شرح الإلمام بأحاديث الأحكام

ابن دقيق العيد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ الإلْمَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى مِن إِصْدَارَاتِ وَزَارَة الشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالأَوْقَافِ وَالدَّعْوَةَ وَالإِرْشَادِ المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ 1429 هـ - 2008 م الطَّبْعَةُ الثَّانِيَة مِنْ إِصْدَارَاتِ دَارُ النَّوَادِرِ 1430 هـ - 2009 م دَارُ النَّوَادِرِ لصاحبها ومديرها العام نُورِ الدِّين طَالِب سوريا - دمَشق - ص. ب: 24306 لبنان - بيروت - ص. ب: 5180/ 14 هاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

[مقدمة التحقيق]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، وسيئات أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه. أمّا بعد: فإن كتاب "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للإمام المجتهد المجدِّد ابن دقيق العيد - رحمه الله - لا نظير له في الكتب المصنَّفة في الأحكام الجامعة بين الحلال والحرام، حتى قال عنه: أنا جازم أنه ما وُضِعَ في هذا الفنِّ مثلُه (¬1). وهو القائل أيضاً: ما وقفتُ على كتاب من كتب الحديث وعلومه المتعلقة به، سُبِقْتُ بتأليفه وانتهى إليَّ، إلَّا وأودعتُ منه فائدةً ¬

_ (¬1) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 575).

في هذا الكتاب (¬1). ولذا قال عنه شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: هو كتاب الإسلام، وقال: ما عَمِلَ أحدٌ مثلَه، ولا الحافظُ الضِّياءُ، ولا جدِّي أبو البركات (¬2). ثم إنَّه - رحمه الله - قد اختصرَ كتابَه هذا، لَمَّا رأى استخشانَ بعضِ أهل عصره لإطالته، فصنف "الإلمام بأحاديث الأحكام"، وهو من أجلِّ كتابٍ وُضِع في أحاديث الأحكام، يحفظُه المبتدئ المستفيدُ، ويناظِرُ فيه الفقيهُ المفيدُ (¬3)، ومن فَهِمَ مغزاه، شدَّ عليه يدَ الضِّنانة، وأنزله من قلبه وتعظيمهِ الأعزَّين مكاناً ومكانة (¬4). وقد شرطَ فيه مؤلِّفُه أن لا يوردَ إلا حديثَ من وثَّقه إمام من مزكِّي رواة الأخبار، وكان صحيحاً على طريقة بعض أهل الحديث الحفَّاظ، أو أئمة الفقه النظَّار (¬5). ثم إنه - رحمه الله - قد شرح هذا الكتاب؛ أعني "الإلمام" شرحاً عظيماً (¬6)، وصل فيه إلى نهاية باب صفة الوضوء، أتى فيه ¬

_ (¬1) انظر: "مقدمة الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" (1/ 52) نقلاً عن "ملء العيبة" لابن رُشيد (3/ 260). (¬2) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 575 - 576). (¬3) انظر: "الاهتمام بتلخيص الإلمام" لقطب الدين الحلبي (ص: 5). (¬4) انظر: "مقدمة هذا الشرح" (1/ 25). (¬5) انظر: "مقدمة هذا الشرح" (1/ 26). (¬6) انظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 1482).

بالعجائب الدالة على سَعَة دائرته في العلوم، خصوصاً في الاستنباط، كما قال الحافظُ ابنُ حجر (¬1). وقيمة هذا الكتاب "شرح الإلمام بأحاديث الأحكام" تتجلَّى لمُطالعه حالما ينظر فيه، فقد أسفر فيه المؤلف عن نكت وفوائد بديعة. وأورد فيه من النوادر والمباحث الدقيقة ما يأخذ بالألباب. وأوضح فيه منهجاً سليماً قوياً في كيفية الاستدلال والاستنباط من السنة والكتاب. وأبرز فيه من التقريرات والتوجيهات الأصولية ما انفرد به عن نظرائه، وفاق كثيراً من قرنائه. وأفصح فيه عن كثير من العلوم الخادمة لفهم النصوص الشرعية؛ كعلوم العربية، والمباحث المنطقية والأصولية، والقواعد العقلية. ومن هنا قال الحافظ قطب الدين الحلبي: إنه لم يتكلم على الحديث من عهد الصحابة إلى زماننا مثل ابن دقيق العيد، ومن أراد معرفة ذلك، فعليه بالنظر في القطعة التي شرح فيها "الإلمام"، فإن جملة ما فيها: أنه أورد حديثَ البراءِ بن عازب: "أمرنا رسولُ الله صلى عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع"، واشتمل على أربع مئة فائدة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 348). (¬2) انظر: "رفع الإصر عن قضاة مصر" لابن حجر (ص: 395).

إن كتاباً أَرْبت مواردُه على المئتين والثلاثين من أمهات كتب الإسلام، أعتمد مؤلفُه عليها في أواخر القرن السابع الهجري، لجديرٌ بالوقوف عليه. وإن كتاباً قاربت فوائدهُ الثلاثةَ آلافِ فائدة ومسألة من شرح سبعة وخمسين حديثاً، لحقيق أن يُنْظَر في ما حواه، وأن يُنْعَمَ النظرُ في فحواه. هذا وقد منَّ الله عليَّ بتحقيق هذا السفر الجليل، والاضطلاع بأعباء تصحيح نصوصه وتقويمها، وتخريج أحاديثه وآثاره وأشعاره وغيرها مما تراه في منهج التحقيق، ثم إني قدَّمت للكتاب بفصلين، اشتمل أولهما على ترجمة الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله، وكان الآخر لدراسة الكتاب، وفي كل واحد منهما مباحث وفوائد متنوعة. ويعلم الله، كم قد تحمَّلتُ، في هذه الأوقات التي كنت أعمل فيها في هذا الكتاب، شغلاً وهمًّا، وديناً وغُرماً، وظلماً وهضماً. ولكن أسأل الله أن ينفع بعملي هذا، ويثيبني به في الآخرة، فمنه سبحائه أستمدُّ العَون، ومن الخسارة فيما أرجِّي ربحَه أسألُهُ الصَّون، ولا حول ولا قوة إلا به. ولا بد في الختام من التوجُّه بالشُّكْر والامتنان إلى كل من كان له يد في إخرأج هذا الكتاب إلى عالم المطبوع، وأخصُّ بالذِّكر منهم: - فضيلة الشيخ المحقق المدقق نور الدِّين طالب، الذي أتحفني بتصوير النسخة الخطية لمكتبة كوبريلي، وأمدَّني بالمراجع والمصادر المخطوطة والنادرة المتوفرة لديه، كما كان له الفضلُ في بعث الهمة على إنجاز هذا العمل وإخراجِه على نحوٍ مرضيٍّ.

- فضيلة الشيخ المفيد المجيد عبد الباري بن حمَّاد الأنصاري، الذي تفضَّل بتصوير النسختين الخطيتين لدار الكتب المصرية والمكتبة البديعية. - الإخوة الأفاضل الذين كانوا لي خير معين - بعد الله عز وجل - في إخراج هذا الكتاب، من العمل معي في النسخ والمقابلة والتصحيح والفهرسة والتنضيد والإخراج، وأخصُّ بالذكر منهم الإخوة: إدريس أبيدمي، ومحمد عبد الحليم بعاج، وجمعة الرحيم. أسأل الله - إن كان لي من حظٍّ في هذا الكتاب عنده - أن يضربَ لكلِّ واحد من هؤلاء المشايخ الأماثل والإخوة الأفاضل بسهمٍ فيه، وأن يشركوني في أجرِ نشرِ هذا العلم وتبليغِه، إنه سبحانه وليُّ ذلك، وهو حسبنا ونعمَ الوكيل. وكتبه أَبُو عَبْدِ الله محمّد خلّوف العبْدالله حَامِدًا للهِ تَعَالَى عَلَى أَفْضَالِهِ وَمُصَلِّيًا وَمُسَلِّمًا عَلَى نَبِيِّه وَآلِهِ وَمُتَرَضيًا عَن صَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ

الفصل الأول ترجمة الإمام ابن دقيق العيد

الفصل الأوّل تَرْجَمَةُ الإِمَامِ ابْن دَقيق العِيدِ

المبحث الأول اسمه ونسبه وولادته ونشأته وطلبه للعلم

المبحث الأَوَّل * اسمه ونسبه وولادته: هو الإمام، المجدد، المجتهد، شيخ الإسلام، محمد بن علي ابن وهب بن مطيع بن أبي طاعة المنفلوطي القوصي (¬1) الثَّبَجِي (¬2) المصري المالكي الشافعي، تقي الدين أبو الفتح ابن القاضي الإمام أبي الحسن القشيري، من ذرية بهز بن حكيم القشيري - رضي الله عنه - (¬3)، المشهور ب: ابن دقيق العيد (¬4). ولد في شعبان سنة (625 هـ)، في ينبع على ساحل البحر الأحمر، عندما كان والدُه متوجهاً من قُوص إلى مكةَ للحج. ¬

_ (¬1) نسبة إلى مدينة قوص من مدن الصعيد في جنوب مصر. (¬2) الثَّبَجي: بمثلثة ثم موحدة مفتوحتين. قال العراقي في "شرح الألفية المسماة بالتبصرة والتذكرة" (1/ 281 - 282) شارحاً قوله: "استشكل الثبجي". قال: المعني بقولي: "استشكل الثبجي": هو ابن دقيق العيد، وربما كان يكتب هذه النسبة في خطه؛ لأنه ولد بثبج البحر بساحل ينبُع من الحجاز، ومنه الحديث الصحيح: "يركبون ثبج هذا البحر"؛ أي: ظهره، وقيل: وسطه، انتهى. وكذا قال الأُدفُوي في "الطالع السعيد" (ص: 570) أنه رآه بخطه: الثبجي. (¬3) قال الذهبي في "المعجم المختص" (ص: 169): فيما بلغنا. وقال الحافظ في "الدرر الكامنة" (5/ 350): ويُذْكَر ذلك. (¬4) قال الأُدفُوي في "الطالع السعيد" (ص: 435) في ترجمة والد الإمام ابن دقيق: الشيخ مجد الدين علي: وسبب تسمية جده - يعني: مطيعاً -: دقيق العيد: أنه كان عليه يوم عيد طيلسان شديد البياض، فقال بعضهم: كأنه دقيق العيد، فلقب به رحمه الله.

نشأته وطلبه للعلم

* نشأته وطلبه للعلم: نشأ الإمام ابن دقيق العيد في أسرة علمية، مشهورة بالتدين والصلاح؛ فأبوه الشيخ مجد الدين أبو الحسن علي، جمع بين العلم والعمل والعبادة والورع والتقوى والزَّهَادة والإحسان إلى الخلائق مع اختلافهم، وبذل المجهود في اجتماع قلوبهم وائتلافهم، وقد ارتحل إليه الناس من سائر الأقطار، وقصدوه من كل النواحي والأمصارِ (¬1). أما أمُّه: فهي بنت الشيخ الصالح تقي الدين مظفر بن عبد الله المشهور بالمقترَح. قال الأُدفُوي: فأصلاه كريمان، وأبواه عظيمان. وقد ذكر والدُه: أنه أخذه عند ولادته وطاف به الكعبة، وجعل يدعو الله أن يجعلَه عالماً عاملاً. فابتدأ الشيخ بقراءة القرآن العظيم، حتى حصل منه على حظٍّ جسيم، ونشأ بقوص على حالة واحدة من الصمت والاشتغال بالعلوم، ولزوم الصيانة والديانة، فاشتغل بالفقه على مذهب الإمامين مالك والشافعي على والده، وكان قد اشتغل بمذهب الشافعي أيضاً على تلميذ والده الشيخ بهاء الدين هبة الله القِفْطي، وكان يقول: البهاء مُعلِّمي. ¬

_ (¬1) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 424)، و"مرآة الجنان" لليافعي (4/ 166)، وكان قد توفي رحمه الله سنة (667 هـ).

وقرأ الأصول على والده، ثم سمع بمصر والشام والحجاز، على تحرٍّ في ذلك واحتراز، فرحل إلى القاهرة فقرأ على شيخ الإسلام العز ابن عبد السلام، وقرأ العربية على الشيخ شرف الدين محمد بن أبي الفضل المُرْسِي، وغيره. ثم ارتحل في طلب الحديث إلى دمشق والإسكندرية وغيرهما، وسمع الحديث من والده، والشيخ الحافظ عبد العظيم المنذري، وأبي العباس أحمد بن عبد الدائم بن نِعْمة المقدسي، والحافظ أبي علي الحسن بن محمد البكري، وخلائق. ثم درَّس بالمدرسة الفاضلية، والمدرسة المجاورة للشافعي، والكاملية، والصالحية بالقاهرة، ودرَّس بقوص بدار الحديث ببيت له. وقد اشتُهِر اسمُه في حياة مشايخه، وشاع ذكرُه، وتخرَّج به أئمة، وسمع منه الخلق الكثير، والجم الغفير مع قلة تحديثه رحمه الله. * * *

المبحث الثاني صفاته وأخلاقه

المبحث الثَّاني صفاته وأخلاقه قال ابن سيِّد الناس: ولم يزل حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه، وقف نفسَه على العلوم وقَصَرَها، ولو شاء العادُّ أن يَعُدَّ كلماتهِ لحصرها، وله مع ذلك في الأدب باع وِساع، وكرم طباع، لم يخلُ بعضُها من حسن انطباع، حتى لقد كان محمودُ الكاتب، المحمود في تلك المذاهب، المشهود له بالتقدم فيما يشاء من الإنشاء على أهل المشارق والمغارب، يقول: "لم تر عيني آدبَ منه" (¬1). وكان يقول رحمه الله: "ما تكلَّمتُ كلمةً، ولا فعلتُ فعلاً، إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل" (¬2). وكان - رحمه الله - يسهر ليله في العلم والعبادة؛ قرأ الشيخ ليلة، فقرأ إلى قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، فما زال يكررها إلى مطلع الفجر (¬3). وقال الصاحب شرف الدين محمد بن الصاحب زين الدين أحمد: كان ابن دقيق يقيم في منزلنا بمصر في غالب الأوقات، فكنَّا ¬

_ (¬1) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 570). (¬2) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (9/ 212). (¬3) انظر: "الطالع السعيد" (ص: 579).

نراه في الليل إمَّا مصلياً، وإما يمشي في جوانب البيت، وهو مفكر إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر صلى الصبح، ثم اضطجع إلى ضحوة. قال الصاحب: وسمعت الشيخ الإمام شهاب الدين القَرافي المالكي يقول: أقام الشيخ تقي الدين أربعين سنة لا ينام الليل، إلا أنه كان إذا صلى الصبح اضطجع على جنبه إلى حيث يتضحَّى النَّهار (¬1). وكان - رحمه الله - عديمَ البطش، قليلَ المقايلة على الإساءة، وله في ذلك أخبار. وكان يحاسب نفسَه على الكلام، ويأخذ عليها بالمَلاَم، لكنه تولى القضاء في آخر عمره، وذاق من حلوِّه ومُرِّه، على أنه عزل نفسه مرةً بعد مرة، وتنصَّل منه كَرَّة بعد كرة. وله في القضاء آثار حسنة، منها انتزاعُ أوقافٍ كانت أُخذت وأقتُطِعت، ومنها أن القضاة كان يُخْلَع عليهم الحرير، فخُلِع على الشيخ الصوف فاستمر، وكان يكتب إلى النواب يُذكِّرهم ويحذِّرهم (¬2). وكان - رحمه الله - كريماً جواداً سخياً، ومن طريف ما يحكى في ذلك: ما ذكره محمد بن الحواسيني الفَرضِي القوصي، وكان من طلبة ¬

_ (¬1) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 351). (¬2) انظر: "الطالع السعيد" (ص: 596 - 597)، و"رفع الإصر" لابن حجر (ص: 396).

الحديث، وأقام بالقاهرة مدة في زمن الشيخ، قال: كان الشيخ يعطيني في كل وقت شيئاً، فأصبحت يوماً مُفلساً، فكتبت ورقة وأرسلتها إليه وفيها: "المملوك محمد القوصي أصبح مضروراً"، فكتب لي بشيء، ثم ثاني يوم كتبت: "المملوك ابن الحواسيني"، فكتب لي بشيء، ثم ثالث يوم كتبت: "المملوك محمد"، فطلبني وقال لي: من هو ابن الحواسيني؟ فقلت: المملوك، قال: ومن هو القوصي؟ قلت: المملوك، قال: تدلِّس عليَّ تدليسَ المحدثين؟! قلت: الضرورة. فتبسم وكتب لي (¬1). وكان الشيخ يقول: ضابطُ ما يُطلبُ مِنِّي أنْ يجوزَ شرعاً، ثم لا أبخل (¬2). وكان - رحمه الله - متحرّزاً جداً في أمر النجاسة، مشدِّداً على نفسه، وله في ذلك حكاياتٌ ووقائعُ عجيبة (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 576 - 577). (¬2) المرجع السابق، (ص: 577). (¬3) قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (4/ 1482): وكان في أمر الطهارة والمياه في نهاية الوسوسة - رضي الله عنه -. وقال الصفدي في "الوافي بالوفيات" (4/ 138): قد قهره الوسواسُ في أمر المياه والنجاسة، وله في ذلك حكايات ووقائع عجيبة. وقال التجيبي في "مستفاد الرحلة" (ص: 17): وكان رحمه الله قد التزم التشديد والتضييق على نفسه في العبادات، وبالغ في ذلك، حتى ربما أفضى به الأمر إلى وسواس يعتريه في خاصَّةِ نفسه، لا يفتي به الناس، فتلحقه منه =

وكان - رحمه الله - عزيزَ النفس، خفيفَ الروح، لطيفاً، على نسك وورع، ودين متَّبع، ينشد الشعر والزَّجَل والمُوشَّح، وكان يستحسن ذلك، رحمه الله تعالى ورضي عنه. بحسبك أنِّي لا أرى لك عائباً ... سوى حاسدٍ والحاسدون كثير ¬

_ = مشقةٌ عظيمة. قال تلميذُه قطب الدين الحلبي - فيما نقله عنه الذهبي في "التذكرة" (4/ 1483) -: وبلغني أن جده لأمه الشيخ الإمام المحقق تقي الدين بن المقترَح كان يشدد في الطهارة ويبالغ، انتهى. قلت: هذا ما ذكره من ترجم للإمام ابن دقيق العيد، وكذا قال غيرهم ممن ترجم له، وأنا أذكر هاهنا فائدة جليلة تمُتُّ بصلة وثيقة إلى ما نحن فيه، نقلتها من فوائد الشيخ ابن دقيق في كتابنا هذا، وهي التفرقة بين الورع والوسوسة. قال رحمه الله (4/ 204 - 205): والفرق بين الوسواس والورع دقيق عَسِر، فالمتساهل يجعل بعضَ الورعِ وسواساً، والمشدِّد يجعل بعض الوسواس ورعاً، والصراط المستقيم دَحضٌ مَزِلَّة. ومما ينبغي أن يفرق به بينهما: أن كل ما رجع إلى الأصول الشرعية فليس بوسواسٍ، ولا أريد الأدلة الشرعية البعيدة العموم، انتهى. وعندما تكلم - رحمه الله - في قاعدة الاقتصاد في المصالح والطاعات، قال أثناء كلام له (5/ 93): وهاهنا أمر دقيق عسِر في العلم به وفي العمل في مواضع: منها الفرق بين الورع والوسواس، فإن الوسواس مذموم، والورع محمود، وآخر كل مرتبة تلي الأخرى، وأول الأخرى تلي آخر الأولى. ثم قال: فهذا هو العَسِر في معرفة التوسط علماً وعملاً، حيث تتقارب المراتب، فأما إذا تباعدت، فلا إشكال، انتهى. قلت: ليُتأَملْ كلام الإمام ابن دقيق رحمه الله الذي ذكرتُه، مع ما قيل من أمر تشدده ووسوسته، وأن يزان ما قيل عنه في هذا الباب بقسطاس مستقيم، والله أعلم بحقيقة الحال، وإليه سبحانه المرجع والمآل.

المبحث الثالث علم الإمام ابن دقيق رحمه الله وبلوغه رتبه الاجتهاد

المبحث الثَّالث * علم الإمام ابن دقيق رحمه الله: تفرد الإمام ابن دقيق العيد في علوم كثيرة، فكان حافظاً مُكْثراً، إلا أن الرواية عَسُرت عليه لقلة تحديثه، فإنه كان شديدَ التحرِّي في ذلك (¬1)، وكان خبيراً بصناعة الحديث، وهو إمام الدنيا في فقه الحديث والاستنباط (¬2). قال الذهبي: أربعة تعاصروا: التقي ابن دقيق العيد، والشرف الدمياطي، والتقي ابن تيمية، والجمال المزي، قال الذهبي: أعلمهم بعلل الحديث والاستنباط ابن دقيق العيد، وأعلمهم بالأنساب الدمياطي، وأحفظهم للمتون ابن تيمية، وأعلمهم بالرجال المزي (¬3). وكان - رحمه الله - يحقق المذهبين المالكي والشافعي تحقيقاً عظيماً، وله اليد الطولى في الفروع والأصول، وفي تصانيفه من الفروع الغريبة والوجوه والأقاويل ما ليس في كثير من المبسوطات، ولا يعرفه كثيرٌ من النَّقَلة (¬4)، وكان لا يسلك المِراء في بحثه، بل يتكلم ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (9/ 212). (¬2) المرجع السابق، (9/ 244). (¬3) نقله السيوطي في "تدريب الراوي" (2/ 405) فقال: رأيت في "تذكرة" صاحبنا الحافظ جمال الدين سبط ابن حجر، فذكره. (¬4) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 580).

كلماتٍ يسيرةً بسكينة ولا يُراجَع (¬1). وكان - رحمه الله - في نقده وتدقيقه لا يُوازى، حتى قال الشيخ صدر الدين بن الوكيل: إذا نَقَد وحرَّر فلا يوفيه أحد (¬2). فإنه كان - رحمه الله - صحيحَ الذهن، كما قال علاء الدين الباجي (¬3). وله - مع ذلك - النظم الفائق، المشتمل على المعنى البديع واللفظ الرائق، السهل الممتنع، والمنهج المستعذب المنبع، والذي يصبو إليه كلُّ فاضل، ويستحسنه كلُّ أديب كامل. وله أيضاً نثر أحسن من الدرر، ونظم ابهج من عقود الجوهر، ولو لم يكن له إلا ما تضمنته خطبةُ "شرح الإلمام"، لشهد له من الأدب بأوفر الأقسام (¬4). قال الحافظ ابن حجر: ومما يدل على تقدم الشيخ تقي الدين في العلم: أن زكي الدين عبد العظيم بن أبي الأصبغ صاحبَ البديع، ذكره في كتابه فقال: ذكرت للفقيه الفاضل تقي الدين محمد بن علي بن وهب القشيري - أبقاه الله تعالى -، وهو من الذكاء والمعرفة على حالة لا أعرف أحداً في زمني عليها، وذكرت له عدة وجوه المبالغة فيها، وهي عشرة، ولم أذكرها مفصَّلة، وغِبتُ عنه قليلاً ثم اجتمعتُ به، فذكر لي أنه استنبط فيها أربعةً وعشرين وجهاً من المبالغة؛ يعني في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}، ¬

_ (¬1) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 349). (¬2) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 581). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) المرجع السابق، (ص: 587، 589).

فسألته أن يكتبَها لي، فكتبها لي بخطه، وسمعتُها منه بقراءتي، واعترفت له بالفضل في ذلك، انتهى. قال الحافظ: وقد عاش تقي الدين بعد ابن أبي الأصبغ زيادة على أربعين سنة (¬1). وكان من العلم بحيث يقضى ... له من كل علم بالجميع قلت: وهذا كلُّه - بعد توفيق الله - نِتاج هِمَّة قعَساء في إدامة المطالعة، والمثابرة والمصابرة في تحصيل العلم، حكى الشيخ زين عمر الدمشقي المعروف بابن الكِتَّاني قال: دخلت عليه بكرة يوم، فناولني مجلدة وقال: هذه طالعتُها في هذه الليلة التي مضت (¬2). قال الأُدفُوي: رأيت خزانة المدرسة "النجيبة" بقوص، فيها جملة كتب؛ من جملتها: "عيون الأدلة" لابن القصَّار في نحو من ثلاثين مجلدة، وعليها علامات له، وكذلك رأيت كتب المدرسة "السابقية"؛ رأيت على "السنن الكبير" للبيهقي فيها في كل مجلدة علامة، وفيها "تاريخ الخطيب" كذلك، و"معجم الطبراني الكبير"، و"البسيط" للواحدي، وغير ذلك (¬3). وأخبر الشيخ الفقيه سراج الدين الدَّندري: أنه لما ظهر "الشرح الكبير" - وهو فتح العزيز في شرح الوجيز - للرافعي، اشتراه بألف درهم، وصار يصلِّي الفرائضَ فقط، واشتغل بالمطالعة، إلى أن أنهاه مطالعة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 351 - 352). (¬2) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 580). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

بلوغه رتبه الاجتهاد

ثم بعد ذلك حُقَّ له أن يقول: ما خرجت من باب من أبواب الفقه واحتجت أن أعودَ إليه (¬1). * بلوغهُ رتبه الاجتهاد: كان الإمام ابن دقيق - رحمه الله - من أذكى الأئمة قريحةً، وقد بلغ - رحمه الله - في العلم قرنَ الكَلأ (¬2)، فقال عن نفسه رحمه الله: وافق اجتهادي اجتهادَ الشافعي إلا في مسألتين. قال الصفدي: وحسبك بمن يتنزَّل ذهنُه على ذهن الشافعي (¬3). وقال الصَّفَدِي: وما أُراه إلا أنه بعثه الله تعالى على رأس المئة ليجدد لهذه الأمة دينَهم (¬4). قال الذهبي: وقد كان على رأس السبع مئة شيخُنا أبو الفتح ابن دقيق العيد (¬5). قال السُّبكي: ولم ندرك أحداً من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبع مئة المشار إليه في الحديث المصطفوي النبوي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أستاذُ زمانِه علماً وديناً (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) أي: غايته وحدَّه. (¬3) انظر: "الوافي بالوفيات" للصفدي (4/ 138). (¬4) المرجع السابق، (4/ 140). (¬5) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (14/ 203). (¬6) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (9/ 209).

وقد كُتب له "بقية المجتهدين"، وقُرِئ بين يديه، فأقرَّ عليه، ولا شك أنه من أهل الاجتهاد، وما يُنازِعُ في ذلك إلا من هو من أهل العناد. ومن تأمَّل كلامَه علم أنه أكثرُ تحقيقاً وأمتنُ، وأعلم من بعض المجتهدين فيما تقدم وأتقن (¬1). بحسبك أني لا أرى لك عائباً ... سوى حاسد والحاسدون كثير ¬

_ (¬1) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 569). قلت: قال الذهبي في "السير" (14/ 253): "وإن جعلتَ (من يجدد) لفظًا يصدق على جماعة وهو أقوى"، انتهى. قلت: فيكون على رأس السبع مئة الإمام ابن دقيق العيد، وشيخ الإسلام ابن تيميةْ، والإمام شرف الدين الدمياطي، والحافظ البرزالي، وعلم الحفاظ المزي، ومؤرخ الإسلام الذهبي، وخاتمة المحققين ابن القيم، والإمام المفسر ابن كثير، والفاضل المحقق ابن رجب، وغيرهم رحمهم الله.

المبحث الرابع مشاهير شيوخه

المبحث الرابع مشاهير شيوخه 1 - ابن المقيَّر: الإمام المسند الصالح، رحلة الوقت، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن منصور بن المقيَّر البغدادي الأَزْجي الحنبلي، كان شيخاً صالحاً، كثير التهجد والعبادة والتلاوة، وكان مشتغلاً بنفسه. قال التَّجيبي في "مستفاد الرحلة" (¬1): وهو أقدم من سمع عليه سناً (¬2). توفي سنة (643 هـ) (¬3). 2 - المنذري: الحافظ الكبير، والإمام الثبت النحرير، عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة، أبو محمد المنذري الشامي المصري. ¬

_ (¬1) (ص: 19). (¬2) فائدة: قال العراقي في "شرح الألفية" (2/ 86): وكان الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد لا يجيز رواية سماعه كله، بل يقيده بما حدث به من مسموعاته. هكذا رأيته بخطه في عدة إجازات، ولم أر له إجازة تشمل مسموعه؛ وذلك أنه شك في بعض سماعاته، فلم يحدث به ولم يجزه، وهو سماعه على ابن المقيَّر، فمن حدث عنه بإجازته منه بشيء مما حدث به من مسموعاته، فهو غير صحيح، انتهى. قال السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 354): وأما امتناع ابن دقيق العيد من التحديث عن ابن المقيَّر مع صحة سماعه منه؛ لكونه شك هل نعس حال السماع أم لا؛ فلورعه، فقد كان من الورع بمكان رحمه الله. (¬3) نظر: "سير أعلام النبلاء" (23/ 119)، و"العبر" كلاهما للذهبي (5/ 178)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (21/ 24)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (5/ 223).

3 - العز بن عبد السلام

كان عديمَ النظير في معرفة علم الحديث على اختلاف فنونه، عالماً بصحيحه وسقيمه، ومعلوله وطرقه، متبحراً في معرفة أحكامه ومعانيه ومشكله. له تصانيف عدة منها: "الترغيب والترهيب"، و"مختصر مسلم"، و"مختصر سنن أبي داود". قال السبكي: وبه تخرَّج أبو محمد الدِّمياطي، وإمام المتأخرين تقي الدين ابن دقيق العيد. توفي سنة (656 هـ) (¬1). 3 - العز بن عبد السلام: شيخ الإسلام، وحيد عصره، وسلطان العلماء، عبد العزيز بن عبد السلام، أبو محمد السلمي الدمشقي ثم المصري الشافعي. برع في الفقه والأصول، ودرَّس وأفتى وصنف، وبلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب مع الزهد والورع، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة فِي الدين. قال عنه الشيخ ابن دقيق: كان ابنُ عبد السلام أحدَ سلاطين العلماء، ويقال: إن ابن دقيق هو أول من لقَّبه بـ: سلطان العلماء. ويحكى أن ابن عبد السلام كان يقول: ديار مصر تفتخر برجلين في طرفيها: ابن منيِّر بالإسكندرية، وابن دقيق العيد بقوص. توفي سنة (660 هـ) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (8/ 259)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 111)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (19/ 10)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 504)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (5/ 277). (¬2) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (8/ 209)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 109)، و"العبر" للذهبي (5/ 260)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (13/ 235).

4 - رشيد الدين بن العطار

4 - رشيد الدين بن العطار: الإمام الحافظ الثقة، رشيد الدين أبو الحسين يحيى بن علي بن عبدالله القرشي الأموي النابلسي المصري المالكي. حصَّل الأصول، وتقدم في الحديث، وولي مشيخة الكاملية ست سنين. وكان ثقة مأموناً، متقناً حافظاً، حسن التخريج. توفي سنة (662 هـ) (¬1). 5 - الفخر بن البخاري: مسند الدنيا، أبو الحسن علي بن أحمد ابن عبد الواحد الفخر بن البخاري السَّعْدي المقدسي الصالحي الحنبلي. طال عمُره، ورحل الطلبة إليه من البلاد، وألحق الأسباط بالأجداد في علوِّ الإسناد، وقد تفرد في الدنيا بالرواية العالية. قال الذهبي: قال شيخنا ابن تيمية: ينشرح صدري إذا أدخلتُ ابن البخاري بيني وبين النبي - رضي الله عنه - في حديث. توفي سنة (690 هـ) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تذكرة الحفاظ" (4/ 1443)، و"العبر" كلاهما للذهبي (5/ 271)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 505)، - و"شذرات الذهب" لابن العماد (5/ 311). (¬2) انظر: "العبر" للذهبي (5/ 368)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (20/ 121)، و"المقصد الأرشد" لابن مفلح (2/ 210)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (5/ 414).

المبحث الخامس مشاهير تلامذته

المبحث الخامس مشاهير تلامذته 1 - نجم الدين بن الرِّفعة الشافعي: الإمام العلامة، أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع أبو العباس المصري الشافعي، حامل لواء الشافعية في زمانه، كان فقيهاً فاضلاً، وإماماً في علوم كثيرة، وقد أثنى عليه الإمام ابن دقيق، وكان يعظِّمه، ويقول له إذا خاطبه: يا فقيه (¬1). وله تصانيف لطاف؛ منها: "المطلب في شرح الوسيط" وهو أعجوبة في كثرة النصوص والمباحث، ومنها: "الكفاية في شرح التنبيه" وقد فاق به على الشروح السابقة. توفي سنة (710 هـ) رحمه الله تعالى (¬2). 2 - علاء الدين الباجي: الإمام الفقيه المتقن، علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطَّاب الباجي المغربي المصري، إمام الأصوليين في ¬

_ (¬1) قال السبكي: كان الإمام ابن دقيق يخاطب عامةَ الناس؛ السلطانَ فمن دونَه بقوله: يا إنسان، وإن كان المخاطب فقيهاً كبيراً قال: يا فقيه، وتلك كلمة لا يسمح بها إلا لابن الرفعة ونحوه. انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" (9/ 212). (¬2) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (9/ 24)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (14/ 60)، و"الدرر الكامنة" لابن حجر (1/ 236)، و"مرآة الجنان" لليافعي (4/ 249)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (6/ 22)، و"البدر الطالع" للشوكاني (1/ 115).

3 - تاج الدين الفاكهاني

زمانه، وكان عمدة في الفتوى، قال بعض أصحابه: كان لا يفتي بمسألة حتى يقوم عنده الدليلُ عليها، فإن لم ينهض عنده، قال: مذهب الشافعي كذا، أو الأصح عند الأصحاب كذا، ولا يجزم. وكان الإمام ابن دقيق العيد يقول له: يا إمام، ويخصُّه بها. وكان يقول أيضاً: علاء الدين الباجي يُطْلَق عليه عالم. توفي سنة (714 هـ) (¬1). 3 - تاج الدين الفاكهاني: الإمام الفقيه الفاضل، أبو حفص عمر بن علي بن سالم بن عبد الله اللخمي الإسكندراني المالكي، صنف شرح العمدة في الأحكام (¬2)، ومَهَر في العربية، وكان إماماً متفنناً في الحديث والفقه والأصول، وكان على حظ وافر من الدين المتين، والصلاح، واتباع السلف الصالح. توفي سنة (731 هـ) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (10/ 339)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (21/ 299)، و"الدرر الكامنة" لابن حجر (4/ 120)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (6/ 34). (¬2) سماه: "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام"، وهو كثير النقل عن شيخه ابن دقيق في كتابيه "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام"، و"شرح الإلمام"، وقد أكثر في ذكر المباحث والاستدلالات من "شرح الإلمام" خصوصاً، وتارة يذكر شيخه باسمه، وتارة يرمز له بحرف (ق)، والكتاب كثير الفوائد، جم العوائد. وقد قارب الأخ والشيخ الفاضل نور الدين طالب من إنهاء تحقيقه وإخراجه إلى حيز المطبوع، نسأل الله له التوفيق والسَّداد. (¬3) انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (14/ 168)، و"الدرر الكامنة" لابن حجر (4/ 209)، و"الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 186)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (6/ 96).

4 - ابن سيد الناس

4 - ابن سَيِّد الناس: الحافظ العلامة المتفنن، والأديب المشهور، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد أبو الفتح فتح الدين اليعمُري الشافعي. لازم ابن دقيق، وتخرج عليه في أصول الفقه، وأعاد عنده، وكان يحبه ويؤثره، ويسمع كلامه ويثني عليه، ويركن إلى نقله، قال عماد الدين بن القيسراني: كان ابن دقيق إذا حَضَرْنا درسه، وجاء ذكر أحد من الصحابة والرجال قال: أيش ترجمة هذا يا أبا الفتح؟ فيأخذ في الكلام ويسرد، والناس سكوت، والشيخ مُصْغٍ إلى ما يقول. قال الأُدفُوي: وشرع لشرح الترمذي، ولو اقتصر فيه على فن الحديث من الكلام على الأسانيد لكمل، لكنه قصد أن يتبع شيخه ابن دقيق العيد، فوقف دون ما يريد. توفي سنة (734 هـ) (¬1). 5 - قطب الدين الحلبي: الحافظ المتقن المقرئ المجيد، عبد الكريم بن عبد النور بن منيِّر، أبو علي الحلبي ثم المصري، مفيد الديار المصرية، كان كيِّساً متواضعاً، غزيرَ المعرفة، متقناً لما يقول، اختصر كتاب "الإلمام" لابن دقيق في كتاب سماه ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (9/ 268)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 295)، و"الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 476)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (1/ 219)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 523)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (6/ 108).

6 - المزي

"الاهتمام"، وهو حسنٌ خالٍ عن الاعتراضات الواردة على "الإلمام" مع الإثبات لما فيه (¬1). وشرح سيرة عبد الغني، وشرح معظم صحيح البخاري. توفي سنة (735 هـ) (¬2). 6 - المزي: الإمام العلامة، الحافظ الكبير، وعمدة الحفاظ، أعجوبة الزمان، أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف المزي الشافعي. قال الذهبي: كان خاتمة الحفاظ، وناقد الأسانيد والألفاظ، وهو صاحب معضلاتِنا، وموضح مشكلاتنا، وكان محباً للآثار، معظماً لطريقة السلف. وله تصانيف تدل على سعة علمه، وحسن معرفته، ولو لم يكن له إلا "تهذيب الكمال" لكفاه. توفي سنة (742 هـ) (¬3). 7 - الذهبي: الحافظ الكبير، مؤرخ الإسلام، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الدمشقي، كان علامة زمانه في الرجال وأحوالهم، حديد الفهم، ثاقب الذهن، جمع "تاريخ الإسلام" فأربى ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (6/ 249). وقد طبع كتابه بمؤسسة الكتب الثقافية ببيروت سنة (1410 هـ)، بإشراف حسام رياض. (¬2) انظر: "المعجم المختص" للذهبي (ص: 106)، و"الدرر الكامنة" لابن حجر (3/ 198)، و "طبقات الحنفية" لابن أبي الوفاء (ص: 325)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 523)، و "شذرات الذهب" لابن العماد (6/ 110). (¬3) انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (10/ 395)، و "الدرر الكامنة" لابن حجر (6/ 228)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 521)، و "شذرات الذهب" لابن العماد (6/ 136).

فيه على من تقدم بتحرير أخبار المحدثين خصوصاً، واختصر منه مختصرات كثيرة منها: "العبر"، و"سير أعلام النبلاء"، و"تذكرة الحفاظ"، و"طبقات القراء"، وغير ذلك. قال رحمه الله عن نفسه: "والجماعة يتفضَّلون ويثنون عليه، وهو أَخْبرُ بنفسه في العلم، والله المستعان ولا قوة إلا به، وإذا سلم لي إيماني فيا فوزي". توفي سنة (748 هـ) (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المعجم المختص" له (ص: 71)، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (9/ 100)، و"الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 66)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (2/ 114)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 521). قلت: والذهبي رحمه الله كثير الاعتداد بأقوال شيخه ابن دقيق رحمه في علم الحديث والمصطلح، فتراه كثيراً ما يقول: قال شيخنا ابن دقيق، أو شيخنا أبو الفتح، وغير ذلك. ومن طريف ما يذكر في ابتداء تتلمذ الإمام الذهبي على الإمام ابن دقيق ما ذكره السبكي في ترجمة الذهبي من "طبقات الشافعية" (9/ 102) قال: لما دخل الذهبي إلى شيخ الإسلام ابن دقيق العيد - وكان المذكور شديد التحري في الإسماع - قال له: من أين جئت؟ قال: من الشام، قال: بم تُعرف؟ قال: بالذهبي، قال: من أبو طاهر الذهبي؟ فقال له: المخلِّص، فقال: أحسنت. فقال: من أبو محمد الهلالي؟ قال: سفيان بن عيينة، قال: أحسنت، اقرأ، ومكَّنه من القراءة عليه حينئذ؟ إذ رآه عارفاً بالأسماء.

المبحث السادس تصانيفه

المبحث السادس تصانيفه صنَّف الإمامُ ابنُ دقيق العيد التصانيفَ البديعة المفيدة، الدالَّةَ على سعة علمه، أتى فيها بكثير من الفروع الغريبة، والوجوه والأقاويل، مما ليس في كثير من المبسوطات، ولا يعرفه كثيرُ من النَّقَلة (¬1)، ومن أشهر هذه المؤلفات: 1 - " الإمام في معرفة أحاديث الأحكام": وهو كتاب لا نظير له في جمع طرق الحديث على الأبواب الفقهية، وجمع شواهده، وشرح غريبه، وضبط مشكله. قال عنه مؤلِّفُه رحمه الله: ما وقفت على كتاب من كتب الحديث وعلومه المتعلقة به، سُبِقتُ بتأليفه وانتهى إليَّ، إلا وأودعت منه فائدة في هذا الكتاب، إلا ما كان من كتاب "التاريخ الكبير" للإمام أبي عمر الصَّدَفي، فإني لم أره (¬2). وقال عنه أيضاً: أنا جازم أنه ما وضع في هذا الفنِّ مثلُه (¬3). وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: هو كتاب الإسلام. ¬

_ (¬1) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 581). (¬2) انظر: "مقدمة الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" (1/ 52) نقلاً عن "ملء العيبة" لابن رُشيد (3/ 260). (¬3) "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 575).

2 - "الإلمام بأحاديث الأحكام"

وقال أيضاً: ما عمل أحدٌ مثله، ولا الحافظ الضياء، ولا جَدِّي أبو البركات (¬1). وقال عنه تاج الدين السُّبكي: ومن مصنفاته كتاب "الإمام" في الحديث، وهو جليل حافل، لم يُصنَّفْ مثلُه (¬2). ويقال: إن أكثر الكتاب قد عُدِم - حسداً - بعده، ولم يبق منه إلا الجزءُ الأول من الطهارة. ويقال: إن ابن دقيق لم يبيض منه إلا القطعة الموجودة بين يدي الناس. قال الأُدفُوي: لو كملت نسختُه في الوجود، لأغنت عن كل مُصنَّف في ذلك موجود (¬3). 2 - " الإلمام بأحاديث الأحكام": وهو من أجلِّ كتاب وضع في أحاديث الأحكام، يحفظه المبتدئ المستفيد، ويناظر فيه الفقيه المفيد (¬4). قال عنه المؤلف رحمه الله: صنفت مختصراً لتحفيظ الدارسين، وجمعت رأس مال لإنفاق المدرسين (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 575 - 576). (¬2) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (9/ 212). (¬3) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 575). هذا وقد اضطلع الشيخ الفاضل سعد بن عبد الله آل حميد بأعباء تحقيقه، وأخرج القطعة الموجودة منه في أربع مجلدات مجوَّدات. (¬4) انظر: "الاهتمام بتلخيص كتاب الإلمام" لقطب الدين الحلبي (ص: 5). (¬5) انظر: (1/ 6) من هذا الكتاب.

وقال: وشرطي فيه ألا أوردَ إلا حديثَ من وثّقه إمامٌ من مُزكِّي رواة الأخبار، وكان صحيحاً على طريقة بعض أهل الحديث الحفاظ، أو بعض أئمة الفقهاء النظَّار، فإن لكل منهم مغزى قَصَدَه وسلكه، وطريقاً أعرض عنه وتركه، وفي كل خير (¬1). قال الأدفوي: وكان كتابه "الإلمام" حاز على صغر حجمه من هذا الفن جملة من علمه (¬2). قال السبكي: واعلم أن الشيخ تقي الدين - رضي الله عنه - توفي ولم يبيِّض كتابه "الإلمام"، فلذلك وقعت فيه أماكن على وجه الوهم وسبق الكلام (¬3). قال الحافظ قطب الدين الحلبي في كتابه "الاهتمام بتلخيص كتاب الإلمام": وكان شيخنا - رحمه الله - لما جمع كتاب "الإلمام"، أملاه على من لم يكن الحديث من شأنه، وتارة كان يكتبه في أوراق بخطه، وكان خطه معلقاً، ويعطيه للنساخ، فيكتب كلُّ إنسان من النساخ ما قدر عليه، فبسبب ذلك وقع في كتاب "الإلمام" مواضع لم يصوبها الناسخ، ولم تُقرأ على الشيخ بعد ذلك. قال: وصححت في هذا التلخيص ما قدرت من ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة خطبته لهذا الكتاب (1/ 26). (¬2) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 576). (¬3) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (9/ 246). (¬4) انظر: "الاهتمام" له (ص: 7).

3 - "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام"

كما اختصر الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي كتاب "الإلمام" في كتابه الموسوم بـ "المحرر في الحديث"، فجوَّده جداً (¬1). 3 - " إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام": وهو من أجلِّ شروح "عمدة الأحكام" للحافظ عبد الغني المقدسي، إن لم يكن أجلَّها على الإطلاق؛ لِمَا اشتمل عليه من مباحث دقيقة، واستنباطات عجيبة. قال الأُدفُوي: ولو لم يكن له إلا ما أملاه على "العمدة"، لكان عمدة في الشهادة بفضله، والحكم بعلو منزلته في العلم ونبُله (¬2). وقال ابن فرحون: أبان فيه عن علم واسع، وذهن ثاقب، ورسوخ في العلم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 62). * فائدة: ذكر الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (1/ 259) أن المحدث شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد العرياني المتوفى سنة (778 هـ) قد شرح "الإلمام" لابن دقيق العيد. وذكر السخاوي في "الضوء اللامع" (9/ 307) أن الحافظ تاج الدين محمد ابن محمد الكركي الغرابيلي المتوفى سنة (835 هـ) قد شرع في "شرح الإلمام". وذكر السخاوي أيضاً (10/ 309) أن الشيخ يوسف بن الحسن، أبو المحاسن الحموي الشافعي، المعروف بابن خطيب المنصورية المتوفى سنة (809 هـ) قد شرح كتاب "الاهتمام بتلخيص الإلمام" في ست مجلدات. (¬2) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 575). (¬3) انظر: "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 325).

4 - "شرح مختصر ابن الحاجب في الفقه"

4 - " شرح مختصر ابن الحاجب في الفقه": وقد شرحه شرحاً عظيماً حتى قال الحافظ قطب الدين الحلبي: لم أر في كتب الفقه مثله (¬1)، قال فيه في مقدمته: وحق أن نشرح هذا الكتاب شرحاً يُعِين الناظرين على فكِّ لفظه، وفهم معانيه على وجه يسهل للماهر مساغه وذوقه، ويرفع القاصد فيلحقه بدرجة من هو فوقه، ويسلك سبيل معرفته ذللاً، ويدرك به ناظرُه من وضوحه أملاً (¬2). قال ابن فرحون: ذكر لي شيخنا أبو عبد الله بن مرزوق: أنه بلغه أن الشيخ تقي الدين وصل في شرح ابن الحاجب إلى كتاب الحج. والذي وقع لي منه إلى آخر التيمم، وأظنه بلغ إلى كتاب الصلاة (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 1482). (¬2) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (9/ 237). وقد أثبت السبكي خطبة ومقدمة الإمام ابن دقيق لكتابه هذا، وفيها تظهر المَلَكة الأدبية والعلمية لهذا الإمام، وهي حقيقة بالقراءة. والمطالعة، فلتنظر في موضعها للإفادة منها. (¬3) انظر: "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 325). وللإمام ابن دقيق رحمه الله غير ذلك من المؤلفات النافعة، فمن أراد الوقوف على أسماء مؤلفاته مجموعة، فلينظر مقدمة الدكتور عامر حسن صبري لكتاب "الاقتراح"، والله ولي التوفيق.

المبحث السابع ثناء الأئمة والعلماء عليه

المبحث السابع ثناء الأئمة والعلماء عليه 1 - قال البرزالي: مجمع على غزارة علمه، وجودة ذهنه، وتفننه في العلوم، وهو خبير بصناعة الحديث، عالم بالأسماء والمتون واللغات والرجال، وله اليد الطُّولى في الأصلين والعربية والأدب (¬1). 2 - قال ابن الزملكاني: إمام الأئمة في فنه، وعلامة العلماء في عصره، بل ولم يكن من قبله من سنين مثله في العلم والدين والزهد والورع، تفرد في علوم كثيرة، وكان يعرف التفسير والحديث، وكان يحقق المذهبين تحقيقاً عظيماً، ويعرف الأصلين والنحو واللغة، وإليه النهاية في التحقيق والتدقيق والغوص على المعاني، أقرَّ له الموافق والمخالف، وعظَّمته الملوك، وكان صحيحَ الاعتقاد، قوياً في ذات الله، وليس الخبر كالعِيَان (¬2). 3 - قال ابن سيد الناس: لم أر مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلَّ منه فيما رأيت ورويت، وكان للعلوم جامعاً، وفي فنونها بارعاً، مُقدَّماً في معرفة علل الحديث على أقرانه، منفرداً بهذا الفن النفيس في زمانه، بصيراً بذلك، سديدَ النظر في تلك المسالك، بأذكى ألمعيَّة، وأزكى لوذعيَّة، لا يُشَق له غبار، ولا يجري معه سواه في مِضْمار، ¬

_ (¬1) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 349). (¬2) المرجع السابق، (5/ 350).

4 - قال قطب الدين الحلبي

وكان حسنَ الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، وفكر يفتح له ما يستغلق على غيره من الأبواب، مستعينا على ذلك بما رواه من العلوم، مستبيناً ما هنالك بما حواه من مدارك الفهوم، مُبَرِّزاً في العلوم النقلية والعقلية، والمسالك الأثرية، والمدارك النظرية (¬1). 4 - قال قطب الدين الحلبي: كان ممن فاق بالعلم والزهد، عارفاً بالمذهبين، إماماً في الأصلين، حافظاً في الحديث وعلومه، يُضْرب به المثل في ذلك، وكان آية في الإتقان والتحري، شديدَ الخوف، دائمَ الذِّكر (¬2). 5 - قال الذهبي: قاضي القضاة، شيخ الإسلام، كان إماماً عديم النظير، ثخين الورع، متين الديانة، متبحراً في العلوم، قلَّ أن ترى العيونُ مثلَه (¬3). وقال أيضاً: الإمام الفقيه المجتهد، المحدث الحافظ العلامة، شيخ الإسلام (¬4). 6 - قال الأُدفُوي: الشيخ الإمام، علامة العلماء الأعلام، وراوية فنون الجاهلية وعلوم الإسلام، ذو العلوم الشرعية، والفضائل ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (9/ 207)، و"الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 569). (¬2) انظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 1482)، و"الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 349). (¬3) انظر: "المعجم المختص" للذهبي (ص: 168). (¬4) انظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 1481).

7 - قال تاج الدين السبكي

العقلية، والفنون الأدبية، والباع الواسع في استنباط المسائل، والأجوبة الشافية لكل سائل، والاعتراضات الصحيحة التي يجعلها الباحث لتقرير الإشكالات وسائل، والخُطَب الصادعة الفصيحة البليغة التي تُستفاد منها الرسائل (¬1). 7 - قال تاج الدين السبكي: الشيخ الإمام، شيخ الإسلام، الحافظ الزاهد الورع النَّاسك، المجتهد المُطْلَق، ذو الخبرة التامة بعلوم الشريعة، الجامع بين العلم والدين (¬2). 8 - قال ابن كثير: الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ، قاضي القضاة، انتهت إليه رياسة العلم في زمانه، وفاق أقرانه، ورحل إليه الطلبة (¬3). 9 - قال الصَّفَدِي: الشيخ الإمام العلامة، شيخ الإسلام، أحد الأعلام، قاضي القضاة، كان إماماً متفنناً محدثاً مجوداً، فقيهاً مدققاً أصولياً، أديباً نحوياً شاعراً ناثراً، ذكياً، غوَّاصاً على المعاني، مجتهداً، قل أن ترى العيونُ مثلَه (¬4). 10 - قال ابن ناصر الدين الدمشقي: الحافظ العلامة الإمام، أحد شيوخ الإسلام، كان إماماً حافظاً فقيها مالكياً شافعياً، ليس له ¬

_ (¬1) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 568). (¬2) انظر: "طبقات الشافعية" للسبكي (9/ 207). (¬3) انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (14/ 27). (¬4) انظر: "الوافي بالوفيات" للصفدي (4/ 137).

11 - قال السيوطي

نظير، وكان آية في الإتقان والتحري والتحرير (¬1). 11 - قال السيوطي: الإمام الفقيه الحافظ، المحدث العلامة، المجتهد، شيخ الإسلام (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "التبيان لبديعة البيان" لابن ناصر الدين (3/ 1438). (¬2) انظر: "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 516).

المبحث الثامن وفاته

المبحث الثامن وفاته ومازال - رحمه الله - في علم يرفعُه، وتصنيفٍ يَضعُه، ومرويٍّ يُسْمِعُه، حتى وافته المنيَّة بالقاهرة المحميَّة بإذنه تعالى، يوم الجمعة من شهر صفر سنة (702 هـ). ودفن من يوم السبت بسفح المُقَطَّم، وكان ذلك يوماً مشهوداً، عزيزاً مثلُه في الوجود، سارع الناس إليه، ووقف جيش ينتظر الصلاة عليه، ورثاه جماعةٌ من الفضلاء والأدباء، رحمه الله تعالى. * * *

المبحث التاسع مصادر الترجمة

المبحثُ التّاسِعُ مصادر الترجمة 1 - " تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 1481). 2 - "المعجم المختص" للذهبي (ص: 168). 3 - "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (9/ 207). 4 - "مستفاد الرحلة والاغتراب" للتجيبي (ص: 16). 5 - "الطالع السعيد" للأُدفُوي (ص: 567). 6 - "الوافي بالوفيات" للصفدي (4/ 137). 7 - "البداية والنهاية" لابن كثير (14/ 27). 8 - "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 230). 9 - "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 324). 10 - "شجرة النور الزكية" لابن مخفوف (1/ 158). 11 - "الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 348). 12 - "رفع الإصر عن قضاة مصر" لابن حجر (ص: 394 - 403). 13 - "التبيان لبديعة البيان" لابن ناصر الدين (3/ 1438). 14 - "ذيل التقييد" لتقي الدين الحسني الفاسي (ص: 191). 15 - "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 516). 16 - "فوات الوفيات"لابن شاكر الكتبي (2/ 401).

17 - "مرآة الجنان" لليافعي (4/ 236). 18 - "النجوم الزاهرة" لابن تغري بردي (8/ 79). 19 - "شذرات الذهب" لابن العماد (6/ 5). 20 - "البدر الطالع" للشوكاني (2/ 229). 21 - "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 135، 158، 417)، (2/ 1157، 1164، 1169، 1176، 1856) 22 - "الأعلام" للزركلي (6/ 283). 23 - "معجم المؤلفين" لكحالة (11/ 70). * ومن الدراسات الحديثة عن الإمام ابن دقيق رحمه الله ومؤلفاته: 1 - " ابن دقيق العيد، حياته وديوانه"، علي صافي حسين، رسالة ماجستير، مقدَّمة في قسم الآداب بجامعة القاهرة سنة (1960 م)، ثم طبعت بعد بدار المعارف بالقاهرة. 2 - "الاقتراح في بيان الاصطلاح"، علي إبراهيم اليحيى، رسالة ماجستير، مقدمة في قسم السنة في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. 3 - "الاقتراح في بيان الاصطلاح"، د. عامر حسن صبري، رسالة ماجستير، مقدمة في كلية الشريعة بجامعة أم القرى، بمكة المكرمة سنة (1402 هـ)، ثم طبعت بعد بدار البشائر الإسلامية ببيروت (¬1). 4 - "آراء ابن دقيق العيد الأصولية في إحكام الأحكام"، خالد محمد العروسي، رسالة ماجستير بجامعة أم القرى. ¬

_ (¬1) وقد تكلم في دراسته لحياة المؤلف رحمه الله بإجادة وإفادة.

5 - "القواعد الأصولية من خلال شرح الإلمام بأحاديث الأحكام" للأخ أحمد خليفة الشرقاوي، رسالة ماجستير، مقدمة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، قسم أصول الفقه سنة (1426 هـ) (¬1). 6 - "أصول الفقه عند ابن دقيق العيد من خلال كتابيه إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام وشرح الإلمام"، تأليف عمر محمد سيد عبد العزيز، طبعة دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي سنة (2007 م) (¬2). 7 - "شرح الإلمام بأحاديث الأحكام"، عبد العزيز السعيد، رسالة ماجستير، مقدمة بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، واشتملت على تحقيق (55) لوحة من أصل الكتاب البالغ عدد لوحاته (309)، وقد طبعتا بدار أطلس بالرياض سنة (1418 هـ)، (1997 م). 8 - ترجمة ابن دقيق العيد، صلاح الدين علي عبد الموجود، طبعة دار السلام. ¬

_ (¬1) وقد وقفت عليها، فرأيت صاحبها قد أحسن في الجمع والدراسة للقواعد الأصولية التي تكلم عنها الإمام ابن دقيق في "شرح الإلمام". (¬2) كنت قد وقفت على هذا الكتاب، فوجدت كاتبه قد نقل فصولاً بحروفها عن غيره دون عزوها لأصحابها، فنقل جلَّ الترجمة للإمام ابن دقيق عن مقدمة الدكتور عامر حسن صبري في كتاب "الاقتراح"، ومقدمة الشيخ سعد آل حميد في كتاب "الإمام".

9 - "ابن دقيق العيد شيخ علماء الصعيد في القرن السابع الهجري"، أحمد موسى القوصي، سنة (1966 م). 10 - "ابن دقيق العيد، عصره، حياته، علومه، وأثره في الفقه"، محمد رامز، عبد الفتاح العزيزي، دار البشير، عمان، 1990 م. * * *

الفصل الثاني دراسة الكتاب

الفَصل الثَّاني دِرَاسَةُ الكِتَابِ

المبحث الأول تحقيق اسم الكتاب

المبحث الأَوَّل تحقيق اسم الكتاب وقع في اسم هذا الشرح خلط كبير عند كثير من المترجمين للإمام ابن دقيق والمصنفين، فذكر جمع: منهم الصفدي، وابن قاضي شُهْبة، وابن العماد، وحاجي خليفة، وغيرهم أن اسمه: "الإمام في شرح الإلمام"، وما زال هذا الاسم شائعاً منتشراً عند كثير من العلماء والطلبة حتى وقتنا هذا. ولعلَّ السبب في ذلك المؤلفات الثلاثة التي صنفها الإمام ابن دقيق، وتداخل أسمائها ومضامينها، وهي: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام"، و"الإلمام بأحاديث الأحكام"، و"شرح الإلمام بأحاديث الأحكام"، مما أدخل كثيراً من المصنفين والطلبة في التخليط بينها والعزو إليها. وقد حرَّر الحافظ ابن حجر في "رفع الإصر" (ص: 395) هذا الإشكال، وأنهى في هذا الباب السِّجال، فقال في ترجمة الإمام ابن دقيق رحمه الله: قرأت بخط صاحبنا الشيخ جمال الدين بن عبدالله بن أحمد البشبيشي الشاهد: أخبرني قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، عن والده، عن أبي حيان النحوي: أن ابن دقيق العيد أكمل "شرح الإلمام"، وأنه جاء في نحو ستين سِفراً، أو أكثر من ذلك، وأن بعض المالكية حقد عليه انتقالَه عن مذهب مالك، وحسد الشافعيةَ

كيف صار منهم، وأنه ارتصد غيبة الشيخ، فصادف فرصة، فأخذ الكتاب، فوضعه في فسقية الصالحية، فلما فقد الشيخ الكتاب تألم، وأصبح الناس، فرأوا ماء الفسقية أسود، فبحثوا عن ذلك، فوجدوا الكتاب داخل الفسقية، وأن القطعة الموجودة بأيدي الناس كان بعض الطلبة انتسخها. قال الحافظ ابن حجر: وفي سياق هذه القصة مجازفات كثيرة، ولقد كنت أسمع شيخنا حافظ العصر أبا الفضل ابن الحسين - يعني: العراقي - يحكي أن الشيخ أكمل "الإمام" فجاء في عشرين مجلداً، وأن بعض المحدثين حسده عليه، فترقَّب وفاته، فأخذ الكتاب فأعدمه. قال الحافظ: وصاحبنا جمال الدين لم يفرق بين "الإمام" وبين "شرح الإلمام"، كأنه كغيره من الطلبة يظن أن "الإمام": "شرح الإلمام"، وليس كذلك، فـ "الإمام" كتاب في أحاديث الأحكام على الأبواب، وكان استمداد "الإلمام" منه؛ والموجود منه قطعة نحو الربع، لكنها مفرقة، وأكثرها من ربع العبادات، وليس فيها شيء من الاستنباط، وإنما يذكر علل الحديث كثيراً، وأما "شرح الإلمام" فهو الذي يوجد منه قطعة من أول الطهارة، انتهى. ومما يؤكد كلام الحافظ رحمه الله: أن المؤلف لم يذكر اسماً لشرحه هذا في مقدمة خطبته للكتاب؛ إذ قال (ص: 6): هذا ولما خرج ما أخرجته من كتاب "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام"، وكان وضعه مقتضياً للاتساع، ومقصوده موجباً لامتداد الباع، عدل قوم عن

استحسان إطابته إلى استخشان إطالته، ثم قال (ص: 7 - 8): غير أن ذلك الكتاب كتاب مطالعة ومراجعة عند الحاجة إليه، لا كتاب حفظ ودرس يُعتكف في التكرار عليه، فصنفت مختصراً لتحفيظ الدارسين، وجمعت رأس مال لإنفاق المدرسين، وسميته بـ "الإلمام بأحاديث الأحكام". ثم قال: وهذا التعليق الذي نشرع فيه الآن بعون النه، فنشرح ما فيه من السنن على وجوه نقصدها، ومقاصد نعتمدها، انتهى. هذا ولم يذكر الحافظ قطب الدين الحلبي ولا الإمام الذهبي، وكذا الأُدفُوي، وابن حجر - كما سلف - والسخاوي اسماً لشرح ابن دقيق العيد هذا. فالصواب في اسم الكتاب - إن شاء الله - هو ما وضع على طرة هذا الكتاب: "شرح الإلمام بأحاديث الأحكام"، والله أعلم، وهو سبحانه ولي التوفيق (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر للاستزادة والتفصيل عن مؤلفات الإمام ابن دقيق العيد الثلاثة وتحرير الكلام عنها: مقدمة الشيخ سعد بن عبد الله آل حميد لكتاب "الإمام" (ص: 23 - 31).

المبحث الثاني بيان صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف

المبحث الثاني بيان صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف إن شهرة هذا الشرح عند العلماء، وكثرة الناقلين والآخذين عنه تغني عن بيانات إثبات صحته إلى مؤلفه، فهذا الفاكهاني قد ملأ كتابه "رياض الأفهام في شرح عمدة أحاديث الأحكام" في الأخذ عن المؤلف المباحث الفقهية والأصولية واللغوية، وهذا الزركشي قد نقل في كتابه "البحر المحيط" فصولاً أصولية وتحقيقات كثيرة، وكذا العراقي في "طرح التثريب"، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري". وقد كنت أنبه في أكثر الأحيان إلى الآخذين والناقلين عنه في تعليقاتي على هذا الشرح. أضف إلى ذلك: 1 - ذكر المؤلف لعدد من مصنفاته والإحالة إليها، كالإمام، والإلمام، وإحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، وشرح مختصر ابن الحاجب. 2 - ذكر المؤلف لعدد من شيوخه في الكتاب؛ كوالده رحمه الله، والحافظ المنذري، والعز بن عبد السلام، وغيرهم. 3 - إثبات السبكي مقدمة هذا الكتاب في "طبقات الشافعية" (¬1)، وكذا الأدفوي في "الطالع السعيد" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: (9/ 230). (¬2) انظر: (ص: 587).

وأخيراً: فإن الاستنباطات الفقهية، والمباحث الحديثية والأصولية المنثورة في هذا الشرح لا تتأتى إلا من أمثال الإمام ابن دقيق رحمه الله، وهي تتناسب مع ملكته الاجتهادية، وقدرته العلمية، رحمه الله تعالى ورضي عنه. * * *

المبحث الثالث منهج المؤلف فى الكتاب

المبحث الثالث منهج المؤلف فى الكتاب قدَّم المؤلف - رحمه الله - لشرحه هذا بمقدمة بالغة في الإجادة، ما وقف عندها أحد إلا اندهش، وطال تعجبُه، ذكر فيها منزلة الفقه في الدين، وتقديم النص على كل ما يخالفه من الأقيسة والأقاويل، ثم ذكر الوجوه والمقاصد التي اعتمدها في شرح الحديث. ثم بعد ذلك تكلم عن خطبة كتابه "الإلمام بأحاديث الأحكام"، وشرحها شرحاً مفضلاً مبيَّناً. وبعد ذلك شرع في شرح أحاديث كتابه "الإلمام" على حسب وضعها وترتيبها. وقد أبان - رحمه الله - عن الوجوه التي يتكلم عنها في شرح الحديث، وأنا أُجملها في خلاصة ثم أفصلها بعد ذلك، والوجوه هي: 1 - التعريف بمن ذكر من رواة الحديث من الصحابة وغيرهم والمخرجين له. 2 - تصحيح الحديث. 3 - الإشارة أحياناً إلى سبب اختيار الرواية في الباب. 4 - تفسير شيء من مفردات الألفاظ الحديث. 5 - إيراد شيء من علم الإعراب أحياناً.

أولا: الصناعة الحديثية

6 - ذكر شيء من علم البيان والبديع أحيانًا. 7 - الكلام عن الفوائد والمباحث المستنبطة من الحديث. 8 - الإعراض عن إيراد مسائل لا تستنبط من ألفاظ الحديث. 9 - تهذيب كثير من كلام الشارحين للحديث والتحقيق فيه، والاستدراك عليه أحياناً. 10 - جلب الفوائد المتبددة في كتب الأحكام والشروح. 11 - عدم التعصب في كل ذلك لمذهب معين، وذكر ما استدل به أصحاب المذاهب لمذاهبهم، أو يمكن أن يستدل به لهم، ثم التحقيق في ذلك. هذا ما عقده المؤلف - رحمه الله - وعزم عليه في شرحه للأحاديث، وهي ترجع إلى أربع صناعات قد أتقنها الإمام ابن دقيق رحمه الله وبرع فيها وهي: 1 - الصناعة الحديثية. 2 - الصناعة الأصولية. 3 - الصناعة الفقهية. 4 - صناغة العربية. وسأتكلم عن كل واحدة منها من خلال شرحه هذا. أولاً: الصناعة الحديثية: ويتعلق بها الوجوه الثلاثة الأولى المذكورة التي بدأ بها في خطته، وهي:

الوجه الأول

الوجه الأول: التعريف بمن ذكر من رواة الحديث والمخرجين له، والتكلم فيما يتعلق به على وجه الاختصار. الوجه الثاني: التعريف بوجه صحته، إما على جهة الاتفاق أو الاختلاف، على وجه الإيجاز أيضاً. الوجه الثالث: الإشارة أحياناً إلى بعض المقاصد في الاختيار، لِمَ الاختيار عليه؟ أما الوجه الأول: فقد ترجم المؤلف - رحمه الله - لرواة الحديث من الصحابة والتابعين وأتباعهم على حسب ما ذكر في الأصل وهو "الإلمام"، ثم الترجمة لمخرجي الحديث. ويبدأ الترجمة بذكر اسم المترجم ونسبه، وأسماء الآخذ منهم، والآخذين عنه، ويذكر بعض مناقبه وأقواله أحياناً، ثم يذكر عدد أحاديثه أحياناً أيضاً، ثم يختم بسنة وفاته. وإن كان الراوي من غير الصحابة متكلماً فيه أو مغموزاً، ذكر فيه أقوال أهل العلم في جرحه أو تعديله، وتوثيقه أو توهينه. وكان في كل ذلك ينوِّع في مراجع الترجمة ومصادرها التي ذكرها. وأما الوجه الثاني: فقد شرط المؤلف - رحمه الله - في خطبة الأصل (1/ 24): "ألا يورد إلا حديث من وثقه إمام من مزكِّي رواة الأخبار، وكان صحيحاً على طريقة بعض أهل الحديث الحفاظ، أو بعض أئمة الفقهاء النظَّار".

ثم شرح ذلك فقال: "اعتبر هذا الشرط، ولم يشترط الاتفاق من الطائفتين، لأن ذلك الاشتراط يضيق به الحال جداً، ويوجب تعذر الاحتجاج بكثير مما ذكره الفقهاء؛ لعسر الاتفاق على وجود الشروط المتفق كليها، ولأن الفقهاء قد اعتادوا أن يحتجوا بما هو نازل عن هذه الدرجة، فرجوعهم إلى هذه الدرجة ارتفاع عما قد يعتادونه، فهو أولى بالذكر، ولأن كثيراً مما اختلف فيه من ذلك يرجع إلى أنه قد لا يقدح عند التأمل في حق كثير من المجتهدين، فالاقتصار على ما أُجمع عليه تضييعٌ لكثير مما تقوم به الحجة عند جمع من العلماء، وذلك مفسدة، ولأنه بعد أن يوثَّق الراوي من جهة بعض المزكين، قد يكون الجرح مبهماً غير مفسَّر، ومقتضى قواعد الأصول عند أهله أن لا يقبل الجرح إلا مفسَّراً، فتركُ حديثِ من هو كذلك تضييع أيضاً، ولأنه إذا وثَّق، قد يكون القدح فيه من غير الموثِّق بأمرٍ اجتهادي، فلا يساعده عليه غيره". ومن أمثلة ذلك عند المؤلف رحمه الله: قوله في الحديث الخامس من باب الطهارة: وقد ذكرنا أن الترمذي صححه، فحصل شرطنا، وبسطنا القول في رواية عكرمة وسماك. وكذا قوله في الحديث العاشر من باب الوضوء عند الكلام عن تصحيح حديث: "الأذنان من الرأس" المروي من طريق سنان ابن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، به. قال: قد تقدم التعريف بحال رواته، وأنه ليس فيهم إلا من وثق، فحصل شرطنا.

ثم قال: وعلى الجملة فإن توقف تصحيحه عند أحد على ذكر طريق لا علة فيها، ولا كلام في أحد من رواتها، فقد يتوقف في ذلك؛ لأن اعتبار ذلك صعب ينتقض عليهم في كثير مما استحسنوه وصححوه من هذا الوجه، فإن السلامة من الكلام في الناس قليل، ولو شرط ذلك، لما كان لهم حاجة إلى تعليل الحَسَن بالتضافر والمتابعة، والمجيء من طرق أو وجوه، فيتقلب النظر، وتتناقض العبر، ويقع الترتيب، أو يُخاف التعذيب. ثم قال: وما ذكرته عُرض عليك، لا التزام أتقلد عهدته، وفي كلامي ما يشير إلى المقصود. وكذا قوله في الحديث السادس عشر من باب الوضوء: وقد ذكرنا أن البيهقي قال: إنه إسناد صحيح، فحصل شرطنا في ذكره في الكتاب. وأما الوجه الثالث: فقد ذكر المؤلف في مقدمة الكتاب (1/ 18 - 19) كيفية إيراده للأحاديث، والمقاصد التي يقصدها من وراء إيرادها، فذكر منها: 1 - أنه لا يذكر أحاديث متعددة للدلالة على حكم واحد إلا لمعارض. 2 - الاكتفاء بأتم الحديثين وأكثرهما فائدة عن أقلهما، أو لدخول مدلوله تحت الأعم فائدة، وقد يقوم في مثل هذا معارض، وهو أن يكون الحديث الأقل فائدة، هو الحديث المشهور، أو المخرج في "الصحيحين" فيُذكر لذلك، ويُتبَع بالحديث الذي فيه

الزيادة، فإنَّ إهمالَ ما في "الصحيحين" وما اشتُهر بين العلماء الاستدلالُ به غير مستحسن، وربما أوقع إهمالُه وذكرُ غيرِه من الكتب الخارجة عيباً في الاختيار عند من لم يفهم المقصود، وربما اكتفى بالزائد لمعارض آخر. 3 - أن الحديث الذي يستدل به قد يكون مطولاً في الصحاح أو في الكتب المشهورة، ويكون موضع الاحتجاج مقتصراً عليه، مختصرًا في غير ذلك من الكتب، فيقتصر على المختصر، ويترك التخريج من الصحاح؛ لأنه أليق بالكتاب. ثم قال: إلى غير ذلك من المقاصد التي أبهمها. ثم قال: وترجيحُ بعض المقاصد على بعض يكون بحسب حديث حديث، ومحل محل، انتهى. ومن أمثلة ذلك: قوله في الحديث الثامن عشر من باب الوضوء، حيث أورد رواية النسائي في حديث جابر رضي الله عنه: "ابدؤوا بما بدأ الله به"، فقال: قد ذكر أن النسائي أخرجه، ولم يُضِفْه إلى كتاب مسلم، وإن كان مسلم أخرج الحديث بكماله؛ لأن المقصود هنا بإيراد هذه القطعة منه: ذكر ما احتج به على وجوب الترتيب، وهو قوله: "ابدؤوا بما بدأ الله به"، والمأخذ صيغة الأمر التي ظاهرها الوجوب، وصيغة الأمر لم ترد في كتاب مسلم، ولم يحسن من يقول - إذا احتج بهذه اللفظة -: أخرجه مسلم، وإنما قلنا ذلك لشيء نذكره الآن.

