومنها: أنهم قالوا: أي ثوب متنجس صلى فيه صحت صلاته، وإن صلى عليه أو حمله في كمه ونحوه لا تصح صلاته؟ وصوروا ذلك بالثوب الذي أصابته نجاسة معفو عنها كدم البراغيث ونحوها. فائدة: ينبغي لمن سمع مسألة أو لغزاً وكان ظاهره قبيحاً أن لا ينكره أولاً، بل يتفكر فيه ويتأمله، فإن لم يعرفه يفحص عنه من قائله أو غيره، فإن من اعتمد على ظواهر الألفاظ غير متأمل فيها يوقع الخلق في جهل عظيم، ويقع هو في إثم كبير، وربما يقضي السامع على القائل بالكفر، ويقول فلان تكلم بكلام كفري، فيقع في الخطأ العظيم، فقد حكى العلامة التاج السبكي أن شخص أحب الاجتماع بالمأمون أمير المؤمنين فلم يمكنه التوصل إليه، فاحتال بحيلة وهي أنه قام في ملأ من الناس وقال: أيها الناس قفوا واسمعوا ما أقول لكم، ولست بفقير أطلب منكم شيئاً، ثم قال: اعلموا أن عندي ما ليس عند الله، ولي ما ليس لله، ومعي ما لم يخلق الله، وإني أحب الفتنة، وأكره الحق، وأقول إن اليهود قالت حقاً، وإن النصارى قالت حقاً، ومعي زرع ينبت بغير بذر، وسراج يضيء بغير نار، وأنا أحمد النبي، وأنا ربكم أرفعكم وأضعكم، فقاموا إليه وكادوا يأتون على نفسه وقالوا: لا كفر فوق هذا وصاروا به إلى المأمون، فلما مثل بين يديه وأعاد القول على أمير المؤمنين ثم أخذ يبينه فقال: أما قولي: لي ما ليس لله فإن لي صاحبه وولد وليس لله صاحبه ولا ولد تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وأما قولي: عندي ما ليس عند الله فعندي الجور والظلم والله تعالى منزه عنهما، وأما قولي: معي ما لم يخلق الله فمعي القرآن، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأما قولي: إني أحب الفتنة فالمراد بها المال والولد وهما محبوبان مع أنهما فتنة كما نطق به القرآن، وأما قولي: أكره الحق فالمراد بالحق الموت فإنه حق مكروه، وأما قولي: وأقول أن اليهود قالت حقاً والنصاري قالت حقاً، فالحق الذي قالته اليهود والنصاري ما أشار إليه الله إليه بقوله: ?وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ? [البقرة: 113] وأما قولي: ومعي زرع ينبت بغير بذر فهو شعر الرأس، وأما قولي: ومعي سراج يضيء بغير نار فهما العينان، وأما قولي: أنا أحمد النبي والنبي منصوب على المفعولية بأحمد، وأحمد فعل والمعنى أنا أحمد النبي أي: أشكر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأما قولي: أنا ربكم أرفعكم وأضعكم فالمعنى: أنا صاحبكم فإن رب بمعنى

صاحب أرفع الكم وأضعه، فاستحسن المأمون ذلك وأصغي إلى كلامه وقضى حاجته. وفي الحديث دلالة على بركة النخلة وما تثمره، ولفضل النخلة وبركتها شبه الله كلمة التوحيد بها في القرآن العظيم حيث قال سبحانه وتعالى: ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصلها ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ? [إبراهيم: 24] قال المفسرون الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة هي النخلة فإنها طيبة الثمرة، أصلها ثابت في الأرض وفرعها إلى أعلاها في السماء، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق، فإذا تكلم بها عرجت فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله. وجاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا قال العبد لا إله إلا الله يصعد بها الملك إلى السماء، فيستقبله في السماء ملك آخر فيقول من أين؟ فيقول: وأنت إلى أين؟ فيقول: أنا صاعد بشهادة فلان إلى الله تعالى، فيقول: وأنا نازل إليه من عند الله ومعي براءة من النار» . وقد ذكر الفخر الرازي في كتابه أسرار التنزيل وجه تشابه كلمة التوحيد بالنخلة من وجوه ستة: الأول: شجرة النخلة لا تنبت في جميع البلدان، كذلك التوحيد لا يجري على كل لسان. الثاني: أن شجرة النخلة أطول الأشجار، وكذلك كلمة التوحيد أعلى الكلمات. الثالث: أن الشجرة ثابتة في الأرض وفرعها في السماء، كذلك هذه الكلمة الطيبة ثابتة في القلب وهو المعرفة، وفرعها ثابت في السماء ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ? [فاطر: 10] . الرابع: أن شجرة النخلة تحمل كل سنة مرتين كذلك الإيمان يحمل في الدنيا مرة ويثاب لأجل إيمانه أهلية الشهادة والولاية والأمانة، ومرة أخرى في الآخرة وهي الجنة الباقية والنعمة الدائمة. الخامس: أن النخلة وإن حصل في وسط ثمرتها نواة لا خير فيها ولا منفعة، فإن قيمة تلك الثمرة لا تنقص بسبب تلك النواة، وكذا كلمة التوحيد وإن كان يحصل معها شيء من المعاصي لا تنقص بسبب ذلك، قال تعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً? [الزمر: 53] .

السادس: أن النخلة أسفلها الذي يقرب من الناس كله شوك، والثمرة والمنفعة في أعلاها، كذا كلمة التوحيد أولها تكاليف شاقة هي كالشوكة، وأعلاها الثمرة الحلوة اللذيذة وهي المعرفة والمحبة. لطيفة: كتب ملك الروم إلى سيدنا عمر - رضي الله عنه - أخبرني رسلي أن ببلدكم شجرة يخرج ورقها كأذان الحمير، ثم ينشق عنها ثمر أحسن من اللؤلؤ ثم يخضر حتى يكون كالزمرد، ثم يحمر ويصفر فيكون كشذور الذهب وقطع الياقوت، ثم ينيع فيكون كأطيب الفالوذج، ثم يبين فيكون قوتاً للمقيم وزاداً للمسافر، فإن صدقوا فهذه من شجر الجنة، فكتب إليه عمر: نعم، وهي التي ولد تحتها عيسى فلا تدع مع الله إلهاً آخر. لطيفة أخرى غريبة: ذكر بعض العلماء في مصنف له عن أبي دجانة الصحابي - رضي الله عنه - أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المسجد سريعاً ولم يحضر الدعاء - وقد قال العارف بالله الرباني سيدي عبد القادر الكيلاني في كتابه الغنية: إن العبد إذا انصرف من المسجد ولم يحضر الدعاء تقول الملائكة: انظروا إلى هذا الذي قد استغنى عن الله - فأعلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كان يفعله أبو دجانة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا دجانة مالك تخرج سريعاً ولا تحضر الدعاء» فقال: يا رسول الله لي جار منافق، وفي داره نخلة وأغصانها على داري، فإذا هب الهواء في الليل سقط رطبها في دارنا فأسبق أولادي قبل أن يستيقظوا وأجمع الثمر وأرده إليه، فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب النخلة وقال له: «بعني نخلتك بعشر نخلات في الجنة، عروقها من الزبرجد الأخضر، وساقها من الذهب الأحمر، وأغصانها من اللؤلؤ الأبيض» فقال: لا أبيع حاضراً بغائب فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: قد اشتريتها منه بعشر نخلات في موضع كذا، ففرح المنافق ثم أعطي التي في داره لأبي دجانة بنخلات أبي بكر - رضي الله عنه - ثم جاء إلى داره وأخبر زوجته بأنه باع النخلة لأبي بكر بعشر نخلات في مكان كذا، وقال: النخلة في دارنا فكلما غفل أبو دجانة أكلنا منها ولا ندع له إلا الشيء القليل، فلما نام المنافق تلك الليلة وأصبح رأى النخلة قد تحولت من دارة إلى دار أبي دجانة (¬1) - رضي الله عنه - بقدرة الله تعالى. فهذا وأمثاله من الأشياء الدالة على نبوته قال بعضهم: وإذا تأملت معجزاته وباهر آياته وكراماته وجدتها شاملة للعلوي والسفلي والصامت والناطق والساكن والمتحرك والمائع والجامد والسابق واللاحق والحاضر والباطن والظاهر والعاجل والآجل إلى غير ¬

(¬1) أبو دجانة هو: سماك بن خرشة الخزرجي البياضي الأنصاري، المعروف بأبي دجانة: صحابي، كان شجاعا بطلاً، له آثاراً جميلة في الإسلام. شهد بدراً، وثبت يوم أحد، وأصيب بجراحات كثيرة، واستشهد باليمامة سنة: 1هـ‍، وكانت له مشية عجيبة في الخيلاء، يضرب بها المثل، نظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في معركة، وهو يتبختر بين الصفين، فقال: هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا المكان، وكان يقال له: ذو المشهرة، وهي درع يلبسها في الحرب، وذو السيفين لقتاله يوم أحد بسيفه وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل في نسبه: سماك بن أوس ابن خرشة.

ذلك مما لو ذكر لطال كتسليم الحجر والشجر عليه، وشهادتهما له بالرسالة بين يديه، ومخاطبتهما بالسيادة وحنين الجذع إليه، إلى غير ذلك من الخوارق للعاده. فمن معجزاته: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان على شط ماء وقعد عكرمة بن أبي الجهل (¬1) فقال: إن كنت صادقاً فادع ذلك الحجر الذي في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار إليه عليه الصلاة والسلام فانقلع من مكانه وسبح حتى صار بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد له بالرسالة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكفيك هذا؟» فقال: حتى يرجع إلى مكانه (¬2) . ومن معجزاته صلوات الله وسلامه عليه: أن الأشجار نطقت له وسعت إليه كما صحت بذلك الأخبار ونقله عنه - صلى الله عليه وسلم - الثقات الأخيار، وقد أشار إلى ذلك صاحب البردة بقوله: جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم كأنما سطرت سطراً لما كتبت ... فروعها من بديع الخط بالقلم وذكر صاحب الشفا وغيره: أن أعرابياً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - آية -أي: معجزة- دالة على نبوته فقال له: «قل لتلك الشجرة: إن رسول الله يدعوك» فمالت عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها وقطعت عروقها، ثم جاءت تجر عروقها حتى وقفت بين يديه، فقالت: السلام عليك يا رسول الله، قال الأعرابي: فمرها أن ترجع إلى منبتها، فأمرها فرجعت ودست عروقها في منبتها (¬3) . وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فدنا منه أعرابي فقال: «يا أعرابي أين تريد؟» قال: أهلي، قال: «هل لك إلى خير» قال: وما قال هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله» قال: ومن يشهد لك على ما تقول؟ قال: «هذه الشجرة السمرة وهي في شاطئ الوادي، فأدعها فإنها تجيبك» قال: فدعاها فأقبلت تشق الأرض حتى قامت بين يديه - صلى الله عليه وسلم - فاستشهدها ثلاثاً أي: قال لها: «من أنا؟» فقالت: رسول الله ثلاث مرات، ¬

(¬1) هاكذا بالأصل بأل التعريف والمشهور بدونها، ويبدو أن المصنف اعتمد على أنه عرف بكنيته هذه. (¬2) انظر: السيرة الحلبية (2/765) . (¬3) أخرجه البزار عن بريدة كما في مجمع الزوائد (9/10) ، قال الهيثمي: فيه صالح بن حيان وهو ضعيف.

ثم عادت إلى مكانها (¬1) . ولله در من قال: نبي له الأشجار جاءت مطيعة ... نبي عليه سلم الحجر الصلد نبي هدي حتى الجماد يحبه ... نبي كريم ما لدعوته رد له الفضل والإفضال والبر والتقى ... له العدل والإحسان والجود والمجد صح وثبت أن جذع النخل حن لفراقه - صلى الله عليه وسلم - فقد قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: كان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسقوفاً بجذوع نخل، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب إلى جذع منها ويضع يده عليه قبل أن يصنع المنبر، فلما صنع له المنبر في السنة الثانية أو الثامنة من الهجرة فارق الجذع، قال جابر: سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار (¬2) وهي: الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر، فلما حن الجذع لفراقه دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه يخرق الأرض فقال له: «إن شئت أردك إلى الحائط أي: البستان الذي كنت فيه، ينبت لك عروقك، ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمر، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك» ثم أصغى له ليسمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله، فأكون في مكان لا أبلى فيه فسمعه من يليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «قد فعلت» ثم قال: «اختار دار البقاء على دار الفناء» ثم أمره فعاد إلى مكانه (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/434، رقم 6505) ، والدارمي في سننه (1/22، رقم 16) ، وأبو يعلي في مسنده (10/34، رقم 5662) ، والطبراني (12/431، رقم 13582) . قال الهيثمي (8/292) : رجاله رجال الصحيح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1314، رقم 3392) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/195، رقم 5487) عن جابر. (¬3) حديث حنين الجذع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد من حديث عدد من الصحابة منهم: جابر وأبي بن كعب وأنس بن مالك وابن عباس. فأخرجه البخاري في صحيحه (3/1314، رقم 3391) ، وأحمد في مسنده (3/ 300، رقم 1424) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/319، رقم 31748) عن جابر. وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/454، رقم 1414) ، والدارمي في سننه (1/30، رقم 36) ، وأحمد في مسنده (5/137، رقم 21285) ، والضياء في المختارة (3/393، رقم 1192) ، والشافعي في المسند (1/65) عن أبي بن كعب. وأخرجه الضياء في المختارة (4/357، رقم 1520) ، والدارمي في سننه (1/32، رقم 41) عن أنس بن مالك. وأخرجه أحمد في مسنده (1/266، رقم 2400) ، والدارمي في سننه (1/31، رقم 39) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/319، رقم 31746) ، والحارث بن أبي أسامة كما في بغية الباحث (1/305، رقم 200) عن ابن عباس.

فكان الحسن - رضي الله عنه - إذا حدث بها بكى وقال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقاً إلى مكانه فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. وجاء في رواية أنه أمر بدفنه تحت منبره ليصلى إليه، فلما هدم المسجد أخذه أبي فكان عنده رحمة الله عليه، ونظم ذلك بعضهم فقال: وحن الجذع شوقاً ورقةً ... ورجع صوتاً كالعشار مرددا فبادره ضماً فقر لوقته ... لكل امرئ من دهره ما تعودا وأنشد بعضهم أيضاً: الجذع حن إلى النبي المصطفى ... بالله أقسم إنه معذور قد كان حال القرب من أنواره ... في نعمة إقبالها مأثور فغدا الفرقة بدره متصدعاً ... يبدي الأنين وقلبه مكسور من ذا الذي يقوى على هجران من ... بين البرية فضله مشهور وخرج - صلى الله عليه وسلم - إلى نواحي مكة في بعض الأيام فما استقبله شجر ولا حجر إلا شافهه بالسلام، ولما أتى جبريل بالرسالة المعظمة إليه جعل لا يمر بحجر لا شجر إلا سلم عليه، وأمنت الأبواب والجدران على دعائه، وكان كل من الحجر والشجر يسجدان له إذا مر بإزائه (¬1) . ¬

(¬1) حديث تسليم الحجر والشجر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد من حديث عدد من الصحابة منهم: علي وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعائشة رضي الله عنهم: فأخرجه الترمذي في سننه (5/ 593، رقم 3626) ، وقال: غريب. والدارمي في سننه (1/25، رقم 21) ، والحاكم في المستدرك (2/677، رقم 4238) ، والضياء في المختارة (2/134، رقم 502) عن علي بن أبي طالب. وأخرجه الدارمي في سننه (1/45، رقم 66) عن جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم في صحيحه (4/1782، رقم 2277) ، والترمذي في سننه (5/592، رقم 3624) ، وأحمد في مسنده (5/89، رقم 20860) ، والطبراني في الأوسط (2/291، رقم 2012) عن جابر بن سمرة. وأخرجه الطيالسي في مسنده (ص: 215، رقم 1539) ، والبزار (كما في مجمع الزوائد 8/260) بإسناد ضعيف لضعف شيخه عبد الله بن شبيب، على ما ذكره الهيثمي. كلاهما عن عائشة.

وحنين الجذع إليه، وتسليم الحجر عليه لم يثبت لواحد من الأنبياء إلا له - صلى الله عليه وسلم - فهو من خصائصه الحقيقية. ومن معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - الباهرة، كما قاله الشيخ عبيد وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما بني المسجد بالمدينة قال لأبي بكر احتاج إلى جذوع نخل لأجل سقف المسجد، فقال له أبو بكر - رضي الله عنه - لي بمكة بيت فيه جذوع نخل تصلح، فدعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فخلق الله تعالى لها أجنحة فطارت وجاءت إليه فسقف بها المسجد. ومن المعجزات الباهرة أيضاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - غرس غصناً من النخلة في سنام البعير بحضرة جماعة من كفار قريش، فأخضر في الحال، وصار نخلة عظيمة ذات أغصان وثمار، ثم تناول الحاضرون من ثمارها، فمن علم الله أنه يؤمن كانت الثمرة حلوة في فمه، ومن علم أنه لا يؤمن عاد حجراً في فمه. قال بعض العلماء الحنفية: وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها أي: النخلة مثل المسلم أشار إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله، بل ولا من الحيوانات. فائدة: جاء في حديث آخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه المؤمن بالنحلة بالنون المعجمة والحاء المهملة، فقد قال البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: صاحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث: «إن مثل المؤمن كمثل النحلة (¬1) إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك، وكل شأنه ¬

(¬1) قال العسكري في تصحيفات المحدثين (1/393) : ومما يحتاج إلى ضبط وتقييد حديثان روي في أحدهما: «مثل المؤمن مثل النخلة» بالخاء المعجمة، وروي في الحديث الآخر: «مثل المؤمن مثل النحلة» وجميعا صحيح. فأما بالخاء المعجمة فحدثنا أبو جعفر بن زهير حدثنا يوسف بن موسى القطان حدثنا جرير عن ليث عن محمد بن طارق عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث: «مثل المؤمن كالنخلة إن جالسته نفعك وإن شاورته نفعك وإن صاحبته نفعك وإن شاركته نفعك وكل شيء من شأنه منافع» الخاء في هذا الحديث معجمة لا يجوز غيرها. فأما النحلة معجمة فحدثنا به ابن أخي أبي زرعة حدثنا محمد بن عيسى بن حيان المدائني حدثنا سلام بن سليمان الثقفي حدثنا شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمن مثل النحلة تأكل طيباً وتضع طيباً» وهذا المعجمة لا يجوز غيرها.

منافع» (¬1) وكذاك النحلة كل شأنها منافع. قال ابن الأثير: وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة حذق النحلة وفطنته وقلة أذاه وقنوعه وسعيه في الليل وتنزهه عن الأقذار وطيب أكله، وأنه لا يأكل من كسب غيره، ونحوله وطاعته لأميره، وإن للنحل آفات تقطعه عن عمله منها: الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار، وكذلك للمؤمن آفات تقطعه عن عمله: ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء الخمر، ونار الهوى. خاتمة لطيفة: قال في كتاب نديم الكرماء: حكي أن الجنيد قدس الله سره دخل في بعض أعوامه مكة فنزل عند امرأة عجوز من الصالحات، كان يعرفها فجلست العجوز تتوضأ فوجدت نوى تمر فأخذت واحدة فغرستها في الأرض، وصبت عليها من الماء الذي كأنت تتوضأ به، فقالت بناتها وهن يضحكن: يا أمي أتأملين أن تعيشي حتى تأكلي من هذه النواة رطباً، قال: فرفعت المرأة طرفها إلى السماء ثم قالت: اللهم أنت القادر الذي تقول للشيء كن فيكون، فأطعمني من هذه النخلة قبل موتي، قال الجنيد: أمين، ثم قام الجنيد والعجوز يصليان العصر، ثم جلسا وإن النخلة قد أخرجت الخوص، ثم الجريد، ثم الخشب، ثم أثمرت، فوالله ما برحنا حتى أكلنا من ثمرها. ولقد أحسن من قال: جل الذي أحكامه في البلاد ... تجري بما فيه صلاح العباد يميت من شاء ويحيي وإن ... قال للشيء كن فيكون ما أراد * * * ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/504، رقم 9072) .

المجلس الحادي الثلاثون

المجلس الحادي الثلاثون في ذكر خواتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أحكام خاتم الذهب والفضة وغيرهما وذكر خاتم سليمان وقصته وذكر شيء من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشيء من فضائله المتعلقة بذلك فالحمد لله العادل في حكمه وللعباد راحم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الفاتح الخاتم، وعلى آله وأصحابه ذوي المناقب والمكارم. قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا -أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ- فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ. فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: مَنْ قَالَ: نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَسٌ (¬1) . استشكل العلماء قول أنس: «كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً» وقالوا: من خصائصه كان يحرم عليه الكتابة والقراءة في الكتاب، ولهذا يقال له: النبي الأمي، وهو الذي لا يحسن الكتابة ولا يعرفها. وأجابوا عن الاستشكال بأجوبة: ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «كتب أو أراد أن يكتب» : شك من الراوي، ونسبة الكتابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مجازية، أي: كتب الكاتب بأمره. قوله: «لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً» : يعرف من هذا فائدة إيراده هذا الحديث في هذا الباب لينبه على أن شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوماً ليحصل الأمن من توهم تغييره، لكن قد يستغنى عن ختمه إذا كان الحامل عدلاً مؤتمناً. قوله: «فقلت» القائل هو شعبة. فائدة: لم يذكر المصنف من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة، ولا الوجادة ولا الوصية ولا الإعلام المجردات عن الإجازة، وكأنه لا يرى بشيء منها. وقد ادعى ابن منده أن كل ما يقول البخاري فيه: قال لي فهى إجازة، وهي دعوى مردودة بدليل أني استقريت كثيرا من المواضع التي يقول فيها الجامع قال لي فوجدته في غير الجامع يقول فيها حدثنا، والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث، فدل على أنها عنده من المسموع، لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما يبلغ شرطه وما لا يبلغ.

أحدها: أن معنى «كتب» أي أمر غيره بالكتابة، فنسب الفعل إليه على سبيل المجاز. الثاني: أن الله أوحى إليه أن يكتب. الثالث: أن الكتابة وإن لم يكن يحسنها صدرت منه حقيقة في بعض الأوقات، فيكون ذلك من قبيل معجزاته الخارقة للعادة، وقد عدوا من معجزاته أنه كان ينظر إلى المكتوب ويعرفه فتنطق له الحروف وتبين له المعنى المراد. وكما كان - صلى الله عليه وسلم - تحرم عليه الكتابة كان يحرم عليه أخذ الزكاة والصدقة والكفارة والمنذورات، ونزع لامته إذا لبسها حتى يقاتل، أو يحكم الله بينه وبين عدوه بما شاء، وكان يحرم عليه قول الشعر وروايته. قال تعالى: ?وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ? [يس: 69] . واختلف العلماء كما قاله البغوي في النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان يحسن الخط ولا يكتب الشعر ولا يقوله أم لا يحسنها؟ فقيل: كان يحسنهما ولا يفعلهما، والأصح: أنه كان لا يحسنهما ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه، ومما يدل على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يحسن الشعر أنه ذكر يوماً قول طرفه بن العبد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود فقدم فيه وأخر وقال: يأتيك من لم تزود بالأخبار فقال له أبو بكر: يا رسول الله لم يقل هكذا، وإنما قال: ويأتيك بالأخبار من لم تزود فقال - صلى الله عليه وسلم -: «كلاهما سواء» . فقال: أشهد أنك لست بشاعر ولا تحسنه. قاله ابن الملقن في باب هل تنبش قبور الجاهلية في كتاب الصلاة. فإن قيل: إذا كان قول الشعر حراماً عليه - صلى الله عليه وسلم - فكيف نقل عنه أنه قال: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب وقال: هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت وأجابوا عن ذلك بأجوبة:

الأول: أن هذا ليس بشعر لأنه صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير قصد، والشعر هو الكلام الموزون المقفى بالقصد، وقد وقع في كلام الله من ذلك كثيراً قال تعالى: ?لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ? [البقرة: 92] . الثاني: أن مشطور الرجز عند الأخفش وغيره ليس بشعر. وقوله: «لأنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً» المعنى: كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً إلى العجم وإلى الروم بلا ختم، فقيل له: يا رسول الله إنهم أي الأعاجم والأروام لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، والحكمة في أنهم كانوا لا يقرؤون إلا الكتاب مختوماً خوفاً من كشف أسرارهم وأشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم، وفي هذا دلالة على أنه يسن للسلطان والقضاة والحكام ختم كتبهم، وقد صف الله كتاب سليمان الذي أرسله إلى بلقيس مع الهدهد بأنه كتاب كريم، وإنما وصفته بذلك لأنه كان مختوماً. وقوله: «فاتخذ خاتماً» أي: لما قالوا له - صلى الله عليه وسلم -: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً أي: بخاتم، اتخذ له خاتماً من فضة نقشه «محمد رسول الله» وصار يختم به الكتب الذي يرسلها إلى الكفار، حتى يقرؤوا كتابه. وفيه دلالة على جواز مكاتبة الكفار، وقد كاتب جماعة من ملوك الكفار من جملتهم كسرى ملك فارس. وكسرى بفتح الكاف وفتحها والكسر أفصح فارسي معرب: لقبه، وأما اسمه فقيل: أنوشروان بن هرمز، والصحيح كما قاله ابن حجر في اسمه: ابرويز بن هرمز بن أنوشروان، قال: ووهم من قال: أنه أنوشروان (¬1) . وملك كسرى الكافر سبعاً وأربعين سنة وسبعة أشهر، أرسل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابه مع عبد الله بن حذافة يدعوه إلى الدخول في الإسلام، فلما دفع إليه عبد الله بن حذافة الكتاب وقرئ عليه أخذه ومزقه، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك دعا عليه وقال: «اللهم مزق ملكه» (¬2) أي: فرقه وشتته، فمزق الله ملكه كل ممزق، وسلط الله عليه ولده فمزق بطنه. فقد نقل علماء التاريخ: أن كسرى كان له ولد يقال شيرويه، أراد قتل كسرى ¬

(¬1) انظر فتح الباري (1/155) . (¬2) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/259) .

لأجل الملك، فلما أيقن كسرى بالهلاك وكان مغلوباً فتح خزائنه فرأى خزانة الأدوية، فكتب على حق السم الدواء النافع للجماع، وكان ابنه مولعاً بذلك، فلما قتله فتح خزائنه فرأى خزانة الأدوية فتناول ذلك الحق منها فقرأه وفتحه وتناول منه شيئاً فأكله ومات من ذلك السم، ولم يقم لهم بعد دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم أمر نافذ، بل أدبر عنهم الأقبال، ومالت عنهم الدولة، وأقبلت عليهم النحوس، حتى انقرضوا. وفي اتخاذه - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من فضة دليل على جواز اتخاذ خاتم الفضة للرجال، وقد ذكر العلماء: أن التختم بخاتم الفضة جائز بالإجماع، بل لبسه سنة لهذا الحديث. والأفضل عند إمامنا الشافعي وأكثر العلماء جعله في اليد اليمنى لأنها أشرف وأفضل، فهي أحق بالزينة والإكرام. لكن نقل ابن العماد عن المتولي أنه قال: لبسه اليوم في اليسار أولى لأن لبسه في اليمين قد صار شعاراً للرافضة، قال: وهذا الذي ذكره يوافقه ما حكاه الرافعي عن أبي هريرة: أن تستطيح القبر لا يستحب في هذا الزمان، بل التسنيم أولى، لأن التسطيح صار شعاراً للرافضة، فالأولى بنا الآن مخالفتهم وصيانة للميت وأهله من الاتهام بالبدعة، قال: ومما يشهد للمتولي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن في مواقف التهم» . وقول علي - رضي الله عنه -: «إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، فرب سامع نكراً لا تستطيع أن تسمعه عذراً» ، ولأنه إذا تشبه بهم خاض الناس فيه فيكون سبباً في إيقاع الناس في الإثم. وأكثر العلماء قالوا: الأفضل لبسه في اليمنى وإن صار شعار الرافضة، قالوا: لأنا لو تركنا ما ثبت من السنة لإطباق المبتدعة عليه لجرنا ذلك إلى ترك سنن كثيرة. وعند الإمام مالك جعله في اليسار أفضل، لأنه كان آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم - كما قاله البغوي في شرح السنة وكرهه في اليمنى. والسنة جعل فصه من باطن كفه لأنه أبعد من الإعجاب، وأصون للفص، ومحل التختم خنصر اليمنى واليسرى، لأنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد، لكونه طرفاً، ولأنه لا يشغل اليد عما يتناوله من أشغالها بخلاف غير الخنصر. وهل يجوز للرجل أن يلبس الخاتم في غير الخنصر من باقي أصابعه؟ قال الأذرعي: الصحيح التحريم للنهي عن التشبه بالنساء، لكن قال النووي في شرح مسلم: لا يحرم لكن يكره كراهة تنزيه.

وروي النسائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه -: «يا علي سل الله الهدى والسداد» قال علي: ونهاني عن الخاتم في هذه وهذه وأشار يعني بالسبابة والوسطي (¬1) . ويجوز للرجل أن يتخذ خواتم يلبسها واحد بعد واحد. وهل يجوز أن يلبس في وقت واحد أكثر من خاتم؟ قال المحب الطبري: لا يجوز. قال الدرامي والخوارزمي: يجوز مع الكراهة. واختلف العلماء في مقدار وزن الخاتم الذي يجوز لبسه للرجل من الفضة فقال ابن الرفعة والأذرعي: يجب نقصه عن المثقال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «ولا تبلغه مثقالاً» . وذهب الخوارزمي وغيره إلى أنه لا يتعين نقصه عن المثقال بل يجوز له أن يلبس خاتماً موافقاً لعرف الناس في لبسه، فإن جرى عرف الناس بلبس وزن دون مثقال تعين عليه ذلك، وإن جرى عرفهم بلبس خاتم فضة وزنه أكثر من مثقال جاز له أن يلبس خاتماً مقداره أكثر من مثقال، فالضابط في جوازه العرف. بذلك أفتى كثيرين من المتأخرين من علمائنا الشافعية كالقاضي زكريا فهو المذهب. وأما الحديث الذي قال فيه: «ولا تبلغه مثقالاً» فهو ضعيف كما قاله النووي، بل قال النسائي: منكر. وأما المرأة فيجوز لها أن تلبس خاتم الفضة، بل ويجوز لها أن تلبس خواتم في أصابع من غير كراهة. وفي الحديث دلالة على جواز نقش الخاتم ونقش اسم صاحبه عليه، وعلى جواز نقش اسم الله تعالى عليه من غير كراهة في ذلك، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقش على خاتمه محمد رسول الله، واتخذ كثير من السلف من العلماء والأنبياء وغيرهم خواتم نقشوا عليها. فقد نقل عن الإمام مالك أنه اتخذ خاتماً نقش عليه: «حسبي الله ونعم الوكيل» (¬2) . وعن إمامنا الشافعي أنه اتخذ خاتماً ونقش عليه: «الله ثقتي محمد بن إدريس» . وعن موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه أنه اتخذ خاتماً ونقش عليه: ¬

(¬1) أخرجه النسائي في سننه (8/177، رقم 5210) . (¬2) أورده القرطبي في تفسيره (10/88) .

«لكل أجل كتاب» . وقوله في الحديث في خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - نقشه: «محمد رسول الله» لم يبين في هذا الحديث كيفية كتابتها، ولا هل كانت سطراً واحداً أو أكثر، لكن بين في حديث آخر أنها كانت ثلاثة أسطر «محمد» سطر و «رسول» سطر و «الله» سطر، وقد صرح بذلك العراقي في ألفيته: محمد سطر ورسول سطر ... والله سطر ليس فيه كبر «محمد» منقوش أسفل السطر، و «رسول» في الوسط، و «الله» فوق السطرين قاله الأسنوي. قال الحافظ البرهان الحلبي: الذي يظهر أن كتابة هذه الأسطر الثلاثة كانت مقلوبة حتى إذا ختم بها، ختم على استواء كما في خواتم الحكام اليوم والكبار والتجار والله أعلم، ولو كانت غير مقلوبة بل مستوية لختمت مقلوباً، ويتفق أنهم أعاجم والكتابة إليهم مقلوبة في الختم فيعسر عليهم ذلك جداً والله أعلم. وقال: ولم أر أحداً ذكر هذه. فائدة: قال بعض العلماء: لا يجوز للإنسان أن ينقش على خاتمه «محمد رسول الله» للنهي عن ذلك لما فيه من خوف حصول المفسدة والخلل، قال: وهذا من خصائصه. فائدة أخرى: الخاتم الذي نقش عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «محمد رسول الله» وكان يختم به الكتب انتقل بعد وفاته إلى سيدنا أبي بكر، فكان في يده إلى أن مات، ثم انتقل إلى عمر بن الخطاب فكان في يده إلى أن مات، ثم انتقل إلى سيدنا عثمان بن عفان فكان في يده حتى وقع في بئر أريس (¬1) . فائدة أخرى: قال البرهان الحلبي وغيره: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الخواتم خمسة: الأول: خاتم من ذهب اتخذه قبل النهي عن خاتم الذهب للرجل، فتبعه الناس في لبسه فلما رآهم اتبعوه فرماه وحرمه على الذكور، لما فيه من الفتنة وزيادة المؤنة. الثاني: خاتم من فضة فصه منه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2202، رقم 5528) ، ومسلم في صحيحه (3/1656، رقم 2091) ، وأبو داود في سننه (4/88، رقم 4218) عن ابن عمر. وأخرجه أبو داود في سننه (4/88، رقم 4215) عن أنس.

الثالث: خاتم من فضة فصه من جزع. الرابع: خاتم من فضة فصه من عقيق، فإنه ورد في صحيح مسلم (¬1) أنه كان بفص حبشي، واختلف في المراد بالحبشي في الحديث فقيل: كان من جذع، وقيل: كان من عقيق. الخامس: من حديد ملوي عليه فضة. قال العلماء: خاتم الذهب حرام على الرجال حلال على النساء، وكما يحرم خاتم الذهب على الرجال يحرم اتخاذ سنه من ذهب، وهو الشعب الذي يستمسك بها الفص، دون النساء. وأما خاتم الحديد والنحاس والرصاص فالأصح كما قاله النووي أنه لا يكره لبسها، وأما لبس خاتم العقيق فإنه جائز، وكذا الياقوت للرجال والنساء، بل قيل: إن العقيق يذهب الغم، والياقوت ينفي الفقر. قال ابن العماد في شرح سيرته: وقد روي ابن غانم في كتابه الفائق في اللفظ الرائق: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «تختموا بالعقيق فإنه مبارك، تختموا بخواتم العقيق فإنه لا يصيب أحدكم غم ما دام ذلك عليه، تختموا بالياقوت فإنه ينفي الفقر» (¬2) . قال الدميري: روى ابن عدي في ترجمة أحمد بن عبد الله بن حكيم أبو عبد الرحمن الفرياناني المروزي (¬3) عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اتخذ خاتماً فصه من ياقوت نفي عنه الفقر» (¬4) . وقال ابن الأثير: يريد أنه إذا ذهب ماله باع خاتمه فوجد به غنى، قال: والأشبه إن صح الحديث أن يكون لخاصية فيه، كما أن النار لا تؤثر فيه ولا تغيره، وأن من تختم به أمن من الطاعون، وتيسرت له أمور المعاش، ويقوي قلبه، وتهابه الناس، ويسهل عليه ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1658، رقم 2094) . وأخرجه أيضا: ابن ماجه في سننه (2/1202، رقم 3646) عن أنس. (¬2) أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/448، ترجمة 2076 يعقوب بن الوليد المديني) ، والخطيب (11/251) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (13/318) عن عائشة. (¬3) وقع في الأصل: روى ابن عدي في ترجمة أحمد بن حنبل عن أنس ثم ذكر الحديث، ولعل الصواب ما أثبتناه من الكامل لابن عدي. (¬4) أخرجه ابن عدي في الكامل (1/172، ترجمة 9 أحمد بن عبد الله بن حكيم أبو عبد الرحمن الفرياناني المروزي) وقال ابن عدي: هذا الحديث باطل بهذا الإسناد.

قضاء الحوائج. قيل: إن الحجر الأسود أصله من ياقوت الجنة، ففي الكامل لابن عدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحجر الأسود من ياقوت الجنة، فمسحه المشركون فأسود من مسحهم» (¬1) . وفي كتاب الخصائص لأبي الربيع سليمان بن سبع السبتي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى علياً فصاً من ياقوت، وأمره أن ينقش عليه لا إله إلا الله ففعل، وأتى به للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألم آمرك أن تنقش عليه لا إله إلا الله فلم زدت محمد رسول الله؟» فقال: والذي بعثك بالحق ما فعلت إلا ما أمرتني به، فهبط جبريل - عليه السلام - وقال: «إن الله يقول لك: أنت أحببتنا فكتبت، ونحن أحببناك فكتبنا اسمك» . وإنما نقش - صلى الله عليه وسلم - على خاتمه اسم «محمد» دون «أحمد» وغيره من باقي أسمائه لأنه أشهر أسمائه - صلى الله عليه وسلم -. فائدة: للنبي - صلى الله عليه وسلم - أسامي كثيرة نقل ابن العربي في شرح الترمذي عن بعض الصوفية أنه قال: إن لله تعالى ألف اسم ولرسوله ألف اسم، ولكن أشهرها «محمد» فلهذا نقشه على خاتمه دون باقي أسمائه لأنه أشهر. وقد تكرر هذا الاسم في القرآن في مواضع قال تعالى: ?مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ? [الأحزاب: 40] . وقال: ?مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ? [الفتح: 29] . وقال: ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ? [آل عمران: 144] . وكان عمه أبو طالب يقول: أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال المؤذن في الخمس أشهد وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد قال البخاري في تاريخه الصغير: و «محمد» علم منقول من صفة الحمد، وهو بمعنى محمود، وفيه معنى المبالغة، سمي - صلى الله عليه وسلم - «محمداً» لأنه محمود عند الله وعند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المرسلين، ومحمود عند أهل الأرض كلهم وإن كفر به بعضهم، ¬

(¬1) أخرجه ابن عدي في الكامل (3/387 ترجمة 814 سعيد بن ميسرة البكري) عن أنس.

فإن ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كل عاقل، وكان كفار قريش يقلبون اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجعلون مكان محمداً مذمماً. فقد جاء في هذا الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً، وأنا محمد» (¬1) . وكانت العوراء زوجة أبي لهب تقول: مذمماً قلينا، ودينه أبينا، وأمره عصينا. وسماه «محمداً» جده عبد المطلب فقد نقل بعض العلماء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ولدته أمه قيل لجده عبد المطلب: ما سميت ولدك؟ قال: محمد. فقيل له: كيف سميته باسم ليس لأحد من أبائك وقومك؟ قال: لأني أرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم (¬2) . وسبب تسميته بمحمد أنه رأي في المنام كان سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء، وطرف في المشرق، وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون، فقصها عبد المطلب على المعبرين فعبروها له بمولود يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماوات والأرض فلذلك سماه محمداً (¬3) . وقالت أمة لجده عبد المطلب لما حملت به - صلى الله عليه وسلم -: سمعت قائلاً يقول: «إنك قد حملت سيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه محمداً، فسماه محمداً (¬4) . فائدة أخرى: قال القاضي عياض حمى الله هذين الإسمين يعني «محمد وأحمد» من أن يتسمى بهما أحد قبل زمانه. أما اسمه «أحمد» الذي ذكره الله في كتابه، وبشر به عيسى بن مريم، فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره، ولا يدعى به مدعواً قبله، حتى لا يدخل اللبس ولا الشك فيه على ضعيف القلب. وأما اسمه «محمد» فلم يتسم به أحد من العرب ولا غيرهم إلا حين شاع قبيل ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1299، رقم 3340) ، والنسائي في سننه (6/159، رقم 3438) ، والحميدي في مسنده (2/481 رقم 1136) ، وأحمد في مسنده (2/369، رقم 8811) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/252، رقم 16920) . (¬2) انظر: الروض الأنف (1/280) . (¬3) انظر: الروض الأنف (1/280) . (¬4) انظر: الروض الأنف (1/280) .

مولده أن نبيناً يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أسماء أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يضع رسالته. وعدد من سمي من العرب محمداً قرب ولادته - صلى الله عليه وسلم - قال السهيلي: ثلاثة، وقال القاضي عياض: ستة، وأوصلهم شيخ الإسلام ابن حجر إلى خمسة عشر. فائدة أخرى: ذكر حسين بن محمد الدمغاني في كتاب «سوق العروس وأنس النفوس» نقلاً عن كعب الأحبار أنه قال: اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل الجنة عبد الكريم، وعند أهل النار عبد الحميد، وعند سائر الملائكة عبد المجيد، وعند الأنبياء عبد الوهاب، وعند الشياطين عبد القهار، وعند الجن عبد الرحيم، وفي الجبال عبد الخالق، وفي البحر عبد المهيمن، وعند الحيتان عبد القدوس، وعند الهوام عبد الغياث، وعند الوحوش عبد الرزاق، وعند السباع عبد السلام، وعند البهائم عبد المؤمن، وعند الطيور عبد الغفار، وفي التوراة مؤذ مؤذ، وفي الإنجيل طاب طاب، وفي الصحف عاقب، وفي الزبور فاروق، وعند الله طه وياسين، وعند المؤمنين محمد. وقد رتب بعض العلماء أسماؤه الشريفة على حروف المعجم فذكر مما جاء أوله الهمزة: «أحمد، الأبضحي، أتقى الناس، أجود الناس، أحسن الناس، الأزهر النير المشرق الوجه، الأخشى، أرجح الناس عقلاً، أرحم الناس بالعيال، أشجع الناس، أطيب الناس ريحاً، الأعلم بالله، أكثر الناس تبعاً، أكرم الناس، أكرم ولد آدم، إمام الخير، إمام الرسل، إمام المتقين، إمام النبيين، الأمي، الأمين، أول شافع، أول المسلمين، أول مشفع، الأول، الآخر» . ومما جاء في أوله الباء: «البر، البشير، البصير، البليغ، البرهان، بشرى عيسى» . ومما جاء في أوله التاء: «التقي، التالي، التهامي، التذكرة» . ومما جاء في أوله الثاء: «ثاني اثنين» . ومما جاء في أوله الجيم: «الجواد، الجامع» . ومما جاء في أوله الحاء: «الحافظ، الحاشر، الحاكم بما أمر الله به، الحامد، حامل لواء الحمد، الحبيب، حبيب الرحمن، حبيب الله، الحجازي، الحجة البالغة، حجة الله على الخلائق، الحرمي، الحريص على الإيمان، الحفيظ، الحق، الحكيم، الحليم، الحمد» . ومما جاء على الخاء: «الخبير، خاتم النبيين، خاتم المرسلين، الخاشع، الخاضع، الخالص، خطيب الأنبياء، خطيب الأمم، الخليل، خليل الرحمن، خير الأنبياء، خير البرية، خير خلق الله، خير العالمين طراً، خير الناس، خير هذه الأمة، خيرة الله» .

ومما أوله الدال: «الداعي إلى الله، دعوة إبراهيم، دعوة النبيين، دليل الخيرات، دار الحكمة» . ومما أوله الذال: «الذاكر، ذكر الله، ذو الحوض المورود، ذو الخلق العظيم، ذو القوة، ذو المعجزات، ذو المقام المحمود، ذو الوسيلة» . ومما أوله الراء: «الراضي، الراغب، راكب البراق، راكب البعير، الرحمة، رحمة الأمة، رحمة العالمين، الرحيم، الرسول، رسول الرحمة، رسول الله، رفيع الدرجات، روح القدس، ركن المتواضعين» . ومما أوله الزاي: «الزاهد، الزكي، زين من وافي القيمة» . ومما في أوله السين: «السابق بالخيرات، الساجد، السراج المنير، السعيد، سعد الخلائق، السلام، السيد، سيد ولد آدم، سيد المرسلين، سيد الناس، سيد الكونين، سيد الثقلين، سيف الله المسلول» . ومما أوله الشين: «الشارع، الشافع، الشاكر، الشاهد، الشكور، الشمس، الشهيد» . ومما أوله الصاد: «الصابر، صاحب الآيات، صاحب المعجزات، صاحب البرهان، صاحب التاج، صاحب الحوض المورود، صاحب الخير، صاحب الدرجة العالية الرفيعة، صاحب الأزواج الطاهرات، صاحب السجود للرب المعبود، صاحب العلو والدرجات، صاحب قول لا إله إلا الله، صاحب المغفرة، الصادق، الصبور، صراط الذين أنعمت عليهم، الصفوح عن الزلات» . ومما أوله الضاد: «الضارب بالحسام المثلوم، الضاحك، الضحوك» . ومما أوله الطاء: «الطاهر، الطيب، طه، الطبيب» . ومما أوله الظاء: «الظاهر، الظفور، الظافر» . ومما أوله العين: «العابد، العادل، العاقب، العالم، العاقل، علم الإيمان، العالم بالحق، العالم، عبد الله، عبد الحق، عبد الكريم، العدل، العربي، العروة الوثقي، العفو، عين العز، عبد الجبار، عبد الخالق، عبد المهيمن، عبد القدوس، عبد المؤمن، عبد الغفار، عبد الوهاب» . ومما أوله الغين: «الغالب، الغني، الغفور، الغوث، الغياث» . ومما أوله الفاء: «الفاتح، الفاروق، الفرط، الفصيح، فضل الله» . ومما أوله القاف: «قائد الخير، قائد الغر المحجلين، قدم صدق، القرشي، القربي،

القمر، القثم ومعناه: الجامع الكامل وهو بالثاء المثلثة» . ومما أوله الكاف: «الكامل في جميع أموره، الكريم» . ومما أوله اللام: «اللسان» . ومما أوله الميم: «محمد، الماجد، المزمل، الماحي، المبارك، المبشر، المبعوث بالحق، المبلغ، المبتسم، المتضرع، المجتهد، المجتبى، المحمود، المختار، المخصوص بالشرف، المخصوص بالعزة، المخلص، المدثر، مدينة العلم، المرتضى، المرسل، المرتجى، المصباح، المصطفي، المطاع، المعصوم، المفضل، مفتاح الجنة، مقيل العثرات، مقيم السنة، المكرم، المكي، المنذر، المنصور، المهاجر، المنير، المؤيد، المولى» . ومما أوله النون: «الناشر، الناصح، الناصر، الناطق، الناهي، نبي الأحمر، نبي الأسود، نبي التوبة، نبي الحرمين، نبي الرحمة، النبي الصالح، نبي الله، نبي المرحمة، نبي الملحمة، النجم الثاقب، النذير، ناصح الأمة، نعمة الله، النور، نور الأمم أي: الهادي لها، نور الله الذي لا يطفئ» . ومما أوله الهاء: «الهادي، هداية الله، الهاشمي» . ومما أوله الواو: «الواصل، الواعد، الواعظ، الورع، الوسيلة، الوفي، الوافي، المولي، ولي الفضل» . ومما أوله الياء: «اليثربي، ياسين» . هذه بعض أسمائه المرتبة، وكنيته المشهورة: أبو القاسم، كنى بذلك لأنه يقسم الجنة بين أهلها ويكني أيضاً بأبي إبراهيم وبأبي الأرامل، وبأبي المؤمنين. ولاسمه محمد - صلى الله عليه وسلم - خصائص منها: كونه على أربعة أحرف، والحكمة في جعله كذلك ليوافق اسم الله تعالى فإن عدد لفظ الجلالة أربعة أحرف كمحمد. ومنها: أنه تعالى اشتقه من اسمه المحمود كما قال حسان بن ثابت: أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله محمود وهذا محمد ومنها: أن صورة الآدمي تشبه هذا الاسم إذا كتب، فالميم الأولى رأسه، والحاء جناحاه أي: يداه، والميم الثانية سرته، والدال رجلاه، وهذا مما أكرم به الآدمي، قيل: وإذا استحق العذاب ودخول النار أعاذنا الله منها فلا يدخلها إلا ممسوح الصورة إكراما لصورة اللفظ، قال ذلك بعض العلماء. وقد سماه الله بهذا الاسم قبل الخلق بألفي عام كما ورد من حديث أنس بن مالك من طريق أبي نعيم في مناجاة موسى.

وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار قال: «إن الله أنزل على آدم - عليه السلام - عصياً بعدد الأنبياء المرسلين، ثم أقبل على ابنه شيث فقال: أي بني أنت خليفتي من بعدي فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى وكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإني رأيت اسمه مكتوباً على ساق العرش وأنا بين الروح والطين، كما أني طفت السماوات فلم أر في السماوات موضعاً إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أر في الجنة قصراً ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوباً، ولقد رأيت اسم محمد مكتوباً على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، فأكثر ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها» (¬1) . وإلى ذلك اشار من قال: بدا مجده من قبل نشأة آدم ... فاسماؤه في العرش من قبل تكتب ووجد على حجر بالخط العبراني: «باسمك اللهم جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين لا إله إلا الله محمد رسول الله (كتبه موسي بن عمران) » . وذكر في الشفا: أنه شوهد في بعض بلاد خراسان مولود وعلى أحد جنبيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله. وببلاد الهند ورد أحمر مكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وذكر في تاريخ ابن النديم عن علي بن عبد الله الهاشمي الرقي: أنه وجد ببعض قرى الهند وردة كبيرة طيبة الرائحة، سوداء مكتوب عليها بخط أبيض: «لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق» قال: فشككت في ذلك وقلت: إنه معمول، فعمدت إلى وردة لم تفتح فكان فيها مثل ذلك، وأهل تلك القرية يعبدون الأحجار لا يعرفون الله تعالى. ونقل اليافعي عن بعضهم أنه وجد ببعض بلاد الهند شجرة تحمل ثمراً كاللوز له قشرات، إذا كسر خرج منه ورقة خضراء مكتوب فيها بالحمرة لا إله إلا الله محمد رسول الله، كتابة جلية وهم يتكبرون بها. واصطاد بعضهم سمكة فوجد على جنبها الأيمن مكتوب لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر محمد رسول الله، فقذفها في الماء احتراماً لها. ¬

(¬1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (23/281) .

ونقل في كتاب النطق المفهوم عن بعضهم: أنه رأى في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة، مكتوب فيه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعتها الله بقدرته، في الورقة ثلاثة أسطر الأول: لا إله إلا الله، والثاني: محمد رسول الله، والثالث: إن الدين عند الله الإسلام. وقد خصه الله تعالى بأن سماه من أسمائه الحسني بنحو من ثلاثين اسماً. لطيفة: نقل الإخباريون عن وهب بن منبه أن رجلاً عصى الله مائتي سنة، يتمرد ويجترئ عليه فيها كلها، فلما مات أخذ بنو إسرائيل برجله وألقوة على مزبله، فأوحى الله إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن غسله وكفنه وصلي عليه في جمع بني إسرائيل، ففعل ما أمره الله تعالى به، فتعجب بنو إسرائيل من ذلك، فأخبروه أنه لم يكن في بني إسرائيل أعتى منه، ولا أكثر معاصي منه، فقال: قد علمت ولكن الله أمرنى بذلك، فقالوا: سل ربك فسأل موسى ربه - عز وجل - فقال: يارب قد علمت ما قالوا فأوحى الله إليه أن صدقوا ما قالوا، إنه عصاني مائتي سنه، إلا أن يوماً من الأيام فتح التوراة فنظر إلى اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - مكتوباً فقبله ووضعه بين عينيه، فشكرت له ذلك فغفرت له ذنوب مائتي سنة، وزوجته سبعين حوراء. لطيفة أخرى: نقل بعض العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نظر يهودي بالشام في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة فوجد اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - في أربعة مواضع فكشطه، ثم نظر في اليوم الثاني فوجده في ثمانية مواضع فكشطها، ثم نظر في اليوم الثالث فوجده في اثنى عشر موضعاً، فسار إلى المدينة فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات، فقال لعلي - رضي الله عنه -: أرني ثوب محمد، فأخرجه له فشمه وقام عند القبر الشريف وأسلم، وقال: اللهم أن كنت قبلت إسلامي فاقبض روحي سريعاً فوقع ميتاً فغسله علي - رضي الله عنه - ودفنه في البقيع رحمه الله. وقوله في الحديث: «فاتخذ خاتماً» يجوز في خاتم فتح التاء وكسرها، وقد ذكر العلماء في الخاتم ست لغات الأولى: خاتم بفتح التاء، الثانية: خاتم بكسرها، الثالثة: خاتام، الرابعة: خيتام، الخامسة: ختام، السادسة: ختم. فائدة: لما ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ختم بخاتم النبوة، واختلفت الروايات في صفته ومحله. ففي صحيح البخاري: «أنه ختم النبوة بين كتفيه فكان ينم مسكاً مثل زر

الحجلة» (¬1) . وفي الحلية لأبي نعيم: «كان عند كتفيه» (¬2) . وفي صحيح مسلم: «أن الخاتم كان كبيضة الحمامة» (¬3) . وفي مستدرك الحاكم: «شعر مجتمع» (¬4) . وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: «شامة خضراء مختمرة في اللحم» . وفي كتاب الترمذي الحكيم: «كبيضة حمامة مكتوب في باطنها: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهرها توجه حيث شئت فإنك منصور» . وفي تاريخ نيسابور: «مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم محمد رسول الله» (¬5) . قال السهيلي: والحكمة في ختمه بخاتم النبوة أنه لما ملئ قلبه حكمة ويقيناً، ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكاً أو زراً. قال: وأما حكمة وضعه بين كتفيه فلأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم. سئل الحافظ برهان الدين الحلبي عن خاتم النبوة هل هو من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أن كل نبي مختوم بخاتم النبوة؟ فأجاب بما نصه: لا أستحضر في ذلك شيئاً، لكن الذي يظهر لي أنه من خواصه، لأنه ختم به لمعان: أحدها: لأنه إشارة إلى أنه خاتم النبيين، وليس في ذلك لغيره. والثاني: لأن باب النبوة قد ختم به فلا يفتح بعده، وقد رفع هذا الخاتم من بين كتفيه عند موته، فإن عائشه وقيل: أسماء بنت عميس وضعت يدها على خاتم النبوة في ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1301، رقم 3348) ، ومسلم في صحيحه (4/1823، رقم 2345) والترمذي في سننه (5/602، رقم 3643) ، والنسائي في السنن الكبرى (4/361، رقم 7518) . (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/191) . (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1823، رقم 2344) عن جابر بن سمرة. (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/663، رقم 4198) وقال: صحيح الإسناد. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه (14/209، رقم 6300) عن أبي زيد. (¬5) أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/210، رقم 6302) عن ابن عمر.

مرضه الذي مات فيه فلمسته فرأته قد رفع، فعرفت بذلك موته - صلى الله عليه وسلم - (¬1) . ومن أسمائه «الفاتح الخاتم» فقد ورد في حديث الإسراء عن أبي هريرة من طريق الربيع بن أنس: «أن الله تعالى قال: وجعلتك فاتحاً وخاتماً» (¬2) . سمي بذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - فتح الله به باب الهدي بعد أن كان مرتجاً، وفتح به أعيناًٍ عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وفتح به أمصار الكفر، وفتح به أبواب الجنة، وفتح به طرق العلم النافع، والعمل الصالح، والدنيا والآخرة، والقلوب، والأسماع، والأبصار، والأمصار. وقيل: سمي بذلك لأنه المبدأ المقدم في الدنيا والآخرة والخاتم له كما قال عليه الصلاة والسلام: «كنت أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث» (¬3) . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، وزاده في الدارين تشريفاً وتعظيماً. لطيفة أخرى: قال بعض المفسرين: كان ملك سليمان صلوات الله وسلامه عليه وعزه في خاتمه، ولهذا لما ابتلاه الله بسبب الملك سلب خاتمة فسلب ملكه، قال: فقد ذكر ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ?وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ? [ص: 34] أن سليمان - عليه السلام - كان رجلاً غزاء يغزو في البحر والبر، فسمع بملك في جزيرة من جزائر البحر، فركب سليمان الريح هو وجنود من الجن والإنس حتى نزل تلك الجزيرة، فقتل ملكها وسبى من فيها، فوجد فيها جارية لم ير مثلها حسناً وجمالاً، وكانت ابنه الملك، فاصطفاها لنفسه، وكان يحبها أكثر من نسائه، وكان يؤثرها عليهم، فدخل عليها يوماً فقالت: إني أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك، فإني رأيت أن تأمر بعض الشياطين أن يصور لي صورة أبي في داري فأراه بكرة وعشياً، فيزول عني ما أجده، ويذهب عني حزني، فأمر سليمان «صخر» المارد فمثل لها أباها في هيئته من ناحية دارها لا ينكر منه شيء إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه فزينته وألبسته حتى تركته في هيئة أبيها ولباسه، وكانت إذا خرج سليمان من عندها تدخل عليه هي وجوارهَا وتطيبه وتسجد له، وتأمر الجوار بالسجود له ثم ¬

(¬1) أورده ابن كثير في البداية والنهاية (5/244) ، والسيوطي في الخصائص الكبرى (2/480) عن أسماء بنت عميس. (¬2) أخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (1/72) : رجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبي العالية أو غيره فتابعيه مجهول. (¬3) أخرجه الديلمي في الفردوس (3/282، رقم 4850) عن أبي هريرة.

تلثمه وترجع، وسليمان لا علم له بذلك، فاستمرت على هذا أربعين يوماً، حتى سمع الناس، فبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان من المقربين عند سليمان والعلماء العارفين، فدخل عليه وقال: يا نبي الله قد أحببت أن تجمع الناس حتى أذكرهم بمن مضى من الأنبياء، وأثني عليهم بعلمي فيهم، فجمع سليمان الناس فقام آصف وذكر من مضى من الأنبياء وأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر بما فضلهم الله به حتى وصل إلى سليمان، فذكر فضله وما أعطاه الله تعالى على صغر سنه، وسكت ولم يذكر باقى فضائله التي أعطيها في حال الكبر، فامتلأ سليمان غيظاً، فقام ودخل إلى منزله وأرسل خلف آصف بن برخيا فجاءه فقال: يا آصف ذكرت أنبياء الله فأثنت عليهم بما كانوا في زمانهم كله، ولما ذكرتني ذكرت خبري في حال الصغر وسكت عن حال الكبر، فما الذي أحدثت في كبري؟ فقال له آصف: أحدثت أن غير الله يعبد في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فتذكر سليمان تلك الصورة التي صورها صخراً لزوجته، فقام ودخل داره وكسر تلك الصورة التي هي على هيئة الصنم، وعاقب تلك المرأة ثم دعا بثياب الطهر فلبسها، وخرج إلى فلاة من الأرض ففرش له الرماد وجلس عليه، وجعل يتململ عليه متذللاً متضرعا يبكي، ويستغفر الله تعالى ويقول: يارب هذا جزاؤك من آل داود، أن يعبدوا غيرك وأن يقروا في دارهم عبادة غيرك، فلم يزل كذلك حتى أمسى ثم رجع، وكانت له جارية اسمها الأمينة، وكان إذا دخل الخلاء أو أراد جماع امرأة من نسائه وضع خاتمة عندها، وكان لا يلبسه إلا وهو طاهر، وكان الله جعل ملكه في ذلك الخاتم، فأراد يوماً أن يتوضأ فدفع الخاتم إلى الجارية، فجاء «صخر» المارد وسبق سليمان ودخل المكان الذي يتوضأ فيه سليمان، ولم يعلم به سليمان، فدخل سليمان ذلك المكان ليتوضأ فخرج الشيطان من ذلك المكان بصورة سليمان، ينفض لحيته من الوضوء كأنه سليمان لا ينكر منه شيء، فقال للجارية: هاتي خاتمي يا أمينة فناولته إياه، لا تحسب إلا أنه سليمان، فجعله في يده وجلس على سرير سليمان، فعكفت الطير عليه والجن والإنس، وخرج سليمان في غير هيئته وجاء إلى أمينة فطلب منها الخاتم فقالت: من أنت؟ قال: أنا سليمان وقد تغير حاله وذهب بهاؤه، قالت: كذبت إن سليمان قد أخذ الخاتم وهو جالس على سريره في ملكه، فذهب فرآه جالساً على كرسيه فقال للناس: أنا سليمان فأنكروه، فعلم أن ما حصل له بسبب تلك الصورة التي عبدت في بيته من دون الله، وأن الله عاقبه وامتحنه بسببها، فخرج هارباً خائفاً على نفسه، هائماً على وجهه، حافياً مكشوف الرأس في قميص وإزار، وكان صلوات الله عليه وسلامه يقوم على باب الرجل والمرأة ويقول: أطعموني فإني

سليمان فيطردونه ويقولون: ما يكفيك ما أنت فيه حتى تكذب على سليمان، وسليمان جالس على كرسيه، فمر في طريقه بباب في شارع وقد أجهده الجوع والعطش والحر، فطرق ذلك الباب فخرجت له امرأة فقالت: ما حاجتك؟ فقال قد أحترقت رجلاي من شدة الحر، وأجهدني الجوع والعطش، وأريد ضيافة ساعة لأستريح، فقالت: زوجي غائب ولا يسعني أن أدخل رجلاً غريباً علي، ولكن هذا البستان لنا فادخل إليه فإن فيه ثماراً وماء فكل من ثماره وتبرد من مائه، فإذا جاء زوجي أضفناك فدخل البستان فاغتسل ووضع رأسه ونام، فآذاه الذباب، فجاءت حية سوداء فأخذت ريحانه من البستان بفيها، ثم جاءت إلى سليمان فجعلت تذب عنه الذباب، حتى جاء زوج المرأة فقصت عليه القصة، فدخل على سليمان وهو نائم، فرأى الحية تنش عنه، فدعا امرأته وقال لها: انظري إلى العجب، ثم مشيا إليه فأيقظاه وكان لهما بنت من أجمل نساء زمانهما فقال له الرجل: هذه ابنتي قد زوجتكها، فتزوجها وأقام عندهم ثلاثاً، ثم قال: لابد لي من طلب المعيشة والكسب والحرفة، لأنفق علي وعلى أهلي، فخرج من عندهم حتى وصل إلى جماعة صيادين فقال لهم: أنا أعينكم فيما أنتم فيه، واجعلوا إلى سهماً من صيدكم، وكل أحد يرزقه الله فقالوا: لا حاجة لنا فيك، فمضى إلى جماعة آخرين صيادين وعرض نفسه عليهم فقبلوه وقالوا: لك العز والكرامة فأقام معهم، وفي آخر النهار يأخذ ما حصل له من الصيد وينصرف إلى أهله، واستمر سليمان مفارقاً لملكه أربعين يوماً، فلما فرغت الأربعون وتسلط ذلك الشيطان على جميع ما يملكه سليمان إلا على نسائه حفظهم الله لسليمان، وصار يقع من ذلك الشيطان أفعال تخالف أفعال سليمان وحكمه، فأنكرت الناس عليه هذه الأفعال، وقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هذه الأفعال هي أفعال سليمان وأحكامه؟ فقالوا: لا، فلما رأي الخبيث أن الناس قد علموا بأحواله انطلق بالخاتم فألقاه في البحر، فاستقبله حوت فابتلعه فأضاء جوف ذلك الحوت من نور الخاتم، ثم ساقه الله تعالى إلى أن وقع في شباك الصيادين الذين كان سليمان معهم، فلما أمسوا قسموا السمك فطلع ذلك الحوت من قسم سليمان، فذهب به إلى أهله، فأمرهم أن يصنعوه فلما شقوا بطنه أضاء البيت نوراً من خاتمه، فدعت المرأة سليمان فأرته الخاتم، فتختم به وخر ساجداً لله وقال: إلهي لك الحمد على قديم بلائك، وحسن صنيعك إلى آل داود، إلهي أنت ابتداتهم بالنعم وأورثتهم الكتاب والحكم والنبوة فلك الحمد، إلهي تجود بالكثير وتلطف بالصغير، فلك الحمد على نعمائك، إذا ظهرت فلا تخفى، وإذا بطنت فلا تحصى فلك الحمد، إلهي فأتم نعمتك علي، واغفر لي ما سلف، وهب لي ملكاً لا ينبغي

لأحد من بعدي أي: لا ينبغي لأحد سواي، «فمن بعدي» هنا بمعنى سواي كقوله تعالى في الآية ?فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ? [الجاثية: 23] أي: سوى الله. وهذا الذي ذكرناه هو معنى قوله تعالى ?وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ? أي: ابتليناه بسلب ملكه أربعين يوماً ?وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ? الجسد هو ذلك الجني المسمي بصخر المارد أو غيره ?ثُمَّ أَنَابَ? [ص: 34] ثم رجع إلى ملكه بعد فراغ تلك المدة، ووصل إلى الخاتم فلبسه، ولما وصل إلى الملك أمر بحمل أهل ذلك البيت الذي تزوج منهم، فوضعهم في وسط بيته، قيل: ولم يكن قارب تلك المرأة حتى رد الله تعالى عليه ملكه (¬1) . ¬

(¬1) هذا الخبر ذكره الثعلبي في كتابه قصص الأنبياء المسمى بالعرائس (ص 179) من قول محمد بن إسحاق، والنكارة لائحة عليه، ولم يذكره من المفسرين سوى الثعلبي، فقد ذكر المفسرون أسباباً أخرى لفقد الخاتم غير هذا السبب الوارد هاهنا. قال السيوطي في الدر المنثور (7/181) : أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد - رضي الله عنه - في قوله ?وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ? قال: شيطاناً يقال له: آصف فقال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان - عليه السلام - وذهب ملكه، وقعد آصف على كرسيه، ومنعه الله تعالى نساء سليمان - عليه السلام - فلم يقربهن ولا يقربنه وأنكرنه، وأنكر الناس أمر سليمان - عليه السلام -، وكان سليمان - عليه السلام - يستطعم فيقول: أتعرفوني أنا سليمان فيكذبوه، حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً ينظف لها بطنه فوجد خاتمه في بطنه، فرجع إليه ملكه، وفر الشيطان فدخل البحر فاراً. رواه مجاهد في التفسير (2/550) ، وكذا الطبري في التفسير (23/157) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ... به. وقد أجمل ابن الجوزي في زاد المسير القول في هذه القصة وليس في كلامه ما في هذا الخبر لا من قريب ولا بعيد. فقد قال ابن الجوزي (7/135) : اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين: أحدهما: أنه كان جالساً على شاطئ البحر فوقع منه في البحر قاله علي - رضي الله عنه -. والثاني: أن شيطاناً أخذه. وفي كيفية ذلك أربعة أقوال: أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمام ووضع الخاتم تحت فراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، وجعل الشيطان يقول: أنا نبي الله قاله سعيد ابن المسيب. والثاني: أن سليمان قال للشيطان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه إياه فنبذه في البحر فذهب ملك سليمان، وقعد الشيطان على كرسيه قاله مجاهد. والثالث: أنه دخل الحمام ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثل لها في صورة سليمان، وأخذ الخاتم منها، فلما خرج سليمان طلبه منها فقالت: قد دفعته إليك فهرب سليمان، وجاء الشيطان فجلس على ملكه قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنه دخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه، فألقاه الشيطان في البحر، فذهب ملك سليمان، وألقي على الشيطان شبهه قاله قتادة. وأما قصة الشيطان فذكر أكثر المفسرين: أنه لما أخذ الخاتم رمى به في البحر وألقي عليه شبه سليمان فجلس على كرسيه وتحكم في سلطانه. وقال السدي: لم يلقه في البحر حتى فر من مكان سليمان. وهل كان يأتي نساء سليمان فيه قولان: أحدهما: أنه لم يقدر عليهن قاله الحسن وقتادة. والثاني: أنه كان يأتيهن في زمن الحيض فأنكرنه قاله سعيد ابن المسيب، والأول أصح. قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة ويحكم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل فقال بعضهم لبعض: إما أن تكونوا قد هلكتم أنتم، وإما أن يكون ملككم قد هلك، فاذهبوا إلى نسائه فاسألوهن، فذهبوا فقلن: إنا والله قد أنكرنا ذلك، فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء. وفي كيفية بعد الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال: أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان قاله سعيد بن المسيب. والثاني: أن سليمان لما رجع إلى ملكه وجاءته الريح والطير والشياطين فر الشيطان حتى دخل البحر قاله مجاهد. والثالث: أنه لما مضى أربعون يوماً طار الشيطان من مجلسه قاله وهب. والرابع: أن بني إسرائيل لما أنكروه أتوه فأحدقوا به، ثم نشروا التوراة فقرؤوا فطار بين أيديهم، حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت قاله السدي. وفي قدر مكث الشيطان قولان: أحدهما: أربعون يوماً قاله الأكثرون. والثاني: أربعة عشر يوما حكاه الثعلبي. وأما قصة سليمان - عليه السلام - فإنه لما سلب خاتمه ذهب ملكه فانطلق هارباً في الأرض. قال مجاهد: كان يستطعم فلا يطعم، فيقول: لو عرفتموني أعطيتموني أنا سليمان، فيطردونه حتى أعطته امرأة حوتا فوجد خاتمه في بطن الحوت. وقال سعيد بن جبير: انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر فوجد صيادين قد صادوا سمكاً كثيراً، وقد أنتن عليهم بعضه فأتاهم يستطعم فقالوا: اذهب إلى تلك الحيتان فخذ منها فقال: لا أطعموني من هذا فأبوا عليه، فقال: أطعموني فإني سليمان، فوثب إليه رجل منهم فضربه بالعصا غضباً لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئاً فشق بطن حوت فإذا هو بالخاتم. وقال الحسن: ذكر لي: أنه لم يؤوه أحد من الناس، ولم يعرف أربعين ليلة، وكان يأوي إلى امرأة مسكينة، فبينا هو يوماً على شط نهر وجد سمكة فأتى بها المراة فشقتها فإذا بالخاتم. وقال الضحاك: اشترى سمكة من امرأة فشق بطنها فوجد خاتمه. ومن هذا الإجمال من ابن الجوزي رأينا أنه لم يذكر أن سبب فقد الخاتم ما أورده المصنف هاهنا، وبان لك أن ذلك بلاء من الله عز وجل لتأهيل سليمان - صلى الله عليه وسلم - لقيادة قومه، والله - عز وجل - يصطفي من عباده الأنبياء، ويضع فيهم أسباب تأهيلهم وتربيتهم على ما سيسسون به الأمم بعد ذلك. والله أعلم وهو أجل وأحكم.

المجلس الثاني والثلاثون

المجلس الثاني والثلاثون في ذكر اخنلاف العلماء في حياة الخضر، وفي ذكر فضائله وفي ذكر سبب حياته، وفي ذكر حياة بعض الأنبياء غيره باب ما ذكره في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر وقوله تعالى ?هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً? [الكهف: 66] قال العلماء: الخضر بفتح الخاء وكسر الضاد ويجوز إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها. وسبب تلقيبه بالخضر: أن جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهز من خلفه خضراء (¬1) والفروة: وجه الأرض. وقيل: إنبات المجتمع اليابس. وقيل: سبب تلقيبه بذلك أنه كان إذا صلى اخضر ما حوله. وكنيته: أبو العباس واسمه بنيا بن ملكان، وهذا هو المشهور. وقيل: كان اسمه إلياس، وقيل: اليسع، وسمي بذلك لأن علمه وسع ست سماوات وست أرضين، ووهاه ابن الجوزي، وقيل: عامر، وقيل: أحمد، ووهاه ابن دحية بأنه لم يسم قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - أحد أحمد، وقيل غير ذلك. واختلفوا فيه هل كان نبيناً أو ولياً أم من الملائكة؟ ¬

(¬1) ورد في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري في صحيحه (3/1248، رقم 3221) ، واللفظ له، والترمذي في سننه (5/313، رقم 3151) وقال: حسن صحيح. وأحمد (2/312، رقم 8098) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما سمي الخضر أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» . وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/209، رقم 12914) عن ابن عباس.

فقيل: كان ولياً وعليه القشيري وكثير من العلماء. وقيل: كان من الملائكة، قال المارودي: وهذا القول باطل. وقيل: كان نبياً، قال البرماوي: وجزم به جمع واستدلوا على نبوته بقوله تعالى: ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي? [الكهف: 82] أي بل بوحي من الله، والوحي لا يكون إلا للأنبياء، وبأنه أعلم من موسى - صلى الله عليه وسلم - ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، فلذا ينبغي أن يعتقد كونه نبياً، لئلا يتذرع بذلك أهل الباطن في دعواهم أن الولي أفضل من النبي مع أنه لا يصل إلى درجة النبي فضلاً عن أن يكون أفضل منه حاشا وكلا. والقائلون بنبوته اختلفوا هل هو نبي مرسل أم لا على قولين، واختلفوا أيضاً في ابن من هو؟ فقيل: هو ابن آدم لصلبه رواه الضحاك عن ابن عباس. وقيل: إنه الرابع من أولاد آدم. وقيل: إنه من ولد عيص. وقيل: إنه ابن فرعون موسى، وهذا القول بعيد. وقيل غير ذلك. قال الكرماني: وذكر الثعلبي ثلاثة أقوال في أن الخضر كان في زمن إبراهيم الخليل أم بعده بقليل أم بكثير. وقال في الكشاف: إنه كان في أيام افريدون قبل موسى، وبقي إلى أيام موسى (¬1) . واختلف العلماء فيه أيضاً هل هو حي أم ميت؟ والذي ذهب إليه الشيخ ابن الصلاح وجمهور العلماء والصالحين إلى أنه حي. وقال الثعلبي: الخضر نبي معمر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار يعني عن أبصار أكثر الناس. وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن. وقال النووي والأكثرون من العلماء: إنه موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكايتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر (¬2) . فائدة: ذكر البغوي في تفسيره أن أربعة من الأنبياء أحياء، اثنان في الأرض وهما ¬

(¬1) انظر: الكشاف لزمخشري (3/596) . (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/135) .

الخضر وإلياس، واثنان في السماء وهما إدريس وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (¬1) . أما سبب حياة الخضر - عليه السلام - فهو أنه شرب من عين الحياة، وسبب شربه منها أن ذا القرنين كان عبداً صالحاً ملك ما بين المشرق والمغرب، وكان له خليل من الملائكة اسمه «رِيَافِيل» يأتي ذا القرنين ويزوره، فبينما هما يوماً يتحدثان قال ذو القرنين: يا ريافيل أخبرني كيف عبادتكم في السماء؟ فبكى وقال: يا ذا القرنين وما عبادتكم في الأرض عند عبادتنا في السماوات، من الملائكة من هو قائم أبداً، ومنهم الساجد لا يرفع رأسه أبداً، ومنهم الراكع لا يستوي قائما أبداً، ومنهم الواضع وجهه لا يجلس أبداً، ومنهم من يقولون: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح، ربنا ما عبدناك حق عبادتك، فقال ريافيل: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، قال: فإن لله عينا في الأرض تسمى عين الحياة، فمن شرب منها شربة لن يموت حتى يكون هو الذي يسأل الموت، فقال: يا ريافيل هل تعلمون بمحل تلك العين؟ فقال: لا غير أننا نتحدث في السماء أن لله ظلمة لم يطأها أنس ولا جن، فنحن نظن أن تلك العين في الظلمة، فجمع ذو القرنين الحكماء والعلماء وسألهم عنها، وفي أي جهة هي، فقال له عالم كبير: إنها عند قرن الشمس فسار ذو القرنين يطلب مطلع الشمس إلى أن بلغ طرف الظلمة ثنتي عشر سنة، فإذا هي ظلمة ليست بليل، تثور مثل الدخان، فسلك ذو القرنين الظلمة ومعه الخضر وكان وزيره وابن خالته، وأخفى ذو القرنين عليه أمره، فوقع الخضر بالعين في واد فإذا ماء أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل الشهد، فشرب وتوضأ اغتسل ولبس ثيابه، وصلى شكر الله تعالى - عز وجل -، وأخفى ذلك على ذى القرنين، وجاوزها ذو القرنين واستمر ذو القرنين أربعين يوماً وليلة، حتى جاوزها إلى ضوء ليس بضوء شمس ولا قمر، وأرض حمراء ورمل، ثم رجع ولم يقع بها. وأما سبب حياة إلياس - عليه السلام - فما روي أنه كان قد بعث إلى بني إسرائيل فرأى منهم أذىً شديد، وإنهم لا يزدادون إلا طغياناً، فسأل ربه أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا وكذا، فما جاءك من شيء فأركبه ولا تهابه، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر أقبل فرس من نار، وقيل: لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فركب عليه، فانطلق به الفرس، فناداه اليسع: يا إلياس فما تأمرني، فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى وكان ذلك ¬

(¬1) انظر: تفسير البغوي (3/200) .

علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، فكان ذلك آخر العهد به ورفع الله إلياس من بين أظهرهم، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان ملكاً ارضياً سماوياً. وأما سبب حياة عيسى ورفعه إلى السماء فهو ما نقل عن كعب الأحبار: أن رجلاً يهودياً منافقاً يحب عيسى في الظاهر ولا يؤمن به، وكان اليهود قد وكلوه في قتله غيلة، وكان إذا رأى منه المعجزات يقول في الباطن كل هذا سحر، وكان عيسى بن مريم يعلم منه النفاق، فلما أتى عيسى بيت المقدس واليهودي معه طلع اليهودي إلى اليهود، وقال: أدركوا عيسى بن مريم فهو في المكان الفلاني فاقتلوه، فحول الله تعالى صورة اليهودي على صورة عيسى، فلزمه اليهود وقالوا له: أنت عيسى وأخذوه وصلبوه، وهو يستغيث ويقول: أنا فلان ابن فلان أنا عدو عيسى الذي دللتكم عليه، فقالوا: تكذب، ورفع الله عيسى إلى السماء كما أشار الله إلى ذلك بقوله: ?وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً? [النساء: 157، 158] فهو حي في السماء. وقال بعض العلماء: إن عيسى لما كان في المكتب كان يقرأ لهم التوراة، ويخبر الصبيان بما في بيوتهم، وما خبأت لهم أمهاتهم، فيجيء الصبي إلى أمه فيخبرها بما أكلت، فتقول: من أعلمك بذلك؟ فيقول: عيسى، فقال الناس: هذا سحر نمنع أولادنا من المكتب وألا نسلك هذا المذهب، وكان عيسى يجيء إلى البيوت ويدعو الصبيان إلى المكتب والصبيان يختفون منه، فتقول الأمهات: ليس فلان في الدار، فيقول عيسى: بلى قد اختفى في التنور أو في المخدع أو في المسطح فيكون كما قال، وإذا قال للمرأة: ابنك في التنور فتقول: ما في التنور إلا خنزيراً فيقول عيسى: اللهم اجعله كذلك فتلحق ولدها فتجده كذلك خنزيراً، فصار في بيوتهم خمسمائه خنزير بدعائه عليهم، فعظم ذلك على بني إسرائيل وطلبوه ليقتلوه، فلما بلغ ثلاثاً وثلاثين سنة كثرت أعداؤه، واشتد طلب اليهود له، ونادوه يا ساحر يا ابن الساحرة، قال: «إلهي إنك خلقتني، وإلى هؤلاء بعثتني، وبدعائهم إليك أمرتني، وأمي تلك الصالحة وقد قالوا في حقنا ما قالوا، فامسخهم خنازير» فمسخهم الله خنازير فعاشوا ثلاثة أيام وماتوا، فقصدت طائفة اليهود إلى ملك بني إسرائيل وقالوا: إن لم تقتل هذا وإلا فعل بنا كما فعل بغيرنا، فأرسل إليه رجلاً من المتمردين يقال له «مطيانوس» فقال أنا أقتله، فرفع الله عيسى.

قيل: إن جبريل شق له السقف فرفعه إلى السماء، وألقى شبهه على مطيانوس فقتلوه وصلبوه، فما وصل مطيانوس إلى الخشبة إلا وعيسى قد وصل إلى السماء الرابعة، وكان شبه عيسى على وجهه فقالت اليهود: هذا وجه عيسى والبدن بدن مطيانوس فأين رأسه، وهذا رأس عيسى فأين بدنه. وقيل: إن قوماً من اليهود قالوا: إنا رأينا عيسى مرتفعاً إلى السماء، وما صلبنا إلا صاحبنا، فقتلهم اليهود لما قالوا هذا القول. فائدة أخرى: قال العلامي في تفسيره في سورة مريم قال قتادة: لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء اجتمع أربعة من فقهاء قومه فقالوا للأول ما تقول في عيسى؟ قال: هو الله أهبط إلى الأرض فخلق ما خلق ثم ارتفع إلى السماء، فتبعه قوم وكذبه الثلاثة، ثم قالوا للثاني: ما تقول في عيسى؟ قال: هو ابن الله فتبعه قوم وكذبه الآخران، ثم قالوا للثالث: ما تقول في عيسى؟ قال هو إله وأمه إله والله إله فتبعه قوم وكذبه الرابع وقال: بل هو عبد الله ورسوله، فاختصم القوم فقال: أتعلمون أن عيسى يأكل ويشرب؟ قالوا: نعم، قال: أتعلمون أن الله لا يأكل ولا يشرب؟ قالوا: نعم، قال: أتعلمون أن عيسى ينام؟ فقالوا: نعم، أتعلمون أن الله لا ينام؟ قالوا: نعم فغلبهم الرابع - رضي الله عنه -. وها هنا سؤال وهو: أن يقال إن قوله تعالى: ?إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ? [آل عمران: 55] يدل على أنه رفع إلى السماء بعد موته، أجاب العلماء عنه بأجوبة: الأول: أن الواو لا تفيد الترتيب، فكأنه سبحانه وتعالى قال: إني رافعك إلي ومتوفيك عند انقضاء أجلك، فإن اليهود لما هددوه بالقتل بشره الله بأني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك، وقابضك بالوفاة لا بالقتل بأيدي اليهود. الثاني: إن معنى «متوفيك» أني متوفي نفسك بالنوم كقوله تعالى: ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا? [الزمر: 42] ورافعك إلى السماء وأنت نائم، حتى لا يلحقك خوف بل تستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب. سؤال: فإن قيل: كم كان عمر عيسى لما رفع إلى السماء؟ جوابه: أنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. سؤال آخر: فإن قيل متى أعطاه الله النبوة؟

فالجواب: قال ابن عباس: أرسله الله ابن ثلاثين أي: وستة أشهر فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله. وأما سبب حياة إدريس ورفعه إلى السماء فهو ما نقل عن وهب بن منبه أنه قال: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فتعجب منه الملائكة، فاشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة بني آدم فقال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك، قال: فلي إليك حاجة، قال: ما هي؟ قال: تقبض روحي، فأوحى الله إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه ورددها الله إليه بعد ساعة، ثم قال له: لي إليك حاجة أخرى قال: وما هي؟ قال: ترفعني إلى السماء لأنظر إليها، وإلى الجنة والنار، فأذن له في رفعه، فلما قرب من النار قال: حاجة أخرى تسأل مالك حتى يفتح لي أبوابها فأوردها ففعل، ثم قال: وكما أريتني النار فأريني الجنة، فذهب به إلى الجنة واستفتح ففتحت أبوابها فدخلها، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها فبعث الله إليه ملكاً حكماً بينهما، فقال له الملك: مالك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى يقول: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ? [آل عمران: 185] وقد ذقته، وقال: ?وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا? [مريم: 71] وقد وردتها، وقال: ?وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ? [الحجر: 48] فلست أخرج، فأوحى الله إلى ملك الموت: بأذني دخل وبأمري يخرج، فهو حي هناك (¬1) . لطيفة أخرى: قيل يلتقي الخضر وإلياس كل سنة ببيت المقدس، ويصومان شهر رمضان، وقيل: يجتمعان على جبل عرفات. قال العلامي في تفسيره: إن الخضر وإلياس باقيان إلى يوم القيامة، فالخضر يدور في البحار يهدي من ضل فيها، وإلياس يدور الجبال يهدي من ضل فيها، وهذا دأبهما في النهار، وفي الليل يجتمعان عند سد يأجوج ومأجوج يحفظانه (¬2) . ¬

(¬1) انظر: تفسير البغوي (3/200) . (¬2) ورد بهذا المعنى حديث عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الخضر في البحر واليسع في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ويحجان ويعتمران كل عام ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل» أخرجه الحارث كما في بغية الباحث (2/866، رقم 926) ، والديلمي في الفردوس (2/202، رقم 3000) ، وذكره الحافظ في الإصابة (2/293) وقال: فيه عبد الرحيم، وأبان متروكان.

