شرح الاقتصاد في الاعتقاد - الراجحي

عبد العزيز الراجحي

[1]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [1] للعلم فضل عظيم في ميزان الإله الكريم، وفي مقياس الشرع القويم، فالعلماء ورثة الأنبياء، وسادة الأولياء، وأنجب النجباء، وأصفى الأصفياء. وطلب العلم الشرعي له منزلة عظيمة، وقد حث عليه الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، لاسيما العلم الذي يرتقي بصاحبه في معارج الإيمان بالله والتصديق الكامل به جل في علاه، ومن ذلك علم العقيدة الذي يعتبر من أهم العلوم التي يجب على المسلم دراستها.

الحث على طلب العلم وبيان فضله

الحث على طلب العلم وبيان فضله بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). فطلب العلم وحضور مجالس العلم فيه فضل عظيم، وأجر كبير. وإن طلب العلم بحسن إخلاص النية لا يعدله شيء، فهو من أفضل القربات، وأجل الطاعات، والعلم: هو ميراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. ولقد بين الله تعالى فضل العلم، وأهل العلم والعلماء، فقال سبحانه في كتابه العظيم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وقال سبحانه: {َ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وقرن سبحانه وتعالى شهادة أهل العلم بشهادته وشهادة ملائكته على أعظم مشهود به، وهي الشهادة له سبحانه وتعالى بالوحدانية، فقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. ومجالس الذكر وطلب العلم أفضل من نوافل العبادة، فهي أفضل من نوافل الصلاة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، فطلب العلم مقدم على نوافل العبادات؛ وما ذاك إلا لأنه بطلب العلم وحضور مجالسه يتعلم الإنسان دينه، ويتبصر ويتفقه في دينه، ويعلم الحلال والحرام، ويعلم ما يجب لله تعالى، وما يصف الله به نفسه من الأسماء والصفات، ويعلم حق الله سبحانه وتعالى، فيعبده على بصيرة ولهذا ثبت في الصحيحين: من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). قال العلماء: هذا الحديث له منطوق، وله مفهوم؛ فمنطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيراً. ومفهومه: أن من لم يفقه الله في الدين لم يرد به خيراً. فينبغي على المسلم أن يحرص على حضور مجالس وحلقات العلم والدروس العلمية، وأن يكون صاحب نية حسنة خالصة لله؛ لأن طلب العلم عبادة من أفضل القربات وأجل الطاعات، والعبادة لا بد فيها من شرطين، ولا تقبل إلا بهما: الشرط الأول: أن تكون خالصة لله، مراداً بها وجه الله والدار الآخرة. والشرط الثاني: أن تكون موافقة لشرع الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فينبغي لطالب العلم أن يحرص على مجالس العلم، وعلى الدروس العلمية، وأن يرتبط بها، وأن ينتهز الفرصة ما دامت هذه المجالس والحلقات موجودة، وأهل العلم موجودون، فقد يأتي وقت لا تتيسر له هذه المجالس، وقد يفقدها، فعلى طالب العلم أن يجتهد وأن يحرص، وأن يخلص نيته لله، وأن يكون قصده أن يتفقه ويتبصر في دين الله، وأن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يعلم، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]. وقيل للإمام أحمد رحمه الله: كيف ينوي طالب العلم؟ قال: ينوي أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره. فالأصل في الإنسان أنه لا يعرف، فيتعلم ويتبصر، فيرفع الجهل عن نفسه ويعبد ربه على بصيرة، ثم يرفع الجهل عن غيره، بأن يعلم غيره ما تعلَّم. والأدلة والنصوص في فضل العلم وطلب العلم كثيرة ومشهورة ومعلومة.

أهل العلم هم أهل الصراط المستقيم

أهل العلم هم أهل الصراط المستقيم وأهل العلم والبصيرة هم أهل الصراط المستقيم، الذين أنعم الله عليهم، والذين منَّ الله عليهم بالعلم والعمل؛ فإن أهل الصراط المستقيم هم أهل الهداية والتقوى، وأهل الفلاح والبر، وهم الذين نسأل الله في كل ركعة من ركعات الصلاة في سورة الفاتحة أن يهدينا طريقهم، عندما نسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل. وأنت في كل ركعة في قراءة الفاتحة تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، الذين من الله عليهم بالعلم والعمل، وتسأل الله أن يجنبك طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين. والمغضوب عليهم: هم الذين يعلمون ولا يعملون بعلمهم، ولكن لا يعملون بعلمهم، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً اليهود، فاليهود يعلمون ولا يعملون، وتسأل الله أن يجنبك طريق الضالين: وهم الذين يعبدون الله على جهل وضلال، ولديهم عمل، ولكن ليس لديهم علم ولا بصيرة، كالنصارى وأشباههم من الصوفية والزهاد الذين يتخبطون في دياجير الظلمات، وليس عندهم بصيرة. إذاً: فهما داءان، من سلم منهما فقد سلم. داء الغواية، وداء الضلال. فأما داء الغواية: فهو عدم العمل بما يعلمه الإنسان. وداء الضلال: هو أن يتعبد الله على جهل وضلال، وقد برأ الله نبيه الكريم من هذين الداءين، فقال سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2]. فأقسم سبحانه بالنجم؛ وله أن يقسم بما شاء من خلقه سبحانه وتعالى؛ أن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس ضالاً ولا غاوياً، بل هو راشد عليه الصلاة والسلام. وعلى طالب العلم أن يعتني بالدروس العلمية والإصغاء والانتباه وحسن النية، وكذلك ينبغي له أن يسأل عما أشكل عليه، وأن يكون سؤاله سؤال استرشاد واستفهام وتعلم، لا سؤال تعنت ورياء، ولا يكون هدفه أن يظهر أنه يعلم، أو يقصد من سؤاله إعنات المسئول وإيقاعه في الحرج، أو السؤال عن الأشياء التي لا تقع، أو يكثر من الأسئلة، وتشقيق المسائل التي لا حاجة إليها، بل يسأل سؤال استرشاد واستفهام، يقصد به العلم والفائدة، ولا يقصد الرياء، ولا إعنات المسئول، ولا يسأل عن الألغاز والأشياء المشكلة، والتي لم تقع، أو نادرة الوقوع، فهكذا ينبغي أن يكون طالب العلم.

ترجمة الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي

ترجمة الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي هو الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسين بن جعفر المقدسي، نسبة إلى بيت المقدس، الجمّاعيلي نسبة إلى بلدة جمّاعيل، وهي قرية من أرض فلسطين، تابعة لبيت المقدس. ويسمى أيضاً: الدمشقي؛ لأنه انتقل إلى دمشق، والصالحي؛ لأنه سكن في قرية الصالحية في جبل طاسيون في دمشق. وكان من علماء القرن السادس الهجري، وكانت ولادته سنة (541) أو (542) أو (543) أو (544) من الهجرة على خلاف في ذلك، وكانت وفاته سنة (600) من الهجرة. والحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله له باع طويل في الحديث وعلوم الحديث، وهو صاحب كتاب عمدة الأحكام؛ المعروف والمنتشر بين أيدي الطلاب، المرتب في الحديث على أبواب الفقه، وهو سلفي المعتقد رحمه الله. وقد عاصر الموفق محمد بن قدامة صاحب المغني، وهو ابن خالته، عاصره تأخر عنه ست سنوات، أو ثمان سنوات، أو عشر سنوات، وأخذ عنه. وعاصر كذلك الضياء المقدسي صاحب المختارة، وأخذ عنه، وله شيوخ كثيرون، وتلاميذ كثيرون. والحافظ رحمه الله كانت له عناية كبيرة بالحديث وعلومه، وأما ابن خالته محمد بن قدامة المقدسي فقد كانت عنايته بالفقه أكثر، فقد ألف كتاب المغني، وهو من أوسع كتب الفقه، وهو أعلى كتاب فيه مقارنة بين المذاهب الأربعة، حيث أنه يذكر أقوال المذاهب الأربعة وأدلتها.

وسطية أهل السنة بين الفرق

وسطية أهل السنة بين الفرق وللحافظ عبد الغني المقدسي رسالة تسمى: عقيدة الحافظ عبد الغني، أو تسمى: الاقتصاد في الاعتقاد، وسماها هو: الاقتصاد. ومعنى الاقتصاد: كون الشيء وسطاً، والقصد هو: الوسط، والقصد من ذلك: بيان المذهب الوسط في العقيدة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن مذهب السلف وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، فما من شيء إلا وله طرفان ووسط، فالطرفان هما: مجاوزة الحد والغلو، أو التقصير، فإما جفاء وتفريط وإما إفراط، فهذان طرفان مذمومان. وكلا طرفي قصد الأمور مذموم، والوسط هو الحق، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فمذهب أهل السنة والجماعة وسط بين مذاهب أهل البدع والفرق. فمثلاً: مذهب أهل السنة والجماعة وسط في القدر بين مذهبي الجبرية والقدرية، فالجبرية: غلوا في إثبات أفعال الرب، ونفوا أفعال العبد، وقالوا: إن العبد ليس له أفعال، والرب سبحانه هو الفاعل، وأن أفعال العباد هي أفعال الله، والعبادة وعاء للأعمال، فالله هو المصلي والصائم عندهم، والعباد كأنهم وعاء، كالكأس الذي يصب فيه الماء، فالعباد عندهم كئوس، والله صباب الماء فيها، فلم يثبتوا للعبد اختيار ولا قدرة، بل سلبوا قدرته واختياره. وقابلهم القدرية فقالوا: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، سواء كان خيراً أو شراً، طاعة أو معصية، وإن الله لم يخلق أفعال العباد. وأما أهل السنة فوسط بين هؤلاء وهؤلاء، فأثبتوا أفعال العباد، وأثبتوا الاختيار للعباد كما دلت النصوص على ذلك، ولكن المشيئة والاختيار تابع لمشيئة الله عز وجل، فالله خلق العباد، وخلق أفعالهم وقدراتهم، والعباد لهم قدرة واختيار، فهم الذين يصلون ويصومون، وهم الذين يقومون ويقعدون، ويفعلون ذلك باختيارهم. وأهل السنة وسط كذلك في باب الإيمان بين المرجئة والخوارج الوعيدية الذين يقولون: إن العبد يكفر إذا فعل المعصية، وإذا فعل الكبيرة، فالزاني عندهم كافر، وكذلك السارق وشارب الخمر. والمرجئة يقولون: إن العبد إذا عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، ولا يضره شيء، فلو فعل جميع الكبائر والمنكرات فلا يضره، وما دام عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، ولا يكفر إلا إذا جهل ربه بقلبه. ولا تضره المعاصي والكبائر، ولو فعل جميع الكبائر؛ لأنه عرف ربه، ويدخل الجنة من أول وهلة وهذان المذهبان باطلان. وأما أهل السنة فوسط بين هؤلاء وهؤلاء، فقالوا: إن العبد لا يكفر بفعل المعصية، بل يكون ناقص وضعيف الإيمان إذا لم يستحل الكبيرة، والمعاصي تضر الإيمان وتنقصه وتضعفه إلا أنها لا تقضي عليه، فلا يقضي على الإيمان إلا الكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو النفاق الأكبر. والمؤلف رحمه الله في هذه الرسالة ذكر كثيراً من الموضوعات العقدية والمسائل العقدية والصفات، فقد بحث جميع الصفات أو أغلب الصفات في هذه الرسالة: فبحث صفة الاستواء، وصفة العلو، وصفة الوجه، وصفة النزول، وصفة اليدين، وصفة المحبة، وصفة المشيئة والإرادة، وصفة الضحك، وصفة الفرح، وصفة العجب، وصفة البغض، وصفة السخط، وصفة الكره، وصفة الرضا، والنفس والرؤية والكلام، والقول في القرآن، وكلام الله عز وجل، وبحث القضاء والقدر والإسراء والمعراج، ورؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، ورؤية المؤمنين لربهم، والشفاعة والحوض، وعذاب القبر ونعيمه، والجنة والنار، والميزان، وأركان الإيمان، والاستثناء في الإيمان، وحقيقة الإيمان والإسلام، والإيمان بخروج الدجال، ونزول عيسى وقتله الدجال، والإيمان بملك الموت، وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم، والمفاضلة بين الخلفاء الراشدين، والشهادة لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وفضل الاتباع. كل هذه المسائل وهذه المباحث العقدية بحثها المؤلف رحمه الله في هذه العقيدة التي تسمى: عقيدة الحافظ عبد الغني، أو الاقتصاد في الاعتقاد، والآن نبدأ في الرسالة.

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم. رب يسر وأعين. والحمد لله وحده، حسبنا الله ونعم الله الوكيل. قال الشيخ الإمام العالم الزاهد الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور الحنبلي المقدسي رحمه الله تعالى: [الحمد لله المتفرد بالكمال والبقاء، والعز والكبرياء، الموصوف بالصفات والأسماء، المنزه عن الأشباه والنظراء، الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء، من السعادة والشقاء، واستوى على عرشه فوق السماء، وصلى الله على الهادي إلى المحجة البيضاء والشريعة الغراء، محمد سيد المرسلين والأنبياء، وعلى آله وصحبه الطاهرين الأتقياء، صلاة دائمة إلى يوم اللقاء].

الكلام حول البسملة

الكلام حول البسملة هذه خطبة المؤلف رحمه الله، افتتحها بالبسملة والحمد لله اقتداء بالكتاب العزيز، والله تعالى افتتح كتابه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2]، والبسملة الصواب أنها آية منفصلة في أول كل سورة، وليست من السور، لا من الفاتحة ولا من غيرها. والفاتحة سبع آيات، أولها {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، والآية السادسة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، والسابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، فهذه سبع آيات بدون البسملة على الصحيح من أقوال أهل العلم. ويدل على ذلك نصوص منها، الحديث القدسي: أن الرب سبحانه وتعالى قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) فالمراد بالصلاة هنا الفاتحة؛ لأن الفاتحة لها أسماء، ومن أسمائها الصلاة، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، فقول الرب سبحانه: إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، دل على أن أول آية في السورة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2]، ولم يقل إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم، فدل على أن أول آية: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)). فالمؤلف افتتح كتابه بالبسملة، (باسم الله)، يعني: أستعين باسم الله، والباء للاستعانة، و (الله) لفظ الجلالة لا يسمى به غيره، وهو أعرف المعارف، و (الله) أصلها الإله، ثم حذفت الهمزة، فاجتمعت اللامان، وأدغمت إحداهما في الأخرى. والله هو: المألوه فإله بمعنى: مألوه، وهو المعبود التي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً وخوفاً ورجاء. و (الرحمن) اسم من أسماء الله، لا يسمى به غيره، المشتمل على الرحمة، أي: ذو الرحمة. و (الرحيم) اسم آخر، فالرحمن لا يسمى به غيره، والرحيم مشترك يطلق على الله وعلى غيره. قال تعالى عن نبيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فوصف نبيه بأنه رحيم. فأسماء الله نوعان: منها ما هو خاص به، لا يسمى به غيره، مثل: الله، والرحمن، وخالق الخلق، مالك الملك، النافع الضار، المحيي المميت، المعطي المانع. ومنها ما هو مشترك، مثل: العزيز والعليم والسميع والبصير والحي والرحيم وغير ذلك. فمعنى البسملة: أستعين بالله الرحمن المتصف بالرحمة. وكل اسم من أسماء الله مشتق، فليست أسماء الله جامدة، بل هي مشتقة، مشتملة على الصفات. فالرحمن مشتمل على صفة الرحمة، والعليم مشتمل على صفة العلم، والقدير مشتمل على صفة القدرة، والحكيم مشتمل على صفة الحكمة وهكذا، بخلاف الصفات مثل صفة الغضب وصفة الرضا، فلا يشتق له أسماء منها. وأسماء الله وصفاته توقيفية فلا يقال: إن من أسمائه الراضي؛ لأن الله اتصف بالرضى ولا يقال إن من أسمائه الغاضب؛ لأنه يغضب، ولكن الأسماء مشتملة على الصفات. قال: (والحمد لله وحده)، قد يقال: إن قوله: (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ)، رب اغفر وأعن يا كريم، والحمد لله وحده، حسبنا الله ونعم الوكيل، يعني: الله كافينا، ونعم الوكيل المتوكل عليه سبحانه، قد يكون هذا ليس من قول المؤلف. ولهذا قال بعد ذلك: (قال الشيخ الإمام العالم الزاهد الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور الحنبلي المقدسي). فقوله: حنبلي يعني: حنبلي المذهب، وقد يكون مقلداً، وقد يكون مجتهداً، مثل: شيخ الإسلام وابن القيم ويسمى كل منهما حنبلياً؛ لأنهما ينتسبان إلى مذهب الحنابلة؛ ولأنهما وافقا الإمام أحمد في الأصول، وليس معنى ذلك: أنهما مقلدان، وإنما وافقوه في الأصول. وقوله: (المقدسي): نسبة إلى بيت المقدس، رحمه الله تعالى.

الكلام على الحمد والمدح، وبيان الفرق بينهما

الكلام على الحمد والمدح، وبيان الفرق بينهما (الحمد لله) الحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، وهو أكمل من المدح، فالمدح: هو أن تذكر صفات الممدوح، وقد تكون هذه الصفات اختيارية، وقد تكون خلقية، ليست اختيارية، والحمد إنما يكون بذكر صفات المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، فالإخبار عن المحمود بالصفات الاختيارية، مع حبه وإجلاله وتعظيمه هذا هو الحمد، وأما المدح فلا يلزم منه الحب، بل تذكر صفات الإنسان وقد لا تكون هذه الصفات اختيارية، فمثلاً عندما تذكر أوصاف الأسد تقول: إنه قوي. فهذا مدح للأسد، ولكن ليس فيه محبة، ولا يلزم من ذلك المحبة، فلا يسمى حمداً، فلا تقول: أحمدُ الأسد، وإنما تقول: أمدح الأسد فالحمد أكمل؛ لأن الحمد هو الإخبار عن المحمود أو ذكر صفاته الاختيارية والثناء عليه بها مع حبه وإجلاله، ولهذا جاء الحمد من صفات الله عز وجل، وجاء الحمد في حق الرب سبحانه وتعالى، فقال: (الحمد لله)، ولم يقل أمدح الله؛ لأنه أكمل. و (ال) للاستغراق، يعني: جميع أنواع المحامد مستغرقة لله ملكاً واستحقاقاً. (الحمد لله)، الله: علم على الرب سبحانه وتعالى، وهو أعرف المعارف، يعني: المألوه الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً.

الكلام على بقية ألفاظ مقدمة المؤلف

الكلام على بقية ألفاظ مقدمة المؤلف (المتفرد بالكمال والبقاء)، يعني: سبحانه هو الذي تفرد بالكمال، وبصفات الكمال. وأما المخلوق فإنه وإن اتصف ببعض الصفات إلا أنها ليست صفات كمال على الإطلاق، بل إن الكمال الذي فيها هو كمال نسبي، يليق بالمخلوق وبالبشر، فأما صفات الكمال على الإطلاق فلا يستحقه إلا الرب سبحانه وتعالى، فهو الذي تفرد بالكمال، وتفرد بالبقاء، وهو الباقي سبحانه وتعالى، وهو الحي القيوم الذي لا يموت، وأما المخلوق فإنه ليس له البقاء إلا بإبقاء الله له. (وهو المتفرد بالكمال والبقاء والعز)، أي: العز الكامل، وأما المخلوق فإن عزه عز نسبي بإعزاز الله له. (وتفرد بالكبرياء) سبحانه وتعالى، وأما المخلوق فليس له أن يتكبر، فإذا تكبر فهو مذموم، فالكبر للمخلوق من الصفات الذميمة ومن الكبائر، وقد يكون كفراً، كما إنه إذا تكبر عن عبادة الله، فلم يعبد الله فإن هذا الكبر يخرج من الملة، وقد يكون كبراً دون ذلك فيكون من الكبائر، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)، هذا إذا كان هذا الكبر على التوحيد فهو مخلد في النار، وأما إن كان دون التوحيد فهذا من باب الوعيد ومن الكبائر. (وهو الموصوف بالصفات والأسماء). يعني: الموصوف بالصفات والأسماء التي وصف بها نفسه وسمى بها نفسه في كتابه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأسماء والصفات توقيفية، فليس للعباد أن يسموا الله بأسماء من عند أنفسهم، أو يصفوه بصفات من عند أنفسهم، ولا يخترعون لله أسماءً أو صفات، بل الأسماء والصفات توقيفية، يوقف فيها عند النصوص. (المنزه عن الأشباه والنظراء)، والنظير هو: المثيل، فالله ليس له مثيل ولا شبيه، بل هو سبحانه وتعالى لا أحد يماثله في صفاته لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى. فليس له مثيل ولا شبيه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أسمائه، ولا في أفعاله سبحانه وتعالى. (الذي سبق علمه في بريته بمحكم القضاء)، أي: الذي سبق علمه في المخلوق، (في بريته)، يعني: مخلوقاته والبرية هي: المخلوقات. يعني: قد سبق علم الله بما يكون في المخلوقات، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء). والعلم ثابت بالكتاب قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]. وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. (سبق علمه في بريته بمحكم القضاء من السعادة والشقاء)، يعني: أن الله تعالى سبق علمه وكتب الشقاوة والسعادة، فعلم ذلك، وكتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. (واستوى على عرشه فوق السماء)، يعني: استوى استواءً يليق بجلاله وعظمته، ومعنى (استوى): استقر وعلا وصعد وارتفع فوق عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، فبين المؤلف رحمه الله في خطبته أنه يسير على وفق معتقد أهل السنة والجماعة، وعلى ما دلت عليه النصوص، فأثبت الاستواء، وأهل البدع يحرفون ويؤلون استوى بالاستيلاء. (وصلى الله على الهادي إلى المحجة البيضاء والشريعة الغراء، محمد صلى الله عليه وسلم)، (صلى الله): صلاة الله على عبده، وأحسن أو أصح ما قيل في تعريف صلاة الله على عبده أنها: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، فأنت تسأل الله أن يثني على عبده في الملأ الأعلى. (وصلى الله على الهادي)، وهذا وصف للرسول، والهادي أي: هداية دلالة وإرشاد؛ لأن الهداية هدايتان: هداية دلالة وإرشاد، وهذه يملكها النبي صلى الله عليه وسلم، ويملكها الدعاة والمصلحون، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. وهداية التوفيق والتسديد، وخلق الهداية في القلوب، وجعل الإنسان يقبل الحق ويرضاه، وهذه لا يملكها إلا الله. ولا يملكها النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره. قال الله تعالى لنبيه لما عجز عن هداية عمه أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، يعني: إنك لا توفق ولا تستطيع أن توفِّق، بل الذي يوفق هو الله، وهو الذي يخلق الهداية في القلوب. (وصلى الله على الهادي إلى المحجة البيضاء والشريعة الغراء)، المحجة: يعني: الجادة والطريق، (البيضاء): وهي محجة الإسلام وطريق الإسلام، والصراط المستقيم، (والشريعة الغراء)، يعني: البيضاء الناصعة، وهي ما بعث بها عليه الصلاة والسلام، من الشريعة السهلة السمحة في العقيدة والعمل والخلق. (محمد)، هذا اسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام، وسمي محمداً: لكثرة المحامد. وله أسماء كثيرة عليه الصلاة والسلام، مثل: محمد وأحمد والحاشر والمقفي والعاقب، أي: الذي يحشر الناس على عقبه، وله أسماء كثيرة عليه الصلاة والسلام. (محمد سيد المرسلين)، سيدهم: يعني: له السؤدد والإمامة، فهو مقدمهم وإمامهم عليه الصلاة والسلام، وهو سيد المرسلين والأنبياء. (وعلى آله)، المراد بالآل، قيل: أهل بيته، يعني: المؤمنين به منهم، مثل: عمه العباس وعمه حمزة وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فكلهم من أهل بيته. وقيل: المراد بآله: أتباعه على دينه إلى يوم القيامة ويدخل في ذلك أهل بيته، ويدخل في ذلك أزواجه، فإن أزواجه من أهل بيته. (وصحبه)، جمع صاحب، وهو: كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ولو لحظة، ومات على الإسلام، وكل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم يشمل العميان مثل: عبد الله بن أم مكتوم، فإنه لقيه، ولا يقال: كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ابن أم مكتوم رضي الله عنه صحابي، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم لكن لقيه، فكل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ولو للحظة ثم مات على الإسلام فهو صحابي، ولو كان صغيراً أو صبياً. (وعلى آله وصحبه)، وإذا فسر الآل: بأتباعه على دينه، فيكون الدعاء بالصلاة للصحابة مرتين، مرة بالعموم ومرة بالخصوص. (وعلى آله): أي: أتباعه على دينه، ويدخل في ذلك الصحابة وأزواجه وأهل بيته، ثم قال: (وصحبه) وهذا تخصيص بعد تعميم. (الطاهرين)، أي: الذين طهرهم الله من الشرك، والإصرار على الكبائر. (الأتقياء)، جمع تقي، والتقي: هو الذي آمن بالله، وأدى الواجبات، وترك المحرمات. (صلاة دائمة)، يعني: مستمرة. (إلى يوم اللقاء)، وهو يوم الدين، الذي يلقى فيه كل مؤمن ربه، ويقف بين يديه للحساب.

اتفاق الأمة على الإيمان بالله

اتفاق الأمة على الإيمان بالله قال المؤلف رحمه الله: [اعلم - وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل - أن صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل، وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شيبه له ولا نظير، ولا عدل ولا مثل، وأنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة التي نطق بها كتابه العزيز، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. وصح بها النقل عن نبيه وخيرته من خلقه محمد سيد البشر، الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، وأقام الملة وأوضح المحجة، وأكمل الدين، وقمع الكافرين، ولم يدع لملحد مجالاً ولا لقائل مقالاً]. بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله الخطبة والثناء على الله عز وجل والصلاة على نبيه وأتباعه، قال المؤلف رحمه الله: (اعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل). فاعلم: أمر بالعلم، والعلم: هو حكم الذهن الجازم، يعني: تيقن، بخلاف الشك والشك هو ما يشك فيه الإنسان بين أمرين، فإذا كان أحد الأمرين راجحاً سمي ظناً، فالراجح يسمى ظناً، والمرجوح يسمى وهماً، وإذا استوى الأمران سمي شكاً، وإذا كان عنده جزم يسمى يقيناً وعلماً، فالمعلومات أربعة: علم، وظن، وشك، ووهم. فالعلم: هو ما يجزم وما يتيقن فيه الإنسان، فهو علم الذهن الجازم. والظن: هو الراجح من أحد الأمرين اللذين يشك فيهما، والوهم: هو المرجوح من أحد الأمرين، والشك: هو أن يتساوى الأمران. فالمؤلف رحمه الله يقول: لا تشك ولا تظن ولا تتوهم بل تيقن من غير شك ولا ظن ولا وهم، ثم جاء بالجملة الاعتراضية، هي دعاء لطالب العلم، وهذا من نصحه رحمه الله، فمن نصحه لطالب العلم أن يعلمه ويدعو له. قال: (وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل)، فهذا تعليم ودعاء، وهذا من نصحه، كما قال الشيخ الإمام المفتي المجدد محمد بن عبد الوهاب في كثير من رسائله: اعلم أرشدك الله لطاعته، اعلم رحمك الله، فهؤلاء الأئمة وهؤلاء العلماء أنصح الناس للناس، فالأنبياء هم أنصح الناس للناس، والعلماء هم ورثة الأنبياء، فمن نُصح العلماء أنهم يعلِّمون ويدعون. فهو يعلمك ويقول: اعلم، ويدعو لك بقوله: (وفقنا الله وإياك)، ونسأل الله أن يوفق، وهو سأل الله التوفيق له ولك يا طالب العلم! لما يرضيه من القول والعمل والنية، فنسأل الله أن يوفقنا، يعني: يجعلنا موفقين مسددين، قابلين للحق مختارين له، راضين به، والحق هو الذي يرضي الله من القول، مثل: النطق بكلمة التوحيد، والشهادتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وتلاوة القرآن، والتسبيح والتهليل والتكبير وغير ذلك. (والعمل): كالصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، (والنية): الاعتقاد الصحيح بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر. (وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل)، هذه استعاذة بالله لنفسه ولطالب العلم، فقد استعاذ بالله قائلاً: أعاذنا وإياكم من الزيغ. و (الزيغ): هو الانحراف عن الحق في الاعتقاد، كأن يعتقد اعتقاداً باطلاً سيئاً، كاعتقاد المشركين، أو اعتقاد اليهود، أو اعتقاد النصارى، أو اعتقاد أهل البدع، أو اعتقاد الفلاسفة الضالين، أو الجهمية، أو الباطنية، أو الصوفية المنحرفين، أو المعتزلة، أو الأشاعرة، فكل هذا زيغ، فاستعاذ بالله من الزيغ لنفسه ولك يا طالب العلم. (والزلل) وهو نوع من الانحراف، وهو الزلل عن الحق، يعني: تخطي الحق، وتجاوز الحق، وعدم إصابة الحق. وقوله: (وفقنا الله وإياكم لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياكم من الزيغ والزلل)، جملة اعتراضية للدعاء، أراد بها المؤلف أن يدعو لطالب العلم. (اعلم أن صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة، اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل)، والمراد بصالح السلف: الصحابة، والتابعون، (وخيار الخلف): وهم من تبعهم وسار على نهجهم من الأئمة والعلماء وأهل السنة والجماعة، وسادة الأمة، يعني: مقدمو الأئمة في الدين، فهو يقول: اعلم أن صالح السلف المتقدمين من الصحابة والتابعين، وخيار الخلف ومن تبعهم، ومقدم الأئمة وسائر علماء الأمة، كلهم اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى واجب الوجود بذاته، وأنه موجود فوق العرش، وأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه المعبود بالحق، وأن غيره معبود بالباطل. اتفق على هذا السلف والخلف والأئمة والعلماء. وكذلك اتفقوا على الإيمان بصفاته وبأفعاله، والإيمان بربوبيته وألوهيته، وأنه المعبود بالحق. ويدخل في الإيمان بالله عز وجل قوله: (وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم سميع بصير)، فكل هذا داخل في الإيمان بالله. فهو (أحد) يعني: واحد سبحانه وتعالى، لا نظير له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، (وفرد) وهو مثل أحد بمعناه، إلا أن فرداً لم ترد في النصوص، والذي ورد في النصوص أحد وصمد، وهذا من باب الخبر عن الله، ولا نعلم أن كلمة فرد من أسماء الله، ولكن من أسماء الله الأحد والصمد، والأحد كافية عن الفرد، ولكن زادها من باب الخبر. (الصمد) هو: السيد الذي كمل في سؤدده، والذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، فهو كامل في نفسه، وهو سيد في نفسه، ولا يحتاج إلى غيره، وهو القائم بنفسه، المقيم لغيره سبحانه وتعالى. ومن تفسير الصمد: هو الذي لا جوف له. يعني: لا يأكل ولا يشرب. والملائكة صُمد لا يأكلون ولا يشربون، والله أولى بذلك من المخلوقين. فهو الصمد الذي لا يحتاج إلى أحد، قائم بنفسه، مقيم لغيره، كمل سؤدده، وصمدت إليه الخلائق في حوائجها، حي حياة كاملة أبدية لم يسبقها عدم، ولا يطرأ عليه ضعف ولا نوم ولا نعاس، بل حياته حياة كاملة مستمرة باقية أبد الآباد. (قيوم): وهذا من أسمائه سبحانه وتعالى، أي: القائم بنفسه، المقيم لغيره، والحي القيوم: وصفان عظيمان، واسمان عظيمان ترجع إليهما جميع الأسماء والصفات، حتى قيل: إنه الاسم الأعظم، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، (سميع)، وهو من أسمائه سبحانه وتعالى، (بصير) قال سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فسميع: متصف بالسمع، فهو يسمع الأصوات ويدركها، ولا يخفى عليه شيء، وهو بصير يرى كل شيء، وهو سميع بسمع، وبصير ببصر، لا شريك له، وليس له شريك في أسمائه، ولا شريك له في صفاته، ولا شريك له في أفعاله، ولا شريك له في ألوهيته وعبوديته وعبادته، ولا شريك له في ملكه. (ولا وزير)، والوزير هو: المعين، فليس له معين يعينه بخلاف المخلوق الضعيف، وملوك الدنيا لا يستغنوا عن الوزراء لكي يعينونهم ويساعدونهم، وأما الرب تعالى فلا يحتاج إلى وزير ولا يحتاج إلى أحد، بل هو كامل سبحانه وتعالى، بخلاف المخلوق الضعيف الذي يحتاج إلى الولد، ويحتاج إلى الزوجة لإعانته، ويحتاج إلى الوزير، ويحتاج إلى الأمير، ويحتاج إلى خادم. (ولا شبيه له)، أي: لا أحد يشبهه، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، (ولا نظير) أي: ليس له نظير ولا مماثل ولا عدل، وكلها بمعنى: المثيل فليس له مماثل ولا مشابه، ولا نظراء ولا عدلاء ولا أمثال، بل هو سبحانه وتعالى لا يماثله أحد من خلقه، ولا يعدل به أحد من خلقه. (وأنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة التي نطق بها كتابه العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] وصح بها النقل عن نبيه)، يعني: هو موصوف سبحانه بصفاته التي وصف بها نفسه في كتابه، أو وصفه بها رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصفات والأسماء توقيفية، فليس للعباد أن يخترعوا لله أسماءً وصفات من عند أنفسهم، ولهذا قال: (موصوف بصفاته القديمة التي نطلق بها كتابه، وصح بها النقل عن نبيه وخيرته من خلقه محمد سيد البشر عليه الصلاة والسلام، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، وهذا وصفه عليه الصلاة والسلام، فهو بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، (وأقام الملة)، وهي: الدين، (وأوضح المحجة)، وهي: الطريق، (وأكمل الدين)، يعني: أكمل الله به الدين، ولو قال المؤلف: وأكمل الله به الدين لكان أحسن؛ لأن الذي يكمل الدين هو الله، وليس النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، ومقصود المؤلف بأكمل الدين يعني: أكمل الله به الدين. (وقمع الكافرين)، يعني: قمع الله به الكافرين، فإن الذي قمع هو الله، فقمع الله الكافرين برسالته. (ولم يدع لملحد مجالاً)، والملحد هو: المنحرف، الذي انحرف عن الصواب. والإلحاد أقسام: فقد يكون إلحاد كفر؛ كالذي ألحد في توحيد الله، وفي أسمائه وصفاته، فهذا إلحاد يخرجه عن ملة الإسلام. وقد يكون إلحاداً دون الكفر، كالإلحاد بالمعاصي وبالبدع، وكالإلحاد في نفي بعض الصفات وبعض الأسماء. (فلم يدع عليه الصلاة والسلام لملحد مجالاً، ولا لقائل مقالاً)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بلغ الرسالة، ونصح الأمة، وأقام الملة، وأوضح المحجة، وكمل به الدين، ولم يترك لملحد مجالا، ولا لقائل مقالاً؛ لأن الشريعة كملت، وهي واضحة ليس فيها لبس، فلا مجال لملحد ولا مجال لقائل، يريد أن يزيد في هذا الدين أو ينقص منه، أو يحرف أو يئول.

الكلام على أثر طارق بن شهاب

الكلام على أثر طارق بن شهاب قال المؤلف رحمه الله: [فروى طارق بن شهاب قال: جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر يهود نزلت نعلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فقال: إني لأعلم اليوم الذي نزلت والمكان، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في عرفة عشية جمعة]. وهذا الأثر رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وفيه بيان كمال هذا الدين، وهذا الأثر رواه طارق بن شهاب: أن يهودياً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال عمر: أي آية؟ قال له: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، ويا لها من آية عظيمة، فيها بيان أن الدين قد كمل، وأن الله قد أتم النعمة على هذه الأمة، وأنه رضي لهم الإسلام ديناً. فهذا الدين كامل لا يحتاج إلى أن يزيد فيه أحد أو ينقص منه أحد، وهو محفوظ أيضاً بحفظ الله له، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وفيه رد على الرافضة الذين يقولون: إن القرآن ضاع ثلثيه ولم يبق إلا الثلث، وهذا تكذيب لله، ومن كذب الله فقد كفر، والله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، بعض الرافضة يقولون: إن القرآن لم يحفظ، ولم يبق منه إلا الثلث، حتى ألف بعض شيوخهم كتاباً سماه: فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، وأثبت فيه أن القرآن محرف، فنعوذ بالله وهذا مصادم لقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، ولقوله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالآية صريحة قاطعة، فمن قال: إن القرآن محرف فقد كذّب الله، ومن كذّب الله فقد كفر، فالقرآن محفوظ بحفظ الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، يعني: الدين كامل لا يحتاج إلى أن يزاد فيه أو ينقص منه، {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، فقد أتم الله النعمة، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فرضي الله لنا هذا الدين، وهذه الآية هي من آخر ما نزل من سورة المائدة. ولما أكمل الله هذا الدين وأتم نعمه قبض نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لانتهاء مهمته إلى الدنيا، وأنزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. فقال عمر رضي الله عنه: إني لأعلم اليوم الذي نزلت والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليوم الذي نزلت فيه يوم عرفة وهو يوم الجمعة، والمكان في عرفة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بما يقارب ثمانين يوماً فنزلت في يوم الجمعة وهو يوم عيد، ويوم الحج الأكبر، ويوم عرفة، فقد نزلت في يوم عظيم، وهو يوم الحج ويوم عرفة الذي يجتمع الحجاج فيه في صعيد واحد من أقطار الدنيا كلها، وصادف يوم عرفة يوم جمعة في الحجة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نتخذه عيداً، وهو يوم عيد والحمد لله، وهذا يدل على أن اليهود يعلمون الحق، ولكن حملهم البغي والحسد على عدم الإيمان، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، وقال سبحانه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، فحملهم الكبر والبغي على عدم الإيمان، فقد ظنوا أن النبوة ستكون في بني إسرائيل، فلما كانت في بني إسماعيل جحدوا وكفروا، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من زيغ القلوب. والمراد بقوله: (عشية عرفة)، يعني: آخر النهار، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعد الظهر، بعدما صلى الظهر، وهي عشية عظيمة مباركة.

[2]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [2] اتفق صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة على الإيمان بما جاء في كتاب الله العزيز، وما ورد على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك: إثبات صفة الاستواء لله عز وجل، وأنه مستوٍ على عرشه كما جاء ذلك في سبعة مواضع من القرآن الكريم، وكما دلت على ذلك السنة النبوية المشرفة، وكما فهمه سلف الأمة الصالح.

تابع بيان اتفاق الأمة على الإيمان بالله وحده

تابع بيان اتفاق الأمة على الإيمان بالله وحده قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فآمنوا بما قال الله سبحانه في كتابه، وصح عن نبيه، وأمرّوه كما ورد من غير تعرض لكيفية، أو اعتقاد شبهة أو مثلية، أو تأويل يؤدي إلى التعطيل، ووسعتهم السنة المحمدية والطريقة المرضية، ولم يتعدوها إلى البدعة المرزية الردية، فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية]. قول المؤلف: (فآمنوا)، يشير إلى صالح السلف وخيار الخلف، وسادة الأئمة وعلماء الأمة فهو يقول: إن صالح السلف وخيار الخلف، وسادة الأئمة وعلماء الأمة اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل، ثم قال: فآمنوا، فالضمبر يعود إليهم. (فآمنوا بما قال الله سبحانه في كتابه وصح عن نبيه)، يعني: آمنوا بما جاء في كتابه العزيز، وبما صح في السنة المطهرة، (وأمروه كما ورد)، يعني: في النصوص، والمراد: نصوص الصفات أمروها كما وردت، من غير تعرض للكيفية، وإلا فالأحكام فهم يعلمونها ويفسرونها ويئولونها على تأويلها الذي دلت عليه النصوص. (من غير تعرض لكيفية)، فالاستواء والنزول، والعلم والقدرة، والسمع والبصر يمرونها كما جاءت، فيثبتون المعنى، ولا يتعرضون للكيفية. (أو اعتقاد شبهة أو مثلية)، يعني: لا يقولون: إن استواء الله كيفيته كذا، أو أن يشبه كذا، أو أنه مثل كذا، فلا يتعرضون للكيفية ولا التشبيه ولا المثلية. (أو تأويل يؤدي إلى تعطيل)، كذلك لا يئولون، مثل: أن يقولوا إن استوى بمعنى: استولى؛ لأن هذا التأويل يؤدي إلى تعطيل الصفة ونفيها. فهم لا يئولون ولا يكيفون، ولا يشبهون ولا يمثلون، ولا يحرفون، حتى لا يؤدي هذا إلى تعطيل الصفة ونفيها. (ووسعتهم السنة المحمدية)، يعني: اكتفوا بالسنة المحمدية الذي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. (والطريقة المرضية)، وهي: الطريقة التي رضيها الله لعباده، ورضيها الصحابة، ولم يتعدوها إلى البدعة، ولم يتجاوزا السنة إلى البدعة، والبدعة: هي كل حدث في الدين، فكل محدث في الدين هو بدعة، قال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، متفق على صحته. وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). (فلم يتجاوزا السنة إلى البدعة المرزية الردية)، يعني: التي تردي صاحبها، فهي ردية في نفسها وتردي صاحبها، وتوصله إلى الردى. (فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية)، يعني: أن الصحابة والتابعون والأئمة والعلماء عندما آمنوا بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكيفوا الصفات ولم يئولوها ولم يبتدعوا ولم يتجاوزوها إلى البدعة حازوا بذلك الرتبة السنية أي: الشريفة، والمنزلة العلية أي: العالية، حيث حازوا رضا الله عز وجل، وما أعد لهم وأثابهم من الثواب العظيم، ورفع درجاتهم ومنزلتهم في الجنة. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. ثم إن المؤلف بدأ يتكلم عن الصفات، وبدأ بصفة الاستواء، وهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، وساق النصوص في هذا.

صفة الاستواء

صفة الاستواء قال الإمام الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد: [فمن صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ونطق بها كتابه، وأخبر بها نبيه: أنه متسوٍ على عرشه كما أخبر عن نفسه].

الأدلة على الاستواء من الكتاب والسنة

الأدلة على الاستواء من الكتاب والسنة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال عز من قائل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]. وقال في سورة يونس عليه السلام: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3]. وقال في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2]. وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59]. وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4]. وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]. فهذه سبعة مواضع أخبر الله فيها سبحانه أنه على العرش. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش)]. بدأ المؤلف رحمه الله الكلام في الصفات عن الكلام على صفة الاستواء على العرش، وذكر بعدها صفة العلو، وصفة الاستواء على العرش من الصفات التي تدل على علو الله أو التي تثبت علو الله عز وجل على خلقه، وصفتي العلو والاستواء كلاهما تدلان على علو الله عز وجل، وتدلان على إثبات علو الله عز وجل، ولكن صفة الاستواء تدل على علو خاص، وهو العلو على العرش، وصفة العلو تدل على إثبات علو الله على خلقه، وإن كان كل من الصفتين فيهما إثبات علو الله على خلقه، إلا أن بينهما فرقاً، فصفة الاستواء إنما دل عليها النص، ودل عليها النقل، ولم يدل عليها العقل، فلولا أن الله أخبرنا في كتابه أنه استوى على العرش لما علمنا ذلك، بخلاف صفة العلو فإنه دل عليها العقل والنقل والفطرة، فصفة علو الله على خلقه: ثابتة بالعقل وثابتة بالنقل أي: بالنصوص، وثابتة بالفطرة. وهما من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع. وصفة العلو وصفة الكلام وصفة الرؤية هذه الصفات الثلاث من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع، فتجد الجهمية والمعتزلة والأشاعرة لا يثبتون هذه الصفات، والأشاعرة يثبتون الرؤية، لكن على غير وجهها، ويثبتون الكلام على غير وجهه، فيقولون: هو معنى نفسي، ليس بحرف ولا صوت، ويثبتون الرؤية ولكن في غير جهة، فهم لم يثبتوا صفة الرؤية على حقيقتها. وأما العلو فإنهم ينفونه، فتبين بهذا أن هذه الصفات من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع. وصفة الاستواء تدل على العلو، فتثبت علو الله عز وجل، إلا أن الاستواء على العرش إنما هو علو خاص على العرش. وصفة العلو كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، تدل على إطلاق صفة العلو على جميع المخلوقات، وأما الاستواء على العرش فهو علو خاص يفعله سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته.

أدلة القرآن على إثبات صفة الاستواء

أدلة القرآن على إثبات صفة الاستواء وصفة الاستواء على العرش دلت عليها النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما الكتاب العزيز فإن الله تعالى أثبت صفة الاستواء في سبعة مواضع من كتاب الله عز وجل سردها المؤلف رحمه الله، وكلها جاءت بلفظ الاستواء وجاءت كلها بحرف (على) الذي يدل على العلو الارتفاع، في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة الرعد، وفي سورة طه، وفي سورة الفرقان، وفي سورة السجدة، وفي سورة الحج، سبعة مواضع، كلها دلت على ثبوت صفة الاستواء، أما في سورة الأعراف فقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، فاستوى تعدى بـ (على)، التي تدل على العلو والارتفاع. وفي سورة يونس قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3]. وفي سورة الرعد قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2]. وفي سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] (على). وفي سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]. وفي سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4]. وفي سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]. فهي سبعة مواضع لا ثامن لها في القرآن العظيم، وكلها جاءت بلفظ (على)، الذي يدل على العلو والارتفاع؛ لأن الاستواء له معان متعددة. الأول: أن يأتي متعدياً بـ (إلى)، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11]، فدل ذلك على العلو. وأحياناً يتعدى بـ (الواو) التي تفيد المعية، كقوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:28]. ومثل: استوى الماء والخشبة. وأحياناً يتعدى بلفظ (على) الذي يدل على العلو والارتفاع. ونصوص الاستواء جاءت كلها في السبعة المواضع بلفظ استوى، وبلفظ (على) الذي يدل على العلو والارتفاع كقوله سبحانه: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]. وكلها صريحة على علو الرب على خلقه، وعلوه على العرش، والعرش هو سقف المخلوقات، وليس فوقه شيء، فالمخلوقات تنتهي من جهة العلو للعرش، والله تعالى فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات. ولهذا فإن نصوص الاستواء السبعة كلها من أدلة علو الله على خلقه؛ لأن نصوص أدلة علو الرب على خلقه كثيرة، أفرادها تزيد على ثلاثة آلاف دليل، وكلها تدل على علو الله على خلقه، ولكنها أنواع، ومن أنواعها الاستواء، فهو نوع من أدلة العلو. ومع ذلك أنكرها أهل البدع، مع كونها صريحة وكثيرة، وقالوا: إنه ليس فوق المخلوقات، وسلكوا أحد مسلكين: المسلك الأول: قالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات، وهو مع المخلوقات، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وقالوا: إن أدلة المعية تبطل الفوقية وتناقضها، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، فقالوا: إن نصوص المعية هذه تناقض الفوقية وتبطلها، فقالوا: بالاختلاط، وقالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات، تعالى الله عما يقولون، حتى قالوا: إن الله في كل مكان. نعوذ بالله. ولم ينزهوه عن الأماكن القذرة، تعالى الله عما يقولون، حتى قالوا: إنه في بطون السباع، وفي أجواف الطيور، وفي كل مكان. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. والمسلك الثاني: الذين أنكروا نصوص العلو والاستواء، وقالوا: بنفي النقيضين عن الله، فقالوا: بالنفي المحض، وقالوا: إن الله لا يكون مع المخلوقات، لا فوق المخلوقات، ولا مع المخلوقات، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايد له، ولا متصل به، ولا منفصل عنه، فيكون عدماً، بل أشد من العدم، فيكون ممتنعاً مستحيلاً، والمستحيل أشد من العدم.

أدلة السنة على إثبات صفة الاستواء

أدلة السنة على إثبات صفة الاستواء استدل المؤلف رحمه الله على إثبات الاستواء من الكتاب العزيز بسبع آيات، واستدل من السنة بنصوص منها: عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش) متفق عليه. وقوله: (إن رحمتي سبقت غضبي) هذا من كلام الله لفظاً ومعنى، فهذا الحديث قدسي؛ لأن الحديث منسوب إلى قدسية الله، ومنسوب إلى الله، فهو من كلام الله لفظاً ومعنى، والقرآن هو من كلام الله لفظاً ومعنى إلا أن القرآن له أحكام تختلف، فكلام الله يتفاضل بعضه على بعض؛ ولهذا كانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن. والقرآن له أحكام منها: أنه لا يمسه إلا متوضئ، ومنها أنه يتعبد بتلاوته، ومنها أنه معجز بألفاظه، والحديث القدسي ليس كذلك وإن كان من كلام الله، أما الحديث غير القدسي فهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لفظاً ومن الله معنى، قال تعالى عن نبيه الكريم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده فوق العرش). والشاهد قوله: (فهو عنده فوق العرش) وفي هذا إثبات الفوقية. وقوله: (فهو عنده فوق العرش) صريح في إثبات الفوقية، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه وغيرهما. ووجه الدلالة من الحديث إثبات العند، فهو عنده فوق العرش، ففيه إثبات الفوقية. والحديث يدل على صفة الرحمة أيضاً، لقوله: (إن رحمتي)، وصفة الغضب، وصفة الكتابة كما في قوله: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق)، فدل هذا الحديث على أربع صفات وهي: صفة الكتابة، والرحمة، والغضب، والفوقية. والنصوص الكثيرة دلت على أن العرش أعلى المخلوقات، وأنه ليس فوقه شيء، والله فوق العرش، وفي هذا الحديث أن هذا الكتاب فوق العرش والجمع بينهما بأن يقال: هذا الكتاب مستثنى، فهو فوق العرش.

الفروق بين الاستواء والعلو

الفروق بين الاستواء والعلو والفرق بين صفة الاستواء وصفة العلو من وجهين: الوجه الأول: أن صفة الاستواء من الصفات الفعلية، وهي فعل يفعله الله سبحانه، وكان الاستواء بعد خلق السماوات والأرض، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، فالله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، ثم استوى على العرش. والاستواء من الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة والاختيار مثل الغضب والرضا والنزول، فهذه الصفات تتعلق بالمشيئة والاختيار، فمتى شاء نزل، ومتى شاء غضب، وكذلك الاستواء، فقد كان في وقت مستوياً على العرش، وفي وقت ليس مستوياً عليه، فقبل خلق السماوات والأرض لم يكن مستوياً على العرش ثم استوى على العرش. أما العلو فمن الصفات الذاتية التي لا ينفك عنها الباري سبحانه وتعالى، فلا يقال: في وقت كان عالياً وفي وقت ليس عالياً، بل هو في جميع الأوقات عالٍ على جميع المخلوقات ومنها العرش. إذاً: الاستواء صفة أخرى، وهي فعل يفعله، وهو علو خاص على العرش، والله أعلم بكيفيته، أما صفة العلو فهو عام مطلق ولا ينفك عن الباري، فهو عال على جميع المخلوقات ومنها العرش، أما الاستواء فهو علو خاص على العرش. الوجه الثاني: أن العلو دل عليه العقل والنقل والفطرة، وأما الاستواء فدل عليه النقل فقط، فلولا أن الله أخبرنا بالاستواء لما علمنا بذلك، أما العلو فقد دل عليه العقل والفطرة، وقد فطر الله الخلائق على علو الله حتى البهائم فإنها ترفع رأسها إلى السماء.