ثم ذكر فائدة جليلة قال فيها: "معلوم أن نظر المحدِّث من حيث هو محدِّث، إنما هو في الإسناد وما يتعلق به، لا من جهة استنباط الأحكام من الألفاظ ومدلولاتها، فإن تكلم في ذلك، فمن حيث هو فقيه، وكذلك العكس، نظر الفقيه فيما يتعلق بالاستنباط من الألفاظ ومدلولاتها، فإن تكلم في الأسانيد فمن حيث إنه محدِّث، فإذا كان كذلك، فالمحدِّث إذا قال بعد حديث: أخرجه فلان؛ فإنما يريد أصل الحديث، ولا يريد أنه أخرجه بتلك الألفاظ بعينها، لأن موجب صناعته تقتضي ذلك، ولهذا عملوا الأطراف، واكتفوا بذكر طرف الحديث وقالوا: أخرجه فلان وفلان. والفقيه إذا أراد أن يحتج بلفظة يقتضي مدلولها حكما يذهب إليه وقال: أخرجه مسلم، أو فلان من الأئمة، فعليه أن تكون تلك اللفظة التي استنبط منها الحكم موجودة في رواية مسلم؛ لأنه مقتضى ما يلزمه من صناعته. ثم قال: فمن قال بعد إيراد هذا الحديث للاحتجاج بهذه اللفظة: أخرجه مسلم، لم يَحسُن؛ لأن موضع الحجة صيغة الأمر، وليست في كتاب مسلم. ومن أمثلة ذلك أيضاً: قوله في الحديث الأول من باب الطهارة: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته": ليس المقصود الأكبر بهذا الحديث الاستدلال محلى طهورية ماء البحر، لأنه كالمتفق عليه بين الفقهاء، فكان يكتفي بذلك؛ لأن الكتاب كتاب اختصار، لكن لما كان يتعلق به

ثانيا: الصناعة الأصولية

فوائد كثيرة، منها ما يخص هذا الكتاب، ومنها ما يدخل في غيره، ويستدل على ذلك الغير في المكان اللائق به، كان أكثر فائدة من الأحاديث التي تدل على ما يتعلق بهذا الباب خاصة. وكذا قوله في حديث أبي ثعلبة الخشني الرابع من باب الآنية: الموجب لإدخال هذا الحديث هاهنا: حكم استعمال أواني المشركين، واختير هذا الحديث؛ لكثرة الأحكام الواردة فيه. ثانياً: الصناعة الأصولية: قال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (1/ 14) وهو يذكر مؤلفات الأئمة التي نقل عنها في كتابه: و"شرح الإمام"، وبه خُتِمَ التحقيق في هذا الفن. إن الصِّبغة الأصولية التي امتلكها الإمام ابن دقيق العيد، رحمه الله، والتي قد برز فيها، قد ظهرت ظهوراً بيِّناً في كتابنا هذا، حتى قال فيه الزركشي ما قال. وإن أكثر ما يثير الانتباه في هذا الكتاب هو حُسن استعمال الإمام ابن دقيق لأصول الفقه في استنباط الأحكام وتوجيه الكلام، وصياغته الدقيقة للقواعد، وجَودة سبْكها، وتبسيط عرضها، حتى إن المرء ليخال أنه أول من تكلم في هذا الفن. ولن أطيل الكلام هاهنا؛ لأنني قد اجتهدت في فهرست القواعد والفوائد الأصولية التي ذكرها الإمام ابن دقيق في كتابه، وذكرت تحقيقاته وأقواله في هذا الفن، وقد بلغت (380) ما بين قاعدة وفائدة

ثالثا: الصناعة الفقهية

أصولية، يجد المرء أكثرها في كتب الأصول، لكن دون الصورة التي قدمها المؤلف - رحمه الله - من الصياغة والسَّبك والدقة، والتوفيق في استعمالها في المباحث والاستدلالات. ثالثاً: الصناعة الفقهية: ويتعلق بذلك الوجوه الآتية التي ذكرها المؤلف في مقدمته وهي: الوجه السابع: الكلام على المعاني التركيبية، والفوائد المستنبطة، والأحكام المستخرجة، وهذا هو المقصود الأعظم. الوجه الثامن: اعتماد ما تقدمت الإشارة إليه من عدم الميل والتعصب في ذلك لمذهب معيَّن على سبيل العَسَف، فنذكر ما بلغنا مما استدلَّ به أصحابُ المذاهب لمذاهبهم، أو يمكن أن يُستدلَّ به لهم، فإن كان وجه الدليل ظاهرًا، وإلا بدأنا ببيانه، ثم نُتبع ذلك بما عساهُ يُذكر في الاعتذار عن مخالفة ظاهره لمن خالفه إن تيسَّر ذلك. الوجه التاسع: الإعراض عما فعله كثيرٌ من الشارحين من إيراد مسائل لا تستنبط من ألفاظ الحديث، كمن يأتي إلى حديث يدل على جواز المسح على الخفين، أو الاستنشاق، أو الظِّهار، أو الإيلاء مثلًا، فيأتي بمسائل ذلك الباب من غير أن تكون مستنبطة من الحديث الذي يتكلم عليه، دمان أمكن فبطريق مستبعَد. الوجه العاشر: ترك ما فعله قومٌ من أبناء الزمان، ومن يُعدُّ فيهم من الأعيان، فأكثروا من ذكر الوجوه في مَعْرِض الاستنباط،

الوجه الحادي عشر

واسترسلوا في ذلك استرسالَ غيرِ متحرزٍ ولا محتاط، فتخيلوا وتحجَّلوا، وأطالوا وما تطولوا، وأبدوا وجوهًا ليس في صفحاتها نور، وذكروا أوهامًا لا تميل إليها العقول الراجحة ولا تَصُور، حتى نُقل عن بعضهم أنه ادَّعى الاستدلالَ على جميع مسائل مذهبه الذي تقلَّدهُ من الكتاب العزيز. الوجه الحادي عشر: تهذيب كثير مما ذكره الشارحون للحديث، وتلخيصه، والتحقيق فيه، والمؤاخذة فيما عساه يُؤخَذ على قائله. الوجه الثاني عشر: جلب الفوائد المتبددة من كتب الأحكام التي تقع مجموعة في كلام الشارحين للأحاديث، فيما علمناه على حسب ما تيسَّر، انتهى. هذا ما يخصُّ الصناعة الفقهية لدى المؤلف على حسب ما انتهجه في ذكر هذه الوجوه. وحسبك أن تعرف أن عدد الفوائد والمباحث المستنبطة والمذكورة لدى المؤلف في هذا الباب قد بلغت أكثر من (1900) فائدة واستنباط فقهي، وذلك من سبعة وخمسين حديثاً، فما ظنك؟! ثم أعودُ إلى ذكر بعض الفوائد المتعلقة بطريقة استنباط المؤلف رحمه الله، فمن ذلك: قوله في الفائدة (356) من الحديث الأول من باب الآنية: "وقد عرف أن ما هو في معنى الأصل نذكره في فوائد الحديث؛ لأنه بمثابة دلالة اللفظ".

رابعا: الصناعة اللغوية

وقوله في الفائدة (22) من الحديث الأول من باب الطهارة: "ليس من شرط ما يستنبط من الحديث أن لا يكون مختلفاً فيه، ولا أيضاً من شرطه أن لا يدل عليه نص آخر". وقوله في الفائدة (17) من الحديث الثالث من باب الوضوء: "والطرق الجدلية تُستمدُّ من سَعَة الخيال، ودقة الوهم، ودُربة الاستعمال، والسيف فيها بضاربه، لا بحدة مضاربه، وهي بمعزل عن الطرق التي يجب على المجتهد المحقق أن يسلكها في إثبات الأحكام الشرعية، ولذلك لا تجد شيئاً من هذه الجدليات المتأخرة في شيء من كلام المتقدمين الذين رجع الناس إليهم في الأحكام". رابعاً: الصناعة اللغوية: قال المؤلف في الوجه الرابع من المقدمة أثناء الكلام عن طريقته في شرح الأحاديث: الكلام على تفسير شيء من مفردات ألفاظه إذا تعلق بذلك فائدة؛ إما لغرابته عن الاستعمال العادي، أو لفائدة لا تظهر عند أكثر المستعملين. وطريقة المؤلف - رحمه الله - في عرضه وشرحه لغريب الألفاظ جدُّ مفيدة، فيذكر اللغات الواردة في اللفظة، وتصريفاتها، وجموعها، وما ترجع إليه اللفظة، وما يتلخص من كلام أهل اللغة فيها، ويذكر استعمالات العرب للكلمة وما تطلق عليه، ويعضد ذلك بالشواهد القرآنية والشعرية، ويذكر من كلام أصحاب المعاجم والكتب، ثم يوجه كلامهم، ويرجح قولاً من الأقوال المذكورة فيها، وهو في كل هذا ينوع في ذكر مصادر المادة اللغوية المتكلم عليها،

فهو إذن يخلص إلى الحكمة في استعمال هذه اللفظة في الحديث دون غيرها. ثم هو يذكر - أحياناً شيئاً من علم الإعراب إن احتيج إليه. ويذكر في بعض الأماكن شيئاً من علم البيان، ويظهر في كل ذلك قوة لغوية تدل على سعة دائرته في هذا الباب. هذا ما يتصل بما كان المؤلف قد ذكره، وضربت الأمثلة عليه، وبينته من خلال هذا الشرح. ومما يلحظ المطالع - أيضاً - في هذا الشرح جملة من الأمور أُجملها في الآتي: 1 - أكثر الشارح - رحمه الله - من النَّقلِ عن كتب الشافعية وذِكْرِ مذاهبهم في المسألة (¬1)، ثم تلاه في الأكثرية فقه المالكية، بينما ذكر مذهب الحنفية والحنابلة في مواضع قليلة من هذا الشرح، ويرجع هذا إلى تفقه الإمام ابن دقيق - رحمه الله - بمذهب المالكية أولاً، ثم تمذهبه واستقراره على فقه الشافعية، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قال الأُدفُوي في "الطالع السعيد" (ص: 580): أخبرني شيخنا الفقيه سراج الدين الدندري: أنه لما ظهر "الشرح الكبير" - وهو: فتح العزيز فى شرح الوجيز - للرافعي، اشتراه ابن دقيق بألف درهم، وصار يصلي الفّرائض فقط، واشتغل بالمطالعة، إلى أن أنهاه مطالعة، وذُكر عنده هو والغزالي، فقال: الرافعي في السماء، انتهى. قلت: وقد أكثر المؤلف - رحمه الله - من النقل عنه في هذا الشرح كما تجده مبيناً في التعليقات.

2 - دقته في نقل المذاهب؛ كأن يقول: قال الشافعية، أو من قال منهم، قال بعض المالكية، قال بعض المتأخرين من المالكية، قال بعض الحنابلة، وهكذا. 3 - قد ينكر بعض من لم يتأمل مقاصد المؤلف في هذا الكتاب الإطالة في بعض المواضع من هذا الكتاب، لذا كان ينبه المؤلف - رحمه الله - في مواضع إلى حكمة إطالته، ومن ذلك: قوله في آخر الفائدة (270) من حديث البراء في باب الآنية - بعد أن ذكر صفحات من "الإحياء" للغزالي، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - قال (2/ 242 - 243): هذا ما تيسَّر ذكره على وجه الحكاية عن "الإحياء"، ثم قال: ووجه الحاجة إلى هذه الأمور في الكلام على الحديث ظاهر؛ لأنها أمور قد تعود على العموم بالتخصيص، ومن ضرورة الكلام على الحديث التنبيه على ذلك؛ لأن العمل بالعموم في محل التخصيص خطأ. وعندما أطال الكلام على بيت عاتكة بنت عبد المطلب: بُعكاظ يُعشي الناظر ... ين إذا همُ لمحوا شعاعُه قال (4/ 294 - 295): وقد أطلنا الكلام على هذا البيت لشهرته، وشهرة تعليل المنع بما تقدم، فجرَّ ذلك إلى اجتلاب اعتراض على المشهور من وجه الامتناع، وهو كلام أبي إسحاق ابن ملكون، فاغتفرنا الإطالة، وإن كانت سبب المَلال، لغرابة الاعتراض، ودقة النظر في البيت، على أن كتابنا هذا ليس موضوعاً

على الاختصار، فتُنكر الإطالة، إلا أن المنكر إطالة ما يقتضي المقصود خلافه، أو يقتضي المعرف إنكاره. 4 - تورعه وتخويفه من القول في الدين دون علم، أو الإفتاء دون بذل الجهد والتأمل في الفتوى. قال في الفائدة (132) من الحديث الأول من باب الآنية: فيدخل تحت ذلك - أي: التسبب إلى نصرة المظلوم - إبداء العالم والمفتي الحكم الشرعي الذي يحصل به نصر المظلوم، وهو من الواجبات عليه بشرطه، ويترتب عليه أن كل مظلوم نَصَره بقوله، فإن ثواب النصرة له. ثم قال: وهذا فضل عظيم، ومنقبة عالية للعلماء، لا سيما الذين أسسوا القواعد من المُدد المديدة والسنين العديدة، ويقابله الخطر العظيم فيه على تقدير الخطأ، وكثيراً ما رأيتهم يستهينون في هذا بقولهم: الواجب في ذلك بذل الجهد، والخطأ بعد بذل الجهد معفو عنه، وهذا صحيح، ولكن الشان في بذل الجهد، فهاهنا تسكب العبرات. وللتقصير أسباب كثيرة، وبعضها قد يخفى، ومن أسبابها ... ، فذكرها. انظر: (2/ 157 - 158). وقال في ترجمة ابن حبان (1/ 482) محذِّراً من وقوع الناس بعضهم في بعض، خصوصا في العقائد: "واختلاف الناس في العقائد والمذاهب جزيلاً طويلاً، وأرتع بعضُهم في أعراض بعض

مرتعاً وبيلاً، وسدَّد في الطعن من السهام ما لا تردُّه دروع الزجر ولا المَلام، وبثَّ في الأرض داهية يحِقُّ أن يقال لها: صَمِّي صَمامَ {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25]. * * *

المبحث الرابع قيمة الكتاب العلمية

المبحث الرابع قيمة الكتاب العلمية حسبك كتاب يقول فيه الحافظ قطب الدين الحلبي: إنه لم يتكلم على الحديث من عهد الصحابة إلى زماننا مثل ابن دقيق العيد، ومن أراد معرفة ذلك، فعليه بالنظر في القطعة التي شرح فيها "الإلمام"، فإن من جملة ما فيها: أنه أورد حديث البراء بن عازب: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع، ونهانا عن سبع"، واشتمل على أربع مئة فائدة (¬1). حسبك هذا أن يكون هذا الشرح فريداً في بابه، بل لعله لم يُصنَّفْ في الإسلام مثلُه. وقال عنه الذهبي: وشرح بعض "الإلمام" شرحاً عظيماً (¬2). وقال الحافظ ابن حجر: وصنف "الإلمام في أحاديث الأحكام"، وشرع في شرحه، فخرج منه أحاديث يسيرة في مجلدين، أتى فيهما بالعجائب الدالة على سعة دائرته في العلوم، خصوصًا في الاستنباط (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "رفع الإصر" لابن حجر (ص: 395). (¬2) انظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 1482). (¬3) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (5/ 348).

وقال عنه الأُدفُوي وهو يعدد مؤلفات الإمام ابن دقيق: فكيف بـ "شرح الإلمام"، وما تضمنه من الأحكام، وما اشتمل عليه من الفوائد النقلية، والقواعد العقلية، والأنواع الأدبية، والنكت الخلافية، والمباحث المنطقية، واللطائف البيانية، والمواد اللغوية، والأبحاث النحوية، والعلوم الحديثية، والمُلَح التاريخية (¬1). إن كتاباً أربت مواردُه على المئتين والثلاثين كتاباً من أمهات كتب الإسلام، اعتمد مؤلفُه عليها في أواخر القرن السابع الهجري، لجديرٌ أن يُوقَفَ عنده، وأن ينظر إلى ما حواه، وأن يُنعم النظر في فحواه. وإن كتاباً بلغت فوائده ومباحثه الحديثية والأصولية والفقهية واللغوية كثر من ثلاثة آلاف، كلُّ هذا من النظر في خمس وخمسين حديثاً، لشهادة عظمى بعلو كعب هذا الإمام، وتقدم شرحه هذا على غيره من كتب الشروح والأحكام. ثم إن قيمته الكبرى تبرز في المنهج الذي سار عليه المؤلف في الاستدلال والاستنباط والمناقشة، والذي يعد منهجاً سليماً قوياً؛ إذ يربِّي في نفوس طلبة العلم ملكة الاستدلال والاستنباط في فهم نصوص الكتاب والسنة. ¬

_ (¬1) انظر: "الطالع السعيد" للأدفوي (ص: 575).

ويعطيهم الطريقة المثلى في اختيار النصوص الصحيحة للاحتجاج والاستشهاد. وتغذي فيهم الملكات الأدبية. وتنمِّي عندهم الشخصية الجامعة بين العلم والعمل، والرواية والدراية (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ومن هنا أدعو أهل العلم إلى عدم الاتكال على الحفظ والرواية فقط، روى ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (ص: 439 - من القسم المتمم) عن مطرف بن عبد الله قال: قال رجل لمالك: قد سمعت مئة ألف حديث، فقال مالك: مئة ألف حديث!! أنت حاطب ليل تجمع القشعة، فقال: ما القشعة؟ قال: الحطب يجمعه الإنسان بالليل، فربما أخذ معه الأفعى فتنهشه. فلابد من الاعتماد على الرواية الصحيحة، والدراية السليمة اللتين تقودان إلى اعتقاب وعمل موافِقين مقبولَين. قال الإمام الشافعي رحمه الله في "الرسالة" (ص: 19): والناس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به، فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصَّا واستنباطا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرك خير إلا بعونه، فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالًا، ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرَّيَب، ونُوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضعَ الإمامة.

المبحث الخامس موارد المؤلف فى الكتاب

المبحث الخامس موارد المؤلف فى الكتاب * اللغة وعلومها: 1 - معاجم اللغة والغريب: 1 - " غريب الحديث" - أبو عبيد القاسم بن سلام. 2 - "معجم ما استعجم" - أبو عبيد البكري. 3 - "غريب الحديث" - الهروي. 4 - "مجمع الغرائب في غريب الحديث" - أبو الحسن الفارسي. 5 - "الفائق في غريب الحديث" - الزمخشري. 6 - "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" - الأزهري. 7 - "مشارق الأنوار" - القاضي عياض. 8 - "مطالع الأنوار" - ابن قُرقُول. 9 - "مفردات ألفاظ القرآن" - الراغب الأصفهاني. 10 - "المنتخب والمجرد في اللغة" - علي بن الحسن الهنائي، كراع النمل. 11 - "المنجد في اللغة" - علي بن الحسن الهنائي، كراع النمل. 12 - "الزينة في اللغة" - أبو حاتم السجستاني. 13 - "جامع اللغة" - محمد بن جعفر القزاز. 14 - "الاستدراك على كتاب العين" - أبو بكر الزبيدي.

2 - النحو والصرف

15 - "المحكم" - ابن سيده. 16 - "المخصص" - ابن سيده. 17 - "تهذيب اللغة" - الأزهري. 18 - "الصحاح" - الجوهري. 19 - "أساس البلاغة" - الزمخشري. 20 - "العباب الزاخر" - الصغاني. 2 - النحو والصرف: 21 - " الكتاب" - سيبويه. 22 - "اللوامع" - الطرطي. 23 - "الملخص في ضبط قوانين العربية" - ابن أبي الربيع الأشبيلي. 24 - "البسيط في شرح جمل الزجاجي " - ابن أبي الربيع الأشبيلي. 25 - "شرح جمل الزجاجي" - ابن عصفور. 26 - "شرح جمل الزجاجي" - ابن الضائع. 27 - "المقدمة في النحو" - أبو موسى الجُزُولي. 28 - "شرح اللمع" - أبو البقاء. 29 - "شرح مقدمة ابن هبيرة في النحو" - أبو محمد بن الخشاب. 30 - "شرح المفصل" - ابن يعيش. 31 - "الإيضاح في شرح المفصل" - ابن الحاجب. 32 - "الأمالي النحوية" - ابن الحاجب. 33 - "الكافية" - ابن الحاجب.

3 - الأدب اللغات

34 - "الشافية" - ابن الحاجب. 35 - "جامع الأفعال" - ابن طريف الأندلسي. 36 - " الأفعال" - ابن القُوطيَّة. 37 - كما نقل فصولاً عن ابن بَرِّي، وأبي الحسن الأُبَّدي النحوي، وعن مُهَلَّب بن الحسن البصري، وغيرهم. 3 - الأدب اللغات: 38 - " الحيوان" - الجاحظ. 39 - "أعضاء الإنسان وصفاته على ما سمت العرب" - الزجاج. 40 - "ديوان الأدب" - إسحاق بن إبراهيم الفارابي. 41 - "السبب في حصر كلام العرب" - الحسين بن المهذب البصري. 42 - "ليس في كلام العرب" - ابن خالويه. 43 - "المعرَّب من الكلام العجمي" - الجواليقي. 44 - "تثقيف اللسان" - أبو حفص الصقلي. 45 - " الأضداد" - ابن الأنباري. 46 - "مجمل اللغة" - ابن فارس. 47 - "جمهرة اللغة" - ابن دريد. 48 - "درة الغواص في أوهام الخواص" - القاسم بن علي الحريري. 49 - "الزاهر في معاني كلمات الناس" - ابن الأنباري.

التفسير وعلوم القرآن

50 - "شرح الزاهر في معاني كلمات الناس" - أبو القاسم الزجاجي. 51 - "شرح أدب الكاتب" - ابن السِّيْد الأندلسي. 52 - "التلخيص في معرفة أسماء الأشياء" - أبو هلال العسكري. * التفسير وعلوم القرآن: 1 - " أحكام القرآن" - إسماعيل بن إسحاق القاضي. 2 - "الوسيط" - الواحدي. 3 - "المحرر الوجيز" - ابن عطية. 4 - "الكشاف" - الزمخشري. 5 - "أحكام القرآن" - ابن العربي. 6 - "التفسير الكبير" - الرازي. 7 - "تفسير الثعلبي". 8 - "معاني القرآن" - الزجاج. 9 - "معاني القرآن" - الفراء. 10 - "إعراب القرآن" - أبو البقاء العكبري. 11 - "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات" - ابن جني. 12 - "الحجة للقراء السبعة" - أبو علي الفارسي. * الحديث وعلومه: أ - الصحاح والسنن والمصنفات الحديثية الأخرى: 1 - " صحيح البخاري".

2 - "صحيح مسلم". 3 - "صحيح ابن خزيمة". 4 - "صحيح ابن حبان". 5 - "صحيح ابن منده". 6 - "المستدرك" - الحاكم. 7 - "سنن أبي داود". 8 - "سنن النسائي - المجتبى". 9 - "السنن الكبرى" - النسائي. 10 - "سنن الترمذي". 11 - "سنن ابن ماجه". 12 - "سنن الدارقطني". 13 - "السنن" - الكشِي. 14 - "السنن" - المعمري. 15 - "السنن الكبرى" - البيهقي. 16 - "معرفة السنن والآثار" - البيهقي. 17 - "الطهور" - أبو عبيد. 18 - "مسند الإمام الشافعي". 19 - "مسند الإمام أحمد بن حنبل". 20 - "مسند الحميدي". 21 - "مسند أبي عوانة".

ب - العلل والجرح والتعديل

22 - "الموطأ" - الإمام مالك. 23 - "المصنف" - عبد الرزاق. 24 - "المصنف" - ابن أبي شيبة. 25 - "المعجم الكبير" - الطبراني. 26 - "المعجم الأوسط" - الطبراني. 27 - "شرح معاني الآثار" - الطحاوي. 28 - "المستخرج على صحيح البخاري" - أبو بكر الإسماعيلي. 29 - "المستخرج على صحيح مسلم" - أبو نعيم الأصبهاني. 30 - "جزء رفع اليدين في الصلاة" - البخاري. 31 - "غرائب حديث مالك" - الدارقطني. 32 - "بعض أحاديث المقلين من أبناء المكثرين، وبعض أحاديث المكثرين عن آبائهم المقلين وعن إخوانهم المقلين" - الدارقطني. 33 - "الجمع بين الصحيحين" - الحميدي. 34 - "الجمع بين الصحيحين" - عبد الحق الإشبيلي. ب - العلل والجرح والتعديل: 35 - " العلل" - الترمذي. 36 - "العلل" - عبد الله بن الإمام أحمد. 37 - "العلل" - ابن أبي حاتم. 38 - "تاريخ ابن معين" - رواية الدوري.

ج - مصطلح الحديث

39 - "تاريخ ابن معين" - رواية الدارمي. 40 - "معرفة الثقات" - أحمد بن عبد الله العجلي. 41 - "تاريخ أسماء الثقات" - ابن شاهين. 42 - "الجرح والتعديل" - ابن أبي حاتم. 43 - "التمييز" - النسائي. 44 - "الكامل في الضعفاء" - ابن عدي. 45 - "الضعفاء" - العقيلي. 46 - "الثقات" - ابن حبان. 47 - "بيان الوهم والإيهام" - ابن القطان. 48 - "سؤالات أبي زرعة الرازي" - ابن طاهر المقدسي. 49 - "التحقيق في أحاديث الخلاف" - ابن الجوزي. ج - مصطلح الحديث: 50 - " المحدث الفاصل" - الرامهرمزي. 51 - "معرفة علوم الحديث" - الحاكم. 52 - "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" - الخطيب البغدادي. 53 - "علوم الحديث" - ابن الصلاح. 54 - "شروط الأئمة الستة" - ابن طاهر المقدسي. د - شروح الحديث: 55 - " التمهيد" - ابن عبد البر. 56 - "التقصي لحديث الموطأ" - ابن عبد البر.

الفقه وأصوله

57 - "الاستذكار" - ابن عبد البر. 58 - "المنتقى في شرح الموطأ" - الباجي. 59 - "القبس في شرح الموطأ" - ابن العربي. 60 - "الأنوار في شرح الموطأ" - ابن زرقون. 61 - "شفاء العِي في شرح مسند الشافعي" - أبو السعادات ابن الأثير الجزري. 62 - "شرح البخاري" - عبد الواحد بن عمر بن عبد الوهاب. 63 - "شرح البخاري" - السفاقسي. 64 - "المعلم بفوائد مسلم" - المازري. 65 - "إكمال المعلم" - القاضي عياض. 66 - "المفهم" - القرطبي. 67 - "المنهاج في شرح مسلم" - النووي. 68 - "معالم السنن" - الخطابي. 69 - "حاشية المنذري على سنن أبي داود". 70 - "عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي" - ابن العربي. 71 - "شرح السنة" - البغوي. * الفقه وأصوله: 1 - أصول الفقه: 1 - " الملخص في أصول الفقه" - القاضي عبد الوهاب المالكي. 2 - "اللمع في أصول الفقه" - أبو إسحاق الشيرازي.

2 - الفقه

3 - "المعتمد في أصول الفقه" - أبو الحسين البصري. 4 - "البرهان في أصول الفقه" - الجويني. 5 - "المستصفى" - الغزالي. 6 - "المحصول" - الرازي. 7 - " الإحكام" - الآمدي. 8 - "مختصر ابن الحاجب". 9 - "شرح تنقيح الفصول" - القرافي. 10 - "قواعد الأحكام" - العز بن عبد السلام. 11 - "مختصر المحصول" - أحد المتأخرين لم يُسمَّ. 2 - الفقه: أ - المذهب الحنفي: 12 - " المحيط" - شمس الأئمة السرخسي. 13 - "مختصر الطحاوي". 14 - "بدائع الصنائع" - الكاساني. ب - المذهب المالكي: 15 - " المدونة" - الإمام مالك - رواية ابن القاسم. 16 - "العتبية" - الإمام مالك. 17 - "المجموعة على مذهب مالك وأصحابه" - ابن عبدوس المالكي. 18 - "تهذيب المدونة" - البراذعي.

ج - المذهب الشافعي

19 - "النوادر" - ابن أبي زيد القيرواني. 20 - "المقدمات الممهدات" - ابن رشد. 21 - "التفريع" - ابن الجلاب المالكي. ج - المذهب الشافعي: 22 - " الأم" - الإمام الشافعي. 23 - "مختصر المزني". 24 - "المهذب" - أبو إسحاق الشيرازي. 25 - "التنبيه" أبو إسحاق الشيرازي. 26 - "التعليق الكبير" أبو علي الحسين بن محمد المروزي. 27 - "التهذيب في الفروع" - البغوي. 28 - "نهاية المطلب في دراية المذهب" - الجويني. 29 - "الحاوي" - الماوردي. 30 - "بحر المذهب" - الروياني. 31 - "التقريب في شرح مختصر المزني" - القفال الشاشي. 32 - "الوسيط" - الغزالي. 33 - "فتح العزيز في شرح الوجيز" - الرافعي. 34 - "الاستقصاء لمذاهب الفقهاء في "شرح المهذب" - عثمان بن عيسى أبو عمرو الماراني. د - المذهب الحنبلي 35 - " مختصر الخرقي".

هـ - متفرقة

36 - "المغني" ابن قدامة. هـ - متفرقة: 37 - " الأوسط" - ابن المنذر. 38 - "الإشراف" - ابن المنذر. 39 - "المحلى" - ابن حزم. 40 - "الرد على ابن حزم" - أبو بكر بن مفوَّز. 41 - "الرد على ابن حزم" - القاضي عبد الحق أبو محمد الأنصاري المغربي المهدوي. 42 - "مصنف أبي الحسن بن المُغلس الظاهري على مسائل كتاب المزني". 43 - رسالة "المنصفة في طهارة الرجلين في الوضوء" سليم بن أيوب الرازي. 44 - رسالة الشريف الرضي في المسح على الرجلين. 45 - "المنهاج" - الحليمي. 46 - "إحياء علوم الدين" - الغزالي. 47 - "المسالك" - ابن العربي المالكي. 48 - "سراج المريدين" ابن العربي المالكي. * التاريخ والتراجم: أ - التاريخ والبلدان: 1 - " التاريخ الكبير" - البخاري.

ب - التراجم والطبقات

2 - "تاريخ بخارى" - محمد بن أحمد البخاري الملقب: غنجار. 3 - "تاريخ ابن أبي خيثمة". 4 - "تاريخ نيسابور" - أبو عبد الله الحاكم. 5 - "تاريخ أصبهان" - أبو نعيم الأصبهاني. 6 - "تاريخ بغداد" - الخطيب البغدادي. 7 - "تاريخ قزوين" - أبو يعلى الخليل بن عبد الله. 8 - "تاريخ دمشق" - ابن عساكر. 9 - "تاريخ الغرباء الواردين على مصر" - ابن يونس. 10 - "مروج الذهب" - المسعودي. 11 - "البلدان" اليعقوبي. 12 - "تاريخ سمرقند" - أبو سعد الإدريسي. 13 - "ذيل المذيل" - أبو جعفر الطبري. ب - التراجم والطبقات: 14 - " الطبقات الكبرى" - ابن سعد. 15 - "الطبقات" - خليفة بن خياط. 16 - "الكنى" - أبو أحمد الحاكم. 17 - "الاستيعاب" - ابن عبد البر. 18 - "طبقات الفقهاء" - الشيرازي. 19 - "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" - أبو يعلى الخليلي. 20 - "مختصر الإرشاد في معرفة علماء الحديث" - أبو طاهر السِّلَفي.

21 - "الإكمال" - ابن ماكولا. 22 - "تكملة الإكمال" - ابن نقطة. 23 - "رجال صحيح البخاري" - الكلاباذي. 24 - "رجال صحيح مسلم" - ابن منجويه. 25 - "رجال الصحيحين" - ابن طاهر المقدسي. 26 - "اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار" - الرشاطي. 27 - "تقييد المهمل" - أبو علي الجياني. 28 - "التقييد" - ابن نقطة. 29 - "أسد الغابة" - ابن الأثير. 30 - "الإعلام بالخيرة الأعلام من أصحاب النبى عليه السلام" - ابن الأمين. 31 - "الإلحاق على الاستيعاب في معرفة الأصحاب" - ابن فتحون. 32 - "المفهم في شيوخ البخاري ومسلم" - محمد بن إسماعيل بن خلفون الأَوْنبِي. 33 - "التعريف بمن ذكر في الموطأ من الرجال والنساء" - ابن الحذاء القرطبي المالكي. 34 - "الكمال في أسماء الرجال" - عبد الغني المقدسي. 35 - "تهذيب الأسماء واللغات" - النووي.

مؤلفاته التي ذكرها في هذا الشرح

* مؤلفاته التي ذكرها في هذا الشرح: 1 - " الإمام في معرفة أحاديث الأحكام". 2 - "الإلمام بأحاديث الأحكام". 3 - "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام". 4 - "الاقتراح في بيان الاصطلاح"، إلا أنه لم يصرح باسمه. 5 - "شرح مختصر ابن الحاجب". * * *

المبحث السادس وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق

المبحث السادس وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق كثيراً ما كان يستوقفني في قراءتي للنسخة الخطية الأزهرية - وهي التي اعتمدتها أصلاً - غموض كلام الإمام ابن دقيق العيد، حتى إني كنت أعيد قراءة الفقرة منه خمس مرات أحيانًا، حتى يتبين لي الصواب في فهم ما يريده رحمه الله. وكنت أرى أن سبب ذلك هو أسلوب الإمام ابن دقيق؛ ومن ذلك: كثرة الفواصل بين الكلام، وتباعد أطراف الجمل، ودقة ملحظه الدقيق فيما يريد، ونحن قوم قد أَلِفنا نمطًا من الكتابة غير الذي كان عليه السابقون، فما الظن بكلام إمام مجتهد. وكنت كلما تقدمت في معرفة طريقته وأسلوبه، ازداد إعجابي بدقة استدلاله واستنباطه. ثم تبين لي أيضا أن تفقير الكلام وتفصيله، وترقيم الجمل وضبطها، خليق أن يجعل كلامه بيِّناً واضحا لا لَبْسَ فيه، وأن يجنب مطالعه كثيراً من الزَّلل في فهم مراده رحمه الله. ولا أنسى ذكر التصحيفات والتحريفات في النسخ الثلاث المعتمدات، والتي كان لها دور كبير فيما عانيته لإخراج هذا الكتاب بهذه الصورة القريبة من وضع المؤلف إن شاء الله. ولا غرو في ذلك، فهذا كتاب أصولي استدلالي فقهي بالجملة، فلا يكاد يسلم الصواب كله لناسخه.

الأولى

ولا بد من التنويه أيضاً إلى أن الكتاب كان إملاء من الإمام ابن دقيق رحمه الله، قال الأدفوي: قال صاحبنا شمس الدين علي بن محمد الفوِّي: إنه كان - يعني: ابن دقيق - يملي عليه "شرح الإلمام" من لفظه، وهو الذي كتبه عنه، وكذلك حكى لنا أقضى القضاة شمس الدين محمد بن محمد القمَّاح قال: جلسنا، عنده غير مرة وهو يملي "شرح الإلمام" من لفظه، انتهى (¬1). وكذا ذكر الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (¬2) في ترجمة علي ابن محمد الفوِّي الشافعي، فقال: وعلق عن ابن دقيق من "شرح الإلمام". هذا وقد وقفت - بفضل الله ومنِّه - على ثلاث نسخ خطية لهذا الشرح الحافل، لا رابع لها فيما بلغني عن كثير من المضطلعين من أهل العلم بمعرفة المخطوطات. وهذا وصف لكل واحدة منها: الأولى: وهي النسخة المصورة عن الأصل الموجود في دار الكتب المصرية بالقاهرة، وتقع في (313) ورقة، تكررت فيها أربع ورقات في الحديث الثالث من باب الوضوء، أدخلها الناسخ خطأ من الحديث السابع عشر، فيكون عدد أوراقها (309) على التمام. ¬

_ (¬1) انظر: "الطالع السعيد" (ص: 581 - 582). (¬2) انظر: (4/ 118) منه.

وفي الورقة الواحدة وجهان، في كل وجه (31) سطراً، وعدد الكلمات في السطر الواحد (15) كلمة تقريباً. أولها: " بسم الله الرحمن الرحيم، قال الشيخ الإمام العالم العلامة، الزاهد العابد الورع، الحافظ الضابط، فريد دهره، ووحيد عصره، محيي السنة، مميت البدعة، تقي الدين أبو الفتح محمد بن أبي الحسن علي بن وهب القشيري رضي الله عنه وأرضاه: الحمد الله شارح حرج الصدور بلطفه ... .". وآخرها: " الوجه الثالث: في تصحيحه: الترمذي أخرجه منفرداً به عن الجماعة، وحكم بصحته، ورواه عن أبي عمار الحسين بن حريث، عن علي بن الحسين واقد، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، والله الموفق للصواب". وقد حصل في هذه النسخة سقط كبير في باب الآنية، عند الحديث الثاني منه، وفيه تتمته، وشرح أربعة أحاديث أخرى من هذا الباب، وقدَّرت هذا السقط بأربعين لوحة كما بينته في موضعه (2/ 382). وقد جاء مكتوبا في الهامش عند هذا السقط، "بلغ مقابلة فصحَّ، ولله الحمد والمنة، ومنه التوفيق والعصمة، ويليه باب السواك ... عدد (35) حديثًا، يسَّر الله إتمامها". وهذه النسخة بخط نسخ لا بأس به، لم يذكر اسم ناسخها، وهي نسخةٌ مُقَابلةٌ كما أُثبت في هوامشها في مواضع عدة، وعليها تصحيحات في الهامش بخط الناسخ نفسه، وعليها عدة أختام، وقد كان ينبه أحيانا إلى وجود البياضات التي حصلت في الأصل المنقول

الثانية

عنه، كان يترك التنبيه على ذلك في الأغلب. كما كان يترك أحياناً ترقيم الفوائد والمسائل في بعض الأحاديث. والنسخة دون الوسط في الصحة، وليست مما يعتمد عليها في التصحيح؛ لكثرة التحريف والتصحيف فيها، وكأن ناسخها لم يكن من العلم باصول النسخ والنقل بذاك، ولولا اكتمال نصِّها - عدا ما حصل من السقط المشار إليه آنفا -، ووجود مقدمة المؤلف المهمة فيها، والزيادات الموجودة فيها على بقية النسختين الأخريين، لما اتخذتها أصلاً أعتمد عليه وأقدمه على غيره. وكنت قد أشرت إلى هذه النسخة أثناء المقابلة بـ "الأصل" وأحياناً أرمز لها بحرف "م". الثانية: نسخة مصورة عن مكتبة كوبريلي بتركيا، تحت رقم (81)، وتنتظم أوراقها في (267) ورقة، في كل ورقة وجهان، وفي كل وجه (35) سطراً تقريباً، وفي كل سطر (13) كلمة تقريباً. وهي نسخة مخرومة في أولها، تبدأ بعد كلام في المسألة الأولى من الوجه السابع من الكلام على الحديث الأول في هذا الكتاب، بقوله: "وللنظر فيه محل غير هذا، بسبب الحاجة إلى معرفة حالة الرواة، ثم إن لك أن تأخذ من الحديث مطلق الركوب من حيث هو ركوب ... . ". وآخرها: " الوجه الثالث: في تصحيحه: الترمذي أخرجه منفرداً به عن الجماعة، وحكم بصحته، ورواه عن أبي عمار الحسين بن حريث، عن علي بن الحسين واقد، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، والله الموفق للصواب".

وقد جاء في آخر هذه النسخة على الهامش قوله: "هذا آخر ما وجدته، ونقلته من خط الإمام جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي الحنفي على سُقْمٍ فيه، وذكر أن هذا آخر ما وجده. وكتبه: عبد الرحمن بن علي بن خلف الفارسكوري، عفا الله عنهم أجمعين". فناسخها إذن هو العلامة الشافعي زين الدين عبد الرحمن بن علي بن خلف الفارسكوري القاهري، المتوفى سنة (805 هـ) (¬1)، نقلها من خط العلامة الحنفي جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي الحنفي صاحب كتاب "نصب الرايةا المتوفى سنة (762 هـ)، والزيلعي - رحمه الله - قد نقلها أيضاً عن أصل (¬2) لعله: للشيخ شمس الدين علي بن محمد الفوِّي الذي كتبها من إملاء الإمام ابن دقيق العيد عليه، كما تقدم قريباً. فهي نسخة موثَّقة متقنة، خطها واضح جيد، ضبط فيها ما يشتبه من ألفاظ، وأشار إلى البياض الموجود في الأصل ومقداره، وإلى ¬

_ (¬1) وهو الذي قد عمل شرحا على "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق، وجمع فيه أشياء حسنة، ولكنه عُدم، كما ذكر السخاوي في "الضوء اللامع" (4/ 96). (¬2) جاء عند الوجه الثاني من الحديث الثاني عشر من باب الوضوء قوله في الهامش: وجدت في الأصل ما مثاله: وجدت في الأصل يرجع إلى الوريقة التي أولها: الوجه الثالث في إيراد الحديث. قال: ولم أجد الورقة. ثم بيض نحو من نصف صفحة.

الثالثة

مواضع الخلل في الكلام، فكثيراً ما يذكر فوق الكلمة أو الجملة الغامضة: (كذا)، أو يقول: كذا وجد، ونحو ذلك. كما أن هوامش هذه النسخة قد حُلِّيت بتصحيحات وتصويبات تدل على نباهة ودقة ناسخها. ولولا الخرم الموجود في أولها، وبعض المواضع الساقطة فيها، لاتخذتها أصلاً يعتمد عليه، فإن ناسخها علامة شافعي، نقلها عن علامة حنفي، نقلها - فيما أظن - عن تلميذ المؤلف، نقلها هو من إملاء الإمام ابن دقيق رحمه الله، والله أعلم. وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف "ت". الثالثة: نسخة مصورة عن المكتبة البديعية بباكستان، وتقع أوراقها في (177) ورقة، في كل ورقة وجهان، وفي كل وجه (23) سطراً، وفي كل سطر (11) كلمة تقريباً. وهي نسخة مخرومة الأول، تبدأ بعد كلام في المسألة الثالثة من الوجه السابع في الكلام على الحديث الأول من هذا الكتاب وهو قوله: "إرسال الثلاث حينئذ إرسالها في المنكوحة التي هي محل الخلاف ... . ". وانتهت بعد بداية الحديث الثاني من باب الآنية، عند السقط المشار إليه في النسخة "م". وهي نسخة إما منقولة من النسخة "م"، أو أنها منقولة من المصدر نفسه الذي نُقلت منه النسخة "م"، وذلك لتشابههما فيما

رأيت، إلا أنها نسخة لا يعوَّل عليها كثيراً وذلك للنقص الكبير فيها، فهي لا تعدو أن تكون ثلث الكتاب، ثم إنها مختلطة الأوراق، وثالثا صعوبة القراءة فيها لرداءة تصويرها. ومع ذلك فقد أَفدتُ منها في مواضع كثيرة عند الاختلاف بين النسختين "م"و"ت". وقد رمزت لهذه النسخة بحرف "ب". * * *

المبحث السابع بيان منهج التحقيق

المبحث السابع بيان منهج التحقيق 1 - نسخ الأصل المخطوط، وهو مصورة دار الكتب المصرية - كما أسلفت - المشار إليها بـ "الأصل"، والمرموز لها أحياناً بـ "م"، وذلك بحسب رسم وقواعد الإملاء الحديثة. 2 - معارضة المنسوخ بالمخطوط، للتأكد من استقامة النص وصحته. 3 - معارضة المنسوخ بالنسختين الخطيتين "ت" و"ب"، وإثبات الفروق بينهما، باعتماد النص الأصوب في متن الكتاب، وجعلت لإثبات تلك الفروق جملة من الضوابط منها: أ - أثبتُّ الزيادات والسقوطات التي لا يستقيم النص إلا بها في متن الكتاب، وجعلتها بين معكوفتين، وإلا أثبتها في الهامش. ب - أثبت التقديم والتأخير في الكلام، وكذا اختلاف اللفظ أو المعنى. ج - أهملت فروق النسخ التي وقع فيها تصحيف أو تحريف أو خطأ بين من الناسخ، وذلك كالأرقام، وتكرار بعض الجمل والكلام، وكذا أغفلت إثبات الفروق في نحو "رحمه الله"، و"رضي الله عنه"، والاختلاف في لفظ الصلاة على النبي صلى عليه وسلم؛ كقولهم مثلاً في نسخة: "عليه الصلاة والسلام"، وفي أخرى: "عليه السلام"، وفي أخرى "صلى الله عليه وسلم"، ونحو ذلك؛ إذ غالب هذا يكون من تصرف النسّاخ، والله أعلم.

د - كثيراً ما كنت أقول: في الأصل: كذا، والمثبت من "ت". أو: في الأصل كذا، والتصويب من "ت". فإن كان للكلمة وجه أو تأويل أثبت الجملة الأولى، وإن لم يكن لها وجه، بل هي خطأ صِرف ذكرت الجملة الثانية. هـ - لم أعوّل كثيرًا على إثبات الفروق من النسخة "ب"، للأسباب التي ذكرتها سابقًا في وصف النسخ الخطية. 4 - ضبطت بالشكل شبه الكامل كلًا من: أحاديث المتن والشرح، والأشعار والأرجاز والأمثال، والأسماء والبقاع. 5 - أدخلت علامات الترقيم المعتادة على النص، ووضعت الكتب والمصنفات بين قوسي تنصيص لتمييزها، وكذا تفقير الكلام، وتسويد عناوين الأبواب والمهمات من الكلام. 6 - عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها من الكتاب العزيز، وكان إدراجها برسم المصحف، وجعلت العزو بين معكوفتين في متن الكتاب بذكر اسم السورة ورقم الآية. 7 - خرَّجتُ الأحاديث النبوية الواردة في الكتاب؛ أما أحاديث المتن: فذكرت رواياتها وطرقها مستوفاة من الكتب الستة، بذكر رقم الحديث والكتاب والباب اللذين ورد فيهما.

وأما أحاديث الشرح: فتقيدت بما يعزوه الشارح رحمه الله، والإضافة عليه أحيانا إن دعت الحاجة إلى ذلك. فما كان في الصحيحين - أو أحدهما - عزوت إليهما دون غيرهما، وذلك بذكر رقم الحديث والكتاب والباب، ثم أنبه إلى صاحب اللفظ، وذكرت اسم الصحابي الذي روى الحديث إن لم يذكره الإمام ابن دقيق رحمه الله. وكذا إذا كان في السنن الأربعة أو أحدها عزوت إليها دون غيرها وفق الطريقة الماضية. فإن كان الحديث خارج الأصول الستة المذكورة عزوت إلى مصادره دون الإطالة في ذلك. وفي كل ذلك كنت أذكر الحكم على الأحاديث صحة وضعفًا، معتمدًا على كلام أئمة هذا الشأن من المتقدمين والمتأخرين، وأعني بالمتأخرين منهم: الإمام ابن دقيق، وابن تيمية، والذهبي، وابن القيم، وابن حجر، والسخاوي، وأمثالهم. ولم أركن إلى قول المتأخرين الفضلاء في زماننا هذا إلا في مواضع قليلة جداً. 8 - خرجت الآثار الواردة عن الصحابة والسلف رضوان الله عليهم أجمعين. 9 - وثقت تراجم الصحابة والرواة الذين ترجم لهم المؤلف رحمه الله، بذكر مصادر ترجمتهم الرئيسة التي وقفت عليها.

10 - وثقت المواد اللغوية وغريب الحديث الذي ذكره المؤلف من المعاجم والمصنفات المؤلفة في هذين البابين، والتي نقل عنها المؤلف وكانت مطبوعة متوافرة لدي. 11 - خرجت الأبيات الشعرية والأرجاز التي استشهد بها المؤلف، وذلك بالإحالة على الديوان إن كان للشاعر ديوان، وإلا فمن كتب العربية وأمهات مصادر اللغة، دون الاستفاضة في التخريج، ثم وضعت الأوزان الشعرية بين معكوفتين. 12 - وثقت النقول من الكتب التي نقل عنها المؤلف سواء الحديثية منها أو الأصولية أو الفقهية أو العربية، وهو رحمه الله - لا يذكر مرجعه في نقله أحياناً. 13 - عرَّفت ببعض الأعلام غير المشهورين، وكذا عرَّفت ببعض الكتب التي نقل عنها المؤلف ولم تطبع بعد، أو ما زالت مفقودة. 14 - شرحت بعض الكلمات الغريبة الواردة عند المؤلف - رحمه الله - سواء كانت من لفظه أو لفظ غيره. 15 - ذكرت في كثير من الأحيان الأئمة الذين نقلوا عن ابن دقيق في هذا الكتاب، خصوصاً الزركشي في "البحر المحيط"، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري". 16 - أوضحت بعض العبارات المبهمة والغامضة، بغية تقريب كلام الإمام ابن دقيق رحمه الله، وقد كان العزم معقوداً لشرح كل جملة قد يشكل فهمها، لكني أعرضت عن ذلك، خشية زيادة حجم الكتاب، ولاختلاف الأفهام والأنظار، فالفهم - كما يقال - عرضٌ يطرأ ويزول.

17 - ذكرت في مواضع عديدة فوائد ونكتاً بديعة من كلام الأئمة من أمثال الإمام المحقق ابن القيم والحافظ ابن حجر وغيرهما، وذلك فيما يتصل بكلام المؤلف رحمه الله. 18 - قدمت للكتاب بفصلين: أولهما: في ترجمة المؤلف رحمه الله. وثانيهما: في دراسة الكتاب، وفي كل منهما مباحث متعددة، ثم وصفت النسخ الخطية التي اعتمدتها في التحقيق. 19 - ذيلت الكتاب بفهرس تحليلي متنوع اشتمل على: 1 - فهرس الآيات القرآنية الكريمة. 2 - فهرس الأحاديث النبوية الشريفة "المتن". 3 - فهرس الأحاديث النبوية الشريفة "الشرح". 4 - فهرس الآثار والأقوال. 5 - فهرس الأعلام المترجم لهم. 6 - فهرس الأشعار والأرجاز. 7 - فهرس غريب اللغة والحديث. 8 - فهرس القواعد والفوائد الأصولية. 9 - فهرس القواعد والضوابط الفقهية. 15 - فهرس الكتب المعرَّف بها. 11 - فهرس الموضوعات والفوائد والمسائل التي ذكرها المؤلف في شرح الأحاديث.

12 - فهرس مصادر ومراجع التحقيق. 13 - الفهرس العام. * * *

صُورَ المَخْطُوطَات

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية لدار الكتب المصرية، المرموز لها بـ "الأصل" وب "م"

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية لدار الكتب المصرية، المرموز لها بـ "الأصل" وبـ "م"

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية لمكتبة كوبريلي، المرموز لها بـ "ت"

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية لمكتبة كوبريلي، المرموز لها بـ"ت"

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية للمكتبة البديعية، المرموز لها بـ "ب"

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة البديعية، المرموز لها بـ (ب)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ الأَلْمَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى مِن إِصْدَارَاتِ وَزَارَة الشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالأَوْقَافِ وَالدَّعْوَةَ وَالإِرْشَادِ المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ 1429 هـ - 2008 م الطَّبْعَةُ الثَّانِيَة مِنْ إِصْدَارَاتِ دَارُ النَّوَادِرِ 1430 هـ - 2009 م دَارُ النَّوَادِرِ لصاحبها ومديرها العام نُورِ الدِّين طَالِب سوريا - دمَشق - ص. ب: 24306 لبنان - بيروت - ص. ب: 5180/ 14 هاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخُ الإِمام العالم العامل العلامة الزاهد العابد الورع الحافظ الضَّابطُ، فريدُ دهره، ووحيدُ عصره، محيي السنُّة، مُميتُ البِدعة، تقيُّ الدين أبو الفتح محمدُ بن أبي الحسن علي ابن وهبٍ القُشَيري - رضي الله عنه - وأرضاه: الحمد لله شارحِ حرجِ الصدور بلطفه، وفاتحِ مُرْتَج الأمور بعطفه، نحمده على نِعَمٍ لم تغرُبْ عنَّا طوالعُها, ولم تَنْضب لدينا مَشارعُها، ونشهدُ أن لا إله إلا الله، شهادةً يَفيضُ على الأسرار نورُها، ويَستفيض على الأقطار ظهورُها، ونشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، الذي به سَبَغَت نعمةُ الهداية أكملَ سُبوغ، وجعل له سلطانا نصيراً أفضى إلى دَرْك غاية الظَّفَر والبلوغ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاةً يَبْلُغُ بها أرفعَ المراتبِ مَنْ أقرَّ به. وبعد: فإنَّ التفقُّهَ في الدين منزلةٌ لا يخفى شرفُها وعلاها, ولا تَحتجِبُ عن العقل طوالعُها وأضواها، وأرفعُها بعدَ [فهم] كتابِ الله المنزَّلِ، البحثُ عن معاني حديثِ نبيِّهِ المرسلِ، إذ بذلك تثبتُ القواعدُ ويستقر

سبب تأليف الكتاب

الأساس، وعنه يصدر الإجماعُ ويقوم القياس، وما تقدَّم شرعًا تعيَّنَ تقديمُهُ شروعًا، وما كان محمولاً على الرأس لا يَحسُن أن يجعلَ موضوعًا، لكنَّ شرطَ ذلك عندنا أن يحفظَ هذا النظامُ، ويُجعلَ الرأيُّ هو المؤتمُّ والنصُّ هو الإِمام، وتُردُّ المذاهبُ إليه، وتضمُّ الآراء المنتشرةُ حتى تقفَ بين يديه، وأما أن يُجعلَ الفرعُ أصلًا، بردِّ النص إليه بالتكلُّف والتحيُّل، ويُحملَ على أبعدَ المحاملِ بلطافة الوهم وسَعَةِ التخيُّل، ويُركبَ في تقرير الآراء الصعبُ والذَّلولُ، ويعملَ من التأويلات ما تنفرُ عنه النفوسُ وتستنكره العقولُ، فذلك عندنا من أردأ مذهبٍ وأسوأ طريقة، ولا يُعتقَدُ أنه تَحصُلُ معه النصيحةُ للدين على الحقيقة، وكيف يقع أمرٌ مع رجحان مُنافيه، وأنَّى يصحُّ الوزن بميزانٍ مَالَ أحدُ الجانبين فيه؟ ومتى يُنصف حاكمٌ مَلَكَتْهُ عصبيةٌ العصبيةَ؟ وأين يقع الحقُّ من خاطر أخذته العزَّةُ بالحميَّة؟ وأنَّى يُحكَمُ بالعدلْ عند تعادل الطرفين؟ ويظهرُ الجَور عند تَقايُل المُتحرِّفَين (¬1)؟! هذا ولما خرج ما أخرجته من كتاب "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام"، وكان وضعُه مقتضيًا للاتساع، ومقصودُه موجبًا لامتداد الباع، عَدَل قومٌ عن استحسان إطابته، إلى استخشان إطالته، ونظروا إلى المعنى الحامل عليه، فلم يُفضوا بمناسبته ولا إخالته، فأخذتُ في الإعراض عنهم بالرأي الأحزم، وقلتُ عند سماع قولهم: ¬

_ (¬1) أي: كيف يظهر الظلم إذا كان الطرفان المتخاصمان متعادلَين، وتحرَّف: مال وعدل. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص: 1033)، (مادة: حرف).

شِنْشِنة أعرفُها مِنْ أَخْزَمِ (¬1) ولم يكن ذلك مانعًا لي من وصل ماضيه بالمستقبل، ولا موجبًا لأَنْ أقطعَ ما أمر الله به أنْ يُوصل: فَمَا الكَرَجُ الدُّنيا ولا النَّاسُ قَاسِمُ (¬2) والأرضُ لا تخلو من قائم لله بالحجة، والأمةُ الشريفة لابدَّ فيها من سالك إلى الحق على واضح المحَجَّة، إلى أن يأتيَ أمرُ الله في أشراط الساعة الكُبرى، ويتتابع بعدَه ما لا يبقى معه إلا قدومُ الأخرى، غير أنَّ ذلك الكتابَ كتابُ مطالعة ومراجعة عند الحاجة إليه، لا كتابَ ¬

_ (¬1) شطر من الرجز لأبي أخزم الطائي، وهو من أمثالهم؛ كما في "جمهرة الأمثال" للعسكري (1/ 542)، و"المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري (2/ 134)، و"مجمع الأمثال" للميداني (1/ 361). والشنشنة: السجية والطبيعة، وأصله: أن أخزم كان عاقًّا لأبيه، فمات وترك بنين عقُوا جدَّهم، وضربوه وأدمَوْه فقال: إن بنيَّ زملوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 554)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 243) (مادة: شنن). (¬2) عجز بيت منسوب إلى منصور بن باذان؛ وصدره: ذريني أجوبُ الأرض في فلَواتها والكرج: حصن أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي. انظر: "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" لأبي منصور الثعالبي (ص: 20)، و"معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (4/ 1123)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (12/ 421 - 422)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (49/ 132)، وله قصة فيها.

الوجوه المقصودة من الكلام على الأحاديث

حفظ ودرس يُعتكف في التكرار عليه، فصنفت مختصراً لتحفـ[يـ]ـظِ الدارسين، وجمعت رأس مال لإنفاق المدرسين، وسميته بـ: "الإلمام بأحاديث الأحكام" وهذا التعليق الذي نشرعُ فيه الآن بعون الله، فنشرح ما فيه من السنن على وجوهٍ نقصدها، ومقاصدَ نعتمدها: الأول: التعريف بمن ذُكِر من رواة الحديث والمخرِّجين له، والتكلم فيما يتعلق به على وجه الاختصار. الثاني: التعريف بوجه صحته، إما على جهة الاتفاق أو الاختلاف، على وجه الإيجاز أيضًا. الثالث: الإشارة أحياناً إلى بعض المقاصد في الاختيار لِمَ الاختيار عليه؟ الرابع: الكلام على تفسير شيء من مفردات ألفاظه إذا تعلق بذلك فائدة، إما لغرابتهِ عن الاستعمال العادي، أو لفائدةٍ لا تظهر عند أكثر المُستعملين. الخامس: إيراد شيء من علم الإعراب إذا احتيج إليه أحيانًا. السادس: في علم البيان في بعض الأماكن. السابعِ: الكلام على المعاني التركيبية والفوائد المستنبطة والأحكام المُستَخرجة، وهذا هو المقصود الأعظم. الثامن: اعتمادُ ما تقدمت الإشارةُ إليه من عدم الميل والتعصُّب في

ذلك لمذهب معيَّن على سبيل العسف، فنذكر ما بلغنا مما استدل به أصحابُ المذاهب لمذاهبهم، أو يمكن أن يُستدلَّ به لهم، فإن كان وجه الدليل ظاهراً، وإلا بدأنا ببيانه، ثم نتُبع ذلك بما عساه يُذكَر في الاعتذار عن مخالفة ظاهره لمن خالفه إن تيسَّر ذلك. التاسع: الإعراضُ عمَّا فعله كثيرٌ من الشارحين من إيراد مسائلَ لا تُستنبَط من ألفاظ الحديث، كمن يأتي إلى حديث يدلُّ على جواز المسح على الخفين، أو الاستنشاق، أو الظِّهار، أو الإيلاء مثلًا، فيأتي بمسائل ذلك الباب من غير أن تكون مستنبطةً من الحديث الذي يتكلم عليه، وإن أمكن فَبِطريق مُستبعَد. العاشر: تركُ ما فعله قومٌ من أبناء الزمان، ومن يُعَدُّ فيهم من الأعيان، فأكثروا من ذكر الوجوه في مَعْرضِ الاستنباط، واسترسلوا في ذلك استرسال غيرَ مُتحرِّزٍ ولا محتاط، فتخيَّلوا وتحيَّلوا، وأطالوا وما تطوَّلوا، وأبدوا وجوهًا ليس في صفحاتها نور، وذكروا أوهامًا لا تميل إليها العقول الراجحة ولا تَصُور، حتى نُقِل عن بعضهم أنه ادعّى الاستدلالَ على جميع مسائل مذهبه الذي تقلده من الكتاب العزيز. الحادي عشر: تهذيبُ كثير مما ذكر الشارحون للحديث وتلخيصُه والتحقيق فيه، والمؤاخذة فيما عساه يُؤخَذ على قائلِهِ. الثاني عشر: جلبُ الفوائد المتبدّدة من كتب الأحكام التي تقع مجموعةً في كلام الشارحين للأحاديث فيما علمناه على حسب ما تيسَّر.

إلى غير هذه الوجوه من أمور تَعرض، وفوائد تتصدَّى للفكر فتعترِض ولا تعرض، والله تعالى يحسن العون في إتمامه، ويوفقنا لنية صالحة فيه تُعلي منازلَنا في دار الكرامة. * * *

الكلام على خطبة الأصل

الكلام على خطبة الأصل " الحمد لله منزِّلِ الشرائع والأحكام، ومفصِّلِ الحلال والحرام، والهادي مَن اتَّبع رضوانه سُبَلَ السلام، وأشهد أن لا إله إلا الله توحيداً هو في التحرير (¬1) مُحْكمُ النظام، وفي الإخلاص وافرُ الأقسام، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الذي أرسله رحمة للأنام، فعليه منه أفضلُ صلاةٍ وأكملُ سلام، ثم على آله الطيبين الكرام، وأصحابِه نجومِ الهدى الأعلام". " الحمد": هو الثناء على الممدوح بصفاته الجميلة وأفعاله الحسنة، والشكر يتعلق بالإحسان الصادر منه، وقد تكلموا في العموم والخصوص بينهما، مع أن المدح قد يعمّهما معًا، والذي يتحرر: أن الشكر يُطْلَق على الفعل والقول جميعًا، قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] وقال - صلى الله عليه وسلم - لما قام حتى تفطرت قدماه، وقيل: [لم] (¬2) تفعلُ هذا وقد غُفِر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ¬

_ (¬1) في المطبوع من "الإلمام" (1/ 46) "التقرير" بدل "التحرير"، وكذا في النسخة الخطية للإلمام بيد الإِمام ابن عبد الهادي (2 / أ). (¬2) في الأصل: "لما"، والصواب ما أثبت.

"أفلا أكونُ عبدًا شَكوراً" (¬1). والحمدُ يخصُّ القول، فإذا نظرنا إليهما بالنسبة إلى القول خاصةً كان الحمد أعمَّ في هذا المحل, لأنه يحمدُ على صفاته الجميلة وعلى الإحسان الصادر منه، يقال: حمدته على الشجاعة وعلى الإحسان, والشكر محلُّه الإحسان (¬2). وقوله: "منزل الشرائع والأحكام": استفتاح خطبة الكتاب بما يناسبُ مقصوده، ويدلّ على غرضه؛ إذ هو كتاب أحكام، وفيه أيضًا إشارةٌ إلى أن الأحكام الواردة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزلة، لكون ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4557)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ومسلم (2820)، كتاب: صفة الجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، من حديث عائشة رضي الله عنها، ووقع عند البخاري: "لم تصنع هذا"، وعند مسلم: "أتصنع هذا". ورواه البخاري (4556)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ومسلم (2819)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، ووقع عند مسلم: "أتكلف هذا". وقد رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 209)، من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - بلفظ: "لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ... " الحديث. (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 251)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 493)، و "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (1/ 133)، و "مجموع الفتاوى" لشيخ الإِسلام ابن تيمية (11/ 133)، و "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 246)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 425)، (مادة: شكر).

الاجتهاد من الرسل

المقصود الأحكام الحديثية. فإن قلنا: إنَّ الرسل - عليهم السلام - لا يجتهدون في الأحكام، فالكلامُ على حقيقته وظاهره. وإن قلنا: إنهم عليهم السلام يجتهدون، فالأحكامُ منزلة بواسطة إنزال ما يقتضي الحكم بالاجتهاد (¬1)، كما ذكر عبد الله بن مسعود: أنّ لعنه الواصلة والمستوصلة في كتاب الله تعالى، فلما أُنكِر ذلك أحال على قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] مع لعنةِ الرسول عليه السلام الواصلة والمستوصلة (¬2)، فجعل ذلك في الكتاب بواسطة الأمر بأخذ ما آتاه الرسول. وقوله: "ومفصل الحلال والحرام": اختار لفظ التنزيلِ للأحكام، والتفصيلِ لتمييز الحلال من الحرام، لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ} [النساء: 105] ولقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]. ¬

_ (¬1) الجمهور على جواز الاجتهاد لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الأنبياء، وهو المختار كما قال ابن الحاجب والآمدي وغيرهما. انظر: "الأحكام" للآمدي (4/ 172)، و"الإبهاج في شرح المنهاج" للسبكي (3/ 246). (¬2) رواه البخاري (4604)، كتاب: التفسير، باب: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ومسلم (2125)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، وليس عندهما ذكر "الواصلة والمستوصلة" في الحديث. نعم رواه البخاري (4605)، كتاب: التفسير، باب: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وفيه ذكر "الواصلة" فقط.

المقصود من اختياره صيغة "فعليه منه أفضل صلاة"

وقوله: "توحيداً هو في التحرير محكم النظام، وفي الإخلاص وافر الأقسام": إحكام النظام يناسب التحريرَ فقُرِنَ به، ومراتبُ الاعتقادات والحكم الذهني متفاوتةٌ، فاختير للإخلاص توفرُ الأقسام. وقوله: "أرسله رحمة للأنام": إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وقوله: "فعليه منه أفضل صلاة وأكمل سلام": فيه بحثان: أحدهما: الصيغة صيغة خبر، والمقصودُ بهذه الصيغة الطلبُ ليكونَ امتثالاً لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] , وعلى حمل الصيغة على الإخبار قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] وبين الإنشاء والإخبار تضادٌّ، وهل يُحتاجُ في امتثال الأمر إلى إنشاء قصد، واستحضار النية للطلبِ وإخراجِ الكلام عن حقيقته من الخبر؟! إن كان اللفظ المستعمل قد كَثُرَ حتى صار كالمنقول في عُرفِ الاستعمال، لم يُحتجْ إليه؛ لأنَّ المغلَّبَ عرفُ الاستعمال على الحقيقة اللغوية، وإن استعمِل لفظ لم ينتهِ في العرف إلى ذلك، فالأقربُ الحاجةُ إليه. البحث الثاني: الصلاةُ من الله تعالى مفسَّرةٌ بالرحمة، ويقتضي هذا أنْ يقال: اللهمَّ ارحم محمدًا؛ لأنَّ المترادِفَين إذا استويا في الدَّلالة قام كلُّ واحد منهما مقامَ الآخر، ويشهد لهذا تقريرُهُ عليه السلام

الأعرابيَّ على قوله: اللهمَّ ارحمني ومحمدًا (¬1). وأبى ذلك بعضُ العلماء، لدلالة لفظ الصلاة على معنى من التعظيم لا يُشعَرُ به من لفظ الرحمة، فلهذا قال الفقهاء: إنه لا يُصَلَّى على غير الأنبياء إلا تبعًا، أو من قاله منهم (¬2)، وكذلك - أيضًا - لفظُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5664)، كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، من حديث أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: "لقد حجرت واسعًا" يريد رحمة الله. (¬2) قال ابن القيم - رحمه الله - بعد حكايته الخلاف في ذلك بين الأئمة: "وفصل الخطاب في هذه المسألة: أن الصلاة على غير النبي؛ إما أن يكون آله وأزواجه وذريته، أو غيرهم، فإن كان الأول: فالصلاة عليهم مشروعة مع الصلاة على النبي، وجائزة مفردة. وأما الثاني: فإن كان الملائكة وأهل الطاعة عموماً الذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم، جاز ذلك أيضًا، فيقال: اللهم صل على ملائكتك المقربين وأهل طاعتك أجمعين. وإن كان شخصاً معينًا، أو طائفة معينة: كره أن يتخذ الصلاة عليه شعاراً لا يخل به، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه، ولا سيما إذا جعلها شعاراً له، ومنع منها نظيرَه، أو من هو خير منه، وهذا كما تفعل الرافضة بعلي - رضي الله عنه -، فإنهم حيث ذكروه قالوا: عليه الصلاة والسلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه، فهذا ممنوع لا سيما إذا اتخذ شعاراً لا يخل له، فتركهُ حينئذ متعين، وأما إن صلى عليه أحيانا؛ بحيث لا يجعل ذلك شعاراً، كما صلي على دافع الزكاة، وكما قال ابن عمر للميت: صلى الله عليه، وكما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على المرأة وزوجها، وكما روي عن علي من صلاته على عمر، فهذا لا بأس به. وبهذا التفصيل تتفق الأدلة، وينكشف وجه الصواب، والله الموفق، انتهى. وانظر: "جلاء الأفهام" له (ص: 481 - 482).

اختلاف الناس في الداخلين في لفظ الصلاة على آل النبي

الرحمة، إشعارُه ناقص عن مدلول اللفظ الأول، ولا خلافَ في إطلاقه على غير الأنبياء، وهذا مما يخدش في الترادف. ويمكن أن يقال: إن تفسيرَ الصلاة بتبيين معنى أصل موضوع الكلمة غيرُ مأخوذٍ فيه ما اختصت به إحداهما, ولا يطلق عليهما ترادفٌ حقيقي بهذا الاعتبار، وإن كان ما اختصت به إحداهما داخلًا تحت مدلول اللفظ وضعاً. وقوله: "ثم على آله الطيبين الكرام، وأصحابه (¬1) نجوم الهدى الأعلام": اختلف الناس في الذين يدخلون في الصلاة، والمرادُ ها هنا أهلُه الأدْنَون (¬2)، واختير لهم لفظةُ الطيبين إشارةً إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] , وهذا جارٍ على أحد قولي المفسرين. والكرام: جمع كريم، ويجمَعُ - أيضًا - على كُرماء، وقد حكى قوم: كَرَم، كما يقال: أَدِيم وأَدَم (¬3)، والكَرَمُ في العرف الشائع يستعمل بمعنى الجود والسخاء، ويستعمل في اللغة بمعنى الفضل والرفعة، وإذا قالوا: كريم، فإنما يريدون به رفيعاً فاضلاً، والله ¬

_ (¬1) في الأصل: "وعلى آله" بدل "وأصحابه". (¬2) وهم ذريته وأزواجه، وقد صحح ابن القيم رحمه الله دخولهم في آل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين تحرم عليهم الصدقة وذكر أنه منصوص الإِمام أحمد. انظر: "جلاء الأفهام" له (ص 216). (¬3) نقله الأزهري في "تهذيب اللغة" (10/ 235)، (مادة: كرم) عن الليث في "العين" (5/ 368)، ثم قال: والنحويون يأبون ما قال الليث.