وعن ابن عباس قال الراوي: لا أعلمه إلا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل منهما رأس صاحبه، ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله ما شاء الله، ما كان من نعمة فمن الله، ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله» قال ابن عباس في الكلمات التي يقولهن الخضر وإلياس عليهما السلام: «من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات أمنه الله من الغرق والحرق والسرق» قال الراوي: وأحسبه قال: «ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب» (¬1) . لطيفة أخرى: ذكر شيخ الإسلام ابن حجر في كتاب الإصابه في معرفة الصحابة قال: بينما الحسن جالس والناس حوله إذ أقبل رجل مخضرة عيناه فقال له الحسن: هكذا ولدتك أمك أم هي عرض؟ قال: أو ما تعرفني يا أبا سعيد؟ قال: من أنت؟ فانتسب له فلم يبق في المجلس أحد إلا عرفه، فقال له: ما قصتك؟ قال: عمدت إلى جميع مالي فألقيته في مركب، فخرجت أريد اليمن، فعصفت علينا ريح فغرقت السفينة، فخرجت إلى بعض السواحل على لوح، فعمدت أتردد نحو من أربعة أشهر آكل ما أصيب من الشجر والشعب، وأشرب من ماء العيون، ثم قلت: لأمضين على وجهي فإما أن أهلك وإما أن أنجو، فسرت فرفع لي قصر كأن بناؤه فضة فدفعت مصراعه فإذا داخله أروقة، وفي كل طاق منها صندوق من لؤلؤ، وعليها أقفال مفاتحيها رأي العين، ففتحت بعضها فخرج من جوفه رائحة طيبة، فإذا فيه رجال مدرجون في أثواب الحرير، فحركت بعضهم فإذا هو ميت في صفة حي فأطبقت الصندوق، وخرجت وغلقت باب القصر، ومضيت فإذا أنا بفارسين لم أر مثلهما جمالاً على فرسين أغرين محجلين، فسألاني عن قصتي فأخبرتهما فقالا: تقدم أمامك فإنك تصير إلى شجرة تحتها روضة، هناك شيخ حسن الهيئة يصلي فأخبره خبرك، فإنه سيرشدك إلى الطريق، فمضيت فإذا أنا بشيخ فسلمت عليه فرد علي السلام، وسألني عن قصتي فأخبرته بخبري كله، ففزع لما أخبرته بخبر القصر قلت: أطبقت الصناديق وأغلقت الأبواب، فسكت وقال لي: اجلس فمرت به سحابة فقالت: السلام عليك يا ولي الله فقال: أين تريدين؟ قالت: كذا وكذا فلم يزل تمر به سحابة بعد سحابة حتى ¬

(¬1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/224، ترجمة 273 الحسن بن رزين) وقال: مجهول. وابن عدي في الكامل (2/328، ترجمة 462 الحسن بن رزين) وقال: وهذا الحديث بهذا الإسناد منكر. وابن عساكر في تاريخ دمشق (9/211) ، والديلمي في الفردوس (5/504، رقم 8895) .

أقبلت سحابة فقال: أين تريدين فقالت: البصرة، قال: إنزلي فنزلت فصارت بين يديه، فقال: إحملي هذا حتى تؤديه إلى منزله سالماً، فلما صرت على متن السحابة قلت: اسألك بالذي أكرمك هذه الكرامة ألا ما أخبرتني عن القصر وعن الفارسين وعنك، قال: أما القصر فقد كرم الله به شهداء البحر، ووكل بهم ملائكة يلقطونهم من البحر فيصيرونهم في تلك الصناديق مدرجين في أكفان الحرير، والفارسان ملكان يغدوان ويروحان عليهم بالسلام من الله، وأما أنا فالخضر، وقد سئلت ربي أن يحشرني مع أمة نبيكم، قال الرجل: فلما صرت من السحابة أصابني من الفزع هول عظيم حتى صرت إلى ما ترى (¬1) . ومن فضائل الخضر: ما رواه أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا أحدثكم عن الخضر؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «بينما الخضر يمشي في سوق من أسواق بني إسرائيل إذ لقيه رجل فقير، فقال له الرجل: تتصدق علي بارك الله فيك، فإني أرى الخير في وجهك، ورجوت الخير من قبلك، فقال له الخضر: آمنت بالله، ما يقضي الله من أمر سيكون، ما معي شيء أعطيكه، قال له السائل: أسألك بوجه الله لما تصدقت علي، قال الخضر: آمنت بالله، ما يقضي الله من أمر سيكون، ما معي شيء أعطيكه إلا أن تأخذ بيدي وتدخلني السوق فتبيعني، فقال له الرجل: وهل يكون مثل هذا؟ قال: الحق أقول إنك سألتني بعظيم، سألتني بوجه ربي، وقد أجبتك فخذ بيدي فأدخلني السوق فبعني، فأدخله السوق فباعه بأربعمائه درهم، فلبث الخضر عند المبتاع أياماً لا يستعمله في شيء، فقال له الخضر: استعملني، فقال له: إنك شيخ كبير وأكره أن أشق عليك، قال: لا يشق علي ذلك، قال: نعم فانقل هذه الحجارة من ها هنا إلى هنا، وكانت لا ينقلها إلا ستة نفر في يوم تام، فقام ونقلها في ساعة واحدة، وأيده الله تعالى بملك من الملائكة على نقلها، فتعجب الرجل منه وقال: أحسنت، ثم عرض للرجل سفر فقال للخضر: إني أراك أميناً ناصحاً فاخلفني في أهلي، قال: نعم إن شاء الله تعالى، فاستعملني في شيء قال: أكره أن أشق عليك قال: لا يشق علي ذلك، قال: اضرب لبنا أريده لقصر لي ووصفه له، ثم خرج لسفره فلما قضى حاجته ورجع من سفره إذا هو بالخضر قد شيد بنيانه على ما أراد، فازداد منه تعجباً وقال له: من أنت؟ قال: أنا المملوك ¬

(¬1) انظر: الإصابة (2/323: 325) .

الذي اشتريتني، قال: سألتك بوجه الله أن تخبرني من أنت؟ قال الخضر: إن هذا القسم أوقعني في العبودية، أما أني سأخبرك أنا الخضر، سألني سائل بوجه الله أن أعطيه فلم يكن معي شيء أعطيه، وأمكنته من نفسي حتى باعني، وبلغني أن من سأل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر على حاجته، وقف يوم القيامة بين يدي ربه وليس على وجهه لحم ولا جلد ولا عظم يتقعقع، قال: فكب الرجل عليه يقبله ويقول له: بأبي أنت وامي شققت عليك ولم أعرفك، فاحكم علي في أهلي ومالي أو تحب أن أخلي سبيلك؟ قال: بل أحب أن تخلي سبيلي فأعبد ربي، وكان الرجل كافراً فأسلم على يده وأعطاه أربعمائه دينار وخلى سبيله، فأوحى الله إليه: قد نجيتك من الرق وأسلم الكافر وأعطاك مكان كل درهم ديناراً، فلا يخسر على الله أحد» (¬1) . ومن فضائله: ما نقل عن عبد الله بن المبارك أنه قال: كنت في غزوة فوقع فرسي ميتاً، فرأيت رجلاً حسن الوجه، طيب الرائحة قال: أتحب أن تركب فرسك؟ قلت: نعم فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخرها وقال: أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله، وبعظمة عظمة الله، وبجلال جلال الله، وبقدر قدرة الله، وبسلطان سلطان الله، وبلا إله إلا الله، وبما جري به القلم من عند الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله ألا انصرفت، فوثب الفرس قائماً بإذن الله، وأخذ الرجل بركابي وقال: اركب فركبت، ولحقت بأصحابي، فلما كان من غداة غدٍ وظهرنا على العدو، فإذا هو بين أيدينا فقلت: سألتك بالله من أنت؟ فوثب قائماً فاهتزت الأرض خضراء فقال: أنا الخضر. قال عبد الله: ما قلت هذه الكلمات على مريض إلا شفاه الله تعالى. ومن فضائله: أن سليمان بن عبد الملك طلب رجلاً ليقتله فهرب منه، فكلما دخل بلد قيل له: جاءك الطلب قال: فخرجت إلى البرية فرأيت رجلاً فقال: لعل هذا الطاغي أخافك؟ قلت: نعم، قال: فما يمنعك من السبع؟ قلت: وما السبع؟ قال: قل: «سبحان الواحد الذي ليس غيره، سبحان القديم الذي لا بادئ له، سبحان الدائم الذي لا نفاد له، سبحان الذي يحي ويميت، سبحان الذي خلق ما يرى وما لا يرى، ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/113، رقم 7530) وفي مسند الشاميين (2/13، رقم 832) قال الهيثمي (3/103) : رجاله موثقون إلا إن فيه بقية بن الوليد وهو مدلس ولكنه ثقة.

سبحان الذي كل يوم هو في شأن، سبحان الذي علم كل شيء بغير تعليم» احفظها فحفظها فألقى الله في قلبي الأمن، فرجعت ودخلت على سليمان، فلما رأني قال: ادن ادن حتى أجلسني على فراشهم، قال: اسحرتني؟ فقلت: لا والله ما أنا بساحر، وأخبرته بخبر الرجل، فقال: والله الذي لا إله إلا الله أنه الخضر، قال: اكتبوا له الأمان وأعطاني مالاً كثيراً. ومن فضائله الدالة على حياته: ما نقله الثعلبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مات وأخذوا في جهازه، خرج الناس وخلا الموضع قال ابن عباس قال علي: لما وضعته - صلى الله عليه وسلم - على المغتسل إذا بهاتف يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته: لا تغسلوا محمداً فإنه طاهر مطهر، قال: فوقع في قلبي شيء من ذلك، وقلت: يا ويلك من أنت؟ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا أمرنا وهذه سنته، وإذا بهاتف يهتف بي من زاوية البيت بأعلي صوته غسلوا محمداً، فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون، حسد محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل قبره مغسولاً، قال علي: جزاك الله خيراً قد أخبرتني بأن ذلك هو إبليس، من أنت؟ قال: أنا الخضر حضرت جنازة محمد - صلى الله عليه وسلم -. * * *

المجلس الثالث والثلاثون

المجلس الثالث والثلاثون في الكلام على باب فضل من علم وعلم، وبيان ما في حديثه من الفوائد، وفيه ذكر علماء السوء وغير ذلك قَالَ البُخَارِي: باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَء ِقَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخرى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «مثل» : المراد به الصفة العجيبة لا القول السائر. قوله: «الهدى» : أي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية. قوله: «نقية» كذا عند البخاري في جميع الروايات التي رأيناها بالنون من النقاء وهي صفة لمحذوف، لكن وقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر «ثغبة» بمثلثة مفتوحة وغين معجمة مكسورة بعدها موحدة خفيفة مفتوحة، قال الخطأبي: هي مستنقع الماء في الجبال والصخور. قال القاضي عياض: هذا غلط في الرواية، وإحالة للمعنى. لأن هذا وصف الطائفة الأولى التي تنبت، وما ذكره يصلح وصفا للثانية التي تمسك الماء. قال: وما ضبطناه في البخاري من جميع الطرق «نقية» بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء التحتانية، وهو مثل قوله في مسلم: «طائفة طيبة» . قلت: وهو في جميع ما وقفت عليه من المسانيد والمستخرجات كما عند مسلم وفي كتاب الزركشي. وروى: «بقعة» قلت: هو بمعنى طائفة، لكن ليس ذلك في شيء من روايات الصحيحين. ثم قرأت في شرح ابن رجب أن في رواية بالموحدة بدل النون قال: والمراد بها القطعة الطيبة كما يقال فلان بقية الناس، ومنه: «فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية» . قوله: «قبلت» : من القبول، كذا في معظم الروايات. ووقع عند الأصيلي: «قيلت» بالتحتانية المشددة، وهو تصحيف. قوله: «الكلأ والعشب» : هو من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معاً، والعشب للرطب فقط. قوله: «إخاذات» : جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء. وفي رواية غير أبي ذر وكذا في مسلم وغيره: «أجادب» جمع جدب وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء. وضبطه المازري بالذال المعجمة. ووهمه القاضي. ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب: «أحارب» قال الإسماعيلي: لم يضبطه أبو يعلى وقال الخطابي: ليست هذه الرواية بشيء. قال: وقال بعضهم: «أجارد» جمع جرداء وهي البارزة التي لا تنبت، قال الخطأبي: هو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. وأغرب صاحب المطالع فجعل الجميع روايات، وليس في الصحيحين سوى روايتين فقط، وكذا جزم القاضي. قوله: «فنفع الله بها» أي بالإخاذات. وللأصيلي «فنفع الله به» أي بالماء. قوله: «وزرعوا» كذا له بزيادة زاي من الزرع، ولمسلم والنسائي وغيرهما «ورعوا» بغير زاي من الرعى، قال النووي. كلاهما صحيح. ورجح القاضي رواية مسلم بلا مرجح، لأن رواية «زرعوا» تدل على مباشرة الزرع لتطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية «رعوا» مطابقة لقوله أنبتت، لكن المراد أنها قابلة للإنبات. وقيل إنه روى «ووعوا» بواوين، ولا أصل لذلك. وقال القاضي قوله: «ورعوا» راجع للأولى لأن الثانية لم يحصل منها نبات (انتهى) . ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت. قوله: «فأصاب» أي الماء. وللأصيلي وكريمة: «أصابت» أي: طائفة أخرى. ووقع كذلك صريحا عند النسائي. والمراد بالطائفة القطعة. قوله: «قيعان» جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت. قال القرطبي وغيره: ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه، وكذا كان الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم. فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: «نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها» . ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم. ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يرفع بذلك رأساً» أي أعرض عنه فلم ينتفع له ولا نفع. والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلاً، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - «ولم يقبل هدى الله الذي جئت به» . وقال الطيبي: بقى من أقسام الناس قسمان: أحدهما: الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره. والثاني: من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره. قلت: والأول داخل في الأول لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيما. وأما الثاني فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضا فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم: «من لم يرفع بذلك رأسا» والله أعلم. انظر فتح الباري (1/176 - 177) .

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتِ الْمَاءَ، قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ، وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ (¬1) . اشتمل إسناد هذا الحديث على لطفيتين: الأولى: أن رجاله كلهم كوفيون. الثانية: رواية بريدة عن جدة وعن أبيه. قال ابن الملقن: هذا الحديث من بديع كلامه ووجيزه وبليغه - صلى الله عليه وسلم - في السبر والتقسيم، ورد الكلام بعضه على بعض، فإنه ذكر ثلاثة أمثلة ضربها في الأرض، اثنان منها محمودان قال النووي: معنى الحديث أن الأرض على ثلاثة أنواع شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - كل نوع بنوع من أنواع الأرض: ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذه الفقرة فوائد منها: قوله: «قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت» أي أن إسحاق بن راهويه حيث روى هذا الحديث عن أبي أسامة خالف في هذا الحرف. قال الأصيلي: هو تصحيف من إسحاق. وقال غيره: بل هو صواب ومعناه شربت، والقيل شرب نصف النهار، يقال قيلت الإبل أي شربت في القائلة. وتعقبه القرطبي بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة. وأجيب بأن كون هذا أصله لا يمنع استعماله على الإطلاق تجوزاً. وقال ابن دريد: قيل الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه، وتعقبه القرطبي أيضا بأنه يفسد التمثيل، لأن اجتماع الماء إنما هو مثال الطائفة الثانية، والكلام هنا إنما هو في الأولى التي شربت وأنبتت. قال: والأظهر أنه تصحيف. قوله: «قاع يعلوه الماء. والصفصف المستوى من الأرض» هذا ثابت عند المستملي، وأراد به أن قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع وأنها الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر فيها، وإنما ذكر الصفصف معه جرياً على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وقد يستطرد. انظر فتح الباري (1/177) .

فالنوع الأول من الأرض: ينتفع بالمطر فيحيا بعد أن كان ميت، ينبت الكلأ فينتفع به الناس، والدوآب بالشرب والرعي والزرع وغيرها، ومثل هذا النوع الأول من الناس وهو الذي يبلغه الهدي والعلم، فيحفظ ويحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره، فينتفع وينفع الناس. والنوع الثاني من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة هي إمساك الماء لغيرها، فينتفع به الناس والدوآب وهي لا تنتفع، ومثل هذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أذهان ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم، يستنبطون به المعاني والأحكام فهم يحفظون حتى يجيء أهل النفع والانتفاع فيأخذه منهم، فهؤلاء نفعوا الناس بعلمهم وما انتفعوا. النوع الثالث من الأرض: هو السباخ التي لا تنبت، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع به غيرها، ومثل هذا النوع النوع الثالث من الناس وهم الذين ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون ولا يحفظون لينفعوا غيرهم (¬1) . فالحاصل: أن النوع الأول للمنتفع النافع، والنوع الثاني للنافع غير المنتفع، والثالث لغير النافع والمنتفع، وأعلى هذه الأنواع النوع الأول وهو المنتفع النافع. قال الله تعالى ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً? [فصلت: 33] . وقال: ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ? [النحل: 125] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الناس المؤمن العالم الذي إذا احتيج إليه نفع، وإن استغني عنه أغنى نفسه» (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذ إلى اليمن: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا ومن فيها» (¬3) . وقال: «من تعلم باباً من العلم ليعلم الناس أُعطي ثواب ستين صديقاً» (¬4) . ¬

(¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/47، 48) . (¬2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (45/303) بنحوه عن علي. (¬3) أخرجه بنحوه أحمد في مسنده (5/238، رقم 22127) . قال الهيثمي (5/334) : رجاله ثقات إلا أن ذويد بن نافع لم يدرك معاذا. (¬4) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (1/54) وعزاه للديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن مسعود، ثم قال: وفيه نكارة.

وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: «من علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات والأرض» (¬1) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كلمة من الخير يسمعها المؤمن فيعمل بها ويعلمها خير له من عبادة سنة» (¬2) . وقال: «ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه» (¬3) . وقال: «الدال على الخير كفاعله» (¬4) . وقال عمر: «من حدث بحديث فعمل به فله مثل أجر ذلك العمل» (¬5) . وروي أن سفيان الثوري قدم عسقلان فمكث أياماً ولا يسأله إنسان فقال: اكتروا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم (¬6) . وقال عطاء: دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ليس يسئلني أحد عن شيء (¬7) . وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمه محمد من آبائهم وأمهاتهم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آبائهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة (¬8) . ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/93) . (¬2) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/487، رقم 1386) عن زيد بن أسلم مرسلاً. (¬3) أورده الذهبي في إحياء علوم الدين (1/10) قال العراقي: أخرجه ابن عبد البر من رواية محمد بن المنكدر مرسلا نحوه. (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير (6/186، رقم 5945) وفي الأوسط (3/34، رقم 2384) عن سهل بن سعد. وأخرجه الطبراني (17/227، رقم 628) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/116، رقم 7656) وأبو عوانة في مسنده (4/478، رقم 7400) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/85، رقم 86) ، والخطيب في التاريخ (7/383) عن ابن مسعود. (¬5) أخرجه الحاكم في المدخل إلى الصحيح (1/87) . (¬6) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/279، رقم 1849) . (¬7) انظر: إحياء علوم الدين (1/11) . (¬8) انظر: إحياء علوم الدين (1/11) .

قال حجة الإسلام الغزالي (¬1) : وقال معاذ بن جبل ورأيته أيضاً مرفوعاً: «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والأنس في الوحشة، وهو الأنس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والوزير عند الأخلاء، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة، وهداة يقتدى بهم، وأدلة في الخيرات تقتفى آثارهم، وترفق أفعالهم، ترغب الملائكة خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام، والعمل تابعه يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء» (¬2) . والنوع الثاني: وهو الذي ينفع الناس ولا ينتفع، نوع كالأرض التي تمسك الماء فقط للناس، ينتفعوا به وهي لا تنتفع نفسها، فلا تنبت الكلأ، مذموم قبيح، فإنه يقبح بالعالم أن ينفع الناس بعلمه فيعملوا به وهو لا ينتفع به ولا يعمل به، بل ينبغي أن يكون فعله موافقاً لقوله، فإذا مر بشيء عمل به، وإذا نهى عن شيء انتهى عنه قبل غيره. وقد دلت الأخبار من الكتاب والسنة على ذم من علم الناس ولم يعمل بعلمه. قال الله تعالى: ?أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [البقرة: 44] . وقال تعالى: ?كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ? [الصف: 3] . وقال تعالى في قصة شعيب: ?وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ? [هود: 88] . وقال تعالى لعيسي بن مريم عليه الصلاة والسلام: «يا ابن مريم عظ نفسك، فإن ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/11) . (¬2) أخرجه الديلمي في الفردوس (2/41، رقم 2237) عن معاذ.

اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي مني» (¬1) . وقال عليه الصلاة والسلام: «مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله، وننهى عن الشر ونفعله» (¬2) . وقال الفضيل: بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان، وإليه أشار من قال: وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الأوثان وقال أبو الدرداء: ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولم يعمل سبع مرات (¬3) . وقال الشعبي: يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم: ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله (¬4) . وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل الفطر عن الصفاء (¬5) . ولله در القائل: يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ... إذا عبت منهم أموراً أنت تأتيها وكان يحيى بن معاذ ينشد في مجلس: مواعظ الواعظ لن تقبلا ... حتى نفيها نفسه أولاً يا قوم من أظلم من واعظ ... خالف ما قد قاله في الملا أظهر بين الناس إحسان ... وبارز الرحمن لما خلا ¬

(¬1) أخرجه أحمد في الزهد (1/54) وأبو نعيم في الحلية (2/382) . (¬2) أخرجه بنحوه أحمد في مسنده (3/120، رقم 12232) ، والحارث كما في بغية الباحث (1/170، رقم 26) ، وأبو يعلى في مسنده (7/69، رقم 3992) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/283، رقم 1773) عن أنس. (¬3) أخرجه أحمد في الزهد (1/142) وأبو نعيم في الحلية (1/211) . (¬4) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/21، رقم 64) . (¬5) أخرجه أحمد في الزهد (1/323) وأبو نعيم في الحلية (6/288) والبيهقي في شعب الإيمان (2/297، رقم 1841) .

وذكر ابن رجب في اللطائف أن عبد الواحد بن زيد لما جلس للوعظ أتته امرأة من الصالحات فأنشدته: يا واعظاً قام لاحتساب ... يزجر قوماً عن الذنوب تنهى وأنت المريب حقاً ... هذا من المنكر العجيب لو كنت أصلحت قبل هذا ... عيبك أو تبت عن قريب كان لما قلت يا حبيبي ... موقع صدق من القلوب تنهى عن الغي والتمادي ... وأنت في النهي كالمريب وقال بعضهم: العالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء، والجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة، ولم يجدها عنده. وهذا مثل قوله تعالى: ?وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ? [الأنبياء: 18] . ولقد أحسن من قال: وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو سقيم يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم ما زلت تلقح بالرشاد عقولنا ... صفة وأنت من الرشاد عديم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا ... كيما تصح به وأنت سقيم فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدي ... بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وقال ابن السماك: كم من مذكر بالله ناس لله، وكم من مخوف بالله جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله، وكم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال لكتاب الله منسلخ من آيات الله (¬1) . وقال عيسى - عليه السلام -: مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت فظهر حملها فانفضحت، وكذلك من لم يعمل بعلمه يفضحه الله تبارك وتعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/313، رقم 1916) . (¬2) أورده المناوي في فيض القدير (2/433) .

وقال معاذ: احذروا ذلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم، فيتبعوه على زلته. وقال عمر- رضي الله عنه -: إذ ذل العالم زل بزلته عالم من الخلق. وقال: ثلاث يهدم به الإسلام ذلة العالم إحداهن. أنشد بعضهم: وقال فساد كبير عالم متهتك ... وأكبر منه جاهل متنسك هما فتنة للعالمين عظيمة ... لمن بهما في دينه ينتسك الإمام فخر الدين الرازي: إذا اشتغل العالم بجمع الحلال، صار العوام آكلين الشبهات، وإذا صار العالم آكلاً للحرام، صار العامي كافراً، فالواجب على العالم كف نفسه عن صغائر المعاصي وكبائرها حتى لا يقتدي بها، والمعصية مع العلم فوق المعصية مع الجهل من وجوه، وإذا ابتلي بمعصية فليستتر صيانة لمنصب العلم. وأنشد بعضهم في هذا المعنى: أيها العالم إياك الزلل ... واحذر الهفوة والخطب الجلل هفوة العالم مستعظمة ... إذ بها أصبح في الخلق مثل وعلى زلته عمدتهم فبها ... يحتج من أخطأ وزل لا تقل يستر علمي زلتي ... بل بها يحصل في العلم الخلل أن تكن عندك مستحقرة ... فهي عند الله والناس جبل وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً» (¬1) . وقال: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه» (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج الذي يضئ ويحرق نفسه» (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه الديلمي في الفردوس (3/602، رقم 5887) عن علي بن أبي طالب بنحوه. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (2/165، رقم 1681) قال الهيثمي (1/185) : رجاله موثقون. وأخرجه الديلمي في الفردوس (4/134، رقم 6419) عن جندب بن عبد الله. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (2/165، رقم 1681) قال الهيثمي (1/185) : رجاله موثقون. وأخرجه الديلمي في الفردوس (4/134، رقم 6419) عن جندب بن عبد الله.

ولله در أبي العتاهية (¬1) حيث قال: وبخت غيرك بالعمى فأفدته ... بصراً وأنت مختم لعيناكا وفتيلة المصباح تحرق نفسها ... وتضيء للأعشى وأنت كذاكا وقال علي - رضي الله عنه -: «يا حملة القرآن اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً، يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله» (¬2) . وقال بعض العلماء: رأيت في منامي كأني جالس بالعلم على عادتي وحولي كتبي، وإذا بخطاب فوق رأسي وقائل يقول لي: اكتب فأخذت القلم وورقة وقلت: ما الذي أكتب؟ فقال: اكتب: تعلم ما استطعت لقصد وجهي ... فإن العلم من سفن النجاة وليس العلم في الدنيا بفخر ... إذا ما حل في غير الثقات ومن طلب العلوم لغير وجهي ... بعيد أن تراه من الهداة قال الأئمة: من وجد لذة العلم والعمل به قل ما يرغب فيما عند الناس. وأنشدوا فيه فقال: من طلب العلم للمعاد ... قد فاز بالفضل والمراد وباء بالذل من نحاه ... لنيل فضل من العباد قال إمامنا الشافعي - رضي الله عنه -: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم -يعني علمه وكتبه- على أن لا ينسب إلي حرف منه (¬3) . قال الرازي في تفسيره: لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء: لا يتم الدين إلا بالتقوى، ولا يتم القول إلا بالفعل، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع، ولا يتم العلم إلا بالعمل، فالدين بلا تقوى على خطر، وقول بلا فعل كالهدر، والمروءة بلا تواضع كشجرة بلا ثمر، وعلم بلا عمل كسحب بلا مطر. قال الأصم: ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علماً فعلموا به ولم ¬

(¬1) هو: محمد بن اسماعيل أبي العتاهية بن القاسم، أبو عبد الله، شاعر عراقي مطبوع، حذا طريقة أبيه في شعر الزهد، وتقدم في الأدب والفقه، وولي القضاء برهة، وأخذ عنه بعض كبار العلماء في عصره كالنسابة ابن أبي خيثمة وابن أبي الدنيا والمبرد والحافظ إبراهيم ابن إسحاق الحربي، وكانت وفاته في سنة: 244 هـ‍. (¬2) أخرجه الدارمي في سننه (1/118، رقم 382) . (¬3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/118) .

يعمل هو به (¬1) . فائدة مناسبة لهذا: حكى أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه روضة المشتاق إلى الملك الخلاق عن بعض السادة أنه قال: أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل ملك عبداً فعلمه شرائع الإسلام فأطاع وأحسن وعصى السيد، فإذا كان يوم القيامة أمر بالعبد إلى الجنة وأمر بسيده إلى النار، فيقول عند ذلك: واحسرتاه واغبناه، أما هذا عبدي، أما كنت مالكاً لمهجته وماله، وقادراً على جميع ماله، فماله سعد، ومالي شقيت، فيناديه الملك الموكل: لأنه تأدب وما تأدبت، وأحسن وأسأت. ورجل كسب مالاً فعصى الله سبحانه وتعالى في جمعه ومنعه، ولم يقدمه بين يديه حتى صار المال إلى وراثه، فأحسن في أنفاقه وأطاع الله سبحانه في إخراجه، وقدمه بين يديه، فإذا كان يوم القيامة أمر بالوارث إلى الجنة وبصاحب المال إلى النار، فيقول: واحسرتاه واغبناه أما هذا مالي، فمالي ما أحسنت به أحوالي، فيناديه الملك الموكل به: لأنه أطاع الله تعالى وما أطعت، وأنفق لوجهه وما أنفقت، فسعد وشقيت. ورجل علم قوماً فوعظهم فعملوا بقوله ولم يعمل، فإذا كان يوم القيامة أمر بهم إلى الجنة وأمر به إلى النار، فيقول: واحسرتاه واغبناه أما هذا علمي فمالهم فازوا به وما فزت، وسلموا به وما سلمت، فيناديه الملك الموكل: لأنهم عملوا بما قلت وما عملت، فسعدوا وشقيت. فائدة أخرى: تقدم بعض الصالحين ليصلي بالناس إماماً فالتفت إلى المأمومين يعدل الصفوف، وقال لهم: استقيموا واستووا فغشي عليه، فسئل عن سبب ذلك فقال: لما قلت لهم استقيموا فكرت في نفسي فقلت لها: فأنت هل استقمت مع الله طرفة عين. فائدة أخرى: ما ينبغي للإنسان ولو كان عاصياً أن يمتنع أن يعظ الناس بعد الرسول، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فإنه لو لم يعظ الناس ويعلمهم إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحد، لأنه لا عصمة لأحد بعده. وقيل للحسن: إن فلاناً لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول مالا أفعل فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحداً بمعروف ولم ينيه عن منكر، وقل من سلم من المعصية، من ذا الذي ما سآء قط، ومن له الحسنى قط فلا ينبغي لذلك سد باب الوعظ والتذكير. قال ذلك ابن رجب في أول اللطائف. ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/63) .

وأما النوع الثالث: وهم الذين لا علم عندهم ولا عمل، لا ينفعون ولا ينتفعون، فهم أشقى الخلق، لأنهم لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأساً، لا حفظ عندهم ولا فهم، ولا رواية ولا دراية، ولا رعاية إنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، فهذه الطائفة هم الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ليس همُّ أحدهم إلا بطنه وفرجه، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همة مع ذلك لباسه وزينته، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همة في داره وبستانه ومركوبه، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه في رياسته والانتصار للنفس الغضبية. فينبغي للعاقل أن يجمع بين العلم والعمل به فإن لم يقدر على ذلك فليكن عاملاً بما تعلمه منهم فإن لم يفعل ذلك كان من أشر الناس، ويكفي من لا علم ولا عمل ذماً أن يحرم درجة العلماء وعزهم وشرفهم، ودرجة العاملين بقول العلماء والمقتدين بهم، فإن الإنسان ولو بلغ في العز في الدنيا مهما بلغ إذا لم يكن عنده علم ولا عمل فهو حقير عند الله، وينتهى عزه إلى ذل. قال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك (¬1) . وقال الأحنف: كاد العلماء يكونون أرباباً، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل مصيره (¬2) . وقال سالم بن أبي الجعد: اشتراني مولاي بثلاثمائه درهم واعتقني، فقلت: بأي حرفة أحترف، فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً، فلم آذن له (¬3) . قال الزبير ابن أبي بكر: كتب لي أبي بالعراق عليك: بالعلم إن كنت فقيراً كان لك مالاً، وإن استغنيت كان جمالاً (¬4) . وقال الزهري: العلم ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال (¬5) . وبقي نوع آخر من الناس وهو لم يذكره هنا وهم: الذين يتعلمون العلم ويكتمون ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/7) . (¬2) انظر: إحياء علوم الدين (1/8) . (¬3) انظر: إحياء علوم الدين (1/8) . (¬4) انظر: إحياء علوم الدين (1/8) . (¬5) انظر إحياء علوم الدين (1/8) .

عن الناس، فهم ينفعون أنفسهم به ولا يعلمون الناس بخلاً، فهذا النوع من الناس أيضاً مذموم قبيح، فإن العلم فضل الله، ويحرم عليه أن يبخل بفضل الله على مستحقيه، ولله در القائل: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستعن عنه ويذمم قال تعالى: ?وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ? [آل عمران: 187] . وقال تعالى: ?وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ? [البقرة: 146] . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما أتى الله عالماً علماً إلا أخذ عليه من الميثاق ما أخذ من النبيين، أن يبينه ولا يكتمه» (¬1) . وقال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (¬2) . ولو كتم العلم عمن لا يستحقه ككثير من الجهال الذين لا ينتفعون بالعلم ولا يلتفتون إلى العمل به أو يخاف عليهم من الفتنة بما يتعلمه فلا إثم عليه حينئذ في كتمه. قال إمامنا الشافعي: ومن منح الجهال علماً أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم وكاتم علم الدين عمن يريده ... يبوء بإثم زاد وآثم إذا كتم وقال بعضهم ونسب إلى زين العابدين: إني لأخفي من علمي جواهره ... كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتننا ورب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجلاً دينون دمى ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا ¬

(¬1) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/104، رقم 141) ، وابن حجر في القول المسدد (1 /5) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه (3/321، رقم 3658) ، والترمذي في سننه (5/29، رقم 2649) وقال: حسن. وابن ماجه في سننه (1/98، رقم 266) ، وأحمد في مسنده (2/344، رقم 8514) ، والحاكم (1/182، رقم 345) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/275، رقم 1743) عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/97، رقم 264) عن أنس. قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف. وأخرجه الطبراني في الكبير (10/128، رقم 10197) عن ابن مسعود. قال الهيثمي (1/163) : فيه سوار بن مصعب وهو متروك.

وقد تقدم في هذا أبو حسن ... وأوصى حسينا بما قد أخبر الحسنا والمراد بالمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم» الصفة العجيبة الشأن لا القول السائر. وقوله: «الهدى» الدلالة الموصلة إلى البغية. «والعلم» المراد به معرفة الأدلة الشرعية. وقوله: «كمثل الغيت الكثير» وهو المطر، وسمى المطر «غيثاً» لإغاثة الخلق. فائدة: اختلف العلماء في الغيث الربيعي والغيث الشتوي أيهما ألطف على قولين، فقيل: الشتوي ألطف، لأن حرارة الشمس تكون حينئذ أقل، فلا تجذب من ماء البحر إلا الطفه، والجو صاف وهو خال من الأبخرة الدخانية، والغبار المخالط للماء، وكل هذا يوجب لطفه وصفائه وخلوه من مخالط. وقيل: الربيعي ألطف، لأن الحرارة توجب تحلل الأبخرة الغليظة، وتوجب رقة الهواء ولطافته، فيخف بذلك الماء، وتقل أجزاؤه الأرضية وتصادف وقت حياة النبات والأشجار وطيب الهواء. ووجه المشابهة بين العلم والغيث أن الغيث يحيي البلد الميت، والعلم يحيي القلب الميت، وإنما اختار الغيث من بين سائر المطر أسماء المطر ليؤذن باضطرار الخلق حينئذ إليه - صلى الله عليه وسلم - كاضطرارهم إلى المطر. قال الله تعالى: ?وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ? [الشورى: 28] . وقد كانت الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - في جهل وضلال، امتحنوا بموت القلب حتى أصابهم الله برحمة من عنده، وأغاثهم به - صلى الله عليه وسلم - فأرسله إليهم رحمة. قال تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ? [الأنبياء: 107] أي: لجميع الخلق: للمؤمنين بالهداية، وللمنافقين بالأمان من القتل، وللكافرين بتأخير العذاب، فهداهم وزال ضلالهم، وعلم جاهلهم، وقوَّم مائلهم، وأحيا قلوبهم الميتة به، كما أحيا الأرض الميتة بالغيث المرسل إليها، وهذا يدل على شرفه وعلو قدره - صلى الله عليه وسلم - وعظيم قدره عند الله. ويدل أيضاً على علو قدره - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في حياته - صلى الله عليه وسلم - يستأذن رب العزة سبعون ألف ملك لينزلوا إلى الأرض لرؤيته، فكانوا ينزلون وينظرون إليه لما يعلمون من كرامته على الله - عز وجل -. * * *

باب رفع العلم وظهور الجهل قَالَ البُخَارِي: وقال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه (¬1) . هذا تعليق من البخاري بصيغة الجزم الدالة على أنه من تصحيحات التعلقيات، لا من تمريضاته ومعناه: لا ينبغي لمن عنده شيء من العلم ولو كان قليلاً أن يضيع نفسه، بأن لا يفيد الناس ولا يسعى في تعليم الخير. وفيه دليل على أنه يندب للإنسان إذا كان في البلد مثله في العلم أن يقضي بين الناس إذ علم أنه يزول خموله وينتشر علمه بذلك. حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا» (¬2) . قوله: «إن من أشراط الساعة» أي: من علاماتها، فإن الأشراط جمع شرط بفتح الشين، والراء، وهي العلامة. ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الأثر فوائد عظيمة منها: قوله: «وقال ربيعة» : هو ابن أبي عبد الرحمن الفقيه المدني، المعروف بربيعة الرأي قيل له ذلك لكثرة اشتغاله بالاجتهاد. ومراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال، لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم. أو مراده الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم. أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه. وقيل مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضا للدنيا. وهذا معنى حسن. انظر فتح الباري (1/178) . (¬2) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الأثر فوائد منها: قوله: «أشراط الساعة» : أي علاماتها، وهذه العلامات منها ما يكون من قبيل المعتاد، ومنها ما يكون خارقا للعادة. قوله: «أن يرفع العلم» : المراد برفعه موت حملته. قوله: «ويثبت» : أي ينتشر. قوله: «ويشرب الخمر» : المراد كثرة شرب الخمر واشتهاره. قوله: «ويظهر الزنا» : أي يفشو. انظر فتح الباري (1/178) .

وقوله: «أن يرفع العلم» ليس المراد برفع العلم محوه من صدور الحفاظ وقلوب العلماء، فإن الله سبحانه وتعالى لا يهب العلم لخلقه ثم ينتزعه منهم، بعد أن تفضل عليهم به تعالى الله أن يسترجع ما وهب من علمه الذي يؤدي إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بموت العلماء وعدم المتعلمين، فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر عليه الصلاة والسلام بقبض الخير كله، ولا ينطق عن الهوى. والذي يدل على أن المراد برفع العلم موت العلماء ما يأتي في هذا الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتنخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (¬1) . وقد جاءت أخبار من الكتاب والسنة وغيرها أن موت العلماء نقص في الدين، وعلامة لحلول البلاء المبين. قال الله تعالى: ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا? [الرعد: 41] قال عطاء وجماعة: نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء (¬2) . وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء، ما اختلف الليل والنهار» (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/50، رقم 100) ، ومسلم في صحيحه (4/2058، رقم 2673) ، والترمذي في سننه (5/31، رقم 2652) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في سننه (1/20، رقم 52) ، وأحمد في مسنده (2/162، رقم 6511) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/505، رقم 37590) ، والدارمي في سننه (1/89، رقم 239) ، وابن حبان (10/432، رقم 4571) عن ابن عمر. وأخرجه الخطيب في التاريخ (5/312) ، والبزار كما في محمع الزوائد (1/201) كلاهما عن عائشة. قال الهيثمي (1/201) : فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف، ووثقه عبد الملك بن سعيد بن الليث. وأخرجه الطبراني في الأوسط (6/277، رقم 6403) ، قال الهيثمي (1/201) : فيه العلاء بن سليمان الرقي ضعفه ابن عدي وغيره. وابن عدي (5/223 ترجمة 379 العلاء بن سليمان الرقى) وقال: منكر الحديث ويأتي بمتون ولها أسانيد لا يتابعه عليها أحد. كلاهما عن أبي هريرة. (¬2) أورده البغوي في تفسيره (3/24) . (¬3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/268، رقم 1719) .

وقال أيضاً: «عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله» (¬1) . وقال عمر - رضي الله عنه -: «موت ألف عابد صائم النهار قائم الليل أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه» (¬2) . وقال علي - رضي الله عنه -: «إن مات العالم ثلم ثلمة في الإسلام ولا يسدها إلا خلف منه» (¬3) . وقال: «إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد» . وقال سلمان: «لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يعلم الآخر، فإذا أهلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس» (¬4) . وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: «هلاك علمائهم» (¬5) . قال علي بن موسى: «أعظم الرزايا موت العلماء» . وقوله: «ويشرب الخمر» قال العلماء: شرب الخمر من الكبائر، سماها الله تعالى في كتابه الإثم. قال تعالى: ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ? [الأعراف: 33] . قال الحسن: الإثم هو الخمر. ويدل على إطلاق الإثم عليها قول لبيد: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول وإذا شربها في الدنيا ومات من غير توبة فإنه لا يشربها في الآخرة، مع أنها أطيب شراب الآخرة، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كل مسكر حرام، وكل خمر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة، وإذا شربها في الدنيا ومات من غير توبة أسقي ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (9/170، رقم 8845) ، قال الهيثمي (1/126) : رواه الطبراني في الكبير وأبو قلابة لم يسمع من ابن مسعود. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر بن راشد في الجامع (11/252) . (¬2) أخرجه الحارث كما في بغية الباحث (2/813، رقم 842) . (¬3) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/199، رقم 347) . (¬4) أخرجه أحمد في الزهد (1/151) ، والدارمي (1/90، رقم 242) . (¬5) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/276) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/253، رقم 1662) ، وابن أبي شيبة (7/458، رقم 37206) ، والدارمي (1/90، رقم 241) .

من عرق أهل النار» (¬1) . وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قيل: وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار» أو قال: «عصارة أهل النار» (¬2) . قال البغوي: جاء في الحديث: «أن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة الفردوس بيده ثم قال: وعزتي وجلالي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» (¬3) . فإن قيل: شرب الخمر كيف يكون من علاماتها والحال كان واقعاً في جميع الأزمان، وحذر - صلى الله عليه وسلم - من شربه؟ وأجيب: بأن المراد بشرب الخمر الذي هو من علامات الساعة أن تشرب شرباً فاشياً، كما جاء في رواية: «ويكثر شرب الخمر» ، أو المراد: أن الشرب وحده ليس علامة بل العلامة مجموع الأمور المذكورة. وقوله: «ويظهر الزنا» أي: يفشو وينتشر. قال ابن الملقن: والزنا يمد ويقصر، والأولى لغة نجد، والثانية لغة أهل الحجاز. فائدة: ذكر في هذا الحديث من علامات الساعة أربعة وجاء في غيره من الأحاديث علامات أخرى كثيرة: كإطالة البنيان، وزخرفة المساجد، وإمارة الصبيان، ولعن آخر هذه الأمة أولها، وكثرة الهرج، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1588، رقم 2003) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/327، رقم 3679) ، والترمذي في سننه (4/290، رقم 1861) ، وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (3/212، رقم 5093) ، والطيالسي في مسنده (ص: 260، رقم 1916) ، وأحمد في مسنده (2/29، رقم 4831) ، وابن حبان في صحيحه (12/188، رقم 5366) ، والطبراني في الكبير (12/294، رقم 13157) . (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1587، رقم 2002) . وأخرجه أيضاً: النسائي في سننه (8/327، رقم 5709) ، وأحمد في مسنده (3/360، رقم 14923) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/7، رقم 5579) . (¬3) أخرجه الدارقطني في الصفات (1/26، رقم 28) وأبو الشيخ (5/1555) عن عبد الله بن الحارث بن نوفل. وأخرجه الديلمي (1/181، رقم 675) عن علي.

وإن رضوا رضوا لأنفسهم وإن غضبوا غضبوا لأنفسهم، لا يغضبون لله ولا يرضون لله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من علامات الساعة أربعة أشياء: كثرة المطر وقلة النبات، وكثرة القراء وقلة العلماء» أفاده ابن الجوزي. ومن علاماتها إنكار الحق، قال علي - رضي الله عنه -: «يأتي على الناس زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم» (¬1) . ولها علامات أخرى غير ذلك وهذه العلامات هي العلامات الصغار، والحكمة في إظهارها وإيجادها قبل الساعة تنبيه الناس على رقدتهم، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة، فينبغي للناس بعد ظهورها أن يطهروا أنفسهم، وينفطموا عن الدنيا، ويستعدوا للساعة الموعود بها. وقد وقعت هذه العلامات في هذه الأزمان كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - وتحقق بهذا الحديث معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقه في كل ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -. وأما العلامات الكبار: كخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة وغير ذلك، فإنها لا تظهر إلا قرب الساعة أو مصاحبة لها. فائدة أخرى: ظهور اللواط وانتشاره بين الناس كظهور الزنا في أنه من علامات الساعة. قال ابن الجوزي في كتابه سوق العروس: روى ابن ماجة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله عمل عمل قوم لوط» (¬3) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه الفاعل ¬

(¬1) أخرجه أحمد في الزهد (1/130) ، وفي فضائل الصحابة (1/529، رقم 880) . (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه (2/856، رقم 2563) وأخرجه أيضاً: الترمذي في سننه (4/58، رقم 1457) وقال: حسن غريب. وأحمد في مسنده (3/382، رقم 15133) ، وأبو يعلى في مسنده (4/97، رقم 2128) ، والحاكم في المستدرك (4/397، رقم 8057) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في شعب الإيمان (4/354، رقم 5374) . (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (1/108، رقم 855) ، والطبراني في الكبير (11/218، رقم 11546) ، والحاكم في المستدرك (4/396، رقم 8052) ، وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في السنن الكبرى (8/231، رقم 16794) .

والمفعول به» (¬1) . وقد اختلف العلماء في حكم من عمل عمل قوم لوط. فقال الإمام مالك كما نقله القرطبي عنه: يرجم سواء كان محصناً أو غير محصن، قال: وكذا يرجم المفعول به إذا كان محلتماً (¬2) . وقال أبو حنيفة: يعذر المحصن وغيره (¬3) . وقال الشافعي: يجد حد الزنا إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصناً (¬4) . وقال ابن عباس: ينظر إلى أعلى بناء بالقرية فيلقى منه ثم يتبع بالحجارة (¬5) . وقيل: يحرق بالنار. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ثبت عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلاً ينكح كما تنكح المرأة، فكتب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بذلك فاستشار الصحابة رضي الله عنهم فكان علي أشدهم قولاً فيه فقال: ما فعل هذا إلا فعل أمة من الأمم، وقد علمتهم ما فعل الله بهم، أرى أن يحرق بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فحرقه (¬6) . وقال بعض السلف: إذا ركب الذكر الذكر عجت الأرض إلى الله، وهربت الملائكة إلى ربها، وشكت إليه عظيم ما رأت، وهرب الشيطان خوفاً من اللعنة أن تصيبه. وأول من أظهر هذه الفاحشة للناس قوم لوط كما أشار الله إلى ذلك بقوله العزيز ?وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4/158، رقم 4462) ، والترمذي في سننه (4/57، رقم 1456) ، وابن ماجه في سننه (2/856، رقم 2561) ، والحاكم في المستدرك (4/395، رقم 8047) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في السنن الكبرى (8/231، رقم 16796) ، وأحمد في مسنده (1/300، رقم 2732) ، وأبو يعلى في مسنده (4/348، رقم 2463) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/200، رقم 575) ، والدارقطني في سننه (3/124) عن ابن عباس. (¬2) انظر: تفسير القرطبي (7/243) . (¬3) انظر: تفسير القرطبي (7/243) . (¬4) انظر: تفسير القرطبي (7/243) . (¬5) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/357، رقم 5388) . (¬6) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (8/232) .

العَالَمِينَ? [الأعراف: 80] . وقال تعالى: ?أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ? [الشعراء: 165، 166] . وكان فعلهم بهذه الفاحشة بتعليم إبليس لعنة الله. وقال الحسن: لا ينكحون إلا الغرباء وكانت الغرباء يقصدون بلادهم لأنها كانت مخصبة. وقيل: إن إبليس تمثل لهم في صورة شاب ثم دعاهم إلى دبره فنكح في دبره، فتعلموا منه واستمروا على هذه الفاحشة، فإبليس أول عمل هذه الفاحشة، فإنهم كانوا يدخرون الغلة ويطلبون بها الغلاء، فإذا عز الطعام قصد الناس إليهم من أطراف الدنيا فقال لهم إبليس لعنة الله: إني حكيم بأحوال السنين القادمة وسيكون فيها الغلاء الشديد، ولا تنبت الأرض لكم حب الحصيد، فاحفظوا ما عندكم، وامتنعوا من بيع غلتكم إن أردتم سلامة أنفسكم وأهليكم، فإذا انقضت المدة أعلمتكم وأمرتكم بالبيع فيحصل لكم الطعام الجزيل بالطعام القليل، فاقطعوا عنكم الغرباء وامنعوهم البيع والشراء، وإنهم لا ينقطعون حتى تفعلوا ما أقول لكم، كل غريب يأتي أرضكم فلوطوا به، شيخاً كان أو صبياً، سمحاً أو سرياً، ففعلوا ذلك بكل من يجئ، فلم يبق منهم أحد إلا وفعل ذلك. فلهذا قيل: كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر عابر سبيل حذفوه بالحصى فأيهم أصابه كان أولى به، فيأخذ ما معه ويغرمه ثلاثة دراهم وينكحه، ولهم قاض بذلك. هذا هو المنكر الذي نبه الله سبحانه وتعالى أنهم كانوا يفعلون بقوله جل ذكره: ?وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ? [العنكبوت: 29] . وقيل: المنكر الذي كانوا يفعلون أنهم كانوا يسخرون بأهل الطريق. وقيل: المنكر أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم. وقيل: المنكر أنهم كانوا يبصق بعضهم على بعض. وقيل: المنكر أنه كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم. وكان لوطا - عليه السلام - يدعوهم فلا يجيبون، ويعظهم فلا يرجعون ولا يتعظون، ويزجرهم فلا ينزجرون، وكان إبراهيم الخليل يزور لوطاً في كل عام، ويحذرهم الله وهم مصرون على معصيته، ثم نزلت الملائكة على إبراهيم فقال: ?قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ

أَيُّهَا المُرْسَلُونَ? [الذاريات 31] يعني: في ماذا جئتم؟ ?قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ? [الذاريات 32، 33] . فصار إبراهيم يجادل الملائكة من شفقته على العباد ويرجو صلاحهم قبل الهلاك، حتى قالت الملائكة: أتجادلنا في قوم لوط، وكان جدالة لهم أنه قال لهم: لو كان في البلد مائة مؤمن أكنتم تعاقبوهم؟ قالوا: لا. قال: فخمسون؟ قالوا: لا. فخمسة؟ قالوا: لا ?قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ? [العنكبوت 32] ثم مضت الملائكة إلى لوط وقالوا له: نحن ضيوفك وما عرف أنهم ملائكة وما قدر أن يرد الضيف، بل بقي محزوناً خائفاً عليهم من قومه، لعلمه بعادتهم وفسادهم، فإنهم دخلوا على لوط في صورة حسنة فقال لهم لوط: إن أهل البلد مفسدون، وكان الله تعالى قد أمر جبريل والملائكة أن لا يعذبوا قوم لوط حتى يشهد عليهم لوط بالفساد ثلاث مرات، فلما قال: إنهم مفسدون قال جبريل: هذه شهادة فلما أمسى قال لوط: إن هؤلاء القوم مفسدون قال جبريل: هذه شهادة ثانية فكرر لوط القول، وكانت امرأته منافقة فذهبت إلى البلد وأخبرتهم وقالت لهم: إن عند لوط مرد لهم وجوه حسان، وأخبر أهل البلد بعضهم بعضاً فجاءوا إلى دار لوط وقالوا: ?أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العَالَمِينَ? [الحجر: 70] معناه: أما قلنا لك لا تضف أحداً، فقال لهم: هؤلاء بناتي إن أردتم زوجتكم بهن واتركوا الفاحشة ولا تفضحوني في ضيفي فقالوا كلهم: لنا نساء ولا نريد إلا الضيوف، فقال لهم: ليس لي دار مانعة ولا حصن حصين، وجعل يتضرع فلم ينفع، فدخل الملائكة بيتاً وأغلقوا عليهم باباً فما قدروا أن يدخلوا على الملائكة، حتى كسروا الباب فضرب جبريل بجناحه وجوههم فعميت عيونهم، فقالوا: غداً نريك ما نعمل يا لوط، هذا سحر منك يا لوط، قد أعميت أبصارنا وضاق صدر لوط لذلك فقال له جبريل: إنا رسل ربك قال لهم لوط: هم كثيرون وأنا وحدي، فقال جبريل: إني لأجل هلاكهم قد جئت إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب، فلما مضى من الليل ثلثه قال جبريل: يا لوط خذ الأهبة للخروج فقد وجب العذاب، فقال لوط: إن لي صهراً وله حق على فأريد أن أعرفه ذلك فقال: الأمر لك، فلما أخبر لوط صهره قال له: أسوة بالقوم إن هلكوا هلكت، فلما قرب الوقت أشار جبريل إلى سور البلد فانفتح فيه باب وخرج لوط وأهله، وقال له جبريل: لا يلتفت منكم أحد إلى ورائه، ثم أهلكهم الله بالحجارة أمطر عليهم حجارة من السماء بعد أن قلب ديارهم وأدخل جناحه تحت قرى قوم لوط وهي خمس

مدائن، وكان فيها أربعمائه ألف إنسان، وقيل: أربعة آلاف ألف، فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونبيح الكلاب، ولم يكفأ لهم إناء، ولم ينتبه نائم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأمطر الله بعد ذلك عليهم حجارة أي: على المسافرين منهم أينما كانوا في البلاد وكانت هذه الحجارة من سجيل أي: طين مطبوخ، وكانت صلبة وكان مكتوباً عليها اسم من يرمي بها كما قال تعالى: ?مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ? أي: معلمة باسم صاحبها، قيل: دخل رجل منهم الحرم قبل وصول الحجر إليه، فكان ذلك الحجر الذي أرسل إليه معلقاً في السماء أربعين يوماً حتى خرج من الحرم فأصابه فأهلكه، قال: ?وَمَا هِيَ? أي: عقوبتهم ?مِنَ الظَّالِمِينَ? أي: العاملين بعملهم ?بِبَعِيدٍ? [هود: 83] . قال عليه الصلاة والسلام: «لا تذهب الأيام ولا الليالي حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال، كما استحلوا فروج النساء، فتصيب طوائف منهم حجارة من عند ربك» . قال في نزهة المجالس جاء في الحديث: «أنه يؤتى يوم القيامة بأطفال ليس بهم رؤوس فيقول الله تعالى: من أنتم؟ فيقولون: نحن المظلومون، فيقول: من ظلمكم؟ فيقولون: آباؤنا كانوا يأتون الذكران من العالمين فألقوا في الأدبار، فيقول الله تعالى: سوقوهم إلى النار واكتبوا على وجوههم آيسين من رحمة الله» (¬1) . ومن هذا القبيل سحاق النساء زنا بينهن. وروي أن سليمان - عليه السلام - قال لإبليس: أي الأعمال أحب إليك، وأبغض إلى الله؟ قال: لولا منزلتك عند الله ما أخبرتك، إني لست أعلم شيئاً أحب إلىَّ وأبغض إلى الله من استغناء الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، وأول من علم النساء السحاق بنت إبليس وتسمى الدلهان، رأت الرجال قد استغنوا بالرجال فجاءت إلى النساء في صورة امرأة وشهت إليهن ركوب بعضهن على بعضهن وعلمتهن كيف يصنعن قاله الثعلبي. قال المتولي من الشافعية: إذا كانت المرأة تميل إلى النساء، وخافت من النظر إلى وجه المرأة وكفيها الفتنة لم يجز لها النظر كما في الرجل مع الرجل. قال الأذرعي: وهذا مما يبتلى به ذوات السحاق. ¬

(¬1) قال العجلوني في كشف الخفاء بعد أن ذكر الحديث (2/522) : نقل ابن حجر المكي في الفتاوي عن الحافظ السيوطي أنه موضوع.

فائدة: إتيان البهيمة حرام لكن هل يوجب الحد أم يعزر اختلف العلماء في ذلك. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه الداء والدواء: اختلف العلماء فيمن أتى بهيمة قيل: يعزر وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، وقيل: حكمه حكم الزاني وهو قول الحسن، وقيل: حكمه حكم اللوطي نص عليه أحمد، فيخرج على الروايتين عنه في حده هل هو القتل حتماً أو هو كالزاني؟ ويشكل على قول الشافعي وغيره أنه يعزر فقط من غير قتل ولا حد ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة والحاكم (¬1) . ويدل على تحريم إتيان البهيمة أيضاً ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ويقول: ادخلوا مع الداخلين، الفاعل والمفعول به، والناكح يده، والناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، والجامع بين المرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره، والمؤذي جاره حتى يلعنه الناس» (¬2) . دل الحديث على تحريم إتيان البهيمة وتحريم الاستمناء باليد، وتحريم بقية السبعة. وإخراج المني باليد حرام في الكتاب والسنة قال الله تعالى: ?َالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ? [المؤمنون: 5، 6، 7] أي: الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام. قال البغوي: في الآية دليل أن الاستمناء باليد حرام، وهو قول العلماء (¬3) . قال ابن جريج: سئلت عطاء عنه فقال: «بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن قوماً يحشرون وأيديهم حبالى» وأظنهم هؤلاء (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه (4/159، رقم 4464) ، والترمذي في سننه (4/56 رقم 1455) ، والنسائي في الكبرى (4/322، رقم 7340) ، وابن ماجه في سننه (2/856، رقم 2564) ، والحاكم في المستدرك (4/395، رقم 8049) وقال: صحيح الإسناد. وأخرجه أيضا: البيهقي في سننه الكبرى (8/233 رقم 16812) ، وأبو يعلى في مسنده (4/347، رقم 2462) عن ابن عباس. (¬2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/378، رقم 5470) ، والديلمي في الفردوس (2/332، رقم 3497) عن أنس بن مالك. (¬3) انظر: تفسير البغوي (3/303) . (¬4) انظر: تفسير البغوي (3/303) .

وعن سعيد بن جبير: عذب الله أمة كانوا يعثبون بمذاكيرهم (¬1) . والواجب على فاعله التعذير كما قاله ابن الملقن وغيره، نعم عند أبي حنيفة وأحمد إذا خاف على نفسه العنت نقله في الحلية عنهما ثم قال: وله وجه عندي، ويباح الاستمناء بيد زوجته أو جاريته، لكن قال القاضي حسين: مع الكراهة لأنه في معنى العزل. * * * ¬

(¬1) انظر: تفسير البغوي (3/303) .

المجلس الرابع والثلاثون

المجلس الرابع والثلاثون في الكلام على حديث: «لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي» وفيه ذكر شيء من فضل سيدنا علي - رضي الله عنه - قَالَ البُخَارِي: باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - «حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِى مَنْصُورٌ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِىَّ بْنَ حِرَاشٍ ... » وربعي بن حراش تابعي ثقة كوفي عابد ورع، وكان أعور، ويقال: من فضائله أنه لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان على الحجاج فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط، لو أرسلت إليه وسألته عنهما فأرسل إليه عنهما فقال: أين ابناك؟ فقال: هما في البيت. قال: قد عفونا عنهما بصدقك. ومن فضائله: أنه حلف لا يضحك حتى يعلم أين مصيره إلى الجنة والنار، فما ضحك إلا بعد الموت. وكان له أخوان أحدهما يقال له: مسعود، وهو الذي تكلم بعد الموت، والآخر ربيع وهو أيضاً: حلف أن لا يضحك حتى يعرف أهو في الجنة أم النار، فقال غاسله: إنه لم يزل بعد موته مبتسماً على سريره حتى فرغنا. قال ابن المديني: لم يرو عن أخيه مسعود شيء إلا كلامه بعد الموت. وربعي: منسوب إلى الربيع، أدرك علياً وحدث عنه، وكانت وفاته في خلافة عمر بن عبد العزيز. «قال سمعت ربعي بن حراش يقول: سمعت علياً - رضي الله عنه -» هذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يجتمع مع رسول الله - رضي الله عنه - في عبد المطلب الجد الأدنى، ينسب إلى هاشم فيقال: القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عم رسول الله لأبويه، ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام علياً، ويكني أبا الحسن وأبا تراب كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أحب أسمائه إليه. وما نقله في الفصول المهمة لبعض المالكية من أن سيدنا علي بن أبي طالب ولدته أمة في جوف الكعبة، فهو ضعيف عند العلماء كما نقله النووي ولم يولد في جوف الكعبة سوى حكيم بن حزام دخلت أمة الكعبة وهي حامل، فضربها المخاض، فأتيت بنطع فولدته في الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره.

وأمه اسمها: فاطمة بنت أسد أسلمت وهاجرت، وهي أول هاشمية وضعت هاشمياً، ماتت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل في قبرها وتمعك فيه. فقد روى عمر بن شبة في كتاب المدينة قال: بينما هو - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه أتاه آت فقال: إن أم علي وجعفر وعقيل قد ماتت، فقال: «قوموا بنا إلى أمي» قال: فقمنا كأن على رؤوسنا الطير، فلما انتهينا إلى الباب نزع قميصه وقال «إذا كفنتموها فأشعروه إياها تحت أكفانها» فلما خرجوا إلى القبر جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة يحمل ومرة يتقدم ومرة يتأخر، حتى انتهينا إلى القبر فتمعك اللحد، ثم خرج فقال: «ادخلوها بسم الله وعلى اسم الله» فلما دفنوها قام قائما وقال: «جزاك الله من أم ومن مربيه خيراً» وسألناه عن نزع قميصه وتمعكه في اللحد فقال: «أردت أن لا تمسها النار إن شاء الله تعالى، وأن يوسع الله عليها قبرها» وقال: «ما أعفي أحد من ضغطه القبر إلا فاطمة بنت أسد» قيل: يا رسول الله ولا القاسم ابنك؟ قال: «ولا إبراهيم» (¬1) . وجاء في رواية عن أنس أنه قال لما ماتت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعنها، دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس عند رأسها فقال: «رحمك الله كنت بأبي وأمي بعد أمي تجوعين وتشبعين، وتعرين وتكسين، وتمنعي نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة» ثم أمر أن تغسل ثلاثاً فلما أتى الماء الذي فيه الكافور سكبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده، ثم خلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه وألبسها إياه وكفنها فوقه، ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغلاماً أسود يحفرون قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاضطجع فيه ثم قال: «الحمد لله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي إنك أنت ارحم الراحمين» وكبر عليها أربعاً وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم (¬2) . ¬

(¬1) أورده ابن أبي حاتم في العلل (1/365، رقم 1080) ، وقال: قال أبي: هذا حديث منكر جدا. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (24/351، رقم 871) ، وفي الأوسط (1/67، رقم 189) ، قال الهيثمي (9/257) : فيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأبو نعيم في الحلية (3/121) .

ودفنت بالبقيع وعليها قبة عظيمة بقرب سيدنا عثمان، وسنذكر في كتاب الجنائز حكمة عصر القبر للآدمي، وفوائد متعلقة بذلك إن شاء الله تعالى. ومن فضائل علي - رضي الله عنه -: أنه أول من أسلم على قول، وقيل: أول أسلم أبو بكر، وقيل: خديجة، وقيل: زيد بن حارثة، وقيل: بلال. قال العراقي: والصواب التفصيل، وهو أن يقال: أول من أسلم من الرجال: أبو بكر. ومن النساء: خديجة. ومن الصبيان: على. ومن العبيد: بلال. ومن الموالي: زيد بن حارثه. واختلف في عمره لما أسلم فقيل: كان عمره سبع سنين، وقيل: تسعة، وقيل: عشر، وقيل غير ذلك. وكان يقول: سبقتكم إلى الإسلام طراً صغيراً ما بلغت أوان حلمي (¬1) . وقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء قاله الطبري (¬2) . ومن فضائله: أنه أول من صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المحب الطبري: قال علي: «صليت قبل أن يصلي الناس بسبع سنين» (¬3) . وفي رواية: «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين قبل أن يصلي معنا أحد من الناس» (¬4) أخرجه أحمد. وجاء في حديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لقد صلت الملائكة عليَّ وعلى علي لأنا كنا ¬

(¬1) انظر التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (2/235) . (¬2) ورد في ذلك أثر عن علي بن أبي طالب حيث قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء. أخرجه أبو يعلى (1/348، رقم 446) ، قال الهيثمي (9/102) : فيه مسلم بن كيسان الملائي وقد اختلط. (¬3) أخرجه النسائي في الكبرى (5/106، رقم 8395) ، وابن ماجه (1/44، رقم 120) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/20) : إسناد صحيح رجاله ثقات. والحاكم (3/120، رقم 4584) ، وابن أبي شيبة (6/368، رقم 32084) . (¬4) ما وقفنا عليه في مسند الإمام أحمد (1/99، رقم 776) . عن حبة العرني قال رأيت عليا رضي الله عنه ضحك على المنبر لم أره ضحك ضحكا أكثر منه حتى بدت نواجذه ثم قال ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصلي ببطن نخلة فقال ماذا تصنعان يا بن أخي فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام فقال ما بالذي تصنعان بأس أو بالذي تقولان بأس ولكن والله لا تعلوني أستي أبداً وضحك تعجباً لقول أبيه ثم قال: اللهم لا أعترف أن عبداً لك من هذه الأمة عبدك نبيك ثلاث مرات لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعاً.

نصلي وليس يصلي معنا أحد» (¬1) . ويروى أن أبا طالب قال لعلي لما رآه يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ قال له: «يا أبت آمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله، واتبعته» فزعموا أنه قال: «أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه» (¬2) . وفي رواية قال له: «يا بني أطع ابن عمك، فإنه لا يأمرك إلا بخير، وأما أنا فلا أفارق دين آبائي» . ومن خصائصه: أنه كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزله الرأس من الجسد، وبمنزلة هارون من موسى، فقد نقل الطبري عن البراء أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: «أنت مني بمنزلة رأسي من جسدي» (¬3) . وود أنه قال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (¬4) . ومن فضائله وخصائصه: ما ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه قال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخي بيني وبين أحد قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنت أخي في الدنيا والآخرة» (¬5) . فائدة: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصحابة مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة، وأنكر ابن تيمية المؤآخات التي كانت في المدينة بين المهاجرين والأنصار، وكان عددهم مائة، ويقال: تسعين، والحكمة في المؤآخات: أن تزول الوحشة عن المهاجرين. ومن فضائله: ما أخرجه أحمد في المناقب عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «على باب الجنة مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أخو رسول الله قبل أن تخلق السماوات والأرض بألفي عام» (¬6) . ¬

(¬1) أخرجه الديلمي (3/433، رقم 5331) عن أبي أيوب. (¬2) انظر: السيرة الحلبية (1/436) . (¬3) أخرجه ابن عساكر (42/ 344) . (¬4) أخرجه البخاري (3/1359 رقم 3503) ، ومسلم (4/1870، رقم 2404) ، والترمذي (5/641، رقم 3731) وقال: حسن. وابن ماجه (1/42، رقم 115) ، والطيالسي (1/28، رقم 205) ، وأحمد (1/179، رقم 1547) عن سعد بن أبي وقاص. (¬5) أخرجه ابن عساكر (42/51) عن ابن عمر. (¬6) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (2/668، رقم 1140) . وأخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (5/343، رقم 5498) . قال الهيثمي (9/111) : فيه أشعث ابن عم الحسن بن صالح. وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/238، رقم 379) وقال: لا يصح. وأبو نعيم في الحلية (7/256) ، والخطيب (7/387) والديلمي (4/123، رقم 6380) .

وقريب من هذه الفضيلة ما نقل عن ابن عباس قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا بطائر في فمه لوزة خضرة، مكتوب عليها بالأصفر لا إله إلا الله محمد رسول الله نصرته بعلي. وأما زهده فقد نقل: أن قوته كان دقيق الشعير فيأخذ منه قبضه فيضعها في قدح، ثم يصيب ماء ويشرب. وكان - رضي الله عنه - يوماً جالساً فجاءه التياح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء فقال: الله أكبر فقام ونادى في الناس فأعطى ما في بيت المال لفقراء المسلمين، وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء غري غيري ها وها، حتى ما بقي منه دينار ولا درهم، ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين رجاء أن يشهد له يوم القيامة (¬1) . قال الأرقم: رأيت علياً - رضي الله عنه - وهو يبيع سيفاً له في السوق ويقول: من يشتري مني هذا السيف، فوالذي فلق الحبة لطالما كشفت به الحروب عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته. وأما كرماته فكثيرة: منها ما ذكره في شوارد الملح: أن رجلاً قال لعلي إني أريد السفر وأخاف من السبع، فدفع إليه خاتمة وقال له: إذا جاءك السبع فقل له: هذا خاتم علي بن أبي طالب. فلما سافر الرجل وجاءه السبع فقال له: هذا خاتم علي بن أبي طالب، فرفع السبع رأٍسه إلى السماء وهمهم، ثم نظر إلى الأرض وهمهم، ثم نظر إلى المشرق وكذلك إلى المغرب، ثم ذهب مهرولاً، فلما رجع الرجل من سفره أخبر علياً عن السبع بما فعل، قال: أتعرف ماذا قال بنظره إلى هذه الجهات الأربع؟ فقال: الله ورسوله أعلم وابن عم رسوله أعلم، فقال: إنه قال حين رفع نظره إلى السماء: وحق من رفعها، وحين نظر إلى الأرض: وحق من وضعها، وحين نظر إلى المشرق: وحق من أطلعها، وحين نظر إلى المغرب: وحق من غيبها ما أسكن في بلاد يشكوني فيها لعلي بن أبي طالب. ومن كراماته التي ظهرت له وهو في بطن أمه ما ذكره النسفي: أن أمه لما حملت به كانت إذ ذاك تعبد الأصنام، فكانت إذا أرادت السجود للصنم يعترض في بطنها فيمنعها من السجود للصنم. ¬

(¬1) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/531، رقم 884) ، وأبو نعيم في الحلية (1/81) .

قال بعضهم: فذلك يقال له دون غيره من الصحابة: كرم الله أي: كرم الله وجهه من السجود للصنم في حال كونه حملاً وبعد انفصاله. ومن كراماته التي وقعت له وهو رضيع ما ذكره ابن الجوزي: أنه كان - رضي الله عنه - في مهده فقصدته حية فانحدر من مهده ونزل إليها وقتلها، فتعجبت أمه من ذلك فسمعت هاتفاً يقول: هذا حيدرة انحدر من مهده إلى عدوه فقتله. ومنها: ما ذكره النسفي أن فاطمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن علياً ينام ليلة الجمعة وهي ليلة فضيلة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى تصدق عليه بنومه ليلة الجمعة، وإن الله تعالى يخلق من روحه إذا هو نام طيراً أخضر يسرح إلى طرق السماء، فما منها موضع شبر إلا وفيه لروح علي ركعة أو سجدة» . قال النسفي فلذلك كان يقول: سلوني عن طريق السماوات فإني أعلم بها من طريق الأرض، فلما قال ذلك يوماً جاءه جبريل في صورة رجل ليختبره فقال: إن كنت صادقاً فأخبرني أين جبريل؟ فنظر علي - رضي الله عنه - في السماء يميناً وشمالاً ثم إلى الأرض كذلك فقال: ما وجدته في السماء ولا في الأرض، ولعله أنت. وأما علمه - رضي الله عنه - فقد كان غزير العلم، ومما وقع له من الغرائب في العلم ما قاله ابن العماد في الذريعة والمحب الطبري وغيرهما قالا: جلس رجلان يأكلان ومع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة فخلطا الأرغفة فمر بهما رجل فسلم عليهما، فقالا له: اجلس وكل معنا، فجلس وأكل معهما واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فلما فرغوا قام الرجل القادم عليهما وطرح لهما ثمانية دراهم وقال: خذا هذا عوضاً عما أكلت لكما من خبزكما، فتنازع صاحب الخمسة أرغفة وصاحب الثلاثة في الثمانية دراهم، فقال صاحب الخمسة أرغفة: لي خمسة دراهم ولك ثلاثة، فقال صاحب الثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين، لك أربعة ولي أربعة فارتفعا إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقصا عليه القصة، فقال لصاحب االثلاثة: إرض بثلاثة دراهم فإن خبز رفيقك أكثر من خبزك، فخذ منه الثلاثة ودع له الخمسة، فقال: لا والله لا رضيت إلا بمر الحق، فقال علي - رضي الله عنه -: ليس لك بمر الحق إلا درهم واحد وله سبعة، فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين هو يعطيني ثلاثة وما أرضى بها وتقول الآن ليس لك إلا واحد، فقال له علي - رضي الله عنه -: أليس الثمانية أرغفة أربعة وعشرين ثلثاً أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس على السواء؟ قال: بلى قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاث يبقي لك واحد، فإن لك تسعة أثلاث لأن لك ثلاثة أرغفة إذا جعلت أثلاثا كانت تسعة، وأكل صاحبك ثمانية

أثلاث وله خمسة عشر ثلثاً، لأن الخمسة أرغفة إذا جعلت أثلاثاً كانت خمسة عشر، أكل منها ثمانية يبقى له سبعة، وأكل الضيف ثمانية أثلاث سبعة أثلاث لصاحبك، فاستحق السبعة، والثلث الذي لك فلك الدرهم، فقال الرجل: رضيت الآن. والضابط في ذلك أن يوزع المبلغ على الأرغفة التي أكلها الدافع. ومما وقع له أيضاً - رضي الله عنه -: أن رجلاً في زمانه تزوج امرأتين فولدتا في ليلة مظلمة، فأتت إحداهما بصبي والأخرى بأنثى، فاختصما في الصبي وكل منهما تقول: هذا ولدي، فارتفعا إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأمر كل امرأة أن تجلب من لبنها شيئاً، ثم وزن الحليبين فرجح أحدهما على الآخر، فحكم بأن الصبي لصاحبة اللبن الراجح، فقيل: من أين أخذت هذا؟ قال من قوله تعالى: ?لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ? [النساء: 11] فالله تعالى فضل الذكر على الأنثى في كل شيء حتى في غذائه. والحديث المشهور على ألسنة الناس: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» قال ابن الملقن: إنه حديث منكر. لكن قال شيخنا الحافظ العلامة الجلال السيوطي: هذا الحديث أخرجه الترمذي من حديث علي (¬1) . والطبراني والحاكم وصححه من حديث ابن عباس (¬2) . وحسنه الحافظ العلائي وابن حجر. وجاء في رواية: «أنا دار الحكمة وعلي بابها» (¬3) . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (¬4) حديث صحيح كما قاله النووي ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (5/637، رقم 3723) بلفظ: «أنا دار الحكمة» . قال الترمذي: غريب منكر. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (11/65، رقم 11061) ، قال الهيثمي (9/114) : فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف. وأخرجه الحاكم (3/137، رقم 4637) . (¬3) أخرجه الترمذي (5/637، رقم 3723) وقال: غريب منكر. وأبو نعيم في الحلية (1/64) عن علي. (¬4) أخرجه الحاكم (3/143، رقم 4652) عن ابن عباس. وأخرجه ابن أبي شيبة (6/374، رقم 32132) ، وأحمد (5/347، رقم 22995) ، والحاكم (3/119، رقم 4578) عن بريدة. وأخرجه أحمد (4/281، رقم 18502) عن البراء. وأخرجه الطبراني في الكبير (2/357، رقم 2505) عن جرير. قال الهيثمي (9/106) : فيه بشر بن حرب وهو لين ومن لم أعرفه أيضًا. وأخرجه الترمذي (5/633، رقم 3713) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (5/130، رقم 8464) ، والطبراني في الكبير (3/179، رقم 3049) عن زيد. وأخرجه ابن أبي شيبة (6/366، رقم 32072) عن جابر. وأخرجه ابن أبي شيبة (6/366، رقم 32073) ، والطبراني في الكبير (4/173، رقم 4052) عن أبي أيوب. وأخرجه الطبراني (19/291، رقم 646) عن مالك بن الحويرث. قال الهيثمي (9/106) : رجاله وثقوا.

في فتاويه. واتفق من اللطائف الغرائب بسبب هذا الحديث ما ذكره القرطبي في تفسيره في سورة «سأل» أن شخصاً يقال له: «الحارث» لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كنت مولاه فعلي مولاه» يا محمد: أمرتنا بالشهادتين فقبلنا منك، وأمرتنا بالصلاة الخمس عن الله فقبلنا منك، وذكر الزكاة والحج، ثم لم ترض حتى فضلت علينا علياً آلله أمرك بهذا أم من عندك؟ فقال: «والله الذي لا إله إلا هو إنه من عند الله» ، فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فنزل عليه حجر من السماء فقتله (¬1) . وقد ورد في فضل من أحب سيدنا علياً وفي ذم من أبغضه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن آذى علياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله» . وفي رواية: «من أحب علياً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله» (¬2) . ولله در القائل: علي حبه جنة ... إمام الناس والجنة وصهر المصطفى حقاً ... ويقتسم للورى الجنة ¬

(¬1) انظر: تفسير القرطبي (18/278) . (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (23/380، رقم 901) عن أم سلمة، قال الهيثمي (9/132) : إسناده حسن. وأخرجه الحاكم (3/141، رقم 4648) عن سلمان، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

فائدة: سئل العراقي - رضي الله عنه - من أحب علياً أكثر من أبي بكر وعمر وعثمان هل يكون بذلك آثماً أم لا؟ أجاب: بأن المحبة قد تكون لأمر ديني،، وقد تكون لأمر دنيوي، فالمحبة الدينية لازمة للأفضلية فمن كان أفضل كانت محبتنا الدينية له أكثر، فمتى اعتقد الإنسان أن أبا بكر أفضل ثم أحب علياً من جهة الدين أكثر، كان هذا تناقضاً وهو آثم بهذه المحبة، وأما المحبة الدنيوية فليست لازمة فإذا أحب علياً أكثر من أبي بكر لأمر دنيوي تكون من أقاربه وغير ذلك فلا تناقض في ذلك، وليس بآثم بهذه المحبة، إذ من اعترف بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر لكنه أحب علياً أكثر من أبي بكر فإنه كانت المحبة المذكورة محبة دينية فهذا لم يعترف بأفضلية أبي بكر إلا بلسان وأما بقلبه فهو مفضل لعلي لكونه أحب محبة دينية زائدة على محبة أبي بكر وهذا لا يجوز، وإن كانت المحبة المذكورة محبة دنيوية ككونه من ذرية علي - رضي الله عنه - أو لغير ذلك من المعاني فلا امتناع من ذلك والله اعلم. وسنذكر في كتاب الوضوء طرفاً آخر من ترجمة سيدنا علي. « ... سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَكْذِبُوا عَلَىَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ» (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «لا تكذبوا علي» : عام في كل كاذب، مطلق في كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسبوا الكذب إلي. ولا مفهوم لقوله: «علي» لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى، لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه. ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتجوا بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت وهي ما أخرجه البزار من حديث ابن مسعود بلفظ: «من كذب على ليضل به الناس ... الحديث» الحديث، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمي من حديث يعلى بن مرة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى: ?فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِّيُضِلَّ النَّاسَ? [الأنعام: 144] والمعنى: أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له كقوله تعالى: ?لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً? [آل عمران: 131] ?وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ? [الأنعام: 151] فإن قتل الأولاد ومضاعفة الربا والإضلال في هذه الآيات إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا لاختصاص الحكم. قوله: «فليلج النار» جعل الأمر بالولوج مسببا عن الكذب، لأن لازم الأمر الإلزام والإلزام بولوج النار سببه الكذب عليه أو هو بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ «من يكذب علي يلج النار» ولابن ماجه من طريق شريك عن منصور قال: «الكذب علي يولج -أي يدخل- النار» . انظر فتح الباري (1/199 - 200) .

هنا فوائد: الأولى: قال العلماء: الكذب عند الأشاعرة: الأخبار بالشيء على خلاف ما هو عمداً كان أو سهواً. وعند المعتزلة: إنما يسمى كذباً في حالة العمد، ولا يسمى كذباً في حال السهو، بدليل أن الإجماع منعقد على أن الناسي لا إثم عليه. وأجاب عنه الأشاعرة: بأنه لا يلزم من عدم الإثم عدم تسميته كذباً، وأما ما جاء في بعض الروايات: «من كذب عليَّ متعمداً» فهو لبيان أن إثم الكذب إنما في حال العمد لا في حال السهو، ولا لبيان أنه لايسمى كذباً إلا إذا كان عمداً. الثانية: الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - حرام، وهو فاحشة عظيمة من الكبائر سواء أكان عمداً أو سهواً وليس كذلك، بل إنما يكون من الكبائر إذا كان عمداً، بدليل الرواية الأخرى: «من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (¬1) فهو مطلق محمود على ¬

(¬1) حديث متواتر أخرجه البخاري (1/52، رقم 108) ومسلم (1/10، رقم 2) ، والترمذي (5/35، رقم 2660) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (3/458 رقم 5914) ، وابن ماجه (1/13، رقم 32) ، والطيالسي (1/277، رقم 2084) ، وأحمد (3/98، رقم 11960) عن أنس. وأخرجه أحمد (3/303 رقم 14294) والدارمي (1/87، رقم 231) ، وابن ماجه (1/13، رقم 33) وأبو يعلى (3/376، رقم 1847) عن جابر. وأخرجه البخاري (1/52، رقم 107) ، وأبو داود (3/319، رقم 3651) ، والنسائي في الكبرى (3/457، رقم 5912) ، وابن ماجه (1/14 رقم 36) ، والطيالسي (ص: 27، رقم 191) ، وأحمد (1/165، رقم 1413) عن الزبير. وأخرجه الترمذي (5/36، رقم 2662) عن علي، وقال: حسن صحيح. وأخرجه الطبراني في الكبير (8/35، رقم 7302) ، والحاكم (3/454، رقم 5712) عن صهيب. وأخرجه أبو يعلى (2/7، رقم 631) ، والطبراني في الكبير (1/114، رقم 204) عن طلحة. وأخرجه أبو يعلى (2/428، رقم 1229) ، وابن ماجه (1/14، رقم 37) عن أبي سعيد. وأخرجه الترمذي (5/35، رقم 2659) ، وابن ماجه (1/13، رقم 30) عن ابن مسعود. وأخرجه الطبراني في الكبير (12/293، رقم 13153) قال الهيثمي (1/143) : رجاله موثقون. والخطيب (7/418) عن ابن عمر. وأخرجه البزار (7/202، رقم 2774) ، والطبراني (8/316، رقم 8181) قال الهيثمي (1/147) : فيه خلف بن خليفة وثقه يحيى بن معين وغيره وضعفه بعضهم. كلاهما عن أبي مالك الأشعري. وأخرجه الطبراني في الكبير (12/36، رقم 12394) عن ابن عباس.