حديث الأوعال

حديث الأوعال قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سبع سماوات وما بينها ثم قال: (وفوق ذلك بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال ما بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش ما بين أعلاه وأسفله ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة القزويني]. هذا الحديث هو الدليل الثاني من أدلة السنة التي استدل بها المؤلف رحمه الله على علو الله على العرش وعلى جميع المخلوقات، وهو حديث العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سبع سماوات، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء يعني: قدر خمسمائة عام، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال وهم: ملائكة فالملائكة صفة خلقهم على صفة خلق الأوعال يحملون العرش، قال: (وفوق ذلك ثمانية أوعال ما بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء) يعني: ما بين أظلافهن وركبهن كما بين السماء والأرض، والعرش فوق ظهورهن، وما بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، يعني: مسيرة خمسمائة عام، فتكون المسافات كلها من الأرض إلى السماء الدنيا خمسمائة عام وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وجاء في الحديث الآخر: (كثف كل سماء مسيرة خمسمائة عام)، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض خمسمائة عام، ثم فوقه ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن خمسمائة عام، ثم العرش ما بين أعلاه وأسفله خمسمائة عام، فتكون جميع المسافة ما يقارب خمسين ألف عام، وقد أشار إلى هذا ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية، وتكلم على قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، وقال في سورة السجدة: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، والجمع بين الآيتين هو أن العدد الذي ذكر في المعارج يكون في الدنيا، والعدد الذي ذكر في السجدة يكون يوم القيامة، فهذا الحديث فيه بيان هذه المسافات. الشاهد من الحديث قوله: (والله تعالى فوق ذلك)، فالعرش هو سقف المخلوقات فوق ظهور الأوعال والله فوق ذلك، ففيه إثبات العلو. والحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة كما ذكر المؤلف رحمه الله، والحديث سنده فيه ضعف؛ لأنه من رواية سماك عن عبد الله بن عذيرة، ولكن الحديث له شواهد؛ ولهذا حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وابن القيم، وذكره الإمام المصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في آخر كتاب التوحيد، فالحديث حسن بشواهده، والحديث إن كان سنده ضعيفاً لكن له شواهد تقوى بها، فلهذا احتج به شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ الإمام المصلح والمؤلف هنا، وكذلك يحتج به الأئمة في كتب السنة، فقد استدل به أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة في كتاب التوحيد وابن أبي عاصم في كتاب السنة والإمام أحمد في المسند والذهبي في العلو.

أقوال السلف في إثبات صفة الاستواء

أقوال السلف في إثبات صفة الاستواء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ومالك بن أنس في قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر]. (الاستواء غير مجهول) يعني: أنه غير مجهول المعنى في اللغة العربية. (والكيف غير معقول) يعني: كيفية استواء الرب لا تُعقل ولا تُعرف. (والإقرار به إيمان) يعني: أنه يجب على الإنسان أن يقر بأن الله استوى على العرش. والجحود به كفر؛ لأن في ذلك إنكار لكلام الله عز وجل، وهذا الأثر ورد عن أم سلمة رضي الله عنها، وورد عن الإمام مالك بن أنس، وورد عن ربيعة شيخ الإمام مالك، وله ألفاظ، والمشهور منها ما ورد عن الإمام مالك وهو قوله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وثبت أن الإمام مالك رحمه الله كان يحدث في مجلس الحديث فجاءه رجل وهو يحدث فقال: يا مالك! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق الإمام مالك رحمه الله ملياً، حتى علته الرحضاء وجعل يتصبب عرقاً من شدة هذا السؤال عليه، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ما أراك إلا رجل سوء، وأمر به أن يخرج من مجلسه ويبعد. قوله: الاستواء معلوم أي: معناه معلوم في اللغة العربية؛ لأن الله تعالى أمرنا بتدبر القرآن والتفكر في معانيه، ولم يستثنِ آيات الصفات مثل آية الاستواء، قال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. والاستواء معلوم معناه في اللغة العربية، فاستوى بمعنى: علا وارتفع وصعد واستقر، وهذه المعاني الأربعة تدور عليها تفاسير السلف لصفة الاستواء، فالله تعالى مستو على عرشه بهذه المعاني الأربعة كما يليق بجلاله وعظمته. والكيف غير معقول فما نعلم كيف استوى فالكيفية مجهولة لكن نعلم المعنى. والإيمان به واجب؛ لأنه كلام الله، والسؤال عنه بدعة، فلا يُسأل عن الكيفية، وهذه المقالة رويت أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنه ولكن بسند فيه ضعف. وروي هذا عن ربيعة شيخ الإمام مالك، وعن الإمام مالك رحمه الله، وما ينسب عن مالك صحيح، والأمة تلقته بالقبول عن الإمام مالك. وهذا يقال في جميع الصفات وليس خاصاً بالاستواء فقط، فإذا قال قائل: ما معنى النزول؟ أو قال: كيف النزول؟ فنقول: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وإذا قال قائل: الله تعالى يتصف بالعلم، فكيف العلم؟ فنقول: العلم معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وهكذا جميع الصفات. وقد تلقى العلماء هذه المقالة عن الإمام مالك بالقبول، ورواية أم سلمة رضي الله عنها روتها كتب السنة والعقائد، فرواها اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وكذلك استدل بها شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى وغيرها، وقال: هذا الجواب روي عن أم سلمة موقوفاً ومرفوعاً ولكن إسناده مما لا يعتمد عليه، وكذلك رواه الصابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره، لكن سند الرواية عن أم سلمة ضعيف، وكذلك مسند الرواية عن ربيعة شيخ الإمام مالك، أما الرواية عن الإمام مالك فسندها ثابت. وقصد المؤلف رحمه الله من الاستدلال بقول الإمام مالك وأم سلمة أن الأمة تلقت الصفات بالقبول، وأن الصحابة فهموا من نصوص الاستواء علو الله على خلقه، وأن هذا معلوم عند الصحابة، فهم فهموا نصوص الصفات ولهذا فسروها، فـ أم سلمة وربيعة ومالك فسروا هذه الآية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فسروها بالعلو، فقالوا: الاستواء معلوم، يعني معلوم معناه في اللغة العربية، ومعناه: الصعود والعلو والارتفاع والاستقرار. وأما الكيفية فهي مجهولة، وأما الإيمان به فواجب، فيجب الإيمان بالاستواء؛ لأن الله أخبر به.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين كون رسول الله سيد المرسلين وبين حديث (السيد هو الله)

الجمع بين كون رسول الله سيد المرسلين وبين حديث (السيد هو الله) Qكيف التوفيق بين أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد المرسلين، وبين قوله: (السيد هو الله)؟ A لا منافاة بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابة: (أنت سيدنا، قال: السيد الله عز وجل)، يعني: السيد على الإطلاق، فالسيد على الإطلاق هو الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم خاف عليهم من أن يغلوا فيه، فلما قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا، قال: (أيها الناس! قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، أنا عبد الله ورسوله). فقال هذا من باب حماية جناب التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك. فالسيد على الإطلاق هو الله عز وجل، وأما إذا أضيف فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا لسيدكم)، لـ سعد بن معاذ، لما جاء وهو على حمار، قال: (قوموا لسيدكم)، بالإضافة، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد الناس، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر). وهو صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والمرسلين فسيد الناس هو الرسول عليه الصلاة والسلام، والله تعالى هو السيد على الإطلاق. ومخاطبة الشخص بـ (يا سيدي!) لا بأس به، إذا كان سيداً، فإذا كان عبداً فلا بأس أن يقول: سيدي فلان، وجاء في الحديث: (لا يقول أحدكم عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، ولا يقل: سيدي ومولاي). فالسيد بالإضافة لا بأس به، فيقال: سيد بني فلان، إذا كان سيداً مطاعاً فيهم، وأما السيد على الإطلاق فهو الله.

المقصود بالمعطلة

المقصود بالمعطلة Q يطلق العلماء اسم المعطلة كثيراً، فهل تطلق على فرقة معينة، بمعنى: أنها تطلق مثلاً على الجهمية أو الأشاعرة، أو المعتزلة، أو أن هذا لفظ يطلق على كل معطل، وبالتالي لا يخص به جماعة؟ A المعطلة اسم عام لكل من عطل صفات الرب سبحانه وتعالى، والتعطيل أنواع: فقد يكون تعطيلاً كلياً، وهو تعطيل المسموعات من سامعها، وهذا تعطيل المعطلة الذين أنكروا وجود الرب، فقد عطلوا المسموعات من سامعها، فالملاحدة الذين أنكروا وجود الرب من الشيوعيين والدهريين وغيرهم يقال لهم: معطلة، وتعطيلهم تعطيل تام؛ لأنهم عطلوا المخلوقات من خالقها، وعطلوا المصنوعات من صانعها، فقالوا: هذه المخلوقات ليس لها خالق، وهذه المصنوعات ليس لها صانع. النوع الثاني: وهو تعطيل الخالق من صفاته، فالذين نفوا الأسماء والصفات كالجهمية معطلة أيضاً، والذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات أيضاً معطلة، والأشاعرة معطلة؛ لأنهم عطلوا بعض الصفات. فالمعطلة أنواع منهم الكافر، ومنهم المبتدع على حسب التعطيل. فالتعطيل الكامل كالملاحدة الذين عطلوا المخلوقات، فأنكروا وجود الله، وكذلك الجهمية الذين عطلوا الله من أسمائه وصفاته، فهؤلاء ملاحدة أيضاً؛ لأن إنكار الأسماء والصفات إنكار لوجود الرب، إذ ليس هناك شيء موجود إلا بأسماء وصفات، فالذي ليس له اسم وصفة لا وجود له. والمعتزلة معطلة؛ لأنهم عطلوا الرب من صفاته. والأشاعرة معطلة؛ لأنهم عطلوا الله من بعض الصفات، وإن أثبتوا بعض الصفات وأثبتوا الأسماء.

الفرد ليس اسما من أسماء الله

الفرد ليس اسماً من أسماء الله Q هل الفرد اسم من أسماء الله عز وجل؟ A إن الفرد لا أعلم أنه اسم من أسماء الله، وإنما أسماؤه الأحد والصمد، فالأحد كافٍ عن الفرد، وأما الفرد فلا أعلم أنه اسم من أسماء الله.

كل اسم لله يشتق له منه صفة

كل اسم لله يشتق له منه صفة Q اتفقت كل أقوال أهل السنة على أن لكل اسم من أسماء الله صفة تشتق من الاسم، ولكن هذا لا يظهر من اسم الرب، والإله، والله، فهي أسماء لا تشتق منها صفات؟ A الرب سبحانه وتعالى له صفة الربوبية، فيشتق منه صفة الربوبية، والإله هو: المعبود، وهو: المألوه المعبود، فيشتق منه صفة الألوهية، وكل اسم يشتق له منه صفة فالرحمن يشتق منه صفة الرحمة، وكل اسم فهو مشتمل على صفة.

حكم من أنكر صفة من صفات الله

حكم من أنكر صفة من صفات الله Q هل من أنكر صفة من صفات الله نكفره، أم يكتفى بالقول أنه مبتدع فقط مع دخولهم تحت مسمى الإسلام؟ A هذا فيه تفصيل، وهو: أنه إذا أنكر الصفة وجحد الصفة بعد معرفتها مثل أن ينكر: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3]، فينكر الاستواء فهذا يكفر؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، ولأنه كذَّب الله. وأما من أوّل الصفة بشبهة فهذا لا يكفر، فإن الذي يقول: أنا أثبت: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3]، وأُثبت الاستواء، ولكن معناه: استولى، لشبهة حصلت له فهذا لا يكفر؛ لأنه متأول. وأما الذي ينكر الاستواء، فهذا كذَّب الله، ومن كذَّب الله فقد كفر. إذاً: هناك فرق بين الجاحد وبين المتأول. فالجاحد: أنكر، والمنكر يكفر، قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، فمن جحد اسماً من أسماء الله أو صفة من صفاته من غير تأويل فقد كفر، ومن تأولها بشبهة فلا يكفر؛ لأن له شبهة، فيعذر بها.

بيان أن أسماء الله توقيفية

بيان أن أسماء الله توقيفية Q هل نفي الصفات عن الله تعالى كالإثبات ينبغي أن يكون بنص من الكتاب والسنة أم يجوز للمرء أن ينفي عن الله ما شاء من الصفات التي لا ينبغي أن يتصف بها الرب دون التقيد بالنصوص؟ A الأسماء والصفات توقيفية، فلا يسمى الله إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به رسوله، وكذلك الصفات لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله. وأما ما عدا ذلك فينفى عن الله كل صفات النقائص والعيوب على الإجمال، ويثبت له الوصف الكامل قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60]، فتنفى عنه النقائص كما نفاها عن نفسه بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22]، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] فهذه النصوص تنفي النقائص، والقاعدة في الأسماء والصفات: أن تثبت كل صفة وكل اسم على حسب ما ورد. وأما النقائص والعيوب فإنها تنفى عن الله إجمالاً، كما نفاها عن نفسه، فقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22]، وقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. وما بقي شيء، فجميع النقائص كلها قد نفيت فأما أن يأتي ليثبت فيقول: أنا أثبت لله صفة من النقائص. فنقول: لا، هذا باطل؛ لأن الأسماء والصفات توقيفية، والنفي: أن تنفي عن الله جميع النقائص والعيوب التي نفاها عن نفسه، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]،]، وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22].

حكم تسمية الله بالقديم وحكم وصفه به

حكم تسمية الله بالقديم وحكم وصفه به Q ما معنى القديم؟ وهل يجوز وصف صفات الله تعالى بالقديمة؟ A نعم، جاء في الحديث: (وسلطانه القديم)، والقديم ليس من أسماء الله؛ لأنه ما من قديم إلا وقبله شيء، ولأنه قد يشعر بالقدم والبلى؛ ولهذا أنكر العلماء على الطحاوي حينما قال: قديم بلا ابتداء، ولكنه قيده بقوله: بلا ابتداء. وجاء في النصوص اسم الأول، والأول هو الذي ليس قبله شيء، وكل شيء آيل إليه. وأما القديم فليس من أسماء الله، قال تعالى: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، فالعرجون وصف بأنه قديم لوجود العرجون الجديد، فصار قديماً بالنسبة للجديد.

بيان أن صفات كمال الخالق لا يلزم أن تكون صفات كمال للمخلوق إذا اتصف بها والعكس

بيان أن صفات كمال الخالق لا يلزم أن تكون صفات كمال للمخلوق إذا اتصف بها والعكس Q هل كل صفة كمال في الخالق تكون صفة كمال في المخلوق، والعكس؟ A لا، فصفة الولد صفة كمال في المخلوق، وهي نقص في الخالق. بل إن من أعظم الجرائم وصف الله بأن له ولد، قال الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:90 - 92]. فهو أمر عظيم، ونسبة الولد إلى الله صفة نقص في حق الخالق، وهي صفة كمال في المخلوق، ولكن الله منزه عن هذا، وكذلك الكبر فهي صفة كمال له، والمخلوق ليس له أن يتكبر.

حكم الإشارة باليد أثناء ذكر صفات الله

حكم الإشارة باليد أثناء ذكر صفات الله Q ذهب كثير من العلماء إلى حديث أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)، وفيه: أنه يحرك أصابعه تمثيلاً لذلك، وحديث اليهودي الذي أشار للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله خلق السماوات على إصبع. فهل هذا يدل على جواز التمثيل بالأصابع للحديثين، أم لا؟ A لا، الحديث ما جاء في هذا، وإنما المراد به تحقيق الصفة، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]، وأشار إلى عينه وأذنه، فالمراد تحقيق الصفة، وليس المراد التشبيه، وإنما المراد أن الصفة صفة حقيقية. ولا يجوز لإنسان أن يمثل شيئاً، ويقصد بذلك التمثيل، لكن إذا كان هناك حاجة مثل ما جاء من النصوص، والمراد به تحقيق الصفة، وأنها صفة حقيقة وليس المراد التشبيه فلا بأس، ولا يحتاج الإنسان أن يشير بإصبعيه أو بإصبعين. والبينية واسعة في اللغة العربية، قال تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]، ولا يلزم من هذا ما يفهمه بعض المشبهة، بأنه يلزم من ذلك أن تمسك القلوب بأصابع الرب تعالى؛ لأن البينية واسعة، قال الله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]، فالسحاب ليس ملاصقاً لا للسماء ولا للأرض، فهذه بينية خلق قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء.

الجمع بين حديث (لا تسيدوني)، وحديث (أنا سيد الناس)

الجمع بين حديث (لا تسيدوني)، وحديث (أنا سيد الناس) Q كيف نجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسيدوني)، وبين: (أنا سيد الناس ولا فخر)؟ A هذا من باب قوله: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم)، فهذا من باب حماية جناب التوحيد، فلما قالوا له: سيدنا وابن سيدنا، قال: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان). وهو مثل قوله: (لا تسيدوني). فالمراد به حماية جناب التوحيد، وإلا فهو سيد الخلق، وسيد الناس عليه الصلاة والسلام.

منهج أهل السنة في التعامل مع سائر الفرق

منهج أهل السنة في التعامل مع سائر الفرق Q ما منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الفرق الأخرى، كالصوفية والرافضة، وغيرهم ممن ينتسبون للإسلام خاصة في بلاد الغرب؟ A الصوفية طبقات تختلف أحوالهم فيها، وأما الرافضة فمعروفون أنهم يعبدون آل البيت، ويكفرون الصحابة، فإذا عرف أنهم يعتقدون هذا الاعتقاد، وأظهروا ذلك فلا يعاملون معاملة المسلمين، وإن لم يظهروا ذلك وتستروا فيعاملون معاملة المسلمين إذا لم يظهر منهم ما يعتقدون، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين أمثال عبد الله بن أبي وغيره، ومن أظهر منهم النفاق يعامل معاملة المشركين.

الضابط بين الأخبار والأسماء

الضابط بين الأخبار والأسماء Q ما الضابط أن هذا من الأخبار وهذا من باب الأسماء مثال: عبد المانع، عبد الهادي هل هي أسماء أم ليست أسماء؟ A الضابط هو ما ورد في النصوص من ذكر أسماء الرب، وما لم يرد فليس من الأسماء، وإذا جاء وهو مما لم يرد يكون من باب الخبر، فإذا أخبر عنه بذلك فلا بأس. والقاعدة عند أهل العلم: باب الخبر أوسع من باب الصفات، فيخبر عن الله بأنه ذات، وبأنه موجود، وبأنه صانع الأشياء، وبأنه شيء، وبأنه شخص، ولا يقال: من أسمائه الذات، أو من أسمائه أنه موجود، أو الشيء، قال الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]، فأخبر عن نفسه بأنه شيء، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (لا شخص أغير من الله)، وقال عن إبراهيم: إنه يجادل في ذات الله، وكذلك خبيب قال: (وذلك في ذات الإله وإن يشأ). فهذه كلها من باب الخبر، فباب الخبر أوسع من باب الأسماء، وأما الأسماء والصفات فتوقيفية، فإذا سمى الله نفسه بشيء، أو أطلق على نفسه شيئاً، وسماه به، فهو من الأسماء أو وصف نفسه أو وصفه به رسوله. وأما ما عدا ذلك فهو من باب الخبر.

الحث على الاستمرار في الدعوة

الحث على الاستمرار في الدعوة Q لقد سعيت جاهداً في دعوة أهلي إلى طريق الخير، تارة بشريط أو بكلمة، وتارة برسالة ولم ألحظ عليهم أي تغير أو قبول للدعوة، وتراودني نفسي أن أعيش مثلهم، وألا أهتم إلا بنفسي وأتركهم وشأنهم. فبماذا تنصحني؟ A ننصحك بالاستمرار، وعدم اليأس، وعدم الملل والتعب، ولا بد من الصبر والاستمرار، فمن لم يصبر ويستمر انقطع عن الدعوة، ولك أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبالمرسلين والدعاة والمصلحين، فإن نوحاً عليه الصلاة والسلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام استمر في دعوته، والصحابة استمروا في دعوتهم، فالداعية عليه أن يستمر في دعوته وأن يصبر، ولهذا قال الله تعالى في صفة الرابحين: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، فهذه هي صفات الرابحين، إيمان مبني على العلم الصحيح، وأداء للواجبات، ودعوة إلى الله وصبر، وهذا الصبر استمرار، فأنت تريد أن تتخلى عن الصفة الرابعة وهي الصبر فتنقطع، فلا تكون بذلك الانقطاع في ركب الدعاة، فاصبر، ولا تيأس، وأنت على خير سواء قبلوا أو لم يقبلوا، قال الله تعالى عن لقمان أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]. ولا بد من الصبر، فإن من لم يصبر لا يستطيع أن يؤدي الواجبات، ولا أن يترك المحرمات، ولا أن يسير في طريق الدعوة، ولا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولذلك فلا بد من الصبر وتحمل الأذى واحتساب الأجر. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وثبت الله الجميع على الهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

[3]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [3] إن معتقد أهل السنة والجماعة هو إثبات العلو لله عز وجل، فهو عز وجل فوق عرشه بائن من خلقه لا يخفى عليه شيء من حالهم، ولقد جاءت الآيات الكثيرة والأحاديث النبوية الصحيحة بإثبات صفة العلو لله تعالى، فمن جحد شيئاً من هذه الأدلة راداً لها فهو كافر بدين الله مرتد عن الإسلام.

الأدلة من السنة على إثبات صفة العلو

الأدلة من السنة على إثبات صفة العلو

دلالة حديث (إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها) على إثبات العلو

دلالة حديث (إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها) على إثبات العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى)]. هذا دليل من السنة على إثبات صفة العلو، فالمؤلف رحمه الله بدأ بصفة الاستواء وذكر بعدها صفة العلو مستقلة ولها أدلة خاصة؛ لأن الاستواء علو خاص، فلهذا ذكر سبعة أدلة من القرآن على إثبات صفة الاستواء، ثم بعد ذلك ذكر الأدلة التي تثبت العلو، وبدأ بحديث أبي هريرة، وهو دليل على ثبوت صفة العلو لله عز وجل، والحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده!) هذا قسم، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدق، لكن أقسم لتأكيد الكلام، قال: (والذي نفسي بيده!)، ونفوس العباد كلها بيد الله، وفيه إثبات صفة اليد لله عز وجل. (ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى)، والذي في السماء هم الملائكة، ولفظ السماء إذا أطلق فالمراد به جهة العلو، والله تعالى له أعلى العلو، وهو فوق العرش، فقوله: (الذي في السماء) يعني: الذي في العلو، فكل ما علا رأسك فهو سماء، والله تعالى له أعلى العلو وهو ما فوق العرش، وإذا أريد بالسماء: الطباق المبنية فهي تفيد معنى علا، وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: من في العلو. وقوله: (كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى) هذا يدل على أن امتناع المرأة من فراش زوجها من غير سبب من كبائر الذنوب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبت أن الله يسخط عليها، ففيه إثبات صفة السخط لله عز وجل مع إثبات صفة العلو، وهذا فيه التحذير من امتناع المرأة من فراش زوجها بدون سبب، وأنها إذا فعلت ذلك فقد ارتكبت كبيرة، وفي الحديث الآخر: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته لعنتها الملائكة حتى تصبح).

دلالة حديث (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) على إثبات العلو

دلالة حديث (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) على إثبات العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من في السماء صباحاً ومساءً؟!)]. هذا هو الدليل السادس، وقد استدل به المؤلف لإثبات صفة العلو، وأن الله في العلو فوق المخلوقات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر من في السماء صباحاً ومساءً). ووجه الدلالة من هذا الحديث في موضعين: الموضع الأول: قوله: (وأنا أمين في السماء). الموضع الثاني: قوله: (يأتيني خبر من في السماء). والمراد بالسماء العلو، والله تعالى له أعلى العلو وهو ما فوق العرش، فهذا دليل على إثبات صفة العلو، والحديث صحيح متفق على صحته رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما.

دلالة حديث (أين الله؟) على إثبات العلو

دلالة حديث (أين الله؟) على إثبات العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة). رواه مسلم بن الحجاج وأبو داود وأبو عبد الرحمن النسائي. ومن أجهل جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله؟ بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله: (أين الله؟)!]. هذا الدليل السابع وهو حديث معاوية بن الحكم السلمي، والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، فـ معاوية بن الحكم السلمي كانت له جارية اشتراها لترعى له الغنم عند جبل أحد، فأبصرها من بعيد وقد جاء الذئب وأخذ شاة، فغضب معاوية من الجارية لأنها لم تطرد الذئب، فلطمها، ثم ندم وخاف وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأنه لطمها فشدد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني سأعتقها، فقال له: ائتني بها، فأتاه بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، فاستدل على إيمانها بأنها أثبتت أن الله في العلو، وأهل البدع كالجهمية والأشاعرة يؤولون هذا الحديث، فهذا الحديث غصة في حلوقهم؛ لأن كلمة (أين) يسأل بها عن المكان، فالمعنى أي: أين مكان الله؟ فقالوا: لا يمكن أن يسأل عن الله بأين، حتى أنهم خطئوا النبي صلى الله عليه وسلم وخطئوا الجارية، فقالوا: إن الجارية أعجمية لا تفهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام سألها. أين الله؟ ولا يُسأل عن الله بأين؛ لأنك لو سألت عن الله بأين ففيه تحديد المكان، وإذا كان الله في جهة العلو صار محدوداً ومتحيزاً وجسماً، وهذا كفر عندهم، فأهل البدع يقولون: من قال: إن الله في السماء فقد كفر؛ لأنك بقولك هذا تنقص من قدر الله، وتجعل الله محدوداً متحيزاً في مكان، ولا يكون شيء على شيء إلا المحدود المتحيز، ولا يكون إلا جسم، وهذا يجعل لله شبيهاً ومثيلاً، وهذا كفر عندهم، وقد تأولوا هذا بقولهم: إن ظاهر النصوص كفر، أي: ظاهر القرآن والسنة كفر والعياذ بالله! فلابد أن تؤول، فلو أثبتنا العلو والمعية وأثبتنا العلم والقدرة لله ففي هذا مشابهة للمخلوقات، وتشبيه الله بخلقه كفر، فلا بد أن نتأولها فأشكل عليهم قوله صلى الله عليه وسلم (أين الله؟) وهذا صريح في جواز السؤال بأين الله؟ وعندما قالت: في السماء صدقها وأثبت لها الإيمان، وبعض أهل البدع قال: الرسول عليه السلام قال لها: (أين الله؟) وقصده أن يقول: من الله؟ لأن هذه جارية أعجمية لا تفهم، فخاطبها على قدر عقلها وفهمها، فلما أجابت أقرها على جواب فاسد! إذاً: فالسؤال عندهم فاسد والجواب فاسد! هكذا اتهموا الرسول والعياذ بالله، فأهل البدع وصفوا الرسول بأنه سأل سؤالاً فاسداً، وأقرها على جواب فاسد، قالوا: والله ليس له مكان، فلو كان له مكان لصار محدوداً ومتحيزاً، فقالوا: ليس له مكان، وإنما هو في كل مكان والعياذ بالله. ولهذا رد عليهم المؤلف فقال: ومن أجهل جهلاً، وأسخف عقلاً، وأضل سبيلاً ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله؟ بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله: (أين الله؟). وصاحب الشريعة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

دلالة حديث (كانت زينب تقول زوجني الله من فوق سبع سماوات) على إثبات العلو

دلالة حديث (كانت زينب تقول زوجني الله من فوق سبع سماوات) على إثبات العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت زينب بنت جحش تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. رواه البخاري]. هذا هو الدليل الثامن، وقد استدل به المؤلف على أن الله في العلو، وأنه فوق المخلوقات فوق السماوات السبع، فكانت زينب بنت جحش تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات. والشاهد قولها: (من فوق سبع سماوات)، ففيه إثبات أن الله فوق السبع السماوات وذلك أن زينب بنت جحش رضي الله عنها تزوجت زيد بن حارثة أولاً ثم طلقها زيد رضي الله عنه، ثم بعد ذلك خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل إليها من يخطبها له، فزوجه الله من فوق سبع سماوات، فدخل عليها بدون ولي وبدون مهر؛ لأن الله أنزل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] وهذا التزويج كان من فوق سبع سماوات، قال الله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب:37] وذلك أنه كان عندهم في الجاهلية وفي أول الإسلام جواز التبني، أي: أن الإنسان الذي ليس عنده أولاد يتبنى له ولداً، فيأتي بولد وينسبه إلى نفسه، ويكون ابناً له ولو لم يكن من صلبه، فنهى الله عن ذلك وقال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، ومن المعلوم أن الإنسان لا يتزوج زوجة ابنه، وزيد بن حارثة تبناه النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكان يُدعى بـ زيد بن محمد، فالله تعالى هدم التبني وأبطله قولاً وفعلاً، بالقول وذلك عندما قال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وبالفعل وذلك عندما أمر نبيه أن يتزوج زوجة ابنه بالتبني؛ حتى يهدم التبني ويعلن بطلانه، وأن الابن المتبنى ليس كابن الصلب، فابن الصلب لا يتزوج أبوه زوجته، لكن الابن الدعي ليس ابناً من صلبك، فيجوز لك أن تتزوج زوجته؛ ولهذا أمر الله نبيه أن يتزوج زوجته بعد طلاقها هدماً للتبني وأنزل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بدون مهر وبدون ولي وزوجه الله من فوق سبع سماوات، فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لإحداهن: أنتِ زوجكِ أبوكِ، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات، وهذا فخر، وأي فخر!

دلالة حديث عروج روح المؤمن إلى السماء التي فيها الله على إثبات العلو

دلالة حديث عروج روح المؤمن إلى السماء التي فيها الله على إثبات العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمن عند موته وأنه يعرج بروحه حتى ينتهى إلى السماء التي فيها الله عز وجل) رواه الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما]. هذا الحديث سنده لا بأس به، وهذا هو الدليل التاسع على إثبات العلو، والشاهد قوله: (حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله)، وهي السماء السابعة، ومعنى قوله: (التي فيها الله) يعني: فوقها، ففيه إثبات أن الله في السماء، يعني: في العلو، وأنه فوق السماوات السبع، وفيه أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء وتفتح له أبواب السماء، وأما روح الفاجر والكافر فإنها تغلق أبواب السماء دونها، ثم تطرح طرحاً، نسأل الله السلامة والعافية.

دلالة حديث (من اشتكى منكم فليقل ربنا الله الذي في السماء) على إثبات العلو

دلالة حديث (من اشتكى منكم فليقل ربنا الله الذي في السماء) على إثبات العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أبو الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اشتكى منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ). رواه أبو القاسم الطبري في سننه]. هذا الحديث كما ذكر المؤلف رحمه الله رواه أبو القاسم الطبري في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، ورواه أبو داود في سننه، ورواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الدارمي في الرد على الجهمية، والبيهقي، والذهبي في العلو، والحديث ضعيف، ولكن المؤلف أورده لأن له شواهد، وكذلك أورده غيره من أهل العلم في إثبات العلو كهؤلاء الأئمة الذين رووه، واحتج به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم، وهذا الحديث مشهور في رقية المريض، فيقال هكذا: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة وشفاء من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ بإذن الله). والشاهد قوله: (ربنا الله الذي في السماء) أي: في العلو، فأثبت أن الله في السماء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي هذه المسألة أدلة من الكتاب والسنة يطول بذكرها الكتاب، ومنكِر أن يكون الله في جهة العلو -بعد هذه الآيات والأحاديث- مخالف لكتاب الله، منكِر لسنة رسول الله]. مسألة العلو ورد فيها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وأفراد الأدلة على العلو تزيد على ثلاثة آلاف دليل، ولا يمكن حصرها، وكلها تدل على أن الله فوق المخلوقات وفوق العرش، وكل نص فيه أن الله استوى على العرش فهو دليل على ذلك، وكل نص فيه أن الله في السماء فهو دليل على العلو، وكل نص فيه الفوقية فهو دليل على العلو، وكذلك كل نص فيه العلو، كقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وكذلك كل نص فيه الصعود، كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ} [فاطر:10]، والصعود يكون من أسفل إلى أعلى، وهذا يدل على العلو، وكل نص فيه الرفع إلى الله يدل على العلو، وكل نص فيه النزول كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] يدل على العلو، وكل نص فيه السؤال عن الله بأين يدل على العلو، وهكذا، وكل نص فيه رفع الأصبع إلى السماء يدل على العلو، فهذه أنواع من الأدلة كثيرة لا حصر لها؛ ولذا قال المؤلف: (يطول بذكرها الكتاب)، يعني: هي كثيرة، لكن قد تحصر أنواع الأدلة مثلما ذكرت لكم، كنصوص الاستواء، ونصوص العلو، ونصوص الفوقية، ونصوص النزول، ونصوص الصعود وهكذا، وكل نوع تحته أدلة كثيرة، فمثلاً نجد تحت نصوص الاستواء سبعة أقوال من الأدلة، وأفرادها كما ذكر العلماء -كالعلامة ابن القيم وغيره- أنها تزيد على ثلاثة آلاف دليل. قال المؤلف: (ومنكر أن يكون الله في جهة العلو -بعد هذه الآيات والأحاديث- مخالف لكتاب الله ومنكِر لسنة رسول الله) أي: أن الذي ينكر أن الله في العلو يكون مخالفاً لكتاب الله وسنة نبيه، وإذا كان جاحداً لهذه النصوص فإنه يكفر ويكون مرتداً، والعياذ بالله، أما إذا كان متأولاً فهذا قد لا يحكم عليه بالكفر؛ لأن هناك فرقاً بين الجاحد وبين المتأول، فالجاحد الذي أنكر كلام الله وجحده يكفر، فالذي يجحد قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقد كذَّب الله، ومن كذَّب الله فقد كفر، أما الذي يتأول هذه الآية، فيقول: معنى استوى: استولى، لا يكفر، فهناك فرق بين الجاحد وبين المتأول.

الآثار التي تدل على إثبات صفة العلو لله عز وجل

الآثار التي تدل على إثبات صفة العلو لله عز وجل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان]. المؤلف رحمه الله استدل أيضاً بالآثار عن السلف التي تدل على ثبوت العلو، فاستدل بقول مالك: (الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو عن علمه مكان). وهذا الأثر رواه الآجري في كتاب الشريعة وعبد الله بن أحمد في كتاب السنة واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وابن قدامة في إثبات صفة العلو. قوله: (الله في السماء) يعني: في العلو، وعلمه في كل مكان أي أن: علمه لا يخلو عن أي مكان، وأما هو سبحانه فهو فوق العرش. قال: [وقال الشافعي: خلافة أبي بكر حق قضاها الله في سمائه، وجمع عليها قلوب أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم]. استدل المؤلف أيضاً بقول الشافعي رحمه الله، وهذا الأثر رواه ابن قدامة في صفة العلو، والشاهد قوله: (خلافة أبي بكر قضاها الله في سمائه) يعني: في علوه، فأثبت أن الله في السماء. قال: [وقال عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا فوق سبع سماوات بائناً من خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا! وأشار إلى الأرض]. عبد الله بن المبارك هو الإمام الورع الزاهد المشهور، وهذه المقالة التي قالها عبد الله بن المبارك رواها عبد الله بن أحمد في كتاب السنة والبخاري في خلق أفعال العباد والدارمي في الرد على الجهمية وفي الرد على بشر المريسي والبيهقي في الأسماء والصفات وابن قدامة في إثبات صفة العلو، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية. يقول عبد الله بن المبارك: (نعرف ربنا فوق سبع سماوات). هذا هو الشاهد من الأثر، فأثبت أن الله فوق سبع سماوات بائناً من خلقه، يعني: ليس مخالطاً للمخلوقات، فهو بائن منفصل عن مخلوقاته، فالمخلوقات نهايتها من جهة العلو العرش والله فوق العرش، وليس فوقه شيء من المخلوقات، يقول عبد الله بن المبارك: (ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه هاهنا وأشار إلى الأرض). فالجهمية يقولون: الله في كل مكان، في الأرض وفي السماء وفي كل مكان.

إثبات صفة الوجه لله عز وجل

إثبات صفة الوجه لله عز وجل قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن الصفات التي نطق بها القرآن وصحت بها الأخبار: الوجه، قال الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. قال عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. وروى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنات الفردوس أربع: ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)]. من الصفات التي جاءت في القرآن العزيز وثبتت في السنة المطهرة: صفة الوجه لله عز وجل؛ ولهذا قال المؤلف: (ومن الصفات التي نطق بها القرآن) وهذا كقول الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ} [الجاثية:29] فنطق به القرآن، يعني: أثبتها الله تعالى في كتابه، قال: (وصحت بها الأخبار) أي: الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (الوجه) أي: صفة الوجه.

الأدلة على إثبات صفة الوجه من الكتاب

الأدلة على إثبات صفة الوجه من الكتاب استدل المؤلف على ذلك بالأدلة من الكتاب العزيز ومن السنة المطهرة، قال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، ففيها إثبات صفة الوجه. وقال عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وأهل البدع ينكرون صفة الوجه لله عز وجل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة أيضاً، وصفة الوجه من الصفات الذاتية الثابتة لله عز وجل، والأشاعرة يتأولونها، فمنهم من يؤولها بالذات كما في تفسير الجلالين، ففيه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] أي: ذاته، وقصده من ذلك تأويل صفة الوجه، والآية فيها إثبات الوجه والذات، وكذلك بعض الأشاعرة كـ الآمدي وغيره أولوا الوجه بالذات، وبعض الأشاعرة المحدثين -كـ البيهقي وغيره- فوضوا هذه الصفة، وكذلك ابن فورك والتفويض معناه: تفويض المعنى، فيقولون: لا نعلم معنى هذه الصفة فنفوضها إلى الله، وهذا باطل، قال بعض أهل العلم: إن التفويض شر من التعطيل، والمفوضة شر من المعطلة، فهم الذين لا يثبتون معاني الصفات فيقولون: لا ندري ما معنى الاستواء، وما معنى اليدين، وما معنى الوجه، فيتعاملون معها كأنها حروف أعجمية لم نفهم معناها! وهذا غلط؛ فإن الله سبحانه وتعالى أمر بتدبر القرآن كله، وليس آية دون أخرى، فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. وأهل الحق أثبتوا الصفات وأثبتوا معانيها وفوضوا الكيفية، فالكيفية لا يعلمها إلا الله كما قال الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب. فنحن نعرف معنى العلم وأنه ضد الجهل، ونعرف معنى السمع وأنه ضد الصمم، ونعرف معنى البصر وأنه ضد العمى، فنثبت المعاني، وابن فورك يقول: ما نعرف معنى البصر، ولا ندري معنى السمع، ولا ندري معنى العلم، فيفوض معاني الصفات، وهذا باطل، فالمعاني معلومة، وإنما الذي لا يعلم هو الكيف، فكيفية صفة السمع، وكيفية صفة الاستواء، وكيفية صفة الوجه لا يعلمها إلا الله، أما المعنى فهو معلوم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (من الصفات التي نطق بها القرآن وصحت بها الأخبار: الوجه) واستدل بآيتين من كتاب الله، الآية الأولى: قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] وفيه إثبات صفة الوجه.

الأدلة على إثبات صفة الوجه من السنة النبوية

الأدلة على إثبات صفة الوجه من السنة النبوية واستدل من السنة بأدلة منها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الذي رواه الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنات الفردوس أربع: ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)، فقوله: (إلا رداء الكبرياء على وجهه) فيه إثبات الوجه، وفيه إثبات أن الله تعالى يُرى يوم القيامة، وفيه إثبات الكبرياء لله عز وجل، قال الله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37]، فهذا الحديث فيه إثبات ثلاث صفات: صفة الوجه، وصفة الرؤية، وصفة الكبرياء. والرؤية سيتكلم عليها المؤلف رحمه الله بكلام خاص، فهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع. قوله: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) هذا خاص بالمؤمنين، فالمؤمنون يرون ربهم سبحانه وتعالى في الجنة، وفي موقف القيامة يرونه أيضاً، وأما غير المؤمنين فقد اختلف العلماء في رؤيتهم لله في موقف القيامة، فمن العلماء من قال: يراه أهل الموقف كلهم مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفرة. ومن العلماء من قال: إنه لا يراه إلا المؤمنون والمنافقون؛ لأن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الدنيا، وجرت عليهم أحكام الإسلام، ويكونون معهم في الآخرة، ثم بعد ذلك ينفصل المؤمنون عن الكفار ويضرب بينهم بسور له باب. وقال آخرون من أهل العلم: إنه لا يراه إلا المؤمنون وأما الكفار فإنهم يحجبون عن الله، قال الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]. والذين قالوا: إن الكفار يرونه يوم القيامة، قالوا: هذه الرؤية لا تفيدهم بل يزدادون بها عذاباً إذا حجبوا، مثل المسيء حينما يرى السلطان ثم يعاقبه فإنه لا يستفيد من هذه الرؤية إلا عقوبة. وفيه إثبات الجنة وأن المؤمنين يتفاوتون في درجاتهم، فقوله: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما) هذا للمقربين السابقين، وقوله: (وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) هذا لأصحاب اليمين كما قال الله تعالى في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]. {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48]. {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50]. هذه للمقربين، ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] هذه لأصحاب اليمين {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] فهي أربع جنات، والمؤمنون يتفاوتون في درجاتهم في الجنة على حسب أعمالهم. وفيه الرد على من أنكر وجود الجنة والنار من الجهمية والمعتزلة، ويقولون: إنهما لا توجدان إلا يوم القيامة، وأما الآن فهما عدم، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى أخبر أن الجنة موجودة، والنار أعدت للكافرين، ويفتح للمؤمن في قبره باب إلى الجنة يأتيه من روحها وطيبها، والكافر يفتح له باب من النار يأتيه من حرها وعذابها، وأرواح المؤمنين تنعم في الجنة، وأرواح الكفار تعذب في النار، وفي الجنة الولدان والحور، وقول المعتزلة من أبطل الباطل، وكذلك الجهمية يقولون: إن الجنة والنار تفنيان جميعاً، وهذا من أبطل الباطل. قال المؤلف رحمه الله: [وروى أبو موسى قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، ثم قرأ: {أََنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:8]). رواه مسلم]. هذا الحديث رواه الإمام مسلم كما قال المؤلف رحمه الله، ورواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه والبيهقي في الأسماء والصفات. وفي لفظ لـ مسلم قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه)، ففيه أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام؛ لأن النوم ضعف يحتاج إليه المخلوق الضعيف حتى يستريح، والله تعالى لا يتعب ولا يلحقه تعب، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] سبحانه وتعالى. قوله: (يخفض القسط ويرفعه) القسط هو العدل. قوله: (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النار)، وفي لفظ: (حجابه النور)، (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره)، وفي لفظ: (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، ثم قرأ: {أََنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:8]). هذا الحديث استدل به المؤلف على إثبات صفة الوجه والشاهد من الحديث قوله: (لأحرقت سبحات وجهه) ففيه إثبات الوجه لله تعالى. وفيه أن الله تعالى لا يراه أحد في الدنيا؛ لأنه احتجب عن خلقه سبحانه وتعالى بالنار أو بالنور، ولو كشف الحجاب لاحترق الخلق ولما استطاعوا أن يثبتوا لرؤية الله في الدنيا؛ ولهذا لما كلم الله موسى بدون واسطة من وراء حجاب طمع موسى عليه الصلاة والسلام في الرؤية فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، قال الله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] أي: لا تستطيع ولا تتحمل الرؤية، ولكن انظر إلى الجبل، وهو جبل صخر عظيم، قال: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] أي: إن ثبت الجبل فأنت تستطيع أن تراني، وإلا فلا، فلما تجلى الله للجبل دُكَّ الجبل وساح وخر موسى صعقاً، أي: أغمي عليه، فلما أفاق موسى قال: سبحانك! تبت إليك وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك بشر في الدنيا إلا مات، ولا جبل إلا دُك؛ ولهذا كان الصواب أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في المعراج، وإنما كلمه الله من وراء حجاب، وفرض عليه الصلوات من وراء حجاب، ولا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا لا من الأنبياء، ولا من الملائكة ولا من غيرهم، فقد احتجب الله من خلقه، بالنار أو النور، وجاء في آثار أنه احتجب من خلقه بنار ونور وظلمة وثلج، فلا يستطيع أحد أن يرى الله ولا يستطيع أحد أن يتحمل رؤية الله في الدنيا، ولو كشف الحجاب لاحترقوا، ولكن يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين نشأة قوية يتحملون فيها رؤية الله، فينظر المؤمنون إلى ربهم يوم القيامة، فالمؤمنون ينشئون يوم القيامة نشأة قوية، فتتبدل الصفات والذات هي هي، الجسد هو الذي كان في الدنيا، يبلى كله في القبر إلا عجب الذنب، ثم يعيده الله إلى ما كان عليه، إلا أن الصفات تتبدل، فينشئ الله المؤمنين نشأة قوية يتحملون بها رؤية الله؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]، ويدخل في هذا القول كل البشر، ومنهم النبي عليه الصلاة والسلام فإنه بشر كلمه الله من وراء حجاب، وهذا هو الصواب. وقال بعض أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج ببصره وهذا خطأ، والصواب: أنه رآه بقلبه ولم يره بعين بصره، وهذا ما عليه المحدثون والصحابة وغيرهم. فهذا الحديث فيه تنزيه الله عن النوم، وفيه أن الله احتجب من خلقه بالنار أو بالنور، وفيه أن الله لا يراه أحد في الدنيا لقوله: (لأحرقت سبحات وجهه كل شيء). ومحمد صلى الله عليه وسلم شيء، وفي اللفظ الآخر: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) أي: جميع الخلق، ومحمد صلى الله عليه وسلم من الخلق، فلم ير ربه ليلة المعراج بعين رأسه وإنما رآه بعين قلبه، ولكنه سمع كلام الله من دون واسطة من وراء حجاب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه صفة ثابتة بنص الكتاب وخبر الصادق الأمين، فيجب الإقرار بها، والتسليم كسائر الصفات الثابتة بواضح الدلالات]. صفة الوجه صفة ثابتة بنص الكتاب كما قال الله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وبخبر الصادق الأمين؛ لذلك يجب التسليم والإقرار بها، ويجب على كل مسلم أن يقر بصفة وجه الله عز وجل كسائر الصفات الثابتة، خلافاً لمن أنكر الصفات كالجهمية والمعتزلة، فقد قالوا: ليس لله وجه ولا علم ولا سمع ولا بصر، وخلاف الأشاعرة الذين تأولوها بالذات، وبعضهم فوضها كـ البيهقي.

الأسئلة

الأسئلة

بيان صحة حديث العباس ومعنى الأوعال

بيان صحة حديث العباس ومعنى الأوعال Q ما حال حديث العباس؟ وما معنى الأوعال؟ A هذا الحديث فيه ضعف؛ لأنه من رواية سماك عن عبد الله بن عذيرة، ولكن العلماء أوروده في كتبهم وحسنوه؛ لأن له شواهد، فقد احتج به الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب وأبو داود وغيرهم. ومعنى قوله: (وفوق ذلك أوعال)، أن الملائكة خلقهم الله على صفة الأوعال.

توضيح المسالك التي سلكها من أنكر الاستواء والعلو

توضيح المسالك التي سلكها من أنكر الاستواء والعلو Q نرجو توضيح قولكم: الذين أنكروا الاستواء والعلو سلكوا مسلكين؟ A الذين أنكروا العلو والذين يقولون: إن الله ليس فوق السماوات وليس فوق العلو سلكوا أحد مسلكين في الرب سبحانه وتعالى، فالجهمية طائفتان: الطائفة الأولى: أنكروا العلو وأن الله فوق المخلوقات وقالوا: إنه في كل مكان، وقالوا: إنه متحد بالمخلوقات في كل مكان، حتى في الحمامات وحتى في بطون السباع وأجواف الطيور، وفي كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! الطائفة الثانية: أنكروا أن الله فوق المخلوقات فقالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مبايناً له ولا مخالطاً له، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه! قال العلماء: هذا وصف مستحيل، فالذين نفوا النقيضين أشد كفراً من الذين قالوا: إنه في كل مكان، وإن كان كل منهما كافر.

نسف حجة الأشاعرة في تأويلهم قوله: (استوى)

نسف حجة الأشاعرة في تأويلهم قوله: (استوى) Q يقول الأشاعرة: استوى بمعنى استولى ودليلهم قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق فبم يرد عليهم؟ A هذا قول باطل، فالاستواء معروف معناه في اللغة العربية كما قرر الأئمة، وهذا البيت الشعري لا يعرف له قائل، ولو عرف قائله فلا بد من سند متصل حتى يعرف من قائله، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل حتى يصح السند ويعدل الرواة، ويكون السند متصلاً متسلسلاً بالثقات من الراوي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان السند منقطعاً أو كان الرواة غير عدول فلا يقبل، فكيف يقبل بيت لا يُعرف من قاله وليس له سند ولا خطام؟! وإن عرفنا قائله فقد خالف أهل اللغة في معنى الاستواء، فيكون شاذاً، فراوي الحديث إذا خالف من هو أوثق منه يكون الحديث ضعيفاً لشذوذه؛ لكونه خالف من هو أوثق منه، فلو فرضنا أن هذا القائل عربي فنقول: قوله شاذ، وهذا لو سلّمنا أن قائله معروف، فكيف وهو لا يعرف له قائل، وليس له خطام. ثم أيضاً قد روي هذا البيت بلفظ: قد استولى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق وهذه الرواية مقدمة على الرواية الأولى.

إثبات صفة الكتابة لله

إثبات صفة الكتابة لله Q الله تعالى يوصف بصفة الكتابة كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى كتب كتاباً)، وفي الحديث الآخر: (إنه أمر القلم أن يكتب)، فهل هناك فرق بينهما؟ A لا منافاة، أمر القلم عندما خلقه فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة، فالله تعالى أمر القلم أن يكتب والله كتب كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه مسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، وهذا الحديث: (كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش)، وفي الأحاديث الأخرى أن الله خط التوراة بيده لموسى، فلا منافاة.

الرد على من استدل بحديث الجارية على أن الإيمان هو التصديق

الرد على من استدل بحديث الجارية على أن الإيمان هو التصديق Q كيف نرد على من استدل بحديث الجارية على أن الإيمان مجرد التصديق؟ A لقد طعنوا -كما سبق- في هذه الجارية، فقالوا: إن الجارية أعجمية لا تفهم، وطعنوا في النبي فقالوا: إن الرسول سأل سؤالاً فاحشاً! فالإيمان قول وعمل، وليس فيه أن الجارية لم تكن تعمل شيئاً، إنما اختبرها النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن التصديق يقتضي العمل، وليس في الحديث أن الجارية لم تكن تصلي ولا تصوم، وإنما سألها عما هو دليل على الإيمان ثم ذهبت.