الكريم؛ أي: الفاضل الرفيع (¬1). وقال ابن سِيْدَه: الكَرَمُ نقيض اللؤم يكون في الرجل بنفسه، وإن لم يكنْ له آباء، ويستعمل في الخيل والإبل والشجر وغيرها من الجواهر إذا عنوا العِتْق، وأصفه في الناس، قال ابن الأعرابي: كَرَمُ الفرس: أن يَرِقَ جلدُه ويَلينَ شعرُه وتطيبَ رائحته، وقد كَرُم الرجل وغيره، كرمًا وكرامة، فهو كريم وكريمة وكِرْمَة ومَكْرَم ومَكْرَمَة وكُرَّام وكُرّامة، وجمعُ الكريم كُرماء وكِرام، وجمع الكُرَّام كُرَّامون، قال سيبويه: لا يُكسَّر كُرَّام، استغنوا عن تكسيره بالواو والنون (¬2). وإنه لكريم من كرائم قومه، على غير قياس، حكى ذلك أبو زيد، وإنه لكريمة من كرائم قومه، وهذا على القياس، ورجل كَرَمٌ: كريم، وكذلك الاثنان والجمع والمؤنث؛ لأنه وصف بالمصدر، وقال (¬3): لقدْ زادَ الحياةَ إلَيَّ حُبًّا ... بَنَاتِي، أَنّهنَّ مِن الضّعافِ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (10/ 223). (¬2) انظر: "الكتاب" لسيبويه (2/ 210)، باب: تكسير ما كان من الصفات. (¬3) الأبيات لأبي خالد القَنَاني الخارجي، كما نسبها إليه المبرد في "الكامل" (3/ 1081 - 1082)، وابن منظور في "لسان العرب" (12/ 1510)، (مادة: كرم). وانظر:"شعر الخوارج" جمع إحسان عباس (ص: 57 - 58). وقدْ نسيت هذه الأبيات لغيره، وانظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص - 59 - 60)، و"شرح أبيات مغني اللبيب" لعبد القادر البغدادي (7/ 138 - 140)، و"تاج العروس" للزبيدي (33/ 336)، (مادة: كرم).

مخافةَ أَنْ يَرَيْنَ البؤسَ بَعْدِي ... وأَنْ يَشْربْنَ رَنْقًا (¬1) بعدَ صَافِ وأنْ يَعْرَيْنَ إِنْ كُسِيَ الجَوارِي ... فَتَنْبُو العينُ عن كَرَيم عِجَافِ (¬2) واختار: "الصَّحابة نجوم الهدى الأعلام": إشارة إلى ما جاء في الحديث: "أصحابي كالنُّجومِ بأيِّهم اقتديتُمْ اهتديتُمْ" (¬3)، ولصحة ¬

_ (¬1) الرَّنْق: الكَدَر. (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 24)، (مادة: كرم). (¬3) رواه عبد بن حميد في "مسنده" (783)، ومن طريقه: ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (ص: 59)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقال: هذا حديث غريب تفرد به حمزة الجزري، ويقال: حمزة بن أبي حمزة النصيبي، أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 376)، وأخرج ابن عدي لحمزة هذا عدة أحاديث وقال: لا يتابع عليها وهي مناكير، ونقل عن يحيى بن معين أنه قال في حمزة: لا يساوي فلسًا، وعن البخاري أنه قال: منكر الحديث. وذكر ابن عبد البر في كتاب: "بيان العلم" (2/ 90) عن أبي بكر البزار: أنه سئل عن هذا الحديث فقال: هو مشهور بين الناس، وليس له إسناد يصح، رواه عبد الرحيم بن زيد العَمِّي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، وربما قال: عن ابن عمر، والآفة فيه من عبد الرحيم، وعبد الرحيم وحمزة في الضعف سواء. قال الحافظ: وقد وقع لنا من حديث جابر، وإسناده أمثل من الإسنادين المذكورين. ثم ذكر بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعًا: "مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم"، أخرجه الدارقطني في كتاب "فضائل الصحابة"، وأخرجه ابن عبد البر من طريقه (2/ 91) وقال: لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول. قلت: قد ذكره ابن حبان في "الثقات" (8/ 181) وقال: روى عنه حسين بن علي الجعفي، فهذا قد روى عنه =

التنبيه على مقاصد التأليف

المعنى فيهم - رضي الله عنه -، لانتشار الشريعة من جهتهم إلى الأمة. وقوله: "وبعدُ: فهذا مختصرٌ في علم الحديث، تأملتُ مقصودَه تأمُّلاً": إنَّ الواجب لمن شَرَع في أمر أن ينظرَ في المقصود ¬

_ = اثنان ووثق، فلا يقال فيه مجهول. نعم الراوي عنه - يعني: سلام بن سليمان - قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن عدي والعقيلي: منكر الحديث، ونقل النسائي في "الكنى" عن بعض مشايخه: أنه وثقه. قلت: وقد رواه من طريق الدارقطني أيضًا: ابن حزم في "الإحكام" (6/ 244) وقال: أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام ابن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك، فهذه رواية ساقطة من طريق ضعيف إسنادها. كما رواه ابن منده في "فوائده" (ص: 29) من طريق سلام بن سليمان، عن الحارث بن غصين، به. قال الحافظ ابن حجر في "أماليه" (ص: 61): وأما حديث عمر الذي أشار إليه البزار، فأخرجه البيهقي في "المدخل" (ص 162) من طريق نعيم بن حماد، عن عبد الرحيم. قلت: وعبد الرحيم كذاب، كما في "التلخيص الحبير" (4/ 191). وأخرجه أيضًا من رواية جويبر بن سعيد أحد المتروكين فقال: تارة عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال تارة: عن جواب بن عبيد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معضلاً. قال البيهقي: هذا المتن مشهور، ولا يثبت له سند، انتهى. وروى الحديث أيضًا: القضاعي في "مسند الشهاب" (1346)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفي إسناده: جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، وهو كذاب. وبالجملة: فهذا حديث مشهور على الألسنة، مذكور في كتب الفقهاء، وليس له إسناد صحيح يثبت به، أو يعوَّل عليه.

منه، ويجعل فضلَ العناية به، فإن كان مقصودُه البيانَ والبسطَ اعتنى بذلك، وأوضح ومال إلى الإسهاب بحيثُ لا يخرجه إلى الهذَرَ، وإن كان مقصودُه الاختصارَ لَمَح هذا المعنى واعتنى به، وترك ما يمكنه تركُه، واستغنى بما يذكره عن غيره إذا كان الذي يذكره يغني عنه، إلى ما يناسب هذا. ولما وقع في جمع بعض المخُتصِرين ما ينافي هذا المقصود أشار إلى تنبيهه لذلك، واعتبار مقصود الاختصار، فربما ترك الأحاديث التي يكفي في الاستدلال على حكمها كتابُ الله تعالى أو إجماع الأمة، وإن وقع من هذا شيء فيكون المقصود أمرًا آخر يتعلق بدلالة الحديث، وتنجر الدلالة إلى الحكم المجمع عليه انجرارًا غيرَ مقصود بالوضع وحدَهُ، كما في قوله عليه السلام: "لا يَقبلُ اللهُ صلاةَ أحدِكُمْ إذا أحدَثَ حتىَّ يتوضأ" (¬1)، فإنه استدلَّ به على وجوب طهارة الحدث، وهو أمر مجمع عليه، وليس هو المقصودُ بإيراد الحديث وحده، وإنما استدلَّ به على أنَّ سبقَ الحدث مُبطِلٌ للصلاة، مانعٌ من البناء. ومن المقاصد - أيضًا -: ألا يذكرَ أحاديثَ متعددة للدَّلالة على حكم واحد إلا لمعُارِضٍ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6554)، كتاب: الحيل، باب: في الصلاة، واللفظ له، ومسلم (225)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب الطهارة للصلاة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

"الجفل" لغة

ومنها: الاكتفاءُ بأتمّ الحديثين وأكثرهما فائدةً عن أقلهما؛ أو لدخول مدلوله تحت الأعم فائدة، وقد يقوم في مثل هذا معارض، وهو أن يكونَ الحديثُ الأقلُّ فائدةً هو الحديث المشهور أو المُخرَّج في "الصحيحين" فَيُذكر لذلك، ويُتبَع بالحديث الذي فيه الزيادة، فإن إهمالَ ما في "الصحيحين" وما اشتهر بين العلماءِ الاستدلال به غيرُ مستحسن، وربما أوقع إهمالُهُ وذكرُ غيره من الكتب الخارجة عيباً في الاختيار عندَ مَنْ لم يفهم المقصود، وربما اكتفى بالزائد لمعارض آخر. ومنها: أنَّ الحديثَ الذي يستدلُّ به قد يكون مطولاً في الصحاح أو في الكتب المشهورة، ويكون موضعُ الاحتجاج مُقتصَراً عليه، مختصرا في غير ذلك من الكتب، فيقتصرُ على المختصر، ويترك التخريجَ من الصحاح؛ لأنه أليقُ بالكتاب، ولأنه إن ذكر ما في الصحاح مطولاً خرج عن المقصود الذي لأجله أخرج الحديث، وإن اقتصر على مقصوده منه، كان ذلك داخلًا في باب اختصار الحديث الذي لا يختاره قوم من المتوزعين، إلى غير ذلك من المقاصد التي أبهمها. وعلى الجملة فالمقصودُ من هذا الكلام أنه مُراعٍ لوضع الكتاب في الجملة غيْرُ مُسترسلٍ استرسالاً، وترجيحُ بعض المقاصد على بعض يكون بحسب حديثٍ حديثٍ، ومحلٍ محلٍ. قوله: "ولم أدع الأحاديث إليه الجَفَلَى": يقال: دعا فلان

معاني "الأدب" لغة

الجَفَلَى - بالجيم المفتوحة والفاء المفتوحة أيضًا مقصور الألف -: إذا عمّ بدعوته ولم يخصَّ قومًا دون قوم (¬1). قال الشاعر (¬2) [من الرمل]: نحنُ في المَشْتاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ والآدِبُ - ممدود الهمزة مكسور الدال -: هو صانع المأدُبة، والمأدُبةُ - بفتح الدال وضمها -: وهو كلُّ طعام صنع لدعوة (¬3). قال ابن سِيدَه: والأُدْبة والمأدُبة والمأدَبة: كلُّ طعام صُنِعَ لدعوةٍ أو عُرْس. قال سيبويه: قالوا: المأدَبة كما قالوا: المدعاة (¬4). وقيل: المأدَبة من الأدب، وفي الحديث: "إنَّ هذا القرآنَ ¬

_ (¬1) انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 487)، (مادة: جفل). (¬2) هو طرفة بن العبد، كما في "ديوانه" (ق 2/ 46)، (ص: 65). وقوله: "نحن في المشتاة" يريد زمن الشتاء والبرد، وذلك أشد الزمان، و"الجَفَلى": أن يعم بدعوته إلى الطعام، ولا يخص واحدًا دون آخر، و"الانتقار": أن يدعوَ النقَرى: وهو أن يخصهم ولا يعمهم، يقول: لا يخصون الأغنياء ومن يطمعون في مكافأته، ولكنهم يعمون؛ طلباً للحمد ولاكتساب المجد. انظر: "شرح الشنتمري على ديوان طرفة" (ص: 66). (¬3) في الأصل زيادة: "مضموم الدال"، ولا موضع لها. (¬4) انظر: "الكتاب" لسيبويه (2/ 248)، باب: اشتقاقك الأسماء لمواضع بنات الثلاثة التي ليست فيها زيادة من لفظها.

مأدَبةُ الله" (¬1)، والمأدُبة الطعامُ، فُرق بينهما. وقد أَدَبَ يأدِبُ أَدْباً، وآدَبَ: عمل مأدبة، والأَدْب: العَجَبُ (¬2). قال الجوهري: والأدْب: مصدر أدَبَ القومَ يأدِبهم - بالكسر -: إذا دعاهم إلى طعامه، والآدِبُ: الداعي إليه. قال طَرَفة [من الرمل]: نحنُ في المَشْتاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (2040)، من حديث ابن مسعود مرفوعًا وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه بصالح بن عمر. وتعقبه الذهبي: بأن صالحًا ثقة خرج له مسلم، لكن إبراهيم بن مسلم ضعيف. ورواه ابن حبان في "المجروحين" (1/ 99 - 100) في ترجمة إبراهيم الهجري وقال: كان ممن يخطئ فيكثر، سمعت محمَّد بن محمود يقول: سمعت الدارمي يقول: قلت ليحيى بن معين: فإبراهيم الهجري، كيف حديثه؟ قال: ليس بشيء. كما رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (30008)، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (2/ 248)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1933)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 157)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 109)، مرفوعًا، كلهم من طريق أبي إسحاق إبراهيم الهجري. قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويشبه أن يكون من كلام ابن مسعود. ورواه موقوفًا: عبد الرزاق في "المصنف" (5998)، والدارمي في "سننه" (3307)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8642)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1985)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 130)، كلهم من طريق أبي إسحاق إبراهيم الهجري أيضًا، وفيه ما قد علمت. (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (9/ 385)، (مادة: أدب).

اشتقاق "ألا" لغة

ويقال: - أيضا -: آدَبَ القومَ إلى طعامه يؤدِبهم إيداباً، حكاهما أبو زيد. واسم الطعام: المأدُبة والمأدَبة، قال الشاعر (¬1) [من الطويل]: كَأَنَّ قلوبَ الطَّيرِ في قَعْرِ عُشِّها ... نَوَى القَسْبِ مُلقىً عِنْدَ بعضِ المَآدِبِ (¬2) وأراد استعارة هذا الكلام لعدمِ التساهل فيما يُجلَبُ من الأحاديث. قوله: "ولا ألوْتُ في وضعه مُحرِّراً": ألوْتُ: مقصورُ الهمزة مفتوحُ اللام ساكنُ الواو، وهو ها هنا بمعنى قَصَّرْتُ، يقال: ما ألوت فلانا في نصحه، أي: ما قصرت في نصحه، وما ألوت في حاجتك، أي: ما قصرت فيها، يقال منه: آلُو - ممدودَ الهمزة مضموم اللام - ألوًّا - مضمومَ الهمزة المقصورة واللام بعدَها مشدَّدَة -؛ الواو، وأُلِيًّا - مقصور الهمزة مكسورَ اللام بعدَها ياء مشددة -؛ مثل عتو وعُتِيٍّ، ولهذيلٍ في هذه اللفظة استعمالٌ ليسَ هو المقصود ها هنا، يقولون: لا يألوا فلان على كذا، أي: لا يقدِر، ويقولون: ما ألوت على الصوم؛ أي: ما قدِرت، وبه فسَّرَ بعضُهم قولهم: لا دَرَيتَ ولا ائتَلَيْتَ، أي: افتعلت، من ألوت أي استطعت، وقيل: هو من ألوت: إذا قصَّرت، فيكون المعنى ثَمَّ: لا يدري ولا يقصر (¬3). ¬

_ (¬1) هو صخر العَي، كما في "لسان العرب" لابن منظور (1/ 206)، (مادة: أدب). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 86)، (مادة: أدب). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (15/ 430)، (مادة: ألى).

معاني "الضن" لغة

وقوله: "ولا أبرزتُهُ كيفَ اتَّفقَ تهوُّراً": تأكيد المعنى السابق، قال الجوهري: التهوّرُ: الوقوعُ بقلَّة مبالاةٍ، يقال: فلان مُتَهَوِّر (¬1). وقوله: "فمن فهم معناه شدَّ عليه يدَ الضَّنانة": يقال: ضَنَّ - بالضاد الساقطة المفتوحة - يَضِنُّ - بكسرها - ويَضَنُّ أيضًا - بفتحها - ضِنًا وضَنًا - بكسرها وفتحها - وضِنَّة ومضَنَة - بفتح الضاد وكسرها - وضَنانةً - بفتح الضاد -: بخل. قال ابن سِيدَه - بعدَ حكايته ما ذكرناه -: الأخيرةُ عن سيبويه (¬2). ويزيده عِلْق مضِنَّة ومضَنَّة - بكسر الضاد وفتحها -، والضِّنُّ - بكسرها -: الشيء المضنون [به]؛ عن الزَّجَّاجي. ورجل ضَنين: بخيل، وقوم أُضْنًا، وضننتَ بالمنزل ضنًا وضنانة: إذا لم تبرح، وكأن هذا عندي من مجاز التشبيه، أو مجاز اللزوم، فإنَّ البخيلَ بالشيء مقيم عليه، والإقامةُ على الشيء ولزوم الحال فيه من لوازم البخل، وقولهم: رجل ضَنَن: - مفتوح الضاد والنون، أي: شجاع. قال الشاعر [من البسيط]: إنِّي إذا ضَنَنٌ يَمشِي إلى ضَنَنٍ ... أَيْقَنْتُ أنَّ الفَتىَ مُودٍ به المَوتُ (¬3) يحتمِلُ عندي أنْ يكونَ لبخله بنفسه عن أن يُنسَبَ إلى الجبن. ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 856). (مادة: هور). (¬2) انظر: "الكتاب" لسيبويه (2/ 226)، باب: في الخصال التي تكون في الأشياء. (¬3) انظر: "المخصص" لابن سيدة (1/ 3/ 60)، و"جمهرة اللغة" لابن دريد (2/ 1011)، (مادة: ضنن)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 262). ولم يذكر قائل البيت عندهم.

الفرق بين "المكان" و "المكانة"

وقوله: (وأنزله من قلبه وتعظيمه الأعزَّين مكانًا ومكانةً": ردَّ المكانَ إلى القلب؛ لمناسبته له من حيثُ إنَّه حرم ومحل، وردَّ المكانةَ إلى التعظيم؛ للمناسبة أيضًا، وقد رجع الأول إلى الأول والثاني إلى الثاني، وهو من محاسن الكلام كما تَقَرَّرَ في فنِّهِ. وقوله: "وسميته بكتاب: الإلمام بأحاديث الأحكام": سمَّى بهذه التسميةِ بالنسبة إلى الكتاب الكبير الذي قصد فيه التوسع وتكثير الأحاديث وجلبها من حيث كانت على حسب القدرة، فهو بالنسبة إليه إلمام، لا بمعنى قصوره في نفسه وضَعفه بالنسبة إلى أحاديث الأحكام، أي: نذكرُ بعضَها ونترك ما هو كثير منه مما يُحتاج إليه ولا داعٍ إلى تركه من وجهٍ مُعتبر. وقوله: "وشرطي فيه ألَّا أوردَ إلا حديثَ من وثَّقه إمامٌ من مُزكّي رواة الأخبار، وكان صحيحًا على طريقةِ بعض أهل الحديث الحفَّاظ، أو بعض أئمة الفقهاء النُّظَّار (¬1) ": اعتبرَ هذا الشرطَ، ولم يشترط الاتفاق من الطائفتين؛ لأنَّ ذلك الاشتراط يضيق به الحال جدًّا، ويوجبُ تعذُّرَ الاحتجاج بكثير مما ذكره الفقهاء؛ لعسر الاتفاق على وجود الشروط المتفق عليها؛ ولأنَّ الفقهاءَ قد اعتادوا أنْ يحتجوا بما هو نازلٌ عن هذه الدرجة، فرجوعهم إلى هذه الدرجة ارتفاعٌ عما قد يعتادونه، فهو أولى بالذكر، ولأنَّ كثيرًا مما اختُلِفَ فيه من ذلك ¬

_ (¬1) في النسخة الخطية من كتاب "الإلمام" بيد الإِمام ابن عبد الهادي (2/ أ). وكذا في المطبوع من "الإلمام" (1/ 47): "أو أئمة الفقه النظار".

يرجعُ إلى أنه قد لا يقدَحُ عند التأمل في حقِّ كثير من المجتهدين، فالاقتصارُ على ما أُجْمعَ عليه تضييعٌ لكثير مما تقوم به الحجةُ عند جمعٍ من العلماء، وذلك مفسدة، ولأنه بعدَ أن يُوثَّقَ الراوي من جهة بعض المزكِّين قد يكون الجَرحُ مُبهماً فيه غيرُ مُفسَّر، ومقتضى قواعد الأصول عند أهله أن لا يُقبَلَ الجرح إلا مفسَّراً، فترك حديثِ مَنْ هو كذلك تضييعٌ أيضا، ولأنه إذا وُثِّقَ قد يكون القدحُ فيه من غير الموثِّقِ بأمر اجتهاديٍّ، فلا يساعده عليه غيرُه. وقوله: "فإنَّ لكلٍّ منهم مَغزىً قصدَه [وسلكَه] (¬1)، وطريقًا أعرضَ عنه وتركه": يريدُ أنَّ لكل من أئمة الحديث والفقه طريقًا غيرَ طريق الآخر، فإن الذي يتَبيَّنُ وتقتضيه قواعدُ الأصول والفقه: أنَّ العمدةَ في تصحيح الحديث عدالةُ الراوي وجزمُهُ بالرواية, ونظرُهُم يميل إلى اعتبارِ التجويزِ الذي يمكن معه صدقُ الراوي وعدم غلطه، فمتى حصل ذلك وجاز أن لا يكونَ غلطًا وأمكنَ الجمعُ بين روايته ورواية مَنْ خالفه بوجهٍ من الوجوه الجائزة، لم يُترَكْ حديثه. وأمَّا أهلُ الحديث: فإنهم قد يرو [و] ن الحديثَ من رواية الثقاتِ العدول، ثم تقوم لهم عللٌ فيه تمنعهم من الحكم بصحته؛ كمخالفة جمعٍ كثير له، أو مَنْ هو أحفظُ منه، أو قيامِ قرينة تؤثر في أنفسهم غلبةَ الظنِّ بغلطه، ولم يجرِ ذلك على قانون واحد يُستعمَلُ في جميع الأحاديث. ولهذا أقول: إنَّ مَنْ حكى عن أهل الحديث - أو أكثرِهِم -: أنه ¬

_ (¬1) زيادة من نسخة "الإلمام" الخطية (2 / أ) بيد الإِمام ابن عبد الهادي.

إذا تعارضَ روايةُ مُرسِلٍ ومُسنِد، أو واقفٍ ورافع، أو ناقصٍ وزائد: أنَّ الحكمَ للزائد، فلم نجدْ في هذا (¬1) الإطلاقَ، فإنَّ ذلك ليسَ قانوناً مطَّرداً، ومراجعة أحكامهم الجزئيةِ تُعَرفُ صوابَ ما نقول، وأقربُ الناس إلى اطِّرادِ هذه القواعد بعضُ أهل الظاهر (¬2). وفي قوله: "وفي كلٍّ خير": ينبغي [حملُ] قوله: "وفي كل" على كل واحد من الفريقين، أعني أهلَ الفقه وأهل الحديث، وهو أولى مِنْ حملِهِ على كل واحد من الطريقين؛ لأنهما قد يتناقضان، والحقُّ لا يكونُ في طرفي النقيض معاً، اللهم إلا أنْ يرادَ أنه قد يكونُ الصواب في بعض المواضع ما قاله هؤلاء، وفي بعضها ما قاله أولئك، فهذا يُصحِّحه التنكيرُ الذي في "خير"، مع العمل على الطريقين، ولستُ أنكرُ أنْ تكونَ بعضُ القرائن دالَّةً (¬3) على تصحيح ما خالفَ القاعدةَ المطَّردةَ في بعض الأماكن المخصوصة، وإنما الخوف الأكبر اختلاطُ درجة الظن مع درجة الوهم (¬4) في هذا. وقوله: "والله تعالى ينفع به دنيا وديناً، ويجعله نوراً يسعى بين أيدينا": استعمالٌ لما أرشد إليه لفظُ الكتاب العزيز من قوله: {يَوْمَ تَرَى ¬

_ (¬1) أي: الحكم السابق. (¬2) وكذا ما أطلقه كثير من الشافعية، مع أن نص الشافعي رحمه الله يدل على غير ذلك - وانظر: "نزهة النظر" لابن حجر (ص: 67). (¬3) في الأصل: "دالاً". (¬4) الظن: تجويز راجح، والوهم: تجويز مرجوح. انظر: "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: 21).

مقصود "دنيا، ودينا" في خطبة المؤلف

الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12] وقد استعملَ بعضَ أنواع التجنيس المعروفة عند أهل تلك الصنعة. وقوله: "دنيا" ينبغي أن يُحَملَ على أن يحصل له في الدنيا الكرامهّ المرتبة على العلم عند الله تعالى وملائكته، كما ورد في الحديث: "إنَّ العالِم يستغفرُ له حتَّى الطيرَ في الهواءِ والسمكَ في الماء" (¬1)، فإنَّ هذه منافعُ حاصلة في الدنيا، ويُحَمل "دينًا": على أن يكونَ دالا ومرشداً أو سببًا للعلم، بمقتضى ما دلَّ من أحكام الدين، فيَصْلُحُ به الدين، ولا يجوز أن يُحَملَ "دنياه على أن يتوسلَ به إلى مناصبها وشهواتها الجسدانية العاجلة. وقوله: "ويفتح فيه لدارسيه حِفظًا وفَهماً (¬2)، ويبلغنا وإيَّاهم به (¬3) منزلةً من كرامته عُظمى، إنه الفتَّاحُ العليمُ الغنيُّ الكريم": انتقالٌ بعدَ الدعاء المطلق للواضع والدارس إلى ما يَخصُّ الدارس، وإلى الجمع ¬

_ (¬1) روى أبو داود (3641)، كتاب: العلم، باب: الحث على طلب العلم، والترمذي (2682)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وابن ماجه (223) في المقدمة، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 196)، وابن حبان في "صحيحه" (88)، وغيرهم بإسناد حسن، من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - مرفوعًا، بلفظ فيه: " ... . . وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء ... ." الحديث. (¬2) قوله: "وفهماً" سقط من المطبوع من "الإلمام" (1/ 47). (¬3) قوله: "وإياهم به" سقط من المطبوع من "الإلمام" (1/ 47)، وجاء فيه: "ويبلغنا ببركته"، وفي النسخة الخطية منه: "ويبلغنا وإياهم ببركة".

مناسبة جمع المؤلف بين "الفتاح العليم"، و "الغني الكريم" في الخطبة

بين الرواية والدراية، وهو المقصودُ الأعظم في هذا الفن، والإخلالُ بأحدهما نقصٌ. "فيه": جَمعٌ بين الاثنين في الدعاء، أعني الحفظَ والفهمَ، ولما استعمل في أولِ الدعاء لفظَ الفتح، عقَّبه بالاسم المُعظَّم المناسبِ له، وهو الفتَّاح، وقرنه بما قرنه الله تعالى به، وهو العليم، وكذلك الاسمان المذكوران بعدَ ذلك مناسبان للمطلوب أولًا، وهو الغنىَ الدالُّ على سَعَة القدرة في إيصال ما يُوصِل مِن المنافع، والكَرَم الدالُّ على سعة العطاء، وفي قوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26] إشارةٌ بصفة العلم إلى الإحاطةِ بأحوالنا وأحوالكم، وما نحنُ عليه من الحقِّ وأنتم عليه من الباطل، وإذا كانَ عالمًا بذلك فسيقعُ منه القضاءُ علينا وعليكم بما يعلمه مِنَّا ومنكم، فإذا اعتبرتَ هذا المعنى فَلَكَ أن تقتصرَ في جلب هذين الاسمين المُكْرَمين ها هنا على اتباع لفظ الكتاب العزيز، ولك أن تطلبَ مناسبةً بالنسبة إلى هذا المكان المعيَّن في ذكر العلم، كما ناسب ذكرُ الفتح؛ فإما أن يكونَ راجعاً إلى العلم بالحاجة والافتقار إلى ما طُلب، وإما أن يكون تعريضا بصحةِ القصد والنية في درسه، ليكون باعثًا لدارسيه على تصحيحِ النية، وتجريدِ القصد عن الشوائب، والله أعلم. * * *

كِتَابُ الطَّهَارَةِ

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة مادةُ "كتب" على هذا الترتيب دالةٌ على الجمع والضم، ومنه: الكتيبة والكتابة والكتب، واستعملوا ذلك فيما يَجمَعُ أشياء من الأبوابِ والفصولِ أو المسائلِ؛ لحصول معنى الجمع والضم فيه، ثم قد يَحتمِلُ أن يكونَ حقيقةً إذا جنحت بالضم إلى المكتوب من الحروف بالنسبة إلى محلها، ويَحتمِلُ أن يكون مجازًا بالنسبة إلى المعاني المدلول عليها بالألفاظ المذكورة، فإن الجمعَ والضمَّ حقيقةٌ في الأجسام (¬1). و"الطَّهارة" - مفتوح الطاء -: التَّنقي من الأدناسِ حِسيّةً كالأنجاس، أو معنويةً كالعيوب والذنوب، قال (¬2) [من الطويل]: ثِيابُ بَني عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ (¬3) ¬

_ (¬1) نقله عنه الفاكهاني في "رياض الأفهام شرح عمدة الأحكام" (ق 1 / أ). (¬2) القائل هو امرؤٌ القيس، كما في "ديوانه" (ص: 83) (ق 7/ 3). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 253)، و"المحكم" لابن سيده (4/ 175)، و"الصحاح" للجوهري (2/ 727)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 504)، (مادة: طهر).

والاستعمالُ الثاني مجاز، أو يمكن على طريقة المتأخرين أن يكونَ حقيقةً في القدر المشترك بين الأمرين، فيسلَمُ عن المجاز والاشتراك، إلاّ أنَّ الأولَ هو الصوابُ عندنا، فإن المجازَ - وإن كان على خلاف الأصل - فقد تقوم الدَّلالة عليه، فيجبُ المصيرُ إليه كسبق الذهن إلى فهم أحدِ المعنيين من اللفظ عندَ العالم بالوضع، وافتقارِ المعنى الآخر إلى القرينة الحاملة عليه. وأما الطُّهارة - بضم الطاء -: فهي بقية الماء المُتطَّهر به (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (4/ 176)، (مادة: طهر) وعنده: الطُّهارة: فضل ما تطهَّرت به. وسياق ابن دقيق العيد نقله عنه الفاكهاني في "رياض الأفهام" (ق 1 / ب).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّا نركَبُ في الْبَحْرِ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ المَاءَ، فَإِنْ تَوَضَّأناَ بِهِ عَطِشْنَا، أفنَتَوَضَّأُ بمَاءِ (¬1) الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ الطهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". أخرجه الأربعة: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الترمذي، وأخرجه ابنُ خزيمةَ في "صحيحه"، ورجحَ ابنُ مَنْده - أيضًا - صحتَهُ (¬2). ¬

_ (¬1) في المطبوع من "الإِمام" (1/ 97)، و"الإلمام" (1/ 49)، والنسخة الخطية منه (2 / ب): "من ماء" بدل "بماء". (¬2) * تخريج الحديث: رواه أبو داود (83)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر، والنسائي (59)، كتاب: الطهارة، باب: ماء البحر، والترمذي (69)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في ماء البحر أنه الطهور، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (386)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر، و (3246)، كتاب: الصيد، باب: الطافي من صيد البحر، وابن خزيمة في "صحيحه" (111)، كلهم من طريق الإِمام مالك في "الموطأ" (1/ 22)، عن صفوان بن سليم، عن سعيد ابن سلمة من آل بني الأزرق، عن المغيرة بن أبي بردة - وهو من بني عبد الدار -: أنه سمع أبا هريرة، فذكره. =

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

الكلامُ عليه من وجوهٍ: * الأول: في التعريف بمن ذُكِرَ فيه: أمَّا أبو هريرة - رضي الله عنه -: فقد اختُلِفَ في اسمِهِ واسم أبيه اختلافاً كثيرًا، والذي عندَ أكثرِ أصحابِ الحديث المتأخرين في الاستعمال أنَّ اسمَهُ في الإِسلام عبدُ الرحمن بن صخر. قال أبو أحمدَ الحاكم (¬1): أصحُّ ما عندنا في اسم أبي هريرة عبدُ الرحمنِ، وهو دَوْسي النسب، نسَبُهُ إلى - دَوْسٍ - بفتح الدال، وسكون الواو، وآخرُهُ سينٌ مهملة - وهي قبيلةٌ في الأَسْد، وهو دَوْس بن عُدْثا [ن]- بضم العين، وسكون الدال المهملة (¬2)، بعدَها ثاءٌ مثلثة - ابن عبد الرحمن بن زهران بن كعب بن عبد الله بن مالك بن ¬

_ = وهذا الحديث صححه جمع كبير من الأئمة والعلماء، فصححه البخاري، والترمذي، وابن منده، وابن خزيمة، وابن حبان، والطحاوي، والخطابي، والحاكم ووافقه الذهبي، والبغوي، والبيهقي، وابن المنذر، وعبد الحق، والنووي وابن القيم، والزيلعي، وابن الملقن، وابن حجر، وغيرهم كثير، وقد جمع ابن الجوزي في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا وشواهده من الأحاديث جزءًا كبيرًا، كما قال ابن عبد الهادي في "التنقيح" (1/ 20). وقد تُكلِّم في الحديث من جهة الاضطراب في الإسناد، والاختلاف في بعض الرواة، ودعوى الجهالة في بعضهم أيضًا، وسيأتي الكلام عن ذلك كله عند المؤلف رحمه الله في الوجه الثاني من الكلام على الحديث. (¬1) في "الكنى"، كما نقله عنه ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/ 1770). (¬2) في "شرح عمدة الأحكام" للفاكهاني (4 / أ) وقد نقل عن الإِمام ابن دقيق كلامه في ترجمة أبي هريرة - رضي الله عنه -: "المهملتين" بدل "المهملة".

نضر بن الأزد. هكذا نسبُهُ. وأمَّا اتصال نسبه بدوس، فقال خليفةُ بن خيَّاط: أبو هريرةَ هو عميرٌ بن عامر بن عبيد (¬1) ذي الشَّرى بن طريف بن عتاب بن أبي صعبة (¬2) بن منبِّه (¬3) بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس (¬4). وذكر إبنُ إسحاقَ قال: حدثني بعض أصحابنا، عن أبي هريرة قال: كان اسمي في الجاهلية عبدَ شمس، فسُميّتُ في الإِسلام عبدَ الرحمن، وإنما كنيتُ بأبي هريرة؛ لأني وجدت هرَّةً فحملتها في كُمِّي، فقيل لي: ما هذه؟ فقلت: هرةٌ، فقيل: "فأنت أبو هريرة" (¬5). ¬

_ (¬1) في المطبوع من "الطبقات" لخليفة بن خياط (ص: 114): "عبد"، وكذا ذكره الفاكهاني في "شرح عمدة الأحكام" (ق 4 / أ). (¬2) في المطبوع من "الطبقات" (ص: 114): "صعب" بدل "صعبة". (¬3) في المطبوع من "الطبقات" (ص: 114)، زيادة: "بن سعد" بعد "منبه"، وكذا في "شرح عمدة الأحكام" للفاكهاني (ق 4 / أ). (¬4) انظر: "الطبقات" لخليفة بن خياط (ص: 114). (¬5) رواه ابن إسحاق في "السيرة" (ص: 266)، ومن طريقه: الحاكم في "المستدرك" (6141)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (67/ 298). وإسناده ضعيف؛ لجهالة الأصحاب الذين حدثوا ابن إسحاق بهذا الحديث. وكذا أخرجه أبو أحمد الحاكم في "الكنى" من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، به، وأخرجه ابن منده من هذا الوجه مطولاً، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (7/ 426). ثم ذكر الحافظ ابن حجر ما أخرجه الترمذي بسند حسن (3840)، كتاب: المناقب، باب: مناقب لأبي هريرة - رضي الله عنه -، عن عبد الله بن رافع قال: =

قال أبو عمر: وقد روينا عنه قال: كنتُ أحمل هرةً يومًا في كُمِّي، فرآني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَا هذهِ؟ "، فقلت: هرةٌ، فقال: "يا أبا هُرَيْرَةَ". قال أبو عمر: وهذا أشبهُ عندي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كنّاه بذلك، والله أعلم. قال أبو عمر: أسلمَ أبو هريرة عامَ خيبر (¬1)، وشهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لزمه وواظبَ رغبةً في العلم، راضياً بِشِبَع بطنه، كانت يدُهُ مع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يدور معه حيثما دار (¬2)، وكان ¬

_ = قلت لأبي هريرة: لم كنيت أبا هريرة؟ قال: أما تَفْرَقُ مني؟ قلت: بلى والله! إني لأهابك، قال: كنت أرعى غنم أهلي، فكانت لي هريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبت بها، فكنُّوني أبا هريرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬1) قال العلامة المعلمي اليماني - رحمة الله - في "الأنوار الكاشفة" (ص: 145): في ترجمة الطفيل بن عمرو الدوسي من "الإصابة" (3/ 522): أنه لما عاد إلى قومه - وذلك قبل الهجرة بمدة - دعا قومه إلى الإِسلام فلم يجبه إلا أبوه وأبو هريرة. فعلى هذا يكون: إسلام أبي هريرة قبل الهجرة، وإنما تأخرت هجرته إلى زمن خيبر. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 102). (¬2) روى البخاري (1942)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] ومسلم (2492)، كتاب: فضائل الصحابة, باب: من فضائل أبي هريرة الدوسي - رضي الله عنه -، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - رضي الله عنه -، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا ... . الحديث.

مِنْ أحفظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد شهد له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنَّهُ حريصٌ على العلم والحديث (¬1)، وقال له: يا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: إني سمعتُ منك حديثا كثيرًا، وإني أخشى أن أنساه، فقال: "ابسُطْ رداءَكَ" فبسطتُهُ، فغرف بيده فيه ثم قال: "ضُمَّهُ"، فضممتُه، فما نسيتُ شيئًا بعدُ (¬2). وقال البخاري: روى عنه أكثرُ من ثمانِ مئة رجلٍ من بين صاحب وتابع. وممن روى عنه من الصحابة: ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأنس، وواثلة بن الأسقع. استعمله عمرُ - رضي الله عنه - على البحرين ثم عزله، ثم أراده على العمل فأبى، ولم يزلْ يسكن المدينة، وبها كانت وفاتُهُ. قال خليفة بن خيَّاط: توفي أبو هريرة سنةَ سبعٍ وخمسين (¬3)، وقال الهيثمُ بن عدي: توفي أبو هريرة سنة ثمانٍ وخمسين، وقال الواقِديُّ: سنة تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وكذا قال ¬

_ (¬1) روى البخاري (99)، كتاب: العلم، باب: الحرص على الحديث، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قيل يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه". (¬2) رواه البخاري (119)، كتاب: العلم، باب: حفظ العلم. (¬3) وهو المعتمد، كما قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (7/ 444).

ابن نمير: توفي سنة تسع وخمسين، وقال غيرُهُ: مات بالعقيق وصلَّى عليه الوليدُ بن عتبةَ بن أبي سفيان، وكان أميراً يومئذٍ على المدينة، ومروانُ معزول (¬1). وأما أبو داودَ: فهو سليمانُ بن الأشعث بن بشر بن شداد بن عمر ابن عمران الأزدي السّجِسْتاني الحافظُ، أحدُ أئمةِ هذا الشأن، والعلماء المرجوع إليهم، المسؤولين عن أحوال الرجال، ولأبي عُبيد الآجري سؤالات مفيدة مسألة عنها في هذا الفن (¬2)، وكان له حظٌّ من علوِّ الإسناد بعدَ أبي عبد الله البخاري، وقد شاركه في جماعة لم يشاركه ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "السيرة النبوية" لابن إسحاق (ص: 266)، و"الطبقات" لخليفة بن خياط (ص: 114)، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 325)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 132)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (4/ 381)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 578)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 376)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1768)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (67/ 295)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 685)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 313)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 546) , و"تهذيب الكمال" للمزي (34/ 366)، و"سير أعلام النبلاء" (2/ 578)، و"تذكرة الحفاظ" (1/ 32)، و"الكاشف" ثلاثتها للذهبي (2/ 469)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 103)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (18 / - 91)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" (7/ 425)، و"تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (12/ 288)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (1/ 63). (¬2) حقق بعضه في رسائل علمية في الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة، وطبع الجزء الثالث منه عن المجلس العلمي في الجامعة نفسها سنة (1403 هـ).

في الرواية عنهم غيرُه من أصحاب الكتب الستة، أعني في الرواية عنهم بدون واسطة، كأبي أيوب سليمان بن حرب الواشِحي القاضي، وأبي عمر حفص بن عمر بن الحارث بن سَخْبَرة النمرى البصري المعروف بالحوضي، وأبي العباس حَيْوَة بن شُريح بن يزيد الحضرمي الحمصي، وأبي عثمان سعيد بن سليمان بن نشَيط الواسطي سَعْدَويه (¬1)، وأبي سلمة موسى بن إسماعيل المِنْقَري، ونحوهم ممن مات بعدَ العشرين - يعني ومائتين - وما يَقْرُب من ذلك. وروى عنه من أصحاب الكتب الستة: أبو عيسى محمدُ بن عيسى التِّرمذي، وأبو عبد الرحمن أحمدُ بن شعيب النَّسائي، وقد انفرد بالرواية عن جماعة دونَ بقيةِ الستة منهم: أبو جعفر محمَّد بن يحيى بن أبي سَمِينة البغدادي التَّمَّار. وذكر محمَّد بن عبد الواحد - صاحب ثعلب - قال: قال إبراهيم ¬

_ (¬1) قال الحافظ المزي في "تهذيب الكمال" (10/ 483) (تر: 2291)، في ترجمة "سعيد بن سليمان الضبي أبو عثمان الواسطي البزاز المعروف بسعدويه": سكن بغداد، وقال فيه أبو القاسم - يعني: ابن عساكر -: في المشايخ النبل سعيد ابن سليمان بن نشيط. وهو وهم، فإن ذلك شيخ آخر بصري يقال له: النشيطي، وسنذكر له ترجمة عقيب هذه الترجمة إن شاء إليه، انتهى. ثم ذكر في (10/ 488) -، (تر: 2292) ترجمة "سعيد بن سليمان بن خالد بن بنت نشيط الديلي المعروف بالنشيطي". وعلى هذا: فالمؤلف رحمه الله جمع بينهما وجعلهما واحدًا، وهو وهم تابع فيه ابن عساكر، كما ذكر الحافظ المزي، وبالله التوقيق.

الحربي - لما صنَّفَ أبو داود هذا الكتاب -: أُلينَ لأبي داودَ الحديثُ كما أُلِينَ لداودَ عليه السلام الحديدُ (¬1). ونحوُهُ عن محمدِ بن إسحاق الصَّغَاني أنه قال: أُلِينَ لأبي داودَ السجستانيِّ الحديثُ كما ألين لداود عليه السلام الحديدُ (¬2). وروى الحافظُ أبو القاسم عليُّ بن الحسن الدمشقي بإسناده إلى الصُّولي، قال: سمعتُ أبا يحيى زكريا بن يحيى السَّاجي يقول: كتابُ الله عز وجل أصلُ الإِسلام، وكتابُ "السنن" لأبي داودَ عهدُ الإسلام (¬3). وروى - أيضًا - من حديث أبي بكر بن دَاسَةَ قال: سمعتُ أبا داودَ يقول: كتبتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسَ مِئةِ ألفِ حديثٍ، انتخبتُ منها هذا الكتاب - يعني كتابَ السنن - جمعتُ أربعةَ آلافٍ وثمانَ مئةِ ¬

_ (¬1) رواه ابن نقطة في "التقييد" (ص: 282)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 196)، كلاهما من طريق الخطابي في "معالم السنن" (1/ 7). وقد أنشد الحافظ أبو طاهر السِّلفي رحمه الله [من الكامل]: لانَ الحديثُ وعلمُه بكماله ... لإمام أَهْلِيْهِ أبي داودَ مثلَ الذي لانَ الحديدُ وسبْكُهُ ... لنبيِّ أَهلِ زمانِهِ داودَ وانظر: "الحطة في ذكر الصحاح الستة" للقنوجي (ص: 213). (¬2) رواه ابن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة" (ص: 103)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 196). (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 197)، من طريق: ابن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة" (ص: 103).

حديث، ذكرتُ الصحيحَ وما يُشبهُهُ ويقاربهُ، ويكفي الإنسانَ لدينهِ من ذلك أربعةُ أحاديثَ: أحدُها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَعْمَالُ بالنياتِ" (¬1). والثاني: قوله: "مِنْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُهُ ما لا يعنيهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1957)، كتاب: الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الترمذي (2317)، كتاب: الزهد، باب: (11)، وقال: حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، وابن ماجه (3976)، كتاب: الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة، وابن حبان في "صحيحه" (229)، وغيرهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه الترمذي (2318)، كتاب: الزهد، باب: (11)، من طريق الإِمام مالك في "الموطأ" (2/ 903)، عن الزهريّ، عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، مرسلاً. قال الترمذي: وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهريّ، عن الزهريّ، عن علي بن حسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث مالك مرسلاً، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، ا. هـ. والحديث حسنه الإِمام النووي في "الأربعين" له، قال الحافظ ابن رجب: لأن رجال إسناده ثقات - يعني: إسناد الترمذي الأول -، وقرة بن عبد الرحمن ابن حيوة وثقه قوم وضعفه آخرون، وقال ابن عبد البر: هذا الحديث محفوظ عن الزهريّ بهذا الإسناد من رواية الثقات, وهذا موافق لتحسين الشيخ - يعني: النووي - له - رضي الله عنه -، وأما أكثر الأئمة فقالوا: ليس هو محفوظًا بهذا الإسناد، إنما هو محفوظ عن الزهريّ، عن علي بن حسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرسلاً، كذلك رواه الثقات عن الزهريّ، منهم مالك في "الموطأ"، وممن قال =

والثالث: قوله: "لا يكونُ المرءُ مؤمناً حتَّى يرضَى لأخيهِ ما يرضَى لنفسِهِ" (¬1). والرابع: قوله: "الحلالُ بيِّنٌ والحرَامُ بيِّنٌ، وَبَيْنَ ذلك أمورٌ مُشْتَبِهاتٌ. . " الحديث (¬2). وقال الخطابي: اعلموا - رحمكم الله - أنَّ كتابَ "السنن" لأبي داودَ كتابٌ مرتَّبٌ (¬3) لم يُصَنَّفْ في حكمِ (¬4) الدين كتابٌ مثلُهُ، وقد رُزِقَ القَبولَ من كافة النَّاس (¬5)، فصار حَكَماً بين فِرَق العلماء وطبقات ¬

_ = إنه لا يصح إلَّا عن عليّ بن حسين مرسلاً: الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، والدارقطني، وقد خلط الضعف في إسناده عن الزُّهريّ تخليطاً فاحشاً، والصحيح فيه المرسل. وقد روي عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - من وجوه أخر، وكلها ضعيفة، انتهى مختصراً من "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 113). والحاصل: أن الحديثٌ صحيحٌ مرسلاً، ضعيف متصلًا، وبالله التوفيق. (¬1) روى البُخاريّ (13)، كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم (45)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، من حديث أنس - رضي الله عنه -، عن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدكم حتَّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". (¬2) رواه البُخاريّ (52)، كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599)، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، من حديث النَّعمان بن بشير - رضي الله عنه -. (¬3) في المطبوع من "معالم السنن": "شريف". (¬4) في "معالم السنن": "علم". (¬5) في "معالم السنن": "النَّاس كافة"، وهو الصواب.

الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، ولكل فيه وِردٌ، ومنه مشروبُ (¬1)، وعليه معوَّلُ أهلِ العراق وأهل مصرَ وبلاد الغرب وكثيرٍ من مدن أقطار الأرض، فأما أهلُ خراسان فقد أُولع أكثرُهم بكتاب محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج، ومن يجري نحوَهما ممن جمع الصحيحَ على شرطهما في السَّبك والانتقاد، إلَّا أن كتاب أبي داود أحسنُ وضعاً (¬2)، وأكثو فقهاً، وكتاب أبي عيسى - أيضًا - كتابٌ حسن (¬3). وقال الخطابي: سمعتُ ابنَ الأعرابي يقول، ونحن نسمع منه: هذا الكتاب - يعني كتاب "السنن"، فأشار إلى النسخة، وهي بين يديه -: لو أنَّ رجلًا لم يكنْ عنده من العلم إلَّا المصحفَ الذي فيه كتاب الله - عز وجل - ثم هذا الكتاب، لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بَتَّة (¬4). وسِجِسْتانُ، قال الرَّشَاطي: سجستان بلد جليل، وله من الذكر مثلُ ما لخراسان وأكثرُ، غيرَ أنها منقطعةٌ متصلةٌ ببلاد السند والهند، وكانت تُضاهي خراسانَ وتوازيها، وهي تتاخم مُكْران من بلاد السند، قال ذلك اليعقوبي (¬5). ¬

_ (¬1) في "معالم السنن": "شِرْب". (¬2) في "المعالم": "رصفاً". (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 6). (¬4) المرجع السابق، (1/ 8). (¬5) انظر: "البلدان" لليعقوبي (ص: 47).

قال الرَّشاطي: يُنسَب إليها جماعةٌ منهم: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسماعيل بن بشير بن شداد بن عامر الأنصاري السجستاني، صاحب كتاب "السنن"، تُوفي بالبصرة في النصف من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين (¬1). وهذا الذي قاله الرشاطيُّ هو الذي لا يَسبِق إلى الأذهان غيرُهُ، وقال بعضُ أصحابنا (¬2) - فيما ذُكِر لنا -: أبو داود السجستاني ليس من سجستانَ خراسان، بل هي قرية من قرى البصرة اسمها سجستان، قال: حدّثنا بهذه الفائدة شيخُنا - وسمَّى شيخاً -، وكتبها لي بخطه، ودخل منزلي فحدثنا بها. قلتُ: وما أظن هذا ممَّا يُرجَعُ إليه، والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) قاله الرشاطي في كتابه: "اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار". (¬2) هو العلامة المؤرخ ابن خَلِّكان، فإنّه قال ذلك، كما في "وفيات الأعيان" له (2/ 405). قال المولى عبد العزيز الدهلوي: وقع لابن خلكان في تلك النسبة غلط مع كماله في علم التاريخ وتصحيح الأنساب، كما قال السبكي بعد نقل عبارته المذكورة: وهذا وهم، والصواب أنه نسبة إلى الإقليم المعروف متاخم بلاد الهند. انظر: "الحطة في ذكر الصحاح الستة" للقنوجي (ص: 249). (¬3) * مصادر الترجمة: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 101)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (9/ 55)، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 159)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (22/ 191)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (4/ 69)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 508)، و"تهذيب الكمال" للمزي =

وأما التِّرمذيَّ: فهو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَة بن موسى بن الضَّحاك السُّلمي التِّرمذي الحافظ. ذكر أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد الإدريسي الحافظ المؤرخ فقال: محمد بن عيسى بن سورة التِّرمذيُّ الحافظ الضَّرير، أحد الأئمة الذين يُقتدَى بهم في علم الحديث، صنَّف كتاب "الجامع" و"التواريخ" و "العلل" تصنيفَ رجل عالم متقن، يُضرَب به المثلُ في الحفظ (¬1). قال الإدريسي: [سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن الحارث المروزي الفقيه يقول: سمعت أحمد بن محمد بن عبد الله بن داود المروزي يقول] (¬2): سمعتُ أبا عيسى محمد بن عيسى الحافظ يقول: كنتُ في طريق مكّة، وكنت قد كتبت جزأين من أحاديث شيخٍ، فمرَّ بنا ذلك الشَّيخ، فسألت عنه فقالوا: فلانًا، فذهبت إليه، وأنا أظن أن ¬

_ = (11/ 355)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/ 404)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (13/ 203)، و"تذكرة الحفَّاظ" له أيضًا (2/ 591)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 149)، و "طبقات الحفَّاظ" للسيوطي (ص: 265)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 634)، و"معجم مصنفات الحنابلة" للطريقي (1/ 129)، وغيرها. (¬1) رواه ابن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة" (ص: 103)، وعنه: الإسعردي في "فضائل الكتاب الجامع" (ص: 31). (¬2) ما بين معكوفتين سقط من الأصل المخطوط، والاستدراك من المرجعين السابقين.

الجزأين معي، وحملت معي في محملي جزأين، كنت ظننت أنهما الجزآان اللَّذان له، فلما ظَفِرت به وسألته فأجابني إلى ذلك، أخذت الجزأين، وإذا هما بياض، فتحيَّرت، فجعل الشيخُ يقرأ عليَّ من لفظه، ثم ينظر إليَّ، فرأى ورق البياض في يدي، فقال: أما تستحي مني؟! قلت: لا، وقصصتُ عليه القصة، وقلت: أحفظه كلَّه، فقال: أقرأ، فقرأت جميع ما قرأ عليّ على الوَلاء أولاً، فلم يصدِّقنْي وقال: استظهرتَ قبلَ أن تجيءَ! فقلت: حدثني بغيره، فقرأ عليَّ أربعين حديثاً من غرائب حديثه، فقال: هاتِ اقرأ، فقرأت عليه من أوله إلى آخره كما قرأ، فما أخطأتُ في حرف منه، فقال لي: ما رأيت مثلَك (¬1). وذكره الحافظُ أبو عبد الله محمدُ بن أحمدَ البُخاريّ الغنجار المؤرخ لبُخارى (¬2)، فقال: توفي أبو عيسى محمد بن عيسى التِّرمذيُّ بالترمذ، ليلةَ الإثنين لثلاثَ عشرةَ ليلة مضت من رجب، سنةَ تسع وسبعين ومائتين. ¬

_ (¬1) رواه ابن طاهر في "شروط الأئمة" (ص: ص 103 - 104)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 99)، والإسعردي في "فضائل الكتاب الجامع" (ص 31 - 32). وانظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (13/ 273). (¬2) هو الإمام المفيد الحافظ، محدث بخارى، وصاحب تاريخها، أبو عيد الله محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان بن كامل البُخاريّ، ولقبه غنجار، بلقب غنجار الكبير عيسى بن موسى البُخاريّ، - توفي سنة (412 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (17/ 304).

وكذلك ذكر الأمير أبو نصر في وفاته (¬1)، وهذا هو الصوابُ، وما قاله بعض الحفَّاظ (¬2): أنه توفي بعدَ الثمانين، ليسَ بشيء، والله أعلم. وَتِرْمِذُ: [التي] (¬3) يُنسَب إليها: المعروفُ فيها كسر التاء، وهو المستفيضُ على ألسنة النَّاس حتَّى يكونَ كالتواتر (¬4)، وروى السِّلَفي رحمه الله: سمعتُ أبا نصر المؤتمن بن أحمد بن عليّ السَّاجي ببغداد يقول: سمعتُ عبد الله بن محمد الأنصاري بِهَراةَ يقول: أبو عيسى التُّرمذي بضم التاء، وكذا كان يقرأ ويُملي في أماليه، يعني النسبة إلى ترمذ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإكمال" لابن مأكولا (4/ 396). (¬2) هو الخليل بن عبد الله الخليلي، كما في "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" له (3/ 905)، ونقله عنه ابن نقطة في "التقييد" (ص: 97)، والإسعردي في "فضائل الكتاب الجامع" (ص: 41)، وغيرهما. (¬3) في الأصل: "الذي". (¬4) نقله عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (13/ 273 - 274)، وفي "تذكرة الحفَّاظ" (2/ 634)، وغيره. قال السمعاني في "الأنساب" (1/ 459): والناس مختلفون في كيفية هذه النسبة، بعضهم يقول: بفتح التاء ثالث الحروف، وبعضهم يقول بضمها، وبعضهم يقول بكسرها، والمتداول على لسان أهل تلك المدينة: بفتح التاء وكسر الميم، والذي كنا نعرفه فيه قديماً: كسر التاء والميم جميعًا، والذي يقوله المتنوقون وأهل المعرفة: بضم التاء والميم، وكل واحد يقول معنى لما يدعيه، انتهى. (¬5) نقله عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (13/ 274).

وقال الحافظ يوسف بن أحمد بن إبراهيم البغدادي: شاهدتُ بخطِّ بعض الحفَّاظ يقول: قال أبو عليّ منصور بن عبد الله الخالدي رحمه الله: قال أبو عيسى رحمه الله: صنفتُ هذا الكتاب - يعني المسندَ الصحيح - فعرضتُهُ على علماء أهل الحجاز فرضُوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به، ومَنْ كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبيٌّ يتكلم (¬1). وقال أيضًا - أعني يوسف بن أحمد -: قرأتُ على أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر في كتابه الموسوم بـ "مذاهب الأئمة في تصحيح الحديث"، قال: وأمَّا أبو عيسى رحمه الله فكتابه على أربعة أقسام: قسمٌ صحيحٌ مقطوع به، وهو ما وافق فيه البخاريَّ ومسلماً. وقسم على شرط أبي داود [و] النَّسائي كما بينا. وقسم أخرجه الصدر (¬2)، وأبانَ عن علته. وقسم رابع أبان عنه فقال: ما أخرجتُ في كتابي هذا إلَّا حديثاً ¬

_ (¬1) رواه ابن نقطة في "التقييد" (ص: 97 - 98)، والإسعردي في "فضائل الكتاب الجامع" (ص: 32). (¬2) في المطبوع من "شروط الأئمة" لابن طاهر، و"فضائل الكتاب الجامع" للإسعردي، وغيرهما: "للضدية" بدل "الصدر"، ويعني بالضدية: أنه في مسألة من مسائل الفقه يأتي بدليل المذهب الراجح، ثم يخرج دليل المذهب المخالف، ويوازن بينهما، ويبين علل الحديث. انظر: "الإمام التِّرمذيُّ والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين" للدكتور عتر (ص: 145).

قد عمل به بعضُ الفقهاء (¬1). وهذا شرطٌ واسع، فإن على هذا الأصل: كلُّ حديث احتج به محتج، أو عمل به عامل [أخرجه]، سواء صحَّ طريقُه، أو لم يصحَّ طريقه. وقد أزاح عن نفسه الكلام، فإنّه شفى في تصنيفه لكتابه، وتكلم على كل حديث بما فيه، وظاهرُ طريقتِه: أن يترجمَ الباب الذي فيه حديثٌ مشهور عن صحابي قد صحَّ الطريق إليه، وأُخرِج من حديثه في الكتب الصحاح، فيورد في الباب [ذلك الحكم] من حديث صحابي [آخر] لم يخرجوه من حديثه، ولا يكون الطريق إليه كالطريق إلى الأول، لأنَّ (¬2) الحكمَ صحيح، ثم يتبعه بأن يقول: وفي الباب عن فلان وفلان، ويعدُّ جماعة منهم الصحابي والأكثر الذي أخرجا ذلك الحكم من حديثه، وقلَّ ما يسلك هذه الطريقةَ إلَّا في أبواب معدودة (¬3). قال يوسف بن أحمد: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَة بن موسى بن الضَّحَّاك السلمي التِّرمذي، الضَّرير، الحافظ، فضائلُ تُجمَع، وتُروى وتُسمع، وكتابه من الكتب الخمسة التي اتفق أهل ¬

_ (¬1) انظر: "العلل" للترمذي، المطبوع في آخر "سننه" (5/ 736). (¬2) في المطبوع من "شروط الأئمة" لابن طاهر، و"فضائل الكتاب الجامع" للإسعردي: "إلا أن". (¬3) انظر: "شروط الأئمة الستة" لابن طاهر المقدسي (ص: 92 - 93)، و"فضائل الكتاب الجامع" للإسعردي (ص: 33 - 34)، و"سير أعلم النبلاء" للذهبي (13/ 274).

العقد والحل والفضل والفقه من العلماء والفقهاء، وأهل الحديث النبهاء، على قبولها والحكم بصحة أصولها، وما ورد في أبوابها وفصولها، وقد شارك البخاريَّ ومسلماً في عدد كثير من مشايخهما، رحمة الله عليه وعليهما، وهذا الموضع يضيق عن ذكرهم وإحصائهم وعددهم، ورُزِقَ الروايةَ عن أتباع الأتباع، متصلًا بالسماع. ثم قال بعدَ كلام: وكتبَ عنه إمامُ أهل الصنعة محمد بن إسماعيل البخاريُّ، وحسبُهُ بذلك فخراً (¬1). قلتُ: أما ما ذكرَهُ من روايته عن أتباع الأتباع، فيقضي ذلك أن يكون الحديث ثلاثياً، ولا نعلمُ له ذلك إلَّا في حديث واحد (¬2). وأما ما ذكره من كتابة البُخاريّ عنه: فهو حديثه عن عليّ بن المنذر، عن محمد بن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن عطيَّةَ، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - لعليٍّ: "لا يحلُّ لأحدٍ يجنبُ ¬

_ (¬1) انظر: "فضائل الكتاب الجامع" للإسعردي (ص: 30، 39 - 40). (¬2) وهو ما رواه التِّرمذيُّ بإسناد ضعيف (2260)، كتاب: الفتن، باب: (73)، قال: حدّثنا إسماعيل بن موسى الفَزَاريُّ بن بنت السدي الكوفيِّ، حدّثنا عمر بن شاكر، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "يأتي على النَّاس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر" قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وعمر بن شاكر شيخ بصري، قد روى عنه غير واحد من أهل العلم، انتهى. قال ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 55): عمر بن شاكر يحدث عن أنس بنسخة قريبًا من عشرين حديثاً غير محفوظة. ثم ذكر ابن عدي منها هذا الحديث.

في هذا المسجدِ غيري وغيرُكَ". قال ابن المنذر: قلت لضِرار بن صُردَ: ما معنى هذا الحديث؟ قال: لا يحل لأحد يستطرِقه جنباً غيري وغيرك. وقال التِّرمذي: سمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث (¬1). وقد تقدم ذكر تصانيفه "الجامع"، و "التاريخ"، و"العلل"، و"الزهد"، و"الشَّمائل"، ومسندُهُ المعروف ب "الجامع": اشتهرت روايتُهُ عنه من جهةِ أبي العباس محمد بن أحمد بن محبوب بن فضيل التاجر المَرْوَزِي، وممن ذُكِرَ أنه رواه عنه - أيضًا - الهيثمُ بن كلـ[ــيـ]ـب الشَّاشي، وأبو عليّ محمد بن محمد بن يَحْيَى القَرَّاب، ورواية القَرَّاب هذه غريبة (¬2). ¬

_ (¬1) رواه التِّرمذيُّ (3727)، كتاب: المناقب، باب: (21)، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه، وسمع مني محمد بن إسماعيل هذا الحديث فاستغربه، انتهى. وإسناده ضعيف؛ فيه عطية العَوفي غير محتج به، كما ذكر البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 65)، والرواي عنه: سالم بن أبي حفصة متروك، فالحديث ضعيف لا يثبت، كما نصَّ على ذلك الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (1/ 502). (¬2) * مصادر الترجمة: "الثقات" لابن حبان (9/ 153)، و"التقييد" لابن نقطة (ص: 96)، و"الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (3/ 904)، و"فضائل الكتاب الجامع" للإسعردي، و"تهذيب الكمال" للمزي (26/ 250)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 278)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (13/ 270)، و"تذكرة =

وأما النَّسائي: فهو أبو عبد الرحمن أحمد بن شُعيب بن عليّ بن بَحر بن سِنان الخراساني. ذكر حمزة بن يوسف السَّهمي قال: سمعتُ أبا أحمد بن عدي يقول: سمعتُ منصور [اً] الفقيه، وأحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي يقولان: أبو عبد الرحمن النَّسائيّ إمام من أئمة المسلمين (¬1). وقال - أيضًا - أبو أحمد بن عدي: سمعتُ أحمد بن محمد بن سعيد البارودي قال: ذكرتُ للقاسم (¬2) المُطَرِّز أبا عبد الرحمن النَّسائي، فقال: هو إمامٌ، و (¬3) يستحق أن يكونَ إمامًا، أو كما قال (¬4). وقال الحاكمُ أبو عبد الله: سمعتُ أبا عليّ الحافظ (¬5) غير مرةٍ ¬

_ = الحفَّاظ" له أيضًا (2/ 633)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 344)، و"طبقات الحفَّاظ" للسيوطي (ص: 282)، وغيرها. (¬1) رواه ابن نقطة في "التقييد" (ص: 140)، من طريق حمزة السهمي به. ورواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (1/ 137). (¬2) في المطبوع من "الكامل" لابن عدي، و"التقييد" لابن نقطة: "لقاسم". (¬3) في المطبوع من المرجعين السابقين، "أو" بدل "و". (¬4) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (1/ 138)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 141). (¬5) هو الحسين بن عليّ بن يزيد بن داود النيسابوري، كما بينه ابن نقطة في "التقييد" (ص: 141)، وكان قد توفي سنة (349 هـ) -، انظر: "تذكرة الحفَّاظ" للذهبي (3/ 902).

يذكرُ أربعةً من أئمة الحديث (¬1)، فيبدأ بأبي عبد الرحمن النَّسائي (¬2). وقال: سمعتُ عليَّ بن عمر الحافظ (¬3) غير مرَّة يقول: أبو عبد الرحمن مُقَدَّمٌ على كل مَنْ يُذكَر بهذا العلم من أهل عصره (¬4). وقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي الصُّوفي: سألت أبا الحسن عليَّ ابن عمر الدَّارقُطني الحافظ فقلت: إذا وجدتَ (¬5) محمدَ بن إسحاق بن خُزيمة، وأحمدَ بن شُعيب النَّسائيّ حديثَ (¬6) مَنْ تُقدِّم منهما؟ قال: النَّسائيّ؛ لأنَّه أسند، على أني لا أقدمُ على النَّسائيّ أحدًا، وإن كان ¬

_ (¬1) في المطبوع من "معرفة علوم الحديث": "أئمة المسلمين رآهم" بدل "أئمة الحديث". (¬2) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 82)، ومن طريقه: ابن نقطة في "التقييد" (ص: 140 - 141). وانظر: "تهذيب الكمال" للمزي (1/ 333). وقد روى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (27/ 54)، عن الحاكم أنه قال: سمعت أبا عليّ الحافظ يقول: رأيت من أئمة الحديث أربعة في وطني وأسفاري؛ اثنان منهم بنيسابور محمد بن إسحاق وإبراهيم بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن النَّسائيّ بمصر، وعَبْدان بالأهواز. (¬3) هو الإمام أبو الحسن الدارقطني صاحب "السنن"، والمتوفى سنة (385 هـ). (¬4) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 83)، ومن طريقه: ابن نقطة في "التقييد" (ص: 140). (¬5) في المطبوع من "شروط الأئمة الستة" لابن طاهر، و"تهذيب الكمال" للمزي: "حدَّث" بدل "وجدت". (¬6) في "شروط الأئمة الستة" لابن طاهر، و"تهذيب الكمال": "حديثاً" مفعول به للفعل: "حدث".

ابنُ خزيمةَ إمامًا ثبتاً معدومَ النظير (¬1). وقال الدَّارقطنيُّ: سمعتُ أبا طالب الحافظ (¬2) يقول: مَنْ يصبرُ على ما يصبر عليه أبو عبد الرحمن النَّسائيّ؟ كان عنده حديثُ ابن لهيعةَ ترجمةً ترجمةً فما حدَّث بها، فكان لا يَرى أن يحدثَ بحديث ابن لهيعة (¬3). وذكر الحاكم أبو عبد الله قال: سمعتُ أبا الحسن أحمد بن محبوب البَرمكي (¬4) بمكة يقول: سمعتُ أبا عبد الرحمن أحمد بن شعيب النَّسائيّ يقول: لما عزمتُ على جمع كتاب "السنن"، استخرتُ الله تعالى في الرواية عن شيوخٍ كان في القلب منهم بعضُ الشيء، فوقَعَت الخِيرَةُ على تركهم، فتركتُ جملةً من الحديث كنت أعلو فيها (¬5) عنهم (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة الستة" (ص: 104). وانظر: "تهذيب الكمال" للمزي (1/ 334 - 335). (¬2) هو أحمد بن نصر بن طالب البغدادي، المتوفى سنة (323 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (15/ 68). (¬3) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (1/ 335)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (14/ 131). (¬4) كذا في الأصل، والصواب: "الرملي"، كما في "شروط الأئمة الستة" لابن طاهر. (¬5) في المطبوع من "شروط الأئمة الستة": "فيه" بدل "فيها". (¬6) رواه ابن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة الستة" (ص: 104). وانظر: "تهذيب الكمال" للمزي (1/ 172).

وقال محمدُ بن طاهر: سألتُ الإمامَ أبا القاسم سعد بن عليّ الزَّنجاني عن حال رجلٍ من الرواة فوثَّقه، فقلت: إنَّ أبا عبد الرحمن النَّسائيّ ضعَّفه، فقال: لأبي عبد الرحمن في الرجال شرطٌ أشدُّ من شرط البُخاريّ ومسلم (¬1). وروى الحافظ أبو القاسم عليّ بن الحسن بسنده إلى أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ قال: سمعتُ أبا على الحسن بن خضر السُّيوطي يقول: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم، وبين يديه كتبٌ كثيرة منها كتاب "السنن" لأبي عبد الرحمن، فقال ليَ النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إلى مَتَى، وإلى كَمْ هذا يكفي؟ " وأخذ بيده الجزءَ الأول من كتاب الطهارة من "السنن" لأبي عبد الرحمن، فوقعَ في رُوعي أنه يعني أن كتابَ "السنن" لأبي عبد الرحمن أحبُّ إليه (¬2). وحكى أبو القاسم الزَّيدوني، عن الشيخِ أبي الحسن عليِّ بن أبي بكر بن محمد بن خلف المُعافريِّ الفقيه المالكي أنه قال: وإذا التفتَّ إلى ما يخرجه أهلُ الحديث، فما خرَّجه النسائيُّ أقربُ إلى الصحيح ممَّا خرَّجه غيرهُ، بل من النَّاس من يَعُدّه من أهل الصحيح، لأنَّه بيَّنَ عن علل الأسانيد وإن أدخلها في كتابه، وقد حُدِّثنا عنه أنه قال: لم أخرِّجْ في كتابي "السنن" مَنْ يُتَّفق على تركه. فإن أخرجَ منه أحدًا بيَّنَه، وهذه رتبةٌ في العلم شريفة. ¬

_ (¬1) انظر: "شروط الأئمة الستة" لابن طاهر (ص: 104). (¬2) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (1/ 173).

ثم ذكر البخاريَّ ومسلماً وأبا داودَ فقال بعد كلام له: وهؤلاء عمدةُ الحديث. والنَّسائي في نسبه قال الرَّشاطي: النَّسويُّ نسبةً إلى (نسا) كُوْرة (¬1) من كَوْر نيسابورَ، وكذا قال اليعقوبي (¬2). قال المسعودي: (نسا) من أرض فارس، وقال عبد الغني بن سعيد: (نسا) موضع بخراسان (¬3)، وهذا موافق لقول اليعقوبي، ثم قال الرشاطي بعدَ كلام: النَّسائي نسبةٌ - أيضًا - إلى (نسا)، والقياس النَّسوي. وكانت وفاة النَّسائيّ في سنة ثلاث وثلاث مئة (¬4). ¬

_ (¬1) الكورة: المدينة والصقع. (¬2) انظر: "البلدان" لليعقوبي (ص: 277). (¬3) انظر: "مشتبه النسبة في الخط واختلافها في المعنى واللفظ" لعبد الغني المقدسي (ص: 37). (¬4) * مصادر الترجمة: "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 82)، و"شروط الأئمة الستة" لابن طاهر المقدسي (ص: 104)، و"الإرشاد" للخليلي (1/ 435)، و"التقييد" لابن نقطة (ص: 140)، و"تهذيب الكمال" للمزي (1/ 328)، و "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 77)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (14/ 125)، و"تذكرة الحفَّاظ" له أيضًا (2/ 698)، و "طبقات الشافعية" للسبكي (2/ 83)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (1/ 32)، و"طبقات الحفَّاظ" للسيوطي (ص: 306)، و "المقصد الأرشد" لابن مفلح (1/ 115).