هذا الحديث المقيد بالعمدية. الثالثة: ذهب الإمام أبو محمد الجويني إلى أن من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - عمداً يكفر ويراق دمه. واختاره الإمام ناصر الدين ابن المنير (¬1) ووجهه: بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلاً لا ينفك عن استحلال الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر والحمل على الكفر كفر. قال ابن حجر: فيما قاله نظر لا يخفى، وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد ذلك واستحله، لكن يفسق كما يفسق مرتكب الكبيرة، قالوا: وما قال الجويني ضعيف، وممن ضعفه ولده إمام الحرمين وقال: من هفوات الوالد. الرابعة: الكذب على غيره - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء كبائر أيضاً قياساً عليه كما نبه على ذلك القاضي زكريا في كتابه غاية الوصول. وأما الكذب على غير نبي فهو من الصغائر إلا أن يقترن به ما يصيره كبيرة، كأن يعلم الكاذب على إنسان أنه يقتل بكذبه أو يحد فهو حينئذ من الكبائر. قال ابن عبد السلام: وعليه يحمل خبر الصحيحين: «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» (¬2) . الخامسة: من كذب عليه - صلى الله عليه وسلم - عمداً وحدث فسق وردت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بجميعها. ¬

(¬1) هو: ابن المنير السكندري واسمه: أحمد بن محمد بن منصور من علماء الأسكندرية وأدبائها ولي قضاءها وخطابتها مرتين. ولد سنة: 620 هـ‍، له تصانيف منها: تفسير حديث الاسراء على طريقة المتكلمين، والانتصاف من الكشاف، وله نظم، وكانت وفاته في سنة: 683 هـ‍. (¬2) أخرجه البخاري (5/2261، رقم 5743) ، ومسلم (4/2012، رقم 2607) ، وأبو يعلى (9/71، رقم 5138) ، وابن حبان (1/508، رقم 273) ، والبيهقي (10/243، رقم 20927) عن ابن مسعود.

فلو تاب وحسنت توبته قال الإمام أحمد وجماعة من الشافعية: لا تقبل رواياته أبداً بل يحتم جرحه دائماً. ورده النووي وقال: هذا مخالف للقواعد، والمختار القطع بصحة توبته وقبول روايته بعدها، قال: بدليل أن العلماء أجمعوا على صحة رواية من كان كافراً وأسلم، وعلى قبول شهادة تحملها كافر ثم أداها بعد الإسلام، كما إذا تحملها صبي وأداها بعد البلوغ، وكما إذا تحملها وأداها بعد التوبة. السادسة: لا فرق في تحريم الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد ما كان في الأحكام وغيره كالترغيب والترهيب فكله حرام بإجماع من يعتد به. وأما ما ذهب إليه الكرَّامية من جواز الوضع عليه - صلى الله عليه وسلم - في الترغيب والترهيب، فهو مذهب باطل. قال شيخ الإسلام ابن حجر: وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان الإيجاب أو الندب وكذا مقابلتهما. السابعة: من روى حديثاً ظن أو علم أنه موضوع، ولم يبين حال رواته وضعفهم فهو داخل في هذا الوعيد، وقد صرح بهذا في حديث آخر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» (¬1) . الثامنة: يدخل في وعيد هذا الحديث من قرأ الحديث ولحن فيه، ولهذا قال العلماء: ينبغي للراوي أن يعرف من اللغة والنحو والأسماء ما يسلم من قول ما لم يقل. وروى ابن الصلاح بسنده عن الأصمعي أنه قال: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار» لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (1/14، رقم 38) عن علي. وأخرجه مسلم (1/8) ، وابن ماجه (1/15 رقم 39) ، والطيالسي (1/121 رقم 895) ، وابن حبان (1/211، رقم 29) عن سمرة. وأخرجه مسلم (1/8) ، والترمذي (5/36، رقم 2662) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (1/15، رقم 41) ، وأحمد (4/250، رقم 18209) ، والطبراني في الكبير (20/422، رقم 1021) عن المغيرة.

حديثاً ولحنت فيه كذبت عليه. التاسعة: قوله «فليلج النار» بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم: «من يكذب علي يلج النار» (¬1) المعنى: أن جزاءه على كذبه ولوج النار، وقد يجازى وقد يعفو الله عنه، ولا يقطع بدخوله النار وكذا كل وعيد ككبيرة غير الكفر. قال البرماوي وغيره: وإن جوزي بدخول النار فلا يخلد، بل لابد من خروجه بفضل الله ورحمته. * * * ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/9، رقم 1) .

قَالَ البُخَارِي: «حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ ... » المراد بأبيه عبد الله بن الزبير، ولنذكر شيئاً من ترجمته فتقول: هو الصحابي ابن الصحابي أمير المؤمنين وكان يكني بكنيتين أحديهما: أبو بكر، والأخرى: أبو حبيب بابنه حبيب، وهو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة، وهاجرت أمه أسماء بنت الصديق من مكة وهي حامل به فولدته في سنة ثتنتين من الهجرة، لعشرين شهراً من التاريخ ففرح به أهل المدينة فرحاً شديداً، وذلك أنهم قيل: إن اليهود قد سحرتكم ولا يولد لكم ولد، ثم أتت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعه في حجره فدعا بتمره فمضغها ثم تفل في فمه وحنكه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا له. روى السهيلي وغيره أن عبد الله بن الزبير لما ولد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هو هو» فلما سمعت بذلك أسماء أمسكت عن إرضاعه فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرضعيه ولو بماء عينيك» . وكان وصولاً لرحمة، وكان - رضي الله عنه - فصيحاً، ذا أنفة، أطلس، لا لحية له ولا شعر في وجهه، وكان كثير الصوم والصلاة، شديد البأس، كريم الجدات والأمهات والخالات. ومن فضائله: أنه كان إذا صلى صار كأنه عود من الخشوع، وكان إذا سجد يطول حتى تنزل العصافير على ظهره، لا تحسبه إلا جذماً، وكان مرة يصلي وإذا بحية سقطت من سقف البيت على ابنه ثم تطوقت على بطنه وهو نائم، فصاح أهل البيت ولم يزالوا بها حتى قتلوها وهو يصلي، وما التفت ولا عجل ولا علم، فلما فرغ بعد ما قتلت الحية فقال: ما بالكم فأخبروه. قالت أمه: كان صواماً بالنهار قواماً بالليل، وكان يسمى خادم المسجد، وكان وصولاً لرحمة. ومن فضائله: أنه كان عظيم المجاهدة، قسم الدهر ثلاث ليال، ليلة يصلي قائماً وليلة يصلي راكعاً وليلة يصلي ساجداً حتى الصباح. ومن فضائله: أنه أحد العبادله الاًربعة وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والرابع هو رضي الله عنهم، وليس منهم عبد الله بن مسعود، وغلَّطوا الجوهري حين عده منهم. تولى الخلافة بعد موت معاوية بن يزيد ستة أربع وستين، واجتمع على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان ما عدا أهل الشام، وجدد عمارة الكعبة وجعل لها

بابين وحج الناس ثماني حجج، وبقي في الخلافة إلى أن حصر. قال الواقدي: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنين وسبعين ستة أشهر وسبع عشر بمكة المشرق، وكان حصره أشد الحصار، وكان المحاصر له الحجاج وجماعته، واستمر محاصراً إلى أن اصابته رمية حجر جاءته من ناحية الصفا فوقعت بين عينيه فنكس رأسه وهو يقول: لسنا على الأعقاب تدمي في كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدم فاجتمعوا عليه فلم يزالوا يضربونه حتى قتلوه، وكان قتلة يوم الثلاثاء لست عشر ليلة خلت من جماد الأول سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن اثنين وسبعين سنة في أيام عبد الملك بن مروان، وأمر الحجاج بصلب جثته وحمل رأسه إلى خراسان. وقال يعلى بن حرملة: دخلت مكة بعد ما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير بثلاثة أيام فإذا هو مصلوب، فجاءت أمه امراة عجوز كبيرة طويلة مكفوفة البصر تقاد فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ فقال لها الحجاج: تقولين عن هذا المنافق، فقالت: والله ما كان منافقاً، ولكنه كان صواماً قواماً براً، قفال: انصرفي إنك عجوز قد خرفت، قالت: لا والله ما خرفت، ولقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير» فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت المبير (¬1) . ويروى أن عبد الله بن عمر مر على ابن الزبير وهو مصلوب فقال: رحمك الله فإنك كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، وإنى أرجو أن لا يعذبك الله - عز وجل -. وقيل: إن الحجاج أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر بعد أن صلبه فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول: إما أن تأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، قال: فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلى من يسحبنى بقروني، فأخذ الحجاج بغلته وانطلق إليها حتى دخل عليها فقال لها: كيف رأيتينى صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك. وكان السبب في إنزاله من الخشبه أخوه عروة فإنه ذهب إلى عبد الملك بن مروان فرغب إليه في إنزاله من الخشبة فاسعفه فأنزل، ثم أمرت أمه أسماء ابن أبي ملكية بغسله ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (24/101، رقم 272) ، قال الهيثمي (7/256) : رواه الطبراني وأبو المحياة وأبوه لم أعرفهما.

فقال: كنا لا نتناول عضواً إلا جاء معنا، وكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه حتى فرغنا منه، ونتناول العضو الذي يليه فتغسله ثم نضع في أكفانه حتى فرغنا منه، ثم قامت تصلي عليه، وكانت تقول قبل ذلك: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته، فما أتت عليها جمعه حتى ماتت. «قال: أي عبد الله بن الزبير قلت للزبير» هذا هو قاتل الأبطال، وباذل الأموال، صاحب السيف الصارم، والرأي الحازم أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. قال العلماء: «الزبير» بضم الزاي «ابن العوام» بتشديد الواو لم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام الزبير، ويكنى: أبي عبد الله، يجتمع نسبه بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي بن كلاب، وينسب إلى أسد بن عبد العزى فيقال: القرشي الأسدى، أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلمت وهاجرت، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ابن خاله، وكان إسلامه بعد أبي بكر رابعاً أو خامساً قاله المحب الطبرى. وفي الكرمانى: أسلم رابع أربعة أو خامس خمسة على يد الصديق - رضي الله عنه - وكان عمره لما أسلم ستة عشر سنة، وقيل: اثنتى عشرة سنة. ولما أسلم كان عمه يلفه في حصير ويدخن عليه بالنار، ويقول له: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً. وصفته: أنه كان طويلا تخط رجلاه الأرض إذا ركب، خفيف العارضين، أسمر اللون، قال الكرماني: كان أشعر الكتف. ومن فضائله: أنه أحد العشرة المبشرون بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد المهاجرين الأولين إلى الحبشة والمدينة. ومن خصائصه: أنه أول من سل سيفاً في سبيل الله - عز وجل -، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعله ذلك وذلك أنه ورد عن سعيد بن المسيب أنه قال: أول من سل سيفاً في سبيل الله الزبير بن العوام، بينا هو بمكة إذ سمع نغمة يعني صوتاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، فخرج عرياناً ما عليه شيء، في يده السيف صلتاً، فتلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «مالك يا زبير؟» قال: سمعت أنك قد قتلت، قال: «فما كنت صانعاً؟» قال: أردت والله أن استعرض أهل مكة أي: أقتل ولا أسأل عن أحد قال: فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن فضائله: أنه حواري النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل نبى

حواري، وحواري الزبير» (¬1) . وفي صحيح مسلم: «ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم، فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لكل نبي حواري وحواري الزبير» (¬2) ومعنى الحواري: الناصر والحواريون أنصار عيسى -عليه الصلاة والسلام-، ومعنى ندب فانتدب أي: دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجاب. ومن فضائله: أنه كان على رأسه في غزوة بدر عمامة صفراء فنزلت الملائكة على رؤسهم عمائم صفر على سيماه قاله المحب الطبري. والحكمة في نزولهم موافقين له أن هذه الحرب أول حرب للملائكة فنزلت على سيما أول محارب لله - عز وجل - وفي سبيله. ومن فضائله: أنه شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان في صدره أمثال العيون من الطعن والرمي، وكان كثير الصدقة. قال كعب: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فما يدخل بيته منها درهم واحد كان يتصدق بذلك كله، وكان - رضي الله عنه - تاجراً محظوظاً أي: له حظ في التجارة، وسئل عن ذلك فقال: لأني لم أشتري معيباً ولم أزد ربحاً والله يبارك لمن يشاء. قتل - رضي الله عنه - في وقعة الجمل فإنه كان مع عائشة، قال أبو الأسود الدؤلى: لما دنا علي وأصحابه والزبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض خرج علي على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى الزبير فأقبل حتى اختلف أعناق دوابهما فقال علي: يا زبير نشدتك بالله أتذكر يوم مر بك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكان كذا وكذا وقال: «يا زبير تحب علياً؟» قلت: ألا أحب علياً ابن خالي وعلى ديني؟ فقال: «يا علي أتحبه؟» فقلت: يا رسول الله: ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني؟ فقال: «يا زبير لتقاتلنه وأنت له ظالم» قال: بلى ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3/1047، رقم 2692) ، ومسلم (4/1879، رقم 2415) ، والترمذي (5/646، رقم 3745) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (1/45، رقم 122) ، وأحمد (3/338، رقم 14675) ، وعبد بن حميد (1/328، رقم 1088) عن جابر بن عبد الله. وأخرجه الحاكم (3/408، رقم 5558) عن الزبير بن العوام، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه الترمذي (5/646، رقم 3744) وقال: حسن صحيح. والطبراني في الكبير (1/119، رقم 228) ، وابن أبي شيبة (6/377، رقم 32168) ، والحاكم (3/414، رقم 5579) ، وأحمد (1/102، رقم 799) ، وأبو يعلى (1/445، رقم 594) عن علي. (¬2) أخرجه مسلم (4/1879، رقم 2415) عن جابر بن عبد الله.

والله لقد أنسيته مذ سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك، فرجع الزبير على دآبته يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله، وقال مالك يعنى رجعت قال: ذكرني علي حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لتقاتلنه وأنت له ظالم» ولا أقاتله ثم رجع منصرفاً إلى المدينة (¬1) . قيل: علم أنه يقتل في ذلك اليوم فأنشد في حال رجوعه: ولقد علمت لو أن علمي نافعاً ... أن الحياة من الممات قريب فلما وصل إلى مكان بناحية البصرة يقال له: وادي السباع لحقه ابن جرموز، ومعه شخصان فقتلوه، ثم قطع ابن جرموز رأسه وجاء به علياً - رضي الله عنه - واستأذن في الدخول عليه فلم يأذن له بل قال لشخص عنده وقد علم بأن معه رأس الزبير: بشر قاتل ابن صفية بالنار. ورأى علي سيفه بعد ذلك فتأمل وقال: طالما فرج بهذا السيف الكرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كان قتله - رضي الله عنه - يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة ستة وثلاثين، وفي ذلك اليوم كانت وقعة الجمل، واختلف في سنة يوم قتل فقيل: سبع وستون سنة، وقيل: ست وستون سنة، وقيل: أربعة وستون، وقيل غير ذلك، ودفن في موضع قتله، ثم حول إلى البصرة، وقبره مشهور فيها. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانيه وثلاثون حديثاً، اتفقا منها على اثنين وانفرد البخاري بسبعة، أنشد فيه حسان بن ثابت: أقام على هدي النبي وعهده ... حواريه والقول بالفعل يعدل أقام على منهاجه وطريقه ... يولي ولي الحق والحق أعدل هو الفارس المشهور والبطل الذي ... يصول إذا ما كان يوماً يحجل له من رسول الله قربى قريبة ... ومن نصرة الإسلام مجد موثل فكم كربة ذب الزبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطي ويجزل إذا كشفت عن ساقها الحرب هشها ... بأبيض سباق إلى الموت يرفل فما مثله فيهم وما كان قبله ... وليس يكون الدهر ما دام يذبل ثناؤك خير من فعال معاشر ... وفعلك يا ابن الهاشميته أفضل ¬

(¬1) أخرجه الحاكم بنحوه من طريق آخر عن على (3/412، رقم 5573) .

« ... قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّى لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ. قَالَ أَمَا إِنِّى لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (¬1) . قال البرماوى: هذا الحديث في نهاية الصحة، وقيل: إنه متواتر، وقال بعضهم: روي عن أكثر من ستين صحابياً، منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقال بعض آخر: رواه مائتان من الصحابة. قال ابن الصلاح: ثم لم يزل عدده في إزدياد على الاستمرار، وليس في الأحاديث ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «كما يحدث فلان وفلان» : سمى منهما في رواية ابن ماجه عبد الله بن مسعود. قوله: «أما إني لم أفارقه» أي لم أفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زاد الإسماعيلي: «منذ أسلمت» والمراد في الأغلب وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة، وكذا لم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال هجرته إلى المدينة. وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال، لأن لازم الملازمة السماع، ولازمه عادة التحديث، لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذى ذكره. قوله: «من كذب علي» كذا رواه البخاري ليس فيه «متعمداً» وقد أخرجه الدارمي من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: «من حدث عني كذبا» ولم يذكر العمد. وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ، والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشى من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر، لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سبباً للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار، فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضى الله عنهم. قوله: «فليتبوأ» أي فليتخذ لنفسه منزلا، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضاً، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوء ويلزم عليه كذا، قال: وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ «بنى له بيت في النار» . قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوء. انظر فتح الباري (1/200 - 201) .

ما في مرتبته من التواتر ولا للمتواتر مثال إلا هو، وتوافره معنوي، فإن اختلاف الروايات في الألفاظ مع الاشتراك في المعاني نحو: «من تعمد علي كذباً» ، و «من يقل علي ما لم أقل» ، و «من كذب علي متعمداً» يسمى مثله بالمتواتر من جهة المعنى أي: القدر المشترك الحاصل من جميع الألفاظ متواتر. وادعى بعض العلماء: أنه ليس في الأحاديث حديث اجتمع على روايته إلا هذا ورده البرماوي وقال: قد اجتمع العشرة في حديث رفع اليدين والمسح على الخفين، وقال البرماوى أيضاً: المحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه متعمداً، وقد روي عن الزبير أنه قال: «والله ما قال متعمداً وأنتم تقولون متعمداً» (¬1) . قوله: «فليتبوأ» أمر للغائب يجوز فيه كسر اللام، والمشهور سكونها، والتبوء: اتخاذ المبأة أي: المنزل، فليتخذ له منزلاً من النار، وهو أمر معناه الخبر، وحينئذ فمعنى «فليتبوأ مقعده من النار» : أن الله يبوئه مقعده من النار، قال الكرماني: ويحتمل أنه أمر على حقيقته وأنه يلزم بالتبوء. قال الطيبى: الأمر بالتبوء تهكم وتغليظ، إذ لو قيل: كان مقعده النار لم يكن فيه هذا التغليظ. * * * ¬

(¬1) أخرجه الشاشي (1/97، رقم 34) .

قال البخاري: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثاً كَثِيراً أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِباً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (¬1) . قال الكرماني: قوله: «كذبا» عام في جميع أنواع الكذب، لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي في إفادة العموم. * * * ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «حديثا» : المراد به جنس الحديث، ولهذا وصفه بالكثرة. قوله: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم -» : هو وما بعده في محل الرفع لأنه فاعل «يمنعني» وإنما خشى أنس مما خشى منه الزبير، ولهذا صرح بلفظ الإكثار لأنه مظنة، ومن حام حول الحمى لا يأمن وقوعه فيه، فكان التقليل منهم للاحتراز، ومع ذلك فأنس من المكثرين لأنه تأخرت وفاته فاحتيج إليه ولم يمكنه الكتمان. ويجمع بأنه لو حدث بجميع ما عنده لكان أضعاف ما حدث به. ووقع في رواية عتاب مولى هرمز، سمعت أنسا يقول: «لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتك بأشياء قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» الحديث أخرجه أحمد، فأشار إلى أنه لا يحدث إلا ما تحققه ويترك ما يشك فيه. وحمله بعضهم على أنه كان يحافظ على الرواية باللفظ فأشار إلى ذلك بقوله: «لولا أن أخطئ» . وفيه نظر، والمعروف عن أنس جواز الرواية بالمعنى كما أخرجه الخطيب عنه صريحا، وقد وجد في رواياته ذلك كالحديث في البسملة، وفي قصة تكثير الماء عند الوضوء، وفي قصة تكثير الطعام. قوله: «كذبا» : هو نكرة في سياق الشرط فيعم جميع أنواع الكذب. انظر فتح الباري (1/201) .

قال البخاري: حَدَّثَنَا مَكِّىُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِى عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . (¬1) . قال ابن حجر: هذا أول ثلاثي وقع في البخاري، فيه أعلى من الثلاثيات، وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثاً والحديث الثلاثي هو ما كان فيه بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين البخاري ثلاثة. * * * ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: هذا الحديث أول ثلاثي وقع في البخاري، وليس فيه أعلى من الثلاثيات، وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثاً. قوله: «من يقل» : أصله يقول وإنما جزم بالشرط. قوله: «ما لم أقل» أي شيئا لم أقله فحذف العائد وهو جائز وذكر القول لأنه الأكثر وحكم الفعل كذلك لاشتراكهما في علة الامتناع وقد دخل الفعل في عموم هذه الأحاديث، فلا فرق في ذلك بين أن يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وفعل كذا إذا لم يكن قاله أو فعله، وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى. وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهى عن الإتيان بلفظ يوجب تغير الحكم مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/201 - 202) .

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِى حَصِينٍ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: َ «تَسَمَّوْا بِاسْمِى وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِى، وَمَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِى صُورَتِى، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (¬1) . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي» إيضاحه أنه يجوز التسمية باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يتكني بكنيته بل يكون التكني بغير كنيته - صلى الله عليه وسلم -. والكنية: ما صدر بأب أو أم كأبي بكر وأم هانيء. واللقب: ما أشعر بمدح أو ذم نحو: مجد الدين وكمال الدين، وأنف الناقة. والاسم: كمحمد وزيد وغيرهما. فاسم النبي - صلى الله عليه وسلم - المشهور: «محمد» ، وكنيته: «أبو القاسم» ، ولقبه: «رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» . وإذا علمت ذلك فاعلم أن في الحديث دلالة على جواز التسمي باسمه - صلى الله عليه وسلم - محمد أو غيره من أسمائه فإن ذلك نافع في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: ذكر البخاري هذا الحديث بتمامه في كتاب الأدب من هذا الوجه، وقد اقتصر مسلم في روايته له على الجملة الأخيرة وهي مقصود الباب، وإنما ساقه المؤلف بتمامه ولم يختصره كعادته لينبه على أن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - يستوي فيه اليقظة والمنام. والله سبحانه وتعالى أعلم. فإن قيل: الكذب معصية إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره، والمعاصى قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوعيد على من كذب على غيره؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما أن الكذب عليه يكفر متعمده عند بعض أهل العلم، وهو الشيخ أبو محمد الجويني، لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن بعده، ومال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر. وفيما قاله نظر لا يخفى، والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك. الجواب الثاني أن الكذب عليه كبيرة والكذب على غيره صغيرة فافترقا، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحداً أو طول إقامتهما سواء، فقد دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فليتبوأ» على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلا غيره، إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين، وقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الكذب عليه وبين الكذب على غيره. انظر فتح الباري (1/202 - 203) .

وقد ورد في فضل التسمي باسمه أخبار كثيرة روى عن أبي أمامة الباهلى - رضي الله عنه - عن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ولد له مولود فسماه محمدا حباً لي وتبركاً باسمي، كان هو ومولوده في الجنة» (¬1) . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا كان يوم القيامة ناد مناد من قبل الله - عز وجل - ألا من اسمه محمد فيلقم، فإذا اجتمعوا بين يدي الله - عز وجل - أمر بهم إلى الجنة كرامة لاسم النبي - صلى الله عليه وسلم -» . وروي عن الحسن البصري أنه قال: «إن الله ليوقف العبد بين يديه يوم القيامة اسمه أحمد أو محمد قال: فيقول الله تعالى له: عبدى أما استحييتني وأنت تعصينى واسمك اسم حبيبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فينكس العبد رأسه حياء ويقول: اللهم إني قد فعلت، فيقول - عز وجل -: يا جبريل خذ بيد عبدي فأدخله الجنة، فإني استحي أن أعذب بالنار من اسمه اسم حبيبى محمد - صلى الله عليه وسلم -» . وعن علي بن موسى الرضي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سميتم الولد محمداً فعظموه ووقروه وبجلوه ولا تذلوه ولا تحقروه ولا تجبهوه، ولا تردوا له قولا تعظيماً لمحمد - صلى الله عليه وسلم -» (¬2) . وجاء في الحديث: «إن البيت إذا كان فيه من اسمه محمد اتسع بأهله، وكثر خيره، وحضرته الملائكة، وبعد منه الشيطان» . وجاء في حديث آخر: «ما اجتمع قوم في مشورة ومعهم رجل اسمه محمد فلم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك لهم» (¬3) . وأما التكني بكنيته أبي القاسم فقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب إمامنا الشافعي وأهل الظاهر إلى أنه لا يحل لأحد أن يتكنى بأبي القاسم، سواء كان اسمه محمد أو غيره، كان في زمنه أو بعده، وحمل الشافعي ومن تبعه النهي على العموم، ومنع قوم ¬

(¬1) أخرجه الرافعي (2/343) عن أبي أمامة. (¬2) أخرجه الخطيب (3/91) . وأورده الذهبي في الميزان (4/59، ترجمة 4205 عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه) وذكر أنه حدث بنسخة موضوعة باطلة ما تنفك عن وضعه أو وضع أبيه. وأخرجه بنحوه الديلمي (1/340، رقم 1354) عن جابر. (¬3) أخرجه ابن عدي (1/168، ترجمة 4 أحمد بن كنانة شامى) ، وقال: منكر الحديث. وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/174، بعد رقم 267) عن علي.

من القائلين بهذا المذهب تسميته الولد بالقاسم، كي لا يكون سبباً لتكنيته والده بأبي القاسم، ويؤيد هذا قوله في الحديث: «إنما أنا القاسم» (¬1) فأخبر بالمعنى الذي اقتضى اختصاصه بهذا الكنية. وذهب الإمام مالك إلى جواز التكني به بعد زمانه، وجعل النهي مختصاً بحياته - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن الحديث ورد على سبب وهو: أن اليهود في زمانه تكنوا بهذه الكنية، وكانوا إذا رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادون يا أبا القاسم فيلتفت - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: لم نعنك، إظهاراً للإيذاء، قال: وقد زال ذلك المعنى. وذهب بعضهم إلى: أنه لا يجوز هذه التكنية لمن اسمه محمد ويجوز لغيره، واختار هذا المذهب الرافعي وقال: يشبه أن يكون هذا أصح، لأن الناس لم يزالوا يكتنون به في جميع الأعصار من غير إنكار. ورد النووي في الأذكار هذا المذهب وقال: فيه مخالفة لظاهر الحديث، واختار ما ذهب إليه الإمام مالك من تخصيص التحريم بحياته - صلى الله عليه وسلم - أخذاً من السبب المذكور. وقال في الروضة: إنه أقرب المذاهب أخذاً من سبب النهي، وضعفه البيهقي ومع أنه مخالف لقاعدة: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم قال: بل الأقرب ما رجحه الرافعي، وقال الأسنوي: إنه الصواب لما فيه من الجمع بين خبر الصحيحين المذكور وخبر: «من تسمى باسمي فلا يتكنى بكنيتي، ومن تكنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي» (¬2) وهذا الحديث رواه ابن حبان وصحح البيهقي إسناده. فإن قيل: يشكل على ما قاله الرافعي تكنية سيدنا علي ولده محمد بن الحنفية بأبي القاسم، فإنه جمع بين الاسم والكنية، وأجابوا عنه بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص له في ¬

(¬1) جزء من حديث صحيح متفق عليه ورد عن أكثر من صحابي فأخرجه البخاري (5/2290، رقم 5843) ، ومسلم (3/1682، رقم 2133) ، وأحمد (3/385، رقم 15169) ، والبيهقي (9/308، رقم 19107) عن جابر. وأخرجه البخاري (1/39، رقم 71) ، ومسلم (2/719، رقم 1037) ، وأحمد (4/99، رقم 16956) عن معاوية. (¬2) أخرجه البيهقي (9/309، رقم 19111) وأخرجه أيضًا: أبو داود (4/292، رقم 4966) ، وأحمد (3/313، رقم 14396) ، والطيالسي (ص 241، رقم 1750) عن جابر. وأخرجه أحمد (2/312، رقم 8094) ، وأبو يعلى (10/449، رقم 6063) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/146، رقم 1409) عن أبي هريرة.

ذلك كما قاله الشافعي وأصحابه، فإنه ورد في سنن أبي داود أن علياً قال يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد اسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: «نعم» (¬1) . وقال أحمد بن عبد الله: ثلاثة تكنوا بأبي القاسم رخص لهم: محمد بن الحنفية، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله قاله ابن الملقن. فإن قيل: يشكل على قول الرافعي أيضاً ما رواه أبو داود عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني قد ولدت غلاماً فسميته أبا القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك فقال: «ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي، أو ما الذي أحل كنيتي وحرم اسمي» (¬2) . أجاب شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر عنه وقال: يشبه إن صح أن يكون قبل النهي لأن أحاديث النهي أصح يعني هذا الحديث المذكور ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النهي عن التكنية بكنيته، وحينئذ فلا يشكل لأن المتاخر نسخه. فائدة: لم ينه عن التسمية باسمه - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان لا ينادى به غالباً ولو نودي به لم يجب إلا لضرورة قاله القاضي زكريا. فائدة أخرى: التكني بغير أبي القاسم جائز بلا خلاف. فائدة أخرى: المستحب إذا خاطب أهل الفضل ومن قاربهم أن يخاطبهم بالكنية، وكذا إذا كتب إلى شخص رسالة، وكذا إذا روى عنه روايته فيقول في الرسالة: السلام على أبي فلان. وفي الرواية: حدثنا الشيخ أو الإمام أبو فلان بن فلان. ومن الأدب أن الإنسان إذا كتب رسالة شخص أن لا يكتب كنيته فيها، بل ولا في غير الرسالة إلا أن لا يعرف إلا بالكنية، أو كانت الكنية أشهر من اسمه فله أن يكتبها، قال بعضهم: إذا كانت أشهر كتب اسمه وكتب بعده: المعروف بأبي فلان، ولنا عود إلى ذكر فوائد متعلقة بالكنية في محل آخر إن شاء الله تعالى. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» فقد اختلف العلماء في معناه فقال القاضي الباقلاني: معنى الرؤية أنها رؤية ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4/292، رقم 4967) . وأخرجه أيضا الحاكم (4/309، رقم 7737) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي (9/309) ، وابن أبي شيبة (5/263، رقم 25914) . (¬2) أخرجه أبو داود (4/292، رقم 4968) ، وأخرجه أيضا: البيهقي (9/309، رقم 19114) ، وأحمد (6/135، رقم 25084) .

صحيحة ليست بأضغاث أحلام ولا من تشبيهات الشيطان، ويدل على أن الرؤية في قوله: «فقد رآني» مؤوله برؤيا المنام لأنها رؤية حقيقية أن الرائي قد يراه على خلاف صفته المعروفة، كان يراه أبيض اللحية، وأنه قد يراه شخصان في زمن واحد أحدهما في المشرق والآخر في المغرب فيراه كل منهما في مكانه. قال حجة الإسلام الغزالي: ليس معنى «فقد رآني» : أنه رأى جبهتى وبدني بل رأى مثالاً صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في النفس إليه، بل البدن في اليقظة أيضاً ليس إلا آلة النفس، فالحق أن ما يرى حقيقة روحه المقدسة التي هي محل النبوة فما رآة من الشكل ليس هو روح النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شخصه بل مثال له. قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته منزهه عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس نور أو غيره، ويكون ذلك المثال حقاً في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله في المنام لا بمعنى أني رأيت ذات الله تعالى كما يقول في حق غيره. وقال ابن العربي القاضي (¬1) : إن رآه على صفته فهي هو حقيقة، وإن رآه على غير صفته فهي رؤيا تأويل لا حقيقة، والراجح كما قال الكرماني وغيره وصوبه النووي: حمل الحديث على ظاهره بأن يقال: معنى «فقد رآني» رؤيا حقيقية لا منامية وما مثالية، ولو رآه على غير صفته المعروفة أو في مكانين وليس لمانع أن يمنع ذلك، لأن العقل لا يحيله حتى يضطر إلى التأويل. فإن قيل: كيف تكون الرؤية حقيقية إذا رآه على غير صفته أو في مكانين؟ فالجواب: إن التغير المذكور ليس في ذاته بل في صفاته، وتكون ذاته مرئية وصفاته مستحيلة، والرؤية أمر يخلقه الله في الحي ولا يشترط أن يكون بمواجهته ولا تحديق بصر، ولا كون المرئي ظاهراً بل الشرط كون موجودا فقط حتى تجوز رؤية أعمى الصين من في قبة الأندلس، ولم يقم دليل على فناء جسمه - صلى الله عليه وسلم - بل الحديث يقتضي بقاءه. سؤال: فإن قيل: الحديث المسموع منه في المنام هل هو حجة يستدل به أم لا وإذا أمر أحد بشيء هل يجب عليه امتثال أم لا. فالجواب: أن الحديث المسموع منه - صلى الله عليه وسلم - في المنام ليس بحجة، إذا يشترط في الاستدلال به أن يكون الراوي ضابطاً عند السماع، والنوم ليس حاله الضبط، وإذا أمر أحد بشيء لا يجب عليه امتثاله على الأصح لكن يستحب. ¬

(¬1) ابن العربي القاضي هو أبو بكر، أبو بكر بن بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، من حفاظ الحديث، ومن علماء المالكية، ولد بإشبيلية، ورحل إلى المشرق، وبرع -رحمه الله- في الفقه، والحديث، والأصول، وعلوم القرآن، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين من تصانيفه: شرح على الترمذي، وأحكام القرآن توفي سنة: 543هـ. انظر: شذرات الذهب (4/141) ، وتذكرة الحفاظ (4/86) .

سؤال: فإن قيل: إذا رآه شخص في المنام قلنا إنه هو حقيقة فهل يطلق على الشخص الرائي أنه صحابي أم لا؟ فالجواب: لا يطلق عليه بمجرد رؤيته في المنام أن صحابي، لأن الصحابي مسلم رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرؤية المعهودة الجارية على العادة، أو رآه في حياته في الدنيا، لأنه أخبر - صلى الله عليه وسلم - الناس عن الله تعالى في الدنيا لا في القبر، فالصحبة إنما تثبت وتعتبر حال كونه مخبراً عن الله تعالى. وقوله: «فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» يحتمل أن يراد بالشيطان هنا إبليس شخصه، فتكون الألف واللام للعهد، ويحتمل أن يراد غيره من نوعه، فالألف واللام للجنس. والشيطان: إما مشتق من «شاط» بمعنى هلك فيكون على وزن «فعلان» ، وإما من «شيطان» أي: بعد على وزن «فيعال» . ومعنى: «لا يتمثل في صورتي» لا يتصور في صورتي، وعدم تصور الشيطان بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم - معدود من خصائصه، والحكمة في ذلك حتى لا يكذب لعنه الله على لسانه - صلى الله عليه وسلم - في النوم. لطيفة: قال في الروض الفائق عن أبي محمد بن العلاء رحمة الله تعالى أنه قال: دخلت المدينة وقد غلب علي الجوع، فزرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه وعلى الصحابيين أبي بكر وعمر رضى الله عنهما، وقلت يا رسول الله جئت وبي من الفاقة والجوع ما لا يعلمه إلا الله - عز وجل -، وأنا ضيفك في هذه الليلة، ثم غلبني النوم فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فأعطاني رغيفاً فأكلت نصفه، ثم انتبهت من المنام ونصفه الآخر في يدي فتحقق عندي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي» ثم نوديت يا أبا عبد الله لا يزور قبري أحد إلا غفر له، ونال شفاعتي غداً. فائدة: جميع الأنبياء كنبينا - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخصوصية وهي: أن من رآهم في المنام فهم هم، ولا يتمثل الشيطان في صورتهم، كما نبه على ذلك الكرماني نقلاً عن محيي السنة، فمن عد هذه الخاصة من خصائص نبينا أراد بها الخاصة الإضافية أي: بالنسبة إلى الأمة لا حقيقية لمشاركة الأنبياء له فيها. وقال الدماميني (¬1) في خصائصه: لم أقف على أن جميع الأنبياء كنبينا في هذه الخاصة، ولكن جلالة مقام النبوة تقتضي أن لا يتسلط الشيطان على التمثيل بصورة أحد من أهلها المصطفين الأخيار، كائناً من كان لكراماتهم على الله، ورفعة منزلتهم عنده ¬

(¬1) الدماميني هو: عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن أبي بكر الدماميني، قاض مالكي قرشي مخزومي من أهل من أهل الاسكندرية، ولي قضاءها أكثر من ثلاثين سنة، قال السخاوي: صار وجيها ضخم الرياسة مع نقص بضاعته في العلم، وقال العيني: لم يكن له اشتغال بالعلم بل ان يخدم الناس كثيراً. قلت: والناظر إلى نموذج خطه، لا يجرده من العلم، وحسبه ثلاثون سنة في القضاء، وكانت وفاته سنة: 845 هـ‍.

فينبغي تحرير النقل في ذلك، هذه عبارته وكأنه لم يقف على عبارة الكرماني. فائدة أخرى: ورد في الحديث: «إن أول ما يرفع من الأرض رؤيته - صلى الله عليه وسلم - في المنام والقرآن والحجر الأسود» . فائدة أخرى: قال علماء التعبير من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نومه فإن كان مغموماً ذهب غمه، وإن كان مديوناً قضى الله دينه، وإن كان مغلوباً نصره الله تعالى، وإن كان محبوساً أطلق، وإن كان عبداً أعتق، وإن كان غائباً رجع إلى أهله سالماً، وإن كان معسراً أغناه الله تعالى، وإن كان مريضاً شفاه الله تعالى، وإن رآه في أرض حرب فإن أولئك الجند ينتصرون على عدوهم، وإن رآه في أرض مقحطة فإن أهلها يخصبون ويرفع عنهم القحط. قيل: وإن رآه في صورة شاب طويل فإنه يكون فتنه في الناس وقتلاً كثيراً، وإن رآه في صورة شيخ كبير فإن الناس في عافية، وإن رآه وهو أبيض يعلوه حمرة وعليه ثياب بيض، فإنه يتوب إلى الله تعالى ويحسن عمله وتستقيم طريقته. فائدة أخرى: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي» (¬1) . قوله: «فسيرانى في اليقظة» زيادة على الحديث الذي ساقه البخاري هنا، وقد اختلف العلماء في معناه. فقيل: معناه أن من رآني في منامه فسيراني يوم القيامة، ورد هذا بأن كل أمته يوم القيامة يراه من رآه منهم في منامه ومن لم يره، فلا فائدة لتخصيص ذلك بمن رآه. وقيل: معناه أن من آمن به في حياته ولم يره لكونه غائباً عنه، فإذا رآه في النوم يكون مبشراً له أنه لابد وإن يراه في اليقظة قبل موته. والصحيح: حمل الحديث على ظاهرة بأن يقال: إن كل من رأى النبي في منامه لابد وأن يراه في اليقظة بعيني رأسه، وهو عام شامل لكل من رآه في النوم في حياته وبعد مماته، وشامل لمن فيه الأهلية كالخواص ومن لا أهلية له كالعوام. واستشكل الحديث من جهة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته في عالم الغيب فكيف يراه الحي وهو في عالم الشهادة، ورد هذا الإشكال ابن أبي جمرة وقال: في هذا القول من ¬

(¬1) أخرجه البخاري (6/2567، رقم 6592) ، ومسلم (4/1775، رقم 2266) ، وأبو داود (4/305 رقم 5023) . وأخرجه أيضا: أحمد (5/306، رقم 22659) .

المحذور وجهان خطران أحدهما: عدم التصديق بقول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى. والثاني: الجهل بقدرة القادر وتعجيزها فإنه تعالى قادر أن يجعل رؤيته في النوم - صلى الله عليه وسلم - سبباً لرؤيته في اليقظة. قال شيخنا جلال الدين السيوطي في كتابه تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - والملك: ولا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده وروحة، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا، وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، وقال: قال الأستاذ أبو منصور عبد الظاهر بن طاهر البغدادي من المتكلمين المحققين من أصحابنا: إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حي بعد وفاته، وأنه يبشر بطاعات أمته، ويحزن بمعاصي العصاة منهم، وأنه تبلغه صلاة من يصلي عليه من أمته، وقال: إن الأنبياء لا يبلون ولا تأكل الأرض منهم شيئاً، وقد مات موسى في زمانه وأخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه رآه في قبره مصلياً (¬1) . وقال البيهقي: النبي - صلى الله عليه وسلم - حي بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته، لم يتبدل منه شيء وأنه غيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله رفع الحجاب عمن أراد الكرامة برؤيته فيراه على هيئته التي هو عليها فلا مانع من ذلك، ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال، وأكثر ما يقع هذه الرؤية للعامة قبيل الموت عند الاحتضار فلا تخرج روح من رآه في منامه حتى يراه في اليقظة، وفاء بوعده - صلى الله عليه وسلم - وأما غير العامه وهم الخواص فتحصل لهم هذه الرؤية في طول حياتهم، إما كثيراً وإما قليلاً بحسب اجتهادهم ومحافظتهم على السنة، فالإخلال بالسنة مانع كبير. وقد نقل عن كثير من السلف والخلف ممن كانوا رأوه - صلى الله عليه وسلم - في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث، فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التي منها فرجها، فجاء الأمر ¬

(¬1) أخرجه مسلم (4/1845، رقم 2375) ، والنسائي (3/215، رقم 1631) ، وابن حبان (1/242، رقم 50) ، وابن أبي شيبة (7/335، رقم 36575) ، وأحمد (3/148، رقم 12526) ، وأبو يعلى (6/71، رقم 3325) ، وعبد بن حميد (1/362، رقم 1205) ، وأبو نعيم في الحلية (6/253) عن أنس.

كذلك بلا زيادة ولا نقص. حكي عن ابن عباس - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فتذكر هذا الحديث، وبقي يفكر فيه، ثم دخل على بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ميمونة فقص عليها قصته، فقامت وأخرجت له مرآته - صلى الله عليه وسلم - قال - رضي الله عنه -: فنظرت في المرأة فرأيت صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم أر لنفسي صورة. وعن الشيخ عفيف الدين اليافعي عن الشيخ الكبير قدوة الشيوخ العارفين وبركة أهل زمانه أبي عبد الله القرشي قال: لما جاء الغلام الكبير إلى مصر توجهت لأن أدعو فقيل لي: لا تدعو لا يسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء، فسافرت إلى الشام فلما وصلت إلى قرب ضريح الخليل - عليه السلام - تلقاني الخليل أي: في اليقظة فقلت: يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك الدعاء لأهل مصر، فدعا لهم ففرج الله عنهم، قال اليافعي: فقوله: «تلقاني الخليل» قول حق لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السماوات والأرض، وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات كما نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى موسى في الأرض، وقد تقرر أن ما جاز للأنبياء معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدي. وحكى الشيخ الإمام سراج الدين ابن الملقن في طبقات الأولياء عن الشيخ الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الظهر أي: في اليقظة فقال: يا بني لم لا تتكلم قلت يا أبتاه أنا رجل عجمي كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال: افتح فاك، قال: فقتحنه، فتفل فيه سبعاً، وقال: تكلم على الناس، وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير، فارتج علي فرأيت علياً قائماً بإزائي في المجلس فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد ارتج علي فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستاً، فقلت: لم لا تكملها سبعاً؟ قال: أدباً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم توارى عني فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على دار المعارف، فيستخرجها إلى ساحل الصدر، فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان، فتشترى بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع. * * *

المجلس الخامس والثلاثون

المجلس الخامس والثلاثون في قصة موسى مع الخضر صلوات وسلامه عليهما الحمد لله الذي جعل العلم للعلماء نسباً، وأغناهم به وإن عدموا مالاً ونسباً، ولأجله فاز إدريس بالجنة واخبتا، ولطلبه قام الكليم ويوشع وانتصبا، فسار إلى أن لاقيا في سفرهما نصباً، وبسببه خلق الله آدم للبشر أباً، وأمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أبى، واستخرج من ذريته قبائل وشعباً، وأجرى عليهم قلم القضا، وجعل لكل شيء سبباً، وفق أهل العلم بعنايته فقاموا في خدمته رغباً ورهبا، وفقهم إذ عرفهم أحكامه فأحرزوا به رتبا، وجعلهم في الدنيا كالأعلام وهداة للأنام فاقتفوا به جداً وأبا، وقذف في قلوبهم من المشكلات ما كان بعيداً محتجبا، وكساهم به عزاً وجلالة وسمتاً ومهابة فغدا كل منهم مكرماً ومجتبى، وأذاقهم حلاوة أحكامة فما وجدوا في سفر طلبه تعبا، فإذا وفدوا إليه في القيامة ألبسهم تيجان الكرامة وناداهم أهلاً وسهلاً ومرحبا. قَالَ البُخَارِي: بَاب مَا يُستَحبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفاً الْبِكَالِىَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ خَطِيباً فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِى بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ احْمِلْ حُوتاً فِى مِكْتَلٍ فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهْوَ ثَمَّ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلاَ حُوتاً فِى مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَباً، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهِمَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِى أُمِرَ بِهِ. فَقَال لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِى، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ - أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ - فَسَلَّمَ مُوسَى. فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ فَقَالَ أَنَا

مُوسَى. فَقَالَ مُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِى مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً، يَا مُوسَى إِنِّى عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ. قَالَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلاَ أَعْصِى لَكَ أَمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِى الْبَحْرِ. فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِى وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِى الْبَحْرِ. فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ. فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ. فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً. فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ. فَقَالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا - قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهَذَا أَوْكَدُ - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ. قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ» . قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا» (¬1) . ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر وفي قصة موسى والخضر من الفوائد: أن الله يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء مما ينفع أو يضر، فلا مدخل للعقل في أفعاله ولا معارضة لأحكامه، بل يجب على الخلق الرضا والتسليم، فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث. وإن العقل لا يحسن ولا يقبح وإن ذلك راجع إلى الشرع: فما حسنه بالثناء عليه فهو حسن، وما قبحه بالذم فهو قبيح. وإن لله تعالى فيما يقضيه حكماً وأسراراً في مصالح خفية اعتبرها كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقل يتوجه إليه، بل بحسب ما سبق في علمه ونافذ حكمه، فما أطلع الخلق عليه من تلك الأسرار عرف، وإلا فالعقل عنده واقف. فليحذر المرء من الاعتراض فإن مآل ذلك إلى الخيبة. ولننبه هنا على مغلطتين: الأولى: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكا بهذه القصة وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة ولم ينظر فيما خص الله به موسى - عليه السلام - من الرسالة وسماع كلام الله وإعطائه التوراة فيها علم كل شيء، وإن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ويخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى، وأدلة ذلك في القرآن كثيرة، ويكفي من ذلك قوله تعالى: ?إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي? [الأعراف: 144] . قال: والخضر وإن كان نبيا فليس برسول باتفاق، والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم. وإن قلنا إن الخضر ليس بنبي بل ولي فالنبي أفضل من الولي، وهو أمر مقطوع به عقلاً ونقلا، والصائر إلى خلافه كافر لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة. قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحاناً لموسى ليعتبر. ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم، لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار. فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى، ويؤيده الحديث المشهور: «استفت قلبك وإن أفتوك» قال القرطبي: وهذا القول زندقة وكفر، لأنه إنكار لما علم من الشرائع، فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبينين لشرائعه وأحكامه، كما قال الله تعالى: ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ? [الحج: 75] وقال: ?اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ? [الأنعام: 124] وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به فإن فيه الهدى. وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها عن الرسول فهو كافر يقتل ولا يستتاب. قال: وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا، لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه لأن الذي يقع فيه هو حكم الله وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة كما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «إن روح القدس نفث في روعي» . قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت. وكذا قال آخر: أنا آخذ عن قلبي عن ربي. وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع، ونسأل الله الهداية والتوفيق. وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعله فقد ضل، وليس ما تمسك به صحيحاً، فإن الذي فعله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع، فإن نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعاً وعقلاً، ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحسب الظاهر. وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة. وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/219 – 222) .

قوله: «إِنَّ نَوْفاً الْبِكَالِىَّ» : قال العلماء: نوفا هذا هو ابن فضالة، وكنيته أبو زيد وقيل: أبو رشيد، وهو ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخيه. قال ابن رجب: وهو ممن أسلم من أحبار اليهود، وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير، فلهذا يقال له البكالي، وكان من علماء التابعين. «يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ» : معنى هذا: أن سعيد بن جبير قال لابن عباس أن نوفا يزعم أن موسى الذي قص الله تعالى لنا قصته مع الخضر في سورة الكهف، ليس موسى بنى إسرائيل الذي هو موسى بن عمران، بل هو موسى آخر موسى بن ميشا (¬1) ، فلما سمع ذلك ابن عباس عن نوفا قال عنه: «كذب عدو الله» حيث قال: إنه ليس موسى بن عمران. وقد استشكل العلماء قول ابن عباس في حق نوفا: «كذب عدو الله» وقالوا: كيف يكون عدو الله وهو مؤمن، وكان عالماً قاضياً إماماً لأهل دمشق. وأجابوا عنه بأجوبة: أحدها: أن المراد كذب شيطانه الحامل له على هذه المقالة. ثانيها: أن قول ابن عباس كذب عدو الله خرج مخرج التنفير من كلامه حيث قال: «إن موسى الذي قصد الخضر ليس موسى بن عمران بل موسى آخر» وليس المراد القدح فيه. ثالثها: أن ابن عباس قاله في حالة الغضب، وحال الغضب تطلق الألفاظ ولا يراد بها حقائقها. «قال ابن عباس: حَدَّثَنَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ» : هذا هو الصحابي الجليل الأنصاري الخزرجي، وكان رجلاً قصيراً نحيفاً أبيض الرأس واللحية، شهد العقبة الثانية وبدراً وما بعدها من المشاهد، وكان كاتب الوحي، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهده أيضاً. ومن فضائله: أنه أقرأ الصحابة لكتاب الله تعالى. ¬

(¬1) قال ابن حجر في الفتح (1/219) : قوله: «انما هو موسى آخر» كذا في روايتنا بغير تنوين فيهما، وهو علم على شخص معين قالوا: إنه موسى بن ميشا بكسر الميم وبالشين المعجمة، وجزم بعضهم أنه منون مصروف لأنه نكرة، ونقل عن ابن مالك أنه جعله مثالاً للعلم إذا نكر تخفيفاً.

ومن فضائله ومناقبه التي لم يشاركه فيها أحد من الصحابة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرني الله تعالى أن أقرأ عليك القرآن» (¬1) وسنذكر في المجالس الآتية حكمة أمر الله له بالقراءة عليه. سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنصار، وسماه عمر سيد المسلمين روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائه حديث وأربعة وستون حديثاً، ذكر البخاري منها سبعة أحاديث مات سنة تسع عشرة أو عشرين أو ثلاثين بالمدينة. «عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ» : قال العلماء: كان موسى صلوات الله وسلامه عليه من ذرية إبراهيم الخليل، فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاو بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان عمره حين مات كما قاله ابن الملقن مائة وعشرين سنة. واختلف العلماء في السبب الذي قصد موسى لأجله الخضر، فقيل سببه: أن موسى سئل ربه فقال: أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: أي رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال: فهل في عبادك في الأرض أعلم مني؟ قال: نعم، قال: رب من هو؟ قال: الخضر ثم نعته له ودله على مكانه فقصده. وقيل سببه: أن موسى لما ظهر على فرعون وغلبه وأخذ مصر من القبط، وأهلكهم الله واستقر هو وبنو إسرائيل، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام «موسى النبي خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه» أي: لم يرض الله بقوله أنا أعلم، فإنه كان من حقه أن يرد العلم إلى الله، بأن يقول: الله أعلم به أو يرد برد الملائكة أن يقول: لا علم لنا إلا ما علمتنا، فإن مخلوقات الله لا يعلمها إلا الله قال الله تعالى: ?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ? [المدثر: 31] . وليس معنى العتب هنا المؤاخذة وتغير النفس، فإن ذلك في حق الله مستحيل. «فأوحى الله إليه» : لما لم يرد العلم إليه. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط (2/88، رقم 1337) عن أبي بن كعب. وأخرجه البخاري (4/1896، رقم 4676) ، ومسلم (1/550، رقم 799) ، والنسائي في الكبرى (5/66، رقم 8238) ، وأحمد (3/218، رقم 13310) عن أنس.

وقال: «إن عبداً من عبادي بمجمع البحرين» أي: عند ملتقى البحرين وهما بحر فارس وبحر الروم مما يلي المشرق. «هو أعلم منك، قال: يارب كيف به» أي: على أي حال يكون الطريق إلى ملاقاته، وجاء في رواية: «قال يارب فدلني عليه حتى أتعلم منه» . «فقيل له: احمل حوتاً في مكتل» أي: إذا أردت الاجتماع به فاحمل معك حوتاً سمكة في مكتل أي: في زنبيل واذهب إليه. قال: «فإذا فقدته فهو ثم» أي: إذا فقدت الحوت فالعبد الذي هو أعلم منك هناك، فجعل فقد الحوت علامة ودليلاً على مكانة. «فانطلق» أي: موسى، «وانطلق بفتاه» أي: بصاحبه «يوشع بن نون» قاصدين الخضر. قال أبو عبد الله: «يوشع» يجوز أن يقال: بالشين المعجمة وإن يقال بالسين المهملة، يوشع كان نبياً في زمن موسى صلوات الله وسلامه عليهما سواء. فإن قيل: عدوا من جملة شروط النبوة أن يكون النبي أكمل أهل زمانة، وهذا يستلزم عدم جواز إرسال نبيين في عصر واحد، فكيف أرسل يوشع في زمن موسى وهارون أخوه أيضاً في زمنه، فإن إرسال موسى وأخيه ثابت بنص القرآن قال الله تعالى: ?اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ? [طه: 43] . وقال: ?فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا? [الشعراء: 15] . وقال: ?فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ? [طه: 47] . جوابه: أن معنى هذا الشرط والمراد منه أنه يشترط أن يكون أكمل أهل زمانه ممن ليس نبياً فهو شرط عام، ولكنه مخصوص كما أفاد ذلك ابن الهمام وشيخنا ابن أبي الهمام في المسايرة وشرحها. «وحملا حوتاً في مكتل» أي: تزودا عند سفرهما لأجل الخضر بسمكة مالحة وضعاها في مكتل وسارا. «حتى كانا عند الصخرة» أي: حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين أي: بين البحرين قيل: وكانت هذه الصخرة دون نهر الزيت بالمغرب. والحكمة في أنهما اجتمعا بمجمع البحرين: أنهما بحران في العلم، وكان عند الصخرة عين ماء تسمى ماء الحياة، لا يصيب ذلك الماء شيئاً ميتاً إلا حي بإذن الله تعالى، وكان قد أكلا من ذلك الحوت أحد جنبيه، وبقي الجنب الآخر، فلما وصلا إلى الصخرة «وضعا رؤوسهما فناما» .

قيل: قام يوشع بن نون وتوضأ من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش. وقيل: أصابه روح الماء وبرده فاضطرب في المكتل وعاش. «فانسل الحوت من المكتل» أي: فخرج منه فسقط في البحر كما قال تعالى: ?فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً? [الكهف: 61] أي: ذهب في البحر ذهاباً. قيل: وأمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق أي: مثل عقد البناء وهو: ما ترك تحته خالياً وعقد أعلاه بالبناء. فائدة: اتفق هنا معجزتان: إحداهما: حياة السمكة المملوحة المأكول منها. والثانية: صيرورة الماء مثل السرب المحفور تحت الأرض كما جاء في رواية: «فجعل الماء لا يلتئم حتى صار كالكوة» . وهاتان المعجزتان إما موسى أو للخضر. «وكان لموسى وفتاه عجباً» . فائدة: قال الدميرى: قال أبو حيان الأندلسي: رأيت سمكة بقرب مدينة «سبته» من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه بصفته، فأحياه الله تعالى فاتخذ سبيله في البحر سرباً، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع، وهي سمكة طولها أكثر من ذراع، وعرضها شبر واحد أحد جنبيها شوك وعظام، وجلد رقيق على أحشائها وعينها ورأسها نصف رأس، من رآها من هذا الجانب استنفرها، ويحسب أنها مأكوله، ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة. ومن غريب ما روى أيضاً: أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد حجراً طريقاً وإن موسى مشى عليه تبعاً للحوت حتى أفضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر فيها وجد الخضر. فلما استيقظ موسى نسى صاحبه يوشع أن يخبره بالحوت. «فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما» وفي رواية في البخاري في التفسير وفي مسلم أيضاً: «فانطلقا بقية يومهما وليلتهما» (¬1) وهو الصواب وكما قاله البرماوي وابن الملقن لقوله: «فلما أصبح» . ¬

(¬1) أخرجه البخاري (4/1752، رقم 4448) ، ومسلم (4/1847، رقم 2380) ، والترمذي (5/309، رقم 3149) .

وجاء في رواية: «حتى إذا كان من الغد وارتفع النهار حتى جاء وقت الظهر» . «قال موسى لفتاه آتنا غدآءنا» والغداء: بفتح الغين المعجمة والممدودة الطعام الذي يؤكل أول النهار. «لقد لقينا من سفرنا هذه نصبا» أي: تعباً، وإنما حصل لسيدنا موسى التعب والجوع بعد مفارقة الحوت لا قبله، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولم يجد موسى مساً من النصب حتى جاوز المكان الذي أُمر به» . والحكمة في حصول التعب له والجوع بعد مفارقة الحوت حتى يطلب الغداء، فيذكر فيه نسيان الحوت، فيرجع إلى محله فيجتمع بمراده. قال أبو الفضل الجوهري: مشى موسى - عليه السلام - للمناجاة أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع. «فقال لفتاه» يوشع لما طلب منه الغداء «أرأيت إن أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت» أي: لما نمنا عند الصخرة نسيت الحوت. سؤال: فإن قيل: كيف نسى يوشع الحوت ومثله لا ينسى، لكونه أمارة على مرادهما. جوابه: أن الشيطان قد شغله بوسواسه حتى نسي، ولذلك قال: ?وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ? [الكهف: 63] . «قال موسى» له لما استمع قوله: فإني نسيت الحوت «ذلك ما كنا نبغ» أي: فقدنا للحوت هو الذي كنا نطلبه، لأنه علامة على وجود مطلوبنا. «فارتدا على آثارهما قصصاً» أي: فرجعا يقتصان الآثار حتى وصلا إلى الصخرة. «فلما أتيا إلى الصخرة» أراه مكان فقد الحوت. «إذا برجل مسجى بثوب، أو قال: تسجى بثوبه» أي: فلما وصل إلى الصخرة وإذا بالخضر مغطىً بثوب كله كتغطية الميت وجهه ورجله وجميعه، كما جاء في رواية أخرى: «قد تسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه» . وقال الثعلبي: فانتهى موسى وفتاه إلى الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء، على وجه الماء، وهو مسجي بثوب أخضر. وفي صحيح البخاري (¬1) : «فأتيا جزيرة فوجدا الخضر قائماً يصلي على طنفسة ¬

(¬1) وقع في الأصل صحيح مسلم ولم نقف على هذه الرواية في صحيح مسلم فلعل الصواب ما أثبتناه.

خضراء على كبد البحر» (¬1) أي: وسطه. «فسلم موسى» على الخضر، «فقال» له «الخضر وأنى بأرضك السلام» أي: من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها السلام، فأني اسم استفهام بمعنى: من أين هنا، كما في قوله تعالى: ?أَنَّى لَكِ هَذَا? [آل عمران: 37] فإنها نكون بمعنى: من أين، وبمعنى: متى وحيث وكيف. وتعجب الخضر من وقوع السلام إما لأن السلام لم يكن معروفاً عندهم إذ ذاك، إلا بين الأنبياء والأولياء، وإما لأن تلك البلاد كانت بلاد كفر وهم لا يعرفون السلام. فلما قال له الخضر: «وأنى بأرضك السلام» تحقق موسى أن الخضر عرفه فعرَّفه بنفسه «فقال: أنا موسى فقال» له الخضر: أنت «موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم» . وقال بعض العلماء: إن موسى لما سلم عليه وهو مغطى عرَّفه أنه موسى، فرفع رأسه واستوى جالساً وقال: عليك السلام يا نبي بنى إسرائيل، قال: ما الذي أدراك بي، ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراك بي ودلك علي، ثم قال الخضر: يا موسى أما يكفيك أن التوراة بيدك، وأن الوحي يأتيك، قال موسى: إن ربي أرسلني لأتبعك وأعلم من علمك. ثم «قال» موسى للخضر: «هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً» أي: صواباً أرشد به، وإنما سأله ذلك لأن الزيادة إلى العلم مطلوبة. سؤال لصاحب الكشاف وهو: فإن قيل: دلت حاجته إلى العلم من الخضر أنه ليس موسى بن عمران بل موسى بن ميشا لأن موسى بن عمران نبي، والنبى يجب أن يكون أعلم أهل زمانه. وأجاب: أنه لا نقص بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله. وقال الكرماني: وهذا الجواب لا يتم على القول بولاية الخضر، ثم أجاب: بأن موسى لم يسأل الخضر عن شيء من أمر الدين، والأنبياء لا يجهلون ما يتعلق بدينهم الذي يعبدون الله به، وإنما سأله عن شيء ليس عنده علمه مما ذكر في السورة. فلما سأل موسى الخضر أن يتبعه حتى يتعلم منه «قال» له الخضر: «إنك لن ¬

(¬1) أخرجه البخاري (4/1754، رقم 4449) .

تستطيع معي صبراً» يعني: إنك سترى مني شيئاً ظاهره منكر فلا تصبر عليه. ثم قال له الخضر أيضاً: «يا موسى إني أعلم علم من علم الله علمينه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه إياه الله لا أعلمه» أنا. جاء في رواية: «أن الخضر قال له: فما شأنك إن الوحي يأتيك يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه» . ثم قال له: «وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً» يعني: على ما لم تعلمه. «قال» له موسى: «ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً» : إنما قال موسى إن شاء الله لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم من عدم عصيانه، وهذه عادة الأنبياء والأولياء ألا يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين. فقال الخضر: «فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً» يعني: إذا رأيت مني ما تنكره باطناً بحسب علمك، فاصبر حتى أبينه لك بعلته بحسب علمي، فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم. «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول» . سؤال: فإن قيل: كيف قال «فحملوهما» مع أنهم كانوا ثلاثة الخضر وموسى ويوشع، ويدل عليه قوله: «فكلموهم» . فالجواب: أن يوشع لما كان تابعاً اكتفي بذكر الأصل عن الفرع، وهذا نظير قوله تعالى: ?فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى? [طه: 117] ولم يقل فتشقيان، بل ثنى ثم أفرد، لأن آدم هو الأصل فأفرد بالذكر، وحواء كانت تابعة فلم تذكر اكتفاءً بذكر الأصل عن الفرع. فالحاصل: أن أهل السفينة حملوا الثلاثة في سفينتهم بغير أجرة. «فجاء عصفور» وذكر بعضهم: أنه الصُّرَد قاله الزركشي. «فوقع على حرف السفينة» أي: على طرفها «فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور» نقص علمي وعلمك من علم الله عز وجل لاكتفون هذا العصفور في البحر. استشكل العلماء هذا وقالوا: إن ظاهره يقتضي أن علم الله يدخله النقص مع أن الزيادة والنقص لا يدخلان في علم الله تعالى؟

وأجابوا عن الاستشكال المذكور بأجوبة: أحدهما: أن هذا على جهة التمثيل، والمعنى: أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما نقر العصفور من البحر، فإنه لقلته وحقارته لا يظهر، وكأنه لم يأخذ شيئا. الثاني: أن «إلا» هنا بمعنى «ولا» كأنه قال: ما نقص علمي وعلمك شيئاً من علم الله، ولا ما أخذ العصفور من هذا البحر، أي: أن علم الله لا يدخله النقص ومثل هذا قوله تعالى ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً? [النساء: 92] . والثالث: أن «إلا» على بابها، والمراد بالنقص: التفويت الذي له أثر محسوس، ونقر العصفور ليس ينقص البحر بهذا المعنى، فكذلك علمنا لا ينقص من علم الله شيئاً. وهذا كقول الشاعر: ولا عيب فيه غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب أي: ليس فيهم عيب. الرابع: أن العلم هنا بمعنى: المعلوم كالعمل في قوله تعالى: ?وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ? [البقرة: 256] ولولا ذلك لما صح دخول التبعيض فيه، لأن الصفة القديمة لا تبعض. الخامس: لابن رجب وهو جواب حسن قال: إن البحر لا ينقص البتة من العصفور، بل ولا بشرب غيره من الحيوانات، بل ولا بالاستسقاء منه، ولو نزف منه جميه أهل الأرض لم ينقص شيئاً في الحقيقة، وذلك أن البحر يمده جميع أنهار الدنيا، ومياهها الجارية، فلا يؤخذ منه شيء، إلا وفي تلك الحال يستخلف فيه ما هو أكثر مما أخذ منه، فلا يتصور نقصه مع ذلك. وشبه ذلك بما في الجنة من طعام وشراب وثمار وغيرها قال: فإنها لا تنقص أبداً مع تناول أهل الجنة منها، فإنه يستخلف في الحال مثل المأخوذ منه أو أكثر فالمعنى: إن علمي وعلمك لا ينقص من علم الله شيئاً كما لا ينقص هذا العصفور من هذا البحر شيئاً، وهذا كقوله تعالى: ?لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاماً? [مريم: 62] أي: لا يسمعون فيها لغو البتة. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة» أي: بعد أن توسطوا البحر. «فنزعه» وقيل: نزع لوحين منها.

وقد جاء في رواية في الصحيح: «أنه وتد فيها وتداً» . وفي رواية أخرى: «أنه عمد إلى قدوم» أي: فأس «فخرق لوحاً من السفينة حتى دخلها الماء» . «فقال موسى» بعد أن دخل الماء السفينة وحشا الخرق بثوبه، وقيل: إن الماء لم يدخلها وسدها موسى بثوبه خوفاً من دخوله. «قوم حملونا بغير نول» وأحسنوا إلينا. «فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها» أي: ما هذا جزاؤهم منا. «لقد جئت شيئاً إمراً» أي: لقد فعلت فعلاً عظيماً منكراً. فقال الخضر لموسى: «ألم أقل إنك لم تستطيع معي صبراً» فاعتذر إليه موسى وقال: «لا تؤاخذني بما نسيت» أي: غفلت. «ولا ترهقني من أمري عسراً» يعني عاملني في صحبتي إياك بالعفو والتيسير، ولا تضيق علي وتعاملني بالعسر. «فكانت الأولى» أي: المسألة الأولى «من موسى نسياناً» أي: فلهذا اعتذر، وأما الثانية: فإنه لم ينس فلهذا لم يعتذر، وجاء في رواية في الصحيح: «فكانت الأولى من موسى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً» . فائدة: قال الثعلبي: قال ابن عباس: «لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحيته ثم قال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل، كنت في بني إسرائيل أتلو عليهم كتاب الله غدوة وعشية، وآمرهم فيطيعون، فقال له الخضر: يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك؟ قال: نعم، قال: قلت كذا وكذا، قال: «صدقت» . «فانطلقا بعد خروجهما من السفينة يمشيان على الساحل فإذا غلام» لطيف ظريف وضيئ. «يلعب مع الغلمان» أي: مع الأطفال، وكانوا عشرة فأخذه الخضر وقتله بلا ذنب في الظاهر، وموسى ينظر إليه. وفي مسلم: «فذعر موسى ذعرة منكرة عندها» (¬1) . واختلف العلماء في كيفية قتله إياه: فقيل: أخذه فضجعه ثم ذبحه بالسكين. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (4/1850، رقم 2380) .

وقيل: ضرب رأسه بالجدار حتى قتله. وقيل: أدخل أصبعه في سرته أي الصبي فاقتلعها فمات. وقال في هذا الحديث: «فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده» . واختلفوا في اسمه أيضاً، فقيل: جيسور، وقيل: حسين، وقيل جنتور، وقيل غير ذلك. «فقال موسى أقتلت نفسا ذكية» أي: طاهرة من الذنوب لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث. وأكثر العلماء والمفسرين على أنه كان دون البلوغ، والذي يدل عليه أنه كان دون البلوغ قوله: «إذا غلام يلعب مع الصبيان» فإن الغلام يطلق على من دون البلوغ فقد قال العلماء: المولود يسمى غلاماً وصبياً وطفلاً إلى البلوغ، فإذا بلغ يسمى شاباً إلى الثلاثين، فإذا وصل إلى الثلاثين يسمى كهلاً إلى الأربعين، فإذا وصل إلى الأربعين يسمى شيخاً. وذهب بعض العلماء إلى أنه كان بالغاً لما قتله الخضر، واستدلوا على ذلك بقوله: «بغير نفس» فإن المعنى: قتلت نفساً ذكية من غير أن يصدر منها قتل يوجب القصاص، والصبي لو قتل لا قصاص عليه، فدل على أنه كان بالغاً. وأجاب الكرماني عنه: بأن المراد بقوله: «بغير نفس» التنبيه على أنه قتل بغير حق، أو إن شرعهم كان يقضي إيجاب القصاص على الصبي. «قال موسى: للخضر لقد جئت» بقتلك الصبي «شيئاً نكراً» أي: منكراً فلما قال له هذا الكلام غضب الخضر، ثم اقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم منه، فإذا عظمة كتفه مكتوب عليها كافر لا يؤمن بالله أبداًً، فلما اعترض على الخضر في فعله الثاني، وأنكر عليه كما أنكر عليه أولاً. «قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال ابن عينية: وهذا أوكد» يعني: زيادة لك هنا أوكد في عتاب موسى، وفي عدم حفظه للوصية وقلة صبره، وفي ذلك أيضاً تنبيه على أنه لا عذر لموسى في هذه المرة الثانية بخلاف الأولى، ولهذا قال للخضر: «إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني بعد هذه المرة» أي: لا تتركني أتبعك وفارقني قد بلغت من لدني عذراً في فراقك إياي. «فانطلقا يمشيان حتى إذا أتيا أهل قرية» واختلف العلماء في هذه القرية التي أتاها الخضر وموسى.

فقيل: هي «أنطاكية» وعليه ابن عباس وأكثر العلماء والمفسرين. وقيل: هي قرية من قري الروم تسمى «الناصورة» وإليها ينسب النصاري. وقيل: «آيلة» وهي: أبعد الأرض من السماء. وكان دخولهما قبل غروب الشمس، وكانوا محتاجين إلى الطعام مفتقرين إلى تحصيله، إما بكسب أو سؤال، وقد مستهما الحاجة إليه، لأن ذلك الوقت كان وقت جدب واضطرار. فلما دخلا القرية «استطعما أهلها» أي: طلبوا منهم الطعام ضيافة، «فأبوا أن يضيفوهما» فإنهم كانوا لئاماً. وقد روى أبي بن كعب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله: ?فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا? [الكهف: 77] قال: «كانوا أهل قرية لئاماً» قال قتادة: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. فلم يجدوا تلك الليلة في تلك القرية قرى (¬1) ولا مأوى، وكانت ليلة باردة فالتجئوا إلى حائط على شارع «يريد أن ينقض» أي: يقرب أن يسقط لميلانه كما أشار الله إلى ذلك بقوله: ?فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ? [الكهف: 77] ، ولم يزل أهل القرية وغيرهم من الناس يمر تحته على خوف منه، وكان قد بناه رجل صالح. قال الثعلبي: وكان سمك ذلك الحائط مائتي ذراع بذارع ذلك القرن، وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وكان عرضه خمسون ذراعاً فأقامه الخضر لما رآه مائلاً. واختلف العلماء في كيفية إقامته، فقيل: هدمه ثم قعد يبنيه، وقيل: دفعه بيده ثم قعد يبنيه، وقيل: دفعه بيده فقام، وقيل: مسحه بيده فاستقام كما قال في هذا الحديث: «قال الخضر بيده، فأقامه» أي: أشار إليه بيده فأقامه، قيل: في هذا الذي فعله الخضر دلالة على أنه نبي، لأن إقامة هذا الجدار بإشارة من يده معجزة عظيمة، وأجاب عنه الكرماني: بأنه يحتمل أن يكون ذلك كرامة تصدر من الولي، فلا دلالة فيه على أنه نبي. «فقال له موسى» لما أقام الجدار وأصلحه: قوم استضفناهم فلم يضيفونا مع شدة احتياجنا إلى الطعام فأصلحت جدارهم بلا ضيافة منهم. ¬

(¬1) المراد به إكرام الضيف.

«لو شئت لاتخذت عليه أجراً» أي: لاتخذت على ذلك أجرة لتكون لنا قوة وبلغة على سفرنا. قال الخضر: «هذا فراق بيني وبينك» أي: لهذا الاعتراض الثالث علي سبب للفراق بيني وبينك يا موسى (¬1) . ثم قال له: ?سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً? [الكهف: 78] أي: سأخبرك عن سبب خرق السفينة وقتل الغلام وإصلاحي الجدار، لتعلم أنه لا إنكار علي. ثم أخذ يبين له ذلك فقال كما قال الله تعالى حكاية عنه: ?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ? أي: لعشرة مساكين أخوة، ولم يكن لهم معيشة غيرها ورثوها من أبيهم، وكانت تساوي ألف دينار. ثم قال له الخضر: فأردت أن أعيب هذه السفينة قطعاً لطمع الطامعين فيها، ودفعاً لشرهم، فإنه كان ?وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً? قال: فخرقتها وعبتها لئلا يتعرض لها ذلك الملك ويدعها لعيبها، فإذا جاوزوه صلحوها فانتفعوا بها، وقد أصلحها الخضر بعد مجاوزة الملك. فائدة: استدل ابن عبد السلام بخرق السفينة مخافة أخذ الغاصب على أنه إذا كان تحت يد الإنسان مال يتيم أو سفيه أو مجنون، وخاف عليه أن يأخذه ظالم، أنه يجب أن يعيبه لأجل حفظها، وقريب من هذه المسالة ما لو خاف الوصي على المال الذي تحت يده من استيلاء ظالم عليه فله تخليصه بشيء منه، والله يعلم المفسد من المصلح، ونظير هذا ما لو كان تحت يده مال يتيم مثلاً وعلم أنه لو لم يبذل منه شيء لقاضي سوء لانتزعه منه وسلمه لبعض خونته وأدي ذلك إلى ذهابه، فإنه يجب عليه أن يدفع إليه شيئاً ويتحرى في أقل ما يمكن إرضاؤه به، والقول قوله إذا نازعه المحجور عليه بعد رشده في بذل ذلك، وإن لم تدل القرائن عليه، وكذلك القول من عيب مال اليتيم قوله ونحوه إذا نازعه اليتيم ونحوه بعد الرشد ونحوه في أنه لم يفعله لهذا الغرض، كما قاله القاضي زكريا في شرح الروض قبيل باب الوديعة أنه الأوجه، قال: لأن ذلك لا يعلم إلا منه غالباً. ثم أخذ الخضر يبين له ما فعله بالغلام فقال كما قال الله حكاية عنه ?وَأَمَّا الغُلامُ ¬

(¬1) إلي هنا انتهت الرواية التي عند البخاري وبعدها أكمل السفيري القصة بنحو ما جاء في سورة الكهف من الآية (79) إلي الآية (81) .

فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ? وكان هو كافراً، وكان ابن عباس يقرأ هذه الآية ?وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ?. وفي صحيح مسلم: «وأما الغلام فطبع يوم طبع كافراً، وكان أبواه قد عطفاً عليه فلو أنه أدرك أرهقهما طغياناً وكفراً» . وهذا بمعنى قول الخضر ?فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً? أي: فعلمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعى أبويه إلى الكفر، فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه فيدخلان النار، والطغيان: الزيادة في الضلال. ثم قال الخضر: ?فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً? أي: وأوصل للرحم وأبر بوالديه. قال الثعلبي: فأبدلهما الله جارية مؤمنة أدركت يونس بن متى، فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبياً فهدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم. وري عن جعفر الصادق عن أبيه أنه قال: أبدلهما جارية ولدت سبعين نبياً. ثم أخذ يبين له حال الجدار فقال كما قال الله تعالى: ?وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ? وكان اسم الغلامين: «أصرم، وصريم» . ?وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا? واختلف العلماء في ذلك الكنز أي شيء كان: فقيل: كان صحفاً مدفونة تحته فيها علم. وقيل: كان لوحًا من ذهب مكتوب في أحد شقية: «بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي شقه الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه» رواه عطاء عن ابن عباس. وقال أكثر العلماء: إن الكنز كان ملآناً بذهب وفضة وهو الظاهر من إطلاقه. ثم قال: ?وَكَانَ أَبُوهُمَا? شيخاً ?صَالِحاً? أي: أميناً تقياً، فحفظا بصلاح أبيهما ولن يذكر منهما صلاحاً، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء. قال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي

هو فيها، والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ وستر (¬1) . لطيفة: حكي عن بعض العلوية أنه دخل على هارون الرشيد وقد همَّ بقتله، فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله، فقيل له: بما دعوت حتى أنجاك الله منه قال: قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي (¬2) . قال الخضر: ?فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا? المدفون تحت الجدار ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي? وإنما فعلته بأمر الله ?ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً?. لطيفة: قال الثعلبي: لما أنكر موسى على الخضر خرق السفينة مخافة غرق أهلها، وقتل الغلام، وإقامة الجدار محتسباً بدون أجر، قال له: يا موسى أتلومني على خبر السفينة مخافة غرق أهلها ونسيت نفسك حين ألقتك أمك وأنت صغير في اليم ضعيف فحفظك الله، وتلومني على قتل الغلام الكافر بلا أمر، ونسيت نفسك حين قتلت القبطي بغير أمر، تلومني على ترك أخذ الأجرة في إقامة الجدار، ونسيت نفسك حين سقيت أغنام شعيب لأجل الله تعالى (¬3) . قال الثعلبي: وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أو غيره: أن موسى لما أرد فراق الخضر قال له الخضر: استودعك الله، فقال له موسى: أوصني، فقال له الخضر، لا تكن مشاء في غير حاجة، وإياك واللجاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير الخطائين بخطاياهم، وابك على خطيئتك، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد (¬4) . «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يرحم الله موسى لوددنا لوصبر حتى يقص علينا من أمرهما» . «لوددنا» جواب قسم محذوف، «ولو صبر» في تأويل المصدر أي: والله لوددنا صبر موسى، لأنه لو صبر لأبصر أعجب العجائب. وروي عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى أخي موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب العجاب، ولكنه قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت ¬

(¬1) أورده ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (1/187) . (¬2) انظر: قصص الأنبياء المسمي عرائس المجالس (ص 129) . (¬3) انظر: قصص الأنبياء السابق. (¬4) انظر: قصص الأنبياء السابق.

من لدني عذراً» . استنبط الإمام النووي وغيره من قصة موسى والخضر فوائد كثرة: قالوا: فيه دلالة على استحباب الرحلة للعلم وفضيلة طلبه. وفيه: دلالة على جواز النزول للسفر. وفيه: دلالة على أنه ينبغي للإنسان أن يستعمل الأدب مع العالم، وأن يحترم المشايخ، وأن يترك الاعتراض عليهم، وأن يؤول ما لم يفهم ظاهره من أقوالهم وأفعالهم، وأن يوفي بما عاهدهم عليه، وأن يعتذر لهم عند مخالفتهم. وفيه: دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يطلب من غيره الطعام عند احتياجه إليه. وفيه: دليل على إثبات كرامات الأولياء. وفيه: دليل على جواز الإجازة، وعلى جواز ركوب السفينة، وعلى جواز ركوبها بغير أجرة برضا صاحبها. وفيه: دليل على أن الشرع إنما يحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه. وفيه: دليل على أن الكذب: الإخبار على خلاف الواقع عمداً أو سهواً خلافاً للمعتزلة (¬1) . وفيه: دليل على أنه إذا تعارضت مفسدتان على شيء واحد جاز دفع أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، كمسئله ابن عبد السلام السابقة وغيرها، ولهذا خرق الخضر السفينة لدفع غصبها، فإن الخرق أهون من الغضب. وفيه: دليل على جواز فساد بعض المال لإصلاح باقيه. قال العلماء: يجوز خصاء صغار الحيوان المأكول لأجل أن يطيب لحمه، ولا يجوز خصاء كبار المأكول ولا خصاء غير المأكول مطلقاً، وعليهما يحمل حديث النهي عن خصاء البهائم. وقالوا: يجوز قطع بعض آذان الأنعام للتمييز، قاله ابن الملقن. وفيه: دليل على جواز التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول ولا يفهمه كل الناس، ولو كان ظاهره منكراً، واستفيد هذا من قتل الغلام وخرق السفينة، فإن صورتهما صورة المنكر، وفي نفس الأمر كانا صحيحين ¬

(¬1) فإنهم يشترطون الكذب عن طريق العمد فقط، ولكن المذهب الحق أن الإخبار بغير الواقع سواء كان عمداً أو سهواً أو غلطاً. قاله النووي في شرح مسلم (1/94) .

ولهما حكمة كانت خفية عن الخلق، فلما أعلمهم الخضر بها بعد أن أعلمه الله بها علموها، ولهذا قال: ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي?. وفيه: دليل على أنه يجب الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع. وفيه: دليل على أنه يجب على العالم الرغبة في الزيادة من العلم والحرص عليه، ولا يقنع بما عنده، ولهذا لم يكتف موسى بعلمه بل طلب الزيادة. وفيه: دليل على أنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول، ويقضي له حاجته، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب، بل من مروءات الأصحاب، وحسن العشرة، ودليل هذا: حمل فتى موسى وهو يوشع الغداء. وفيه: دليل على أنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم ولا أدري. جاء في الخبر: «العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري» (¬1) . وقال الشعبي: «لا أدري» نصف العلم. وقال الإمام مالك: جنة العالم «لا أدري» فإذا أخطأها فقد أصيبت مقالته. وقال أبو حفص النيسابوري: العالم هو الذي يخاف عند السؤال أن يقال له يوم القيامة: من أين أجبت؟. وكان ابن عمر يقول: يريدون أن يجعلونا جسراً يعبرون علينا. وكان ابن عمر أيضاً يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت عن تسعة. ونقل عن الإمام مالك أنه سئل عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها: «لا أدري» . وكذلك قال إمامنا الشافعي «لا أدري» في مسائل. وكذلك أبو حنيفة سئل عن تسع مسائل فقال فيها: «لا أدري» . وكذلك كان أحمد بن حنبل يكثر من قول: «لا أدري» . حتى نقل عن جبريل أنه قال: «لا أدري» . وكذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أدري» . ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/299، رقم 1001) عن ابن عمر، قال الهيثمي (1/172) : رواه الطبراني في الأوسط، وفيه منسوب رواه عن مالك بن أنس، وروى عنه إبراهيم بن المنذر، ولم أر من ترجمه.