بيان جواز إطلاق قول (ونطق بها كتابة)

بيان جواز إطلاق قول (ونطق بها كتابة) Q قول المؤلف: ونطق بها كتابه، هل هذا الأسلوب مقبول عند أهل السنة أن ينسب النطق للكتاب؟ A نعم هذا مقبول، فقد نص القرآن على ذلك بقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية:29]، فينبغي للإنسان أن يتأمل النصوص قبل أن يحكم عليها.

بيان جواز إطلاق ألفاظ (صعد) و (علا) و (ارتفع) على الله عز وجل

بيان جواز إطلاق ألفاظ (صعد) و (علا) و (ارتفع) على الله عز وجل Q هل يوصف الله بصعد وعلا وارتفع؟ A نعم، فالسلف لهم أربع عبارات في تفسير استوى هي: استقر وعلا وصعد وارتفع، وهذا هو معنى الاستواء، فالله تعالى استوى بهذه المعاني الأربعة على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته.

إرشاد النساء إلى وجوب ستر أيديهن وأرجلهن

إرشاد النساء إلى وجوب ستر أيديهن وأرجلهن Q نرجو من فضيلتكم تذكير الأخوات بأهمية الالتزام بتغطية جميع الجسد وخاصة الكفين والقدمين حيث يتساهل بعضهن في ذلك علماً بأنهن أولى بالتستر من غيرهن من عامة النساء. A لا شك أن المرأة يجب عليها أن تستر جميع جسدها، فكلها عورة، فتستر يديها ورجليها وقدميها وشعرها ووجهها، فلا يجوز للمرأة أن تبدي يديها، فبعض النساء تبدي يديها للرجال عندما تخرج وتركب السيارة، فهذا حرام عليها؛ لأن اليدين عورة، فلا بد أن تخرج بالقفازين أو بالثوب الطويل، وكذلك الرجلان عورة فلا بد أن تسترهما إما بالجوارب أو بالثوب؛ ولهذا لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسبال (قيل: يا رسول الله! المرأة تحتاج أن تسبل الثوب حتى تغطي قدميها، فقال: أرخي شبراً، قيل: يا رسول الله! إذاً تنكشف أقدامهن! قال: أرخيه ذراعاً ولا تزيدي على ذلك)، فدل على أن المرأة لابد أن تستر قدميها إما بالجوارب أو بالثوب، وتستر اليدين إما بالقفازين أو بالثوب، ولا يجوز للمرأة أن تبدي يديها أو أصابعها أو الذهب الذي في يديها فهذا حرام عليها، وبعض النساء تتساهل فتجدها عند صاحب الذهب تخرج يديها وعليها الذهب، وتخرج الساعدين، وتجدها في السيارة وفي الأسواق تخرج اليدين، وترى رجليها، فهذا حرام عليها، والواجب عليها التستر، فكلها عورة إلا وجهها في الصلاة إذا لم يكن عندها رجال أجانب، فإن كان عندها رجال أجانب فلا تكشفه.

بيان الفرق بين الكرسي والعرش

بيان الفرق بين الكرسي والعرش Q هل هناك فرق بين الكرسي والعرش؟ A الكرسي غير العرش كما في الحديث: (ما السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من أرض، ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة من أرض)، فالعرش مخلوق عظيم، والكرسي مخلوق عظيم، وصح عن ابن عباس أنه قال: الكرسي موضع القدمين للرب عز وجل، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، فالكرسي مخلوق عظيم أكبر من السماوات والأرض، ونسبة السماوات إليه كحلقة ألقيت في صحراء من الأرض، ونسبة الكرسي إلى العرش كذلك كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فالكرسي غير العرش، هذا هو الصواب. وهناك قول أنهما شيء واحد وهذا قول ضعيف، وهناك من يقول: الكرسي هو العلم، وهذا قول باطل.

بيان عدم وجود المنافاة بين صفتي العلو والمعية

بيان عدم وجود المنافاة بين صفتي العلو والمعية Q هل نثبت صفتي العلو والمعية؟ A أهل السنة وأهل الحق كلهم يثبتون صفتي العلو والمعية، ولا منافاة ولا تناقض بينهما، خلافاً لأهل البدع الذين يبطلون صفة علو الله بالمعية، ويضربون النصوص بعضها ببعض، ويجعلون صفة المعية تنقض صفة العلو وتبطلها، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه ليس معنى المعية أن الله مشترك بالمخلوقات، وإنما المعية في لغة العرب هي مطلق المصاحبة، وهي تختلف باختلاف المتعلقات وما يتعلق بها، فتقول: فلان مع فلان، يعني: في الرأي، وإن كان هذا في المشرق وهذا في المغرب، وتقول: الأمير مع الجيش، والجيش في مكان والأمير في مكان، يعني: معه في الرأي والتسديد، ويقال: فلان معه زوجته وقد تكون في المشرق وهو في المغرب، يعني: عصمتها بيده؛ فالمعية لا تفيد الاختلاط وإنما معناها مطلق المصاحبة، وتفيد مع المصاحبة المقارنة في أمر من الأمور، وتقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا، وهل أنت مختلط بالقمر؟ لا، لكن المعنى: ما زلنا نسير والقمر يسير، وتقول: المتاع معك وإن كان فوق رأسك. فلا منافاة بين العلو والمعية، لكن أهل البدع ليسوا من أهل المعرفة، بل هم من أهل الجهل حيث جهلوا معنى المعية في اللغة وضربوا النصوص بعضها ببعض، وأبطلوا نصوص العلو والفوقية بنصوص المعية، وأما أهل السنة فآمنوا بالنصوص من الجانبين، وجمعوا بينهما جمعاً صحيحاً.

الفرق بين من يستشعر أن الله يراقبه في كل مكان وبين الذي يقول إن الله في كل مكان

الفرق بين من يستشعر أن الله يراقبه في كل مكان وبين الذي يقول إن الله في كل مكان Q هل الذي يستشعر أن الله يراقبه في كل مكان، مثل الذي يقول: إن الله في كل مكان؟ الشيخ: لا، فالذي يقول: إن الله في كل مكان كافر، والذي يستشعر أن الله يراقبه في كل مكان محسن، ففي الحديث: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهذه هي المراقبة، وهي أن يراقب الله ويعبد على المشاهدة، فالله يراه، فيعبد الله على أنه يراه.

تعدي الاستواء بإلى وعلى وبالواو

تعدي الاستواء بإلى وعلى وبالواو Q هي يتعدى الاستواء بالواو؟ A الاستواء يأتي متعدياً بإلى أو يأتي متعدياً بالمعية، وكل واحد منهما صحيح، فإذا جاء بالواو فتفيد المساواة كقولك: استوى الماء والخشبة، أي: أنه استوى الماء مع الخشبة، وهذا له معنى وذاك له معنى، أما إذا جاء متعدياً بعلى فهذا يكون في العلو والارتفاع كقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13].

[4]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [4] من صفات الله عز وجل التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله وسائر أهل السنة والجماعة صفة النزول، فإن الله تعالى ينزل نزولاً يليق بجلاله سبحانه، وهو ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، ولا يسأل عن كيفية نزوله تعالى، ومن سأل عن ذلك فهو مبتدع.

إثبات صفة النزول لله عز وجل

إثبات صفة النزول لله عز وجل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتواترت الأخبار وصحت الآثار بأن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيجب الإيمان به، والتسليم له، وترك الاعتراض عليه، وإمراره من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول]. انتهى المؤلف من الكلام على إثبات صفة الوجه، وانتقل إلى إثبات صفة النزول، قال: (وتواترت الأخبار وصحت الآثار بأن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا). يقول المؤلف: إن صفة النزول ثابتة بالتواتر، والتواتر دليل قطعي، ودليل التواتر يقابل دليل الآحاد، فالأدلة نوعان: متواتر وآحاد، فالمتواتر هو الذي يرويه عدد كثير يستحيل اجتماعهم على الكذب من أول السند إلى آخره، ويكون مستنداً إلى شيء حسي أو إلى وحي السماء، وما دون ذلك فهو أخبار آحاد. والآحاد أنواع، فقد يكون غريباً، وقد يكون عزيزاً، وقد يكون مشهوراً، فالغريب هو: الذي يرويه واحد عن واحد، والعزيز هو: الذي يرويه اثنان، والمشهور هو: الذي يرويه ثلاثة ما لم يصل إلى حد التواتر. فالمؤلف يقول: إن صفة النزول ثابتة بالتواتر أي: بالنصوص المتواترة، فقد رويت عن جمع غفير من الصحابة، وصحت الآثار أن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا نزولاً يليق بجلال الله وعظمته، فلا نكيفه؛ لأننا لا نعلم كيف يكون النزول. فإذا قال قائل: كيف يكون النزول؟ فنقول كما قال الإمام مالك رحمه الله: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فالنزول معناه معلوم في اللغة العربية، وأما كيفية النزول فلا ندري عنه، فلا نقول: يكون على كيفية كذا. يقول المؤلف: (تواترت الأخبار وصحت الآثار بأن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا)، وجاء في الأخبار المتواترة أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل وفي بعضها: في الثلث الأول أو في النصف الأول، فيقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يسألني فأعطيه؟ حتى يطلع الفجر). فيجب على كل مؤمن الإيمان بصفة النزول والتسليم لله وترك الاعتراض، وإمرار هذه الصفة من غير تكييف ولا تمثيل فلا نكيف ولا نؤول، فلا نقول: ينزل على كيفية كذا، ولا نقول: ينزل كنزول المخلوق، ولا نؤول كما أول المبتدعة فقالوا: ينزل أمره أو ينزل ملك من ملائكته، فهذا تأويل باطل. يقول المؤلف: ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول، يشير إلى الرد على الذين أولوا صفة النزول بدعوى تنزيه الله فنفوا حقيقة هذه الصفة، وذلك أنهم يدعون أن الإثبات الحقيقي لهذه الصفة يتنافى مع التنزيه، ثم يقولون: التنزيه يقتضي نفي هذه الصفة، فنقول: هذا باطل، والمؤلف يقول: ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول، فهذا التنزيه الذي ينفي حقيقة النزول باطل، والتنزيه الحقيقي هو إثبات الصفة على ما يليق بجلال الله وعظمته.

الأدلة على إثبات صفة النزول لله عز وجل

الأدلة على إثبات صفة النزول لله عز وجل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، وفي لفظ: (ينزل الله عز وجل). ولا يصح حمله على نزول القدرة ولا الرحمة ولا نزول الملك]. هذا الحديث صحيح رواه الإمام مالك في موطئه، ورواه البخاري رحمه الله في مواضع من صحيحه في كتاب التهجد وفي كتاب الدعوات وفي كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]، ورواه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين، ورواه الإمام أحمد في مواضع من مسنده، ورواه أبو داود في سننه في كتاب السنة باب في الرد على الجهمية، ورواه الترمذي في كتاب الدعوات، ورواه ابن ماجة في كتاب الإقامة، ورواه غيرهم، وهو من الأحاديث المتواترة، وفيه: (إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، ولا يتكلف الإنسان ويتحذلق مثلما يقول بعض الناس: إن الليل يختلف في الأماكن، فيكون في مكان ثلث الليل الآخر، ويكون في بلاد أخرى نهار أو صبح أو بعد الظهر، ثم يأتي ثلث الليل الآخر فلا يزال الرب ينزل، هكذا يفسر بعض الناس النزول، فالإشكال الذي في ذهنك الآن وقع بسبب التمثيل، فاترك التمثيل حتى يزول الإشكال، فنقول: إن الله ينزل ولا نعرف كيف، فلا نكيف، فهذا النزول يليق بجلال الله وعظمته، فلا نكيف ولا ندري ما الكيفية، فإذا كنت في أي مكان من أرض الله فإذا جاء ثلث الليل الآخر فهذا وقت التنزل لله، فتضرع إلى الله وادعه سبحانه. يقول المؤلف رحمه الله: (ولا يصح حمله على نزول القدرة ولا الرحمة ولا نزول ملك). هذا تأويل المتأولين، قال بعض المتأولين: ينزل الله أي قدرته، وبعضهم قال: تنزل الرحمة، وبعضهم يقول: ينزل ملك، وهذا من أبطل الباطل، فالرحمة نزولها في كل وقت، وليس نزولها مخصصاً في ثلث الليل، وكذلك الملك لا يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟! هل يمكن لمخلوق أن يقول: من يدعوني فأستجيب له؟! من يستغفرني فأغفر له؟! من يسألني فأعطيه؟! لا يقول هذا إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هنا يعلم بطلان تأويل المبتدعة بأن نزول الله معناه نزول أمره أو نزول رحمته أو نزول ملك، هذا من أبطل الباطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما روى مسلم بإسناده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ حتى يضيء الفجر)]. هذه إحدى روايات الحديث عند الإمام مسلم، ورواه أيضاً الترمذي في سننه في كتاب الصلاة بلفظ: (حين يمضي ثلث الليل)، وفي بعضها: (حتى يمضي نصف الليل)، كما سيأتي في إحدى الروايات. وسهيل بن أبي صالح هو ابن ذكوان السمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى رفاعة بن عرابة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مضى نصف الليل أو ثلث الليل ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيقول: لا أسأل عن عبادي أحداً غيري، من ذا الذي يستغفرني أغفر له؟ من ذا الذي يدعوني أستجيب له؟ من ذا الذي يسألني أعطيه؟ حتى ينفجر الصبح) رواه الإمام أحمد. وهذان الحديثان يقطعان تأويل كل متأول، ويدحضان حجة كل مبطل]. هذا الحديث من حديث رفاعة بن عرابة، ويقال: عرادة الجهني، ويقال: إن عرادة اسم جده، والحديث رواه الإمام أحمد -كما قال المؤلف- في مسنده، ورواه ابن ماجة في سننه، ورواه الدارمي في الرد على الجهمية. وذكر المؤلف ثلاث روايات في وقت النزول، حين يمضي ثلث الليل الأول، وحين يمضي نصف الليل الأول، وحين يمضي ثلث الليل الآخر، وأكثر الأحاديث وردت أنه حين يمضي ثلث الليل الآخر، والأحاديث المتواترة على هذا، ورواية النصف والثلث انفرد بها مسلم في بعض طرقه كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأخبار النزول متواترة في الجملة، قال ابن عبد البر: إنه حديث كثير الطرق. ولهذا اتفق السلف على إثبات صفة النزول لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، ونزوله سبحانه لا يشبه نزول المخلوق، فالله مستوٍ على عرشه كما أخبر عن نفسه وهو فوق المخلوقات وهو ينزل كل ليلة إلى الدنيا كما يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف، وأئمة السنة كلهم أجمعوا على هذا، واستدلوا بالنصوص على أن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل يوم القيامة للفصل والقضاء، ولا منافاة بين نزوله واستوائه على عرشه؛ لأنه سبحانه ينزل نزولاً لا يشابه نزول المخلوقين، بل كما يليق بجلاله وعظمته ولا نعلم كيفيته، ولهذا قال الإمام محمد بن الحسين الآجري: الإيمان بهذا واجب، ولا يسع المسلم العاقل أن يقول: كيف ينزل؟ ولا يرد هذا إلا المعتزلة، وأما أهل الحق فيقولون: الإيمان به واجب بلا كيف؛ لأن الأخبار قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، والذين نقلوا إلينا هذه الأخبار هم الذين نقلوا إلينا الأحكام من الحلال والحرام، فكيف تقبل الأخبار التي رووها في الحلال والحرام ولا تقبل الأحكام التي رووها في الصفات؟! وكما قبل العلماء منهم ذلك، قبلوا منهم هذه السنن، قال الآجري: إن من ردها فهو ضال خبيث، يحذرونه ويحذرون منه. ومن الأئمة أبو بكر بن خزيمة رحمه الله له كتاب التوحيد، وهو كتاب عظيم، ينقل عنه أهل الحق أهل السنة والجماعة، قال بعد أن ذكر هذه الأخطاء: نشهد شهادة مقر بلسانه، مصدق بقلبه، مستيقن بما في هذه الأخبار بنزول الرب بغير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى لم يخبرنا كيفية نزول خالقنا إلى السماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك ولا نبيه عليه الصلاة والسلام بيان ما في المسلمين إليه حاجة من أمر ديننا، فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول، وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح أن الله جل وعلا فوق السماء الدنيا. الذي أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: أنه ينزل إلينا، إذ محال في لغة العرب أن يقول: ينزل من أسفل إلى أعلى، ومفهوم الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل. وبهذا يتبين أن صفة النزول أجمع عليها أهل السنة والجماعة، وتواترت بها الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وهذان الحديثان يقطعان تأويل كل متأول ويدحضان حجة كل مبطل). أي يقطعان قول من يقول: إنه ينزل أمره أو وينزل ملك، لصراحتهما أن الله هو الذي ينزل بنفسه، وأنه قال: من يسألني؟ من يدعوني؟ من يستغفرني؟

رواة حديث النزول من الصحابة

رواة حديث النزول من الصحابة قال المؤلف رحمه الله: [وروى حديث النزول علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وعمرو بن عبسة وأبو الدرداء وعثمان بن أبي العاص ومعاذ بن جبل وأم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلق سواهم]. يبين المؤلف رحمه الله أن روايات حديث النزول متواترة، فقد رواه جمع من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب أخرج روايته اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وابن ماجة مقيداً بليلة النصف من شعبان. وعبد الله بن مسعود أخرج روايته الإمام أحمد في المسند والشريعة للآجري، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة. وجبير بن مطعم؛ أخرج روايته في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، والسنة لـ ابن أبي عاصم، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارمي والتوحيد لـ ابن خزيمة وجابر بن عبد الله أخرج روايته في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والتوحيد لـ ابن خزيمة، وأبو سعيد الخدري في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، والسنة لـ ابن أبي عاصم وسنن الترمذي. وعمرو بن عبسة بن خالد بن حذيفة: أخرج روايته الإمام أحمد في المسند، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة. وأبو الدرداء؛ أخرج روايته ابن خزيمة في كتاب التوحيد، وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة. وعثمان بن أبي العاص أخرج روايته البخاري في الكبير، والذهبي في سير أعلام النبلاء، والإمام أحمد في المسند، وابن خزيمة في التوحيد. وعثمان بن أبي العاص أخرج روايته ابن أبي عاصم في السنة. ومعاذ بن جبل، وروايته في شرح أصول اعتقاد أهل السنة. وأم سلمة وروايتها في شرح أصول اعتقاد أهل السنة. وبعض هذه الروايات قد يكون فيها ضعف، ومنها ما اتفق عليه الشيخان، ولكن مجموعها يشد بعضه بعضاً، ويقوي بعضها بعضاً، وتشهد لها الأحاديث الصحيحة. وقد ذكر اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة: أن حديث النزول رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرون نفساً، فهي لكثرتها بلغت حد التواتر، وهذه الروايات تجعل هذا الأمر من الأمور المسلمة المعلومة من الدين بالضرورة والتي لا يسع أحداً أن ينكرها ولا أن يكابر فيها إلا من غلب عليه الهوى، ومن كان إلهه هواه فلا حياة فيه.

الإيمان بصفة النزول من غير تكييف أو تشبيه وأقوال العلماء في ذلك

الإيمان بصفة النزول من غير تكييف أو تشبيه وأقوال العلماء في ذلك قال المؤلف رحمه الله: [ونحن مؤمنون بذلك مصدقون، من غير أن نصف له كيفية، أو نشبهه بنزول المخلوقين]. معنى كلام المؤلف: أننا معشر أهل السنة والجماعة مؤمنون بذلك، مصدقون بصفة النزول من غير أن نصف لها كيفية، فلا نقول: كيفيتها على كذا وكذا، أو مثل نزول المخلوق بل نقول: الله أعلم بالكيفية، ولا نشبه صفة النزول بنزول المخلوقين، ولا نكيفه، كأن نقول: إنه على كيفية كذا، فعلم الكيفية موكول إلى الله عز وجل.

قول الإمام أبي حنيفة في صفة النزول

قول الإمام أبي حنيفة في صفة النزول قال المؤلف رحمه الله: [وقد قال بعض العلماء: سئل أبو حنيفة عنه - يعني: عن النزول- فقال: ينزل بلا كيف]. بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله النصوص والأحاديث المتواترة أراد أن يذكر أقوال أهل العلم من أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا هذا الشيء، فقال: سئل أبو حنيفة -وهو أحد الأئمة الأربعة- عن النزول، فقال: ينزل بلا كيف. يعني: ينزل الرب سبحانه وتعالى بلا كيف -روى قول الإمام أبي حنيفة هذا البيهقي في الأسماء والصفات- فأثبت النزول بقوله: ينزل بلا كيف، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة فلا يقولون: على كيفية كذا، أو يشبه نزوله نزول المخلوق؛ لأن الكيف منفي، ولا يعلمه إلا الله.

قول الإمام محمد بن الحسن في أحاديث صفة النزول

قول الإمام محمد بن الحسن في أحاديث صفة النزول قال المؤلف رحمه الله: [وقال محمد بن الحسن الشيباني صاحبه: الأحاديث التي جاءت أن الله يهبط إلى سماء الدنيا، ونحو هذا من الأحاديث أن هذه الأحاديث قد روتها الثقات، فنحن نرويها، ونؤمن بها، ولا نفسرها]. هذا القول هو لـ محمد بن الحسن الشيباني، وهو الصاحب الثاني لـ أبي حنيفة، والصاحب الأكبر هو أبو يوسف. يقول محمد بن الحسن: الأحاديث التي جاءت أن الله يهبط إلى سماء الدنيا ونحوها من الأحاديث قد روتها الثقات أي: الرواة الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها. يعني: لا نفسرها تفسير الجهمية وغيرهم من أهل البدع الذين يؤولونها فيفسرون النزول بنزول الملك أو القدرة أو الرحمة، وقوله: (لا نفسرها) أي: لا نفسر الكيفية، وإنما نرويها ونؤمن بها ونصدق بها، ونكل علم الكيفية إلى الله عز وجل.

رواية عبد الله بن أحمد عن الإمام أحمد في صفة النزول

رواية عبد الله بن أحمد عن الإمام أحمد في صفة النزول قال المؤلف رحمه الله: [وروينا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت أنا وأبي عابرين في المسجد فسمع قاصاً يقص بحديث النزول فقال: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا، بلا زوال ولا انتقال، ولا تغير حال، فارتعد أبي رحمه الله واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخوض، فلما حاذاه قال: يا هذا! رسول الله أغير على ربه عز وجل منك، قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف]. هذه القصة رواها عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، والقاص هو الواعظ، والغالب أن هؤلاء القصاص الذين يعظون الناس ليس عندهم علم، وإنما يعظونهم بالقصص والحكايات والأحاديث الضعيفة والموضوعة، فـ عبد الله بن أحمد مر مع أبيه في المسجد فسمعا واعظاً يتكلم في حديث النزول فقال: (إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال) قال عبد الله: (فارتعد أبي رحمه الله، واصفر لونه، ولزم يدي، وفي لفظ: وأمسك يدي) أي: تغير الإمام أحمد فاصفر لونه وارتعد، فأمسك ابنه عبد الله بيده حتى سكن، أي: هدأ ثم مشى حتى حاذى الواعظ فقال له: (يا هذا! رسول الله أغير منك على الله عز وجل، قل كما قال رسول الله وانصرف). أي: فالرسول قال: (ينزل ربنا) ولم يقل: بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، فهل أنت أغير على الله أم الرسول أغير منك؟ لا شك أن الرسول أغير، ومع ذلك لم يقل: ينزل بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، فاحذر أن تتجاوز كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. قال المحقق في الحاشية: لم أجد هذه القصة.

رواية حنبل عن الإمام أحمد في صفة النزول

رواية حنبل عن الإمام أحمد في صفة النزول قال المؤلف رحمه الله: [قال حنبل قلت لـ أبي عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل -: ينزل الله إلى سماء الدنيا، قلت: نزوله بعلمه أو بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا ما لك ولهذا، أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، على ما جاءت به الآثار، وبما جاء به الكتاب]. هذه القصة رواها اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة. وحنبل السائل للإمام أحمد هذا هو حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد وكنيته أبو علي الشيباني، وهو ابن عم الإمام أحمد وتلميذه، قال الخطيب: كان ثقة ثبتاً. يقول حنبل: قلت لـ أبي عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل -: ينزل الله إلى السماء الدنيا، قلت: نزوله بعلمه أوبماذا؟ فأنكر علي الإمام أحمد وقال لي: اسكت عن هذا، لا تخض في مثل هذا، ما لك ولهذا، أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، لا تزد عن الحديث، بل اقتصر على ما جاءت به الآثار، وبما جاء به الكتاب، يعني: بما جاء به الكتاب العزيز. والمعنى: أن نصوص الصفات من الآيات والأحاديث نمضيها كما وردت، ونمرها كما جاءت، ولا نتأول تأويلاً ظاهر النصوص، بل نؤمن بها من غير تعرض للكيفية.

قول الإمام إسحاق بن راهويه في صفة النزول

قول الإمام إسحاق بن راهويه في صفة النزول قال المؤلف رحمه الله: [وقال إسحاق بن راهويه: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب! هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا) قال: قلت: أعز الله الأمير، لا يقال لأمر الرب عز وجل: كيف؟ إنما ينزل بلا كيف. ومن قال: يخلو العرش عند النزول أو لا يخلو فقد أتى بقول مبتدع، ورأي مخترع]. هذه المقالة هي للإمام إسحاق بن راهويه وهو إمام كبير من الحفاظ، وكنيته: أبو يعقوب الحنظلي، وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، قال له الأمير عبد الله بن طاهر: وهذا اسمه عبد الله بن طاهر بن الحسين وكنيته أبو العباس، وهو أمير خرسان في زمانه، بل من أشهر الولاة في العصر العباسي، يقول الأمير لـ إسحاق بن راهويه يا أبا يعقوب! هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا) كيف ينزل؟ فتعجب الإمام من الأمير قال: قلت: أعز الله الأمير، لا يقال لأمر الرب كيف؟ إنما ينزل بلا كيف، هذا كلام الإمام رداً على الأمير. قول الإمام: أعز الله الأمير، هذا دعاء له. وقوله: لا يقال لأمر الرب كيف: إنما ينزل بلا كيف إلى هنا انتهى كلام الإمام إسحاق للأمير. ثم بدأ المؤلف كلامه بقوله: (ومن قال يخلو العرش عند النزول أو لا يخلو فقد أتى بقول مبتدع، ورأي مخترع) إذاً: الحافظ عبد الغني يرى أنه لا يقال: (يخلو العرش من الرب) ويرى أن هذا من القول المبتدع فنقول: ينزل الرب، ولا نقول: يخلو العرش أو لا يخلو العرش. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن للعلماء أقوالاً ثلاثة في هذه المسألة: القول الأول: أنه لا يخلو العرش عند نزوله، أي: أن الله ينزل إلى سماء الدنيا ولا يخلو منه العرش؛ لأن نصوص الفوقية والعلو محكمة وأما النزول فهو فعل يفعله والله أعلم بكيفيته. القول الثاني: وهو الذي اختاره المؤلف أنه لا يقال: يخلو ولا يقال: لا يخلو، بل السكوت. القول الثالث: أن يقال: يخلو منه العرش، وهذا أضعفها. ثم ذكر شيخ الإسلام أن أصح هذه الأقوال هو القول الأول، وهو أن يقال: لا يخلو منه العرش. وقال: منهم من ينكر أن يقال: يخلو منه العرش أو لا يخلو، ونقل هذا عن الحافظ عبد الغني المقدسي. ومنهم من قال: بل يخلو منه العرش، وهذا أضعفها، وصنف ابن مندة في الإنكار على من قال: لا يخلو منه العرش، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما ذكر الأقوال في هذه المسألة: القائلون بأنه يخلو منه العرش طائفة قليلة من أهل الحديث، وجمهورهم على أنه لا يخلو منه العرش، وهو المأثور عن الأئمة المعروفين بالسنة، ولم ينقل عن أحد منهم بإسناد صحيح ولا ضعيف أن العرش يخلو منه. إذاً: شيخ الإسلام يبين أن قول جمهور المحدثين: أنه لا يخلو منه العرش، وأن هناك طائفة قليلة تقول: بأنه يخلو منه العرش، والقول الثالث: أنه لا يقال: يخلو ولا يخلو، كما اختاره الحافظ عبد الغني وغيره، قالوا: إن القول: بأنه يخلو أو لا يخلو قول مبتدع، وبهذا يتبين أن جمهور المحدثين على أنه لا يخلو منه العرش.

الأسئلة

الأسئلة

منهجية الحافظ المقدسي في تخريج الأحاديث في هذا الكتاب

منهجية الحافظ المقدسي في تخريج الأحاديث في هذا الكتاب Q هناك قاعدة للمصنف بالنسبة لتخريج الأحاديث، وهي: أنه إذا لم يخرج الحديث فهذا معناه: أن الحديث متفق عليه هل هذه القاعدة مطردة؟ A قد يكون هذا اصطلاحاً له، وقد لا يكون، لكن هل هي مطردة؟ قد توجد بعض الأحاديث لا يعزوها، ولا تكون مما اتفق عليه، يعني: كأن المصنف أخذ على نفسه أنه إذا سكت عن الحديث فمعناه أنه رواه الشيخان، لكن أحياناً قد يكون رواه أحدهما، أو لم يروه الشيخان؛ لأن الإنسان بشر قد يخطئ، لكن إن كان مثل هذا قاعدة للمصنف ففي الغالب أنه ينص على ذلك في المقدمة، ولكن قد يوجد خلاف هذا على قلة.

الحض على قيام الليل

الحض على قيام الليل Q نرجو من فضيلتكم توضيح الفائدة التربوية من إثبات صفة النزول، خصوصاً أن الحضور من طلاب العلم يحتاجون إلى البناء الإيماني، ومنه قيام الليل، الذي هو دأب الأنبياء والصالحين؟ A لا شك أن المؤمن يستفيد من هذه الأحاديث -كحديث النزول- فإن الله سبحانه وتعالى يستجيب الدعاء في ثلث الليل الآخر، ولهذا يقول العلماء: إنه وقت التنزل الإلهي فإن هذا الوقت وقت شريف، ونصف الليل الثاني أفضل من نصف الليل الأول، وثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر أول الليل، وأوتر أوسطه، ثم انتهى به الوتر إلى السحر. وجاء في حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم ثلث الليل الآخر) وجاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام إذا صلى العشاء، فإذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام عليه الصلاة والسلام يصلي) وجاء في الحديث الآخر: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه)، وكان داود عليه الصلاة والسلام ينام النصف الأول، ثم يقوم السدس الرابع والسدس الخامس، ثم ينام السدس السادس، حتى يستعين بها على أعمال النهار، أي: هذه النومة في السدس الأخير؛ لأنه كان ملكاً حاكماً، يحكم بين الناس كما قال تعالى عنه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26]. وقد ثبت في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم السدس الخامس والسادس) وبهذا يتبين أن النصف الأخير هو أفضل الليل، ويشمل السدس الرابع والخامس والسادس، وأما النصف الأول فكان ينامه داود عليه الصلاة والسلام، وينامه نبينا صلى الله عليه وسلم، فيكون النصف الأخير وهو النصف الثاني بأسداسه الثلاثة هو أفضل الليل، فالسدس الرابع والخامس يقومه داود، والسدس الخامس والسادس يقومه نبينا عليه الصلاة والسلام. فينبغي للمسلم ولاسيما طالب العلم أن يكون له نصيب من هذا الوقت العظيم الثمين، وقت التنزل الإلهي، فالرب عز وجل ينزل ويقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، وهذا يدلنا أن هذا وقت عظيم وثمين، ولو أنه وقت قصير، لكن ينبغي أن يكون المسلم في هذا الوقت من الذاكرين الله كثيراً، ومن المستغفرين بالأسحار، ومن المستيقظين لا النائمين، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قيل له: إن رجلاً قد نام حتى طلع الفجر، قال: ذاك رجل قد بال الشيطان في أذنه)، رواه البخاري في الصحيح. قيل: نام عن ورده من الليل، وقيل: نام ولم يصل شيئاً، أو نام عن صلاة العشاء، فينبغي للمسلم وخصوصاً طالب العلم أن يستفيد من أحاديث النزول والتنزل الإلهي؛ لأن الرب سبحانه وتعالى ينزل في هذا الوقت الشريف ويقول: (من يدعوني؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟) فينبغي أن يكون الإنسان في هذا الوقت من الداعين والساعين والمستغفرين.

معنى (سبحات وجهه)

معنى (سبحات وجهه) Q ما معنى قوله: (سبحات وجهه)؟ A ذكر بعضهم كـ السفاريني وغيره بأن المقصود بـ (سبحات وجهه) بأنوار بصره والله أعلم.

معنى قوله: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)

معنى قوله: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) Q ألا يحتج أهل البدع بقوله: (أحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) على أن الله سبحانه وتعالى ينتهي بصره، وأنه لا يحيط بصره بكل شيء، كيف يرد عليهم؟ A هذا كلام باطل، معنى: (لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) يعني: إحاطة بهم، أي: بصره يحيط بالخلق جميعاً، ولو كشفها لأحرقت سبحات وجهه جميع الخلق؛ لأن الله تعالى يدرك جميع الخلق.

حكم الدعاء بصفات الله دون أسمائه

حكم الدعاء بصفات الله دون أسمائه Q هل يجوز أن يدعو المسلم بصفة من صفات الله، كقوله: يا وجه الله؟ A هذا لا يجوز، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن دعاء الصفة ردة عن الإسلام، فلا يجوز أن يقول: يا وجه الله! أو يقول: يا رحمة الله ارحميني، أو يا قدرة الله أنقذيني، أو يا وجه الله أعطني كذا وكذا، هذا لا يجوز، وهو حرام وبدعة، حتى قال شيخ الإسلام: إنه كفر، قال ذلك حين رد على البكري، وذلك لأن الله تعالى بذاته وأسمائه وصفاته هو الخالق، فلا تنادى الصفة وحدها، لكن ورد الاستعاذة بالصفة عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) وكذلك ورد القسم بالصفة (وعزة الله) كما في الحديث: (وعزتك لا أسألك غير هذا)، وقاله إبليس كما قال الله عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]؛ هذا لا بأس به؛ لأنه يخاطب الله، أما نداء الصفة وحدها فلا يجوز، وبعض العامة يقول: يا وجه الله أنقذني، فهذا ما ينبغي، ويجب الإنكار على مثل هذا، ويعرَّف أنه لا يجوز أن يقول: يا وجه الله أنقذني ونحوه، وهذا معروف عند أهل البادية وعند بعض العامة. والبعض يقول: اللهم إني أسألك بعلوك فوق خلقك، فنقول: ينبغي للإنسان أن يسأل بالأسئلة الشرعية المعروفة كأن يقول: أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى.

الفرق بين السؤال والدعاء

الفرق بين السؤال والدعاء Q ما الفرق بين السؤال والدعاء في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟)؟ A الدعاء أعم من السؤال؛ لأن الدعاء يشمل العبادة، والدعاء هو العبادة، لكنه أخص منها، والاستغفار أخص من الكل، فالاستغفار نوع من السؤال، والسؤال نوع من الدعاء، والدعاء الذي في الحديث: (من يدعوني) هو أعم، ثم جاء في الحديث بعد العام الخاص وهو السؤال، ثم جاء الأخص وهو الاستغفار. إذاً: الاستغفار سؤال، لكنه نوع من الأسئلة فالسؤال أعم؛ لأنه يشمل الاستغفار وغير الاستغفار، فالاستغفار نوع من السؤال، والسؤال نوع من الدعاء.

قوله تعالى (فأينما تولوا فثم وجه الله) وعدم اعتباره من آيات الصفات

قوله تعالى (فأينما تولوا فثم وجه الله) وعدم اعتباره من آيات الصفات Q قرأت في فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله أن قول الله جل وعلا: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ليس من آيات الصفات؟ A نعم هذا صحيح، هذه الآية ليست من آيات الصفات فلا يصح أن تسمي وجه الله: جهة، أي: جهة الله، والذين قالوا: إنها من آيات الصفات ضموا إليها أدلة أخرى، ومثله قول الله تعالى: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56]، وهذه الآية أيضاً ليست من آيات الصفات، ولا يثبت الجنب لله، كصفة فمعنى: (فثم وجه الله) يعني: الجهة أو جهته.

معنى قوله تعالى (فأينما تولوا فثم وجه الله)

معنى قوله تعالى (فأينما تولوا فثم وجه الله) Q كيف يرد على أهل البدع الذين يستدلون بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] على وجود الله في كل مكان؟ A هذا استدلال باطل، وأدلتهم دائماً داحضة، أما قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} [البقرة:115]، فهذا في السفر، إذا اجتهد الإنسان واتجه إلى أي قبلة فهي القبلة المشروعة، حتى ولو أخطأ إذا كان قد اجتهد، وأهل البدع الحلولية حجتهم داحضة، وليس في هذه الآية دليل لهم؛ لأن هذا في السفر، أي: إذا اتجه الإنسان إلى أي جهة بعد أن يعمل ما بيده من العلامات إذا أخطأ فقد أصاب.

معنى قول ابن قدامة: (نؤمن بها بلا كيف ولا معنى)

معنى قول ابن قدامة: (نؤمن بها بلا كيف ولا معنى) Q قال ابن قدامة في اللمعة في حديثه عن الصفات: نؤمن بها بلا كيف ولا معنى، فهل هذا تفويض؟ A قال بعضهم: إنه تفويض، وقيل: معنى لا كيف أي: لا نكيف، وقوله: لا معنى، أي: لا معنى الكيفية، أو لا معنى على ما يعتقده ويتأوله أهل الباطل؛ لأن ابن قدامة من أهل السنة والجماعة فيكون معنى قوله: فلا كيف أي: لا نكيف، ويعني بقوله: ولا معنى، أي: بما فسره به أهل الباطل من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم.

إثبات البيهقي لصفة الوجه لله

إثبات البيهقي لصفة الوجه لله Q قلتم رعاكم الله: إن البيهقي فوض صفة الوجه، ثم قلتم: إن من الأشاعرة من أثبت صفة الوجه ومنهم البيهقي؟ A البيهقي مع أنه من الأشاعرة إلا أنه أثبت صفة الوجه.

حكم امتحان الناس في عقائدهم

حكم امتحان الناس في عقائدهم Q في حديث الجارية التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة على اختبار الناس في عقائدهم؟ A نعم؛ لأن هذه يراد به عتقها، والعتق يشترط فيه الإيمان، فأراد النبي أن يختبرها أهي مؤمنة حتى تعتق أم لا تعتق، والرسول لم يختبر الجواري الأخر، لكن هذه لما أريد عتقها اختبرها النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلم هل هي مؤمنة فتعتق أم غير مؤمنة فلا تعتق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعتقها فإنها مؤمنة)؛ لأنه أراد أن يعتق جارية مؤمنة. وأما امتحان الناس في عقائدهم فلا يلجأ إليه إلا إذا وجدت أسباب تدعو إلى ذلك.

القول بفناء النار لا يثبت عن ابن تيمية وابن القيم

القول بفناء النار لا يثبت عن ابن تيمية وابن القيم Q هل صحيح أن الإمام ابن القيم رحمه الله قال بفناء النار؟ A هذا ليس بصحيح، ومن قال: إنه قال بفناء النار فإنما أخذه من النونية، ومن بعض كتبه التي أطال فيها، وفيها ما يدل على أنه يقول بفناء النار، وفيها أيضاً ما يدل على أنه لم يقل بفناء النار، فالأقرب والله أعلم أن له قولين في هذه المسألة، وأنه رجع عن أحدهما، والأقرب أن الذي رجع عنه القول بفناء النار، فله كلام طويل في بعض كتبه وفي النونية ظاهره أنه يقول بفناء النار، وله كلام آخر في نفس الكتاب يدل على أنه لا يقول بفناء النار، ولذلك بعضهم رد على من قال: إنه قال بفناء النار بكلامه الذي هو صريح أو قريب من الصريح بأنها لا تفنى، وبعضهم قال: إنه يقول: إنها تفنى، واستدل بكلامه الذي يدل على أنها تفنى، وهذا قاله بعضهم في إحدى المناقشات في بعض الرسائل، وقلت: إن الذي يظهر لي أن له قولين، وأنه رجع عن أحدهما، والأقرب أنه رجع عن القول بفناء النار. وأما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال بعضهم: إنه يقول بفناء النار، والصواب أنه لا يقول بفناء النار، فكلامه صريح في ذلك، لكن ابن القيم وجد له ما يدل على هذا أي: على القول بفناء النار، وله كلام يدل على أنه لا يقول بفناء النار، فيظهر أن له هذا وله هذا، وأن له قولين رجع عن أحدهما.

حكم ترجمة (الله أكبر) وما شابهها إلى اللغات الأعجمية

حكم ترجمة (الله أكبر) وما شابهها إلى اللغات الأعجمية Q أعمل في مراجعة الكتب المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، وكثيراً ما نجد من يترجم لفظة (الله أكبر) بـ ( Allah Is Greater) وفيها معنى التفضيل والمقارنة، وسؤالي هنا: هل تصح هذه اللفظة بهذا المعنى، أو تعتبر هذه الترجمة خطأ؟ A هذه الترجمة خطأ، لا ينبغي أن تترجم لفظة: (الله أكبر، أو سبحان الله، أو الحمد لله) فمثل هذه لا تترجم، بل ينطق بها العربي والأعجمي سواء، كذلك ألفاظ القرآن لا تترجم، لكن يترجم المعنى، وكذلك الدعاء والتشهد لا يترجم، وينبغي حفظه، والفاتحة والتكبيرات لا تترجم، وقول: سمع الله لمن حمده، والتسبيحات؛ ولهذا فإن المترجمين المعروفين بالورع تسمعهم في خلال الترجمة إذا جاء إلى لفظ الآية قرأها، وإذا جاء إلى لفظ: (سبحان الله قرأها)، وإذا جاء إلى لفظ: (الله أكبر) قرأها باللغة العربية، فلا يترجمها، وهذا هو الصواب أي: أنها لا تترجم، وإنما يحفظها الأعجمي كما هي، فيجب أن يحفظ (الله أكبر)، ولا تترجم وكذا يحفظ (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر)، والتشهد، والفاتحة، وهكذا.

لا يأثم المسحور إن فعل ما هو خارج عن إرادته واستطاعته

لا يأثم المسحور إن فعل ما هو خارج عن إرادته واستطاعته Q أنا مسحورة بسحر التفريق بيني وبين زوجي، وأنا دائمة الرفض له بسبب هذا الأمر فهل أنا آثمة بمنعي لزوجي؟ A أولاً: يجب أن تتحقق هذه المرأة هل هي مسحورة أم لا؟ فقد لا تكون مسحورة، وقد يكون هذا التصرف منها كراهية. نعم السحر حق، ولكن ليس كل ما يصيب الإنسان سحراً، بعض الناس تجده إذا أصابه الوجع قليلاً قال: أنا مسحور، أصبت بعين، نقول: نعم العين حق، والسحر حق، لكن ليس كل شيء يوصف هكذا، وهذه الأخت يظهر أنها عاقلة وفاهمة، والظاهر أنها ليست مسحورة؛ لأن المسحور في الغالب لا يعقل، والمقصود أن عليها أن تتحقق من هذا، ولو قدر أنها مسحورة فعلاً فعليها أن تسعى في إزالة السحر بالرقية الشرعية، أو بالحصول على السحر وإتلافه، أو على المرأة التي سحرتها وتخبرها عن مكان السحر ثم يتلف، وهذا يكثر الآن لما كثر الخدم والخادمات في البيوت ومع ذلك لم يعتبر كثير من الناس، بل كثير من الناس يأتي بالخادم والخادمة وليس له به حاجة، لكن من باب الفخر والخيلاء والمباهاة، حتى أن بعضهم يستدين من أجل الحصول على خادمة، يقول: فلان عنده خادمة، وأنا ما عندي خادمة، ثم تكون النتيجة آهات، كأن يحصل مثل هذا البلاء، وهذا السحر، فينبغي للإنسان أولاً: عدم الإكثار من الخدم والخادمات، وأن لا يأتي الإنسان بالخادم والخادمة إلا للضرورة القصوى التي لا غنى للإنسان فيها عن الإتيان بهم، ثم بعد ذلك إذا أراد أن يأتي بالخادم والخادمة يختار الناس الطيبين من المسلمين، ولا يستقدم الكفرة ولا الكافرات، بل يختار من المسلمين والمسلمات؛ لأن المسلم تخاطبه باسم الإسلام وتوجهه به، لكن الكافر لا حيلة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وعلى الإنسان أن يسعى لإزالة السحر، فإذا كانت الخادمة سحرت هذه المرأة فعليها أن تطلب منها أن تخبرها بمكان السحر حتى يزال، وتعمل الرقية الشرعية، وتتضرع إلى الله، وتسأل الله السلامة والعافية، وإذا فعلت شيئاً هي بدون اختيارها فلا إثم عليها، أعني: إذا كانت مضطرة ولا تستطيع دفع هذا الشيء، ولو كان عندها استطاعة ما فعلته فلا تلام لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وتكون معذورة في هذا.

فضل صلاة العشاء والفجر في جماعة

فضل صلاة العشاء والفجر في جماعة Q هل صلاة العشاء والفجر في جماعة يكفي عن قيام الليل، وما معنى: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله)؟ وهل يكون محفوظاً بذلك من الآفات؟ A ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، فهذا الحديث فيه فضل عظيم لمن صلى الفجر في جماعة، أو صلى العشاء في جماعة، وكذلك الحديث الآخر: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء). وورد أن الحجاج بن يوسف الظالم المعروف أمير العراق لـ عبد الملك بن مروان في زمانه أتي إليه برجل يريد قتله؛ لأنه مشهور بالظلم، فسأله: هل صليت الفجر في جماعة؟ قال: نعم، وقال: إنه سمع الحديث: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله) فتجاوز عنه، وهذا من فضائل صلاة الفجر في جماعة. وهل يكفي هذا عن قيام الليل؟ لا يكفي، لكن هذا فيه فضل، فمن صلى العشاء والفجر في جماعة فهو على خير عظيم، وإذا صلى مع ذلك في آخر الليل أو صلى من الليل فهذا نور على نور، وصلاة الليل فيها فضل عظيم، وهي من صفات المؤمنين والمتقين كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:15 - 18]، فلها فضل عظيم وينبغي للمسلم أن تكون عنده همة عالية، فيصلي الفجر في جماعة، ويصلي العشاء في جماعة، ويكون له نصيب وورد من قيام الليل.

حض طالب العلم على أن يكون قدوة لغيره

حض طالب العلم على أن يكون قدوة لغيره Q لوحظ على بعض الأخيار ممن يحضرون هذه الدورة - ولا نزكي على الله أحداً- أنهم يحضرون إلى هذه الدروس وقد تفوتهم الصلاة مع الجماعة، فما توجيهكم حفظكم الله، مع العلم أنه لوحظ أكثر من جماعة تصلي في وقت واحد؟ A ينبغي لطالب العلم أن يكون قدوة لغيره، سباقاً إلى الخير، محافظاً على الصلوات الخمس يتقدم فيها ولا يتأخر عنها حتى لا يكون قدوة سيئة لغيره، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو يعلم الناس ما في التهجير والنداء ثم لم يجدوا إلا أن يستبقوا عليه لاستبقوا)، والتهجير هو: التبكير إلى الصلوات، أي: لو يعلمون ما فيه من الأجر لاستبقوا إليه، يعني: تساهموا وأجروا بينهم القرعة والسهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) وفي لفظ: (حتى يؤخرهم الله في النار)، فلا ينبغي للمسلم أن يكون متأخراً ويتكاسل ويتأخر عن مواطن الخير، ولا سيما إذا كان طالب علم؛ لأن طالب العلم ينبغي أن يكون قدوة لغيره كما ينبغي ألا تقام جماعتان في مسجد واحد في وقت واحد، بل يجتمعون في جماعة واحدة، وإذا جاءت الجماعة الثانية فعليهم أن يصلوا مع الجماعة الأولى, ولا ينبغي لهم إنشاء جماعة جديدة وأحياناً قد توجد جماعة ثانية ويكون ذلك جائزاً لهم؛ لأنهم مسافرون، فهم يصلون صلاة أخرى لكن إذا كانت الصلاة واحدة فلا ينبغي أن تقام جماعتان في مكان واحد.

بيان عدم جواز دعاء الصفة وجواز الاستعاذة بها

بيان عدم جواز دعاء الصفة وجواز الاستعاذة بها Q قوله في الحديث: (أعوذ بكلمات الله التامة) هل هو دعاء بصفة من صفات الله؟ A هذه استعاذة والاستعاذة لا شيء فيها، فمثل هذه الاستعاذة واردة، أي: (أعوذ بكلمات الله من شر ما خلق)، وكذلك ورد في الحديث: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) وورد كذلك: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك) هذا كله دعاء نبوي، فالاستعاذة بالصفة لا بأس بها، وإنما الممنوع دعاء الصفة نفسها، كقولك: يا رحمة الله، ويا وجه الله، ويا قدرة الله، فمثل هذا ممنوع، وكذلك القسم والحلف بعزة الله، وكلام الله أيضاً لا بأس به، وكذلك لا يسأل بوجه الله، والحديث الوارد في ذلك ضعيف.

أحكام قصر الصلاة في السفر

أحكام قصر الصلاة في السفر Q نحن مجموعة سافرنا إلى ألمانيا، لكل منا قصد من السفر: إما لعمل، أو مرافقة مريض أو غير ذلك من الأسباب، المهم في الأمر أننا نقيم في ألمانيا ولا نعلم متى نعود، وكنا طيلة المدة الماضية نقصر الصلاة فهل يجوز هذا؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وهي: المسافر إذا أقام في مكان هل يقصر الصلاة أو لا يقصر وهل يترخص برخص السفر أو لا؟ أما إذا أقام في مكان وهو لا يعلم مدة إقامته، وما يدري متى ستنتهي، كأن يكون له معاملة، فإن انتهت اليوم مشى، أو بعد يومين أو ثلاثة لا يدري متى تقضى حاجته، فمتى ما انتهت حاجته رجع إلى بلده الأصلي فهذا لا يزال مسافراً، ويترخص برخص السفر، لكن إذا كان في البلد فينبغي له أن يصلي مع الناس ولا يصلي وحده، وإذا كان وحده لا ينبغي له أن يقصر الصلاة ولا يصلي مع الجماعة، بل يجب أن يجيب المؤذن، وإذا كانوا اثنين فأكثر فهم بالخيار؛ إن شاءوا صلوا مع الناس وأتموا الصلاة وهذا هو الأفضل، وإن صلوا وحدهم قصروا. أما إذا أقام في مكان وهو يعلم أن مدة إقامته أكثر من أربعة أيام، فالصواب الذي عليه جمهور العلماء: أنه إذا نوى أن يقيم في مكان أكثر من أربعة أيام -يعني: يزيد على إحدى وعشرين صلاة- فإن أحكام السفر تنقطع من أول فريضة، أي: صلاتك من أول فريضة تتمها، وهذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، واحتجوا بحديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في حجة الوداع أقام أربعة أيام يقصر الصلاة، ثم انتقل إلى منى) قالوا: فما زاد على أربعة أيام فإنه يتم؛ لأننا تحققنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نوى هذه الإقامة أي: أربعة أيام، وقالوا: إن الصلاة فريضة عظيمة وينبغي أن يكون هناك حد لها، ولو قلنا: ليس هناك حد، معنى ذلك: أن يكون المسافر يقصر سنين طويلة، وقد ينتقل إلى بلد ويقول: أنا سأجلس عشر سنين ثم أرجع إلى بلدي، فمعنى هذا: أنه يقصر الصلاة عشر سنين؛ لذا لزم أن يكون هناك حد، والحد هو أربعة أيام لكن استثنيت أربعة أيام بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؛ لأنه عزم على الإقامة في البقية، أما في غزوة الفتح فإنه أقام تسعة عشر يوماً، لكنه لم ينو الإقامة، وإنما أقام لتثبيت التوحيد، وتثبيت الدين، وإزالة معالم الشرك، وكذلك في تبوك ما نوى إقامة مستقرة، بخلاف إقامته أربعة أيام في حجة الوداع فإنه نوى الإقامة، والصواب الذي عليه جمهور العلماء: أنه إذا نوى أن يقيم أكثر من أربعة أيام فلا يترخص من أول فريضة بعد انقضاء أربعة أيام، بل يتم الصلاة، أما إذا كانت الإقامة يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة فإنه يترخص برخص السفر، وإذا كانوا اثنين أو ثلاثة فالأمر كما أحبوا إن صلوا وحدهم قصروا، وإن صلوا مع الناس أتموا، أما إذا كان واحداً فلا يصلي وحده، بل عليه أن يصلي مع الجماعة.