وأمَّا ابنُ مَاجَه: فذكره الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله في كتاب "قزوين" فقال: أبو عبد الله محمدُ بن يزيدَ، يُعرَف بابن ماجه (¬1)، مولى ربيعة (¬2)، له سننٌ وتفسير وتاريخ، وكان عارفًا بهذا الشأن، ارتحل إلى العراقينِ؛ البصرةِ والكوفةِ، وبغدادَ ومكةَ والشامِ ومصرَ والرِّيِّ لِكَتْبِ الحديث، ماتَ سنة ثلاثةٍ وسبعين ومائتين (¬3). قال محمدُ بن طاهر المقدسي: رأيتُ على ظهر جزء قديم [بالرِّي] حكايةً، كتبها أبو حاتم المعروفُ بخاموشَ (¬4)، قال أبو زُرعة ¬

_ (¬1) ماجَهْ: بفتح الميم والجيم وبينهما ألف، وفي الآخر هاء ساكنة. كذا ضبطه ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (4/ 279). وماجه: لقب لأبيه يزيد، قال الرافعي: كذلك رأيته بخطِّ أبي الحسن القطان وهبة الله ابن زاذان، وقد يقال: محمد بن يزيد بن ماجه، والأول أثبت - أي قوله: محمد بن يزيد أبو عبد الله ابن ماجه -. انظر: "التدوين في أخبار قزوين" (2/ 49). قال القنوجي في "الحطة في ذكر الصحاح الستة" (ص: 255): والصحيح: أن ماجه أمه. (¬2) قال ابن خلكان: هذه النسبة إلى ربيعة، وهي اسم لعدة قبائل، لا أدري إلى أيِّها ينسب المذكور. انظر: "وفيات الأعيان" له (4/ 279). (¬3) رواه ابن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة الستة" (ص: 102)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (56/ 271)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 121). (¬4) هو الإمام المحدث الحافظ الواعظ أبو حاتم أحمد بن الحسن بن محمد الرازي البزاز، أبوه الملقب بخاموش، له رحلة ومعرفة وشهرة، وكان شيخ أهل الري في زمانه، توفي بعد سنة (445 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي =

الرازي: طالعتُ كتاب أبي عبد الله ابن ماجه، فلم أجد فيها (¬1) إلَّا قدراً يسيراً ممَّا فيه شيء، وذكر قدر (¬2) بضعةَ عشرَ، أو كلاماً هذا معناه (¬3). قلت: وهذا كلامٌ لابد من تأويله، وإخراجه عن (¬4) ظاهره، وحملِهِ على وجهٍ يصح، نعم، الكتابُ كتابٌ حسن، كثيرُ الفائدة، له إعانةٌ على معرفة أحاديث الأبواب لمن يقصدها. وقال الحافظ أبو العباس بن عساكر: قرأتُ بخطِّ أبي الحسن عليّ بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن مَالَوَيْهِ الرازي - شابٌّ كان يسمع معنا الحديث بالرّي سنة تسع وعشرين وخمس مئة -: قال أبو عبد الله ابن ماجه: عرضتُ هذه النسخةَ على أبي زُرعة فنظر فيها (¬5) وقال: أظنُّ إنْ وقع هذا في يديِّ النَّاس تعطلت هذه الجوامعُ كلُّها - أو قال: أكثرُها -، ثم قال: لعلَّه لا يكون فيه تمامُ ثلاثين حديثاً ممَّا في إسناده ضعفٌ، أو قال: عشرين، أو نحوٌ من هذا الكلام. ¬

_ = (17/ 624)، و "نزهة الألباب في الألقاب" لابن حجر (1/ 232) وسماه: أحمد بن إسحاق. (¬1) في المطبوع من "شروط الأئمة": "فيه". (¬2) في "شروط الأئمة": "قريب" بدل "قدر". (¬3) انظر: "شروط الأئمة الستة" لابن طاهر المقدسي (ص: 101). ورواه عنه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (56/ 272)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 120). (¬4) في الأصل: "على"، والصواب ما أثبت. (¬5) في الأصل: "فيه"، والصواب ما أثبت.

وقال: حُكِيَ أنه نظر في جزء من أجزائه، وكان عنده في خمسة أجزاء (¬1). قلت: وهذا - أيضًا - لا بدَّ من تأويله جزمًا، ولعل ذلك الجزءَ الذي نظر فيه أو غيره ممَّا يصح. وقَزْوينُ المنسوبُ هو إليها: ذكرها أبو عُبيد البكري في كتاب "معجم ما استعجم" فقال: قَزوين - بفتح أوله، وإسكان ثانيه، بعدَه واوٌ مكسورة، وياء ونون - معروفةٌ ببلاد الدَّيلم، وأنشد أبياتاً. . . . (¬2) وقال الرَّشاطي عن ابن خُرْدَاذْبَه (¬3) أنه قال: بين قزوينَ والرّي سبعة وعشرون فرسخاً، وقزوينُ ثغرُ الدَّيلم (¬4)، قال: وقال اليعقوبي: ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (56/ 271). قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (13/ 278): قد كان ابن ماجه حافظًا ناقداً صادقاً واسع العلم، وإنما غضَّ من رتبة "سننه" ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات، وقول أبي زرعةَ - إن صحَّ - فإنما عنى بثلاثين حديثاً: الأحاديث المطَّرحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة، فكثيرة لعلها نحو الألف. (¬2) انظر: "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (3/ 1072). (¬3) في الأصل: "حردادبه"، والصواب ما أثبت، وهو بضم الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح الدال المهملة بعدها ألف وبعدها قال معجمة ساكنة، ثم باء موحدة مفتوحة، وآخره هاء ساكنة. وابن خرداذبه هذا: هو عبيد الله بن أحمد أبو القاسم، توفي في حدود سنة (300 هـ)، وله عدة مصنفات. انظر: "الفهرست" لابن النديم (ص: 165)، و "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 341). (¬4) انظر: "المسالك والممالك" لابن خرداذبه (ص: 58).

قزوينُ عادلةٌ عن وسطِ (¬1) الطريق، وهي في سفحِ جبل يُتاخم الديلمَ، ولها واديان يقال لأحدهما: الوادي الكبير، والآخر: الوادي شُبْرُم (¬2)، يجري فيهما الماء في أيام الشتاء، وينقطع في أيام الصيف، وأهلها أخلاط من العرب والعجم، وبها آثارُ المعجم وبيوتُ نيران (¬3). وأما ابنُ خزيمةَ: فهو أبو بكر محمدُ بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، أحدُ الأكابر الذين جمعوا بين الفقه ومعرفة صنعة الحديث، لقيَ أبا إبراهيم المُزني، والربيعَ بن سليمان، صاحبي الشافعي - رحمهم الله -، وعَظُم قدرُه، وانتشر صيتُه حتَّى لقِّبَ بإمام الأئمة، وشارك الشيخين وبقيةَ الجماعة في عدد من شيوخهم، كإسحاق بن راهَويه، وأحمد بن مَنِيع، وأحمد بن عبدة الضَّبي، ومحمد بن بشَّار بُندار، وأبي موسى محمد بن المثني الزَّمِن، ويحيى ابن حبيب بن عربي، وعُتبة بن عبد الله اليُحْمِدِي، وعلي بن حُجْر، ونَصر بن عليّ، وغيرهم. ¬

_ (¬1) في المطبوع من "البلدان": "معظم" بدل "وسط". (¬2) في المطبوع من "البلدان": "سيرم". (¬3) انظر: "البلدان" لليعقوبي (ص: 271). * مصادر الترجمة: "شروط الأئمة الستة" لابن طاهر المقدسي (ص: 101)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (56/ 270)، و"التقييد" لابن نقطة (ص: 119)، و "التدوين في أخبار قزوين" للرافعي (2/ 49)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 40)، و "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 279)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (13/ 277)، و"تذكرة الحفَّاظ" له أيضًا (2/ 636)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 468)، و "الحطة في ذكر الصحاح الستة" للقنوجي (ص: 255).

روى عنه الأكابر: أحمد بن إسحاق الصِّبْغِي، والحسن بن سفيان الفَسَوي، وأبو حامد بن الشَّرقي، وغيرُهم، ويقال: آخرُ من حدَّث عنه ابنُ ابنِهِ أبو بكر بن محمد الفضل (¬1) بن محمد بن إسحاق. كانت وفاتُهُ سنة إحدى عشرة وثلاث مئة بنيسابور. وصنَّف "الصحيح"، وله فيه طريقةٌ يذهب إليها في الرجال (¬2). وذكره الحافظ الحاكم أبو عبد الله في كتاب "علوم الحديث" وقال: سمعتُ أبا بكر محمد بن عليّ الفقيه الشَّاشي يقول: سمعتُ أبا بكر الصَّيرفي يقول: سمعتُ أبا العباس بن سُريج يقول - وذَكَر أبا بكر محمد بن إسحاق - فقال: يُخرِجُ النكتَ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمِنقاش (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل: "أبو بكر بن محمد الفضل"، والصواب: "أبو طاهر محمد بن الفضل". وانظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (16/ 490). (¬2) قال الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (14/ 373): وقد كان هذا الإمام جِهْبِذاً بصيراً بالرجال، فقال فيما رواه عنه أبو بكر محمد بن جعفر شيخ الحاكم: لست أحتج بشهر بن حوشب، ولا بحريز بن عثمان لمذهبه، ولا ببقيَّة، ولا بمقاتل بن حيان، ولا بأشعث بن سِوَار، ولا بعَلِي بن جَدعان لسوء حفظه، ولا بابن عقيل، ولا بيزيد بن أبي زياد، ولا بمُجالد، ولا بحجاج بن أَرْطاة إذا قال: عن، ولا بأبي حذيفة النَّهْدي، ولا بجعفر بنِ بَرْقان، ولا بأبي مَعْشر نَجيح، ولا بعمر بن أبي سلمة، ولا بقابوس بن أبي ظبيان، ثم سمى خلقاً دون هؤلاء في العدالة. فإن المذكورين احتج بهم غير واحد. (¬3) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 83). وانظر: "سير أعلام النبلاء" (14/ 373)، و"تذكرة الحفَّاظ" كلاهما للذهبي (2/ 728).

قلتُ: وفي تراجمه في كتابه أشياءُ حسنة، ومعانٍ طريفةٌ تؤيِّد ما قاله القاضي أبو العباس. وقال الحاكم: وسمعتُ أبا أحمد الحافظَ يقول: سمعتُ أبا الحسن السَّنجاني يقول: نظرت في مسألة الحج لمحمد بن إسحاق بن خزيمة فعلمتُ (¬1) أنه عِلْمٌ لا نُحسنه نحن (¬2). قال الحاكم: وسمعتُ أبا زكريا العَنبري يقول: سمعتُ محمد ابن إسحاق يقول: ليس لأحدٍ مع النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قولٌ إذا صحَّ الخبرُ عنه. ثم قال ابنُ خزيمةَ: سمعتُ أبا هاشم الرفاعي يقول: سمعتُ يَحْيَى بن آدم يقول: لا يُحتاجُ مع قول النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - إلى قول أحد، وإنما كان يقال سنةُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمرَ رضي الله عنهما؛ لِيعلَمَ أنَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماتَ وهو عليها (¬3). قال الحاكم: فضائلُ هذا الإمام - يعني ابن خزيمةَ - مجموعةٌ عندي في أوراق كثيرة، وهي أشهرُ وأكثر من أن يحملها هذا الموضع، ومصنفاتُهُ تزيد على مئة وأربعين كتاباً سوى المسائلِ، والمسائلُ المصنفة أكثرُ من مئة جزء ما بين فقه وحديث، وحديثُ بريرةَ ثلاثةُ أجزاء، ومسألةُ الحج خمسةُ أجزاء (¬4). ¬

_ (¬1) في "معرفة علوم الحديث": "فتيقنت". (¬2) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 83). (¬3) انظر: "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 84). (¬4) المرجع السابق، (ص: 83).

وذكره الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله قال: سمعت أحمد ابن عبد الله المُعدِّل يقول: سمعتُ عبد الله بن خالد الأصفهاني يقول: سُئِل عبدُ الرحمن بن أبي حاتم، عن أبي بكر بن خزيمةَ فقال: ويحك هو يُسأَل عنا، ولا نُسأل عنه، وهو إمام يُقتدى به (¬1). قال الخليل: وحدثني بعضُهم عن أبي أحمدَ الحافظِ قال: سمعتُ مَنْ سمع الربيعَ بن سليمان يقول: استفدنا من هذا الفتى الشعرانيِّ أكثرَ ممَّا استفاد منا، يعني: ابن خزيمة (¬2). وقد قدمنا قولَ الحافظ الجليل أبي الحسن الدارقطني فيه وهو قوله: وإن كان ابنُ خزيمة إمامًا ثبتاً معدومَ النظير (¬3). وذكره الشَّيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب "طبقات الفقهاء"، فزاد في نسبه بعدَ خزيمة: المغيرة، قال: السلمي مولاهم (¬4). وذكر عنه أنه قال: حضرتُ المزنيَّ، وسأله سائلٌ من العراقيين عن شبهِ العمد، فذكر المزني الخبرَ الذي رواه الشافعي: "ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد" (¬5)، فقال له السائل: أتحتجُّ بعلي بن زيد بن ¬

_ (¬1) رواه الخليلي في "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" (3/ 832). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: (ص: 53 - 54) من هذا الكتاب. (¬4) انظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص: 105). (¬5) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 198)، وفي "الأم" (6/ 8)، وأبو داود (4549)، كتاب: الديات، باب: في الخطأ شبه العمد، والنَّسائيُّ (4799)، كتاب: القسامة، باب: الاختلاف على خالد الحذاء، وابن ماجه (2628)، =

جدعان؟ فسكت المزني، فقلتُ للسائل: وروى الخبر غير عليّ بن زيد، فقال: مَنْ رواه؟ قلت: أيوبُ السَّختياني، وخالدٌ الحذاء، فقال: ومن عقبةُ بن أوسٍ الذي يرويه عن عبد الله بن عمر؟ فقلت: عقبة رجل من أهل البصرة، وقد روى عنه محمد بن سيرين في جلالته، فقال الرجل للمزني: أنت تناظر أو هذا؟ فقال: إذا جاء الحديثُ فهو يناظر؛ لأنَّه أعلمُ بالحديث مني، وأنا أتكلم (¬1). وحكى عنه أبو بكر النَّقاش أنه قال: ما قلَّدت أحدًا في مسألة منذ بلغتُ لستَ عَشْر [ة] سنة (¬2). أَذِنَ لنا غيرُ واحد عن الحافظ أبي طاهر السِّلَفي - ومن خطِّه استفدتُه - منهم: أبو محمد عبد الوهاب بن رواج قال: كتب إلي أبو ثابت يُنْجِير بن منصور الصُّوفي من هَمَذَان، وأخبرني عنه خادمُه أبو عليّ الحسنُ بن إبراهيم بها قال: سمعتُ أبا محمدٍ جعفرَ بن محمد بن ¬

_ = كتاب: الديات، باب: دية شبه العمد مغلظة، وغيرهم من طريق سفيان بن عيينة، عن عليّ بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر - رضي الله عنه -، به. وإسناده ضعيف كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الدراية" (2/ 261). وقد وقع في الأصول: "ابن عمر" والصواب: "عبد الله بن عمرو، وهو ابن العاص" كما نبه على ذلك الحافظ في "التلخيص الحبير" (4/ 22). (¬1) انظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص: 106)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 44)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (14/ 371). (¬2) انظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص: 106).

الحسين الأَبْهَري قال: سمعتُ أبا سهل بن زَيرك يقول: سمعتُ أبا سعيد الحسين بن محمد بن الهيثم البَسطامي يقول: سمعتُ أبا إسحاقَ إبراهيم بن محمد المُضَارب يقول: رأيتُ ابنَ خزيمةَ في المنام فقلت: جزاك الله عن الإسلام خيرًا، فقال: كذا قال لي جبريلُ في السماء (¬1). وأما ابن مَنْدَهْ (¬2): فهو أبو عبدِ الله محمدُ بن إسحاق بن محمد بن يَحْيَى بن منده العبدي الأصفهاني الحافظ، أحد أكابر هذه الصنعة، ممن جابَ رجال، ولقيَ الأعلام والرجال، وشرَّق وغرَّب، وبعَّد وقرَّب. قال الحافظ أبو الحسن عليّ بن المقدسي: واسم منده فيما قيل: إبراهيم (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (14/ 377). * مصادر الترجمة: "الثقات" لابن حبان (9/ 156)، و"معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 83)، و "طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص: 105)، و"تاريخ جرجان" للسهمي (ص: 456)، و "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (2/ 457)، و"التقييد" لابن نقطة (ص: 36)، و "سير أعلام النبلاء" (14/ 365)، و"تذكرة الحفَّاظ" كلاهما للذهبي (2/ 720)، و "طبقات الشافعية" للسبكي (2/ 130)، و "طبقات الحفَّاظ" للسيوطي (ص: 313). (¬2) قال ابن خلكان: مَنْدَهْ: بفتح الميم والدال المهملة بينهما نون - ساكنة، وفي الآخر هاء ساكنة أيضًا. انظر: "وفيات الأعيان" له (4/ 289) في ترجمة جد المترجم محمد بن يَحْيَى صاحب "تاريخ أصبهان" والمتوفى سنة (301 هـ). (¬3) قال الحافظ ابن حجر في "نزهة الألباب في الألقاب" (2/ 202): منده: جد آل منده الأصبهانيين، اسمه: إبراهيم بن الوليد بن سنده.

وكان نبيهـ[ــاً] ثبتـ[ــاً] جليلـ[ـاً] في الجمعِ بين الرواية والدراية، وسعةِ الرحلة وكثرة المشايخ، والسماعاتِ والتآليفِ، والتخاريجِ والكلام على الأحاديث، روَى عن أبيه، عن جده، وروى عنه أولادُه، وعن أولاده أحفادُه، واتصلت رواية بعضهم عن بعض، ولم يتفِقْ مثلُ ذلك إلَّا في أبياتٍ قليلةٍ، سمع في أصبهانَ من جماعة كبيرة، ثم رحل فسمع بالحجاز، وخراسان، ومدن العراق، والشام، ومصر. قال المقدسي: وكثيراً ما كنت أسمع شيخَنا الحافظ أبا طاهر السِّلَفي يقول: كان أبو عبد الله بن منده يقول: طُفتُ الشرقَ والغرب مرتين (¬1)، فما رأيت مثل القاضي أبي أحمد العسَّال في الإتقان. قال السِّلَفي: وإنما انتهت رحلته إلى مصر، فجعلها في المغرب. قلت: وشيوخُ ابن مَنْده هذا في الكَثرة بحيثُ يتعذَّر حصرُهم، ومن أعلامهم: أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الشيباني الأخرم الحافظ، وأبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف الأَصم، وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن الأعرابي، وأبو القاسم حمزة ابن محمد بن عليّ الحافظ المصري، وأبو عليّ إسماعيل بن محمد ابن إسماعيل الصَّفَّار، وأبو الطَّاهر أحمد بن محمد بن عمرو المديني، وخيثمة بن سليمان الطَّرابُلُسي، وعبد الرحمن بن يَحْيَى بن مَنْدَه، ¬

_ (¬1) انظر: "التقييد" لابن نقطة (ص: 40).

وأحمد بن إسحاق بن أيوب، وخلقٌ كثير سواهم (¬1). قال المقدسي: وكفاه أنه قال: كتبتُ عن أربعةِ من مشايخي (¬2) أربعةَ آلاف جزء (¬3). وقال محمد بن طاهر المقدسي - فيما رواه عنه السِّلَفي -: سألتُ الإمام أبا القاسم سعد بن عليّ الزَّنجانيَّ الحافظَ بمكةَ - وما رأيتُ مثلَه - قلت: أربعةٌ من الحفَّاظ تعاصروا، أيُّهم أحفظُ؟ فقال: مَنْ؟ قلت: الدارقُطني ببغدادَ، وعبد الغني بمصرَ، وأبو عبد الله بن مَنْده بأصبهانَ، وأبو عبد الله الحاكم بنيسابورَ، فسكت، فألححتُ عليه، فقال: أمَّا الدارقطنيُّ فأعلمُهم بالعلل، وأما عبد الغني فأعلمهم بالأنساب، وأما [أبو] عبد الله بن منده فأكثرهم حديثاً مع معرفةٍ تامة، وأما الحاكم فأحسنهم تصنيفاً (¬4). وروى الحافظ السلفي - رحمة الله عليه - قال: سمعتُ أبا الرجاء ¬

_ (¬1) قال ابن أبي يعلى في "الطبقات" (2/ 167): بلغني عنه أنه كتب عن ألف شيخ وسبع مئة شيخ، وقال: طفت الشرق والغرب مرتين، فلم أتقرب إلى كل مذبذب، ولم أسمع من المبتدعين حديثاً واحدًا. (¬2) وهم: أبو سعيد بن الأعرابي، وأبو العباس الأصم، وخيثمة الأطرابلسي، والهيثم الشاشي. انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (17/ 34). (¬3) رواه ابن نقطة في "التقييد" (ص: 40)، والذهبي في "سير أعلام النبلاء" (17/ 34)، وفي "تذكرة الحفاظ" (3/ 1034). (¬4) انظر: "أطراف الغرائب والأفراد للدارقطني" تخريج ابن طاهر المقدسي (1/ 51).

بشار بن أحمد بن محمد القصَّار وآخرين بأصبهانَ قالوا: سمعنا أبا حفصِ عمرَ بن أحمد بن عمر السِّمسار الشيخَ الثقةَ يقول: سمعتُ أبا نعيم الحافظ، وسُئِل عن أبي عبد الله بن منده الحافظ، فقال: جبلٌ من الجبال (¬1). قال الحافظ السِّلَفي: وابن منده من الحفَّاظ الذين كَتَبَ عنهم أبو نعيم بأصبهانَ. قال الحافظ أبو الحسن المقدسي: بلغني أنَّ أبا عبد الله بن منده قال: لما دخلتُ مصرَ لقيتُ حمزةَ بن محمد الحافظ فأكرمني، وخرجتُ من عنده فأمرَ لي بركوب دابته، فركبتها وسِرتُ بها في مصر، فجعل النَّاس ينظرون إليَّ ويقولون: هذا ركبَ دابة حمزة، وصار وجوهُهم يقصدونني بالزيارة، ويستعظمون هذا الأمر (¬2). قال: وقد طلبتُ هذه الحكايةَ لأخرجها بإسنادها فلم أجدها، فعلقتها من حفظي على المعنى بغير إسناد. وذكره الحافظ أبو نعيم في "تاريخه"، فقال: توفي في سَلخ ذي ¬

_ (¬1) وانظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (52/ 32)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (17/ 32)، قال الذهبي: فهذا يقوله أبو نعيم مع الوحشة الشديدة التي بينه وبينه، انتهى. قلت: وهذا من كمال علمهم، ومتانة دينهم وإنصافهم، رحمهم الله جميعاً وغفر لهم. (¬2) ورواها ابن نقطة في "التقييد" (ص: 41).

الوجه الثاني من الكلام على الحديث: في تصحيحه

القعدة سنةَ خمس وتسعين وثلاث مئة، وقال: حافظٌ من أولاد المحدثين كتب بالشام ومصر وخراسان (¬1). قلتُ: وبلغني أن مولده سنة عشر أو إحدى عشرة، ولابن منده هذا صحيحٌ على الاتفاق والاختلاف، وأشار إليه ابنُهُ عبد الرحمن، وحصل لنا بعضُه، وكتب عليه الفقيه الحافظ أبو عمرو بن الصلاح ثناءً حسناً (¬2)، والله أعلم. * * * الوجه الثَّاني من الكلام على الحديث: في تصحيحه: وقد ذكرنا في الأصل عن التِّرمذي الحكمَ بصحته، وابنُ خزيمةَ أخرجه في صحيحه، وقولنا: "ورجَّح ابن منده - أيضاً - صحتَه"؛ لأنَّه قال: فاتفاقُ صفوانَ والجُلاح يوجب شهرةَ سعيد بن سلمة، واتفاق ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ أصبهان" لأبي نعيم (2/ 278). (¬2) وقد ذكره المؤلف رحمه الله في كتابه "الإمام" (1/ 98) وسماه: "الطهارة بالاتفاق والتفرد على رسم أهل المعرفة بالآثار وصحيح الأخبار". * مصادر الترجمة: "تاريخ أصبهان" لأبي نعيم (2/ 278)، و "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (2/ 167)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (52/ 29)، و"مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 518)، و"التقييد" لابن نقطة (ص: 39)، و "سير أعلام النبلاء" (17/ 28)، و "تذكرة الحفَّاظ" (3/ 1031)، و "ميزان الاعتدال" ثلاثتها للذهبي (6/ 66)، و "لسان الميزان" لابن حجر (5/ 70)، و "طبقات الحفَّاظ" للسيوطي (ص: 408).

يَحْيَى بن سعيد وسعيد بن سلمة على المغيرة بن أبي بردة، ما يوجب شهرةَ المغيرة، وصار الإسنادُ مشهوراً (¬1). وهذا لفظٌ ليس فيه تصريحٌ بالتصحيح، فنجزم به في الحكاية عنه، وفيه ترجيح، فاخترنا لفظ الترجيح. وذكر التِّرمذيُّ أنه سأل محمدَ بن إسماعيل - وهو البُخاريّ - عن هذا الحديث فقال: هو عندي صحيح (¬2). وقال أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النَّمْري الحافظُ الأندلسيُّ: لا أدري ما هذا من البُخاريّ رحمه الله؟ ولو كان عنده صحيحاً لأخرجَهُ في مصنفه الصحيح عنده، ولم يفعلْ، لأنَّه لا يُعوِّل في الصحيح إلَّا على الإسناد، وهذا الحديث لم يحتجَّ أهلُ الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيح؛ لأنَّ العلماءَ تلقَّوْه بالقَبول له والعمل به، ولا يخالف جملتَهُ أحدٌ من الفقهاء، وإنَّما الخلاف في بعض معانيه على ما نذكره إن شاء الله تعالى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 100). (¬2) انظر: "العلل الكبير" للترمذي (ص: 41). وذكر التِّرمذيُّ أنه قال للبخاري: هشيم يقول في هذا الحديث: المغيرة بن أبي برزة؟ قال: وهم فيه، إنَّما هو المغيرة بن أبي بردة، وهشيم ربما يَهِم في الإسناد، وهو في المقطَّعات أحفظ. وتعقب المؤلفُ البخاريَّ، فقال في "الإمام" (1/ 105): إنَّما يلزم هشيماً إذا اتُّفق عليه، وأما وقد رواه أبو عبيد عن هشيم على الصواب، فالوهم ممن رواه على ذلك الوجه عن هشيم. (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 218).

قلتُ: أما قولُ الحافظ أبي عمر: لو كان صحيحًا، لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده، فهذا غيرُ لازم، لأنَّ صاحبي الصحيحين لم يلتزما إخراجَ كلِّ صحيح عندهما. وأما قوله: وهذا الحديث لم يحتجَّ أهل الحديث بمثل إسناده، فقد ذكرنا في كتاب "الإمام" (¬1) وجوه التعليل التي يُعلَّل بها الحديث، وحاصلُها راجعٌ إلى الاضطراب في الإسناد، والاختلاف في بعض الرواة، ودعوى الجهالة في سعيد بن سلمة؛ لكونه لم يروِ عنه إلَّا صفوانٌ فيما زعم بعضُهم، وفي المغيرة بن أبي بردةَ أيضًا. فمن العلل: الاختلاف في الإسناد، والإرسال، وتقديم الأحفظِ المُرسِل على المُسنِد الأقلِّ حفظاً، وهذا الأخيرُ - إذا ثبت عدالةُ المُسنِدِ - غيرُ قادح على المختار عندَ أهل الأصول. وأما الجهالةُ المذكورة في سعيد بن سلمة: فقد قدمنا من كلام ابن منده ما يقتضي رواية الجُلاح عنه مع صفوان، وذلك على المشهور عند المحدثين يرفعُ الجهالة عن الراوي. وأما المغيرةُ بن أبي بردة: فقد ذكرنا - أيضًا - من كلام ابن منده موافقةَ يَحْيَى بن سعيد لسعيد بن سلمة في الرواية عن المغيرة، وهو مشهورٌ - أيضًا - من غير طريق ابن منده، ووقع لنا ثالثٌ يروي عن ¬

_ (¬1) انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 99) وما بعدها.

المغيرة هذا، وهو يزيد بن يَحْيَى القرشي (¬1)، هذا مع كونه معروفاً من غير الحديث في مواقف العدو في الحروب بالمغرب. وأما الاختلافُ والاضطرابُ: فقد ذكرنا ما قيلَ في الجواب عنه في "الإمام" (¬2). وفي الجملة: فقد تلخَّصَ أنَّ من صححه فلهم فيه طريقان: طريق الإسناد، وطريق التلقي بالقَبول، وفي طريق الإسناد ما قدمناه. والذي أقوله: إنَّ زوالَ الجهالة عن سعيد برواية اثنين عنه، وعن المغيرة برواية ثلاثة، يكتفي (¬3) به مَنْ يَرى أنه لابدَّ من معرفة حال الراوي في العدالة بعدَ زوال الجهالة عنه، فإن كان المصحِّحون له قد علموها على جهة التفصيل فلا إشكالَ في ذلك، وإلا فلا يَبْعُدُ اعتمادُهم على تحري مالكِ وانتقائِه للرجال وتحرزِه في المشايخ، أو على الاكتفاء بالشهرة، والله أعلم بما ذهبوا إليه. * * * ¬

_ (¬1) وبطلت - بذلك - دعوى من ادعى انفراد سعيد عن المغيرة، وانفراد صفوان عن سعيد. كما قاله المؤلف في "الإمام" (1/ 100). ونقله عنه الزيلعي في "نصب الرواية" (1/ 96 - 97). (¬2) انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 103). (¬3) في الأصل: "لا يكتفي"، والصواب حذف "لا" كما أثبته.

الوجه الثالث

* الوجه الثالث: ليس المقصودُ الأكبر بهذا الحديث الاستدلالَ على طهورية ماء البحر؛ لأنَّه كالمتفق عليه بين الفقهاء، فكان يكتفي بذلك، لأنَّ الكتابَ كتابُ اختصار، لكنْ لمَّا كان تتعلق به فوائدُ كثيرة، منها ما يخصُّ هذا الكتاب، ومنها ما يدخل في غيره، ويُستدَلُّ على ذلك الغير في المكان اللائق به، كان أكثرَ فائدةَ من الأحاديث التي تدلُّ على ما يتعلق بهذا الباب خاصةَ، وكان حديثُ القلتينِ أمسَّ بهذا الباب، وقد صحَّح بعضُهم إسنادَ بعض طرقه، وهو - أيضًا - عندنا صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنَّه وإن كان حديثاً مضطربَ الإسناد، مختلفاً فيه في بعض ألفاظه، وهي علة عند المحدثين، إلَّا أن يُجابَ عنها بجواب صحيح، فإنّه يمكنُ أن يُجمعَ بين الروايات، ويجابَ عن بعضها، وينسبَ إلى التصحيح بطريق قوي أصولي، ولكن تركتُه، لأنَّه لم يثبتْ عندنا الآنَ - بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعاً - تعيينٌ لمقدار القلتين، وقد نبهنا على ذلك في "الإمام" (¬1). * * * الوجه الرابع: في تفسير شيء من مفردات ألفاظه: فمنها: البحر، وفيه نظران: النظر الأول: في أنه هل يختصُّ بالملح، أم يعمُّ الملح والعَذْب؟ ¬

_ (¬1) انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 199).

فنقول: قال أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي المعروف بالقَزَّاز في كتاب "جامع اللغة" (¬1) بعدَ ذكره البحرَ: وإذا اجتمعَ الملح في الماء والعذب يعني: سمَّوه باسم الملح؛ أي: بحرين، قال: ومنه قولُه - جلَّ وعزَّ -: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19] فجعل الماء العذب بحراً لمقارنة الملح. وهذا الكلامُ يقتضي أنَّ الاسمَ في الأصل للملح، وأن العذب سُمِّي بذلك للتغليب عند المقارنة، كالعُمَرين والقَمرين. وقال ابن سيده صاحب "المحكم" في "المحكم": البحرُ: الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً، وجمعُه: أبحُر وبُحُور وبِحَار، وقد غلب على الملح حتَّى قلَّ في العَذْب، وصَرَفُوه على معنى المُلُوحة، وقالوا: أبحرَ الماءُ، أي: صارَ مِلْحاً، وأنشد بيتَ نُصَيبٍ [من الطَّويل]: وقدْ عادَ ماءُ الأرضِ بَحْراً فزَادني ... إلى مَرَضِي أَنْ أبحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ (¬2) ¬

_ (¬1) قال حاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/ 576) بعد أن ذكر سنة وفاة القزاز (412 هـ): وهو كتاب معتبر، لكنه قليل الوجود. (¬2) انظر: "ديوان نُصيب بن رباح" (ص: 66). وانظر: "المحكم" لابن سيده (3/ 239)، (مادة: بحر)، وقد سقط من المطبوع من "المحكم" قوله: "وصرفوه على معنى الملوحة".

وقال الأزهري: كلُّ نهر لا ينقطع ماؤُه مثلُ دجلةَ والنيلِ، وما أشبههما من الأنهار [العذبة] الكبارِ، فهي بحار، وأما البحر الكبير الذي هو مَغيضُ هذه الأنهارِ الكبارِ فلا يكون ماؤُه إلَّا مِلحاً أُجاجاً، ولا يكون ماؤه إلَّا راكداً، وأما هذه الأنهار العذبةُ فماؤُها جارٍ (¬1). النظر الثَّاني: فيما ترجعُ إليه هذه اللفظةُ: والذي تلخَّصَ لنا من كلام أهلِ اللغة أصلان: أحدهما: معنى السَّعة، والثاني: معنى الشَّق. أما الأولُ: فقال محمد بن جعفر القزَّاز - بعدَ ذكر البحر -: سمِّي بذلك لسَعته من قولهم: تبحَّر الرجلُ في العلم بكذا: اتَّسع (¬2)، وكذا تَبحَّرَ المال. وفي هذا الكلام نظرٌ؛ لأنَّ الصوابَ أن التبحرَ في المال والعلم مأخوذٌ من البحر، لا أنَّ البحرَ مأخوذٌ منه. وقال صاحبُ كتاب "السبب في حصر كلام العرب" (¬3): سُمِّي به لسَعته. وقال الليثُ - فيما حكاه الأزهري عنه -: سُمي البحرُ بحراً؛ ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 39)، (مادة: بحر). (¬2) وكذا ذكر الخطابي في "غريب الحديث" (3/ 152). (¬3) هو للحسين بن المهذب المصري اللغوي، كما ذكر حاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/ 975) وعنده: "السبب في حصر لغات العرب".

لاستبْحارِه، و [هو] انبساطُه وسعتُه، يقال: استبحرَ فلانٌ في العلم، وتبحَّر الراعي في رَعيٍ كثيرٍ، وتبحَّر فلانٌ في المال، أي: كَثُر ماله (¬1). وهذه المادة قد يخفَى وجهُها في مواردِ استعمال هذه اللفظة؛ كتسمية الرجل المسلول الجسم بالبحر، وفي قولهم: بُحِرَ الرجل: إذا بُهِتَ، وقولهم: الباحُر: الأحمقُ الذي إذا تكلَّم بقي كالمبهوت، وقيل: هو الذي لا يتمالك حُمقاً، وإن كان يمكن أن يردَ على هذا الأصلِ ولا يتعذَّرَ بتأويل. وأما الثَّاني: وهو معنى الشَّق، فإنَّ الأزهريَّ قال - بعدَ ما حكيناه عنه، في كلِّ نهر لا ينقطع ماؤه -: سُمِّيت هذه الأنهارُ بجاراً؛ لأنها مشقوقةٌ في الأرض شقًّا (¬2). وقال أيضًا - بعدَ حكايته لكلام اللَّيث الذي قدَّمناه -: وقد قال غيره: سمي البحر بحرًا؛ لأنَّه شَقَّ في الأرض شقاً، وجَعَل الشقَّ لمائه قراراً. والبحر في كلام العرب: الشَّقُ، ومنه قيل للناقة التي تُشَقُّ (¬3) في أذنها شقاً: بَحِيرة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 37)، (مادة: بحر). وانظر فيما نقله الأزهري عن اللَّيث: "العين" له - كما يقوله الأزهري وغيره، وهو المعتمد - أو للخليل - كما يقوله بعضهم - (3/ 219). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 39)، (مادة: بحر). (¬3) في المطبوع من "تهذيب اللغة" "يشُقُّون". (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 37)، (مادة: بحر).

وجعل القزازُ البحيرةَ من الأصل الأول، فإنّه قال: والبُحْران من هذا أخذه، وهو اتساع العلة، والبَحيرةُ من هذا: وهي الناقة التي تُنْتجُ عشرةَ أبطُن، وتُبْحَر في أذنها؛ أي: تُشَق وتُترَك ترعى، ولا يُنتفع بظهرها، ويحرم لحمُها على نسائهم، ثم قال - بعد كلام -: وكلُّ هذا مأخوذ من السَّعَة والشَّق، ولذلك سمي الفرجُ بحراً، ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن أنس بن سيرين قال: استحيضت امرأةٌ من آل أنس، فسألت ابن عباس، فقال: "إذا رأتِ الدَّمَ البَحْرانيَّ فلتدعِ الصَّلاةَ، فإذا رأتِ الطُّهرَ ولو ساعةً من نهارٍ فلتغتسلْ ولتصلِّ" (¬1). قال: فالدم البحراني دم الحيض، وسماه بحرانياً؛ لغلظه وشدة حُمرته، ونسبَهُ إلى البحر، يريد عنق الرحم؛ لأنَّ كلَّ عنق أو شق: بحرٌ (¬2). وأقول: الأقربُ أن نجعلَ اللفظَ راجعاً إلى أصل السعة، ويُرَدُّ معنى الشق إليه؛ لأنَّه المعنى العامُ في موارد الاستعمال، فنجعلُـ[ــه]، حقيقة اللفظ على ما قرَّره المتأخرون من أهل النظر، فإنَّ في الشقَّ معنى السَّعة، إلَّا أن يُدَّعَى أن تسمية الماء الكثير بالبحر لملازمة الشق أو مجاورته، وهذا يلزمُ منه المجازُ بالنسبة إلى الوضع اللغوي، فإن ¬

_ (¬1) ذكره أبو داود في "سننه" (1/ 75)، وعنه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 340). ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1367)، والدارمي في "سننه" (800) بإسناد صحيح. وانظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 198)، و "فتح الباري" (1/ 429)، و "تغليق التعليق" كلاهما لابن حجر (2/ 182). (¬2) وانظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 37 - 41)، (مادة: بحر).

ادُّعيَ فيه النقلُ عرفًا أو الاشتراكُ، فالكلُّ خلافُ الأصل. ومن ذلك القليل: وهو محمولٌ هنا على غير الكافي للطهارة، وما يحتاج إليه للشُّرب، وقد يُستعمَل في غير هذا المحل لغير هذا المعنى. ومنها لفظ الطَّهور: وهو هنا بفتح الطاء؛ لأنَّه اسمٌ للماء الذي يُتطهَّر به، والطُّهور - بضم الطاء - اسمٌ لفعلِ التطهر، هذا هو المشهور، وجعل سيبويه الطَّهور - بالفتح - مصدراً (¬1)، وسيأتي الكلام على هذه اللفظة بأكثر من هذا في وجه الفوائد، إن شاء الله تعالى. ومنها الحِلُّ: وهو بمعنى الحلال، كالحرِم بمعنى الحرام. ومنها المَيتة: وهي ها هنا بفتح الميم، لأنَّ المرادَ العينُ الميتة، وأما المِيتة - بكسر الميم -: فهي هيئةُ الموت، ولا معنى لها ها هنا إلَّا بتكلف (¬2)، والمَيتة - بالتشديد والتخفيف - (¬3) بمعنى واحد في موارد الاستعمال، وفَصَل بعضُهم بينهما. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" لسيبويه (2/ 224)، باب: في الخصال التي تكون في الأشياء. (¬2) قال الخطابي في "إصلاح غلط المحدثين" (ص: 44): عوام الرواة يولعون بكسر الميم من "الميتة"، وإنما هي "مَيتته" مفتوحة الميم، وكسرها خطأ. (¬3) أي: بتشديد الياء من "الميتة" وتخفيفها.

الوجه الخامس: في ذكر شيء من علم العربية

* الوجه الخامس: في ذكر شيء من علم العربية: وفيه نظران: النظر الأول: أن العربَ قد تحذف الموصوفَ وتُبقي الصفة وبالعكس، وإنَّما يصحُّ الحذفُ إذا فُهِم المعنى، طلباً للاختصار مع حصول المقصود، وذكر بعضُ فضلاء النحاة المتأخرين: أن إقامة الصفة مقامَ الموصوف ضعيفةٌ، ويحسُنُ إذا كانت الصفة مختصةً، وإذا كان الموصوفُ ظرفًا، وإذا كانت موصوفةً، كما تقول: مررتُ بعالم من بني فلان، وإذا كانت المقصودة نحو قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]. ومثالُ المختصةِ: رأيت العالم، وغيرِ المختصةِ: رأيت الأسود، ومثالُ الظرف: جلست قريباً منك، وبعيداً منك، وقد جاء حذفُ الصفة مع بقاء الموصوفِ في الكتاب العزيز كثيرًا. واعلمْ أنه قد وردَ في هذا الحديث حذف الصفة وإبقاءُ الموصوف، لدلالة السياق عليه، وهو قوله: "ونحمل معنا القليل من الماء"، فإنَّ المعنى المراد: الماءُ العذب، فحذف الصفة. وأما في لفظ البحر، فهو يَبتنِي على ما قدمناه من انطلاق هذه اللفظة على العذب والملح معاً، أو كونها أصلًا في الدلالة، أو غالبة في الدلالة عليه، فإن قلنا بالأصالة والغلبة، فلا حاجةَ إلى تقرير حذف الصفة في لفظ (البحر)، وإن قلنا بعموم الدلالة، احتيجَ إلى تقرير الحذف في البحر أيضاً.

النظر الثاني

النظر الثَّاني: في إعرابِ قوله - عليه السلام -: "هو الطهورُ ماؤُهُ"، قد أنهاه بعضهم إلى قريبٍ من عشرين وجهًا، في كثير منها تكلفٌ أو إضمارٌ لا تظهر الدلالةُ عليه، فتركنا أكثرها واقتصرنا على أوجهٍ أربعة: الأول: أن يكون (هو) مبتدأً، و (الطهور) مبتدأً ثانياً خبره (ماؤه)، والجملةُ من هذا المبتدأ الثَّاني وخبرِه خبرُ المبتدأ الأول. الثَّاني: أن يكون (هو) مبتدأ، و (الطهور) خبره، و (ماؤه) من بدل الاشتمال، وفي هذا الوجه بحثٌ دقيق. الثالث: أن يكون (هو) ضمير الشأن، و"الطهور ماؤه" مبتدأً وخبراً، ولا يمنع من هذا تقدُّمُ ذكرِ البحر في السؤال، لأنَّه إذا قُصِد الإنشاء وعدمُ إعادة الضمير في قوله (هو) على (البحر)، صحَّ هذا الوجه، وهذا كما قالوا في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]: إنَّهُ ضميرُ شأنٍ مع ما رُوِيَ من تقدمِ ذكر الله تعالى في سؤال المشركين حيثُ قالوا: انسب لنا ربك (¬1). ¬

_ (¬1) رواه التِّرمذيُّ (3364)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الإخلاص، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 133)، وغيرهما من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -. ورواه التِّرمذيُّ (3365)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الإخلاص، من حديث أبي العالية مرسلاً. قال التِّرمذيُّ: ولم يذكر فيه "عن أبي بن كعب" وهذا أصح. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/ 739): وصحح الموصولَ ابنُ خزيمةَ والحاكمُ، وله شاهد عند أبي يعلى، والطبري، والطبراني في "الأوسط".

الوجه السادس: في إيراد شيء يتعلق بعلم البيان ومحاسن الكلام

الرابع: أن يكون (هو) مبتدأً، و (الطهور) خبرَه، و (ماؤُه) فاعلاً؛ لأنَّه قد اعتمد فاعله وعامله بكونه خبراً (¬1). * * * الوجه السادس: في إيراد شيء يتعلقُ بعلم البيان ومحاسن الكلام: ونذكرُ الآن نكتاً من ذلك: الأولى: إن بعضَ المصنفين في علم البيان لما ذَكَر عطف الجمل التي لا محلَ لها من الإعراب على الجمل (¬2)، انتهى الكلامُ إلى قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] إلى أن قال: ويجوزُ أن يكونَ ذلك على طريق الاستطراد، لما ذَكَر أنَّ الأهلة مواقيتُ للحج، كأنه كان مراجعاً لهم في الحج، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِل عن ماء البحر قال: "هو الطهور مَاؤه، الحل ميتته" (¬3). النكتة الثَّانية: لضمير الشأن في محاسن الكلام شأنٌ عند أهل البيان، وكأن السببَ فيه أنه يُشِعرُ بالجملة الآتية بعدَه إشعاراً كلياً، ¬

_ (¬1) نقله عن المؤلف: السيوطي في "عقود الزبرجد" (2/ 431). (¬2) أي: التي لها محل إعرابي. (¬3) وانظر: "دلائل الإعجاز" للجرجاني (ص: 188)، و"الفصول المفيدة في الواو المزيدة" للخليل بن كيكلدي العلائي (ص: 138).

النكتة الثالثة

فتتشوقُ النفسُ إلى تفسير الآتي بعدَ الإبهام، فإذا أتى قَبِلَتْهُ قَبولَ الطَّالبِ لمطلوبه، والعاشقِ لمعشوقهِ، فترجَّحَ بهذا أحدُ الوجوه المذكورة في قسم الإعراب (¬1). النكتة الثالثة: الجملُ قد يؤتَى بها معطوفاً بعضُها على بعض بحرف العطف، وقد لا يكونُ كذلك، ولترك هذا العطف في بعض المواضع حُسنٌ وجمال تكلَّمَ أهلُ البيان عليه في مَحالِّه، ويمكن أن يُعلَّلَ هذا الحسنُ حيثُ يقع في بعض المواضع، بأنَّ العطفَ يوجب تبعيةَ المعطوفِ للمعطوف عليه، والاعتناء بها يقتضي تركَ العطفِ لزوال الموجب لكونها تبعاً، وهو حرف العطف، وهذا يجرُّ إليه قولُه - عليه السلام -: "هو الطهور مَاؤه، الحل ميتته"، من غير عطف إحدى الجملتين على الأخرى. النكتة الرابعة: في سياق هاتين الجملتين معنىً لطيف، وهو أنَّ هذا السياقَ قد يُستعمَل في بيان الشرف والتعظيم في تعداد الخواصِّ والمحاسن، كما يقال: فلان فقيه، ويقال: هو الفقيه النحوي الأصولي، وهذا المعنى لا يتأتَّى في مطلق الجواب بطهوريته. وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في قوله: "الحل ميتته": بيانٌ أن البحرَ كلَّه بركةٌ ورحمة، ماؤه طهور، وميتته حلال، وظهرُه جَوارٍ، وقعرُه جواهر (¬2). ¬

_ (¬1) وهو الوجه الثالث من الوجوه الأربعة التي ذكرها المؤلف فيما سبق. (¬2) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 89).

الوجه السابع: في المباحث المتعلقة به والفوائد المستنبطة منه، وهو المقصود الأعظم والمهم الأكبر، وفيه مسائل

* الوجه السابع: في المباحث المتعلقة به والفوائد المستنبطة منه، وهو المقصود الأعظم والمهم الأكبر، وفيه مسائل: الأولى: فيه دليلٌ على جواز ركوب البحر في الجملة، وقد ورد في بعض الروايات ركوبُه للصيد (¬1)، فيدل دلالة خاصة على ركوبه في طلب المعيشة، وقد ورد ما يعارض ذلك، وهو حديث رواه أبو داودَ من طريق عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا تركب البحر إلَّا حاجًّا أو مُعتمراً أو غازياً في سبيلِ اللهِ" الحديث (¬2). وذُكِرَ عن عبد الله بن عمر - أيضاً - ما يناسب هذا (¬3)، وطعن بعضُهم في صحة هذا عنه، والحديث المذكور في إسناده اختلاف، (¬4) وللنظر فيه محلٌّ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 378)، والحاكم في "المستدرك" (493)، والبيهقى في "السنن الكبرى" (1/ 3)، من طريق اللَّيث، عن الجلاح أبي كثير، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة، به. (¬2) رواه أبو داود (2489)، كتاب: الجهاد، باب: في ركوب البحر في الغزو، من طريق سعيد بن منصور في "سننه" (2/ 186)، بلفظ: "لا يركب البحر إلَّا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله، فإن تحت البحر ناراً، وتحت النار بحراً". قال الخطابي في "معالم السنن" (2/ 238): وقد ضعفوا إسناد هذا الحديث. ونقل البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 334) عن البُخاريّ تضعيفه. (¬3) روى البزار في "مسنده" (5/ 282 - "مجمع الزوائد" للهيثمي) من حديث ابن عمر: أن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يركب البحر إلَّا حاج أو غاز". قال الهيثمي: فيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. (¬4) من هنا تبدأ النسخة الخطية لمكتبة كوبريلي، والمرموز لها بحرف "ت".

غيرُ هذا بسبب الحاجة إلى معرفة حال [بعض] (¬1) الرواة (¬2). ثم إن لك أن تأخذَ من الحديث مطلقَ الركوب، من حيث هو ركوب، من غير تعرُّضٍ إلى الأحوال العارضة التي تحرِّم، أو توجب كراهية (¬3)، أو غير ذلك، كما هو عادة الفقهاء في إطلاق الحكم بالنظر إلى الحقيقة من غير التفاتٍ إلى الأحوال العارضة، كما تقول: الصيدُ جائز، وقد يعرض ما يُوجِب تحريمَه، والنكاحُ مستحب، وقد يعرِضُ ما يقتضي وجوبَه [حيثُ تعيَّن طريقاً لدفع العنت لعدم القدرة على التسري] (¬4)، ولك أن تفصِّل. ورأيت لبعض المتأخرين (¬5) من شارحي "التفريع" لأبي القاسم ابن الجلًاب المالكي (¬6) [حاكياً عن بعض شيوخ المذهب] (¬7) قال: ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) وقد ذكره المؤلف رحمه الله في "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" (1/ 113)، وفصَّل فيه الكلام. (¬3) "ت": "كراهته". (¬4) سقط من "ت". (¬5) لعله يعني: الإمام الفقيه عليّ بن أحمد الغساني المتوفى سنة (609 هـ)، حيث شرح "التفريع" لابن الجلاب وسماه: "الترصيع في شرح مسائل التفريع". انظر: "الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب" لابن فرحون المالكي (ص: 211). (¬6) وقد طبع كتاب "التفريع" في مجلدين سنة (1987 م)، ونشرته دار الغرب الإسلامي ببيروت. (¬7) سقط من "ت".

[قال] (¬1) مالكٌ: يكرَه ركوب البحر بما (¬2) يدخلُ على الإنسانِ من نقص في صلاته وغير ذلك. ثم (¬3) قسم ركوبَ البحر على (¬4) ثلاثة أقسام، وجعل ما أطلقه (¬5) من الكراهة منزلاً على أحدها فقال: ركوبُ البحر على ثلاثة أوجه: جائزٌ: وهو إذا كان [يعلم] (¬6) من شأنه أنه (¬7) يقدرُ على صلاته قائماً ولا يَمِيد. ومكروهٌ: وهو [ما] (¬8) إذا لم يتقدم له عادةٌ بركوبه، ولا يعلم إذا ركبه هل يَميد وتتعطل صلاتُه أم لا؟ ولا يقال في هذا القسم: إنه ممنوع؛ لأنَّ الغالبَ السلامة (¬9). وممنوعٌ: وهو ما إذا كان يعلم من شأنه أنه يميدُ ولا يقدر على أداء الصَّلاة، أو كان لا يقدر على [أداء] (¬10) الصَّلاة لكثرة الراكب، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "لما". (¬3) "ت": "و". (¬4) "ت": "إلى". (¬5) "ت": "ذكره". (¬6) سقط من "ت". (¬7) "ت": "أن". (¬8) زيادة من "ت". (¬9) "ت": "أنه لا يميد" بدل "السلامة". (¬10) زيادة من "ت".

الثانية

ولا يقدر على السجود. وقال مالك - في سماع أشهب -: إذا لم يقدرْ أحدكم على أن يركع أو يسجدَ إلَّا على ظهر أخيه فلا تركبوا لحج (¬1) ولا لعمرة، أيركب حيث لا يصلِّي؟! ويلٌ لمن ترك الصَّلاة! ويكره - أيضاً - إذا كان لا يقدر على الصَّلاة إلَّا جالساً (¬2). الثَّانية: المنقول عن الشافعي - رضي الله عنه -: أنَّ ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال، يتنزَّلُ منزلةَ العموم في المقال (¬3)، ومثل هذا: أن غيلانَ أسلم على عشر (¬4) نسوة فقال - عليه السلام -: "أمسكْ أربعاً وفارقْ سائرَهُنَّ" (¬5)، ولم يسأله عن كيفية ورود عقدِهِ عليهن في الجمع ¬

_ (¬1) "ت": "لحجة". (¬2) وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (2/ 515 - 516). (¬3) ذكر هذه القاعدة عن الإمام الشافعي رحمه الله جمع من الأصوليين منهم: إمام الحرمين الجويني في "البرهان في أصول الفقه" (1/ 237)، والرازي في "المحصول" (2/ 631)، والزركشي في "البحر المحيط" (3/ 148)، وابن اللحام في "القواعد والفوائد الأصولية" (ص: 234)، وغيرهم. (¬4) في الأصل: "عشرة"، والمثبت من "ت". (¬5) رواه التِّرمذيُّ (1128)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة، وابن ماجه (1953)، كتاب: النكاح، باب: الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 274)، وفي "الأم" (4/ 265)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 13)، وغيرهم من طرق عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، به. =

والترتيب، فكان لإطلاقه (¬1) القول دالاً (¬2) على أنه لا فرقَ بين أن تتفقَ تلك العقود معًا، أو على التَّرتيب (¬3). ¬

_ = دال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 168) ما حاصله: قال البزار: جوّده معمر بالبصرة، وأفسده ياليمن فأرسله، وقال التِّرمذيُّ: قال البُخاريّ: هذا الحديث غير محفوظ، والمحفوظ ما رواه شعيب، عن الزُّهريّ قال: حدثت عن محمد بن سويد الثَّقفيُّ: أن غيلان أسلم، الحديث. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة: المرسل أصح، وحكى الحاكم عن مسلم: أن هذا الحديث ممَّا وهم فيه معمر بالبصرة، قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة. وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر هذا الحكم فأخرجوه من طرق عن معمر، من حديث أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة. قلت - القائل: ابن حجر -: ولا يفيد ذلك شيئًا، فإن هؤلاء كلهم إنَّما سمعوا منه بالبصرة، وإن كانوا من غير أهلها، وعلي تقدير تسليم أنهم سمعوا منه بغيرها، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب؛ لأنَّه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وَهِمَ فيها، اتفق على ذلك أهل العلم به؛ كابن المديني، والبخاري، وابن أبي حاتم، ويعقوب بن شيبة، وغيرهم، وقد قال الأثرم عن أحمد: هذا الحديث ليس بصحيح والعمل عليه، وأعله بتفرد معمر بوصله وتحديثه به في غير بلده هكذا. وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة. وقد أطال الدارقطني في "العلل" تخريج طرقه. وقد صححه ابن القطان. وفي الباب: عن قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس عند أبي داود وابن ماجه. وعن عروة بن مسعود وصفوان بن أميَّة، ذكرهما البيهقي. (¬1) "ت": "إطلاقه". (¬2) "ت": "دليلاً". (¬3) انظر: "المحصول" للرازي (2/ 631 - 632).

واعلمْ أن معنى هذا الكلامِ: أن الخطابَ الواردَ على السؤال عن الواقعة المختلفة الأحوال كالعام، كما يشهد به ما سقناه من الحال، ولا يعارضه ما يقال: إن قضايا الأحوال إذا تطرَّقَ إليها احتمالٌ (¬1) سقط بها الاستدلال (¬2)؛ لأنَّ ذلك يُحْمَلُ على الفعل المحتمل وقوعُه على وجوه مختلفة، فلا عمومَ له (¬3). وقد اعترِضَ على ما قاله الشافعي - رحمه الله - باحتمال أنه - عليه السلام - في الحال المذكور أو ما يشبهه عرفَ حقيقةَ الحالِ، فأجاب بناءً على معرفته ولم يستفصله، وعن هذا الاحتمال قال بعضُ المتأخرين في هذه القاعدة: حكمُ الشارع المطلق في واقعة سئِل عنها ولم تقعْ [بعدُ] (¬4)، عامٌّ في أحوالها [حتى يقال فيها عرفَ حقيقةَ الحال] (¬5)، وكذلك إن وقعت ولم يعلمِ الرسول كيف وقعت؟ وإن عَلِم فلا عمومَ، وإن التبسَ هل علم أو (¬6) لا؟ فالوقف. ¬

_ (¬1) "ت": "الاحتمال". (¬2) انظر: "المنخول" للغزالي (ص: 150)، و"التمهيد" للإسنوي (ص: 338)، و "القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام (ص: 234). (¬3) وهذا اختيار البلقيني، والسبكي، كما ذكر ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (ص: 365). ونقل عن القرافي أنه قال - فيما جاء عن الإمام الشافعي في هذين القولين -: الأول: مع بُعد الاحتمال، والثاني: مع قرب الاحتمال. (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت"، وكذا من "البحر المحيط" للزركشي، حيث نقل عن المؤلف كلامه هنا. (¬6) "ت": "أم" بدل "أو"، وهو خطأ.

ولقائل أن يدفعَ الاعتراض المذكور الموجِبَ للوقف: بأن الأصلَ عدمُ وقوع العلم بالحالة المخصوصة، فيعودُ إلى الحالة التي لم تُعلَم كيفية وقوعها، إلَّا أن يكون المرادُ القطعَ، فهذا الذي قلناه لا يفيد إلَّا الظنَّ، فتوجَّه السؤال (¬1). [و] (¬2) إذا ثبت هذا فنقول: هذه القاعدة فيما إذا وُجِدَ اللفظ جواباً عن السؤال، فهل تُنَزَّلُ منزلة التقرير عند السؤال منزلةَ اللفظ حتَّى يعمَّ أحوالَ السؤال في الجواز أو (¬3) غيره؟ الأقربُ ذلك؛ لإقامة الإقرار مقامَ الحكم في إطلاق أرباب الأصول، إذ لا يجوزُ تقريره - عليه السلام - لغيره على أمر باطل، فنزل منزلةَ القول المبيِّن للحكم، فيقوم مقامَ العموم كاللفظ، فيَرِدُ هاهنا ما قاله الغزالي رحمه الله في أن المفهوم ليست دلالته (¬4) لفظية، والعمومُ من عوارض الألفاظ (¬5)، وهذا المعنى موجودٌ في دلالة التقرير؛ إذ ليست لفظية. ويجاب عن هذا هاهنا بأنا (¬6) قلنا: إنه مُنزَّل منزلةَ العموم، بمعنى شمول الحكم للأحوال، فلا يجعله حقيقةً [في] (¬7) العموم (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 203). (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "و". (¬4) في الأصل: "دلالته"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 224). (¬6) "ت": "أنَّا". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 206).

الثالثة

الثالثة: في قاعدة التقرير والسكوت: ذُكِرَ في فن الأصول من ذلك: أن الرسول - عليه السلام - إذا سُئِل عن واقعة فسكت عن جوابها، فيدل ذلك على أنه لا حكمَ لله تعالى فيها، فأما إن فُعِلَ فعلٌ عنده أو في عصره، وعَلِمَ به قادرًا على الإنكار، فلم ينكره؛ فإن كان مُعتقَداً لكافر (¬1)؛ كالمُصلي إلى الكنيسة، فلا أثرَ للسكوت إجماعًا، وإلا دلَّ على الجواز إن لم يسبق تحريم، وعلي النسخ إن سبق؛ لأنَّ في تقريره مع تحريمه ارتكابَ محرم، - وأيضاً - فيه تأخرُ البيان عن وقت الحاجة لإبهام الجواز والنسخ، وقد تصدَّى النظر وراءَ ذلك في صور: أحدها (¬2): أن يخير - صَلَّى الله عليه وسلم - عن وقوع فعلٍ في الزمن الماضي [على وجه من الوجوه] (¬3)، ويُحتاجُ إلى معرفة حكم من الأحكام؛ هل هو من لوازم ذلك الفعل؟ فإذا سكت - صلى الله عليه وسلم - عن بيان كونه لازماً، دلَّ على أنه ليس من لوازم [ذلك] (¬4) الفعل، وله أمثلة: المثال الأول: أن يخبر - صَلَّى الله عليه وسلم - بإتلافٍ يحتاج إلى معرفة تعلُّق ¬

_ (¬1) "ت": "معتقد الكفر". (¬2) "ت": "إحداها". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت".

الضمان [به] (¬1) أو عدم تعلقه، كإتلاف خمرِ الذهبي مثلًا، فسكوته [على وجه من الوجوه] (¬2) يدلُّ على عدم تعلُّقِ الضمان. المثال الثَّاني: أن يخبرَ عن وقوع العبادة المؤقتة على وجهٍ من الوجوه، ويحتاج إلى معرفة حكم القضاء (¬3) بالنسبه إليها، فإذا لم يبيِّنه دلَّ على عدم وجوب القضاء. المثال الثالث: أن يعلِّقَ اليمين على ترك فعل، فيقع ذلك الفعل على بعض الوجوه التي يحتاج معها إلى معرفة كونه يوجبُ الحنث، أم لا، كالإكراه والنسيان، فسكت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عن بيان وجوب الكفارة، فيدلُّ على عدم وجوبها. إلى غير ذلك من الصور، وكلُّها يجمعها: أنه لو كان ذلك الحكم من لوازم ذلك الفعل للزم بيانه، وحيث لم يبيَّنْ، دلَّ على أنه ليس من لوازمه. وثانيها: أن يسكتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول أو فعل، لا يلزَم مِنْ سكوته عنه (¬4) مفسدةٌ في نفس الأمر، لكن قد يكون ظنُّ الفاعل أو القائل يقتضي أن يترتب [عليه] (¬5) مفسدة على تقدير امتناعه، فهل ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "القضايا". (¬4) في الأصل: "عليه"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

يكون هذا السكوتُ دليلاً على الجواز بناءً على ظن المتكلم، أو لا؛ لأنه لا يلزم منه مفسدةٌ في نفس الأمر؟ مثاله: طلاقُ الملاعِن زوجتَهُ ثلاثاً عند فراغ اللعان، وتقريره - صلى الله عليه وسلم - على ذلك (¬1)، [فإنه إذا وقعت] (¬2) الفرقةُ باللعان، لم يلزم من إرسال (¬3) الثلاث حينئذٍ إرسالُها في المنكوحة التي هي محلُّ الخلاف؛ لانتفاء النكاح في نفس الأمر، لكنَّ المطلِّقَ إنما أرسل الثلاثَ بناءً على ظنِّه بقاءَ النكاح، فبمقتضى (¬4) ظنه تكون المفسدةُ واقعةً على تقدير امتناع الإرسال. واعلمْ أن هذا المثال يتمُّ إذا ظهر للملاعن ومَنْ حضر عقبَ (¬5) طلاقه أن الفرفةَ وقعت باللعان، فأما إذا لم يظهرْ ذلك، فيكون البيانُ واجباً؛ دفعًا لمفسدة الوقوع في الإرسال لها؛ [أي: الثلاث] (¬6)، بناءً ¬

_ (¬1) روى البخاري (4959)، كتاب: الطلاق، باب: من أجاز طلاق الثلاث، ومسلم (1492)، في أول كتاب: اللعان، من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - في قصة المتلاعنين، وفيه: "فلما فرغا، قال عويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين. (¬2) "ت": "إنه إذا قلنا بوقوع". (¬3) من هنا بداية النسخة الخطية للمكتبة البديعية، والمرموز لها بحرف "ب". (¬4) في الأصل: "مقتضى"، و"ب": "بمقتضى "، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل وفي "ب": "عقيب"، والمثبت من "ت". (¬6) سقط من "ت ".

على بقاء الظن بأنها منكوحةٌ طُلِّقت ثلاثًا عنده، فَيَعْمَل بذلك هو أو غيرُه، فإذا (¬1) لم يبيِّنْ امتناعَ [عدمِ] (¬2) الإرسال على تقدير أن لا يَتبينَ للملاعن ومَنْ حضر وقوعُ الفرقة باللعان، دلَّ على جواز الإرسال، إذ لو حَرُمَ لبيَّن (¬3)؛ دفعًا لوقوع المفسدةِ المبنيةِ على ظن بقاء النكاح. ومثالُه [أيضًا] (¬4): استبشارُه - صلى الله عليه وسلم - بإلحاق القائفِ نسبَ أسامةَ بزيدٍ (¬5)، فإنَّ الذين لا يعتبرون إلحاقَ القائف يعتذرون بأنَّ الإلحاق به مفسدةٌ في صورة الاشتباه، ونسبُ أسامة لاحقٌ بالفراشِ وحكمِ الشرع، فلا تتحقق المفسدةُ عندهم في نفس الأمر، لكنْ لما كان الطاعنون في النسب اعتقدوا أنَّ الإلحاقَ بالقِيافة صحيحٌ، اقتضى ذلك الظنُّ منهم - مع ثبوت النسب شرعاً - عدمَ المفسدة في إلحاق القائف. وللبحث في هذا المقام موضعٌ غيرُ هذا، وإنما المقصود الآن ضربُ المثال، وسيأتي في الكلام على هذا الحديث ما يرجع إلى هذا في أثناء البحث. وثالثها: أن يُخبَرَ عن حكم شرعي بحضرته - صلى الله عليه وسلم - فيسكت عنه، ¬

_ (¬1) "ت": "فأما إذا". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "لتبين". (¬4) سقط من "ت". (¬5) رواه البخاري (3525)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1459)، كتاب: الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد، من حديث عائشة رضي الله عنها.

فيدلُّ ذلك على ذلك الحكم، كما لو قيل (¬1) بحضرته: إن هذا الفعلَ واجبٌ أو محظورٌ، إلى غير ذلك من الأحكام، وهذا ظاهرٌ. ورابعها: أن يُخبَرَ بحضرته عن أمر ليس بحكم شرعي يحتمِلُ أن يكون مطابقاً، ويحتمل أن لا يكون، فهل يكون سكوتُهُ دليلًا على مطابقته؟ مثاله: حلف عمر بحضرته - صلى الله عليه وسلم - أن ابنَ صيادٍ الدجالُ (¬2)، ولم ينكِرْ عليه ذلك (¬3)، فهل يدلُّ ذلك على كونه هو، أم لا؟ وفي ترجمة بعض أهل الحديث ما يُشعِر بأنه ذهب إلى ذلك، والأقرب عندي: أنه لا يدل؛ لأن مأخذَ المسألة ومناطَها - أعني: كونَ التقرير حجةً - هو العصمةُ من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان، [ولا يكفي فيه عدمُ تحقق الصحة، إلا أن يدَّعيَ مُدعٍ: أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة] (¬4)، فيحتاج إلى [بيان] (¬5) ذلك، وهو عاجزٌ عنه. ¬

_ (¬1) "ت": "قال ". (¬2) رواه البخاري (6922)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: من رأى ترك النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة لا من غير الرسول، ومسلم (2929)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر ابن صياد، عن محمد بن المنكدر قال: رأيت جابر ابن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصيادِ الدجالُ، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) "ت": "ذلك عليه". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت".

الرابعة

نعم التقرير يدلُّ على جواز اليمين على حسب الظن، وأنه لا يتوقف على العلم؛ لأن عمرَ - رضي الله عنه - حلف على حسب ظنه، وأقرَّه (¬1) عليه (¬2). الرابعة: يُستدَلُّ به على أن إعدادَ الماء الكافي للطهارة مع القدرة غيرُ لازم على القاعدة الثانية والثالثة، وهو ترك الاستفصال والإقرار؛ لأنهم أخبروا أنهم يحملون القليلَ من الماء، وهو كالعامِّ في حالات حملهم، فيمكن أن يكون مع القدرة، ويمكن أن يكون بسبب العجز بسبب ضيق مَراكِبهم عن حمل الباقي، فإذا جعلناه كالعام يتناول حالَ القدرة، ولم ينكر عليهم، فدلَّ ذلك على جوازه في هذه الحالة (¬3). ¬

_ (¬1) فى الأصل: "وأقر"، والمثبت من "ت". (¬2) نقله عن الإمام ابن دقيق الحافظُ ابن حجر في "فتح الباري " (13/ 327) ملخصًا، ثم قال: ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون السكوت مستوفى الطرفين، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من قسم خلاف الأولى، انتهى. وحاصل الكلام ما كان قد ذكره الحافظ قبل هذا، إذ قال (13/ 323): اتفقوا على أن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لِمَا يفعل بحضرته، أو يقال ويطّلع عليه بغير إنكار، دال على الجواز؛ لأن العصمة تنفي عنه ما يحتمل فى حق غيره مما يترتب على الإنكار، فلا يقر على باطل، فمن ثَمَّ قال، يعني: البخاري في ترجمته لحديث ابن صياد،: "لا من غير الرسول"؛ فإن سكوته لا يدل على الجواز، انتهى. قلت: وكلام الإمام ابن دقيق العيد بهذا التفصيل في مبحث التقرير والسكوت عزيزُ الوجود، فليُعكف على النظر فيه مرارًا. (¬3) نقله عنه الزركشي في "البحر المحيط " (4/ 207).

فإن قلتَ: إن كان المقصودُ الاستدلالَ على أنه: لا يجبُ الحمل للماء الكافي مع وجود الماء في الوقت، فهذا ليس فيه كبير فائدة للإجماع عليه، ولأنه يكون من بيان الواضحات، ويُجَلُّ منصبُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه. وإن كان المقصود أنه: لا يجب مع عدم وجود الماء في الوقت، فلا دليلَ عليه؛ لأن ماء البحر طهور، فالماء الكافي (¬1) حاصل في الوقت؟! قلتُ: أما حصولُ الإجماع على الشيء، فلا يمنعْ من ذكر كونه مستفاداً من الحديث لوجوه: الأول: أن الدعوى أنَّ هذا الأمرَ مستفادٌ من الحديث، والذي يناقضه أنه لا يستفاد منه، فأما أنه يستفاد منه - وعليه دليلٌ آخرُ - فلا يناقضه، نعم يمكن أن يكون سبباً للاختصار عند من يراه، أو عندما (¬2) يقتضيه الحال، أما أن يكون ذكرُه فاسدًا، فلا. الثاني: أن دعوى الإجماع دعوىً، لاسيَّما عند مَنْ يشترط [في] (¬3) ذلك التنصيصَ من كل قائل من أهل الإجماع على الحكم، ولا يكتفي بالسكوت، وقد قال [الإمام] (¬4) أحمدُ بن حنبل رحمه الله: من ادَّعى ¬

_ (¬1) أي: الكافي للطهارة، وفي الأصل و"ب": "الكامل"، والمثبت من "ت". (¬2) في "ت": "عند مَنْ". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت".