قال حجة الإسلام الغزالي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أدري أعزير نبي أم لا، وما أدري تبع ملعون أم لا، وذو القرنين نبي أم لا» (¬1) . ولما سئل عن خير بقاع الأرض وشرها؟ قال: «لا أدري» حتى نزل جبريل فسأله فقال: «لا أدري» إلى أن علمه الله تعالى أن المسجد خير البقاع، وشرها السوق (¬2) . وكان في الفقهاء من يقول: «لا أدري» أكثر من أن يقول: «أدري» منهم: الثوري، ومالك، وأحمد، والفضيل، وبشر بن الحارث. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلي: «أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين صحابياً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما منهم من أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ودَّ أن أخاه كفاه ذلك» (¬3) . وفي لفظ آخر: «كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر ويردها الآخر إلى الآخر حتى تعود إلى الأول» (¬4) . وفي الحديث: دليل على أنه ينبغي للعالم التواضع مع الناس كلهم، خصوصاً مع المتعلمين، فيرفق بهم ويلين لهم الكلام، ويبذل لهم النصيحة، كما أن المتعلم ينبغي له أن يتواضع لعلمه، ويجلس بين يديه متأدباً، لأن الله تعالى عتب على موسى حين لم يرد العلم إليه، وأراه من هو أعلم منه، وقد أمر الله سيد المتواضعين نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بخفض الجناح قال الله تعالى: ?وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ? [الحجر: 88] . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا نأتي أبا سعيد الخدري فيقول: مرحباً بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً ليأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا آتوكم فاستوصوا بهم خيراً» رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما (¬5) . ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4/218، رقم 4674) ، والحاكم (1/92، رقم 104) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي (8/329، رقم 17373) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (7/154، رقم 7140) عن أنس، قال الهيثمي (2/6) : فيه عبيد بن واقد القيسي، وهو ضعيف. (¬3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/19، رقم 58) ، والدارمي (1/65، رقم 135) . (¬4) أورده الغزالي في إحياء علوم الدين (1/70) . (¬5) أخرجه الترمذي (5/30، رقم 2650) ، وابن ماجه (1/91، رقم 249) ، وأخرجه أيضًا: الطبراني في الشاميين (1/226، رقم 405) ، وأبو نعيم في الحلية (9/253) .

وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لينو لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه» (¬1) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أكرم الناس جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إلي، لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت» (¬2) . وفي رواية قال: «إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني» . وقال أيوب السجستاني: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لله تعالى. وفي قول الخضر لسيدنا موسى - عليه السلام -: «إني على علم من علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه» دليل على أن موسى علمه الله الشريعة دون الحقيقة. قال شيخنا جلال الدين السيوطي: إنما جمعت الحقيقة والشريعة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما بدليل قصة موسى مع الخضر وقوله: «إني على علم ... » إلى آخره. قال البلقيني: قول الخضر لموسى: «إني على علم ... » إلى آخره، ظاهره أنه يمتنع تعليم العلمين معاً وهو مشكل، فإنه لا يمنع جمعها. ثم أجاب بجوابين: أحدهما: بين فيه وجه امتناع الجمع بين الحقيقة الشريعة فقال: جواب هذا الإشكال: أن علم الحقائق والكشوف ينافي علم الظاهر، فلا ينبغي للعالم الحاكم بالظاهر أن يعلم الحقائق للتنافي، لأنه إذا وجد غلاماً ظاهر الشرع يقتضي امتناع قتله، والحقيقة تقتضي أن يقتل، فلا ينبغي له أن يعلم هذا لما قررناه من التنافي، وأما العالم بالحقيقة فلا ينبغي له أن يعلم العلم الظاهر الذي ليس مكلفاً به، والذي ينافي ما عنده من الحقيقة، فإنه إذا اطلع بمقتضى الحقيقة على أن هذا الغلام يقتل كان منافياً للظاهر الشريعة. الجواب الثاني: أنه يمكن حمل العلم على تنفيذه أي: العمل به لا على امتناع تعلمه والمعنى: أن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه لتعمل به، ولأن العمل به مناف لمقتضى الشرع، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه فأعمل بمقتضاه لأن مقتضاه منافي لمقتضى الحقيقة، قال: فعلى هذا لا يجوز للولي التابع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اطلع على حقيقة شيء أن ينفذ ذلك بمقتضى الحقيقة، وإنما عليه تنفيذ الحكم للظاهر، قال: ولا أر من تعرض لذلك، والله تعالى أعلم. ¬

(¬1) أخرجه الديلمي (1/79، رقم 238) ، وابن عدي (4/335 ترجمة 1165 عباد بن كثير الثقفي) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/86، رقم 9569) .

المجلس السادس والثلاثون

المجلس السادس والثلاثون في الكلام على قوله تعالى: ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ? [الإسراء: 85] وفيه فوائد كثيرة متعلقة بالروح قَالَ البُخَارِي: باب قول الله تعالى: ? وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ? [الإسراء: 85] حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ لاَ يَجِىءُ فِيهِ بِشَىْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْأَلَنَّهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ. فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً? [الإسراء: 85] . قَالَ الأَعْمَشُ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا (¬1) . يتعلق بهذا الحديث وهذه الآية فوائد كثيرة في الروح وغيره: الفائدة الأولى: «الروح» تذكر وتؤنث فيقال: روح طيب، وروح طيبة. الفائدة الثانية: تطلق «الروح» في القرآن وغيره على معان، تطلق ويراد بها: ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه يسبح الله تعالى إلى يوم القيامة. وتطلق ويراد بها: ملك له سبعون ألف لسان يسبح الله بها ويقدسه. وتطلق ويراد بها: ملك رجلاه في الأرض السفلى، ورأسه عند قائمة العرش. ¬

(¬1) قال الحافظ بن حجر في الفتح (1/224) : قوله: «خرب» : جمع خربة ويقال بالعكس والخرب ضد العامر. قوله: «عسيب» : أي عصا من جريد النخل. قوله: «لا تسألوه لا يجيء» : لا تسألوه خشية أن يجيء فيه بشيء. قوله: «لنسألنه» جواب القسم المحذوف. قوله: «الروح» : الأكثر على أنهم سألوه عن حقيقة الروح الذي في الحيوان، وقيل: عن جبريل. وقيل: عن عيسى. وقيل: عن القرآن. وقيل: عن خلق عظيم روحاني. قوله: «هكذا في قراءتنا» أي قراءة الأعمش وليست هذه القراءة في السبعة بل ولا في المشهور من غيرها وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب القراءات له من قراءة الأعمش والله أعلم.

وتطلق ويراد بها: خلق كخلق بني آدم له أيد وأرجل. وتطلق ويراد بها: عيسى - عليه السلام -. ونطلق ويراد بها: القرآن. وتطلق ويراد بها: الوحي. وتطلق ويراد بها: خلق من خلق الله، لا ينزل ملك إلى الأرض إلا نزل معه. وتطلق ويراد بها: مَلَك عظيم يقوم وحده فيكون صفاً، وتقوم الملائكة صفاً، قال تعالى: ?يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ? [النبأ: 38] . وتطلق ويراد بها الروح التي في الجسد. فهذه أحد عشر معنى للروح. والفائدة الثالثة: اختلف العلماء في المراد بالروح المسئول عنها في الآية من هذه المعاني، فقيل: عيسى بن مريم، كأنهم سألوه عنه فقال لهم: هو من أمر الله لا كما تقوله النصارى فيه. وأكثر المفسرين والعلماء على أن الروح المسئول عنها هي: الروح التي في الجسد سألوه عن حقيقتها وكيفية امتزاجها في الجسم فقال لهم في الجواب: «هي من أمر ربي» أي: ما استأثر الله بعلمه، أي: اختص بعلمه ولم يطلع عليها أحد من خلقه. قال بعضهم: قال أكثر أهل العلم: وليس في الآية دليل على أن الروح أي: روح الجسد لا تعلم، ولا أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلمها، ولكن إنما أمره الله تعالى أن يقول لهم: «هي من أمر ربي» ولم يعينها لهم لأمرين: أحدهما: أنه كان عندهم في التوراة أن الروح من أمر الله تعالى، لا يطلع عليها أحداً، فقالت اليهود: نسأله عنها فإن أجاب فليس بنبي، وإن لم يجب فهو صادق، فلما سألوه لم يجبهم بل انتظر حتى نزلت عليه الآية، فأخبرهم أنها من أمر الله، فقالوا: هكذا نجده عندنا. الأمر الثاني: إنما قال لهم: «هي من أمر الله» لأنهم قصدوا تعجيزه وتغليطة، فإن الروح لما كانت مشتركة بين المعاني التي قدمنا ذكرها، قصدوه أن يسألوه فبأي معنى من المعاني أجاب قالوا: ليس هذا، فأمره الله تعالى أن يجيبهم جواباً مجملاً، فإن أمر ربي يصدق على كل واحدة من مسميات الروح. واعلم أنه قد افترق الناس فيها فرقتين، فرقة أمسكت عن الكلام فيها، لأنها سر من أسرار الله تعالى لم يؤت علمه لبشر، وهذه الطريقة هي المختارة.

قال الجنيد: الروح شيء استاثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه، فلا يجوز لعباده البحث عنه بأكثر من أنه موجود. وعلى هذه الطريقة ابن عباس وأكثر السلف (¬1) . وها هنا سؤال على هذه الطريقة وهو: فإن قيل: ما الحكمة في عدم اطلاع عباده على حقيقة الروح؟ جوابه: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم بحقيقة نفسه مع القطع بوجوده كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق سبحانه وتعالى من باب أولى قاله القرطبي. وقال ابن بطال: الحكمة في ذلك تعريف الخلق عجبهم من علم ما لا يدركونه، حتى يضطرهم ذلك إلى رد العلم إليه. والفرقة الثانية: تكلمت فيها وبحثت عن حقيقتها. قال النووي: وأصح ما قيل في ذلك قول إمام الحرمين: إنها جسم لطيف مشتبك بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود الأخضر. وقال جمهور الأطباء: هو البخار اللطيف الساري في الأبدن. وقيل: هي بعض الجسم. وقال أبو الحسن الأشعري (¬2) : الروح النفس الداخل والخارج. قال ابن الملقن وهذا أشهر الأقوال. وقيل: الروح الدم. وقيل: جسم لطيف متصور على صورة الإنسان داخل الإنسان. قال ابن الملقن: وذكر بعضهم فيها سبعين قولاً. الفائدة الرابعة: اختلف العلماء هل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الروح وأمره الله أن لا يطلع عليها أحداً، أو ما علمها؟ فقيل: إنه قبض ولم يعلمها. وقيل: أطلعه الله عليها ولم يأمره أن يطلع عليها أمته، وهذا نظير الخلاف في علم الساعة. الفائدة الخامسة: وقع الاختلاف في الروح هل هي جسم أو عرض. ¬

(¬1) وهذه الطريقة في الوقوف عند تعريف الروح أن حقيقتها مما استأثر الله بعلمه، قال ابن حجر في الفتح (1/224) أنه هو الصحيح. (¬2) أبو الحسن الاشعري هو: علي بن إسماعيل بن إسحاق، أبو الحسن، من نسل الصحابي أبي موسى الاشعري، مؤسس مذهب الأشاعرة، كان من الأئمة المتكلمين المجتهدين، ولد في البصرة سنة: 260 هـ‍، وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم ثم رجع وجاهر بخلافهم، وتوفي ببغداد سنة: 324 هـ‍، قيل: بلغت مصنفاته ثلاثمائة كتاب، منها: إمامة الصديق، والرد على المجسمة، ومقالات الإسلاميين، والإبانة عن أصول الديانة، ورسالة في الايمان، ومقالات الملحدين، والرد على ابن الراوندي، وخلق الأعمال، والأسماء والأحكام، واستحسان الخوض في الكلام، واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، يعرف باللمع الصغير.

فذهب كثير من الصوفية كما قاله الرزكشي إلى أنها ليست بجسم ولا عرض، بل جوهر مجرد قائم بنفسه غير متحيز، وله تعلق خاص بالبدن للتدبير والتحريك، غير داخل في البدن ولا خارج عنه. وهذا هو رأي الفلاسفة. وذهب كثير من المتكلمين وأهل المعتزلة إلى أنها عرض وأنه الحياة التي صار البدن بوجودها حياً. وأكثر المسلمين على أنها جسم كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، لوصفها في الأحاديث والآيات بالترقي والقبض والإمساك والإرسال والإخراج والخروج والتنعم والتعذيب والتردد في البرزخ، وأنها تأكل وتشرب وتسرح وتنطلق وتعرف، وهذه صفات الأجسام، والعرض لا يتصف بها. الفائدة السادسة: اختلف العلماء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو مختلفان؟ والذي عليه أكثر العلماء: أن الروح والنفس بمعنى واحد، وذهب بعض العلماء إلى أنها غير النفس، وبه قال السهيلي، وفرقوا بينهما بأن النفس طينية نارية، والروح نورية روحانية، وبأن النفس لا تريد إلا الدنيا، والروح تدعو إلى الآخرة. الفائدة السابعة: اختار ابن عبد السلام أن الروح في القلب، وبه جزم الغزالي في كتابه الانتصار، وقال بعض المتكلمين: الذي يظهر أن الروح بقرب القلب، والذي قاله إمام الحرمين وقال النووي إنه أصح ما قيل: إن الروح في سائر البدن لا في القلب فقط كما قدمنا ذلك. الفائدة الثامنة: أجمع أهل السنة والجماعة على أن الروح محدثة مخلوقة، ولم يخالف في ذلك إلا الزنادقة، ويدل على حدوثها حديث: «الأرواح جنود مجندة» (¬1) والمجندة ¬

(¬1) بقية الحديث: « ... فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» أخرجه البخاري (3/1213، رقم 3158) ، وأبو يعلى (7/344، رقم 4381) ، والقضاعي (1/185، رقم 274) عن عائشة. وأخرجه مسلم (4/2031، رقم 2638) ، وأبو داود (4/260، رقم 4834) ، وأحمد (2/295، رقم 7922) ، وابن حبان (14/42، رقم 6168) عن أبي هريرة. وأخرجه الطبراني في الكبير (10/230، رقم 10557) عن ابن مسعود. قال الهيثمي (8/87) : رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/198) ، والحاكم (4/466، رقم 8296) ، وقال: صحيح الإسناد. والطبراني في الكبير (6/263، رقم 6169) ، وفي الأوسط (2/160، رقم 1577) عن سلمان.

لا تكون إلا مخلوقة. الفائدة التاسعة: اختلف العلماء في الروح هل خلقت قبل الأجساد أو بعدها؟ فقيل: بعدها واستدل بحديث: «لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط منه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة امثال الذر» (¬1) أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة. و «النسمة» : الروح. وبحديث: «إن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (¬2) . لكن قال شيخنا الجلال السيوطي سنده ضعيف جداً. الفائدة العاشرة: ذهب أهل الملل من المسلمين وغيرهم إلى أن الروح تبقى بعد موت البدن، فهي أبدية، وخالف في ذلك الفلاسفة. وإذا قلنا ببقائها فهل تفنى عند القيامة ثم تعاد توفيه بظاهر قوله تعالى: ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ? [الرحمن: 26] أو لا تفنى؟ حكاهما السبكي في تفسيره المسمي «بالدر النظيم» . وقال: والأقرب منهما أنها لا تفنى، وإنما تكون حينئذ ممن استثنى الله في قوله: ?إِلاَّ مَن شَاءَ? [النمل: 87] (¬3) كما قيل في الحور العين. وأما قوله تعالى: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ? [آل عمران 185] فالمراد بموت النفوس: مفارقتها الأجساد وخروجها منها، لا أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً، بل هي باقية بعد مفارقة الأجساد في نعيم أو في عذاب، وحينئذ فلا إشكال على من يقول ببقائها وعدم فنائها. الفائدة الحادية عشر: فإن قيل: بأي شيء تتمايز الأرواح بعد مفارقة الأشباح ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (2/355، رقم 3257) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضا: الترمذي (5/267، رقم 3076) وقال: حسن صحيح. وأبو يعلى (11/263، رقم 6377) . (¬2) أورده ابن القيم في كتاب الروح من طريق ابن مندة (1/160) عن عمرو بن عبسة. (¬3) والآية بتمامها تدل على هذا المعنى قال الله تعالى: ?وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ? [النمل: 87] .

حتى تتعارف، وهل تتشكل بشكل؟ فالجواب: أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل، وتتصل وتنفصل، وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن، وقد شاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرواح الأنبياء ليلة الأسراء في مثال الأجساد. وقال جماعة: الأرواح على صورة الخلق لها أيدي وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان. قال العلامة ابن القيم: بل تمييزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيراً، وأما الأرواح فقل ما تشبته. قال: وقل أن ترى بدناً قبيحاً وشكلاً شنيعاً إلا وكانت روحة المتعلقة به تشاكله وتناسبه، وقل أن ترى شكلاً حسناً وصورة جميلة وتركيب لطيف إلا وكانت روحه المتعلقة به مناسبة له (¬1) . قال: وإذا كانت الملائكة تتميز من غير أبدان تحملهم، وكذلك الجن فالأرواح البشرية أولى (¬2) . الفائدة الثانية عشر: وقع في كلام الغزالي في «الدرة الفاخرة» أن روح المؤمن على صورة النحلة، وروح الكافر على صورة الجرادة. قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي في كتابه «شرح الصدور» : وهذا شيء لا يعرف له أصل، ولا يُستدل على ما قاله الغزالي بما وقع في حديث الصور من أن إسرافيل يدعو الأرواح فتأتيه جميعاً، أرواح المؤمنين تتوهج نوراً، والأخرى مظلمة فيجمعها جميعاً فيلقيها في الصور ثم ينفخ فيه، فيقول الرب جل جلاله: «وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها» فتخرج الأرواح من الصور مثل النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فتأتي كل روح إلى جسدها فتدخل تمشي في الأجساد مثل السم في اللديغ (¬3) . وإنما لم يستدل به: لأن قوله: «مثل النحل» ليس المراد به أن الأرواح تخرج من الصور في صورة النحل وهيئتها، بل المراد: أن هيئة خروجها من الصور كهيئة خروج ¬

(¬1) انظر: الروح لابن القيم (1/40) . (¬2) انظر: الروح لابن القيم (1/40) . (¬3) أخرجه إسحاق بن راهويه (1/84، رقم 10) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/312) عن أبي هريرة.

النحل فالتشبيه راجع إلى هيئة الخروج لا إلى الصورة وهيئتها، وهذا نظير قوله تعالى: ?كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ? [القمر: 7] . الفائدة الثالثة عشر: لا تزال الخصومة بين الناس حتى يختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، وأنت كنت، لولاك لم أستطع أعمل شيئاً، ويقول الجسد للروح: أنت أردت، وأنت سولت، ولولاك كنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يداً ولا رجلاً، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستاناً فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثماراً لكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: أركبني فتناولهما، فإيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما فيقول لهما الملك فإنكما قد حكمتها على أنفسكما، يعني: أن الروح للجسد كالمطية وهو راكبه. مسألة مهمة: وهي هل الروح أفضل من الجسد أو الجسد أفضل منها؟ فالجواب: أن الإمام الرازي صرح في كتابه «لوامع البينات» : أن الروح أفضل منه في الكلام على مسألة الفكر والذكر أيهما أفضل؟ الفائدة الرابعة عشر: في مستقر الأرواح بعد مفارقة أجسادهما. اعلم أن ابن عبد البر نقل عن جمهور العلماء أن الأرواح تكون عند مفارقة الأجساد على أفنية القبر (¬1) . ¬

(¬1) أورد ابن القيم كلام ابن عبد البر في كتابه الروح (ص 100) وناقش كلام ابن عبد البر مناقشة بديعة نذكرها إتماماً للفائدة. قال ابن القيم: وأما قول من قال: الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبداً فهذا خطأ، ترده نصوص الكتاب والسنة من وجوه كثيرة، وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتاً، أو لها إشراف على قبورها وهي في مقرها، فهذا حق ولكن لا يقال: مستقرها أفنية القبور وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر ابن عبد البر قال في كتابه في شرح حديث ابن عمر: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي» وقد استدل به من ذهب إلى ان الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر، ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة وكذلك أحاديث السلام على القبور. قلت: يريد الأحاديث المتواترة مثل حديث ابن عمر هذا، ومثل حديث البراء ابن عازب، وفيه: «هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» ، ومثل حديث أنس: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إانه ليسمع قرع نعالهم» وفيه: «أنه يرى مقعده من الجنة والنار، وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعاً، ويضيق على الكافر» ، ومثل حديث جابر: «إن هذه الأمة تبلى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه، أتاه ملك ... الحديث، وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول: دعوني أبشر أهلي فيقال له: أسكن فهذا مقعدك أبداً» ، ومثل سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم. وهذا القول ترده السنة الصحيحة والآثار التي لا مدافع لها، وكل ما ذكره من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي الرفيق الأعلى، وعرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائماً من جميع الوجوه، بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده، فإن الروح شأناً آخر تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام، وهي في الملأ الأعلى، وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكاناً لم يمكن أن تكون في غيره، وهذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين، وترد إلى القبر فترد السلام وتعلم بالمسلم وهي في مكانها هناك، وروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرفيق الأعلى دائماً ويردها الله سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه، وتسمع كلامه، وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موسى - عليه السلام - قائماً يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة.

قال شيخ الإسلام ابن حجر وغيره: إن أرواح المؤمنين في عليين، وهو مكان في السماء السابعة تحت العرش وأرواح الكفار في سجين وهو مكان تحت الأرض السابعة، وهو محل إبليس وجنوده. قال: ولكل روح بجسدها اتصال معنوي لا يشبه الاتصال في الحياة الدنيا، بل أشبه شيء به حال النائم، وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً، قال: وبهذا يجمع ما ورد أن مقرها في علين أو سجين وبين ما نقله ابن عبد البر عن الجمهور أنها عند أفنية قبورها. وقال: بعضهم أرواح المؤمنين كلهم في الجنة، الشهداء وغيرهم إذا لم تحبسهم كبيرة. وعلى هذا القول يسأل ويقال: ما الفرق بين أرواح الشهداء وغيرهم من المؤمنين في الجنة؟ ويجاب: بأن بينهم فرقاً من وجهين: الأول: أن أرواح الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله، فعوضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ. والثاني: أنهم يرزقوا من الجنة وغيره لم يثبت في حقه مثل ذلك.

قال ابن القيم: والصحيح أن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت بحسب درجاتهم في السعادة والشقاوة. فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهم الأنبياء، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء والمعراج. ومنها أرواح في حواصل طير تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم فإن منهم من يحبس عن دخول الجنة لدين أو غيره، ومنهم من يكون على باب الجنة، ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون محبوساً في الأرض لم تصل روحه إلى الملأ الأعلى (¬1) . ومنها أرواح تكون في تنور الزناة، وأرواح في نهر الدم. قال: فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد. قال: وكلها على اختلاف حالها لها اتصال بأجسادها في قبورها ليحصل له من النعيم أو العذاب ماكتب له، فإن الروح إذا كانت في الرفيق الأعلى فهي متصلة بالبدن أي: نورها مشرق على البدن كاتصال شعاع الشمس بالأرض، بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد عليه السلام وعرفه بذلك الاتصال، وهي في مكانها وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً بُلِّغْتُه» (¬2) . وأفاد ابن حجر أن الأرواح وإن كانت في عليين فهي مأذون لها في التصرف، ثم تأوي إلى محلها من عليين أو سجين. قال: وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر فالاتصال المذكور مستمر، وكذلك إذا تفرقت أجزاؤه. وسنذكر في كتاب الجنائز ما يحبس الروح عن مقامها الكريم، وما يمنع الميت من الكلام مع الموتى. الفائدة الرابعة عشر: أفاد النسقي في كتابه «بحر الكلام في أصول الدين» : أن الأرواح على أربعة أوجه أرواح الأنبياء وتخرج من جسدها وتصير صورتها مثل المسك الكافور، وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة، ¬

(¬1) انظر: الروح لابن القيم (1/115) . (¬2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/218، رقم 1583) ، والخطيب (3/292) عن أبي هريرة.

تأكل وتتنعم يدل عليه قوله تعالى: ?بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ? [آل عمران: 169، 170] وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش. وهنا سؤال: وهو أن يقال كيف يجعل أرواح الشهداء في حواصل طير خضر إكراماً لها مع أن ذلك حصر لها وتضيق عليها لا إكرام؟ وأجيب عنه بجوابين: الأول: أن في قوله: «في حواصل طير خضر» بمعنى: على والمعنى: أن أرواحهم في جوف طير خضر كقوله تعالى: ?وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ? [طه: 71] وجائز أن يسمى الطير جوفاً إذ هو محيط به ومشتمل عليه. الثاني: أنه لا مانع من أن يكون في الأجواف حقيقة، ويوسعها الله لها حتى تكون أوسع من الفضاء. وأرواح المطيعين من المؤمنين برياض الجنة لا تأكل ولا تتمتع، ولكن تنظر في الجنة، وأرواح العصاة من المؤمنين تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما أرواح الكفار فهي في أجواف طير سود في سجين، وسجين تحت الأرض السابعة، وهي متصلة بأجسادها فتعذب أرواحها ويتألم ذلك الجسد، كالشمس في السماء ونورها في الأرض. الفائدة الخامسة عشر: قال بعضهم: إن ملك الموت إذا نزل على العبد المؤمن لقبض روحه فلو جذبها بألف سلسلة ما خرجت، فيقول الله تعالى: دعها فإنها لا تخرج إلا بسماع يطيب لها، فيناديها: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك، فتخرج بحلاوة الخطاب إلى يوم القيامة، يقول لها: ارجعي أي: إلى جسدك فتفرح بالجسد ويفرح بها فتقول: أنا ما قرَّ لي قرار، ويقول الجسد: أنا اكلني الدود والتراب، فيناديهما مناد: وليس بعد هذا الاجتماع فراق. قيل: إنه يأتي إلى جسد الميت قبل إعادة الروح إليه ملك فيقول: أبشر كلما أندرست عظامك محيت آثامك، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الموت كفارة لكل مسلم» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/121) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/171، رقم 9886) ، والخطيب (1/347) ، والقضاعي (1/133، رقم 171) ، والديلمي (4/239، رقم 6717) عن أنس.

لطيفة: قال في الروض الفائق: جاء في الأثر: «أن الروح إذا خرج من الجسد ومضى عليه سبعة أيام تقول: يارب ائذن لي حتى انظر إلى جسدي، فيقول: اذهبي فتأتي الروح إلى القبر فتنظر إليه من بعيد فتراه متغيراً، يسيل من منخره ماء، ومن فمه ماء، ومن عينيه ماء، ومن أذنية ماء، فكأنه في وسط الماء، فتقول له: صرت إلى هذا الحال بعد نضارة جسمك، ثم تمضي حتى إذا كان بعد سبعة أيام أخرى، فتقول: يارب ائذن لي أن انظر إلى جسدي ملحة له فيقول: اذهبي فتأتي القبر فتنظر إليه من بعيد فتراه قد تغير وقد صار الماء الذي في فيه صديداً، والذي في عينيه قيحاً، والذي في أنفه دماً، فتقول: هل صرت إلى هذا الحال، ثم يمضي حتى إذا كان بعد سبعة أيام أخرى فتقول يارب ائذن لي حتى انظر إلى جسدي ما حاله؟ فيقول: اذهبي فيأتيه فينظر إليه من بعيد وقد صار الصديد دوداً، وقد سقط حدقتاه على وجهه، والدود يدخل في فمه ويخرج من منخره، فتقول صرت إلى هذا الحال بعد النعيم والدلال. فانظروا إلى أحوالكم كيف تصيرون بعد الموت، وكيف تطلبون العود، وقد حصل الفوت، وأنتم عما يراد بكم غافلون، وفي بحر الأمل غارقون، أصم في الآذان عن النصائح، عمي في القلوب عن جميع المصالح، تالله ما ينفع المرء في قبره إلا التقى والعمل الصالح، ولله در القائل: الموت بحر موجه طافح ... يجير فيه العائم السابح يا نفس إني ناصح فاقبلي ... مني فإني مشفق صالح ما ينفع الإنسان في قبره ... إلا التقى والعمل الصالح الفائدة السادسة عشر: قال ابن القيم: للروح خمسة أنواع من التعلق متغايرة، الأول: تتعلق بالبدن وهو في بطن الأم. الثاني: تتعلق به بعد الولادة. الثالث: تتعلق به في حال النوم، فلها تعلق به من وجه ومفارقة من وجه. الرابع: في البرزخ، فإنها وإن كانت فارقته بالموت، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لم يبق لها إليه التفات. الخامس: تعلقها به يوم البعث، وهو أكمل أنواع التعلقات ولا نسبه لما قبله إليه، ولا يقبل البدن معه موتاً ولا فساداً (¬1) . ¬

(¬1) انظر: الروح لابن القيم (1/43 - 44) .

الفائدة السابعة عشر: هل للشخص روح واحدة أم أكثر؟ قال ابن عبد السلام في كل جسد روحان: أحدهما: روح اليقظة التي أجري الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظاً، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان ورأت تلك الروح المنامات. والأخرى: روح الحياة التي أجري الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حياً فإذا فارقته مات، فإذا رجعت إليه حي، قال: وهاتان الروحان في باطن الإنسان لا يعرف مقرهما، إلا من أطلعه الله على ذلك، فهما كجنينين في بطن امرأة واحدة. وقال ابن القيم: وقالت طائفة: للمؤمن ثلاثة أرواح، وللمنافق والكفار روح واحدة. وقال بعضهم: للأنبياء والصديقين خمسة أرواح. ورد هذا ابن القيم وقال: الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس، وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى: ?أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ? [المجادلة: 22] . وكذلك الروح التي أيدها الله روح المسيح ابن مريم كما قال تعالى: ?إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ? [المائدة: 110] . وكذا الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده غير الروح التي في البدن. قال: وأما القوى التي في البدن فإنها تسمى أيضاً أرواحاً فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشاهد، فهذه الأرواح قوى موزعة في البدن، وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهي قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيدها أهل ولايته وطاعته، ولهذا يقول الناس: فلان فيه روح، وفلان ما فيه روح قصبة فارغة فالعمل روح، وللأجساد روح، وللإخلاص روح، وللمحبة روح، وللتوكل روح، والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت، فمنهم من تغلب هذه الأرواح عليه فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها، أو أكثرها فيصير أرضياً والله المستعان (¬1) . ¬

(¬1) انظر: الروح لابن القيم (1/219 - 220) .

الفائدة الثامنة عشر: هل النفس واحدة أم أكثر؟ وقع كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس: نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة، وأن من الناس من يغلب عليه واحدة من الثلاث، واستدل القائل بالثلاث بذكر الله لها في كتابة العزيز بقوله تعالى: ?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ? [الفجر: 28] . وقوله: ?لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ? [القيامة 1، 2] . وقوله: ?إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ? [يوسف: 53] . قال ابن القيم: والتحقيق أنها نفس واحدة، ولكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم. فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته، والإنابة إليه والتوكل عليه، والرضا به والسكون إليه (¬1) . ولله در القائل فيها: إلا يا نفس ويحك ساعديني ... بسعي منك في ظلم الليالي لعلك في القيامة أن تفوزي ... بطيب العيش في تلك العوالي وتسمى لوامة إما لأنها كثيرة التقلب والتلون، تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانا متلونة أي: تحب وتكره، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتسخط وتطيع، وتعصي وتتقي، وغير ذلك في كل وقت، وإما لأنها توقع الإنسان في الذنب ثم تلومه عليه، وهذا اللوم لا يكون إلا من السعيد، بخلاف الشقي فإنه لا يلوم نفسه عن ذنب، بل يلومها وتلومه في فواته. وقالت طائفة: إن هذا اللوم يقع من النوعين السعيد والشقي، فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته، والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها، وإما لأن كان واحد يلوم نفسه يوم القيامة إن كان مسيئاً يلوم نفسه على إساءته، وإن كان محسناً يلوم على تقصيره. قال ابن القيم: وهذه الأقوال والأوجه كلها حق، فإن النفس موصوفة بهذا كله، باعتباره سميت لوامة ملومة، ولوامة غير ملومة، أما اللوامة الملومة: فهي النفس الجاهلة الظالمة التي تلوم صاحبها في تقصيره في معصية الله، أما الغير ملومة: فهي التي تلومه في تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، فهذه غير ملومة. ¬

(¬1) انظر: الروح لابن القيم (1/220) .

وأشرف الأنفس من لامت نفسها في طاعة الله، واحتملت لوم اللائمين في مرضاته، فلا تأخذها فيه لومة لائم، فهذه تخلصت من لوم الله لها (¬1) . والنفس اللوامه بهذا الاعتبار محمودة ولهذا أقسم الله بها في قوله ?وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ? [القيامة: 2] . وتسمى أمارة باعتبار أنها تأمر بكل شيء، فلا يلوح لها طمع إلا تعرضت له، ولا يبدو لها شهوة إلا اتبعتها، فهي مذمومة، فما تخلص أحد من شرها إلا من رحمه الله ووفقه وثبته. قال تعالى في حقها حاكيا عن امرأة العزيز: ?وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [يوسف: 53] فما يسلم من شرها إلا من رحمه الله ووفقه وثبته وأعانه. كما قال تعالى: ?وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً? [النور: 21] . فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه خطبة الحاجة وهي: «الحمد لله نستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له» (¬2) . قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: أما النفس فحسبك ما تشاهد من حالاتها، ورداءة إرادتها، وسوء اختيارها، ففي حال الشهوة بهيمة، وفي حال الغضب سبع، وفي حال المصيبة تراها طفلاً، وفي حال النعمة تراها فرعوناً، وفي حال الجوع تراها مجنوناً، وفي حال الشبع تراها مختلاً، إن أشبعتها بطرت ومرحت، وإن جوعتها صاحت ¬

(¬1) انظر: الروح لابن القيم (1/226) . (¬2) أخرجه أبو داود (2/238، رقم 2118) ، والترمذي (3/413، رقم 1105) وقال: حسن. والنسائي (3/104، رقم 1404) ، وابن ماجه (1/609، رقم 1892) ، وأحمد (1/392، رقم 3720) ، والحاكم (2/199، رقم 2744) ، والبيهقي (3/214 رقم 5594) ، والطيالسي (1/45، رقم 338) ، وعبد الرزاق (6/187، رقم 10449) ، وابن أبي شيبة (4/34، رقم 17508) ، والدارمي (2/191، رقم 2202) ، وابن الجارود (1/170 رقم 679) ، وأبو يعلى (9/168، رقم 5257) ، والطبراني في الكبير (10/98، رقم 10080) ، وفي الأوسط (3/42، رقم 2414) عن ابن مسعود.

وجزعت. كما قال فيها بعضهم: كحمار السوء إن أقضمته ... رمح الناس وإن جاع نهق ولقد صدق بعض الصالحين حيث قال: إن هذه النفس الخبيثة إذا همت بمعصيته أو انبعثت بشهوة، لو تشفعت إليها بالله سبحانه وتعالى، ثم برسوله - صلى الله عليه وسلم - وبجميع أنبيائه عليهم السلام، وبكتابة، وبجميع السلف الصالح من عباده، ويعرض عليها الموت والقبر والقيامة والجنة والنار، لا تعطي القياد ولا تترك الشهوة، نعم إذا استقبلتها بمنع رغيف تسكن وتترك شهوتها، وتعلم حسنتها وجهلها، فإياك أيها الرجل تغفل عنها، فإنها كما قال خالقها العالم بها جل جلاله الأمارة بالسوء، فكفى بقوله لمن غفل، ولقد صدق القائل: توق نفسك لا تأمن غوائلها ... فالنفس أخبث من سبعين شيطاناً فتنبه رحمك الله لهذه الخداعة الأمارة بالسوء، ووطِّن على مخالفتها بكل حال تصب وتسلم إن شاء الله تعالى، فإنه لا يقدر أحد على قهرها إلا بمخالفتها. لطيفة: عن إبراهيم الخواص (¬1) - رضي الله عنه - قال: لقيت غلاماً في التيه كأنه سبيكة فضة قلت: إلى أين يا غلام؟ قال: إلى مكة، قلت: بلا زاد ولا راحلة؟ فقال: يا ضعيف اليقين، الذي يقدر على حفظ السماوات والأرض يقدر أن يوصلني إلى مكة بلا زاد ولا راحلة، فلما دخلت مكة فإذا هو بالطواف يقول: يا نفس سبحي أبداً، ولا تحبي أحداً، إلا الخليل الصمدا، يا نفس موتى كمداً، فلما رآني قال: يا شيخ أنت بعد على ذلك الضعف من اليقين. ولقد أحسن من قال: يا نفس كم بخفي اللطف عاملني ... وقد رآني على ما ليس يرضاه يا نفس كم ذلة ذلت بها قدمي ... وما أقال عثاري ثم إلا هو يا نفس توبي إلى مولاك واجتهدي ... عسى تنالي رضاه عند لقياه إخواني: إذا كان صفاء المواعظ لا يؤثر في قلوبكم الكدرة، ومعاول التخويف لا تقطع في نفوسكم المتجبرة، فهذا كلام ربكم يتلى عليكم في آياية المطهرة ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ? [الزلزلة 7، 8] ويا غافلاً عما نهاه وأمره، يا مضيعاً في البطالة عمره، إلى متى تلهو وذنوبك مكتوبة ¬

(¬1) إبراهيم الخواص هو: إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل، أبو إسحاق الخواص، صوفي، وكان أوحد المشايخ في وقته، وهو من أقران الجنيد، مات في جامع الري سنة: 291 هـ‍، قال الخطيب البغدادي: له كتب مصنفة والخواص: بائع الخوص.

متسطرة، كيف حياتك في سفرك وطريقك خطرة، وشاهدت ميزانك الذي يرجح بالذره الحقرة ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ? ويا غافلاً فالموت يقفو أثره، كيف بك إذا شاهدت السماء منفطرة، وحافظاك قد أحصيا عليك ما عملت من خير وشر وحصره، وقد تركت عليك الحجة وتعذرت المعذرة، فهنا يجد كل إنسان من الإحسان والعصيان ما أحضره ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ?. ولقد أحسن في وعظ النفس من قال: يا نفس توبي عن فعال منكرة ... واسعي إلى دار البقاء مستبشرة يا نفس فاز القوم من رب العلا ... بالعفو عن زلاتهم والمغفرة يا نفس قد قطعوا النهار لربهم ... بصيامهم وقيامهم ما أكثره يا نفس ويحك للمتاب فبادري ... من قبل تأتيك الذنوب مسطرة يا نفس إن القوم زادوا خيفة ... من مكروه وقلوبهم متذكرة يا نفس جدي في التقى وتزودي ... عجلاً وكوني للقاء مستشعرة يا نفس كم قوم على الدنيا احتووا ... ظلماً ومالهم إذاً من آخرة يا نفس كم أمم تفانوا في البلى ... وعظامهم ضحت عظاماً ناخرة يا نفس توبي اليوم من قبل الردى ... فعسى تكوني في غد مستبشرة يا نفس آه من ذنوب كلها ... يوم القيامة في الكتاب محررة يا نفس ما ينجيك في يوم اللقاء ... من عظم أهوال الحساب المحضرة إلا شفاعة أحمد الهادي الذي ... يرجى لديه العفو عند المقدرة فهو النبي الهاشمي المصطفى ... والمحبتى من خلقه إذ طهره يا نفس جدي في المسير لقبره ... واسعي إلى أبوابه مستصغرة وتمتعي بجماله ووصاله ... كيلا تكوني في الوري منحسرة وإذا وصلت إلى رباه فعظمي ... تلك المواقف ادخلي متوقرة

فعسى تنالي الفوز من رب العلا ... وتعود زلات الذنوب مكفرة وتشاهدي ذاك الضريح وقد ... أنواره للكائنات منورة هو صفوة الرحمن من كل الورى ... وبأحسن التكوين حقاً صوره صلى عليه الله ربي دائماً ... ما أشرقت شمس ولاحت مسفرة * * *

المجلس السابع والثلاثون

المجلس السابع والثلاثون في بيان فضائل الوضوء وأركانه وشرائطه وفي بيان فوائد كثيرة متعلقة بذلك وأحببت أن أفتحه بخطبة ذكرها الغزالي في أول كتاب أسرار الطهارات من كتابه أحياء علوم الدين وهي: الحمد لله الذي تلطف بعباده فتعبدهم بالنظافة، وأفاض على قلوبهم تزكية لسرائرهم أنواره وإلطافه، وأعد لظواهرهم تطهيراً لها الماء المخصوص بالرقة واللطافة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المستغرق بنور الهدي أطراف العالم وأكنافه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين صلاة تحمينا بركاتها يوم المخافة، وتنتصب جنة بيننا وبين كل آفة (¬1) . قَالَ البُخَارِي: كِتَابُ الوُضُوءِ قال البلقيني: وإنما ذكر البخاري كتاب الوضوء بعد كتاب العلم وقبل كتاب الصلاة، لأن بعد العلم يكون العمل، وأفضل الأعمال البدنية الصلاة، ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة. «الوضوء» بضم الواو اسم للفعل أعني: غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين، وبفتحها اسم للماء الذي يتوضأ به هذا هو المشهور فيهما، ومثله «الطهور والطهور» سمي هذا الفعل «وضوء» لحصول النظافة والنضارة به، فإنه مشتق من الوضاءة بالمد، وهو النظافة والنضارة، فإذا غسل المتوضئ هذه الأعضاء صار وضيئاً أي: نظيفا ذا ضياء وحسن. ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/125) .

باب مَا جَاءَ فِي قَولِ اللهِ - عز وجل - ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ ? [المائدة: 6] (¬1) استدل البخاري بهذه الآية على وجوب الوضوء. ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: الوضوء بالضم هو الفعل، وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما، وحكي في كل منهما الأمران. وهو مشتق من الوضاءة، وسمي بذلك لأن المصلى يتنظف به فيصير وضيئا. وأشار بقوله: «ما جاء» : إلى اختلاف السلف في معنى الآية فقال الأكثرون: التقدير إذا قمتم إلى الصلاة محدثين. وقال آخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير حذف، إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب، وفي حق غيره على الندب. وقال بعضهم: كان على الإيجاب ثم نسخ فصار مندوباً. ويدل لهذا ما رواه أحمد وأبو داود أن أسماء بنت زيد بن الخطاب حدثت أباه عبد الله بن عمر عن عبد الله بن حنظلة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث. ولمسلم من حديث بريدة: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. فقال: عمدا فعلته» أي لبيان الجواز. واختلف العلماء أيضا في موجب الوضوء فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا، وقيل به وبالقيام إلى الصلاة معا ورجحه جماعة من الشافعية، وقيل بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» واستنبط بعض العلماء من قوله تعإلى: ?إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ? [المائدة: 6] إيجاب النية في الوضوء لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها، ومثله قولهم: إذا رأيت الأمير فقم، أي لأجله. وتمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء. قال: وهذا مما لا يجهله عالم. وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق حديث ابن عباس: «دخلت فاطمة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي قالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك. فقال: ائتوني بوضوء. فتوضأ ... الحديث» . قلت: وهذا يصلح رداً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبا وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة عنه أن جبريل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه. وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند. وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انظر فتح الباري (1/232 - 233) .

سؤال: فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن الوضوء يجب لكل صلاة، سواء كان الإنسان محدثاً أو متوضأ، مع إنه لا يجب عليه إذا كان متوضأ وأراد الصلاة أن يتوضأ؟ فالجواب عنه من وجوه: الأول: أنه لابد من تقدير في الآية، وهو أن يقال: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين كذا قال الجمهور. الثاني: لا حاجة إلى التقدير فإن الوضوء كان في أول الإسلام يجب لكل صلاة فرض عملاً بظاهر الآية، ثم نسخ هذا الحكم يوم فتح مكة، حيث صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك اليوم الصلوات الخمس بوضوء واحد، فوجوب الوضوء لكل فرض المستفاد من الآية كان في أول الإسلام ثم نسخ، لكن ضعف هذا النووي في شرح مسلم. الثالث: أن الأمر بوجوب الوضوء لكل صلاة محمول في حق المتوضئ على الندب، وفي حق المحدث على الوجوب، وإن تجديده لكل صلاة مندوب إليه، فالحاصل: أنه يجوز للإنسان أن يصلي الصلوات الخمس وما شاء من الفوائت والنوافل بوضوء واحد، ودليله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال عمر: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله قال: «ياعمر فعلته عمداً» أي: لبيان الجواز رواه مسلم (¬1) . لكن الأفضل والمستحب أن يتوضأ لكل صلاة وإن كان على طهارة. فقد روى أحمد بإسناد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء» (¬2) . وروي الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/232، رقم 277) . وأخرجه أيضا: أبو داود (1/44، رقم 172) ، والترمذي (1/89، رقم 61) وقال: حسن صحيح. والنسائي (1/86، رقم 133) ، والدارمي (1/176، رقم 659) ، وابن خزيمة (1/9، رقم 12) ، وابن الجارود (1/13، رقم 1) ، وعبد الرزاق (1/54، رقم 158) ، وأحمد (5/351، رقم 23023) ، وابن حبان (4/607، رقم 1708) عن بريدة. (¬2) أخرجه أحمد (2/258، رقم 7504) ، قال الهيثمي (1/221) : فيه محمد بن عمر بن علقمة، وهو ثقة حسن الحديث. والنسائي في الكبرى (2/197، رقم 3039) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه الترمذي (1/87، رقم 59) وقال: هذا إسناد ضعيف. وأخرجه أيضا: أبو داود (1/16، رقم 62) ، وابن ماجه (1/170، رقم 512) ، والطحاوي (1/42) ، وابن أبي شيبة (1/16، رقم 53) ، وعبد بن حميد (ص 271، رقم /859) عن عمر.

وقال: «الوضوء على الوضوء نور على نور» قاله الغزالي قال العراقي في تخريج الأحياء ولم أجد له أصلاً (¬1) . قال العلماء: وإنما يستحب تجديد الوضوء بالأول صلاة ما فرضاً كانت أو نفلاً، وإلا فلا يستحب. سؤال: فإن قيل: إن هذه الآية مدنية بإجماع العلماء، والوضوء فرضه الله تعالى بمكة مع فرض الصلاة؟ قال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند، فكيف استدل البخاري وغيره من العلماء على وجوب الوضوء بهذه الآية وهي مدنية؟ فالجواب: أن هذه الآية من الآيات التي تأخر نزولها عن حكمها. قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي رحمه الله: من القرآن ما تأخر حكمه عن نزوله، ومنه ما تأخر نزوله عن حكمه. يعني: أن النزول قد يكون سابقاً على الحكم كقوله: ?قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى? [الأعلى: 14، 15] فإنها نزلت في زكاة الفطر، وكان نزولها بمكة وزكاة الفطر فرضها الله تعالى في المدينة في السنة الثانية من الهجرة، لأنه لم يكن بمكة عيد ولا زكاة ولا صوم، فقد تأخر الحكم فيها عن النزول، وإن الحكم قد يكون سابقاً على النزول، ومثل له بآية الوضوء قال: والحكمة في نزول آية الوضوء بالمدينة بعد تقدمة العمل به وفرضه بمكة، ليكون فرضه متلواً في التنزيل. فائدة: اختلف العلماء في الوضوء متى يجب؟ فقيل: يجب بالحدث وجوباً موسعاً. وقيل: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة، والأصح أنه يجب بهما أي: بالحدث وإرادة القيام إلى الصلاة، فعلى هذا لا يجب قبل دخول الوقت لكن يستحب، بل هو أفضل ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/135) ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/98) : لا يحضرني له أصل من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعله من كلام بعض السلف، والله أعلم. وقال ابن حجر في فتح الباري (1/234) : حديث ضعيف. وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/447) : ذكره في الإحياء وقال مخرجه العراقي لم أجد له أصلا، وسبقه لذلك المنذري، وقال الحافظ ابن حجر: حديث ضعيف، ورواه رزين في مسنده.

من فعله بعد دخول الوقت، وإن كان فعله بعد دخول الوقت واجباً فهذه سنة أفضل من فرض، وهي أحد المسائل الثلاث التي السنة فيها أفضل من الفرض. الثانية: ابتداء السلام فإن رده فرض، والابتداء أفضل من الرد. الثالثة: إبراء المعسر من كل الدين أو بعضه فإنه سنة، وهو أفضل من الصبر عليه إلى ميسرة وهو فرض، وقد ورد في فضل من انظر معسراً وإبراءه من الدين كله أو بعضه عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أنظر معسراً ووضع له أظلم الله يوم القيامة تحت ظل عرشه، يوم لا ظل لا ظله» رواه الترمذي (¬1) . وفي ذلك أيضاً نفع لمن عليه الدين وتنفيس كربه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أقر عين مؤمن أقر الله عينه يوم القيامة» (¬2) . وقال: «الخلق كلهم عيالاً لله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» (¬3) . وقال: «من أغاث ملهوفاً كتب الله له ثلاثاً وسبعين حسنة، واحدة يصلح بها آخرته ودنياه، والباقي في الدرجات» (¬4) . وقد نظمها شيخنا العلامة السيوطي فقال: الفرض أفضل من تطوع عابد ... حتى ولو قد جاء منه بأكثر إلا الله التطهر قبل وقت وابتداء ... للسلام كذاك إبراء المعتسر لطيفة في المعنى: قال في نزهة المجالس: إذا كان يوم القيامة أمر بطبقات المصلين إلى الجنة. فتأتي أول زمرة وجوهم كالشمس فتقول الملائكة: من أنتم؟ قالوا: نحن المحافظون على الصلاة، قالوا: كيف محافظتكم على الصلاة؟ قالوا: كنا نتوضأ قبل الوقت. ثم تأتي زمرة أخرى وجوههم كالبدر فتقول الملائكة: من أنتم؟ قالوا: نحن ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (3/599، رقم 1306) وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أيضا: أحمد (2/359، رقم 8696) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه ابن المبارك (1/239، رقم 685) عن عبيد الله بن زحر عن بعض أصحابه مرسلاً. (¬3) أخرجه أبو يعلى (6/65، رقم 3315) ، قال الهيثمي (8/191) : رواه أبو يعلى والبزار، وفيه يوسف بن عطية الصفار، وهو متروك. والبيهقي شعب الإيمان (6/43، رقم 7445) عن أنس. (¬4) أخرجه أبو يعلى (7/255، رقم 4266) ، قال الهيثمي (8/191) : رواه أبو يعلى والبزار وفي إسنادهما زياد بن أبي حسان وهو متروك. والبيهقي في شعب الإيمان (6/120، رقم 7670) عن أنس.

المحافظون على الصلاة، قالوا: كيف كانت محافظتكم على الصلاة؟ قالوا: كنا نتوضأ قبل الوقت. ثم تأتي زمرة أخرى وجوههم كالكوب فتقول الملائكة: من أنتم؟ قالوا: نحن المحافظون على الصلوات، قالوا: كيف كانت محافظتكم على الصلاة؟ قالوا: كنا نتوضأ بعد الأذان. فقد تبين لك من هذا أن الوضوء قبل الوقت أفضل، إذ الزمرة التي كانت تتوضأ قبل الوقت جاءت وجوهها كالقمر ليلة البدر، والتي كانت تتوضأ بعد الوقت جاءت وجوهها كالكوكب، ولا شك في تفضيل القمر على سائر الكواكب، فالذي جاء على صورته كذلك، وأفضل من الزمرتين المذكورتين الزمرة الأولى، وهى التي جاءت وجوههم على صورة الشمس، فإن هذه الزمرة كانت تتوضأ قبل الوقت وتذهب إلى المسجد وتنتظر الأذان، فلهذا سبقت الزمر كلها، وجاءت على صورة الكوكب الأعظم وهو الشمس. لكن لنا وضوء لا يصح إلا بعد دخول الوقت وهو: وضوء صاحب الضرورة كما سنذكره. واعلم أن الوضوء له فرائض وشرائط وفضائل وسنن وآداب: أما فرائضه: فقد اختلف أرباب المذاهب: فعند أبي حنيفة فرائض الوضوء أربعة: غسل الوجه، وغسل اليدين مع المرفقين، ومسح بعض ربع الرأس، وغسل الرجلين مع الكعبين. وعند إمامنا الشافعي إمام الأئمة -قدس الله سره ونور ضريحه- فرائض الوضوء ستة: الفرض الأول: النية في الوضوء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» (¬1) . وعند أبي حنيفة لا تجب النية في الوضوء ولا في الغسل، ويصحان عنده بدونها، ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/3، رقم 1) ، ومسلم (3/1515، رقم 1907) ، والترمذي (4/179، رقم 1647) ، وأبو داود (2/262، رقم 2201) ، والنسائي (6/158، رقم 3437) ، وابن ماجه (2/1413، رقم 4227) ، والحميدي (1/16، رقم 28) ، وأحمد (1/25، رقم 168) ، والبيهقي (1/41، رقم 181) ، وابن خزيمة (1/73، رقم 142) ، والدارقطني (1/50) ، وأبو عوانة (4/487، رقم 7438) ، والبزار (1/380، رقم 257) ، وهناد (2/440، رقم 871) عن عمر بن الخطاب.

ويحتاج إلى الجواب عن الحديث. نعم عند علمائنا الشافعية وضوء وغسل لا يحتاج كل منهما إلى النية وهو وضوء الميت وغسله فإنهما يصحان بلا نية من الغاسل. بل لنا وضوء آخر مستقل، وغسل آخر مستقل غير وضوء الميت وغسله فيهما النية، بل يصح الوضوء وحده بدونهما، وكذا الغسل وصورته في الوضوء، والغسل من ماء السيل فإن العلماء قالوا: يستحب إذا سال الماء في الوادي أن يغتسل منه وأن يتوضأ، فإن لم يجمعهما وأراد الاقتصار على أحدهما فالاقتصار على الغسل أفضل وبعده الوضوء. قال الأسنوي: وهل هما عبادتان يشترط فيهما النية أو لا؟ المتجه الثاني أي عدم اشتراط النية فيهما فهذا وضوء لا يجب فيه النية وغسل كذلك، وقد نظمت هذا السؤال فقلت: يا عالما قد حاز كل الفضل ... بين لنا ما صورة في الغسل خالية عن نية معتبرة ... في غير غسل ميت مصورة وفي وضوء مستقل مثله ... فأنت بمن شاع فينا فضله أبقاك ربي دائماً مفيدا ... مؤيداً على العدا فريدا ومحل النية: القلب، ويكفي الاقتصار عليه ولو نوى بلسانه وقلبه غافل لا يكفيه ذلك، نعم الأكمل أن ينوي بقلبه ويتلفظ بلسانه، والنية في الوضوء لها ثلاث كيفيات: الكيفية الأولى: أن يقول المتوضئ: نويت رفع الحدث. قال فقهاؤنا: ولو كان على الإنسان أحداث كأن بال ولمس ونام ونوى رفع أحديهما بأن قال: نويت رفع حدث النوم مثلاً كفته هذه النية وارتفع حدثه، قال: وإن نوى غير ما عليه كأن نوى رفع حدث النوم مع أنه لم ينم وإنما بال فهل يصح وضوءه بهذه النية وهل يرتفع حدثه؟ فيه تفصيل وهو أن يقال: إن فعل ذلك عمداً لم يصح وضوءه، وإن فعله غلطاً صح. الكيفية الثانية: أن ينوي استباحة شيء مفتقراً إلى طهر، والشيء المفتقر إلى الطهر الصلاة واستباحة الطواف أو استباحة مس المصحف أو نحو ذلك صح وضوءه. سؤال: فإن قيل: إذا نوى استباحة شيء مفتقراً إلى طهر، ولكن يتعذر فعله بذلك الوضوء في ذلك الوقت، كمن نوى استباحة الطواف وهو «بحلب» مثلاً، أو استباحة صلاة العيد وهو في «رجب أو شعبان» مثلاً فهل يصح وضوءه أم لا؟

فالجواب: أنه يصح وضوءه بهذه النية، ويصلي بها جميع الصلوات لأنه نوى ما لا يستباح إلا بالوضوء، وإذا قال: نويت استباحة قراءة القرآن، ودخول المسجد لم يصح وضوءه بهذه النية، فإن قرأته للقران من غير مس المصحف تباح بدون وضوء، وكذلك دخول المسجد يباح بدون الوضوء، نعم يستحب الوضوء لقراءة القرآن ولداخل المسجد، وسنذكر في المجالس الآتية أن الوضوء يستحب في أكثر من أربعين صورة. الكيفية الثالثة: أن يقول: إني نويت أداء فرض الوضوء، ويكفي أن يقول: «إني نويت أداء الوضوء» بإسقاط لفظه «الفرض» ، ويكفي أن يقول: «نويت فرض الوضوء» بإسقاط لفظه «أداء» ، بل يكفي أن يقول: «نويت الوضوء» . سؤال: فإن قيل: كيف يصح الوضوء بقول الإنسان: «نويت فرض الوضوء» إذا توضأ قبل دخول الوقت، مع أن وقت الوضوء قبل دخول الوقت سنة وليس بفرض؟ وسؤال آخر وهو: أن يقال: كيف يصح وضوء الصبي بقوله: «نويت فرض الوضوء» والوضوء في حقه ليس بفرض؟ فالجواب عن السؤالين: أنه ليس المراد بالفرض هنا: لزوم الإتيان به، وإلا لامتنع وضوء الصبي بهذه النية بل المراد كونه شرط للصلاة، وشرط الشيء يسمى فرضاً. هذه الكيفيات الثلاث هي المشهورة، ولنا كيفية أخرى يصح الوضوء بها وهي أن يقول: «نويت الطهارة عن الحدث» ، أو «نويت الطهارة للصلاة» . فإن قال: «نويت الطهارة» ولم يزد على ذلك، قيل: لا يصح وضوءه لأن الطهارة تكون عن خبث وعن حدث فلا يحصل التميز بقوله: «نويت الطهارة» إلا إذا قال عن الحدث أو للصلاة، ورجحه صاحب الروض. وقيل: يصح وهو ظاهر كلام الرافعي وقواه النووي في المجموع. وهذه الكيفيات يتخير فيها السليم وهو من سلم من سلس البول ونحوه، وأما الضرورة كمن حدثه دائم أي: كمن به سلس البول والمستحاضة فلا يكفيه أن يقول: «نويت رفع الحدث» لأن حدثه لا يرتفع بل يكفيه أن يقول: «نويت استباحة الصلاة» مثلاً، أو يقول: «نويت أداء الوضوء» كما صرح في الحاوي الصغير، وحكمه حكم المتيمم، فإذا نوى استباحة الفرض استباحه واستباح النفل، وإن نوى استباحة النفل استباح النفل فقط ولا يصلي به الفرض. فائدة: يصح الوضوء والصلاة وغيرهما من العبادات بالنية من غير إضافة إلى الله تعالى، فإن العبادة لله تعالى وإن لم يضفها إليه.

قال العلماء: ويجب أن تكون النية عند أول مغسول من الوجه لتقترن بأول الفرض كنية الصلاة، وإذا نوى عند غسل الوجه ولم ينو قبل ذلك لم يحصل له ثواب السنن السابقة على الصحيح، فينبغي أن ينوي في ابتداء الوضوء عند غسل كفية ليثاب على السنن السابقة فيقول: «نويت الطهارة للصلاة» فإذا وصل إلى غسل الوجه ينوي رفع الحدث، أو أداء فروض الوضوء، واستباحة الصلاة كما تقدم. ولو نوى عند المضمضة مثلاً رفع الحدث، فإن استصحب هذه النية إلى غسل الوجه جاز بل هو الأفضل ليثاب، على السنن السابقة، وإن كانت قبل غسل الوجه فلا تكفيه هذه النية، بل لابد من إعادتها عند غسل الوجه، ولا يجب على المتوضئ أن ينوي عند كل عضو، بل تكفي هذه النية عند غسل الوجه عن الكل، نعم لو فرقها على أعضائه جاز، بأن ينوي عند كل عضو رفع الحدث عنه بأن يقول عند غسل الوجه: نويت رفع حدث الوجه، وعند اليدين: نويت رفع حدث اليدين، وهكذا. الفرض الثاني: غسل الوجه، سمي «وجهاً» لحصول المواجهة به، وله طول وعرض، فحده طولاً من منابت شعر رأسه غالباً إلى منتهي لحييه، وحده عرضاً من الأذن إلى الأذن، وإذا أنبت على جبهته شعر يسمى «الغمم» يجب غسله مع الوجه، كما يجب غسل الحاجب معه، وسمي «حاجباً» لأنه يحجب عن العين شعاع الشمس، ويجب مع غسل الوجه غسل «الهدب» بالدال المهملة وهو: الشعر النابت على جفن العين، وغسل «الشارب» وهو الشعر النابت على الشفة العليا، وسمي شارباً: لملاقاته فم الإنسان عند الشرب، وغسل «العنفقة» : وهو الشعر النابت تحت الشفة السفلى، وغسل «العذار» وهو: ما حاذى الأذن بين الصدع والعارضين. وغسل هذه الشعور مع بشرتها واجب، سواء أخفت أم كثفت. وأما «اللحية» فإن كانت خفيفة وجب غسل ظاهرها وباطنها، وإن كانت كثيفة وجب غسل ظاهرها فقط ولا يجب غسل باطنها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - غسل وجه بغرفة واحدة كما رواه البخاري، وكانت لحيته الشريفة كثيفة، وبعضهم عبر: بعظيمة، وبعضهم: بغزيرة. والكثة: هي التي لا ترى بشرتها في مجلس التخاطب، بخلاف الخفيفة، ولو كان بعض اللحية خفيفاً وبعضها كثيفاً أو تميزا فلكل حكمه، وإن لم يتميزا وجب غسل الكل ظاهراً وباطنا، نعم لنا لحية كثة يجب غسل ظاهرها وباطنها وهي: ما إذا أنبت للمرأة والخنثى المشكل لحية كثة لندرتهما أو ندرة كثافتها، ولأنه يندب للمرأة إزالتها

لأنها مثله في حقها. فالحاصل: أنه يجب غسل باطن شعور الوجه كما يجب غسل ظاهر باطن اللحية الكثة، إلا إذا كانت من المرأة والخنثى، هذا إذا كانت في حد الوجه، وأما الشعور الخارجة عن حده كشعر اللحية النازل وشعر العذار والسبال فإن كانت كثيفة وجب غسل ظاهرها فقط، وإن كانت خفيفة وجب غسل الظاهر والباطن منها. أما النزعتان وهما بياضان يكتنفا الناصية والصدغين، وهما فوق الأذنين متصلان بالعذرين فليسا من الوجه. فائدة: لو خلق للإنسان وجهان وجب غسلهما، ولو خلق للإنسان رأسان كفاه المسح على بعض أحديهما، والفرق أن الواجب في الوجه غسل جميعه فيجب غسلهما، لحصول المواجهة بهما، والواجب في الرأس مسح بعض ما يسمى رأساً، وذلك يحصل ببعض أحدهما. الفرض الثالث: غسل اليدين مع المرفقين. فائدة: في المرفقين لغتان: أحدهما: كسر الميم وفتح الفاء، والثانية: فتح الميم وكسر الفاء. سؤال: فإن قيل: ما الدليل على وجوب غسل المرفقين مع اليدين؟ فالجواب: الدليل على ذلك قوله تعالى: ?وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ? [المائدة: 6] والإجماع، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المبين للوضوء المأمور به، فإنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى حتى أشرع في العضد. فإن قيل: لا دليل في الآية على وجوب غسل المرفقين مع اليدين، لأن «إلى» لنهاية الغاية، والغاية لا تدخل في المغيا؟ فالجواب: أن اليد حقيقة من رؤوس الأصابع إلى المنكب على الأصح، فإما أن تجعل اليد في الآية مجازاً إلى المرفق، وتدخل الغاية في المغيا هنا بقرنيتي الإجماع والاحتياط للعبادة، وإما أن تجعل باقية على حقيقتها إلى المنكب، وتجعل حينئذ غاية الغسل وتدخل الغاية في المغيا أيضاً لما تقدم كما قال بذلك جماعة، أو تجعل «إلى» حينئذ للترك المقدر، وتخرج الغاية حينئذ عن المغيا كما قال به كما قال جماعة أخرى، والمعنى على الأول: اغسلوا أيديكم من رؤوس أصابعها إلى المرافق، وعلى الثاني: اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق. وأوضح من هذا الجواب أن يقال: إن «إلى» في الآية بمعنى مع كما في قوله تعالى ?

مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ? [آل عمران: 52] أي: مع الله، وفي قوله تعالى: ?وَلاَتَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ? [المائدة: 2] أي: مع أموالكم. قال العلماء: فإن قطع شيء من يد الإنسان وجب غسل ما بقي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬1) وإن قطعت من مرفقه وجب غسل رأس عظم العضد لأنه من المرفق، وإن قطعت من فوق المرفق سقط هذا الفرض، وندب غسل باقي عضده، لئلا يخلو العضو عن طهارة. سؤال: فإن قيل: من القواعد المشهورة أن التابع يسقط بسقوط المتبوع، كسقوط رواتب الفرائض عن المجنون تبعاً للفرائض، فلأي شيء قالوا هنا يستحب غسل باقي عضده مع سقوط غسل اليد عنه؟ فالجواب: أن سقوط المتبوع عن المجنون رخصته فالتابع أولى به، وسقوطه هنا ليس رخصته بل لتعذره، فحسن الإتيان بالتابع محافظة على العبادة بقدر الإمكان، ولأن التابع للفرائض شرع تكملة لنقصها، فإذا لم يكن متبوع فلا تكملة، وهنا لم يشرع تكملة للمتبوع، لأنه كامل بالمشاهدة، فتعين أن يكون مطلوباً لنفسه. ويجب غسل اليدين ما عليهما من شعر، وغسل يد زائدة إن نبت بمحل الفرض، وإن نبت بغير محل الفرض غسل ما حاذى منها محل الفرض، لوقوع اسم اليد عليه، ولو خلق له يدان أصليتان أو أحدهما أصلية والأخرى زائدة ولم تتميز وجب غسلهما، أما إذا تميزت الزائدة بفحش قصر ونقص أصابع وضعف بطش ونحوه فلا يجب غسلها إذا كانت في غير محل الفرض. سؤال: فإن قيل: قالوا في السرقة إذا خلق له يدان أصليتان يقطع إحداهما فقط فلأي شيء قالوا هنا إذا خلق له يدان يجب غسلهما؟ فالجواب: أن الوضوء مبناه على الاحتياط لأنه عبادة، وأما السرقة فإنه حد والحد مبناه على الدرء لأنه عقوبة. قال الفقهاء: ولو كشطت جلدة العضد ونزلت منه لم يجب غسلها مع غسل اليدين ولا غيره، لأن اسم اليد لا يقع عليها، ولو كشطت جلدة الذراع منه وجب غسلها لأنها من اليد سواء المحاذي وغيره، إلا إذا التصقت بعد كشطها من أحدهما ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان (9/18، رقم 3704) ، وابن خزيمة (4/129، رقم 2508) عن أبي هريرة.

بالآخر فإنه يجب غسل المحاذي للفرض دون غيره، وإن تجافت بعد أن التصقت عن محل الفرض لزمه غسل ما تحتها أيضاً لندرته، ولو كشطت جلدة أحدهما وانتهى كشطها إلى الآخر ثم تدلت منه، فالاعتبار بما تدلت منه، فإذا بلغ كشطها من العضد إلى الذراع وجب غسلها معه، لأنها صارت جزءاً من محل الفرض، وإذا انتهى كشطها من الذراع إلى العضد فلا يجب، لأنها صارت جزءاً من غير محل الفرض. الفرض الرابع: بعض الرأس سواء أمسح على بشرته أو على شعره الذي لا يخرج عن حده ولو قدر رأس أبرة، حتى لو أخذ أبرة وغمسها في الماء ووضعها على رأسه كفاه عند علمائنا الشافعية. أما إذا مسح على الشعر الذي يخرج عن حد الرأس بالمد من جهة سفله فإنه لا يكفي، ولو قطر الماء على رأسه كفى. قال في الأنوار: ولو قطرت على خمارها ووصلت رطوبتها إلى شعرها حصل الفرض، ولو وقف تحت المطر فنزل على رأسه كفى، ولو غسل رأسه بدل مسحه كفاه ولم يكره ولم يستحب، بخلاف ما لو غسل الخف بعد لمسه فإنه يكره، لأنه يعيبه، ولو مسح رأسه ببرد وثلج لا يذوبان كفى لحصول المقصود به، ولو كان عنده ثلج أو برد فذاب فتوضأ به واغتسل كفاه، بل يجب استعماله إن لم يجد غيره، واختلف الروايات عن أبي حنيفة في مسح الرأس، ففي رواية: أنه يجزئ قدر ربع الرأس، وهو الراجح عندهم، وفي رواية أخرى: مقدار الناصية، وفي رواية أخرى: قدر ثلاث أصابع، ومذهب الإمام أحمد والإمام مالك وجوب استيعاب الرأس فلا يجزئ سواه، واكتفى الشافعي بمسح البعض، لأن المفهوم من المسح عند إطلاقه، والله تعالى قال ?وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ? [النائدة: 6] وأطلق فدل على الاكتفاء بالبعض، وأيضاً الباء إذا دخلت على متعدد كما في الآية تكون للتبعيض، أو على غيره كما في قوله تعالى: ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ? [الحج: 29] تكون للإلصاق. سؤال: فإن قيل: لأي شيء وجب تعميم مسح الوجه واليدين في التيمم ولم يجب تعميم الرأس في الوضوء مع أن آية التيمم وهي: ?فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ? [النساء: 43] كآية مسح الرأس؟ فالجواب: إنما وجب الإستيعاب في التيمم لثبوت ذلك بالسنة، ولأنه يدل عن الوضوء فاعتبر مبدله، ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه. فإن قيل: لأي شيء لم يجب تعميم مسح الخف بالماء مع أنه بدل عن غسل

الرجلين؟ فالجواب: أن التعميم يفسده، مع أن مسحه مبني على التخفيف لجوازه مع القدرة على الغسل، بخلاف التعميم. الفرض الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين من كل رجل، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ولا يجب غسل الرجلين في حق لابس الخفين عيناً، بل هو مخير بين الغسل وهو أفضل لأصالته، ولمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - غالباً، وبين المسح، وذهبت الشيعة إلى أن الواجب في الرجلين في الوضوء المسح لا الغسل، واستدلوا على ذلك بقرأة من قرأ ?وَأَرْجِلِكُم? بالجر وقالوا أنه معطوف على ?بِرُءُوسِكُمْ? فوجب فيهما المسح كوجوبه في المعطوف عليه. واستدل أهل السنة على وجوب غسل الرجلين بقوله تعالى: ?وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ? [المائدة: 6] على قراة النصب والجر، أما على قراءة النصب فإنه معطوف على ?وُجُوهَكُمْ? لفظاً، وأما قراءة الجر فإنه معطوف أيضاً على ?وُجُوهَكُمْ? لمجاورته لرؤوسكم، ويسمى جر الجوار فهو كقوله تعالى: ?عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ? [هود: 26] والأليم صفة للعذاب وإنما جر بالمجاورة، وكقولهم: «حجر ضب خرب» فهو وإن كان مجرور لفظاً فهو منصوب معنى عطفاً على ?وُجُوهَكُمْ? والمعطوف على المغسول مغسول، فبطل ما قاله الشيعة من أنه معطوف على الممسوح فوجب مسحه. الفرض السادس: الترتيب في أفعاله خلافاً لأبي حنيفة دليلنا عليه فعله - صلى الله عليه وسلم - المبين للوضوء المأمور به قال الإمام الرازي: إنما أوجب الشافعي الترتيب في الوضوء لوجوه عديدة مستنبطة من الآية وساقها وذكر منها: أن الترتيب لو لم يكن واجباً لكان مقتضى البلاغة أن يبدأ الله تعالى في الآية بالرأس ويختم بالرجلين، فلما بدأ بالوجه وختم بهما دل على وجوبه. وأيضاً: لو لم يكن الترتيب واجباً لكان مقتضى البلاغة أن يميز الممسوح من المغسول فلما ذكر سبحانه ممسوحاً بين مغسولات، وتفريق للتجانس لا ترتكبه العرب إلا لفائدة، وفائدته هنا وجوب الترتيب لا ندبه بقرينة الأمر في قوله: ?فَاغْسِلُوا? وإنما بدأ الله دل على وجوبه. ها هنا فوائد: الأولى: بين القفَّال في كتابه محاسن الشريعة حكمة ترتيب هذه الأعضاء فقال: قدم الوجه لشرفه ثم اليدين لأنهما بارزتان، ويعمل بهما غالباً بخلاف الرأس والرجلين،

ثم الرأس. الثانية: قيل الحكمة في وجوب غسل هذه الأعضاء ومسح الرأس: أن آدم مشى إلى الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها برجليه، ونظر إليها بعينه متوجهاً إليها بواجهة وأخذ منها بيديه، ولمس رأسه ورقها. وكان ابن عباس يقول بوجوب غسل باطن العين في الوضوء والغسل، والصحيح أنه لا يجب غسل باطن العين بل لا يستحب بل يكره. وقيل: الحكمة في اختصاص هذه الأعضاء أن أكثر معاصي ابن آدم من هذه الأعضاء الأربعة. الثالثة: لو توضأ الإنسان منكوساً أربع مرات أجزأه لحصول غسل كل عضو في مرة. الرابعة: لو اغتسل محدث بنية رفع الحدث أو نحوه أجزأه عن الوضوء، ولو لم يمكث في الانغماس زمناً يمكن فيه الترتيب، لأن الغسل يكفي للأكبر فالأصغر، ولأن الترتيب يقدر في لحظات. سؤال: فإن قيل: لو أغفل لمعة من غير أعضاء الوضوء في هذا الغسل هل يكفي هذا الغسل عن وضوءه أم لا؟ قال القاضي حسين: لا يكفي. ولو اغتسل المتوضئ ونوى رفع الجناية أو نحوها هل يكفيه عن وضوءه أم لا؟ جوابه: إن نوى ذلك غالطاً ورتب كفاه وإلا فلا. الخامسة: لنا وضوء صحيح خال عن غسل الرجلين أو عن غسل اليدين، وصورته: ما إذا اغتسل جنب إلا يديه أو إلا رجليه مثلاً، ثم أحدث ثم غسلهما عن الجنابة توضأ، ولا تجب عليه إعادة غسلهما لارتفاع حدثهما بغسلهما عن الجنابة، فهذا وضوء خال عن غسل الرجلين أو اليدين، وهما مكشوفان بلا علة. وزعم ابن القاضي أنه خال عن الترتيب أيضاً، وغلطه الأصحاب بأنه غير خال عنه بل لم يجب فيه الغسل الرجلين أو اليدين. السادسة: لنا وضوء خال عن الترتيب، وصورته: ما إذا غسل الجنب بدنه إلا أعضاء الوضوء ثم أحدث لم يجب ترتيبها أفاده القاضي زكريا في شرح الروض. السابعة: لو نوى بعد الفراغ من الوضوء قطعه لم يبطل، ولو نوى في أثنائه قطعة لم يبطل ما مضى له من الوضوء، ولكن انقطعت نيته فيعيدها للباقي.

الثامنة: إذا بطل وضوءه في أثنائه بحدث أو غيره يثاب على الماضي أم لا؟ قيل: أن يثاب كما في الصلاة، ويحتمل أن يقال: إن بطل باختباره فلا، أو بغيره فنعم. قال النووي عن الماوردي: ومن أصحابنا من قال: لا ثواب له بحال، لأنه لا يراد لغيره بخلاف الصلاة. التاسعة: لو توضأ فقطعت يده أو تثقب لم يجب غسل ما ظهر، لأن ذلك ليس ببدل عما تحته، إلا إذا أحدث بعده ونظيره ما لو خلق رأسه بعد مسحه فإنه لا يعيد المسح. العاشرة: إذا كان الإنسان متوضئاً أو أراد تجديد الوضوء ماذا ينوي، لا يستقيم أن ينوي رفع الحدث لأن حدثه مرتفع، ولا استباحة الصلاة لأنه مستبيح لها بوضوءه الأول، ولا فرض لأنه ليس بفرض عليه، قال الأسنوي قد يقال: يكتفى بنية الرفع أو الاستباحة كالصلاة المعادة، ثم قال غيره: إن ذلك مشكل خارج عن القواعد، لكن قال ابن العماد: وتخريجه على الصلاة ليس ببعيد، لأن قضيته التجديد أن يعيد الشيء بصفته الأولى، وإلا لم يكن تجديداً. الحادية عشر: أي عضو من أعضاء الوضوء يجب غسله في بعض الأزمان دون بعض، وليس عليه جبيرة ولا خف وقد نظم هذا السؤال بعضهم فقال: يا إماماً قد فاق أهل الزمان ... بفنون من العلوم حسان ما الذي أنت قائل في سؤال ... هو من فنك الكثير المعاني أي عضو من الوضوء يغسل ... في زمان قد خص دون زمان لم يكن موضع الجبائر والخف ... ولكنه خفي المكان فأتنا بالجواب عما سألناك ... سريعاً فيه بغير ثوان وصورته في موضع اللحية الكثيفة، فإنه قبل نبات الشعر عليه يجب غسله بعد كثافته مع نباته لا يجب غسله، وإذا خف بعد كثافته وجب غسله، وقد أجاب السائل عنه نظماً فقال: خد جواباً عما سألت سريعاً ... حسن اللفظ في بديع المعاني إن هذا المكان يعرف منا ... بمحل اللحى من الأذقان شعر الوجه إن تكاثف فيه ... لم يجب غسله على الإنسان

وهو قبل الإنبات يغسل أو ... أخف نبات من فوق هذا المكان هاك درراً بأعلى الدر في ... النظم إذا كان من نحور الغوان وأما شرائط الوضوء: فقد اختلف العلماء في عددها، فمنهم من جعلها عشرة، ومنهم من زاد على ذلك، ومنهم من نقص عن ذلك، ومنهم من وصلها إلى مائة وست وخمسين شرطاً، ثم رد الجميع إلى شرط واحد، وهو لا يقترن بمانع. قال العلماء: معرفة شروط العبادات واجبة على كل مخاطب، لتوقف العبادات على معرفتها والإتيان بها على الوجه المشروع، إذ لا يغتفر فيها الجهل ولا النسيان، فمن توضأ مع الجهل بكيفية الوضوء لم يصح. فمن شروط الوضوء: الإسلام، فلا يصح وضوء الكافر. ومنها: الماء الطهور، فلا يصح الوضوء بل ولا الغسل ولا إزالة النجاسة بغير الطهور، كالماء المستعمل ولو كان المستعمل له صبياً أو من لا يرى وجوب النية في الوضوء والغسل وهو الحنفي، وإنما يصح بالطهور وهو الماء المطلق، والمطلق ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد، أما إذا تقيد الماء كأن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بشيء طاهر مخالط تغيراً يمنع إطلاق اسم الماء عليه فإنه لا يصح الوضوء منه، ولا الغسل ولا إزالة النجاسة، كما إذا وقع في الماء زعفران فغير لونه، أو صابون أدخل فغير لونه، أو مسك فغير رائحته، وإنما كان غير طهور لأنه: لا يسمى ماء، ولهذا لو حلف أن لا يشرب الماء فشرب هذا المتغير بطاهر لا يحنث، خلافاً لأبي حنيفة فإنه جوز الوضوء بالماء المتغير بالزعفران أو نحوه. ولنا شخص توضأ بماء متغير لا يقع عليه اسم الماء، ولا هو باق على أصل خلقته ويصح وضوءه، وصورته: في الماء المتغير بما في مقره أو ممره أو بمجاوره كعود أو دهن أو نحو ذلك. ومنها: العلم بأنه طهور، فإذا لم يعلم من أراد الوضوء من ماء أنه طهور لا يصح الوضوء منه. ومنها: التمييز، فلا يصح وضوء غير المميز كالمجنون والصبي الذي لا يميز. ولنا شخص غير مميز ويصح وضوءه، وصورته: فيما إذا حج الإنسان ومعه صبي غير مميز أو مجنون فإن الولي يحرم عنه بالحج لينال أجر الحج، وعند الطواف يوضئه وينوي عنه ويصح وضوءه في هذه الصورة. ومنها: طهارة المحل عن الخبث إن لم يصلح الغسل لإزالة الحدث، كالسادسة في

الكلبية، فإذا تنجس وجه الإنسان مثلاً نجاسة كلبيه فغسله خمس مرات، ثم أراد أن يتوضأ فيشترط لصحة الوضوء أن يغسله مرة أخرى لتصير سادسة، فإن السادسة كالتي قبلها لا تصح لإزالة الحدث، إذ لا يزال الخبث باق اتفاقاً بخلاف السابعة بعد الترتيب فإنها صالحة لإزالتها، أفاد هذا الشرط الجوهري وغيره. ومنها: أن لا يكون على أعضاء الوضوء شيء مانع من وصول الماء إليه، يسمى «بالمانع الحببي» كشمع ونحوه، فإذا يجعل الإنسان في شقوق رجليه دهن شمع ووضع على يده أو رجليه حناء أو نحو ذلك وجب عليه في الوضوء أو الغسل إزالة عينه، فإن لم يزله لم يصح وضوءه ولا غسله حتى يغسل ذلك المحل، ويغسل ما بعده في الوضوء، نعم لا يضر بقاء لون الحناء فإنه ليس بحائل، ولو كان على عضوه دهن مائع فجرى عليه الماء فلم يثبت بل قطع صح وضوءه، وأما الوسخ الذي تحت الأظافر فقال جمهور العلماء: إنه مانع من صحة الوضوء والغسل، وقال الإمام حجة الإسلام الغزالي: لا يمنع من صحته لمشقة الاحتراز عنه، وما أحسنها من رخصة فإنه قل من سلم من وسخ تحت أظافره خصوصاً أرباب الصنائع والحرف. سؤال: فإن قيل: أي شيء على أعضاء الوضوء أو الغسل مانع من وصول الماء إلى ذلك العضو لا يضر. جوابه: الوسخ الذي نشوءه من البدن، فإذا تجمد من عرق الإنسان وسخ، فإنه ليس بمانع من صحة الوضوء ولا الغسل، وإن منع من وصول الماء إلى العضو، لأنه جزء من البدن، أما إذا تجمد الوسخ من الغبار فإنه يضر، لأنه ليس جزءاً منه. ومنها: معرفة كيفيته. ومنها: أنه لا يميز بين فرض الوضوء ونفله، فمن اعتقد أن جميع أفعال الوضوء سنة لا يصح وضوءه، كما أنه لو اعتقد أن جميع أفعال الصلاة سنة، فإن صلاته لا تصح، ولو اعتقد بعض أفعال الوضوء ولم يميز بين الفرض والسنة لم يصح أيضاً وضوءه، كما لو اعتقد ذلك في الصلاة فإنها لا تصح، وإن كان بعضها سنة. وغايته: أنه أدى سنة باعتقاد أنها فرض، فإنه لا يصح، كما قال الغزالي: العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها تصح صلاته بشرط: أن لا يقصد النفل بما هو فرض، أما لو اعتقد أن جميع أفعال الوضوء فرض فإنه يصح، وإن كان بعضها سنة كما لو اعتقد ذلك في الصلاة فإنها تصح، وإن كان بعضها سنة، وغايته: أنه أدى سنة باعتقاد أنها فرض وذلك لا يضر.