حكم من نسي التشهد الأول

حكم من نسي التشهد الأول Q نسيت قراءة التشهد الأول في الركعة الثانية من صلاة العشاء، فهل أقرؤه في الركعة الثالثة، أم أكتفي بسجود السهو؟ A تكتفين بسجود السهو، إن فاتك التشهد الأول أو لم تصلي إلا ركعتين في الرباعية فعليك أن تصلي، ثم بعدها وقبل السلام تسجدين للسهو سجدتين على ما جاء في حديث عبد الله بن بحينة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام وترك التشهد الأول، فلما انتظر الناس التسليمة سجد السجدتين ثم سلم) أي: بعد التشهد.

[5]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [5] يثبت أهل السنة لله تعالى صفة اليد كما أثبتها لنفسه سبحانه وكما أثبتها له نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما يثبتون أن لله يدين وأن كلتا يديه يمين مباركة، ومن قال: إن يد الله هي قدرته أو نعمته فإن كلامه باطل ومردود وهذا قول المعطلة من معتزلة وأشاعرة.

إثبات صفة اليدين لله عز وجل

إثبات صفة اليدين لله عز وجل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن صفاته سبحانه الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله المصطفى الأمين: اليدان، قال الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقال عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التقى آدم وموسى فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: أنت موسى، كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته، فبكم وجدت في كتاب الله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: بأربعين سنة، قال: فتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى)]. سبق الكلام على بعض الصفات مثل: صفة الاستواء، والعلو، والوجه، والنزول، ثم تكلم المؤلف رحمه الله على صفة اليدين، وقال: (ومن صفات الله سبحانه وتعالى الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله المصطفى الأمين: اليدان)

إثبات صفة اليدين من الكتاب العزيز

إثبات صفة اليدين من الكتاب العزيز اليدان صفة لله عز وجل، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب العزيز، وبالسنة المطهرة، وقد استدل المؤلف رحمه الله بآيتين من كتاب الله عز وجل، الأولى: قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فيها إثبات اليدين لله عز وجل، وأضاف الضمير إليه سبحانه: (بل يداه مبسوطتان) والآية فيها الرد على اليهود قبحهم الله، الذين حكى الله عنهم قولهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]. والآية الثانية: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فالآيتين فيهما إثبات اليدين لله. ووجه الدلالة: أن الله تعالى أثبت لنفسه يدين اثنتين، وأضافهما إلى نفسه الكريمة بضمير الإفراد، وهي (بل يداه مبسوطتان) يعني: الرب سبحانه وتعالى، والآية الأخرى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي).

معنى قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون)

معنى قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] هذه الآية ليست من آيات الصفات، ومعنى قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأييد) أي: بقوة وقدرة؛ لأنها من آد يئيد ولم يضفها الرب سبحانه وتعالى إلى نفسه بضمير الإفراد، بل قال: (والسماء بنيناها) بلفظ الجمع (بأيد) وهذا اللفظ يدل على القوة والعظمة، ولهذا فإن معنى الآية: (والسماء بنيناها بأييد) أي: بقوة وقدرة؛ ولأن الله أتى بصيغة الجمع التي تفيد التعظيم، بخلاف هاتين الآيتين، فإن الله تعالى قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] أتى باليدين بصيغة التثنية، وأضافها إلى ضمير نفسه المفرد. وكذلك الآية الأخرى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] هذا خطاب خاطب الله تعالى به إبليس عندما امتنع من السجود لآدم، قال الله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص:75].

إثبات صفة اليدين من السنة المطهرة

إثبات صفة اليدين من السنة المطهرة واستدل المؤلف رحمه الله أيضاً على إثبات صفة اليدين لله بالسنة، فاستدل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في احتجاج آدم وموسى، وهذا الحديث رواه البخاري رحمه الله في الصحيح في عدة مواضع؛ في كتاب التفسير، وفي كتاب القدر، وفي كتاب التوحيد، وكذلك رواه الإمام مسلم في كتاب القدر: باب احتجاج آدم وموسى عليهما السلام، ورواه أبو داود في سننه في كتاب السنة، والترمذي في كتاب القدر: باب ما جاء في احتجاج آدم وموسى، ورواه ابن ماجة في مقدمة باب القدر. ووجه الدلالة من الحديث: في قول موسى عليه الصلاة والسلام لأبيه آدم: (يا آدم أنت أبونا خلقك الله بيده) فأضاف اليد إلى نفسه أي: إلى الله بضمير الإفراد، (قال موسى: يا آدم! أنت أبونا، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه)، وهذا الحديث يعرف بحديث احتجاج آدم وموسى.

الأوصاف التي اختص الله بها آدم

الأوصاف التي اختص الله بها آدم قوله: (فقال موسى لآدم: أنت أبونا خلقك الله بيده) فموسى هنا يذكر فضائل أبيه آدم وخصائصه. (يا آدم أنت أبونا خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته) هذه ثلاثة أوصاف اختصها الله بآدم: فخلقه بيده، وخلق الخلق كلهم بقدرته كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، لكن آدم له ميزة وله خصوصية وهي: أن الله خلقه بيده، فهذه ميزة وخصوصية وتشريف أي: فيها تشريف وتكريم لآدم من بين المخلوقات. وكذلك نفخ فيه من روحه، يعني: من الروح التي خلقها، والإضافة هنا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة تشريف وتكريم. قوله: (نفخ فيك من روحه) أي: من الروح التي خلقها، وأضافها إليه للتشريف، كما يقال عن عيسى: روح الله، أي: روح من الأرواح التي خلقها الله، وكما تضاف الكعبة إلى الله فيقال: بيت الله، ويقال عن ناقة صالح: ناقة الله، وهي مخلوقة، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه للتشريف والتكريم. كذلك قوله: (ونفخ فيك من روحه) أي: من الروح التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وأضافها إلى نفسه للتشريف. وقوله: (وأسجد لك ملائكته)، هذه كلها خصائص لآدم. ومعنى الحديث: أنه لما التقى آدم وموسى قال موسى: يا آدم! أنت ميزك الله بهذه الميزات، وخصك بهذه الفضائل العظيمة: (خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته: خيبتنا وأخرجتنا من الجنة) وفي لفظ آخر: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة) مع أن الله أعطاك هذه الخصائص، وهذا من غيرة موسى عليه السلام، فهو يريد أن يقول: أنت السبب في خروجنا من الجنة.

الأوصاف التي اختص الله بها موسى

الأوصاف التي اختص الله بها موسى قال آدم: (أنت موسى كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته) آدم ذكر الخصائص أيضاً فقال: (كلمك الله تكليماً) أي: كلمه الله من وراء حجاب من غير واسطة. وقوله: (وخط لك التوارة بيده) هذا فيه إثبات صفة اليد أيضاً، والحديث فيه إثبات صفة اليد في موضعين، في قول موسى: (خلقك الله بيده) وفي قول آدم: (وخط لك التوراة بيده). ثم قال: (واصطفاك برسالته) فموسى ذكر لآدم ثلاث خصائص، وآدم ذكر لموسى ثلاث خصائص وهي: (كلمك الله تكليماً، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته).

تقدير الخلق وكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض

تقدير الخلق وكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض ثم قال آدم: (فبكم وجدت في كتاب الله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] قال موسى: بأربعين سنة) وهذا هو تقدير الخلق مأخوذ من القدر المكتوب في اللوح المحفوظ؛ لأن اللوح المحفوظ مكتوب فيه كل شيء. كما ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها قال الله تعالى: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، وقال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، والإمام: هو أيضاً اللوح المحفوظ، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ. وفي الحديث: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: يا رب! وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء فجرى بذلك الأمر فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) كل ما هو كائن إلى يوم القيامة من الذوات والصفات والحركات والسكنات مكتوب فيه.

أنواع التقدير

أنواع التقدير أما قوله تعالى: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، فهذا تقدير مأخوذ من القدر السابق بأربعين سنة. وقول آدم: (فبكم وجدت في كتاب الله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] قال: بأربعين سنة). هذا تقدير خاص، وهو غير التقدير العام لجميع المخلوقات في اللوح المحفوظ وهو: التقدير العمري، وذلك أنه إذا مضى عليه أربعة أشهر في بطن أمه أرسل الله إليه الملك، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وهناك تقدير سنوي، وهو: التقدير في ليلة القدر: يقدر فيها ما يكون في السنة من صحة وإعزاز وإشقاء وإبعاد وفقر وغنى. وهناك تقدير يومي، ويدل عليه قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، يعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويغني ويفقر، ويحيي ويميت سبحانه وتعالى. قوله: (قال آدم لموسى: فبكم وجدت في كتاب الله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، قال: بأربعين سنة، قال آدم: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى) وفي لفظ: أنه كررها ثلاثاً: (فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى) يعني: غلبه بالحجة.

الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على الذنوب والمعايب

الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على الذنوب والمعايب ما هو الذي لام موسى آدم عليه؟ هل لامه على الذنب؟ لا؛ لأن الذنب قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإنما لامه على المصيبة التي حصلت له وسببت خروجه من الجنة، فاحتج آدم بالقدر، قال: المصيبة مكتوبة علي، والاحتجاج بالقدر على المصائب قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] ويقول من نزلت عليه المصيبة: قدر الله وما شاء فعل، لكن الاحتجاج بالقدر على الذنب لا يجوز وليس بحجة، ولو كان القدر حجة في فعل الذنب لكان حجة للكفرة، ولبطل التشريع، فهذا الحديث فيه إثبات اليد لله في موضعين: في قول موسى: (خلقك الله بيده)، وفي قول آدم: (وخط لك التوراة بيده)، ففي هذين الموضعين إثبات اليد لله.

بيان أنواع الفرق التي ضلت في باب القدر

بيان أنواع الفرق التي ضلت في باب القدر وهذا الحديث أيضاً في إثبات القدر، واحتج به بعضهم على رفع الذم والعقاب عمن عصى الله، وهم الجبرية، وهذا باطل، وبعضهم قال: إن هذا الحديث يقتضي رفع الذنب والعقاب عمن عصى الله، وكلاً من الطائفتين قد ضلت سواء السبيل، وبعض المبتدعة -وهم الجبرية- استدلوا بهذا الحديث على الاحتجاج بالقدر، وقالوا: القدر حجة للعاصي، أي: العاصي أو الإنسان مجبور على أفعاله، فلا يلام عليها، وهذا من أبطل الباطل. وطائفة أخرى رفعوا اللوم والذنب والعقاب عن العاصي، وهم القدرية، وطائفة رفعت اللوم والذنب دون العقاب عن العاصي واحتجوا بالقدر، وطائفة كذبت بالقدر وهم المعتزلة، وقالوا: إن الله تعالى لم يقدر أفعال العباد، وإنما العباد هم الخالقون لأنفسهم أفعالاً سواء أكانت خيراً أم شراً طاعة أم معصية، والله تعالى لم يخلق أفعال العباد! فلهذا إنما يلام ويعذب الإنسان على فعله. وقابلتهم الجبرية فقالوا: إن الإنسان مجبور على أفعاله، ولهذا ألف شيخ الإسلام رحمه الله رسالة شرح فيها هذا الحديث، وقال: إن هذا الحديث ضلت فيه طائفتان: طائفة كذبت بالقدر لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذنب والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر، وطائفة شر من هؤلاء جعلوا القدر حجة، وقد يقولون: القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، وهم الصوفية الذين يسمون أنفسهم أهل الحقيقة، ولا يرون أن لهم فعلاً، بل يلغون أفعالهم ويجعلونها أفعالاً لله! ويقولون: إن الإنسان إذا شهد الحقيقة رفع عنه التكليف فلا يؤمر ولا ينهى، وصار من الخاصة الذين تجاوزوا مرتبة العامة، فلا تكليف عليهم! وهذا من أبطل الباطل، ومن قال: إن أحداً يسقط عنه التكليف وعقله معه -ما عدا الحائض والنفساء في الصلاة خاصة- فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، فلا يوجد أحد يسقط عنه التكليف، إلا إذا زال عقله كالصبي، والشيخ المخرف، والمجنون؛ هؤلاء مرفوع عنهم القلم، وأما من عداهم فلا، وكل واحد مكلف حتى يموت، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، فمن اعتقد أن أحداً يسقط عنه التكليف وعقله معه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً. أما هؤلاء الجبرية والملاحدة كالصوفية وغيرهم فيرون أن الإنسان إذا تجاوز مرتبة العامة وصار من أهل الحقيقة وألغى صفاته وأفعاله، وجعلها صفات لله سقط عنه التكليف ويستدلون بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، ولا يفسرون اليقين بالموت، بل المرتبة العلية عندهم التي يصل إليها بعضهم بزعمهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من الناس من يقول في هذا الحديث: إنما حاج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في شريعة أخرى؛ أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة، وكل هذا باطل، والصواب أن موسى عليه الصلاة والسلام لام أباه لأجل المصيبة التي لحقتهم فقال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه؛ فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب أيضاً، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، ولا يزال أهل العلم يبينون معنى هذا الحديث، ويردون على من لم يفهم هذا الحديث من المعتزلة الذين يقولون بخلق أفعال العباد، ومن الجبرية الذين يقولون: إن العباد مجبورون على أفعالهم، فالإمام ابن القيم رحمه الله قال: إن هذا الحديث فيه رد على من لم يفهمه من المعتزلة كـ أبي علي الجبائي ومن وافقه، وقال: لو صح لبطلت نبوة الأنبياء، أي: لو صح الاحتجاج بالقدر لبطلت نبوة الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذا صحت له حجة في القدر السابق ارتفع اللوم عنه، وهذا من ضلال أهل البدع، وجهلهم بالله ورسوله وسنته.

تأويل المبتدعة (اليد) بالقدرة أو النعمة والرد عليهم

تأويل المبتدعة (اليد) بالقدرة أو النعمة والرد عليهم وأهل البدع يؤولون اليد بالقدرة، وبعضهم يؤولونها بالنعمة، وكلاهما باطل، فلو أولها المبتدع بالقدرة كان معنى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: بقدرتي، وبهذا يفسد المعنى فلا يكون فيه ميزة لآدم على غيره، والقدرة واحدة لا اثنتان، وكذلك إذا فسرها بالنعمة كان المعنى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي! مع أن النعم كثيرة لا اثنتان، فنعم الله لا تعد ولا تحصى كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] فتأويل أهل البدع لليد: بالقدرة أو بالنعمة يفسد به المعنى، ولا يستسيغه عاقل.

الرد على أهل التكييف والتشبيه والتعطيل والتأويل في صفة اليد

الرد على أهل التكييف والتشبيه والتعطيل والتأويل في صفة اليد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا نقول يد كيد، ولا نكيف، ولا نشبه، ولا نتأول اليدين على القدرتين كما يقول أهل التعطيل والتأويل، بل نؤمن بذلك ونثبت له الصفة من غير تحديد ولا تشبيه، ولا يصح حمل اليدين على القدرتين؛ فإن قدرة الله عز وجل واحدة، ولا على النعمتين؛ فإن نعم الله عز وجل لا تحصى، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]]. الحافظ عبد الغني رحمه الله من أهل السنة والجماعة، ولذا يقول: إننا معشر أهل السنة والجماعة لا نقول: يد كيد، ولا نقول: يد الله كيد المخلوق، فهذا تشبيه، والأول تمثيل، والله ليس كمثله شيء، فلا نكيف أي: نقول: إن يد الله كيفيتها كذا، ولا نشبه كأن نقول: إن يد الله تشبه كذا وكذا، فكل هذا باطل، وكل هذا من طريقة المبتدعة من أهل التمثيل، والتكييف، والتشبيه. قوله: (ولا نتأول اليدين على القدرتين)؛ لأن هذه طريقة أهل التأويل والتحريف. فلا نتأول اليدين بالقدرتين، كما يقول أهل التعطيل والتأويل من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، فبعضهم يتأول اليد بالقدرة، واليدان عندهم: القدرتان أو النعمتان، وهذا من أبطل الباطل، كما بين المؤلف رحمه الله، وتأويل اليد بالقدرة فيه إبطال للخصائص التي خص الله بها بعض مخلوقاته، فآدم خصه الله بأن خلقه بيده، فإذا فسرت اليد بالقدرة يكون المعنى: لما خلقت بقدرتي، فتزول الخصيصة؛ لأن إبليس مخلوق بقدرة الله! فإذا كان إبليس مخلوق بقدرة الله وآدم مخلوق بقدرة الله زال التفضيل لآدم، والله تعالى فضل آدم بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وكذلك: خط الله التوارة لموسى بيده، فإذا قيل: اليد القدرة، أي: خط الله التوراة بقدرته، زالت الخصوصية. وكذلك أيضاً تأويل اليد بالقدرة أو بالنعمة يفسد به المعنى؛ لأن الآية وردت بصيغة التثنية فيكون المعنى: لما خلقت بنعمتي أو بقدرتي، والنعم ليست اثنتان، وإنما نعم الله لا تعد ولا تحصى، ونعم الله مخلوقة، وأما يداه فهما صفة له عز وجل، وكذلك القدرة صفة أخرى غير اليد، والقدرة واحدة فلا يقال: خلقت بقدرتي، فإنما هي قدرة واحدة، وبهذا تبين أن تأويل أهل الباطل اليد بالقدرة أو النعمة تأويل باطل. كما أن التمثيل والتكييف مذهبان باطلان، فأهل التمثيل لليد بأيدي المخلوقين مشبهة، بل من غلاة المشبهة من الشيعة والبيانية والسالمية، والبيانية هم أتباع بيان بن سمعان التميمي، والسالمية هم أتباع هشام بن سالم الجواليقي وداود الجواربي وغيرهم من غلاة الشيعة المشبهة، هؤلاء يقول أحدهم: لله يد كيدي! ووجه كوجهي! واستواء كاستوائي! وهذا من أبطل الباطل، وهؤلاء كفار؛ لأن من شبه الله بخلقه كفر؛ ولهذا قال أئمة أهل السنة والجماعة: من شبه الله بخلقه كفر، ومن مثل الله بخلقه كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ذلك التشبيه، وهذا مروي عن نعيم بن حماد الخزاعي وغيره من أئمة السلف، كلهم قالوا: من شبه الله بخلقه كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله كفر.

وجوب الإيمان بالصفات الواردة في الشرع وإثباتها

وجوب الإيمان بالصفات الواردة في الشرع وإثباتها وقوله: (بل نؤمن بذلك ونثبت له الصفة) أي: نثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات، (من غير تحديد) يعني: من غير تحديد لكيفية الصفة، يعني: لا يحدد كيفيتها؛ لأن الكيفية لا يعلمها إلا الله، فالسلف يثبتون الصفة، ويثبتون معانيها الظاهرة، وينفون المشابهة والكيفية. (ولا تشبيه) يعني: لا نشبه، فنقول: يد الله تشبه يد المخلوق. (ولا يصح حمل اليدين على القدرتين) كما يقوله أهل التأويل. من المعتزلة والأشاعرة، فإن قدرة الله عز وجل واحدة، اليدان مثنى فكيف تؤول اليدان بالقدرتين؟! (ولا على النعمتين) نعم الله عز وجل لا تحصى كما يقول المؤلف فإذا أولت اليدين بالنعمتين فيكون معنى الآية: (لما خلقت بنعمتي)، فصار فيه حصر للنعم بأنها اثنتان، ومعلوم أن نعم الله لا تعد ولا تحصى، ثم إن النعم مخلوقة، وصفات الله ليست مخلوقة، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].

وجوب الإيمان بكل ما ثبت في الكتاب وصح في السنة من الصفات

وجوب الإيمان بكل ما ثبت في الكتاب وصح في السنة من الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكل ما قال الله عز وجل في كتابه، وصح عن رسوله بنقل العدل عن العدل مثل: المحبة، والمشيئة، والإرادة، والضحك، والفرح، والعجب، والبغض، والسخط، والكره، والرضا، وسائر ما صح عن الله ورسوله، وإن نبت عنها أسماع بعض الجاهلين، واستوحشت منها نفوس المعطلين]. قوله: (وكل ما قال الله عز وجل في كتابه، وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل) فإنا نؤمن بها، يعني: كل هذه الصفات نثبتها لله عز وجل ونقبلها، كل ما قال الله عز وجل في كتابه من الصفات، وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الثابتة بنقل الراوي العدل عن العدل ويكون السند متصلاً، ولا يكون الحديث شاذاً ولا معلولاً. وتعريف الحديث الصحيح هو: أن يرويه عدل عن عدل، والعدل: هو ما اجتمع فيه أمران: العدالة في الدين, وفي الضبط، فإذا كان ضابطاً في النقل ولم يكن مجروحاً في دينه، فهذا هو العدل، والضابط: يجب أن يكون سليماً في دينه، فإذا كان الرواة كلهم عدول من أول السند إلى آخره، وكان السند متصلاً، ولم يكن شاذاً، ولا معللاً، فإن الحديث يكون صحيحاً، فالمؤلف يقول: إذا كان الحديث صحيحاً، بأن رواه العدل عن العدل، واتصل السند، مع كمال الضبط، ولم يكن شاذاً، ولا معللاً، فإنا نقبله، ونثبت الصفات التي وردت في هذا الحديث.

أمثلة لبعض الصفات الثابتة في الوحيين

أمثلة لبعض الصفات الثابتة في الوحيين مثل المؤلف لهذه الصفات الواردة في الوحيين فقال: مثل المحبة، والمشيئة، والإرادة، والضحك، والفرح، والعجب، والبغض، والسخط، والكره، والرضا فهذه أمثلة للصفات، وهذه الصفات بعضها ثابت بالكتاب والسنة، وبعضها ثابت بالسنة فقط.

إثبات صفة المحبة لله من الكتاب والسنة

إثبات صفة المحبة لله من الكتاب والسنة المحبة ثابتة بالكتاب والسنة، ومن أدلة إثباتها في الكتاب: قول الله عز وجل: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]، ومن أدلة إثباتها في السنة حديث: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) رواه البخاري في صحيحه في مواضع، وفي كتاب بدء الخلق، وفي كتاب الأدب، وفي كتاب التوحيد، ورواه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة. فنثبت المحبة لله عز وجل -لأنها ثابتة في الكتاب والسنة- خلافاً لأهل البدع -على ما يليق بجلاله وعظمته، فهو لا يماثل المخلوقين في محبتهم، وأما أهل البدع من الأشاعرة فإنهم أولوها بالإرادة، قالوا: أحب، يعني: أراد، وهي من الصفات السبع التي يثبتونها وهي: الحياة، والكلام، والبصر، والسمع، والعلم، والقدرة، والإرادة، وما عدا هذه الصفات السبع فإنهم يسلكون فيها أحد مسلكين: إما أن يردوها إلى الصفات السبع، وإما أن يتأولوها بأثر الصفة في بعض المخلوقات، من النعم والعقوبات. فمثلاً: الرضا، يؤولونه بالثواب، والثواب أثر عن الرضا، والغضب، يؤولونه بالانتقام، والانتقام أثر عن الغضب. والثواب مخلوق، والانتقام مخلوق، فهم أولوها ببعض المخلوقات، أو بردها إلى الصفات السبع، وهنا يقولون: المحبة، معناها: أراد أن يحب، فتأولوها بالإرادة.

إثبات صفتي المشيئة والإرادة لله من الكتاب والسنة

إثبات صفتي المشيئة والإرادة لله من الكتاب والسنة المشيئة ثابتة بالكتاب العزيز، وبالسنة المطهرة، ومن أدلتها من الكتاب قول الله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39]، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} [البقرة:253]، وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]. وكذلك الإرادة ثابتة بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]. قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، والإرادة نوعان بخلاف المشيئة: النوع الأول: إرادة كونية خلقية ترادف المشيئة، أي: أن المشيئة والإرادة الكونية واحدة وهي تتعلق بكل ما يشاء الله فعله وإحداثه، فهو سبحانه إذا أراد شيئاً وشاءه كان هذا الشيء عقب إرادته هذه، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهذه الأوامر الكونية الخلقية ترادف المشيئة. النوع الثاني: إرادة دينية شرعية تتعلق بما يأمر الله به عباده مما يحبه ويرضاه، وهذه هي المذكورة في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وفي قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، هذه إرادة دينية شرعية، وقد جمع الله بين الإرادتين في قوله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، والإرادتان تجتمعان في حق المؤمن المطيع وتنفرد الإرادة الكونية في حق العاصي والكافر، ففي حق العاصي تكون الإرادة الكونية، وفي حق المؤمن تجتمع الإرادتان، وفي الإرادة الكونية لا يتخلف ما قضاه الله وأراده، بخلاف الإرادة الدينية الشرعية، فقد تحصل وقد لا تحصل، فالله تعالى أراد الإيمان من أبي بكر كوناً وقدراً، وأراده من أبي بكر ديناً وشرعاً فوقع، وأراد الإيمان من أبي لهب ديناً وشرعاً، ولم يرده كوناً قدراً، فوقعت الإرادة الكونية، ولم تقع الإرادة الدينية، فالله تعالى أراد من العباد أن يعبدوه، ويوحدوه، ويخلصوا له العبادة، وأراد منهم أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، لكن أراده ديناً وشرعاً، أما كوناً وقدراً فله الحكمة البالغة فمن الناس من أراد منهم أن يعبدوه لحكمة بالغة، ومنهم من أراد ألا يعبدوه، فوقعت الإرادة الكونية والإرادة الدينية في حق المؤمن والمطيع، وتخلفت الإرادة الدينية في حق العاصي والكافر، ولهذا فإن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] إرادة دينية شرعية، ولو كانت إرادة كونية لأسلم كل أهل البيت لكن نجد أن: أبا لهب لم يسلم، إذاً: قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، هو إرادة كونية شرعية، وبهذا يتبين الفرق بين الإرادتين. وأهل السنة والجماعة قسموا الإرادة إلى قسمين: إرادة كونية قدرية، وإرادة دينية شرعية، عملاً بالنصوص، فسلموا من التناقض، وأما أهل البدع فإنهم لم يعملوا إلا ببعض النصوص، فالجبرية من الأشاعرة والجهمية ما أثبتوا إلا الإرادة الكونية، وأنكروا الإرادة الدينية الشرعية فضلوا، والمعتزلة أثبتوا الإرادة الدينية الشرعية، وأنكروا الإرادة الكونية فضلوا. والجبرية كالأشاعرة والجهمية استدلوا بالنصوص التي فيها إثبات الإرادة الكونية فقط، وأغمضوا أعينهم عن النصوص التي فيها إثبات الإرادة الدينية. والمعتزلة استدلوا بالنصوص التي فيها إثبات الإرادة الدينية الشرعية فقط، وأغمضوا أعينهم عن النصوص التي تثبت الإرادة الكونية القدرية. وأهل السنة أخذوا النصوص التي تثبت الإرادة الكونية القدرية وصفعوا بها وجوه المعتزلة، وأبطلوا مذهبهم. وأخذوا نصوص الإرادة الدينية الشرعية وصفعوا بها وجوه الجبرية من الأشاعرة والجهمية، فأبطلوا معتقدهم، واستدلوا بأدلة هؤلاء وهؤلاء وأثبتوا الإرادتين، فسلموا من التناقض، فهداهم الله للحق وللصراط المستقيم الذي هو هدى بين ضلالتين.

إثبات صفة الضحك لله من السنة النبوية

إثبات صفة الضحك لله من السنة النبوية يقول المؤلف: ومن الصفات التي نثبتها ودلت عليها النصوص: الضحك. الضحك من الصفات التي ثبتت في السنة المطهرة، ولم تأت في الكتاب العزيز، ومن أدلتها ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، ومسلم في كتاب الإمارة، ومعنى هذا: أن رجلين يقتتلان في الجهاد مسلم وكافر، فيقتل الكافر المسلم فيكون شهيداً، ثم يمن الله على الكافر بالإسلام بعد ذلك فيسلم ويموت على الإسلام فيدخل الجنة؛ فكلاهما يدخل الجنة. ومن أدلتها أيضاً: حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة الرجل الذي هو آخر أهل النار خروجاً منها، وهو آخر أهل الجنة دخولاً فيها، والحديث طويل رواه البخاري في الصحيح في كتاب التوحيد، وفيه: أن هذا الرجل إذا خرج من النار يكون وجهه مصروفاً إلى النار، يقول: (يا رب اصرف وجهي عن النار، فقد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها) فيأخذ الله عليه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، فيفعل فيعطيه الله ذلك، فيصرف الله وجهه عن النار، ثم بعد ذلك ترفع له شجرة فيها كذا وكذا، فيسكت ما شاء الله، ثم يقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة، فيقول الله: (ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! وربه يعذره؛ لأنه يرى شيئاً لا صبر له عليه، فيدنيه من الشجرة، فيسكت ما شاء الله، ثم ترفع له شجرة) وهكذا حتى يصل إلى باب الجنة، فيقول في النهاية: (يا رب! قربني من باب الجنة، يقول: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول: لا أكون أشقى خلقك)، فإذا وصل إلى باب الجنة ورأى ما فيها من النعم وكذا، فيسكت ما شاء الله، ثم يقول: (يا رب! أدخلني الجنة، فيضحك الله عز وجل، فيقول: أي رب لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه فإذا ضحك منه قال: ادخل الجنة) فهذا الحديث فيه إثبات الضحك لله عز وجل.

إثبات صفة الفرح لله من السنة النبوية

إثبات صفة الفرح لله من السنة النبوية الفرح من الصفات التي جاءت في السنة المطهرة في حديث أنس بن مالك المتفق على صحته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره قد أضله بأرض فلاة) رواه البخاري في الصحيح في كتاب الدعوات، ورواه الإمام مسلم في كتاب التوبة. وفي بعضها وصف لهذا الرجل: أنه كان في أرض فلاة مهلكة، وفقد بعيره، وبحث عنه فلم يجده، وعليه طعامه وشرابه، وهو في صحراء ما يهتدي لنفسه، فأيس من بعيره فلما أيس نام تحت الشجرة ليموت، فلما استيقظ وجد الراحلة قائمة عند رأسه وعليها طعامه وشرابه، فأخذ بخطامها من شدة الفرح وقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)، وهذه كلمة كفرية، لكنه إذا تكلم بكلمة الكفر ذاهلاً غير متعمد فلا يأثم، لكن لو قالها عمداً لصار كفراً، وهذا يدل على أن حاكي الكفر لا يكفر، ومن تكلم بكلمة الكفر عن غير عمد لا يكفر، فهذا (قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك) أخطأ من شدة الفرح، وذهل، فقال في الحديث: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا الرجل بفرحه براحلته) والحديث فيه إثبات صفة الفرح لله كما يليق بجلالته وعظمته، ولا يشبه فرح المخلوق.

إثبات صفتي العجب والبغض لله من السنة النبوية

إثبات صفتي العجب والبغض لله من السنة النبوية العجب صفة ثابتة بالسنة المطهرة، كما في حديث أبي هريرة: (عجب الله من قوم يدخلون الجنة بالسلاسل) رواه البخاري في كتاب الجهاد، ورواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود. وثبت أيضاً في صحيح البخاري في قصة الأنصاري الفقير الذي استضاف ضيف النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى النبي الضيف، فبعث يسأل أزواجه عليه الصلاة وسلم عن طعام له في بيوته فما وجد فيها شيئاً، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا وله الجنة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أضيفه يا رسول الله! فذهب به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله، قالت: والله ما عندنا إلا طعام الصبيان، فقال: نوميهم. فنومتهم، ثم أطفأت السراج، وأوهموه أنهم يأكلون معه، وجعل الضيف يأكل حتى شبع، وأصبح الرجل وامرأته طاويين، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد عجب الله -أو ضحك الله- من صنيعكما بضيفكما البارحة). وأيضاً جاء في القرآن في بعض القراءات في سورة الصافات في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12]، بضم التاء من عجبت، وهي دليلٌ على صفة العجب لله عز وجل. وكذلك أيضاً جاءت صفة البغض وهي تقابل المحبة وهي ثابتة في الحديث قال: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل: إني أحب فلان فأحبه) وفيه: (وإذا أبغض عبداً دعا جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض) رواه الإمام مسلم في صحيحه.

إثبات صفة السخط لله عز وجل من الكتاب والسنة

إثبات صفة السخط لله عز وجل من الكتاب والسنة وكذلك من الصفات الثابتة في الكتاب العزيز (السخط) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28] وقال سبحانه: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80]، وجاء أيضاً في السنة المطهرة في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل لأهل الجنة: (هل تريدون أن أزيدكم، قالوا: يا ربنا! ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تنجنا من النار؟ فيقول عز وجل: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)، رواه الإمام البخاري، ومسلم في صحيحه في باب السخط، وهذه الصفة ثابتة في القرآن والسنة.

إثبات صفة الكره لله عز وجل من الكتاب والسنة

إثبات صفة الكره لله عز وجل من الكتاب والسنة الكره كذلك صفة ثابتة في القرآن العظيم، قال الله تعالى في حق المنافقين: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]، ومن السنة المطهرة ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه).

إثبات صفة الرضا لله عز وجل من الكتاب والسنة

إثبات صفة الرضا لله عز وجل من الكتاب والسنة الرضا أيضاً من الصفات الثابتة في القرآن والسنة، قال الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المجادلة:22]، وقال سبحانه: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، ومن السنة المطهرة ما رواه البخاري في قصة الأقرع والأبرص والأعمى، وهي قصة طويلة والشاهد فيها، قول الملك للأعمى: (لقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك)، وفيه إثبات الرضا والسخط لله عز وجل. كذلك ثبت في صحيح مسلم في الدعاء المشهور: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)، فاستعاذ بصفة الرضا من صفة السخط، وهذه كلها ثابتة لله عز وجل. وقوله: (وسائر ما صح عن الله ورسوله من الصفات نثبتها لله، وإن نبت عنها أسماع بعض الجاهلين) نبت أي: تجافت عنها أسماع بعض الجاهلين؛ لأنها لا توافقهم، ولا توافق أهواءهم، فبعض الجاهلين من المبتدعة وغيرهم تنبوا أسماعهم عن بعض الصفات؛ فلا يثبتونها كالجهمية والمعتزلة وغيرهم. (وإن نبت عنها أسماع بعض الجاهلين، واستوحشت منها نفوس المعطلين)، فالمؤلف يقول: نحن نثبتها ما دام أن الله أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله، وإن تجافت عنها أسماع بعض الجاهلين، وإن استوحشت منها نفوس المعطلين فلا يضرنا هذا.

[6]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [6] جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم إثبات صفة النفس لله سبحانه وتعالى، وجمهور علماء أهل السنة والجماعة يثبتون أن المراد بنفس الله ذاته المتضمنة بالصفات لا المجردة عن الصفات كما قاله بعضهم، وليست صفة من الصفات كما قال البعض الآخر.

إثبات صفة النفس لله عز وجل من الكتاب والسنة

إثبات صفة النفس لله عز وجل من الكتاب والسنة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما نطق بها القرآن، وصح بها النقل من الصفات: النفس. قال الله عز وجل إخباراً عن نبيه عيسى عليه السلام أنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، وقال عز وجل: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، وقال عز وجل لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)]. قوله: (وصح بها النقل من الصفات: النفس)، ذكر المؤلف أن من صفات الله: النفس فأثبت لله نفساً، وجعلها من الصفات، وهذا قول لبعض العلماء، ومنهم من قال: إن النفس هي الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين ليس بصحيح، والصواب الذي عليه جمهور العلماء: أن المراد بالنفس ذاته عز وجل المتصفة بالصفات، وليس المراد بها ذاتاً مجردة عن الصفات، أو أنها صفة لله تعالى، بل المراد بنفس الله ذاته المتصفة بالصفات لا المجردة عن الصفات كما قاله بعضهم. هذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من المحققين. وأما القول بأن النفس من الصفات، كما ذهب إليه الدارمي رحمه الله تعالى فغير صحيح، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في الجزء التاسع من صفحة (292) ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه، كما يقال: رأيت زيداً نفسه وعينه، وقد قال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]. وفي الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لأم المؤمنين: (لقد قلت بعدك أربع كلمات، لو وزن بما قلتيه لوزنته: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته). وفي الحديث الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم). فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء هو: (الله) أي: ذاته عز وجل المتصفة بصفاته، وليس المراد بها: ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا هي صفة للذات، كما ذهب إلى ذلك المؤلف. وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ. والصواب: أن النفس هي الله وهي نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته، هذا هو الصواب الذي عليه المحققون خلافاً لما ذهب إليه المؤلف هنا فالصفات من العلم، والرحمة، والقدرة، والحب، والبغض إلخ، كلها صفات للنفس التي هي ذات الله. وحديث أبي هريرة السابق رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد في المسند، وهو حديث قدسي: أي أن معناه من الله ولفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلى ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) وفيه إثبات أن لله نفساً، والشاهد قوله: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي).

صفة المعية لله تعالى

صفة المعية لله تعالى قوله: (وأنا معه حين يذكرني) ففيه إثبات المعية لله، وهي صفة أخرى له سبحانه، وهي هنا معية خاصة؛ لأن المعية نوعان: معية عامة، ومعية خاصة، أما المعية العامة فهي: معية الله لجميع الخلق، فالله تعالى مع خلقه بإحاطته واطلاعه، ونفوذ قدرته ومشيئته، ورؤيته لهم من فوق عرشه، وسماعه لكلامهم، والمعية العامة مقتضاها الاطلاع والإحاطة، وتأتي في صيغ المحاسبة، والمجازاة، والتخويف، كقوله سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7]، وقوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] وقوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108] وهذه المعية تكون للمؤمن والكافر. أما المعية الخاصة: فهي خاصة بالمؤمنين كمعيته سبحانه للصابرين، كما قوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، وتكون للمتقين، كقوله: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وتكون مع الذاكرين، كما في هذا الحديث (وأنا معه حين يذكرني)، فهي خاصة بالمؤمن، ومقتضاها: النصر والتأييد والحب، وتأتي في سياق المدح والثناء، قال عز وجل: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر في الغار يوم الهجرة، فقال له أبو بكر: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وهذه معية خاصة. كذلك في قوله سبحانه لموسى وهارون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فلما دخل فرعون معهم في الخطاب جاءت المعية العامة، قال تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]. فهو سبحانه مع الناس كلهم بعلمه وإحاطته واطلاعه من فوق عرشه، وهو مع المتقين ومع الصابرين بعونه، ونصره، وتأييده، وتوفيقه، وتسديده سبحانه. ولا منافاة بين المعية وبين الفوقية؛ لأن المعية ليس معناها الاختلاط والامتزاج؛ إذ المعية في لغة العرب هي: مطلق المصاحبة، أما أهل البدع كالجهمية والمعتزلة وغيرهم فقد ضاقت صدورهم وضاقوا ذرعاً بالجمع بين النصوص، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وأبطلوا نصوص الفوقية والعلو والمعية، والتي تزيد على ثلاثة آلاف دليل، وقالوا: إن المعية توجب الاختلاط والامتزاج، وأن الله مع الخلق مختلط بهم، فنفوا صفات الفوقية، والمعية، والعلو، وهذا لجهلهم، وضلالهم، وانحرافهم، وزيغهم، واتباعهم الهوى، فالحديث فيه صفة المعية الخاصة للذاكرين: (وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، وهم الملائكة.

صفة القرب لله تعالى

صفة القرب لله تعالى وقوله في آخر الحديث: (وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً، اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وفي لفظ: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً)، وهذا فيه إثبات القرب لله، فالحديث فيه إثبات المعية والقرب والقرب، جاء خاصاً ولم يأت عاماً عند بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. والقرب نوعان: قرب من الداعين بالإجابة، وقرب من العابدين بالإثابة، فالأول مثل قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] أي: قريب لإجابة دعاء الداعين، ولم يقل: إني قريب من كل أحد، ومثله ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فهو قريب من الداعي، وليس فيه أنه قريب من كل أحد، ومثله قول الله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61] أي: من المستغفرين التائبين وهذا هو النوع الثاني: وهو القرب من العابدين بالإثابة، وهو كقوله سبحانه عن شعيب أنه قال: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، فهو رحيم ودود بالمستغفرين التائبين، كما أنه قريب من العابدين، مجيب للسائلين، وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] فهذا قرب الملائكة من العبد، فالملائكة أقرب إلى العبد من حبل الوريد، بدليل أنه قيده بوقت تلقي الملكين، فقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:16 - 17] أي: نحن أقرب إليه وقت تلقي المتلقيان ولو كان المراد قرب الله لم يقيد بوقت تلقي الملكين، ومثله قوله تعالى في سورة الواقعة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] قال العلماء: المعنى: أن الملائكة أقرب إلى قلب العبد من أهله، ولكن لا تبصرون الملائكة. وذهب بعض العلماء إلى أن القرب يكون عاماً وخاصاً، كالمعية تكون عامة وخاصة، وأن القرب الخاص مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، وحديث أبي موسى، ومن القرب الخاص قرب العبد من الله بالإثابة في قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، فالساجد قريب من الله؛ لأنه عابد لله. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن القرب يكون عاماً وخاصاً، ومثلوا للقرب العام بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وقالوا: هذا قرب الله، والمعنى نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد، وقال بعضهم: نحن أقرب إليه بالعلم والرؤية، وقال بعضهم: بالعلم والرؤية والقدرة، وكذلك قالوا في قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، لكن المحققين كـ شيخ الإسلام وابن القيم قالوا: إن القرب لا يأتي إلا خاصاً ولا يأتي عاماً، وإن المراد بالقرب في الآيتين قرب الملائكة. فهذا الحديث القدسي فيه إثبات أن لله نفساً وكذلك المعية والقرب، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن تقرب العباد من الله تقر به جميع الطوائف، وجميع من يثبت العلو لله تعالى، أما من أنكر علو الله فهو ينكر هذا القرب. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، قال شيخ الإسلام: وقربه من العباد بتقربهم إليه مما يقر به جميع من يقول: إنه فوق العرش، وأما من ينكر ذلك فمنهم من يفسر قرب العباد بكونهم يقاربونه ويشابهونه من بعض الوجوه، فيكونون قريبين منه، وهذا تفسير أبي حامد والمتفلسفة؛ فإنهم يقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة. والدليل الثاني من السنة الذي استدل به المؤلف رحمه الله على إثبات أن لله نفساً هو حديث أبي هريرة، قال: (وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، ووجه الدلالة قوله: (فكتبه على نفسه)، فأثبت لله نفساً كما أن الحديث فيه صفة الرحمة، والغضب، والحديث سبق في مبحث العلو، قال ورواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش)، وهنا ذكر نفس الحديث قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب -فكتبه على نفسه- فهو موضوع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، واستدل به هناك على العلو، وليس فيه: (فكتبه على نفسه) واستدل به هنا على إثبات النفس وكلمة: (فكتبه على نفسه)، ليست في الكتب الستة، وعلى هذا فيكون الحديث ليس فيه دليل على إثبات أن لله نفساً، ويكتفى بالأدلة الأخرى من الكتاب والسنة.

إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة من الكتاب والسنة

إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة من الكتاب والسنة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأجمع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق: أن الله تعالى يرى في الآخرة، كما جاء في كتابه، وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وروى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39])، وفي رواية: (سترون ربكم عياناً)]. انتقل المؤلف رحمه الله: إلى إثبات صفة الرؤية لله عز وجل، وصفة الرؤية من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع ومثلها صفة العلو والكلام.

موقف أهل البدع من صفة الرؤية

موقف أهل البدع من صفة الرؤية الرؤية والكلام والعلو هذه الثلاث ينكرها الجهمية، والمعتزلة، أما الأشاعرة فهم يثبتون الرؤية دون مقابلة، ويقولون: إن الله يرى، لكن من أين يرى؟ يقولون: لا من تحت ولا أمام ولا خلف ولا يمين ولا شمال، وهذا لا يعقل؛ ولهذا أنكر جمهور العقلاء هذا على الأشاعرة وضحكوا منهم، وقالوا: كيف تثبتون الرؤية بدون مقابلة، وبداهة العقول تنكر هذا، والأشاعرة الآن مذبذبين بين المعتزلة وأهل السنة، فهم يريدون أن يكونوا مع أهل السنة في إثبات الرؤية ومع المعتزلة في نفي الجهة والعلو، فأثبتوا الرؤية ونفوا العلو، ولهذا ألزمهم المعتزلة فقالوا لهم: أنتم الآن مذهبكم مذبذب غير معقول، فأنتم بين أحد أمرين، إما أن تثبتوا العلو مع الرؤية، فتكونون أعداءً لنا مثل أهل السنة، وإما أن تكون رؤية وتكون واضحة، وكذلك صفة الكلام أثبتها الأشاعرة بقولهم: هو المعنى القائم بالنفس -مثل العلم- بلا حرف ولا صوت، وكما أن العلم في نفسه فالكلام في نفسه، وقالوا: اضطر جبريل اضطراراً ففهم المعنى القائم بنفسه تعالى فتكلم بهذا القرآن. ومنهم من قال: إن الذي عبر عنه هو محمد لا جبريل، فهم ما أثبتوا الكلام على وجهه، وكذلك العلو. وبهذا يتبين أن الرؤية ما أثبتها هؤلاء الطوائف الثلاث: الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وأجمع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق: أن الله تعالى يرى في الآخرة) صدق رحمه الله، وأهل الحق وأهل التوحيد هم أهل السنة والجماعة وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، والصحابة والتابعون والأئمة وأتباعهم، ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة إلى يوم القيامة، وقد اتفقوا على إثبات الرؤية لله -وخالفهم أهل الباطل- كما جاء في كتابه، وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الكتاب فدلهم عليه قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] بالضاد أخت الصاد؛ من النضرة والبهاء والحسن، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] بالظاء أخت الطاء، أي: تنظر إلى ربها، ووجه الدلالة: أن الله أضاف النظر إلى الوجه الذي هو محله، وعزاه بأداته الصريحة التي هي العين، وأخلاه من قرينة تدل على خلاف موضوعه وحقيقته؛ فدل على أن المراد بها النظر بالعين التي في الوجه إلى الرب سبحانه، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. والمؤلف رحمه الله اقتصر على آية واحدة وهناك أدلة أخرى تدل على الرؤية غير هذه الآية مثل قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، فالمزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، جاء في صحيح مسلم بأن الزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أي: الكفار، قال الشافعي رحمه الله: فلما احتجب عن الكفار دل على أن أولياءه يرونه سبحانه إذ لو كان المؤمنون لا يرونه لتساوى الأعداء والأولياء، {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فالآية فيها إثبات الرؤية للمؤمنين.

الأحاديث الدالة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

الأحاديث الدالة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة أما الأحاديث فهي متواترة، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن الأحاديث متواترة، رواها من الصحابة نحو ثلاثين نفساً وهي في الصحاح، والسنن، والمسانيد، ومن ذلك ما استدل به المؤلف رحمه الله، وهو حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة أربعة عشر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته)، والحديث رواه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب التوحيد، ورواه ابن خزيمه أيضاً في كتاب التوحيد، ورواه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة، وفيه: أن المؤمنين يرون ربهم كرؤيتهم للقمر وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، والمعنى: أنكم ترون ربكم رؤية واضحة، كما ترون القمر ليلة البدر رؤية واضحة، وليس المراد تشبيه الله بالبدر، فالله تعالى ليس أحد من خلقه يشبهه، بل المراد تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي. وقوله: (لا تضامون) يروى بالتخفيف، أي: لا يلحقكم ضيم في رؤيته، كما يلحق الناس عند رؤية الشيء؛ فإنه قد يلحقهم ضيم برؤيته، وقيل: بالتشديد، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض. أما الأشاعرة الذين أنكروا العلو ففسروه بما ينسجم مع مذهبهم في العلو مع إثبات الرؤية، ففسروا (تضامون) بالتشديد، فيكون المعنى: لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة، أي: لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض، وإنكم ترونه في جهاتكم كلها وهو يتعالى عن الجنس، وجاء في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)، وفي بعضهما قال: (ترون ربكم كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب)، وهو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فالأحاديث صريحة في هذا، ومع صراحتها أنكرها أهل البدع، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39])، أي: الفجر والعصر. وفيه الحث على زيادة العناية بهاتين الصلاتين، وأن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب رؤيتهم له في الجنة، ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤية، قال: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) أي: فإن ذلك من أسباب رؤية الله عز وجل، وفي رواية: (سترون ربكم عياناً) يعني: معاينة ومواجهة.

إثبات رؤية الناس لربهم في الجنة

إثبات رؤية الناس لربهم في الجنة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً لم تروه، فيقولون: ما هو، ألم يبيض وجوهنا، ويزحزحنا عن النار، ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، ثم تلى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]) رواه مسلم]. هذا الحديث فيه إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل، وفيه تفسير الزيادة بأنها الرؤية، وهذا من تفسير السنة للكتاب العزيز وهو تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فالحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى، والذين أحسنوا هم المؤمنون، فهم الذين أحسنوا في عبادة الله، وأحسنوا إلى الخلق، فلهم الحسنى وهي الجنة، ولهم زيادة وهي النظر إلى وجه الله الكريم، (إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا: إن لكم عند الله موعداً لم تروه -وفي رواية: يريد أن ينجزكموه- فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويزحزحنا عن النار، ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه)، وهذا فيه دليل على أن رؤية الله عز وجل أعظم نعيم يعطاه أهل الجنة، حتى إنهم ينسون ما هم فيه من النعيم عند رؤية الله عز وجل. وهذا يدل على أن الله تعالى لا يراه أحد في الدنيا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ولا رآه أحدٌ من الرسل والبشر، لأن الخلق لا يستطيعون الثبات لرؤية الله؛ وذلك لبشريتهم الضعيفة في الدنيا.