الإجماعَ فقد كذب (¬1)، فالاستنباطُ من الحديث يفيد فائدة، وهي استخراجُ الحكم بِطريق أسهل. الثالث: أن العلماء مازالوا على ذكر فوائدَ من الكتاب والسنة متفقٍ عليها، وقد استدلوا على الأحكام المتواترة بأخبار الآحاد، كوجوب (¬2) الصلاة والصوم وبقية أركان الإسلام. أما كونُه بياناً للواضحات، وهو قبيح، قلنا: متى يكون قبيحًا؟ إذا كان مقصوداً بالبيان، أم (¬3) إذا وقع ضمناً؟ الأول: مسلَّم، ولكنا لا ندعي أن ذلك مقصودٌ بالبيان، وإنما ندعي أنه يُستفاد (¬4) من الحديث، وكونُه مُستفاداً منه أعمُّ من كونه مستفاداً بطريق القصد. والثاني: ممنوعٌ ولا يمكن دعواه؛ لأنه إذا توجّه البيان إلى من (¬5) يَحتاج إليه، ولزم من ذلك أمرٌ واضحٌ لا على سبيل القصد، لم يقبح. ¬

_ (¬1) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد الله" (ص: 438 - 439). وكلام الإمام أحمد محمول على عدم العلم بالمخالف، وهو الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا، ويقدمونه على الحديث الصحيح. فهذا الذي أنكره الإمام أحمد، وكذا الإمام الشافعي - رحمهما الله - من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده. انظر: "أعلام الموقعين" لابن القيم (1/ 35). (¬2) في الأصل: "لوجوب "، والتصويب من "ت". (¬3) "ت": "أو". (¬4) "ت": "مستفاد". (¬5) "ت": "لما" بدل "إلى من".

الخامسة

الخامسة: يمكن أن يستدلَّ به على أن إعدادَ الماء بعدَ دخول الوقت للطهارة غيرُ واجب؛ بناءً على القاعدة الشافعية؛ لأن حالَهم صار متودداً بين أمور منها: عدم الإعداد قبل الوقت وبعدَه، فإذا تردَّد كان التقريرُ كالعام بالنسبة إليهما؛ لأنه لو اختلف لبُيِّن، فيكون كالتقرير على عدم إعداد الماء بعدَ دخول الوقت، وفيه من السؤالِ ما مرَّ من طهورية ماء البحر وجوابهِ. السادسة: يمكن أن يستدلَّ به على أن مَنْ قَدِر على إعداد الماء المطهِّر بعدَ دخول الوقت، فلم يفعل حتى تيممَ: لا تلزمه الإعادةُ بعدَ الوقت؛ لأن من جملة أحوالهم عدمَ الإعداد بعدَ دخول الوقت مع التردد في طهورية البحر (¬1)، [وإذا كان من جملة أحوالهم مع التردد في الطهورية] (¬2) تمتنع الطهارة به؛ لأنهم مُتعبَّدون (¬3) بالطهارة بما هو طَهور عندهم، وإذا امتنع التطهرُ به في حال الشك، وكان من جملة الأحوال وقوع التردد في طهوريته مع عدم الإعداد الكافي، ومشينا على القاعدة الشافعية: كان ذلك تقريرًا على عدم إعداد الماء مع عدم العلم بوجود المُطهِّر، وإذا لم يحصلِ التطهرُ به لما ذكرناه من الشك الذي قررناه، كان [ذلك] (¬4) تركًا للطهارة في الوقت مع القدرة عليها ¬

_ (¬1) "ت": "الطهورية" بدل "طهورية البحر". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "يتعبدون ". (¬4) زيادة من "ت".

بإعداد الماء (¬1) في الوقت، فلو كان مقتضياً للإعادة بناءً على التقصير لتعيَّنَ بيانُه، ولمَّا لم يبيَّنْ، دلَّ على عدم الوجوب، وليتنبَّهْ؛ لأنا ما أخذنا [شكهم] في طهورية ماء البحر من سؤالهم عن الوضوء به، وإن كان ذلك مُشعرًا بالتردد في طهوريته؛ لأن ذلك لا يدلُّ على أن هذا الشكَّ كان حالةَ عدمِ إِعدادهم الماءَ الكافي، وإنما يدل على وجود التردد عند السؤال، ولا يلزم منه وجودُ التردد عند الركوب للبحر، وإنما أخذنا ذلك من أنه حالٌ من أحوالهم المختلفة. فإن قلتَ: هذا يتوقفُ على اعتقادهم عدمَ جواز الوضوء به عند الشكّ في طهوريته، ولا يكفي في ذلك أن يكونَ الحكمُ في نفس الأمر كذلك؛ لأن المقصودَ أن يجتمعَ حملُهم للماء القليل مع اعتقادهم إمكانَ أن لا يوجَدَ المطهِّر في الوقت، بسبب امتناع الاستعمال؛ لأجل الشك والتردد فى الطهورية، وقد لا يكون هذا الاعتقاد عندهم؛ أعني: اعتقادَ [امتناع] (¬2) الوضوء بالبحر عند التردُّدِ في طهوريته. قلتُ: لا يتوقف الأمر على ثبوت هذا الاعتقاد عندهم؛ أعني: [اعتقاد] (¬3) عدم جواز الوضوء بماء البحر عند التردد في الطهورية، بل يكفي إمكانُ هذا الاعتقاد في حقهم، فيصير هذا القَدْر (¬4) - أعني: عدم ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة: "على وجود الماء". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": " الأمر ".

الإعداد للكافي مع اعتقاد عدم الجواز للوضوء بماء البحر عند التردد فيه - مِنْ جملة أحوالِهم الممكنة، التي يختلف الحكم باختلافها، فنرجع إلى القاعدة بعينها. ويمكنك أن تبحثَ بمثل ما ذكرناه هاهنا عن سؤال جيّدٍ يَردِ، وهو أن يقالَ: لِمَ لا يجوزُ أن يكونوا اعتقدوا جوازَ الوضوء بماء البحر بناءً على [أن] الأصلَ في الماء الطهوريةُ؟ ولا يقدح في العمل بهذا الأصلِ حصولُ التردد المخالف للأصل، فطريقُهُ (¬1): أن يُجعَلَ اعتقادُهم لامتناع الوضوء به عند التردد حالةً من أحوالهم، ويعود الكلام. واعلم أنه قد ورد في رواية (¬2) سفيان بن عُيينة مع إرسالها ما يُشعِرُ من حيثُ السياقُ أنهم كانوا يتوضؤون به، فانه قال فيها: فإنَّ توضأنا، يعني: بماء البحر، وَجَدْنا في أنفسنا (¬3). تنبيه: هذا الذي ذكرناه مبنيٌّ على ظاهر الكلام المنقول عن الشافعي - رضي الله عنه - في تنزيل ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال منزلةَ العموم في المقال، فإنَّ ظاهرَهُ يقتضي تعليقَ هذا الحكم بالاحتمال كيف كان. ¬

_ (¬1) " ت ": " وطريقهم ". (¬2) "ت": "رواة". (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (321)، و (8657)، وابن عبد البر في "التمهيد" (16/ 219).

السابعة

ولك أن تنظرَ نظرًا آخرَ: في أن الاحتمالَ المرجوح هل يُعتبر في هذا حتى يحصل التعميمُ [فيه] (¬1) وفي غيره، أو لا يعتبر، ويختص هذا الحكمُ بالاحتمالات المتقاربة أو المتساوية في الإطلاق؟ فإن قلتَ بذلك، بقيَ النظرُ في هذه الاحتمالات التي ذكرناها، وهل هي [في] (¬2) محل البعدِ بحيث يظهرُ، أم لا؟ السابعة: قال القاضي أبو الوليدِ سليمانُ بن خَلَفٍ البَاجِيُّ المالكيُّ - رحمه الله - في كلامه على هذا الحديث: وقوله: "فإنْ توضأْنَا بهِ عطشْنَا" دليلٌ على أن العطشَ له تأثيرٌ في ترك استعمال الماء المعدِّ للشرب، ولذلك أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على التعلُّقِ بهِ (¬3). وقال الحافظُ أبو عمر يوسفُ بن عبد الله بن عبد البرِّ النَّمْري الأندلسي رحمة الله عليه: وفي هذا الحديث - أيضاً - من الفقه: أنَّ المسافرَ إذا لم يكنْ معه من الماء إلا ما يكفيه لشربه، وما لا غنى عنه، ولا فضل فيه؛ يعني: عن سقيه: أنه لا يتوضأُ به، وأنه جائزٌ له التيمم، ويترك ذلك الماء لنفسه من محل الماء، وهذا إذا لم يطمع بماء، وخشي هلاكَ نفسه (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "المنتقى في شرح الموطأ" للباجي (1/ 55). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 223).

وأقول: في كلا الكلامين نظرٌ يُحتاج فيه إلى بيان الاستدلال وإيضاح أمره، وكلامُ القاضي أخلصُ وأحسنُ (¬1) من كلام الحافظ؛ لأن الحافظَ جزم بأنَّ فيه ذلك بلفظٍ صريحٍ في ادعاء دَلالته على الحكم الذي ذكره، والقاضي (¬2) إنما قال: إن العطش له تأثير، وهذا أقرب إلى التقرير من الأول (¬3). وإنما تَحصُل القوةُ في الكلامين معاً لو كانوا أخبروا أنهم كانوا يَتركون الماء للمشقة مع الحاجة إلى الوضوء به، فَيُقَرُّونَ على ذلك، وليس ذلك في الحديث، وليس فيه إلا الإخبارُ بأنهم إن توضؤوا عَطِشوا، والسؤال عن الوضوء بماء البحر مع تلك الحاجة، وهذا بمجردِهِ لا يقتضي إخباراً عن حفظ الماء للمشقة، وتركِ الوضوء به. وقد يقال: إنه يوجَدُ الذي ذكره القاضي من دلالةٍ سِياقية وقرينةٍ في السؤال، فإن (¬4) الكلامَ يشعِرُ باعتقاد السائل أن للعطش تأثيراً. ¬

_ (¬1) "ت": "أحسن وأخلص". (¬2) "ت": "والذي ذكره القاضي". (¬3) " ت ": " القوة ". (¬4) "ت": "وإن ".

وقد يقال: إنهم لم يسألوا عن استعمال الماء المُعَدِّ للشرب في الوضوء، وإنما وقع السؤال عن (¬1) الوضوء بماء البحر بعدَ تَعَيّنِ حفظ الماء للمشقة، ولم يقل: أنتوضأ به أو (¬2) نعدّه للشرب؟ فكأنه إنما يسأل (¬3) عما لم يعلمه، وتركَ (¬4) الذي تقرر عنده، فيصير كأنه قال: فإن توضَّأنا به عَطِشنا، ولكن لا نتوضأ به، أفنتوضأُ بماء البحر؟ وليس (¬5) يخفى عليك أن هذا ليس بالبيّنِ بياناً يتعذَّر الاعتراضُ عليه، فإنه إنما يُحمَلُ تركُ سؤالهم على تقرر (¬6) تقديمه على الوضوء عند التعارض إذا لم يكن ثَمَّ واسطة، أما إذا كان ثَمَّ واسطة كان الترددُ واقعاً بين الوضوء بماء البحر وبين الشرب، فالسؤالُ عن أحدهما يستلزم السؤالَ عن الآخر؛ لأنه إذا وقعَ السؤال عن وقوع أحد النقيضين بأن يقول: أَزَيدٌ في الدار؟ فإنه يقتضي السؤالَ عن كونه في الدار أو ليس في الدار؛ لعدم الواسطة بين طرفي ¬

_ (¬1) "ت": "في". (¬2) "ت": "أم". (¬3) "ت": "سأل". (¬4) "ت": "وتكرر". (¬5) "ت": "ولا". (¬6) "ت": "تقدير".

النقيضين (¬1)، فلا يكون تركُ السؤالِ عن الشرب بسبب التقررِ (¬2) المدَّعَى. أما إذا كانت واسطة بين الوضوء بماء البحر وبين الشرب: فقد يُدَّعَى أنَّ ترك السؤال عن الشرب لتقررِ أمرِه عند السائل. ولئن قال: الواسطةُ ثابتة، وهي التيممُ، أو الصلاةُ من غير طهارة لمن (¬3) لم يجدِ ماءً، ولا ترابًا، ولا صعيداً، أو تركُ الصلاة مطلقا لسقوطها، أو في الوقت مع القضاء، وهذه وسائط، وإذا كانت الواسطةُ ثابتة انتفى المانعُ من حمل تركِ السؤال عن الشرب على تقرر (¬4) أمره عندهم. فنقولُ - بعد التجاوز عن كون انتفاء المانع لا يلزم منه وجودُ المقتضي للحمل؛ لإمكان أن تُدَّعى قرينةٌ تقتضيه -: أما الصلاة بغير طهارة فمختلفٌ فيها بين العلماء، ولا يمكن إثباتُ هذه الواسطةِ عند مَنْ لا يراها اجتهاداً أو تقليداً، وكذلك إذا قام الدليلُ على بطلان هذا المذهب تكون منتفيةً عملاً بذلك الدليل، والشافعيُّ - رحمه الله - ¬

_ (¬1) "ت": "النقيض". (¬2) "ت": "التقرير". (¬3) "ت": "كمن". (¬4) في الأصل: "تقرير"، والمثبت من "ت".

الثامنة

لا يرى إثباتَ واسطةِ ترك الصلاة في الوقت ولا بعدَه، ومالكٌ - رحمه الله - لا يرى إثبات واسطة الصلاة بغير طهارة، على أنه إذا آلَ الحالُ إلى الاستدلال بالقرائن السِّياقية فيمن (¬1) ينفي بعضَ هذه الوسائطِ بقرينة سياقية، فربما (¬2) كانت أقوى من القرينة المُدَّعاة فيما تقدم، وهو أن اللفظَ يقتضي سياقُه تقرُّرَ فعل الوضوء والصلاة، فإن السؤالَ إنما وقع عن الوضوء بماء البحر، والوضوء شرطٌ للصلاة، وكونه بماء البحر كيفيةٌ له، ولم يقع السؤالُ عن إيقاع الصلاة، ولا عن إيقاع الوضوء، والسؤالُ عن إيقاع الفعل متقدمٌ على السؤال عن كيفية الفعل، والسؤال عن كيفية إيقاع الشرط متأخر عن السؤال عن إيقاع المشروط؛ [لأن الحاجةَ إلى إيقاع الشروط إنما تكون بعدَ الحاجة إلى معرفة إيقاع المشروط] (¬3)؛ لأنه لو لم يكن المشروطُ لازمًا لما حَسُنَ السؤالُ عن كيفية إيقاع الشرط. هذا ما وقع ذكره الآن في المباحث على الاستنباط الذي قاله القاضي والحافظ، وقد يُمكِنُ بعضُ النُّظَّارِ أن يُبْدِيَ غيَره. الثامنة: قد تقدَّم في كلامنا تمريضُ القولِ في تقرير كلام القاضي والحافظ، وأَحلْنا الأمر في ذلك على ما يقع لبعض النظَّار، ¬

_ (¬1) "ت": "فمن". (¬2) "ت": "ربما". (¬3) سقط من "ت".

التاسعة

فإن أمكنَ ذلك فيُبنى على تقريره مسألة، وهي أنه: إذا خاف العطش، قما هو الخوفُ المعتبر في ذلك؟ وظاهرُ اللفظ تعليقُه بمطلق العطش، والشافعية - أو من قاله منهم - يعتبرون هذه الحالةَ بحالة المرض المُبيحِ للتيمم باعتبار الخوف (¬1)، فينُظرُ هل يكون الخوف من التلف لنفس، أو عضو، أو منفعة، أو زيادة المرض، أو تأخُّرِ (¬2) البُرء، أو بقاءِ شَيْن في عضو ظاهر؟ إذا (¬3) قسناه بذلك اقتضى ذلك تقييداً في العطش، واحتاج إلى دليل، ولعله القياسُ. التاسعة: قد يُبتنىَ (¬4) على القاعدتين: أنَّ المتوقعَ من خوف العطش كالواقع، والمظنونَ كالمعلوم؛ لأن قوله: "عطشنا" يَحتمِلُ العطشَ حالاً ومآلاَ، والحكمُ يحتمل العلمَ والظنَّ، فإذا فرَّعنا على وجوبِ الاستفصالِ عند اختلاف الحكم، وأنَّ تركَ الاستفصالِ يدل على عموم الحكم، جاءَ ما ذكرناه، بعدَ تسليم ما حكيناه عن القاضي والحافظ. ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 274) وما بعدها، و"فتح الوهاب" للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 43). (¬2) "ت": "تأخير". (¬3) "ت": "فإذا". (¬4) "ت": "يبنى".

العاشرة

العاشرة: استُدِلَّ به على أنَّ الماءَ المطلقَ محمولٌ على الباقي على وصف خِلْقته. قال الخطابي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث أنواعٌ من العلم منها: أن المعقول عند المخاطبين من الطهور [والغسول المُضَمَّنَين في قول] (¬1) الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، إنما كان عند السامعين له و (¬2) المخاطَبِين به الماءَ [المفطورَ على خلقته، السليمَ] (¬3) في نفسه، الخَلِيَّ (¬4) من (¬5) الأعراض المؤثرة قيه، ألا ترى أنهم ارتابوا بماء البحر لما (¬6) رأَوا تغيرَهُ في اللون وملوحتَه في الطعم، حتى سألوأ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، واستفتَوْه عن جواز التطهُّر به (¬7). وأقول: يُعترَض على هذا بأنَّ سؤالَهم لا يتعيَّنُ أن (¬8) يكونَ لهذه الجهة؛ أعني: التغير، فقد يكون لغير ذلك، وقد ذُكِر عن عبد الله بن عمر (¬9) رضي الله عنهما تعليلُ ذلك بأنه نارٌ، أو ما يقاربُ ذلك، ¬

_ (¬1) بياض في "ت". (¬2) "ت": "أو". (¬3) بياض في "ت". (¬4) "ت": "ويخلى". (¬5) "ت": "عن". (¬6) "ت": "لأنهم". (¬7) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 43). (¬8) "ت": "بأن". (¬9) "ت": "عمرو"، وهو الصواب كما تقدم تخريجه، وإسناده ضعيف كما مرَّ.

الحادية عشرة

وهذه (¬1) علةٌ أخرى تحتمل أن تكونَ سببَ سؤالهم (¬2). [قال] (¬3) القاضي ابن العربي رحمه الله: فتوقَّوْا عنه لأحد وجهين: إما لأنه لا يُشرب، وإما أنه طَبَقُ جهنم، ورُوِي عن عبد الله ابن عمر وابن عمرو: وما (¬4) كان طبقَ (¬5) سَخَطِه، لا يكون طريقَ طهارةٍ ورحمة (¬6). الحادية عشرة (¬7): ذكر القاضي ابن العربي رحمه الله الحافظ المالكي في عداد فوائد (¬8) هذا الحديث: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقلْ لهم: نعم، فإنه لو قال ذلك (¬9) لما جاز الوضوء به إلا لضرورة؛ لأنه كان يكون جوابَ قولهم: "إنا نركب البحر، و [نحمل] (¬10) معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا"، فشكوا إليه بصفة الضرورة، وعليه وقع ¬

_ (¬1) "ت": "فهذه". (¬2) "ت": "يحتمل أن يكون سؤالهم غير الأول" بدل قوله: "تحتمل أن تكون سبب سؤالهم". (¬3) بياض في "ت". (¬4) في الأصل: "ما"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "طريق". (¬6) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 88). (¬7) في الأصل و" ت ": "عشر"، وهو خطأ قد تكرر في مواضع عدة من النسخ، فأثبت الصواب فيها، وأعرضت عن ذكر الفروق في النسخ الثلاث، وفي "ب" سقط ترقيم هذه المسألة، وجاء الكلام موصولًا مع سابقتها. (¬8) " ت ": "قواعد". (¬9) "ت": "لهم نعم" بدل "ذلك". (¬10) زيادة من "ت".

الثانية عشرة

سؤالُهم (¬1) فيما كان يرتبط جوابُهم لو قاله (¬2)، فاستأنفَ بيانَ الحكم بجواز الطَّهارة به (¬3). قلت: وفيه وجه آخر: أنه لو قال: نعم، لم يُستفَد منه - من حيث اللفظُ - إلا جوازُ الوضوءِ به، الذي وقع عنه السؤال، وإذا قال: "هو الطهور" أفاد جوازَ دفعِ الأحداث أصغرِها وأكبرِها، وإزالةِ الأنجاس به (¬4) لفظًا، فكان أعمَّ [فائدةً] (¬5). الثانية عشرة: استُدلَّ به على أن الطَّهور: هو ما يُتطهَّرُ به. ووجهُ الاستدلال: أن الطاهريَّةَ أعمُّ من الطُّهورية، فكلُّ طَهور طاهر، ولا ينعكس، والحكمُ على الشيء بالوصف الأعم، لا يستلزم الحكمَ [عليه] (¬6) بالوصف الأخصِّ، فلا يفيد الجوابَ عن السؤال عن الأخص. وحكى القاضي أبو الطيّبِ طاهرُ بن عبد الله الطبريُّ الشافعي - رحمه الله - عن أبي بكر الأصم، وأبي بكر بن داود، وبعض متأخري أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، وطائفة من أهل اللغة: أن معنى طهور وطاهر سواء، وهو غير متعد، وقد ذكروا في حجة هذا المذهب: أنَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "سألهم"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "قالوه". (¬3) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 89). (¬4) "ت": "النجاسة" بدل "الأنجاس به". (¬5) زيادة من "ت"، وفيها بعد ذلك: "وفيه وجه آخر". (¬6) زيادة من "ت".

ما كان فاعلُهُ لازمًا، ففَعولُهُ مثلُه، كنائم ونؤوم، وصابر وصبور، وشاكر وشكور، وما كان فاعله متعدياً، ففعولُهُ مثله في التعدي، كقاتل وقتول، وضارب وضروب، وشاتم وشتوم (¬1). وأصل هذا: أنَّ صيغة فَعول لا تُبنى إلا من فعل ثلاثي مجرَّد عن الزيادة، وفعول: أصلُه الفاء والعين واللام، فالثلاثي في مسألتنا (طهر)، وهو قاصر، فطهور (¬2) كذلك على (¬3) ما تقدم. وأجاب عنه القاضي - رحمه الله تعالى - بأنْ قال: لابدَّ أن يكونَ لفَعول صفة زائدة على فاعله، ألا ترى [أنك] (¬4) تقول: نائم لمن وجد منه النوم، ونؤوم: لمن كَثُر منه النوم وتكرر، وكذلك صابر لمن صَبَر مرةً، وصبور لمن تكرر منه [الصبر، وعُرِفَ هذا في اللزوم وفي التعدي، تقول: قاتل: لمن وجد منه القتل، وقَتول: لمن تكرر منه] (¬5)، وشاتم: لمن وجد منه الشتمُ، وشَتوم: لمن تكرر منه ذلك، ولما كانت المياه الطاهرةُ متكافئةً؛ أي: في الطهارة، لم يكن بدٌّ من أن يُجعَلَ في الطهور مزيةٌ على طاهر، وليست تلك المزيةُ إلا تعدِّيها للتطهير. قال: وأيضًا فلا يقال: نائم ونؤوم إلا لمن وُجد منه النوم، وكذلك قاتل وقتول، وشاتم وشتوم، ولا يُوصَف صَاحبُه بذلك إلا بعدَ وجودِه منه، وأما الماء، فيقال فيه: طهور، قبل أن يوجد منه ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 21). (¬2) " ت ": " وطهور ". (¬3) "ت": "وهو" بدل "على". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت".

التطهير، فكان بمنزلة قولنا: سَحور وفَطور؛ أي: يُتسحَّرُ به ويفطَرُ به، فكذلك طَهور؛ أي: يُتَطهَّرُ به، والله أعلم. وقد أوردَ مادةَ هذا السؤالِ بعضُ فضلاء المالكية المتأخرين فقال: لا شكَّ أن مجردَ بنائه على فَعول لا يُوجب تَعَدِّيه، كما قال السائل، لكنا نقول: استقراء لفظ طهور في عرف اللغة إنما يُطلَق (¬1) على ما يُتطهَّر به، فهو اسمٌ للآلة التي تَفعلُ [بها] (¬2)، كالبَخور، والسَّحور، والغَسول؛ [اسم] (¬3) لما يُتبخَّرُ به، ويُتسحَّرُ به، ويُغتسَلُ به، فصار كاللقب على ذلك، لا لأصل بنائه فقط، ويدلُّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسجداً وطَهوراً" (¬4)، ثم أشار إلى الاستدلال بكونه جوابًا. وأقول: أما الوجهُ الأول الذي ذكره (¬5) القاضي - رحمه الله - فتقريرُه: أنَّ الطَّاهريةَ من حيثُ هي، لا تقبلُ التعدد الشخصي (¬6)، ¬

_ (¬1) "ت": "ينطلق". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) رواه البخاري (328)، كتاب: التيمم، باب: التيمم للوجه والكفين، ومسلم (521) في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬5) في الأصل "ذكر"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "والشخصي" بزيادة واو.

والتكرار من (¬1) لوازم الصيغة الزائدةِ (¬2) على أصل الفعل، وإذا (¬3) لم يثبت بالنسبة إلى الطاهرية، وجب أن يثبت بالنسبة إلى أمر آخر، وهو ما ادَّعيناه. ومما يرِدُ عليه: أنه إثباتُ للغة من غير طريق النقل، بل قد يُدَّعَى أنه خلافُ نصِّ أهلِها، إذا سَلِم للسائل أن هذه الصيغةَ لازمةٌ في اللازم ومتعديةٌ في المتعدي، وربما يدَّعي الخصمُ أن تلك الزيادة إنما تثْبُت حيثُ يمكن، وما لا يمكن منه لا يَثبُت، والنظائرُ المذكورة من الصَّبُور والقتول (¬4) ممكنٌ فيها ذلك، فيثبت، والطاهرية غيرُ ممكن فيها ذلك، فلا يثبُت. والحاصلُ: أنَّ القاضي يدعي أن الوصفَ الزائدَ من لوازم الصيغة التي لا ينفكُّ عنها، ويثبت في كل المحالِّ، ويستدل على لزومها للصيغة بالأمثلة المذكورة. وللخصم أن يدَّعيَ أنها (¬5) ليست من اللزوم (¬6) إلا (¬7) حيثُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ومن" بزيادة واو. (¬2) في "م": "زيادة"، والتصحيح من "ت"، حيث جاء في هامشها: "في الأصل: زيادته". (¬3) "ت": "فإذا". (¬4) "ت": "والقبول" وهو خطأ. (¬5) "ت": "بأنها". (¬6) " ت ": "للوازم". (¬7) "ت": "أو لا" هكذا.

الإمكانُ في الأصل، والنظائر المذكورة ممكنٌ فيها ذلك، فلا يتعدَّى اللزوم إلى ما لا يمكن فيه، وهاهنا يجب الترجيحُ بين القولين. وأما ما ذكره المالكيّ، فيحتاج إلى [بعض] (¬1) تلخيص وتقرير، فإنه ادَّعى أن التعديَ ليس من جهتها، بل من استقراء عُرْفِ اللغةِ في فَعول (¬2). والأقربُ أن يقال: إن الصيغةَ مستعملةٌ في معنى المبالغة، وفي معنى الآلة، ويتعيَّن حملها هاهنا على الآلة بدلائلَ تقام عليه، وهي استعمال لفظة (¬3) الطَّهور في (¬4) معنى المطهر، كـ[قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وكقوله عليه السلام] (¬5): "جُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسجداً وطَهوراً" (¬6)، "هوَ الطَّهورُ ماؤُهُ"، و"الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهورُ المُؤْمِنِ" (¬7)، "طَهورُ إناءِ أحدِكُمْ" (¬8)، "دِباغُ الأديمِ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "طهور". (¬3) "ت": الفظ". (¬4) في الأصل: "وهي". (¬5) سقط من "ت" في هذا الموضوع، وأضيف بعد قوله: "طهور إناء أحدكم". (¬6) تقدم تخريجه قريبًا. (¬7) رواه أبو داود (332)، كتاب: الطهارة، باب: الجنب يتيمم، والنسائي (322)، كتاب: الطهارة، باب: الصلوات بتيمم واحد، والترمذي (124)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، وقال: حسن صحيح، من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - بلفظ: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ... " الحديث. (¬8) سيأتي تخريجه في الحديث السابع من هذا الباب.

طَهُورُهُ" (¬1)، فتكون النظائرُ بالنسبة إلى هذه اللفظة - بعدَ إقامة الدليل على أنَّ المرادَ في موارد الاستعمال ما يُتَطَهَّرُ (¬2) به - دليلاً (¬3) على شيوع الاستعمال فيها بالنسبة إلى هذا المعنى، فيرجَّحُ (¬4) الحملُ عليه، كما يترجحُ الحملُ على كل متعذِّر المدلولِ بالدليل الخارجي. وبمعنى هذا (¬5) أجاب بعضُ الفضلاء: بأنَّا (¬6) لا نسلِّمَ أنَّ "طهور" (¬7) مأخوذ من طاهر، وإنما هو فَعول من الآلة التي يُفعَل بها، وذكر نظائر، ثم قال: وليس المرادُ من (¬8) هذا كله (¬9) المبالغة، وإنما هو آلةُ الاستعمال، ولذلك يقال: وَضوء: لِمَا يُتوضأ به، ووَقود: لما يُوقَد به، وكذلك فَطور: لما يُفْطَر عليه، وكلُّ هذا فَعول لا فاعلَ له (¬10). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4125)، كتاب: اللباس، باب: في أهب الميتة، والنسائي (4243)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: جلود الميتة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 6)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6341)، من حديث سلمة ابن المحبق - رضي الله عنه -. وإسناده صحيح، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 49). قلت: واللفظ الذي ساقه المؤلف رحمه الله هو لفظ الطبراني. (¬2) في الأصل: "ينظر". (¬3) "ت": "دليل" وهو خطأ. (¬4) "ت": " فيترجح". (¬5) "ت": "وبهذا المعنى". (¬6) في الأصل: "بأن"، والمثبت عن "ت". (¬7) "ت": " طهورًا". (¬8) "ت": "في". (¬9) في الأصل: "كلمة"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬10) وانظر الجواب أيضاً عما أورده القاضي أبو الطيب الطبري في "المغني" =

الثالثة عشرة

الثالثة عشرة: استدلَّ (¬1) المالكية - رحمهم الله تعالى - بلفظة (الطَّهور) على مسألة الماء المستعمل، من حيثُ إن صيغةَ (فَعول) تقتضي التكرارَ؛ كالقَطُوع للسيف، والضَّرُوب للرجل، والشَّكُور للشاكر (¬2)، وأشباهِ ذلك، فيقتضي ذلك تكرارَ التطهرِ بهِ، فيدخل فيه الماءُ المستعملُ (¬3). وقيل - أيضًا - في الاستدلال بالآية: إنه جعلَ الماء مُطهّراً، ولم يُفرّق بين أن يُستَعملَ، وبين أن لا يستعمل، فوجب أن تُثبَتَ له هذه الصفةُ ما دام ماء، وهذا يجيء مثلُه في لفظ الحديث، وهذا بعدَ تقرير المسألة السابقة في اقتضاء المبالغة. وأجاب القاضي أبو الطيب رحمه الله تعالى: بأنه أراد أنه معدّ للطهارة، كما تقول: سَحور وفَطور (¬4)؛ لأنه مُعدّ للإفطار والتسحُّر، والدليل على ذلك أنه سماه طَهوراً قبل وجودِ التطهر به. قال: وجوابٌ آخر: [أنَّ] (¬5) الماء يتكرَّرُ الفعلُ في كل جزء منه، فهو يتكرر في جنسه. ¬

_ = لابن قدامة (1/ 21 - 22)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 21)، و"شرح مشكاة المصابيح" للطيبي (2/ 105)، وغيرها. (¬1) "ت": "استدلت". (¬2) "ت": "للشكر"، وجاء على هامشها: "لعله: للكثير الشكر". (¬3) انظر: "المنتقى في شرح الموطأ" للباجي (1/ 55). (¬4) "ت": "فطور وسحور". (¬5) زيادة من "ت" و"ب".

قال: وجواب آخر: أنَّ الماءَ المستعمل إذا جُمعَ حتى بلغ قلتين، جاز (¬1) التوضُّؤُ به، ويؤخَذُ تَكرارُ الفعل [فيه] (¬2) منه. وأقول: أمَّا الوجهُ الأول: فكأنه ترجيح لحمله على أحد المعنيين، وهو آلة بدليل تسميته طهوراً قبل التطهر [به] (¬3)، وقد يُعترَضُ عليه: بأنَّ حملَه على وقوع الفعل به، لا يمنع من إطلاق لفظ المبالغة عليه، كما في قولنا: سيفٌ قَطُوع - وإن لم يُقطَع به - اعتباراً بتهيئته (¬4) وإعداده للتكرار. وأما الوجه الثاني: فهو بالنسبة إلى الاستدلال بالآية أقربُ من لفظ الحديث، وذلك أن لفظَ الحديث من حيثُ إنه اسمُ جنسٍ مضاف، ويقع على قليله اسمُ كثيرِه وبالعكس، فيقتضي (¬5) أن يضافَ الحكم بالطهورية إلى كل ما يسمى ماء البحر، وألفاظُ العموم كلية؛ أي: يثبت الحكم في كل فرد من أفراد العام، فيقتضي ذلك أن يكونَ كلُّ جزء مما ينطلق عليه اسمُ ماءِ البحر، يُحكَمُ له بالطهورية؛ فإذا سُلّم للخصم (¬6) اقتضاءُ الصيغة للتكرار، لزم ذلك في كل جزء، [وقد يمكن بهذه المادة أن يُعترَضَ على الوجه الثالث] (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب" "جائز"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "لتهيئته". (¬5) "ت": "يقتضي". (¬6) "ت": "الخصم". (¬7) زيادة من "ت".

فإن قلتَ: فهل يمكن أن يُجابَ عن التكرار بوجه آخر، وهو أن يقال: إن الماء يتردَّدُ على العضو، فبملاقاته أولَ (¬1) جزء يطهره، ثم ينتقل إلى الجزء الثاني من البدن فيطهره، فيحصل تكرار التطهير بالجزء المعين من الماء، بخلاف الوجه الذي ذكره القاضي، فإنه لا يقتضي حصولَ التكرارِ بالنسبة إلى جزء معين، وإنما يقتضيه بالنسبة إلى الجنس؟ قلتُ: فيه بحثٌ؛ لأنَّ لِقائلِ أن يقول: أحدُ الأمرين لازمٌ، وهو إما عدم التكرار المدعَى، أو ثبوتُ حكم الاستعمال قبل انفصال الماء عن العضو، والثاني منتفٍ، فيلزم الأول. بيانُ لزومِ أحد الأمرين: أن ثبوت الأول - وهو عدم ثبوت تكرار (¬2) الطهورية المدَّعى (¬3) بالماء إذا لاقى الجزء من البدن وانفصل عنه إلى الجزء الثاني - فإما أنْ يقالَ بحصول الطهارة للجزء الأول، أو لا؟ فإن كان الأول، لم يلزمْ أن يتوقفَ حكمُ الاستعمال على انفصال الماء عن العضو؛ لأن من لوازم حصول الطهارة ارتفاعَ الحدث، أو هو [هو] (¬4)، ومن لوازم ذلك ثبوت حكم الاستعمال قبل الانفصال عن العضو؛ لأن في الاستعمال [أداءَ فرضِ الطهارة، ¬

_ (¬1) " ت ": "الأول". (¬2) في الأصل: "التكرار"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "المدعاة"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت".

وانتقال المانع] (¬1)، وقد حصلا على هذا التقدير، والأصل استِعْقَابُ العلةِ المعلولَ. وإن كان لم يحصلِ التطهيرُ (¬2) بالجزء المُلاقي أولاً، فلا تكرارَ بالنسبة إلى الجزء الثاني. وأما أن الثاني مُنتفٍ - وهو عدمُ توقف حكمِ الاستعمال على الانفصال - فبالاتفاق (¬3). ويُعترَض على هذا بأنْ يقال: لا نُسلِّم أنه إذا حصلت طهارةُ الجزء الأول، يلزم ثبوتُ حكم الاستعمال بالنسبة إلى الجزء الثاني. قوله: لأن ثبوت حكم الاستعمال من لوازم التطهير (¬4) وارتفاع الحدث: قلنا: لا يمتنع أن يكونَ اللزومُ موقوفاً على شرطٍ وهو الانفصال، فبوجود الشرط يحصلُ الحكمُ، وقبله لا يحصل، فيحصل تكرار التطهير من غير ثبوت حكم الاستعمال؛ لتوقف ثبوت ذلك الحكم على شرطٍ [لم] (¬5) يُوجَدْ عند ثبوت التطهيرِ؛ لمرور الماء على العضو. وللبحثِ بعدَ ذلك مجالٌ، والمقصودُ هاهنا التنبيهُ على مآخذِ النظر. ¬

_ (¬1) "ت": "أداء العبادة أو المانع". (¬2) "ت": "التطهر". (¬3) " ت ": " بالاتفاق ". (¬4) "ت": "التطهر". (¬5) سقط من "ت".

الرابعة عشرة

الرابعة عشرة: الحنفيةُ يستدلون بكون الماء مطهراً وطَهوراً على أنه لا تُشترَط النيةُ في الوُضوء، وحملوا على ذلك من الاستدلال قولَه تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، نصٌّ على كون الماء مُطَهراً، ولو توقفتِ الطهارةُ على النية، لم يكنْ مجردُ الماءِ مطهراً، قال بعضُهم: وهو التمسك بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. ولفظةُ الطَّهور موجودة في الحديث، [فالذي قيل في لفظِ الآية يقال في الحديث] (¬1) (¬2). وهذا استدلالٌ من اللفظ بما لا يظهر أنه المقصودُ منه، وسيأتي في هذا قاعدةٌ من حيثُ إن المقصودَ من هذا اللفظ إثباتُ أنَّ الماءَ من شأنه التطهير، أما أنه هل يكفي ذلك في التطهير، أو هل يُشترَط فيه الشرطُ المعيَّن؟ فممَّا (¬3) لا يظهر كونُه مقصوداً، فإن تبيَّن [بذلك] (¬4) اشتراطُ أمر آخر كان راجحًا عليه، وسيأتي أنه لا يُشترَط في معارضة ما لا يُقصَد بالعموم من القوة، ما يشترط في معارضة ما يُقصد بالعموم، وعلى كل حالٍ، فهذا الاستدلالُ أقربُ من مسائلَ تأتي. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "البحر الرائق" (1/ 69)، و"فتح القدير" (1/ 88 - 89). (¬3) "ت": "فما". (¬4) "ت": "بدليل".

الخامسة عشرة

الخامسة عشرة: يدلُّ على جواز التطهير (¬1) بماء البحر، وهو المقصودُ بالذات من الحديث، وعنه وقع (¬2) السؤالُ، وذلك هو مذهبُ الجمهورِ من الأئمة، وعليه فقهاءُ الأمصار. قال الحافظ أبو بكر بن المنذر: وممن روينا عنه أنه قال (¬3): ماء البحرِ طهور، أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن عباس، وعقبة بن عامر، وبه قال عطاءٌ، وطاوسُ، والحسنُ البصري، ومالك، وأهلُ المدينة، وسفيانُ الثوري، وأهلُ الكوفة، والأوزاعي، وأهلُ الشام، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو (¬4) عبيد، وبه نقول. ثم قال: وقد روينا عن ابن عمر أنه قال في الوضوء بماء البحر: التيممُّ أحبُّ إليَّ منه (¬5). وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يُجزئ من الوضوءِ ولا من الجنابة، والتيممُ أعجبُ (¬6) إليَّ منه (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "التطهر". (¬2) في الأصل و"ب": "وقوع"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "أنَّ" بدل "أنه قال". (¬4) في "الأصل": "وأبي"، والصواب ما أثبت كما في "ت" و"ب". (¬5) ورواه أبو عبيد في "الطهور" (236)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1393). (¬6) "ت": "أحبُّ". (¬7) تقدم تخريجه في حديث: "إن تحت البحر نارًا، وتحت النار بحرًا ... " الحديث.

وعن ابن المسيِّب أنه قال: إذا أُلجئتَ إليه فتوضَّأْ منه (¬1). فيحصل من هذا المقول (¬2) ثلاثةُ مذاهبَ: الطهوريةُ مطلقاً، ومقابلُه، والوضوءُ به عند الاضطرار. فأما الأول: فقد ذكرنا دلالةَ الحديث عليه، وفيما مضى إشارة إلى وجه الدليل، وهو وجوب كون الجواب عن السؤال (¬3) مفيداً للحكم المسؤول عنه، وإلا لم يكن جوابا. وما وقع في كلام بعض فضلاء الأصوليين: أن الجوابَ يجب أن يكون مطابقًا للسؤال (¬4)، إنما يريد ما ذكرناه من تناوله لمحل السؤال، ولا يريد المطابقة، بمعنى عدم الزيادة والنقصان. وأما القول الثاني: المحكي عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: فإن القاضي أبا الوليد الباجي حكى عن القاضي أبي الحسن، أنه أنكر أن يكونَ ذلك قولاً لأحدهما (¬5). وقريبا (¬6) منه ما قاله الحافظُ أبو عمرَ بنِ عبد البرِّ، فإنه قال: وجاء عن عبد الله ابن عمرو وعبد الله بن عمر كراهيةُ (¬7) الوضوء بماء البحر، ¬

_ (¬1) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1390). وانظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 248 - 250). (¬2) "ت": "القول" و"ب": "المنقول". (¬3) "ت": "السؤال عن الجواب". (¬4) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 235). (¬5) انظر: "المنتقى في شرح الموطأ" للباجي (1/ 55). (¬6) "ت": "وقريباً". (¬7) "ت": "كراهته".

ولا يصحُّ (¬1) عنهما، وعامةُ العلماءِ على خلافه (¬2). قلتُ: وفي هذين القولين نظر؛ أعني: قول القاضي أبي الحسن وابن عبد البر، والذي ذُكِرَ في علة هذا القول، أنه "نار في نارٍ"، وأسندوه حديثا، وأُجيبَ عنه بوجهين: أحدهما: [أنه] (¬3) أراد بقوله: "البحرُ نار في نارٍ" أن البِحارَ تصير يومَ القيامة ناراً، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6]، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)} [الطور: 6]، فوصفه بما يؤول إليه حالُه، وذلك من مذاهب العرب جائز. والثاني: [أنه] (¬4) أراد أن البحرَ في إهلاكه لراكبه، كالنار في الصفة، ولهذا يقال: السلطان نار؛ أي: فعلُه فعلٌ يُهْلِكُ كفعل النار (¬5). وأما القول [الثالث] المحكي عن سعيد: فإنه [إن] (¬6) صحَّ حملُه على عدم التطهر به إلا عند الضرورة، فقد أشار بعضُهم إلى تعلّقه بهذا الحديث، بناء على أحد القولين في مسألة أصولية في العام الوارد على سبب، فنذكرها، ونذكر ما أشار إليه. ¬

_ (¬1) "ت": "والأصح" بدل "ولا يصح عنهما". (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 221). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من " ت ". (¬5) "ت": "أهل النار". (¬6) زيادة من "ت".

السادسة عشرة

السادسة عشرة: استُدِلَّ به على أن الماءَ المتغيّرَ بقَراره طهور، بناءً على أن الأصلَ في ماء البحر العُذُوبةُ، وتغيره بسبب مروره على أجزاء سَبِخَةٍ مالحة، وهذا الاستدلالُ يتوقف على إثبات هذه المقدمة؛ أعني: أن الأصلَ فيه العذوبة، وتغيُّرَهُ باعتبار المرور، وقد ذُكِرَ ذلك عن غيرِ واحد من الفضلاء، ولكنه أمرٌ لابُدَّ من إثباته بدليل يدل عليه، إذا نُوزعَ فيه. السابعة عشرة: هذا الحديث مذكور في علم الأصول في مسألة العام الوارد على سبب، حيثُ قالوا: إن الجوابَ إذا كان مستقلاً عن السؤال، عامًا في لفظه (¬1)، لا يتقيد بسببه، من حيثُ إن العمومَ إنما يخصصه ما يناقضُ عمومَه، وليس في ورود العام (¬2) على سبب خاص ما يناقض عمومَه، وذكروا اختلافَ (¬3) الشافعي - رضي الله عنه - في هذه المسألة (¬4). وإنما ننبه فيها [على] (¬5) شيء رأيتُ بعضَهم يغلَطُ بسببه؛ وذلك أن السؤالَ والجوابَ قد يكون اتساقُهما وسياقُهما مقتضيًا (¬6) ¬

_ (¬1) "ت": "لفظ". (¬2) " ت ": "ورد". (¬3) "ت": "خلاف". (¬4) انظر: "شرح مختصر ابن الحاجب" للأصفهاني (2/ 148) وما بعدها، و "البحر المحيط" للزركشي (4/ 269) وما بعدها، وغيرهما. (¬5) سقط من "ت". (¬6) في الأصل: "مقتض"، والتصويب من "ت" و"ب".

الثامنة عشرة

للتخصيص، وقد لا يكون، فإن كان الأولُ اقتضى ذلك التخصيصَ؛ لأن السياقَ مبيِّنٌ للمجمَلات، مرجِّح لبعض المحتمَلات، مؤكِّد للواضحات، وإن كان الثاني: فهي المسألة الخلافية. فقد يجيء بعض الضَّعَفَة، فيرى السؤالَ والجوابَ حيثُ يقتضي السياقُ [التخصيصَ] (¬1)، فيحمله على المسألة الخلافية، ويرجحُ (¬2) ما رجَّحه الجمهور من القول بالعموم، وهو عندنا غلط في مثل هذا المحل، فليتنبَّهْ له (¬3). وقد أشار بعضُ فقهاء المالكية المتأخرين إلى تصحيح قول سعيد ابن المسيِّب: أنه إنما يتوضأ به إذا أُلجِئ إليه، من هذا الحديث؛ لأنه ورد جواباً عن قوله: "إنْ (¬4) توضَأْنا به عَطشْنا"، وأجابَ: بأن حمله على المسألة الأصولية المرجح [في ذلك] (¬5) عند الأكثرين القول بالعموم (¬6)، وقال: إنَّما يلزمُ ذلك الشافعيَّ الذي يختار تخصيصَ العامِّ بسببه. الثامنة عشرة: في قاعدة يُبتنىَ عليها ما لا يُحصى من المباحث ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "ويرجحه". (¬3) انظر: " البحر المحيط " للزركشي (4/ 289 - 290). (¬4) "ت": "فإن". (¬5) سقط من "ت". (¬6) في الأصل و"ب": "في العموم"، والمثبت من "ت".

المتعلقة بهذا الحديث وغيره، [و] (¬1) نذكرها هنا بما فيها وعليها، ليُستغنَى (¬2) عن إعادتها فيما يأتى إن شاء الله تعالى، فنقول: المتأخرون يقولون - أو من قال منهم -: إن اللفظَ العامَّ ينطلقُ باعتبار الأزمان والبقاع والأحوال والمتعلقات، وإن كان عاماً في الأشخاص، وقد يستعمل ذلك في دفع كثير من الاستدلالات بالألفاظ من الكتاب والسنة، فيؤْتَى إلى بعض الأحوال التي يُتَّفَقُ عليها بين الخصمين فيقال: إن اللفظَ مطلقٌ في الإجمال (¬3)، وقد عملنا به في الصُّورة الفلانية (¬4)، والمطلق يكفي في العمل به مرةً واحدة، فلا يلزم العملُ به في صورة النزاع (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "لنستغني". (¬3) " ت ": "الأحوال". (¬4) "ت": "وقد عملنا في الصورة الفلانية به". (¬5) ذكر الإمام ابن دقيق العيد هذه القاعدة أيضاً في "شرح العمدة" (1/ 54) فقال: "أولع بعض أهل العصر وما يقرب منه بأن قالوا ... " ثم قال: وهذا عندنا باطل، ثم ذكر قريباً مما ذكره هاهنا. وقد خالف الإمام ابن دقيق في "شرح العمدة" (3/ 109) هذه القاعدة، فقال في حديث بيع الخيار: إن الخيار عام ومتعلقه وهو ما يكون فيه الخيار مطلقا، فيحمل على خيار الفسخ، وهذا اعتراف منه بمقالة المتأخرين التي نقدها. كما أفاده الزركشي في "البحر المحيط " (4/ 42 - 43). وانظر القاعدة والكلام حولها في: "شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 199)، ولعله من المقصودين بكلام ابن دقيق في القاعدة، و"الإحكام" للآمدي (2/ 274)، و"الإبهاج" للسبكي (2/ 86)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 38)، و"القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام (ص: 236).

وأنا أقول: أمَّا كونُ اللفظِ العام في الأشخاص مطلقاً في الأحوال وغيرِها مما ذَكر، فصحيح، وأما الطريقة المذكورة في الاستدلال [فنقول فيها] (¬1): إذا (¬2) لزم من العمل بالمطلق في صورة دونَ غيرها عَوْدُ التخصيص إلى صيغة العموم، وجبَ القولُ بالعموم في تلك الأحوال، لا من حيثُ إنَّ المطلقَ عامٌ باعتبار الاستغراق، بل من حيث إنَّ المحافظةَ على صيغة العموم في الأشخاص واجبةٌ (¬3)، فإذا وُجِدَت صورة، وانطلق عليها الاسم، من غير أن يثبتَ فيها الحكمُ، كان ذلك مناقضًا (¬4) للعموم في الأشخاص. فالقولُ بالعموم في مثل هذا، من حيث وجوبُ الوفاء بمقتضى الصيغة العامة، لا من حيث إنَّ المطلقَ عامّ عموما استغراقيا. وأما قولهم: إن المطلق يكفي في العمل به مرةً [واحدة] (¬5)، فنقول: يُكتفَى فيه بالمرة فعلاً أو حَمْلاً؟ الأول مسلَّمٌ، والثاني ممنوعٌ. وبيان ذلك: أنَّ المطلقَ إذا فُعِل مقتضاه مرةً، ووُجِدت الصورةُ الجزئية التي يدخل تحتها الكليّ المطلق، كفى ذلك في العمل به، كما إذا قال (¬6): أعتقْ رقبة، ففَعل ذلك مرةً، لا يلزمه إعتاقُ رقبةٍ أخرى؟ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "فإذا". (¬3) "ت": "واجب". (¬4) "ت": "فإن ذلك مناقض". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "قيل".

لحصول الوفاء بمقتضى الأمر من غير اقتضاءِ اللفظِ العمومَ. وكذا إذا قال: إنْ دخلتِ الدارَ فأنت طالق، فدخلتْ مرةً وحنث، لا يحنَثُ بدخولها ثانيا؛ لوجود مقتضى اللفظِ فعلًا من غير اقتضاء [اللفظِ للعموم] (¬1). أما إذا عمل به مرةً حَمْلاً؛ أي: في صورة من صور المُطْلق، لا يلزمُ التقييد بها، فلا يكون وفاء بالإطلاق؛ لأن مقتضى تقييد الإطلاق بالصورة المعينة حَمْلاً، أن لا يحصلَ الاكتفاءُ بغيرها، وذلك يناقضُ الإطلاقَ. مثاله: إذا قال (¬2): أعتقْ رقبةً، فإنَّ مقتضى الإطلاق [أنْ] (¬3) يحصلَ الإجزاء بكل ما يُسمَّى رقبةً؛ لوجود المطلَقِ في كل مُعتَق من الرّقاب، وذلك يقتضي الإجزاءَ به، فإذا خصَّصنا الحكمَ بالرقبة المؤمنة، منعنا إجزاءَ الكافرة، ومقتضى الإطلاق إجزاؤها إن وقع العتق لها، فالذي فعلناه خلافَ مقتضاه. فتنبَّه لهذه المواضع التي تَرِدُ عليك من ألفاظ الكتاب والسنة، إذا كان الإطلاق في الأحوال أو غيرها، مما يقتضي الحملَ على البعض فيه عَوْدُ التخصيص إلى محلّ العموم - وهي الأشخاص -، أو مخالفةً لمقتضى الإطلاق عند الحمل، فالحكمُ [بالتخصيص أو التقييد مع ¬

_ (¬1) في "الأصل" و"ب": "العموم"، والتصويب من "ت". (¬2) "ت": "قيل". (¬3) زيادة من "ت".

وجوبِ الوفاء بمقتضى العموم أو الإطلاق، لا يكون إلا لدليل مُنفصِل] (¬1). أما إذا كان الإطلاقُ في صورة لا تقتضي مخالفةَ صيغة العموم، ولا ينافي مُقتضَى الإطلاقِ، فالكلامُ صحيحٌ. ويتصدَّى النظرُ بعدَ القول بالعموم بالنسبة إلى ما ذكرناه في أمر آخرَ، وهو أن ينظُرَ إلى المعنى المقصود بالعموم، فإن اقتضى إخراجَ بعض الصور، وعدمَ الجري على ظاهر العموم، وجب أن ينظرَ في قاعدة سنذكرها قريبا، وهي: أن اللفظَ العام إذا قُصِدَ به معنىً، فهل يُحتَجُّ به فيما لم يُقصَد [به] (¬2)، أم لا؟ فإن قلنا بالأول، فلا حاجةَ بنا بعدَ العمل بمقتضى الصيغة إلى النظر في هذه القاعدةِ، وإن قلنا بالثاني، احتجنا إلى النظرِ في هذه القاعدة الثانية بعدَ الوفاء بمقتضى صيغة العموم. والقولُ بأنَّ الوفاءَ بمقتضاها واجبٌ، [فهذا ما] (¬3) عندي في هذا الموضع. والذي يُؤكّده ويزيدُه إيضاحاً: أن اللفظَ إذا كان مطلقًا في هذه الأحوال، ولم يلزمْ منه العملُ بمقتضى العموم، يلزم أن لا يصحَّ ¬

_ (¬1) "ت": "فالحكم بالتخصيص ثم في وجوب الوفاء أو التقييد لا يكون بمقتضى العموم أو الإطلاق إلا لدليل منفصل". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل و"ب": "فهنا"، والتصويب من "ت".

التاسعة عشرة

التمسكُ بشيء من العمومات أو أكثرِها، إذْ ما من عالم إلا وله أحوالٌ متعددة بالنسبة إلى الذوات التي يتعلَّقُ بها العمومُ، فإذا اكتفينا في العمل بحالة من الحالات، تعذَّرَ الاستدلالُ به على غيرها، وهذا خلافُ ما دَرَج عليه الناس، و - أيضاً -: فإن الأصوليين يعتمدون في إثبات العموم على (حُسن اللَّوْم) فيمن خالف مقتضى العموم. ولو قلنا بهذا القول: لزم أن يكون السيدُ إذا قال لعبده: من دخل الدار فأعطه درهمًا، فدخل الدار أقوامٌ لا يُحصَون فلم يعطهم شيئًا: أن لا يتوجَّهَ اللومُ على العبد؛ لأن له أن يقول: لفظُك عامٌّ في الذوات، مطلقٌ بالنسبة إلى الأحوال والأزمان، فأنا أعمل بلفظك فيمن دخل من الطِّوال، ولا أعمل به في غيرهم، أو فيمن دخل آخرَ النهار، أو آخرَ العمر، وأكونُ قد عملت بمقتضى اللفظ، لكنَّ ذلك سببُ اللومِ جزماً. التاسعة عشرة: اللفظُ العامُّ وضعاً، تارةً يظهر فيه قصدُ التعميم وتأسيسُ القواعد، فلا إشكالَ في العمل بمقتضى عمومه، وتارةً يظهر فيه أنه قُصِد به معنى غيرُ عام، فهل يُتمسَّك بعمومه؛ لأن القصدَ إلى بيان معنى لا ينافيه تناولُ اللفظَ لغير ما قُصِدَ، فلا تتعارض إرادتُهما معاً؟ أو يقال: إن الكلامَ في غير المقصود منه مُجَملٌ يُبيَّن من جهةٍ أخرى؟ هذا ما تكلم فيه أهل الأصول (¬1)، ومُثِّل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سَقَتِ ¬

_ (¬1) انظر: "البرهان" للجويني (1/ 354)، و"المستصفى" للغزالي (ص: 251)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 77)، وما بعدها، وقد نقل عن الإمام ابن دقيق كلامه هنا.

السَّمَاءُ العُشْرُ" الحديث (¬1)، فإن اللفظَ عامّ في القليل والكثير، لكنْ ظهرَ أن المقصودَ منه بيانُ القَدْر (¬2) المُخرَجِ، لا بيانُ القدر المُخرَجِ منه، ويؤخَذُ ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقةٌ" (¬3). والتحقيقُ عندي: أنَّ دَلالته على ما لم يُقصَدْ به أضعفُ من دَلالتِه على ما قُصِد به، ومراتبُ الضعف متفاوتةٌ، والدَّلالةُ (¬4) على تخصيصِ وتعيينِ المقصود مأخوذة (¬5) من قرائنَ، قد تَضعُف تلك القرينة عن دلالة اللفظ على العموم وقد تَقوَى، والمرجعُ في ذلك إلى ما يجده الناظرُ بحسَب لفظٍ لفظٍ. وإنما قدمتُ هذا؛ لأني سأذكر وجوهًا من الاستنباط يظهر في بعضها أنه بعيدٌ عن المقصود بأصل الحديث، فنبهت على كلام الأصوليين، وأنه غيرُ خارج عن مذهب بعضهم، وكذلك - أيضاً - استدل الفقهاء والخلافيون في مسائلَ كثيرةٍ بمثل هذا العموم فيما لا يُقصَد باللفظ، فهو غير خارج عن استدلالاتهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1412)، كتاب: الزكاة، باب: فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) "ت": "قدر". (¬3) رواه البخاري (1345)، كتاب: الزكاة، باب: ما أدي زكاته فليس بكنز، ومسلم (979)، في أول كتاب: الزكاة، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬4) " ت ": "والدليل". (¬5) "ت": "مأخوذ".

ومن فوائد هذه القاعدة: أنَّ ما كان غير مقصود يُخرَج عنه بدليل (¬1) قريبِ الحال لا يكونُ في مرتبة الذي يُخرج به عن العموم المقصود (¬2). ومراتبُ الضعف كما قدمناه (¬3) فيما لم يُقصد من اللفظ متفاوتةٌ، ومِنْ بعيدِها ما كان في حُكمِ الطوارئ والعوارض التي لا يكادُ يستحضرُها مَنْ تجوزُ عليه الغفلةُ عنها. ولصيغةِ العموم مرتبةٌ أخرى: وهي أن لا يظهرَ قصدُ الخصوص ولا قصدُ العموم، ولذلك حكمٌ يتعلَّق بالتخصيص بالقياس، سنذكره إن شاء الله تعالى. وقد عقد القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي (¬4) بابًا في (¬5) وقف العموم على المقصود، قال: وقد اختلف أصحابُنا في ذلك، فذهب متقدِّموهم إلى وجوب وقف العموم على ما قُصِد به، وأنه لا يُتعدَّى به إلى غيره ممَّا لم يُقصَدْ به إلا بدليل (¬6)، وإن كان إطلاق ¬

_ (¬1) في الأصل: "بذلك"، والتصويب من "ت". (¬2) أي: أن الحكم المستنبط من نص غير صريح الدلالة على هذا الحكم يمكن تركُه بأي دليل قريب، في حين أن مثل هذا الدليل لا يعين على ترك حكم استُنبط من نص صريح الدلالة عليه. (¬3) "ت": "قدمنا". (¬4) في كتابه "الملخص في أصول الفقه" كما سماه الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 76). وسماه القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 692): "التلخيص". (¬5) "ت": "من". (¬6) "ت": "لدليل"

الصيغةِ يقتضيه، وذهب إلى هذا بعضُ أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى -؛ منهم أبو بكر القَفَّال، وغيره. قال: وذهب أكثرُ متأخري أصحابِنا إلى منع الوقف فيه، ووجوبِ إجرائه على مُوجِب اللغة. قلتُ: ومثّلَ القاضي صورةَ المسألة بأنْ يُستدَلَّ بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] على إباحة نوع مُختلَفٍ في جواز أكله، أو شرب بعضِ ما يُختلَف في شربه، وقد عُلِمَ منه أنَّ الأكل والجماع في ليلة الصوم لا يَحرُمُ بعدَ النوم (¬1). ثم مثَّلَ بقوله (¬2) تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، على وجوب الزكاة في [قدر] (4) مُختلَف فيه، أو نوع مُختلَف (¬3) في تَعلُّق [قدر] (¬4) الزكاة به. وكذلك التعلق بالخطاب الخارجِ على المدح والذم (¬5)، نحوُ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 5، 6] ¬

_ (¬1) "ت" زيادة: "شيء مما تقدم". (¬2) "ت": "وبقوله" بدل "ثم مثَّل بقوله". (¬3) " ت " زيادة: " فيه ". (¬4) زيادة من "ت" و" ب ". (¬5) في الأصل: "وكذلك المتعلق بالخارج عن المدح أو الذم"، والتصويب من "ت".

العشرون

في جواز الجمع بين الأختينِ في الوَطء بمِلْك اليمين، وما أشبه ذلك. العشرون: إضافةُ الماءِ إلى البحر لا يُشتَرَطُ في صحتها أن تكونَ في المَقَرّ؛ لأنه يَنطلِقُ عليه ماءُ البحر، وإن أُخِذَ منه كما هو في العُرْف، فيمكنُ أن يُستدَلَّ بذلك على مسائلَ بعدَ نقله عن ماء البحر، إلا أنه قد يُضْعِفُ الدَّلالةَ في بعضها؛ لكون (¬1) ذلك من الأحوال الطارئة التي لم تُقصَدْ، [كما مرَّ ويأتي] (¬2)، والله تعالى أعلم. الحادية والعشرون: دَلالةُ اللفظ على الشيء نسبة بينَهُ وبين [المدلول] (¬3)، فإذا ثبتت تلك النسبةُ، فليس من شرط ثبوتها ألَّا تكونَ (¬4) مُعَارَضةً بما هو أقوى منها، والذي نحن نقصده أن تكونَ الدَّلالةُ صحيحة، وعلى مُدعي المعارضةِ إقامةُ الدليل على رجحانها، فإذا أقامه ثَبَتَ ما يدَّعيه، ولا يناقضُ ذلك دلالةَ اللفظ على خلاف ما يدعيه؛ لأن دلالة اللفظ إما صفة راجعةٌ إليه، وإما فهمُ السامعِ للمعنى (¬5) عند سماع اللفظ إذا كان عالماً بالوضع، وكلاهما يثبت، وإن كان ثَمَّ معارِضٌ راجح. وكثيراً ما يقول الطلبة: هذا لا يَدُلُّ، ويُبْدُون مُعارِضاً أو (¬6) ¬

_ (¬1) في الأصل: "ككون"، والتصويب من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل، وكذا "ت": "إلا أن تكون"، والمثبت من "ب". (¬5) "ت": "المعنى". (¬6) "ت": "و".

الثانية والعشرون

احتمالاً مرجوحًا، وهو غلط إلا إذا كان الترددُ والاحتمالُ (¬1) فيما يَرجعُ إلى دلالة اللفظ على المعنى المُدعَّى من غير ترجيح، وهو (¬2) صحيح. الثانية والعشرون: ترتَّبَ على ما قدَّمناه من هذه القواعد الثلاث (¬3) الاستدلالُ على غير ما مسألة من مسائل المياه، وقد يكون مُتفَقاً على طهوريتها والخلافُ في الكراهية (¬4)، والاستدلالُ على طهوريتها يكون صحيحاً؛ إذ (¬5) بيَّنا أنه ليس من شرط ما يُستنبَط من الحديث أن [لا] يكون مختلفا فيه، ولا أيضاً من شرطِهِ أن لا يدلَّ عليه نص آخر. وأما عدمُ كراهيتها (¬6) بعدَ ثبوتِ طهوريتها، فيثبتُ بناءً على مقدمة أخرى، وهو (¬7) الأصلُ، وعلى مدعي أمرٍ زائد بيانُه، ويمكن أن يكونَ من هذا الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة لم تغيِّرْه، وسنذكر غيرَ ذلك إن شاء الله تعالى. الثالثة والعشرون: اختلف قولُ الشافعي - رضي الله عنه - في وجوب ¬

_ (¬1) "ت": "الاحتمال والتردد". (¬2) " ت ": "فهو". (¬3) وهي القواعد المارة في المسألة الثامنة عشرة، والتاسعة عشرة، والحادية والعشرين. (¬4) "ت": "الكراهة". (¬5) "ت": "إذا". (¬6) "ت": "كراهتها". (¬7) " ت ": "وهي".

الرابعة والعشرون

التباعد عن النجاسة الجامدة في الماء الكثير، وجديدُ قوليه وجوبُه، والفتوى عند أصحابه على القديم (¬1)، فيمكن أن يُستدَلَّ بالحديث على صحة القول بعدم الوجوبِ؛ لاندراجه تحتَ العموم في ماء البحر المحكومِ بطهوريته. الرابعة والعشرون: حَرِيمُ النجاسة، وهو ما يُنسَبُ إليها بتحريكه إياها، وانعطافه عليها، و (¬2) التفافه عليها، في وجوب اجتنابه في الماء الراكد وجهٌ للشافعية رحمهم الله تعالى (¬3)، ويمكنُ أن يستدلَّ لعدم الوجوب بالحديث. الخامسة والعشرون: ذكر بعضُ المباحثين المتعلِّقين بعلم المعقول ما تحصيله (¬4) وتقرير (¬5) معناه: الفرق بين مطلق الماء والماء المطلق، فالحكمُ المعلَّق بمطلق الماء يترتَّب على حصول (¬6) الحقيقة من غير قيد، والمُرتَّب على الماء المطلق مُرتَّبٌ على الحقيقة بقيد ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في "المجموع" (1/ 197): وهذه من المسائل التي يُفْتَى فيها على القديم، وقد حكى الشيخ أبو علي السِّنجي: أن الشافعي نص في كتابه: "اختلاف الحديث" على موافقة القديم، وحينئذ لا يسلم كون الإفتاء هنا على القديم. (¬2) "ت": "أو". (¬3) قاله الغزالي في "الوسيط" (1/ 187). قال النووي في "المجموع" (1/ 198): وهذا الذي قاله شاذ متروك مخالف لما اتفق عليه الأصحاب، وقد صرح هو في "البسيط" بموافقة الأصحاب، فقطع بأن الراكد لا حريم له يجتنب. (¬4) " ت ": "تلخيصه". (¬5) في الأصل: "وتقريره"، والتصويب من "ت". (¬6) في الأصل: "حصول الماء".

السادسة والعشرون

الإطلاق، والإطلاقُ بالتفسير الفقهي قيدٌ من القيود اللَّاحقةِ بالحقيقة، ولا يلزَمُ من حصول الحكم على مطلق الحقيقة توقُّفُهُ على الحقيقة المقيدة، وهذا معنى صحيحٌ، إلا أن الفقهاءَ يرَوْن أنَّ الأمرَ المرتَّبَ على الماء يقتضي العُرفُ أن يكون مرتبًا عليه بوصف الإطلاق، بدليل أنه لو قال لعبده أو لوكيله: ائتني بماء، فأتاه بماء ليس بمطلق بالتفسير الفقهي، لم يعدَّ ممتثلًا، فيكون أَخْذُ هذا القيد من أمر عرفي في إطلاق الاستعمال لا من تعليق الحكم بمطلق الماء، ولعلَّ ذلك يتأيَّدُ بحصول الإجماع على عدم الحكم في بعض المواضع بِحصول مطلَقِ الماء في المنُتقِل إلى اسمٍ آخرَ كالمرقةِ والحِبْرِ (¬1). السادسة والعشرون: مَن يجوِّز الطهور بالماء المتغيِّر بما يُستغنى عنه، وتمسك بحصول مطلق الماء فيه، ورأى أنَّ الحكمَ إنما تعلق (¬2) به، أمكنه أن يستدِلَّ بالحديث على هذه المسألة، والله أعلم. السابعة والعشرون: ذُكر في فوائده (¬3): الزيادة في الجواب عن السؤال. قال القاضي أبو بكر بن العربي: قولُه: "الحِلُّ ميتتُهُ" زيادةٌ عن ¬

_ (¬1) ذكر هذه المسألة القاضي تقي الدين السبكي، كما في "فتاويه" (ص: 132). وأورد ابنه تاج الدين في "الإبهاج" (1/ 340) كلام الإمام ابن دقيق هذا، وزاد عليه من كلام والده جملة حسنة، فلينظر عنده. (¬2) " ت ": "يتعلق". (¬3) " ت ": "فوائد".

الثامنة والعشرون

الجواب، وذلك من محاسن الفتوى؛ بأنْ يأتيَ بأكثرَ مما يُسأَل عنه تتميماً للفائدة، وإفادة لعلمٍ آخر غيرِ المسؤول عنه (¬1). وقد يُؤكّد هذا بظهور (¬2) الحاجة إلى هذا الحكم؛ لأنَّ من توقف في طهورية ماء البحر، فهو عن العلم بحلّ ميتته - مع ما تقدم من تحريم الميتة - أكثرُ توقُّفاً، فالسؤالُ عن الحكم الأول يُظهِرُ الحاجةَ إلى معرفة الحكم الثاني. الثامنة والعشرون: هذا الحديث مذكورٌ في الأصول في مسألة (الخطاب الوارد جواباً لسؤال سائل) حيثُ قُسِّمَ إلى ما لا يَستَقِلُّ بنفسه، وإلى ما يستقل، وقُسِّمَ المسُتقِلُّ إلى ما يكون مساويا للسؤال وأعمَّ وأخصَّ، وقُسِّم الأعمُّ إلى أعم في ذلك الحكم وغيره، وإلى أعم من السؤال في غير ذلك الحكم، ومُثِّلَ (¬3) العامُّ في غير ذلك الحكم بما ورد في هذا الحديث من قوله عليه السلام: "هُوَ الطهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ". وقيل: لا خلافَ في العموم في "حِلِّ ميتته"؛ لأنه عام مبتدأ (¬4) لا في معرض الجواب، إذْ هو غيرُ مسؤول عنه، ووردَ مبتدأً بطريق ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 89). (¬2) "ت": "ظهور". (¬3) "ت": "ومثال". (¬4) في الأصل: "متبد" والتصويب من "ت" و"ب".

الاستقلال، فلا خلافَ في عمومه عند القائلين [بالعموم] (¬1) (¬2). وهاهنا تنبيه، وهو: أن وحدةَ اللفظِ العامِّ بالنسبة إلى مواردها المتعددة معتبرةٌ فيها لا في غيرها، فلو (¬3) ادُّعي أن المراد بالعموم هاهنا جواز الوضوء وحل الميتة لم يصح، ولفظ الحديث [هاهنا] (¬4) بالنسبة إلى طهورية الماء وحلِّ الميتة ليس عامًا بالنسبة إليهما، بل هما لفظان، كلُّ واحدِ منها منفردٌ عن الآخر، نعم كلّ واحد منهما عامُّ فيما يتناوله. وقال بعضُ المتأخرين: إنه ليس هاهنا لفظٌ مفرد (¬5) [هو] (¬6) أعمُّ من ماء البحر، بل مجموع اللفظين: الماءِ والميتةِ هو الأعمّ (¬7) من السؤال، فالجواب أعمّ من السؤال. وأنت تعلم أنه مع تعدد اللفظ لا يحصل العمومُ الاصطلاحي، بل حاصله أن الأحكامَ المستفادةَ من الجوابِ [المتعددِ لفظُه أكثرُ من الأحكام المستفادة من الجواب] (¬8) المختصّ بما وقعَ عنه السؤالُ، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 235)، و"الإحكام" للآمدي (2/ 257)، و"شرح مختصر ابن الحاجب" للأصفهاني (2/ 149)، و "البحر المحيط" للزركشي (4/ 269). (¬3) "ت": "وإذا". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) " ت ": "منفرد". (¬6) سقط من "ت". (¬7) "ت": "فالمجموع من لفظ الماء والميتة أعم". (¬8) سقط من "ت".