ومنها: استحباب النية حكماً، فمن نوى قطع الوضوء في أثنائه بطلب نيته بالنسبة إلى بقية الأعضاء فيجب استئنافها، وأما ما مضى فهو صحيح كما تقدم. ومنها: جريان الماء على العضو المغسول، فلا يكفي إيصال الماء إلى العضو المغسول من غير جريان، فكم من إنسان عند غسل الوجه مثلاً يمسح وجهه بالماء مسحاً من غير أن يسيل عليه الماء، فهذا وضوء باطل، لأن الواجب في الوجه واليدين الغسل لا المسح، ولا يتميز الغسل عن المسح إلا يجريان الماء. ومنها: استيعاب العضو للمغسول بالغسل، فلا يكفي غسل بعضه قال - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للأعقاب من النار» (¬1) . ومنها: أن يغسل مع المغسول جزءاً يتصل به من غيره، فإذا غسل وجهه فلابد أن يغسل شيئاً من الرأس والرقبة ليتقين أنه استوعبه، وإذا غسل يديه فلابد أن يغسل معهما شيئاً من الساقين لما تقرر في علم الأصول أن ما لا يتم الواجب إلا به، وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب. ومنها: أن لا يقترن بمانع شرعي، فمن وضأته امرأة أجنبية وكانت تلمس أعضاءه فإن وضوءه لا يصح عندنا، وكذلك من توضأ وريحه أو بوله خارج منه لاقترانه بمانع شرعي، نعم لنا شخص توضأ وبوله يسيل منه ووضوءه صحيح، وصورته: فيمن به سلس البون مثلاً إذا تعذر عليه حبسه فإن وضوءه صحيح وصلاته أيضاً وإن قطر بوله على الحصير، ويشترط في صحة وضوء صاحب الضرورة أيضاً دخول الوقت، وأن يحشو فرجه بقنطه وغيرها، وأن يقدم الاستنجاء على الوضوء، وأن يتوضأ لكل فريضة، فمن حدثه دائم كمن به سلس البول لا يصح وضوءه إلا بعد دخول الوقت كالمتيمم، ولا يصح وضوءه إلا بعد حشو فرجه والاستنجاء، وإذا توضأ لكل فرض ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/316، رقم 14432) ، وابن أبي شيبة (1/32، رقم 268) عن جابر. وأخرجه البخاري (1/33، رقم 60) ، ومسلم (1/214، رقم 241) ، وأبو داود (1/24، رقم 97) ، والنسائي (1/77، رقم 111) ، وابن ماجه (1/155، رقم 455) عن ابن عمرو. وأخرجه البخاري (1/73، رقم 163) ، ومسلم (1/214، رقم 242) ، والترمذي (1/58، رقم 41) ، وابن ماجه (1/154، رقم 453) ، وعبد الرزاق (1/20، رقم 58) ، وأحمد (2/482، رقم 10253) ، وابن حبان (3/368، رقم 1088) عن أبي هريرة. وأخرجه مالك (1/19، رقم 35) ، والشافعي (1/175) ، وعبد الرزاق (1/23، رقم 69) ، ومسلم (1/213، رقم 240) وابن ماجه (1/154، رقم 451) عن عائشة.

يجب عليه أن يدخل قطنته في إحليله فإن انقطع وإلا عصب مع ذلك رأس الذكر. فائدة: من به سلس المني يغتسل لكل فرض. وأما فضائل الوضوء فكثيرة: منها: أن المتوضئ يحبه الله كما يحب التائب قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ? [البقرة: 222] بالماء من الأحداث والنجاسات. وقال تعالى: ?فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ? [التوبة: 108] . ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الطهارة نصف الإيمان أو نصف الصلاة، فقد روينا في صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الطهور شطر الإيمان» (¬1) . واختلف بالمراد بالإيمان في هذا الحديث: فقيل: المراد به الصلاة، فإن الإيمان يطلق عليها قال الله تعالى: ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ? [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس. وقيل: المراد به معناه الحقيقي وهو المقابل للكفر، وعلى المعنيين فيه دلالة على فضل الوضوء، بل على فضل مطلق الطهارة، أما على الأول فإنها جعلت نصف الصلاة التي هي أفضل العبادات البدنية. وهنا سؤال وهو: الطهارة بعض شرائط الصلاة، فكيف جعلت نصف الصلاة؟ جوابه: أن الطهارة أقوى شرائط الصلاة فجعلت كأنها الشرط كله، فأطلق عليها الشطر بهذا الاعتبار. وأما على الثاني فإنها جعلت نصف الإيمان الحقيقي باعتبار أنها طهارة عن الشرك، وأنها طهارة عن الأحداث، فهما طهارتان إحداهما تختص بالباطن، والأخرى بالظاهر، فما أعظمها من فضيلة حيث جعلت نصف الإيمان الذي هو السبب في سعادة الدارين. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/203، رقم 223) ، والترمذي (5/535، رقم 3517) وقال: صحيح. والدارمي (1/174، رقم 653) ، وأحمد (5/342، رقم 22953) ، وأبو عوانة (1/189، رقم600) ، والطبراني في الكبير (3/284، رقم 3423) ، وابن منده (1/374، رقم 211) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/3، رقم 2709) عن أبي مالك الأشعري.

ومنها: أنه مفتاح الصلاة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «مفتاح الصلاة الطهور» (¬1) . ومنها: أنه سبب للنظافة التي بُني الدين عليها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «بني الدين على النظافة» (¬2) . ومنها: أنه مكفر للذنوب والخطايا ورفع الدرجات، روينا في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» (¬3) . ومعنى «إسباغ الوضوء على المكاره» إتمامه في شدة البرد. فائدة: ذكر أهل العلم في معنى قوله: «فذلكم الرباط» وجهين: أحدهما: أنه شبه الذي يتوضأ في شدة البرد، ويكثر الذهاب إلى المسجد، وينتظر الصلاة بعد الصلاة في الأجر بالمرابط في سبيل الله قبالة أعدائه. والثاني: أنه رباط صاحبه عن إثم الخطيئة، فكأنه عقله عنها بفعله. وروينا في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره» (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/167 رقم 618) والترمذي (1/8، رقم 3) وقال: هذا الحديث أصح شىء في هذا الباب. وابن ماجه (1/101 رقم 275) ، وأبو يعلى (1/456، رقم 616) ، والدارقطني (1/360) ، والضياء (2/341، رقم 718) وقال: إسناده حسن. والشافعي (1/34) ، وابن أبي شيبة (1/208، رقم 2378) ، وأحمد (1/123، رقم 1006) عن على. وأخرجه ابن أبي شيبة (1/208، رقم 2380) ، والحاكم (1/223، رقم 457) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. والبيهقي (2/85، رقم 2386) . أخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (3/36، رقم 390) عن أبي سعيد. (¬2) أورده الرافعي في التدوين (1/176) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه مسلم (1/219، رقم 251) . وأخرجه أيضا: الترمذي (1/72، رقم 51) ، والنسائي (1/94، رقم 139) ، ومالك (1/161، رقم 384) ، وعبد الرزاق (1/520، رقم 1993) ، وأحمد (2/235، رقم 7208) ، وابن حبان (3/313، رقم 1038) ، وابن خزيمة (1/6، رقم 5) عن أبي هريرة. (¬4) أخرجه مسلم (1/216، رقم 245) . وأخرجه أيضاً: أحمد (1/66، رقم 476) ، والبزار (2/82، رقم 433) ، وأبو عوانة (1/194، رقم 615) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/12، رقم 2731) عن عثمان.

وروينا أيضاً في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، ومع آخر قطره من الماء، فإذا غسل يديه خرج كل خطيئة بطشها يداه مع الماء ومع آخر قطره من الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ومع آخر قطره من الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب» ، وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: هذا حديث حسن صحيح (¬1) . رواه النسائي وزاد فيه: «وإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافله له» (¬2) . ومنها: كما قاله في نزهة المجالس: إن العبد إذا غسل وجهه صار في الآخرة كوجه يوسف، وإذا غسل يديه أخذ كتابه بيمينه، كما أخذ موسى الألواح بيمينه، وإذا مسح رأسه يوضع عليه تاج العز، كما وضع على سليمان، وإذا غسل رجليه ركب النجائب، كما ركب محمد - صلى الله عليه وسلم - البراق. ومنها: أنه ينجو من عذاب القبر، ويدل على ذلك الحديث الطويل الذي رواه الطبراني في الكبير والحكيم والترمذي في نوادر الأصول والأصبهاني في الترغيب وهو حديث كثير الفوائد وسنذكره في المجالس الآتية فإنه ذكر فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «رأيت رجلاً من أمتي قد سلط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوءه فاستنقذه منه» (¬3) . فائدة: إذا أراد العبد العاصي أن يتوب إلى الله تعالى فينبغي له أن يتوضأ قبلها، ويأتي بأركان التوبة، ويصلي ركعتين، فقد نص علماؤنا الشافعية على استحباب ركعتين عند التوبة لخبر رواه الترمذي وحسنه: «ليس عبد يذنب ذنباً فيقوم فيتوضأ ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/215، رقم 244) ، والترمذي (1/6، رقم 2) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضاً: مالك (1/32، رقم 61) ، والدارمي (1/197، رقم 718) ، وابن خزيمة (1/5، رقم 4) ، وأبو عوانة (1/207، رقم 669) ، والبيهقي (1/81، رقم 386) ، وابن حبان (3/315، رقم 1040) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه النسائي (1/74، رقم 103) عن عبد الله الصنابحي. (¬3) أورده الحكيم (3/231) ، وأخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (7/180) قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي وكلاهما ضعيف. كلاهما عن عبد الرحمن بن سمرة

يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له» (¬1) ثم فراغه يتوسل إلى الله في قبول توبته، فقد قيل: إن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يتوب على آدم، أمره جبريل أن يتوضأ ويتوسل إلى الله تعالى. كما نقل عن ابن عباس أنه قال: «لما أصاب آدم الزلة أهبط على الأرض إلى جبل «سرنديب» وهو يبكي، فلما طال بكاؤه وهبط إليه جبريل فقال: يا آدم كم هذا البكاء ألم تعلم أن الله تعالى جعل الماء طهوراً، والإيمان نوراً؟ فقال: نعم، قال: قم واغسل الأعضاء التي قصدت بها الزلة، وتوجه إليه، وتوكل عليه، فقام آدم وتوضأ وصلي وجعل يقول: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فتقبل منه وغفر له» . وقيل: إن آدم في مدة بكائه كان واضعاً وجهه على الأرض لله وهو يبكي حتى نبت العشب حول وجهه من دموعه وغطى رأسه، وكلما ذكر زلته يتأوه ويصيح فيخرج من فمه نفس يُسوِّد العشب، فلما أراد أن يتوب عليه ناداه يا آدم يا صفوتي فلم يجب ربه، فناداه ثانيا فلم يجبه، فناداه ثالثاً فلم يجبه، فارتعدت الملائكة من الخوف وقالوا: أهلكنا فإن آدم لم يجب ربه، فنزل جبريل وقال: يا آدم ألم تسمع نداء ربك؟ قال آدم: نعم أسمع نداءه وهو يقول: يا صفوتي، فكيف أكون صفياً وأنا قد عصيت، وظننت أنه خلق غيري وهو يناديه، فإن كان النداء لي فلبيك اللهم لبيك، فنودي وهو على تلك الحال: يا آدم ما كنت تقول في قلبك قبل ندائي لك وأنا علام الغيوب؟ قال: يارب كنت أقول: ومن يغفر الذنوب إلا الله، وكلما تذكرت ذنبي انكسر قلبي، فقال الله تعالى: يا آدم ألم تعلم أني عند المنكسرين من أجلي إذا لم يقطع عبدي الرجاء. في صحيح مسلم في حديث مطول عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (2/257، رقم 406) وقال: حسن. وأخرجه أيضا: أبو داود (2/86، رقم 1521) ، ووالنسائي في الكبرى (6/109، رقم 10247) ، وابن ماجه (1/446، رقم 1395) ، وابن حبان (2/389، رقم 623) ، وأبو يعلى (1/25، رقم 15) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/401، رقم 7077) ، والضياء في الأحاديث المختارة (1/82، رقم 7) وقال: إسناده صحيح. والطيالسي (1/2، رقم 1) ، وابن أبي شيبة (2/159، رقم 7642) ، وأحمد (1/2، رقم 2) ، والحميدي (1/4، رقم 4) عن أبي بكر.

غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه» (¬1) . وقال الغزالي في الإحياء قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت الخطايا من فمه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفاره، ثم كان مشية إلى المسجد وصلاته نافلة له» (¬2) . ويروى: «إن الطاهر كالصائم» (¬3) . وقال عمر - رضي الله عنه -: «إن الوضوء الصالح يطرد عنك الشيطان» (¬4) . * * * ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/569، رقم 832) . وأخرجه أيضاً: أحمد (4/112، رقم 17060) ، والبيهقي (1/81، رقم 387) ، وأبو عوانة (1/206، رقم 668) ، وابن سعد (4/217) عن عمرو بن عبسة. (¬2) أخرجه النسائي (1/74، رقم 103) ، وابن ماجه (1/103، رقم 282) ، ومالك (1/31، رقم 60) ، وأحمد (4/349، رقم 19091) ، والحاكم (1/220، رقم 446) وقال: صحيح. والبيهقي في شعب الإيمان (3/13، رقم 2734) عن عبد الله الصنابحي. (¬3) أخرجه الديلمي (2/463، رقم 3981) عن عمرو بن حريث. قال المناوي (4/289) : قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف. (¬4) انظر: إحياء علوم الدين (1/135 - 136) .

المجلس الثامن والثلاثون

المجلس الثامن والثلاثون في بيان أسباب الحدث قَالَ البُخَارِي: بَابُ لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةً بِغَيْرِ طَهُورٍ هذه الترجمة هي لفظ حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن عمر بزيادة: «ولا صدقة من غلول» (¬1) والغلول: الخيانة في المغنم. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِىُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/204، رقم 224) . وأخرجه أيضاً: الطيالسي (ص: 255، رقم 1874) ، وأحمد (2/19، رقم 4700) ، وابن الجارود (1/28، رقم 65) ، وابن خزيمة (1/8، رقم 8) ، وأبو عوانة (1/198، رقم 635) ، والبيهقي (2/255، رقم 3196) . (¬2) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «لا تقبل» المراد بالقبول هنا ما يرادف الصحة وهو الإجزاء، وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة. ولما كان الإتيان بشروطها مظنة الإجزاء الذي القبول ثمرته عبر عنه بالقبول مجازا، وأما القبول المنفي في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة» فهو الحقيقي، لأنه قد يصح العمل ويتخلف القبول لمانع، ولهذا كان بعض السلف يقول: لأن تقبل لي صلاة واحدة أحب إلى من جميع الدنيا، قاله ابن عمر. قال: لأن الله تعالى قال: ?إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ? [المائدة: 27] . قوله: «أحدث» : أي وجد منه الحدث، والمراد به الخارج من أحد السبيلين، وإنما فسره أبو هريرة بأخص من ذلك تنبيها بالأخف على الأغلظ، ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، وأما باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء - كمس الذكر ولمس المرأة والقيء ملء الفم والحجامة - فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بشيء منها. وقيل إن أبا هريرة اقتصر في الجواب على ما ذكر لعلمه أن السائل كان يعلم ما عدا ذلك، وفيه بعد. واستدل بالحديث على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختياريا أم اضطراريا، وعلى أن الوضوء لا يجب لكل صلاة لأن القبول انتفى إلى غاية الوضوء، وما بعدها مخالف لما قبلها فاقتضى ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقاً. قوله: «يتوضأ» : أي بالماء أو ما يقوم مقامه، وقد روى النسائي بإسناد قوي عن أبي ذر مرفوعاً «الصعيد الطيب وضوء المسلم» فأطلق الشارع على التيمم أنه وضوء لكونه قام مقامه، ولا يخفى أن المراد بقبول صلاة من كان محدثاً فتوضأ أي: مع باقي شروط الصلاة. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/235) .

هذا الرجل الذي سأل أبا هريرة لا يعرف اسمه، وجاء أنه أعرابي. قوله: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» القبول يطلق شرعاً ويراد به حصول الثواب، ولا يلزم في بقية نفي الصحة، بل نفي الثواب مع حصول الصحة، بدليل صحة صلاة العبد الآبق وصلاة شارب الخمر إذا لم يسكر ما دام في جسده شيء منها، والصلاة في الدار المغصوبة عند الشافعية، فلا ثواب لواحد منهم. ويطلق ويراد به وقوع الفعل صحيحاً، وحينئذ يلزم من نفيه نفي الصحة، وهذا المعنى هو المراد هنا بقرينة الإجماع، فمعنى الحديث: لا تصح صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وإذا لم يكن صحيحه فلا ثواب لها. سؤال: فإن قيل: تقبل الصلاة وتصح بالتيمم أيضاً فكيف قال: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ فقط؟ فالجواب: أن المراد حتى يتوضأ أو ما يقوم مقامه كالتيمم، واقتصر على الوضوء لأنه الأصل، والوضوء يطلق على التيمم بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين» (¬1) . فقوله: «حتى يتوضأ» أي: بالماء والتراب. والحدث ينقسم إلى حدث أصغر وهو ما أوجب الوضوء، وإلى أكبر وهو ما أوجب الغسل كالجنابة ونحوها. وقال بعض العلماء: الحدث ينقسم إلى حدث أصغر وكبير وأكبر، فالأصغر: ما أوجب الوضوء، والكبير ما أوجب الغسل كالجنابة والجماع، والأكبر ما أوجبه لحيض ونفاس. والمراد «بالحدث» في الحديث أي: الخارج من أحد السبيلين فيمنع من صحة الصلاة، وله أربعة أسباب. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (1/211، رقم 124) وقال: حسن صحيح. والنسائي (1/171، رقم 322) ، وابن حبان (4/140، رقم 1313) ، والدارقطني (1/186) ، والبيهقي (1/212، رقم 962) ، وعبد الرزاق (1/238، رقم 913) ، وأحمد (5/155، رقم 21408) ، والحاكم (1/284، رقم 627) وقال: صحيح. جميعا عن أبي ذر.

فإن قيل: لأي شيء اقتصر أبو هريرة حين سأله الرجل عن الحدث على بعض الأسباب وقال له في الجواب: «فساء أو ضراط» مع أن الحدث يحصل بغيرها كما ستسمعه؟ فالجواب: أن أبا هريرة إنما اقتصر على ذلك لأنه الذي كان يجهله هذا الرجل الأسباب فعلمه ما يجهله منها أو أنه أجابه عما يحتاج إلى معرفته في غالب الأمر، أو أنه عما يقع من الأسباب في الصلاة غالباً، ولم يذكر غيرها كالبول مثلاً لأنه لا يعهد وقوعه فيها، بدليل قوله في الحديث الآخر الآتي: لما سئل عن الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء أي الحركة التي يظن بها أنها حدث، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينفتل ولا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» (¬1) أي لا يخرج من صلاته حتى يعلم وجود أحدهما يقيناً بالسماع وبالشم. والانفتال: بمعنى الانصراف. وقوله: «لا ينفتل» بالرفع على أنه نفي، وبالجزم على أنه نهي. «أو لا ينصرف» شك من الراوي وهو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني. السبب الأول (¬2) : خروج شيء من قبله أو دبره ولا فرق بين أن يكون صوتاً أو ريحاً، ولا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك، ولا فرق بين أن يكون الخارج طاهراً كالحصاة أو نجساً، ولا بين أن يكون معتاداً كالبول والغائط، أو نادراً كالدم، ولا فرق في الخارج من قبل المرأة بين أن يكون من مخرج أو من غيره كمدخل الذكر، ولو أخرجت دودة رأسها من فرجها ثم رجعت انتقض الوضوء، ودبر الخنثي المشكل ينتقض الخارج منه كغيره والخارج من قبليه جميعاً، أما الخارج من أحدهما فإنه لا ينتقض. ومن خلق له ذكران فإن كان يبول منهما انتقض الوضوء بالخارج من أحدهما، وإن كان يبول من أحدهما فالحكم له أي: ينقض الخارج منه فقط، والآخر زائد لا يتعلق به نقض قاله الأسنوي وغيره. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/77، رقم 175) ، ومسلم (1/276، رقم 361) ، وأبو داود (1/45 رقم 176) ، والنسائي (1/98 رقم 160) ، وابن ماجه (1/171، رقم 513) ، وأحمد (4/40، رقم 16497) ، وابن خزيمة (1/17، رقم 25) ، والحميدي (1/201، رقم 413) ، وأبو عوانة (1/201، رقم 650) . (¬2) أي من أسباب الحدث أو خروج شيء من أحد السبيلين وقد مر أنها أربعة أسباب.

قال القاضي زكريا: الحكم في الحقيقة منوط بالأصالة لا البول، حتى لو كانا أصليين ويبول بأحدهما ويطأ بالآخر نقض كل منهما، أو كان أحدهما أصلياً والآخر زائداً نقض الأصلي فقط وإن كان يبول بهما، إلا إذا كان الزائد على سنن (¬1) الأصلي فإن الوضوء ينتقض بالبول منه، قال: وإن التبس الأصلي بالزائد فالظاهر أن النقض منوط بهما معاً لا بأحدهما. ولو خلق للمرأة فرجان فبالت وحاضت بهما انتقض الوضوء بالخارج من كل منهما فإن بالت وحاضت بأحدهما اختص الحكم به، ولو بالت بأحدهما وحاضت بالآخر فالوجه تعلق الحكم بكل منهما. ويستثني من الخارج «المني» فإنه لا ينقض الوضوء ولكن يوجب الغسل، ويتصور خروجه من غير جماع بما إذ نام وهو قاعد على وضوء ممكن مقعده من الأرض، أو نزل بفكر أو نظر، وإنما لم ينقض لأنه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوصه أي: بخصوص كونه منياً. ولنا مني ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل، وصورته: فيما إذا استدخلت المرأة منيها أو مني غيرها بعد انفصاله، ثم توضأت ثم خرج منها فإنه ينقض وضوءها ولا يوجب الغسل. سؤال: فإن قيل: لأي شيء نقض الحيض الوضوء، مع أنه أوجب أعظم الأمرين بخصوصه، فما الفرق بينه وبين المني؟ جوابه: أنهم فرقوا بينهما من وجوه: الأول: أن الحيض مانع من صحة الوضوء في الاستدامة، فلا يبقى معه في الابتداء بخلاف الجنابة فإنها لا تمنع صحة الوضوء في الاستدامة، ولا يمتنع بقائه في الابتداء. الثاني: أن المني خارج طاهر ودم الحيض خارج نجس، فلا يصح إيراده نقضاً لعدم المساواة وقيام الفرق. الثالث: أن الحيض وخروج المني يختلف أحكامها في التغليظ والتخفيف، فلا يلزم من كون الحيض ناقضاً أن يكون المني ناقضاً قياساً عليه، لأن حدث الحيض استغلظ من حدث الجنابة، لأنه يحرم به أشياء لا تحرم بالمني، وقد ذكر علماء الأصول: أن شرط القياس أن لا يختلف المقيس والمقيس عليه في التغليظ والتخفيف، وحيئنذ فلا يرد ¬

(¬1) هاكذا بالأصل ومعناه: على صفته من حيث أنه يؤدي به ما يوديه الأصلي.

السؤال لعدم المساواة بينهما في العلة. قال العلماء: ولو انسد مخرج الإنسان وانفتح له مخرج بدله تحت معدته أي: تحت سرته، فخرج منه شيء انتقض وضوءه، إذ لابد للإنسان من مخرج فأقيم هذا مقامه، أما إذا انفتح له مخرج تحت المعدة، والأصلي منفتح أو فوقها أي: فوق المعدة، بأن انفتح في السرة فما فوقها، والأصلي من محاذيها يشبه القيء، والقيء لا ينقض، وما انفتح تحت المعدة والأصلي منفتح لا ضرورة إلى جعله مخرجاً مع انفتاح الأصلي، هذا إذا طرأ الانسداد على الأصلي، أما لو خلق الإنسان منسداً ففي أي: موضع انفتح له مخرج ينقض الخارج منه سواء فوق المعدة أو تحتها. فائدة: حيث جعلنا الأصلي المنفتح كالأصلي في النقض بخروج الخارج منه فلا نجعله مثله في أجزاء الحجر فيه عند الاستنجاء، ولا في نفض الوضوء بمسه، ولا في وجوب الغسل وغيره من أحكام الوطئ بالإيلاج فيه، ولا في حرمة النظر إليه حيث كان فوق العورة، وأما الأصلي فأحكامه باقية إذا طرأ عيله الانسداد، أما إذا كان منسداً أصالة كعضو زائد من الخنثي لا يجب بمسه وضوءه إلا بإيلاجه والإيلاج فيه غسل. السبب الثاني: زوال العقل وزوال التمييز بجنون أو إغماء أو سكر أو نوم أو غير ذلك، فإذا نام المتوضئ أو جن أو أغمي عليه أو سكر أو نحو ذلك انتقض وضوءه، وإنما انتقض الوضوء بالنوم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «العينان وكاء السَّة فمن نام فليتوضأ» (¬1) رواه أبو داود وابن السكن في صحاحه. كني - صلى الله عليه وسلم - «بالعينين» عن اليقظة. «الوكاء» بكسر الواو بالمد الخيط الذي يربط به الشيء، والمراد الحفاظ. «والسة» : الدبر. والمعنى: أن اليقظة هي الحافظة لما يخرج، والنائم قد يخرج منه الشيء ولا يشعر، وإذا ثبت النقض بالنوم ثبت بالجنون والاغماء والسكر ونحوها، لأنها أبلغ منه في الذهول الذي هو مظنة لخروج شيء من دبره، لأن النوم يستر العقل، والجنون يزيله، والإغماء يغمره، ولا ينقض النعاس المسمى «بالسنة» ، ولا حديث النفس، ولا أوائل ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/52، رقم 203) . وأخرجه أيضاً: أحمد (1/111، رقم 887) ، وابن ماجه (1/161، رقم 477) ، والدارقطني (1/161) ، والبيهقي (1/118، رقم 575) ، والضياء (2/255، رقم 632) عن علي.

نشوة السكر، لعدم زوال الشعور. ويحصل الفرق بين النوم والنعاس بسماع كلام الحاضرين، وإن لم يفهمه وبالرؤيا، فإن سمع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه فذلك نعاس لا ينقض، وإن رأى رؤيا ذلك نوم ناقض، ولو شك هل نام أو نعس لم ينتقض وضوءه. وللنوم أربع علامات سنذكرها في محلها إن شاء الله تعالى. ويستثنى ما إذا نام ممكناً مقعده من مقره فإن وضوءه لا ينتقض ولو كان مستنداً إلى شيء لو أزيل عنه لسقط، وكذا لو نام محتبياً أي: جالساً على إليته رافعاَ ركبتيه محتوياً عليهما بيديه أو غيرهما. والذي يدل على أن من نام قاعداً ممكناً مقعده من مقرة لا ينتقض وضوءه ما ورد في صحيح مسلم عن أنس: «أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينامون، ثم يصلون ولا يتوضؤون» (¬1) . وهو محمول على أنهم كانوا ينامون ممكنين مقعدهم من مقرهم، جمعاً بينه وبين ما رواه أبو داود والترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا وضوء على من نام قاعداً إنما الوضوء على من نام مضجعاً» (¬2) فإن من نام مضطجعاً استرخت مفاصله. سؤال: فإن قيل: يحتمل أن يخرج ممن نام ممكنا مقعده من الأرض من مقره الريح من قبله، فلم قلتم لا ينتقض وضوءه مطلقاً؟ فالجواب: أن خروج الريح من القبل نادر فلم يرتفع به أصل الطهارة، نعم يستحب لمن نام قاعداً ممكناً مقعده أن يتوضأ للخروج من الخلاف قاله في الروضة. قال العلماء: وإذا نام ممكناً مقعده من الأرض فمال في نومه حتى زالت إحدي إليتيه عن الأرض هل ينتقض وضوءه أم لا؟ فيه تفصيل وهو أن يقال: إن زالت قبل انتباهه انتقض، وإن لم تقع يده على الأرض لمضي لحظه وهو نائم غير ممكن، وإن زالت مع انتباهه أو بعد أو شك هل زالت قبل انتباهه أو بعده فلا ينتقض وضوءه، لأن الأصل بقاء الطهارة، ولو تيقن النوم وشك هل كان ممكن أم لا؟ يجب عليه الوضوء، ولو نام على قفاه ملصقاً مقعده من ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/284، رقم 376) . (¬2) أخرجه أبو داود (1/52، رقم 202) وقال: منكر. والترمذي (1/111، رقم 77) . وأخرجه أيضاً: الطبراني (12/157، رقم 12748) ، والبيهقي (1/121، رقم 592) عن ابن عباس.

الأرض انتقض وضوءه، لأنه غير ممكن مقعده منها، نعم لنا شخص نام قاعداً ممكناً مقعده من الأرض وانتقض وضوءه، ولنا آخر نام على جنبيه أو قفاه ولم ينتقض وضوءه، أما الأول فهو الهزيل النحيف فإنه وإن اجتهد في مقعده من مقره لابد وأن يبقى بينهما بعض تجاف يخرج منه شيء من دبره هكذا قاله المارودي وأقره الرافعي، وقال الأذرعي: إنه الحق، لكن قال النووي في الروضة وغيرها: أنه لا ينتقض. وقال ابن الرفعة: إنه المذهب. وأما الثاني فهو النبي - صلى الله عليه وسلم -. السبب الثالث من أسباب الحدث: التقاء بشرتي الرجل والمراة، فإذا وقعت ملامسة بين الرجل والمراة انتقض وضوء الملامس والملموس، ولو كان الرجل خصيا أو عينياً أو ممسوحا لقوله تعالى: ?أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ? [النساء: 43] هذا مذهب إمامنا الشافعي. وعند أبي حنيفة لا ينتقض بلمس الرجل والمرأة لا وضوء للملامس ولا الملموس، وأجاب عن قوله تعالى: ?أَوْ لامَسْتُمُ? بأن المراد: جامعتم. وقال إمامنا الشافعي حمل ?أَوْ لامَسْتُمُ? على جامعتم خلاف الظاهر، بدليل قراءة الآخر «أو لمستم» واللمس الجس باليد وبغيرها، أو الجس باليد وألحق غيرها بها. ومما يدل على أن اللمس لا يختص بالجماع قوله تعالى: ?فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ? [الأنعام: 7] . والمعنى في انتقاض الوضوء بالتقاء بشرتي الرجل والمرأة: أن الالتقاء مظنة التلذذ المثير للشهوة، وينتقض عندنا الوضوء بالملامسة سواء أوقعت عمداً وسهواً بشهوة أو بغيرها بإكراه أو بغيره، بعضو أصلي أو زائد بعضو سليم، أو أشل بأعضاء الوضوء أو غيرها، هذا إذا وقعت الملامسة بين بشرتي الرجل والمرأة أي: من غير حائل. والبشرة: ظاهر الجلد، ومنها: اللسان واللثة فإذا لمس لسانها أو لحم أسنانها أو لمست هي ذلك انتقض الوضوء، أما إذا وقعت الملامسة مع الحائل فإنها لا تنقض، ولو كان رقيقاً. نعم لنا شيء حائل بين اللامس والملموس وينقض، وصورته: فيما إذا كثر الوسخ على البشرة من العرق فإنه حائل مع أن لمسه ينقض لأنه صار كالجزء من البدن، بخلاف ما إذا كان من غبار. قال العلماء: ولا نقض بين التقاء بشرتي رجلين، ولا امرأتين، ولا خنثتين، ولا

خنثى ورجل، ولا خنثى وامرأة لاحتمال التوافق في الخنثتين، والخنثى مع الرجل أو المرأة، وتنقض ميتة، وذكر ميت، وعجوز، وهرم، وتستثنى من النساء المحارم بنسب أو رضاع أو مصاهرة، فإذا لمس الإنسان محارمه كأمه وعمته وخالته لا ينتقض وضؤه، ولو لمسها بشهوة لأنها ليست في مظنة الشهوة وهو بالنسبة إليه كالرجل. وضابط المحارم التي لا ينقض الوضوء بلمسها ويجوز النظر إليها والخلوة والمسافرة بها: كل امرأة حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فخرج بالتأبيد أخت الزوجة وعمتها وخالتها فإنه لا يحرم نكاحهن على التأبيد، بل إلى أن يفارق الزوجة فلسن بمحارم له فينقضن الوضوء، وخرج أيضاً: المرتدة والمجوسية والوثنية فإنهن لا يحرم نكاحهن على التأبيد، لأنهن إذا أسلمن حل نكاحهن. والمراد بالسبب المباح: العقد والدخول وخرج به ما إذا وطئ امرأة بشبهة كوطئ من ظنها زوجته فإن أمهاتها وبناتها وإن حرمن عليه على التأبيد لا تثبت الحرمة لهن فلمسهن ينقض الوضوء، لأن سبب التحريم ليس مباحاً، لأن وطئ الشبهة في الفاعل لا يوصف بالإباحة ولا بالتحريم، نعم إذا تزوج تلك الموطوءة بشبهة ودخل بها تثبت المحرمية في أصولها وفي فروعها ولا ينقض لمسهن الوضوء. قال الأسنوي: وترد هذه على الضابط، إذ السبب المباح وهو العقد والدخول لم يحرمهن لسبق تحريمهن بوطئ الشبهة، ويستحيل تحصيل الحاصل. وخرج بقوله في الضابط لحرمتها: الملاعنة فإن تحريمها على التأبيد لحرمتها لا لمحرميتها، ولا تنقض أم الزوجة ولا بنتها لصدق الحد عليهما. ولو شك هل لمس محرمة أم أجنبية؟ لم ينقض إذ الأصل بقاء الطهارة. ولا تنقض صغيرة لا تشتهى، لأنها ليست محلاً للشهوة، ومثلها الصغير الذي لا يشتهى. ولا ينقض شعر ولا سن ولا ظفر لأنها ليست مظنة للشهوة. ولا ينقض وضوء الرجل بلمس الأمرد الحسن ولو كان بشهوة، لأنه لم يدخل في قوله: ?أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ? [النساء: 43] . نعم قال في الإفصاح: قال الإمام مالك: ينقض، وبه قال الأصطخري من الشافعية، فالأفضل المستحب في حق من لمسه أن يتوضأ خروجاً من الخلاف. ولا ينقض العضو المبان أي المقطوع فإذا قطعت يد المرأة مثلاً فلمسها الرجل، أو يد الرجل مثلاً فلمستها المرأة فلا ينتقض الوضوء، لأن العضو المقطوع لا يسمى امرأة

ولا رجل. السبب الرابع من أسباب الحدث: مس جزء من فرج الآدمي بجزء من بطن الكف بلا حائل سواء كان الفرج الممسوس قبلاً أو دبراً من نفسه أو غيره عمداً أو سهواً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من مس ذكره فليتوضأ» رواه الأربعة وصححه الترمذي (¬1) . والمراد: المس ببطن الكف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ» رواه ابن حبان وغيره (¬2) . والإفضاء لغة: المس ببطن الكف. فإن قيل: الحديث الأول والثاني يدلان على أن من مس فرجه ينقض دون فرج غيره؟ فالجواب: أن من مس فرج غيره ينقض قياساً على مس فرجه لأن مسه أفحش من فرجه لهتكه حرمة غيره، ولهذا لا يتعدى النقض إليه. والمراد ببطن الكف الراحة مع بطون الأصابع، فلو مس بظهر الكف لم ينقض وكل ما يستر عند وضع اليدين على الأخرى بتحامل يسير فهو بطن الكف. وينقض المس ببطن أصبع زائدة إن كانت على استواء الأصابع وإلا فلا، وقبل المرأة الناقض ملتقى شفريها، فإن مست ما وراء الشفر لم ينتقض بلا خلاف. ومس الذكر المنفصل كالمتصل لبقاء اسم الذكر عليه بعد الإبانة، بخلاف فرج المرأة إذا قطع فإنه لا ينقض لأنها جلدة لا تتميز غالباً، فلا يصدق عليها اسم الفرج، وإذا قطع بعض الذكر فلمسه انتقض وضؤه، وقلفة الصبي وهي الجلدة التي تقطع في الختان ينقض مسها قبل القطع لا بعده، ولو خلق للإنسان كفان فإن اتفقا في العمل وعدمه نقضا، وإن كانت إحداهما عاملة والأخرى غير عاملة فإن كانتا على معصم ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/46، رقم 181) ، والترمذي (1/126، رقم 82) ، والنسائي (1/216، رقم 447) ، وابن ماجه (1/161، رقم 479) . وأخرجه أيضاً: مالك (1/42، رقم 89) ، وأحمد (6/406 رقم 27334) ، وابن أبي شيبة (1/150، رقم 1725) ، والطيالسي (ص: 230، رقم 1657) ، وابن الجارود (1/18، رقم 18) ، وابن حبان (3/400، رقم 1116) ، والحاكم (1/231، رقم 474) ، والبيهقي (1/129، رقم 613) عن بسرة بنت صفوان. (¬2) أخرجه ابن حبان (3/401، رقم 1118) . وأخرجه أيضاً: أحمد (2/333، رقم 8385) ، والشافعي (1/12) ، والدارقطني (1/147) ، والطبراني في الأوسط (2/237، رقم 1850) ، والبيهقي (1/133، رقم 630) ، والطبراني في الصغير (1/84، رقم 110) عن أبي هريرة.

واحد نقضت الزائدة كالأصلية، بشرط أن تكون الزائدة كالأصلية كالأصبع الزائدة، وإن كانتا على معصمين نقضت الأصيلة فقط، ولا تنقض الزائدة، ولو خلق له ذكران فإن اتفقا في العمل وعدمه نقضا، وإن كان أحدهما عاملاً دون الآخر نقض مس العامل، وغير العامل إن كان على سنن العامل نقض مسه وإلا فلا. والمراد بالدبر الناقض ملتقى المنفذ دون ما ورأه. قال العلماء: فلا ينقض الوضوء بمس العانة ولا بمس الانثيين ولا بمس الإليين ولا بمس ما بين القبل والدبر، لأنه لا يسمى فرجاً. ولا ينتقض الوضوء بمس الذكر، برأس الأصابع وبما بينهما. ولا ينقض بمس فرج البهيمة، كما لا يجب ستره ولا يحرم النظر إليه. ولا ينتقض بقهقهة مصل ويدل عليه ما أخرجه ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: «ليس من ضحك في الصلاة إعاده وضوء» (¬1) وإنما كان ذلك لهم حين ضحكوا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما روي من أنها تنتقض ضعيف، ولهذا قال علماؤنا: ولو افتصد الإنسان في صلاته فخرج منه الدم ولم يلوث بشرته لم تبطل صلاته لعدم بطلان طهارته، وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - ينتقض الوضوء بالقهقهة في كل صلاة ذات ركوع وسجود، لا في صلاة جنازة، ولا ينتقض الوضوء بالنجاسة الخارجة من غير الفرج كدم الرعاف من جميع المأكول. وأما ما ورد في مسلم من إيجاب الوضوء مما مست النار (¬2) فمنسوخ أيضاً بالخبر ¬

(¬1) أخرجه ابن عساكر (61/389) . وأخرجه أيضا: الدارقطني (1/175) عن جابر. (¬2) أخرجه مسلم (1/273، رقم 353) ، وابن ماجه (1/164، رقم 486) ، وأحمد (6/89، رقم 24624) عن عائشة. وأخرجه مسلم (1/272، رقم 352) ، والنسائي في الكبرى (1/104، رقم 179) ، وابن ماجه (1/163، رقم 485) ، وعبد الرزاق (1/173، رقم 668) ، وابن أبي شيبة (1/53، رقم 549) ، وأحمد (2/265، رقم 7594) ، وابن حبان (3/426، رقم 1147) عن أبي هريرة. وأخرجه ابن ماجه (1/164، رقم 487) ، قال البوصيري (1/70) : هذا إسناد مختلف فيه من أجل خالد بن يزيد ولم ينفرد به. والطبراني في الأوسط (7/16، رقم 6720) . قال الهيثمي (1/249) : فيه خالد بن يزيد بن أبي مالك وهو كذاب. كلاهما عن أنس. وأخرجه أبو داود (1/50، رقم 195) ، والنسائي في الكبرى (1/105، رقم 186) ، وعبد الرزاق (1/172، رقم 665) ، وأحمد (6/426، رقم 27439) ، وابن أبي شيبة (1/53، رقم 550) ، والطبراني (23/244، رقم 488) عن أم حبيبة.

الصحيح في أبي داود عن جابر - رضي الله عنه - كان آخر الأمرين من رسول الله - رضي الله عنه - ترك الوضوء مما غيرت النار (¬1) . فائدة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» دليل على بطلان الصلاة مع الحدث، وفيه دليل على أنه يحرم على المحدث حدثاً أصغر الصلاة ولو كانت نفلا أًو صلاة جنازة، هذا في غير فاقد الطهورين، ودائم الحدث، ويحرم عليه خطبة الجمعة والطواف ولو نفلاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الطواف بمنزلة الصلاة إلا أن الله تعالى قد أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير» رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم (¬2) . ويحرم عليه سجود التلاوة أو الشكر لأنه في معنى الصلاة. قال ابن الصلاح: وأما ما يفعله عوام الفقراء من السجود بين يدي المشايخ محدثين فهو من العظائم، ولو كان بطهارة إلى القبلة قال: وأخشى أن يكون كفراً. وأما قوله تعالى: ?وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً? [يوسف: 100] فهو منسوخ أو مؤول، ويحرم عليه مس المصحف ولو كان بغير أعضاء الوضوء، ولا فرق بين مس كتابته وورقه وحواشيه وما بين سطوره، لأن اسم المصحف يقع على الجميع وقوعاً واحداً، وكذلك يحرم مسه من وراء ثوبه أو ثوب غيره، وكذا يحرم مسه على فاقد الطهورين، ودليل تحريم مسه قوله تعالى ?لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ? [الواقعة: 79] أي: إلا المتطهرون وهو خبر بمعنى النهي، ولو كان باقياً على أصله من الخبرية لزم الخلف في كلامه تعالى، لأن غير المتطهر يمسه. فإن قيل: ما المانع من جعله نهياً لا خبراً بمعناه؟ فالجواب: أنه لو كان نهياً لزم منه وقوع الطلب صفة وهو ممتنع. وأما مس جلد المصحف فإن كان متصلاً به حرم مسه لأنه كالجزء منه، ولهذا يتبعه في البيع، وإن كان منفصلاً عنه حرم مسه. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/49، رقم 192) . وأخرجه أيضا: النسائي (1/108، رقم 185) . (¬2) أخرجه الحاكم (1/630، رقم 1686) . وأخرجه أيضاً: ابن أبي شيبة (3/37، رقم 12808) ، والطبراني (11/34، رقم 10955) ، وأبو نعيم في الحلية (8/128) ، والدارمي (2/66، رقم 1847) ، وابن أبي شيبة (3/37، رقم 12808) ، وابن الجارود (1/120، رقم 461) ، وابن حبان (9/143، رقم 3836) ، والبيهقي (5/85، رقم 9074) عن ابن عباس.

فقال الأسنوي: يحل مسه، ونقل الزركشي عن الغزالي: أنه يحرم مسه أيضاً ولم ينقل ما يخالفه، وقال ابن العماد: إنه الأصح إبقاءً لحرمته قبل انفصاله. قال العلامة القاضي زكريا: محل تحريم مسه إذا لم تنقطع نسبته عن المصحف، فإن انقطعت كأن جعلت جلد كتاب لم يحرم مسه قطعاً، وكما يحرم مسه يحرم حمله لأنه أبلغ من مسه سواء حمله وحده أو في غلافه أو بعلاقته، هذا مذهب إمامنا الشافعي والإمام مالك. وقال أبو حنيفة: يجوز للمحدث حلمه بعلاقته أو في علاقته، نعم يجوز لنا حمله في أمتعة أو متاع واحد إذا لم يكن مقصوداً بالحمل، لعدم الإخلال بتعظيمه حينئذ أما إذا كان مقصوداً بالحمل ولو مع الأمتعة فإنه يحرم حمله. ولا تحرم كتابة القرآن على المحدث من غير مس ولا حمل، بأن يضع الورقة مثلا بين يديه ويكتب فيها، ولا يحرم عليه قلب ورق المصحف بعود، لأنه ليس بحمل ولا مس، ويجوز مس التوراة والإنجيل وحملها، ويجوز مس وحمل ما نسخت تلاوته وإن لم ينسخ حكمه لزوال حرمته بالنسخ، كزوال حرمة التوراة والإنجيل بالتبديل، أما ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته فيحرم مسه وحمله، ويحرم على بالغ مس وحمل ما كتب بلوح ونحوه، ولو بعض آية لدراسة، بخلاف الصبي فإنه إذا كان مميزاً لا يجب على وليه ومعلمه مع الحدث الأصغر أن يمنعه من مس وحمل المصحف أو اللوح الذي يتعلم منه، لأنه يحتاج إلى الدراسة والتعلم، وتكليفه استصحاب الطهارة مما تعظم فيه المشقة، هذا إذا حمله لأجل الدراسة والتعلم، أما إذا لم يكن له غرض في حمله أو حمله بغرض آخر فإنه يجب على معلمه ووليه منعه من ذلك، وإذا كان البالغ محدثاً فقال للصبي: انقل هذا المصحف من هذا المكان إلى مكان آخر أو احمله معك فإنه حرام يأثم ببذلك البالغ، لأن الصبي يمنع من حمله ومسه إلا لحاجة التعلم، كما يمنع المجنون وهذا يقع فيه كثير من الناس الجهال خوفاً من مسه مع الحدث. وإذا كان الصبي جنباً وأراد حمل المصحف ومسه للدراسة هل يمنع من ذلك أم لا؟ قال النووي: لا يمنع، وجزم به ابن السبكي، لكن قال الأسنوي: القياس المنع لأنها نادرة، وحكمها أغلظ، واستحسن كلامه كثير من المتأخرين. قال العلماء: وإن أبيح للصبي المميز مع الحدث مس المصحف وحمله أو اللوح الذي فيه شيء من القرآن لأجل، الدراسة فيندب لوليه ومعلمه منعه منه، وأمره بالوضوء، ويجوز مع الكراهة مس وحمل كتب التفسير مع الحدث، إلا إذا كان القرآن

أكثر منه، فإنه حينئذ في معنى المصحف، ويجوز حمل الدراهم والدنانير والثياب التي كتب عليها شيء من القرآن، لأن هذه الأشياء لا يقصد بإثباب القرآن فيها قراءته، فلا يجري عليها أحكام القرآن، وسنذكر حكم الحروز في الكلام على آداب داخل الخلاف. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» أيضاً دلالة على رفع الشك والعمل باليقين، فإذا تيقن الإنسان أنه متوضئ وشك في الحدث بعده، عمل بيقينه وطرح الشك وصلى بوضوئه وصلاته صحيحة، وإذا تيقن أنه محدث وشك في أنه توضأ بعده عمل بيقينه أيضاً على الراجح وطرح الشك وتوضأ وصلى، وإن تيقن أنه وقع منه طهر وحدث وجهل السابق منهما نظر فيهما، فيما قبلهما فإن كان محدثاً فهو الآن متطهر، وإن كان متطهراً فهو الآن محدث إن اعتاد تجديد الوضوء وإن لم يعتد تجديده فهو الآن متطهر. ويتضح ذلك بالمثال فإذا وقع من الإنسان بعد طلوع الشمس مثلاً طهر وحدث ولم يعرف أسبقهما فلينظر فيما قبل طلوعها فإن تذكر أنه كان حينئذ محدثاً فهو الآن متطهر، وإن تذكر أنه كان متطهراً فإن كان له عادة بتجديد الوضوء فهو الآن متطهر وإن لم يتذكر ما قبلهما وجب الوضوء، وتعليل هذه المسائل مقررة في كتب الفقه فلا نطول بذكرها. * * *

المجلس التاسع والثلاثون

المجلس التاسع والثلاثون في ذكر شيء من فضائل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وشيء من خصائصها، وخصائص نبينا - صلى الله عليه وسلم - وذكر اختلاف العلماء في الوضوء هل هو من خصائص هذه الأمة أم لا؟ الحمد لله الذي أتقن كل شيء بحكمته فاحتبك، وبعث حبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - فأنار به كل حلك، وآتاه من المعجزات والخصائص ما لم يؤته نبي ولا ملك، وجعل جنده الملائكة تسير معه حيث سلك، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ما سار ملك ودار فلك. باب فضل الوضوء والغر المحجلين من آثار الوضوء جاء في أكثر الروايات والغر المحجلين بالرفع ووجِّه بأوجه: الأول: مبتدأ وخبره محذوف، وهو مفضلون فكأنه قال: والغر المحجلون مفضلون على غيرهم، أو لهم فضل ونحوه. الثاني: أن يكون «الغر» مبتدأ أيضاً وخبره من آثار الوضوء، ومعناه: من الغر المحجلون منشأهم آثار الوضوء. الثالث: أن «الغر» مرفوع على سبيل الحكاية فقد ورد في بعض طرق الحديث: «أنتم الغر المحجلون» (¬1) . قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى هِلاَلٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ رَقِيتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ أُمَّتِى يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/216، رقم 246) عن أبي هريرة. وأخرجه أبو يعلى (4/118، رقم 2162) عن جابر. قال الهيثمي (10/344) : رجاله رجال الصحيح. (¬2) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «رقيت» : صعدت. قوله: «فتوضأ» : كذا لجمهور الرواة، وللكشميهني يوما بدل قوله فتوضأ وهو تصحيف. وقد رواه الإسماعيلي وغيره من الوجه الذي أخرجه منه البخاري بلفظ «توضأ» وزاد الإسماعيلي فيه «فغسل وجهه ويديه فرفع في عضديه، وغسل رجليه فرفع في ساقيه» وكذا لمسلم من طريق عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال نحوه، ومن طريق عمارة بن غزية عن نعيم وزاد في هذه: أن أبا هريرة قال: «هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ» فأفاد رفعه، وفيه رد على من زعم أن ذلك من رأى أبي هريرة بل من روايته ورأيه معا. قوله: «أمتي» : أي أمة الإجابة وهم المسلمون، وقد تطلق أمة محمد ويراد بها أمة الدعوة وليست مرادة هنا. قوله: «يدعون» : ينادون أو يسمون. قوله: «غرا» : جمع أغر أي ذو غرة، وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وغرا منصوب على المفعولية ليدعون أو على الحال، أي أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف وكانوا على هذه الصفة. قوله: «محجلين» : من التحجيل وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، وأصله من الحجل وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضا النور. واستدل الحليمي بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وفيه نظر لأنه ثبت عند المصنف في قصة سارة رضي الله عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي، وفي قصة جريج الراهب أيضاً أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام، فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة أيضاً مرفوعا قال: «سيما ليست لأحد غيركم» وله من حديث حذيفة نحوه. و «سيما» : أي علامة. وقد اعترض بعضهم على الحليمي بحديث «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» وهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به لضعفه، ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة. قوله: «من آثار الوضوء» : بضم الواو، ويجوز فتحها على أنه الماء قاله ابن دقيق العيد. قوله: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» : أي فليطل الغرة والتحجيل. واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى نحو ?سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ? [النحل: 81] واقتصر على ذكر الغرة وهي مؤنثة دون التحجيل وهو مذكر لأن محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء، وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان. على أن في رواية مسلم من طريق عمارة بن غزية ذكر الأمرين، ولفظه «فليطل غرته وتحجيله» . وقال ابن بطال: كنى أبو هريرة بالغرة عن التحجيل لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله، وفيما قال نظر لأنه يستلزم قلب اللغة، وما نفاه ممنوع لأن الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلا. ونقل الرافعي عن بعضهم أن الغرة تطلق على كل من الغرة والتحجيل. ثم إن ظاهره أنه بقية الحديث، لكن رواه أحمد من طريق فليح عن نعيم وفي آخره: قال نعيم لا أدري قوله من استطاع ... الخ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي هريرة، ولم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه والله أعلم. واختلف العلماء في القدر المستحب من التطويل في التحجيل فقيل: إلى المنكب والركبة، وقد ثبت عن أبي هريرة رواية ورأيا. وعن ابن عمر من فعله أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو عبيد بإسناد حسن، وقيل المستحب الزيادة إلى نصف العضد والساق، وقيل إلى فوق ذلك. وقال ابن بطال وطائفة من المالكية: لا تستحب الزيادة على الكعب والمرفق لقوله - صلى الله عليه وسلم - «من زاد على هذا فقد أساء وظلم» وكلامهم معترض من وجوه، ورواية مسلم صريحة في الاستحباب فلا تعارض بالاحتمال. وأما دعواهم اتفاق العلماء على خلاف مذهب أبي هريرة في ذلك فهى مردودة بما نقلناه عن ابن عمر، وقد صرح باستحبابه جماعة من السلف وأكثر الشافعية والحنفية. وأما تأويلهم الإطالة المطلوبة بالمداومة على الوضوء فمعترض بأن الراوي أدرى بمعنى ما روى، كيف وقد صرح برفعه إلى الشارع - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث معنى ما ترجم له من فضل الوضوء، لأن الفضل الحاصل بالغرة والتحجيل من آثار الزيادة على الواجب، فكيف الظن بالواجب؟ وقد وردت فيه أحاديث صحيحة صريحة أخرجها مسلم وغيره، وفيه جواز الوضوء على ظهر المسجد لكن إذا لم يحصل منه أذى للمسجد أو لمن فيه. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/235 - 237) .

في إسناد هذا الحديث لطيفتان: إحداهما: أن جميع رجاله رجال من فرسان الصحيحين وباقي الكتب الستة إلا يحيى بن بكير فإنه من رجال البخاري ومسلم وابن ماجه. الثانية: أن النصف الأول من إسناده مصريون، والنصف الثاني مدنيون. قال ابن الملقن: هذا الحديث رواه مع أبي هريرة سبعة من الصحابة: ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وأبو أمامة الباهلي، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن بسر المازني، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم. قوله: «رقيت» بكسر القاف بمعنى صعدت، وحكي فتحها مع الهمز ودونه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أمتي» قال الكرماني: «الأمة» : الجماعة، وهو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع. قال العلماء: أمة محمد تطلق على أمة الدعوة، وهم جميع من أرسل إليهم من مسلم وكافر على اختلاف أنواعه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - دعى الجميع إلى كلمة التوحيد، فلا إنكار على من قال في حق يهودي معين أو نصراني وغيره أنه من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه من أمة

الدعوة، وتطلق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمة الإجابة إلى قسمين إلى أمة الطاعة وهم: من أسلم وأطاع، وإلى أمة المعصية وهم: من أسلم وعصى، والمراد بالأمة في هذا الحديث: أمة الإجابة بقسميها كما قاله ابن حجر لا أمة الدعوة. وقوله: «يدعون» إما من الدعاء بمعنى النداء، وإما من الدعاء بمعنى التسمية، والمعنى على الأول: إن أمتي ينادون يوم القيامة، وعلى الثاني: يسمون يوم القيامة. وأصل القيامة: «القوامة» قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقوله: «غراً محجلين» إذا قلنا منصوبان إما على الحال من ضمير «يدعون» إن كان بمعنى النداء، ويعدى «يدعون» بإلى، وإما على المفعولية إن كان بمعنى التسمية. سؤال: فإن قيل: إلى أين ينادون يوم القيامة إذا قلنا أن «يدعون» بمعنى ينادون؟ جوابه: أنهم ينادون إلى موقف الحساب أو إلى الميزان أو إلى غير ذلك، حال كونهم على هذا الوصف فيقال لهم: يا أمة محمد أقبلوا إلى الحساب أو الميزان أو إلى الصراط أو إلى الحوض أو إلى الجنة أو غير ذلك. فيأتون وهم غر محجلون أي: على جباههم وأيديهم وأرجلهم نور ساطع كالغرة البيضاء في جبهة الفرس، والتحجيل الذي في يديها ورجليها، فإن «الغرة» في اللغة: بياض في جبهة الفرس، «والتحجيل» بياض في يديها ورجليها، فسمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غراً وتحجيلاً تشبيها بذلك. وأما إذا كان «يدعون» بمعنى يسمون فمعنى الحديث: أن الملائكة تسمي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم تشريفاً لهم وتكريماً من بين سائر الأمم، فيقولون لهم: يا غر المحجلين أو يا أصحاب الغرة والتحجيل، حين يرون عليهم هذا النور الحاصل لهم من الوضوء. وقوله: «من آثار الوضوء» يجوز قراءته بضم الواو، فإن النور حصل من هذا الفعل، ويجوز قراءته بفتح الواو بناء على أن هذا النور حصل من آثار الماء المستعمل في الوضوء. والحاصل: أن الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن ينسب إلى كل منهما. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة: منها: أن فيه دلالة على استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، والمراد بإطالة الغرة عند العلماء غسل ما فوق الواجب من جميع جوانب الوجه، وغايته أن يغسل صفحة العنق من مقدمات الرأس، والمراد بإطالة التحجيل غسل ما فوق الواجب من

جميع جوانب الرجلين واليدين، وغايته استيعاب العضدين والساقين أي: غسل اليدين إلى المنكبين والرجلين إلى الركبتين. وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يستوعب في وضوءه العضدين والساقين حتى يوصل الماء إلى إبطيه. وهكذا نقل عن عبد الله بن عمر عملاً بظاهر قوله: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» . واقتصر على ذكر الغرة في قوله «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته» ولم يقل وتحجيله لدلالتها عليه كما في قوله تعالى: ?سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ? [النحل: 81] ولم يذكر البرد لدلالة الحر عليه. سؤال: فإن قيل: لأي شيء لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - بذكر التحجيل عن ذكر الغرة لأنه مذكر وهي مؤنثة والمذكر أشرف من المؤنث؟ جوابه: أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما اقتصر بذكر الغرة عن ذكر التحجيل دون العكس لأن محلها أشرف أعضاء الوضوء، ولأنه أول ما يقع عليه البصر يوم القيامة. ومنها: أن فيه دلالة على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال للعلماء: الأول: أنه من خصائص هذه الأمة، وبهذا القول جزم الحليمي في منهاجه، واستدل على ذلك بهذا الحديث. الثاني: أنه ليس من خصائص هذه الأمة بل كان مشروعاً في سائر الأمم، والذي اختصت به هذه الأمة الغرة والتحجيل، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن حجر وقال أنه الظاهر قال: ويؤيده ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «لكم سيما -أي علامة- ليست لأحد غيركم، تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء» (¬1) . الثالث: أنه من خصائص هذه الأمة ولم يشاركها فيه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا القول لهذه الأمة شرف عظيم حيث استوو مع الأنبياء في هذه الخصوصية وامتازوا عنهم بالغرة والتحجيل ولقد أحسن من قال في المعنى: ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/217، رقم 247) . وأخرجه أيضا: ابن ماجه (2/1431، رقم 4282) ، وأبو يعلى (11/72، رقم 6209) ، وابن أبي شيبة (1/15، رقم 42) ، وابن حبان (3/324، رقم 1048) عن أبي هريرة.

ستأتي الناس في العرصات سكرى ... بلا أثر يكون لهم مزيننا وتتأتي أمة المختار غدا ... بآثار الوضوء محجلينا لأيديهم وأرجلهم وميض ... فوجههم تروق الناظرينا فكونوا يا عباد الله قوماً ... مدى أعماركم متطهرينا تفوزوا بالطهارة ما حييتم ... وفي غدكم تفوقوا العالمينا وهل هذا النور الذي في أعضاء الوضوء المعبر عنه بالغرة والتحجيل ثابت لكل واحد من هذه الأمة يوم القيامة، سواء توضأ في الدنيا أم لم يتوضأ، أو يكون لمن يتوضأ في الدنيا؟ قال ابن الملقن في شرحه على هذا الصحيح: ظاهر الأحاديث يقتضي أن ذلك خاص بمن توضأ منهم، فقد ورد في صحيح ابن حبان: يا رسول الله كيف تعرف من يرد من أمتك؟ قال: «غر محجلون بلق من آثار الوضوء» (¬1) . وأما ما نقل عن بعض المالكية أنه نقل عن العلماء: أن الغرة والتحجيل حكم ثابت لهذه الأمة من توضأ منهم ومن لم يتوضأ، كما قالوا: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، وأن أهل القبلة كل من آمن من أمته سواء صلى أم لم يصلي، فهو كما قاله ابن الملقن نقل غريب. ومنها: أن فيه دلالة على استحباب المحافظة على الوضوء وسننه المشروعة. ومنها: أن فيه دلالة على ما أعد الله من الفضل والكرامة لأهل الوضوء يوم القيامة. ومنها: أن فيه دلالة على جواز الوضوء على ظهر المسجد، وإذا جاز على ظهره جاز فيه، فإن حرمة أعلاه وظاهره كحرمة داخلة، وعلى هذا أكثر العلماء. وكره جماعة الوضوء فيه تنزيها له كما ينزه عن البصاق والنخامة، وممن كره الوضوء ابن سيرين، ونقل عن الإمام مالك وعن سحنون. قال ابن الملقن: وقد صرح جماعة من أصحابنا بجوازه فيه، وإن الأولى أن يكون في إناء. ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان (3/323، رقم 1047) . وأخرجه أيضا: ابن ماجه (1/104، رقم 284) قال البوصيري (1/42، رقم 4) : هذا إسناد حسن. وأحمد (1/453، رقم 4329) ، وابن أبي شيبة (1/15، رقم 40) ، والشاشي (2/107، رقم 629) ، وأبو يعلى (8/462، رقم 5048) ، والطبراني في الأوسط (3/366، رقم 3419) عن ابن مسعود.

وأما رش المسجد بالماء المستعمل فقد اختاره النووي في شرح المهذب أنه جائر كما يجوز الوضوء فيه، وتبعه على اختياره الأسنوي، والشيخ إسماعيل بن المقرئ في «روضه» فإنه قال فيه: ويجوز نضحه بمستعمل. لكن قال البغوي: إنه لا يجوز لأن النفس إنما تعافه، وتبعه على ذلك الخوارزمي وصاحب الأنوار في كتاب الاعتكاف، وضعف النووي قوله، ورد تعليله بأن النفس إنما تعاف شربه ونحوه لا نضحه في المسجد. قال الزركشي والبغوي وغيره: إن يفرقوا بين جواز الوضوء فيه وبين نضحه بالماء بأن المتوضئ إنما يفعل ذلك لحاجته إليه، بخلاف النضح فإنه يقع قصداً، والشيء يغتفر ضمناً ما لا يغتفر قصداً، وبأن ماء الوضوء بعضه غير مستعمل بخلاف ماء النضح، وظاهر قول القاضي زكريا في شرح الروض يقتضي ترجيح قول البغوي فلينظر في كلامه أي: في شروط الصلاة في بحث المسجد. ومنها: أن فيه دلالة على كمال فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم - أطلعه الله تعالى على أمور من المغيبات مستقبلة من أمور الآخرة، وما يقع فيها لم يطلع عليه نبياً غيره، فأخبر بها في الدنيا أمته، وستقع كما أخبر فإنه صادق مصدوق، لاينطق عن الهوى، فمن ما أخبر به من أمور الآخرة ما ذكره في هذا الحديث أن أمته تأتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وكأنك بهذا وقد وقع، وكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل. وأما ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - عن أمور مغيبة مستقبلة من أمور الدنيا فكثير وهو معجزة من معجزاته الباهرة وآية من آياته الظاهرة. ونقل عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاماً فما ترك شيئاً يقوم في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فهو مما أعلمه الله به (¬1) . قال العلماء: النبي لا يعلم من المغيبات إلا ما أعلمه الله تعالى به، ويدل عليه قوله تعالى: ?عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ? [الجن: 27] . قال شيخنا العلامة الشيخ كمال الدين بن أبي شريف في شرح المسايرة: ذكر ¬

(¬1) أخرجه مسلم (4/2217، رقم 2891) ، وأبو داود (4/94، رقم 4240) ، وابن حبان (15/5، رقم 6636) .

الحنفية في فروعهم تصريحاً بتكفير من اعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب، لمعارضته قوله تعالى: ?قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ? [النمل: 65] وقد وقع كثير مما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من المغيبات المستقبلة، فإن أردت تحقيق ذلك لديك فاستمع وتوجه إلى ما نتلو عليك فنقول: مما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - ووقع أنه أخبر قبل فتح مكة أن أصحابه تظهر على أهل مكة وتفتح لهم مكة وقد وقع ذلك. ومنه: أنه أخبر عن أمته أنها تفترق على ثلاثة وسبعين فرقة الناجية منها واحدة وقد وقع ذلك. ومنه: ما رواه عبد الله بن عباس قال كنت قاعداً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل عثمان فلما دنى منه قال: «يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، تقع قطرة من دمك على فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم» (¬1) وقد وقع ذلك. ومنه: أنه قال لفاطمة رضي الله عنها: «إنك أول بيتي لاحقة بي» فقالت: ونعم السلف أنا لك فكانت أول من مات بعده من أهل بيته (¬2) . ومنه: أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن عماراً تقتله الفئة الباغية» (¬3) فقتله أصحاب معاوية. ومنه: أنه خرج يوماً إلى أصحابه وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وعمار وأبو ذر رضي الله عنهم وهو يبكي فقيل: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: «أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، فجاءني بهذه التربة، وأخبرني أن فيها مضجعه» (¬4) . ومنه: أن أبي ابن خلف كان يلقي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العود فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليها، فيقول عليه الصلاة والسلام: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فحصل لهذا الملعون في عنقه خدش غير كبير، فاحتقن الدم فلما رجع إلى ¬

(¬1) أخرجه الحاكم وصححه (3/110، رقم 4555) . (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري (3/1326، رقم 3426) ، ومسلم (4/1905، رقم 2450) عن عائشة. (¬3) أخرجه مسلم (4/2236، رقم 2916) ، وابن أبي شيبة (7/548، رقم 37851) ، والنسائي في الكبرى (5/155، رقم 8543) ، وإسحاق بن راهويه (1/110، رقم 63) عن أم سلمة. (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير (3/107، رقم 2814) عن عائشة، قال الهيثمي (9/188) : فيه ابن لهيعة.

قريش قال: والله قتلني محمد، قالوا: ذهب والله فؤادك، والله ما بك من بأس قال: إنه قد كان قال لي: والله أنا أقتلك فوالله لو بصق علي لقتلني فمات «بسرف» وهم قافلون به إلى مكة (¬1) . ومنه: أن عمه العباس لما خرج من مكة مع الكفار في غزوة بدر لأجل قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لزوجته أم الفضل: إن أصبت -أي: قتلت- فهذا المال إعط منه للفضل كذا ولقثم كذا ولعبد الله كذا، وقسمه على أولاده ولم يطلع على هذا المال أحد غيرها وغيره، ولم يعلم به أحداً إلا الله، فلما أسر العباس مع الأسارى قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عم أفد نفسك» فقال: ليس لي مال فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أين المال الذي دفعته بمكة لأم الفضل وقلت لها: إعط لولدي الفلاني كذا، ولولدي فلان كذا» فقال العباس: من أعلمك بهذا وما علم به أحد غيري وغيرها؟ أشهد أنك رسول الله حقاً (¬2) . وأما ما أخبر به عن أمور مغيبة مستقبلة في الدنيا ولم تقع إلى الآن فكثيرة: منها: خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم - عليه السلام - وغير ذلك، وستقع كما أخبر. وفي الحديث دليل على فضل أمة محمد زادها الله شرفاً وتعظيماً. قال العلماء: خص الله تعالى هذه الأمة ونبيها بخصائص كثيرة منها: الوضوء على أحد الأقوال كما تقدم. ومنها: التيمم. ومنها: المسح على الخف. ومنها: جعل الماء مزيلا للنجاسة. ومنها: تحية السلام وهي تحية الملائكة وأهل الجنة في الجنة. ومنها: صلاة الجمعة. ومنها: صلاة الجماعة. ومنها: أن إجتماعهم حجة واختلافهم رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذاباً. ومنها: أن الطاعون لهم شهادة ورحمة، وكان على الأمم قبلهم عذاباً. ومنها: أن ما دعوا به استجيب لهم. ¬

(¬1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/33) . (¬2) أخرجه أحمد (1/ 353، رقم 3310) والحاكم (3/366، رقم 5409) وقال: صحيح على شرط مسلم.

ومنها: أنه يغفر لهم الذنب بالوضوء. ومنها: أنهم يأكلون صدقاتهم في بطونهم ويثابون عليها. ومنها: أنه يعجل لهم الثواب في الدنيا مع ادخاره في الآخرة. ومنها: أن الجبال والأشجار تتباشر بمرورهم عليها لتسبيحهم وتقديسهم. ومنها: أن أبواب السماء تفتح لأعمالهم وأرواحهم وتتباشر بهم الملائكة. ومنها: أن الله وملائكته يصلون عليهم. قال سفيان بن عيينه: أكرم الله أمة محمد فصلى عليهم كما صلى على الأنبياء فقال: ?هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ? [الأحزاب: 43] . ومنها: أن المائدة توضع بين أيديهم فما يرفعونها حتى يغفر لهم. ومنها: أنه لا تزال طائفة منهم على الحق حتى يأتي أمر الله. ومنها: أن فيهم أقطاباً وأوتاداً ونجباءً وأبدالاً. قال الحسن: لولا الأبدال لخسفت الأرض بما فيها، ولولا الصالحون لفسدت الأرض، ولولا العلماء لصارت الناس مثل البهائم، ولولا الصالحون لفسدت الأرض، ولولا العلماء لصارت الناس مثل البهائم، ولولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضا، ولولا الحمقى لخربت الأرض، ولولا الريح لأنتن ما بين السماء والأرض. ومنها: أن علماءهم كأنبياء بني إسرائيل فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» (¬1) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «العالم في قومه كالنبي في أمته» (¬2) . ومنها: أن الملائكة تسمع في السماء آذانهم وتلبيتهم. ¬

(¬1) قال المناوي في فيض القدير (4/384) : سئل الحافظ العراقي عما اشتهر على الألسنة من حديث: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. فقال: لا أصل له، ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغني عنه: العلماء ورثة الأنبياء. وهو حديث صحيح. وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/83) : قال السيوطي وابن حجر والدميري والزركشي: لا أصل له. (¬2) أخرجه الرافعي في التدوين (3/95) عن أبي رافع. وأخرجه الديلمي (2/373، رقم 3666) عن ابن عباس. وأخرجه ابن حبان في الضعفاء (2/39، ترجمة 571 عبد الله بن عمر بن غانم) . قال القاري في المصنوع (1/115) : ضعيف جدا، وفي المقاصد: جزم شيخنا وغيره بأنه موضوع، وإنما هو كلام بعض السلف.

ومنها: أنه ليس منهم أحد إلا مرحوماً. ومنها: أنهم يلبسون ثياب أهل الجنة. ومنها: أن الملائكة تحضرهم إذا قاتلوا. ومنها: أنهم نودوا في القرآن بيا أيها الذين آمنوا، ونوديت الأمم في كتبها بيا أيها المساكين، وشتان ما بين الخطابين. ومنها: أنهم يكونون على كوم عال في الموقف يوم القيامة، ولهم نور كالأنبياء، وليس لغيرهم إلا نور واحد، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فله من كل شعرة من رأسه نور، ووجهه نور، وليس للأنبياء إلا نوران. ومنها: أن لهم سيما في وجوههم من أثر السجود. ومنها: أن ذريتهم تسعى بين أيديهم. ومنها: أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم. ومنها: أنهم يمرون على الصراط كالبرق الخاطف والريح العاصف. ومنها: أنهم يشفع محسنهم في مسيئهم. ومنها: أن الله عجل لهم عذابها في الدنيا وفي البرزخ لتأتي يوم القيامة بلا ذنوب. ومنها: أنها تدخل قبورها بذنوبها وتخرج منها بلا ذنوب، يمحص الله عنها باستغفار المؤمنين. ومنها: أن أطفالهم كلهم في الجنة، وليس ذلك لسائر الأمم في أحد الاحتمالين للسبكي في تفسيره. ومنها: أن الله يتجلى على هذه الأمة فيرونه ويسجدون له بإجماع أهل السنة، وفي الأمم السابقة احتمالان لابن حمزة. ومنها: أنه يدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بلا حساب. ومنها: أنهم جمعت لهم الصلوات الخمس ولم تجمع لأحد من الأنبياء، وبأنهن كفارات ما بينهن. ومنها: أنه اشتق لهم اسمان من أسماء الله تعالى المسلمون والمؤمنون، وسمى دينهم الإسلام ولم يوصف بهذا الوصف إلا الأنبياء. وخفف الله عن هذه الأمة ما لم يخففه عن غيرها من الأمم. ومنها: أنه وضع عنها قتل النفس في التوبة، وكانت توبة الأمم السابقة بقتل أنفسهم كما نطق الله به في القرآن. ومنها: فقأ العين من النظر إلى ما لا يحل.

ومنها: قرض موضع النجاسة ولا يطهرها الماء. ومنها: ربع المال في الزكاة. ومنها: أنه كان من عمل من اليهود شغلاً يوم السبت يصلب، ولم يجعل علينا يوم الجمعة مثل ذلك. ومنها: أنه كان من سرق استرق عبداً. ومنها: أنه كان من قتل نفسه حرمت عليه الجنة، وليس هذا في هذه الأمة. ومنها: أن جميع الأمم افتضحت عند هذه الأمة ولم يفضحوا عند أمة من الأمم، وهكذا يستر الله على هذه الأمة يوم القيامة ولا يفضحها ورد في مسند الفردوس للديلمي عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سئلت ربي أن يجعل حساب أمتي إلي لئلا تفتضح عند الأمم، فأوحى الله إلي يا محمد بل أنا أحسابهم فإن كان منهم زلة سترناها عليك، حتى لا يفتضح عبدي عندك، ولا يحزن لأجلهم قلبك» (¬1) . ومنها: أنه ستر على من لم يتقبل عمله منهم، وكان من قبلهم يفتضح إذا لم تأكل النار قربانهم، وغفر لهم الذنوب بالاستغفار، والندم توبة لهم. قال رزين: روي أن آدم قال: إن الله أعطى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أربع كرامات لم يعطينها كانت توبتي بمكة وأحدهم يتوب في كل مكان، وسلبت ثوبي حين عصيت وهم لا يسلبون، وفرق بيني وبين زوجتي، وأخرجت من الجنة. قال: وكان بني إسرائيل إذا أخطأ أحدهم حرم عليه طيب الطعام، وتصبح أخطائه مكتوبة على باب داره (¬2) . ومنها: أنهم لا يعذبون بعذاب عذب به من قبلهم. ومنها: إذا شهد الاثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة، وكانت الأمم السابقة إذا شهد منهم مائة لعبد بخير وجبت له الجنة. ومنها: أنهم أقل الأمم عملاً وأكثرهم أجراً وأقصرهم أعماراً، وكان الرجل من الأمم السابقة أعبد منهم بثلاثين ضعفاً وهم خير منه بثلاثين ضعفاً. ومن فضائلهم وخصائصهم: أنهم نزلوا منزلة العدول من الحكام فيشهدون على الأمم يوم القيامة أن رسلهم بلغوهم الرسالة، كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ ¬

(¬1) أخرجه الديلمي (2/312، رقم 3409) . (¬2) انظر: فيض القدير (5/6) .

شَهِيداً? [البقرة: 143] . معنى قوله ?أُمَّةً وَسَطاً? عدول خيار. وقال ابن الملقن: أنا أرى أن وسطاً في هذا الموضع بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل: وسط الدار، وأرى أن الله تعالى إنما وضعهم بذلك لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه كالنصارى، ولا أهل تقصير فيه كاليهود، ومعنى قوله: ?لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ? أي: على الأمم أن رسلهم بلغوهم الرسالة، ومعنى: ?وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً? أي: ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - معدلاً ومزكياً لكم، وذلك أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم: ألم يأتكم نذير فينكرون ويقولون: ما جاءنا من نذير، فيسأل الأنبياء عن ذلك فيقولون: كذبوا فقد بلغناهم، فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة للحجة، فيؤتى بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا فتقول الأمم الماضية: من أين علموا وأنهم أتوا بعدنا؟ فيسأل هذه الأمة فيقولون: أرسلت إلينا رسولاً وأنزلت إلينا كتاباً أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل، وأنت صادق فيما أخبرت، ثم يؤتى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيسأل عن حال أمتهم فيزكيهم ويشهد بصدقهم. ومن فضائل هذه الأمة: أن الله تعالى سماها صالحين فقال: ?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ? [الأنبياء: 105] أي: كتبنا في الكتب المنزلة من بعد اللوح المحفوظ أن الأرض أي: أرض الجنة، وقيل: الأرض التي فتحها المسلمون كالحجاز والعراق وغيرها، يرثها عبادي الصالحون أي: أمة محمد، فسماهم صالحين كما في الآية الأخرى: ?وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الصَّالِحِينَ? [المائدة: 84] . ومن فضائلها: أنه وصفها بالفلاح فقال تعالى: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? [المؤمنون: 1] . ووصفها بالخير فقال: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? [آل عمران: 110] وقيل: معناه كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ. قال بعض المفسرين: معنى الآية: أنتم خير أمة أخرجت للناس لأنكم تأمرونهم بالمعروف وتنهوهم عن المنكر، وتردونهم إلى الإسلام، وتدخلوا إلى الجنة وتمنعوهم دخول النار. ومن فضائلها: أنه يعطى كل منهم يهودياً أو نصرانياً فيقال له: يا مسلم هذا

فداؤك من النار، ويدل عليه ما رواه ابن ماجه في سننه (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أمتي أمة مرحومة فإذا كان يوم القيامة يدفع إلى كل رجل رجل من أهل الشرك، فقيل: هذا فداؤك من النار» (¬2) . قال القرطبي: قال علماؤنا: ظاهر هذا الحديث وغيره من الأحاديث الواردة في هذا المعنى الإطلاق والعموم، وليست كذلك وإنها هى في ناس مذنبين تفضل الله عليهم بمغفرته ورحمته، فأعطى كلا منهم فكاكاً من النار من الكفار. واستدلوا على هذا بحديث مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى» (¬3) . قالوا: ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فيغفرها لهم» أنه يسقط المؤاخذة عنهم بها حتى كأنهم لم يذنبوا، ومعنى وضعها على اليهود والنصارى أنه يضاعف عليهم عذابهم بقدر جرمهم وجرم مذنبي المسلمين، أو أخذوا بذلك وإلا فالله تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره كما قال تعالى: ?وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأعراف: 164] وله سبحانه أن يضاعف لمن يشاء العذاب ويخفف عن من يشاء بحكم إرادته ومشيئته، إذ لا يسأل عما يفعل. فائدة: جميع الأمم سبعون أمة وهذه الأمة هي خاتمتها وأفضلها، كما ورد في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة» (¬4) . وروى الطبراني في المعجم الأوسط وحسنه الهيثمي (¬5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن ¬

(¬1) وقع في الأصل: ما رواه مسلم في صحيحه. ولعل الصواب ما أثبتناه فالحديث أخرجه ابن ماجه عن أنس، وعلق عليه البوصيري في مصباح الزجاجة، وهذا يدل على تفرد ابن ماجه برواية الحديث عن باقي أصحاب الكتب الستة، ومنهم الإمام مسلم. (¬2) أخرجه ابن ماجه (2/1434، رقم 4292) عن أنس، قال البوصيري (4/257) : هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة. (¬3) أخرجه مسلم (4/2120، رقم 2767) عن أبي موسى. (¬4) أخرجه مسلم (2/585، رقم 855) عن أبي هريرة. (¬5) وقع في الأصل: ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن. ولعل الصواب ما أثبتناه فالحديث أخرجه الطبراني في الأوسط، وعلق عليه الهيثمي في مجمع الزوائد، وهو لا يعلق إلا على الأحاديث التي لم ترد في الكتب الستة ومنها سنن الترمذي وابن ماجه.

الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» (¬1) . فائدة: أمة محمد في الجنة أكثر من نصف أهل الجنة، ويدل عليه ما رواه الترمذي عن بريدة مرفوعاً وحسنه: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون منها من سائر الأمم» (¬2) . أفاد هذا الحديث أنهم أكثر من النصف، وأنهم ثلثا أهل الجنة. سؤال: فإن قيل: جاء في الصحيحين ما يدل على أن هذه الأمة شطر أهل الجنة فقط، ونص الحديث فيهما عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة» فكبرنا ثم قال: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة» فكبرنا ثم قال: «أما ترضون أنم تكونوا شطر أهل الجنة وسأخبركم عن ذلك، ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة سوداء في ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في ثور أسود» (¬3) فما الجمع بين هذا الحديث والحديث الذي رواه الترمذي، فإنهما متنافيان في الظاهر. فالجواب: كما قاله البرماوي وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - طمع أن تكون أمته شطر أهل الجنة فأعطاه الله تعالى ذلك، فأخبر أمته ثم زاده على الشطر وأخبره به، فأخبر أمته ثانيا، فاندفع الثاني وزال الإشكال والحمد لله على كل حال. وإنما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول مرة: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة» ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/289، رقم 942) قال الهيثمي (10/69) : فيه صدقة بن عبد الله السمين، وثقه أبو حاتم وغيره، وضعفه جماعة، فإسناده حسن. وابن عدي (4/127، ترجمة 969) والذهبي في الميزان (4/175 ترجمة 4541) كلاهما في ترجمة عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب. (¬2) أخرجه الترمذي (4/683، رقم 2546) وقال: حسن. وأخرجه أيضًا: ابن ماجه (2/1434، رقم 4289) ، والدارمي (2/434، رقم 2835) ، وابن حبان (16/498، رقم 7459) ، والحاكم (1/155، رقم 273) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأحمد (5/347، رقم 22990) . (¬3) أخرجه البخاري (5/2392، رقم 6163) ، ومسلم (1/200، رقم 221) ، والترمذي (4/684، رقم 2547) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (2/1432، رقم 4283) ، والطيالسي (1/43، رقم 324) ، وأحمد (1/386، رقم 3661) ، والبزار (5/237، رقم 1850) ، وأبو عوانة (1/84، رقم 250) ، والبيهقي (3/180، رقم 5410) .