اتفاق أهل السنة على رؤية الناس لربهم بأعينهم

اتفاق أهل السنة على رؤية الناس لربهم بأعينهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: الناس ينظرون إلى الله تعالى بأعينهم يوم القيامة]. وهذا دليل من أقوال السلف وهو قول الإمام مالك بن أنس رحمه الله وهو الإمام المشهور، وهذا الأثر رواه الآجري في كتاب الشريعة. وهذا القول: هو قول أهل السنة والجماعة قاطبة، فكلهم يقولون مثلما قال الإمام مالك: الناس ينظرون إلى الله تعالى بأعينهم يوم القيامة، والقصد من هذا الرد على المعتزلة الذين يفسرون الرؤية بالعلم، أي: الناس يعلمون الله بقلوبهم، ويقولون: إن معنى قوله: (إنكم سترون ربكم كم ترون القمر) أي: ستعلمون ربكم كما تعلمون أن القمر قمر، وهذا من أبطل الباطل. ومن الأشاعرة من وافق المعتزلة وقال: إن المراد بالرؤية زيادة العلم في القلب. وهذا باطل، والأشاعرة يثبتون الرؤية دون مقابلة وهذا باطل.

تكفير العلماء لمن أنكر رؤية الله في الآخرة

تكفير العلماء لمن أنكر رؤية الله في الآخرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أحمد بن حنبل: من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر]. وهذا فيه أن السلف كفروا من أنكر الرؤية، وهذا هو قول أئمة السلف، والتكفير إنما هو على العموم، أما الشخص المعين فلا يكفر، حتى توجد الشروط وتنتفي الموانع، لكن على العموم يقال: من أنكر رؤية الله فهو كافر، ومن قال: القرآن مخلوق فهو كافر وهكذا، لكن الشخص المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه، وبعد وجود الشروط وانتفاء الموانع؛ لأن الشخص المعين لا يدرى ما حاله، فقد يكون حديث عهد بالإسلام، أولم تبلغه الأدلة، أو عنده شبهة ولو أزيلت لرجع، وقد يكون قال قولاً مجملاً، فالشخص المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه، وإذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لكن على العموم نقول كما قال الإمام أحمد: من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ومن قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن ترك الصلاة فهو كافر.

الأسئلة

الأسئلة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأجمع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق: أن الله تعالى يرى في الآخرة، كما جاء في كتابه، وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وروى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39])، وفي رواية: (سترون ربكم عياناً)]. انتقل المؤلف رحمه الله: إلى إثبات صفة الرؤية لله عز وجل، وصفة الرؤية من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع ومثلها صفة العلو والكلام.

التوبة وشروط قبولها

التوبة وشروط قبولها Q امرأة عليها كفارة صيام شهرين متتابعين، وهي حامل في الشهر الخامس، فهل تصوم الشهرين، أم تنتظر حتى تلد ثم تصوم، وهي خائفة أن يباغتها الموت وهي لم تصم، وتقول: هل يغفر الله لي كبيرتي، وأنا تائبة ونادمة على ما فعلت، أفتوني مأجورين؟ A إن كانت تستطيع الصوم فينبغي لها أن تبادر إليه، وإن كان يشق عليها فهي معذورة، ولها أن تنتظر إلى بعد الولادة ثم تصوم شهرين، وأما عن توبتها: فإن تابت توبة نصوحاً فإن الله يتوب عليها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، قال الله تعالى في كتابه العظيم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية للتائبين؛ لأن الله عمم وأطلق، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، وهي لجميع الذنوب حتى الشرك، فمن تاب توبة نصوحاً خالصة لله لا رياء فيها ولا سمعة تاب الله عليه بشرط أن يقلع عن المعصية، ويندم على ما مضى، ويعزم عزماً جازماً على أن لا يعود للمعصية، ويرد المظلمة إلى أهلها إن كانت بينه وبين الناس، وكانت التوبة قبل الموت، وقبل نزول العذاب، وقبل بلوغ الروح الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان.

ورود صفة اليد لله عز وجل في القرآن بصيغة المفرد والمثنى

ورود صفة اليد لله عز وجل في القرآن بصيغة المفرد والمثنى Q وردت لفظة اليد لله عز وجل في القرآن مفردة، ومثناة، وجمعاً، وبعض أهل العلم حملوا لفظة الجمع في اليد على غير ظاهرها، فلماذا نحدد أنها يدان، ولا نقول: إننا نثبت اليد من غير أن نحدد العدد؟ A التي جاءت بصيغة الجمع ليست من الصفات، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] من آد، يئيد، أيداً، بمعنى القوة، ولأن الله أضافها إلى نفسه بصيغة الجمع فهي للتعظيم، مثل قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فلا يقال: إن لله أعيناً، وصيغة الجمع هنا للتعظيم، بخلاف اليد واليدين، والتي أضيفت إلى الله عز وجل مثل قوله: {بَلْ يَدَاهُ} [المائدة:64] وقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] يراد به جنس اليد له سبحانه، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] وفي هذا إثبات صفة اليد لله، والمراد الجنس.

حكم الدعاء بالصفة وحكم سؤال الصفة

حكم الدعاء بالصفة وحكم سؤال الصفة Q ما حكم من سأل الله عز وجل بصفته، وما حكم من سأل الصفة نفسها؟ A لا يوجد اشتباه حتى يكون هناك فرق، فسؤال الصفة كأن يقول: يا وجه الله! يا قدرة الله أنقذيني! يا رحمة الله! وهذه مخاطبة لله بصيغة الأنثى، ولا يجوز الدعاء بالصفة. قال شيخ الإسلام: إنه كفر، أما التوسل بصفات الله كأن يقول: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلا أن تغفر لي فهو مشروع. فلا اشتباه حتى يقال ما الفرق، هذا الذي ينادي الصفة يقول: يا رحمة الله يا قدرة الله هذا كأنه يخاطب الله بخطاب الأنثى. أما الذي يتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته، ويقول: يا ألله! أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أسألك بعملي الصالح.

حكم الأخذ والإعطاء بالشمال

حكم الأخذ والإعطاء بالشمال Q ثبت في الحديث: (وكلتا يديه يمين)، وعندنا عادة عند البعض أنه إذا قدم للشخص بالشمال قال: شمالك يمين، فهل هذا جائز؟ A هذا ليس بصحيح. فالشمال شمال واليمين يمين فاليد اليمنى للأخذ والإعطاء وهذا من الأدب، أما من يستعمل اليسرى فعلموه الأدب، وإذا أعطاك بيده اليسرى فلا تأخذ بيدك الشمال، وقل: أعطني بيمينك. والقول (شمالك يمين) غلط وسوء فهم، بل شماله شمال، ويمينه يمين، أما حديث: (وكلتا يدي ربي يمين مباركة) أن كلتا يديه يمين في الفضل والشرف والجود وعدم النقص والضعف، بخلاف ابن آدم فإن الشمال بها ضعف، أما الرب فلا يلحق يديه نقص ولا ضعف، فكلتا يديه يمين في القوة والفضل والشرف والكرم، وله يمين وشمال سبحانه، وقد جاء في صحيح مسلم إثبات الشمال، وقال بعض أهل العلم: إن إثبات الشمال لله لا يصح، وقالوا: تفرد بها بعض الرواة، وكلتا يديه تسمى يمين، ومنهم من قال: كلتا يديه يمين أي: في الشرف والكرم والفضل وعدم النقص ولكن الأخرى تسمى شمالاً، كما جاء في صحيح مسلم.

المراد بقول آدم: (في كتاب الله) عند محاجة موسى له

المراد بقول آدم: (في كتاب الله) عند محاجة موسى له Q ذكر موسى عليه السلام قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، هل ذكرها على أنها آية من كتاب الله تعالى -وهو القرآن الكريم- مع أنه لم ينزل بعد؟ A لا، موسى ليس مقصوده القرآن، قال: (بكم وجدت في كتاب الله يعني: التوراة التي أنزلها الله عليك: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟). وليس المراد أن موسى يخاطبه بكتاب الله القرآن ولكن المراد بكتاب الله هنا جنس كتاب الله، فإن الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء تعتبر كلها كتب الله مثل التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، فمراد آدم بكتاب الله التوراة التي أنزلها الله على موسى.

الفرق بين التوراة والصحف والألواح التي أنزلت على موسى

الفرق بين التوراة والصحف والألواح التي أنزلت على موسى Q هل التوراة هي الألواح التي ألقاها موسى عليه السلام؟ A التوراة إنما أنزلها الله بعد هلاك فرعون وإغراقه، قال الله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43]، ولم يهلك الله أمة إلا قبل نزول التوراة بثلاثين عام، أما بعد نزول التوراة فقد رفع الله العذاب العام، فدل هذا على أن الألواح كانت قبل نزول التوراة، وأنزل الله على إبراهيم وموسى صحفاً، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، وهي غير التوراة، والتوراة إنما نزلت بعد ذلك، والتوراة والألواح التي كتبها الله وأنزلها على موسى بعد أن عبد بنو إسرائيل العجل، وكان هذا بعد هلاك فرعون، وذلك لما ذهب موسى لملاقاة ربه عز وجل أربعين ليلة، واستخلف أخاه هارون، وهو نبي مثله قال: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، فجاء السامري فصنع لهم من الحلي عجلاً له خوار، وقالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88] فعبدوه فنهاهم هارون ومنعهم؛ فلم يقبلوا كلامه، وأرادوا قتله كما قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91]، فلما جاء موسى ووجدهم يعبدون العجل غضب غضباً شديداً وألقى الألواح حتى تكسرت من شدة الغضب، وهذا فيه دليل على أنه ليس من رأى كمن سمع، ففي الأول أخبره الله أنهم عبدوا العجل لكنه لم يغضب هذا الغضب الشديد إلا عندما رآهم بعينه يعبدون العجل، وقد عفا الله تعالى عنه مع كونه ألقى الألواح -وفيها كلام الله- حتى تكسرت من شدة الغضب، ثم أخذ برأس أخيه هارون -وهو نبي كريم مثله- وجره برأسه ولحيته لأنه تركهم يعبدون العجل قال تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]، وقال تعالى: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150] يقول: ما قصرت، {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150] فقد نصحتهم، لكنهم ما قبلوا وأرادوا قتلي، {قَالَ يَبْنَؤُمَّ} [طه:94] وهذا من باب الاستعطاف وإلا فهو أخوه لأبيه وأمه. فيحتمل والله أعلم أنها التوراة؛ لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وعبادتهم العجل، والله تعالى عفا عنه؛ لأن له مكانة ومنزلة عند الله؛ لأن إلقاء الألواح وفيها كلام الله حتى تتكسر ذنب عظيم. ومن الفوائد: أن الصوفية الملاحدة الذين يقولون بوحدة الوجود -وهم منتشرون الآن- وهم طبقات وفرق متعددة، وفي كل بلد تجد عدداً من فرق الصوفية، وكل فرقة لهم شيخ وجميع هذه الفرق تقود إلى النار: منها التيجانية، والقادرية، والنقشبندية، وغيرها من الطرق، وأغلبها طرق كفرية، تجد في البلد الواحد أكثر من مائة طريقة، ففي مصر والشام وأفريقيا وكل مكان تجدهم، والصوفية يتفاوتون فبعضهم ينفي القول بوحدة الوجود، وبعضهم يقول بوحدة الوجود، أي: أن الوجود واحد، فالرب هو العبد، والعبد هو الرب، حتى قال رئيسهم ابن عربي: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت رب فذاك عبد أو قلت رب أنى يكلف فاختلط عليه الأمر فلم يعد يدري من الرب، ومن العبد، فالرب عبد والعبد رب. ويقول ابن عربي: رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك. والقول بوحدة الوجود أعظم كفراً وضلالة من أي قول آخر؛ لأنهم يشبهون الله بخلقه فإذا كان المشبهة الحلولية الذين يقولون: إن الله حل في المخلوقات كفار، وكان أهل الحق يقولون: كيف يكون الرب حالاً في بطون السباع، وأجواف الطيور؟ فكيف بمن يقول: إن الله هو نفس السباع، ونفس الطيور؟ هؤلاء والله أعظم كفراً. الملاحدة يرون أن الوجود واحد، ولا فرق بين الرب وبين العبد، ومنهم ابن عربي وله مؤلفات كثيرة، منها كتاب يسمى: كتاب الهو، يقول فيه: إن الذكر (هو)، وله كتاب (الفتوحات المكية) وله كتاب (فصوص الحكم) يعارض فيه القرآن، قص فيه مثلاً: قصة قوم نوح، وقصة قوم هود، وقصة موسى مع فرعون، وقال: إن فرعون إن فرعون حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] كان مصيباً؛ لأن الوجود واحد؛ لأن الرب يتجلى في صورة أي معبود، وفي صورة أي شيء، كما أنه تجلى في صورة فرعون، فلهذا هو مصيب حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؛ فهو الرب، وهو العبد. ويقول: إن كل من عبد شيئاً من دون الله فهو مصيب، فالذي يعبد العجل مصيب، والكفر إنما هو بالتخصيص، فالذي يخصص شيئاً ويقول: لا يعبد إلا هذا. هذا هو الكافر عنده، والعياذ بالله. وابن عربي حينما ذكر موسى حينما جر هارون بلحيته ورأسه، قال: إن موسى فعل ذلك بهارون لأنه أنكر عليهم عبادة العجل، لأنهم على حق في عبادتهم للعجل. ويقول: إن فرعون أغرق تطهيراً له، وحتى يزيل الوهم الذي توهمه فرعون من أنه الرب وحده؛ بينما الناس كلهم أرباب، فلما ظن بجهله أنه هو الرب وحده، أغرق تطهيراً له وحتى يزول وهمه أن الربوبية خاصة به. أقصد من هذا أن الصوفية الملاحدة من أكفر خلق الله، وأنهم طوائف، ومنهم أصحاب وحدة الوجود، وهم الآن في كل مكان، وهذا مذهبهم، يقولون: الوجود واحد وفرعون مصيب وموسى إنما جر هارون من لحيته لينكر عليه إنكاره على بني إسرائيل عبادة العجل.

بيان أن معصية آدم لربه كانت مبينة في التوراة أنها قبل خلقه بأربعين سنة

بيان أن معصية آدم لربه كانت مبينة في التوراة أنها قبل خلقه بأربعين سنة Q كيف علم آدم وموسى أن تلك المعصية قدرها الله عليه قبل أربعين سنة؛ لأنه لما سأله: (فبكم وجدت في كتاب الله)، قال: بأربعين سنة، فهل أطلع على اللوح المحفوظ؟ A هذا ليس مأخوذاً من اللوح المحفوظ، لكن آدم عندما قال لموسى بكم وجدت {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، قبل أربعين سنة، يعني: في التوراة، وهو الكتاب الذي أنزله الله على موسى، وفيه أنه مكتوب على آدم قبل أن يخلق بأربعين سنة، فلا يقال: إنه أطلع على اللوح المحفوظ. هذا قدر خاص مأخوذ قبل خلق آدم بأربعين سنة، واللوح المحفوظ مكتوب قبل خلق السماوات والأرض بخمسمائة سنة، فهذا قدر مأخوذ من اللوح المحفوظ، كتب في الكتاب الذي أنزله الله على موسى إن آدم مكتوب عليه أنه يعصي الله قبل أن يخلق بأربعين سنة.

حكم قول: (إن شاء الله) في الدعاء

حكم قول: (إن شاء الله) في الدعاء Q ما حكم قول: (إن شاء الله) في الدعاء، كأن نقول: الله يهديك إن شاء. لاسيما ونحن نقول للمريض: لا بأس طهور إن شاء الله؟ A لا تقل: إن شاء الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، فإن الله لا مكره له)، بل عليك أن تدعو جازماً؛ لأن (إن شاء الله) تفيد أنك غير محتاج إلى هذا الدعاء، (اللهم اغفر لي إن شئت) أي: إن شئت غفرت لي، وإن شئت فلا تغفر لي، فلست بحاجة إلى المغفرة، وهذا غلط، لكن اجزم واعزم وقل: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني. أما القول للمريض: طهور إن شاء الله، فهذا من باب الخبر عند أهل العلم، وليس من باب الإنشاء.

[7]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [7] إن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل متكلم بكلام مفهوم بحرف وصوت مسموع، وهو يكلم عباده المؤمنين يوم القيامة دون واسطة، والقرآن هو كلام الله وهو وحيه وتنزيله، وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ومن قال بأن القرآن مخلوق فقد كفر.

إثبات صفة الكلام لله عز وجل

إثبات صفة الكلام لله عز وجل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن مذهب أهل الحق: أن الله عز وجل لم يزل متكلماً بكلام مسموع مفهوم مكتوب، قال الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]]. أراد المؤلف إثبات صفة الكلام لله تعالى، وسيطيل فيها، وهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع، ومن العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع. قال: (أن الله عز وجل لم يزل متكلماً بكلام مسموع مفهوم) فأهل السنة يقولون: إن الله تعالى متكلم بكلام مفهوم بحرف وصوت مسموع مفهوم كلام الله، فكلامه سبحانه سمعه جبرائيل، والله تعالى ينادي الناس يوم القيامة ويسمعون كلامه، وكلامه مفهوم تفهمه القلوب وتعلمه، ومقروء بالألسنة، ومكتوب في المصاحف كل هذا حق في هذه المواضع كلها فإذا قرأه قارئ فهو مقروء له، وإذا سمعه السامع فهو مسموع له، وإذا حفظه الحافظ فهو محفوظ له، وإذا علمه وفهمه في قلبه فهو مفهوم له. فهو مقروء، مسموع، مكتوب، معلوم، محفوظ في الصدور، وهو في هذه المواضع كلها ليس مجازاً؛ لأن المجاز يصح نفيه، فيقال: ما قرأ القارئ كلام الله، ما سمع القارئ كلام الله، ما فهم إلخ. وهذا باطل، بل نقول: قرأ القارئ كلام الله, سمع السامع كلام الله، كتب الكاتب كلام الله، حفظ الحافظ كلام الله، نظر الناظر في كلام الله. المقصود: أن المؤلف رحمه الله استدل من الكتاب العزيز بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وهناك أدلة أخرى منها قوله تعالى: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] وقوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10] وهذا فيه إثبات النداء، والنداء هو الكلام من بعد، وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] والمناجاة هي الكلام من قرب، ونادى الله الأبوين فقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف:22]، فالأدلة في هذا الباب كثيرة، لكن المؤلف رحمه الله اقتصر على هذه الآية.

شبهات أهل البدع في إنكارهم لصفة الكلام والرد عليها

شبهات أهل البدع في إنكارهم لصفة الكلام والرد عليها أنكر أهل البدع الكلام، وقالوا: لو كان الله يتكلم بكلام حادث لصار محلاً للحوادث، وهذا لا يليق به، إنما يليق بالمخلوق الحادث. وهذا باطل؛ لأن هذا إنما يقال في حق كلام المخلوق، وكلام الله لا يساوي ولا يماثل كلام المخلوق، وإنما تحل الحوادث في ذات المخلوق، والرب يتكلم بكلام ليس مثل كلام المخلوقين، فلا نعلم كيف يتكلم. قالوا: لو قلنا: إن الله يتكلم. للزم من ذلك أن يكون له شفتان وأضراس وأسنان؛ لأن الذي يتكلم لابد أن يخرج الحروف من الشفتين والأضراس والثنايا العليا والسفلى، وحافة اللسان، والله منزه عن ذلك كله. لكن هذا لا يلزم، فنحن نرى بعض الأشياء تتكلم وليس لها أضراس ولا لسان، ومن ذلك شهادة اللسان والأيدي والأرجل يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] فهذه الأشياء ليس لها لسان تتكلم به، وقال النبي: (إني لأعرف حجراً يسلم علي في مكة)، أي: أن الحجر كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم والحجر ليس له لسان، بل سمع تسبيح الطعام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي يخطب على جذع ثم أُتي له بمنبر، فلما خطب صاح الجذع حتى كاد ينشق؛ فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يهدئه كما يهدئ الصبي حتى سكت، فهل الجذع له لسان وصوت وأضراس، فإذا كانت بعض المخلوقات تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم، فكيف تنكرون أن يكون الله يتكلم ولا نعلم كيف يتكلم؟ لكن أهل البدع -والعياذ بالله- ابتلوا بمخالفة النصوص والإعراض عنها، وتأويلها، ودفعها. نسأل الله السلامة والعافية. والآية هي تأكيد للمصدر {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] قال العلماء: إن التأكيد للمصدر ينفي المجاز وينفي التأويل. حتى أن بعض أهل البدع كالجهمية شق عليهم سماع هذه الآية التي فيها أن الله يتكلم، حتى تمنى بعضهم أن تمحى من المصحف، وحرف قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فقرأها بفتح لفظ الجلالة: {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فجعل الرب هو المكلم وموسى هو المتكلم حتى ينفي عن الرب الكلام، فقال له بعض أهل السنة: هب يا عدو الله! أنك استطعت أن تحرف هذه الآية، فكيف تقول في قوله تعالى: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟ قال: معنى ((وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)) أي: جرحه بأظافره، قصده من هذا إنكار الكلام {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41] لا حيلة في من أضله الله.

كلام الله للعباد بلا واسطة والدليل على ذلك

كلام الله للعباد بلا واسطة والدليل على ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان)]. (ترجمان) بضم الجيم وفتحها، والترجمان: هو الواسطة الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى، والمترجم ينقل الكلام من شخص إلى شخص أو من لغة إلى لغة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل)]. حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه حديث صحيح رواه البخاري في مواضع فرواه في كتاب الرقاق، والتوحيد، ورواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة، ورواه الترمذي وابن ماجة وابن قتيبة في كتاب التوحيد، والآجري في الشريعة وغيرهم، وفيه إثبات كلام الله عز وجل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان)، وفيه إثبات أن الله يكلم كل أحد ليس بينه وبينه واسطة ينقل الكلام من الله إلى العبد، أو من العبد إلى الله. وفي اللفظ الآخر: (ما منكم من أحد إلا سيحاضره ربه محاضرة يقول: فعلت كذا يوم كذا وكذا، فعلت كذا يوم كذا وكذا وسترت عليك، فيقول: يا رب! ألم تغفرها لي؟ قال: بلى قد غفرتها لك)، وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئاً قدمه) أي: ينظر عن يمينه فلا يرى إلا عمله من أمامه، قال: (ثم ينظر أشأم منه) أي: جهة الشمال، (فلا يرى إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه من الأمام فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل)، وهذا فيه فضل الصدقة وأنها تقي من النار، وشق التمرة نصفها، قوله: (من استطاع منكم أن يقي وجهه النار) أي: أن يجعل بينه وبين النار حجاباً، (بشق تمرة) أي: أن يتصدق بنصف تمرة (فليفعل)، الفقير إذا أعطيته نصف تمرة وهذا أعطاه نصف تمرة تجمع عنده شيء سد جوعته. وفي اللفظ الآخر: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، إذا كنت لا تستطيع الصدقة بشيء قليل، فالكلمة الطيبة تقوم مقام الصدقة، والحديث صريح في إثبات كلام الله عز وجل، وأن الله تعالى يكلم الناس يوم القيامة، وفيه رد على أهل البدع الذين أنكروا كلام الله كالجهمية والمعتزلة وغيرهم.

كلام الله للشهداء والدليل على ذلك

كلام الله للشهداء والدليل على ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى جابر بن عبد الله قال: (لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر! ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى، قال: وما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب وكلم أباك كفاحاً قال: يا عبد الله! تمن عليَّ أعطك، قال: يا رب! تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169])، رواه ابن ماجة]. وهذا الحديث لا بأس بسنده، وقد رواه ابن ماجة في المقدمة باب ما أنكرت الجهمية، وفي كتاب الجهاد، ورواه الترمذي أيضاً في كتاب التفسير، وابن أبي عاصم في السنة، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، وليس بحسن، ولا بأس به فيه إثبات الكلام لله عز وجل، وفيه منقبة لـ عبد الله بن حرام -وهو والد جابر رضي الله عنه- عندما قتل شهيداً يوم أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه جابر (يا جابر! ألا أخبرك ما قال الله لأبيك عبد الله بن حرام؟ قال: بلى، قال: ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحاً) يعني: ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب أي: من وراء واسطة (وكلم أباك كفاحاً) أي: مواجهة ليس بينه وبينه حجاب ولا رسول، وهذه منقبة لـ عبد الله بن حرام، وهي: أن الله كلمه من دون واسطة، وأما غيره فهو من وراء حجاب. ما الذي قال الله له؟ قال الله لـ عبد الله بن حرام: (يا عبد الله! تمن عليَّ أعطك، فقال عبد الله بن حرام: يا رب! تحييني فأقتل فيك ثانية)، لما رأى فضل الشهادة وأن منزلتها عالية، وأن الشهيد له فضل عظيم تمنى أن يعاد إلى الدنيا مرة ثانية حتى يقتل شهيداً مرة ثانية ليضاعف له الأجر، ويكون له أجر شهيدين، فقال الله: (إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون)، أي: لا يرجعون إلى الدنيا، وهذا أيضاً قاله الشهداء الذين قتلوا في بعض الغزوات، لعل الله أن يستجيب لهم، فقال الله: (إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي). فسأل الله أن يبلغ من وراءه (فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169])، فبلغ الله سبحانه عن عبد الله بن حرام، وبلغ عن الشهداء، وأخبر عن حالهم، وأنهم في عيش طيب، وأنهم أحياء يرزقون عند الله في حياة برزخية غير الحياة الحقيقة، قد زالت عنهم الهموم التي في الدنيا، والأكدار، والأنكاد، والأمراض، والأسقام، والخوف من الفتن التي في الدنيا، وتحققت لهم السعادة الأبدية، ولهذا جاء في الحديث (ما من مؤمن يموت وله عند الله خير، فيود أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يود أن يرجع إلى الدنيا مرة أخرى حتى يقتل شهيداً مرة أخرى)، فالمؤمن إذا رأى ما أعده الله له من الكرامة في الجنة لا يتمنى أن يعود إلى الدنيا؛ لأنه قد زالت عنه جميع الهموم، والأسقام، والأمراض، والفتن التي كانت في الدنيا، فقد كان معرضاً للأسقام وللفتن وللهموم وللمصائب وللأمراض، والشهداء لهم منزلة عالية عند الله، ولهذا جاء في الحديث -إن ثبت-: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة، وترد أنهارها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش)، وأما المؤمن غير الشهيد؛ فإن روحه تتلاعب وحدها، تأخذ شكل طائر، كما في الحديث الآخر: (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يلقاه)، فعوض الله أرواحهم أجساداً تتلاعب بواسطتها، وهي حواصل طير تسرح في الجنة، فكان تنعم الشهيد أكبر من تنعم المؤمن، وإن كان كل منهما روحه في الجنة؛ وذلك لأن الشهداء بذلوا أرواحهم في سبيله سبحانه وتعالى.

حياة الأنبياء والشهداء في الدار الآخرة

حياة الأنبياء والشهداء في الدار الآخرة الشهداء حياتهم حياة برزخية، قال الله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169] أي: حياة برزخية، ولكنهم أموات بالنسبة إلى أهل الدنيا، وحياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء، والله تعالى قال لنبيه الكريم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] أي: أنه ميت، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ومع موت روحه عليه الصلاة والسلام فجسده لا يبلى، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وقال: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه)، فحياة الأنبياء البرزخية أكمل من الشهداء، وهل يبقى جسد الشهيد كما يبقى جسد الأنبياء؟ الله أعلم، لكن وجد من بعض الشهداء من تبقى أجسادهم مدة طويلة دون أن تبلى، وكأنه كلما كانت الشهادة أكمل كان بقاء جسده أطول، وأما الأنبياء فإن أجسادهم لا تأكلها الأرض؛ لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ومع ذلك فهم ميتون في أحكام الدنيا، وهم أحياء حياة برزخية؛ لأن الحياة أنواع، وتعلق الروح بالبدن أنواع: فللروح تعلق بالبدن في بطن الأم، وبعد أن تخرج لها تعلق به، ولها تعلق به عند الموت والنوم في البرزخ، وبعد البعث، فهذه خمس تعلقات، وأكملها تعلق الروح به يوم القيامة؛ لأن الأحكام في الدنيا على البدن أكثر منها على الروح، ولهذا يتألم البدن ويتنعم أكثر من الروح، أما في البرزخ إذا مات الإنسان فيكون الألم والنعيم والأحكام على الروح أكثر من الجسد، وفي يوم القيامة تكون الأحكام على الروح والبدن على حد سواء، لذلك فهي أكمل الحالات. فالجنين في بطن أمه لا يأكل ولا يرضع، وإذا ولد صار يتنفس ويرضع، والنائم روحه تذهب وتجيء وقد تختلط بأرواح الموتى وبغيرهم ولكنها سريعة؛ لأنها خفيفة طبيعتها بحيث أنك إذا ضربت رجله رجعت الروح للنائم في الحال، ولها تعلق به في البرزخ بحيث ترد إليه ويأتيه الملكان ويسألانه: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ ويضيق عليه في قبره أو يوسع له ويفتح له باب إلى النار أو باب إلى الجنة. ثم تعلقها به بعد البعث، وهذا أكبر التعلقات، فالروح والبدن كل منهما يأخذ قسطه كاملاً من النعيم أو من العذاب، فالكفار تعذب أرواحهم وأجسادهم، وكل يأخذ قسطاً من العذاب، والمؤمن ينعم بدنه وروحه، وكل منهما يأخذ قسطه كاملاً.

إثبات كتاب الله الذي كتبه على نفسه

إثبات كتاب الله الذي كتبه على نفسه ذكرنا فيما سبق الحديث الذي فيه ذكر الكتاب الذي كتبه الرب على نفسه، وقد أخرجه مسلم في كتاب التوبة بهذا اللفظ: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي). وفي لفظ آخر: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبتي). والمؤلف رحمه الله أتى بلفظ: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فكتبه على نفسه فهو موضوع عنده على العرش) ولم أجد هذا اللفظ، ولفظ مسلم: (كتب في كتاب على نفسه)، والمقصود: إثبات الكتاب، وأن الرب كتبه على نفسه.

معتقد أهل السنة في القرآن وذكر من خالفهم

معتقد أهل السنة في القرآن وذكر من خالفهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقرآن كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله، والمسموع من القارئ كلام الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وإنما سمعه من التالي، وقال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]، وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:192 - 194]. وهو محفوظ في الصدور، كما قال عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]]. قوله: (والقرآن كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله). هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، وهو الذي دلت عليه النصوص، فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه وحروفه ومعانيه، فليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف، خلافاً لأهل البدع؛ فإن المعتزلة أنكروا أن يكون القرآن كلام الله، وقالوا: إن القرآن مخلوق لفظه ومعناه، وهذا كفر وضلال. والأشاعرة يقولون: الكلام هو المعنى فقط دون الحروف، والحروف ليست كلام الله، وقالوا: ليس ما في المصحف كلام الله، وإنما كلام الله معنى قائم بنفس الرب، والرب سبحانه اضطر جبريل ففهم المعنى القائم بنفسه فعبر بهذا القرآن أو عبر به محمد، على قولين، فمنهم من يقول: إن القرآن عبارة عما عبر به جبريل عن المعنى الذي في نفس الله، ومنهم من قال: إن الذي عبر به محمد. وطائفة ثالثة من الأشاعرة قالوا: إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، والله تعالى لم يتكلم بالقرآن ولم يخرج منه. وكلها أقوال باطلة. إذاً: المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق لفظه ومعناه. والأشاعرة يقولون: القرآن هو المعنى واللفظ مخلوق، فاللفظ كلام البشر. فيكون مذهب الأشاعرة نصف مذهب المعتزلة، ولهذا فإن بعض الأشاعرة -والعياذ بالله- يغلون في هذا حتى قال أحدهم: المصحف ليس فيه كلام الله، والعياذ بالله، وقد يغلو بعضهم فيقوم يدوس المصحف بقدمه ويقول: ليس فيه كلام الله، نعوذ بالله. وهذا كله ناشئ عن هذا المذهب الباطل القائل بأن القرآن هو المعنى القائم بنفس الله تعالى، وإن الحروف والألفاظ ليست كلام الله. أما أهل السنة والجماعة فيقولون: القرآن كلام الله لفظه ومعناه، وحروفه ومعانيه، كما قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والقرآن كلام الله عز وجل ووحيه) يعني: أوحاه الله إلى جبريل فسمعه جبريل من الله عز وجل فنزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه وتعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] وهو جبريل {عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:194] أي: يا محمد {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:194 - 195]، وقال الله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2]، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]، فالقرآن منزل غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فقد كفر، فهو منزل حروفه ومعانيه ولفظه ومعناه. ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والقرآن كلام الله عز وجل ووحيه وتنزيله، والمسموع من القارئ كلام الله) فإذا قرأ القارئ فأنت تسمع كلام الله، وأما الصوت فهو صوت القارئ، كما قال العلماء: الصوت صوت القاري والكلام كلام الباري. والعباد مخلوقون بأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم وألفاظهم وأدائهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)، فأضاف الصوت إليهم، فالصوت ينسب إلى الإنسان، وفي حديث البراء أنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء فقرأ بسورة التين والزيتون فما سمعت صوتاً أحسن منه)، فأضاف الصوت إليه صلى الله عليه وسلم، فالصوت صوت العبد، والناس منهم من صوته حسن ومنهم من صوته غليظ ومنهم من صوته رفيع، والكلام كلام الله. والدليل على أن المسموع من القارئ كلام الله قول الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فدل على أن المسموع كلام الله، وقال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]، فأضاف الكلام إلى الله. وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فالذكر هو القرآن، وما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو من عند الله، فالله تعالى في العلو تكلم بهذا القرآن وسمعه جبريل ونزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. وهو محفوظ في الصدور، فإذا حفظه الحافظ فالقرآن محفوظ في صدره، كما قال عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]، وكيفما كان فهو كلام الله، فإن قرأه القارئ فالمقروء كلام الله، وإن سمعه السامع فإنه يسمع كلام الله، وإن حفظه الحافظ فالمحفوظ كلام الله، وإن كتبه الكاتب فالمكتوب كلام الله، وهو في هذه المواضع كلها حقيقة وليس مجازاً؛ لأنه لو كان مجازاً لصح نفيه فقيل: ما قرأ القارئ كلام الله، وما سمع السامع كلام الله، وما حفظ الحافظ كلام الله. وهذا كلام باطل؛ فكلام الله مسموع حقيقة، مقروء حقيقة، محفوظ حقيقة، مكتوب حقيقة. وأهل السنة لهم أدلة كثيرة على أن القرآن كلام الله، وأهل البدع من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم لهم شبه شرعية وشبه عقلية، وردود أهل السنة عليهم مثبتة في المطولات.

أدلة إثبات أن القرآن كلام الله تعالى

أدلة إثبات أن القرآن كلام الله تعالى

دلالة حديث ابن مسعود في الأمر باستذكار القرآن على أنه كلام الله

دلالة حديث ابن مسعود في الأمر باستذكار القرآن على أنه كلام الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استذكروا القرآن فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقله). وهو مكتوب في المصاحف]. قوله: (استذكروا القرآن فهو أشد تفصياً) يعني: أشد خروجاً وتخلصاً، والحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه والبخاري وأحمد والدارمي وغيرهم، وفيه الحث على مراجعة واستذكار القرآن. وقوله صلى الله عليه وسلم: (استذكروا القرآن) دال على أن القرآن محفوظ في الصدور ويستذكره الإنسان، ودال أن الحافظ إنما يحفظ كلام الله، ولهذا يستذكره حتى لا ينساه. وقوله: (فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم) يعني: الإبل من علقه، وفي اللفظ الآخر: (من عقلها). وعقل البعير: أن تربط ساقه إلى فخذه إذا برك حتى لا يقوم ويهرب، فإذا استطاع بعير الوقوف وقف وحرك يده المربوطة حتى يحل العقال، فإذا رأته بقية الإبل قامت وفعلت فعله، وهكذا تتابع في تفلتها. فالنبي صلى الله عليه وسلم شبه تفلت القرآن من الصدور مثل تفلت الإبل المعقلة، تتفلت شيئاً بعد شيء، فإن كان عندها صاحبها يتعاهدها ثبتت في مكانها، وكذلك الإنسان إن كان يستذكر القرآن بقي محفوظاً في صدره، وإن كان لا يستذكره نسيه. والشاهد من الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استذكروا القرآن)، وقد دل على أن القرآن محفوظ في الصدور، وهو مكتوب.

كتابة القرآن في المصاحف والنظر إليه بالأعين

كتابة القرآن في المصاحف والنظر إليه بالأعين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو مكتوب في المصاحف منظور بالأعين، قال الله عز وجل: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3]. وقال عز وجل: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79]]. فالقرآن مكتوب في المصاحف منظور بالأعين، كما أنه مقروء بالألسن ومسموع بالآذان، وهو حقيقة في هذه المواضع كلها، وقوله: (مكتوب في المصاحف) استدل عليه بقول الله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3] ومعنى: (منشور): مكتوب. وقال عز وجل: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77 - 78] يعني: مكتوب في كتاب. فدل على أن القرآن مكتوب في المصاحف. إذاً: ما في المصاحف هو كلام الله، وفيه الرد على الأشاعرة الذين يقولون: إن المكتوب في المصاحف ليس كلام الله، ولكنه عبارة عن كلام الله، وهذا من أبطل الباطل، فالمصاحف فيها كلام الله، ولهذا قال الله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3]. وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79]. وكما أن القرآن مسموع بالآذان مقروء بالألسن محفوظ في الصدور فهو منظور بالأعين أيضاً، فالإنسان ينظر بعينه في كلام الله إذا فتح المصحف، وإذا قرأه فهو يقرأ كلام الله، وإذا سمعه فهو يسمع كلام الله، وإذا كتبه فهو يكتب كلام الله، وهو في هذه المواضع كلها حق، هذا هو الصواب خلافاً لأهل البدع، وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهو ما دلت عليه النصوص.

النهي عن السفر بالمصحف الذي فيه القرآن إلى أرض العدو

النهي عن السفر بالمصحف الذي فيه القرآن إلى أرض العدو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) مخافة أن يناله العدو]. هذا الحديث عن عبد الله بن عمر رواه الشيخان؛ البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الجهاد، ومسلم في كتاب الإمارة، وأخرجه -أيضاً- أبو داود وابن ماجة والإمام مالك وأحمد في المسند واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وغيرهم. وقوله: (مخافة أن يناله العدو) هذه العبارة من قول الإمام مالك وهي زيادة مدرجة، وأصل الحديث هو: (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو). والشاهد من الحديث أن النبي نهى أن يسافر بالقرآن، يعني: بالمصحف، فدل على أن القرآن في المصحف. وفيه الرد على الأشاعرة الذين يقولون: المصحف ليس فيه القرآن، وإنما هو عبارة عن القرآن، ولذلك -والعياذ بالله- فإن بعضهم قد يهين المصحف ويدوسه بقدمه ويقول: ليس فيه كلام الله، فنعوذ بالله. وقوله: (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) المراد بأرض العدو بلاد الكفار، أي: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى بلاد الكفار، وقد بين علة ذلك الإمام مالك فقال: (مخافة أن يناله العدو). أي: خوفاً من أن يمتهنه، فنهي المسافر أن يأخذ المصحف إذا سافر إلى بلاد الكفار حتى لا تمسه أيديهم فيهينوه. لكن الآن في الوقت الحاضر نجد المصاحف موجودة في بلاد الكفار، بل يستفتحون في إذاعاتهم بالقرآن، فاختلفت الحالة الآن وصار القرآن لا يخشى عليه، فنهي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مقيد بعلة، وهي خشية أن تناله أيدي العدو فيهينوه، والآن وقع في أيديهم، وليس هذا باختيارنا؛ فقد أخذوه من أزمنة طويلة، والذي يظهر -والله أعلم- أنه الآن لا يخشى عليه. والشاهد قوله: (يسافر بالقرآن) فدل على أن المصحف فيه كلام الله، وفيه الرد على الأشاعرة الذين يقولون: ليس في المصحف كلام الله.

أثر عثمان في النظر إلى كلام الله في المصحف

أثر عثمان في النظر إلى كلام الله في المصحف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة حتى أنظر في كلام الله عز وجل. يعني القراءة في المصحف]. هذا الأثر عن عثمان بن عفان الخليفة الراشد رواه البيهقي بلفظ: (لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم ما أنظر في المصحف). ذكره البيهقي في الأسماء والصفات. والشاهد قوله: (حتى أنظر في كلام ربي) فدل على أن كلام الله منظور في المصاحف، فالإنسان إذا قرأ في المصحف فهو ينظر إلى كلام الله، وأثر عثمان بن عفان رضي الله عنه فيه دليل على أن المصحف فيه كلام الله ينظر إليه القارئ، فمن فتح المصحف فهو ينظر إلى كلام الله، كما أن من قرأ فهو يقرأ كلام الله، وكما أن من سمع القارئ فهو يسمع كلام الله، وكما أن من كتب القرآن فهو يكتب كلام الله، وهو في هذه المواضع كلها حقيقة.

قول عكرمة: (كلام ربي)

قول عكرمة: (كلام ربي) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الله بن أبي مليكة: كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يأخذ المصحف فيضعه على وجهه فيقول: كتاب ربي عز وجل، وكلام ربي عز وجل]. عبد الله بن أبي مليكة هو من التابعين رحمه الله، يقول: كان عكرمة بن أبي جهل وأبو جهل هو عمرو بن هشام بن المغيرة بن عمرو المخزومي القرشي، وقد أسلم عكرمة عام الفتح وأبلى في حروب الردة بلاء حسناً، قيل: إنه توفي في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. يقول: كان يأخذ المصحف فيضعه على وجهه فيقول: كتاب ربي عز وجل، وهذا اجتهاد منه رضي الله عنه، وجاء في ترجمته أنه كان ربما قبل المصحف ويقول: كلام ربي. وهذا اجتهاد منه رضي الله عنه، وبعض العامة الآن تجده إذا أخذ المصحف قبله أو وضعه على الجبهة، فهذا جاء من فعل عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل شيئاً من ذلك، ولم يرد عن كبار الصحابة أنهم فعلوا شيئاً من ذلك، فالأولى تركه، والمهم هو العمل به، ولو قبله عشرين مرة وما عمل به فإنه لا ينفعه هذا التقبيل، فالمهم العمل بهذا القرآن، وهذا هو الذي ينفع الإنسان، أي: أن يصدق أخباره وينفذ أحكامه، ويفعل أوامره، ويجتنب نواهيه، وينزجر بزواجره، ويتعظ بمواعظه، ويقف عند حدوده، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، وهذه هي التلاوة الحقيقية التي تنفع الإنسان، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة:121]. والتلاوة نوعان: تلاوة حكمية وتلاوة نقلية، فالتلاوة النقلية هي قراءة القرآن، وهي عبادة، لكن التلاوة التي عليها مدار السعادة والشقاء هي التلاوة الحكمية، وهي تنفيذ أحكامه وتصديق أخباره، أما كون الإنسان يقبله أو يضعه على جبهته ولا يعمل به فهذا لا يفيده.

إجماع أئمة السلف على تكفير القائل بخلق القرآن

إجماع أئمة السلف على تكفير القائل بخلق القرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأجمع أئمة السلف والمقتدى بهم من الخلف على أنه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق. فهو كافر]. أي: أجمع أئمة السلف والمقتدى بهم من الخلف على أن القرآن غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق. فهو كافر. ولا عبرة بأهل البدع الذين خالفوا في ذلك، فمن قال: القرآن مخلوق فهو كافر، كما أن من أنكر رؤية الله فهو كافر، وهذا -كما سبق- حكم على العموم، فيقال: من قال: إن القرآن مخلوق. فهو كافر، أما الشخص المعين فلا بد من قيام الحجة عليه، فلا يكفر حتى توجد الشروط وتنتفي الموانع؛ لأنه قد يكون الشخص المعين جاهلاً لا يدري، وقد يكون تكلم بكلام لا يفهم معناه، وقد يكون أسلم حديثاً ولا يعرف الحكم، وقد يكون شُبِّه عليه ولُبِّس عليه، فالشخص المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه، لكن على العموم يقال: من قال: إن القرآن مخلوق. فهو كافر، ومن أنكر رؤية الله فهو كافر.

إثبات علي وابن مسعود وابن عباس أن القرآن كلام الله

إثبات علي وابن مسعود وابن عباس أن القرآن كلام الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القرآن: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود]. يقول علي رضي الله عنه في القرآن: إنه كلام الله وليس بخالق ولا مخلوق. يعني: أنه صفة من صفاته، فالقرآن صفة الله، وليس خالقاً ولا مخلوقاً، (ولكنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود) وهذا يعني أن القرآن بدأ من الله، أي أن الله تكلم به، (وإليه يعود) أي: يرفع القرآن في آخر الزمان من الصدور ومن المصاحف، قال الإمام أحمد رحمه الله: (كلام الله من الله ليس ببائن منه). وشيخ الإسلام رحمه الله بين معنى كلام الإمام أحمد فقال: معنى قول الإمام أحمد هو معنى قول السلف: القرآن كلام الله منه بدأ ومنه خرج وإليه يعود. وليس معنى قول السلف والأئمة: إنه منه خرج ومنه بدأ أنه خرج منه وحل في غيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يخرج منه ويحل في غيره، فكيف بكلام الله؟! فمقصود السلف الرد على الجهمية الذين يزعمون أن القرآن خلقه الله في غيره، فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما تقول الجهمية: كلام الله لموسى خرج من الشجرة، وهو مخلوق في الشجرة، وهو قوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، ولا يقول هذا عاقل. فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج، فقولهم: (إنه منه بدأ) يعني أنه تكلم به وليس مخلوقاً في غيره، (وإليه يعود) يوم القيامة، أي: في آخر الزمان، وهو من أشراط الساعة الكبرى، ويكون ذلك بعد خروج المهدي والدجال ويأجوج ومأجوج وعيسى بن مريم والدخان وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة، فينزع القرآن من المصاحف ومن صدور الرجال إذا ترك الناس العمل به، فيصبحون لا يجد الواحد في صدره آية ولا يجدون في المصاحف شيئاً من القرآن، وهذا معنى قولهم: (وإليه يعود). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود]. وهذا الأثر عن عبد الله بن عباس وابن مسعود مثل أثر علي بن أبي طالب، وفيه الرد على الجهمية والمعتزلة الذين يقولون: إنه مخلوق.

حكاية عمرو بن دينار عن مشايخه في أن القرآن كلام الله

حكاية عمرو بن دينار عن مشايخه في أن القرآن كلام الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي عن سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود. رواه محمد بن جرير بن يزيد الفقيه وهبة الله بن الحسن بن منصور الحافظ الطبريان في كتاب السنة لهما، وقد أدرك عمرو بن دينار أبا هريرة وابن عباس وابن عمر]. هذا الأثر عن سفيان بن عيينة الإمام المعروف يقول فيه: سمعت عمرو بن دينار -الإمام الكبير المعروف- يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود. رواه محمد بن جرير الطبري وهو الإمام المفسر المعروف شيخ المفسرين، وهبة الله بن الحسن الطبري أيضاً، وكل منهما له كتاب في العقيدة، رويا هذا الحديث في كتابيهما (السنة) أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود. وقد أدرك عمرو بن دينار بعض الصحابة، فقد أدرك أبا هريرة وابن عباس وابن عمر، ويقول: (أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة) والصحابة وكبار التابعين هم مشايخ عمرو بن دينار، وقد أدركهم يقولون: (القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود). والصحابة أفضل الناس بعد الأنبياء، وكلام الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة.

تكليم الله لموسى عليه السلام وقوله تعالى: (ولكن حق القول مني)

تكليم الله لموسى عليه السلام وقوله تعالى: (ولكن حق القول مني) قال المصنف رحمه الله تعالى: [واحتج أحمد على ذلك بأن الله كلم موسى، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى، وبقوله عز وجل: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]]. احتج الإمام أحمد على أن القرآن كلام الله وأنه بدأ من الله بأن الله كلم موسى، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى، فاحتج بقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] وبقوله عز وجل: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، وبقوله عز وجل أيضاً: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية:2]، {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] وبقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102]، وهذا حجة في أن القرآن بدأ من الله.

حديث خباب: (إنكم لن تتقربوا إلى الله بأفضل مما خرج منه)

حديث خباب: (إنكم لن تتقربوا إلى الله بأفضل مما خرج منه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى الترمذي من رواية خباب بن الأرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم لن تتقربوا إلى الله بأفضل مما خرج منه. يعني القرآن)]. هذا الحديث رواه الترمذي عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم لن تتقربوا إلى الله بأفضل مما خرج منه. يعني القرآن) والشاهد قوله: (مما خرج منه)، فدل على أن القرآن بدأ من الله لا من الشجرة كما تقول الجهمية في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:29 - 30] فالجهمية والأشاعرة والمعتزلة يقولون: الكلام بدأ من الشجرة، وقالوا: الشجرة هي التي قالت: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] نسأل الله العافية. وأهل السنة يردون عليهم ويقولون: إن القرآن بدأ من الله، كما في الحديث: (لن تتقربوا إلى الله بأفضل مما خرج منه) والحديث بهذا اللفظ غير موجود في سنن الترمذي، ولكن فيه رواية مقاربة عن أبي أمامة بلفظ: (ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه)، وهناك رواية عن جبير بن نفير: (إنكم لن ترجعوا إلى الله بأفضل مما خرج منه) عزاها شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الإمام أحمد.

[8]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [8] إن صفة الكلام من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدع، فمن المبتدعة من يقولون: إن الحروف والأصوات ليست كلام الله، أما أهل السنة والجماعة فيعتقدون أن الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عين كلام الله تعالى لا حكاية.