التاسعة والعشرون

وذلك لا يقتضي لفظًا واحدًا يعمُّ ما وقع [فيه] (¬1) وغيرَهُ من جهة واحدة، نعم إن قيل: [إنَّ] (¬2) السؤال وقع عن الوضوء، وكون مائه طهورًا يفيد الوضوءَ وغيره، فهو أعم من السؤال [عنه] (¬3) فلذلك وجه، إلا أن الذي حكيناه يدل على قصد من قال ذلك، إذ (¬4) بعضُهم [يدعي] (¬5) العمومَ بالنسبة إلى الطهورية [وحل الميتة] (¬6). التاسعة والعشرون: لفظُ الميتةِ هاهنا مضافٌ إلى البحر، ولا يجوزُ أن يُحمَلَ على مطلق ما تجوزُ إضافتُهُ إليه مما يطلَقُ عليه اسمُ الميتةِ، وإن كانت الإضافةُ سائغة في ذلك بحكم اللغة، وإنما هو محمولٌ على الميتة من دوابه المنسوبة إليه، أو ما يؤدي هذا المعنى، ومن البعيد أن يقال بحمله على المعنى الأول، وما يصحُّ في اللغة الإضافة إليه؛ أعني: إضافة الميتة، ويُخرَجُ من ذلك ما يجب إخراجه، وهذا مما يُبيِّنُ لك ضعفَ دَلالةِ العموم فيما لا يُقصَدُ باللفظِ الدَّلالةُ عليه (¬7). وعلى هذا مَنْ أراد الاستدلالَ على حل ميتته من دوابه، وحملَ اللفظ العام في الميتة على الدواب المنسوبة إليه كما أوضحناه (¬8)، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل و"ب": "أو"، والتصويب من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) كما مرَّ تحقيقه في الفائدة التاسعة عشرة. (¬8) "ت": "أوضحنا كونه من دوابه".

الثلاثون

يهون (¬1) عليه هذا المطلوب في الاستدلال على ما يريد الاستدلالَ على حِلِّه؛ لأن إثباتَ كونه من ميتته يستندُ إلى المشاهدة. الثلاثون: اختلفَ (¬2) المالكيةُ في أنَّ ما تطول حياتُه في البر كالسَّرطان والضِّفْدِع والسُّلَحفاة، هل يُلحَقُ بالبحري في عدم حاجته (¬3) للذكاة أو لا؟ والمشهورُ إلحاقُهُ، وهذا يرجع إلى ما نبَّهنا عليه مِنْ أَنَّ مَنْ أراد إثباتَ الحكم في حيوانٍ، فعليه بيانُ أنَّه من دواب البحر بعدَ تقرير أنَّ المعنيَّ بالميتة ميتة دوابه، لا مطلق الميتة مما يمكنُ أن يُضافَ إليه، والظاهرُ أن هذه الأشياءَ لا يُخرِجها عن كونها بحريةً طولُ حياتِها في البر بعدَ أن تكون منسوبةً إلى البحر، وهذا يجرُّك إلى النظر في معنى دوابِّ البحر، فالمنقولُ عن ابن (¬4) القاسم صاحبِ مالك - رحمهما الله تعالى -: أنَّ ما كان مأواه في الماء فإنه يؤكَلُ بغير (¬5) ذكاة، وإن كان يرعى في البر، وما كان مأواه ومستقرُّه في البر، فإنه لا يؤكَلُ إلا بذكاة، ولو كان يعيش في الماء، [كالجاموس] (¬6) (¬7). وفي "المُدَوَّنةِ" في فرس البحر: يُؤكَلُ بغير ذكاة (¬8). ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب" زيادة: "فعليه أن إخراجه بالإجماع". (¬2) "ت": "اختلفت". (¬3) "ت": "احتياجه". (¬4) في الأصل: "أبي"، والتصويب من "ت". (¬5) "ت": "من غير". (¬6) سقط من "ت". (¬7) انظر: "المنتقى في شرح الموطأ" اللباجي (3/ 129). (¬8) انظر: "المدونة" (3/ 56).

الحادية والثلاثون

وفي كتاب آخر: تُستحَّبُ ذكاته؛ لأنَّ له في البر رعياً (¬1). ولا خلافَ في أنَّ طيرَ الماء لا يؤكَلُ إلا بذكاة، والله أعلم. الحادية والثلاثون: اسمُ الجنس إذا أُضيفَ كان من صِيَغِ العموم، وبه يصحُّ استدلالُهم على إباحة السمك الطَّافي، والمشهورُ هذا الإطلاق في هذه المسألة. وجاء بعضُ المتأخرين (¬2) وقسم المفردات إلى ما يصدق المفرد منها على الكثير نحو: ماء ومال ولحم ودم وذهب وفضة، فالكثيرُ يقال له: ماء ومال ولحم، وإن عَظُم ذلك الكثير، وإلى ما لا يصدق كرجل ودرهم ودينار، ولا يقال للجمع (¬3) الكثير من الرجال: رجل، ولا للدراهم: درهم. وقد نصَّ العلماء على أنَّ الإضافة توجب العموم، فهل يُخَصُّ ذلك بما يصدق على الكثرة (¬4) نحو: (مالي صدقة)؛ لأنَّه بصدقه على الكثير يقبل (¬5) العمومَ؟ وما لا يقبل الكثرةَ، لا يقبلَ العموم كقولنا: (درهم زائف)، فإنا ندرك الفرقَ بينَ قولنا: (مالُه حرامٌ)، وبين قولنا: (درهمُه ¬

_ (¬1) وانظر: "التاج والإكليل" لابن الموَّاق (1/ 88). (¬2) لعله يعني به: القرافي؛ فإنه قال ذلك في "شرح تنقيح الفصول" (ص: 181). (¬3) في الأصل: "للجميع"، والتصويب من "ت" و"ب". (¬4) "ت": "الكثير". (¬5) "ت": "قَبِلَ".

زائفٌ)، فإن (¬1) الأولَ للعموم دونَ الثاني، وكذلك إذا قال: (عبدي حر)، لا يُفهَم [منه] (¬2) العموم، وإذا قال: (عبيدي أحرار)، يُفهَم العموم من الجمع ولا يفهم من المفرد دون القسم الأول (¬3)، فإنه يفهمه فهماً (¬4)، فإذا قال: (مالي صدقة) عمَّ، كما إذا قال: (أموالي صدقة). ثم قال بعدَ ذلك: وكذلك أيضاً لا يفهم العموم من إضافة التثنية في شيء من الصور، وإنْ كان المفردُ يعمُّ أيضا، فإذا قال: (عبداي حران)، فإنما (¬5) يتناول عبدين، كما إذا قال: (مالاي) لا يعم أموالَه (¬6)، فالفهمُ ينبو عن العموم في التثنية جداً، بخلاف الجمعِ في الكل والمفردِ (¬7) على التفصيل. وهذا الذي قاله قد أشارَ إليه الشيخُ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى إشارةً لطيفة حيث ذَكَرَ صيغ العموم، وذكر أسماءَ الشروط والاستفهام والموصولات والجموع المعرَّفَةِ تعريفَ جنس وما في معناها، واسمَ الجنس المعرَّفَ تعريفَ جنس، والمضاف ممَّا ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأن"، والتصويب من "ت"، وفي "ب": "دراهمه زائفة وأن". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "الثاني". (¬4) أي: فهماً واحداً من المفرد والجمع. (¬5) "ت": "إنما". (¬6) "ت": "أموالاً". (¬7) ت": "والفرد".

الثانية والثلاثون

يصلح للبعض والجمع، والنكرةَ في النفي (¬1). فقولُهُ: والمضاف مما يصلح للبعض والجمع: تقييدٌ [يقتضي] (¬2) ما قدَّمنا حكايته (¬3). وقد بنى على هذا أنَّ لفظة (¬4) الميتة في الحديث لا تكونُ (¬5) للعموم؛ لأنه ليس مما ينطلقُ على الكثير والقليل، فلا يقال لعدد من الميتات ميمّة، وهذا يخالف استدلالَ الناس بهذا العموم، وللنظر فيه فضلٌ (¬6)، وقد يمنع أمتناع أنْ يقالَ للجميع (ميتة) باعتبارٍ ما، [وهو أعتبار الهشة الإجماعية.] (¬7). الثانية والثلاثون: في قاعدةٍ يُبنَى عليها غيرُها: الحقائقُ إما أن لا ينطلىَّ لفظُ بعضِها على بعض، وهي المتباينة كالإنسان والفرس، أو ينطلقَ لفظُ كلّ واحد منهما على الآخر، وهي المتساوية كالإنسان مع الناطق، أو ينطلقَ أحدُهما على كل ما ينطلق عليه الآخرُ من غير عكس من الطرف الآخر، فالأولُ هو العام من كل وجه، والثاني الخاص، كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، فإنَّ الأولَ ينطلق على كل الثاني، ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصفهاني" (2/ 111). (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "البحر المحيط" للزركشى (4/ 146 - 147). (¬4) "ت": "لفظ". (¬5) "ت": "يكون". (¬6) "ت": "فصل". (¬7) سقط من "ت"، وفي "بـ": "الاجتماعيهّ" بدل "الإجماعية".

والثاني لا ينطلق على كل الأول، فالأول عام مطلقاً، والثاني خاص بالنسبة إلى الأول، أو ينطلقَ كلُّ واحدٍ منهما على بعض ما ينطلق عليه الآخر، فكلُّ واحد منهما عامٌّ بالنسبة إلى الآخر من وجه دونَ وجه كالحيوان والأبيض، فإن الحيوانَ ينطلق على بعض الأبيض، والأبيضُ ينطلق على بعض الحيوان (¬1). إذا ثبت هذا فنقول: إذا وردَ لفظان كلُّ واحد منهما عامٌّ من وجه وخاصٌّ من وجه؛ فالمسألةُ من مشكلات علم الأصول، واختار قوم [فيها] (¬2) الوقفَ إلا بترجيحٍ يقوم على [العمل بأحد] (¬3) اللفظين بالنسبة إلى الآخر، وكأنه يُراد الترجيحُ العام الذي لا يَخُصُّ مدلولَ العموم، كالترجيحِ بكثرة الرواة وسائرِ الأمور الخارجة (¬4) عن مدلول العمومين من حيثُ هي عمومٌ (¬5). وقال أبو الحسيَن في كتابه "المُعتمَد": وليس يخلو مثلُ هذين ¬

_ (¬1) فائدة هذه القاعدة: الاستدلال ببعض الحقائق على بعض، كما قاله الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" (ص: 21). (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل "الخارجية"، والتصويب من "ت". (¬5) انظر: "البرهان" للجويني (2/ 774)، و"المستصفى" للغزالي (ص: 254)، و "المحصول" لابن العربي (ص: 150)، و"روضة الناظر" لابن قدامة (ص: 251)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 316)، و"شرح الكوكب المنير" للفتوحي (ص: 21).

العمومين، إما أن يُعلمَ تقدّمُ أحدِهما على الآخر، أو لا يُعلَمَ ذلك، فإن لم يعلَم ذلك، لم يخلُ إما أن يكونا معلومين، أو مظنونين، أو أحدُهما معلوماً والآخرُ مظنوناً (¬1)؛ لأنَّ الحكم بأحدهما طريقُهُ الاجتهادُ، وليس في ترجيح أحدِهما، أيّ: ما يقتضي اطِّراحَ الآخر، وليسَ كذلك إذا تعارضا في كلِّ وجه، فإن لم يترجَّحْ أحدُهما على الآخر، فالتعبد (¬2) فيهما بالتخيير (¬3) (¬4). وقال الفاضلُ أبو سعد (¬5) محمد بن يحيى - رحمه الله تعالى - (¬6) فيما وجدتُهُ معلَّقاً عنه في العامَّين إذا تعارضا: كما يُخَصَّصُ هذا ¬

_ (¬1) في "المعتمد" بعد قوله: "والآخر مظنوناً" ما نصه: "فإن كانا معلومين، لم يجز ترجيحُ أحدهما على الآخر بقوة الإسناد، ويجوز ترجيح أحدهما على الآخر بذلك إن كانا مظنونين، وإن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا، جاز ترجيح المعلوم منهما عند التعارض بكونه معلومًا، فأما الترجيح بما تضمنه أحدُهما من كون محظوراً، أو حكماً شرعياً، فإنه يجوز ذلك، سواء كانا معلومين، أو مظنونين، أو أحدهما معلوما والآخر مظنوناً". (¬2) في الأصل: "فالبعيد"، والتصويب من "ت" و"ب". (¬3) "ت": "بالتخير". (¬4) انظر: "المعتمد" لأبي الحسين البصري (1/ 425). (¬5) "ت": "القاضي أبو سعيد". (¬6) هو الإمام العلامة شيخ الشافعية، محمد بن يحيى بن منصور أبو سعد النيسابوري، صاحب الغزالي، برع في المذهب، وصنف التصانيف في الفقه والخلاف، وتخرج به الأصحاب، ألف كتاب: "المحيط في شرح الوسيط"، و"الانتصاف في مسائل الخلاف"، توفي سنة (548 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (20/ 312). وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 109)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (7/ 25)، وعندهما: "أبو سعيد"، كما وقع في "ت".

الثالثة والثلاثون

بذاك لمعارضته، أمكنَ أن يخصَّصَ ذلك (¬1) بهذا، وليس أحداهما بأولى من الآخر، فمنظَرُ فيهما: إن دخل أحدَهما تخصيصٌ مُجْمَعٌ [عليه] (¬2)، فهو أولى بالتخصيص، وكذلك إذا (¬3) كان أحدُهما مقصوداً بالعموم، يُرجَّحُ على ما كان عمومُهُ اتفاقاً (¬4). الثالثة والثلاثون: اختلفوا في أكلِ التّمْساح: فمنعه الشافعيُّ (¬5)، وأباحه مالكٌ وأصحابُه (¬6) (¬7)، رحمة الله عليهم أجمعين، وهو إحدى المسائل التي تبنىَ على هذه القاعدة، وبيان ذلك: أنَّ قولَه: "الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" إذا جعلناه عامًّا - كما استدلَّ (¬8) الناسُ به على العموم - دخل فيه التمساح، ويعارضه نهيُه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع (¬9)، فهو عامّ بالنسبة إلى البري والبحري، فيدخل (¬10) فيه التمساح، فيكون ¬

_ (¬1) "ت": "ذاك". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "إن". (¬4) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (8/ 164). (¬5) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (9/ 30). (¬6) في الأصل و"بـ": "وأصحابهما"، والتصويب من "ت". (¬7) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 88). (¬8) "ت": "استدرك". (¬9) رواه البخاري (5215)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: أكل كل ذي ناب من السباع، ومسلم (1932)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، من حديث أبي ثعلبة - رضي الله عنه -. (¬10) "ت": "فدخل".

الرابعة والثلاثون

كلُّ واحد منهما عاماً من وجه، خاصاً من وجه، فيدخل تحت القاعدة، اللهمَّ إلا أن يدَّعيَ المالكيةُ انصرافَ لفظة (¬1) (السباع) إلى البري؛ لتبادر الفهم عند الإطلاق إليه، فعلى هذا لا يعارض كل واحد منهما الآخر من وجه، وإذا عورضوا بوجود الحقيقة في السَّبُعية، وثَبَتَ لهم العرفُ في الاستعمال، كان الاستعمالُ مقدَّما على الحقيقة اللغوية، وإن لم يثبت ذلك، فلابدَّ من ترجيح، فإن طُلِبَ الترجيحُ العامُّ الخارفيُّ عن مدلول اللفظين، فقد يرجِّحُ المالكيةُ عمومَ هذا الحديث بموافقة ظاهر قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]. الرابعة والثلاثون: الحكمُ بحلّ ميتته يدلُّ على طهارتها، مع ضميمة مقدمة أخرى، وهي: أن النجسَ لا يحل أكلُه، بدليل نهيِهِ عليه السلام بأن لا يُقرَب مائعُ السَّمنِ إذا وقعتْ فيه الفأرةُ (¬2). الخامسة والثلاثون: اختلفوا في إباحة أكل السمك الطافي، والذي ذكره الحنفيةُ - رحمهم الله - كراهتَهُ، ومذهبُ الشافعي ومالك ¬

_ (¬1) "ت": الفظ". (¬2) رواه أبو داود (3842)، كتاب: الأطعمة، باب: في الفأرة تقع في السمن، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 265)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفأرة تقع في السمن فقال: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه". قال الترمذي في "سننه" (4/ 256): وهو حديث غير محفوظ، ثم نقل عن البخاري أنه قال: هذا خطأ، أخطأ فيه معمر، قال: والصحيح: حديث الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 4).

السادسة والثلاثون

- رحمهما الله تعالى - إباحتُه (¬1)، وعمومُ الحديث يقتضيه. السادسة والثلاثون: ما يُسمَّى سمكاً من حيوان البحر، فهو مباحٌ من غير خلاف، وأما غيره فنُقِل عن الشافعي - صلى الله عليه وسلم - قولٌ غريب: أنه لا يَحِلُّ؛ لأن اسم السمك لا يتناوله. وقيل: إنه مرجوع عنه (¬2). والصحيحُ من مذهبه تعدي الحِلِّ (¬3) إلى غيره في الجملة (¬4)، وهو جارٍ تحت عموم اللفظ. والذي نقلناه من القول هو الذي ذكره الحنفية؛ أعني [أنه] (¬5): لا يُؤكَلُ من حيوان الماء إلا السمكُ. السابعة والثلاثون: تعليقُ الحكم بالميتة، هل يقتضي التخصيصَ بها من جهة المفهوم؟ يمكنُ أن يقالَ ذلك جريًا على المفهوم عند أرباب المفهوم، ويمكن أن يقال: إنه لا يدل؛ لأن العلة في القول بالمفهوم طلب فائدة التخصيص، وتَعَيُّنُ (¬6) المخالفة فائدة، ولهذا قالوا: إنَّ التخصيصَ إن ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 69)، و"المدونة" (2/ 445)، و"المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 126). (¬2) نص الإمام الشافعي في "الأم" (7/ 146): أن جميع ما كان معاشه في الماء من السمك وغيره، فلا بأس للمحرم بصيده. وانظر: "الوسيط" للغزالي (7/ 154). (¬3) "ت": "تعديه" بدل "تعدي الحل". (¬4) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (9/ 29). (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "وتعيين".

الثامنة والثلاثون

كان سببُهُ العادةَ لم يقتضِ المخالفةَ، كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، فإنه وُجِد للتخصيصُ سبب (¬1) آخر غير معنى المخالفة، فعلى هذا يقال: سببُ التخصيص بالذكر تقديم (¬2) تحريم الميتة، وإخراج هذا الجنس منها، فقد وُجِد سببٌ غيرُ المخالفة. الثامنة والثلاثون: إذا فَرَّعنا على أنه من مفهوم المخالفة الذي يدلُّ على نفي الحكم عما عداه، فيؤخَذُ منه ما اختلف فيه الشافعيةُ - رحمهم الله تعالى - في ابتلاع السمكة حيةً، هل يجوز من جهة الحل، وإن مُنِعَ من جهة التعذيب (¬3)؛ فإذا قلنا بالمفهوم، فمُقتضَى ذلك المنعُ؛ لتخصيص الحِلّ بالموت، فيخرجُ عنه الحيُّ في الحكم، وهؤلاء يجعلون الموتَ في السمك كالذبح في غيره ليحصُلَ الحِلُّ. التاسعة والثلاثون: قد أشرنا إلى مفهوم المخالفة بالنسبة إلى الحيِّ من سمك البحر، ويكون لهذا اللفظِ مفهومُ الموافقة من وجه آخر، وذلك أنَّا لمَّا بيَّنا أن عُرْفَ الشرع في الميتة عدمُ (¬4) الحياة من غير ذكاة، فإذا دلَّ اللفظُ على إباحة ذلك كان ما ذُكِّيَ أولى بالإباحة. وهذا من طريف ما وقع أنْ يُجمَعَ في صيغة واحدة مفهومُ موافقة ومفهوم مخالفة باعتبارين كما ذكرناه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "التخصيص بسبب"، والتصويب من "ت". (¬2) "ت": "تقدم". (¬3) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (9/ 70). (¬4) "ت": "مع عدم".

الأربعون

ولك أن تنظرَ في أن تذكيةَ هذا الحيوانِ البحري، هل يباح إباحةً مطلقةً؟ الأربعون: الحلُّ مضافٌ إلى الميتة، والأعيانُ لا تقبل الحل والحرمة بنفسها، بل بأمر يتعلَّقُ بها، وذهب (¬1) بعضُ الأصوليين إلى الإجمالِ في مثل هذا؛ لأنه لابدَّ من إضمار مُتعلِّقٍ، والمتعلقاتُ متعددةٌ لا ترجيحَ لبعضها على بعض، فيجيء الإجمالُ، واختاروا كونها (¬2) مقتضيةً لتحيرم ما يراد من العين عرفاً، فتحريمُ الميتة تحريمُ أكلها، وتحريم المرأة تحريمُ الاستمتاعِ بها، وتحريم الخمرِ تحريمُ شربِها، فعلى هذا المختار ينبغي أن يكون التقدير في قوله عليه السلام: "الْحِلُّ مَيْتتُهُ": الحل أكل الميتة (¬3)، ولا يكون فيه دليلٌ على تحليل ما ليس بأكل من الأفعال المتعلقة بميتته. وفي مطاوي كلام بعض المناظرين ما يشهد (¬4) بالقول بالعموم في المتعلقات، ويمكن أن يُوجَّهَ هذا بأن الحقيقةَ لمَّا زالت تعيَّنَ أقربُ المجازاث، وأقربُها إلى الحقيقة ما يقتضيه العموم، والله أعلم. الحادية والأربعون: إذا قلنا بالعموم في الميتة، فمن قال بالحِل في جميع ميتته جرى على العموم، ومن قال بتحريم بعض حيوان ¬

_ (¬1) "ت": "فذهب". (¬2) أي: اختار الأصوليون عدم الإجمال، ورجحهوا متعلقا، وهو كون الأعيان يقتضي تحريم ما يراد منها عرفاً، والله أعلم. (¬3) "ت": "ميتة". (¬4) "ت": "يشعر".

البحر، كالشافعي - رضي الله عنه -، فإنه يحرِّم الضَّفدِعَ والسرطانَ والسُّلْحفاةَ على ظاهر مذهبه (¬1)، فلم يجرِ على العموم، واحتاج إلى دليل التخصيص. وحُكِيَ أنه حضر مجلساً فذكِر فيه مذهبُ أبنِ أبي ليلى أنه أباح الضفدع والسرطان، فأخذ الشافعيُّ ينصره (¬2)، فذكر صاحبُ "التقريب" (¬3): أن من الأصحاب من عدَّ ذلك قولاً للشافعيّ، والمذهبُ المعروف خلافُهُ. والعمومُ يدلُّ على حِلّها، والشافعيُّ - رحمه الله تعالى - وأصحابُهُ ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (9/ 30). (¬2) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 146)، و"الحاوي" للماوردي (15/ 65). (¬3) هو الإمام أبو الحسن القاسم بن الإمام أبي بكر محمد بن علي القفال الشاشي، وكتابه "التقريب" كتاب عزيز، عظيم الفوائد، - من شروح "مختصر المزني"، وقد يتوهم من لا اطلاع له على أن المراد بالتقريب "تقريب" الإمام أبي الفتح سليم بن أيوب، صاحب الشيخ أبي حامد الأسفراييني، وذلك غلط، بل الصواب ما ذكرنا. وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني رحمه الله: نظرت في كتاب "التقريب"، وكتاب "جمع الجوامع"، و"عيون المسائل"، وغيرها، فلم أر أحدًا منهم فيما حكاه أوثق من صاحب "التقريب" رحمنا الله وإياه، وهو في النصف الأول من كتابه، أكثر حكاية لألفاظ الشافعي منه في النصف الأخير، وقد غفل في النصفين جميعاً من اجتماع الكتب له أو أكثرها، وذهاب بعضها في عصرنا عن حكاية ألفاظ لابد من معرفتها؛ لئلا يجترئ على تخطئة المزني رحمه الله في بعض ما يخطئه فيه وهو منه بريء، وليتخلص به عن كئير من تخريجات أصحابنا، ثم ذكر البيهقي شواهد لما ذكره. وأثنى إمام الحرمين في مواضع من "النهاية" على صاحب "التقريب" ثناء حسناً. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 553 - 554).

الثانية والأربعون

يأخذون التحريمَ من علَّةِ الاستخباث من قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] (¬1)، وهذا يلتفت إلى القاعدة التي سبقت مِنْ تعارضِ العمومين من وجه دون وجه، وهنا يَقوَى (¬2) توجيهُ إعمال تحريم (¬3) الخبائث إذا صحَّ النظرُ إلى المقصود من اللفظ، وجُعِل في غيره كالمُجمل، فعليك بتمام النظر فيه. الثانية والأربعون: اختلفَ قولُ الشافعي (¬4) - رضي الله عنه - في الحيوان البحري الذي له نظيرٌ مُحرَّمٌ في البر، ككلب الماء وخنزيره (¬5)، وهذا يرجع إلى القاعدة التي ذكرناها من تعارض العمومين من وجه دون وجه؛ لأن الله تعالى يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، فهو عامٌّ في خنزير البر والبحر، وقولُه عليه السلام: "الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" عامٌّ في الميتات التي فيها الخنزير، فمن قال بتحريمه، واستدلَّ بالآية، قيل له: هي عامةٌ بالنسبة إلى خنزير الماء، فيُخْرِجُه بالحديث، ومن قال بتحليله، واستدل بالحديث، قيل له: هو عام بالنسبة إلى خنزير الماء، فيُخْرِجُه بالآية. ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 241)، و"المجموع في شرح المهذب" للنووي (9/ 24). (¬2) "ت": "وهذا يُقَوِّي". (¬3) "ت": "تحريم إعمال". (¬4) "ت": "الشافعية رحمهم الله". (¬5) انظر: "الوسيط" للغزالي (7/ 153 - 154)، و"المجموع في شرح المهذب" للنووي (9/ 28 - 29).

الثالثة والأربعون

وهذا فيه ما أشرنا إليه من أنَّ حملَ الخنزيرِ على البريّ يسبق الفهمُ إليه في الاستعمال مع زيادةٍ هاهنا، وهي مَنع كويه خنزيراً حقيقياً، بل هو تشبيه [به] (¬1). الثالثة والأربعون: إذا قيلَ بإباحة خنزير الماء وكلبِه، ففي اشتراط الذبح قولان [للشافعي] (¬2)، أحدُهما: [أنه] (¬3) لا يُشتَرط كالسمك (¬4)، ويُستدَلُّ بهذا الحديث لهذا (¬5) القول. الرابعة والأربعون: ذكر الأصوليون أنَّ تخصيصَ بعض أفراد العامّ بالذكر لا يقتضي التخصيصَ في الحكم، وحكوا خلافَ أبي ثور فيه (¬6). ولْننبِّهْ لأمرٍ (¬7) وهو: أنه ينبغي أن يقيَّدَ ذلك التخصيصُ بما ليس له مفهوئم كالألقاب، فأما (¬8) ما له مفهومٌ كالصفات، فعلى القول بالمفهوم أقد، (¬9) أجازوا تخصيصَ العمومِ به. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "الوسيط" للغزالي (7/ 103). (¬5) "ت": "بهذا". (¬6) انظر: "المحصول" للرازي (3/ 195)، و"الأحكام" للآمدي (2/ 359)، و"الإبهاج" للسبكي (2/ 1094)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 300). (¬7) "ت": "تنبيه" بدل قوله: "ولننبه لأمر". (¬8) "ت": "وأما". (¬9) سقط من "ت".

الخامسة والأربعون

الخامسة والأربعون: اشتُهِر بينَ الفقهاء حديث: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَالمَيْتَتَانِ السَّمَكُ والجَرَاد" (¬1)، فإذا نظرنا إلى هذا مع عموم قولهِ عليه السلام: "الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"، كان هذا اللفظُ عاماً، لكن قولَه: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ"، وتعيين الميتتين [في السمك والجراد مما يَظهرُ فيه التخصيصُ، وتعيينُ الميتتين] (¬2) في هذين المذكورين، فيُشْكِلُ عليه مذهبُ عامةِ الفقهاء في عدم تخصيصِ الحِلّ بالسمك، إلا أن يُدَّعَى في بعض ما يقالُ بحلِّه أنَّ السمكَ ينطلقُ عليه. وقد قيل: إن الخلافَ في تحريم ما له نظيرٌ محرَّمٌ في البر يُبنىَ (¬3) على هذا؛ أعني: أنه هل يُسمَّى سمكاً، فيؤخَذُ [حلّه] (¬4) من اللفظ - المقتضي (¬5) تجليلَ ميتة السمك، أم لا؟ ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3218)، كتاب: الصيد، باب: صيد الحيتان والجراد، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 340)، وفي "الأم" (2/ 233)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 97)، وغيرهم، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً؛ بإسناد ضعيف. قال الدارقطني في "العلل" (11/ 267): الموقوف هو الصواب. وكذا صحح البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 254) الوقف، وقال: وهو في معنى المسند. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 26): لأن قول الصحابي: "أحل لنا"، و"حرم علينا كذا". مثل قوله: "أمرنا بكذالا، و"نهينا عن كذا"، فيحصل الاستدلال بهذه الرواية؛ لأنها في معنى المرفوع، والله أعلم. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "ينبني". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "المسمى".

السادسة والأربعون

ويؤخَذُ حلُّ ما عدا السمكِ من دليل آخرَ، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، وينظرُ مع ذلك في اللفظين معاً بما يقتضيه النظرُ الصحيحُ، وإنما ذكرنا هذا للتنبيه (¬1) على ما ينبغي أن يُؤخَذَ من الحديث وما لا. فإن قُلتَ: لا نُسَلِّم أن قولَه: "المَيْتَتَانِ السَّمَكُ والجَرَادُ" يقتضي التخصيص؛ لأنه تعليقُ الحكمِ باللقب. قلت: اللامُ للعهد السابق، وهو الميتة، وتعليقُ الحكم بها تعليقٌ بالوصف، ويتبيَّنُ لك بهذا أنَّ هذا التخصيصَ لبعض أفراد العام بالذكر، وأنه تخصيص يقتضيه (¬2) مفهومُ المخالفةِ عند مَنْ يرى به، وفيه هاهنا زيادةُ دَلالةٍ على التخصيص، وذلك أنَّ قولَه عليه السلام: "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ"، مذكورٌ لبيان الرخصة والاستثناء من الميتةِ المحرَّمِ أكلُها، وذلك يقتضي الحصرَ؛ لأنَّ ما عداه يبقى على الأصل في التحريم، فيُضَمُّ في الدلالة إلى التخصيص بهذا (¬3) المعنى. السادسة والأربعون: بهذا البحثِ الذي أشرنا إليه يُسْتَدَلُّ لقول مَنْ قال باشتراطِ الذكاة في ما له نظيرٌ محرَّمٌ في البر إذا أخرجه عن اسم السمك، وقال بحلِّه، لِيَخْرُجَ بذلك عن اسم الميتة من السمك، فيحتاج إلى الذكاة. ¬

_ (¬1) "ت": "التنبيه". (¬2) "ت": "يقتضي". (¬3) "ت": "هذا".

السابعة والأربعون

السابعة والأربعون: اقتطاعُ قطعةٍ من السمكة ممنوعٌ للتعذيب، وأما حِل أكلها (¬1) فيؤخَذُ من (هذا) (¬2) الحديث، مع مقدمة أخرى وهي (¬3): (ما أُبِينَ من حي فهو ميِّتٌ)، [فيقال: هذه القطعةُ ميتةٌ، فإنَّ ما أُبين من حي فهو ميِّت] (¬4)، وميتةُ البحر حلالٌ بالحديث، فهذه القطعةُ حلال. الثامنة والأربعون: لما كان اسمُ الميتة شرعاً لما عُدِمَ فيه الذكاةُ الشرعية أو ما يقوم مقامَها كالاصطياد، كان (¬5) مِن شَرط الذكاةِ الشرعية أهليةُ المُذَكِّي أو المُصْطَادِ (¬6)، فمن ليست له أهليةُ الذكاة فمُصْطَادُه ميتة، [فإذا اصطادَ المجوسيُّ من البحر فمصطادُه ميتة لما قررناه، وميتةُ البحر حلال] (¬7). التاسعة والأربعون: اختلف (¬8) الشافعيةُ والمالكيةُ في دم السمك هو طاهرٌ، أم لا (¬9)؟ ¬

_ (¬1) "ت": "أكله". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": " وهو أن". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "فكان". (¬6) المصطاد هنا الصائد، وفي قوله: مصطاده ميتة، المصطاد هو المصيد. (¬7) ما بين معكوفتين جاءت في "ت": "لما قررناه، وميتة البحر حلال، فمصطاد المجوس من البحر حلال". (¬8) "ت": "اختلفت". (¬9) الأصح عند الشافعية وبه قال المالكية: أن دم السمك نجس. انظر: "المنتقي" =

الخمسون

فيمكن أن يُجعَل الحديثُ مقدمةً من مقدمات القول بطهارته، بأن يقال: لو كان نَجِساً لما حَلَّ أكلُ الميتتة التي يُحتقَنُ فيها؛ [أي: الدم] (¬1)، لكنها حَلَّت بالحديث، وتبين (¬2) الملازمةُ بأنَّ الأصلَ امتناعُ ما يوجب التحريمَ إذا أمكن، والدمُ المحتبسُ على تقدير نجاسته يقتضي تنجيسَ ما احتُقِنَ فيه بالأصل، فيقتضي تحريمَهُ بالأصل، فعلى تقدير طهارته لا يكون الحكمُ بالحل على خلاف مقتضى الدليل، [وعلى تقدير نجاسته يكون الحكم بالحل على خلاف مقتضى الدليل] (¬3)، وعلى تقدير نجاسته يكون الحكمُ على خلاف مقتضاه، فيُرجَّحُ الأولُ على الثاني (¬4)، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ الحكمَ بطهارته معِ تسليم كونه دماً خلافُ الأصل أيضاً، فعليك بتمام البحث، وقد مَنعَ بعضُ الناس (¬5) أنَّ دمَ السمك دمٌ حقيقي. الخمسون: رأيتُ عن بعض الحنفية: أنَّ المتأخرين اختلفوا فيما ¬

_ = للباجي (3/ 129)، و" المجموع" للنووي (2/ 514). وقال الحنفية والحنابلة - على الصحيح من مذهبهم - بطهارة دم السمك. انظر: " الهداية" للمرغيناني (1/ 36 - 37)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 327). (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ب": "ويبين". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "الأول"، والتصويب من "ت" و"ب". (¬5) هم الحنفية، كما في "تحفة الفقهاء" للسمرقندي (1/ 63)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 61)، وغيرهما.

الحادية والخمسون

يعيشُ في الماء مما ليس (¬1) له نَفْسٌ (¬2) [سائلة] (¬3)؛ كالضفدع والسرطان والسمك ونحوهِ، إذا مات في غير الماء كالخَلِّ ونحوه، هل ينْجُس، أم لا؟ فقال بعضهم: ينجُسُ؛ لأنه مات في غير معدنه، ومنهم من قال: لا ينجس؛ لأنه ليس له دم سائل، وقيل: بأن هذا قولُ أبي يوسف ومحمد، والأول قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - (¬4). وهذا إنما يتعلَّقُ بالحديث من جهة الإضافة التي في (ميتته)، فإذا حملنا (ميتته) على دوابه من غير اعتبار موتها فيه، جاء القولُ الثاني، ويشهد له المعنى المستنبَطُ من تعليل عدم نجاستها بعدَم النفس السائلة، وإن اعتُبِرَ في هذه الإضافةِ موتُها جاء فيه القولُ الأول، ولاشكَّ أن العربَ تكتفي في الإضافة بأدنى ملابسةٍ، والله أعلم. الحادية والخمسون: الماءُ إذا كان على أصل خِلْقَتِهِ فهو طَهور، وإن كان متغيِّرًا بأصل الخلقة، ورأيتُ عند (¬5) بعضِ الشافعية الاستدلالَ بهذا الحديث على هذه المسألة، بناءً على أنه يتناول المتغير وغير المتغير (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "ليست". (¬2) النفس هاهنا: الدم. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 19)، و"شرح فتح القدير" (1/ 84)، وغيرهما. (¬5) "ت": "عن". (¬6) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 129).

واعلمْ أنَّ المتغيرَ بأصل خلقته يدخلُ تحتَ مدلول اللفظ إذا قلنا: إنَّ اسمَ البحرِ ينطلقُ على المالح والحلو، وإلا فالمالح بأصل خلقته لا يقال في صفاته: إنها متغيرة، إلا بالنسبة إلى غيره، مما (¬1) لا يدل عليه لفظ البحر، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) "ت": "فيما".

الحديث الثاني

الحديث الثاني وعنه؛ أي: وعنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدكمْ فِيْ الْمَاء الدَّائِم (¬1)، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ"، أخرجه مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) في النسخ الثلاث زيادة: "الذي لا يجري"، ولعلها إقحام من النَّسخة، إذ لم يخرج مسلم هذه اللفظة في هذا السياق، ولعله مما يؤكد هذا الإقحام: قول المؤلف رحمه الله في المسألة الأولى من الوجه الرابع: وقد جاء في بعض الأحاديث: "الذي لا يجري". وكذا ساقها المؤلف في كتابه "الإمام" (1/ 196) دون لفظ "الذي لا يجري". وكذا في النسخة الخطية من كتاب "الإلمام" بخط الإمام ابن عبد الهادي (ق 2/ ب). وكذا في كتاب: "الاهتمام بتلخيص كتاب الإلمام" للإمام قطب الدين الحلبي (ص: 22)، والله أعلم. (¬2) * تخريج الحديث: الحديث رواه مسلم (282/ 95)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، وأبو داود (69)، كتاب: الطهارة، باب: البول في الماء الراكد، من طريق هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، به. ورواه النسائي (57)، كتاب الطهارة، باب: الماء الدائم، من طريق عوف، عن ابن سيرين، به. ورواه النسائي (58)، كتاب: الطهارة، باب: الماء الدائم، من طريق يحيى بن عتيق، عن ابن سيرين، به. =

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر

الكلام عليه من وجوه: * * * * [الوجه] (¬1) الأول: في التعريف بمَنْ ذُكِر (¬2): ¬

_ = ورواه النسائي (400)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: ذكر نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم، من طريق أيوب، عن ابن سيرين، به. ورواه البخاري (236)، كتاب: الوضوء، باب: البول في الماء الدائم، من طريق شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به. ورواه النسائى (398)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: ذكر نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم، من طريق ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، به. ورواه مسلم (282/ 96)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، والنسائي (397)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: ذكر نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم، والترمذي (68)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في كراهية البول في الماء الراكد، من طريق معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، به. ورواه مسلم (283)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، والنسائي (220)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، وابن ماجه (605)، كتاب: الطهارة، باب: الجنب ينغمس في الماء الدائم، أيجزئه؛ من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة، به. * تنبيه: قوله: "أخرجه مسلم" كذا هو في النسخ الثلاث، لكن سيأتي قول المؤلف في الوجه الثالث من هذا الحديث قوله: "ونبهت بقولي - أي تخريج الحديث -: لفظ مسلم"، وكذا في "الإلمام" للمؤلف (ق 2/ ب) قال: "لفظ مسلم"، قلت: ولعل قوله: "لفظ مسلم" هو المراد؛ لما ذكره في الوجه الثالث في هذا الحديث، وهو اختلاف لفظ غير مسلم، عن لفظ مسلم، فكلام ابن دقيق رحمه الله دقيق، والله أعلم. (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "ذكرنا".

فأمَّا أبو هُرَيْرَةَ: فقد تقدم التعريفُ به، والذي نزيده هاهنا مما يتعلَّق به ما رواه محمد بن سعد الكاتب قال: [حدثنا عارم بن الفضلِ قال: ثنا حماد بن زيد، عن عباس (¬1) الجُريري قال: سمعت أبا عثمان النَّهدي قال] (¬2): تَضيَّفت أبا هريرة سبعاً، فكانوا يتناوبون الليلَ أثلاثًا، ثلثاً هو، وثلثاً امرأتُهُ، وثلثاً خادمُهُ. قال: وقلت لأبي هريرة: كيف تصومُ يا أبا هريرةَ؟ قال: أما أنا فإني أصوم في الشهر ثلاثاً، فإنْ حَدَثَ حدثٌ كنتُ قد قضيته (¬3). وأما مُسْلِم رحمة الله عليه: فهو أبو الحسين مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القُشيري النَّيسابوري، أحدُ الأئمة في هذه الصناعة، والفائزين بالربح في هذه البضاعة، وقد أَعظمَ الله تعالى به النفعَ للمسلمين، ورفع له وللبخاري ذِكْراً صالحاً في الغابرين (¬4)، وجعل أفئدة المسلمين (¬5) بعدهما تَهْوي إليهما، وربط قلوبَهم على الوثوق بهما، والاعتمادِ عليهما، ذلك فضلُ الله يُؤْتيه من يشاء، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ. ¬

_ (¬1) في الأصل "الغياضي"وهو خطأ. (¬2) سقط من "ت". (¬3) لم أقف عليه في المطبوع من "الطبقات الكبرى" لابن سعد. وقد رواه البخاري (5125)، كتاب: الأطعمة، باب: الرطب بالقثاء، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 353)، من طريق حماد بن زيد، به. ولفظ الإمام أحمد أقرب إلى اللفظ الذي ساقه المؤلف رحمه الله. (¬4) " ت": "للغابرين". (¬5) في الأصل: "في المسلمين"، وفي "ب": "من المسلمين"، والتصويب من "ت".

قال أبو علي الحسينُ بن علي النيسابوريُّ: ما تحتَ أديمِ السماء كتابٌ أصحُّ من كتاب مسلم بن الحجاج (¬1). وذكر الحاكمُ أبو عبد الله محمدُ بن عبد الله النيسابوري: [أنَّ] (¬2) الحسينَ بنَ منصور قال: سمعت إسحاقَ بنَ إبراهيم الحنظليَّ يقول - وقد نظر إلى مسلم بن الحجاج -: مرد كابن برد (¬3) (¬4). قال الحاكم: قرأت بخط أبي عمرو الْمُسْتَمْلِي، سمعت أبا أحمد محمدَ بن عبد الوهاب يقول، وذكر حديثاً عن الحسين بن الوليد في مَسِّ الذَّكَر، فقال: كان مسلمُ بن الحجاجِ يُعجبه هذا الحديثُ، ويراه، ويأخذ به، وكان مسلم بن الحجاج من علماء الناس وأوعية العلم، ما علمت عليه إلا خيراً، وكان بَرًّا - رحمه الله تعالى - بأبيه، وكان أبوه الحجاجُ بن مسلم من مشيخة أبي، رضي الله عنهما (¬5). وقال: سمعتُ أبا عبد الله محمد بن يعقوب غيرَ مرّةٍ يقول: إنما أخرجتْ نيَسابورُ هذه من رجال الحديث ثلاثةً: محمد بن يحيى، ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 101)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 92)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 447). (¬2) في الأصل: "أبا"، و"ت": "أبو"، وكلاهما خطأ، وفي "ب": "أن أبا"، وهو خطأ أيضًا، والتصويب من "معرفة علوم الحديث". (¬3) "ت": "من راك بن بود". (¬4) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 78)، ومن طريقه: الخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 101 - 102)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 448)، قال أبو بكر المنكدري شيخ الخطيب: وتفسيره: أي رجل كان هذا. (¬5) ورواه من طريق الحاكم: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 89).

ومسلم بن الحجاج، وإبراهيم بن أبي طالب (¬1) (¬2). وقال: حدثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم قال: سمعت أحمدَ ابن سلمة (¬3) يقول: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدِّمان مسلمَ بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما (¬4). وقال: قرأت بخط أبي عمرو المُسْتَملي: أملى علينا إسحاق بن منصور سنةَ إحدى وخمسين ومئتين، ومسلمُ بن الحجاج ينتخبُ (¬5) عليه، وأنا (¬6) المستملي، فنظر إسحاق بن منصور إلى مسلم فقال: لنْ يُعدَمَ الخيرُ ما أبقاكَ اللهُ للمسلمين (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": "طاهر"، والصواب ما أثبت كما في "ت". (¬2) ورواه من طريق الحاكم: ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (58/ 91). (¬3) في الأصل و"ب": "مسلمة"، والصواب ما أثبت كما في "ت". (¬4) ورواه من طريق الحاكم: ابن عساكر في "تاريخ دمشق " (58/ 89)، وابن الصلاح في "صيانة صحيح مسلم" (ص: 61). ورواه (الخطيب) في "تاريخ بغداد" (13/ 101)، ومن طريقه: ابن نقطة في "التقييد" (ص: 447)، وابن العطار رشيد الدين في "غرر الفوائد المجموعة" (ص: 328 - 329). (¬5) "ت":"يبحث". (¬6) في الأصل: "وأبا"، والتصويب من"ت". (¬7) ورواه من طريق الحاكم: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 88). قلت: قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (12/ 562): ذكر الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" مسلماً؛ بناء على سماعه من محمد بن خالد السكسكي فقط، والظاهر أنه لقيه في الموسم، فلم يكن مسلم ليدخلْ دمشق فلا يسمع إلا من شيخ واحد، والله أعلم.

وقال الحاكم في ابتداء ترجمة مسلم بن الحجاج: مسلم بن الحجاج بن مسلم الإمام، أبو (¬1) الحسين القُشَيري ثم النيسابوري، المقدَّم، الحجة في التمييز بين الصحيح والسقيم. وذكر الحاكمُ مصنفاتِهِ: كتاب "المسند الكبير على الرجال"، قال: وما أرى أنه سمعه منه أحد، [كتاب "الجامع الكبير" على الأبواب] (¬2)، كتاب "الأسامي والكُنى"، كتاب "المسند الصحيح"، كتاب "التمييز"، كتاب "العلل"، كتاب "الوحدان"، كتاب "الأقران"، كتاب "سؤلات أحمد بن حنبل"، كتاب "الانتفاعِ بأهب السباع (¬3) "، كتاب "عمرو بن شعيب"، قال: يذكر كلَّ من يُحتَجُّ بحديثه وما الخطأ (¬4) فيه، كتاب "مشايخ مالك بن أنس"، كتاب "مشايخ الثوري"، كتاب "مشايخ شعبة"، كتاب "من ليس له إلا راوٍ واحد من رواة الحديث"، كتاب "المخضرمين"، كتاب "أوهام المحدثين"، كتاب "تفضيل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كتاب "طبقات التابعين"، كتاب [أفراد السامعين [من الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬5) "، [كتاب "المعرفة] (¬6) "، كتاب "ما أخطأ [فيه] (¬7) معمر". ¬

_ (¬1) في الأصل: "أبوه"، والتصويب من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في النسخ الثلاث: "السماع"، والصواب ما أثبت. (¬4) "ت": "أخطأ". (¬5) سقط من "ت". (¬6) ما بين معكوفتين جاء في "ت" بعد قوله: "كتاب طبقات التابعين". (¬7) زيادة من "ت".

الوجه الثاني: في مخرجه [ومخرجه]

وكانت وفاة مسلم - رحمه الله تعالى - عشيةَ [يوم] (¬1) الأحد، ودفن يوم الإثنين سنةَ إحدى وستين ومئتين، رحمه الله تعالى (¬2). * * * * الوجه الثاني: في مَخْرَجه [ومُخَرِّجه] (¬3): (و) (¬4) هو مرويٌّ من حديث أبي هريرة من غيرِ ما وجهٍ، وقد أخرجه البخاريُّ ومسلم والنسائي. فأخرجه البخاري من حديث شُعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، باسناد حديث قدَّمه عليه (¬5)، ثم قال: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) * مصادر الترجمة: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 182)، "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 78)، "تاريخ بغداد" للخطيب (13/ 100)، "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (3/ 825)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (58/ 85)، "التقييد" لابن نقطة (ص: 446)، "صيانة صحيح مسلم" لابن الصلاح (ص: 55)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 395)، "وفيات الأعيان" لابن خلكان (5/ 194)، "تهذيب الكمال" للمزي (27/ 499)، "سير أعلام النبلاء" (12/ 557)، "تذكرة الحفاظ" (2/ 588)، "الكاشف" ثلاثتها للذهبي (2/ 258)، "تهذيب التهذيب" (10/ 113)، "تقريب التهذيب" كلاهما لابن حجر (تر: 6623)، "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 264)، "المقصد الأرشد" لابن مفلح (3/ 31) وغيرها. (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون السابقون".

وبإسناده قال:"لا يبولن أحدُكم في الماء [الدائم] (¬1) , ثمَّ يغتسل فيه (¬2) " (¬3). وأخرجه مسلم من حديث جرير، عن هشام، عن محمد - هو ابن سيرين -، عن أبي هريرة، ولفظه: "لا يَبولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ، ثمَّ يَغتسِلُ منه (¬4) " (¬5). وأخرجه النسائي من حديث يحيى بن عَتَيق (¬6)، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، ولفظه كذلك: "لاَ يَبولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ، ثمَّ يَغتسِلُ منه" (¬7). ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن إسماعيل بن يحيى [و] (¬8) قال: كان (¬9) يعقوبُ لا يحدث بهذا الحديث إلا بدينار (¬10). ورواه أيضاً من حديث عوف، عن محمد، عن أبي هريرة، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت":"منه". (¬3) تقدم تخريجه قريباً. (¬4) "ت": "فيه". (¬5) تقدم تخريجه قريباً. (¬6) يحيى بن عَتيق: بفتح العين المهملة، وكسر التاء باثنين من فوقها، وآخره قاف. كذا ضبطه المؤلف في "الإمام" (1/ 198). (¬7) تقدم تخريجه قريباً. (¬8) سقط من "ت". (¬9) "ت": "وكان". (¬10) كما تقدم تخريجه قريباً.

الوجه الثالث: في الاختيار

ولفظه: "لاَ يَبولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ ثمَّ يتوضأُ منه". قال عوف: وقال خِلاسٌ، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَه (¬1) * * * * الوجه الثالث: في الاختيار: نُقدّم عليه مقدمةً وهي: أنَّ أهل الحديث إذا قالوا في حديث: أخرجه فلان وفلان مثلاً، أو رووه من غير جهة الكتب المشهورة وقالوا: أخرجه فلان، فإنما يعنون بذلك تخريج أصل الحديث دون آحادِ الألفاظ والحروف. وينبغي للفقيه المُستِدلِّ بلفظة من الحديث إذا نسَبَ الحديثَ إلى كتاب أن تكونَ تلك اللفظةُ التي تَدُلُّ على ذلك الحكمِ الذي اختاره موجودةً في ذلك الكتابِ بعينها، ولا يُعذَرُ في هذا كما يُعذر المحدثُ؛ لأنَّ صناعتَهُ تقتضي النظرَ إلى مدلول الألفاظ، وأكثرُ نظر المحدّث فيما يتعلَّق بالأسانيد ومخارج الحديث، والنظرُ في مدلول اللفظة المعينة خارج عن غرضه (¬2)، وهو مُتعلَّقُ غرضِ الفقيهِ عيناً، وعن هذا ينبغي أنْ تتفقَّدَ التراجمَ التي يذكرونها (¬3) في المصنفات، فإن دلَّت الترجمةُ على الحكم الذي يريد إثباتَه باللفظة المعينة، ثم قال: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريباً. (¬2) "ت": "الغرض به". (¬3) "ت": "تذكر فيها".

أخرجه فلان، ولم تكنْ تلك اللفظة التي هي عمدة دليله موجودةً في تلك الكتب، كان متسامحاً أو مخطئاً. إذا ثبت هذا فنقول: لما كان هذا الكتاب الذي نحن في شرحه كتاباً مقصودُه الاستدلالُ على الأحكام الفقهية، وكان مُتعلَّقُ نظرِ الفقهاء هو مدلولاتُ الألفاظ، وفيها تتفاوتُ رتبُهم ومفهوماتُهم، وجبَ أن نراعيَ اللفظَ الذي يُنسَبُ إلى الكتاب، وإنْ ذُكِر أنَّ غيره أخرجه معه، فالاعتمادُ على مَنْ نُسِبَ (إليه) (¬1) أولاً، أو (¬2) أضيفت النسبةُ إليه لفظاً. وقد اختلفتْ ألفاظُ هذا الحديث في الكتب المشهورة، ففي بعضها: "ثمَّ يغتسلُ منه"، وفي بعضها: "ثم يغتسل فيه"، وفي بعضها: "ثم يتوضأ منه"، ولم يمكن أن ننسبها نسبةً مطلقة إلى جميع الكتب التي خُرِّجت فيها؛ لاختلاف الألفاظ واختلاف مدلولاتها - وإن كانت متقاربةً [في] (¬3) المعنى -؛ لما ذكرناه، فذَكَرْتُ روايةَ مسلم - رحمه الله تعالى - واقتصرتُ على لفظها، ونَبَّهتُ بقولي: "لفظ مسلم" على اختلافٍ في لفظِ غيره. * * * ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت":"و". (¬3) سقط من "ت".

الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

* الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: الماء الدائم: هو الماء الراكد الذي لا يجري، وقد جاء في بعض الأحاديث: "الَّذِي لا يَجْرِي" (¬1)، وهو تفسيرٌ للدائم وإيضاح لمعناه، وقال بعضُهم (¬2): يَحتمِلُ أن يكونَ احترَزَ عن راكدٍ يجري بعضُهُ كالبِرَكِ ونحوِها. الثانية: إذا ثبت أنَّ الراكدَ هو الساكنُ غيرُ المتحرِّك، فمُقَابلُهُ وهو الجاري، يكون هو المتحرك، والشافعيةُ - رحمهم الله تعالى - استنبطوا من الحكم المتعلق بالراكد معنى اقتضى أن يُحكَمَ في بعض ما هو متحرك حسًّا أنه في حكم الراكد، وذلك أنهم جعلوا العلَّةَ في اتحاد حكم الراكد ترادَّهُ، بخلاف الجاري، ونشأَ عن (¬3) هذا: أنَّه لو كانُ الماءُ يستديرُ في بعض أطراف الحوض، ثم يشتدُّ في المنفذ، أنَّ له حكمَ [الماء] (¬4) الراكد، فإن الاستدارة في معنى التدافع، والترادُّ يؤيد على الركود. هذا هو المحكيُّ عن إمام الحرمين (¬5)، وسيأتي ما هو شبيهٌ بهذا. الثالثة: قولُه عليه الصلاة والسلام: "لاَ يَبولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ، ثمَّ يَغتسِلُ منه". ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه عند البخاري برقم (236)، ومسلم برقم (282/ 96). (¬2) هو الإمام النووي كما في "شرح مسلم" له (3/ 187). (¬3) "ت": "من". (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "الوسيط "للغزالي (1/ 187)، و "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 203).

[فيه] (¬1) نهيٌ عن شيئين، والنهيُّ عن الشيئين تارةً يكون على الجمع، وتارةً يكون عن الجمع: أما النهيُ على الجمع فيقتضي المنعَ من كلِّ واحد منهما. وأما النهي عن الجمع فمعناه: المنعُ من فعلهما معاً بقيد الجَمْعِيَّة، ولا يَلزَمُ (منه) (¬2) المنعُ من أحدهما، إلا (¬3) مع الجَمْعِيَّة، فيمكنُ أن يُفْعَلَ أحدُهما من غير أن يُفْعَلَ الآخرُ. والنهيُ عن الجمع مشروطٌ بإمكان الانفكاك بين الشيئين، والنهي على الجمع مشروط بإمكان الخلو عن الشيئين، والنهي على الجمع منشؤه أن يكونَ في كل واحد منهما مفسد تستقل بالمنع، والنهي عن الجمع حين تكون المفسدةُ ناشئةً عن اجتماعهما. [و] (¬4) إذا ثبت هذا، فهذا الحديث الذي نحن فيه من باب النهي عن الجمع؛ أي: لا يُجمع بين البولِ في الماء الراكد والاغتسالِ منه. والروايةُ التي يأتي ذكرها من حديث محمد بن عجلان: "لاَ يَبولَنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ، ولا يَغتسِلُ فيه" نهيٌ على الجمع (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "لا"، والتصويب من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "عن الجمع"، وجاء في هامشها: "لعله: على الجميع". (¬6) نقل هذه القاعدة عن الإمام ابن دقيق: الفاكهاني في "رياض الأفهام" (ق 9) عند شرح الحديث الخامس، والزركشي في "البحر المحيط" (3/ 379).

الوجه الخامس: في شيء من العربية

* الوجه الخامس: في شيء من العربية: قال الشيخ أبو العباس أحمدُ بن عمرَ بن إبراهيم القُرطبي في كتاب "المُفْهِم": الرواية الصحيحة "يغتسلُ" برفع اللام، ولا يجوز نصبها، إذ لا يُنتصَب (¬1) بإضمار (أن) بعد (ثم)، وبعض الناس قيَّده (¬2) "ثم يغتسل" مجزومَ اللام على العطف على "يبولن"، وهذا ليس بشيء، إذ لو أراد ذلك لقال: "ثم لا يغتسلَنَّ"؛ لأنه إذ ذاك يكون عطفَ فعلٍ على فعل، لا عطفَ جملةٍ على جملة، وحينئذٍ يكون الأصلُ مساواةَ الفعلين في النهي عنهما، وتأكيدهِما بالنون الشديدة، فإنَّ المحلَّ الذي تواردا (¬3) عليه هو شيء واحد، وهو الماء، فعدُولُه عن "ثمَّ لا يغتسلنَّ" إلى "ثم (¬4) يغتسل" دليلٌ على أنه لم يُرِد العطف، وإنما جاء "ثم يغتسل" على التنبيه على مآل الحال، ومعناه: أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه، فيمتنع عليه استعماله لما أوقع فيه من البول. قال: وهذا مثلُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يضربْ أحدُكم امرأتَهَ ضربَ الأمة، ثمَّ يضاجِعُها" (¬5) برفع (يضاجعُها)، ولم يروه أحد بالجزم، ¬

_ (¬1) "ت": "ينصب". (¬2) "ت":" وقيده بعض الناس". (¬3) في الأصل، وكذا المطبوع من "المفهم": "توارد"، والتصويب من "ت". (¬4) "ت": "ولا". (¬5) رواه البخاري (4658)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]، ومسلم (2855)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، والإمام أحمد في "المسند" =

ولا يتخيَّلُه فيه؛ لأن المفهوم منه (¬1): [أنه] (¬2) إنما نهاه عن ضربها؛ لأنه يحتاج إلى مُضَاجعتها في ثاني حال، فيمتنع عليه ما شاءه بما أساء من معاشرتها، ويتعذرُ عليه المقصودُ لأجل (¬3) الضرب، وتقدير اللفظ: (ثم هو يضاجعها)، و (ثم هو يغتسل)، انتهى ما ذكره (¬4). وفي بعض إطلاقاته هذه نظرٌ (¬5)، وهذا المعنى الذي ذكره يقتضي أنه كالتعليل للنهي عن البول في الماء الراكد، لا عن الغسل منه، ويكون النهيُ عن الغسل [منه] (¬6) ليس من مدلول اللفظِ مباشرةً، بل من مدلولاته إلْزاماً، من حيثُ إنه لو لم يكن البول فيه مانعاً من الغسل أو الوضوء منه، لما صحَّ تعليلُ النهي عن البول فيه بأنه سيقعُ منه الغسلُ فيه، لكنَّ التعليلَ صحيحٌ على حَسَبِ ما اقتضاه الكلامُ عنده، فوقع النهي عن الغسل منه بعد البول بطريق الالتزام؛ لأنه لازم لصحة ¬

_ = (4/ 17)، من حديث عبد الله بن زمعة - رضي الله عنه - بلفظ: "علامَ يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد؛ ثم يضاجعها من آخر الليل"، واللفظ لأحمد. (¬1) "ت": "فيه". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "من أجل". (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 541 - 542). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 347) وما أورده من تعقب على كلام القرطبي. وقد نقل السفاريني في "كشف اللئام" (1/ 73) عن ابن رجب في بعض تعاليقه نحواً مما قاله القرطبي، رحمهم الله أجمعين. (¬6) سقط من "ت".

التعليل، وفي تعيين هذا المعنى - الذي ذكره لأنْ يُحَملَ عليه اللفظُ - نظرٌ. وذكر الشيخ أبو زكريا النواوي رحمه الله تعالى: أن الرواية "يغتسلُ" مرفوعٌ؛ أي: لا تبل ثم أنتَ تغتسل منه (¬1)، في كلامه (على) هذا الحديث الذي لفظه: "لاَ تبلْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي، ثُمَّ تَغْتَسِلُ مِنْهُ" (¬2). قال: وذكر شيخُنا أبو عبد الله بن مالك: أنه يجوز أيضاً جزمُهُ عطفاً على "يبولن "، ونصبُه بإضمار (أن) بإعطاء (ثم) حكمَ واو الجمع (¬3). قال النواوي: فأما الجزم فظاهر، وأما النصب فلا يجوز؛ لأنه يقتضي أن المنهيَّ عنه الجمع بينهما، دونَ إفرادِ أحدهما، وهذا لم يقلْه (¬4) أحد، بل (¬5) البول منهيّ عنه؛ سواءٌ أراد الاغتسال فيه، أو منه، أو لا، والله أعلم (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "ثم تغتسل أنت فيه". (¬2) هو رواية مسلم المتقدم تخريجها برقم (282/ 96). (¬3) انظر: "شواهد التوضيح" لابن مالك (ص: 220). (¬4) "ت": "يقل به". (¬5) "ت": "لأن". (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 187). قال الفاكهاني: في "رياض الأفهام" (ق 9/أ) فقد رأيت موافقته - أي: النووي - في جواز الجزم لابن مالك، وهو ضعيف، كما قاله القرطبي آنفًا.

الوجه السادس: في ذكر القواعد والمقدمات المحتاج إليها في الكلام على الحديث واستنباط فوائده

وهذا التعليل الذي عللَ به امتناعَ النصب ضعيفٌ؛ لأنه ليس فيه أكثرُ من كون هذا الحديث لا يتناولُ النهيَ عن البول في الماء الراكد بمفرده، وليس يلزم أنْ يُدَل على الأحكام المتعددة بلفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر (¬1)، والله أعلم. * * * * الوجه السادس: في ذكر القواعد والمقدمات المحتاج إليها (¬2) في الكلام على الحديث واستنباط فوائده: أولها: أنَّ القياسَ في معنى الأصل حجةٌ شرعية. وثانيها: أنَّ المفهومَ هل هو حجة أو لا؟ وثالثها: أنَّ المفهومَ هل يُخصِّصُ العمومَ أو لا؟ ورابعها: حكمُ العمومين إذا عارض كل واحد منهما صاحبَهُ من وجه. وخامسها: أنَّ اللفظ العامَّ هل يُستنبَطُ منه معنى يعود عليه بالتخصيص. ¬

_ (¬1) وهو ما رواه مسلم (281)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن يبال في الماء الراكد. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 347). (¬2) "ت":" الذي يحتاج" بدل قوله: "المحتاج إليها".

وسادسها: استعمالُ اللفظ الواحد في معنيين مختلفين. وسابعها: ذكر حديث القلتين والكلام في تصحيحه (¬1)، وطريق (¬2) الاستدلال به. وسيأتي وجهُ الحاجة إلى هذه القواعد في المباحث إن شاء الله تعالى، وإنما أدخلنا حديثَ القُلَّتين في ذلك؛ لأن بعض العلماء قد خصَّصَ عمومَ هذا الحديثِ به، فلابدَّ في تمام البحث من ذكره. فأما حديث القلتين: فقد بسطنا القول فيه (¬3) في كتاب "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" (¬4)، والذي نلخصه هاهنا أنه يُعترَضُ على التمسك به من [حيثُ] (¬5) جهة الإسناد والمتن جميعاً، والمشهور من طرقه ثلاثة: أحدها: رواية الوليد بن كثير، ثم رواية أبي أسامة عنه، وقد اختلف فيه، ولفظه من جهة محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: سئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ الماءُ قُلَّتين لمْ يَحملِ الخَبَثَ"، وهذا عند أبي داود (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "تخصيصه". (¬2) "ت": "صحة". (¬3) "ت": "فيه القول". (¬4) انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 199). (¬5) سقط من "ت". (¬6) رواه أبو داود (63)، كتاب: الطهارة، باب: ما ينجس الماء، والنسائي (52)، =

وثانيها: رواية حماد بن سلمة، عن عاصم بن المنذر (¬1)، عن عبيد الله بن عبد الثه بن عمر قال: حدثني أبي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانَ الماءُ قُلَّتين، فإنَّه لا يَنْجُسُ" (¬2). وثالثها: رواية ابن إسحاق، وهو مروي عنه من طرقٍ منها: روايته عن محمد بن جعفر بن الزبير (¬3). ومنها: روايته عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة، وفيه: "مَا (¬4) بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، لَمْ يُنَجّسْهُ شَيْءٌ" (¬5). ¬

_ = كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في الماء، وغيرهما من طريق أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، به. (¬1) في الأصل: "منذر"، والمثبت من "ت". (¬2) رواه أبو داود (65)، كتاب: الطهارة، باب: ما ينجس الماء، وابن ماجه (518)، كتاب: الطهارة، باب: مقدار الماء الذي لا ينجس، وغيرهما من طريق حماد بن سلمة، به. (¬3) رواه أبو داود (64)، كتاب: الطهارة، باب: ما ينجس الماء، من طريق حماد بن سلمة ويزيد بن زريع، والترمذي (67)، كتاب: الطهارة، باب: منه آخر، من طريق هناد، عن عبدة، وابن ماجه (517)، كتاب: الطهارة، باب: مقدار الماء الذي لا ينجس، من حديث يزيد بن هارون وابن المبارك، كلهم من طريق ابن إسحاق، به. (¬4) "ت": "إذا". (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 21)، من طريق محمد بن وهب السلمي، عن ابن عياش، عن ابن إسحاق، عن الزهري، به. قال الدارقطني: والمحفوظ: =

وعنه إسناد آخر عن الزهري (¬1). فالاعتراض من جهة الإسناد، والاختلاف من رواية الوليد، فتارةٌ عنه، عن محمد بن عَبَّاد بن جعفر، وتارةً عن محمد بن جعفر بن الزبير (¬2)، والاختلاف عنه في ذلك موجود في رواية الحفاظ، والاضطرابُ أحد أسباب الضعف. وأيضا فقد اختُلِفَ في روايته عن عبد الله بن عمر فقيل: عن [عبد الله] بن عبد الله، وقيل: عن عبيد الله بن عبد الله (¬3). واختُلِفَ في المتن فقيل في حديث حماد: "قلتين" (¬4)، كما ¬

_ = عن ابن عياش، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. وقد أشار إلى هذا الاختلاف على ابن عياش: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 261). (¬1) وهو ما رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 21)، من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. (¬2) من الحفاظ من صوّب رواية محمد بن عباد بن جعفر، كما ذهب إليه أبو داود في "سننه"، ومنهم من ذهب إلى رواية محمد بن جعفر بن الزبير، كما نقل ابن أبي حاتم عن أبيه في "العلل" (1/ 44)، ومنهم من دلَّل على صحة الروايتين جميعًا؛ كالدارقطني في "سننه" (ص: 17)، وما بعدها، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 265). وانظر: "الإمام" للمؤلف رحمه الله (1/ 201 - 253). (¬3) انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 204 - 207)، وما ساقه عن ابن منده والبيهقي. (¬4) تقدم تخريجه قريباً.

ذكرناه، وقيل: "قلتين، أو ثلاثًا" (¬1)، ورُوِي حديث من وجه آخر غير هذا الوجه فيه: "أربعون قلة" (¬2)، وآخر من وجه آخر: "إذا زادَ الماءُ على قُلَّتين أو ثلاثٍ فإنه لا يَنْجُسُ" (¬3). وأيضًا فقد اختُلف في الرفع والوقف: فرواه حمادُ بن سلمة مرفوعا كما قدمناه، وخالفه حماد بن زيد فروى عن عاصم بن المنذر - شيخِ حماد بن سلمة -، عن عبيد الله ابن عبد الله، (¬4)، عن أبيه موقوفًا غيرَ مرفوع. ورواه إسماعيل بن عُليَّة، عن (¬5) عاصم بن المنذر المذكورِ، عن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريباً عن أبي داود وابن ماجه. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 26)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 473)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 34)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 262)، من طريق القاسم بن عبد الله العمري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وإسناده واه، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الدراية" (1/ 56). والصحيح أنه من قول ابن عمر رضي الله عنهما، وانظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 212 - 213). (¬3) لم يورد المؤلف رحمه الله في "الإمام" في كلامه عن طريق وألفاظ الحديث هذا اللفظ، وكذا غيره من المتكلمين عن الحديث كالدارقطني والبيهقي والزيلعي وابن حجر وغيرهم. فإما أن يكون ثمت خطأ في نقل ما أراده المؤلف، أو يكون قد أخذ هذا اللفظ من أحد المصنفات الحديثية التي لم تصل إلينا، وهو رحمه الله كثير الموارد فيما يريد قصده، والله أعلم. (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "و".

رجل - لم يسمِّهِ -، عن ابن عمر موقوفاً أيضاً (¬1)، إلى غير ذلك من الاختلاف. وهذه الوجوه التي ذكرناها يمكنُ على طريقة الفقهاء أنْ يُسلَكَ فيها طريقٌ يُفضي إلى التصحيح، وهو أنْ يُنْظَر إلى هذه الاختلافات الواقعة فيه إسنادًا ومتناً، فيُسقَطَ منها ما كان ضعيفًا إذ لا يُعَلَّلُ القويّ بالضعيف، وينظرَ فيما رجالُهُ ثقاتٌ، فما وقع في بعضه شكٌّ طُرِح، وأُخِذَ ما لم يقع فيه شك من رواية، وما وقع فيه من اختلاف يمكن الجمع فيه جُمع، كالرواية التي فيها من جهة إسماعيل بن عُليَّة، عن عاصم، عن رجل - لم يسمه -، فإنه يمكن أن يكونَ ذلك الرجل الذي لم يسمه (¬2) في هذه الرواية هو المسمَّى في غيرها، وما كان من اختلاف لم يَضُرَّ، لم يُعلَّل به، كالاختلاف بين محمد بن عبَّاد بن جعفر ومحمد بن جعفر بن الزبير، فإنه إن كان الحديثُ عنهما معا فقد أمكن الجمعُ، وإن كان اضطرابا من الرواة (¬3)، والحديثُ عن أحدهما مع جهالة عينه، فإذا كانا معًا ثقتين لم يضرَّ؛ لأنا كيف ما انقلبنا انقلبنا إلى [ثقة] (¬4) عدل، ولا يضرّنا جهالةُ عينه. وكذلك يقال في الاختلاف الواقع بين عبيد الله بن عبد الله بن ¬

_ (¬1) من قوله: "وخالفه حماد بن زيد" إلى هنا، نص كلام الدارقطني في "سننه" (1/ 21). (¬2) "ت": "يسم". (¬3) "ت": "الرواية". (¬4) زيادة من "ت".

عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر. وأما الاختلافُ الواقع في الرفع والوقف (¬1)، فإن صحَّ فالرفعُ يقدَّمُ على ما قرَّرَهُ اْهلُ الأصول، فهذا طريق يمكن أن يُذكَرَ في التصحيح على طريقة الفقهاء والأصوليين (¬2). ¬

_ (¬1) "ت": "الوقف والرفع". (¬2) قال الحافظ ابن حجر في "الدراية" (1/ 55): وقد أطنب الدارقطني - يعني في "السنن" (1/ 13) - في استيعاب طرقه، وجوَّد ابن دقيق العيد في "الإمام" (1/ 199) في تحرير الكلام عليه. وقال الزيلعي فيا نصب الراية" (1/ 104): وقد أجاد الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في كتاب: "الإمام" جمع طرق هذا الحديث، ورواياته، واختلاف ألفاظه، وأطال في ذلك إطالة تلخص منها تضعيفه له، فلذلك أضرب عن ذكره في كتاب: "الإلمام" مع شدة احتياجه إليه، وأنا أذكر ما قاله ملخصاً محرراً، وأبين ما وقع فيه من الاضطراب لفظاً ومعنى. ثم ذكر الزيلعي كلام ابن دقيق بطوله. ونقل الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 18)، عن ابن دقيق قوله: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنه وإن كان مضطرب الإسناد، مختلفا في بعض ألفاظه، فإنه يجاب عنها بجواب صحيح؛ بأن يمكن الجمع بين الروايات، ولكني تركته؛ لأنه لم يثبت عندنا بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعاً تعيين مقدار القلتين، انتهى. قلت: هذا ما وصل إليه اجتهاد الإمام ابن دقيق في هذا الحديث بعد إجادة في الكلام عنه عزَّ نظيرها في الأعصار المتأخرة، وبعد بذل جهد لا يتأتى إلا من أهل الرسوخ والعلم المتين، فرحم الله امرءاً عرف قدرهم وحمل اجتهاداتِهم على محمل التبصر والتأمل. وبعد: فهذا الحديث قد صححه الجم الغفير من علماء الأمة، قال الخطابي في "معالم السنن" (1/ 36): وكفى شاهداً على صحته: أن نجوم الأرض من أهل الحديث قد صححوه، وقالوا به، وهم القدوة، وعليهم المعول في هذا الباب.

وقد حكم الفقيهُ الحافظُ أبو جعفر الطحاوي الحنفي - رحمه الله تعالى - بصحة الحديث، ولكنه اعتلَّ في ترك العمل به بوجه نذكره، وهو المشكل في هذا المقام، وذلك أنَّ العملَ به موقوفٌ على معرفة مقدار القلتين المعلَّقِ عليهما الحكم (¬1)، والقلة لفظ مشترك، وبعد صرفها إلى أحد مفهوماتها، وهي الأواني، تبقى مترددةً بين الكبار والصغار حتى تتناول الكوز وتتناول الجرة (¬2)، وقد فسرها بها بعضُ السلف؛ أعني: بالجرة، ومع التردد يتعذَّرُ العمل. وأجيب عن هذا بوجهين: أحدهما: أنَّ جعلَهُ مقدَّراً بعدد منها يدلُّ على أنه أشار إلى أكبرها؛ لأنه لا فائدةَ بتقديره بقلتين (¬3) صغيرتين، وهو يقدر على تقديره بواحدة (¬4) كبيرة. والجواب الثاني: أنه قد وردَ تقديرُهُ بقِلال هَجَر، وهي معلومة، ولهذا ذكرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مَعرِض التعريف لمَّا ذَكرَ سدْرة المنتهى (¬5)، ولا يعرَّف إلا بمعروف. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 16). (¬2) "ت": "حتى تتناول الجرة والكوز". (¬3) "ت": "قلتين". (¬4) "ت": "بقلة". (¬5) رواه البخاري (3535)، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، من حديث مالك بن صعصعة - رضي الله عنه - في حديث طويل وفيه: "ورفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبَقها كأنه قلال هَجَر. . " الحديث.

قال الشافعي - رضي الله عنه -: أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن جُرَيْج بإسناد لا يحضرني ذكرُه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا كَانَ الْمَاء قُلَّتينِ لَمْ يَحْمِل خَبَثًا" وقال في الحديث: "بِقِلاَلِ هَجَرَ". قال ابن جريج: وقد رأيت قِلال هجر، فالقلة تَسَعُ قربتين، أو قربتين وشيئاً (¬1). وهذا فيه أمورٌ: أحدها - وهو أخفها -: أن مسلم بن خالد قد ضُعِّفَ، فعن علي ابن المديني أنه قال فيه: ليس بشيء (¬2)، وقال أبو حاتم: ليس بذاك القوي، منكر الحديث لا يُحتَجُّ به، تَعرِفُ وتُنْكِرُ (¬3). وإنما جعلنا هذا الوجهَ أخفَّها؛ لأنه كان فقيهَ مكةَ، وعالماً (¬4) مشهوراً، قال ابن أبي حاتم: مسلمٌ الزَّنْجِي إمام في الفقه والعلم (¬5)، وقال إبراهيم الحربي: كان فقيهَ أهلِ مكةَ (¬6)، وقد وفقه يحيى بن معين في رواية (¬7)، وقال أحمد بن محمد بن الوليد: كان فقيهاً [و] (¬8) عابداً، ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 165)، وفي "الأم" (1/ 4)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 263)، وفي "معرفة السنن" (2/ 90). (¬2) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 260). (¬3) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ - 183). (¬4) "ت": "وعالمها". (¬5) رواه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" (2/ 73). (¬6) رواه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" (2/ 74). (¬7) انظر: "تاريخ ابن معين - رواية الدوري" (3/ 60). (¬8) سقط من "ت".

يصوم الدهر (¬1)، وبعض من صنف الصحيحَ من المتأخرين يذكر روايته في صحيحه (¬2). ومنها: أنَّ قولَه: وقال في الحديث "بِقِلاَلِ هَجَرَ": مترددٌ بين أن يكون المراد بكونه في الحديث أنه مسندٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين أن يكون ذلك من (¬3) قول بعض الرواة من غير أن يكون مسنداً، فإنه يَصِحُّ في مثل هذا أن يقال: وقال في الحديث كذا. فنظر في رواية ابن جريج، [ووجد وجهاً آخر غير الوجه الذي لم يحضر الشافعيَّ ذكرُه] (¬4)، فوجد ابن جريج يقول: أخبرني محمد بن يحيى بن عُقيل، أخبره أن يحيى بن يَعْمَر، أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتينِ لَمْ يَحْمِل نجساً (¬5) ولا بأساً"، قال: فقلت ليحى ابن عُقيل: قِلال هجر؟ قال: قِلال هجر، قال: فأظن (¬6) أن كل قلة تحمل قربتين (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 499). (¬2) قلت: لم يذكر المؤلف رحمه الله في "الإمام" (1/ 215) عند كلامه على هذا الحديث تضعيف مسلم بن خالد، وإنما ذكر بدله: أن الإسناد الذي لا يحضره - يعني: الشافعي - مجهول الرجال، فهو كالمنقطع لا تقوم به حجة عند الخصم. (¬3) "ت": "في". (¬4) في الأصل: "من وجه آخر غير رواية الشافعي ذكره"، والمثبت "ت". (¬5) "ت": "خبثاً". (¬6) "ت": "أظن". (¬7) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 24)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" =

وروي من وجه آخر عن ابن جريج، قال محمد: قلت ليحيى بن عقيل: أي قِلال؟ قال: قِلال هجر، قال محمد: فرأيت قلال هجر، فأظن أن كل قلة تأخذ قربتين (¬1). فهذا الذي وُجِدَ عن ابن جريج يقتضي أن قائل: "قلال هجر" ليس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو يحيى بن عقيل. ويُعترَضُ على هذا بوجهين: أحدهما: أنَّ محمداً الراوي عن يحيى بن عقيل غيرُ معروف، وما يقال في الجواب عن هذا أن أبا أحمد قال: محمد هذا الذي حدث عنه ابن جريج هو محمد بن يحيى، يحدث عن يحيى بن أبي كثير، ويحيى بن عقيل (¬2). فهذا إنما يقتضي التعريف باسم أبيه، وبأنه يروي عن يحيى ويحيى، ولا (¬3) يكفي هذا في الاحتجاج به، بل لابدَّ من معرفة حاله. والاعتراض الثاني: أنَّ يحيى بن عقيل ليس بصحابي، وهو الذي فسرها (¬4) في هذه الرواية، ولا تقوم الحجةُ بقول يحيى إلا بعد ¬

_ = (1/ 263)، و"معرفة السنن" (2/ 91)، إلا أن عندهما: "تأخذ فرقين" بدل "تحمل قربتين". (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 264)، وفي "معرفة السنن والآثار" (2/ 91). (¬2) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 264). (¬3) "ت": "فلا". (¬4) "ت": "يفسرها".

ثبوت رفعه وروايته مسنداً، لاسيَّما مع مخالفة غيره له في التقدير. وقد جاء في هذا الحديث أنه قال في القُلَّتين: فأظن [أن] (¬1) كل قُلَّةٍ تحمل فَرَقين (¬2) في رواية، وفي أخرى: قربتين. فعلى الرواية الأولى: الفَرَق ستة عشر رطلاً، فيكون مجموع القلتين أربعة وستين رطلاً، وهذا لا يقول به مَنْ حدَّد القلتين مما زاد على ذلك (¬3). واعلم أنه قد ذُكِر [في] (¬4) حديث القلتين وتقديرُها بقلال هَجَر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير جهة ابن جريج من رواية المغيرة - وهو ابن سقلاب (¬5) - بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتينِ مِنْ قِلاَلِ هَجَرَ لم يُنْجِسهُ شيءٌ" (¬6). وهذا فيه أمران: أحدهما: أنَّ المغيرةَ هذا، وإن كان أبو حاتم يقول فيه: هو صالح الحديث (¬7)، وأبو زرعة يقول: هو جزري لا بأسَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) الفَرَق: مكيال بالمدينة، يسع ثلاثة آصع، ويقال: الفرْق، والأول أفصح. (¬3) انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 217). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) كذا في الأصل، و"ت". وقد جاء على هامش "ت": "صقلاب". (¬6) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 359)، قال ابن عدي: وقوله في هذا الحديث: "من قلال هجر" غير محفوظ، ولم يذكر إلا في هذا الحديث. (¬7) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 223).

به (¬1)، [فإنه] (¬2) قد تُكُلِّم فيه، قال ابن عدي: هو منكر الحديث، وذكر عن أبي جعفر بن نُفيل أنه قال فيه: لم يكنْ مؤتمناً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وثانيهما: أنه ذُكِرَ في هذا الحديث أنهما فَرَقان، والفَرَق كما قدمنا ستة عشر رطلاً، وفي وجه آخر: "والقُلَّةُ أربعةُ آصُع" (¬4)، وهذا لا يقول به مَن يَحُدُّ القلتين بأكثر. فإن قلتَ: ما ذكرتموه يقتضي اتفاقَ (¬5) العمل بالحديث من جهة عدم العلم (¬6) بقَدْر القلتين، ولا يجوزُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلِّقَ الحكمَ على أمر لا يبيّنه؟ قلتُ: هذا صحيحٌ لابدَّ منه إن كان الحديثُ صحيحاً؛ أعني: أنه لابد وأن يكون الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بيَّنه (¬7)، وليس يلزم من بيانه وصولُ ذلك البيان إلينا، فتكون الجهالة بالمقدار بالنسبة إلينا لا من جهة كونه لم ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "الكامل" لابن عدي (6/ 358). (¬4) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 359). قال ابن عدي: والمغيرة ترك طريق هذا الحديث وقال: عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، وكان هذا أسهل عليه. ومحمد بن إسحاق يرويه عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عمر. (¬5) كذا في الأصل و "ت"، ولعلها: "انتفاء". (¬6) "ت": "العمل". (¬7) "ت": "يبينه".

يقع مُبيَّنا في الأصل، وقد جاء في علم الأصول التوقفُ عند التعادل في نظر الناظر، فيكون هذا منه. وقد قال بعضُ الأصوليين سائلاً: فإن قيل: فهل يجوز أن يتعارضَ عمومان، ويخلو عن دليلِ الترجيح؟ قلنا: قال [قوم] (¬1): لا يجوز ذلك؛ لأنه يؤدي إلى التّهمة ووقوع الشّبهة وتناقف (¬2) الكلامين، وهو مُنَفرٌ (¬3) عن الطاعة والاتباع والتصديق. وهذا فاسد، بل ذلك (¬4) جائزٌ، ويكون ذلك مبيَّناً للعصر الأول، وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن والأدلة، ويكون ذلك محنةً وتكليفاً (¬5) علينا لطلب الدليل من وجه آخر، أو (¬6) ترجيح، أو تخيير، ولا تكليفَ في حقنا إلا بما بلغنا، وليس فيه مُحال، انتهى (¬7). فإن قلتَ: فيقتضي (¬8) هذا ضياعَ الحكم على الأمة، وذلك لا يجوز لحفظ الشريعة؟ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في "المستصفى" للغزالي، وعنه نقل المؤلف في هذا الموضع: "التناقض". (¬3) "ت": "مُنْتفٍ". (¬4) "ت": "ذاك". (¬5) "ت": "وتكليفات". (¬6) في "المستصفى": "من" بدل "أو". (¬7) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 255). (¬8) "ت": "فمقتضى".

الوجه السابع: في الفوائد والمباحث المتعلقة به، وفيه مسائل

قلتُ: لا نسلِّمُ ضياعَه على كل الأمة على تقدير الصحة للحديث؛ لجواز معرفةِ بعضِهم به، وإنما الكلام فيما يرجع إلينا بعد البحث، وإن صحَّ جزما أنه لم يعرفْهُ أحد من الأمة - ولا يجوز ضياعُه عليهم - لزم القول بعدم صحة الحديث؛ دفعا للمحذور المذكور، والله أعلم. * * * * الوجه السابع: في الفوائد والمباحث المتعلقة به، وفيه مسائل: الأولى: الماءُ إما أن يكونَ راكداً أو جارياً، فإن كان راكداً وحلَّت فيه نجاسةٌ لم تُغيِّره، فإما أن يكون مُستبحِراً كثيراً، أو دون ذلك، فإن كافي مستبحراً لم تؤثر فيه النجاسة، وإن كان دون ذلك ففيه مذاهب: أحدها: أنه لا يَنجُسُ إلا بالتغُّيرِ قليلاً كان أو كثيراً، ونُقِل ذلك عن بعض الصحابة، وهو مذهب الأوزاعي وداود (¬1)، وشهّره العراقيون عن مالك فاشتهر (¬2)، وهو قولٌ لأحمد بن حنبل نصره بعض المتأخرين من أتباعه، وعقد له مسألة خلافية في طريقته (¬3)، ورجَّحه أيضًا من أتباع الشافعي القاضي أبو المحاسن الروياني صاحب "بحر المذهب" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 31). (¬2) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 159). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (21/ 73). (¬4) للشيخ الإمام أبي المحاسن عبذ الواحد بن إسماعيل الروياني الشافعي، المتوفى سنة (502 هـ) كتاب: "بحر المذهب" في الفروع، وهو كاسمه، قال ابن الصلاح: هو في "البحر" كثير النقل، قليل التصرف والتزييف والترجيح. انظر: =

الثانية

وأما أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - وأتباعه، فإن الطحاوي - رحمه الله تعالى - قال في "مختصره": وإذا وقعت نجاسة في ماء ظهر فيه لونهُا أو طعمُها أو ريحُها (¬1)، أو لم يظهر ذلك فيه، فقد نجَّسَهُ؛ قليلاً كان الماء أو كثيراً، إلا أن يكون جارياً، أو حكمه حكم الجاري؛ كالغدير الذي لا يتحرك أحدُ طرفيه بتحرك سواه من أطرافه (¬2). وأما الشافعي - رحمه الله تعالى -، فإنه اعتبر القلتين وقال: إنه ينجس ما دونهما بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، وما كان [فيه] (¬3) قلتين أو أكثر لم ينجس إلا بالتغير عنده، وهذه رواية عن أحمد مرجحة عند جماعة من أتباعه في غير بول الآدمي وعُذرته المائعة، فأما هما فينجسان الماء وإن كان قلتين فأكثر على المشهور، ما لم يكثر إلى حيثُ لا يمكن نزحُه كالمصانع التي بطريق مكة (¬4). الثانية: قوله عليه السلام: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِيْ الْمَاءِ الدَّائِمِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ" عموم لابدَّ من تخصيصه اتفاقاً، فإن الماء المُسْتَبْحِر جداً ¬

_ = "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 552)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 226). (¬1) "ت": "طعمها أو لونها أو ريحها". (¬2) انظر: "مختصر الطحاوي" (ص: 16). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "المجموع" للنووي (1/ 162)، و"شرح الزركشي على الخرقي" (1/ 133)، و"الفروع" لابن مفلح (1/ 58). وهذه الفائدة قد نقلها الفاكهاني في "رياض الأفهام" (ق 9) في الحديث الخامس من شرحه على "العمدة".

لا يثبت فيه هذا الحكم، وقد حكينا عن الحنفي تخصيصَه في الغدير الَّذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الآخر، وعن الحنبلي تخصيصه بما لا يُمكن نزحُه كالمصانع التي بطريق مكة، والشافعي أيضًا: يخرج عنه القلتين فما زاد عليهما. فأما الحنفيةُ القائلون بأنَّ الماء الراكد ينجس بوقوع النجاسة فيه، فهو مقتضى العمل بالعموم، ومقتضى حملِ صيغة النهي على حقيقتها وهو التحريمُ، فإذا خرج منه (¬1) المستبحرُ، بقي اللفظ متناولًا ما عداه، ويحتاجون إلى تخصيصٍ آخرَ في الماء الَّذي وقع فيه الحدُّ المعتبر عندهم، وهو عدم تحرك أحد الطرفين [بتحرك الآخر] (¬2)، وهذا إنما أُخِذ من معنى فهموه، وهو سِرايةُ النجاسة في الماء، وأنَّ مع هذا التباعد - لا سِرايةَ، وهذا المقدار من الماء يدخل تحت العموم، فتخصيصه بهذا المعنى تخصيصٌ العامَّ بمعنى مُستنبطٍ منه يعود عليه بالتخصيص، وفيه كلام لأهل الأصول. وأما الشافعية رحمهم الله تعالى: فإنهم لما اعتمدوا حديث القلتين خصُّوا العامَّ به، وهو تخصيصٌ بمنطوق؛ لأن هذا الحديثَ الَّذي نحن نتكلم فيه عامٌّ في المنع من الاغتسال في كل ماء راكد بعد البول فيه، فيدخل تحته القلتانِ فما زاد، وقوله عليه السلام: "إِذَا بَلَغَ ¬

_ (¬1) "ت": "عنه". (¬2) سقط من "ت".

المَاءُ قُلَّتينِ لَمْ يَحْمِل خَبَثًا (¬1) " يقتضي بمنطوقه أنَّ هذا القدرَ لا يمتنع الغسلُ به بعد وقوع النجاسة فيه، وهو أخص ذلك العام الأول، وهذا مبنيٌ على أنَّ قوله عليه السلام: "لمْ يَحملِ الخَبَثَ" محمولٌ على أنه يدفع الخبث عن نفسه لكثرته، وهو الظاهر. وقول المخالف لهذا المذهب: إنه يَحتمِلُ أن يكونَ كقولهم: فلان ضعيف لا يحمل كذا، فيكون إشعارًا بأن (¬2) هذا المقدار لا يحمل الخبث؛ أي: لا يطيقه ولا يدفعه عن نفسه لقلته، [بعيدٌ] (¬3) ضعيفٌ، يبعده السياقُ وتدفعه الروايةُ التي فيها: "إذا كانَ الماءُ قُلَّتين، فإنَّه لا يَنْجُسُ"، فيتعيَّنُ على مَنْ أراد نفيَ هذا التخصيصِ أن يُبيِّنَ تعذُّرَ العملِ بحديث القلتين. وأما ما ذكرناه عن الحنبلية: فطريقٌ تقديره أن يقال: حديثُ القلتين خاصٌّ في المقدار، عامٌّ في الأنجاس، وهذا الحديث الَّذي نحن فيه عامٌّ بالنسبة إلى المقدار، خاصٌّ بالنسبة إلى الأنجاس؛ لكونه ذكر فيه بول الإنسان دون سائر النجاسات، فإذا كان الواقعُ غيرَ بول الآدمي في القلتين فما زاد، حُكِمَ بطهارته عملًا بحديث القلتين، وإذا (¬4) كان الواقع في هذا المقدار بولَ الآدمي، حكم بنجاسته عملًا بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) "ت": "الخبث". (¬2) "ت": "أن". (¬3) ما بين معكوفتين سقط من "ت". (¬4) "ت": "وإن".

فعلى هذه الطريقة: يُخَصُّ العموم في الأنجاس الَّذي في حديثُ القلتين، ومُخَصِّصُه هذا الحديث الَّذي نحن فيه. وعلى طريقة الشافعية: يُخَصُّ (¬1) العموم الَّذي في الماء الراكد، ومخصصه حديثُ القلتين. وإنما حكم الحنبلي بإلحاق عُذرة الآدمي المائعة بالبول بطريق القياس عليه، [وهو أشد] (¬2)، وذكر بعضهم في ترجيح مذهبه: أن هذا الخبر أصحُّ من خبر القلتين، فيتعيَّنُ تقديمُه (¬3). والاعتراض (¬4) على هذه الطريقة أن يقال: معلوم (¬5) قطعًا أن المقصودَ من هذا النهي اجتنابُ الماء الَّذي حلّت فيه [هذه] (¬6) النجاسة؛ لأجل حلولها فيه، وهذا المعنى لا ينبغي فيه الفرق بين بول الآدمي وغيره، وليس يمكن أن يُدَّعَى أن في بول الآدمي معنى يزيد بالنسبة [إلى النجاسة] (¬7) على نجاسة بول الكلب أو غيره منْ النجاسات، فالتخصيصُ ببول الآدمي ظاهريةٌ [محضة] (¬8). وأما من يرى أن الماء لا يَنْجُسُ إلا بالتغيُّر قليلًا كان أو كثيرًا، ¬

_ (¬1) "ت": "يخصص". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 39). (¬4) "ت": "والاعتذار". (¬5) "ت": "أن المعلوم، بدل قوله: "أن يقال: معلوم". (¬6) سقط من "ت". (¬7) في الأصل "للنجاسة"، والتصويب من "ت". (¬8) زيادة من "ت".

فَحَمَله على ذلك رجحانُ الدليل الدالِّ على طهورية الماء الَّذي لم يتغير، ويتمسك فيه بالعمومات، ولزم من العمل بها حَمْلُ هذا النهي على الكراهة فيما لم يتغير، ومَنْ أراد تخصيصَ تلك العمومات بمفهوم حديث القلتين المقتضي لتنجيس (¬1) ما دونهما وإن لم يتغير، فقد لزم القولُ بالمفهوم، [و] (¬2) بأنه يُخصّصُ العموم، وهذه (¬3) إحدى القواعد التي قدمناها، وسيأتي ذكرها أيضًا عن قريب، إن شاء الله تعالى. وهذا المذهبُ (¬4) يلزم عليه (¬5) حملُ النهي على المجاز، وهو الكراهة، إذْ هو حقيقة في التحريم على المختار في الأصول (¬6)، ثم [إن] (¬7) أَخذ منه نجاسةَ المتغيَّرِ من الماء لزمه حملُ اللفظ على معنيين مختلفين، حقيقتِه ومجار، ولذلك مَنْ حمل النهي على التحريم، وخَصَّ منه القلتين فما زاد، إذا أَخذ منه كراهةَ استعمال الماء الراكد إذا وقعت فيه النجاسة (¬8) و [إن] (¬9) لم يتغير - على ما هو الحكم عند ¬

_ (¬1) "ت": "تنجيس". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "وهذا"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "الحديث". (¬5) "ت": "منه". (¬6) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (3/ 365). (¬7) سقط من "ت". (¬8) "ت": "نجاسة". (¬9) سقط من "ت".

الثالثة

الشافعية - لزمه أن يَحْمِلَ اللفظَ الواحدَ على حقيقته ومجازه. وهاهنا بحثٌ ينبغي أن يُنظَرَ فيه ويُتَنبَّه له وهو: أنَّ مَنْ أجاز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، أمكنه أن يستدلَّ بالحديث في المحلين معًا - أعني: محل التحريم ومحل الكراهة - بلفظ الحديث. ومن منع ذلك: فإن كان يقول بالحرمة في الماء قليلًا كان أو كثيرًا، حَملَ اللفظَ على حقيقته في التحريم، ولم يحتجّ إلى حمله على الكراهة، إلا أنه يَخْرُج عنه الماءُ المستبحرُ، فإنه لا يحرم الاغتسال منه ولا يُكرَه، فالتخصيصُ لازمٌ لقوله، فإذا تعارض مع مَنْ يلتزم حملَ اللفظ على حقيقته ومجازه، كان ذلك مجازًا؛ لأن اللفظ (¬1) لم يوضع لهما، فنقول: التخصيصُ خيرٌ من المجاز، وبعبارة أخرى: النافي للمجاز خيرٌ من النافي للتخصيص. الثالثة: ارتكب الظاهريةُ هاهنا مذهبًا وجَّهَ سهام (¬2) المَلامة إليهم، وأفاض سيلَ الازدراءِ عليهم، حتى أخرجهم بعضُ الناس من أهلية الاجتهاد، واعتبارِ الخلاف في الإجماع. قال ابن حزم منهم: إنَّ كلَّ ماء [راكد (¬3) قَلَّ أو كَثُرَ من البِرَك العظام وغيرها، بال فيه إنسانٌ، فإنه لا يحل لذاك (¬4) البائل خاصةً ¬

_ (¬1) "ت": "اللفظة". (¬2) "ت": "سهم". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "لذلك".

الوضوءُ منه ولا الغسل، وإن لم يجد غيرَهُ ففرضُه التيمم، وجائز (¬1) لغيره الوضوء منه والغسل، وهو طاهر مطهر لغير الَّذي بال فيه، ولو تغوَّطَ فيه، أو بال خارجًا منه، فسال البولُ إلى الماء الدائم، أو بال في إنائه وصبَّه في ذلك الماء، ولم تتغير له صفةٌ، فالوضوء منه والغسل جائز لذلك المتغوِّط فيه، والذي سال بوله فيه، ولغيره (¬2). وممن شنَّعَ على ابن حزم في ذلك: الحافظُ أبو بكر بن مُفَوَّز (¬3) فقال بعد حكاية كلامه: فتأمل - رحمك الله تعالى - ما جَمَعَ هذا القولُ من السُّخف، وحوى من الشناعة، ثم يزعم أنه الدينُ الَّذي شرعه الله، وبعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال: واعلم - أكرمك الله تعالى - أن هذا الأصل الذميمَ مربوطٌ إلى ما أقول، ومخصوص على ما أمثِّل (¬4): [من] (¬5) أن البائل على الماء الكثير، ولو نقطةً واحدة أو جزءًا من نقطة، فحرام عليه الوضوء منه، وإن تغوط فيه حِمْلًا، أو جَمَعَ بولَه في إناء شهرًا، ثم صبه فيه، فلم يغير ¬

_ (¬1) "ت": "وجاز". (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 135). (¬3) هو الحافظ البارع المجود أبو بكر محمد بن حيدرة بن مُفَوَّز المعافري الشاطبي، كان حافظًا للحديث وعلله، متقنًا، ضابطًا، عارفًا بالأدب وفنونه. قال الذهبي: وله رد على ابن حزم رأيته. توفي سنة (505 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" (19/ 421)، و"تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (4/ 1255). (¬4) في الأصل: "أميل"، والمثبت من "ت". (¬5) سقط من "ت".

الرابعة

له صفةً، جاز له الوضوء منه، فأجاز له الوضوء منه بعد حمل غائط أنزله به، أو حُبٍّ من بول صبه فيه، وحرمه عليه لنقطة من بول بالها فيه؟!! جلَّ الله تعالى عن قوله، وكرَّم دينَه عن إفكه (¬1). والشناعةُ كلُّها راجعةٌ إلى ما قررناه من قوة القياس في معنى الأصل، فإنه قد ظهر للعقول ظهورًا قويًا لا يُرتَاب فيه بحيث يُدَّعَى فيه القطعُ: أنَّ النهي عن استعمال ما وقع فيه البولُ إنما هو لأجل ما تقتضيه صفتُه من الاستقذار، ومتى وُجدَ هذا المعنى بأي طريق كان، وجب أن يكونَ الحكمُ ثابتًا. الرابعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في المَاءِ الرَّاكِدِ"، تقييد للحكم بالصِّفة، فمَنْ يقول فيه بمفهوم المخالفة، اقتضى مذهَبُه مخالفةَ [الماء] (¬2) الجاري في هذا الحكم للماء الراكد، ويندرج تحت هذا مسائلُ كثيرةٌ فرَّعها الفقهاء (¬3)، نذكر بعضَها بعد تقديم مقدِّمةٍ على الشروع في شيء منها. ¬

_ (¬1) نقله عن المؤلف: الفاكهاني في "رياض الأفهام" (ق 10 / أ). قلت: قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (3/ 1153): ابن حزم رجل من العلماء الكبار، فيه أدوات الاجتهاد كاملة، تقع له المسائل المحررة، والمسائل الواهية كما يقع لغيره، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد امتُحن هذا الرجل، وشدِّد عليه، وشُرِّد عن وطنه، وجرت له أمور، وقام عليه الفقهاء لطول لسانه واستخفافه بالكبار، ووقوعه في أئمة الاجتهاد بأفجِّ عبارة، وأبشع رد. (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "العلماء".

الخامسة

الخامسة: المفهومُ هل له عموم، أم لا؟ اختُلِفَ فيه، ونصُّ الغزالي فيه أنه [قال] (¬1): مَنْ يقول بالمفهوم، فقد يظن للمفهوم عمومًا ويتمسك به، وفيه نظر؛ لأن العمومَ لفظٌ تتشابه دَلالتُه بالإضافة إلى مسمَّيات، والمتمسك (¬2) بالمفهوم والفحوى. ليس يتمسك (¬3) بلفظ عامٍّ لكل مسكوت، فإذا قال: "في سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ" (¬4)، فنفي الزكاة عن المعلوفة ليس بلفظ حتى يعمَّ اللفظ أو يخص، وقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، دلَّ على تحريم الضرب لا باللفظ المنطوق به حتى يُتَمَسَّكَ بعمومه، وقد ذكرنا أن العمومَ للألفاظ، لا للمعاني والأفعال (¬5). وردَّ ذلك صاحب "المحصول" بأن معناه (¬6): إن كنت لا تُطلِقُ عليه لفظَ العامِّ فلك ذلك، وإن كنت تعني به: أنه لا يقتضي انتفاءَ الحكم في جملة [صورِ انتفاءِ الصفة، فذلك من تفاريع كون المفهوم ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "والتمسك"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "بتمسك"، والمثبت من "ت". (¬4) روى البخاري (1386)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الغنم، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الطويل في فرض الصدقة، وفيه: "وفي صدقة الغنم في سائمتها ... " الحديث. قال ابن الصلاح: أحسب أن قول الفقهاء والأصوليين: "في سائمة الغنم الزكاة" اختصار منهم. انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (2/ 157). (¬5) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 240). (¬6) "ت": "قال" بدل "معناه".

حجةً، ومتى جعلناه حجة] (¬1) لزم انتفاء الحكم في جملة صور انتفاء الصفة، وإلا لم يكن للتخصيص فائدةٌ. هذه عبارة بعض مختصري "المحصول" (¬2). ولقائل أن يقول: إنَّ الحالَ في هذا منقسمةٌ، فحيثُ يكون محلُّ النطق إثباتا [جزمًا] (¬3)، فالحكمُ منتفٍ في جملةِ صورِ المخالفة، وحيث يكون محلُّ النطق نفيًا، لم يلزَمْ أن يثبتَ الحكمُ [في جملة صور المخالفة] (¬4)؛ لأنه إذا كان النطقُ إثباتًا، لزم نفيُ الحكمِ إذا انتفى عن كل أفراد المخالف؛ لأنه إما أن يدلَّ على تناول الحكم؛ أعني: النفي لكل فرد من أفراد المخالف، أولا، فإن دلَّ فهو المراد، وإن لم يدلَّ فهو دالٌّ حينئذ على نفي الحكم عن مُسمَّى المخالف، فيلزم انتفاؤه عن كل فرد ضرورةَ [أنه يثبت النفي للمسمّى، وما ثبت للأعم، ثبت لجملة أفراده] (¬5)، وهذا كتعليق الوجوب بسائمة الغنم، فإن محلَّ النطقِ إثبات، فيقتضي نفيَ وجوب الزكاة عن المعلوفة، فإن كانت بصفة العموم فذاك، وإلا فهو سَلْبٌ عن مُسمَّى المعلوفة، فيلزم انتفاءُ الوجوب عن كل أفراد المعلوفة؛ لما (¬6) بيَّنَّاه. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) وانظر: "المحصول" للرازي (2/ 654 - 655). (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "أن ما سلب عن الأعم مسلوب عن جملة أفراده". (¬6) "ت": "كما".

و [أما] (¬1) إن كان محلُّ النطق نفيًا، أو [ما] (¬2) في معناه، كما في هذا الحديث الَّذي نحن بصدده، وهو قولُه عليه السلام: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِيْ الْمَاءِ الدَّائِمِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ"، فإنه يقتضي انتفاءَ الحكم - وهو النفي - عن المخالف (¬3)، فيكون الثابت للمخالف إثباتًا، فإن مُطْلقَ الحكم في السَّوم ليس يلزم منه العموم، فإن العمومَ له صيغٌ مخصوصةٌ، لا كلُّ صيغةٍ، فإذا كان بعضُ الألفاظِ المنطوقِ بها لا تدلُّ على العموم إذا كانت في طرف الإثبات، فما ظَنُّكَ بما لا لفظَ فيه أصلًا؟ ومن ادَّعى أنَّ مقتضى المفهومِ يدل على العموم في مثل هذا، فلابدَّ له من دليل، وقولُ القائل: ومتى جعلناه حجةً لزم أيضًا انتفاءُ الحكم في جملة صورِ انتفاءِ الصفةِ، وإلا لم يكن للتخصيص فائدةٌ، ممنوعٌ؛ لأنّا إذا علَّقنا الحكمَ بالمسمَّى المطلقِ كانت فائدةُ المفهوم حاصلةً في بعض الصور ضرورةً، فلا يخلو المفهومُ عن فائدة، وفي مثل هذا يتوجَّهُ كلامُ الغزالي. فهذه مباحثةٌ عرضتُها عليكَ لتنظرَ فيها، ثم بعد ذلك نقول: قد يُأخَذُ عمومُ الأحكام في أفراد المخالف من أمرٍ خارجٍ عن دلالة المفهوم، مثل أن يكون الإجماع قائمًا على عدم افتراق الأحكام، أو ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "عن المخالف، وهو النفي".

السادسة

يكونَ الحكم في المخالف ثابتًا لمعنى مفهوم، لا (¬1) يختص ذلك المعنى ببعض الأفراد دون بعض (¬2). وسيأتي التنبيه [عليه] (¬3) إن شاء الله تعالى، أو بوجه آخر، والرجوع بعد هذا الموضع إلى التفريع على العموم في المخالف. السادسة: في قاعدةِ تخصيصِ المفهومِ للعموم: قد ذكرنا وجهَ الحاجة إليها فيما مرَّ، ونتكلم عليها الآن لكثرة ما تدعو الحاجة إليه [فيها] (¬4)، وقد تردَّد (¬5) كلام المتأخرين من الأصوليين في هذا، فقال بعضُهم: لا نعرف خلافًا بين القائلين بالعموم والمفهوم: أنه يجوز تخصيصُ العمومِ بالمفهوم، وسواء كان من قَبيل مفهوم الموافقة، أو من قبيل مفهوم المخالفة (¬6). وقال غيرُه: إذا قلنا: المفهومُ حجةٌ، فالأشبهُ أنه لا يجوز تخصيصُ العامِّ به؛ لأن المفهومَ أضعفُ دَلالة من المنطوق، فكان ¬

_ (¬1) "ت": "ولا". (¬2) من قوله: "ولقائل أن يقول" إلى هنا، نقله الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 223). (¬3) زيادة من "ت" و"ب". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "يرد". (¬6) انظر: "الإحكام" للآمدي (2/ 353)، و"شرح مختصر ابن الحاجب" للأصفهاني (2/ 325).

السابعة

التخصيصُ (¬1) به، تقديمًا للأضعف على الأقوى، وأنَّه (¬2) غيرُ جائز (¬3). ويقال على هذا: إن العملَ بالعموم، فيه إبطالُ العمل بالمفهوم مطلقًا، ولا كذلك بالعكس، ولا يخفى أنَّ الجمعَ بين الدليلين - ولو من وجهٍ - أولى من العمل بظاهر أحدِهما وإبطالِ أصلِ الآخر. وقد رأيتُ في كلام بعض (¬4) المتأخرين ما يقتضي تقديم العموم، فإنه لما أراد الجوابَ عن التمسك بقوله عليه السلام: [وَ] (¬5) جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُربَتُها (¬6) طَهُورًا" (¬7)، عارضه بالحديث الآخر، وهو قوله عليه السلام: [وَ] (¬8) جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" (¬9)، ورَجَّح هذا بأنه منطوق، وذاك مفهوم. السابعة: مقتضى المفهومِ الفرقُ بين الراكدِ والجاري، وقال به الحنفيةُ، كما انْطَوى عليه الكلامُ الماضي، وحكيناه عنهم. ¬

_ (¬1) "ت": "بالتخصيص". (¬2) أي: المفهوم. (¬3) في الأصل: "جازم"، والمثبت من "ت". وانظر: "المحصول" للرازي (3/ 159 - 160). (¬4) "ت": "بعض كلام". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "وترابها". (¬7) تقدم تخريجه. (¬8) سقط من "ت". (¬9) تقدم تخريجه.

الثامنة

الثامنة: فرَّق الشافعيةُ والحنبلية (¬1) بين الراكد والجاري من وجهٍ آخر، وحَكَمًا بأنَّ الجاري متفاصلُ الأجزاء، لا يتعدَّى حكم جِرْيَةٍ (¬2) إلى ما فوقَها و [لا] (¬3) إلى ما تحتَها، فإن كلَّ واحدة من الجِريات طالبةٌ لما بين يديها، هاربةٌ عمَّا خلفَها، بخلاف الراكد، فإنه مترادٌّ متُعَاضِد، ولا شكَّ أن الاتصالَ في الماء الجاري موجودٌ حسًا، ولا يمكن أن يُكتفَى في الحكم الشرعي بمجرد هذا المعنى، أعني: الترادَّ والتفاصلَ بالتفسير المذكور، فإنَّ الشارعَ لو حكم بتعدي النجاسة إلى جميع الجِريات صحَّ، وإذا كان كذلك، فلا بدَّ لمدعي هذا الحكمِ من دليل شرعي يقتضي عدمَ اعتبارِ الاتصال المحسوس بالنسبة إلى حكم النجاسة، والذي استُشهِدَ به على هذا: أنه لو قُلِبَ الماءُ من إناءٍ إلى نجاسة، فإن الماءَ الَّذي في الإناء والذي هو في الطريق طاهرٌ. وعبَّر عن هذا بعضهم في بعض مسائل الجاري فقال - استشهادًا بما أجمعوا عليه: من أن (¬4) إبريقًا لو صُبَّ من بُزالِهِ (¬5) على نجاسة، كان الماء الخارج من البُزال طاهرًا ما لم يلاقِ النجاسة، وإن كان ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 251)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 48). (¬2) قال الإمام النووي: الجِرية - بكسر الجيم -: هي الدفعة التي بين حافتي النهر في العرض، هكذا فسرها أصحابنا. انظر: "المجموع" له (1/ 251). (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "بأن" بدل قوله: "من أن". (¬5) البُزال - بضم الباء -: فم الإناء وثقبه.

التاسعة

جاريًا إليها -: فكذلك (¬1) كلُّ ما جرى إلى نجاسة. وهذا الاستشهادُ إنما يتمّ فيما إذا كان الماءُ الَّذي لاقَى النجاسةَ أولًا لم تحصلْ به طهارةُ المحل. ثم قد يُمِكنُ أن يُقالَ: إن ذلك للضرورة، فإنا لو قلنا: لا يطهر الثوبُ مثلًا إلا بأن يُغمَسَ في ماء كثير، أو (¬2) يُصَبَّ عليه ما يكفي في إزالةِ حكمِ [النجاسة] (¬3) دُفعةَ، لشقَّ ذلك وضاق. التاسعة: هذا الترادُّ في الراكد، والتفاصلُ (¬4) في الجاري، تارةً يقتضي التطهيرَ، وتارةً يقتضي التنجيسَ. أما اقتضاءُ الراكدِ للتطهير: ففي الماء الكثير الراكد الَّذي وقعت فيه نجاسةٌ لم تغيره، وأنَّ (¬5) ترادَّه يقتضي تعاضدَه ويقوَى (¬6) بعضُهُ ببعض، وذلك مناسبٌ لدفع حكم النجاسة عنه. وأما اقتضاؤه للتنجيس: فمنه ما إذا تغير بعضُ الراكد بالنجاسة، فإنَّ ترادَّه يقتضي اتحادَه، وذلك يناسب الحكمَ بنجاسة جميعِه، وقد قيل به، ذكره الشيخُ أبو إسحاق في "المهذب" (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "وكذلك". (¬2) "ت": "و". (¬3) زيادة من "ت" و"ب". (¬4) "ت": "والفاصل". (¬5) "ت": "فإن". (¬6) "ت": "يتقوى". (¬7) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 7).

العاشرة

وأما اقتضاءُ التفاصل (¬1) للتطهير: ففيما فوقَ النجاسة وفيما تحتَها، مما لم يصلْ إلى النجاسة، ولا وصلت هي إليه. وأما اقتضاؤه التنجيسَ: ففيما إذا كانت النجاسةُ جامدةً، والماءُ يجري عليها وينفصلُ عنها، فالمنفصِلُ نجسٌ [إذا كان قليلًا] (¬2)، على ما سنذكره أنه المذهب، ولو امتدَّ فراسخَ على المختار عند الشافعية، ما لم يجتمع في مكانٍ مترادٍّ، فيكون طهورًا حينئذ (¬3). العاشرة: مراتبُ المناسبة تختلف في القوة والضعف، وهذه المناسبةُ - في بعض الصور - من ضعيفِها، والاعتمادُ على ظواهر النصوص أقوى، وقد تعارضَ حيثُ يقتضي الترادُّ التطهير، والتفاصلُ التنجيس، بأنَّ جريانَ الماء أبلغُ في مَحْقِ النجاسة وذهاب أثرها من تعاضد الراكد، فيُنظَرُ - عند وقوع التعارض بين النص وبين ما يناسب [هذا المعنى] (¬4) - أيُّهما أولى بالعمل؟ [ويُتَّبعُ] (¬5). الحادية عشرة: إذا فرَّعنا على أنَّ للمفهوم عمومًا مطلقًا، اقتضى ذلك إباحةَ التوضؤ بالماء الجاري بعد وقوع النجاسة فيه، وجريانُ الماء صفة محسوسة، وهي حركته المقابِلَةُ لسكونه، فيقتضي ذلك أن يُبَاحَ الوضوءُ من كل ماءٍ موصوفِ بالجريان والحركة من حيث العمومُ ¬

_ (¬1) "ت": "الفاصل". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 201). (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت".

الثانية عشرة

في المفهوم، فمَنْ أخرج شيئًا من ذلك، احتاج إلى دليل، والله أعلم. الثانية عشرة: للشافعي - رضي الله عنه - قولٌ قديم: أنَّ الماء الجاري لا يَنجُسُ إلا بالتغير، واختاره بعضُ أتباعه، والمذهبُ الَّذي عليه الجمهور: الفرقُ بين القليل والكثير، كما في الراكد، وأنَّ القليلَ يَنجُسُ بمجرد الملاقاة (¬1)، وهذا الحديث يُستدلُّ به للمذهب الأول - بعد القول بالعموم للمفهوم -؛ لتناوله حينئذٍ لهذه الصورة المذكورة، أعني: القليلَ الجاري، وحديثُ القلتين يقتضي الفرقَ بين القليل والكثير، ودلالته على نجاسة القليل بطريق المفهوم، ودلالة هذا الحديث - الَّذي نحن في شرحه - على جواز استعمال الجاري قليلًا أو كثيرًا بطريق المفهوم أيضًا، فالتعارضُ إذًا (¬2) بين مفهومين. فإذا قال أحدُ الخصمين: هذا العمومُ في الماء الجاري مخصوصٌ بالكثير؛ لحديث القلتين. قال خصمُه: مفهوم حديث القلتين مخصوصٌ بالماء الراكد؛ لهذا الحديث. والسببُ في ذلك: أنَّ كلَّ واحد من المفهومين - إذا قلنا بالعموم - عامٌّ من وجه [و] (¬3) خاصٌّ من وجه، فإنَّ مفهومَ حديثِ القلتين عامٌّ بالنسبة إلى الجاري والراكد، خاصٌّ في المقدار، وهذا الحديث عامٌّ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 231)، و"المجموع" للنووي (1/ 201). (¬2) "ت": "أيضًا". (¬3) زيادة من "ت".

الثالثة عشرة

في المقدار، خاصٌّ في الجاري، فكل واحد بالنسبة إلى الآخر عامٌّ من وجه خاصٌّ وجه، وما كان كذلك، فلابدَّ فيه من الترجيح، فيمكن مَنْ يُرَجِّحُ العملَ بهذا الحديث أن يقولَ: هو أصحُّ من حديث القلتين؛ للاتفاق على صحته، وسلامته من الاضطراب الَّذي في حديث القلتين، ولأن صاحِبَي الصحيح أخرجاه، بخلاف حديث القلتين. ويمكن لخصمه (¬1) أن يقولَ: عمومُ مفهومِ هذا الحديث وقعَ الإجماعُ على تخصيصه؛ لأن عموم مفهومَه يقتضي جوازَ الوضوء بكل ماء جارٍ وقعت فيه نجاسةٌ، وذلك مخصوص بالمتغير بالنجاسة إجماعًا، أما عمومُ مفهوم حديث القلتين فلم يقع الإجماعُ على تخصيصه؛ لأن مفهومَه: أنَّ ما دونَ القلتين إذا وقعت فيه نجاسةٌ ينجُسُ، وهذا المفهوم قد قال بعمومه الشافعيُّ - رضي الله عنه -، وقضى بنجاسة كلِّ فرد من أفراد الماء القاصر عن القلتين إذا وقعت فيه نجاسة، والعمومُ الَّذي تطرَّق إليه التخصيصُ بالإجماع، أضعفُ من العموم الَّذي لم يتطرَّقْ إليه التخصيصُ بالإجماع، فوجب ترجيحُ الأقوى عليه. ويمكن ترجيحُ الأول بوجهٍ آخرَ، وهو عضدُ العمومات الدالة على طهورية الماء مطلقًا، وما جاء في الأحاديث: أنَّ الماءَ لا يَنْجُس (¬2). الثالثة عشرة: هذا الترجيحُ الَّذي ذكرنا من جانب المذهب الثاني؛ أعني: القولَ بأنَّ الجاري القليل ينجس بالتغير، وهو أنَّ عمومَ ¬

_ (¬1) "ت": "خصمه". (¬2) تقدم تخريجه بألفاظ متعددة.

الرابعة عشرة

مفهومِ هذا الحديث مخصوصٌ بالإجماع، وعمومُ مفهومِ حديث القلتين ليس مخصوصا بالإجماع، إنما يتأتَّى في المفهومين، ولا يتأتَّى في المنطوقين، فإن كلَّ واحد منهما مخصوصٌ بالإجماع. بيانه: أنَّ منطوقَ هذا الحديث يقتضي المنع من الغسل في الماء الدائم بعد البول فيه، وذلك مخصوصٌ بالإجماع على أن المُستبحِرَ لا يثبت فيه هذا الحكم، ومنطوق حديث القلتين يقتضي أنَّ ما بلغهما لا يحمل الخَبَث، وذلك مخصوص بالإجماع، على أن المتغيِّرَ منه نجس، والله أعلم. الرابعة عشرة (¬1): إذا كان بعضُ الماء جاريًا، وبعضُه راكدًا، فقد أُعطيَ كلُّ واحد منهما حكمَهُ، وهو منصوصٌ عليه عند أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى (¬2)، وهذا جارٍ على اتباع الحقيقة في كلِّ واحدٍ منهما. الخامسة عشرة: فإذا حَكَمَ للجاري الَّذي له الحركةُ بحكم الراكد الساكن، كان ذلك على خلاف الأصل، فيَحتاج إلى دليل، فالماءُ إذا كان يجري في مستوٍ من الأرض، أو كان مجرى الماء فيه ¬

_ (¬1) جاء في هذه الفائدة في "ت": "مفهوم هذا الحديث الَّذي نحن في شرحه نجس" كذا. ثم جاء في الفائدة التي تليها وهي الخامسة عشرة، ما هو موافق لما في الأصل "م" في الفائدة الرابعة عشرة هنا، وعلى هذا، فقد زادت فوائد هذا الحديث في النسخة "ت" فائدة؛ لتصبح ستًا وعشرين فائدة، والمثبت هاهنا من الأصل "م" وهو خمسٌ وعشرون فائدة. (¬2) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 201 - 202).

السادسة عشرة

ارتفاعٌ، فالماء يترادُّ، ولكنه قد يجري مع ذلك جَريًا متباطئًا. وقد اختلف الشافعية - رحمهم الله تعالى - في أنَّ حكمَهُ حكمُ الراكد أو لا؟ وذكر إمام الحرمين: أنَّ ظاهرَ المذهب أنَّ حكمَهَ إذا كان كذلك حكمَ الماء الراكد، قال: ومن أصحابنا من أجراه مجرى الماء الجاري، وقال: [و] (¬1) لا أَعدّهُ من المذهب (¬2). قلت: ولا شكَّ أن صفةَ الحركة والجريان ثابتةٌ له، ولا يمنع البطءُ من انطلاق اسم الجاري عليه، فيندرج تحت اسمِ الجاري، ومَنْ ذهب إلى خلاف ذلك، كأنه نظر إلى المعنى الَّذي استنبطهُ من الترادِّ. السادسة عشرة: ذكر صاحب "النهاية" (¬3) أنه: لو كان يتلولبُ (¬4) الماءُ من طرف النهر ويستدير، قال: فهو في حكم الراكد عندي؛ لأن الاستدارة في معنى التراد، والتدافع يزيد على الركود. وهذه كالمسألة قبلَها، أو فوقَها في المرتبة، وهذا أوجبه له ما قال من اعتبار معنى الترادِّ، وهو عدولٌ عن اندراجه تحت الجاري ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) وانظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 252). (¬3) لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي، المتوفى سنة (478 هـ) كتاب: "نهاية المطلب في دراية المذهب"، قال ابن النجار: إنه يشتمل على أربعين مجلدًا، ثم لخصه ولم يتم، قال عنه ابن خلكان: ما صُنِّف في الإسلام مثلُه. انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 168)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1990). (¬4) يعني: يستدير.

السابعة عشرة

الَّذي تناوله (¬1) المفهومُ؛ لأجل المعنى المذكور، وإنما جَعَلْتُ هذه المسألةَ في الرتبة فوقَ الأولى؛ لأن [المعنى] (¬2) الَّذي يعتبره من الترادِّ فيها أقوى. السابعة عشرة: إذا كانت نجاسةٌ في ماء راكدٍ قليلٍ في عُمقِ الماء، وماءٌ ضعيفٌ يجري فوقَ ذلك الماءِ الراكدِ، فالماءُ الراكد نجسٌ، وحاشيةُ الجاري تلقى في جريانها نجاسةً واقفةً، وهي (¬3) الماء الراكد، فقد يقتضي ذلك نجاسةَ الماء الجاري الضعيفِ، ولو كانت النجاسةُ طافيةً على الماء الجاري تُسْنَدُ على استنان جريه، وله عمق - أعني: الماء الجاري - لم ينجسِ [الماء] (¬4) الراكد بذلك، فاقتضى ذلك تعدِّي حكمَ نجاسة الراكد إلى الجاري، لا تعدِّي حكمَ الجاري إلى الراكد، وهذا [ما هو] (¬5) من ذلك النوع الَّذي ليس فيه اعتبار مسمى الجريان والركود، بسبب ما اعتبروه من المعنى. الثامنة عشرة: ما هو في معنى المنصوص عليه قطعًا يُلحَقُ به في الحكم، وكذلك ينبغي أن يُذكَرَ في فوائد الحديث والكلام عليه. والعُذْرة في معنى البول قطعًا، فإذا ثبتَ هذا فنقول: للشافعيِّ ¬

_ (¬1) "ت": "يتناوله". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "وهو". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت".

قولٌ جديد: أنه يجب التباعدُ عن النجاسة الجامدة بمقدار قلتين، والقديمُ على خلافه، وهو المرجَّحُ عند أصحابه على خلاف المعتاد (¬1)، وقد عُلِّلَ (¬2) بأنَّ ما دونَ القلتين مما يجاوِرُ النجاسةَ لو كان وحدَهُ لكان نجسًا، فكذلك إذا كان معه غيرُه، وأثرُ الكثرة دفعُ النجاسة عمَّا وراءَ ذلكِ القدرِ، وهذا التعليلُ يقتضي إفرادَ ما دونَ القلتين في الاعتبار عما اتَّصلَ به، وجعلَهُ كالمتفرد، فإنْ صحَّ ذلك فله أن يستدِلَّ بهذا الحديث؛ لأنه ماءٌ [قد] (¬3) اغتسل منه بعدَ [ما هو في معنى] (¬4) البول فيه، [وهو ما دون] (¬5) القلتين مما يجاور النجاسة، إلا أنه يردُّ ذلك بأنَّ الجميعَ ماءٌ واحد محكومٌ له بالكثرة. ¬

_ (¬1) تقدم ذكر هذه الفائدة عند المؤلف في الحديث الأول عند المسألة الثالثة والعشرين منه. وذكرت هناك أن الإمام النووي قال في "المجموع" (1/ 197): وهذه من المسائل التي يفتى بها على القديم، وقد حكى الشيخ أبو علي الشنجي: أن الشافعي نص في كتابه "اختلاف الحديث" على موافقة القديم، وحينئذ لا يسلم كون الإفتاء هنا على القديم. قلت: وقد عدَّ النووي في "المجموع" (1/ 66) نحو عشرين مسألة يفتى فيها بالقديم، وقد يُختلف في كثير منها. ثم قال: ثم إن أصحابنا أفتوا بهذه المسائل من القديم، مع أن الشافعي رجع عنه، فلم يبق مذهبًا له، هذا هو الصواب الَّذي قاله المحققون، وجزم به المتقنون من أصحابنا وغيرهم. وانظر في ذلك: "فتاوى ابن الصلاح" (1/ 68)، و"أعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 239). (¬2) أي: القول الجديد للشافعي رحمه الله. (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "أعني مقدار".

التاسعة عشرة

التاسعة عشرة: إذا انفصل الماءُ الجاري عن النجاسة، وكانت كلُّ جِريةٍ دونَ القلتين، فالصحيحُ من المذهب عند الشافعية: أنَّ ما تحتَ النجاسة [مما مرَّ عليها] (¬1) نجسٌ. وحُكيَ عن القديم قول: أنه لا يصير نجسًا (¬2)، وعُلِّلَ بأنه ماء قد ورد على نجاسة، فصار كالماء الَّذي يُصَبُّ على النجاسة، وأجيب عن هذا، بأنه يخالف ما لو صُبَّ الماءُ على النجاسة؛ لأن الحاجةَ داعيةٌ إليه، فإنه لا يتصور الغسل [بالصب] (¬3) إلا كذلك، والذي يقتضيه مفهومُ [هذا] (¬4) الحديث - الَّذي نحن في شرحه - الطهارةَ، وإنما يُعدَلُ عنه بدليل من خارج، وهو المقتضي لتنجيس (¬5) الماء القليل إذا اجتمع مع النجاسة، [وقد قدمنا البحثَ فيه] (¬6). العشرون: إذا حُكِمَ بنجاسة هذا المنفصل عن النجاسة، فاغترفَ إنسانٌ من مكان، يكون الماء الَّذي بينه وبين محل النجاسة قلتين، ففيه اختلافُ وجهين عند الشافعية، والصحيح عندهم: أنه لا يجوز ذلك، ولو امتدَّ فراسخَ حتى يجتمع في موضع واحد مترادٍّ قدرَ القلتين (¬7)، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 183)، و"المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 202). (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "النجاسة". (¬6) سقط من "ت". (¬7) "ت": "قلتين".

الحادية والعشرون

وفيه وجهٌ: أنه يجوز ذلك (¬1)، وهذا الوجه مندرجٌ تحتَ عمومِ المفهوم في هذا الحديث، مع زيادة إمكان إدراجه (¬2) تحت حديث القلتين. وإنما أوجب هذا عندهم ما ذُكِرَ من المعنى، وهو تفاصُلُ جريات الماء، وأن كلِّ جِرية منفردةٌ في الحكم، فلم يوجد هاهنا إلا جريانُ الماء النجس من محل إلى محل، والجريانُ لا يوجب الطهارةَ. الحادية والعشرون: قالوا: الأنهارُ الكبيرة - وهي التي يمكن التباعد فيها من (¬3) جوانب النجاسة بقدر القلتين (¬4) - يُجتَنَبُ فيها حريمُ النجاسة، وفُسِّرَ الحريمُ بما يتغيَّرُ شكلُه بسبب النجاسة، بتحريكه إياها، وانعطافِه عليها، والتفافِه بها (¬5)، وفيه وجه: [أنه] (¬6) لا يُجتَنَبُ كغيره (¬7)، فيمكن (¬8) توجيهُ هذا الوجه بأنَّ صفةَ الجريانِ ثابتةٌ [له] (¬9)، فيندرجُ تحت مفهومِ الحديث، والذي عُلِّلَ به اجتنابُهُ؛ أنه في العِيافة والاستقذار كالمتغير بالنجاسة (¬10). ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 201). (¬2) "ت": "اندراجه". (¬3) "ت": "في". (¬4) "ت": "قلتين". (¬5) "ت": "إليها". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 186 - 187). (¬8) "ت": "يمكن". (¬9) سقط من "ت". (¬10) "ت": "بنجاسة".

الثانية والعشرون

الثانية والعشرون: قد ذكرنا أنَّ ما هو في معنى الأصل قطعًا، أو قريبٌ (¬1) من الأصل، فهو كالمنصوصِ عليه. فلتفرض النجاسةُ راسبةً في أسفل الماء الجاري وقرارِهِ، وليس تمرُّ بها الطبقةُ العليا [من الماء] (¬2)، وإنما تمرُّ بها السفلى، قال بعضُ أكابر الشافعية: فالماءُ (¬3) طاهر ما لم ينتهِ إليها، فإذا انتهى إليها كانت [الطبقة، (¬4) السفلى من الماء نجسة لمرورها على النجاسة، وإنما اختلف أصحابنا في نجاسة الطبقة العليا على وجهين: أحدهما: أنها طاهرة؛ لأنها لم تجرِ على النجاسة ولا لاقتها، فصار كالماء المتقدِّم عليها. والوجه الثاني: أنها نجسةٌ أيضًا؛ لأنَّ جِريةَ الماء إنما تمنع من اختلاطه بما تقدم وما تأخر، و [أما] (¬5) ما علا منه، وما سفل من طبقاته، فهو بالراكد أشبهُ، والراكد لا يتميزُ حكمُ أعلاه وأسفلِه في الطهارة والنجاسة (¬6). ولاشكَّ أن الحكمَ بنجاسة ما مرَّ عليها من الطبقة السفلى خلافُ ¬

_ (¬1) "ت": "وقريبًا". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "الماء". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 341)، و"حلية العلماء" للقفال (1/ 79).

الثالثة والعشرون

مفهومِ الحديث، وإنما يُخَصُّ - إن خُصَّ - بدليلٍ من خارج. وأما تنجيسُ العليا لأجل ما ذُكر من المعنى الأول، وكونُه أشبهَ بالراكد، فقد يُمنعُ؛ لما فيه من الحكمِ التقديريِّ المخالفِ للحقيقة في نفس الأمر، وَيرَى المانعُ: أنَّ تقديمَ ظاهرِ النص على هذا المعنى أولى. الثالثة والعشرون: إذا كان الماءُ يتراجعُ من موضعِ النجاسة إلى ما فوقَها، فحكمُ ما فوقَها إلى موضع التراجع كحكم ما تحتَها، كما ذكره بعضُ مصنفي الشافعية، والعلةُ فيه ما ذكر من المعنى، والعمومُ من المفهوم يتناوله. وقد ذكر القائلون بما حكيناه من الفرق بين الجاري والراكد بسبب التفاصل والتراد فروعا متعددة، فلنقتص على ما ذكرناه، ونذكر قاعدةً نعتبر بها ما مرَّ من المسائل المبنية على هذا الفرق، ونعتبر بها أيضًا غيرَ ذلك مما لا يُحصَى. الرابعة والعشرون: العمومُ تتفاوتُ درجاتُه في القوة والضعف بالنسبة إلى آحاد الأفراد، وقد يكون لبعض الأفراد دليلٌ راجح بالنسبة إلى ذلك الفرد على تناول العموم له فيُرجَّحُ؛ لأن العموم قد يُقصَد به الحكمُ على الشيء من غير تعرُّضٍ للمانع عند الإطلاق، وهذا مستعمَلٌ في كثير من تصرفات الفقهاء، كما إذا سُئِلنا عن النكاح فقلنا: هو مُستحَبٌّ، فهذ انظرٌ للنكاح من [حيثُ] (¬1) هو نكاح من غير اعتبار مانع، وقد يَعرِضُ ما يُوجِبُهُ في بعض الصور، وما يُحَرِّمُهُ في بعضها، ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

الخامسة والعشرون

وكذلك لو سُئِلنا عن الصيد لقلنا: هو مباح، وقد يعرض له (¬1) ما يُحرِّمه. ومما يُضعِفُ العمومَ أن يظهرَ المقصودُ من الكلام، وأنَّ ما وقع فيه النزاع خارجٌ عن ذلك المقصود، وهذا قد اختلف فيه الأصوليون. فهذه المسائل [التي] (¬2) ذكرناها، وذكرنا أنَّ عمومَ المفهوم يتناولها، [و] (¬3) إنما خُولفَ العمومُ فيها - أو في كثير من صورها - للمعنى المذكور من الترادِّ والتفاصُلِ وإقامة مانع يمنع (¬4) من العمل بالعموم، فلو قَوِي هذا المعنى المذكور، وظهر أنَّ الشرعَ أدار عليه الحكمَ كان أقوى من التمسك بالعموم في كثير من هذه الصور، ولكنَّ الشأنَ في قوته، فلتجعلْ ذلك محطَّ (¬5) النظر، والله أعلم. الخامسة والعشرون: قد قدمنا ما شُنِّع به على الظاهرية في مسألة مفردة، وابن حزم منهم تجلَّد وتشدَّد وتلبَّد، وكان من حقه أن يتلدَّد (¬6)، وأورد على مخالفيه أشياءَ قَصَدَ بها أن يساويَ بينه وبينهم، فقال في أثناء كلامه: وهل فَرْقُنا بين البائل وغير البائل، إلا كفرقهم ¬

_ (¬1) "ت": "لنا". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "منع". (¬5) "ت": "محل". (¬6) تلدد: تلفَّت يمينًا وشمالًا، وتحيَّر متبلدًا وتلبث. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 405).

معنا بين الماء الراكد المذكور في الحديث، وغير الراكد الَّذي لم يُذكَر (¬1). فنقول: سببُ الشناعة التفريق مع قيام الدليل على التساوي الناشئ عن مقدمتين لا يشكُّ فيهما ناظرٌ مُنصِفٌ، لم يتقدمْهُ ما يميلُه إلى أحد الطرفين، ولم يحرِفْه حتى يكون في ميزان نظره عين، إحدى المقدمتين قطعية، والثانية مقاربة لذلك: أما المقاربة: فهي علمنا بأنَّ المنعَ من الغسل والوضوء إنما كان بسبب وقوع النجاسة، ولأجل تجنبها فيما يُتقرَّب به إلى الله تعالى. وأما القطعية: فمساواةُ حال البائل خارج (¬2) الماء إذا جرى البول إليه، وحالِ البائل فيه، بالنسبة إلى معنى التنزُّه عن النجاسة في الصلاة، وأن ذلك ليس إلا لاستقذارها وطلب إبعادها عن حال القُربة لهذا المعنى. ومن زعم أنه لا فرقَ في اجتناب الماء بين أنْ يردَ الشرعُ باجتنابه إذا وقعَ فيه البولُ، أو باجتنابه إذا وقع (¬3) فيه المِسْكُ والعنبر، أو (¬4) وَرَدَ في معنى الاستقذار وعدمه، فليس له نظر صائب، وإنَّ سماعَ مثلِ هذا لمن المصائب، فإن ذكرتَ لخصمك ما يشبه هذا النظر، فقد أدركت ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 157). (¬2) "ت": "بخارج". (¬3) "ت": "إذا وضع". (¬4) "ت": "لو".

أدركت من مقابلة التشنيع بالتشنيع الوط (¬1)، وإلا: فتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عارُهَا (¬2) ونحن لا ننكر الفرق عند وجود (¬3) المعنى الَّذي يوجب الفرقَ، ولا عندَ انحسامِ المعنى ووجوبِ المصير إلى التعبُّدِ، وإنما أنكرناه عند ظهور المعنى ظهورًا قويًا جدًّا، واقتضى ذلك المعنى التسويةَ، فإنكارُ الفرق من هاهنا جاء، وما ذكرتُهُ من الفرق بين الراكد والجاري ليس كذلك. وأيضًا فالتفرقةُ من طريق المفهوم، والمفهومُ مفهومُ موافقةٍ ومفهومُ مخالفة، ومفهوم الموافقة ما يقتضي رجحانَ حالِ المسكوت عنه على حالِ المنطوق به، أو مساواتَه له (¬4) إن ساواه، ويُعَرفُ ذلك بالرجوع إلى أهل اللسان والعُرف، كما في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، [والحكمُ ثابت فيهما؛ أعني: في المسكوت عنه والمنطوق به؛ لأجل العلم بالتساوي أو الأولوية، وقد فرَّقتَ بينهما مع وجوب التساوي. ¬

_ (¬1) "ت": "بالوطر". (¬2) من شعر أبي ذؤيب الهذلي، كما في "ديوانه" (ص: 115). وصدره: وعيَّرني الواشون أني أحبها وقد تمثَّل ابنُ الزبير بالشطر الثاني من البيت لمَّا قيل له: يا ابن ذات النطاقين، كما رواه البخاري في "صحيحه" (5073). (¬3) "ت" زيادة: "اتحاد". (¬4) "ت": "به".

وأما مفهوم المخالفة فنحن فرقنا به، ولا ينتهي الأمر فيه إلى شيء من التشنيع؛ لكون المسألة نظرية متقاربة الدلائل، بخلاف ما فعلتَهُ] (¬1). قال (¬2): وإلا فليقولوا لنا: ما الَّذي أوجب الفرق بين الماء الراكد وغير الراكد، ولم يوجب الفرق بين البائل وغير البائل، إلا أنَّ ما ذُكِرَ في الحديث لا يتعدَّى حكمُهُ إلى ما لم يُذكَر فيه بغير نص؟ (¬3) قلنا: الفرقُ بينهما ما أشرنا إليه من قوة المعنى المذكور وإيجابِه للمساواة قطعًا، ولا كذلك في الراكد والجاري، فإنه لم تُوجَدِ القوةُ [التي] (¬4) في المعنى ثَمَّ، [كما وُجِدت] (¬5) هاهنا؛ لأنَّ المساواةَ في المعنى الَّذي ظهرَ [ثَمَّ] (¬6) قطعيةٌ، وقد نتبرعُ بذكر معنى يقتضي الفرقَ من جهة المناسبة، إلا أنا في هذا المقامِ نكتفي بعدم الإلحاق في الفرق؛ لقصور هذه الصورة عن تلك. وقولهُ: إلا أن ما ذُكِر في الحديث ... إلى آخره، حصرٌ في سبب التفرقة بين الجاري والراكد، وهو ممنوعٌ؛ أعني: انحصارَ المأخذِ فيما ذُكِر. قال: وكتفْرِقتِهم في الغاصب للماء، فيَحرُمُ عليه شربُهُ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) يعني ابن حزم. (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 157). (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت".

واستعمالُه، وهو حلالٌ لغير الغاصب له (¬1). قلنا: هذا ركيك جدًّا؛ لأنَّ ما ثبت لعلة تتعيَّنُ إضافةُ الحكم إليها، وجب أن يثبُتَ عند وجودها، وينتفي عند انتفائها، وهذه العلة [في مسألة الغصب] (¬2) مُقتضيةٌ للتفريق بين الغاصب وغيره؛ لأنها ليست إلا العدوانَ وتحريمَ مالِ الغير، وغيرُ الغاصب لا عدوانَ منه. قال: وهل البائل وغير البائل إلا كالزاني وغير الزاني، والسارق وغير السارق، والشارب وغير الشارب، والمصلي وغير المصلي، لكل ذي اسم منها حكم (¬3)، وهل الشنعة والخطأ الظاهر إلا أنْ يَرِدَ نصٌّ البائل، فيُحمل ذلك الحكمُ على غير البائل! وهل هذا هو إلا كمَنْ حَمَلَ حكمَ السارق على غير السارق، وحكمَ الزاني على غير الزاني، وحكمَ المصلي على غير المصلي، وهكذا في جميع الشريعة؟! نعوذ بالله من هذا (¬4). قلنا: جميعُ ما ذكرتَ من التفرقة في هذه الصور ليس للأسامي كما تَزْعُم، ولا للاقتصار على الاسم في هذه الصور؛ لأنَّ الحكمَ لا يتعلَّقُ فيها بالاسم، بل بالعلل التي أوجبت تلك الأحكام، وعُلِمَ أنَّها أسبابُها، والعقوبات المرتبة على ارتكاب الجنايات المحرمة ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 157). (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "حكمه". (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 157 - 158).

شرعًا، تقتضي الفرقَ بين من جنى بارتكاب المعصية وبين مَنْ لم يجنِ. هذا إن أراد به وجوبَ التسوية في خصوص الأحكام، وهو أنْ يُساوى بين السارقِ وغيرِه في خصوص العقوبة، وهي القطعُ في السرقة، والجَلْدُ في زنا البِكر، والرجمُ في زنا المُحْصَن ... إلى آخره. وإن أراد وجوبَ التسوية فيما هو أعمُّ من خصوص العقوبة فنقول حينئذ: [لا يخلو إما أنْ يظهرَ معنى يقتضي الحكمَ المعين بالصورة المخصوصة، أو لا، فإن ظهر معنى يقتضي تخصيصَ الحكمِ فقد ظهر ما يوجب الفرق، ونحن نتكلم معك فيما ظهر فيه ما يوجب الجمع، وإن لم يظهر معنى يقتضي التخصيصَ: فلا يخلو إما أن يظهرَ معنى يجوز أن يُسنَدَ إليه الحكمُ، أو لا، فإن ظهر معنى يجوز أن يُسنَدَ إليه الحكمُ، ألحقنا حيثُ يجوز الإلحاقُ] (¬1)، وإن لم يظهر [معنى] (¬2)، وجب أنْ نقتصرَ على المنصوص، ونجعلَهُ تعبُّدًا، فإن شرطَ التعدية (¬3) فهمُ المعنى. وكذلكُ الفرق بين المصلِّي وغيرِ المصلي، إن أراد به الفرق في ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين جاء في "ت": "لا يخلو إما أن يظهر معنى تخصيص العقوبة المعينة بالجناية المعينة أو لا، فإن ظهر معنى يجوز أن يسند إليه الحكم، فقد ظهر ما يوجب الفرق، ونحن نتكلم معك فيما ظهر فيه ما يوجب الجمع". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "التعبدية".