وثانياً: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة» وثالثاً: «أما رضيتم أن تكونوا شطر أهل الجنة» لأن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به، وأيضاً له حكمة أخرى وهو أنهم في كل مرة كانوا يشكرون الله ويكبرونه ويحمدونه على إعطائهم ذلك، كما يدل عليه قوله: «فكبرنا» أي: عظمنا ذلك أي قلنا: الله أكبر، ففي التكرار رحمة بهم على تحديد شكر الله وتكبيره وحمده على كثرة نعمه. ومن فضائلها ما ذكره الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال موسى - عليه السلام - يارب هل خلقت أمة أكرم عليك من أمتي؟ قال الله: يا موسى إن فضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر الخلق كفضلي على جميع خلقي. قال: يارب ليتني رأيتهم. قال: يا موسى إنك لن تراهم، ولو أردت أن تسمع كلامهم أسمعتك. قال: يارب فإني أريد أن أسمع كلامهم. قال الله - عز وجل -: يا أمة أحمد، فأجبنا كلنا من أصلاب آبائنا وأرحام أمهاتنا، لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمة أحمد إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقابي، وقد أعطيتكم قبل أن تسألوني، وقد غفرت لكم قبل أن تعصوني، من جاء في يوم القيامة يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسولي وعبدي جعلت الجنة مأواه، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر» . وذكر الثعلبي أيضاً عن كعب الأحبار: أن موسى عليه الصلاة والسلام نظر في التوراة فقال: إنى أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الدجال، رب أجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يا موسى. فقال رب إني أجد أمة هي الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا: نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فقال: ربي إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار، وهم المستجيبون والمستجاب لهم، الشافعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شِرف كبر الله، وإذا هبط وادياً حمد الله، الصعيد لهم طهر، والأرض لهم مسجد، حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غر محجلون من آثار الوضوء

فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فقال: رب إني أجد أمة إذا همَّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة بمثلها، وإن عملها ضعفت عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة مثلها فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فقال: رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، فلا أجد أحد منهم إلا مرحوماً فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فقال: رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم، يلبسون ثياب أهل الجنة، يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل، لا يدخل النار أحد منهم أبد، إلا من رمي الحساب مثل ما يرمي الحجر من وراء الشجر فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد صلوات الله عليه وسلامه عليه. فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأمته قال: ياليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله - عز وجل - إليه ثلاث آيات: ?يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي? إلى قوله: ?دَارَ الفَاسِقِينَ? [الأعراف: 144، 154] ?وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ? [الأعراف: 159] قال: فرضي موسى كل الرضا. لطيفة: وهي خاتمة قال في نزهة المجالس: جاء في الخبر: أنه يؤتى يوم القيامة برجل من أمتي له ذنوب كعدد رمل عالج، فيوقف بين يدى الله تعالى فيقول له: انطلقوا به الى النار، فيلتفت فيقول الله: مالك تلتفت؟ فيقول: يارب خرجت من الدنيا، وما انقطع رجائي منك، وأمرت بي إلى النار رجائي منك، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي ما كان هذا ظن عبدي بي، ولكن هذه دعوة دعاها علي أشهدكم يا ملائكتي أني قد قبلت دعوته وغفرت له. * * *

المجلس الأربعون

المجلس الأربعون في ذكر ما في حديث ابن عباس من الفوائد، وذكر بعض فضل قيام الليل، وذكر بعض فضل ميمونة أم المؤمنين الحمد لله الذي غمر العباد بلطائفه وعمر قلوبهم بنور الدين وفضائله، وتفضل على الغارقين في معصيته برأفته ورحمته وعواطفه، وأشغل العارفين بخدمته وأمنهم من مخاوفه، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له شهادة عابد لربه وعارفه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله نبي قام الليالي حتى تورمت قدماه، ودعاه ربه الى حضرته وأدناه، - صلى الله عليه وسلم - أبداً، وعلى إله وأصحابه بحار الندى، ومفاتيح الهدى. قَالَ البُخَارِي: بَابُ التَخفِيفِ فِي الوضُوءِ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ أَخْبَرَنِى كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَامَ حَتَّى نَفَخَ –أي حتى غط- ثُمَّ صَلَّى -وَرُبَّمَا قَالَ اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ- ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى. ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِى مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءاً خَفِيفاً - يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ - وَقَامَ يُصَلِّى فَتَوَضَّأْتُ نَحْواً مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ - فَحَوَّلَنِى فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِى فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاَةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو إِنَّ نَاساً يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ. قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْىٌ، ثُمَّ قَرَأَ ?إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ? [الصافات: 102] (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «وربما قال اضطجع» : أي كان سفيان يقول تارة نام، وتارة اضطجع، وليسا مترادفين بل بينهما عموم وخصوص من وجه، لكنه لم يرد إقامة أحدهما مقام الآخر، بل كان إذا روى الحديث مطولا قال اضطجع فنام كما سيأتي، وإذا اختصره قال نام أي مضطجعا أو اضطجع أي نائما. قوله: «ثم حدثنا» : يعني أن سفيان كان يحدثهم به مختصرا ثم صار يحدثهم به مطولا. قوله: «ليلة فقام» : كذا للأكثر، ولابن السكن: «فنام» بالنون بدل القاف وصوبها القاضي عياض لأجل قوله بعد ذلك «فلما كان في بعض الليل قام» انتهى. ولا ينبغي الجزم بخطئها لأن توجيهها ظاهر وهو أن الفاء في قوله «فلما» تفصيلية، فالجملة الثانية وإن كان مضمونها مضمون الأولى لكن المغايرة بينهما بالإجمال والتفصيل. قوله: «فلما كان» : أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. «في بعض الليل» وللكشميهني «من» بدل «في» ، فيحتمل أن تكون بمعناها ويحتمل أن تكون زائدة وكان تامة، أي فلما حصل بعض الليل. قوله: «شن» : أي القربة العتيقة. قوله: «معلق» : ذكر على إرادة الجلد أو الوعاء، وقد أخرجه بعد أبواب بلفظ معلقة. قوله: «يخففه عمرو ويقلله» : أي يصفه بالتخفيف والتقليل. وقال ابن المنير: يخففه أي لا يكثر الدلك، ويقلله أي لا يزيد على مرة مرة. قال: وفيه دليل على إيجاب الدلك، لأنه لو كان يمكن اختصاره لاختصره، لكنه لم يختصره. انتهى. وهي دعوى مردودة، فإنه ليس في الخبر ما يقتضي الدلك، بل الاقتصار على سيلان الماء على العضو أخف من قليل الدلك. قوله: «نحوا مما توضأ» : قال الكرماني. لم يقل مثلاً لأن حقيقة مماثلته - صلى الله عليه وسلم - لا يقدر عليها غيره انتهى. وقد ثبت في هذا الحديث كما سيأتي «فقمت فصنعت مثل ما صنع» ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة. قوله: «فآذنه» : بالمد أي أعلمه، وللمستملي «فناداه» . قوله: «فصلى ولم يتوضأ» : فيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث لأنه - صلى الله عليه وسلم - كانت تنام عينه ولا ينام قلبه فلو أحدث لعلم بذلك، ولهذا كان ربما توضأ إذا قام من النوم وربما لم يتوضأ. قال الخطابي: وإنما منع قلبه النوم ليعى الوحي الذي يأتيه في منامه. قوله: «رؤيا الأنبياء وحى» : رواه مسلم مرفوعاً، وسيأتي في التوحيد عن أنس. ووجه الاستدلال بما تلاه من جهة أن الرؤيا لو لم تكن وحيا لما جاز لإبراهيم - عليه السلام - الإقدام على ذبح ولده. وأغرب الداودي الشارح فقال: قول عبيد بن عمير لا تعلق له بهذا الباب. وهذا إلزام منه للبخاري بأن لا يذكر من الحديث إلا ما يتعلق بالترجمة فقط، ولم يشترط ذلك أحد. وإن أراد أنه لا يتعلق بحديث الباب أصلا فممنوع والله أعلم. انظر فتح الباري (1/239) .

«ميمونة» هي أم المؤمنين ببت الحارث رضي الله عنها، كان اسمها «برة» فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - «ميمونة» تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر، لما توجه الى مكة معتمراً سنة سبع. قال المحب الطبري لما خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلت أمرها الى العباس - رضي الله عنه - زوج أختها لبابة الكبرى أم الفضل، فزوجها إياه وهو محرم، فلما رجع عليها قبل وصوله - صلى الله عليه وسلم -

تزوجها وهو حلال. وحمل الطبرى رواية: «وهو محرم» على أنه تزوجها وهو داخل الحرم أي: لا في الإحرام، لأن العقد في الإحرام لا يصح فلابد من تأويله بذلك. واعترض عليه بأنه كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن نكاحه ينعقد في الإحرام كما قال في الروضة، بخلاف غيره من أمته. وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متزوجة بإبراهيم بن عبد العزى. ماتت بمكان بين مكة والمدينة يقال له «سرف» وهو الموضع الذي دخل عليها فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ست وستين، وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها هو وعبد الله بن شداد وكل منهما ابن أختها، وهي آخر أمراة تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال القرطبي: والحاصل أن ابن عباس قال: «بت عند خالتى ميمونه ليلة فنام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، فلما كان من بعض الليل» . وجاء في رواية: «في بعض الليل» . وحينئذ يحتمل أن تكون «كان» هنا ناقصة واسمها مستتر فيها، راجع الى النبي - صلى الله عليه وسلم - وخبرها قوله: «في بعض الليل» ، ويحتمل أن تكون تامة وفاعلها المستتر فيها العائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أما على رواية: «من بعض الليل» فتكون «من» زائدة «وبعض الليل» هو الفاعل «بكان» . «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ من شن معلق» أي: قربة عتيقة معلقة، وقال: «معلق» بالتذكير دون التأنيث بتأويل الجلد أو السقاء أو الوعاء. وجاء في رواية: «معلقة» بالتأنيث باعتبار القربة. فائده: هذه القربة التي توضأ منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عباس أصلها من جلدة شاة ميمونة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن شاتها لما ماتت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هلا انتفعهم بأهابها» (¬1) . ثم دبغ أهابها بعد ذلك وجعل منه شناً، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ منه. (ذكر ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2/543، رقم 1421) ، ومسلم (1/276، رقم 363) ، والنسائي (7/172، رقم 4235) ، ومالك (2/498، رقم 1062) ، والشافعي (1/10) ، وأحمد (1/329، رقم 3052) ، وابن حبان (4/100، رقم 1284) ، وأبو عوانة (1/179، رقم 552) ، والبيهقي (1/23، رقم 81) عن ابن عباس.

هذه الفائدة أبو بكر بن العربي) . «وضوءاً خفيفاً -يخففه عمر ويقلله- وقام يصلي فتوضأت نحو ما توضأ» وإنما قال: «نحو ما توضأ» ولم يقل: «مثل مما توضأ» لأن حقيقة مماثلثه - صلى الله عليه وسلم - لا يقدر عليه غيره. «ثم جئت فقمت عن يساره، وربما قال سفيان: عن شماله. فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلنا لعمرو: إن ناساً يقولون: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنام عينه ولا ينام قلبه؟ قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ ?إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ? [الصافات: 102] » . قوله: «وضوءاً خفيفاً -يخففه عمرو ويقلله-» هذا إدراج بين ألفاظ ابن عباس من سفيان بن عيينة، والمعنى: أن عمرو بن دينار وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي توضأ هذه الليلة حين نام بالتخفيف والتقليل. سؤال: فإن قيل: ما الفرق بين التخفيف والتقليل؟ جوابه: أن التخفيف من باب الكيف ويقابله الثقيل من باب الكم، ويقابله التكثير وإيضاًحه: أراد بالتخفيف أن كيفية وضوءه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مخففاً أي: اقتصر فيه على تمام غسل الأعضاء دون إمرار اليد عليها، ولو أمر يده عليها لم يكن مخففاً بل مكثراً. وأراد بالتقليل أن كمية غسل كل عضو مرة مع أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً للفضل، والمرة الواحدة بالنسبة الى الثلاث تقليل. واعلم أن هذا حديث جليل مشتمل على فوائد كثيرة: منها: أن فيه دلالة على أن نومه - صلى الله عليه وسلم - مضطجعاً لا ينقض وضوءه، وكذلك سائر الأنبياء، لأن يقظة قلوبهم تمنعهم من الحدث، لأنهم كانوا تنام أعينهم، وقلوبهم لا تنام، وإنما كانت قلوبهم لا تنام لأن الوحي قد ينزل عليهم في المنام فأيقظ الله قلوبهم لذلك ليفهموا الوحي. واستشكل العلماء ذلك بنومه - صلى الله عليه وسلم - في الوادي عن صلاة الصبح إلى أن طلعت الشمس، فلو كان قلبه مستيقظاً لما نام حتى خرج الوقت. وأجاب عنه العلماء: بأن الفجر والشمس إنما يدركان بالعين لا بالقلب، فلهذا لم يحس بطلوعهما لأن عينه التي يدرك بها كانت نائمة.

وأما الجواب عنه: بأن قلبه كان ينام في بعض الأوقات فنام في ذلك الوقت، قال ابن الملقن: لكن قال القاضي زكريا في شرح الروض حكاه الشيخ أبو حامد عن بعض أصحابنا قال كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - نومان أحدهما: ينام قلبه وعينه، والثاني: عينه دون قبله، فكان نوم الوادي من النوع الأول ولم يستبعده. ومنها: أن فيه دلالة على أنه يجوز نوم الرجل مع امرأته بغير جماع بحضرة بعض محارمها، وإن كان مميزاً كما نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ميمونه بحضرة ابن أختها عبد الله بن عباس. وجاء في بعض الروايات أنها كانت حائضاً، ولم يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة فيها حاجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجماع. ومنها: أن فيه دلالة على صلة الرحم، وعلى فضل ابن عباس وحذقه على صغر سنة، حيث قام بالليل واقتدى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل كفعله، وكان عمره آنذاك عشر سنوات. ومنها: أن فيه دلالة على صحة الاقتداء في النافلة وصحة الجماعة فيها، فإن ابن عباس اقتدى به في صلاة الليل. ومنها: أن فيه دلالة على أن الجماعة تصلى بإمام ومأموم. ومنها: أن فيه دلالة على صحة صلاة الصبي المميز. ومنها: أن فيه دلالة على موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، وهذه المسألة مختلف فيها. فمذهب إمامنا الشافعي أن السنة أن يقف الذكر بالغاً كان أو صبياً عن يمين الإمام، ولو وقف عن يساره وخلفه لم تبطل صلاته، لكن يستحب للإمام إذا اقتدى به واحد ووقف عن يساره يحوله إلى يمينه، كما حول النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس إلى يمينه. فائدة: ذكر الشيخ برهان الدين المحدث أن المحولين من اليسار إلى اليمين في الصلاة ثلاثة عبد الله، وهو في الصحيحين (¬1) . وجابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/64، رقم 138) ، ومسلم (1/528، رقم 763) . وأخرجه أيضاً: أبو داود (1/166، رقم 610) ، وابن ماجه (1/312، رقم 973) . (¬2) أخرجه مسلم (4/2301، رقم 3006) . وأخرجه أيضاً أبو داود (1/171، رقم 634) ، وابن حبان (5/572، رقم 2197) .

وجبار بن صخر كما في مسند أحمد (¬1) . وزاد الشيخ أبو ذر رابعاً وهو حذيفه بن اليمان، وقال: إنه في معجم الطبرانى الأوسط (¬2) . وذهب أبو حنيفة إلى أن موقف المأموم الواحد خلف الإمام لا عن يمينه وهذا الحديث يرد عليه. وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن المأموم الواحد إذا وقف عن يسار الإمام تبطل صلاته وهذا الحديث يرد عليه. لكن عند الشافعي إذا أردت المرأة أن تقتدي بالرجل فالسنة أن تقف خلفه لا عن يمينه، ولو وقفت عن يمينه جاز لكنه خلاف السنة. قال العلماء: وإذا اقتدى بالإمام ووقف عن يمينه ثم جاء آخر وقف عن يساره، وحينئذ يستحب أن يتقدم الإمام أو يتأخر ليصيروا وراءه صفاً، وتأخرهما أفضل، هذا إذا لحق الثاني الإمام في القيام أما إذا لحقه في التشهد أو السجود فلا تقدم ولا تأخر حتى يقوموا. نعم لنا شخص لا يستحب له الوقوف عن يمين الإمام ولا عن يساره ولا خلفه، بل يؤمر بالوقوف في جهة أخرى، والحال أن كلاً من الإمام والمأموم يصلي في أرض مستوية خارجة عن مكة شرفها الله تعالى، وصورته: فيما إذا اقتدى الإنسان بإمام عجز عن الصلاة قائماً وقاعداً فصلى مضطجعاً على جنبه، فلا يأتي للمأموم أن يقف عن يمينه أو يساره لأن يمين الإمام إلى جهة الأرض، ويساره إلى السماء، أو بالعكس ولا خلف الإمام لأن الانفراد مكروه، فتعين أن يقف إما عند رجلي إمامه، وإما عند رأسه وهو الأولى. ومنها: أن فيه دلالة على أن يستحب للإمام أن يعلم المأموم إذا قصر في شيء من السنن وإن كان في الصلاة، كما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس في الصلاة لما وقف عن يساره وحوله إلى يمينه. ومنها: أن فيه دلالة على أنه يستحب للمؤذن أن يعلم الإمام بقرب إقامة ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/421) ، قال الهيثمي (2/95) : فيه شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف. (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (6/26، رقم 5689) ، قال الهيثمي (2/107) : رجاله موثقون.

الصلاة، وأن الإمام إذا أعلمه المؤذن بذلك يستحب له أن يقوم معه، هذا إذا لم يكن الإمام حاضراً في المسجد، أما إذا كان في المسجد فالسنة أن لا يقيم المؤذن الصلاة إلا بإذنه. ومنها: أن فيه دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصلي بالوضوء الواحد فرضاً ونوافل، وهذا لا شك في جوازه، بل يجوز أن يصلي فروضاً عديدة ونوافل بوضوء واحد. ومنها: أن فيه دلالة على أنه يجوز أن يصلي الفريضه بوضوء النافلة، كما إذا توضأ الإنسان لصلاة الضحى مثلاً فله أن يصلي به فرضاً، بل فروضاً ونوافل، بل يجوز لمن توضأ لمس المصحف أن يصلي به الفرض والنفل وغير ذلك. نعم لنا شخص توضأ لنافلة أو صلاة جنازة أو مس مصحف ولا يجوز له أن يصلي به الفرض، وصورته: في دائم الحدث كمن به سلس البول إذا نوى بوضؤه استباحة الفرض استباحه، واستباح معه النفل استباحه دون الفرض، لأن الأقوى لا يتبع الأضعف، لكن يباح له أن يصلى به صلاة الجنازة، لأنها كالنفل في جواز الترك، وأن يمس به المصحف، أما إذا نوى استباحة مس المصحف فإنه لا يباح له به الفرض ولا النفل، ولا صلاة الجنازة، وإنما يباح له به مس المصحف، وإن دائم الحدث كالمتيمم في ذلك كله. ومنها: أن فيه دلالة على أن النوم الخفيف لا ينقض الوضوء، وهو المسمى بالنعاس كما قدمنا ذلك، وقد قدمنا أن من طرأ عليه النوم إن سمع كلام الحاضرين إذ لو كانوا عنده فهو نعاس لا ينتقض به الوضوء، وإلا فهو نوم ينقض. ومنها: أن فيه دلالة على أنه يستحب للمتهجد أن يضطجع على جنبه بعد التهجد. ومنها: أن فيه دلالة على أن المأموم إذا تقدم على الإمام تبطل صلاته، قال العلماء: والعبرة في التقدم والتأخر في حق القائم بالعقب، فإذا تقدم بالعقب المأموم على عقب الإمام بطلت صلاته، ولو وقف المأموم بجانب الإمام وشك في التقدم عليه صحت صلاته، لأن الأصل عدم التقدم. نعم لنا شخص تقدم على الإمام بعقبية، ومع ذلك تصح صلاته وصورته: أن يصلي الإمام قاعداً لمرض، وكذلك المأموم فإن الإعفاء بالتقدم والتأخر في المصلي قاعداً بمحل القعود، وهو الإلية فإذا ساوى محل قعود المأموم محل قعود الإمام صحت

الصلاة، وإن قدم المأموم رجليه على الإمام. ومنها: أن فيه دلالة على أنه يستحب المبيت عند العالم ليراقب أفعاله فيقتدي به وينقلها. ومنها: أن فيه دلالة على أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام فيها. ومنها: أن فيه دلالة على أن من الأدب أن يمشي الصغير عن يمين الكبير، والمفضول عن يمين الفاضل. ومنها: أن فيه دلالة على أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة بخلاف الكثير، فالفعل القليل كالضربتين والخطوتين، والكثير كثلاث ضربات وثلاث خطوات. نعم لنا شخص خطى في صلاته خطوة واحدة بل بعض خطوة بطلت صلاته، ولنا آخر خطى عشرين خطوة بل ألف خطوة وأكثر لم تبطل. وصورة الأولى: إذا نوى أن يخطو ثلاث خطوات متواليات فخطى منها خطوة بطلت صلاته، وكذا لو شرع فيها عملاً بنيته. وصورة الثانية: إذا خطى في صلاته خطوتين مثلاً ووقف ثم خطوتين ووقف وهكذا إلى مائة خطوة وأكثر لا تبطل لأن الثلاثة تبطل إذا توالت، وإن تفرقت فلا. من القليل الإشارة برد السلام، واللبس الخفيف كلبس خاتم أو نعل، وقتل قمله فلا تبطل الصلاة بشيء من ذلك، ودم القملة معفو عنه بخلاف جلدها فلا يعفى عنه. ومنها: أن فيه دلالة على أنه ينبغي للمعلم أن يفتل أذن المتعلم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن عباس لما أداره وحوَّلة إلى جهة يمينه، كما جاء في بعض الروايات أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ بأذنه اليمنى ففتلها (¬1) . وإنما فتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أذنه ليحرضه على الفهم، ولينفي عنه النوم، فإنه أعجبه قيامه معه مع صغر سنه. ويقال: إن المعلم إذا تعهد فتل أذن المتعلم كان أذكى لفهمه. قال الربيع تلميذ الشافعي: ركب الشافعي يوماً فمشيت بركابه، ولصقت بسرجه، فجعل يفتل شحمة أذني فاستعظمت ذلك منه حتى وقفت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله مع ابن عباس، فعلمت أنه فعله عن أصل. ¬

(¬1) هذه الرواية أخرجها ابن خزيمة (3/88، رقم 1675) وأحمد (1/242، رقم 2164) .

ومنها: أن فيه دلالة على استحباب قيام الليل، وكان واجبا عليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: ?وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً? [الإسراء: 79] ثم نسخ على الأصح. وقد جاءت أخبار وآثار عن السلف الصالح في فضل قيام الليل: قال بعض العارفين: ليس في الدنيا شيء يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجات، فحلاوة المناجات ثواب عاجل لأهل الليل (¬1) . قال أبو سليمان رحمه الله: أهل الليل في ليلتهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا (¬2) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» (¬3) . وقال بعضهم: أوحى الله تعالى إلى داود - عليه السلام - كذب من ادعى محبتي وإذا جن ليله نام عني. وقال الفضيل - رضي الله عنه -: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم إنك محروم ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/358) . (¬2) انظر: إحياء علوم الدين (1/358) . (¬3) أخرجه أحمد (5/343، رقم 22956) ، قال الهيثمي (3/192) : رجاله ثقات. وابن خزيمة (3/306، 2136، 2137) وقال: إن صح الخبر. وابن حبان (2/262، رقم 509) ، والطبراني في الكبير (3/301، رقم 3466) ، قال الهيثمي (2/254) : رجاله ثقات. والبيهقي في شعب الإيمان (3/404، رقم 3892) ، وفي السنن الكبرى (4/300، رقم 8262) عن أبي مالك الأشعري. وأخرجه الترمذي (4/354، رقم 1984) وقال: غريب. والبيهقي في شعب الإيمان (3/215، رقم 3360) ، وأحمد (1/155، رقم 1337) ، وأبو يعلى (1/337، رقم 428) ، والبزار (2/281، رقم 702) عن علي. وأخرجه أحمد (2/173، رقم 6615) ، والطبراني في الكبير (13/46، رقم 103) ، قال الهيثمي (2/254) : إسناده حسن. والحاكم (1/153، رقم 270) وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي في شعب الإيمان (3/128، رقم 3090) عن ابن عمرو.

قد كثرت خطيئتك (¬1) . وقد أشار إلى هذا بعضهم بقوله: أرانى بعيد الدار لا أقرب الحمى ... وقد نصبت الساهرين خيام علامة طردي طول ليلي نائم ... وغيري يرى أن المنام حرام وقيل: أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء أن لي عباداً يحبوني وأحبهم، ويشتاقون إلي وأشتاق لهم، ويذكروني وأذكرهم، وينظرون لي وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عن ذلك مقتك، قال: يارب ما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى وكارها، فإذا جنهم الليل أي: سترهم، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلي أقدامهم، وافترشوا إلي وجوههم، وناجوني بكلامي وتلهفوا لي بإنعامي، فمنهم صارخ وباكي، ومنهم متأوه وشاكي، ومنهم قائم وقاعد، ومنهم راكع وساجد، فأول ما أعطيهم ثلاث خصال، الأولى: أن أقذف في قلوبهم من نوري، الثانية: أقبل بوجهي الكريم عليهم، أفترى من أقبلت عليه بوجهي أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه، الثالثة: لو كانت الأرض والسماوات في موازينهم لاستقللتها لهم (¬2) . ولله در القائل: فإن لم يكن جفني ووجهي على الثرى ... بأبوابكم لا كان وجهي ولا جفني ونقل عن بعض الصالحين أنه كان يقوم الليل فنام ليلة فقيل: قم فصل أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل فهم خزانها. ونقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: نمت ليلة وإذا بجارية أيقظتني وقالت لى: تنام وأنا أراك في الجنة منذ خمسين عاماً. ومن كلامه - رضي الله عنه - كن نجماً فإن لم تستطع فشمساً. قيل: معناه إن قدرت أن تقوم الليل كله فافعل كالنجم فإنه يطلع في الليل كله، فإن لم تستطع فصل بعض الليل كالقمر يطلع بعض الليل، فإن لم تستطع فكن كالشمس تطلع نهاراً أي: فلا تعص الله في النهار. ونقل اليافعي عن بعض الصالحين أنه كان يحيي الليل فنام ليلة عن ورده، فرأى في ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/355) . (¬2) انظر: إحياء علوم الدين (1/358) .

منامه حوراً قد دخلن عليه من محرابه وهن حسان وفيهن جارية سوداء قبيحة المنظر فسألهن من أنتن؟ فقلن: نحن لياليك الماضية في العبادة، وهذه السوداء هي الليلة التي نمت فيها. ويروى عن أم سليمان نبي الله صلوات الله وسلامة عليه قالت: له يا بني لا تكثر من النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيراً يوم القيامة. لطيفة: قال في الروض الفائق دخل أبو زيد البسطامي رحمه الكتاب وهو صغير فلما وصل إلى قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً? [المزمل: 1، 2] فقال لأبيه طيفور بن عيسى يا أبت من ذا الذي يقول له الحق سبحانه وتعالى هذا الخطاب فقال: يا بني ذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم خفف عنه في سورة طه، فلما قرأ ووصل إلى قوله تعالى: ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ? [المزمل: 20] قال: يأبت إني أسمع أن طائفة كانو يقومون من الليل، قال أبوه: نعم أولئك أصحابه عليه الصلاة والسلام، قال: يا أبت فأي خير في ترك شيء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فكان أبوه بعد ذلك يقوم الليل كله، فانتبه أبو يزيد ليلة فقال: يا أبت علمني أصلي معك فقال: يا بني أرقد فإنك صغير بعد، فقال: يا أبت إذا كان يوم يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، وقال لي ربي - عز وجل - ما فعلت؟ أقول لربي: قلت لأبي: علمني أصلي معك قال: أرقد فإنك صغير بعد، فقال أبوه: لا والله ما أريد أن تقول ذلك، ثم علمه يصلي معه وكان بعد ذلك يقوم الليل ويصلي عامته. ولله در القائل: أيها القائمون في سندس الليل ... وقد أسبلت ذيول الظلام قد وصلتم إلى الوصال فطيبوا ... وانزلوا وأبشروا بمرام هذه دارنا ونحن كرام ... ربحت عندنا ضيوف الكرام إن طلبتم قرباً وجدتم لدينا ... كل ما تشتهي نفوس الأنام قد رفعنا حجابنا فاشهدونا ... وادخلوا خلوة الرضا بسلام ولقد أحسن إمامنا الأعظم الإمام الشافعي حيث قال: إذا هجع النوم أسبلت عبرتي ... وأنشدت بيتاً وهو من أعظم الشعر أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمرى

المجلس الحادي والأربعون

المجلس الحادي والأربعون في الكلام على باب التسمية على كل حال، وفي ذكر فوائد كثيرة متعلقة بالتسمية والجماع وغير ذلك الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان ومنَّ عليه بنطق اللسان، وحفظه بأسمائه الحسان ليطرد عنه كيد الشيطان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وربيعة وقحطان، وعلى آله وأصحابه الشجعان الفرسان. قَالَ البُخَارِي: بَابُ التَّسْمِيةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الوِقَاعِ أي باب في بيان استحباب التسمية على كل حال أي: في الوضوء والغسل والتيمم والذبح وغير ذلك، حتى عند الوقاع، واستدل البخاري على عموم استحباب التسمية حتى عند الوقاع بالحديث الآتي. سؤال: أفاده الكرماني وغيره وهو: فإن قيل: لأي شيء لم يذكر البخاري هذا الباب قبل ابتداء الوضوء الذي هو محله فإن التسمية أي: قول بسم الله إنما تستحب في الوضوء قبل غسل الوجه لا بعده، فكيف ذكرها بعد باب غسل الوجه؟ جوابه: أن البخاري لا يقصد حسن الترتيب بين الأبواب، ولهذا ذكر باب ما يقوله عند الخلاء بين أبواب الوضوء، ولو كان قصده المناسبة وحسن الترتيب لذكره قبل كتاب الوضوء، بل قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير، ونعم المقصد. قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ» (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «لم يضره» : في رواية شعبة عند مسلم وأحمد «لم يسلط عليه الشيطان أو لم يضره الشيطان» ، وفي مرسل الحسن عن عبد الرزاق «إذا أتى الرجل أهله فليقل بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا ولا تجعل للشيطان نصيبا فيما رزقتنا، فكان يرجى إن حملت أن يكون ولدا صالحا» واختلف في الضرر المنفي بعد الاتفاق على ما نقل عياض على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر، وإن كان ظاهرا في الحمل على عموم الأحوال من صيغة النفي مع التأبيد، وكان سبب ذلك ما جاء في بدء الخلق «إن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا من استثنى» فإن في هذا الطعن نوع ضرر في الجملة، مع أن ذلك سبب صراخه. ثم اختلفوا فقيل المعنى: لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ? [الحجر: 42] ويؤيده مرسل الحسن المذكور، وقيل: المراد لم يطعن في بطنه، وهو بعيد لمنابذته ظاهر الحديث المتقدم، وليس تخصيصه بأولى من تخصيص هذا، وقيل: المراد لم يصرعه، وقيل: لم يضره في بدنه. وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن لا يضره في دينه أيضاً، ولكن يبعده انتفاء العصمة. وتعقب بأن اختصاص من خص بالعصمة بطريق الوجوب لا بطريق الجواز، فلا مانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمداً وإن لم يكن ذلك واجبا له. وقال الداودي معنى: «لم يضره» أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية. وقيل لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه كما جاء عن مجاهد: «أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه» ولعل هذا أقرب الأجوبة، ويتأيد الحمل على الأول بأن الكثير ممن يعرف هذا الفضل العظيم يذهل عنه عند إرادة المواقعة والقليل الذي قد يستحضره ويفعله لا يقع معه الحمل، فإذا كان ذلك نادراً لم يبعد. وفي الحديث من الفوائد أيضاً: 1- استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك حتي في حالة الملاذ كالوقاع. 2- فيه الاعتصام بذكر الله ودعائه من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء. 3- وفيه الاستشعار بأنه الميسر لذلك العمل والمعين عليه. 4- فيه إشارة إلى أن الشيطان ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلا إذا ذكر الله. 4- فيه رد على منع المحدث أن يذكر الله، ويخدش فيه الرواية المتقدمة: «إذا أراد أن يأتي» وهو نظير ما وقع من القول عند الخلاء، وقد ذكر المصنف ذلك وأشار إلى الرواية التي فيها: «إذا أراد أن يدخل» . انظر فتح الباري (9/228 - 229) .

في إسناد هذا الحديث ثلاثة من التابعين، وقال ابن الملقن: رواته ما بين مكي ومدني وكوفي ورازي وبصري. قوله: «يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -» كلام كريب أي: تقبل ابن عباس بالحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومقصود كريب وغرضه: أن هذا الحديث ليس موقوفاً على ابن عباس، بل مسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إما بواسطة بأن سمعه من صحابي من الرسول، وإما بدونها ولما لم يكن قاطعاً بأحدهما ولم يرد بيانه ذكره بهذه العبارة.

وقوله: «إلى أهله» كناية عن الجماع أي: جماع حلاله، زوجته أو أمته. وقوله: «ما رزقتنا» مفعول ثاني «لجنب» والعائد على الموصول محذوف، وهو ضمير مفعول الثاني للرزق، والمراد به الولد، وإن كان اللفظ أعم من ذلك أي: احفظ الولد الذي رزقناه من الشيطان. وقوله: «فقضي بينهما» ضمير راجع إلى الأحد والأهل والقضاء يأتي لمعانٍ ذكر العسكرى أنه أتى منها في القرآن اثنى عشر معنى، والمناسب من معاينة هنا التقدير أو الحكم، فمعنى: «فقضي بينهما ولد» أي: فحكم أو فقدر. وقوله: «لم يضره» جواب «لو» وهو بضم الراء على الأفصح والضمير المستتر راجع إلى الشيطان، والبارز إلى الولد أي: لو ثبت قول أحدكم «بسم الله» عند إتيان الأهل لم يضر الشيطان ذلك الولد أي: لا يكون له عليه سلطان ببركة اسمه - عز وجل -، ويكون من جملة العباد المحفوظين المذكورين في قوله تعالى: ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ? [الحجر: 42] . وقيل: معنى «لم يضره» لم يصرعه وهو بعيد. وقيل: معناه لم يطعن فيه الشيطان عند ولادته، وهو بعيد أيضاً، لأنه لم يسلم من طعنة الشيطان عند الولادة أحد سوى مريم بنت عمران وولدها عيسى عليهما السلام، كما يفيد ذلك ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان إلا مريم وابنها» (¬1) . قال النووي: ظاهر هذا الحديث اختصاص هذه الفضيلة بعيسى وأمه، لكن أشار القاضي عياض إلى أن جميع الأنبياء يشاركونهما فيها. وقيل: معناه لم يضره في بدنه ويحتمل وفي دينه، ورد بأنه غير معصوم. وقيل: معنى «لم يضره» لم يفتنه بالكفر. ويستفاد من هذا الحديث فوائد كثيرة بعضها متعلق بالتسمية، وبعضها متعلق بالجماع، وبعضها متعلق بالولد، وبعضها متعلق بالشيطان لا بأس من ذكرها وذكر فوائد أخرى معها مناسبة: الأولى: في الحديث دلالة على استحباب التسمية والوضوء والدعاء في ابتداء ¬

(¬1) أخرجه مسلم (4/1838 رقم 2366) ، وأحمد (2/233، رقم 7182) ، وابن أبي شيبة (6/288، رقم 31496) عن أبي هريرة.

الجماع بأن يقول لمن يريد الجماع قبله: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا. قال الغزالي: وينبغي أن يقرأ بعد بسم الله سورة الإخلاص ويكبر ويهلل ويقول: بسم الله العلي العظيم اللهم اجعلها ذرية طيبة إن كنت قدرت ولداً يخرج من صلبي، ثم بعد ذلك يجامع (¬1) . قال: فإذا قرب الإنزال فقل في نفسك ولا تحرك به شفتيك: الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً (¬2) . الثانية: قال النووي: لا يكره للإنسان أن يجامع مستقبل القبلة، ولا يستدبرها، لا في البنيان ولا في الصحراء. لكن قال الغزالي: ينبغي أن لا يستقبل القبلة به إكراماً لها وإن يتغطيا بثوب، وأن يأتيها في كل أربع ليال مرة، وأن يزيد وينقص على حسب حاجتهما في التحصين فإن تحصينها واجب، وإن لم تثبت المطالبة بالوطء (¬3) . قال: ويكره الوطء في الليلة الأولى من الشهر والأخيرة منه وليلة نصفه فيقال: إن الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي، ويقال: إنه يجامع (¬4) . قال: وإذا قضى وطره فيمهل عليها حتى تقضى وطرها، ويكره الجماع أول الليل لئلا ينام على غير طهارة (¬5) . كما استدل البخاري بالحديث المذكور على استحباب التسمية في كل حال فلهذا قال في الترجمة: باب التسمية على كل حال وعند الوقاع. سؤال: فإن قيل: الحديث يدل على استحبابها عند الجماع فقط، فمن أين يستفاد العموم من كلامه حتى يصح استدلاله للترجمة به؟ جوابه: أن العموم وإن لم يكن ظاهر من الحديث لكنه يستفاد من باب أولى، لأنها إذا شرعت في حالة الجماع وهي حالة يؤمر فيها الإنسان بالصمت، فشروعها في غيرها أولى، وظاهر الحديث يقتضي شروعها واستحبابها في كل حال أمر الشرع به ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (2/49) . (¬2) انظر: إحياء علوم الدين (2/50) . (¬3) انظر: إحياء علوم الدين (2/50) . (¬4) انظر: إحياء علوم الدين (2/50) . (¬5) انظر: إحياء علوم الدين (2/50) .

كوضوء وغسل وتيمم وذبح مناسك وأكل وشرب وجماع وصلاة وأذان. أو نهى الشرع عنها كشرب خمر وأكل مغصوب وغيره، وليس كذلك بل هو محمول على استحبابها في حال لم ينه الشرع عنها، وفي حال أمر الشرع بها لا في جميع أفعال الطاعة. قال ابن عبد السلام: أفعال العبد على ثلاثة أقسام: قسم يسن فيه التسمية، وقسم لا تسن فيه، وقسم تكره فيه. فالقسم الذي تسن فيه التسمية: كالغسل والوضوء والتيمم وذبح المناسك وقراءة القرآن والأكل والشرب والجماع. والذي لا تسن فيه كالصلاة والأذان والحج والعمرة والأذكار والدعوات. والذي تكره فيه كالمحرمات لأن الغرض من التسمية التبرك في الفعل المسمي عليه، والحرام لا تراد بركته وكثرته، وكذلك المكروه أيضاً لا يسمى عليه. وقد اختلف علماؤنا فيمن قرأ القرآن على ضرب الدف هل يكفر بذلك أم لا؟ فقال في الأنوار: يكفر. وتبعه الحصني (¬1) في كتابه قمع النفوس. لكن صوَّب النووي أنه لا يكفر، هذا في ضرب الدف. أما من سمى أو قرأ القرآن على الطنبور أو شرب الخمر أو الزنا أو نحو ذلك، فقد قال الشيخ سعد الدين في شرح العقائد: لإنه يكفر، وهو مذهب أبي حنيفه. وعند علمائنا الشافعية يكفر به إذا كان على وجه الاستخفاف، كما قال الرافعي والنووي. وقال بعضهم: فائدة التسمية حالة الأكل والشرب والجماع واللبس وغيرها طرد الشيطان عن هذه الأشياء، فإنه يستحلها ويشارك الإنسان فيها إذا لم يسم الله تعالى. ذكر الغزالي في الإحياء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر، فإذا بشيطان الكافر سمين دهين كاس، وإذا شيطان المؤمن مهزول أشعث عار، فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: ما لك؟ قال: أنا مع رجل إذا أكل سمى فأظل جائعاً، وإذا شرب سمى فأظل عطشاناً، وإذا أدهن سمى فأظل أشعث، وإذا لبس سمى فأظل عرياناً. قال شيطان الكافر: لكنى مع رجل لا يصنع شيئاً من ذلك فأنا أشاركه ¬

(¬1) هو: تقي الدين الحصني، واسمه: أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن حريز بن معلى الحسيني الحصني، فقيه ورع من أهل دمشق ولد بها 752هـ‍، ووفاته أيضاً بها سنة: 829هـ‍. نسبته إلى الحصن من قرى حوران، وإليه تنسب زاوية الحصني، بناها رباطاً في محلة الشاغور بدمشق، له تصانيف كثيرة، منها: كفاية الأخيار، شرح به الغاية في فقه الشافعية، ودفع شبه من شبه وتمرد ونسب التشبيه إلى الإمام أحمد، وتخريج أحاديث الإحياء، وتنبيه السالك على مظان المهالك، وقمع النفوس الذي أشار إليه المصنف.

في طعامه وشرابه ولباسه (¬1) . وروى عن جعفر بن محمد في قوله تعالى: ?وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ? [الإسراء: 64] أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل، فإذا لم يقل: «بسم الله» أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل. الثالثة: وكيفية التسمية على الذبح أن يقول الذابح: «بسم الله» ولا يقل: «الرحمن الرحيم» لأن المقام لا يناسبه الرحمة. قال بعض العلماء: وكذا إذا سمى عند الأكل يقول: «بسم الله» ولا يقل: «الرحمن الرحيم» قال: لأن الطعام يستهلك، والرحمة لا تذكر على مستهلك. قال ابن العماد في الذريعة: وما قاله لا دليل عليه بل في الحديث ما يخالفه. روي عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلوا بسم الله الرحمن الرحيم» . وروي أن عيسى - عليه السلام - لما نزلت المائدة قال لأصحابة: كلو بسم الله خير الرازقين. واختلف العلماء في التسمية في الوضوء هل هي سنة أو واجبة؟ فذهب إمامنا الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه إلى أنها سنة. وذهب أهل الظاهر إلى أنها واجبه، واستدلوا عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (¬2) . وأجاب إمامنا الشافعي والجمهور عنه بأجوبة أحسنها: أنه ضعيف. الثاني: أنه مقدر بنفي الكمال أي: لا وضوء كاملاً كقوله في الحديث الآخر: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (¬3) . ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (3/37) . (¬2) أخرجه الترمذي (1/38، رقم 25) عن سعيد بن زيد. وأخرجه ابن ماجه (1/139، رقم 397) ، وأحمد (3/41، رقم 11388) ، وابن أبي شيبة (1/12، رقم 14) ، وعبد بن حميد (1/285، رقم 910) ، والدارمي (1/187، رقم 691) ، وأبو يعلي (2/324، رقم 1060) ، والدارقطني (1/71) ، والحاكم (1/245، رقم 518) عن أبي سعيد. (¬3) أخرجه الدارقطني (1/419) عن جابر. وأخرجه الدارقطني (1/420) ، والبيهقي (3/57، رقم 4724) ، والحاكم (1/373، رقم 898) عن أبي هريرة.

الثالث: أن المراد بالذكر فيه: النية أي: لا وضوء صحيح لمن لم ينو فيه. قال علماؤنا: والتسمية في الوضوء سنة مؤكدة، فلو نسيها في ابتدائه أتى بها متى ذكرها في الوضوء، ولو عند غسل الرجلين ويقول: «بسم الله على أوله وآخره» ، كما إذا ترك الإنسان التسمية في أول الأكل يأتي بها في آخره، ولو تركها في ابتدائه عمداً فهل يشرع له تداركها في أثنائه فيه خلاف، والراحج: نعم. جاء في حديث لكنه ضعيف: «من توضأ وذكر اسم الله كان طهوراً لجميع بدنه، وإن لم يذكر اسم الله كان طهوراً لأعضاء وضوءه» رواه الدارقطنى والبيهقى وضعفه من جميع طرقه (¬1) . فائدة: قال ابن العماد في الذريعة: عدد زبانية جهنم تسعة عشر قال الله تعالى: ?عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ? [المدثر: 30] وهؤلاء خزنة النار مالك ومعه ثمانية عشر ذكره البغوي في تفسيره (¬2) . قال: وجاء في الأثر أن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيدميهم حيث شاء من جهنم، وهؤلاء رؤسائهم الزبانية، وإلا فلهم أتباع غير محصورين، بدليل قوله تعالى: ?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ? [المدثر: 31] ، وقوله: ?وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا? [المدثر: 31] . لطيفه: قال في نزهة المجالس: قال النسفي: تأخذ الزبانية يوم القيامة عبد فيقال لهم: ردوه فينظر إلى أعضاءه فلا يوجد فيها خير، فيقال له: أخرج لسانك فإذا عليه بخط أبيض «بسم الله الرحمن الرحيم» فيقال له: اذهب فقد غفرت لك. فائدة أخرى: قال ابن مسعود: «من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» لأن حروفها تسعة عشر حرفاً» (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه الدارقطني (1/73) وقال: يحيي بن هشام ضعيف. والبيهقي (1/44، رقم 199) وقال: هذا ضعيف. كلاهما عن ابن مسعود. وأخرجه الدارقطني (1/74، رقم 13) . والبيهقي (1/44، رقم 200) وقال: هذا ضعيف. كلاهما عن ابن عمر. (¬2) انظر: تفسير البغوي (4/417) . (¬3) أورده السيوطي في الدر المنثور (1/26) وعزاه لوكيع والثعلبي عن ابن مسعود.

وقال غيره: كلماتها أربعة والذنوب أربعة: ذنوب الليل والنهار والسر والعلانية، فمن قالها كفر الله عنه الذنوب الأربع. لطيفة: كان بمكة رجل صائم لم يره أحد يأكل ولا يشرب، غير أنه يخرج من جيبه ورقة فينظر فيها عند إفطاره، فلما مات أخرجها الغاسل من جيبه فوجد فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم» فتعجب من ذلك، فهتف به هاتف لا تعجب فإنا بالتسمية ربيناه، وبالرحمانية وفقناه، وبالرحيمية غفرنا له. الرابعة: وهي مشتملة على فوائد متعلقة بالجماع. قال العلماء: الجماع في الأصل وضع لثلاثة أمور وهي مقاصده الأصلية: أحدها: حفظ النسل ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم. الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتفاظه بجملة البدن. الثالث: قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة، وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة بخلاف الفائدتين الأوليتين. فإنه لا تناسل في الجنة على خلاف في ذلك يأتي، ولا احتباس للمني فيها ولا احتقان حتى يحتاج إلى استخراجه بالإنزال. وفضلاء الأطباء يرون أن الجماع من أحد أسباب حفظ الصحة، وإذا ثبت فضل المني فلا ينبغي إخراجه إلا في طلب النسل أو إخراج المحتقن منه فإنه إذا دام احتقانه أحدث أمراضاً ردية منها: الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك. وإخراج المني يبرئ من هذه الأمراض. ومن منافع الجماع: غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه في ديناه وأخراه، وينفع المرأة. ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعاهده ويحبه ويقول: «حبب إلي من ديناكم النساء والطيب» (¬1) . وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد في الحديث زيادة لطيفة وهي: «أصبر عن ¬

(¬1) أخرجه النسائي (7/61، رقم 3939) ، وأحمد (3/128، رقم 12315) ، وأبو يعلى (6/237، رقم 3530) ، والحاكم في المستدرك (2/174، رقم 2676) وقال: صحيح علي شرط مسلم. والبيهقي (7/78، رقم 13232) ، والضياء في المختارة (4/427، رقم 1608) عن أنس.

الطعام والشراب ولا أصبر عنهن» (¬1) . قال العلماء: ويسن أن يقدم الإنسان قبل الجماع مداعبة المرأة وتقبيلها، ومص لسانها فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يداعب أهله ويقبلها. وروى أبو داود في سننه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل عائشة ويمص لسانها (¬2) . ويذكر عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول - صلى الله عليه وسلم - عن المواقعة قبل الملاعبة (¬3) . وأنفع الجماع ما حصل بعد الهضم، وعند اعتدال البدن في حره وبرده، ويبوسته ورطوبته، وخلائه وامتلائه، وضرره عند امتلاء البدن أسهل وأقل من ضرره عند خلوه. وإنما ينبغي أن يجامع إذا اشتدت الشهوة وحصل الانتشار التام الذي ليس عن تكلف ولا فكرة في صورة ولا نظر متتابع. ولا ينبغي أن يستدعي شهوة الجماع ويتكلفها، ويحمل نفسه عليها، وليبادر به إذا هاج به كثرة المني. والإكثار منه يسقط القوة، ويضر بالعصب، ويضعف البصر، وسائر القوى، ويطفئ الحرارة الغريزية، ويوسع المجاري. وأنفع أوقاته ما كان بعد إنهضام الغذاء من المعدة، وفي زمان معتدل على جوع فإنه يضعف، ولا على شبع فإنه يوجب أمراضاً، ولا على تعب، ولا أثر حمام، ولا بعد استفراغ كفصد حجامة، ولا بعد غم وحزن، وشده فرح. قالوا: وجماع المرأة المحبوبه في النفس يقل إضعاف البدن مع كثرة استفراغ المني، وجماع البغيضة ينحل البدن، ويوهن القوى مع قلة استفراغه. وأحسن أشكال الجماع أن يعلو الرجل المرأة مستفرشاً لها بعد الملاعبة والقبلة، ¬

(¬1) قال المناوي في فيض القدير (3/371) : زعم الزركشي أن للحديث تتمة في كتاب الزهد لأحمد هي: أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن. وتعقبه المؤلف أي: السيوطي بأنه مر عليه مراراً فلم يجده فيه، لكن في زوائد الزهد لابنه عبد الله بن أحمد عن أنس مرفوعاً: «قرة عيني في الصلاة وحبب إلي النساء والطيب والجائع يشبع والظمآن يروي وأنا لا أشبع من النساء» . فلعله أراد هذا الطريق. (¬2) أخرجه أبو داود (2/311، رقم 2386) . وأخرجه أيضاً: البيهقي (4/234، رقم 7891) ، وأحمد (6/123، رقم 24960) عن عائشة. (¬3) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (13/220) .

وبهذا سميت المرأة فراشاً، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش» (¬1) . وهذا مأخوذ من قوله تعالى ?هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ? [البقرة: 187] . وأشار إلى ذلك بعض الشعراء فقال: إذا رممتها كانت فراشا يقلني ... وعند فراغي خادم تملق وأردأ أشكاله: أن تعلوه المرأة ويجامعها على ظهره، وهو خلاف الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة، وفيه من المفاسد أن المني يتعسر خروجه كله، فربما بقي في العضو منه بقية فيتعفن ويفسد ويضر. وسنذكر في كتاب الغسل فوائد أخرى متعلقة بالجماع. الخامسة: وهي مشتملة على فوائد متعلقة بالولد: الفائدة الأولى: دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وجنب الشيطان ما رزقتنا» على أن الولد معدود من رزق الإنسان، وأن الرزق ليس مخصوصاً بالغد (¬2) . الفائدة الثانية: قال النسفي: جاء في الخبر إذا أرادت المرأة الولادة أرسل الله إليها ملكين عن يمنيها وشمالها، فإذا أراد صاحب اليمين إخراجه زاغ إلى جهة الشمال، وإذا أراد صاحب الشمال إخراجه زاغ إلى جهة اليمين، فتتوجع المرأة فيخاف الملكان ويقولان: ربنا عجزنا عن إخراجه فيتجلى الله تعالى فيقول: يا عبدي من أنا؟ فيقول الولد: أنت الله الذي لا إله إلا أنت ويسجد، فيخرج في سجوده على رأسه. وقيل: ينزل عليه ملك مكتوب في يده الله الله، فإذا رأى الولد ذلك خرج سريعاً. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2/724، رقم 1948) ، ومسلم (2/1080، رقم 1457) ، وأبو داود (2/282، رقم 2273) ، والنسائي (6/180، رقم 3484) ، وابن ماجه (1/646، رقم 2004) عن عائشة. وأخرجه البخاري (6/2499، رقم 6432) ، ومسلم (2/1081، رقم 1458) ، والترمذي (3/463، رقم 1157) وقال: حسن صحيح. والنسائي (6/180، رقم 3482) ، وابن ماجه (1/647، رقم 2006) عن أبي هريرة. (¬2) أي رزق الإنسان في يوم غده الآتي عليه فهو في علم الله تعالي قال تعالي: ?وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً? مراد المصنف أن الررزق ليس فقط الرزق الذي لا يعلمه إلا الله في الغد بل من الرزق الولد، والصديق، والزوجة، وكل ما وجدت فيه نعمة من الله عليك فهو من رزق الله أتاك الله إياه فوجب حمده وشكره.

ونظير هذا ما أفاده النسفى أيضاً قال: إذا احتضر العارف نزل عليه ملك الموت قبل وجهه فيدفعه الذكر، فيأتي من قبل يديه فتدفعه الصدقة، فيأتي من قبل رجليه فتدفعه الصلاة، فيقول: يارب قد حيل بيني وبينه، فيقول: أكتب إسمي على كفك وأره إياه، فيكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا رأته روح المؤمن طارت شوقاً إلى ربها. وفي رواية: تقول الروح لملك الموت: أأنت أسكنتني في هذا الجسد؟ فيقول: لا. فتقول: لا يخرجني إلا الذي أسكتني. فيقول: أنا رسول. فيقول: آتني بعلامة؟ فيقول الله: خذ تفاحة من الجنة فيأخذ تفاحة عليها: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا رأتها روحه طارت شوقاً إلى الجنة. الفائدة الثالثة: قال العلامة ابن القيم: لبكاء الصبي حال خروجه إلى هذه الدار سببان أحدهما: باطن أخبر به الصادق المصدوق لا يعرفه الأطباء، والثانى: ظاهر. فأما السبب الباطن فهو: أن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أن وكل بكل واحد من أولاد آدم شيطاناً، فشيطان المولود قبل انفصاله محبوس عنه، ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكل به، فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعن في خاصرته تغيظاً عليه، واستقبالاً له بالعداوة التي كانت بينه وبين الأبوين قديماً فيبكي المولود من تلك الطعنة. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان» (¬1) . والسبب الظاهر: مفارقته للمألوف والعادة التي كان فيها إلى أمر غريب، فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد، ومكان لم يألفه فيستوحش من مفارقه وطنه ومألفه. وقيل: سبب بكائه انتقاله إلى دار يلقى فيها الشدائد والآلام، والمخاوف والأسقام كما أشار إلى ذلك بعضهم بقوله: ويبكي بها المولود حتى كأنه ... بكل الذي يلقاه فيها يهدد وإلا فما يبكيه فيها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد الفائدة الرابعة: الحكمة في قبض المولود كفه عند خروجه إلى الدنيا، الإشارة إلى ¬

(¬1) أخرجه مسلم (4/1838، رقم 2367) . وأخرجه أيضاً: ابن حبان (14/62، رقم 6183) ، والطبراني في الأوسط (2/244، رقم 1872) ، وفي الصغير (1/39، رقم 29) .

أنه خرج إليها مركباً على الحرص والجمع، والحكمة في فتح كفه عند خروجه منها الإشارة إلى أنه فارق الدنيا صفر اليدين منها، ونظم بعضهم هذا فقال: وفي قبض كف المرء عند ولادة ... دليل على الحرص الذي هو مالكه وفي فتحها عند الممات إشارة ... إلى فرقة المال الذي هو تاركه الفائدة الخامسة: سأل بعضهم فقال: كيف يكون للوالدين على الولد إنعام وإحسان ويستحقان ميراثه، وقد طلبا اللذة بالجماع لأنفسهما، فلزم منه دخول الولد في دار الهموم والأحزان والآفات والتبعات. قيل للإسكندر: أستاذك أعظم منه عليك أم والدك فقال: الأستاذ أعظم منةً لأنه تحمل عني أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي، فأوقعني في نور العلم، وأما الوالد فإنه طلب اللذة فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. وأجيب عن السؤال: بأن العاقل لا يقدم على الوقاع لأجل اللذة في أول الأمر، إلا أنه إذا حصل الولد اهتم به بإيصال الخيرات، ودفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه فقد استحق الميراث، وانقطعت هذه الشبهات، وثبت له عليه الفضل والإحسان. الفائدة السادسة: أكثر العلماء على أن الجنة فيها جماع ولا يولد فيها لأحد ولد، واستدل على ذلك بدلائل منها: قوله تعالى: ? وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ? [البقرة: 25] قال عطاء: المعنى مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول. ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جعل الحمل والولاة مع الحيض والمني، فلو كان النساء يحملن لم ينقطع عنهن الحيض والإتزال. ومنها: أن الله تعالى قدر التناسل في الدنيا لأنه قدَّر الموت وإخراجهم إلى هذه الدار قرنا بعد قرن، وجعل لهم أمد ينتهون إليه، ولولا التناسل لبطل النوع الإنساني. ولهذا الملائكة لا يتناسلون فإنهم لا يموتون كما يموت الإنس والجن، فإذا كان يوم القيامة أخرجهم الله سبحانه وتعالى كلهم من الأرض وأنشأهم للبقاء لا للموت فلا يحتاجون إلى تناسل لحفظ النوع الإنساني، إذ هو منشأ للبقاء الدوام، فلا أهل الجنة يتناسلون ولا أهل النار. وذهب بعض العلماء إلى أن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة واستدل على ذلك بحديث خرَّجه الترمذي وابن ماجه وقال

الترمذي: إنه حسن غريب (¬1) لكن رد أكثر العلماء هذا القول وقالوا: بأنهم لا يشتهون ذلك. الفائدة السابعة: وهي مشتمله على فوائد متعلقة بالشيطان: الأولى: قوله: «وجنب الشيطان» دل على أن الشيطان ملازم لابن آدم من حين خروجه من ظهر أبيه إلى رحم أمه إلى حين موته، أعاذنا الله تعالى منه فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم أعاذنا الله. الثانية: دل الحديث أيضاً على أن التسمية والدعاء المذكور سبب للاعتصام من الشيطان، وسبب لدفع ضرره عن المولود، بل دل على أن ذكر الله مطلقاً سبب عظيم لطرد الشيطان وكف شره. قال قتادة في تفسيره قوله تعالى: ? الخَنَّاسِ ? [الناس: 4] ما نصه: «الخناس» : الشيطان له خرطوم كخرطوم الكاتب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس. ويقال: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه ويحدثه، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا لم يذكر رجع ووضع رأسه فذلك معنى قوله تعالى: ?الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ? [الناس: 5، 6] . أي: بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع. وروي عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم، فرأى في النوم جسد رجل شبه البلور يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان على صورة ضفدع قاعدة على منكبه الأيسر بين منكبه، وأذنه خرطوم طويل دقيق قد أدخله من منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس له إليه، فإذا ذكر الله تعالى خنس (¬2) . وقال كعب الأحبار: ذكر الله تعالى في جنب الشيطان كالأكله في جنب ابن آدم. وقال أيضاً: حصون المؤمن من الشيطان ثلاثة: ذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، والمسجد. وكان يحيى بن معاذ يقول: اللهم إن إبليس لك عدو ولنا عدو، وإنك لا تعظه ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (4/695، رقم 2563) وقال: حسن غريب. وابن ماجه (2/1452، رقم 4338) . وأخرجه أيضاً: أحمد (3/9، رقم 11078) ، والدارمي (2/434، رقم 2834) ، وأبو يعلى (2/317، رقم 1051) ، وابن حبان (16/417، رقم 7404) عن أبي سعيد. (¬2) انظر: إحياء علوم الدين (3/40) .

بشيء نكالا له، فاعف عنا يا أرحم الراحمين. وكان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح: اللهم إنك سلطت علينا عدواً بصيراً بعيوبنا، مطلعاً على عوراتنا، يرانا هو وقبيلة من حيث لا نراهم، اللهم فآيسه منا كما آيسته من رحمتك، وقنطة منا كما قنطة من عفوك، وأبعد بيننا وبينه كما أبعدت بينه وبين جنتك إنك على كل شيء قدير. قال: فتمثل له اللعين يوماً في طريق المسجد فقال له: يا ابن واسع هل تعرفني؟ قال له: ومن أنت؟ قال: أنا اللعين. قال: وما تريد؟ قال: أريد أن لا تعلم أحداً هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك أبداً. فقال له ابن واسع: والله لا أمنعها من أرادها فاصنع الآن ما شئت. ومن دعاء بعضهم: اللهم إنك خلقتني وخلقته، وسلطته علي فلا يقدر علي إلا بتقديرك، ولا أقدر عليه إلا بإعانتك، فأعني عليه يا عزيز يا جبار بعزتك وجبروتك. الثالثة: المراد بالشيطان في الحديث شيطان الجن فقط، فإنه هو الذي يتعرض للمولود عند ولادته، لا شيطان الإنس. وقد دلت الأخبار من الكتاب والسنة على وجود شيطان الإنس والجن قال الله تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً? [الأنعام: 112] . قال قتادة ومجاهد والحسن: دلت الآية على أن من الإنس شياطين كما أن من الجن شياطين. «والشيطان» : العاتي المتمرد من كل شيء. قالوا: إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز عن أغوائة ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس، فأغواه بالمؤمن ليفتنه، يدل على ذلك ما روي عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس» قلت: يا رسول الله

وهل للأنس من شياطين؟ قال: «نعم شر من شياطين الجن» (¬1) . وقال مالك بن دينار: شياطين الإنس أشر عليَّ من شياطين الجن، وذلك أني إن تعوذت بالله ذهبت عني شياطين الجن، وشياطين الإنس تجيئني وتجرني إلى المعاصي (¬2) . * * * ¬

(¬1) أخرجه النسائي (8/275، رقم 5507) ، والحاكم (2/310، رقم 3115) وقال: صحيح الإسناد. والطيالسي (1/65، رقم 478) ، وأحمد (5/178، رقم 21586) قال الهيثمي (1/160) : فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط. والبيهقي في شعب الإيمان (2/457، رقم 2390) ، وعبد الرزاق (2/84، رقم 2579) ، والحارث كما في بغية الباحث (1/195، رقم 53) عن أبي ذر. وأخرجه أحمد (5/265، رقم 22342) ، والطبراني (8/217، رقم 7871) قال الهيثمي (1/159) : مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف. كلاهما عن أبي أمامة. (¬2) انظر: تفسير القرطبي (7/68) .

المجلس الثاني الأربعون

المجلس الثاني الأربعون في آداب داخل الخلاء ومستحباته قَالَ البُخَارِي: بَابَ مَا يَقُول عِنْدَ الخَلاء حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَساً يَقُولُ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» . تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ. وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ. وَقَالَ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ إِذَا دَخَلَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ (¬1) . قوله: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم -» قال العلماء: «كان» في هذا التركيب تفيد تكرار ذلك الفعل، وبيان كونه عادة له أي: كان كلما دخل يقول الدعاء المذكور. وقوله: «إذا دخل» أي: إذا أراد أن يدخل لأن اسم الله مستحب الترك بعد ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «الخبث» جمع خبيث. والخبائث جمع خبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم قاله الخطابي وابن حبان وغيرهما. وقد يكون معناه: المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة ليحصل التناسب، ولهذا وقع في رواية الترمذي وغيره «أعوذ بالله من الخبث والخبيث» أو «الخبث والخبائث» هكذا على الشك، الأول بالإسكان مع الإفراد، والثاني بالتحريك مع الجمع، أي: من الشيء المكروه ومن الشيء المذموم، أو من ذكران الشياطين وإناثهم. وكان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ إظهاراً للعبودية، ويجهر بها للتعليم. وقد روى العمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال: «إذا دخلتم الخلاء فقولوا: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث» وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية. والكلام هنا في مقامين: أحدهما هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك لكونها تحضرها الشياطين كما ورد في حديث زيد بن أرقم في السنن، أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلا في جانب البيت؟ الأصح الثاني ما لم يشرع في قضاء الحاجة. الثاني متي يقول ذلك؟ فمن يكره ذكر الله في تلك الحالة يفصل: أما في الأمكنة المعدة لذلك فيقوله قبيل دخولها، وأما في غيرها فيقوله في أول الشروع كتشمير ثيابه مثلاً وهذا مذهب الجمهور. وقالوا فيمن نسى: يستعيذ بقلبه لا بلسانه. ومن يجيز مطلقاً كما نقل عن مالك لا يحتاج إلى تفصيل. انظر فتح الباري (1/243 - 244) .

الدخول. وجاءت رواية أخرى مصرحة بفعل الإرادة، وهذا مثل قوله تعالى: ?فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ? [النحل: 98] أي: إذا أردت القراءة. وقوله: «الخلاء» قال العلماء: «الخلاء» بفتح الخاء المعجمة وبالمد موضع قضاء الحاجة، سمى بذلك لخلائة في غير أوقات قضاء الحاجة. وقال الحكيم الترمذي سمى الخلاء خلاء باسم شيطان موكل بذلك الموضع اسمه خلاء، وأورد فيه حديثاً مرفوعاً من رواية بريدة. ويقال للخلاء: «الكنيف، والحش، والمرفق، والمرحاض» . وأما «الخلاء» بالقصر فيطلق على معنيين على الحشيش الرطب، وعلى الكلام الحسن. وأما «الخلاء» بكسر الخاء مع المد فهو عيب في الإبل كالحران في الخيل. وقوله: «اللهم» أصل «اللهم» يا الله على الأصح فحذف حرف النداء، وعوض عن الميم. وقوله: «إني أعوذ بك» معناه: استجير واعتصم بك. وقوله: «من الخبث والخبائث» جمع خبيثة. قال العلماء: «الخبث» بضم الخاء والباء ويجوز إسكان الباء جمع خبيث، وهم ذكور الشياطين، والخبائث إناثهم، فكأن الداعي بهذا عند دخوله الخلاء استعاذ من ذكور الشياطين وإناثهم. وخص - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة منهم بيوت الخلاء لأنها مأواهم ويحضرونها، وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله فقدم لها الاستعاذة احترازاً منهم. ومما يدل على أن الشيطان يحضر الأخلية قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذه الحشوش محتضرة -أي: تحضرها الشياطين- وإذا دخل أحدكم الخلاء فليتعوذ بالله» (¬1) . قال ابن الملقن: الظاهر أن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول هذا الدعاء إظهاراً للعبودية وتعليماً للأمة، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام محفوظ من الجن والإنس، بدليل ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/2، رقم 6) ، والنسائي في الكبرى (6/23، رقم 9903) ، وابن ماجه (1/108، رقم 296) ، والطيالسي (1/93، رقم 679) ، وأحمد (4/369، رقم 19305) ، وأبو يعلى (13/180، رقم 7218) ، وابن خزيمة (1/38، رقم 69) ، وابن حبان (4/252، رقم 1406) ، والطبراني في الكبير (5/205، رقم 5100) ، والحاكم في المستدرك (1/298، رقم 669) وقال: على شرط الصحيح. والبيهقي (1/96، رقم 459) عن زيد بن أرقم.

أنه ربط عفريتاً على سارية من سواري المسجد (¬1) . وفي الحديث دليل على مراقبته - صلى الله عليه وسلم - لربه ومحافظته على ضبط أوقاته وحالاته، واستعاذاته عندما ينبغي أن يستعاذ منه، ونطقه عندما ينبغي أن ينطق به، وسكوته عندما ينبغي أن يسكت عنده. وفيه دليل على استحباب الدعاء المذكور لكل متخل سواء تخلى في البنيان أم في الصحراء، لأن مكان قضاء الحاجة في الصحراء يصير مأوى لهم. وقد ذكر علماؤنا أنه يستحب أن يقول قبله: «بسم الله» ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. سؤال: فإن قيل: لأي شيء قدمت التسمية هنا على التعوذ، وفي قراءة القرآن يستحب تقديم التعوذ على التسمية؟ جوابه: أن التعوذ عند قراءة القرآن لأجل القراءة، والبسملة من القرآن، فقدم التعوذ عليها، بخلافة هنا فقدمت البسملة عليه. فإن دخل قبل أن يتعوذ ناسياً، تعوذ بقلبه كما يحمد العاطس، ويستحب عقب الخروج أن يقول: غفرانك الحمد لله الذي أذهب عنى الأذى وعافاني، وأن يكرر غفرانك ثلاث مرات، وهو منصوب بفعل مقدر تقديره: أسالك غفرانك. سؤال: فإن قيل: أي ذنب وقع من داخل الخلاء حال قضاء الحاجة حتى يطلب من ربه غفرانه عند خروجه منه؟ وجوابه من وجوه: الأول: لم يقع منه ذنب، ولكن لما ترك ذكر الله تعالى فسأل الله تعالى أن يسامحه عليه (¬2) . الثاني: إنما دخل الغفران لأنه لما رأى نعم الله تعالى عليه التي أنعمها عليه حيث أطعمه ثم هضمه ثم يسهل خروجه، رأى شكره قاصراً عن بلوغ حقه هذه النعم عد ذلك ذنباً فتداركه بالاستغفار. الثالث: ليس طلب المغفرة لذنب وقع في حال قضاء الحاجة، بل طلبها لذنوبه الصادرة منه قبل ذلك، فكأنه لما تخلص مما يثقل البدن، سأل التخلص مما يثقل القلب وهو الذنب لتكمل الراحة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/176 رقم 449) ، ومسلم (1/384 رقم 541) عن أبي هريرة. (¬2) فإن الإنسان عندما يدخل الخلاء كما سبق الإشارة إليه يهجر ذكر الله فهو يطلب المغفرة لذلك وهذا هو مراد المصنف.

فائدة: في مسند عبد الرزاق وابن أبي شيبة أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان يقول أي: إذا فرغ من قضاء الحاجة وخرج من الخلاء: «الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عنى أذاه» (¬1) . وعند الحنفية يستحب أن يقول إذا دخل الخلاء: «اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث من الشيطان الرجيم» ، وإذا خرج يقول: «الحمد لله الذي أذهب عنى ما يؤذينى، وأمسك عني ما ينفعنى» . وقد ذكر العلماء رضى الله عنهم أداباً كثيرة لقضاء الحاجة: منها: أنه يبعد عن الناس في الصحراء أو نحوها إن كان هناك غيره إلى مكان لا يسمع للخارج منه شيء، ولا يشم له ريح، فإن تعذر عليه الإبعاد عنهم لمرض ونحوه استحب لهم الإبعاد عنه إلى مكان لا يسمعون. ومنها: أن يستتر عن أعينهم بشيء مرتفع قدر ثلثي ذراع فأكثر، ويكون بينه وبينه ثلاثة أذرع بذراع الآدمي المعتدل فأقل، هذا إن كان بصحراء أو بناء لا يمكن تسقيفه، كأن جلس في وسط مكان واسع كبستان، فإن كان ببناء مسقف أو يمكن تسقيفه حصل الستر به، ولو تستر في الصحراء ونحوها براحلته وأرخى ذيله أو نحو ذلك كفى. قال القاضي زكريا: ولو تعارض التستر والإبعاد فالظاهر رعاية التستر، يعني لو أبعد عن العيون لم يستتر، ولو لم يبعد لاستتر فالستر أولى وإن لم يبعد. لطيفه: ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته فنظر فلم يجد شيئاً يستتر به، فإذا بشجرتين في شاطئ الوادي فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: «انقادى معي بإذن الله تعالى» فانقادت معه حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: «انقادي معي بإذن الله تعالى» فانقادت معه حتى إذا كانت بالنصف مما بينهما لأم بينهما فقال: «إلتئما علي بإذن الله تعالى» فلتأمتا ثم بعد قضاء حاجته افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق (¬2) . وقال فيه أيضاً: وروي عن أسامة بن زيد قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه: «هل ترى لي مكاناً لحاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» فقلت: إن الوادي ما فيه موضع بالناس، فقال: «هل ترى من نخل أو حجارة؟» فقلت: أرى نخلات متقاربات قال: «انطلق فقل لهن إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركن أن تأتين لمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقل ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/12، رقم 9) . (¬2) أخرجه مسلم (4/2301، رقم 3006) وابن حبان (14/455، رقم 6524) عن جابر.

للحجارة مثل ذلك» فقلت ذلك لهن فوالذي بعثه بالحق لقد رأيت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن، والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاماً خلفهن، فلما قضى حاجته قال: «قل لهن يفترقن» فوالذي نفسي بيده لقد رأيتهن والحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهن (¬1) . ومنها: أن يصحب معه ثلاثة أحجار إن أراد الاستنجاء بها، ويصحب معه الماء إن أراد الاستنجاء به. ومنها: أن يقدم رجله اليسرى في دخوله واليمنى في خروجه، كما يفعل ذلك في الحمام، عكس المسجد لأن كل ما كان للتكريم يبدأ فيه باليمين وخلافه باليسار، روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «من بدأ برجله اليمنى قبل يساره إذا دخل الخلاء أُبتلي بالفقر» . ومنها: أن لا يدخل حافياً ولا مكشوف الرأس فقد صرح جماعة بكراهتهما قاله في الوسيط. وروى البيهقي في ذلك حديثاً مرسلاً (¬2) . واتفق العلماء على أن الحديث الضعيف والمرسل والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال ويعمل بمقتضاه. قال النووي في المجموع: نعم يكفي ستر رأسه بكمه. ومنها: أن لا يحمل شيئاً مكتوباً عليه قرآن أو اسم الله أو اسم نبي أو اسم معظم، سواء كان مكتوباً على ورقه أو درهم أو فلس أو غير ذلك، أي: يستحب له أن لا يحمل شيئاً من ذلك عند قضاء حاجته، فإن حمله كره له ذلك. فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه كما رواه الترمذي وغيره وصححوه (¬3) . وكان نقش خاتمة كما تقدم: «محمد رسول الله» . فائدة: لو كان اسم الإنسان كاسم نبي من الأنبياء كمحمد أو موسى ونقشه على خاتمه وأراد به نفسه لا ذلك النبي لم يكره استصحابه. ¬

(¬1) أورده السيوطي في الخصائص الكبرى (2/60) وقال: أخرج أبو يعلى، والبيهقي بسند حسنه ابن حجر في المطالب العالية عن أسامة ابن زيد. (¬2) أخرجه البيهقي (1/96، رقم 461) عن حبيب بن صالح مرسلاً. (¬3) أخرجه أبو داود (1/5، رقم 19) وقال: منكر. والترمذي (4/229، رقم 1746) وقال: حسن غريب. والنسائي (8/178، رقم 5213) وابن ماجه (1/110، رقم 303) عن أنس.

فائدة أخرى: لو كان معه شيء مكتوب عليه اسم الله تعالى كخاتم فدخل به الخلاء ناسياً أو عامداً حتى قعد لقضاء حاجته ضم كفه عليه أو وضعه في عمامته أو غيرها. فائده أخرى: قال الأذرعي: والمتجه تحريم إدخال المصحف ونحوه الخلاء من غير ضرورة إجلالاً له وتكريماً. فائدة أخرى: ولو تختم في يسراه بما عليه ذكر الله تعالى أو اسم الرسول حوَّله في الاستنجاء تنزيهاً له عن تنجيسه قاله القفال. فإن تركه حتى تنجس إثم بذلك قاله الأسنوي. ومنها: أن لا يتكلم بذكر ولا غيره، أي: يكره له ذلك. قال أبو الليث: يكره الكلام في خمسة مواضع: خلف الجنازة، وعند قراءة القرآن، وعند الخطبة، وفي الخلاء، وعند الجماع. وجاء في الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك» (¬1) رواه الحاكم وصححه. ومعنى: «يضربان الغائط» يأتيان. «وكاشفين» منصوب على الحال، وروى: «كاشفان» بالألف مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هما كاشفان. «والمقت» البغض، وقيل: هو أشد البغض. والمقت وإن كان على المجموع من كشف العورة والتحدث، فبعض موجباته مكروه، نعم لا يكره الكلام لضرورة كأن رأى أعمى قد دنا من قرب بئر فأنذره حتى لا يقع فيه، أو رأى حية أو غيرها تقصد إنساناً أو غيره من الحيوانات المحترمة فأنذره من ذلك، بل يجب الإنذار في هذه. سؤال: فإن قيل: قراءة القرآن في الخلاء مكروهة أو حرام؟ جوابة: أن ظاهر قول الفقهاء: «يكره التكلم في الخلاء» أنها مكروهة. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/260، رقم 560) وقال: صحيح. وأخرجه أيضاً أبو داود (1/4، رقم 15) ، والنسائي في الكبرى (1/70، رقم 33) ، وابن ماجه (1/123، رقم 342) ، وأحمد (3/36، رقم 11328) ، وابن خزيمة (1/39، رقم 71) ، وابن حبان (4/270، رقم 1422) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/99، رقم 487) عن أبي سعيد. وأخرجه النسائي في الكبرى (1/70، رقم 31) ، والطبراني في الأوسط (2/65، رقم 1264) عن أبي هريرة.

لكن صرح ابن كج (¬1) بأنها حرام. قال الأذرعي: والتحريم حال قضاء الحاجة ظاهر، أما بعده وقبله فمحتمل، واللائق بالتعظيم المنع. فائدة أخرى: إذا عطس عند قضاء الحاجة والجماع حمد الله بقلبه، ولا يحرك لسانه. فائدة أخرى: إذا سلم عليه أحد وهو في الخلاء يكره رد السلام عليه، وقد ذكر العلماء مواضع لا يستحق فيها المسلم الرد، وسيأتي في الكلام على الحمام. فائدة: قال أبو الليث: روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه كان إذا أراد الدخول في الكنيف بسط رداءه ويقول: «أيها الملكان الحافظان علي اجلسا هاهنا فإني قد عاهدت الله تعالى أن لا اتكلم على الخلاء» . ومنها: أن يعتمد على رجله اليسرى وينصب اليمن بأن يضع أصابعها على الأرض ويرفع باقيها فإن، ذلك أسهل لخروج الخارج سواء قضى حاجته قائماً أو قاعداً. ومنها: أن لا ينظر إلى فرجه بلا حاجة ولا إلى الخارج منه، نعم قال بعض المالكية: يندب أن ينظر إلى ما يخرج منه اعتبار بمآل الدنيا. قال الأذرعي: ولا يعبث بيده ولا يلتفت يمنياً وشمالاً. ومنها: أن لا يطيل المكث في المحل بل تكره الإطالة لما روي عن لقمان أنه قال: إن ذلك يتولد منه الباسور أو يورث وجعاً في الكبد. ومنها: أن لا يتخلى في طريق الناس لما ورد في صحيح مسلم: «اتقو اللعانين» قالوا: وما اللعنان؟ قال: «الذي يتخلى في طريق أو في ظلهم» (¬2) . ¬

(¬1) ابن كج هو: يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم القاضي أحد أئمة الشافعية، صاحب أبي الحسين ابن القطان وحضر مجلس الداركي أيضا قتله العيارون بالدينور ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة خمس وأربعمائة، وكان من أئمة المذهب، قال ابن كثير: له في المذهب وجوه غريبه، وقد وجمع بين رياسة الفقه والدنيا، وله مصنفات كثيرة منها: «التجريد قال في المهمات» وضبط اسمه ابن خلكان فقال: «وكج» بكاف مفتوحة وجيم مشدودة وهو في اللغه: الجص الذي تبيض به الحيطان. انظر ترجمته في: البداية والنهاية (11/355) ، وطبقات الفقهاء (1/127) ، وطبقات الشافعية (2/198) . (¬2) أخرجه مسلم (1/226، رقم 269) وأخرجه أيضاً أبو داود (1/7، رقم 25) ، وأحمد (2/372، رقم 8840) ، وأبو يعلى (11/369، رقم 6483) ، والبيهقي (1/97، رقم 473) عن أبي هريرة.

وفي رواية لابن مندة: «في طريق المسلمين ومجالسهم» (¬1) . «واللعنان» بالتشديد أصله اللاعنان فحول للمبالغة، وإنما إطلق على الذي يتخلى في الطريق والذي يتخلى في الظل لعنانان لأنهما تسببا بذلك في لعن الناس لهما كثيراً عادة، فأضيف الفعل اليهما بصيغة المبالغة، والمعنى: احذروا سبب اللعن المذكور. قال الخطابى: وقد يكون اللاعن بمعنى المعلون أي: اتقوا الملعونين فاعلمهما. فائدة: التخلي في طريق الناس ببول أو غائط مكروه كراهة تنزيه كما قال أصحاب الشافعي. لكن قال النووي: ينبغي تحريمه للأخبار الصحيحة ولإيذاء المسلمين. وقال الأذرعي في «التوسط» : يجب الجزم بأن التخلي فيها حرام، وهو الصواب مذهباً ودليلاً، قال: ويتعين من إطلاق الكراهة أي: في كلام الأصحاب على التحريم. وقال صاحب العدة: إن التغوط في الطريق حرام نقله الشيخان عنه في كتاب الشهادة وأقراه فأُفهم كلامهم أن البول فيها ليس بحرام، لأن الغائط أغلظ منه. وجاء في حديث رواه البيهقي: «من سل سخيمته على طريق عامر من طريق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (¬2) «والسخيمة» بفتح السين المهملة وكسر الخاء المعجمة هي الغائط. ومنها: أن لا يتخلى في متحدث الناس، «والمتحدث» بفتح الدال مكان الاجتماع للحديث، ويسمى النادى، أي: يكره التخلي فيه، وفي معناه كل موضع يقصد كظل شمس أو لمعيشة أو لمقيل مسافر ونحوها، وينبغي على قول النووي أن يحرَّم التخلى فيه لإيذاء الناس. ومنها: أن لا يتخلى عند قبر محترم احتراماً له، أي: يكره له ذلك، وتشتد الكراهة عند قبور الأولياء والشهداء، وأما قبور الأنبياء فالتخلي عندها حرام كما قال الأذرعي. وكذلك يحرم التخلي بين القبور المتكرر نبشها لاختلاط ترتبها بأجزاء الميت، ¬

(¬1) عزاه أيضاً ابن الملقن في تحفة المحتاج (1/163) لابن منده. (¬2) أخرجه البيهقي (1/98، رقم 475) وأخرجه أيضاً الحاكم (1/296، رقم 665) ، والطبراني في الأوسط (5/320، رقم 5426) قال الهيثمي (1/204) : فيه محمد بن عمرو الأنصاري ضعفه يحيى بن معين ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات. جميعاً عن أبي هريرة.

وكذا يحرم التخلي عند القبر المحترم. قال الأذرعي في «التوسط» : والظاهر أن البول إلى جداره كالبول عليه إذا مسته النجاسة. ومنها: أن لا يبول بقرب جدار المسجد احتراماً له، فإن بال بقربه كره له ذلك. فائدة: البول في المسجد في إناء من غير ضرورة حرام، وأما البول في رحبة المسجد وهو كل ما كان مضافاً إلى المسجد محجراً عليه، فإن جعلناها من المسجد حرم وإلا فلا. قال الأذرعي في «التوسط» : ويحتمل أن يقال بالتحريم مطلقاً، وإن لم يجعلها من المسجد. قال: ويجب الجزم به إذا كانت متروكة. فائدة أخرى: قال صاحب الذخائر: يستحب للمرء أن يتخذ إناء يبول فيه بالليل لحديث ورد فيه (¬1) . ولأن دخول الحشوش بالليل يخشى منه. ومنها: أن لا يبول في ماء راكد ولو كان كثيراً أي: يكره له ذلك لخبر مسلم: «أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبال في الماء الراكد» (¬2) . والكراهة في القليل الراكد أشد لتنجيسه. وكذا يكره في جارٍ قليل، وأما الجاري الكثير فلا يكره فيه ذلك، لكن الأولى اجتنابه. وكذا يكره البول بقربه، والبول فيه بالليل أشد كراهة، لما قيل: إن الماء بالليل للجن، فلا ينبغي أن يبال فيه ولا يغتسل خوفاً من آفة تصيب من جهتهم، والتغوط أشد كراهة من البول. ومنها: أنه لا يبول تحت شجرة مثمرة أي: يكره له قضاء الحاجة تحتها. قال الأذرعي: قال الأصحاب: يكره التغوط والبول في مساقط الثمار مملوكة كانت الشجرة أو مباحة. قال: وأما غير المثمرة فإن كانت ظلاً ونحوه فعلى ما سبق، وإلا فلا تحريم ولا كراهة. ولا يكره قضاء الحاجة تحت الشجرة المثمرة ولو في غير وقت الثمرة. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/7، رقم 24) والحاكم (1/272، رقم 593) وقال: صحيح الإسناد وسنة غريبة. وابن حبان (4/274، رقم 1426) عن أميمة بنت رقيقة. (¬2) أخرجه مسلم (1/235، رقم 281) عن جابر.