إثبات أن الحروف المقروءة عين كلام الله تعالى

إثبات أن الحروف المقروءة عين كلام الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونعتقد أن الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عين كلام الله عز وجل لا حكاية ولا عبارة، قال الله عز وجل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]. وقال: {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف:1 - 2]. وقال: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1]. وقال: {المر} [الرعد:1]، وقال: {كهيعص} [مريم:1]، {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، فمن لم يقل: إن هذه الأحرف عين كلام الله عز وجل فقد مرق من الدين وخرج عن جملة المسلمين، ومن أنكر أن يكون حروفاً فقد كابر العيان وأتى بالبهتان]. من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الحروف المكتوبة في المصاحف هي كلام الله، والأصوات المسموعة هي كلام الله، الصوت صوت القاري والمسموع كلام الباري. وجملة: (لا حكاية ولا عبارة) فيها الرد على أهل البدع، ومنهم الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب الذين يقولون: الحروف والأصوات ليست كلام الله، وإنما هي حكاية عن كلام الله. وعلى الأشاعرة الذين يقولون: الحروف والأصوات عبارة عن كلام الله، والحكاية والعبارة متقاربان. فكلام الله عند هاتين الفرقتين معنى نفسي قائم في نفس الرب لا يسمع، كما أن العلم قائم بنفسه، وهذا باطل. وقد رد المصنف هذا وقال: نعتقد -معشر أهل السنة والجماعة- أن الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عين كلام الله تعالى لا حكاية كما تقول الكلابية، ولا عبارة كما يقول الأشاعرة. والأدلة على ذلك كثيرة ومنها: قول الله عز وجل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] ووجه الدلالة أنه تعالى قال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ) والكتاب هو حروف مكتوبة أمامنا، قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] فهو كلام الله. وقال تعالى: {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف:1 - 2] إذاً: الكتاب الذي أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو كلام الله، وهو الكتاب الذي أنزل فيه حروف وألفاظ. وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] فهو الكتاب الذي فيه حروف. وقال تعالى: {المر} [الرعد:1]، وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1]، وقال تعالى: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2] فهذه الآيات وغيرها تدل على أن كلام الله حروف. يقول: (فمن لم يقل: إن هذه الأحرف هي عين كلام الله عز وجل فقد مرق من الدين وخرج عن جملة المسلمين). أي أن من أنكر أن يكون الحروف من كلام الله فقد خرج من الدين وخالف المسلمين. ومروقه من الدين لقوله: إنها مخلوقة، ومن قال: القرآن مخلوق. فهو كافر كما قال العلماء. ومن أنكر أن يكون كلام الله حروفاً فقد كابر العيان وأتى بالبهتان، فإذا فتحت المصحف عاينت حروف كلام الله تعالى. ويقصد بهذا المؤلف رحمه الله الرد على الأشاعرة وكذلك الكلابية الذين يقولون: القرآن عبارة عن كلام الله أو حكاية عن كلام الله، وكلام الله إنما هو معنى نفسي يقوم بنفس الرب، وهذا من أبطل الباطل.

أدلة إثبات أن القرآن حروف

أدلة إثبات أن القرآن حروف

حديث ابن مسعود: (من قرأ حرفا من كتاب الله)

حديث ابن مسعود: (من قرأ حرفاً من كتاب الله) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الترمذي من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله عز وجل فله عشر حسنات)، قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ورواه غيره من الأئمة وفيه: (أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)]. هذا الحديث رواه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، وفيه إثبات أن القرآن حروف وفيه ردّ على الأشاعرة والكلابية. وفي رواية غيره: (أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)، فإذا قرأ المسلم (ألم) فهذه ثلاثة أحرف بثلاثين حسنة، كل حرف منها بعشر حسنات لمن تقبل الله منه.

نعت أم سلمة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة حرفا حرفا

نعت أم سلمة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة حرفاً حرفاً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى يعلى بن مملك عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً. رواه أبو داود وأبو عبد الرحمن النسائي وأبو عيسى الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب]. هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي والإمام أحمد في مسنده والبخاري في (خلق أفعال العباد) والنسائي في فضائل القرآن، وفيه أن أم سلمة وصفت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي تصف قراءة مفسرة حرفاً حرفاً. فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسرع، وإنما يقف على رءوس الآي، فيقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ثم {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ثم {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وهذا فيه الرد على من أنكر أن يكون القرآن حروفاً كالأشاعرة والكلابية وغيرهم.

إخباره صلى الله عليه وسلم عن قراء يقيمون حروف القرآن دون حدوده

إخباره صلى الله عليه وسلم عن قراء يقيمون حروف القرآن دون حدوده قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى سهل بن سعد الساعدي قال: (بينا نحن نقتري إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار، وفيكم الأحمر والأسود، اقرءوا القرآن قبل أن يأتي أقوام يقرءونه يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يتجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه)، رواه أبو بكر الآجري وأئمة غيره]. هذا الحديث رواه أبو بكر الآجري في (أخلاق حملة القرآن) ورواه أبو داود في السنن بإسناد جيد. وقوله: (يقيمون حروفه إقامة السهم) يعني: يقرءون القرآن قراءة مجودة لكن لا يقبل منهم، وقوله: (لا يجاوز تراقيهم) الترقوة: العظم فوق الكتف، أي أنه غير مقبول منهم لعدم إخلاصهم؛ ولهذا قال: (يتعجلون أجره ولا يتأجلونه) أي: يأخذون أجرهم في الدنيا من مالٍ وجاهٍ وغيره مقابل القراءة، ولا يطلبون الثواب المؤجل عند الله عز وجل، وكثيراً ما يريد الإنسان بعمل الآخرة الدنيا. والشاهد من الحديث قوله: (يقيمون حروفه) فأثبت أن القرآن حروف.

تفضيل أبي بكر وعمر إعراب القرآن على من حفظ بعض حروفه

تفضيل أبي بكر وعمر إعراب القرآن على من حفظ بعض حروفه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه]. هذا الحديث أورده ابن قدامة رحمه الله في المناظرة التي جرت بينه وبين أهل البدع، وفيه عن أبي بكر وعمر أنهما قالا: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه). ومعناه أن قراءة الإنسان قراءة مجودة مرتلة أحب إليهما وأفضل من حفظ الحروف مع عدم فهم للمعاني وتأمل لها. وهذا مثلما قال أبو عبد الرحمن السلمي التابعي الجليل: (كان مشايخنا الذين يقرئوننا القرآن - عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود - يقولون: كنا لا نتجاوز العشر الآيات حتى نتعلم معانيها والعمل بها، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً)، فكون الإنسان يتفهم الآيات التي يقرؤها ويتفهم معانيها ويتدبرها ويجودها أحسن من كونه يحفظ آيات كثيرة من غير إعراب ومن غير تفهم. والشاهد قولهما: (من حفظ بعض حروفه). فأثبتا أن القرآن حروف، وفيه الرد على من أنكر أن يكون القرآن حروفاً من الأشاعرة والكلابية.

قول علي في الجنب أنه لا يقرأ حرفا من القرآن

قول علي في الجنب أنه لا يقرأ حرفاً من القرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أبو عبيد في فضائل القرآن بإسناده قال: سئل علي رضي الله عنه عن الجنب يقرأ القرآن؟ فقال: لا، ولا حرفاً]. هذا الأثر فيه إثبات أن القرآن حروف. وقراءة الجنب للقرآن مختلف فيها بين أهل العلم، فعند جمهور العلماء أن الجنب لا يقرأ القرآن حتى يغتسل، وإذا لم يكن عليه جنابة ولكنه كان محدثاً حدثاً أصغر فله أن يقرأ القرآن عن ظهر قلب، أما المصحف فلا يمسه حتى يتوضأ. وقال بعض العلماء: للجنب قراءة القرآن. وأما الحائض والنفساء ففيهما خلاف، فجمهور الأئمة قاسوا الحائض والنفساء على الجنب، فقالوا: الحائض والنفساء لا تقرآن القرآن. واستدلوا بحديث ضعيف، والصواب: أن الحائض والنفساء تقرءان القرآن عن ظهر قلب، ولا تقاسان على الجنب؛ لأن الجنب مدة جنابته قليلة، والجنب يستطيع أن يغتسل ويقرأ القرآن، لكن الحائض والنفساء لا تستطيعان ذلك ومدتهما تطول، فقد تكون مدة النفاس أربعين يوماً وتكون النفساء حافظة للقرآن فتنسى إذا لم تراجع، وقد تكون مدرسة أو طالبة وتحتاج لقراءته، فلها أن تقرأه عن ظهر قلب.

حكم ابن مسعود بالكفر بالقرآن على من كفر بحرف منه

حكم ابن مسعود بالكفر بالقرآن على من كفر بحرف منه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كفر بحرف منه - يعني القرآن - فقد كفر به أجمع. وقال أيضاً: من حلف بسورة البقرة فعليه بكل حرف يمين]. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كفر بحرف منه -يعني القرآن- فقد كفر به أجمع). وهذا رواه الطبري رحمه الله في مقدمة تفسيره واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة. وقال أيضاً: (من حلف بسورة البقرة فعليه بكل حرف يمين). أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، وذلك لأن كل حرف من حروف البقرة وغيرها من السور هو من القرآن، وسورة البقرة تشمل ألفاظها وحروفها ومعانيها، فلهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من حلف بسورة البقرة فعليه بكل حرف يمين). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال طلحة بن مصرف: قرأ رجل على معاذ بن جبل فترك واواً فقال: لقد تركت حرفاً أعظم من جبل أحد]. أي أن ترك حرفاً من القرآن أعظم من الجبل؛ لأن كلام الله صفة من صفاته، ولا يجوز إسقاط شيء منه ولا ترك حرف من حروفه.

إثبات الحسن البصري لحروف القرآن الكريم

إثبات الحسن البصري لحروف القرآن الكريم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري في كلام له: قال الله عز وجل: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، وما تدبر آياته إلا اتباعه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفاً وقد أسقطه -والله- كله]. هذا الأثر رواه ابن كثير في التفسير وعزاه إلى ابن أبي حاتم. فـ الحسن البصري الإمام المعروف العالم التابعي الجليل يقول في قول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] وما تدبر آياته إلا اتباعه والعمل به؛ لأن التدبر وسيلة إلى العمل، ولهذا يقول رحمه الله: (وما تدبر آياته إلا اتباعه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفاً وقد أسقطه -والله- كله). يعني: ما أسقط منه حرفاً بالقراءة ولكنه أسقطه كله حيث لم يعمل به ولم يتبعه، فإذا لم يعمل به ولم يتبعه فقد أسقطه كله وإن أقام حروفه؛ لأن التلاوة وإن كانت عبادة مستقلة إلا أنها وسيلة إلى العمل، فإذا لم يعمل به فلن تحصل الفائدة، بل بذلك قامت عليه الحجة وصار القرآن حجة عليه.

تكفير ابن المبارك لمن كفر بحرف من القرآن

تكفير ابن المبارك لمن كفر بحرف من القرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الله بن المبارك: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن، ومن قال: لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر]. هذه العبارة قالها عبد الله بن المبارك الإمام العالم الزاهد المشهور، فقال: (من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن)؛ لأنه يجب الإيمان بالقرآن كله، فمن آمن ببعضه وكفر ببعضه فقد كفر بالجميع، وعبد الله بن المبارك قال هذا الكلام أخذاً من قول الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85]. قال: ومن قال: لا أؤمن بهذا اللام الذي هو من كلام الله فقد كفر.

إثبات أن كلام الله بصوت والرد على المخالفين

إثبات أن كلام الله بصوت والرد على المخالفين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة -وأشار بيده إلى الشام- عراة غرلاً بهماً. قال: قلت: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه. قالوا: وكيف وإنما نأتي الله عراة غرلاً بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات)، رواه أحمد وجماعة من الأئمة]. هذا الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله في المسند، ورواه البخاري رحمه الله في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك، والخطيب البغدادي وغيرهم، وهو حديث مشهور ويسمى حديث المظالم. والبخاري رحمه الله رواه معلقاً في الصحيح فقال: رحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس في طلب الحديث الواحد. والحديث الذي رحل من أجله هو حديث المظالم هذا. وهذا فيه الرحلة في طلب العلم، ولهذا رواه البخاري في الرحلة لطلب العلم، حيث رحل جابر بن عبد الله من المدينة إلى عبد الله بن أنيس في الشام في طلب الحديث الواحد، واشترى بعيراً لهذه المهمة. فعلماء الصحابة ومن بعدهم كان لهم عناية في طلب الحديث، وكانوا يتحملون المشاق، وقد استغرقت إحدى الرحلات شهراً، وهي رحلة من المدينة إلى الشام، فلما وصل إليه طرق عليه الباب، فلما خرج عبد الله بن أنيس قال جابر بن عبد الله: حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظالم خشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فذكر الحديث. والشاهد من الحديث قوله: (فيناديهم بصوت)، فيه إثبات الصوت، أي أن كلام الله بصوت يسمع. وفيه الرد على الأشاعرة والكلابية والجهمية والفلاسفة الذين يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس، إلا أن الكلابية يقولون: الكلام أربع معانٍ في نفسه هي: الأمر والنهي والخبر والاستفهام، والأشاعرة يقولون: هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ولا يتفسر ولا يتنوع، بل هذا التنوع هو صفات له، إن عبرت عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبرت عنه بالعبرانية فهو التوراة، وإن عبرت عنه بالسريانية فهو الإنجيل، وإن عبرت عنه بالداودية فهو الزبور، فهو شيء واحد، هكذا يقول الأشاعرة؛ وعندهم هو واحد لكن له صفات، ويمثلون لذلك بالإنسان، فالإنسان له صفات متعددة، فأنت أب بالنسبة لأبنائك وابن بالنسبة إلى آبائك وأجدادك، وأنت عم بالنسبة إلى أبناء أخيك، وأنت خال بالنسبة إلى أبناء أختك، فأنت واحد وتوصف بأنك أب وابن وعم وخال، فكذلك الكلام معنى واحد يوصف بأنه توراة وإنجيل وقرآن؛ فالتنوع هو في العبارات والدلالات لا في المدلول، وكلهم يقولون: الحروف والأصوات دليل على القرآن وليست هي قرآناً، إلا أن الكلابية يسمونها حكاية، والأشاعرة يسمونها عبارة. والفلاسفة يقولون: ليس الكلام حرفاً وإنما هو معنى يفيض من العقل الفعال على النفس الشريفة، فيحصل لها تصورات بحسب ما قبلته منه. فهذا الحديث فيه رد على جميع هؤلاء الطوائف. والفلاسفة يقولون: ليس الكلام حرف، وإنما هو معنى يسير من العقل الفعال على النفس الشريفة، فيحصل له من التصورات والتصديقات بحسب ما قبلته من ذلك، فهذا الحديث فيه رد على هذه الطوائف من الكلابية والأشاعرة والفلاسفة الذين ينكرون أن يكون كلام الله بالصوت، وهذا حديث صريح حيث قال: (فيناديهم بالصوت). وأصح ما ثبت في الصحيح: (أن الله تعالى ينادي آدم يوم القيامة بالصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) وينادي آدم فيقول: (لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث النار)، وهذا فيه إثبات الصوت. والحديث فيه: (يحشر الناس يوم القيامة) وأشار بيده إلى الشام؛ لأنه مكان المحشر (غرلاً بهماً عراة لا ثياب عليهم) وغرلاً جمع الأغرل وهو الأقلح، والغرلة: القلفة، يعني: غير مختونين، والأغرال: غير المختونين، أي لم تزل عنهم الجلدة التي تقطع من الصبي وهو صغير. فالناس ترجع إليهم يوم القيامة، فيكونون غير مختونين، عراة لا ثياب عليهم، حفاة، وفي اللفظ الآخر: (لا نعال عليهم). وقوله: (بهماً) أي: ليس معهم شيء، ويكون القصاص هناك بالحسنات والسيئات (فيناديهم الرب سبحانه وتعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه، قالوا: وكيف يكون القصاص؟) أي: ليس عندنا شيء، لا دراهم، ولا فضة، ولا ذهب، ولا أوراق نقدية، ولا أمتعة فكيف يكون القصاص؟ فقال: (بالحسنات والسيئات) أي: أن القصاص هناك يكون بالحسنات والسيئات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء كجر السلسلة على الصفوان فيخرون سجداً). وذكر الحديث]. حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رواه البخاري تعليقاً في كتاب التوحيد، يقول عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء كجر السلسلة على الصفوان فيخرون سجداً). وله شواهد. وأخرج نحوه في كتاب التفسير في قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:18] باب: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23]. وفيه وجهان لإثبات الصوت لكلام الله حيث قال: سمع صوته أهل السماء وهذا وجه، والوجه الثاني قوله: وأن كلام الله بصوت يسمع. وفيه الرد على من أنكر الصوت من الكلابية والأشاعرة والفلاسفة وقوله: (كجر السلسلة على الصفا) سلسلة الحديد على الصفا أو الصفوان، والصفوان: الحجر الأملس، وهذا من باب التقريب، وليس فيه تشبيه صوت الله بصوت السلسلة، وإنما المعنى أن كلام الله يسمع بصوت، كما يسمع صوت السلسلة، وهو كقوله في الحديث الآخر: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر)، فليس في هذا تشبيه لله بالقمر، وإنما تشبيه للرؤية بالرؤية، وهنا تشبيه للصوت بالصوت، يعني: كما أن الصوت المسموع من السلسلة يكون قوياً، فكذلك الصوت المسموع من كلام الله يكون قوياً، وإلا فصوت الله لا يشبه صوت المخلوقين.

شبه المنكرين للصوت والحرف والتدليل على بطلان شبههم

شبه المنكرين للصوت والحرف والتدليل على بطلان شبههم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول القائل بأن الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج باطل ومحال قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]. وكذلك قال الله عز وجل إخباراً عن السماء والأرض أنهما: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فحصل القول من غير مخارج ولا أدوات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كلمه الذراع المسموم. وصح أنه سلم عليه الحجر وسلمت عليه الشجرة]. هذه شبه المنكرين للحرف والصوت من كلام الله عز وجل، فقد بين المؤلف رحمه الله شبههم ورد عليها. ومن شبههم أنهم يقولون: الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج، ومعروف أن الإنسان إذا تكلم فلا بد أن يتكلم من مخارج، ومخارج الحروف معروفة فهناك حروف من أطراف اللسان، وحروف من حافة اللسان، وحروف من إطباق الشفتين، وهذا يلزم منه أن يكون الرب له مخارج حروف، فيكون له لسان، ويكون له شفتين، ويكون له أضراس، وهذا محال. يقول المؤلف رحمه الله: هذا محال، أي: كلام باطل لا وجه له؛ لأن هذا فيه تشبيه الخالق بالمخلوق الآدمي، والله نفى عن نفسه ممثالة المخلوقات قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. قال سبحانه: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]. قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. قال سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. فيرد عليهم أولاً بأن التمثيل باطل، فالله ليس له مثيل، وهذا تمثيل والتمثيل باطل، فلا يمكن أن يماثل الخالق بالمخلوق. والجواب الثاني: أنه يوجد بعض المخلوقات تتكلم من غير مخارج، من غير أسنان، من غير أضراس، من غير شفتين، ومن غير لسان، وإذا كانت المخلوقات يمكن أن تتكلم من دون مخارج حروف، فإمكان ذلك في حق الرب أولى، فقولكم: أنه لا بد أن يكون مخارج باطل، وذكر أدلة على جواز التكلم بغير مخارج منها: الدليل الأول: أن النار تكلمت، حيث قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] فقوله: (وتقول) يدل على أن جهنم تكلمت، وجهنم ليس لها لسان، ولا أضراس، ولا أسنان، ولا شفتين، فإذا أمكن أن تتكلم بعض المخلوقات من دون مخارج فإمكان ذلك في حق الرب من باب أولى. الدليل الثاني: قال الله تعالى للسماء والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] والسماء والأرض ليس لهما أضراس أو أسنان أو شفتين، أو مخارج؛ ولهذا قال المؤلف: (فحصل القول من غير مخارج ولا أدوات). أي: حصل قول من السماء والأرض، ومن جهنم من غير مخارج، ولا أدوات؛ لا أسنان ولا أضراس، وإذا أمكن هذا في المخلوق أمكن في الخالق من باب أولى. الدليل الثالث: حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كلمه الذراع المسموم. والمؤلف يشير إلى حديث أبي هريرة في قصة الشاة المسمومة التي أهداها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، حيث أهدت يهودية للنبي صلى الله عليه وسلم ذراعاً مشوياً وكانت الذراع تعجبه، فنهس منها نهسة ثم نطق وتكلم الذراع بأنه مسموم، وهذا رواه البخاري رحمه الله في كتاب الجزية والموادعة، ورواه البيهقي في دلائل النبوة. فهذا الذراع الذي تكلم ليس له أضراس أو أسنان، وليس له مخارج أو أدوات، فإذا أمكن هذا في المخلوق أمكن في الخالق من باب أولى. الدليل الخامس: قال: (وصح أنه سلم عليه الحجر). كذلك حديث تسليم الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم في صحيحه، والترمذي في سننه، قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأعلم حجراً كان يسلم علي في مكة). والحجر ليس له أضراس ولا أسنان، ولا مخارج وأدوات. الدليل السادس: قوله: (وسلمت عليه الشجرة). وهذا ورد في حديث علي رضي الله عنه عند الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد. فالشجرة سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع الكلام منها وليس لها مخارج ولا أدوات، ولا أضراس ولا أسنان وإذا أمكن هذا في المخلوق أمكن ذلك في الخالق من باب أولى، ولهذا رد الإمام أحمد رحمه الله على أهل البدع وقال: وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، أليس الله قال للسماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. وقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء:79] أتراها سبحت بجوف وفم ولسان وشفتين؟ والجوارح إذا شهدت على الكفار فقالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] اليد والرجل تشهد وليس لها أضراس ولا أسنان، أتراها نطقت بجوف وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كيف يشاء من غير جوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان، وبهذا تبطل شبهة هؤلاء المنكرين للحرف والصوت في كلام الله عز وجل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إثبات صفة الهرولة لله تعالى

حكم إثبات صفة الهرولة لله تعالى Q ما حقيقة إثبات صفة الهرولة لله تعالى؟ A الهرولة مراد بها القرب، وقد سبق أن ذكرنا أن القرب نوعان: قرب من العابدين بالإثابة، وقرب من السائلين بالإجابة، ومن ثمرات هذا القرب أن الله أسرع بالخير من العبد. وفسره جماعة فقالوا: معناه أن الله لا يقطع الثواب عن العبد حتى يقطع العبد العمل، وأن الله أسرع بالخير من العبد. لكن هذا من ثمرات القرب وليس هو القرب، والإتيان يليق بجلال الله وعظمته، وهو تقرب من العباد إلى الله تعالى بالطاعات وتقرب من الله تعالى بالثواب، وهو من القرب الخاص.

دلالة تكليم الله لعبد الله بن حرام

دلالة تكليم الله لعبد الله بن حرام Q من المقرر أنه لا أحد يرى الله عز وجل في الدنيا، وقد ورد في الحديث أن عبد الله بن حرام كلمه الله كفاحاً، فهل يلزم من ذلك أنه رأى الله عز وجل؟ A ليس فيه أنه رآه، بل فيه أنه كلمه كفاحاً بكلام من دون واسطة، فيحمل على أنه بعد الموت، وفي الحديث الثابت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)، وعبد الله بن حرام قد مات، لكن الحديث فيه أنه كلمه كفاحاً، يعني: من دون واسطة، وليس فيه أنه رآه. ومن العلماء من قال: إنه يلزم من هذا الرؤية، وإذا قيل بهذا فيكون هذا بعد الموت، لأنه لا يرى الله أحد في الدنيا.

الجمع بين الأحاديث التي تنفي رؤية الله في الدنيا وحديث (رأيت ربي في أحسن صورة)

الجمع بين الأحاديث التي تنفي رؤية الله في الدنيا وحديث (رأيت ربي في أحسن صورة) Q كيف يوفق بين أحاديث عدم رؤية الله في الدنيا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي الليلة في أحسن صورة)؟ A قوله: (رأيت ربي في أحسن صورة) هذا في المنام، وفيه: (فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا يا رب، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فعلمت فقلت: نقل الأقدام إلى الجماعات، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة) فهذا في المنام، وليس في اليقظة، أما في اليقظة فقد قال بعض العلماء: إنه رآه في ليلة المعراج بعيني رأسه، والمحققون على أن الله كلمه بدون واسطة وأنه رآه بعين قلبه ولم يره بعيني رأسه في اليقظة.

رفع القلم عن المسحور فيما زال فيه عقله

رفع القلم عن المسحور فيما زال فيه عقله Q ذكرتم أن المسحور لا يفقه، فلو قلنا ذلك لأصبح جميع المسحورين لا يفقهون، وسيعدون ممن رفع عنهم القلم في المجازاة بالأعمال، وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يداخله شيء منه فيما يتعلق بالرسالة والشريعة فيما يبدو؟ A السحر إنما يتعلق بأمور الدنيا، وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله؛ ولكن لم يصب عقله بشيء من ذلك، ولم يتعد أثر ذلك إلى التشريع. فنقول: المصابون والمسحورون الذين زالت عقولهم هؤلاء هم الذين يرفع عنهم القلم، وأما من سحر ولكنه لم يزل عقله في كلِّ شيء -كما سمعنا من بعض الذين يقرءون على المرضى أنه يوجد من المسحورين من يسحر ولكنه يعقل، فيكون سحره في جانب من الجوانب- فهؤلاء لا يرفع عنهم القلم في الجانب الذي يعقلون فيه.

بيان معنى حديث (بدأ الإسلام غريبا) وحديث (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)

بيان معنى حديث (بدأ الإسلام غريباً) وحديث (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) Q قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، وقال: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فما معنى هذين الحديثين؟ A حديث: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) على ظاهره، وفيه بيان أن الإسلام سيعود غريباً، وأنه ستعود غربة الإسلام مرة أخرى كما كانت في أول الأمر، ففي أول الأمر بدأ الإسلام غريباً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو أول المؤمنين من هذه الأمة، ثم تبعه على ذلك حر وعبد، الحر أبو بكر والعبد بلال، وآمن به من النساء خديجة وهكذا، ثم لم يزل الإسلام يزداد شيئاً بعد شيء حتى اكتمل، وسيعود غريباً في المستقبل، فلا يكون على الإسلام إلا العدد القليل. وأما حديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) فهذا فيه تحذير من الفرق الضالة، وفيه أن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق. والصواب: أن هذه الفرق كلها من فرق الأمة وأنها ليست كافرة، بل هي من الفرق المبتدعة، ولهذا قال العلماء: إن الجهمية والقدرية الذين ينكرون صفة العلم خارجون من الثنتين والسبعين فرقة المذكورة في الحديث لكفرهم وضلالهم، فدل على أن هذه الفرق ليست خارجة من الإسلام وإنما هي مبتدعة، والذين على الحق هم أهل السنة والجماعة. وقال بعض العلماء: إن هذه الفرق منها الكافر ومنها المبتدع. ولكن ظاهر الحديث أن هذه الفرق من الفرق المبتدعة.

مشابهة الأحباش للجهمية في قولهم بأن الله موجود بلا مكان

مشابهة الأحباش للجهمية في قولهم بأن الله موجود بلا مكان Q هناك جماعة منتشرة في هذا العصر وهم الأحباش، يقولون: إن الله موجود بلا مكان، فهل سبقهم إلى هذا أحد؟ A نعم، هذا قول الجهمية فإنهم قالوا: إن الله موجود في كل مكان، في السماء وفي الأرض وفي بطون السباع وفي كل مكان، بل لم ينزهوا الله عن الأمكنة القذرة تعالى الله عما يقولون! فالجهمية سبقوا الأحباش، وقد سمعنا عن هؤلاء الأحباش أنهم على مذهب النصارى وأنهم نصارى. والمقصود أن هذا هو قول الجهمية؛ فإن الجهمية ينكرون العلو ويقولون: إن الله ليس له مكان، فهو في الجهات كلها وفي كل مكان، نعوذ بالله.

الجمع بين حديث عدي في تكليم الله لخلقه يوم القيامة وبين النصوص الدالة على امتناع الكلام والنطق عن بعض الخلق

الجمع بين حديث عدي في تكليم الله لخلقه يوم القيامة وبين النصوص الدالة على امتناع الكلام والنطق عن بعض الخلق Q كيف نجمع بين حديث عدي والأحاديث والآيات التي تثبت أن الله لا يكلم بعض الناس؟ A ذكر الله تعالى في بعض الآيات أنهم لا ينطقون وأنهم لا يسألون، وفي بعض الآيات ذكر أنهم ينطقون وينكرون، والجمع -كما ذكر الإمام أحمد في الرد على الزنادقة- أنه في بعض المشاهد من يوم القيامة يختم على أفواههم ولا يتكلمون ولا ينطقون، وفي بعضها يخلى بينهم وبين الكلام؛ فالمشاهد متعددة، فقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39]، أي: لا يسأل في وقت، وفي وقت آخر يسأل، فيوم القيامة يوم طويل له مشاهد متعددة، ففي وقت لا يسألون وفي وقت يسألون، في وقت لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ولا ينطقون، وفي وقت يخلى بينهم وبين الكلام فيتكلمون.

الجمع بين حديث: (حجابه النور) وبين ثبوت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

الجمع بين حديث: (حجابه النور) وبين ثبوت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة Q كيف نجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وبين الأدلة الواردة في رؤية الله تعالى وكشف الحجاب؟ A لا توجد منافاة، فالله تعالى ليس كواحد من خلقه، فقد احتجب عن خلقه بالنور، وهو سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال عباده، وهو يراهم، ويكشف الحجاب في يوم القيامة، فينظرون إليه ولا يحترقون وإنما يحترقون في الدنيا لو رأوه، فقوله: (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) هذا في الدنيا، أما في الآخرة فينظر إليه المؤمنون ولا يحترقون؛ لأن الله ينشئهم نشأة قوية، وينعمهم سبحانه وتعالى برؤيته.

حكم القراءة من المصحف في النوافل

حكم القراءة من المصحف في النوافل Q هل يجوز في صلاة قيام الليل أن أقرأ من المصحف؛ لأنني لا أحفظ إلا القليل؟ A لا بأس بذلك؛ لأن صلاة الليل صلاة طويلة، فإذا تمكن الإنسان وكان عنده وقت كاف فلا بأس بأن يقرأ من المصحف، أما الفرائض فإنه يكتفى فيها بما يحفظه الإنسان.

سماع الميت السلام ومعرفته من يسلم عليه ويدعو له

سماع الميت السلام ومعرفته من يسلم عليه ويدعو له Q هل يسمع الميت السلام والدعاء؟ وهل يعرف من يسلم عليه ويدعو له عند الوقوف على قبره؟ A الله أعلم، فالميت نحن مأمورون بالسلام عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي)، أما كونه يعرف ذلك فالله أعلم، والأصل أن الميت انقطع عمله، وانقطع عن الدنيا، فلا يعلم أحوال الدنيا، ولا يعلم أحوال الناس ولا ما هم عليه، ولكنا مأمورون بالسلام عليه والدعاء له.

معنى المهيمن وبيان أن صفة الهيمنة ليست صفة الاستيلاء

معنى المهيمن وبيان أن صفة الهيمنة ليست صفة الاستيلاء Q ما معنى المهيمن؟ وما رأيكم في قول القائل: إن صفة الهيمنة هي صفة الاستيلاء؟ A معنى المهيمن: المحيط بعباده وليس معناها أنه كان عاجزاً ثم غلب.

حكم حج من عليه دين

حكم حج من عليه دين Q هل يجوز الحج لمن عليه دين ولم يستطع قضاءه؟ وهل يجوز له أن يتصدق بشيء يسير؟ A إذا كان عليه دين حال فيجب عليه أن يقضي الدين ثم يحج إن كان في ماله سعة، وأما إذا كان الدين غير حال وهو يستطيع الوفاء فلا بأس، وأما إذا كان الدين حالاً وهو لا يستطيع أن يحج، أي: إما أن يقضي دينه وإما أن يحج؛ فإن الدين مقدم.

مدى إمكانية فهم التفويض من كلام الشيباني في أحاديث الصفات

مدى إمكانية فهم التفويض من كلام الشيباني في أحاديث الصفات Q هل يفهم من كلام الشيباني رحمه الله التفويض عندما قال: إن هذه الأحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها؟ A لا يحمل كلامه على التفويض، وإنما الجهمية هم من فهمها وفسرها بالتفويض. أما نحن فلا نفسرها تفسير أهل البدع، ونحسن الظن بأهل العلم.

افتخار زينب بنت جحش بتزويج الله لها بنبيه صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات

افتخار زينب بنت جحش بتزويج الله لها بنبيه صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات Q ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: كانت زينب بنت جحش تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات. فهل يجوز الفخر بمثل هذه الأمور؟ A نعم، وهذه منقبة ومزية خصها الله بها، ولهذا ما أنكر عليها الصحابة ولا أنكر عليها زوجها النبي صلى الله عليه وسلم.

الحكم على أثر ابن عباس في نزول القرآن جملة إلى بيت العزة

الحكم على أثر ابن عباس في نزول القرآن جملة إلى بيت العزة Q ما صحة الأثر المروي عن ابن عباس رضي الله عنه: أن القرآن نزل جملة واحدة إلى بيت العزة ثم نزل بعد ذلك منجماً حسب الوقائع؟ وهل فيه تأييد لقول الأشاعرة بأن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ. فقد سمعنا من ينكر هذا الأثر لهذه الشبهة؟ A هذا مروي عن ابن عباس وسنده لا بأس به، وعلى القول بصحته فلا منافاة، فقد نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة، وتكلم الله به وأنزله على نبينا صلى الله عليه وسلم مفرقاً على حسب الوقائع.

معنى قول السلف (كلام الله قديم النوع متجدد الآحاد)

معنى قول السلف (كلام الله قديم النوع متجدد الآحاد) Q ما معنى قولهم: القرآن قديم النوع متجدد الآحاد؟ A الصحيح أن كلام الله تعالى عموماً قديم النوع متجدد الآحاد، وليس ذلك خاصاً بالقرآن، والقرآن هو من كلام الله تعالى. والمعنى: أن نوع الكلام قديم، وأما أفراده فمتجددة حادثة، قال الله تعالى لم يزل متكلماً، وهذه صفته، فيتكلم متى شاء أن يتكلم، وأفراد كلامه تعالى حادثة، فقد كلم الله موسى، وكلم الله محمداً صلى الله عليه وسلم في المعراج، ويكلم الله الناس يوم القيامة، وفي الحديث: (أن الله تعالى ينادي يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: أخرج بعث النار) فهذه جملة من أفراد الكلام المتجدد الحادث.

حكم دخول المسابقات القرآنية لأخذ المال

حكم دخول المسابقات القرآنية لأخذ المال Q ما حكم دخول المسابقات في القرآن بنية أخذ المال؟ A إذا كان أخذ المال مقابل التلاوة فلا يجوز، لأن التلاوة من العبادات، والعبادات لا يؤخذ عليها أجرة، ولا يجوز الاستئجار عليها، ففي الحديث: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) فلو قال رجل لرجل: اقرأ جزءاً أو المصحف وأعطيك كذا من المال فإن ذلك لا يجوز. أما إذا كان بيت المال يعطي أرزاقاً ومرتبات للمؤذنين وللأئمة وللقارئين والمقرئين والمتعلمين، أو يعطيهم إعانات من دون استئجار ومشارطة فلا بأس بذلك، وبيت المال لا بد له من أن يقوم بكفالة المؤذنين والأئمة والقضاة والمدرسين والدعاة، وتجوز إعانة الحافظ لتشجيعه على حفظ القرآن بدون شرط. وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يقول: أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهم. فقال: أسأل الله العافية، لا تصلِّ خلف هذا. وكذلك الحج، فلا يجوز أخذ المال عليه إلا للتوصل به إلى طاعة الله تعالى، ولهذا فرق العلماء بين من أخذ المال ليحج ومن حج لأمر آخر، فمن لم يحج إلا من أجل المال فهذا هو الذي يقول فيه شيخ الإسلام: يخشى أن يكون داخلاً في قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16]. وأما من أخذ المال ليتوصل به إلى الحج فإن فعله جائز، وعليه أن يرد الباقي؛ لأنه ليس مقصوده المال، فيرد الباقي لصاحبه إلا إذا سمح له وأعطاه فلا بأس. وبهذا يتبين أن الاستئجار على نفس التلاوة لا يجوز، أما إذا أعطي من بيت المال إعانة من غير شرط فلا بأس بذلك، وهذا ليس خاصاً بالتلاوة، بل يدخل فيه الإمامة والأذان ونحوهما من العبادات. وبعض العلماء قالوا: إذا تعطل فلا بأس بالاستئجار للضرورة، وإلا فالأصل المنع.

تكلم الله تعالى بالتوراة وبيان دلالة خط الله تعالى لها بيده

تكلم الله تعالى بالتوراة وبيان دلالة خط الله تعالى لها بيده Q هل التوراة مخلوقة أم هي كلام الله؟ وإذا كانت كلام الله فكيف قال آدم لموسى عليه السلام في الحديث: (وخطَّ لك التوراة بيده)؟ A كتب الله كلها منزلة، وهي كلام الله، فالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن كلها كلام الله، ولا يقال: مخلوقة، وقوله: (خط لك التوراة بيده) لا يدل على أنها مخلوقة، فهي كتابة الله تعالى، والله تعالى يوصف بالكتابة، كما في الحديث: (كتب في كتابه فهو عنده) والكتابة تشمل خط التوراة بيده أيضاً، ولا تستلزم الخلق.

وقت أداء تحية المسجد وما يفعله من نسيها

وقت أداء تحية المسجد وما يفعله من نسيها Q هل لي أن أؤخر تحية المسجد إلى حين انتهاء الدرس علماً بأني آتي في بدايته، وهل أقضي التحية إذا نسيتها؟ A تحية المسجد هي عند الدخول، وإذا جلس ولم يصلها فلا حرج، فهي مستحبة، ورأى بعض الظاهرية أنها واجبة، وأما عند نسيانها فيؤتى بها حال ذكرها.

حكم المتوقف في كون القرآن مخلوقا أو غير مخلوق

حكم المتوقف في كون القرآن مخلوقاً أو غير مخلوق Q هل يكفر من يقول: القرآن كلام الله لا أقول: مخلوق أو غير مخلوق؟ A قال العلماء: هذا متوقف، ومن قال كذلك فقد كفر، ومثله قول أبي حنيفة: من لم يقل: إن الله فوق السماء: فهو كافر، ومن قال لا أدري الله في السماء أو في الأرض. فهو كافر. والمقصود: أن من أنكر العلو فهو كافر، ومن قال: إن القرآن مخلوق أو توقف فهو كافر، نعوذ بالله، فلابد من أن يجزم بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا يتوقف.

حكم الذهاب إلى المزينة

حكم الذهاب إلى المزينة Q ما حكم الذهاب إلى المزينة إذا كانت تعرف بالأخلاق الطيبة؟ A أنصح بأن لا تذهب المرأة إليها، ولا ينبغي أن تخرج المرأة من بيتها إلا لحاجة، وهذه ليست من الحاجات، فتكتفي بما تعمله في بيتها؛ إذ يخشى عليها من الخروج بدون حاجة، ثم إنها لابد لها من أن تتكلف، وقد تتجاوز في بعض الأشياء، وتعمل بعض الأشياء الممنوعة، ثم إنها تدرب وتشجع غيرها على الذهاب إلى المحلات ويراها من يراها من الرجال، وقد تتهم، وقد يتعرض لها بعض الفساق، فنصيحتي لها أن لا تذهب إليها، ولا يجوز لها أن تكشف عورتها عند هذه المزينة.

ضابط تكفير المعين

ضابط تكفير المعين Q ما هو الضابط في تكفير المعين؟ A الضابط أنه لا يكفر إلا بعد التبيان والتوضيح بالدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، وأن يبين له أن هذا كفر وأنه يجب عليه الرجوع، وتكشف الشبهة إن كان عنده شبهة، فإن رجع وإلا حكم عليه بالكفر.

حكم المزاحمة في الصفوف وحكم حجز الأماكن في الصف

حكم المزاحمة في الصفوف وحكم حجز الأماكن في الصف Q هل تجوز مزاحمة أصحاب الصف الأول حتى يذهب الخشوع؟ وهل يجوز حجز الأماكن في الصفوف، إذ إن بعضهم يغيب طويلاً ويترك المكان محجوزاً؟ A ينبغي للإنسان أن يأتي بهدوء وأدب وبدون إيذاء، ويصلي حيث ينتهي به المكان، ولا يزاحم غيره حتى لا يتمكن من الركوع أو السجود ويذهب الخشوع. وأما الحجز فيجوز كأن يتكئ على عمود، أو يحجز مكاناً في المسجد ثم يذهب ليتوضأ أو لحاجة قريبة، وأما لساعات طويلة فلا.

[9]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [9] الإيمان بالقدر خيره وشره واجب بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة، وقد ضلت طوائف في الإيمان بالقدر، فمنهم من يعتقد أنه لا قدر وأن الأمر أنف، وأن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه، ومنهم من اعتقد أن الإنسان هو الذي يخلق فعله، ومنهم من اعتقد أن العبد مجبور على فعله وأنه لا اختيار له ولا مشيئة. وهؤلاء كلهم على خطر عظيم وعلى شفا جرف هار.

إجماع السلف على الإيمان بالقدر بمراتبه الأربعة

إجماع السلف على الإيمان بالقدر بمراتبه الأربعة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيرة، بقضاء الله وقدره، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلاً، وخلق من أراد للشقاء واستعمله به عدلاً، فهو سر استأثر به، وعلم حجبه عن خلقه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179]. وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]. وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]]. انتقل المؤلف رحمه الله إلى مبحث القضاء والقدر وقال: وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، وأمر الله تعالى به في كتابه، فالإيمان بالقدر واجب بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى في كتابه العظيم: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. وقال سبحانه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]. وفي السنة المطهرة في حديث جبرائيل المشهور: لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). والإجماع: أجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر. فإذاً الإيمان بالقدر واجب بالكتاب والسنة والإجماع.

مراتب القدر

مراتب القدر الإيمان بالقدر له أربع مراتب لا بد من الإيمان بها، ومن لم يؤمن بهذه المراتب لم يؤمن بالقدر. المرتبة الأولى: العلم الشامل لكل شيء، للماضي والحاضر والمستقبل، والمستحيل أيضاً، فالله تعالى يعلم بما كان في الماضي، ويعلم ما يكون في المستقبل والحاضر، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، قال الله تعالى عن الكفار: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] فدل على أن الله ما أسمعهم الآن، لكن أخبر عن علم فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]. وقال سبحانه عن الكفار لما طلبوا الإعادة إلى دار الدنيا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] وهم لا يمكن أن يردوا. وقال عن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} [التوبة:46] أي: المنافقون. {لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:46 - 47] فمع أنهم لم يخرجوا ولكن علم الله حالهم فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47] فهذه المرتبة الأولى وهي: العلم. المرتبة الثانية: الكتابة، وهو الإيمان بأن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، فكل ما يكون من الذوات، والصفات، والأقوال، والأفعال، والحركات، والسكنات، والرطب، واليابس مكتوب، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. وقال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70] وهو اللوح المحفوظ، وهذه الآية فيها إثبات العلم وإثبات الكتابة. وقال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] وهو اللوح المحفوظ. وقال سبحانه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. وثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء). وهذا يدل على أن كتابة المقادير سابقة لخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. وقال عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: يا رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)، وفي لفظ: (فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة). فهاتان مرتبتان لا بد من الإيمان بها. المرتبة الثالثة: الإرادة والمشيئة، وهو: أن كل شيء يقع في هذا الوجود لا بد أن تسبق وجوده مشيئة الله وإرادته؛ إذ لا يمكن أن يقع في الكون إلا ما شاءه الله وأراده سبحانه وتعالى. المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد، وهو الإيمان بأن الله تعالى خلق وأوجد كل شيء في هذا الكون، وكل شيء في هذا الكون خلقه الله وأوجده قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]. {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد:16]. فهذه مراتب القدر الأربع، ومن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقدر، وأهل السنة والجماعة آمنوا بهذه المراتب الأربع.

الطوائف المنكرة للقدر

الطوائف المنكرة للقدر والقدرية طائفتان: الطائفة الأولى: القدرية الأولى الذين أنكروا المرتبتين الأوليين: العلم، والكتابة، وهؤلاء كفار؛ لأن من أنكر العلم نسب الله للجهل وهذا كفر، فمن أنكر علم الله السابق وكتابته للمقادير فهو كافر، وهؤلاء وجدوا في أواخر عهد الصحابة، وهم الذين خرجوا في البصرة وقالوا: إن الأمر مستأنف وجديد، فأنكر عليهم التابعين من علماء البصرة، ومنهم حميد بن عبد الرحمن الحميري، فخرج مرة ومعه صاحب له في حج أو عمرة وقالوا: لو وفق لنا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نسأله، قالوا: فوفق لنا عبد الله بن عمر فسألناه وقلنا: يا أبا عبد الرحمن! إنه ظهر قبلنا قوم يتقفرون العلم -أي: يعرفونه- ويزعمون أن الأمر أنف، يعني: مستأنف وجديد وما سبق به تقدير الله، فقال: أخبر هؤلاء أني منهم بريء وأنهم براء مني، والله لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم روى عن أبيه عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله جبرائيل عن الإيمان؟ فقال: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره). فهؤلاء القدرية الذين أنكروا العلم والكتابة كفار؛ لأنهم نسبوا الله للجهل، وقد انقرضوا، وهؤلاء هم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله وغيره: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا. الطائفة الثانية: عامة القدرية المتأخرين الذين أثبتوا العلم والكتابة، ولكنهم أنكروا عموم المشيئة وعموم الخلق، فلم ينكروا المشيئة والخلق بالكلية، وإنما أنكروا عموم المشيئة وعموم الخلق، فقالوا: إن الله علم الأشياء وكتبها، وشاء كل شيء إلا أفعال العباد فلم يشأها من خير أو شر، من طاعة أو معصية، فالله خلق كل شيء إلا أفعال العباد فلم يخلقها خيراً أو شراً؛ لشبهة حصلت لهم، ولهذا يدرأ عنهم التكفير، وشبهتهم أنهم قالوا: لو قلنا: إن الله قدر المعاصي، وخلقها وعذب عليها لكان ظالماً، ففراراً من ذلك قالوا: إن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم استقلالاً من دون الله عز وجل، وهم الذين شاءوا أفعالهم، فهم الذين خلقوا الطاعات والمعاصي حتى يستحقوا الثواب على الطاعات، ويستحقوا العقوبة على المعاصي، لكن يقال لهم: أنتم فررتم من شيء ووقعتم في شر مما فررتم إليه، أنتم فررتم إلى القول بأن الله خلق المعاصي وعذب عليها، لكن وقعتم في شر مما فررتم منه، فيلزم على مذهبكم أنه يقع في ملكه ما لا يريد، ومعناه: وقوع المعاصي والطاعات بدون إرادة الله، وهذا أمر عظيم، وكذلك أيضاً: يلزم على مذهبكم أن مشيئة العاصي والكافر تغلب مشيئة الله؛ لأن على مذهبكم أن الله شاء الطاعة من العبد، والعبد شاء المعصية، فوقعت مشيئة العبد ولم تقع مشيئة الله، وهذا أمر عظيم. أما القول بأن الله خلق المعصية وعذب عليها، فليس فيه نسبة الظلم إلى الله؛ لأن الذي ينسب إلى الله الخلق والإيجاد، والخلق والإيجاد مبني على الحكمة، والذي ينسب إلى العبد المباشرة والتسبق والفعل فيعذب على الفعل، وأما كون الله خلقها، فإنه خلقها لحكمة، ولهذا فإنك إذا نسبتها إلى الله لا تكون شراً؛ لأنه خلقها لحكمة، وإذا نسبتها إلى العبد فهي شر؛ لأنه باشرها وكسبها فساءته وضرته وعذب عليها، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك). يعني: الشر المحض الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره ليس إليك، وهذا لا وجود له في الكون، إذ لا يوجد شر محض، فكل الشرور الموجودة شرور نسبية، فهي شر بالنسبة للعبد، وخير بالنسبة إلى الله؛ لأنه خلقها لحكم وأسرار. وأهل السنة والجماعة آمنوا بمراتب القدر كلها وقالوا: إن الله تعالى خلق كل شيء، وشاء كل شيء، وله الحكمة البالغة، وهو يهدي من يشاء فضلاً منه وإحساناً، ويضل من يشاء عدلاً وحكمة. والمعتزلة قالوا: إن الله لا يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، فالعبد هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه. وأما قوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93] فتأولها المعتزلة والقدرية بأن قوله: يهدي يعني: يسميه مهتدياً، ويضل: أي: يسميه ضالاً، وإلا فالعبد هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، وقالوا: إن الله ليس على كل شيء قدير، بل هو على ما يشاء قدير، ولهذا تجد في أواخر بعض الكتب والله على ما يشاء قدير، وهذا يتماشى مع مذهب المعتزلة، وقصدهم من هذا إنكار دخول أفعال العباد في قدرة الله، وهذا غلط، والواجب أن يقول: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]. وأما قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29] فهذا مقيد بالجمع، {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29]. ولهذا بين المؤلف رحمه الله معتقد أهل السنة والجماعة فقال: وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، يعني: أهل السنة أجمعوا على وجوب الإيمان بالقدر سواء كان خيراً أو شراً، فيأكل الإنسان مما يعطيه الله من النعم والفضل والمال والصحة والولد، وتصيبه المصائب التي تكون شراً بالنسبة إليه، والمعاصي التي تقدر عليه، فسواء كان حلواً كالخير، أو مراً كالمصائب التي تحصل، فهذا كله بقضاء الله وقدره، ولا يكون شيء إلا بإرادته، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة. والمعتزلة وافقوا القدرية، فهم معتزلة في الصفات قدرية في الأفعال، ويقولون: يجري الخير والشر بدون مشيئة العبد. وقول المؤلف: خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلاً، يعني: أن الله تعالى تفضل عليهم، وخلق من أراد للشقاء واستعمله به عدلاً منه فله الحكمة البالغة، ولا يكون ظالماً؛ لأن الهداية ملك لله وليست ملكاً للعبد، فمن أعطاه الهداية فهذا من فضله، ومن منعه الهداية فهذا من عدله وحكمته، فلا يكون ظالماً سبحانه وتعالى، ولهذا قال المؤلف: خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلاً، وخلق من أراد للشقاء واستعمله به عدلاً، فهو سر استأثر به، وعلم حجبه عن خلقه. يقول الطحاوي رحمه الله: القدر سر الله في خلقه، طواه عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، فمن سأل: لمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: هو سر استأثر به، وعلم حجبه عن خلقه، فلا أحد يعلم سر الله في خلقه، يعني: سر الله في خلقه أن جعل هذا شقياً، وجعل هذا سعيداً، وجعل هذا عالماً، وجعل هذا جاهلاً، وجعل هذا عاقلاً، وجعل هذا مسلوب العقل، وهذا طويل، وهذا قصير، وهذا فقير، وهذا غني، وهذا يعمر وهذا لا يعمر، وهذا يموت طفلاً، وهذا يموت شيخاً، وهذا يموت كهلاً، وهذا يموت في بطن أمه، فله الحكمة البالغة، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] لا يسأل عما يفعل: لكمال حكمته، لا لأنه طعن بالمشيئة كما يقوله من أنكر الحكم والتعليل من المعتزلة وغيرهم، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] لكمال حكمته {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فله الحكمة البالغة. وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]. ولو شاء لفعل ذلك لكن له الحكمة البالغة، وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وكل من صيغ العموم، سواء كان خيراً أو شراً، خلافاً للمعتزلة الذين يقولون: المعاصي والطاعات ليست بقدر.

الكتابة في اللوح المحفوظ لا تستلزم ترك العمل

الكتابة في اللوح المحفوظ لا تستلزم ترك العمل قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7]) الآية]. هذا الحديث متفق عليه رواه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله، رواه البخاري في مواضع، ومسلم في كتاب القدر، ورواه أيضاً أبو داود في سننه، والترمذي وابن ماجة، وأحمد في المسند، وهو حديث صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد) الغرقد: نوع من شجر الشوك، وهو من شجر اليهود، يكون في آخر الزمان، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل عيسى بن مريم يسلط المؤمنون على اليهود، فيقتلونهم قتلاً ذريعاً حتى يختبئ اليهود وراء الشجر والحجر، فيتكلم الشجر والحجر، وهذه من آيات الله، (فيقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فلا يتكلم فإنه من شجر اليهود). يقول علي رضي الله عنه (إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة - يعني: عصا- فنكس وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار) وهذا هو الشاهد، إذ فيه إثبات الكتابة، وأن المقادير كلها مكتوبة (فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا- وفي اللفظ الآخر- وندع العمل) أي: ما دام كل أحد مكتوب عليه الآن شقي أو سعيد، في الجنة أو في النار، فلماذا لا نكتفي بالكتاب ولا نعمل؟ وقالوا: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ الآية: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]).

ذكر بعض ما ورد في السنة في إثبات القدر

ذكر بعض ما ورد في السنة في إثبات القدر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (أن خلق أحدكم يجتمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)]. هذا الحديث حديث صحيح متفق عليه. رواه البخاري رحمه الله في صحيحه في مواضع. ورواه الإمام مسلم في كتاب القدر، ورواه أبو داود وابن ماجة وغيرهم، وهو من أحاديث الأربعين النووية التي يحفظها صغار الطلبة، يقول عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، هو الصادق يعني: في قوله وفي كلامه، المصدوق: من ربه: (أن خلق أحدكم يجتمع - وفي اللفظ الآخر: يجمع- في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك). أربعين وأربعين وأربعين مائة وعشرين وهي تساوي الأربعة أشهر، وإذا مضت الأربعة الأشهر بعث الله له ملكاً بأربع كلمات: (بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، وفي اللفظ الآخر: (أن الملك يقول: يا رب ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ ما الشقاوة؟ ما السعادة؟ فيكتب ما قيل له). جاء في بعض الأحاديث أن الملك يدخل على النطفة بعد مضي اثنين وثمانين يوماً وهذا هو الشاهد، إذ فيه إثبات القدر وأن الإنسان يقدر عليه وهو في بطن أمه، يقال: يكتب ما يجري عليه من الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة والسعادة، وهذا القدر مأخوذ من القدر السابق في اللوح المحفوظ، فهو يوافقه ولا يخالفه، وهو مأخوذ منه، يعني: أن هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، ثم هذه كتابة ثانية خاصة بالإنس، لا تخالف القدر السابق، ثم بين النبي وقال: (فوالذي لا إله غيره) فهنا أقسم وقال: لا إله غيره، يعني: لا معبود بحق غيره سبحانه وتعالى، (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب)، أي: الكتاب الذي كتب عليه وهو في بطن أمه وما كتب في اللوح المحفوظ: (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). أي: لا بد أن يصير إلى ما كتب عليه، (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب) أي: الذي كتب عليه في بطن أمه وفي اللوح المحفوظ: (فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). وجاء في الحديث الآخر أن هذا شق على الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس وإنه من أهل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس). وكأنه -والله أعلم- يكون بعض الناس هكذا فيما يبدو للناس، وبعضهم: لا يكون هكذا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رواه مسلم في الصحيح وأبو داود في السنن وغيرهما من الأئمة أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال: نعم). وفيه من الأدلة ما لو استقصيناه لأدى إلى الإملال]. حديث عمر بن الخطاب مشهور، فقد رواه مسلم في صحيحه بطوله، ورواه أبو داود في السنن وغيره من الأئمة، وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة مختصراً وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإيمان فذكر أركان الإيمان الستة، وجعل الركن السادس الإيمان بالقدر، قال: (أن تؤمن بالله) هذا الركن الأول، (وملائكته) الركن الثاني، (وكتبه) هذا الثالث، (ورسله) هذا الرابع (واليوم الآخر) هذا الخامس (والقدر) هذا هو السادس، وهذا هو الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان، فمن لم يؤمن بالقدر فليس بمؤمن؛ لأنه أنكر أصلاً من أصول الإيمان فيكون كافراً، ولأن هذه الأصول الستة وهي: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، هذه الأصول الستة أثبتها القرآن العظيم ووضحها وبينها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، وأجمع المسلمون عليها، ولم يخالف في شيء منها إلا من خرج عن دائرة الإسلام وصار من الكافرين. نسأل الله السلامة والعافية. وقوله: (فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال: نعم) يعني: جبرائيل، وهذا حديث عظيم، فيه بيان مراتب الدين وأن الدين له مراتب ثلاث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث: (آتاكم جبريل يعلمكم دينكم). فجعل الدين ثلاثة مراتب، فقد سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، وجاء في بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في بعض الروايات: (سلوني سلوني) فهابوا أن يسألوه، فأرسل الله جبرائيل في صورة رجل يسأل حتى يتعلم الناس كيف يسألون. والمؤلف يقول: وفيه من الأدلة ما لو استقصيناه لأدى إلى الإملال يعني: في إثبات القدر من الأدلة ما لو استقصيناها لأدى إلى التعب وإلى الإملال؛ لأن الأدلة كثيرة فلا يمكن حصرها فيؤدي إلى الملل والسآمة. والقدرية كما سبق أنها طائفتان: الطائفة الأولى: الذين أنكروا العلم والكتابة. والطائفة الثانية: وهم عامة القدرية الذين أنكروا عموم المشيئة والإرادة، وهؤلاء كلهم أنكروا شيئاً من القدر، ويقابلهم طائفة أخرى تسمى: الجبرية الذين يقولون: إن العبد مجبور على أفعاله، وليس له اختيار، فالإنسان كالريشة في الهواء لا يقدر على أن يفعل شيئاً، فهو مجبور على أفعاله، وهؤلاء يعذرون الإنسان بشركه ومعاصيه، ويقولون: إنه مجبور على أفعاله، ما دام أنه قدر عليه كل شيء، فإذاً ليس عليه حرام؛ إذ ليس له اختيار ولا قدرة، بله هو مجبور، فالمصلي والصائم، ليس هو في الحقيقة الذي يفعل، وإنما هو الله تعالى الذي يفعل. ويقولون: إن العبد كالكوز الذي يصب فيه الماء، والله صب الماء فيه، فيصب فيه الأفعال صباً، وأفعاله كلها اضطرارية مثل حركة المرتعش، والنائم، وحركة الأشجار. ويقولون: كيف يعذب الله العبد على ما خلقه فيه؟ وكيف يقدر عليه ثم يعذبه؟ وهو ليس له قدرة، ولا اختيار، ولا امتناع عن القدر، فيقولون: فمثل الله كمثل من قيد شخصاً وأوثقه وأمسك يديه ورجليه ثم ألقاه في الماء وقال: لا يصيبك البلل. ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء وهم يحتجون على شركهم وأفعالهم بالقدر، ولهذا يسمونها المشركية، وهؤلاء كما قال الله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35]. فهم يحتجون بالقدر ويرونه حجة، ويقولون: الزاني معذور، والسارق معذور، والمشرك معذور والعياذ بالله. فهؤلاء آمنوا بالقدر وأنكروا الأوامر الشرعية، وهذا مذهب خبيث وباطل؛ لأن معناه: إنكار الشرائع وإنكار الرسل؛ لأنهم يعذرون أنفسهم ويحتجون بالقدر، فهم آمنوا بالقدر وأنكروا الأوامر والنواهي. وأما القدرية الأولى الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه خيراً أو شراً فيسمون بالقدرية المجوسية نسبة إلى المجوس؛ لأن المجوس يقولون: العالم له خالقان: ً النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، فقالوا: بوجود خالقين. والقدرية قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه فجعلوه خالقاً مع الله، فقالوا بتعدد الخالق فسموا مجوسية لمشابهتهم للمجوس في القول بتعدد الخالق، إلا أن المجوس أثبتوا خالقين اثنين، والقدرية أثبتوا خالقِين كل واحد يخلق فعله، فهؤلاء يسمون المجوسية؛ لأنهم كذبوا بالقدر وآمنوا بالشرع أو الأوامر والنواهي، وأولئك يسمون المشركية، ويسمون الجبرية، وهؤلاء يسمون القدرية النفاة وهم القدرية المجوسية، وأولئك يسمون القدرية المثبتة أو القدرية المجبرة وهم القدرية المشركية، والقدرية المشركية أشد فساداً وضلالاً؛ لأن القدرية المجوسية أثبتوا الشرع والأوامر والنواهي، فهم يعظمون الشرائع والأوامر والنواهي. أما القدرية المشركية فقد أبطلوا الشرائع والأوامر والنواهي، وعلى قولهم تكون الشرائع عبث والعياذ بالله، والأوامر والنواهي عبث، والرسل عبث، فيكون قوم نوح معذورون في شركهم على مذهبهم، وكذلك قوم هود، وقوم صالح، نسأل الله السلامة والعافية. وهناك طائفة ثالثة أيضاً يسمون الإبليسية: وهؤلاء آمنوا بالأمر والنهي، وبالقدر والشرع، لكن جعلوا هذا تناقضاً من الرب قالوا: الرب متناقض -نعوذ بالله- إذ كيف يأمر وينهى ويقدر خلاف ذلك. فتكون الطوائف ثلاث: المشركية، والمجوسية، والإبليسية. المجوسية أثبتوا الأمر والنهي وأنكروا القدر، والمشركية بالعكس أثبتوا القدر وأنكروا الأمر والنهي. والإبليسية: أثبتوا القدر والأمر والنهي إلا أنهم جعلوا الرب متناقض، وقالوا: الشرع يبطل القدر، والقدر يبطل الشرع، وهؤلاء سموا إبليسية؛ لأنهم منسوبون إلى إبليس الذي اعترض على الله لما قال الله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة:34] فإبليس امتنع وقال: كيف أسجد وأنا خير منه؟ فعنصري أحسن من عنصره، إذ عنصر آدم الطين، وعنصر إبليس النار، والنار أفضل من الطين، ولا يخضع الفاضل للمفضول حيث قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فأول من قاس قياساً فاسداً هو إبلي

الأسئلة

الأسئلة

حال الأحباش في جنوب المملكة

حال الأحباش في جنوب المملكة Q ذكرتم حفظكم الله أن الأحباش من فرقة النصارى وأنهم في جنوب المملكة، وبمراجعة الموسوعة الميسرة تبين أن الأحباش طائفة ضالة تنسب إلى عبد الله الحبشي وهي تحيي مناهج أهل الكلام والصوفية والباطنية، يئولون صفات الله تعالى بلا ضابط شرعي، فيئولون الاستواء بالاستيلاء، ويزعمون أن جبريل هو الذي أنشأ ألفاظ القرآن، والأحباش في مسألة الإمامة من المرجئة الجهمية، وفي القدر جبرية يستغيثون بالأموات، ويسبون الصحابة وخاصة معاوية وعائشة رضي الله عنهما، ويكفرون ابن تيمية وابن عبد الوهاب، وينتشرون في لبنان بصورة كبيرة، وفي أوربا وأمريكا، وكندا، واستراليا، والسويد، والدنمرك، ولا يعلم أنهم في جنوب المملكة، وذكر فتوى لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله، فما توجيهكم؟ A الأحباش الذي ذكرت غير الذي ذكرت في الموسوعة، فهؤلاء شاهدتهم يجيئون من الحبشة، وهم موجودون الآن، ويتسللون إلى المملكة من جهة الجنوب وهم نصارى، وهؤلاء يسمونهم الأحباش باللغة العامية، يقولون: هؤلاء أحباش وهم نصارى معروفون.

حكم من حلف بحرف من القرآن أو بسورة أو بالقرآن كله

حكم من حلف بحرف من القرآن أو بسورة أو بالقرآن كله Q من حلف بحرف، أو حلف بسورة البقرة، أرجو الإيضاح: فهل عليه بكل حرف من سورة البقرة يمين؟ وشخص آخر يحلف كثيراً بالقرآن فهل عليه كفارة بكل حرف من القرآن؟ A هذا ظاهر كلام المؤلف رحمه الله حيث قال: فعليه أيمان، لكن الذي يظهر والله أعلم أنه إذا حلف بالقرآن فهي يمين واحدة، وإذا حلف بكلام الله فهي يمين واحدة، هذا الذي أقره أهل العلم، لكن ظاهر كلام المؤلف يقول: فعليه أيمان بكل حرف، وهذا فيه نظر ويحتاج إلى دليل. فمن حلف بسورة البقرة ليس معنى ذلك أنه بكل حرف عليه يمين؛ إذ هذا يحتاج إلى دليل.

خطأ من يفسر الشهادة بأنها إخراج اليقين الفاسد

خطأ من يفسر الشهادة بأنها إخراج اليقين الفاسد Q البعض يفسر معنى لا إله إلا الله بأنها إخراج اليقين الفاسد، فهل هذا التفسير صحيح؟ A هؤلاء هم جماعة التبليغ حيث يقولون: تخرج اليقين الفاسد وتدخل اليقين الصحيح، وهذا ليس على إطلاقه، بل قد يكون عنده يقين فاسد فيخرجه، وقد يكون عنده شك فقط فيخرجه أيضاً، فبعض الكفار يكون عنده شك، فإذا وحد الله وقال: لا إله الله زال الشك عنه، وبعض الكفرة عنده يقين في شركه ومعبوداته، فإذا وحد الله خرج اليقين الفاسد، وتيقن التوحيد الحق، فهذا الكلام ليس بصحيح على الإطلاق.

ثبوت لفظ (على ما تشاء قدير) في السنة وتوجيهه

ثبوت لفظ (على ما تشاء قدير) في السنة وتوجيهه Q ثبت في حديث آخر من يدخل الجنة قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك على ما تشاء قدير) فما توجيهكم؟ A إذا ثبت هذا فهو معناه مثل الآية: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29]؛ لأن الله تعالى وعده بالثواب، ولا ينفي هذا قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120].

بيان معنى قوله: (ما منكم أحد إلا سيكلمه الله)

بيان معنى قوله: (ما منكم أحد إلا سيكلمه الله) Q في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله) هل الكلام عام للمؤمنين والكفار أم هو خاص بالمؤمنين؟ A هذا ظاهره العموم ويلزم من ذلك الرؤية، والرؤية كما سبق في موقف القيامة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم، فمن العلماء من قال: إن الرؤية تكون لهم جميعاً ثم يحتجب عن الكفرة، ومنهم من قال: الرؤية خاصة بالمؤمنين والمنافقين، ومنهم: من قال: خاصة بالمؤمنين، والله تعالى أخبر أنهم: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] حال الكفار {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فالظاهر أن الله يكلمهم، وهذا الكلام فيه تعذيب لهم والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.

بيان الزمان الذي ينطق فيه الحجر

بيان الزمان الذي ينطق فيه الحجر Q هل نطق الحجر والشجر فعلاً كما سمعنا في بعض الأخبار ونقل عن بعضهم أنه نطق، ومتى يكون نطق الحجر، هل قبل نزول عيسى عليه الصلاة والسلام؟ A نطق الحجر والشجر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد سلمت عليه الشجرة، وسلم عليه الحجر، وأما الذي في آخر الزمان هذا بعد نزول عيسى، إذ ينزل عيسى عليه السلام ويقتل الدجال، وبعد ذلك يقاتل المسلمون اليهود، ويسلطون عليهم فيقتلونهم قتلاً ذريعاً، فيختبئ اليهود وراء الشجر والحجر فيتكلم الشجر والحجر في ذلك الوقت، ويقول: يا مسلم! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله.

أقسام الناس في الإيمان والرضا بالقضاء والقدر

أقسام الناس في الإيمان والرضا بالقضاء والقدر Q ما الفرق بين القضاء والقدر؟ وهل يلزم الإيمان والرضا بالقضاء والقدر؟ A القضاء والقدر إذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى، وإذا أطلق أحدهم دخل فيه الآخر، فالقضاء له معان متعددة فقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12] بمعنى: خلقهن، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] بمعنى: الأمر، فيأتي بمعان متعددة، والقدر كذلك له معان متعددة. والإيمان بالقضاء والقدر واجب، والصبر على القدر واجب، أما الرضا بما قدره الله فهذا فيه تفصيل، فالصبر على المصائب وعلى ما قدره الله واجب، ولا يجوز للإنسان أن يتسخط أو يجزع، بل يجب عليه أن يصبر وأن يحبس نفسه عن الشكوى، ولسانه عن التشكي، وجوارحه عما يغضب الله، أما كونه يرضى فهذا مستحب عند المحققين من أهل العلم، وهناك مرتبة أعلى من هذه وهي أن يصبر على المصيبة ويرضى، وهناك من يشكر الله، فالناس أقسام تجاه المصائب وما يقدره الله، القسم الأول: من يجزع ولا يصبر، فتجده مثلاً يشكو ويتكلم لماذا قدر علي هذا؟ ولماذا حصل بي كذا؟ وتجده يلطم خده، وينتف شعره، ويشق ثوبه، وهؤلاء حرموا الأجر وعليهم الوزر. القسم الثاني: الذين يصبرون ولا يجزعون، ولا يتسخطون، ولا يتشكون، وليس في نفوسهم هلع، ولا يعملون بجوارحهم ما يغضب الله، وهؤلاء أتوا بالواجب. القسم الثالث: يصبرون ويرضون بقضاء الله وقدره، فعندهم رضاً وطمأنينة؛ لأنهم يعلمون أن الخيرة فيما اختاره الله، ويعلم أن الله أعد للصابرين الثواب العظيم والأجر الكبير، أن الله يكفر سيئاتهم ويرفع درجاتهم بهذه المصيبة. القسم الرابع: وهو من يجعل المصيبة نعمة يشكر الله عليها؛ لأنه يوافق ربه فيما أراده وقضاه، وفيما أحبه في محابه ومراضيه؛ ولأنه كفر بها السيئات، ورفع بها الدرجات، فاعتبرها من النعم، فالمحن في حق هؤلاء تكون منحاً ونعماً يشكرون الله عليها، وهذا لا يقدر عليه إلا عباد الله الخلص، وخواص المؤمنين.

حكم قول بعض الناس: (فلان لا يستحق هذا)

حكم قول بعض الناس: (فلان لا يستحق هذا) Q بعض الناس إذا أصيب شخص بمصيبة قال: فلان لا يستحق هذا فهل في ذلك شيء؟ A هذه كلمة خطيرة ينبغي الحذر منها، فقوله: (لا يستحق) معناه: اعتراض على الله، فلا يصلح هذا، وينبغي التنبيه عليه.

[10]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [10] اختلف أهل العلم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج فمنهم من قال: إنه رآه بعين رأسه، ومنهم من قال: إنه لم يره، وحمل أدلة القائلين بأنه رآه بقلبه لا بعينه، وهذا القول هو الصواب جمعاً بين الأدلة، والله أعلم.

خلاف العلماء في عدد مرات الإسراء والمعراج وكيفيته

خلاف العلماء في عدد مرات الإسراء والمعراج وكيفيته قال الحافظ رحمه الله: [وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به إلى فوق سبع سموات ثم إلى سدرة المنتهى، أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسجد بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء بجسده وروحه جميعاً، ثم عاد من ليلته إلى مكة قبل الصبح، ومن قال: إن الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة فقد غلط، ومن قال: إنه منام، وأنه لم يسر بجسده فقد كفر. قال الله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]. وروى قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو ذر وأنس بن مالك ومالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله وشداد بن أوس وغيرهم. كلها صحاح مقبولة مرضية عند أهل النقل مخرجة في الصحاح]. انتقل المؤلف رحمه الله من الكلام على القضاء والقدر إلى مبحث الإسراء والمعراج. والإسراء معناه في اللغة: السفر ليلاً. وشرعاً: هو الإسراء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو السفر ليلاً بنبينا صلى الله عليه وسلم على البراق صحبة جبرائيل من مكة إلى بيت المقدس. وأما المعراج: فهو مفعال من العروج، وهو صعود نبينا صلى الله عليه وسلم ليلاً من بيت المقدس إلى السماء بصحبة جبرائيل، والمعراج آلة كالسلم صعد صلى الله عليه وسلم عليها ومعه جبرائيل حتى وصل إلى السماء ودخل السموات، وانتقل من سماء إلى سماء؛ حتى وصل إلى سدرة المنتهى. يقول المؤلف رحمه الله: وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري إلى فوق سبع سموات ثم إلى سدرة المنتهى، أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسجد بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء. والمؤلف هنا رحمه الله أدمج الإسراء في المعراج، وأن رسول صلى الله عليه وسلم أسري به إلى فوق، فهو أسري به أولاً من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى فوق، فأدمج المؤلف رحمه الله الإسراء بالمعراج، وقال: أسري به إلى فوق، وهو أسري به أولاً من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى فوق سبع سموات، ثم إلى سدرة المنتهى. ثم عاد المؤلف رحمه الله فقال: أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو مسجد بيت المقدس، ثم عرج به، ثم عرج به إلى السماء بجسده وروحه جميعاً، ثم عاد من ليلته قبل الصبح. وهذا هو الصواب التي تدل عليه النصوص، والذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به في الليل من مكة إلى بيت المقدس، والله تعالى بين ذلك في القرآن العظيم، قال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] ومن أنكر الإسراء فقد كفر؛ لأنه مكذب لله، ومن كذب الله كفر، إلا إذا لم يعلم بحيث كان مثله يجهل هذا، فهذا يبين له النص، وأن الله أخبر في القرآن أن الله أسرى بنبيه صلى الله عليه وسلم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فإن أصر كفر؛ لأنه كذب الله، ومن كذب الله كفر. وأما المعراج؛ فإنه جاء في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الصحاح وفي غيرها، والإسراء والمعراج كما ذكر المؤلف رحمه الله في ليلة واحدة، وهذا هو الصواب، فقد أسري به أولاً من مكة إلى بيت المقدس، وجمع له الأنبياء هناك وصلى بهم إماماً قدمه جبرائيل فظهر فضله عليه الصلاة والسلام، ثم عرج به إلى السماء. وقال بعض العلماء: إن الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، وهذا قول ضعيف. والصواب: أن الإسراء والمعراج بجسده وروحه يقظة لا مناماً، مرة واحدة، هذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص، ومن أقوى الأدلة قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1] ووجه الدلالة: أن العبد اسم لمجموع الروح والجسد، فالصواب أن الإسراء والمعراج في ليلة واحدة، وأنه أسري به عليه الصلاة والسلام بجسده وروحه مرة واحدة. وقال آخرون من أهل العلم: إن الإسراء كان بروحه دون جسده، وهذا مروي عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهم. وقال آخرون من أهل العلم: إن الإسراء كان مناماً. وقال آخرون من أهل العلم: إن الإسراء كان مراراً، مرة يقظة ومرة مناماً. وقال آخرون: أن الإسراء كان مراراً، مرة قبل الوحي ومرة بعده. وهذه كلها أقوال ضعيفة، والصواب القول الأول: وهو أن الإسراء والمعراج في ليلة واحدة، وأن الإسراء والمعراج كان بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يقظة لا مناماً، وأنه كان مرة واحدة لم يتعدد، وهناك فرق بين من قال: إن الإسراء كان مناماً، ومن قال: إن الإسراء كان بروحه. فالقائلون: إن الإسراء كان بروحه، قالوا: إن الروح هي التي عرج بها وجسده باق عليه الصلاة والسلام، ولكن عرج بروحه، وهذا الاستقلال بالروح من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن غيره لا تنال روحه الاستقلالية. وأما الذين قالوا: إن الإسراء كان مناماً، فقالوا: إن الروح والجسد لم يعرج بهما، فالروح والجسد باقيان في مكة، ولكن الملك ضرب الأمثال للنبي صلى الله عليه وسلم فتكون الصورة المعلومة في صورة تأخذ شكل الصورة المحسوسة، ومنام الأنبياء وحي كما قال الله تعالى عن نبيه إبراهيم أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102]. والذين قالوا: إن الإسراء كان مناماً استدلوا بحديث شريك بن أبي نمر في الصحيحين وفي غيرهما وفي بعض ألفاظه أنه قال لما ذكر قصة الإسراء والمعراج: (ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام). استدلوا بهذه اللفظة: (ثم استيقظت). قالوا: إن الإسراء كان مناماً، ولكن شريك بن أبي نمر غلطه الحفاظ في ألفاظه من حديث الإسراء، ولهذا لما روى الإمام مسلم رحمه الله الحديث الشريف قال بعده: فزاد ونقص وقدم وأخر، يعني: شريك بن أبي نمر فهو له أغلاط وأوهام، وإن كان الحديث في الصحيحين، لكن هذه أغلاط وأوهام في بعض الألفاظ، وفي بعضها: (وكان ذلك قبل الوحي) وهذه من أغلاطه أيضاً، والصواب أن الإسراء والمعراج بعد الوحي وبعد النبوة، وكان في مكة قبل الهجرة بسنة أو بسنتين أو بثلاث على خلاف. فهذه أقوال: قيل: إن الإسراء والمعراج في ليلتين. وقيل: إن الإسراء كان بروحه دون جسده. وقيل: إن الإسراء كان مناماً. وقيل: إن الإسراء كان مراراً: مرة يقظة، ومرة مناماً، وهذا يفعله بعض ضعفاء الحديث، كل ما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة، قال بعضهم: مرتين، وبعضهم قال: ثلاث مرات، والصواب الذي عليه المحققون وتدل عليه النصوص أن الإسراء والمعراج مرة واحدة، في ليلة واحدة يقظة لا مناماً بروحه وجسده؛ لقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] والعبد: اسم لمجموع الروح والجسد، وأنه عاد عليه الصلاة والسلام إلى مكة قبل الصبح وحدث الناس بذلك، وارتد قوم ممن أسلم؛ لأن عقولهم لم تتحمل، وكذلك أيضاً لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار قريش استعظموا هذا الأمر، وقالوا: يزعم محمد أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ونحن نضرب السفر إليها مدة شهر كامل، حتى سألوه عن عير لهم في الطريق مر عليها فأخبرهم متى تصل، ولما أخبر النبي بعض صناديد قريش قالوا: هل تقول هذا يا محمد إذا اجتمع الناس؟ قال: نعم. يستعظمون ذلك، ويريدون تكذيبه، ولما قالوا لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس وأنه ذهب إلى السموات، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن كان قال ذلك فقد صدق، ولذلك سمي الصديق. فالمؤلف رحمه الله بين الصواب في هذه المسألة، قال: وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به، ثم قال: {لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] ثم عرج به إلى السماء بجسده وروحه جميعاً، وهذا هو الصواب. يقول المؤلف: ومن قال: إن الإسراء كان في ليلة والمعراج في ليلة فقد غلط. وهذا صحيح، فقد غلط بعض العلماء وقالوا: إن الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، والصواب أنها في ليلة واحدة، ومن قال: إنه منام، وأنه لم يسر بجسده فقد كفر. وهذا غريب من المؤلف رحمه الله، فإن من قال: إن الإسراء كان مناماً لا يكفر؛ لأن له شبهة وإن كان قوله ضعيفاً، فقد استدلوا ببعض ألفاظ الحديث الشريف وفيه أنه قال: (ثم استيقظت). فالقول بالتكفير في هذا ليس بصواب، والتكفير ليس أمره بالهين، ولم أر أحداً من العلماء كفر من قال: إن الإسراء كان مناماً، وإنما يقال هذا قول ضعيف، أو قول مرجوح، أو خلاف الصواب. يقول المؤلف رحمه الله: وروى قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو ذر وأنس بن مالك ومالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله وشداد بن أوس وغيره. يعني: إن أحاديث الإسراء جاءت في أحاديث عدة رواها عدد من الصحابة. يقول المؤلف: كلها صحاح مقبولة مرضية عند أهل النقل مخرجة في الصحاح. وهذا كلام صحيح، فحديث الإسراء متفق عليه، فقد رواه البخاري في صحيحه، ورواه مسلم أيضاً في صحيحه، ورواه ابن قدامة في إثبات صفة العلو. وقال ابن القيم رحمه الله: إن قصة الإسراء والمعراج متواترة. وقد أفرد بعض العل

خلاف العلماء في رؤية النبي لربه ليلة المعراج

خلاف العلماء في رؤية النبي لربه ليلة المعراج قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14]. قال الإمام أحمد فيما رويناه عنه: وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح رواه قتادة وعكرمة عن ابن عباس. ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، والحديث على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره ولا نناظر فيه أحداً. وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية. وروى عطاء عن ابن عباس قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين. وروي عن أحمد رحمه الله أنه قيل له: بم تجيب عن قول عائشة رضي الله عنه: من زعم أن محمداً قد رأى ربه عز وجل الحديث؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي عز وجل). وفي حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فرجعت إلى ربي وهو في مكانه)، والحديث بطوله مخرج في الصحيحين، والمنكر لهذه اللفظة راد على الله ورسوله]. هذا مبحث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، ولم يختلف العلماء أنه لم ير أحد ربه في الدنيا، فأهل الحق مجمعون على أنه لم ير أحد ربه في الدنيا، وأنه لا يستطيع أحد أن يرى ربه في الدنيا، ولما سأل موسى الرؤية: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] فلا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا؛ لأن الله احتجب عن خلقه بالنور ولو كشفه لاحترق الخلق كلهم، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). ولا عبرة ببعض الصوفية الذين يزعمون أنه يمكن أن يرى الله في الدنيا، أو الصوفية الملاحدة الذين يزعمون أن الله موجود في الأرض في كل خضرة، لكن أجمعت الأمة قاطبة ما عدا هؤلاء على أنه لم ير أحد ربه في الدنيا ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على أنه لم يره في الأرض، وإنما اختلفوا هل رآه ليلة المعراج فوق السموات، أو لم يره على قولين: القول الأول: أنه رآه وهذا هو الذي اختاره المؤلف، ولهذا قال: وأنه رأى ربه عز وجل، فالحافظ عبد الغني يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه ليلة المعراج وهذا من خصائصه، وذهب إلى هذا أيضاً بعض العلماء كـ النووي أيضاً في شرح صحيح مسلم وابن خزيمة في كتاب التوحيد، والقاضي عياض وأبو الحسن الأشعري وأبو إسماعيل الهروي كلهم ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج في السماء بعيني رأسه. واستدلوا أيضاً على هذا -وهو رواية عن الإمام أحمد - بما ثبت عن ابن عباس أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وكذلك أيضاً: روي عن الإمام أحمد أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه. واستدلوا أيضاً بقوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، وقوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12]، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17 - 18]. فقالوا: إن النبي رأى ربه بعين رأسه. القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء وجمهور الصحابة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعين رأسه وإنما رآه بعين قلبه، وهذا الذي عليه الجماهير هو الصواب كما سيأتي، والأدلة عليه كثيرة، ومن أصرحها ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي ذر رضي الله عنه: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً)، وفي لفظ: (نور أنى أراه)، أي أن النور حجاب يمنع من رؤيته، يعني: كيف أستطيع رؤيته والنور حجاب يمنعني من رؤيته. واستدلوا بحديث أبي موسى الأشعري عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور -وفي لفظ: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). فقوله: (من خلقه) هذه عامة، ومحمد من خلقه فيشمله هذا، أي: لو كشف الحجاب لاحترق الخلق كلهم ومنهم محمد عليه الصلاة والسلام، ومنها أيضاً: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51]، هذه الآية تدل على أنواع الوحي الثلاثة، ومحمد كلمه الله بدون واسطة، لكن من وراء حجاب، فهو محجوب عن الرؤية في الدنيا، فلا يستطيع أحد أن يرى الله تعالى. ولأن الرؤية نعيم ادخره الله لأهل الجنة، وهي أعظم نعيم. وأما الأدلة التي استدل بها القائلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه، فليست صريحة ولا واضحة، أما قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:12 - 13]، فالمراد بهذه الرؤية رؤية جبريل، لقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:5 - 8] هذا جبريل، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:9 - 11]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة في الأرض في بدء الوحي، ومرة في السماء عند سدرة المنتهى. ولأن الله تعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] يريه الآيات، ولو كان أراه نفسه لذكر ذلك لأنه أعظم، لكنه قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، ولم يقل: ليراني، أو لأريه نفسي. وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قال: نعم، فهذا جواب مطلق، وفي رواية أنه قال: رآه بفؤاده، فالمطلق يحمل على المقيد، فقوله: (نعم) يحمل على أنه رآه بقلبه. وكذلك روي عن الإمام أحمد أنه قال: رآه، وروي عنه أنه قال: رآه بفؤاده، فيحمل المطلق على المقيد، ولم يقل ابن عباس: إنه رآه بعين رأسه، وكذلك الإمام أحمد لم يقل ذلك فالروايات يفسر بعضها بعضاً، فرواية (رآه) تفسرها رواية (رآه بفؤاده)، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون والجماهير، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج بعين رأسه وإنما رآه بفؤاده. وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنه سألها مسروق: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: (لقد وقف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب)، وفي لفظ أنها قالت: (فقد أعظم على الله الفرية)، وهذا هو الذي عليه المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما قالوا: إن الجمع بين النصوص التي فيها أنه رآه تحمل على رؤيته بقلبه، والنصوص التي فيها أنه لم يره تحمل على أنه لم يره بعين رأسه وبهذا تجتمع الأدلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14]]. إذاً: المؤلف أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، والدليل الذي قاله المؤلف لا يدل على ما استدل به؛ لأن هذا في رؤية جبريل، قال تعالى في سورة النجم: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] يعني: رأى النبي جبريل مرة ثانية، مرة في الأرض وأخرى في السماء، وبهذا لا تكون الآية دليلاً لما ذهب إليه المؤلف من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه. الدليل الثاني: استدل المؤلف بقول الإمام أحمد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: قال الإمام أحمد فيما رويناه عنه: وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح، رواه قتادة وعكرمة عن ابن عباس، ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن

ثبوت الشفاعة العظمى للنبي يوم القيامة

ثبوت الشفاعة العظمى للنبي يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويعتقد أهل السنة ويؤمنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع يوم القيامة لأهل الجمع كلهم شفاعة عامة، ويشفع للمذنبين من أمته فيخرجهم من النار بعدما احترقوا، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة يدعو بها؛ فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه) رواه البخاري، وروى حديث الشفاعة بطوله أبو بكر الصديق وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وأبو موسى عبد الله بن قيس وأبو هريرة وغيرهم]. الشفاعة في اللغة: الوساطة، وشرعاً: ضم الشفيع نفسه إلى المشفوع له، فيكون شفعاً بعد أن كان وتراً، فإذا دعاك إنسان يريد شيئاً ثم ضممت صوتك إلى صوته شفعت له، فصرت أنت وهو اثنين بعد أن كان واحداً، أو كان يطلب حاجةً ثم شفعت له وضممت نفسك إليه، صرتما اثنين والاثنان شفع، وضم الشفيع نفسه إلى غيره؛ ليكون شفعاً بعد أن كان وتراً، والاثنان شفع والواحد وتر، وقيل في معنى الشفاعة: طلب الخير للغير، وقيل: مساعدة ذي الحاجة عند من يملك الحاجة، والشفاعة تكون يوم القيامة للنبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتيه الناس ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله أن يحاسبهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يضم صوته إلى صوتهم ويساعدهم ويطلب من الله أن يقضي بينهم، فيكون عليه الصلاة والسلام شفع للخلائق، أي: ضم صوته إلى صوتهم وساعدهم وطلب من الله أن يقضي بين العباد؛ وذلك بعد أن يأتيه الإذن بذلك. والشفاعة لها شرطان: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له، فلا يمكن لأحد أن يشفع، حتى لو كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أوجه الناس عند الله، وإذا كان موسى عند الله وجيهاً قال الله: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]، فمحمد أعظم وجاهة، ومع ذلك لا يستطيع -وهو أفضل الخلق- أن يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يسجد تحت العرش فيفتح الله عليه من المحامد التي يلهمه إياها ولا يحسنها في دار الدنيا، ثم يأتيه الإذن من الرب سبحانه وتعالى فيقول: (يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع، فيرفع محمد رأسه ويقول: يا رب! أسألك أن تقضي بين عبادك، فيشفعه الله فيهم)، فيقضي بين الخلائق. ونبينا عليه الصلاة والسلام له شفاعة خاصة، وله شفاعة يشاركه فيها غيره، فالشفاعة الخاصة هي الشفاعة العظمى التي تكون لأهل الموقف حينما يوقف الناس بين يدي الله للحساب حفاة لا نعال لهم، عراة لا ثياب عليهم، غرلاً غير مختونين، بهماً ليس معهم شيء، ويشتد الحر، وتدنو الشمس من الرءوس، ويزاد في حرارتها فيكون يوم عظيم، فيموج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون أولاً إلى آدم ويطلبون منه أن يشفع لهم فيعتذر، ويقول: أكلت من الشجرة، لا أستطيع، اسألوا غيري، ثم يرشدهم إلى نوح، فيذهبون إلى نوح فيعتذر، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وقد دعوت على قومي دعوة أغرقتهم، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام، فيأتون إبراهيم فيسألون الشفاعة فيعتذر، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب غضباً قبله مثله ولن يغضب غضباً بعده مثله، وإني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، أجادل بهن عن دين الله، وهي قوله عن زوجته: إنها أختي أي بالإسلام، وعندما كسر الأصنام جعل الفأس على الصنم الكبير وقال: بل فعله كبيرهم، ونظر في النجوم وقال: إني سقيم إيهاماً لهم، وهذه الأقوال جعلها كذبات وهو يجادل بها عن دين الله، ومع ذلك يعتذر عليه الصلاة والسلام ويقول: كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، ثم يقول: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى فإنه كليم الله، فيذهبون إلى موسى فيقولون: يا موسى! اشفع لنا إلى ربك فيعتذر، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، وذلك لما قتل القبطي قبل النبوة وقد تاب قبل النبوة، ومع ذلك يعتذر ويقول: اذهبوا إلى عيسى فإنه روح الله، فيذهبون إلى عيسى فيعتذر أيضاً ولا يذكر ذنباً إلا أنه يقول: اتخذت أنا وأمي إلهين من دون الله، ولكن اذهبوا إلى محمد فإنه خاتم النبيين، فيذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب يسجد تحت العرش فيفتح الله عليه من المحامد ويلهمه الله إياها -وقد كان لا يحسنها في دار الدنيا- ثم يستأذن من الرب، فيقول الله: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب أسألك أن تقضي بين عبادك فيقول الرب: أنا أقضي بينهم، هذا هو المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79])، المقام المحمود هو الشفاعة، وجاء في بعض الأحاديث أن المقام المحمود هو: أن يجلسه معه على العرش، وهذا ما استدل به بعض أهل السنة وغيرهم، وإن صح ذلك فإن المقام المحمود يكون شيئين: الشفاعة، وإجلاسه على العرش، وهذان الشيئان من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وهما المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون وهذا هو الفخر والعز، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أنا أول من تشق عنه الأرض، وأنا أول شفيع) عليه الصلاة والسلام، وهذه خاصة به لا يشاركه فيها أحد. وهناك شفاعة ثانية، وهي الإذن لأهل الجنة في دخولها، إذ لا يدخل أهل الجنة الجنة حتى يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم في دخولها وهذه خاصة به. وهناك شفاعة ثالثة: وهي الشفاعة في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب، فقد مات على الكفر وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، بل قال: هو على ملة عبد المطلب، لكن خفف عذابه لإيوائه للنبي صلى الله عليه وسلم، ودفاعه عنه، فيشفع له النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخفف عنه العذاب، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا رسول الله! إن أبا طالب يحميك ويذود عنك، فهل نفعته؟ قال: (نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح منها يغلي دماغه من النار)، أي: كانت تغمره النار من جميع الجهات فأخرج إلى ضحضاح من نار يغلي منها دماغه، وهو يظن أنه أشد الناس عذاباً من شدة ما يجد وهو أخفهم، هذه شفاعة تخفيف خاصة به. وهناك شفاعات مشتركة، منها: الشفاعة في قوم من أهل الجنة حتى ترفع درجاتهم من درجة سفلى إلى درجة عليا، والشفاعة في قوم من عصاة الموحدين استحقوا دخول النار فيشفع ألا يدخلوها فيشفعهم الله لهم، والشفاعة في قوم دخلوا النار فيخرجون منها، والشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ألا يدخلوا النار. وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل النار جملة أهل الكبائر) من المؤمنين الموحدين، فلا تأكل النار منهم مواضع السجود، لكنهم دخلوا النار بسبب الكبائر التي ماتوا عليها ولم يتوبوا منها، فهذا دخل النار؛ لأنه مات على الزنا من غير توبة، وهذا مات على الربا من غير توبة وهذا مات على عقوق الوالدين، وهذا مات على قطيعة الرحم، وهذا مات على الغيبة، وهذا مات على النميمة، وهذا مات على أكل مال الناس بالباطل، وهذا مات على شهادة الزور، فمنهم من يعفى عنه، ومنهم من يدخل النار يعذب فيها مدة طويلة أو قليلة على حسب ذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فيهم. أربع شفاعات، كل مرة يحد الله له حداً ولهذا جاء في الروايات (أنه يشفع في من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان)، وفي بعضها: (من كان في قلبه مثقال نصف دينار)، وفي بعضها: (من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان)، وفي بعضها: (أخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان)، ويشفع الأنبياء والشهداء والصالحون والأفراط، والملائكة، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، ويقول: (شفعت الملائكة، وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرجون من النار لم يعملوا خيراً قط) يعني: زيادة على التوحيد والإيمان. فإذا تكامل خروج العصاة الموحدين، ولم يبق منهم أحد أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم، اليهود والنصارى والوثنيين والشيوعيين والملاحدة والمنافقين، فلا يخرجون منها أبد الآباد، يقول تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] يعني: مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]، وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، وقال سبحانه: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]، والأحقاب جمع حقب والحقب هو المدد المتطاولة، كلما انتهى حقب يعقبه حقب إلى ما لا نهاية له. والمؤمنون الذين خرجوا من النار يلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. فهذه هي الشفاعات الست أو السبع الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنها مشتركة، وأهل السنة والجماعة وأهل البدع واتفقوا على الشفاعة العظمى، والشفاعة التي هي لأهل الجنة في دخولها، والشفاعة التي في رفع درجات أهل الجنة، واختلفوا في الشفاعات

الأسئلة

الأسئلة

الرد على من يجوز دخول الجنة من غير عمل

الرد على من يجوز دخول الجنة من غير عمل Q هناك من استدل بحديث: (لم يعلموا خيراً قط) على جواز دخول الجنة والبراءة من النار بدون أدنى عمل، فما توجيهكم حفظكم الله؟ A هذا باطل، لأن الله تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، والنصوص ترد هذا، وتضم بعضها إلى بعض، فالكافر لا يخرج من النار، والجنة عليه حرام، أما حديث: (لم يعملوا خيراً قط)، يعني: زيادة على التوحيد والإيمان، ومن شرط التوحيد الصلاة، ويدخل في هذا من وحد الله ثم مات في الحال ولم يتمكن من العمل، كمن قتل شهيداً في الحال بعدما أسلم، لكن هذا عام. المقصود: أن النصوص يضم بعضها إلى بعض، فلا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى النصوص بعين عوراء، فيأخذ بعض النصوص ويغمض عينيه عن البعض الآخر، فإن طريقة أهل البدع عدم ضم النصوص بعضها إلى بعض، فالنصوص دلت على أن الجنة حرام على الكافر، وأنه لا يخرج من النار أبد الآباد، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، وقال تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]، وقال تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37].

تارك الصلاة لا تنفعه الشفاعة

تارك الصلاة لا تنفعه الشفاعة Q هل تشمل الشفاعة تارك الصلاة ليخرج من النار؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم فإن كان جاحداً بوجوبها، فإنه كافر بالإجماع، ولا شك في كفره، وإن لم يجحد بوجوبها ففيه خلاف بين أهل العلم، والصواب الذي أجمع عليه الصحابة، ونقل عليه الإجماع عبد الله بن شقيق العقيلي وإسحاق بن راهويه والإمام ابن حزم وغيرهم، والذي عليه المحققون والجمهور أنه لا تناله الشفاعة، ولو أقر بوجوبها. وذهب بعض المتأخرين من الفقهاء وغيرهم إلى أن كفره كفر أصغر إذا لم يجحد بوجوبها، ويقال: إن معه شعبة من شعب الإيمان وهي التصديق، فيكون كفره كفر أصغر، فعلى هذا تناله الشفاعة، لكن هذا ضعيف والصواب هو القول الأول، وهو أنه كافر كفر أكبر مخرج من الملة؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، والذي يحبط عمله هو الكافر، وبقية الصلوات مثل صلاة العصر، قال عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، فجعل الصلاة حداً فاصلاً بين المؤمن والكافر.

إثبات صفة النفس لله

إثبات صفة النفس لله Q ما القول في حديث الشفاعة: (شفعت الملائكة والأنبياء) إلى آخر الحديث، وفي حديث آخر في آخره: (وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فيشفع إلى نفسه سبحانه وتعالى) أرجو التوضيح في لفظة: فيشفع الله إلى نفسه؟ A لفظة يشفع على ظاهرها مثل كونه يكتب على نفسه الرحمة: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)، أي: حرم على نفسه من نفسه، وكتب على نفسه من نفسه، وشفع من نفسه لنفسه.

رؤية الله عز وجل في المنام

رؤية الله عز وجل في المنام Q هل يستطيع كل أحد أن يرى ربه في المنام، وما صحة الكلام المنسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول هذا الموضوع؟ A رؤية الله في المنام ثابتة، يثبتها جميع الطوائف، إلا الجهمية من شدة إنكارهم للرؤية حتى أنكروا رؤية الله في المنام، قال شيخ الإسلام: إن جميع الطوائف أثبتوا رؤية الله في المنام إلا الجهمية؛ لشدة إنكارهم لرؤية الله حتى أنكروا رؤية الله في المنام، ولا يلزم من هذا التشبيه، بل يرى الإنسان ربه في المنام على حسب اعتقاده، فإن كان اعتقاده صحيحاً رأى ربه في صورة حسنة، وإن كان اعتقاده سيئاً رأى ربه في صورة تناسب اعتقاده، ولا يلزم من هذا التشبيه، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أصح الناس اعتقاداًَ قال: (فإني رأيت ربي في أحسن صورة في المنام).

قتل النفس بغير حق وما يترتب عليه

قتل النفس بغير حق وما يترتب عليه Q من قتل نفساً بغير حق وتاب إلى الله، وبعد تنازل أهل المقتول هل يعذب يوم القيامة، وماذا يجب عليه ليكفر عما عمله، وكيف يحسن للمقتول إذا استطاع، ومن أقيم عليه الحد هل هو كفارة عن عذاب الله يوم القيامة؟ A القتل عمداً بغير حق أعظم الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وفي الحديث: (لزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل رجل مسلم)، وفي الحديث: (لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقال تعالى في كتابه العظيم: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]. القتل عمداً يتعلق به ثلاثة حقوق حق لله، وحق للمقتول، وحق لأولياء القتيل، فإذا أداها برئت ذمته. الحق الأول: حق لأولياء القتيل، فيأتي ويسلم نفسه إليهم، ويصطلح معهم، فإن شاءوا قتلوه قصاصاً وإن شاءوا طلبوا منه الدية أو أكثر من الدية صلحاً، فإذا سلم نفسه إليهم وقتلوه قصاصاً أو اتفقوا معه على نفس الدية أو أكثر منها سقط حقهم، وبقي حق الله وحق القتيل. فإذا تاب فيما بينه وبين الله توبةً نصوحاً، بأن أقلع عن هذه المعصية وندم على ما مضى وعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليها مرة أخرى تاب الله عليه وسقط حق الله، وبقي حق القتيل يوم القيامة، فإذا أدى الحقين: حق أولياء القتيل وحق الله، فالله تعالى يرضي المقتول عنه يوم القيامة بما يعطيه من الثواب والدرجات في الآخرة، فيصفح عن أخيه فيتوب الله عليه. والصواب أن القاتل له توبة، وهذا هو الذي عليه الجماهير، وروي عن ابن عباس أنه قال: لا توبة له، وروي عنه أنه قال بقول الجمهور: أن له توبة، ومعنى قول ابن عباس: (لا توبة له). ليس معناه أنه يخلد في النار، بل معناه أنه يكون هنالك موازنة بين الحسنات والسيئات، فإذا رجحت السيئات فإنه يعذب في النار بقدر جريمته ثم يخرج منها. أما إذا كان له توبة كأن تقبل توبته، فإنه لابد أن يعذب في النار ثم يخرج منها، ولا يخلد كالمشرك. وأما قوله تعالى: {خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، فالخلود خلودان: خلود مؤمد له أمد ونهاية، وخلود مؤبد لا نهاية له، فالخلود المؤبد الذي لا نهاية له خلود الكفرة، والخلود المؤمد الذي له خلود ونهاية خلود بعض العصاة الذين قد فشت جرائمهم وغلظت كالقاتل، والمراد بالخلود: المكث الطويل، والعرب تقول: أقاموا فيها فأخلدوا، ويسمى المكث الطويل خلوداً، فخلود بعض العصاة الذين كثرت جرائمهم أو فحشت أو غلظت خلود مؤمد له نهاية، ولو مكثوا مدة طويلة، وأما خلود الكفرة فإنه خلود مؤبد لا نهاية له أبد الآباد. فإذا تنازل أولياء القتيل سقط حقهم، وبقيت التوبة فيما بينه وبين الله، فإذا تابت فيما بينه وبين الله تاب الله عليه وسقط حق الله، وبقي حق القتيل يرضيه الله يوم القيامة. أما إذا استغفر أو دعا له، فهذا تبرع منه.

[11]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [11] من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالحوض الذي ترد عليه أمة النبي عليه الصلاة والسلام، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، ويجب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين والميزان، والجنة والنار وأنهما مخلوقتان لا تفنيان.