ومنها: أن لا يتخلى في مستحم وهو المغتسل، مأخوذ من الحميم، وهو: الماء الحار، أي: يكره له ذلك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسلة وقال: «لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه» رواهما أبو داود وغيره (¬1) . ومحل الكراهة إذا لم يكن له منفذ ينفذ منه البول أو الماء، وإلا فلا يكره. ومنها: أنه يستحب له أن يرفع ثوبه عن عورته بلا قعود لقضاء الحاجة شيئاً فشيئاً، نعم إن خاف تنجس ثوبه رفع قدر حاجته، وبسبله أيضاً شيئاً فشيئاً إذا قام قبل انتصابه. ومنها: أن لا يبول في مكان صلب لئلا يترشرش بالبول فقد رود: «استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين (¬2) . فإن لم يجده مكاناً غيره دقة بحجر أو نحوه حتى يلين. فائدة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب إلى الخلاء يحمل أنس بن مالك معه «العنزة» والعنزة عليها عصا زج. وقال الكرمانى: «العنزة» بفتح النون أطول من العصا وأقصر من الرمح، وفي طرفها «زج» كزج الرمح، «والزج» الحديدة التي في أسفل الرمح يعنى السنان. وقال ابن رجب: كانت هذه «العنزة» تحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسفار، وفي يوم العيدين يصلي إليها حيث لم يكن هناك جدار ليستتر به. وجاء في الصحيحين عن ابن عمر: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر» (¬3) . قال ابن رجب: والذي كان يحمل العنزة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غالباً عبد الله بن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/7، رقم 27) ، والترمذي (1/33، رقم 21) وقال: غريب. والنسائي (1/34، رقم 36) . وابن ماجه (1/111، رقم 304) ، والحاكم (1/273، رقم 595) وقال: صحيح على شرط الشيخين. وعبد الرزاق (1/255، رقم 978) ، وأحمد (5/56، رقم 20582) ، وعبد بن حميد (ص 181، رقم 505) ، وابن الجارود (1/21، رقم 35) عن عبد الله بن مغفل. (¬2) أخرجه الحاكم (1/293، رقم 653) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة. وأخرجه أيضاً الدارقطني (1/128) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (1/187، رقم 472) ، ومسلم (1/359، رقم 501) .

مسعود، فإنه كان خادم نعليه فيلبسه النعلين ثم يمشى بالعصا أمامه، حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحكمة في حملها معه ليحفر بها الأرض، ويلين التراب ليبول في موضع لين لئلا يصيبه الرشاش، وهذه العنزة أهداها النجاشى للنبى - صلى الله عليه وسلم -. قال الحليمى: وقال ابن سيد الناس: كانت للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة فأخذها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بقي من هذه «العنزة» قطعة موجودة بمصر في الآثار الشريفة. ومنها: أن لا يبول في ثقب وهو النجش المستدير في الأرض، ولا في سرب وهو الشق في الأرض والبول فيهما مكروه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، لأنها مساكن الجن. فائدة: وقع لسعد بن عبادة - رضي الله عنه - أنه سافر من المدينة بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما لم يبايعه الناس وبايعوا أبا بكر إلى أن وصل إلى مدينة حوران، فنزل بها وأقام فجلس يوماً ليبول في ثقب في الأرض فضربه الجن فوقع ميتاً، وذلك سنة خمس عشرة فغسل ودفن بحوران، ولم يعلم أهل المدينة بموته حتى سمعوا قائلاً من الجن في بئر يقول: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة، رميناه بسهمين فلم يخطئ فؤاده، فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه (¬1) . ومنها: أن لا يبول في مهب ريح أي: موضع هبوبها. أي: يكره له استقباله بالبول كما قاله النووي في المجموع لئلا يعود عليه رشاش البول، بل يستدبرها كما في المجموع. قال الأذرعي في «التوسط» : وجاء في الحديث: «أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتمخر الريح» (¬2) . أي: ينظر أين مجراها فلا يستقبلها لئلا ترد عليه البول ولكن يستدبرها، ولا فرق في كراهة استقبال مهبة الريح بين حال هبوبها، وحال سكونها إذ هي تهب بعد شروعه في البول فترد الرشاش عليه، أفاد ذلك ابن شهبة. ومنها: أن لا يبول قائماً بل يكره البول قائماً لما رواه الترمذي وغيره عن عائشة أنها قالت: «من حدثكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائماً فلا تصدقوه ما كان يبول إلا ¬

(¬1) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (20/266: 269) . (¬2) أورده ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (1/45) وقال: غريب.

قاعداً» (¬1) . نعم يجوز البول قائماً لعذر بلا كراهة ولا خلاف الأولى، فقد ورد في الصحيحين: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم فبال قائماً» (¬2) . واختلف العلماء في سببه: فقيل: كان به وجع في صلبة والعرب كانت تستشفى بالبول قائماً لوجع الصلب. وقيل: لأنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود. وقيل: كان بباطن ركبتيه علة فما قدر يجلس فبال قائماً. قال النووي: ويجوز أن يكون فعل ذلك بياناً للجواز. سؤال: فإن قيل: كيف بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سباطة القوم بغير إذنهم مع أنه لا يجوز لأحد أن يستجمر في حائط غيره بغير أذنه؟ جوابه: إما أنه - صلى الله عليه وسلم - علم رضاهم بذلك وأذنوا له، أو أنها لم تكن مختصة بهم، بل عامة أضيفت إلى القوم لقربها منهم. ومنها: أن يستبرئ من البول عند انقطاعه وقبل قيامه إن كان قاعداً، لئلا يقطر عليه، ويحصل بتنحنح ونثر ذكر ثلاث مرات. وكيفية النثر: أن يمسح بيسراه العروق من دبره إلى رأس الذكر وينثره بلطف، ليخرج ما بقي إن كان، ويكون ذلك بالابهام والمسبحة، ويحصل أيضاً بالمشي خطوات أكثرها سبعون خطوة. قال النووي: ويختلف ذلك باختلاف الناس، فمنهم من يحصل له الاستبراء بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكرره، ومنهم من يحتاج إلى صبر لحظة، ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا، المقصود أن يظن الإنسان أنه لم يبق بمجرى البول شيء يخاف خروجه. والاستبراء مستحب فلو تركه الإنسان فاستنجاؤه صحيح ووضوءه كامل، وإنما لم يجب لأن الظاهر من انقطاع البول عدم عودة. قال الأذرعي: نعم إذا تحقق أن في المجرى شيئاً يخرج منه، أو غلب على ظنه ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (1/17، رقم 12) وابن ماجه (1/112، رقم 307) ، وابن حبان (4/278، رقم 1430) . (¬2) أخرجه البخاري (1/90، رقم 222) ، ومسلم (1/228، رقم 273) ، وأبو داود (1/6، رقم 23) ، والترمذي (1/19، رقم 13) ، والنسائي (1/25، رقم 26) ، وابن ماجه (1/111، رقم 305) عن حذيفة.

بمقتضى عادته أنه يخرج منه شيء، وجب أن يستبرئ بعده، ووافقه ابن البرزي على ذلك. ويكره لغير حاجة أن يحشو ذكره بقطن أو نحوه، أما لحاجة فإنه لا يكره، بل يجب كمن به سلس البول. وينبغي لكل أحد في الاستبراء أن لا ينتهي إلى حد الوسوسة فإنها مذمومة، والناس مختلفون في الوسواس. فمنهم من يوسوس في الاستنجاء والوضوء والغسل، فيؤديه ذلك إلى الإسراف في الماء. ومنهم من يوسوس في الصلاة فيؤدية ذلك إلى عدم جزم النية، وتكرير لفظ نويت نويت أصلي أصلي ونحو ذلك، وهذا نقص في العقل وحيل من الشيطان. فقد روى ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد وهو يتوضأ فقال له: «لا تسرف» فقال له: يا رسول الله أفي الماء إسراف؟ قال: «نعم وإن كنت على نهر جار» (¬1) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء» (¬2) رواه الترمذي. قال ابن العماد: معناه أنه يشككه في خلاء الوضوء، أو بعد الفراغ منه في أنه نوى أو ما نوى، أو في أنه لم يستوعب غسل الوجه في المرات الثلاث ونحو ذلك. وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: «شيطان الوضوء يدعى الولهان ويضحك بالناس في الوضوء» . وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم التيمي قال: «أول ما يبدأ الوسواس من الوضوء» (¬3) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» (¬4) . ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (1/147، رقم 425) عن عبد الله بن عمرو. (¬2) أخرجه الترمذي (1/85، رقم 57) ، وقال: غريب وليس إسناده بالقوي. وأخرجه أيضاً ابن ماجه (1/146، رقم 421) ، وأحمد (5/136، رقم 21276) ، وابن خزيمة (1/63، رقم 122) ، والحاكم في المستدرك (1/267، رقم 578) ، والطيالسي (ص: 74، رقم 547) عن أبي بن كعب. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (1/67، رقم 725) . (¬4) أخرجه أبو داود (1/24، رقم 96) ، وابن ماجه (2/1271، رقم 3864) ، وأحمد (4/86، رقم 16842) ، وابن حبان (15/166، رقم 6763) ، والحاكم في المستدرك (1/267، رقم 579) ، وابن أبي شيبة (6/53، رقم 29411) ، والبيهقي (1/196، رقم 900) عن عبد الله بن مغفل.

قال الشيخ موفق الدين ابن قدامه رحمة الله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لادخرها الله لرسوله وأصحابه، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم أحد من الصحابة لبدعهم. قيل: إن بعض الصوفية جلس ليلة يتوضأ لصلاة العتمة، فصار يصب الماء عليه حتى مضى شطر الليل فلم تطب نفسه، ولم يذهب الوسواس من قلبه، فبكى وقال: يارب العفو، فسمع هاتفاً يقول له: اترك ما أنت فيه، واستعلم العلم. ومن آدابه أن لا يأكل ولا يشرب في الخلاء، كما قاله القاضي زكريا عن المحب الطبري. ومنها: أنه لا يستاك، فقد نقل عن ابن عباس: أنه يورث النسيان، ونقل عنه أيضاً أنه قال: «من فعل ذلك فذهب بصره فلا يلومن إلا نفسه» . ومنها: أن لا يمسك البول بعد ما أخذه فإن ذلك يضر بالمثانة قاله الغزالي. ويقال: إن حبس البول يفسد من الجسد كما يفسد النهر ما حوله إذا سد مجراه. ومنها كما قال الغزالي في الإحياء: أن يقول عند الفراغ من الاستنجاء: اللهم طهر قلبي من النفاق، وحصن فرجي من الفواحش (¬1) . خاتمة: قال الترمذي الحكيم: إذا أتيت الخلاء فاعلم أنك تقصد الشيطان فاحذر من كيده، وأقل من إتيانه بقلة الطعام، وكن رجلاً مستحيياً من خالقك، مستحقراً لنفسك. فقد قال الفضيل بن عياض: إني لأمقت نفسي من كثرة ترددي إلى الخلاء. وغط نفسك حياءً من ربك، وامش متواضعاً متفكراً في نعم الله عليك، حين أطعمك وأسقاك، وأخرجه عنك حين أذاك، وقف على باب الخلاء وقل: اللهم اجعل دخولي عبرة، وأمط الأذى عني رحمة ترحمني بها، فعن أنس: «إن الشيطان يتباعد إذ ذاك» . قال: ولا تبصق في بولك ولا على ما يخرج منك من العذرة، فقد روي أنه من فعل ذلك يبتلى بالوسوسة وصفرة الأسنان. ¬

(¬1) انظر: إحياء علوم الدين (1/132) .

وعن عطاء أنه قال: «من بصق على ما يخرج منه بلي بالدم هو وأولاده أو أحد عقبه. ولا يتمخط فعن أنس: «أنه يورث الصمم» . ولا تقلب خاتمك مرة بعد أخرى فقد روي: أنه من فعل ذلك يأوي إليه الشيطان. قال: وينبغي أن تقوم مولِّيا عما يخرج منك فقد روي: «أنه فيه شفاء من تسعة وتسعين داء، أدناها البرص والجذام» . قال: واجتهد أن تجعل بينك وبين السماء سترة. فعن الضحاك: «أن من فعل ذلك أمطرت عليه الرحمة من عنان السماء» . قال: ولا تقتل قملة بل ادفنها. فقد روى محمد بن أبي طالب أنه قال: «من قتل القمل وهو على رأس خلائه بات معه في شعاره شيطان، ينسيه ذكر الله تعالى أربعين صباحاً» . قال: ولا تلقي ما تستنجي به على رأس ما يخرج منك من بول وعذر؟ فعن مكحول: «أنه من فعل ذلك تدودت أسنانه، وغلبت عليه الرياح» . ولا تقم حتى تشد سراويلك فعن قتادة: «أن من داوم على ذلك» أي: من قام قبل أن يشد سراويله «غلب الدم عليه حتى يكون موته منه» . قال: ولا تغمض عينيك، فإن ذلك يورث النفاق في القلب، كما قاله الحسن. قال: ولا تحمل الماء معك إلى الخلاء بيسارك. فعن كعب: «أن ذلك فعل الشيطان ويفقد ثواب وضوءه» . قال: ولا تضع يديك على صدغك، وتجعل رأسك بينهما. فعن أويس القرني: «أن ذلك يورث قساوة القلب والبرص، ويذهب الرحمة والحياء» . قال: ولا تسنده إلى حائط وغيره كفعل الجبابرة والشيطان، فإنه يذهب ماء الوجه وينفح البطن.

قَالَ البُخَارِي: بَابٌ: لا تُسْتَقْبَلُ القِبْلَةُ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ إِلا عِنْدَ البِنَاءِ: جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِىِّ عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ ... » في هذا الإسناد من اللطائف أن رجاله كلهم مدنيون، وأبو أيوب الأنصاري صحابي جليل، واسمه: خالد بن زيد، ولكن غلبت عليه كنيته، وهو خزرجي أنصاري مدني، ثم شامي، شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن فضائله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة نزل عليه شهراً، حتى بنت مساكنه ومسجده - صلى الله عليه وسلم -. وقدم مرة إلى البصرة وكان فيها ابن عباس ففرح به وقال له: إني أخرج من مسكني لك، كما خرجت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مسكنك، ولما رحل منها أعطاه عشرين ألفاً وأربعين عبد. هو من نجباء الصحابة ومناقبه جمة، وكان مع علي في حروبه. ومن فضائله: أنه خرج مرة للغزاة بالقسطنطينية فمرض فلما ثقل قال لأصحابه: احملوني فإذا صففتم العدو فارموني تحت أرجلكم. قال ابن الملقن: قال الكرماني قال لأصحابه: إذا مت فاحملوني فإن صاففتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم، ففعلوا فقبره قريب من سور بالقسطنطينية، معروف إلى اليوم وهم هناك يستقون به فيسقون، مات سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، روي له من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وخمسون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث. « ... عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «فلا يستقبل» بكسر اللام لأن «لا» ناهية واللام في القبلة للعهد أي للكعبة. قوله: «ولا يولها ظهره» : ولمسلم «ولا يستدبرها» وزاد «ببول أو بغائط» والغائط الثاني غير الأول، أطلق على الخارج من الدبر مجازاً من إطلاق اسم المحل على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تام. والظاهر من قوله «ببول» اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابر: «إذا هرقنا الماء» . وقيل مثار النهي كشف العورة، وعلى هذا فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلا، وقد نقله ابن شاش المالكي قولا في مذهبهم وكأن قائله تمسك برواية في الموطأ: «لا تستقبلوا القبلة بفروجكم» ولكنها محمولة على المعنى الأول أي حال قضاء الحاجة جمعاً بين الروايتين والله أعلم. انظر فتح الباري (1/246) .

في هذا الحديث دلالة على أنه يحرم على الإنسان أن يستقبل لقبلة ببول أو غائط أو يستدبرها، فإن قوله: «فلا يستقبل القبلة» نهي، وكذا قوله: «ولا يولها ظهره» نهي أيضاً. والأصل في النهي أن يكون للتحريم وهذا المسألة فيها أربعة مذاهب للعلماء: الأول: التحريم مطلقاً في البنيان والصحراء وهو قول أبي أيوب الأنصارى، راوي الحديث، وحكي عن جماعة منهم أبو حنيفة، وهؤلاء حملوا النهي على العموم، وجعلوا العلة فيه التعظيم والاحترام للقبلة، فإن موضعها للصلاة وللدعاء والبر والخير. الثاني: الجواز مطلقاً. الثالث: تحريم الاستقبال دون تحريم الاستدبار. الرابع: وهو قول إمامنا الشافعي وبه قال مالك وجمهور العلماء: أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء دون البنيان. سؤال: فإن قيل: قوله في هذا الحديث: «فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره» يقتضي التحريم في الصحراء والبنيان؟ جوابه: أن إمامنا الشافعي حمله على الصحراء، وحمل غيره من الأحاديث الدالة على الجواز مطلقاً على البنيان، جمعاً بين الأخبار. فائدة: إنما يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان بشرطين: أحدهما: أن يستتر بشيء بينه وبين القبلة مرتفع قدر ثلثي ذراع فأكثر، كجدار أو حجر أو تراب أو إرخاء ذيل أو نحوه. الثاني: أن يقرب منه على ثلاثة أذرع فأقل بذراع الآدمي، فإن كان الساتر أقل من ثلثي ذراع أو كان أكثر، ولكن بعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع فيحرمان حينئذ كالصحراء. نعم إذا كان في الأخلية المعدة لقضاء الحاجة وإن بعد الساتر عنه، أو قصر من ثلثي ذراع فأكثر وقربه منه، لا حرمة فيه ولا كراهة ولا خلاف الأولى قاله النووي. لأن الضرورة قد تدعو إلى توسيعه لوضع أواني الماء ونحوها، وإنما يحرمان بالصحراء إذا لم يكن بينها وبينه ساتر، فإذا استتر بمرتفع قدر ثلثى ذراع فأكثر، وقرب

منه على ثلاثة أذرع فأقل لم يحرم. فائدة أخرى: إذا جاز للإنسان استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط بالشروط المذكورة في غير الأخلية المعدة لذلك فهل هو جائز مع الكراهة أو بلا كراهة؟ جزم الرافعي تبعاً للمتولي أن الكراهة موجودة. واختار النووي أن الكراهة منتفية قال: لكن الأدب والأفضل الميل عن القبلة إذا أمكن بلا مشقة احتراماً لها. فائدة أخرى: إذا قلنا بتحريم الاستقبال والاستدبار لفقد الشروط المذكورة، فيجب على قاضي الحاجة حينئذ إما أن يتوجه إلى ناحية الشرق، وإما إلى ناحية الغرب كما أشار إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «شرقوا أو غربوا» . فإن معنى شرقوا الالتفات إلى ناحية الشرق، وغربوا الالتفات إلى ناحية الغرب، ولقد أحسن من قال: سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب وينبغي أن يعلم أن وجوب التشريق والتغريب في حق من ليست قبلته في ناحية المشرق أو المغرب كأهل المدينة الشريفة وأهل الشام وغيرهما. ويعلم ذلك من قوله في الحديث: «شرقوا أو غربوا» فإنه خطاب لأهل المدينة، ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، أما من كانت قبلته إلى جهة المغرب أو المشرق، فإنه ينحرف إلى الجنوب أو الشمال. فائدة أخرى: لو كانت الريح تهب عن يمين القبلة ويسارها، ولو بال لغير القبلة لرد الريح عليه البول جاز له في هذه الحالة أن يستقبل القبلة بالبول أو يستدبرها للضرورة قاله القفال. فائدة أخرى: إذا قلنا لا يكره استقبال القبلة ولا استدبارها حال الاستنجاء ولا حال الجماع ولا حال إخراج الريح، فإن النهي عنهما إنما ورد في البول والغائط، وهذا لم يفعله.

فائدة أخرى: يكره استقبال الشمس والقمر وبيت المقدس واستدبارها ببول أو غائط في الصحراء والبنيان إكراماً لها قاله صاحب الروض تبعاً للرافعى. لكن نقل النووي في الروضة عن الجمهور: أن الكراهة في الشمس والقمر مخصوصة بالاستقبال فقط. وقال في المجموع: هو الصحيح المشهور. وأفاد بعض العلماء: أن استقبال القمر لا يكره إلا في وقت سلطنته وهو الليل، أما النهار فلا. ثم سأل وقال: فإن قيل: ينبغي أن يكره استقباله مطلقاً لأن في حافتيه ملكاً؟ ثم أجاب: بأنا لو نظرنا إلى هذا لكره أن يستقبل زوجته، فإن معها الحفظة ولم يقل أحد به. * * *

المجلس الثالث والأربعون

المجلس الثالث والأربعون في بيان عنزة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكم حملها معه وبيان عصا موسى وبيان توبة سحرة فرعون وعددهم وفوائد كثيرة قَالَ البُخَارِي: بَابُ حَمْلِ الْعَنَزَةِ مَعَ الْمَاءِ فِي الاسْتِنْجَاءِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مَيْمُونَةَ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ الْخَلاَءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وَعَنَزَةً، يَسْتَنْجِى بِالْمَاءِ. تَابَعَهُ النَّضْرُ وَشَاذَانُ عَنْ شُعْبَةَ. الْعَنَزَةُ عَصاً عَلَيْهِ زُجٌّ (¬1) . معنى الحديث أن أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدخل الخلاء ليقضي حاجته فيه أنه كان يحمل هو وغلام الإداوة ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «يدخل الخلاء» : المراد به هنا الفضاء لقوله في الرواية الأخرى «كان إذا خرج لحاجته» ولقرينة حمل العنزة مع الماء فإن الصلاة إليها إنما تكون حيث لا سترة غيرها. وأيضا فإن الأخلية التي في البيوت كان خدمته فيها متعلقة بأهله. وفهم بعضهم من تبويب البخاري أنها كانت تحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة، وفيه نظر لأن ضابط السترة في هذا ما يستر الأسافل والعنزة ليست كذلك. نعم يحتمل أن يركزها أمامه ويضع عليها الثوب الساتر. أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه. أو تحمل لنبش الأرض الصلبة. أو لمنع ما يعرض من هوام الأرض، لكونه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعد عند قضاء الحاجة. أو تحمل لأنه كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ صلى، وهذا أظهر الأوجه. وسيأتي التبويب على العنزة في سترة المصلي في الصلاة. واستدل البخاري بهذا الحديث على غسل البول كما سيأتي. وفيه جواز استخدام الأحرار - خصوصا إذا أرصدوا لذلك - ليحصل لهم التمرن على التواضع. وفيه أن في خدمة العالم شرفا للمتعلم، لكون أبي الدرداء مدح ابن مسعود بذلك. وفيه حجة على ابن حبيب حيث منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم لأن ماء المدينة كان عذبا. واستدل به بعضهم على استحباب التوضؤ من الأواني دون الأنهار والبرك، ولا يستقيم إلا لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد الأنهار والبرك فعدل عنها إلى الأواني. انظر فتح الباري (1/252) .

التي فيها الماء والعنزة لأجل أن يستنجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال العلماء: «الإداوة» بكسر الهمزة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء كالسطحية ونحوها، وتجمع على «أداوى» والمراد بالغلام في هذا الحديث ونحوه: أبو هريرة قاله بعض العلماء. وفيه أشكال وهو: أن الغلام الذي كان يحمل الإداوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار، بدليل ما جاء في بعض الروايات: فانطلقت أنا وغلام من الأنصار، فإن الأنصار كما تقدم لقب على الأوس والخزرج، وأبو هريرة ليس من القبيلتين بل هو دوسي يماني. وجواب هذا الإشكال: أنه أطلق عليه أنصاري مجازاً كما قاله ابن حجر، فإن الأنصار حقيقة من كان من الأوس والخزرج، فإطلاقه على من ليس منهما مجازاً. وهكذا يجاب عن كل من أطلق عليه بأنه من الأنصار وليس من القبيلتين كأبي بكر الصديق. فإنه ورد في هذا الحديث الصحيح أن يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا القاسم ضرب وجهي رجل من أصحابك، فقال: «من؟» قال رجل: من الأنصار (¬1) . قال العراقى: الضارب في هذا الحديث «أبو بكر» ، والمضروب «فيحاص بن عاذوراء» مع أن أبا بكر من المهاجرين لا من الأنصار، لكنه أطلق عليه بأنه منهم مجازاً كما قاله ابن حجر لوجود معنى النصر فيه، وأي ناصر من الصحابة كأبي بكر. وقال شيخنا العلامة الشيخ محمد البازلي الكردي (¬2) : وجه تسمية أبي هريرة بأنه أنصاري لأنه نصر سيد الخلق بكثرة رواية الحديث. قال: وأي نصرة أقوى من حمل الحديث وإظهاره على رؤوس الأشهاد، فهو نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلسانه بسبب كثرة الأحاديث التي رواها عنه، فإنه أكثر الصحابة رواية. ويدل على أن ذلك يسمى نصرة وجهاد قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ? [التوبة: 73] أي: جاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بإظهار الحجة، وبيان المحجة باللسان، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قط ما جاهد منافقاً بالسيف بل باللسان. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2/850، رقم 2281) ، ومسلم (4/1845، رقم 2374) عن أبي سعيد الخدري. (¬2) البازلي هو: محمد بن داود بن محمد البازلي، أبو عبد الله، شمس الدين، فاضل، من الشافعية. كردي الاصل، من العمادية. ولد في جزيرة ابن عمرو سنة: 845 هـ‍، وتعلم في أذربيجان، وأقام في حماة من سنة 895 إلى أن توفي سنة: 925 هـ‍، من كتبه: غاية المرام في رجال البخاري، وتقدمة العاجل لذخيرة الآجل، وحاشية على شرح جمع الجوامع للمحلي.

وها هنا إشكال آخر وهو: كيف أطلق أنس على أبي هريرة أنه غلام، والغلام يسمى به الصبي إلى بلوغه، وأبو هريرة لما أسلم كان عمره ثمان عشرة، أو تسع عشرة سنة. وجواب هذا الإشكال أيضاً: أن الغلام يطلق على معان: يطلق على الولد من حين يولد إلى أن يبلغ وليس مراداً هنا. ويطلق على الذي طرَّ شاربه أي: نبت. ويطلق على الكهل، كما قال ذلك صاحب القاموس وقال: إنه من الأضداد، أي: يطلق على الكبير والصغير. وحينئذ يقال: إنما أطلق أنس الغلام على أبي هريرة لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشر سنة، وذلك زمن ينبت فيه الشارب، غالباً ومن طر شاربه يسمى غلاماً كما تقدم. ومما يدل على جواز إطلاق الغلام على من جاوز البلوغ، بل على الرجل الكامل المسن بما ورد في حديث المعراج أن موسى - صلى الله عليه وسلم - أطلق لفظ الغلام على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإنه لما مر على موسى بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمتة أكثر ممن أن دخلها من أمتي (¬1) . وسنذكر في موضعه حكمة إطلاق الغلام على نبينا - صلى الله عليه وسلم -. «والعنزة» التي كانت تحمل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلاء وغيره: عصا في أسفلها زج كزج الرمح، و «الزج» الحديد التي في أسفل الرمح، يعني السنان. واختلف فيها هل كانت قصيرة أو طويلة؟ فقيل: إنها عصا مثل نصف الرمح. وقيل: هو أطول من العصا وأقصر من الرمح، وفيها زج. قال الداودي (¬2) : «العنزة» : العكاز أو الرمح أو الحربة أو نحوها، يكون في أسفلها زج أو قرن. فائدة: قال ابن الملقن: هذه العنزة أهداها النجاشى - صلى الله عليه وسلم - له. وقال ابن سيد الناس: كانت للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة، فأخذها منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت تحمل معه إلى الخلاء، ويستصحبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3/1410، رقم 3674) ، ومسلم (1/149، رقم 164) ، وابن حبان (1/236، رقم 48) عن أنس. (¬2) الداودي هو: أحمد بن نصر، أبو حفص الداودي، فقيه مالكي، له كتاب: الأموال، في أحكام أموال المغانم والأراضي التي يتغلب عليها المسلمون، توفي سنة: 307 هـ‍.

وغيره. فائدة أخرى: قد بقي من هذه العنزة قطعة في مكان في مصر يقال له: «الآثار» سمي بذلك لأن فيه شيئاً من آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ برهان الدين المحدث: زرت الآثار مراراً، ورأيت فيه قطعة من هذه العنزة، ومعه المرود الذي كان يكتحل به - صلى الله عليه وسلم - والمخصف، وقطعة من القصعة، ومنقاشاً صغيراً وكأنه لإخراج الشوك من الرجل وغيرها، قال: واكتحلت بالمرود، وشربت من ماء وضعت فيه القطعة من العنزة، فهنيئاً لمن رأى آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبركاً به، فإن من رأها فكأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولقد أحسن من قال: يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونآت مرابعه وشط فراره فلك الهنا فلقد ظفرت بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره فائدة أخرى: الحكمة في استصحابة - صلى الله عليه وسلم - هذه العنزة إلى الخلاء هي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد يأتي إلى أرض صلبة فيحفر بها تلك الأرض، ويلين ترابها ليبول في موضع لين كيلا يصيبه الرشاش. وإنما كانت تحمل معه في السفر وغيره لأجل أن يصلي إليها في الفضاء، ويتقي بها الكافرين واليهود، فإنهم كانوا يريدون قتله واغتياله بكل حالة. قال ابن رجب: هذه العنزة كانت تحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسفار وفي يومي العيدين، يصلي إليها حيث لم يكن هناك جدار يستتر به. وجاء في الصحيحين عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، وكان يحمل هذه ويمشي بها أمامه عبد الله بن مسعود (¬1) . قال ابن رجب: كان عبد الله بن مسعود يلبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعليه ثم يمشي بالعصا أمامه، حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه ثم مشى بالعصا أمامه، حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أجل هذا اتخذ الأمراء من يمشي أمامهم قاله ابن الملقن. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/187، رقم 472) ، ومسلم (1/359، رقم 501) . وأخرجه أيضاً: أبو داود (1/183، رقم 687) .

وذكر بعض العلماء للعصا فوائد كثيرة: منها: دفع العدو. ومنها: إتقاء السبع. ومنها: نبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة خشية الرشاش. ومنها: تعليق الأمتعة بها. ومنها: التوكؤ عليه خصوصاً لمن كبر سنه وضعفت قوته. ولله در القائل: تقوس بعد طول العمر ظهري ... وداستني الليالي أي دوسي فامشى والعصا تمشي أمامي ... كأن قومها وترًا لقوسي ومنها: السترة بها في الصلاة. قال الله حكاية عن موسى - عليه السلام -: ?وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى? [طه: 18] . وقيل للإمام الشافعي: مالك تدمن إمساك العصا؟ قال: حتى أتذكر أني مسافر. وقال ابن عباس رضى الله عنهما: التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوكأ عليها ويأمر بالاتكاء عليها. وجاء في حديث: «حمل العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء» (¬1) . ومن خرج في سفر ومعه عصا من لوازمه: أمنه الله من كل سبع ضار، ولص عاد، ومن كل ذات حمة حتى يرجع إلى أهله ومنزله، وكان معه سبعة وسبعون من المعقبات، يستغفرون له حتى يرجع ويضعها قاله العلامي في تفسيره. والمراد «بالمعقبات» : الملائكة. و «بذات حمة» بضم المهملة: ذات السم كالحية والعقرب نقله البرماوي. ونقل عن الحسن البصرى وغيره أنه قال: «في العكاز خمسة: سنة الأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون الضعفاء، ويهرب من صاحبها، ويخشع منه الفاجر، وتكون لصاحبها قبلة إذا صلى، وقوة إذا تعب» . وورد في حديث أنه قال: «من بلغ أربعين سنة ولم يأخذ العصا عُدَّ له من الكبر ¬

(¬1) أخرجه الديلمى (2/147، رقم 2750) عن أنس.

والعجب» (¬1) . فائدة: قال في الروض الفائق: قال بعض الصالحين: كنت في البادية فتقدمت القافلة فرأيت قدامي شخصاً، فسارعت حتى أدركته، فإذا هي امرأة بيدها عكاز، وهي تمشى على الهوينى، فظننت أنها أعييت، فأدخلت يدي في جيبي وأخرجت عشرين درهماً، فقلت: خذيها وامكثى حتى تلحقك القافلة فتكتري بها. ثم أتيني الليلة حتى أصلح أمرك، فقالت: بيدها في الهواء هكذا فإذا في كفها دنانير من الغيب فقالت: أنت أخذت الدراهم من الجيب، وأنا أخذت الدنانير من الغيب، ثم أخذت تقول: كم نعمة لك في العبادة ومنة ... موجودة في ذاتها لا تعدم كم آية لك في الخلائق والنهى ... مشهورة أسرارها لا تفهم كم حالة حولتها فتحولت ... فينا بنا عما تريد فترحم فائدة أخرى في بيان عصا موسى وما فيها من المآرب وما اتفق له فيها من المعجزات والعجائب: قال العلماء من المفسرين وغيرهم: لما تزوج موسى بابنة شعيب وصار يرعى له الأغنام، أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه، وكانت عصا الأنبياء عنده فوقع في يدها عصا آدم، فأمرها بردها وأخذ غيرها، ففعلت ذلك سبع مرات وما يقع في يدها إلا هذه العصا، فعلم أن لها شأناً عظيماً، وكانت من الجنة على قول أكثر العلماء، وكان طولها عشرة أذرع على طول موسى، حملها آدم معه من آس الجنة إلى الأرض، فتوارثها صاغر عن كابر إلى أن وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى. واختلف العلماء في اسمها، فقيل: ماسا، وقيل: نفعة، وقيل: غياث، وقيل: عليق. وأما صفتها: فقيل: كانت لها شعبتان ومحجن في أسفل الشعبتين وسنان حديد في أسفلها. وأما المآرب التي كانت فيها فقد ذكر علماء التفسير وغيرهم: أن موسى صلوات وسلامة عليه كان إذا دخل مغارة ليلاً ومعه العصا ولم يكن قمر تضيئ شعبتاها كالشعلتين من نار تضيئان له مد البصر في رأسها. وكان إذا أعوزه الماء دلاها في البئر، فتمتد على قدر البئر ويصير في رأسها شبه ¬

(¬1) أورده العجلوني في كشف الخفاء (1/383) وبين أنه موضوع.

الدلو فيستقي بها. وكان إذا احتاج إلى الطعام ضرب الأرض بها فتخرج ما يأكل يومه. وكان إذا اشتهى فاكهة من الفواكه غرسها في الأرض فتخرج أغصان تلك الشجرة التي اشتهى موسى فاكهتها وأثمرت له من ساعتها. وكان إذا قاتل عدوه يظهر على شعبتيها تنينان عظيمان. وكان يضرب بها على الجبل الوعر المرتقى على الحمر وعلى الحجر والشوك فينفرج له. وكان إذا أراد عبور نهر من الأنهار بلا سفينة، ضرب عليه بها فانفلق وصار له طريقاً يمر عليه. وكان يشرب أحياناً من إحدى شعبتها العسل، ومن الآخر اللبن. وكان إذا تعب في طريقه يركبها فتحمله إلى أي موضع شاء من غير ركض ولا تحريك رجل. وكانت تدله على الطريق إذا أخطأ الطريق، وتقاتل أعداءه عنه. وكان إذا احتاج موسى إلى الطيب يفوح منها الطيب حتى يتطيب ويطيب ثوبه. وكان إذا مشى في طريق فيه لصوص يخاف الناس منهم كلمته العصا وتقول له: اذهب في طريق كذا ولا تذهب في طريق كذا. وكان يهش بها على غنمه أي: يخبط بها ورق الشجر على غنمه فتأكله. وكان يدفع بها السباع والحيات والحشرات. وكان إذا سافر وضعها على عاتقه، وعلق عليها جهازه ومتاعه ومخلاته ومقلاعه وكساؤه وطعامه وشرابه. وروي أن شعيباً قال لموسى: حين زوجه ابنته وسلم إليه أغنامه ليرعاها: اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك، وإن كان الكلأ بها أكثر فإن هناك تنيناً عظيماً أخاف عليك وعلى الأغنام منه، فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق فأخذت الأغنام ذات اليمين، فاجتهد موسى على ردها وصرفها ذات الشمال فلم تطعه، فطاوعها موسى ثم نام والأغنام ترعى، فإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى وحاربت التنين فقتلته، ورجعت فاستلقت إلى جنب موسى وهي دامية، فلما استيقظ موسى رأى العصا دامية والتنين مقتولاً فعلم أن تلك العصا قوة وعزاً وإن لها شاناً.

فهذه مآرب موسى في العصا إذا كانت بيده. وأما إذا ألقاها فيروى: أنها كانت تنقلب حية كأعظم ما يكون من الثعابين سوداء مدلهمة تدب على أربع قوائم، فتصير شعبتاها فماً، فيه اثنتى عشر ناباً وضرساً، قيل: كان بين لحييها أربعون ذراعاً، لها صريف وصرير، يخرج منها لهب النار، وعيناها تلمعان كما يلمع البرق، يهب من فمها ريح السموم، لا تصيب شيئاً إلا أحرقته، تمر بالصخرة فتبتلعها، وتمر بالشجرة فتحطمها بأنيابها وتبتلعها، وتتلمظ وتتبرم كأنها تطلب شيئاً تأكله، وكانت في عظم الثعبان، وخفة الجان، ولين الحية، لذلك ذكرت في القرآن في مواضع قال تعالى: ?فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى? [طه: 20] . وقال تعالى: ?فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ? [الشعراء: 32] . وقال تعالى: ?كَأَنَّهَا جَانٌّ? [النمل: 10] . قال الإمام فخر الدين الرازى في تفسيره الكبير في تفسير قوله تعالى: ?فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ? [الشعراء: 32] ما نصه: والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة، ثم قال في وصف ذلك الثعبان يكون مبيناً وجوه: الأول: تمييز ذلك عما جاء السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه، وبذلك تتميز معجزات الأنبياء عن الحيل والتمويهات. الثاني: المراد أنهم شاهدوا كونه حية ولم يشبه الأمر عليهم. الثالث: المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عن قول المدعي الكاذب. ومعنى الآية: أن فرعون لما طلب من موسى آية أي معجزة تدل على نبوته كما قال تعالى حكاية عنه: ?قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ? [الأعراف: 106] . فالقى موسى عصاه في تلك الساعة فانقلبت ثعباناً عظيماً كما قال تعالى: ?فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ? [الشعراء: 32] . أي: حية عظيمة فاتحة فاها ما بين لحيها ثمانون ذراعاً ثم قامت على ذنبها، وشدت على فرعون لتبتلعه، فوثب فرعون عن سريره هارباً. وقيل: إنها وضعت لحيها الأسفل على الأرض، والأعلى على سطح القصر الذي فيه فرعون فوثب فرعون هارباً وأحدث أي: أخذه الإسهال في ذلك اليوم أربعمائه مرة، ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى خذها فأومن بك، وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذها موسى فعادت عصا.

وأظهر لهم موسى معجزة أخرى وهي أنه أخرج يده من جيب جبته الصوف فغدا لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض، ويغلب نورها شعاع الشمس كما قال تعالى حكاية عنه: ?وَنَزَعَ يَدَهُ? [الأعراف: 108] أي: أخرجها، ?فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ? [الأعراف: 108] . أي: فإذا هي بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن الاعادة تجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع للنظر في العجائب. قال الرازى: ولما كان البياض كالعيب بين تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء. سؤال: فإن قيل: إن المعجزة الواحدة كانت كافية فما الحكمة في الجمع بينهما؟ جوابه: أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك. قال الرازى: فلما أظهر موسى هذين النوعين من المعجزات قال قوم فرعون له: إن هذا يعنى موسى لساحر عليم بالسحر. قال الرازى: وكان السحر غالباً في ذلك الزمان، وكانت مراتب السحرة متفاضلة متفاوتة، ومنهم من وصل فيه إلى غاية الكمال في ذلك العلم، فزعموا وظنوا أن موسى من السحرة، وأنه وصل إلى غاية الكمال من علم السحر، وأنه إنما أتى بذلك لكونه طالباً للملك والرياسة، وأنه يريد أن يخرجهم من أرضهم كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: ?إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ? [الأعراف: 109، 110] . ولم يظهر لهم أنه أمر إلهي، ثم قالوا له: اجمع السحرة من مدائن ملكك ليعارضوه في سحرة ويعطلوا سحره. فائدة: قال الإمام الرازى: جعل الله تعالى معجزة كل نبي من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان. فلما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى كانت معجزته شبيهة بالسحر، وإن كانت مخالفة للسحر في الحقيقة. ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى كانت معجزته من جنس الطب. ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد - صلى الله عليه وسلم - لا جرم كانت معجزته من جنس الفصاحة. ثم أرسل فرعون وجمع السحرة من مدائن الصعيد، وكانت سبع مدائن فاجتمعوا

عنده بالأسكندرية. فائدة: اختلف العلماء في عدد السحرة: فقيل: كانوا ثمانين ألفاً. وقيل: سبعين ألفاً. وقيل: بضعة وثلاثين ألفاً، وكانوا صفوفاً. فقد ذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى: ?ثُمَّ ائْتُوا صَفاًّ? [طه: 64] أنهم كانوا صفوفاً كل صف ألف. فعلى القول الأول: كانوا ثمانين صفاً. وعلى الثاني: سبعين صفاً. وعلى الثالث: بضعة وثلاثين. وكان متقدمهم شمعون أبو حنة فلما اجتمعوا قالوا لفرعون: أتجعل لنا جُعْلاً إن غلبنا موسى؟ فقال لهم: نعم لكم علي جُعْل وتصيرون عندي من المقربين في مجلسي، وأول من يدخل علي وآخر من يخرج، هذا معنى قوله تعالى: ?وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المُقَرَّبِينَ? [الشعراء: 41، 42] . فلما أرادوا إلقاء سحرهم وإظهاره راعوا حسن الأدب مع سيدنا موسى، حيث لم يتقدموا عليه بل قالوا له كما قال الله تعالى حكاية عنهم: ?إِمَّا أَن تُلْقِيَ? [الأعراف: 115] أي: عصاك ?وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ? [الأعراف: 115] أي: ما معنا من الحبال والعصي، وكان مع كل واحد منهم حبل وعصا. قال أهل التصوف: لما راعوا هذا الأدب رزقهم الله الإيمان. وقال لهم موسى عليه - عليه السلام -: ألقوا ما أنتم ملقون. وهنا سؤال: وهو كيف أمرهم موسى بإلقاء حبالهم وعصيهم، وفي الإلقاء معارضة للمعجزة بالسحر، وذلك كفر والأمر بالكفر كفر. وجوابه: أنه - عليه السلام - كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر، وإبطاله ما كان ليمكن إلا بإقدامهم على إظهاره، فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ويمكنه الإقدام على إبطاله قاله الرازى. فلما ألقوا أي: حبالهم وعصيهم وكانت حبالاً غلاظاً، وخشباً طوالاً سحروا أعين

الناس واسترهبوهم أي: قلبوها عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات. وقيل: إنهم لطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصا، أثر تسخين الشمس فيها تحركت وصارت حيات كأمثال الجبال، فملأت الوادي، وركب بعضها بعضاً. قيل: ملأت ميلاً في ميل من الأرض. وأفاد الإمام الرازى: أن تلك الحبال والعصا كانت حمل ثلاثمائه بعير. ووصف الله سحرهم بأنه عظيم كما قال الله تعالى: ?وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ? [الأعراف: 116] . قال الرازى: روي أن السحرة قالوا: لقد علمنا سحر لا يطيق سحرة أهل الأرض، إلا أن يكون من أهل السماء، فإنه لاطاقة لنا به، وحصل للعوام من تلك الحيات خوف عظيم. ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن ألق عصاك فألقاها فصارت حية عظيمة، حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً، وصارت تبتلع حبالهم وعصيهم واحداً بعد واحد حتى ابتلعت الكل، وقصدت القوم الذين حضروا، فوقع الزحام عليهم فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألف، ثم أخذها موسى فصارت عصا. فقالت السحرة: لو كان ما يصنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا، فلما نفدت علموا أن ذلك من أمر الله كما قال تعالى: ?فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ? [الأعراف: 117] أي: تبتلع ما يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزدرونه. ?فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون? [الأعراف: 118] . سؤال: فإن قيل: تلك الحبال والعصي أين ذهبت؟ جوابه: يحتمل أن الله أعدمها، ويحتمل أن الله تعالى فرق بينها بين تلك الأجزاء وجعلها ذات غير محسوسة، وأذابها في الهواء، وعلى كلا الاحتمالين فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى. وقال بعض العلماء: كان كبير السحرة رجلاً أعمى فقال لهم: أرى موسى يقدم علينا مع كثرتنا، وما ذاك بقوته وأخاف أن يكون الأمر سماوياً، فاحترموه وعظموه، فإن غلبناه فلا يضر بنا ذلك، وإن غلبنا فنكون قد قدمنا للصلح مقدمة فيكون شفيعاً لنا عند ربه، قالوا: وكيف نحترمه قال: نستأذنه ونقول له: إما أن نلقي وإما أن تكون أول من ألقى، فلما قالوا له ذلك وأحسنوا معه الأدب، كان سببا لسعادتهم، فضحك

موسى فقال له هارون: أتضحك مع كثرتهم، فقال: شممت منهم رائحة الإيمان، فلما قالوا: يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى سمع قائلاً يقول: ألقوا يا أولياء الله فعند ذلك أوجس في نفسه خيفته موسى، لأن أولياء الله لا يغلبهم أحد فلما غلبهم موسى سجدوا لربهم، وقالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهرون فرأوا في سجودهم منازلهم في الجنة، ثم إن السحرة لما تحققوا أن ما فعلته عصا موسى خارج عن السحر، وأنه أمر إلهي، فإنهم وصلوا إلى منتهى السحر، ورأوا معجزة موسى ليست من السحر بل من عند إله قادر قاهر، خروا سجداً لله تعالى كما قال تعالى: ?وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ? [الأعراف: 120، 121، 122] . وإنما قالوا: ?رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ? لأنهم لما سجدوا وقالوا: آمنا برب العالمين. قال لهم فرعون: إياي تعنون؟ فقالوا: رب موسى وهارون. ?قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ? [الأعراف: 123 - 126] . قال الرازى: واختلفوا في أنه هل قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم أم لا؟ فنقل عن ابن عباس أنه فعل ذلك قال: وهو الأظهر. ونقل عن آخرين: أنه لم يقع من فرعون ذلك بل استجاب الله لهم الدعاء في قولهم: ?وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ? [الأعراف: 126] لأنهم سألوه تعالى أن تكون وفاتهم من جهته لا لهذا القتل والقطع. وقال الكلبى: إن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم، ومعنى القطع من خلاف أنه قطع من كل شق عضواً خلاف ما قطعة من الآخر، كاليد اليمنى والرجل اليسرى، أو اليد اليسرى والرجل اليمنى، وهو أول من قطع من خلاف وصلب. فهؤلاء السحرة خلقهم الله تعالى لجنته لا لخدمته، فإنهم عاشوا في الدنيا كفاراً ثم ختم لهم بالإيمان. كانوا أول النهار يحلفون بعزة فرعون أنهم غالبون، ثم بعد ساعة يحلفون بالله تعالى

ويقولون: ?وَالَّذِي فَطَرَنَا? [طه: 72] . كانوا يطلبون الجزاء من فرعون ويقولون ?إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ? [الأعراف: 113] ثم بعد ساعة يقولون: ?لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ? الدالة على صدق موسى ?وَالَّذِي فَطَرَنَا? أي: وحق الذي خلقنا ?فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا? [طه: 72] أي: اصنع بنا ما قلته من القطع والصلب في هذه الدنيا فإنما تصنع شيئاً في الدنيا وستجازى عليه في الآخرة ?إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا? [طه: 73] أي: الإشراك وغيره، ويغفر لنا ?وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه: 73] أي: خير منك ثواباً إذا أطيع، وأبقى منك عذابا إذا عصي. واستدل العلماء بحمل أنس - رضي الله عنه - والغلام الذي معه الإدواة التي فيها الماء والعنزة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه يستحب للإنسان خدمه الصالحين، وأهل الفضل، والتبرك بذلك، وتفقد حاجاتهم، خصوصاً المتعلق بالطهارة. وعلى أنه يجوز للرجل الفاضل أن يستخدم بعض أتباعه الأحرار ويستعين بهم فيما يتعلق بالطهارة وغيرها، خصوصاً إذا علم منهم أنهم يرصدون بذلك ويتمنونه، وأنهم يحصل لهم الشرف بذلك. وقد اختلف العلماء في مسألة مناسبة لهذا وهي: أنه هل يجوز للإنسان أن يعير ولده الصغير ليخدم من يتعلم منه؟ فقال الروياني من الشافعية: يجوز ذلك، وقيل: لا يجوز لأن ذلك هبة لمنافعه وذلك لا يجوز، كما لا يجوز إعارة ماله. وحمل النووي قوله على خدمة تقابل بأجرة، أما ما كان لا يقابل بها فالظاهر والذي يقتضيه أفعال السلف جوازه، إذا لم يضر بالصبي. وقال بعض المتأخرين: إنما يتمتع إعارة الصبي ليمنع غيره ليخدم من يتعلم به منه إذا انتفت المصلحة، أما إذا وجدت كما لو قال لولده الصغير: اخدم هذا الرجل في كذا ليتمرن على التواضع ومكارم الأخلاق فلا مانع منه، قال ابن الملقن: وهذا حسن بالغ (انتهى) . * * *

المجلس الرابع والأربعون

المجلس الرابع والأربعون في بيان فوائد متعلق بالاستنجاء بالحجر وغيره قَالَ البُخَارِي: بَابُ الاسْتِنذْجَاءُ بِالحِجَارَةِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّىُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّىُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ اتَّبَعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَكَانَ لاَ يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ: «ابْغِنِى أَحْجَاراً أَسْتَنْفِضْ بِهَا -أَوْ نَحْوَهُ- وَلاَ تَأْتِنِى بِعَظْمٍ وَلاَ رَوْثٍ» . فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِى فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «اتبعت» : أي سرت وراءه. والواو في قوله «وخرج» حالية. وفي قوله «وكان» استئنافية. قوله: «فدنوت منه» : زاد الإسماعيلي «أستأنس وأتنحنح، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو هريرة» . قوله: «أبغني» : بالوصل من الثلاثي أي أطلب لي، يقال بغيتك الشيء أي: طلبته لك. وفي رواية بالقطع أي: أعني على الطلب، يقال: أبغيتك الشيء أي: أعنتك على طلبه، والوصل أليق بالسياق، ويؤيده رواية الإسماعيلي ائتني. قوله: «أستنفض» : قال القزاز: قوله أستنفض أستفعل من النفض وهو أن تهز الشيء ليطير غباره، قال: وهذا موضع استنظف، أي: بتقديم الظاء المشالة على الفاء، ولكن كذا روي. انتهى. والذي وقع في الرواية صواب ففي القاموس استنفضه استخرجه، وبالحجر استنجي، وهو مأخوذ من كلام المطرزي قال: الاستنفاض الاستخراج، ويكنى به عن الاستنجاء، ومن رواه بالقاف والصاد المهملة فقد صحف. انتهى. ووقع في رواية الإسماعيلى «أستنجي» : بدل «أستنفض» وكأنها المراد بقوله في روايتنا أو نحوه، ويكون التردد من بعض رواته. قوله: «ولا تأتني» : كأنه - صلى الله عليه وسلم - خشى أن يفهم أبو هريرة من قوله أستنجي أن كل ما يزيل الأثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزئ، ولو كان ذلك مختصاً بالأحجار -كما يقوله بعض الحنابلة والظاهرية- لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معني، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها. وزاد المصنف في المبعث في هذا الحديث أن أبا هريرة قال له - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ: ما بال العظم والروث؟ قال: هما من طعام الجن. والظاهر من هذا التعليل اختصاص المنع بهما. نعم يلتحق بهما جميع المطعومات التي للآدميين قياساً من باب الأولى، وكذا المحترمات كأوراق كتب العلم. ومن قال علة النهي عن الروث كونه نجساً ألحق به كل نجس متنجس، وعن العظم كونه لزجاً فلا يزيل إزالة تامة ألحق به ما في معناه كالزجاج الأملس. ويؤيده ما رواه الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجي بروث أو بعظم، وقال: «إنهما لا يطهران» . وفي هذا رد على من زعم أن الاستنجاء بهما يجزئ وإن كان منهياً عنه. قوله: «وأعرضت» : كذا في أكثر الروايات، وللكشميهني «واعترضت» بزيادة مثناة بعد العين والمعنى متقارب. قوله: «فلما قضى» : أي حاجته. قوله: «أتبعه» بهمزة قطع أي ألحقه، وكنى بذلك عن الاستنجاء. وفي الحديث: جواز اتباع السادات وإن لم يأمروا بذلك. واستخدام الإمام بعض رعيته، والإعراض عن قاضي الحاجة، والإعانة على إحضار ما يستنجى به وإعداده عنده لئلا يحتاج إلى طلبها بعد الفراغ فلا يأمن التلوث. والله تعالى أعلم. انظر فتح الباري (1/255) .

أي: مشيت خلفه، ويجوز «اتبعته» أي: لحقته. قال في المحكم: «تبع واتبع وأتبع» بمعنى واحد. قال في التنزيل: ?أَتْبَعَ سَبَباً? [الكهف: 89] أي: تبع. قوله: «فدنوت منه فقال: ابغني أحجاراً» أي: قال أبو هريرة فدنوت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: لأستأنس به وانظر حاجته. وجاء في رواية: فدنوت منه استأنس وأتتنحنح فقال: «من هذا؟» فقلت: أبو هريرة، فقال: «ابغني أحجار استنفض بها» . أفاد الكرمانى: أنه يجوز أن تكون همزة «أبغني» همزة وصل، والفعل ثلاثي مجرد، والمعنى: اطلب لي أحجار أستنفض بها أي: أستنظف بها أي: انظف نفسي بها من الحدث. وأن تكون همزة قطع والفعل مزيد ومعناه: أعني على الطلب. واعلم أن ها هنا فوائد نافعة متعلقة بالاستنجاء مستفاداً بعضها من هذا الحديث: الأولى: اختلف العلماء رضى الله عنهم في الاستنجاء هل هو واجب أو مستحب؟

فذهب الإمام مالك والكوفيون إلى أنه سنة. وذهب إمامنا الشافعي وأحمد بن حنبل وجمهور العلماء إلى أنه واجب وشرط لصحة الصلاة. وذهب أبو حنيفة إلى أن النجاسة إن كانت أقل من الدرهم فالاستنجاء يكون سنة، وإن كانت مقدار الدرهم فالاستنجاء يكون واجباً، وإن كانت أكثر من قدر الدرهم فالاستنجاء يكون فريضة. الثانية: الاستطابة والاستنجاء والاستجمار بمعنى إزالة الأذى أي: الخارج. لكن الاستجمار لا يكون إلا بالأحجار مأخوذ من الجمار، وهي: الأحجار الصغار. والاستنجاء والاستطابة يكونان بالماء والحجر، وسمى الاستنجاء بالاستطابة لطيب نفس المستنجي بخروج الخارج عنه. و «الاستنجاء» مأخوذ من نجوت الشجرة إذا قطعتها، فقيل لهذا الفعل استنجاء لحصول قطع الذي عنه به، وقيل لغير ذلك. الثالثة: يحوز الاستنجاء قبل الوضوء وبعده، وإذا استنجأ بعده لف على يده خرقة لئلا ينتقض وضوءه ونظف المحل وصلى، بخلاف التيمم، فإنه لابد من تقديم الاستنجاء عليه، ولا يصح قبله لأنه طهارة ضرورة، بل لا يصح التيمم وعلى البدن نجاسة في أي موضع كانت حتى يزيلها. نعم لنا وضوء لا يصح تقديمه على الاستنجاء، وبعبارة أخرى وهي المناسبة لنا استنجاء لابد من تقديمه على الوضوء وصورته في وضوء دائم الحدث. الرابعة: الاستنجاء واجب عند إرادة القيام إلى الصلاة لا على الفور، كما أفاد القاضي زكريا في شرح الروض تبعاً للأسنوى وغيره، وإنما يجب بخروج الخارج الملوث سواء كان معتاداً كالبول والغائط، أو نادراً كالدم والمذي والودي. فلا يجب بخروج دود ونحوه، ولا بخروج بعر لا يلوث لعدم النجاسة، نعم يستحب الاستنجاء من ذلك خروجاً من خلاف من أوجبه. ولا يجب من خروج ريح بالإجماع ولو كان المحل رطباً، بل لا يستحب بل هو مكروه بل بدعة يأثم فاعله كما قال النووي. فائدة: يستثنى من الملوث المني فإنه لا يوجب الاستنجاء لعدم نجاسته، ولا يجب أيضاً من الاستيقاظ من النوم، فإذا نام الإنسان مستنجياً ثم استيقظ لا يجب عليه إعادة

الاستنجاء، وبعض العوام يعتقد وجوبه وهو خطأ. الخامسة: يجزئ الاستنجاء بالماء وحده وبثلاثة أحجار وحدها. أما إجزاءه بالماء فلأنه الأصل في إزالة النجاسة. وأما إجزاءه بثلاثة أحجار وحدها فلأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله كما رواه البخاري في هذا الحديث، وأمر بفعله بقوله فيما رواه الشافعي وغيره: «ويستنج بثلاثة أحجار» (¬1) وعدها. وفيما رواه أبو داود وغيره: «إذا ذهب أحدكم إلى لغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإن يجزئ عنه» (¬2) . فائدة: أفاد بعض العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستنج بالماء إلا مرتين أو ثلاثة مرات، بل كان يستنجي غالباً بالأحجار. فائدة أخرى: يجزئ الاستنجاء بماء زمزم ولكن مع الكراهة. وكذا يجزئ الاستنجاء بحجارة الذهب والفضة والجوهر على الأصح. وأما حجارة الحرم فإنه لا يجوز الاستنجاء بها لحرمتها، فإن استنجأ بها أساء وأجزأ. وكذا المطبوع من الذهب والفضة قاله الماوردي والروياني. قال العلماء: وإذا أراد استعمال الأحجار وحدها، فالواجب عليه أن يمسح ثلاث مسحات إما بثلاثة أحجار أو بحجر له ثلاثة أطراف، ولا يكفي أقل من ثلاث مسحات، ولو حصل الإنقاء بمسحة واحدة لخبر مسلم عن سلمان - رضي الله عنه - «نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستنجي بأقل من ثلاث أحجار» (¬3) وفي معناها ثلاثة أطراف لحجر. قالوا: ولو مسح ذكره مرتين ثم خرجت منه قطرة وجب أن يأتي بثلاث، لبطلان ¬

(¬1) أخرجه الشافعي (1/13) ، وابن حبان (4/288، رقم 1440) ، والبيهقي (1/91، رقم 435) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه أبو داود (1/10، رقم 40) ، والنسائي (1/41، رقم 44) ، والدارقطني (1/54) وقال: إسناده صحيح. والدارمي (1/180، رقم 670) ، وأبو يعلى (7/340، رقم 4376) ، وأحمد (6/133، رقم 25056) ، والبيهقي (1/103، رقم 503) عن عائشة. (¬3) أخرجه مسلم (1/223، رقم 262) . وأخرجه أيضاً أبو داود (1/3، رقم 7) ، والترمذي (1/24، رقم 16) وقال: حسن صحيح.

المسح الأول بخروج القطرة، فإن لم يحصل الإنقاء بثلاث وجب الزيادة عليها إلى أن يحصل الإنقاء، فإن نقي برابعة يسن له أن يزيد أخرى لتصير خمسة، فإن الإيتار (¬1) سنة وإن انقى بسادسة يستحب سابعة. قال النبي: «من استجمر فليوتر» متفق عليه (¬2) . فائدة: إذا استعمل حجراً ثم غسله وجف جاز له استعماله ثانياً، ولو استعمل حجراً في المرة الثانية ولم يتلوث جاز استعماله أيضاً بلا كراهة، بخلاف ما إذا رمى حجراً في الجمار ثم أخذه ورمى به ثانياً وهكذا إلى السابع، فإنه وإن جاز لكن مع الكراهة، فإنه ورد: «أن ما تقبل من الحصيات رفع وما لا ترك» . السادسة: قال العلماء: لا يتعين الحجر للاستنجاء بغير الماء، بل يقوم مقامه كل جامد طاهر قالع غير محترم كالخشب والخزف والحشيش لحصول الغرض به كالحجر. سؤال: فإن قيل: الوارد في الحديث إنما هو ذكر الحجارة لا غيرها، فكيف يقوم غيرها مقامها؟ جوابة: أنه إنما جرى ذكر الحجارة في الأحاديث ونسب الحكم إليها كقوله: «فليستنج بثلاثة أحجار» كما تقدم لأنها كانت أكثر الأشياء التي يستنجأ بها وجوداً وأقربها تناولاً، لأنها كانت تتناول بلا مشقة فيها ولا كلفة في تحصلها. فقولهم في ضابط ما يقوم مقام الحجر: «كل جامد» احترزوا به عن المائع غير الماء الطهور كماء الورد ونحوه، فلو استنجأ بماء الورد مثلاً لم يكف وتعين استعمال الماء بعده ولا يكفي الحجر. واحترزوا «بالجامد» أيضاً: عن الحجر المبلول، فإنه لا يصح الاستنجاء به، لأن البلل الذي عليه يتنجس بملاقاة النجاسة إياه، ويعود بعضه إلى المحل فيحصل عليه نجاسة أجنبية. ¬

(¬1) أي يكون عدد المسحات وتراً فتكون ثلاث مسحات أو خمس أو سبع وهاكذا. (¬2) أخرجه البخاري (1/71، رقم 159) ، ومسلم (1/212، رقم 237) . وأخرجه أيضاً النسائي (1/66، رقم 88) ، وابن ماجه (1/143، رقم 409) ، ومالك (1/19، رقم 34) ، وأحمد (2/518، رقم 10729) ، وابن حبان (4/286، رقم 1438) ، وإسحاق بن راهويه (1/454، رقم 527) ، وأبو عوانة (1/208، رقم 673) ، والطيراني في الأوسط (2/363، رقم 2238) ، والبيهقي (1/51، رقم 238) عن أبي هريرة.

واحترزوا «بطاهر» عن النجس والمتنجس كالروث الجامد والحجر المتنجس ونحوهما فلا يكفي الاستنجاء بذلك. واحترزوا «بقالع» عما لا يقلع النجاسة لملاسته كالقصب والزجاج، أو للزوجته أو لتناثر أجزائه كالفحم الرخو أو التراب المتناثر فلا يكفي الاستنجاء به، أما إذا كان الفحم والتراب صلبين فإنه يكفي الاستنجاء بها. واحترزوا «بغير محترم» عن الجامد المحترم كأوراق كتب العلم، سواء كان شرعياً كالفقة والحديث أم لم يكن، كالنجوم والعروض فالاستنجاء بها حرام ولا يجزئه، بخلاف أوراق علم المنطق والفلسفة والإنجيل المبدل فإنها إذا لم يكن اسم الله تعالى فيها فهي غير محترمة فيجوز الاستنجاء بها ويجزئه. ومن المحترم الذي لا يجوز الاستنجاء به ولا يجزئه مطعوم الآدمي كالخبز، ومطعوم الجن كالعظم. وقد دل قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة - رضي الله عنه - في هذا الحديث الذي ساقه البخاري هنا: «أبغني أحجاراً ولا تأتني بعظم ولا روث» على أن الاستنجاء بالروث وبالعظم لا يجوز. أما العظم فالحكمة في النهي عن الاستنجاء به أنه زاد إخواننا من الجن. وأما الروث فقيل: نهى عنه إما لأنه نجس لا يزيل النجاسة بل يزيدها، وفي المثل: «ليت الفحل يهضم نفسه» ، وإما لأنه طعام دوآب الجن. قال الحافظ أبو نعيم في دلائل النبوة: «إن الجن سألوه هدية منه - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم العظم والروث، فالعظم لهم والروث لدوآبهم» . فإذًا لا يستنجى بهما، وإما لأنه طعام الجن أنفسهم فإن الجن يأكلون ويشربون ويتناكحون كما يفعل الإنسان. وقال بعضهم: إن صنفاً منهم يأكلون ويشربون، وصنفاً لا يأكلون ولا يشربون، وهذا قول ساقط. وقال بعضهم: أكلهم وشربهم عبارة عن شم واستنشاق رائحة لا مضغ ولا بلع، وإلى هذا القول ذهب الغزالي، وهذا قول لا دليل عليه. وأكثر العلماء على أن أكلهم وشربهم كالإنسان مضغ وبلع، وقد دلت الأخبار على ذلك منها قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث لأبى هريرة: «ولا تأتني بعظم ولا روث» . وجاء في رواية في هذا الصحيح أن أبا هريرة قال للنبى - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الروث والعظم؟ قال: «هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن،

فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً» (¬1) . وروى أبو عبد الله الحاكم في الدلائل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود ليلة ذهابه لجن نصيبين: «الجن أولئك جن نصيبين جاؤني فسألوني الزاد فمتعتهم بالعظم والروث» فقال: وما يغني منهم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان فيه يوم أكله» (¬2) . ونبه - صلى الله عليه وسلم - بذكر العظم على أنه لا يجوز الاستنجاء بجميع المطعومات، ولا بجميع المحترمات قاله ابن الملقن. نعم لنا شيء محترم ويجوز الاستنجاء به وهو ماء زمزم، فإنه محترم ولو استنجأ به أجزأ. فائدة: لو أحرق العظم الطاهر بالنار وخرج عن حال العظم ففي جواز الاستنجاء به وجهان: أحدهما: يجوز لأن النار أحالته. والثاني: لا يجوز. وأصحهما: أنه لا يجوز لعموم النهي عن أرمة وهي العظم البالي، فإنه لا فرق في البلى بين أن يكون بالنار أو بمرور الزمان قاله ابن الملقن في شرح هذا الحديث، والقاضى زكريا في شرح الروض. ثم قال القاضي: وإنما لم يجز إذا أحرق كالجلد إذا دبغ لأنه بالإحراق لم يخرج عن كونه مطعوماً بخلاف الجلد إذا دبغ. فائدة أخرى: قال الأذرعي في «الوسيط» : يحرم أن يبول على ما يحرم الاستنجاء به كعظم المذكى ونحوه، وتبعه القاضي في شرح الروض. السابعة: يشترط لإجزاء الاستنجاء بالحجر ونحوه شروط: الأول: أن لا يجف النجس الخارج، فإن جف تعين الماء، لأنه إذا جف لا يزيله ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3/1401، رقم 3647) . وأخرجه أيضاً البيهقي (1/107، رقم 524) عن أبي هريرة. (¬2) أورده ابن كثير في تفسيره (4/169) وقال: رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة وهذا إسناد غريب جداً ولكن فيه رجل مبهم لم يسم.

الحجر. الثاني: أنه لا ينتقل النجس عن الموضع الذي أصابه عند الخروج واستقر فيه، فإن انتقل تعين الماء، وإن لم يجاوز صفحته وحشفته، كان المحل قد طرأ عليه نجاسة لا بسبب الخروج. الثالث: أن لا يطرأ على المحل المتنجس بالخارج نجس أجنبي، فإن طرأ عليه نجس أجنبي، كما لو استنجى بنجس أو عاد على المحل شيء من رشاش بوله الخارج منه تعين الماء. الرابع: أن لا ينقطع النجس الخارج، فإن انقطع بعد خروجه متصلاً تعين الماء في المتقطع، وإن كان في باطن الإليتين، والمتصل بالمخرج يكفي فيه الحجر. الخامس: أن لا يجاوز الخارج النجس حشفته وصفحته، فإن جاوزهما متصلاً تعين الماء في المتقطع الداخل والخارج، فإن تقطع أي: صار بعضه باطن الإلية وبعضه خارجها تعين الماء في المتقطع، وكفى الحجر في غيره. فائدة: لنا صورة جف فيها الخارج النجس ويكفي فيها الحجر، وهي ما إذا جف بوله الخارج ثم بال ثانياً، فوصل بوله إلى ما وصل إليه بوله الأول، فيكفي فيه الحجر، قاله القاضي والقفال، وكذا في الغائط إن كان مائعاً. الثامنة: في مسائل شتى تستحب في الاستنجاء بين الماء والحجر: المسألة الأولى: قال النووي وغيره: يستحب أن يجمع في الاستنجاء بين الماء والحجر بأن يقدم الحجر أولاً ثم الماء بعده، لأن الحجر يزيل العين والماء يزيل الأثر، فإن قدم الماء لم يستحب الحجر بعده، فإذا أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لأنه يزيل العين والأثر. المسألة الثانية: قال النووي والحليمى: يستحب في الاستنجاء بالماء أن يبدأ بقبله قبل دبره، وفي الاستنجاء بالحجر أن يبدأ بدبره قبل قبله، والحكمة في تقديم الدبر بالحجر أن النجس الأغلظ أهم والبدأة بالأهم أولى، أو أنه قد ينزل منه بول فلا يحتاج إلى إعادة الاستنجاء منه إذا بدأ بالدبر. لكن أطلق ابن الملقن في الروض القول باستحباب تقديم القبل. قال المحب الطبرى: ويسن النظر إلى الحجر المستنجى به قبل رميه ليعلم هل قلع أم لا. المسألة الثالثة: في كيفية الاستنجاء بالحجر في الدبر.

قال العلماء: المستحب والأفضل أن يضع الحجر أولاً على مقدم الصفحة اليمنى، على محل طاهر قرب النجاسة، ثم يمرره على المحل ويديره قليلاً حتى يرفع كل جزء منه جزءاً منها، إلى أن يصل إلى المبدأ، وأن يضع الثاني على مقدم الصفحة اليسرى مثل ما تقدم، وأن يمر الثالث على الصفحتين والمسربة. وقيل: الأفضل أن يجعل واحد للصفحة اليمنى وآخر لليسرى والثالث للوسط. وقيل: الأفضل واحد للوسط مقبلاً وآخر له مدبراً ويحلق بالثالث. ولابد في كل قول أن يعم بكل مسحة جميع المحل ليصدق أنه مسح جميع المحل ثلاث مسحات. المسألة الرابعة: يستحب أن يستنجي بيساره، سواء استنجى بالماء أو بالحجر أو بهما، لأنها الأليق بذلك، ولأنه ورد في خبر لأبي داود عن عائشة رضى الله عنها: «كانت اليد اليمنى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطهوره وطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى» (¬1) . وقد ورد النهي عن الاستنجاء باليمين. وقال جمع: لا يجوز باليمين لصريح النهي وأولَّه النووي على أنه ليس مباحاً مستوى الطرفين بل مكروه. ويستحب أن يحمل أحجار الاستنجاء بيساره، وإذا استنجى بالماء يغسل باليسرى ويصب باليمنى. ويستحب إذا أراد مسح الذكر من البول على جدار أو حجر عظيم أو نحوهما أن يمسك ذكره بيساره، وأن يمسحه على ثلاثة مواضع قاله في الروضة. وقال المتولى في كيفية المسح على الجدار أو نحوه: طريقته أن يقرب ذكره منه ويضعه عليها وضعاً من غير مسح، حتى تنتقل الرطوبة إليه، قال: لأن المسح ينشر البول على المحل، ثم يضع ذلك ثانياً ثم يمسح الذكر في الثالثة، قلت: فلا يخشى انتشارها. قال الأذرعي: وهو حسن وإن لم يتعرض له الجمهور، لأنه لا كلفة فيه بخلاف الأول. وإذا أراد أن يستنجي بحجر صغير فالسنة أن يجعله بين عقبيه أو بين إبهامي رجليه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/9، رقم 33) . وأخرجه أيضاً البيهقي (1/113، رقم 547) .

أو يتحامل عليه إن أمكنه، ويكون الذكر في يساره ويمسح بها، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك واضطر إلى إمساك الحجر بيده أمسكه باليمنى، وأخذ الذكر باليسرى وحرك اليسار وحدها فإن حرك اليمين أو حركهما جميعاً كره، لأنه يكون مستنجياً باليمنى. وإنما لم يضع الحجر في يساره والذكر في يمينه لأن مس الذكر بها مكروه، ولخبر الصحيحين: «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه» (¬1) . ويستحب للمستنجي بماء أن يدلك يده بالأرض أو نحوها بعد الاستنجاء ثم يغسلها. وأن ينضح بعده أيضاً فرجه وإزاره من داخله دفعاً للوسواس. وأن يعتمد على غسل الدبر على أصبعه الوسطى من يسراه إن أمكن، ولا يتعرض للباطن لأنه منبع الوسواس، فإن استعمل الماء فغلب على ظنه زوال النجاسة كفى ذلك في إزالتها، ولا يضر شم ريحها من يده بعد ذلك، فإن ذلك لا يدل على بقائها على المحل وإن حكمنا على يده بالنجاسة وعلته: أن المحل قد خفف فيه في الاستنجاء بالحجر، فخفف فيه هنا. وقول أبي هريرة: «اتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج لحاجته فكان لا يلتفت» أي: من عادته - صلى الله عليه وسلم - إذا مشى لا يلتفت، وهذا يدل على أمنه - صلى الله عليه وسلم - وعدم خوفه من أحد من خلق الله، لأن الله تعالى عصمه وكفاه شر من أراده بسوء، وقد نطق بذلك القرآن الكريم والحديث. قال الله تعالى: ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا? [الطور: 48] . وقال: ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ? [الزمو: 36] أي: بكاف محمداً أعداءه المشركين. وقال: ?إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ? [الحجر: 95] . وقال: ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67] . واختلفوا في سبب نزول هذه الآية: ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/69، رقم 153) ، ومسلم (1/225، رقم 267) . وأخرجه أيضاً أبو داود (1/8، رقم 31) ، والترمذي (1/23، رقم 15) ، والنسائي (1/25، رقم 24) ، وابن ماجه (1/113، رقم 310) ، وابن خزيمة (1/38، رقم 68) ، وابن حبان (4/283، رقم 1434) ، وأحمد (4/383، رقم 19438) ، والدارمي (2/161، رقم 2122) عن أبي قتادة.

فقيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام إلا بحرس، حتى نزلت هذه الآية، فأخرج - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة فقال لهم: «أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمنى ربي - عز وجل -» (¬1) . وقيل: سبب نزولها ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابى أي: بعد ما نام تحت الشجرة فاخترط سيفه قال: من يمنعك مني؟ فقال: «الله» فارتعدت يد الأعرابى، وسقط سيفه وضرب برأسه الشجرة حتى سأل دماغه فنزلت هذه الآية (¬2) . وهذا الأعرابي اسمه: «غورث بن الحارث» كما ورد في ذلك الصحيح، وعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقيل: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاف قريشاً فلما نزلت هذه الآية استلقى ثم قال: «من شاء فليخذلني» (¬3) . وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غطفان نزل تحت شجرة فأتاه رجل اسمه: «دعثور بن الحارث» فاخترط سيفه فقال: من يمنعك مني؟ فقال: «الله» ، فسقط السيف من يده، فأسلم فلما رجع إلى قومه وكان سيدهم وأشجعهم فقالوا: أين ما كنت تقول إن أمكنني وقد أمكنك، فقال: إني نظرت إلى رجلٍ أبيضٍ دفع في صدري، فوقعت لظهري وسقط السيف، فعرفت أنه ملك فأسلمت، ونزل في ذلك كما قيل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ? [المائدة: 11] (¬4) . ومما يدل على عصمته وحفظه من أعداءه ما ذكره عبد بن حميد قال: كانت حمالة الحطب وهي زوجة أبي لهب تضع «الغضاة» وهي جمر النار على طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يطاؤها ولا يصيبه شيء. وذكر ابن اسحاق عنها أنها لما بلغها ?تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ? [المسد: 1] ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (5/251، رقم 3046) وقال: غريب. والحاكم (2/342، رقم 3221) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (9/8، رقم 17508) عن عائشة. (¬2) انظر: تفسير الطبري (6/308) . والقصة متفق عليها أخرجها البخاري) 3/1065، رقم 2753) ، ومسلم (1/576، رقم 843) عن جابر بن عبد الله. (¬3) انظر: تفسير الطبري (6/308) . (¬4) القصة بنحوها أخرجها البخاري) 3/1065، رقم 2753) ، ومسلم (1/576، رقم 843) عن جابر بن عبد الله.

وذكرها بما ذكره الله مع زوجها من الذم، أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر وفي يدها فهر من الحجارة فلما وقفت عليهما لم تر إلا أبا بكر، وأخذ الله ببصرها عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر فاه (¬1) . فمن عصمه من الأعرابى والسيف في يده، ومن ضرر جمر النار، ومن الفهر الذي في يد حمالة الحطب إلا الله، فلهذا كان لا يلتفت في مشيه - صلى الله عليه وسلم -. ومما ورد في عصمته ما ذكره ابن إسحاق وغيره: أن أبا جهل أتاه بصخرة وهو ساجد وقريش ينظرون لطرحها، فلزقت بيده ويبست يداه في عنقه، وأقبل يرجع بهذا الفهر إلى خلفه، ثم سأله أن يدعو له ففعل فانطلقت يداه. وكان قد تواعد مع قريش بذلك وحلف لئن رآه ليدمغنه، فسألوه عن شأنه فقالوا له لأي شيء رجعت القهقرى بعد أن حلفت أنك إن رأيته لتدمعنه، فذكر أنه عرض له دونه فحل ما رأيت مثله قط همَّ بي أن يأكلني. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك جبريل لو دنا لأخذه» (¬2) . وقريب من هذا ما ذكره أهل التفسير عن أبي هريرة: أن أبا جهل وعد قريشاً لئن رأى محمد يصلي ليطأن رقبته فلما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلموه فأقبل، فلما قرب منه ولي هارباً ناكصاً على عقبيه متقياً بيده، فسئل فقال: لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوءٍ من نار كدت أهوي فيه، وأبصرت هولاً عظيماً وخفق أجنحة قد ملأت الأرض، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «تلك الملائكة لو دنا لاختطفته عضواً عضواً» (¬3) . ثم أنزل الله تعالى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب ذلك: ?كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى? إلى آخر السورة [العلق 6 - 19] . ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/393، رقم 3376) والحميدي (1/153، رقم 323) وأبو يعلى (1/53، رقم 53) عن أسماء بنت أبي بكر. (¬2) أخرجه ابن اسحاق في السيرة (4/180) ، وابن هشام (2/136) ، والبيهقي وأبو نعيم على ما عزاه السيوطي في الخصائص (1/211) ، والقصة أصلها في صحيح البخاري (4/1896، رقم 4675) ، وسنن الترمذي (5/443، رقم 3348) ، ومسند أحمد (1/368، رقم 3483) ومسند أبي يعلى (4/471، رقم 2604) عن ابن عباس. (¬3) أخرجه مسلم (4/2154، رقم 2797) ، وابن حبان (14/532، رقم 6571) ، والنسائي في الكبرى (6/518، رقم 11683) ، وأبو يعلى (11/70، رقم 6207) عن أبي هريرة.

ومن عصمته أيضاً ما ذكره السمرقندى: أن رجلاً من بني المغيرة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتله فطمس الله على بصره فلم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع قوله فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه. وفي هذا أنزل الله تعالى: ?إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? [يس: 8، 9] . ومن عصمته هداية الله تعالى من أراد قتله للإسلام ما روي: أن رجلاً يعرف بشبيبة بن عثمان أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، وكان حمزة قد قتل أباه وعمه، فقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما اختلط الناس أتاه من خلفه ورفع سيفه ليصيبه علَيْه، قال: فلما دنوت منه ارتفع إلي شواظ من نار أسرع من البرق، فوليت هارباً، وأحس بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق إلي، فما رفعها إلا وهو أحب الخلق إلي، وقال لي: «ادن فقاتل» فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، وأقيه بنفسي ولو لاقيت أبي تلك الساعة لأوقعت به دونه (¬1) . فانظر كيف عصمه الله من هذا وهداه بسببه للإسلام، وصار أحب الخلق إليه. ونظير هذا ما ورد عن فضالة بن عمرو قال: أردت قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، وهو يطوف بالبيت فلما دنوت منه قال: يا فضالة قلت: نعم، قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قلت: لا شيء، فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري، فسكن قلبي، فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه (¬2) . فائدة: دانيال عصمه الله أيضاً من أعداءه من الآدميين والسباع وغيرهم وكان دانيال في أيام بخت نضر، وكان الله أعطاه النبوة والحكمة واتفق له غرائب في حال صغره وحال كبره. فمما اتفق له في حال الصغر ما روى ابن أبي الدنيا: أن الملك الذي كان دينال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له: إنه يولد في ليلة كذا وكذا غلام ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (7/298، رقم 7192) قال الهيثمي (6/184) : فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف. (¬2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/308) ، والسيرة الحلبية لعلي بن برهان الدين الحلبي (3/56) .

يفسد ملكك، فأمر بقتل كل من يولد في تلك الليلة، فلما ولد دانيال ألقته أمه في أجمة أسد فبات الأسد ولبوته يلحسانه فنجاه الله تعالى بذلك. فانظر ما أعظم هذه العصمة. ومما وقع له في الكبر ما رواه البيهقي في الشعب: أن دانيال طرح في جب وألقيت عليه السباع تلحسه ويتبصبصن إليه فأتاه رسول فناداه فقال: يا دانيال فقال: من أنت؟ قال: أنا رسول ربك إليك أرسلني بطعام فقال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره (¬1) . والذي ألقاه في الجب وألقى عليه السباع بخت نصر. فقد روى ابن أبي الدنيا أن بخت نصر أمسك أسدين وألقاهما في جب، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فمكث ما شاء الله له، ثم إنه اشتهى الطعام والشراب فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام أن يذهب إلى دانيال بطعام وهو بأرض العراق، فذهب إليه حتى وقف على الجب، وقال: دانيال، دانيال. فقال: من هذا؟ قال: أرميا، قال: ما جاء بك؟ قال: أرسلني إليك ربك، فقال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله من وثق به لم يكله إلى غيره، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحساناً، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاةً وغفراناً، والحمد لله الذي يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين يسوء ظننا بأعمالنا، والحمد لله الذي هو رجاءنا حين تنقطع الحيل عنا. ثم أخرجه بخت نصر من الجب بسبب رؤيا رآها عجز الناس عن تفسيرها، ففسرها دانيال فأعجبه وأكرمه ونقش دانيال صورته وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك. وقبره بنهر السوس ووجده أبو موسى الأشعري فأخرجه وكفنه وصلى عليه ثم قَبَرَه في نهر السوس، وأجرى عليه الماء فأخذ خاتمه ولبسه في يده قاله الدميرى. فائدة: روى عن ابن السني في عمل اليوم والليلة من حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: «إذا كنت بواد تخاف فيه السبع فقل: أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد» . قال الدميرى: لما ابتلى دانيال أولاً وآخراً بالسباع، جعل الله الاستعاذة به في ذلك تمنع الذي لا يستطاع. * * * ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/116، رقم 1338) عن سالم. وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا في الشكر (1/60، رقم 176) عن علي بن أبي طالب.