الإيمان بالحوض

الإيمان بالحوض قال المؤلف رحمه الله: [ثم الإيمان بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً ترده أمته كما صح عنه، وأنه كما بين عدن إلى عمان البلقاء، وروي من مكة إلى بيت المقدس، وبألفاظ أخر (ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء). رواه عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي بن كعب وأبو ذر وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو أمامة الباهلي وبريدة الأسلمي]. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: ثم الإيمان بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً ترده أمته كما صح عنه، بل يجب الإيمان بالحوض، وهو في موقف القيامة حوض لنبينا صلى الله عليه وسلم، حوض طويل طوله مسافة شهر، وعرضه مسافة شهر، كما جاء في الأحاديث، أوانيه عدد نجوم السماء، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك، يصب فيه ميزابان من نهر الكوثر في الجنة، وحوض نبينا صلى الله عليه وسلم في موقف القيامة جاءت في صفته الأحاديث المتواترة، كما أن الأحاديث في إثبات الشفاعة متواترة، وقد أنكرها الخوارج والمعتزلة مع أنها متواترة. والأحاديث المتواترة في السنة قليلة، تقارب خمسة عشر حديثاً، وإلا فالسنة كلها ثبتت في خبر الآحاد، وهو يشمل الغريب والعزيز والمشهور، فما رواه أقل من حد التواتر فهو خبر آحاد، وخبر الآحاد إذا صح السند وعدالة الرواة، ولم يكن فيه علة ولا شذوذ؛ فإنه مقبول صحيح يؤخذ به في العقائد والأعمال والأخلاق وكل شيء، خلافاً لأهل البدع الذين يطعنون في خبر الآحاد، والحوض من الأحاديث المتواترة، والأحاديث المتواترة قليلة كما سبق منها: حديث الشفاعة، ومنها حديث: (من بنى لله مسجداً)، ومنها حديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

حوض النبي صلى الله عليه وسلم

حوض النبي صلى الله عليه وسلم يقول المؤلف رحمه الله: [وأنه كما بين عدن إلى عمان البلقاء]، والبلقاء بلدة في فلسطين، تنسب إلى البلقاء لقربها منها، وروي من مكة إلى بيت المقدس، والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، ولهذا قال: رواه عبد الله بن عمر. رواه عنه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وعبد الله بن عمرو. رواه عنه أحمد والطبراني وعبد الله بن عمرو متفق عليه في البخاري ومسلم، وأبي بن كعب. رواه عنه ابن أبي عاصم في السنة، وأبو ذر. رواه عنه مسلم وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه عنه مسلم بلفظ مقارب لما سبق، وأبو أمامة الباهلي. رواه عنه أحمد في المسند والسنة لـ ابن أبي عاصم. وهذه الأحاديث التي جاءت في تحديد الحوض بعضها كما سبق من عدن إلى عمان البلقاء، وبعضها من مكة إلى بيت المقدس، وبعضها من جرباء إلى أذرح، وهذا الاختلاف ليس فيه اضطراب، ولا يدل على التعارض؛ لأن هذا وقع في أحاديث متعددة وليس في حديث واحد، كما بين ذلك القاضي عياض والقرطبي رحمهما الله، وظن بعض الناس أن هذا الاختلاف في التقدير في أحاديث الحوض اضطراب واختلاف، وليس كذلك، وإنما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الحوض مرات عديدة، وذكر فيه ستة ألفاظ مختلفة، يخاطب كل طائفة بما كانت تعرفه من مسافات في مواضعها، فيقول مثلاً لأهل الشام: (ما بين جرباء إلى أذرح) ولأهل اليمن: (من صنعاء إلى عدن) وهكذا، وتارة يقدر بالزمان، فيقولك (مسيرة شهر). قال الحنفي في شرح الطحاوية: (الذي يتخلص في الأحاديث الواردة في صفة الحوض أنه حوض عظيم، ومورد كريم، يمد من شراب الجنة من نهر الكوثر الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الاتساع، عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر). ويقول ابن أبي العز: (إن الخوارج والمعتزلة أنكروا الحوض وأحرى بهم أن يذادوا عن الحوض ويطردوا عنه، وجاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض)، وقال: (يرد علي أناس من أمتي أعرفهم ويعرفوني، فيحال بيني وبينهم، فأقول: أصحابي -وفي لفظ: أصيحابي أصيحابي- فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي) يعني: بعداً بعداً. فهذا يدل على أن المراد بأصحابي هم بعض الأعراب الذين ارتدوا، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، وأما الصحابة رضوان الله عليهم فقد ثبت الإيمان في قلوبهم، لكن بعض الأعراب لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ففيهم المرتدون والمنافقون والكفار، فكل هؤلاء لا يردون على الحوض فيطردون ويذادون نسأل الله السلامة والعافية.

وجوب الإيمان بعذاب القبر وبسؤال الملكين

وجوب الإيمان بعذاب القبر وبسؤال الملكين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والإيمان بعذاب القبر حق واجب، وفرض لازم، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأبو أيوب وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبو هريرة وأبو بكرة وأبو رافع وعثمان بن أبي العاص وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأختها أسماء وغيرهم. وكذلك الإيمان بمساءلة منكر ونكير]. الإيمان بعذاب القبر حق واجب كما ذكر المؤلف رحمه الله، فيجب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، واتساعه وتضييقه، وسؤال منكر ونكير فيه، وقد ثبتت الأدلة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فمن القرآن قول الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فدل على أن العرض هذا يكون في القبر، يعرضون عليها غدواً وعشياً، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50]، هذا من أدلة عذاب القبر. ومن الأدلة على النعيم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، هذا النعيم يكون عند الموت إلى قيام الساعة. وكذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]، هذا دليل على عذاب القبر. ومن أدلة عذاب القبر حديث ابن عباس في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين قال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، فقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا). وكذلك أيضاً حديث البراء بن عازب الذي فيه قبض روح المؤمن وقبض روح الفاجر، وأن المؤمن ينزل عليه ملائكة بيض الوجوه معهم حنوط من الجنة وكفن من الجنة، والفاجر تأتي إليه ملائكة العذاب ومعهم المسوح، فيقبضون روحه وينتزعونها نزعاً شديداً كما ينتزع السفود من الصوف المبلول. وكذلك أيضاً سؤال منكر ونكير فإنهما يسألان الميت عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ويضل الله الظالمين، ولهذا ذكر العلماء عذاب القبر ونعيمه، وأنه تواترت فيه الأخبار. قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: (فعذاب القبر ونعيمه من الأمور الغيبية، التي وردت في إثباتها النصوص الشرعية، فلا يسعنا إلا الإيمان بها والتسليم بمقتضاها). يقول ابن أبي العز: قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ذلك، والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته؛ لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكن قد يأتي بما تحار به العقول، فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد إليه الروح إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا. وجاء تسمية منكر ونكير في بعض الأحاديث، أنه إذا قبر الميت أتاه ملكان أزرقان أسودان، يقال لأحدهما: منكر والآخر نكير، وأثبت أهل السنة والجماعة عذاب القبر ونعيمه، وأنكر ذلك الجهمية، والجهمية ملاحدة ولاسيما غلاتهم فلا عبرة بخلافهم. ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: [والإيمان بعذاب القبر حق واجب وفرض لازم رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأبو أيوب وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبو هريرة وأبو بكرة وأبو رافع وعثمان بن أبي العاص]. حديث علي بن أبي طالب. رواه البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه، وحديث أبي أيوب الأنصاري. رواه البخاري في صحيحه، وحديث زيد بن ثابت. رواه مسلم في صحيحه، وحديث أنس بن مالك. رواه البخاري في صحيحه، وحديث أبي هريرة رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز، وحديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رواه الإمام أحمد في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه، وحديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن خزيمة وعثمان بن أبي العاص، وحديث عبد الله بن عباس رواه البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه، وحديث جابر بن عبد الله رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وحديث عائشة رواه البخاري ومسلم، وكذلك حديث أسماء.

الإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا

الإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً قال المؤلف رحمه الله: [والإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً، خلقتا للبقاء لا للفناء، وقد صح في ذلك أحاديث عدة]. الإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً، خلقتا للبقاء لا للفناء، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، فقد اتفقوا على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وأن خلقهما سبق خلق آدم عليه الصلاة والسلام، والأدلة على وجودها الآن كثيرة من الكتاب ومن السنة، فمن الأدلة على وجود الجنة قول الله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21]. ومن الأدلة على وجود النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21]. ومن أوضح الأدلة على خلق الجنة، قصة آدم عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى له: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]، ومن السنة ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة وبالعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة). وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن المؤمن يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، والفاجر يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها. فالجنة موجودة الآن، وفيها الولدان والحور، ومما يدل على ذلك حديث الكسوف: (لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف فتقدم وتقدمت الصفوف، وكأنه يتناول شيئاً، ثم تكعكع وتكعكعت الصفوف، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! رأيناك تقدمت وتأخرت، قال: إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً ولو أصبته لأخذتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء)، والحديث رواه البخاري في صحيحه في باب الكسوف. وقالت المعتزلة والقدرية: إن الجنة والنار معدومتان، وإنما تخلقان يوم القيامة، وقالوا: إن وجودهما الآن ولا جزاء عبث، والعبث محال على الله! هكذا صاروا يحكمون عقولهم ويتبعون آراءهم وأهواءهم، يقولون: إن الجنة والنار كونهما يخلقان الآن ولا جزاء فيهما عبث في وجودهما، والعبث محال على الله، وإنما تخلقان وتنشآن يوم القيامة، وهذا باطل، وسنذكر الأدلة على أنهما موجودتان الآن، وأرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار، يفتح باب للميت إلى الجنة، ويفتح باب للفاجر إلى النار، ولكن المعتزلة والقدرية يحكمون عقولهم وآراءهم الفاسدة. وهما موجودتان باقيتان دائمتان لا تفنيان، وذهبت الجهمية إلى أنهما تفنيان يوم القيامة. وهذا من أبطل الباطل، ونسب لبعض السلف أن الجنة باقية، ولكن النار إذا مضى عليها مدة متطاولة تفنى، ولكن هذا قول ضعيف مرجوح، والصواب أنهما باقيتان دائمتان، وأما قول الجهمية أنهما تفنيان فهذا من أبطل الباطل، وقد رد عليهم أهل السنة وبدعوهم. وقال أبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة في القرن الثالث: تفنى حركات أهل الجنة والنار وتكون كالحجارة، وهذا من أبطل الباطل، وقول فاسد، والصواب الذي عليه أهل الحق والذي تدل عليه النصوص: أن الجنة والنار دائمتان باقيتان لا تفنيان، باقيتان بإبقاء الله لهما أبد الآباد.

وجوب الإيمان بالميزان

وجوب الإيمان بالميزان قال المؤلف رحمه الله: [والإيمان بالميزان، قال الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]]. يجب الإيمان بالميزان، وأنه ميزان حسي له كفتان عظيمتان ولسان، الكفة أعظم من أطباق السماوات والأرض، والأدلة على هذا كثيرة منها: ما ذكره المؤلف في الآية التي استدل بها: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، ومنها: قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:6 - 11]، وقال سبحانه: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103]، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105])، وثبت في الصحيح (أن ابن مسعود رضي الله عنه كان دقيق الساقين، فكشفت الريح عن ساقيه فضحك الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟ قالوا: يا رسول الله! من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد). وأهل السنة والجماعة متفقون على إثبات الميزان، وأنه ميزان حسي، ومن الأدلة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وهو ميزان حسي له كفتان حسيتان توزن فيهما أعمال العباد، حسنها وسيئها. وأنكرت المعتزلة الميزان الحسي، وقالوا: إنه ليس ميزاناً حسياً، ولكنه ميزان معنوي المراد به العدل، وقالوا: إنه لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال، وأما الرب فلا يحتاج إلى الميزان، وتأولوا بأن المراد به العدل، ولهذا يقول: ابن أبي العز الحنفي: (فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام، فإن الله يقلب الأعراض أجساماً، ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط في يوم القيامة كما أخبر الشارع لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال أو الفوال، وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً، ولو لم يكن من الحكمة وزن الأعمال إلا ظهور عدل الله لجميع عباده لكفى فلا أحد أحب عليه العذر من الله، ومن أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه). اختلف العلماء هل هناك موازين متعددة أم أنه ميزان واحد على قولين: من العلماء من قال: إن لكل شخص ميزاناً، وقيل: إنه ميزان واحد عظيم كفتاه عظيمتان، وأما قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} [الأنبياء:47] فجمعت موازين بالنسبة إلى الأعمال الموزونة، كما جاءت الأدلة بأن لكل نبي من الأنبياء حوضاً ترد عليه أمته، ولكن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها وأكثرها وارداً.

[12]

شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [12] الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويجوز الاستثناء في الإيمان بأن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله. ويجب الإيمان بخروج الدجال ونزول عيسى وقتله، وذلك من أكبر علامات الساعة.

مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة

مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة قال المؤلف رحمه الله: [والإيمان بأن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]، وقال عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وقال عز وجل: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون -وفي رواية: بضع وستون- شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)، ولـ مسلم وأبي داود: (فأفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)]. الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فهو أربعة أشياء: قول القلب وهو تصديقه وإقراره، وقول اللسان وهو نطقه، وعمل القلب وهو النية والإخلاص والصدق والمحبة، وعمل الجوارح كالصلاة والصيام وغيرها. هذا هو مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإذا أطاع الإنسان ربه ازداد إيمانه، وإذا عصى نقص إيمانه، وللعلماء عبارات في هذا، منها: الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان -يعني: الجوارح- يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ومنها: الإيمان قول وعمل ونية، والقول يشمل قول القلب وهو تصديقه وإقراره، وقول اللسان وهو النطق، والعمل يشمل عمل القلب مع النية والإخلاص، وعمل الجوارح مع النية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فهو يزيد وينقص. استدل المؤلف للزيادة بقوله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124] وقوله سبحانه: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وقال عز وجل: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون -وفي رواية: بضع وستون- شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)، هذا يدل على أن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، والحياء شعبة من الإيمان، فالحياء عمل قلبي، ولـ مسلم وأبي داود: (فأفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، إذاً: الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون -والبضع من ثلاثة إلى تسعة- كلها داخلة في مسمى الإيمان، أعلاها كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبين الأدنى والأعلى شعب متفاوتة، منها ما يقرب من شعبة الشهادة: كالصلاة والزكاة والصوم والحج؛ فالصلاة شعبة، والصوم شعبة، والزكاة شعبة، والحج شعبة، والأمر بالمعروف شعبة، والنهي عن المنكر شعبة، وبر الوالدين شعبة، وصلة الرحم شعبة وهكذا أعلاها كلمة التوحيد وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. (والحياء شعبة من الإيمان) أي: الحياء شعبة قلبية، والشعبة القولية مثل قول لا إله إلا الله، والشعبة العملية مثل إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة قلبية وهي من الإيمان، وخالف في ذلك المرجئة وهم أقسام، فأقربهم مرجئة الفقهاء ومنهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه، والمشهور عن الإمام أبي حنيفة أن الإيمان شيئان: تصديق القلب والإقرار باللسان فقط، وأما عمل القلب والجوارح فليسا من الإيمان، ولكنهم يوافقون جمهور أهل السنة في أن الطاعات مطلوبة، ومرتكب الكبيرة يستحق العقوبة، إلا أنهم لا يسمونها إيماناً؛ إذ الأعمال لا تجتمع في مسمى الإيمان. والرواية الثانية عن الإمام أبي حنيفة: أن الإيمان هو تصديق القلب، وأما الإقرار باللسان فهو ركن زائد، وهذا مذهب الماتريدية. وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو النطق باللسان فقط، فمن نطق بالشهادتين فهو مؤمن كامل الإيمان، وإن كان مكذباً في الباطن يكون منافقاً مخلداً في النار، وهذا من تناقضهم، ويلزم على قولهم أن يكون المؤمن كامل الإيمان مخلداً في النار، فإذا نطق باللسان يقولون: هذا مؤمن كامل الإيمان، وإن كان مكذباً بقلبه يخلد في النار، فيجمعون بين متناقضين. وأفسد منه مذهب الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب، فعلى مذهب الجهمية يكون إبليس مؤمناً؛ لأنه يعرف ربه بقلبه، وفرعون مؤمن لأنه يعرف ربه بقلبه، إبليس يقول كما حكى الله عنه: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي} [ص:79] فهو يعرف ربه بقلبه، وفرعون يعرف ربه بقلبه، يقول الله عن موسى أنه قال: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:102]، واليهود مؤمنون على مذهب الجهم قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات على الشرك مؤمن على مذهب الجهم؛ لأنه القائل: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً فتكون المرجئة أربع طوائف، أفسدها: مذهب الجهم القائلون بأن الإيمان معرفة الرب بالقلب، والكفر جهل الرب بالقلب، ويلزم على هذا المذهب أن يكون إبليس وفرعون واليهود وأبو طالب مؤمنين. يليه في الفساد المذهب الثاني وهو مذهب الكرامية، وهو أن الإيمان هو النطق باللسان فقط، فإذا نطق بلسانه فإنه مؤمن كامل الإيمان، وهو مخلد في النار إذا كان مكذباً بقلبه. المذهب الثالث: مذهب الماتريدية والأشاعرة: أن الإيمان هو تصديق بالقلب فقط، وهو رواية عن أبي حنيفة. المذهب الرابع: مذهب مرجئة الفقهاء: أن الإيمان شيئان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان.

الاستثناء في الإيمان

الاستثناء في الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [والاستثناء في الإيمان سنة ماضية، فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله. روي ذلك عن عبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد وأبي وائل شقيق بن سلمة ومسروق بن الأجدع ومنصور بن المعتمر وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم الضبي وفضيل بن عياض وغيرهم. وهذا استثناء على يقين، قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}]. الاستثناء في الإيمان سنة ماضية، فإذا قيل للرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله، فأهل السنة والجماعة يرون أنه لابد من الاستثناء في الإيمان، ويكون الاستثناء راجع إلى العمل لا إلى تصديق القلب، فإذا قيل: أمؤمن أنت؟ فقل: إن شاء الله، يعني: بالنسبة للعمل؛ لأن الأعمال والواجبات متعددة، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه، بل يتهم نفسه ولا يزكيها بأنه أدى ما عليه، أما بالنسبة للتصديق فالاستثناء لا يرجع إلى التصديق، ولهذا فإن أهل السنة والجماعة يرون أنه يجوز الاستثناء بالنسبة للعمل لا بالنسبة لأصل الإيمان، ولهذا فإن بعض السلف إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: نعم. آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. وأما المرجئة فلا يستثنون في الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ويسمون أهل السنة الشكاكة؛ لأنهم يستثنون في إيمانهم. وأما أهل السنة فيفصلون؛ فإن كان الاستثناء راجعاً إلى أصل الإيمان فإن هذا الاستثناء ممنوع، إما إذا أردت أن شعب الإيمان متعددة، والواجبات كثيرة، ولا تريد أن تزكي نفسك، ولا تدري بأنك أديت ما عليك، بل تتهم نفسك فقل: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذلك إذا أراد الإنسان التبرك بذكر اسم الله فيقول: إن شاء الله، وكذلك إذا أراد عدم العلم بالعاقبة، وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله جاز الاستثناء، أما إذا شك في الإيمان فإن هذا ممنوع، ولهذا يقول المؤلف: [والاستثناء في الإيمان سنة ماضية، فإذا سئل الرجل أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله، روي هذا عن عبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد وأبي وائل شقيق بن سلمة ومسروق بن الأجدع ومنصور بن المعتمر وإبراهيم النخعي] وهؤلاء الأخيار كلهم من التابعين. يقول المؤلف: [وهذا استثناء على يقين] يعني: أن الاستثناء في الإيمان لا يعني الشك في أصل الإيمان؛ لأن المستثني إذا أراد الشك في أصل الإيمان فهذا ممنوع، وإذا أراد العمل فلا بأس، قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]، هذا استثناء، فالله استثنى وهو لا يشك سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، قال أبو بكر الآجري رحمه الله: إن أهل العلم يستثنون في الإيمان لا على جهة الشك، نعوذ بالله من الشك في الإيمان، ولكن خوف التزكية لأنفسهم، ولاستكمال الإيمان، لا يدري أهو ممن استحق حقيقة الإيمان أم لا؛ وذلك أن أهل العلم والحق إذا سئلوا: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار، وأشباهها، والناطق بهذا والمصدق به بقلبه مؤمن، وإنما الاستثناء في الإيمان لأنه لا يدري أهو ممن يستوجب ما نعت الله عز وجل به المؤمن من حقيقة الإيمان أم لا. هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان.

حقيقة الإيمان

حقيقة الإيمان قال المؤلف رحمه الله: [والإيمان هو الإسلام وزيادة، قال الله عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت)، فهذه حقيقة الإسلام، وأما الإيمان فحقيقته ما رواه أبو هريرة فيما قدمناه، وروى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلاً هو أعجبهم إلي، فقمت فقلت: ما لك عن فلان؟! والله إني لأراه مؤمناً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً؟ ذكر ذلك سعد ثلاثاً، وأجابه بمثل ذلك، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه)، قال الزهري: فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل الصالح. قلنا: فعلى هذا قد يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا إلى الكفر بالله عز وجل]. الإيمان هو الإسلام وزيادة، والإيمان أكمل من الإسلام، ولهذا فإن الإيمان يراد به أداء الواجبات وترك المحرمات، والإيمان لا يطلق إلا على المطيع، أما العاصي فيطلق عليه اسم الإسلام، ولا يطلق عليه اسم الإيمان، فالإيمان أعلى من الإسلام، وأعلى منه الإحسان، فكل محسن مؤمن، وليس كل مؤمن محسناً، وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، فالمؤمن الذي أدى الواجبات وترك المحرمات يقال له: مسلم، ويقال له: مؤمن، وأما المسلم فإن كان مطيعاً سمي مؤمناً، وإن كان عاصياً سمي مسلماً، ولا يسمى مؤمناً بإطلاق، بل لابد من القيد، فإن الإيمان هو الإسلام وزيادة، قال الله عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وجه الدلالة: أن الأعراب قالوا: آمنا وهم ما زالوا ضعفاء إيمان دخلوا في الإسلام حديثاً، فقالوا: آمنا، فرد الله عليهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] أي: لم تصلوا إلى درجة الإيمان؛ لأنكم دخلتم في الإسلام من جديد، وما تمكن الإيمان في قلوبكم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فدل على أن الإسلام هو الإيمان وزيادة. ومسمى الإسلام استدل له المؤلف رحمه الله بحديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت)، يقول: فهذه حقيقة الإسلام، والأعمال الصالحة كالنطق بالشهادتين والصلاة والصوم والحج، والإيمان حقيقته فيما رواه أبو هريرة: (الإيمان بضع وسبعون شعبة -أو بضع وستون- فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، هذه حقيقة الإيمان. إذاً: الإيمان شعب كثيرة تصل إلى بضع وسبعون، والبيهقي رحمه الله تتبع هذه الشعب وأوصلها إلى تسع وسبعين، وألف كتاباً سماه: شعب الإيمان. إذاً: الإيمان حقيقته بضع وسبعون شعبة، والإسلام حقيقته الأعمال، واستدل المؤلف رحمه الله على أن الإسلام غير الإيمان، وأن الإيمان أكمل من الإسلام، وهو استسلام وزيادة، بحديث سعد بن أبي وقاص قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً هو أعجبهم إلي)، أعطاه يعني: نفله من الغنيمة أو أخذ له من الأعطيات: (فقلت: ما لك عن فلان يا رسول الله ما أعطيته؟ والله إني لأراه مؤمناً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً؟) يعني: ما وصل إلى مرتبة الإيمان، (ذكر ذلك سعد ثلاث مرات، وأجابه النبي بمثل ذلك، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه) فالنبي صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل وغيره أحب إليه مخافة أن يرتد عن دينه فيكبه الله في النار، فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا حتى يتقوى إيمانه؛ لأنه لو لم يعط لارتد، فيكبه الله على وجهه في النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما يعطي ليتألف على الإسلام، لا عن هوى أو محاباة، فقوي الإيمان قد لا يعطيه، وضعيف الإيمان يعطيه حتى يتقوى إيمانه. الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أو مسلماً) دل على أن الإسلام غير الإيمان، قال الزهري رحمه الله: فنرى أن الإسلام هو كلمة التوحيد وهي النطق بالشهادتين، والإيمان العمل الصالح، يقول الزهري: الإسلام هو النطق بالشهادتين، والإيمان هو العمل، مقصود الزهري أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإسلام، فالمقصود: أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حكم بإسلامه، وإلا فحديث ابن عمر دل على أن العمل داخل في مسمى الإسلام؛ فقد ذكر فيه الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج. ومتى يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام؟ إذا عصى خرج من الإيمان إلى الإسلام فصار مسلماً وليس مؤمناً، فإذا كان مطيعاً يؤدي الواجبات، ويجتنب المحرمات، فإنه مؤمن بإطلاق، وإذا عصى خرج من الإيمان إلى الإسلام، فيسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً، أو يسمى مؤمناً بالقيد لا بإطلاق، فيقال: مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وإذا كان مطيعاً سمي مؤمناً بإطلاق، فعلى هذا قد يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا إلى الكفر بالله عز وجل، نعوذ بالله من ذلك. وذهب بعض العلماء إلى أن الإيمان والإسلام مترادفان، وهما اسمان لشيء واحد، ذهب إلى هذا محمد بن نصر المروزي وابن عبد البر والإمام البخاري، هذا هو القول الأول. والقول الثاني: التفريق بينهما، وهو أن الإيمان هو أعمال القلوب، والإسلام هو أعمال الجوارح. والقول الثالث: أنه تختلف دلالتهما بالاجتماع والافتراق، فإن افترقا فإنهما يشملان الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وإن اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل؛ فإنه سأله عن الإسلام ففسره بالأعمال الظاهرة، وسأله عن الإيمان ففسره بالأعمال الباطنة، فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وهذا هو الصواب: أنه تختلف دلالتهما بالاجتماع والافتراق. فإذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا أطلق الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة، فمثلاً: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، يدخل فيه الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] يدخل فيه الإيمان، فإذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث الترمذي. هذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص والذي عليه المحققون.

الإيمان بخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام

الإيمان بخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام قال المؤلف رحمه الله: [ونؤمن بأن الدجال خارج في هذه الأمة لا محالة؛ كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنه. وأن عيسى بن مريم عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيأتيه وقد حصر المسلمون على عقبة أفيق، فيهرب منه فيقتله عند باب لد الشرقي، ولد من أرض فلسطين بالقرب من الرملة على نحو ميلين منها]. من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بأن الدجال خارج في هذه الأمة لا محالة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به الخبر، والدجال رجل من بني آدم يخرج في آخر الزمان يدعي أولاً أنه رجل صالح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، فيقول للناس: أنا الرب، وسمي الدجال لكثرة دجله وكذبه، والدجال صيغة مبالغة، فهو الدجال الأكبر. والسحرة الموجودون الآن كلهم دجاجلة صغار، لكن الدجال الذي يحكم في آخر الزمان، هو آخرهم وأكبرهم، وهو من أشراط الساعة الكبار التي تتبعها الساعة مباشرة، وقبله المهدي، وهو رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم اسمه كاسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه كاسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم يبايع له بين الركن وباب الكعبة، في وقت ليس للناس فيه إمام، والفتن والحروب كثيرة، وأهل السنة والجماعة تحصرهم الفتن في الشام. ففي زمن المهدي يخرج الدجال، والملاحم في أيام المهدي قائمة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، وآخرها فتح القسطنطينية، ويعلق المؤمنون سيوفهم على شجر الزيتون، فيصيح الشيطان: إن الدجال قد خلفكم في أهليكم، فيخرج الدجال، وهو على هذه الصفة، أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن، معه جنة ونار يجري الله على يديه خوارق العادات الكثيرة، منها أنه يأمر السماء فتمطر والأرض فتنتج، ومنها أنه يأتي إلى الجبال فتتبعه كنوزها، ويأتي إلى الرجل الذي لا يؤمن به فيقطعه نصفين، ويمشي بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيحييه الله فيقول له: مه، أما تؤمن بي؟ قال: ما ازددت فيك إلا بصيرة فأنت الدجال، ويدخل كل بلد إلا مكة والمدينة، فإن الملائكة تصف حولها تمنع الدجال من دخولها، ويأتي إلى المدينة فينعق ثلاث نعقات فيخرج إليه كل كافر وكافرة وكل منافق ومنافقة وكل خبيث وخبيثة، فعند ذلك تنفي المدينة خبثها ولا يبقى فيها إلا المؤمنون، فيتبعون الدجال، نسأل الله السلامة والعافية. ويمكث في الأرض أربعين يوماً، اليوم الأول طوله سنة، تطلع الشمس ولا تغيب إلا بعد ثلاثمائة وستين يوماً، واليوم الثاني طوله شهر تطلع الشمس فلا تغيب إلا بعد ثلاثين يوماً، واليوم الثالث طوله أسبوع تطلع الشمس ولا تغيب إلا بعد سبعة أيام، وبقية الأيام كأيامنا، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا نصنع في الصلوات في الأيام الثلاثة؟ قال: (اقدروا له قدره)، كل أربعة وعشرين ساعة خمس صلوات، والأحاديث في هذا كثيرة، منها حديث النواس بن سمعان وهو حديث طويل، ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قصة الدجال، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عبد الله بن عمرو - قام في الناس خطيباً عليه الصلاة والسلام وذكر الدجال، فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور)، فأخذ العلماء من حديث الدجال إثبات العينين للرب؛ لأن الدجال أعور العين اليمنى، والله تعالى له عينان سليمتان سبحانه وتعالى، والأحاديث في هذا كثيرة، ومذهب أهل السنة والجماعة والمحدثين والفقهاء إثبات الدجال. وأنكر الدجال الخوارج والمعتزلة والجهمية والجبائي المعتزلي وموافقيه، وقال بعضهم: إن الدجال خروجه صحيح، ولكن الذي يدعيه مخارق وخيالات لا حقائق لها. وذكر النووي رحمه الله نقلاً عن عياض هذا في شرحه على صحيح مسلم وقال: (إن أحاديث الدجال حجة في مذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى، من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره) معه صورة الجنة والنار، فالذي يعصيه يضعه في النار التي يراها الناس وهي الجنة حقيقة، والذي يطيعه يضعه في الجنة التي يراها الناس الجنة وهي النار حقيقة. يقول: (من ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله ومشيئته، ثم يعجزه الله بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره ويقتله عيسى) في النهاية يقتله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ينزل عيسى بن مريم من السماء فيقتل الدجال قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]. ولا شك أن فتنته فتنة عظيمة، وجاء في صحيح مسلم: (ما بين خلق آدم وقيام الساعة أمر أعظم وأكبر من الدجال)، فهو فتنة عظيمة ويأتي إلى أهل البادية الذين يطيعونه من الابتلاء والامتحان، وتكون أنعامهم سمينة وضروعها ممتلئة باللبن، والذين لا يطيعونه يصبحون جوعى وتموت أنعامهم، هذا من الابتلاء والامتحان، نسأل الله السلامة والعافية. وبعض الناس أنكر الدجال والعياذ بالله، وأنكر نزول عيسى بن مريم، وهناك رجل يقال له: محمد فهيد أبو هيثم يقول: إن الدجال يمثل صورة الباطل، ونزول عيسى بن مريم يمثل صورة الحق، وإلا لا يوجد دجال ولا عيسى! فهؤلاء الذين يعتمدون على عقولهم العقلانيون ينكرون الدجال وينكرون عيسى، فيعملون بعقولهم وأهوائهم. قال المؤلف رحمه الله: [وأن عيسى بن مريم عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق] نزول عيسى بن مريم ثابت في القرآن وفي السنة، قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]. وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم)، وفي لفظ: (لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم حكماً مقسطاً وإماماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد). ينزل حكماً مقسطاً يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون فرداً من أفراد الأمة المحمدية: (حكماً مقسطاً) يعني: عادلاً (وإماماً عدلاً فيكسر الصليب) الصليب الذي يعبده النصارى يكسره عيسى، مبالغة في إبطال ما هم عليه، إذ يكسر الصليب ويقتل الخنزير الذي يأكلونه، ويضع الجزية أي: لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف. وعيسى عليه الصلاة والسلام ينزل ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيكون نبياً ومن هذه الأمة، فأفضل هذه الأمة بعد نبيها عيسى وهو نبي، ثم يليه أبو بكر الصديق، وكل نبي يأخذ الله عليه الميثاق: لئن بعثت محمداً وأنت حي لتؤمنن به ولتتبعنه. إذاً: عيسى ينزل بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون فرداً من أفراد الأمة المحمدية؛ لأن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع؛ فلهذا يقول: وأن عيسى بن مريم ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيأتيه وقد حصر المسلمون على عقبة أُفَيق] أفيق هذه بلدة بين دمشق وطبرية، وهي عقبة طويلة نحو ميلين، كما ذكر في تاج العروس قال: [فيهرب منه -يعني: الدجال يهرب من عيسى- فيقتله عند باب لد الشرقي، (ولد) من أرض فلسطين بالقرب من الرملة على نحو ميلين منها] وجاء في الحديث الآخر أن الدجال إذا رأى عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، ولو تركه لمات، لكنه يقتله عند باب لد.

الإيمان بملك الموت وفقء موسى عينه وذبح الموت يوم القيامة

الإيمان بملك الموت وفقء موسى عينه وذبح الموت يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى عليه السلام فصكه ففقأ عينيه كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله ورسوله. ونؤمن بأن الموت يؤتى به يوم القيامة فيذبح، كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39])]. يقول المؤلف رحمه الله: ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى عليه الصلاة والسلام فصكه ففقأ عينه كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ثابت في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء صكه ففقأ عينه). وهذا ثابت؛ لأن أهل السنة والجماعة يؤمنون بما ثبت في كتاب الله وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال المؤلف: لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله ورسوله، فهؤلاء المبتدعة والملاحدة لا يؤمنون إلا بما تهواه عقولهم، تجدهم يطعنون في الأحاديث الصحيحة ويؤولونها بتأويلات باطلة، والواجب على المسلم التصديق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه اعتقاده؛ لأن ذلك من الإيمان بالغيب الذي أطلع الله عليه رسوله، ولهذا نقل النووي عن المازري أنه قال: (وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث) حديث أن موسى صك ملك الموت ففقأ عينه، قال: (فقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكروا تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقأ عين ملك الموت؟ وأجاب بعض العلماء عن هذا بأجوبة: أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام قد أذن الله له في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحاناً للملطوم، والله سبحانه يفعل في خلقه ما يشاء ويمتحنهم بما أراد، أو أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يعلم أنه ملك من عند الله، وظن أنه رجل قصده يريد نفسه، فدافعه عنها فأدت المدافعة إلى فقء عينه لا أنه قصدها بالفقأ، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين. وقال ابن قتيبة: (لما تمثل ملك الموت لموسى عليه السلام وهذا ملك الله وهذا نبي الله، وجاذبه لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل وليست حقيقة، وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينتقص منه شيء). نحن نؤمن بأن موسى عليه الصلاة والسلام صك عينه، ومن المعلوم أن الملك أعطاه الله قدرة على التشكل والتصور، قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صور متعددة، كان يأتي في صورة دحية الكلبي وكان رجلاً جميلاً، وجاء في صورة رجل أعرابي يسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، ورآه في الصورة التي هو عليها مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء له أجنحة، فالملك أعطاه الله قدرة على التشكل. والأقرب والله أعلم أنه ما علم أنه ملك، كما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جاءته الملائكة في صورة رجال ولم يعلم أنهم ملائكة في صورة رجال، وجاء بهم إلى بيته يظن أنهم ضيوف، ومال إلى أهله سريعاً وجاء بعجل سمين، وشوى لهم العجل وقدمه إليهم، لكنهم لم يمدوا أيديهم إليه، فخاف منهم، وأنكر أنهم لا يأكلون! وإذا الضيف لم يأكل فهذا يُخشى أن يكون جاء لشر، فقالوا: نحن الملائكة لا نأكل ولا نشرب، أخبروه وجاءوه في صورة لم يعرفهم فيها، وجاءوا إلى لوط، ولم يعلم لوط أيضاً أنهم ملائكة في صورة رجال، فليس ببعيد أن يكون ملك الموت أتى موسى ولم يعلم أنه ملك. يقول المؤلف: كما صح عن النبي لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله وعن رسوله، ونؤمن بأن الموت يؤتى به يوم القيامة فيذبح، كذلك أنكر هذا بعض أهل البدع، قالوا: كيف يذبح الموت والموت أمر معنوي؟! نقول: إن هؤلاء هم العقلانيون الذين لا يؤمنون إلا بما تهواه عقولهم، ويتأولون النصوص فهؤلاء يتبعون أهواءهم، والواجب على المسلم أن يؤمن بما ثبت في كتاب وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله قادر على جعل المعاني أجساماً وعلى قلب الأعراض أجساماً، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]؛ ولهذا ثبت في الحديث الذي رواه الشيخان الذي ذكره المؤلف رحمه الله في حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون) يشرئبون: يعني: يمدون أعناقهم ويرفعون رءوسهم بالنظر، فيقول: (هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادى: يا أهل النار! فيشرئبون ينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت)، وهذا بعد خروج العصاة من النار، وجاء في اللفظ الآخر: (فيزداد أهل الجنة نعيماً إلى نعيمهم، ويزداد أهل النار حسرة إلى حسرتهم)، نعوذ بالله. (ثم قرأ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]) والحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله ورواه غيرهما، رواه الترمذي وأحمد في المسند والآجري في الشريعة، قال الترمذي: والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم، أنهم رووا هذه الأشياء، ثم قالوا: نروي هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت، ويؤمن بها ولا تفسر ولا نتوهم، ولا يقال: كيف! يعني: لا تفسر التفسير المخالف لظاهرها، وهذا عمل أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه. ومعنى قوله: لا تفسر أي: لا يكتب لها تفسير مخالف لمعناها، يقصدون عدم تفسيرها بخلاف ظاهرها الذي تدل عليه.

الأسئلة

الأسئلة

بيان ما يمر بالإنسان من أحداث يوم القيامة

بيان ما يمر بالإنسان من أحداث يوم القيامة Q نرجو التكرم بترتيب الأمور التي تمر بالإنسان يوم القيامة، فهل ورود الحوض قبل الشفاعة؟ وهل الميزان قبل الصحف؟ ومتى يكلم الله عز وجل عباده بلا ترجمان؟ نرجو ترتيب هذه الأمور التي تحصل. A أولاً: يوم القيامة يبعث الله الأجساد، ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئون تنشئة غير تنشئة الدنيا، والذوات هي نفسها الذوات، فإذا كمل نباتهم أمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور النفخة الثانية، إذ إن النفخة الأولى هي التي يموت فيها الناس، ثم يمكث الناس أربعين، ثم ينزل الله مطراً تنبت فيه أجساد الناس، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث، فتأتي الأرواح إلى أجسادها، ومعلوم أن الأرواح باقية لا تموت في نعيم أو في عذاب، فتدخل كل روح في جسدها، فيقوم كل واحد ينفض التراب عن رأسه، ويقفون بين يدي الله للحساب سراعاً، حفاة لا نعال عليهم، عراةً لا ثياب عليهم، غرلاً -جمع أغرل- غير مختونين، وتدنو الشمس من رءوسهم ويزاد في حرارتها، ويشتد الكرب بالناس، ويسألون الأنبياء الشفاعة، ويذهبون إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم يشفع نبينا صلى الله عليه وسلم، يشفعه الله فيقضي الله بين الخلائق، يحاسبهم في وقت واحد، لا يلهيه شأن عن شأن سبحانه وتعالى، فنحن نعرف أن ابن آدم الضعيف لا يستطيع التكلم مع اثنين في وقت واحد، لكن الرب سبحانه وتعالى يحاسب الخلائق في وقت واحد، ويفرغ سبحانه وتعالى من حسابهم في قدر منتصف النهار، وفي وقت القيلولة يدخل أهل الجنة الجنة، قال سبحانه: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] وبعد الحساب تعطى الصحف وتتطاير بالأيمان وبالشمائل وتوزن الموازين ويرد الناس على الحوض، واختلف العلماء في الترتيب. فمن العلماء من قال: الميزان قبل الحوض، ومنهم من قال: الحوض قبل الميزان، والأقرب أنه أولاً: الحساب ثم الورود على الحوض ثم الميزان بعد ذلك؛ لأنه لو كان الميزان قبل ذلك لكان من خف ميزانه لا يرد على الحوض، وقد ثبت أنه يرد على الحوض أناس لا يعلمون فيطردون، فالترتيب يكون الحساب ثم الحوض ثم الميزان وتطاير الصحف، ثم بعد ذلك المرور على الصراط، فمن تجاوز الصراط صعد إلى الجنة، ومن سقط سقط في النار نعوذ بالله. ثم بعد ذلك دخول الجنة، ثم بعد دخول العصاة النار تكون الشفاعة فيهم، ثم بعد ذلك الاستقرار في الجنة أو في النار نسأل الله السلامة والعافية.

الجنة والنار باقيتان لا تفنيان

الجنة والنار باقيتان لا تفنيان Q هناك أسئلة كثيرة حول فناء الجنة والنار وما ينسب إلى شيخ الإسلام من هذا الأمر، وبعض أهل البدع يذكر أن ابن تيمية قال: إن الجنة والنار تفنيان بعد مدة معينة، نرجو توضيح هذا؟ A لا، لكن ابن القيم رحمه الله وجد له في كتاب الروح وفي غيره ما يدل على هذا، والظاهر أن له قولين: قول بفنائها وقول بعدم فنائها، والصواب: عدم فنائها، وأما شيخ الإسلام رحمه الله فإن النصوص عنه كثيرة عن شيخ الإسلام رحمه الله تدل على أنه يرى أن النار باقية لا تفنى.

الإيمان اعتقاد بالقلب وقول وعمل

الإيمان اعتقاد بالقلب وقول وعمل Q هناك من يقول: إن الأعمال شرط لصحة الإيمان، ويصف من يقول: إن العمل شرط كمال في الإيمان بأنه مرجئ، وهناك من يقول: إنه شرط كمال ويصف هؤلاء بأنهم خوارج! نرجو توضيع المسألة. A الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فالذي يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان هذا من المرجئة كما سبق، فالمرجئة المحضة الذين هم الجهمية يرون أن الأعمال غير مطلوبة، ومرجئة الفقهاء يرون أنها ليست داخلة في مسمى الإيمان. وأهل السنة يقولون: الإيمان مكون من هذه الأمور: قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، كل هذه أركان الإيمان، وداخلة في مسمى الإيمان، فالذي يقول: إن العمل خارج أو قال: إنه شرط كمال هذا من المرجئة. والخوارج والمعتزلة يرون أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان مثل أهل السنة، لكن يقولون: إنه إذا نقص شيء من العمل انتهى الإيمان، وإذا فعل معصية انتهى الإيمان وخرج إلى الكفر ودخل فيه وخلد في النار، وأهل السنة يقولون: لا، إذا فعل معصية يضعف إيمانه ولا يخرج من الإيمان ولا يكفر ولا يخلد في النار.

تولي الله سبحانه حساب عباده

تولي الله سبحانه حساب عباده Q رجل مسلم شرب الخمر ثم بعدما شرب سجد لغير الله ومات على ذلك -نسأل الله العافية والسلامة-، هل هذا الرجل مات على الكفر أم على الإسلام؛ لأنه فقد عقله؟ A أمره إلى الله هو الذي يتولى حسابه، نسأل الله السلامة والعافية.

بيان معنى الإيمان في اللغة والشرع

بيان معنى الإيمان في اللغة والشرع Q ما رأيكم في تعريف الإيمان بأنه لغة: التصديق، وهل صحيح أن شيخ الإسلام اعترض على ذلك؟ نرجو إيضاح هذا. A نعم، الإيمان في اللغة أصله التصديق، وأما في الشرع فكما سمعت: قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح. الأحناف المرجئة الفقهاء استدلوا بالمعنى اللغوي قالوا: إن الإيمان هو التصديق، قال الله تعالى عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] أي: مصدق، فقالوا: إن الإيمان هو التصديق، فقالوا: هو التصديق بالقلب فقط، استدلوا بالمعنى اللغوي، لكن أهل السنة قالوا: جاء الشرع ببيان مسمى الإيمان.

دخول الجنة لايكون إلا بالتوحيد

دخول الجنة لايكون إلا بالتوحيد Q ذكرتم أن من قال: إن رجلاً يدخل الجنة بلا عمل هذا من أهل الزيغ ومن أهل البدع، فمن المقصود بقائل هذه المقولة؟ A ليس هو المقصود، فالمقصود: ليس هناك من يدخل الجنة بدون عمل يعني: بدون توحيد، لا أحد يدخل الجنة إلا بالتوحيد، وليس المقصود أشخاصاً معينين، فنحن لا نتكلم في أشخاص، فالله تعالى قال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، فلا أحد يدخل الجنة إلا بالتوحيد، والتوحيد لابد فيه من صلاة، فمن لم يصل فليس بموحد، فلا يدخل الجنة؛ لأن الصلاة شرط في صحة التوحيد، كما لو توضأ ثم أحدث بطل وضوءه، فكذلك إذا قال: لا إله إلا الله ولم يصل بطلت كلمة التوحيد، فمن شرطها الصلاة، ولا يمكن لأحد أن يدخل الجنة بدون عمل إلا من نطق بالشهادتين ثم مات ولم يتمكن من العمل.

حكم وضع جريدة على القبر لتخفيف العذاب عن صاحبه

حكم وضع جريدة على القبر لتخفيف العذاب عن صاحبه Q ما رأيكم فيمن يضع على القبر جريدة من نخل ويعتقد أن ذلك يخفف العذاب عن صاحب القبر؟ A لا، هذا باطل، هذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ثم وضع جريدة فالله أطلعه على ذلك، وأنت هل تعلم الغيب حتى تضع جريدتين؟! هل أنت تعلم الغيب أنه يعذب؟! وهل أنت مثل الرسول عليه الصلاة والسلام؟! فالرسول أطلعه الله على أنهما يعذبان فوضع جريدة وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)، أما أنت لا تعلم الغيب، ولا تدري هل يعذب أو ينعم.

حكم رسم الميزان لتذكير الناس بالحساب

حكم رسم الميزان لتذكير الناس بالحساب Q نرى بعض الناس يرسم ميزاناً ذا كفتين ويقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، هل هذا الفعل صحيح؟ A بعض الناس في هذا الزمن صار عندهم جرأة، تجدهم مثلاً يرسمون ميزاناً ويضعه كذا، وبعض الناس يصور طائرة ويقول: أنت صائر إلى الآخرة وأنت كذا، ويصور الانتقال إلى الآخرة ويصور الجنة ويصور النار، فهذه جرأة عند بعض الناس في هذا الزمن، يتجرءون على أشياء ما تجرأ عليها من سبقهم. والواجب على المؤمن أن يسعه ما وسع المؤمنين، فينصح بالنصوص وبالأدلة من الكتاب والسنة، ويذكر الأدلة على إثبات الميزان، فلا يحتاج إلى أن يرسم ميزاناً.

الإيمان والإسلام إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر

الإيمان والإسلام إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر Q في حديث الجارية عندما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنا؟ فقالت: رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة)، ولم يقل: مسلمة، كيف الجمع بين هذا الحديث، وحديث سعد بن معاذ رضي الله عنه؟ A هذا عند الإطلاق، فعند إطلاق الإيمان يشمل الإسلام، فإنه إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر.

اختلاف المرجئة في كون أعمال القلوب من الإيمان

اختلاف المرجئة في كون أعمال القلوب من الإيمان Q قال شيخ الإسلام في الفتاوى: إن جماهير المرجئة على أن عمل القلب من الإيمان، وفضيلتكم نفيتم أن المرجئة يرون أن عمل القلب من الإيمان؟ A نعم، بعض المرجئة مختلف في هذا، بعضهم أدخل أعمال القلوب وبعضهم لم يدخلها، أما أعمال الجوارح فهم لم يدخلوها.

موالاة المؤمن بقدر ما فيه من طاعات ومعاداته بقدر ما فيه من معاص

موالاة المؤمن بقدر ما فيه من طاعات ومعاداته بقدر ما فيه من معاصٍ Q أشعر في قلبي ببغض لمن حولي ممن لديهم معاصٍ ولا أتفاعل معهم، سواء كانوا من الزملاء في العمل أو من الأقارب أو من إخواني في الله، وأجاهد قلبي على أن يكون البغض للفعل وليس لذات الشخص، ولكني أبغض ذات الشخص، فماذا أفعل للتخلص من هذا؟ A عليك أن توالي وتعادي المؤمن بقدر ما في المؤمن من المعاصي، فالمؤمن العاصي يوالى بقدر ما فيه من الطاعات، ويعادى بقدر ما فيه من المعاصي، وأما المؤمن المطيع فإنه يوالى موالاة كاملة، والكافر يعادى معاداة كاملة هذا هو الذي عليه أهل السنة، فالناس ثلاثة أقسام: قسم يوالى موالاة كاملة من جميع الوجوه وهم المؤمنون. وقسم يعادى معاداة كاملة وهم الكفار. وقسم يوالى ويعادى وهم المؤمنون العصاة، تواليه بقدر ما فيه من أجر، وتحبه بقدر ما فيه من الطاعات، وتبغضه بقدر ما فيه من المعاصي، ويتسع قلبك لهذا؛ لأن الله تعالى يوالي هكذا؛ ولأنه ينبغي للإنسان أن يوافق ربه في الموالاة والمعاداة، فتجد شخصاً مثلاً يحافظ على الصلوات الخمس وعنده الغيرة على محارمه وتجده مثلاً يصل رحمه ويبر والديه فتحبه، لكن من جهة قد تجده مثلاً يشرب الخمر أو يشرب الدخان ويحلق لحيته ويتعامل بالربا أو يغش فتبغضه، فإذا نظرت إلى المعاصي تبغضه بقدر ما فيه من معصية، وإذا نظرت إلى الطاعات تحبه بقدر ما فيه من طاعات، فلا تبغضه بغضاً كاملاً ولا تحبه محبة كاملة، بل تواليه وتعاديه، فيكون قلبك متسعاً لهذا ولهذا، لا تبغضه بغضاً كاملاً ككافر ولا تحبه محبة كاملة كالمؤمن المطيع، بل تواليه وتعاديه، تواليه بقدر ما فيه من الإيمان والطاعات، وتعاديه وتبغضه بقدر ما فيه من المعاصي.

أنواع الكفر

أنواع الكفر Q يعتقد بعض الناس أن الكفر هو تكذيب، فلا يكفر عندهم إلا من كذب، وينكر أقسام الكفر الباقية ويقول: إنها مستلزمة للتكذيب، فهل هذا الاعتقاد صحيح؟ A هذا اعتقاد المرجئة، فالمرجئة يقولون: لا كفر إلا بالتكذيب، فالإيمان هو التصديق والكفر هو التكذيب، وهذا باطل، فالكفر يكون بالتكذيب، ويكون باعتقاد القلب أيضاً، فإذا اعتقد أن لله صاحبة أو ولداً، أو اعتقد أن لله شريكاً في الملك، أو اعتقد أن الصلاة غير واجبة، أو الحج غير واجب، أو اعتقد أن الزنا حلال، أو الربا حلال، فإنه يكفر بهذه العقيدة، ويكون أيضاً كافراً بالقول إذا سب الله أو سب الرسول أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، ويكون بالفعل كأن يسجد لصنم أو يدعو غير الله أو يذبح لغير الله أو يركع ويسجد لغير الله، فإنه يكفر بهذا، ويكون بالرفض والترك، إذا ترك دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به كفر. فالكفر يكون بالقلب، ويكون بالقول باللسان، ويكون بالعمل، ويكون بالرفض والترك، فالذي يرفض دين الله ولا يتعلم الدين ولا يعبد الله كافر، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، أما القول بأن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب فهذا قول المرجئة، وهو قول باطل.

§1/1