المجلس الخامس والأربعون

المجلس الخامس والأربعون في بيان شيء من سنن الوضوء وذكر شيء من فضائل سيدنا عثمان ابن عفان - رضي الله عنه - قَالَ البُخَارِي: بَابُ الوُضُوءِ ثَلاثَاً حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِىُّ قَالَ حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: قوله: «دعا بإناء» : وفي رواية شعيب الآتية قريباً «دعا بوضوء» ، وكذا لمسلم من طريق يونس. وهو بفتح الواو اسم للماء المعد للوضوء، وبالضم الذي هو الفعل، وفيه الاستعانة على إحضار ما يتوضأ به. قوله: «فأفرغ» : أي صب. قوله: «على كفيه ثلاث مراراً» : كذا لأبي ذر، وللأصيلي وكريمة مرات بمثناة آخره، وفيه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ولو لم يكن عقب نوم احتياطاً. قوله: «ثم أدخل يمينه» : فيه الاغتراف باليمين. واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نية الاغتراف، ولا دلالة فيه نفياً ولا إثباتاً. قوله: «فمضمض واستنثر» : وللكشميهني «واستنشق» بدل واستنثر، والأول أعم، وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعدد. نعم ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزهري، وكذا ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان واتفقت الروايات على تقديم المضمضة. قوله: «ثم غسل وجهه» : فيه تأخيره عن المضمضة والاستنشاق، وقد ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر والطعم يدرك بالفم والريح يدرك بالأنف فقدمت المضمضة والاستنشاق وهما مسنونان قبل الوجه وهو مفروض، احتياطاً للعبادة. قوله: «ويديه إلى المرفقين» : أي كل واحدة كما بينه المصنف في رواية معمر عن الزهري في الصوم، وكذا لمسلم من طريق يونس وفيها: تقديم اليمنى على اليسرى، والتعبير في كل منهما بثم وكذا القول في الرجلين أيضاً. قوله: «ثم مسح برأسه» : ليس في شيء من طرقه في الصحيحين ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء. وقال الشافعي: يستحب التثليث في المسح كما في الغسل، واستدل له بظاهر رواية لمسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وأجيب بأنه مجمل تبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر فيحمل على الغالب أو يختص بالمغسول. قال أبو داود في السنن: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة. وكذا قال ابن المنذر: إن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء. والدلك ليس بمشترط على الصحيح عند أكثر العلماء. وبالغ أبو عبيدة فقال: لا نعلم أحداً من السلف استحب تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي، وفيما قال نظر، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما. وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة. قوله: «نحو وضوئي هذا» : قال النووي: إنما لم يقل «مثل» لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره. قلت: لكن ثبت التعبير بها في رواية المصنف في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه «من توضأ مثل هذا الوضوء» وله في الصيام من رواية معمر «من توضأ وضوئي هذا» ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران: «توضأ مثل وضوئي هذا» وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازاً، لأن «مثل» وإن كانت تقتضي المساواة ظاهراً لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود. والله تعالى أعلم. قوله: «ثم صلى ركعتين» : فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء. قوله: «لا يحدث فيهما نفسه» : المراد به ما تسترسل النفس معه ويمكن المرء قطعه يقتضي تكسباً منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفو عنه. ونقل القاضي عياض عن بعضهم أن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلاً ورأساً، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ: «لم يسر فيهما» . ورده النووي فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة. نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلاً أعلى درجة بلا ريب. ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا والمراد دفعه مطلقاً. ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث «لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا» . وهي في الزهد لابن المبارك أيضاً والمصنف لابن أبي شيبة، ومنها ما يتعلق بالآخرة فإن كان أجنبياً أشبه أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات تلك الصلاة فلا. قوله: «من ذنبه» : ظاهره يعم الكبائر والصغائر لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيداً باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزداد في حسناته بنظير ذلك. وفي الحديث: التعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم. الترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان في جميعها بثم. الترغيب في الإخلاص. تحذير من لها في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما أن كان في العزم على عمل معصية فإنه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها. ووقع في رواية المصنف في الرقاق في آخر هذا الحديث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تغتروا» أي: فتستكثروا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأنى للعبد بالاطلاع على ذلك. انظر فتح الباري (1/259 – 261) .

قال البخاري: «حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِىُّ قَالَ حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ» قال العلماء: «حمران» اسم أبيه «أبان» وهو مدني قرشي، سباه خالد بن الوليد من عين التمر، فوجده غلاماًَ كيساً، فوجهه إلى عثمان فأعتقه، وكان كاتب سيدنا عثمان وحاجبه، ولِي نيسابور من الحجاج، وغرمه الحجاج بسبب هذه الولاية مائة ألف، ثم ردها عليه بشفاعة عبد الملك، وهو تابعي وكذا الاثنان قبله. ومن لطائف هذا الإسناد أنه اشتمل على ثلاثة تابعين يروي بعضهم عن بعض، وكانت وفاة حمران خمس وسبعين. «أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رضي الله عنه -» هذا هو ثالث الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين أبو عبد الله بن عفان بن العاص بن أمية بن عبد شمس ين عبد مناف الأموي القرشي، أسلم في أول الإسلام على يد الصديق، روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وستة وأربعون حديثاً، أخرج البخاري منها إحدى عشر. استخلف أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين، وفي خلافته صارت الأموال والأرزاق في أيدي الناس كثيرة، وربحت الناس ربحاً كثيراً، حتى بيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف، ونخلة بألف درهم، وكل ذلك بحسن قصده لرعيته ولنفسه، ولم يزل

اسمه في الجاهلية والإسلام عثمان، ويكنى أبا عمرو وأبا عبد الله. ومن فضائله: أنه يجتمع نسبه بنسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف. ومن فضائله: أنه كان يسمى بذي النورين دون غيره من الصحابة، بل لم يعرف واحد من خلق الله يسمى بهذا الاسم غيره. واختلفت في سبب تسميته بذلك على خمسة أقوال: أحدها: تسمى بذلك لأنه تزوج بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية فماتت عنده ثم أم كلثوم، ولا يعلم أحد تزوج بنتى نبي غيره، ولاشك أنه - صلى الله عليه وسلم - نوراً وبناته وجميع أولاه كانوا كذلك. الثاني: سمي بذلك لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين. الثالث: سمي بذلك لأنه كان يختم القرآن في الوتر، فالقرآن نور، وقيام الليل نور. الرابع: سمي بذلك لأنه كان سخياً قبل الإسلام وبعد الإسلام. الخامس: سمي بذلك لأنه ذو كنيتين يكنى أبا عمرو وأبا عبد الله. ومن فضائله: أنه كان من السابقين الأولين صلى إلى القبلتين، وهاجر الهجرتين، وهو أول من هاجر إلى الحبشة فاراً بدينه ومعه زوجته رقية بنت سيد الأولين والآخرين. ومن فضائله: أنه عد من البدريين ومن أهل بيعة الرضوان ولم يحضرهما، وسبب غيبته عن غزوة بدر أن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تحته، وهي مريضة فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجلوس عندها، وقال له: «لك أجر رجل شهد بدراً وسهمه» (¬1) . وأما سبب غيبته عن بيعة الرضوان فهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد بعثه إلى مكة، ولو كان عنده أحد أعز من عثمان لبعثه، فوقعت البيعة في غيبته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن رفع يده اليمني: «هذه يد عثمان» (¬2) فكانت أحسن من أيدي الصحابة عن أنفسهم. ومن فضائله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا له بخصوصه غير مرة فأثرى وكثر ماله، ومن ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3/1139، رقم 2962) ، والترمذي (5/629، رقم 3706) وقال: حسن صحيح. كلاهما عن ابن عمر. (¬2) أخرجه البخاري (3/1352، رقم 3495) .

دعائه له: «اللهم إني قد رضيت عن عثمان فارض عنه ثلاث مرات» (¬1) . ودعا له مرة أخرى فقال: «غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى يوم القيامة» (¬2) . ومن فضائله: أنه كان متواضعاً ذا شفقة، وازداد تواضعه وخوفه ورفقه برعيته حين تولى الخلافة. قيل: كان له عبد وكان عثمان قد مسك أذنه يوماً وعركها فقال له: إني كنت قد عركت أذنك فاقتص مني، فأخذ بأذنه فقال له: اشدد يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة. وقال علي - رضي الله عنه -: كان عثمان أوصلنا للرحم، وكان من الذين آمنوا واتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين. حكاية وقعت بين عمر وعثمان رضى الله عنهما: قال في الروض الفائق: قيل إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما كانا في بعض أشغال النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدركتهما العصر، فقال عمر بن الخطاب لعثمان: تقدم فصل بنا. فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنت أولى بالتقدم مني يا عمر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدمك، وأثنى عليك. فقال عمر: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «نعم الرجل عثمان صهري، وزوج ابنتي، ومن جمع الله به نوري» . فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عمر أكمل الله به دين الإسلام» . فقال عمر - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عثمان تستحي منه الملائكة» . فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عمر أكمل الله به الدين، وسماكم المسلمين» . فقال عمر - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عثمان يجمع القرآن وهو حبيب الرحمن» . فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عمر نعم الرجل عمر يتفقد الأرامل والأيتام ويحمل لهم الطعام وهم نيام» . فقال عمر - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في حقك: «غفر الله لعثمان مجهز جيش العسرة» . فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم أعز الإسلام بعمر» ¬

(¬1) أخرجه ابن عساكر (39/52) عن عائشة. وأخرجه ابن عساكر (39/54) عن أبي سعيد. (¬2) أخرجه الديلمي (3/99، رقم 4275) عن أبي موسي الأشعري.

وسماك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاروق، وفرق الله تعالى بك بين الحق والباطل. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا لهما وشكرهما على حسن أدبهما مع بعضهما بعضاً. وقد وقع نظير هذا بين أبي بكر وعلي رضى الله عنهما، وسنذكره في محله. ومن فضائله: أنه اشترى بئر رومة، وكانت ركية ليهودي يبيع المسلمين ماءها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين يضرب دلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة» فأتى عثمان اليهودى فساومه بها فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثنتي عشرة ألف درهم، فجعله للمسلمين ثم اتفق عثمان واليهودي على أن يكون له يوم وللمسلمين يوم، فكان إذا كان يوم للمسلمين استقوا ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان: أفسدت على ركيتي فاشترى النصف الآخر فاشتراه منه بثمانية آلاف درهم (¬1) . ومن فضائله: أنه اشترى أرضاً وزادها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن فضائله: أنه جهز جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيراً، وأتم الألف بخمسين فرساً، وجيش العسرة كان في غزوة تبوك. وقيل: حمل في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرساً. ومن فضائله وخصائصه: أنه تزوج ببنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يأمر الله نبيه بذلك فقد أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أوحى إلي أن أزوج كريمتي عثمان يعني رقية وأم كلثوم» (¬2) . وفي حديث: «أتاني جبريل فأمرني أن أزوج عثمان ابنتي» . وجاء في حديث: أن رقية لما ماتت لقى النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان عند باب المسجد فقال: «يا عثمان هذا جبريل أخبرني أن الله قد أمرني أن أزوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها» أخرجه ابن ماجة وغيره (¬3) . ¬

(¬1) ذكره البخاري (2/829) مختصراً. وأورده ابن عبد البر في الإستيعاب (3/1040) ، والمزي في تهذيب الكمال (19/450) . (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (4/18 رقم 3501) وفي الصغير (1/253 رقم 414) قال الهيثمي (9/83) : فيه عمير بن عمران الحنفي، وهو ضعيف بهذا الحديث وغيره. وابن عدي (5/70، ترجمة 1249 عمير بن عمران الحنفي) . (¬3) أخرجه ابن ماجه (1/40، رقم 110) ، قال البوصيري (1/18) : هذا إسناد ضعيف. والطبراني في الكبير (22/436، رقم 1063) عن أبي هريرة.

وعن أبي هريرة أنه قال: قال عثمان: لما ماتت امرأتي بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكيت بكاء شديداً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يبكيك؟» فقلت: أبكي على انقطاع صهري منك، فقال: «فهذا جبريل يأمرني بأمر الله - عز وجل - أن أزوجك أختها» . وفي حديث: «والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت تموت واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى حتى لا يبقى من المائة شيء، هذا جبريل أخبرني أن الله - عز وجل - يأمرني أن أزوجك أختها، وأن أجعل صداقها مثل صداق أختها» أخرجه الفضائلي. ومن فضائله وخصائصه: أنه نور أهل السماء، ومصباح أهل الأرض والجنة، فقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قوموا بنا نعود عثمان بن عفان» قلنا: عليل يا رسول الله؟ قال: «نعم» فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعناه حتى أتى منزل عثمان فاستأذن فأذن له، فدخل ودخلنا فوجدنا عثمان مكبوباً على وجهه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مالك يا عثمان لا ترفع رأسك؟» فقال: يا رسول الله إني استحي، يعني من الله تعالى، قال: «ولم ذلك؟» قال: أخاف أن يكون علي غضباناً فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألست حافر بئر رومة، ومجهز جيش العسرة، والزائد في مسجدي، وباذل المال في رضا الله ورضائي، ومن تستحي منه ملائكة السماء، هذا جبريل يخبرني عن الله - عز وجل - أنك نور أهل السماء، ومصباح أهل الأرض وأهل الجنة» أخرجه الملا. وله من الفضائل والخيرات ما يطول ذكره - رضي الله عنه -. وحصر - رضي الله عنه - في داره وقتل مظلوماً، والذي تولى ذلك جماعة الخوارج من أهل مصر وغيرهم، واختلف في قدر مدة حصره وقتله ظلماً - رضي الله عنه -، ويستفاد من الأخبار أنه لما ولي الخلافة كره ولايته نفر من الصحابة بسبب أنه كان يحسب قومه بنى أمية، وكان كثيراً ما يوليهم الإمارة على البلاد ويخصهم بذلك دون غيرهم من الصحابة، بل عزل غيرهم وولاهم، عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولاها عبد الله بن عامر، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان ارتد في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولحق بالمشركين، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه بعد الفتح، إلى أن أخذ له عثمان الأمان ثم أسلم، وعزل عمار بن ياسر عن الكوفة، وغيرهم وله عذر واضح في عزلهم رضى الله عنهم وتولية المذكورين كما هو مذكور في محله. وكان يولي منهم من لم تكن له مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحبة، وكان يقع من أمراءه ما يكرهه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان الناس من الصحابة وغيرهم يأتون إليه ويستغيثون منهم ويخبرونه بأفعالهم فلا يغيث أحداً، ولا يسمع فيهم كلام أحد، لعلمه بأنهم

يكرهونهم لحبه لهم وتوليتهم دون غيرهم، وإنما كان عثمان يولي أقاربه ويحبهم ويوصلهم بالعطاء كثيراً لأن الإنسان جبل على حبه لأقاربه وعلى حب الخير لهم، فمحبة الإنسان لأقاربه صفة جبلية لم يودعها الله تعالى إلا في خيار خلقه، فلما ولى على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح جاء أهل مصر يشتكوه إلى عثمان، فخرج جيش من أهل مصر وقدره سبعمائة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجد وشكوا إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعله ابن أبي سرح معهم، وأنه قتل منهم واحداً، وجاءوا يطلبون أن يقتص عثمان من عامله، فدخل علي بن أبي طالب على عثمان فكلمه بسبب مجيئهم، وأنهم جاءوا يطلبون منك أن تقتله عوضاً عن الرجل المقتول، ثم قال له علي: اعزله عنهم وإن وجب عليه حق فانصفهم من عاملك، فقال لهم: اختاروا رجلاً حتى أوليه مكانه فأشاروا إلى محمد بن أبي بكر، فكتب له عهده وولاه وخرج معه جماعة من المهاجرين والأنصار، لينظروا فيما وقع بين أهل مصر وبين أبي السرح، فلما بعدوا عن المدينة ثلاثة أيام وإذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً، حتى كأنه يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد: ما قصتك وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب، فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر، فقال له: رجل من الجماعة هذا عامل مصر معنا، قال: ليس هذا الذي أريد ثم ذهبوا وأخبروا محمد بن أبي بكر بأمره، فبعث في طلبه رجالاً فأخذوه فجاءوا به إليه، فقال له: يا غلام من أنت؟ فصار تارة يقول: أنا غلام أمير المؤمنين، وتارة يقول: أنا غلام مروان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر، قال: بماذا قال: برسالة، قال: معك كتاب؟ قال: لا، قال: ففتشوه فإذا معه كتاب من عثمان إلى ابن أبي السرح، فجمع محمد بن أبي بكر من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه إذا أتاك فلان وفلان، ومعهم محمد بن أبي بكر ومعه كتاب عهد فاحتل لقتلهم وأبطل كتابه، وقف على عملك حتى يأتيك أمري أن شاء الله تعالى. وفي رواية: معه كتاباً على لسان عثمان مختوماً بخاتمه إلى عامله بمصر أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم، فلما قرأوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة، وختم محمد بن أبي بكر الكتاب ودفعه إلى واحد من الصحابة، فلما قدموا المدينة جمعوا الصحابة كعلي والزبير وطلحة وغيرهم، وفكوا الكتاب وقرأوه عليهم وأخبروهم بقصة العبد، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، وقام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منازلهم ما منهم من أحد إلا مغتم بسبب ذلك، ثم تقدموا لحصاره، فلما

رأى علي ذلك جمع طلحة والزبير وسعيداً وعماراً ونفراً من الصحابة، ثم دخلوا على عثمان ومعهم الكتاب والغلام والبعير، فقال له علي - رضي الله عنه - هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به ولا علمت به، ولا وجهت به هذا الغلام إلى مصر، قال: وأنتم تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على نقش خاتمه، وكان - رضي الله عنه - صادقاً فيما قال، فإن مروان زور عليه هذا الكتاب، وكتبه على لسانه وختمه بختمه من غير علمه، وأمره وأرسله مع عبده وعرف علي وغيره ممن رأى الكتاب أن الخط خط مروان، ولكن ظنوا أنه كتبه بأمره وإرادته، فلما حلف تحققوا من صدقه وقالوا له: سلمنا مروان وكان معه في الدار فأبى وخشي عليه القتل، فخرج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاضبين من عنده فحاصره الأعداء ومنعوه من الماء، ومن الصلاة في المسجد أنشدت زينب بنت العوام: وعطشتم عثمان في جوف داره ... شربتم مشرب الهيم شرب الحميم فأشرف عليهم في تلك الحال وقال: السلام عليكم، فما رد عليه أحد، فقال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة من مالي وسبلتها على المسلمين قيل: نعم، قال: فعلام تمنعوني شرب مائها، وأفطر على الماء المالح، ثم قال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت كذا وكذا من أرض فزدته في المسجد، قيل: نعم، قال: فهل علمتم أن أحد منع أن يصلي فيه قبلي. وفي رواية: أشرف عليهم فقال: أفيكم علي؟ قالوا: لا، فقال: أفيكم سعد؟ فقالوا: لا، فقال: ألا أحد يسقينا ماء؟ فبلغ ذلك علياً، فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما وصلت إلا بعد جهد، ثم بلغ علياً أنهم يريدون قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان لا قتله، وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحد يصل إليه، وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من الصحابة أبناءهم لأجل أن يمنعوا الناس من الدخول عليه. وذكر العلامة الحافظ ابن الجوزى: أن الذين خرجوا على عثمان هجموا على المدينة، وكان عثمان يخرج فيصلي بالناس وهم يصلون خلفه شهراً، ثم خرج من آخر جمعة خرج فيها فحصبوه بالحجارة وهو على المنبر حتى وقع عنه، ولم يقدر أن يصلي بهم فصلى بهم يومئذ أبو أمامة بن سهل، ثم حصروه ومنعوه الصلاة في المسجد. وروي أن الجهجاه الغفاري بعد أن حصبوه ونزل من المنبر، أخذ العصا التي كانت

في يده، وهي عصا النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان يمسكها بيده في حال خطبته، فكسرها بركبته فوقعت الأكلة في ركبتيه. وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة أنه قال: كنا مع عثمان وهو محصور في الدار فقال: إنهم يتوعدونني بالقتل: قال: فقلنا يكفيهم الله يا أمير المؤمنين، قال: وبم يقتلوني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنا بعد إحصانه، أو قتل نفساً فيقتل بها» فوالله ما أحببت بديني بدلاً منذ هداني الله تعالى، ولا زنيت في الجاهلية ولا في الإسلام قط، ولا قتلت نفساً، فبم يقتلوني (¬1) . وقال شداد بن أوس: لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار رأيت علياً - رضي الله عنه - خارجاً من منزله، متعمماً بعمامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقلداً بسيفه أمامه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، حتى حملوا على الناس وفرقوهم، ثم دخلوا على عثمان فقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل والمدبر، وإني والله لا أرى القوم إلا قاتلينك، فمرنا لنقاتل، فقال عثمان: أنشد الله رجلاً رأى لله حقاً وأقر أن ما عليه حقاً أن يهريق مني ملء محجمة من دم أو يهراق دمه علي، فأعاد علي عليه القول فأجابه بمثل ما أجاب، ومنعه أن يقاتل معه، فرأيت علياً خارجاً من الباب، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا قد بذلنا المجهود، ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا له: يا أبا الحسين تقدم فصلى بالناس، فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلى وحده وانصرف. وروي أنه دخل الحسن بن علي على عثمان وهو محصور فقال: يا أمير المؤمنين مرني بما شئت، فقال: يا ابن أخي ارجع واجلس حتى يأتي الله بأمره، فخرج ثم دخل عليه عبد الله بن عمر فسلم عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعت وأطعت، ثم صحبت أبا بكر فسمعت وأطعت، ثم عمر فرأيت له حق الوالد وحق الخلافة، وها أنا طوع يدك يا أمير المؤمنين، فمرني بما شئت، فقال عثمان: جزاكم الله يا آل عمر خيراً مرتين، لا حاجة لى في إراقة الدم، ثم دخل أبو هريرة متقلداً بسيفه فقال: الآن طاب الضراب، فقال له عثمان: عزمت عليك يا أبا هريرة لما ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/61، رقم 437) . وأخرجه أيضاً: أبو داود (4/170، رقم 4502) ، والطيالسي (ص: 13، رقم 72) .

ألقيت سيفك، فقال: ألقيته فما أدري من أخذه. وروي أيضاً أن أبا هريرة أنه قال: إني لمحصور في الدار مع عثمان قال: فرمى رجل منا أي: قتل، قلت: يا أمير المؤمنين الآن طاب الضراب، قتلوا منا رجلاً، قال: عزمت عليك يا أبا هريرة ألا رميت بسيفك فرميت بسيفي لا أدري أين هو حتى الساعة. وقد أفاد المحب الطبري أن عثمان - رضي الله عنه - رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليلة التي قتل في يومها، وأنه سقاه الماء وأنه خيره في الانتصار عليهم وفي الفطر عنده فاختار الفطر عنده. ونقب في ذلك أخبار منها: عن عبد الله بن سلام أنه قال: «أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال: مرحباً بأخي مرحباً يا أخي، أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقلت: بلى، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخوخة فإذا خوخة في البيت، فقال: حصروك؟ فقلت: نعم، فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم، فأدلى دلوا من ماء فشربت حتى رويت، وإني لأجد برداً بين كتفي وبين ثدي، قال: إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا، قال: فاخترت أن أفطر عنده» (¬1) خرجه القروينى. وأعتق صبيحة تلك الليلة عشرين مملوكاً وصار يحدث الناس برؤيته - صلى الله عليه وسلم - ويقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - البارحة وأبا بكر وعمر، فقالوا: اصبر فإنك تفطر عندنا، فقتل ذلك اليوم. واختلفت الروايات هل دخلوا عليه من الباب أم لا؟ فقيل: دخلوا عليه من دار رجل من الأنصار، وكان معه في الدار ستمائة رجل وكلهم كانوا فوق البيت، ولم يكن عنده في البيت إلا امرأته، فدخلوا عليه فقتلوه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، ولم يعلم بذلك أحد ممن معه في الدار لاشتغالهم بالحصار، حتى صرخت امرأته وصعدت إلى الناس، وأعلمتهم بأنه قتل، فدخل عليه الحسن والحسين ومن كانوا معهما فوجدوه مذبوحاً، فانكبوا عليه يبكون، وأنشد أبو القاسم بن أمية بن أبي الصلت فأحسن: لعمرى لبئس الذبح ضحيتم به ... وخنتم رسول الله في قتل صاحبه فبلغ علياً قتله ومن كان في المدينة فخرجوا، وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان، فوجدوه مقتولاً فاسترجعوا. وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتم على الباب، ورفع يده فلطم ¬

(¬1) أخرجه أيضاً سعيد بن منصور في كتاب السنن (2/389، رقم 2946) .

الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير، وخرج علي وهو غضبان. وقيل: إنهم دخلوا عليه من الباب فإنه - رضي الله عنه - لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: أفطر عندنا الليلة، أصبح ذلك اليوم صائماً، فطلب المصحف ووضعه بين يديه، وقال لامرأته: افتحى الباب ففتحت الباب فدخل عليه رجل، فقال له عثمان: بيني وبينك كتاب الله تعالى، والمصحف بين يديه قال: فأهوى إليه بالسيف فاتقاه بيده فقطعها، فقال الراوي: -فلا أدري أبانها أم لم يبنها- فقال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المصحف. وروي عنه أنه جعل يقول حين ضرب والدماء تسيل من على لحيته: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستهديك وأستعينك على جميع أموري، وأسألك الصبر على بليتي. ونقل عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال: سمعت صوتاً يوم قتل عثمان يقول: أبشر يا ابن عفان بروح وريحان، أبشر يا ابن عفان بغفران ورضوان، أبشر يا ابن عفان برب غير غضبان، قال فالتفت فلم أر أحداً (قاله ابن عبد البر) . وأكثرهم يروي: أن قطرة أو قطرات من دمه سقطت على المصحف على قوله تعالى: ?فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ? [البقرة: 137] . وورد عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم القيامة يؤتى بعثمان وأوداجه تشخب دماً اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يكسى حلتين من نور، وينصب له منبر على الصراط، فيجوز المؤمنون بنور وجهه، ليس لمبغضة من نصيب» خرجه الملا في سيرته. واختلف العلماء فيمن باشر قتله بنفسه: فقيل: محمد بن أبي بكر ضربه بمشقص. وقيل: رومان بن سرحان دخل عليه وكان رجلاً قصيراً أزرق معه خنجر، فاستقبله به وقال: على أي دين أنت يا نعثل، فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، فقال: كذبت وضربه على صدغه الأيسر فقتله فخر، وأدخلته امرأته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة فدخل رجل من أهل مصر معه السيف مسلطاً فقال والله لأقطعن أنفه فعالج المرأة فكشف عن ذراعيها، وقبضت على السيف فقطع إبهامها، فقالت لغلام

عثمان يقال له «رباح» ومعه سيف عثمان: أعني على هذا وأخرجه عني فضربه الغلام بالسيف فقتله. وقيل: الذي باشر قتله: جبلة بن الأيهم من أهل مصر، وطاف بالمدينة ثلاثة أيام يقول: أنا قاتل نعثل. وقيل: رومان اليماني، وقيل: بل رومان رجل من جبل أسد. وقيل: يسار بن عياض. وقيل: قتله الأسود النجيبي، وبه جزم الكرمانى. قال ابن عبد البر في الإستيعاب: أول من دخل على عثمان محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته، فقال: دعها يا ابن أخي فوالله كان يكرمها أبوك فاستحيا وخرج (¬1) . وقيل: لما أخذ لحيته هزها وقال له: ما أغني عنك معاوية وما أغنى عنك ابن أبي سرح وما أغنى عنك ابن عامر، فقال له: يا ابن أخي إنك لتجذب لحية كانت تعز على أبيك، وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا مني، فيقال: إنه حينئذ تركه وخرج عنه. ويقال: إنه حينئذ أشار إلى من معه فطعنه أحدهم وقتلوه والله أعلم. واختلف في اليوم الذي قتل فيه: فقال ابن اسحاق: قتل يوم الأربعاء بعد العصر ودفن يوم السبت قبل الظهر. وقيل: قتل يوم الجمعة. وقيل: قتله في وسط أيام التشريق في المدينة الشريفة. وقيل: قتله يوم التروية، وقيل غير ذلك. ولقد أحسن القائل: ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ضحى ... فأي ذبح حرام ويلهم ذبحوا وأي كفر سن أولهم ... وباب شر على سلطانهم فتحوا ماذا أرادوا أضل الله سعيهم ... بسفك ذاك الدم الذكي الذي سفحوا وأما السنة التي قتل فيها فهى سنة خمس وثلاثين. واختلف أيضاً في مدة إقامته بعد موته مطروحاً قبل دفنه: ¬

(¬1) انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (3/1044) .

فقيل: أقام يومه ذلك مطروحاً إلى الليل، فحمله رجال على باب ليدفنوه فعرض لهم ناس ليمنعوهم من دفنه، فوجدوا قبراً كان قد حفر لغيره فدفنوه فيه، وصلى عليه جبير بن مطعم. وروى عن مالك أنه قال: لما قتل عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام، فلما كان في الليل أتاه اثنى عشر رجلاً منهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير واحتملوه فلما صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه، ناداه قوم من بني مازن: والله لئن دفنتموه ها هنا لنخبرن الناس غداً، فاحتملوه حتى ساروا إلى «حش كوكب» فاحتفروا له «وكوكب» اسم رجل من الأنصار «والحش» البستان، وكان عثمان قد اشتراه منه وزاده في البقيع (¬1) ، فكان أول من قبر فيه هو، وكان رضى الله عنه إذا مر «بحش كوكب» يقول: يدفن ها هنا رجل صالح، حتى دفن هو فيه. ونقل عن الحسن أنه قال: شهدت عثمان بن عفان وقد دفن في ثيابه بدمائه، واختلف هل صلى عليه أم لا؟ فروي أنه أقام في «حش كوكب» ثلاثاً مطروحاً لا يصلى عليه، حتى هتف بهم هاتف: ادفنوه ولا تصلوا عليه فإن الله - عز وجل - صلى عليه. وقيل: صلى عليه وغشيهم في الصلاة عليه وفي دفنه سواد، فلما فرغوا منه نودوا: أن لا روع عليكم اثبتوا، وكانوا يرون أنهم الملائكة حضروا جنازته. ونقل المحب الطبرى عن الحسن عن الحسن بن على قال: ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعاً يده على العرش، ورأيت أبا بكر واضعاً يده على منكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأيت عمر واضعاً يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعاً يده على منكب عمر ورأيت دماً دونه، فقلت: ما هذا؟ قال: دم عثمان يطلب الله به. (أخرجه الديلمى في كتابه الشفا) . وأنشد حسان فيه: قلتم ولي الله في جوف داره ... وجئتم بأمر جائر غير مهتدى فلا ظفرت أيمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرشيد المسدد وأنشد كعب بن مالك فيه وقال: يا للرجال لأمر هاج لي حزنا ... لقد عجبت لمن يبكي على الزمن ¬

(¬1) أي وسع به أرض البقيع قاله الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/458) .

إني رأيت قتيل الله مضطهداً ... عثمان يهدي إلى الأجداث في كفن قاتل الله قوماً كان أمرهم ... قتل الإمام الزكي الطيب الردن ما قتلوه على ذنب ألم به ... إلا الذي نطقوا زوراً ولم يكن وأنشد حسان أيضاً، وقيل: كعب بن مالك حين منع عثمان الناس من القتال معه: فكف يده ثم أغلق بابه ... وأيقن أن الله ليس بغافل وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن ذنب امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله ألقى عليهم ... العداوة والبغضاء بعد التواصل وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس أدبار الرياح الحوافل وقالت ليلى الأخيلية: قتل ابن عفان الإمام ... وضاع أمر المسلمينا وتشتت سبل الرشاد ... بصادرين أو واردينا قال العلماء: عرف عثمان أنه يقتل عرَّفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. روي عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ادعوا لى بعض أصحابي» فقلت: أبو بكر؟ فقال: «لا» فقلت: عمر؟ فقال: «لا» فقلت: ابن عمك؟ فقال: «لا» فقلت له: عثمان؟ قال: «نعم» فلما جاء قال بيده فتنحيت، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يساره ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر، قيل له: ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى عهداً وأنا صابر نفسي عليه (¬1) . وكانت ولايته كما قاله ابن اسحاق اثنتى عشرة سنة وإحدى عشر شهراً وأربعة عشر يوماً، وقيل: ثمانية عشر يوماً. ومن كراماته ما رواه الطبري عن أبي قلابة قال: كنت في رفقة بالشام فسمعت رجلاً يقول: يا ويلاه النار، قال: فقمت إليه، وإذا رجل مقطوع اليدين والرجلين من الحقوين أعمى العينين منكباً لوجهه، فسألته عن حاله فقال إني كنت ممن دخل على ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (1/42، رقم 113) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/19) : هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات. والحاكم (3/106، رقم 4543) ، وقال: صحيح الإسناد. وابن حبان (15/356، رقم 6918) .

عثمان الدار، فلما دنوت منه خرجت زوجته فلطمتها، فقال: مالك قطع الله يديك ورجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار، فأخذتنى رعدة عظيمة وخرجت هارباً فأصابني ما ترى، ولم يبق من دعائه إلا النار، قال: فقلت له: بعداً لك وسحقاً. خرجه الملا في سيرته. «عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . دل هذا الحديث على أحكام كثيرة أوصلها ابن الملقن إلى نيف وعشرين حكماً فمن أحكامه: أن فيه دلالة على استحباب غسل اليدين في الوضوء إلى الكوعين، وعلى استحباب غسلهما قبل إدخالهما في الإناء. قال علماؤنا: من سنن الوضوء غسل الكفين إلى الكوعين قبل المضمضة والاستنشاق تأسيا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يتيقن الإنسان من طهارة يده بسبب نوم أو غيره كره له إدخالها في ماء دون قلتين أو مائع قبل غسلهما. والعلة في هذه الكراهة توهم النجاسة، فإنه قد يكون في جسده قروح أو دماميل فيضع يده عليها فتنجس وقد يضع يده على دبره أو غير ذلك، فإن صادفت ماء قليلاً أو مائعاً نجسته. وقد ورد النهي عن غمس اليد في الإناء عند الاستيقاظ من النوم قبيل غسلهما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/72، رقم 160) ، ومسلم (1/233، رقم 278) ، وأبو داود (1/25، رقم 105) ، والترمذي (1/36، رقم 24) وقال: حسن صحيح. والنسائي (1/99، رقم 161) ، وابن ماجه (1/138، رقم 393) ، ومالك (1/21، رقم 37) ، والشافعي (1/10) ، وابن حبان (3/345، رقم 1062) ، وابن أبي شيبة (1/94، رقم 1047) ، وأحمد (2/253، رقم 7432) ، وابن خزيمة (1/74، رقم 145) ، والدارقطني (1/50) ، والبيهقي (1/46 رقم 209) عن أبي هريرة.

قال النووي في كتابه «البستان» : حكي أن بعض المبتدعين سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه لا يدري أين باتت يده» ، فقال المبتدع: أنا أدري أين باتت يدي، باتت في الفراش، فأصبح وقد أدخل يده في دبره حتى ذراعه. قال الإمام النووي: ومن هذا المعنى ما وجد في زماننا وتواترته الأخبار وثبت عند القضاة: أن رجلاً في قرية من بلاد البصرة في أوائل سنة خمس وستين وستمائة، كان سيئ الاعتقاد فيهم، فجاءه ابنه من عند شيخ صالح معه سواك، فقال: ما أعطاك شيخك مستهزئاً؟ فقال: هذا السواك فأخذه وأدخله في دبره احتقاراً له، فبقى مدة ثم ولد ذلك الرجل أي: الذي أدخل السواك في دبره جرواً قريب الشبه بالسمكة فقتله ومات الرجل في الحال، أو بعد يومين عافانا الله من بلائه. ولا تزول هذه الكراهة إلا بغسل اليدين ثلاثاً ولا يكره غسلهما في البرك والحياض، وكذا لا يكره في الإناء إذا تيقن طهارتهما. ولابد في حصول سنة غسل اليدين إلى الكوعين أن يغسلهما قبل المضمضة والاستنشاق، فلو غسلهما بعدهما لا يكون محصلاً للسنة لقوله في الحديث: «فغسلهما حتى أدخل يمينه في الإناء فمضمض» فأتى بالفاء المقتضية للترتيب وزيادة وهو التعقيب. وفي الحديث دلالة على جواز الاستعانة في إحضار الماء. قال العلماء: ترك الاستعانة في الوضوء سنة، لأنها نوع من التنعم والتكبر، وذلك لا يليق بحال المتعبد، والأجر على قدر النصب. والاستعانة على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يستعين بغيره ليصب عليه الماء لغير عذر، فهذه الاستعانة خلاف الأولى، أما إذا كانت لعذر كمرض ولو كان خفيفاً، فلا يكون خلاف الأولى، بل مباحاً دفاعاً للمشقة، ولو كان بالإنسان مرض شديد أو أقطع لزمه أن يستأجر إنساناً ليعينه على الطهارة إن لم يحصل له متبرع، وإن حصل له متبرع وجب عليه القبول. القسم الثاني: أن يستعين بمن يغسل له الأعضاء بلا عذر ترفعاً فهذه مكروهة قطعاً.

القسم الثالث: الاستعانة بإحضار الماء والإناء والدلو فمباحة بالإجماع من غير كراهة فلا خلاف الأولى، فلهذا طلب عثمان الإناء فتوضأ منه. وفي الحديث دلالة على استحباب غسل الأعضاء المغسولة. قال العلماء: من سنن الوضوء أن يغسل المتوضئ كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، وهذه سنة بالإجماع، فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثا ثلاثا، كما دل عليه الحديث المذكور وغيره. وتكره الزيادة على الثلاث ويكره النقص عنها لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما توضأ ثلاثاً ثلاثاً قال: «هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء أو ظلم» رواه أبو داود وغيره (¬1) . قال النووي: أنه حديث صحيح ومعناه: فمن زاد على الثلاث أو نقص منها فقد أساء وظلم في كل من الزيادة والنقص. وقيل: أساء في النقص وظلم في الزيادة. وقيل: عكسه. سؤال: فإن قيل: كيف يكون النقص من الثلاث إساءة وظلماً ومكروهاً وقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه توضأ مرة وتوضأ مرتين؟ جوابه: أنه فعل ذلك بياناً للجواز، وكان فعله لذلك في ذلك الحال أفضل، لأن البيان جائز، وليس معنى «أساء وظلم» ارتكب محرماً، بل معنى «أساء» ترك الأولى وتعدى حد السنة، ومعنى «ظلم» وضع الشيء في غير موضعه. وأما مسح الرأس فهل يستحب تثليثه أم لا؟ ظاهر الحديث أنه لا يستحب فإنه قال فيه: «ثم مسح برأسه» ولم يقل ثلاثاً، والذي ذهب إليه إمامنا الشافعي أنه يستحب مسحه ثلاثاً كما يستحب ذلك في المغسول، فقد ورد: «أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه ثلاثاً» رواه البيهقي والحاكم وقال: إنه حسن (¬2) . وذهبت الأئمة الثلاثة إلى عدم استحبابه. فائدة: إنما تحصل فضيلة تثليث مسح الرأس إذا أورد المسح ثانياً وثالثاً على ما ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1/33، رقم 135) ، والنسائي (1/88، رقم 140) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (¬2) أخرجه البيهقي (1/63، رقم 299) .

أورده أولاً، فلو مسح ثانياً وثالثاً غير ما مسحه أولاً لم يكن ذلك تكراراً، بل هو محاولة على استيعاب الرأس، أفاد ذلك العلامة الجوجري. قال العلماء: ولو شك في العدد في أثناء الوضوء أخذ بالأقل وكمل كالركعات، أما لو شك بعد الفراغ منه فإنه لا عبرة به. قالوا: وإنما تكره الزيادة على الثلاثة إذا أتى بها بقصد نية الوضوء، فلو زاد بقصد نية التبرد مثلاً لم يكره. قال الزركشي: ومحل كراهة الزيادة أيضاً إذا توضأ بماء مباح أو مملوك له، فإن توضأ من ماء موقوف على من يتطهر أو يتوضأ منه كالمدارس والربط، حرمت الزيادة بلا خلاف، لأن الزيادة غير مأذون فيها. فائدة: لو توضأ وضوء كاملاً مرة مرة، ثم توضأ أخرى كذلك، ثم ثالثاً لتأكيد ذلك حصلت له فضلية التثليث كما قاله الروياني والإمام. قال الجوجري: وهو ظاهر المعنى، لكن قال الشيخ إسماعيل صاحب الروض: إنها لا تحصل بل لابد من تثليث كل عضو قبل الانتقال إلى غيره. فائدة أخرى: ذكر العلماء مسائل لا يستحب فيها التثليث: الأولى: لوضاق الوقت عنه، ولو ثلث لخرجت الصلاة أو بعضها عن الوقت، فإنه يقتصر على الفرض وهو مرة. الثانية: لو كان عطشاناً ولو اقتصر على الفرض فضل له فضلة يشربها فيقتصر عليه. الثالثة: لوكان الماء يكفي لفرض فقط، ولو ثلث لا يكفيه، فلا يستحب له التثليث لئلا يحتاج إلى التيمم، فلو ثلث وتيمم للباقي في قضاء عليه. الرابعة: لو خاف فوت الجماعة لو ثلث، فإنه يقتصر على الغرض ليدرك الجماعة فإنها أهم من التثليث. لطيفة: قال في نزهة المجالس: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على سرير من ذهب، قوائمة من فضة، مفصص بالياقوت، فاستقر على الأرض ببطحاء مكة، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - واقعده معه على السرير، ولجبريل أربعة أجنحة، جناح من لولؤ، وجناح من ياقوت، وجناح من زبرجد، وجناح من نور رب العالمين، بين الجناح والجناح ما بين المشرق والمغرب، ومعه سبعون ألف ملك، فضرب بجناحه الأرض فنبعت فتوضأ جبريل وغسل أعضاءه ثلاثاً وتمضمض ثلاثاُ واستنشق ثلاثاً، ثم قال: أشهد أن لا إله

إلا الله وحدة لا شريك له وأنك رسول الله بعثك بالحق، يا محمد قم وأفعل كما فعلت، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، فقال: يا محمد قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويغفر الله لمن يصنع مثل صنيعك ذنوبه حدثيها وقديمها وسرها وعلاينتها وعمدها وخطاها وحرم لحمه ودمه على النار. فائدة: هل فرض الله الوضوء بمكة أو بالمدينة؟ قال ابن العماد في شرح سيرته: ونقل الباجي في شرح الموطأ عن بعض العلماء: أن فريضة الوضوء كانت بالمدينة، وأنه لم يكن واجباً مكة، بل كان سنة. وكذا نقل القاضي عياض قال: والأكثرون على أنه كان واجباً بمكة لكنهما لم يعينوا وقته. وفي دلائل النبوة للبيهقي: «أن جبريل صلوات الله وسلامة عليه علمه الوضوء في أول الإسلام» . وذكر ابن الرفعة في الكفاية في باب الجهاد: أن جبريل - عليه السلام - نزل بأعلى مكة، فهمز في ناحية الوادي فانفجرت فيه عين فتوضأ جبريل - عليه السلام - ليريه كيف الطهور، فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، ثم قام جبريل يصلي وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاته، فكانت هذه أول عبادة فرضت عليه كما قاله الماوردي. ثم جاء إلى خديجة فتوضأ لها حتى توضأت وصلى بها كما صلى به جبريل عليهم الصلاة والسلام، فكانت أول من توضأ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث دلالة على استحباب ركعتين فأكثر عقب كل وضوء، ينوي بها سنة الوضوء، وهي سنة مؤكدة، ويستحب فعلها في كل وقت توضأ فيه، حتى في أوقات الكراهة، لأن لها سبباً مقدماً عليها. قال النووي: ولو صلى بعد الوضوء فريضة أو نافلة مقصودة حصلت له فضيلة سنة الوضوء، كما تحصل تحية المسجد بذلك، بل لو دخل المسجد على وضوء في وقت الظهر مثلاً، وصلى ركعتين ونوى بهما سنة الظهر وسنة الوضوء وتحية المسجد حصل له ثواب الجميع. قال النووي: إنما قال - صلى الله عليه وسلم -: «نحو وضوئي» ولم يقل: مثل وضوئي لأن حقيقة مما ثلثه - صلى الله عليه وسلم - لا يقدر عليها غيره. وفي الحديث دلالة وبشارة لمن صلى سنة الوضوء بمغفرة الذنوب المتقدمة، وهذا الغفران للصغائر دون الكبائر، أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة، وينبغي أن يعلم أن

غفران الذنوب الصغائر المتقدمة لمن صلى سنة الوضوء عقبه مشروطة بشرطين: أحدهما: أن يتوضأ على النحو المذكور في الحديث وهو أن يغسل كل عضو ثلاث مرات. الثاني: أن لا يحدث نفسه في الصلاة التي صلاها بعد الوضوء بشيء من أمور الدنيا، وما لا يتعلق بالصلاة. فإن يتوضأ على النحو المذكور أولم تسلم صلاته من الخواطر الدنيوية التي لا تتعلق بالصلاة، لم يحصل له الغفران المذكور، نعم لو عرض له حديث دينوي فأعرض عنه بمجرد عروضه عفي عنه ولا يحرم فضيلة سنة الوضوء إن شاء الله تعالى، لأن هذا ليس من فعله، وقد يعفى لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر (قاله النووي) . فائدة: يستحب للإنسان إذا تيمم أو اغتسل أن يصلي ركعتين عقبه، كما يستحب أن يصليهما عقب الوضوء كما اختار ذلك البلقيني، وقاسهما على الوضوء، ولم ير من تعرض له. ويمكن أن يستنبط من استحباب الصلاة عقب التيمم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم» (¬1) . فإنه إذا صدق على التيمم أنه وضوء فقد دخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «نحو وضوئي هذا» . فائدة أخرى وبشارة: قال في نزهة المجالس: ينبغي لمن أحدث أن يتوضأ عقب حدثه، ولمن توضأ أن يصلي ركعتين عقب وضوئه، ولمن صلى أن يدعو الله عقب صلاته، فقد ورد في الخبر يقول الله: «من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ ولم يصلي فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ ولم يدعني فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ وصلى ودعاني فلم أستجب له فقد جفوته، ولست برب جافي» (¬2) . وقد عقد البخاري - رضي الله عنه - في كتاب التهجد باباً في فضل الطهور بالليل والنهار، ¬

(¬1) أخرجه الترمذى (1/211، رقم 124) وقال: حسن صحيح. والنسائى (1/171، رقم 322) ، وعبد الرزاق في المصنف (1/238، رقم 913) ، وأحمد (5/155، رقم 21408) ، وابن حبان (4/140، رقم 1313) ، والدارقطنى (1/187) ، والحاكم (1/284، رقم 627) وقال: صحيح. والبيهقى (1/212، رقم 961) عن أبي ذر. (¬2) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/292) : قال الصغاني في موضوعاته: حديث موضوع.

وروى حديثاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عن صلاة الفجر: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دق نعليك بين يدي في الجنة» قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي (¬1) . وروى أبو داود عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توضأ فأحسن وضؤه ثم صلى ركعتين لا يسهوا فيها غفر له ما تقدم من ذنبة» (¬2) . وفي رواية عنده: «ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجه عليهما إلا وجبت له الجنة» (¬3) والله أعلم. * * * ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/386، رقم 1098) . وأخرجه أيضا: مسلم (4/1910، رقم 2458) ، وأحمد (2/439، رقم 9670) ، وابن خزيمة (2/213، رقم 1208) ، وابن حبان (15/560، رقم 7085) . (¬2) أخرجه أبو داود (1/238، رقم 905) ، والطيالسي (ص: 189، رقم 1331) ، وأحمد (4/117، رقم 17095) ، وعبد بن حميد (1/118، رقم 280) ، والطبراني في الكبير (5/249، رقم 5242) ، والحاكم في المستدرك (1/222، رقم 451) . (¬3) أخرجه أبو داود (1/43، رقم 169) ، وأحمد (4/145، رقم 17352) ، وابن حبان (3/325، رقم 1050) .

المجلس السادس والأربعون

المجلس السادس والأربعون في ذكر بعض مسائل تتعلق بغسل الميت، وذكر سنن الوضوء، وذكر آدابه الباطنة قَالَ البُخَارِي: بَابُ التَيَمُّنِ فِي الوُضُوءِ والغَسْل حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُنَّ فِى غُسْلِ ابْنَتِهِ «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» . حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِى أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِى تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِى شَأْنِهِ كُلِّهِ» (¬1) . ¬

(¬1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها: أورد البخاري من الحديث طرفاً ليبين به المراد بقول عائشة: «يعجبه التيمن» إذ هو لفظ مشترك بين الابتداء باليمين وتعاطي الشيء باليمين والتبرك وقصد اليمين، فبان بحديث أم عطية أن المراد بالطهور الأول. قوله: «كان يعجبه التيمن» : قيل لأنه كان يحب الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنة. وزاد البخاري في الصلاة عن سليمان بن حرب عن شعبة: «ما استطاع» فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع. وقوله: «في تنعله» : أي لبس نعله. وقوله: «وترجله» : أي ترجيل شعره وهو تسريحه ودهنه. قال في المشارق: رجل شعره إذا مشطه بماء أو دهن ليلين ويرسل الثائر ويمد المنقبض، زاد أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة: «وسواكه» . قوله: «في شأنه كله» : كذا للأكثر من الرواة بغير واو. وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو وهي التي اعتمدها صاحب العمدة. قال الشيخ تقي الدين: هو عام مخصوص، لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار على التعميم، لأن التأكيد يرفع المجاز فيمكن أن يقال حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصوداً، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي إما تروك وإما غير مقصودة، وهذا كله على تقدير إثبات الواو، وأما على إسقاطها فقوله: «في شأنه كله» متعلق بيعجبه لا بالتيمن أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله الخ، أي لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا ولا في فراغه ولا شغله ونحو ذلك. وقال الطيبي قوله: «في شأنه» بدل من قوله «في تنعله» بإعادة العامل. قال: وكأنه ذكر التنعل لتعلقه بالرجل، والترجل لتعلقه بالرأس، والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنه نبه على جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل. قلت: ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله: «في شأنه كله» على قوله: «في تنعله الخ» وعليها شرح الطيبي، وجميع ما قدمناه مبني على ظاهر السياق الوارد هنا. لكن بين البخاري في الأطعمة من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة أن أشعث شيخه كان يحدث به تارة مقتصراً على قوله: «في شأنه كله» وتارة على قوله: «في تنعله الخ» . وزاد الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة أن عائشة أيضاً كانت تجمله تارة وتبينه أخرى، فعلى هذا يكون أصل الحديث ما ذكر من التنعل وغيره، ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأحوص وابن ماجه من طريق عمرو بن عبيد كلاهما عن أشعث بدون قوله: «في شأنه كله» وكأن الرواية المقتصرة على: «في شأنه كله» من الرواية بالمعنى، ووقع في رواية لمسلم «في طهوره ونعله» بفتح النون وإسكان العين أي هيئة تنعله. وفي رواية ابن ماهان في مسلم «ونعله» بفتح العين. وفي الحديث: استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل والغسل والحلق، ولا يقال هو من باب الإزالة فيبدأ فيه بالأيسر، بل هو من باب العبادة والتزيين، وقد ثبت الابتداء بالشق الأيمن في الحلق. وفيه البداءة بالرجل اليمنى في التنعل وفي إزالتها باليسرى. وفيه البداءة باليد اليمنى في الوضوء وكذا الرجل، وبالشق الأيمن في الغسل. واستدل به على استحباب الصلاة عن يمين الإمام وفي ميمنة المسجد، وفي الأكل والشرب باليمين. قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدهما استحب فيه التياسر. قال: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل وتم وضوءه، انتهى. انظر فتح الباري (1/269 - 270) .

قال العلماء: أم عطية راوية الحديث الأول اسمها «نسيبة» بضم النون وفتح المهملة وسكون التحتانية وبالموحدة. وقيل: «نسيبة» بفتح النون وكسر السين. وقيل: «حقة» وهي: بنت كعب ويقال: بنت الحارث، وهي: بصرية صحابية، أنصارية جليلة، كانت تغسل الموتى، وتغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزت معه سبع غزوات، وشهدت خيبر، وكان علي يقيل عندها، وكانت تمرض المرضى، وتداوي الجرحى. روى لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً، للبخاري منها سبعة.

وبنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبهمة في هذا الحديث: قيل: هي زينب، وبه صرح النووي في تهذيب الأسماء واللغات، وصرح به في صحيح مسلم، وقال القاضي عياض: إنه الصواب. وقيل: هي أم كلثوم زوج عثمان بن عفان، قاله ابن الملقن، ولما دفنت أم كلثوم قال عليه الصلاة والسلام: «دفن البنات من المكرمات» . وقيل: إنه قال هذا حين ماتت رقية فقد روى الطبراني في الكبير والأوسط من رواية ابن عباس قال: لما عزى النبي - صلى الله عليه وسلم - بابنته رقية قال: «الحمد لله دفن البنات من المكرمات» (¬1) . لكن ذكر ابن الجوزي في موضوعاته أن حديث: «دفن البنات من المكرمات» لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس المراد بالبنات في هذا الحديث فاطمة لأنها ماتت بعده، والمذكور هنا ماتت في حياته، فأمر أم عطية الغاسلة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب أن يغسلنها، وأن يبدأن في غسلها بميامنها أي: بالجانب الأيمن منها، لشرفه. فائدة: كان له من البنات أربعة: الأولى: فاطمة البتول، وكانت وفاتها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر. الثانية: زينب، وكانت وفاتها في السنة الثامنة من الهجرة، وكانت زوجة لأبي العاصي بن الربيع، واسمه لقيط. وقيل: هشيم. وقيل: مهشم. الثالثة والرابعة: رقية، وأم كلثوم زوجاً عثمان بن عفان رضي الله عنهم. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (11/366، رقم 12035) 7) ، وفي الأوسط (2/372، رقم 2263) ، قال الهيثمي (3/12) : رواه الطبراني في الأوسط والكبير والبزار، وفيه عثمان بن عطاء الخراساني، وهو ضعيف. والقضاعي (1/172، رقم 250) ، والخطيب (5/67) ، والديلمي (2/219، رقم 56) . وأورده الذهبي في الميزان (6/231 ترجمة 7849) ، ووافقه الحافظ في اللسان (5/247 ترجمة 854 محمد بن عبد الرحمن بن طلحة) ، وقالا: قال ابن عدي: يسرق الحديث. جميعا عن ابن عباس. وأخرجه الخطيب (7/291) ، وابن عدي (2/278، ترجمة 442 حميد بن حماد بن أبي الخوار) كلاهما عن ابن عمر.

وأم كلثوم كانت وفاتها في السنة التاسعة من الهجرة. ورقية كانت وفاتها في السنة الثانية من الهجرة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ ببدر، وليس في بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - من له نسل وعقب سوى فاطمة. قاله العراقي في ألفيته: وليس في بناته من أعقبا ... إلا البتول طاب أماً وأباً فائدة أخرى: أفضل بناته - صلى الله عليه وسلم - فاطمة رضي الله عنها بل هي أفضل نساء العالمين كما قدمنا ذلك. ومن فضائلها وخصائصها: أنها لم ترد قط دم حيض ولا دم نفاس حتى لا يفوتها صلاة، ولذلك سميت بالزهراء. قال محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: إن فاطمة طاهرة مطهرة لا تحيض، ولا يرى لها دم في طمث، ولا ولادة وأورد في ذلك حديثين. قال في نزهة المجالس: قالت أسماء: لما ولدت فاطمة ولدها الحسن لم أر لها دماً، فقلت: يا نبي الله لم أر لفاطمة دماً من حيض أو نفاس، فقال: «أما علمتي أن ابنتي فاطمة طاهرة مطهرة» . وفي هذا الحديث فوائد منها: أن فيه دلالة على أنه يستحب لغاسل الميت أن يوضئه كما يتوضأ الحي ثلاثاً ثلاثاً، مع المضمضة والاستنشاق قبل الغسل هذا مذهب الشافعي. وعند أبي حنيفة: يوضئه من غير مضمضة ولا استنشاق، قال: لأن إخراج الماء من فمه متعذر. وعند إمامنا الشافعي يميل رأسه في المضمضة والاستنشاق لئلا يصل الماء إلى باطنه، فإذا فرغ من وضوءه غسل رأسه ثم لحيته، ثم ينتقل إلى الشق الأيمن قبل الأيسر، ففي الحديث دلالة على استحباب غسل الميامن قبل المياسر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لغاسلات ابنته: «إبدأن بميامنها» . وقد ذكر العلماء لغسل الميامن والمياسر كيفيات: أولاها كما قال الجمهور: أن يغسل شقه الأيمن من عنقه وصدره وفخذه وساقه وقدمه، ثم يغسل الأيسر كذلك، ثم يحول إلى جنبه الأيسر فيغسل الأيمن مما يلي القفا والظهر من كتفه إلى قدمه ثم يحوله إلى جنبه الأيمن فيغسل شقه الأيسر ثم يعيد غسل

رأسه ولحيته ووجهه لحصول الغرض بغسلها أولاً، بل يبدأ بصفحة عنقه فما تحتها هذا كله غسلة واحدة. فائدة: يحرم كب الإنسان في حال الغسل على وجهه احتراماً له، بخلاف ما إذا نام الإنسان على وجهه فإنه ليس بحرام بل مكروه. ويستحب للمغسل أن يغسله ثلاثاً، فإن لم تحصل النظافة زاد حتى تحصل، وهذا بخلاف الحي فإنه لا يزاد فيها على الثلاث لأن طهارته محض تعبد، والغسل لميت نظافة فلا بأس بالزيادة. وفي الحديث دلالة أيضاً على أن النساء أحرى بغسيل المرأة من الزوج، ومن رجال المحارم كما أن الرجال أحرى بغسل الرجل من زوجته ومن نساء المحارم. نعم يجوز للزوج عند إمامنا الشافعي إن يغسل زوجته المسلمة أو الذمية لأن حقوق النكاح لا تسقط بالموت، بدليل أنه يرثها، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: «لو مت قبلي فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك» أخرجه النسائي وابن ماجه (¬1) . وقد غسل علي فاطمة الزهراء، لكن في مسند أحمد وغيره: أنها لما احتضرت غسلت نفسها وأوصت أن لا يكشفها أحد فدفنها علي بغسلها ذلك. وللزوجة أيضاً أن تغسل زوجها بالإجماع ولقول عائشة: «أيم الله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه» رواه أبو داود والحاكم وصححه على شرط مسلم (¬2) . ولو طلق زوجته ومات أحدهما ليس للآخر أن يغسله حتى لو كان الطلاق رجعياً وإن حصل الموت في العدة، لتحريم النظر. ولو غسل أحد الزوجين الآخر لف على يده خرقة ولا يمس، فإن غسل من غير ¬

(¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (4/252، رقم 7079) ، وابن ماجه (1/470، رقم 1465) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/25) : هذا إسناد رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً: البيهقي (3/396، رقم 6451) ، وابن حبان (14/551، رقم 6586) . (¬2) أخرجه أبو داود (3/196، رقم 3141) ، والحاكم (3/61، رقم 4398) ، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه (1/470، رقم 1464) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/25) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

حائل انتقض وضوء الغاسل، وأما وضوء المغسول فلا ينتقض. سؤال: فإن قيل: لأي شيء ينتقض وضوء الملموس الحي كما ينتقض وضوء اللامس بخلاف الملموس الميت؟ جوابه: أن الميت غير مكلف فلا ينتقض وضوءه بخلاف الحي فافترقا. فائدة أخرى: يجوز للسيد أن يغسل أمته، ولو كانت مدبرة وأم ولد ومكاتبة، لأنهن مملوكات له، إلا إن كانت أمته مزوجة أو معتدة أو مستبرأة أو مشركة أو مبعضة بتحريم بعضها عليه. وأما الأمة فليس لها إذا مات سيدها أن تغسله لانتقال ملكه عنها. فائدة أخرى: يجوز لرجال المحارم أن يغسلوا المرأة مع وجود النساء، كأن يغسل الرجل ابنته أو أخته أو نحوها، ويجوز لنساء المحارم أن يغسلوا الرجل مع وجود الرجال، كأن تغسل الأم ولدها وإن وجد رجل. وقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الثاني: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن» أي: كان - صلى الله عليه وسلم - يستحسن البدآة باليمنى في تنعله أي: في لبسه النعل، وترجله أي: في تمشيطه الشعر. «وطهوره» : بضم الطاء أي: في تطهيره، فيه دليل على استحباب تقديم اليمنى على اليسرى في اليدين والرجلين، فلو غسل يده اليسرى قبل اليمين أو رجله اليسرى قبل اليمين صح وضوءه بالإجماع كما قاله المنذري، ولكن ارتكب المكروه فقد روي ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتعاطى أحدنا شيئاً بشماله» (¬1) . ولم يقل أحد بوجوب تقديم اليمنى على اليسرى إلا الشيعة، وما نقله الرضى الشيعي عن الشافعي في القديم من وجوب تقديم اليمنى على اليسرى فهو كما قال ابن الملقن: غريب. سؤال: ما السر والحكمة في جعل الفضل لليمنى ولم يكن لليسار، فكل يمن وبركة مختص باليمين كتناول المأكل والكتاب ودخول الجنة وغير ذلك، وكل ما كان من شقاوة فهو للشمال؟ أجاب عنه في العقائق: بأن نور المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عبر على يد آدم اليمنى فنالت اليمنى ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان بنحوه (12/30، رقم 5226) .

المنى، ووجدت اليمن والبركة إلى الأبد، وبقى هذا الاسم عليها بإرادة الصمد. قال النووي في الأذكار: يستحب أن يبتدئ في لبس النعل والثوب والسراويل وشبهها باليمين، من كميه ورجلي السراويل، وإذا خلعتها يستحب أن يخلع الأيسر قبل الأيمن. وكذلك يستحب الابتداء باليمين في الاكتحال، والسواك، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، ودخول المسجد، والخروج من الخلاء، والوضوء، والغسل، والأكل، والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وأخذ الحاجة من إنسان دفعها إليه وما أشبه ذلك، فكله يفعله باليمنى، وضده باليسار. وقوله: «وفي شأنه كله» معناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب التيمن في جميع أموره. سؤال: فإن قيل: يشكل على قوله وفي شأنه كله دخول الخلاء، والخروج من المسجد، فإن المستحب فيهما ونحوهما البدآة باليسار كما قدمنا أنه فعله - صلى الله عليه وسلم -. جوابه: أنه عام خص منه دخول الخلاء، والخروج من المسجد ونحوهما بالأدلة الخارجية. قال الكرماني: وما من عام إلا وقد خص، والله بكل شيء عليم. سؤال آخر: يشكل أيضاً على قوله: «وفي شأنه كله» الخدان والكفان والأذنان، فإنه لا يستحب فيها التيامن ولا التياسر، بل من السنة فيها غسل الكفين معاً، وغسل الخدين معاً ومسح الأذنين معاً إلا إذا كان أقطع اليد أو به علة تمنعه من ذلك، فإنه يستحب له التيامن حينئذ. جوابه: أن هذه خارجة بالدليل فهو مخصوصة من عموم الحديث. فائدة: دلت محبته - صلى الله عليه وسلم - التيامن في شأنه كله أن اليمين أشرف من اليسار، ويدل عليه أيضاً أن السعيد في الدار الآخرة هو الذي يتناول كتابه بيمينه. قال القرطبي: أول من يتناول كتابه بيمينه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد ذكر أبو بكر أحمد بن علي الخطيب عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس» فقيل له: فأين أبو بكر يا رسول الله؟ قال: «هيهات زفته الملائكة إلى الجنات» (¬1) . ¬

(¬1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (11/202) . وأخرجه أيضاً: أبو جعفر الطبري في الرياض النضرة (1/332) ، والديلمي (1/17، رقم 16) . وانظر تفسير القرطبي (18/269) .

وروي الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: ?يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ? [الإسراء: 71] قال: «يدعي أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد في جسمه ستون ذراعاً ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم، ويقول لهم: أبشروا فإن لكل مسلم مثل هذا. قال: وأما الكافر فيسوء وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعاً على صورة آدم، فيلبس تاجاً من نار، فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللهم لا تأتنا به قال: فيأتيهم، فيقولون: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (¬1) . قال العلماء: إذا تناول العبد كتابه بيمينه يوم القيامة يعلم أنه من أهل الجنة، فيقول للناس اقرؤوا كتابيه. قال تعالى: ?فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ? [الحاقة: 19] وذلك حين يؤذن الله تعالى بقراءة كتابه، فإذا كان الرجل رأساً في الخير يدعو إليه ويأمر به، فيكثر تبعه عليه، ودعي باسمه واسم أبيه، فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات، فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيصفر لونه ويخف من ذلك، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه سيئاتك وقد غفرت لك فيفرح عند ذلك فرحاً شديداً، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحاً حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه حسنات قد ضوعفت لك، فيفرح فيبيض وجهه، ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه ويكسى حلتين، ويحلي كل مفصل منه ويطول ستون ذراعاً وهي قامة آدم - عليه السلام - ويقال له: انطلق إلى أصحابك وبشرهم وأخبرهم: أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فإذا أدبر قال: ?هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ? [الحاقة: 19، 20] . قال الله تعالى: ?فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ? [الحاقة: 21، 22] ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (5/302 رقم 3136) وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضا: أبو نعيم في الحلية (9/15) ، وأبو يعلى (11/3، رقم 6144) ، وابن حبان (16/346، رقم 7349) عن أبي هريرة.

قطوفها وثمارها وعناقيدها دانية أدنيت، فيقول لأصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون: لقد غمرتك كرامة الله تعالى من أنت؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان ليبشر كل رجل منكم بمثل هذا. ?كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ? [الحاقة: 24] أي: ما قدمتم في أيام الدنيا. وإذا كان الرجل رأساً في الشر يدعو إلية ويأمر به فيكثر تبعه عليه، ونودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود، في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرؤها ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه الحسنات ردت إليك فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير، ثم ينقلب كتابه فيقرأ سيئاته، فلا يزداد إلا حزناً ولا يزداد وجهه إلا سواداً، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه السيئات قد ضوعفت عليك أي: يضاعف عليه العذاب وتزرق عيناه، ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فينطلق وهو يقول: ?يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ? [الحاقة: 25، 26، 27] يعني: الموت ?مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ? [الحاقة: 28، 29] أي: هلكت عن حجتي. قال الله تعالى: ?خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ? [الحاقة: 30، 31، 32] . قال الحسن: الله اعلم بأي ذراع هذه السبعون. واختلف في معنى «فاسلكوه» : فقيل: تدخل من فمه حتى تخرج من دبره. وقيل: بالعكس. وقيل: يدخل عنقه فيها، ثم يجر بها جراً، ولو أن حلقه وضعت على جبل لذاب، فينادي أصحابه فيقول: هل تعرفوني؟ فيقولون: لا، ولكن قد نرى ما بك من الخزي العظيم، فمن أنت؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان لكل إنسان منكم مثل هذه. واختلف في معنى: ?وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ? [الإنشقاق: 10] . فقيل: معناه أنه يخلع كتفه الأيسر فتجعل يده خلفة فيأخذ كتابه.

وقيل: يحول وجهه في موضع قفاه فيقرأ كتابه كذلك. فائدة أخرى: هل يتناول كل أحد من المؤمنين كتابه بيمينه يوم القيامة؟ وهل ذلك مخصوص بالناجين من النار؟ حكى النووي والقاضي عياض في المسألة قولان: أحدهما: أن جميع المؤمنين من الأمم يأخذون كتبهم بإيمانهم، ثم يعذب الله من يشاء من عصاتهم. والثاني: إنما يأخذ بيمينه الناجون من النار خاصة وقد ورد في فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قسم الخلائق قسمين وجعلني من خير القسمين، فذلك قوله: ?وَأَصْحَابُ اليَمِينِ? [الواقعة: 27] ثم جعل القسمين ثلاثاً، فجعلني من خيرها ثلاثاً وذلك قوله: ?أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ? [البلد: 18] ، ?وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ? [الواقعة: 9] ، ?وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ? [الواقعة: 10] ، فأنا من السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني من خير قبيلة فذلك قوله تعالى: ?وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13] ، أنا أتقي ولد آدم، وأكرمهم ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله تعالى: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً? [الأحزاب: 33] » (¬1) . إخواني كأنكم بهاذم الذات قد هجم، ونقلك إلى بيت الديوان والظلم، وفرق من شمل من الأحباب ما انتظم، وقد ندم المفرط حيث لا ينفع الندم، على الأعمال في الأيام الخالية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية، أما تحذر من بوعيده حذرك، أما تستحي ممن وجدك وصورك، كأني بك والله وقد نسيك الحبيب وأفردك، وإلى ضيق قبرك أوردك، وعادت قلوب حزنت عليك سالية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية. ولقد أحسن من قال: واحسرتي واشقوتي في يوم نشر كتابيه، وأطول حزني إذا أوتيته بشماليه، وإذا سئلت عن الخطأ ماذا يكون جوابيه، وأحر قلبي أن يكون مع القلوب القاسية، كلا ولا قدمت له ولا ليوم حسابيه، بل إنني لشقاوتي وقساوتي ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (3/56، رقم 2674) قال الهيثمي (8/215) : فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وعباية بن ربعي، وكلاهما ضعيف. وأورده ابن أبي حاتم في العلل (2/394، رقم 2693) وقال قال أبي: هذا حديث باطل. وذكره الحكيم (1/330) عن ابن عباس.

وعذابيه، بارزت في الزلات في أيام دهر خالية، من ليس يخفى عنه من قبح المعاصي خافية، استغفر الله العظيم وتبت من أفعاليه، فعسى الله يجود لي بالعفو ثم العافية. فائدة: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق، واختلف العلماء فيهما هل هما واجبان في الوضوء والغسل أو سنتان؟ فقال الشافعي ومالك: هما سنتان في الوضوء والغسل. وقال أبو حنيفة: هما فرضان في الطهارة الكبرى، سنتان في الصغرى. وقال أحمد: هما واجبان فيهما. وأقل المضمضة والاستنشاق جعل الماء في فمه وأنفه، ولا يشترط مجة ولا إدارته في الفم، وتسن فيهما المبالغة في غير حق الصائم، وأما الصائم فتكره المبالغة، والمبالغة في المضمضة أن يوصل الماء إلى أقصى الحنك، مع إمرار الأصابع على ذلك، والمبالغة في الاستنشاق أن يصعد الماء بالنفس إلى الخيشوم مع إدخال إصبع يده اليسرى وإزاله ما فيه من الأذى. والحكمة في تقديم المضمضة والاستنشاق على فروض الوضوء: ليعلم المتوضئ أوصاف الماء هل تغيرت أم لا، فيعلم الطعم بالمضمضة والرائحة بالاستنشاق. ولا بد في تحصيل سنه الاستنشاق من تقديم المضمضة عليه، فلو استنشق قبل أن يمضمض لا يثاب على سنته الاستنشاق. والحكمة في تقديم المضمضة على الاستنشاق كما قاله عز الدين بن عبد السلام: أن منافع الفم أنفع من منافع الأنف، فإنه مدخل الطعام والشراب اللذين هما قوام الحياة، وهو محل الأذكار الواجبة والمندوبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك. وللمضمضة والاستنشاق أربع كيفيات: أفضلها كما قاله النووي: أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق بثلاث غرف، يتمضمض بكل غرفة ثم يستنشق. ومنها: تخليل اللحية الكثة من الرجل، وهي التي ترى بشرتها في مجلس التخاطب، فيجب غسل ظاهرها وباطنها. ومنها: استيعاب الرأس بالمسح خروجاً من خلاف من أوجه، فلو مسح بعض الرأس وكمل الباقي على العمامة، وحصل له سنة مسح جميع الرأس، أما لو اقتصر على مسح العمامة من غير أن يمسح على الرأس شيئاً، فلا يكفي.

ومنها: مسح الأذنين ظاهرها وباطنها بماء جديد، ويستحب أن يأخذ لصماخيه ماء جديد. وأيضاً منها: تخليل أصابع اليدين بالتشبيك، وتخليل أصابع الرجلين، وتحصل سنه تخليلها بأي وجه كان، ولكن الأفضل أن يخللها بخنصر يده اليسرى. فائدة: ينبغي أن يتوضأ المتوضئ للوسخ الذي بين أصابع رجليه، فإن كان حاصلاً من تراب ونحوه فلا بد من إزالته، لأنه يشترط لصحة الوضوء أن لا يقترن بمانع، والتراب ونحوه مانع، أما إذا كان الوسخ من عرق فليس بمانع. ومنها: الموالاة وهي: التتابع بحيث لا يحصل بين العضوين تفرق، والضابط في ذلك: تطهير العضو بحيث لا يحصل قبله قبل شروعه فيه مع اعتدال الهواء، ومزاج الشخص. وعند الإمام مالك: الموالاة واجبه، وعند الإمام أحمد في الروايتين. ومنها: ترك النفض لأنه كالمتبرئ من العباءة. ومنها: أن يقول بعد التسمية: الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً. ومنها: أن يستصحب النية في جميع أفعال الوضوء، وأن يجمع فيها بين القلب واللسان. ومنها: أن يتعهد الموقين بالسبابتين، وأن يحرك الخاتم، وأن يبدأ في الوجه بأعلاه، وفي الرأس بمقدمته، وفي الرجل بأطراف الأصابع إن صب على نفسه، وإن صب عليه أحد غيرة بدأ بالمرفق والكعب. ومنها: أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وأن لا يسرف ولا يتكلم في أثناءه لغير حاجة، أما الحاجة فقد يجب الكلام، وأن لا يلطم وجهه بالماء، ولا يتوضأ في موضع يرجع رشاش الماء. ومنها: أن يمر يده على الأعضاء. ومنها: أن يقول بعد الفراغ وهو مستقبل القبلة رافعا طرفه إلى السماء: أشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. فقد ورد أنه: «من قال هذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها

شاء» (¬1) . وأما الدعوات على الأعضاء: كقوله عند السواك: اللهم بيض به أسناني وشد به لثاتي وبارك فيه يا أرحم الراحمين. وعند المضمضة: اللهم اسقني من حوض نبيك كأساً لا أظمأ بعده. وعند الاستنشاق: اللهم لا تحرمني رائحة نعيمك وجناتك. وعند الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وعند اليمنى: اللهم اعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً. وعند اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري. وعند الرأس: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وعند الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام. فقد قال النووي: لا أصل لها يعني لم يرد فيها حديث صحيح فهو دعاء حسن، فلا ينبغي تركة لاشتماله على مهمات كتبييض الوجه، وتناول الكتاب باليمين، وتثبيت الأقدام على الصراط وغير ذلك. قال: وإذا أتى به الإنسان فلا يعتقد أنه سنه، بل دعاء حسن يتبرك به. وقال النووي: وإن لم يكن له أصل فلا بأس به، فإنه دعاء حسن. وأما مسح الرقبة فقد قال الرافعي تبعاً للغزالي: إنه سنة. واستدل الرافعي على ذلك في الشرح الكبير بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مسح الرقبة أمان من الغسل» (¬2) . لكن قال النووي: والصواب أنه ليس بسنه، لأنه لم يثبت فيه شيء. قال: ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدموا الأصحاب. قال: وأما الحديث فهو موضوع والله تعالى أعلم. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/209، رقم 234) ، وأبو داود (1/43، رقم 169) والنسائي (1/92، رقم 148) ، وابن ماجه (1/145، رقم 419) ، وأحمد (4/145، رقم 17352) ، وابن خزيمة (1/110، رقم 222) ، وابن حبان (3/325، رقم 1050) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/280، رقم 3334) ، وفي شعب الإيمان (3/20، رقم 2753) عن عمر. (¬2) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/272) : قال النووي: موضوع.

وأما تنشيف الوجه بمنديل ونحو فالسنة تركه، لأنه يزيل أثر العبادة، لأن هذا الماء الذي تطهر به نور يضيء يوم القيامة كما ورد، فلا ينبغي إزالته، لكن لا تكره إزالته، وإنما يستحب ترك التنشيف إذا لم يكن به غرض في إزالته، أما إذا كان لغرض وخشي من الهواء أن يلصق به النجاسة، أو كان يتيمم عقب الوضوء، فإنه يستحب التنشيف بل يتأكد استحبابه كما قال الأذرعي. وإذا نشفها فالأولى أن لا يكون بذيله وطرف ثوبه، فقد ذكر الشيخ برهان الدين الناجي رحمه الله في كتابه عقائد العبان: إن مما يورث الفقر ويمنع الرزق تجفيف الوجه بالثوب. ويدل على عدم كراهه التنشيف ما قيل: أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - منديل يمسح به وجهه من الوضوء (¬1) . وقيل: كانت له خرقة يتنشف بها. فائدة: قيل: كان عند أنس منديل إذا اتسخ ألقاه في النار فيتنظف، ويقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح به وجهه، والنار لا تأكل شيئاً مر على وجوه الأنبياء. وأما قراءة سورة إنا أنزلناه عقب الوضوء فقد صرح علماء الحنفية في كتبهم أنها مستحبة، وقالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها. وأورد أبو الليث من الحنفية في فضل قراءتها حديثين: أحدهما: روي عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قرأ سورة إنا أنزلناه في ليلة القدر على أثر الوضوء مرة واحدة، أعطاه الله تعالى ثواب خمسين سنه صيام نهارها وقيام ليلها، ومن قرأها مرتين أعطاه الله تعالى ما أعطاه الخليل والكليم والحبيب والرفيع، ومن قرأها ثلاث مرات يفتح الله تعالى له ثمانية أبواب الجنة فيدخلها من أي باب شاء بلا حساب ولا عذاب» . الحديث الثاني: روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قرأ إنا أنزلناه في ليله القدر على أثر الوضوء مرة واحدة كتب من الصديقين، ومن قرأها مرتين كتب من الشهداء والصالحين، ومن قرأها ثلاث مرات يحشره الله يوم القيامة في محشر الأنبياء» (¬2) . ¬

(¬1) قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (1/144) : أخرجه النسائي في الكنى بسند صحيح. (¬2) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/355) : لا أصل له.

فائدة في آداب الوضوء الباطنة: في نزهه الناظرين: اعلم أنك إذا أردت أن تتوضأ فإنك تريد زيارة ربك - عز وجل -، فينبغي لك أن تتوب من ذنوبك، لأن الله تعالى جعل الغسل بالماء علامة للغسل من الذنوب، فأبدأ بتسمية الله تعالى. فإذا تمضمضت وطهرت فمك بالماء فطهر لسانك من الكذب والغيبة والنميمة، فإن اللسان خلق لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، ولترشيد خلق الله إلى طريقة، وتطهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك، فإذا استعملته في غير ما خلق له فقد كفرت بنعمة الله فيه، فإن جوارحك نعمه من الله عليك، والاستعانة بنعم الله على معصيتة غاية الكفران. وإذا استنشقت بالماء وأزلت ما في فتوحك من الأذى فطهرها من أن تشم محرماً كطيب مغصوب، وطبيب النساء الأجنبيات والحسان فإنه حرام كما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» (¬1) . وإذا طهرت وجهك بالماء فطهر نظرك من ثلاث: أن تنظر إلى محرم، وإلى معلم بعين الاحتقار، وإلى عيب مسلم، فإنما خلقت العينان لتهتدي بهما في الظلمات، وتستعين بهما في الحاجات، وتنظر بهما في عجائب ملكوت الأرض والسماوات، وتعتبر بما فيها من الآيات، ولم يخلق نظرك لتنظر به إلى محرم أو إلى مسلم بعين الاحتقار، ولا إلى عيب مسلم. ولله در إمامنا الشافعي حيث يقول: إذا شئت أن تحيى سليما من الأذى ... وعرضك محفوظ ودينك صين لسانك لا تذكر به سوءة امرئ ... ففيك لسان وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك معايباً ... فقل يا عيني للناس أعين وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ... ولا تلق إلا بالتي هي أحسن وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصرة ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1/328، رقم 444) ، وأبو داود (4/79، رقم 4175) ، والنسائي (8/190، رقم 5263) ، وأحمد (2/304، رقم 8022) ، وأبو عوانة (1/360، رقم 1300) ، والبيهقي (3/133، رقم 5157) عن أبي هريرة.

عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه» (¬1) . قال الإمام الغزالي: فعليك وفقك الله وإيانا بحفظ العين فإنها سبب كل فتنة وآفة، فقد ذكر عن عيسى صلوات الله عليه وسلم: «إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفي لصاحبها فتنه» ولقد أحسن من قال: وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك النواظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضة أنت صابر فإن لم تغمض عينيك وأرخيت عنانه بنظرك إلى ما لا يعنيك، فلا يخلو إما أن تقع عينك على حرام، فإن تعمدت فذنب فكبيرة، وربما تعلق قلبك بذلك فتهلك إن لم يرحم الله - عز وجل -، وإن كان مباحاً فربما يشتغل قلبك به، فجاءك الوسواس والخواطر بسببة، ولعلك لا تصل إليه فتبقى مشغول القلب، منقطعاً عن الخير، وقد كنت مستريحاً من ذلك كله. وإذا طهرت يديك بالماء فطهرها من أن تضرب بهما مسلماً، وأن تتناول بهما مالاً حراماً، وتكتب بهما مما لا يجوز النطق به، فإن القلم أحد اللسانين كما قدمنا ذلك، فاحفظه عما يجب حفظ اللسان منه. وإذا رفعته رأسك بالماء فاعلم أنك إنما تفعل ذلك امتثالاً لأوامر الله تعالى، فإن العبادات كلها لها معان، فإن الشرع لا يأمر بعبث وقد يفهمه المكلف وقد لا يفهمه المكلف. وإذا مسحت أذنيك بالماء فطهرها من الإصغاء إلى بدعه أو غيبة أو خوض في باطل، فإنهما لم يخلقا إلا لتسمع بهما كلام الله تعالى وسنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحكمة أوليائه، فعليك بصيانة سمعك عن الخنا والفضول، فإن المستمع شريك المتكلم كما قال بعضهم: تحرمن الطرق أواسطها ... وعد عن الجانب المشبته وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن اللفظ به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه. ¬

(¬1) ذكره الحكيم (3/181) عن علي.

وإذا طهرت رجليك بالماء فطهرها عن المشي إلى حرام، والسعي بهما إلى أبواب الظلمه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد يخطو خطوة إلا يسال عنها، ماذا أراد بهما» (¬1) . وقال: «العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناهما البطش، والرجل زناهما الخطا» (¬2) . * * * ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/376) عن ابن مسعود. (¬2) أخرجه مسلم (4/2047، رقم 2657) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/365، رقم 5428) عن أبي هريرة.

§1/1