الإكرام واستحقاقِ الثواب شرعًا، فعليه قيامُ الفارق بين المصلي وغيره، وهو (¬1) وجودُ العلة فيه، وانتفاؤُها عن غيره، لا مجرَّدَ الاسم كما تقول. قال: ولو أنصفوا أنفسَهم؛ لأنكرَ المالكيون والشافعيون على أنفسهم تفريقَهم بين مَسِّ الذَّكرِ بباطن الكفِّ؛ فينتقِضُ (¬2) الوضوءُ، وبين مَسِّهِ بظاهر الكف؛ فلا ينتقض (¬3) الوضوء (¬4). قلنا: سببُ التفريق أنه ذُكِرَ أنَّ الإفضاءَ لا يكون إلا بباطن الكف، وذلك قضاءٌ على اللغة، وإخبار عنها [بأن هذا هو الوضع] (¬5)، فإن صحَّ فالانتقاض بباطن الكف على هذا التقدير كالنص (¬6)، وعدم الانتقاض بظاهر الكف؛ لعدم ظهور المعنى المعقول في انتقاض الوضوء بمسِّ الذَّكَرِ في الجملة، وما قيل فيه من المعنى المناسب ليس بالقوي، ولا ينتهي في درجة الظن إلى ما يُقارِبُ القطعَ، بخلاف ما نحن فيه. وإن لم يصحَّ ما ذُكِر من أنَّ الإفضاءَ لا يكون إلا بباطن [الكف] (¬7)، فالخطأ هاهنا مبنيٌ على فساد الأصل، لا على وجوب ¬

_ (¬1) "ت": "ويقويه". (¬2) "ت": "فينقض". (¬3) "ت": "فينقض". (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 158). (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "بالنص". (¬7) زيادة من "ت".

المساواة بين باطن الكف وظاهرِها الَّذي أنت تحاولُ تقريرَهُ. قال: ولأنكرَ المالكيون على أنفسهم تفريقَهُم بين حكم الشريفة وحكم الدنيَّة في النكاح، وما فَرَّقَ الله تعالى بين فرجيهما في التحليل والتحريم والصَّدَاق والحَدِّ (¬1). قلنا: إنما فرقوا بين الدنيَّة والشريفة لمعنى رأوا أنَّه العلةُ في اشتراط الولي الأقرب. وتقريرُه: أنَّ النساءَ مَظِنَّةُ الانخداعِ، والميلِ إلى الشهوات، وتقديمِ أهل الغنى على أهل الدين، وذلك قد يجرُّ إلى إلحاق العار الشديد بالأولياء، لاسيَّما في طباع العرب، فاقتضى هذا المعنى عندهم أن يكونَ علةً لتفويض الأمر إلى الأولياء، دفعًا لضرر العارِ عنهم، وللمفاسد الناشئة عن (¬2) تفويض أمر النكاح إلى المرأة، وهذا المعنى معدومٌ في الدنية التي لا عارَ في تزويجها مِنْ أحدٍ على أحد، فلا تساوي الشريفةَ، فاقتضى الحالُ التفرقةَ، فإذا امتنع تزويجُها نفسَها مباشرةً وزوَّجها غيرُها - مَنْ كان - لم تحصل مفسدةُ الإضرار لإلحاق العار، فلا يخلو حينئذٍ: إما أن يكونَ هذا المعنى مُعتبَرًا، أو لا؛ فإن كان معتبرًا فالفرقُ ظاهرٌ، وإن لم يكنْ معتبرًا فالخطأ في الحكم؛ لأجل الخطأ في النظر في العلة، لا لأجل التفريق، وخطؤكم في التفريق مع مقتضى الجمع قطعًا أو قريبًا منه. ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 158). (¬2) "ت": "من".

قال: ولأنكرَ المالكيون والشافعيون تفريقَهُمْ بين حكم التمر وحكم التين (¬1) في العرايا (¬2). قلنا: فرَّقوا بقيام الدلائل الشرعية على تحريم بيع الرَّطْبِ باليابس، فإنْ ظهرَ معنى يقتضي التخصيصَ، [أو] (¬3) يجوز اعتبارُه شرعًا [في علة الحكم] (¬4)، فلا إنكارَ في التخصيص، وإن لم يظهرْ، وجب الاقتصارُ على موضع النص، لفقدان شرط الإلحاق، وهو فهمُ المعنى. قال: وهؤلاء المالكيون يُفرِّقون معنا بين ما أدخل الكلبُ فيه لسانَه، وبين ما أدخل فيه ذَنبَهَ المبتلَّ [من الماء] (¬5). قلنا: حَمَلَهم عليه أنَّهم رأوا إباحةَ الاصطياد به وملابستَه، وأكلَ ما يصيده دليلَ الطهارة، ولم يظهرْ لمالك - رحمه الله تعالى - في غسل الإناء سبعًا [معنى] (¬6) بعد طهارته، فقضى بالتَّعبُّدِ، ولا قياسَ مع التعبد، وهذه أمورٌ نظريةٌ لا تنتهي إلى ما ارتكبتموه من الفرق، فإنْ صحَّتْ، فالفرقُ صحيحٌ، وإلا فلا خطأَ من جهة الفرق، ولا من جهة اتباعِ الاسم في غير صورة الفرق. ¬

_ (¬1) في المحلى": "البسر". (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 158). (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت"، وانظر: "المحلى" (1/ 158). (¬6) سقط من "ت".

قال: ويفرقون بين بول البقرة وبين بول الفرس، ولا نصَّ في ذلك (¬1). قلنا: فرقوا؛ لأنَّ الأبوالَ تابعةٌ للُّحوم، وأقاموا دليلًا على طهارة بول ما يؤكَلُ لحمُه، والبقرةُ مأكولةُ اللحمِ، فكان بولُها طاهرًا عندهم، والخيلُ مكروهةُ اللحم، فكان بولُها مكروهًا أو نجسًا على حسب ما اختلفوا فيه، والكلامُ في جميع هذه المقدمات اجتهاديٌّ لا ينتهي الخطأ فيه إلى ما انتهيتم إليه، فلا (¬2) يساويه. قال: بل أشنعُ من ذلك تفريقُهم بين خُرء الدَّجاجة المُخَلَّاة، وخُرئها إذا كانت مقصورةً، وبين بول الشاة إذا شربت ماء نجسًا، وبولها إذا شربت ماء طاهرًا (¬3). قلنا: فرقوا؛ لأن الأبوالَ والأَرْواثَ فضلةُ المأكول والمشروب بعينها لم تأتِ من غيرها، ولا انتقلت (¬4) إلى صلاح، فإذا كانت نجسةً قَبْلَ استعمالِ الحيوانِ لها، ثبتت (¬5) على ما كانت عنيه، إذ لا موجبَ لانقلابها طاهرةً بعد نجاستها أولًا، وعدمِ انتقالها إلى صلاح، بل قد انتقلت إلى صفة الاستقذار التي تؤكِّدُ الحكمَ بالنجاسة. ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 158). (¬2) "ت": "ولا". (¬3) انظر: "المحلى" (1/ 158). (¬4) "ت": "انقلبت". (¬5) "ت": "بقيت".

قال: وفرَّقوا بين الفول وبين نفسه، فجعلوه في الزكاة مع الجُلْبَان (¬1) صنفًا واحدًا، وجعلوهما (¬2) في البيوع صنفين (¬3). قلنا: فرقوا؛ لاعتقادهم أنَّ علَّةَ الجمع في الزكاة غيرُ علة الجمع في البيوع، فإن صحَّ هذا الاعتقاد فالفرقُ صحيح، وإلا فهو خطأ في نصب العلة في محل اجتهاد، وليس كلُّ خطأ في محل الاجتهاد في طريق الشناعة، ولا انتهى إلى ما ارتكبتموه، ولو انتهى بعضُ (¬4) المجتهدين إلى هذا الحدِّ لالتحقَ بكم في الشناعة، لكنه بعيدٌ أن ينتهيَ معكم إلى هذا التشنيع. قال: وكلُّ ذي عقل يدري أنَّ الفرقَ بين البائل والمتغوط بنصٍّ [جاء] (¬5) في أحدهما دونَ الآخر، أوضحُ من الفرق بين البولِ أمسِ والبول اليومَ، وبينَ الفول ونفسه، بغير نصٍّ ولا دليلٍ أصلًا (¬6). قلنا: أما الأمس واليوم فلا مدخلَ له في أحكام النجاسة والطهارة، وإن كنتَ أردتَ أن بولَ الشاة أمسِ قبلَ أكلها النجاسة، يفارق بولَها اليومَ بعد أكلها النجاسةَ، فليس ذلك للأيام حتى يصلُحَ ¬

_ (¬1) الجُلْبَان والجُلُبَّان: نوع من الحبوب. (¬2) في "المحلى": "وجعلوه". (¬3) انظر: "المحلى" (1/ 158). (¬4) "ت": "البعض". (¬5) زيادة من "المحلى". (¬6) انظر: "المحلى" (1/ 158).

التشنيعُ بها، وإنما هو لأجل استعمال النجاسة، وانتفاءِ العلة بالأمس ووجودِها اليوم، وإدخالُك الأيامَ في هذا إيهامٌ؛ لأنها (¬1) العلةُ التي أُدير عليها الحكمُ حتى [تقيمَ] (¬2) فيه الشناعةَ، وليس الأمرُ كذلك. وافتراقُ الأحكامِ بسبب تغاير عللهِا وزوالهِا كثيرةٌ لا تُحصَى، والشريعةُ لا يُشَنَّعُ (¬3) فيها بأنْ ينسَبُ الحكمُ إلى الأيام التي لا اعتبار بها، والتفريقُ بين البول أمسِ والبولِ اليومَ؛ لانتفاء العلة أمس ووجودِها اليوم، كالتفريق بين حلِّ الفرج أمسِ وتحريمِهِ اليومَ بحدوث (¬4) علة التحريم، وهي (¬5) الطلاق، وبين تحريمِه أمس وإباحته اليوم؛ لأجل وجود علة الإباحة، وهي النكاح، وحلِّ نَقِيعِ الزَّبيبِ والتمر أمسِ وحرمتُه اليومَ؛ لِطُرءِ علة التحريم، وهي (¬6) الإسكار، وهذا الَّذي ذكره من المغالطات شبيهٌ بتصرفات الشعراء. وقوله: بغير نص ولا دليل أصلًا، فأما كونه بغير نصٍّ، فقد نسلِّمه مسامحةً في بعض الصور، إلا أن الحكم عند خصمه لا يتوقف على النص فقط، فإن كان يُشنِّعُ عليه بكونه يُثبِتُ (¬7) حكمًا بغير نصٍّ، ¬

_ (¬1) أي: إيهام بأنها. (¬2) "ت": "تقوم". (¬3) "ت": "تشنيع". (¬4) "ت": "لحدوث". (¬5) "ت": "وهو". (¬6) "ت": "وهو". (¬7) "ت": "ثبت".

وأنه لا تثبتُ الأحكامُ إلا بالنصوص، فهذا كلامٌ في أصل القياس وكونِهِ دليلًا، فليشنِّعُهُ على الأمةِ شرقًا وغربًا، وقُربًا وبُعدًا (¬1) في أمصار الإسلام. قال: وهؤلاء الشافعيون فرقوا بين البول في مخرجه من الإحليل، فجعلوه يَطْهُرُ بالحجارة، وبين ذلك البول في نفسه من ذلك الإنسان نفسه إذا بلغ أعلى الحَشَفة، فجعلوه لا يَطْهُرُ إلا بالماء (¬2). قلنا: فرقوا للدليل الدالِّ على اجتناب النجاسة، مع الدليل الدالِّ على الاكتفاء بالحجر في محل الإحليل، مع قاعدة وهي: أنَّ مَوْرِدَ النصِّ إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكونَ مُعتبرًا في الحكم، لم يجزْ إلغاؤه؛ لأنه لو أُلغِيَ لكان قياسًا مع إمكان الفارق، وهو غلط، ولاشكَّ أن البول في الإحليل متكرِّرٌ ابتُلي المكلف بتكرُّرِهِ، ولا يساويه في هذا المعنى البولُ في غير الإحليل، ويمكن أن يكون الشارعُ سامح في ذلك المحلِّ مع كون الأصل تحريمَ استصحاب النجاسة في العبادة (¬3)؛ لأجل هذه المشقة المتكررة، فلا يُلحَقُ غيرُ محلِّ النصِّ بهْ؛ لاحتمال اعتبار الفارق الَّذي في محل النص. قال: وفرَّقوا بين بول الرضيع وبين غائِطِه في الصَّبِّ والغَسل، ¬

_ (¬1) "ت": "وبعدًا وقربًا". (¬2) انظر: "المحلى" (1/ 158). ووقع هناك: "وبين ذلك البول نفسه". (¬3) "ت": "العبادات".

وهذا هو (¬1) الَّذي أنكروا علينا هاهنا بعينه (¬2). قلنا: للتفريق مآخذ: أحدُها: أنَّ الأصلَ اجتنابُ النجاسة ووجوبُ غَسْلِها، والنصُّ في النَّضْح وَرَدَ في البول (¬3)، فيبقى في الغائط على مقتضى الأصل، ففرقوا بين البول والغائط لاقتضاء الدليل وجوبَ الاحترازِ عن الغائط وغسلِه، وتفريقهم هاهنا بين البول والغائط لا يساوي هذا. وثانيها: أنَّ التخفيفَ في البول يمكن أن يكونَ لما فيه من القصور في الاستقذار عن الغائط، ويمكن أن يكونَ الشارعُ اعتبر هذا المعنى، فإلحاقُ غيرِه به قياسٌ مع إمكان الفارق، وأما إلحاقُ الغائطِ بالبول فيما نحن فيه فهو عكسُ هذا، فإنه إذا نصَّ على الأخف بالمنع، فالأغلظُ أولى قطعًا، كما في تحريم التأفيف مع الضرب. قال: وهؤلاءِ الحنفيةُ فرقوا بين بول الشاة في البئر فيفسدُها، وبين ذلك المقدار نفسه من بولها بعينه في الثوب فلا يفسدُه. وفرقوا بين بول البعير في البئر فيفسده، ولو أنه نقطةٌ، ولو وقعت بَعْرتان من بَعْر ذلك الجمل في الماء في البئر (¬4) لم يَفْسُدِ الماءُ، ¬

_ (¬1) "ت" زيادة: "نفسه". (¬2) انظر: "المحلى" (1/ 158). (¬3) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر"، كما رواه أبو داود (375)، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، وغيره من حديث لبابة بنت الحارث رضي الله عنها. وإسناده صحيح. (¬4) في "المحلى": "في ماء البئر".

وهذا نفسُ ما أنكروا علينا. وفرقوا بين روث الفرس (¬1) يكون في الثوب منه أكثرُ من قدر الدرهم البغلي (¬2) فيفسدُ الصلاة، وبين [بول] (¬3) ذلك الفرس نفسه يكون في الثوب، فلا يفسدُ الصلاة إلا أن يكون ربعَ الثوب عند أبي حنيفة، أو شبرًا في شبر [عند أبي يوسف] (¬4)، فيفسدها حينئذ، وزفرٌ منهم يقول: بولُ ما يؤُكَلُ لحمُه طاهرٌ كلّه، ورجيعُهُ نجسٌ (¬5)، وهذا هو الَّذي أنكروا علينا. وفرقوا بين ما يملأ الفم من القَلَس وبين ما لا يملأ الفمَ [منه] (¬6). وفرقوا بين البول في الجسد فلا يُزيله إلا الماءُ، وبين البول في الثوب فيزيلُه غيرُ الماء. قال: ولو تتبعنا سَقَطاتِهم لقام منها ديوانٌ (¬7). قلنا: لسنا ننكرُ عليك، ولا على أحد من المجتهدين ما كان عن اجتهاد فأخطأ فيه، وإنما ننكرُ على مَنْ فرَّق بين المنصوص عليه وبين ¬

_ (¬1) "ت" زيادة: "نفسه". (¬2) الدرهم البغلي: منسوب إلى ملك يقال له: رأس البغل، كل درهم ثمانية دوانيق، انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 113). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 10). (¬6) سقط من "ت". (¬7) انظر: "المحلى" (1/ 158 - 159).

ما هو في معنى المنصوص عليه قطعًا، وننكرُ جحدَ ما يَبِيْنُ من مقصود المتكلم وعلة الحكم قطعًا أو قريبًا من القطع، فإن كان شيءٌ مما ذكرتَ من هذا القبيل فبيِّنه، وإلا فلا مساواة. قال: فإن قالوا: مَنْ قال بقولكم هذا في الفرق بين البائل والمتغوِّط في الماء الراكد قبلَكم، قلنا: قاله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، الَّذي لا يأتيه الباطلُ مِنْ بين يديه ولا من خلفِه؛ [إذ بيَّن لنا حكمَ البائل] (¬1)، وسكت عن المتغوِّط والمتنخِّم والمتمخِّط (¬2). قلنا: لم يفرقْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين البائل والمتغوط في الحكم قطُّ، وإنما فرق بينهما في الذِّكر والسكوت، وأَخْذُ التفريق بينهما في الحكم من التفريق بينهما في الذكر والسكوت يتوقفُ على دليل خارجٍ عن اللفظ، فلا يجوزُ أن يُنسَبَ إلى قول الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -؛ أعني: التفريقَ في الحكم، وأقلُّ درجات ما ادَّعينا فيه القطعَ أو قريبًا منه أن يكون مُحتمِلًا، فكيف يحلُّ مع الاحتمال أنْ تَجْزِمَ القولَ بأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قاله؟! وأينَ هذا من نسبتك الناسَ إلى الكذبِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فهموا معنى، ورتَّبوا عليه (¬3) الحكم؟! قال: ولكن أخبِرونا مَنْ قال مِنْ ولد آدم بفروقكم هذه قبلَكم، كالفرق بين بول الشاة في البئر وبولها في الثوب، وبين بولها في ¬

_ (¬1) زيادة من "المحلى". (¬2) انظر: "المحلى" (1/ 159). (¬3) "ت": "رتبوه".

الجسد وبولها في الثياب، وبين بول الشاة تشرب ماء طاهرًا وبولها إذا شربت ماء نجسًا، وبين البول في رأس الحَشَفة وبينَه فوقَ ذلك، فهذا (¬1) هو الَّذي لم يقلْهُ أحدٌ قطُّ قبلَهم، وليتهم - إذْ قالوه (¬2) مبتدئين - قالوه بوجه يُفهَم أو يُعقَل، وكذلك سائرُ فروقهِم المذكورة، والحمد لله رب العالمين. ونحنُ لا ننكرُ القول بما جاء به القرآنُ والسنة، وإن لم نعرف قائلًا مُسمَّى به، وهم ينكرون ذلك ويفعلونه، فاللوائمُ لهم لازمةٌ لا لنا (¬3). قلت: الواجبُ أن لا يقولَ الناظرُ ما قال أهلُ الإجماع [خلافَهُ] (¬4)، ودونَ هذا في الرتبة ما اشتهر به العملُ بين الأمة من غير نكير، وإنْ لم يتحَّققْ قولُ كلِّ واحد منهم، فمَنْ خالف وابتدع (¬5) قولًا شُنِّعَ عليه به، وأما أنَّ الواجبَ أن لا يقولَ إلا ما قال بعضُهم وِفَاقَه، [وإن ظهر] (¬6) عليه دليل من كتاب أو سنة، ولم يكنْ [من أحد ¬

_ (¬1) "ت": "هذا". (¬2) في الأصل: "إذا قالوا"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "المحلى" (1/ 159)، وقال بعده: وإنما ننكر غاية الإنكار القولَ في دين الله تعالى وعلى الله ما لم يقله تعالى قط، ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا والله هو المنكر حقًا، ولو قاله أهل الأرض. (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "خالفه ابتدع". (¬6) في الأصل "أيظهر"، والمثبت من "ت".

القسمين] (¬1)، فهذا موضعُ نظر، ومَنْ لم يُوجِبْ ذلك، فلا تشنيعَ عليه فيما يذهبُ إليه، لا من جهتك، ولا من جهتهم، وأما إنكارهم ذلك مع فعله، فمنكرٌ على مَنْ فعله منهم قبيحٌ. * * * ¬

_ (¬1) "ت": "من قبيل المشتهر والممكن".

الحديث الثالث

الحديث الثالث رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في الْمَاءَ الدَّائِم، وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ". [أخرجَهُ أبو داود] (¬1) (¬2). الكلام عليه من وجوه: ... ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) * تخريج الحديث: رواه أبو داود (70)، كتاب: الطهارة، باب: البول في الماء الراكد، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 433)، وابن حبان في "صحيحه" (1257)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 238)، وابن حزم في "المحلى" (2/ 41)، والبغوي في "شرح السنة" (2/ 67)، وغيرهم من طريق يحيى بن محمد، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن. أبي هريرة، به. ورواه النسائي (398)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: ذكر. نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 238)، من طريق يحيى بن محمد، عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به. قال البيهقي: هذا اللفظ هو الَّذي أخرج في "الصحيحين" من هذا الحديث: "ثم يغتسل منه"، إلا أنه لم يخرج فيه "للجنابة".

[الوجه] الأول

* الأول: أبرزَ ذكرَ محمد بن عجلان ليبيِّن نسبةَ هذا اللفظ إلى روايته، فإنه مخالفٌ في مدلوله لمدلول الحديث الَّذي قبلَه، كما تبيَّنَ في الفرق بين النهي عن الشيئين على الجمع وعن الجمع، فالأولُ نهيٌّ عن الجمع، وهذا نهي على الجمع. ووقع (¬1) لابن عجلان رواية أخرى على هذا المعنى من رواية ابن جريج (¬2) عنه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في (¬3) كتاب الطهارة في "شرح الآثار" [للطحاوي] (¬4) (¬5). * * * الوجه الثاني: في التعريف بمَن ذُكِرَ فيه: أما ابن عجلان: فمدنيٌّ يُكنَّى أبا عبد الله، روى عن غير واحد من التابعين وغيرِهم، روى عنه الأئمة الأجلاء: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، واللَّيثُ بن سعد، ويحيى بن سعيد القَطَّان، وغيرُهم. ¬

_ (¬1) "ت": "وقد وقع لنا". (¬2) في المطبوع من "شرح معاني الآثار": "حيوة بن شريح" بدل "ابن جريج". (¬3) "ت": "من". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 15).

قال أحمد بن حنبل: [قال يحيى بن سعيد] (¬1): حدثنا محمد بن عَجلان، وكان ثقةً (¬2). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألتُ أبي عن محمد بن عجلان وموسى بن عقبة، أيُّهما أعجبُ إليك؟ فقال: جميعًا ثقةٌ ما أقربُهما؛ كان ابن عيينةَ يثني على محمد بن عجلان (¬3). وكذلك صالح بن أحمد، عن أبيه: محمد بن عجلان ثقة (¬4). وكذلك قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين (¬5). وقال (¬6) ابن أبي حاتم: سألت أبي عن محمد بن عجلان قال (¬7): [ثقة، وقال:] (¬8) سمعت أبا زرعة يقول: محمد بن عجلان من الثقات (¬9). وذكر ابن أبي حاتم قال: ثنا أبي، ثنا يحيى بن المغيرة قال: زعم جرير قال: ما رأيتُ من المدنيين من يشبهُ محمدَ بن عجلان، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (1/ 198)، ومن طريقه: ابن أبي حاتم، في "الجرح والتعديل" (1/ 45)، عن الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، أنه كان يقول ذلك. (¬3) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (2/ 19). (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8/ 49). (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8/ 49). (¬6) "ت": "فقال". (¬7) "ت": "فقال". (¬8) زيادة من "الجرح والتعديل". (¬9) انظر: "الجرح والتعديل" (8/ 49).

كان مثلَ الياقوتِ الأحمرِ (¬1). قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يذكر عن مشيخته، عن ابن المبارك قال: لم يكن بالمدينة أحدٌ أشبهَ بأهل العلم من ابن عجلان، كُنْتُ أشبِّهُه بالياقوتة بين العلماء (¬2). وقال البخاري في "تاريخه": حدثنا علي، [عن] ابن أبي [الوزير] (¬3)، عن مالكٍ: أنه ذَكَرَ محمدَ بن عجلان، فذكر خيرًا (¬4). قلتُ: قد خرَّجَ مسلمٌ لمحمد بن عجلان في "الصحيح"، واستشهد به البخاري في كتاب التوحيد (¬5). وبعد هذا كله: فقد روى ابن أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين يقول: كان يحيى بن سعيد لا يرضى محمدَ بنَ عجلان (¬6). وقال يحيى القطان: لا أعلمُ إلا أني سمعت ابنَ عجلان يقول: كان سعيدُ المقبُري يحدِّث عن أبيه، و (¬7) عن أبي هريرة، وعن رجل، عن أبي هريرة، فاختلطتْ عليَّ، فجعلتُها عن أبي هريرة (¬8). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) في الأصل بياض، وكذا "ت"، والمثبت من "ب". (¬4) انظر: "التاريخ الكبير" (1/ 196)، و"التاريخ الأوسط" (2/ 75). (¬5) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (26/ 101)، و"الإمام" للمؤلف (1/ 130). (¬6) نقله ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (1/ 410). (¬7) في المطبوع من "التاريخ الكبير" بحذف الواو. (¬8) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 196).

وقال عباس الدُّوري عن يحيى بن معين: محمد بن عجلان ثقةٌ أوثقُ من محمد بن عمرو بن علقمة، ما يشك في هذا أحد، كان داودُ بن قيسٍ يجلس إلى محمد بن عجلان يتحفَّظ عنه، ويقال: إنها اختلطت على محمد بن عجلان (¬1)؛ يعني: في حديث سعيد المقبري. قلت: أما قوله: كان يحيى بن سعيد لا يرضى محمد بن عجلان: فليس هذا باللفظ المقتضي لما (¬2) يوجب سقوطَ الرواية، وقد يقال مثله فيمَنْ يَكْرَه القائلُ منه شيئًا لا يُوجِب تركَهُ، هذا مع تشديد الإمام [الجليل] (¬3) أبي سعيد يحيى بن سعيد في الرجال. وقد ذكر [ابن] (¬4) شاهين من رواية عباس (¬5) الدوري، عن يحيى ابن معين، قال يحيى بن سعيد: لو لم أروِ إلا عن كلِّ مَنْ أرضى - أو كلمة نحوها - ما رويتُ إلا عن خمسة (¬6). ومن رواية بُندار قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: وقلت له عن ثقة فقال: لا تقل عن ثقة، لو حققتُ لك، ما حدثتك إلا عن ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ ابن معين - رواية الدوري" (3/ 195)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 49). (¬2) "ت": "ما". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "ابن عباس"، والتصويب من "ت". (¬6) انظر: "تاريخ ابن معين - رواية الدوري" (4/ 189).

أربعةِ: ابنِ عون، وشعبةَ، ومسعرٍ، وهشامٍ الدَّستوائي (¬1). ومعلوم قطعًا أنه لا يمكن الاقتصارُ في الاحتجاج على مثل هؤلاء، ولا عن مثل من هو في طبقتهم، فقد ضعُفَت دَلالةُ اللفظِ على (¬2) التجريح، مع تشديد الإمام أبي سعيد، وكثرةِ الثناء على محمد ابن عجلان، مما تبين لك في ذلك. وأما حديثُ روايته عن سعيد المقبري واختلاطِها وفعلِه فيها: فهذا قد عُدَّ في النوع المسمَّى بالتسوية، وهو قريبٌ من التدليس في المعنى، ويفترقان في أن التدليسَ يستعمل فيما بين الراوي وشيخه؛ بأن يسقط ذكر شيخه ويذكر شيخ شيخه، والتسويةَ تُستعمل فيما بين الراوي وشيخِ شيخِه بأنْ يذكرَ الراوي شيخَه ويُسقِطَ شيخَ شيخِه، ويذكرَ شيخَ شيخِ شيخِه. وذكر أبو الحسنِ ابن القطان: أن ابن عجلانَ كان قد أخذ عن المقبري ما رواه [عن أبيه] (¬3)، عن أبي هريرة، [وما رواه عن أبي هريرة] (¬4)، وما رواه عن رجل عن أبي هريرة، فاختلطتْ عليه، فجعلها كلَّها عن أبي هريرة (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن شاهين في "تاريخ أسماء الثقات" (ص: 112). (¬2) في هامش "ت": "لعله: عن". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل و"ب": "عن أبيه، عن أبي هريرة"، والتصويب من "ت". (¬6) انظر: "تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 304).

قال: وأنت لا تشاء أن ترى لابن عجلان حديثًا عن المقبري عن أبي هريرة إلا رأيتَه. وكان ابنُ القطَّانِ لما ذكر أحاديث ابن عجلان عن المقبري ذكر: أنه (¬1) قد اعترف على نفسه بأنه سوَّاها؛ يعني: أن ابن عجلان اعترف. قلت: الَّذي ذكرتُه عن ابن القطان هو الَّذي ذكره [أبو] (¬2) محمد بن أبي حاتم (¬3)، وهو مخالف لما ذكره أبو الحسن بن القطان من وجهين: أحدهما: أن في اللفظ الَّذي ذكرناه [عن يحيى] (¬4) بعضَ شكٍّ؛ لقوله: لا أعلم إلا أني سمعت، واللفظ الَّذي ذكره ابن القطان ليس فيه ذلك، فإنه جزم بفعل ابن عجلان ما ذكر. والوجه الثانى: [أن] (¬5) الَّذي حكيناه (¬6) قولُه: فاختلطت عليَّ فجعلتُها عن أبي هّريرة، والذي قال ابنُ القطانِ: فاختلطت عليه فجعلَها (¬7) عن المقبري، عن أبي هريرة، وبين اللفظين تفاوتٌ؛ فإن الأولَ أعمُّ من الثاني، وأقربَ إلى التأويل. ¬

_ (¬1) "ت": "بأنه". (¬2) سقط من "ت". (¬3) لم أقف على هذا الكلام عند ابن أبي حاتم في المطبوع من كتابه: "الجرح والتعديل"، والله أعلم. (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "حكيته". (¬7) في الأصل: "فجعلتها"، والمثبت من "ت".

ثم أقول: إما أن يُؤخَذَ هذا اللفظُ على أنه قدحٌ في الراوي، أو قدحٌ في الرواية، فإن أُخِذَ قدحًا في الراوي فهذا يحتاج إلى صيغة لفظه في الرواية، فإن ذَكَر صيغةً تدل على سماع شيخِه من شيخِ شيخِ شيخِه الذي ذكره، مع أنه أسقط ذكرَ شيخِ شيخه، فهذا كذبٌ لا شكَّ فيه، ولا يمكن أن يثبتَ عن ابن عجلان هذا، ولا يَحِلُّ لمسلم أن يظنَّ [به] (¬1) ذلك، ومثاله أن يقول: حدثني المقبري قال: سمعت أبا هريرة، وإن ذَكَر صيغةً لا تدل على السماع كما لو قال: ذكر المقبري عن أبي هريرة، أو استعمل ما كان يستعمله المتقدمون من ذكر اسم الشيخ من غير أن يذكر روايته، كما لو قال: المقبري عن أبي هريرة، فهذا وما أشبهه تدليسٌ، ولا تَسقطُ العدالةُ به مع احتمال الصدق، إلا أن يكون المدلِّسُ أسقطَ مجروحًا عنده، ويثبت (¬2) ذلك عنه، فروَّجَ الحديثَ بتركه، فإن هذا لا يَحِلُّ، ولا يكاد يثبت عن أحد بإقراره، ولو أُسْقِطَ الراوي بمطلق التدليس، لتُرِكَ حديثُ كثيرٍ من الأئمة الذين وُصِفوا بالتدليس. فالذي حكيناه من قوله: فجعلتها عن أبي هريرة، والذي حكاه ابنُ القطان من قوله: فجعلتها كلَّها عن المقبُري عن أبي هريرة: أمرٌ مشكوكٌ في لفظه (¬3)، لا يثبت ما يوجب الردَّ لروايته بعد تواترِ الثناءِ عليه من الأئمة. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "وثبت". (¬3) "ت": "لفظ".

وأما إن أُخِذَ قدحًا في الرواية دون الراوي: فهذا خارجٌ عما نحن فيه؛ لأن هذا الحديثَ الذي ذكرناه ليس من رواية ابن عجلان عن المقبري، ومع هذا فنذكر ما عندنا من هذا القسم فنقول: ما خُرِّجَ من (¬1) روايته عن المقبري (¬2)، عن أبي هريرة لا إشكال فيه، مثل ما يرويه عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة، وكذلك ما صرَّح فيه بسماع المقبري عن (¬3) أبي هريرة، وما ليس كذلك فمَنْ يقبل روايةَ المدلِّس حتى يتبيَّنَ التدليسُ ينبغي أن يقبل، ومن يردُّ روايته حتى يتبين السماعُ ينبغي أن يرد، والله أعلم. وقد ذكر الحاكمُ ما معناه: أنَّ مُسلمًا روى عن ابن عجلان ثلاثةَ عشرَ حديثًا، كلُّها في الشواهد، وقال: قال المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه (¬4)، والأئمةُ المقتدى بهم في عصره قد أَثْنَوْا عليه، وقد روى النعمان بن عبد السلام، وإبراهيم بن طهمان، عن مالك بن أنس، عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة في المملوك: "لَهُ طَعَامُه وكِسْوَتُهُ" (¬5)، قال مالك رحمه الله تعالى: وهو ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن"، والمثبت من "ت". (¬2) لعل الصواب أنه يقال: عن المقبري، عن رجل ... ، فهذه لا إشكال فيها من جهة أن فيها مجهولاً، فحكمها معلوم، والله أعلم. (¬3) "ت": "من". (¬4) انظر: "المغني في الضعفاء" (2/ 613)، و"ميزان الاعتدال" كلاهما للذهبي (6/ 256). (¬5) رواه أبو عوانة في "مسنده" (4/ 74)، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/ 7)، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (1/ 213)، وابن عبد البر =

الحكم في أهل المدينة، فإنه لم يُرْوَ (¬1) إلا عن ثقة. ومات محمد بن عجلان سنةَ ثمان وأربعين ومئة (¬2). وأما عجلان والد محمد فقالوا: مولى فاطمة بنت عتبة (¬3) [بن ربيعة القرشي، سمع أبا هريرةَ وفاطمةَ بنت عتبة] (¬4)، [و] (¬5) روى ¬

_ = في "التمهيد" (24/ 284)، والخليلي في "الإرشاد" (1/ 164)، من طريق النعمان بن عبد السلام، عن مالك، به. ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1685)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 37)، وأبو عوانة في "مسنده" (4/ 74)، وابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 283)، والخليلي في "الإرشاد" (1/ 164)، من طريق ابن طهمان، عن مالك، به. وقد رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 980) بلاغًا: أن أبا هريرة قال، فذكره. قال ابن عبد البر: هذا الحديث محفوظ مشهور من حديث أبي هريرة، وقد رواه مالك مسندًا عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، إلا أنهم قد تكلموا في إسناده هذا، انتهى. وقد رواه مسلم (1662)، كتاب: الأيمان، باب: إطعام المملوك، من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن العجلان مولى فاطمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "للمملوك طعامه وكسوته". (¬1) "ت": "فإنهم لم يرووا". (¬2) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 196)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 49)، "تهذيب الكمال" للمزي (26/ 101)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (6/ 317)، "الوافي بالوفيات" للصفدي (4/ 92)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 303). (¬3) "ت": "عقبة". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

الوجه الثالث: في شيء من مفردات ألفاظه، وفيه مسألتان

[عنه] (¬1) بُكير (¬2) بن الأشج وابنُه محمد بن عجلان، وقد خَرَّجَ له مسلم ابن الحجاج في "الصحيح" روايةَ بكير (¬3) عنه عن أبي هريرة في حق المملوك (¬4)، واستشهد به البخاري في بدء الخلق في ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام (¬5)، والله أعلم (¬6). * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفردات ألفاظه، وفيه مسألتان (¬7): الأولى: هذه المادة؛ أعني: مادة [لفظ] (¬8) (الجنابة) (¬9) دالةٌ على ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "بكر". (¬3) "ت": "بكر". (¬4) رواه مسلم (1662)، كتاب: الأيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه. (¬5) قلت: استشهد به البخاري في كتاب: الأنبياء، باب: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، حديث رقم: (3178). (¬6) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 61)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 306)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 18)، "الثقات" لابن حبان (5/ 277)، "تهذيب الكمال" للمزي (19/ 516)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 147). (¬7) "ت": "مسائل". (¬8) سقط من "ت". (¬9) "ت": "جنب".

على البعد (¬1) وما يقاربه من المعنى، قال [الشاعر] [من الطويل] (¬2): ينالُ نداكَ المُعْتَفِي عَنْ جَنَابةٍ ... وللجَارِ حظٌّ مِنْ نَداك سمينُ (¬3) أي: يناله عن بُعد. وتجانبَ الرجلان: تباعدَ كلٌّ منهما عن صاحبه، والجُنُبُ من الرجال: البعيد الغريب، قال الله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، وقال الشاعر (¬4) [من المنسرح]: ما ضَرّها لو غَدا لحاجَتِنَا ... غادٍ كريم أورائدٌ جُنُبُ أي: بعيد. وقد حُمل [عليه] (¬5) قولهُ تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص: 11]، فقيل: [أي:] (¬6) عن بعد. ويُثنَّى هذا [ويجمع] (¬7) فيقال: [هما] (¬8) جُنُبَان، وهم جُنُبون ¬

_ (¬1) في الأصل: "البعيد"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) ذكره ابن الأنباري في "الأضداد" (ص: 202)، ونسبه إلى خلف بن خليفة. (¬4) هو عبيد الله بن الرقيَّات، كما في "ديوانه" (ص: 3)، وعنده: "بحاجتنا"، و"زائر" بدل "رائد". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) زيادة من "ت".

الثانية

وأجناب، قالت الخنساء [من البسيط]: فابكِي أَخَاكِ لأيتامٍ وأرملةٍ ... وابكي أخاكِ إذا جَاوَرْتِ أَجْنَابَا (¬1) أي: أقوامًا (¬2) بعداء، وقيل: معنى تَجَنَّبَ الرجلُ الشيءَ إذا جعله جانبًا [وتركه] (¬3)، فقيل: من هذا يقال: رجل جُنُب؛ أي: أصابته جنابة (¬4)، كأنه في جانب عن الطهارة (¬5). الثانية: الجنابة - في عرف [حملة] (¬6) الشرع - تطلق على إنزال الماء، أو التقاء الختانين، أو ما يترتَّبُ على ذلك. قال أبو القاسم الراغب في "المفردات" (¬7): وقوله - عز وجل -: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]؛ أي: أصابتكم الجنابة، وذلك بإنزال الماء، أو بالتقاء الختانين، ثم قال: وسُمِّيت الجنابةُ بذلك لكونها سبباً لتجنُّبِ الصلاة في حكم الشرع (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان الخنساء" (ص: 11). (¬2) "ت": "قوم". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "الجنابة". (¬5) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 460)، و"الإمام" للمؤلف (1/ 136). (¬6) سقط من "ت". (¬7) انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب (ص: 206). (¬8) نقل هاتين المسألتين الفاكهانيُّ في "رياض الأفهام" (ق 10).

الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

* الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: قد تقدَّم أنَّ دلالةَ هذا الحديث على النهي عن الشيئين على الجمع، والذي قبلَه على النهي عن الجمع، ومقتضى النهي على الجمع تعلُّقَه بكل واحد منهما على انفراده. الثانية: ظاهرُ النهي التحريمُ، فمن يقول بالظاهر يذهب إليه، ومن [رأى] (¬1) ذلك مكروهاً غيرَ محرَّمٍ فقد خرج عن الظاهر، فيحتاجُ إلى دليل يقتضي ذلك، وليس الطريق هاهنا كالطريق في الحديث الذي قبله؛ لأن ذلك (¬2) الحديث يرجع الأمرُ فيه إلى النهي عن الوضوء أو عن الغسل بعد البول فيه، فمَنْ قام عنده الدليلُ على أنَّ الماء لا يَنجُسُ إلا بالتغيُّرِ، جعل ذلك مانعاً من إجراء النهي على ظاهره، وصرفه إلى الكراهة، وكذلك من قام عنده الدليلُ على أنَّ القلتين فما زاد لا ينجس إلا بالتغيُّرِ، مَنَعَهُ ذلك من إجراء النهي على ظاهره في عموم التحريم، وأما في هذا الحديث فلا تَعَرُّضَ للوضوء ولا للغسل، فلا يتأتَّى فيه مثلُ تلك الموانع، فيحتاج إلى صارف آخرَ عن إجراء اللفظ على ظاهره. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ونهيه - عليه السلام - عن البول (¬3) في الماء الراكدِ أو الدائمِ الذي لا يجري، ثم يغتسل منه، وهو ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "ذاك". (¬3) "ت": "بول الرجل"، وكذا هو في المطبوع من "إكمال المعلم".

الثالثة

يسير (¬1) الراكد، هذا منه - عليه السلام - على طريق التنزُّهِ والإرشادِ إلى مكارم الأخلاق، والاحتياط على دين الأمة، وهو في الماء القليل آكدُ منه في الكثير لإفساده له، بل ذَكَر بعضُهم: أنه كالوجوب فيه؛ لأنه [قد] (¬2) يتغيَّر به وَيفْسُد، فيظن مَنْ مَرَّ به أن فساده لقراره ومُكْثِه، وكذلك يكثر تكرُّرُ (¬3) البائلين في الكثير حتى يغَيرَهُ (¬4)، فحمى عليه الصلاة والسلام هذا العارضَ في الماء الذي أصلُهُ الطهارةُ بالنهي عن ذلك (¬5). وهذا الكلام في أوله حكمٌ بالكراهة وعدمِ التحريم، وحكايتُه عن بعضهم تقريبٌ لذلك لا تصريحٌ. الثالثة: هذا النهيُ معلَّلٌ بالاستقذار الحاصل في الماء بسبب البول، وهذه علةٌ عامَّةٌ للقليل (¬6) والكثير، فإن كان الماء قليلاً؛ فمَنْ يرى تنجيسَه بوقوع النجاسة فيه نشأت فيه علةٌ أخرى، [وهي إفساده وتعطيلُ منافعِه على غيره. وزاد بعضُهم علةً أخرى] (¬7) فيما إذا كان بالليل، وهو ما قيل: إن ¬

_ (¬1) في المطبوع من "إكمال المعلم": "تفسيره". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "تكرار". (¬4) في المطبوع: "يعتريه ذلك". (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 105). (¬6) "ت": "في القليل". (¬7) سقط من "ت".

الرابعة

الماء بالليل للجِنِّ، فلا يُبال فيه ولا يُغتسل منه خوفًا من آفةٍ تصيب من جهتهم، وهذا أمر (¬1) لا يثبت وينبغي أن يُنسَبَ إليه زيادةُ الكراهة، اللهم إلا أن يُجعلَ مجرَّدُ احتمالِ صحته سببًا للكراهة من غير (¬2) أن يُرَدَّ إلى ثبوته وصحته، فقد يكون لذلك وجةٌ، والله أعلم. وهذه العلةُ التي ذكرناها من الاستقذار، وشبهُها، دليلُها المناسبةُ، وإسنادُ الحكم إليها بعينها ليس بالقوي، وقد يترجَّح عليه المتمسكون بالظاهر القاصرون عليه من غير تعليلٍ به، والله أعلم. الرابعة: الذي قدَّمناه في الحديث السابق، من الحكم بالتساوي في البول في الماء والبول خارج الماء في النهي عن استعماله في الوضوء [أو الغسل] (¬3)، هو جارٍ هاهنا [في النهي عن البول، وجَعْلُنا الغائطَ ونحوَه من النجاسات في معنى الأصل جارٍ هاهنا] (¬4)، وهو قياسٌ في معنى الأصل. الخامسة: العمومُ يقتضي الاستواءَ في الحكم بالنسبة إلى الماء الكثير والقليل، والعلةُ المذكورة من الاستقذارِ والعِيافةِ النفسية موجودةٌ في الكثير أيضًا، فتعاضَدَ (¬5) ظاهرُ اللفظ والعلةُ. ¬

_ (¬1) "ت": "الأمر". (¬2) "ت": "من أن غير". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "فيتعاضد".

السادسة

السادسة: قد قدَّمنا في الحديث السابقِ أنَّ الماءَ المُستبحِرَ يَخرُجُ عن ذلك النهي، ويُخصَّ [ذلك] (¬1) العمومُ بالنسبة إليه، وليس يساويه الحكمُ المُستفادُ من هذا الحديث؛ لأن الاتفاقَ حاصلٌ على أن مثل ذلك [الماء] (¬2) لا يؤُثّر البولُ في إفساده ومنعِ (¬3) التطهير (¬4) فيه، فيجب أن يُخَصَّ من عموم اللفظ، وهذا الحديث ليس فيه إلا النهيُ عن البول في الماء، ولا تَعَرُّضَ فيه للطهارة، فإنْ قام الإجماعُ على عدم كراهة البول في ذلك الماء المستبحر وجبَ التخصيصُ أيضًا في هذا الحكم، فإن (¬5) لم يثبتْ قيامُ الإجماع على ذلك، فمن يرجع إلى التعليل بالمناسبة التي ذكرناها في الاستقذار - وما في معناه (¬6) - خَصَّصَ أيضًا؛ لأن تلك العلة في مثل ذلك الماء منتفيةٌ إذ لا استقذارَ في مثله، ومَنْ لم يرَ ذلك، واختار الرجوعَ إلى مَدلولِ اللفظ، فهذا يرجعُ إلى أنَّ العمومَ هل يُخَصُّ بالمعتاد في مثله والغالب، أم لا يُخَصُّ؟ فمن قال بالأول صرفَ النهيَ إلى المياه المعتادة في الاستعمال غالباً، وأخرجَ عن ذلك ما يَنْدُرُ استعمالُه ولا يكادُ يخطُر ببال المتكلم، ومن لم يَخُصَّ العمومَ بذلك، فلا يبعُدُ أن يُجرِيَ اللفظَ على ظاهره؛ لأنا نتكلم ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "مع". (¬4) "ت": "التطهر". (¬5) "ت": "وإن". (¬6) "ت": "معناها".

السابعة

على تقدير عدم ثبوت الإجماع على عدم الكراهة في مثل ذلك الماء، وعلى تقدير أن لا يُرَجَعَ إلى التعليل بالمناسبة، ويقالَ بانتفاءِ الحكم عند انتفاء العلة المذكورة، وعلى تقدير أن لا يُخَصَّ العمومُ بالغالب والمعتاد، فحينئذٍ يكون اللفظُ عامًّا مقتضياً سالماً عن معارضةِ [مثل] (¬1) هذه الأمور، فيُعمَلُ به، والله أعلم. السابعة: فيه تقييدُ الحكم بصفةِ كونِ الماءِ دائماً، فمَنْ يقول بالمفهوم يلزمُهُ المخالفةُ في الحكمِ عندما يكون جاريًا. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقولُه: "الَّذِي لا يَجْري"، دليلٌ على أنَّ الجاري بخلافه (¬2). الثامنة: ذُكِرَ في تعليل المخالفة بين الجاري والراكد: أنَّ البولَ لا يستقرُّ فيه، وأن جريَهُ يدفع النجاسةَ، وتَخلُفُه على التوالي الطهارةُ، وأنَّ الجاري في حكم الكثير الغالب، ما لم يكنْ ضعيفاً يغلبه البولُ ويغيِّرُه (¬3). التاسعة: منطوقُهُ دالٌّ على النهي عن الاغتسال من الجنابة في الماء الدائم. العاشرة: هو عامٌ بالنسبه إلى المغتسلين [من الجنابة] (¬4)، فيدخلُ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 105). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) سقط من "ت".

الحادية عشرة

فيه المغتسلُ وعلى بدنه أذى، والمغتسل وليس على بدنه، وهو منصوصٌ في "المُدَوَّنة" للمالكية (¬1)، وفي كلام القاضي عياض ما يُخُصَّصُ ذلك بالقليل؛ أعني: الكراهةَ، وإنْ غَسَل ما به من أذى، وعلَّله بأنه لا يَسلمُ الجسمُ من أذى ووسخٍ، فقد يُغيِّره (¬2)، والله أعلم. الحادية عشرة: وهو عامٌ بالنسبة إلى نوعي الجنابة؛ أعني: إنزالَ الماء والتقاءَ الختانين. الثانية عشرة: عامٌّ أيضًا بالنسبة إلى الأغسال المختلفة باختلاف نِيِّاتها، من غُسْل ينوي [فيه] (¬3) رفعَ الحدث، أو أداءَ فرضِ الغسل، أو استباحةَ الصلاة، أو استباحةَ ما لا يُستَباح إلا بالغسل، فإن (¬4) كلَّه غسلٌ من الجنابة. الثالثة عشرة (¬5): فيه تقييد الحكم بالصفة؛ أعني: صفة الدوام، فيفيد نفي الحكم عما يخالف تلك الصفة، وهو الماء الجاري عند من يقول بتلك الصفة، فيباح الغسل فيه. الرابعة عشرة: فيه أيضاً تقييدُ الغسلِ بكونه عن الجنابةِ، فيخرج ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (1/ 27). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 106). (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "فإنه". (¬5) سقطت هذه المسألة من الأصل، وأثبتت من "ت"، و"ب" وعليه فقد زادت مسائل هذا الحديث مسألة عن الأصل لتصبح إحدى وعشرين مسألة.

الخامسة عشرة

عنه ما ليس بغسل جنابة، كالغسل تبرداً وتنظيفاً (¬1)، وهذا قد يخدش في التعليل بالاستقذار والعِيافة، فإن ذلك قد يحصل بمجرَّد الاغتسال وإن لم يكنْ عن جنابة، إلا أنها في الجنابة أقوى إن لم تتحقَّقْ (¬2) سلامةُ البدن من الأذى. الخامسة عشرة: ما ليس بغسلِ جنابةٍ ينقسم قسمين: أحدهما: ما لا يدخل في باب القُرَبِ، كما مثلناه من التبرد والتنظف (¬3). والثاني: ما هو داخلٌ في باب القُرَبِ كالأغسال المسنونة؛ مثل غسل العيدين، والكسوف، وغيرهما، فظاهرُ التقييد بغسل الجنابة يقتضي إباحةَ ذلك، ولكنْ فيه نظرٌ يَخْتَصُّ به، وينفرد عن القسم الأول، وهو أداءُ العبادة [به] (¬4)، والله أعلم. السادسة عشرة: في قاعدة يُبتنَى عليها غيرُها: اختلفوا في أن الحدثَ هل يرتفع عن كل عضو بإكمال غسلِه، أم لا يرتفع إلا بإكمال الطهارة؟ وأدقُّ المذهبين أنه لا يرتفع إلا بالإكمال (¬5)؛ لأنَّ الحدث الذي ¬

_ (¬1) "ت": أو تنظيفًا". (¬2) في الأصل: "يحقق"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬3) في الأصل: "والتنظيف"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 529).

السابعة عشرة

يُتصوَّر فيه الرفعُ، على ما تقرر وتحقق، إنما هو المنعُ من أمور ترتَّبت على أسباب مخصوصة، وهذا المنع لا يزول إلا بإكمال الطهارة، وإذا كان لا يزول إلا بالإكمال، وهو معنى ارتفاع الحدث، فلا ارتفاعَ للحدث إلا بعد الإكمال، واستُدِلَّ على طهارة كلِّ عضو بإكماله بقوله - صلى الله عليه وسلم - في ثواب الوضوء: "فإذا غسلَ وجهَهُ خرجَتْ الخطايا مِنْ وجهِهِ" (¬1)، وكذلك في بقية الأعضاء، ووجهُهُ: أنَّ خروجَ الخطايا مرتَّبٌ على الطهارة، فيُستَدَلُّ به على حصول الطهارة، ويلزم من حصول الطهارة ارتفاعُ الحدث ضرورةً؛ لأنه إمَّا معناها، أو لازمٌ لمعناها (¬2). السابعة عشرة: إذا غسلَ الجُنُبُ بعضَ بدنه خارجَ الماء، ثمَّ غمسَ بقيةَ بدنِه في الماء، هل يتعلق به الحكمُ المذكور؟ إن (¬3) قلنا: إن الحدث لا يرتفع إلا بإكمال الطهارة تناولَه النهيُ؛ لأنَّ مُسمَّى الغسل إنما تحقق بالإكمال، والإكمال وقع في الماء الراكد، [فمسمى الغسل وقع في الماء الراكد] (¬4)، وإن قلنا: إن ¬

_ (¬1) رواه النسائي (103)، كتاب: الطهارة، باب: مسح الأذنين مع الرأس، وابن ماجه (282)، كتاب: الطهارة، باب: ثواب الطهور، والإمام مالك في "الموطأ" (1/ 31)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 348)، وغيرهم من حديث عبد الله الصنابحي - رضي الله عنه -، وهو حديث صحيح. (¬2) "ت": "لازم لها". (¬3) "ت": "وإن". (¬4) زيادة من "ت".

الثامنة عشرة

الحدث يرتفع عن كل عضو بغسله، فيمكن أن يقال: تحصل الكراهة لحصول ارتفاع الحدث عما غسل من الأعضاء في الماء الراكد. ويمكن أن يقال: إن الحكمَ مرتَّبٌ على اغتسال الجنب، وذلك حقيقة في كلِّه، مجازٌ في بعضه، والله أعلم. الثامنة عشرة: في قاعدة أخرى: اختلفوا في دلالة القِران بين الشيئين على الاستواء في الحكم، والمذكورُ عن أبي يوسف والمزني ذلك، والذين اختاروا غيره تمسكوا (¬1) بقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، [و] (¬2) الأول غيرُ واجب، والثاني واجبٌ (¬3). التاسعة عشرة: استُدِلَّ لأبي يوسف - رحمه الله تعالى - على أن الماءَ المستعمل نجسٌ بهذا الحديث، بناءً على القاعدة المذكورة، فإنه قرن (¬4) بين الغسل فيه والبول فيه، والبولُ فيه ينجسه، فكذلك الغسل. وجوابُهُ عند غيره: منعُ الدلالة كما تقدم، وذكر أبو محمد الحسين بن مسعود البَغَوي الفراء الفقيه في كتاب "شرح السنة" أنَّ فيه دليلاً على أن اغتسال الجنب في الماء القليل الراكدِ يسلبُ حكمَه، ¬

_ (¬1) في الأصل: "واختاروا غيره تمسكًا"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (8/ 109). (¬4) في الأصل: "فرق"، والتصويب من "ت".

العشرون

كالبول فيه يسلبُ حكمه، غيرَ أن البولَ فيه ينجسه؛ لأنه (¬1) نجس، والغسل لا ينجسه، لأن بدنَ الجنب ليس بنجس، لكنْ يسلب الطهوريةَ، ويستدل به مَنْ لا يُجَوِّزُ (¬2) الوضوءَ بالماء المستعمل (¬3). وهذا منه استدلالٌ بالقِران، إلا أنه أخذ الوصفَ الأعمَّ من التنجيس، وهو سلبُ حكم الماء، وتخصيصُهُ بالقليل ليس من هذا الحديث. العشرون: هل يتعدَّى [هذا] (¬4) الحكم إلى الوضوء، حتى يُكرَهَ أنْ يغمِسَ المحدِثُ أعضاءَهُ في الماء الراكد للطهارة الصغرى؟ أما مَنْ لا يقول بالقياس، فلا شَكَّ أنه لا يُعَدِّيه إليه، وأما من يقول به، فيمكن أنْ يُعَدِّيَه بجامع الطهارة عن الحدث، إلا أنَّ هذا ليس قياساً في معنى الأصل، فيكون ملحقاً بفوائد الحديث، وليس أيضاً بقوي؛ لأنه إن أَخَذَ قياسَ شَبَهٍ (¬5) - على ضعف قياس الشَّبهَ - فالاختلاف بين الحدث الأكبر والأصغر في الأحكام كثير، يُضعِفُ ذلك القياس، وإن أخذ قياسَ عِلَّةٍ، فالعلةُ المذكورة في هذا [الحديث] (¬6) من الاستقذار والعِيافة، قد لا يساوي فيها الحدثُ الأصغرُ الحدثَ الأكبرَ، فيمتنع القياسُ لفقدان شرطِهِ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "لأن البول". (¬2) "ت": "يجيز". (¬3) انظر: "شرح السنة" للبغوي (2/ 68). (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "الشبه". (¬6) سقط من "ت".

الحديث الرابع

الحديث الرابع روى مسلمٌ من حديث أبي السَّائِبِ مَوْلَى هشامِ بن زُهرةَ: أَنه سَمع أَبا هريرةَ يقول: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَهُوَ جُنُبٌ"، فَقَالُوا (¬1): كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فقال (¬2): يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً (¬3). الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف بِمَنْ ذُكِر فيه: أبو السَّائب: هو مولى هشام بن زهرة، ويقال: [هو] (¬4) مولى ¬

_ (¬1) "ت": "قالوا". (¬2) "ت": "قال". (¬3) * تخريج الحديث: رواه مسلم (283)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، والنسائي (220)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، وابن ماجه (605)، كتاب: الطهارة، باب: الجنب ينغمس في الماء الدائم، أيجزئه؟ من طريق عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة، به. (¬4) زيادة من "ت".

أبي زُهْرةَ، ويقال: مولى عبد الله بن هشام بن زهرة، ويقال: مولى بني عبد الله بن زهرة. قال الحاكمُ أبو أحمدَ محمدُ بن محمدِ الحافظُ: وكلُّها عِلْمٌ (¬1) غيرُ محفوظ إلا من قال: مولى هشام بن زهرة. قال الحافظ (¬2): من أصحاب العلاء بن عبد الرحمن وغيرِه، تواطئوا عليه. قلتُ: وأبو السائب المذكور ممن يُعَرفُ بكُنيته، أنصاريٌّ (¬3) مدنيٌّ، حديثه في أهل الحجاز، روى عن أبي هريرة وكان من جلسائه، وأبي سعيد، والمغيرة بن شعبة، - رضي الله عنه -. روى عنه بُكَيرُ بن الأشجِّ، والعلاء بن عبد الرحمن الخرقي، وشريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي، وأبو عبد الله محمد بن عمرة (¬4) العامري، وأبو عثمان عبيد الله بن عمر العدوي (¬5)، وصيفي مولى ابن أفلح، وأسماء بن عبيد. ممن انفردَ مسلمٌ بإخراج حديثه عن البخاري، وتابع مسلمًا على التخريج عنه بقيةُ الجماعة غيرُ البخاري: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. ¬

_ (¬1) "ت": "علمي". (¬2) كذا في النسخ الثلاث، ولعل صواب العبارة: "قال - أي: الحاكم -: الحفاظ من أصحاب ... ". (¬3) "ت": "أيضًا" بدل "أنصاري". (¬4) "ت": "عمر". (¬5) "ت": "العدني".

الثاني: في تصحيحه

قال الحاكم أبو أحمد: وقد ارتفعَ عنه اسمُ الجهالة برواية مَنْ ذكرنا، ودخل في حيِّز المشهورين (¬1). * * * * الثاني: في تصحيحه: وقد ذكرنا أن مسلمًا أخرجه، وهو مِنْ أفراده عن البخاري. * * * * الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: الجُنُبُ: مَنْ أصابته الجنابة، وينطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، إذا كان مصدرًا (¬2). الثانية: قولهم: (كيف يفعل يا أبا هريرة؟) يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لما أخبرهم بالمنع من اغتسال الجنب في الماء الدائم، احتَمَل أن يكونَ المرادُ الإعراضَ عنه وتركَهُ إلى غيره، ويَحتمِلَ (¬3) أنْ يكونَ الاغتسالَ منه (¬4) بكيفيةٍ غيرِ الانغماس، فسألوا (¬5) عن المراد. ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 307)، "الثقات" لابن حبان (5/ 561)، "تهذيب الكمال" للمزي (33/ 338)، "الكاشف" للذهبي (2/ 428)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (12/ 114). (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 462). (¬3) "ت": "واحتمل". (¬4) "ت". "فيه". (¬5) "ت": "فسألوه".

الوجه الثالث: في الفوائد والمباحث

وثانيهما: أن لا يكون الترددُّ بين تركه وعدم تركه، بل يكونُ السؤالُ مخصوصًا بكيفية ما يُفعَلُ مع تقرُّر أنه يُغْتَسَلُ منه عندهم. الثالثة: قول أبي هريرة: "يتناوله تناولاً"، يُسأَلُ عن فائدة هذا التأكيدِ بالمصدر (¬1)، وما وجهُ حُسنِهِ والحاجةِ إليه؟ فيقال فيه: فائدته (¬2) إبعاد تركه والإعراض عنه، وكأنه بالمنع من (¬3) الاغتسال فيه وقعَ في النفس نفرةٌ منه تُوجِبُ الاحترازَ عنه، فقيل: "يتناوله تناولاً" تأكيدًا لجواز هذه الصورة، ونفيًا لما عساه [أن يكون] (¬4) حَدَثَ في النفس من الإعراض عنه وشدة النفرة منه، وأنَّ ذلك لا يؤثر. الوجه الثالث: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: النهيُ يدلُّ على فساد المنهي عنه، فمَنْ قال بفساد الغسل بالاغتسال في الماء الدائم فقد جرى على الأصل، ومن لم يقل به، فَبِدليل من خارج، ولقيام معارضات تمنعه من ذلك، وعليه في ذلك البيانُ. الثانية: النهيُ عنه قد يكون لنفسه، وقد يكون لغيره، فمَنْ أفسد ¬

_ (¬1) "ت": "عن فائدة التأكيد بهذا المصدر". (¬2) "ت": "فائدة". (¬3) "ت": "عن". (¬4) زيادة من "ت".

الثالثة

الغسل مطلقًا، واستدلَّ بالنهي، وعمَّمَ الفسادَ في جملة صور الغسل، فالنهيُ عنه لنفسه عنده، ومن أفسده لاعتقاد فساد الماء بالاستعمال، على ما مرَّ من الحكاية فالنهيُ [عنه] (¬1) عنده؛ لأنه وسيلةٌ إلى بطلان الطهارة، وكذلك مَنْ جعل العلة أنه يُفْسِدُهُ على غيره بسبب ما يُحدِثُه فيه من الاستقذار. الثالثة: النهيُ معلَّقٌ بالغسل، فهل يكون الوضوء كذلك، حتى يمنعَ المتوضِّئُ من غمس أعضاء وضوئه في الماء؟ أما مَنْ لا يرى القياسَ، فلا شكَّ عنده أنه لا يمنعه بهذا النهي، وأما مَنْ يراه، فإلحاقهُ به وعدمُ إلحاقه مرتَّبٌ على تعليل هذا النهي، فمن علَّلَ بفساد الماء - وكونه يصير مستعملاً - ألحقَ الوضوء (¬2) به؛ [لكونه] (¬3) في معناه، ومَنْ علَّلَ بالعِيافة النفسية فقد يُلحقه به، وقد لا يلحقه؛ لأن المعنى في الأصل - الذي هو الغسل - أَزيدُ منه في الوضوء، وشرطُ الإلحاق إما استواءُ الأصل والفرع في العلة، أو زيادةُ الفرع، [وقد جاء أنَّ النهيَ ورد في الوضوء أيضًا] (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "بالوضوء"، والتصويب من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) وهو ما رواه النسائي وغيره من طريق عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه". وقد تقدم تخريجه عند تخريج الحديث الثاني من هذا الباب.

الرابعة

الرابعة: الحكمُ معلَّقٌ (¬1) بالماء الدائم - وهو الراكد - كما تقدم، وهو تعليقُ الحكمِ بالصفة، فإما أن يقال بأنه (¬2) يدلُّ على نفي الحكم عمَّا عدا (¬3) محلِّ الصفة، أو يقال: إن الأصلَ الإباحةُ، والنصُّ إنما ورد في هذا المحل، وهو الماء الراكد، ويؤخَذُ الحكمُ فيما عداه من الأصل، وعلى كلِّ تقدير لا يساوي الجاري الراكدَ في هذا الحكم. الخامسة: قد تقدَّم [لنا] (¬4) أنَّ القياسَ في معنى الأصل معمولٌ به، [معدودٌ] (¬5) في فوائد الأحاديث عندنا، وقد تعلَّق الحكم فيه بوصف كونِ المغتسلِ جُنُباً، وفي معناه الحائض، فيمتنعُ اغتسالُها فيه، كما امتنع اغتسالُ الجنبِ [فيه] (¬6)، والظاهريُّ تبعَ (¬7) قاعدة مذهبه، فأجازَ للحائض الاغتسالَ فيه؛ لأنَّ النصَ لم يَرِدْ [فيه] (¬8) إلا في الجنب (¬9)، وليس إلحاقُ الحائض بالجنب في هذا، في مرتبة ¬

_ (¬1) "ت": "يعلق". (¬2) "ت": "لأنه". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) في الأصل و"ب": "منع"، والمثبت من "ت". (¬8) سقط من "ت". (¬9) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 211).

السادسة

إلحاق المتغوِّط في الماء بالبائل فيه؛ لأن ذلك مقطوعٌ به، وهذا دونه في الدرجة، و [هو] (¬1) فوقَ درجةِ الحدث الأصغر الذي أشرنا إلى التردُّدِ فيه. السادسة: النفساءُ كالحائض في هذا المعنى، والحكم فيها كالحكم في التي قبلَها، وهذه المرتبةُ مساويةٌ للتي قبلها، أو متأخرةٌ عنها قليلاً. السابعة: [بعضُ] (¬2) الأغسال الواجبة تنقصُ عن هذه المرتبة؛ كالغسل للجمعة، والغسل من غسل الميت عند مَنْ يُوجِبُهما، فهي على هذا المذهب مشابهةٌ للجنابة في الوجوب، فالظاهريُّ لا يلحيقهما (¬3) به لانتفاء الاسم (¬4)، وإلحاقها به على مذهب القياس ليس بذلك الشديدِ القوةِ؛ لأنه إن ألحقه بقياس الشَّبَهِ لاستوائهما في الوجوب، فقياس الشبهِ منحطُّ الرتبة عن غيره إذا قيل به، وإن ألحقه بعلَّةٍ جامعةٍ، فليستِ المناسبةُ التي تُبْدَى في تعليل النهي عن اغتسال الجنب بالمناسبة [الشديدة القوة في الاعتبار، ومَنْ يتمسك بقياس الشبه في الأحكام، أو يكتفي بمجرد المناسبة] (¬5) في العِلِّيَّة، فقد يلحق بذلك. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "والظاهري لا يلحقها". (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 40). (¬5) سقط من "ت".

الثامنة

الثامنة: الأغسالُ المستحبَّةُ؛ كالغسل للعيدين والكسوف مثلاً، هل تُلْحَقُ بالغسل للجنابة؟ هذه المرتبة دونَ التي قبلَها، فمن اقتصر على اللفظ فلا إلحاقَ، ومن يقيس، فمَنْ زعم أنَّ العلةَ الاستعمالُ وإفسادُ الماء، وَجَبَ أن يُخرِّجَ على وجهين: وهو أن الاستعمال في نفل الطهارة هل يجعلُ الماءَ مستعملاً؟ فيه خلاف. ومَنْ علَّلَ بغير ذلك، فإنْ ساوى (¬1) الفرعُ الأصلَ في العلة - أو رَجَح عليه (¬2) - أُلحق، وإلا امتنع، وذلك كالتعليل بالعِيافة النفسية، فقد (¬3) يُدَّعَى أنها في هذه الأغسال (¬4) ناقصة عنها في (¬5) الغسل من الجنابة. التاسعة: الغسلُ للتبرُّد وغيرِه من الأغسال المباحة التي لا تتصفُ بوجوب ولا استحباب ناقصُ الرتبة عن المرتبة التي قبلها، وهو أضعف المراتب، والأمر فيه - كما ذكرنا - إما في اتباع اللفظ، أو القول بالمفهوم، أو أنَّ الأصلَ الإباحةُ فيما عدا المنصوصِ عليه، ويزيد ¬

_ (¬1) في الأصل: "ساوت". (¬2) "ت": "فإن ساوت العلةُ في الفرع العلةَ في الأصل أو رجحت عليها"، وهما بمعنى. (¬3) "ت": "وقد". (¬4) "ت": "الأقسام". (¬5) "ت": "من".

العاشرة

هنا (¬1) ضعفُ هذه المرتبةِ (¬2) في الإلحاق عن جميع ما قبلَها. العاشرة: قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسلُ أحدُكُمْ فِى الماءِ الدائِمِ وهوَ جُنُبٌ" يظهر منه أن المرادَ: لا يغتسلُ - وهو جنب - من الجنابة، هذا هو السابق إلى الفهم، وعليه يدلُّ الحديثُ الآخرُ: "ولا يغتسلُ فيهِ منَ الجنابةِ" (¬3)، إلا أنَّ هذا اللفظَ لا يدلُّ عليه بنصه وصريحه، إذْ يُمكنُ أن يغتسلَ، وهو جنبٌ، لا عن الجنابة، ولهذا زعم الظاهريُّ في مَن كان جنباً ونوى بانغماسه في الماء الراكد غسلاً من الحيض أو الجمعة، أو الغسل من غسل الميت: لم يُجْزِئْ عن الجنابة، ولا عن شيء من هذه الأغسال (¬4)، وسببُ هذا أنه قد اغتسلَ في الماء الدائم وهو جنب، [و] (¬5) قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسلُ أحدُكُمْ فِى الماءِ الدائِمِ، وهوَ جُنُبٌ". الحادية عشرة: هذا الذي ذكرنا أنه السابق إلى الفهم ينبغي أن يُبْحَثَ عن سببه مع كون اللفظ لا يدلُّ عليه، ولعل سببَه: أنه لما تقرر أنَّ الأصلَ في الماء الطهوريةُ، فالنهيُ عنه إنما يكون لمانع، ثم تقرر في النفوس مناسبةُ الجنابة لمعنى الإبعاد، لترتيب المنع من عبادات عليها، ولمَا جاء أنه: "لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيهِ ¬

_ (¬1) "ت": "هذا". (¬2) "ت": "الرتبة". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 40). (¬5) زيادة من "ت".

الثانية عشرة

جُنُبٌ" (¬1)، مع مناسبة الاستقذار، فحصلَ من مجموع ذلك أنَّ الحدثَ هو المانعُ، فإذا (¬2) لم يقع الاغتسال عن الجنابة زال المانع (¬3)، ومع هذا فاللفظُ كما ذكرنا لا يدلُّ عليه، والله أعلم. الثانية عشرة: لو قال قائل: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسلُ أحدُكُمْ فِي الماءِ الدائِمِ وهوَ جُنُبٌ" عامٌّ أو مطلقٌّ في الأحوال، وقولُه في الحديث الآخر: "ولا يغتسلُ فيهِ منَ الجنابةِ" خاصٌّ أو مقيَّدٌ [فيها] (¬4)، فأحمِل هذا على ذاك، ويكونُ الممنوعُ هو الغسل من الجنابة لا الغسلُ المطلقُ مع قيام الجنابة. فالاعتراضُ عليه: أنَّ حملَ المطلقِ على المقيد والعامِ على الخاص يكون عند التعارض، كما إذا دلَّ العامُّ على إباحة شيء، ودلَّ الخاصُّ على تحريم بعضه، فلو عملنا بالعام أبطلنا دلالةَ الخاص، فجمعنا بالحمل، أما إذا لم يقعْ تعارضٌ فدلالةُ العام تتناول جميعَ صورِ مدلوله، فإذا ذكر الحكم في بعضها موافقاً لذلك العام، فلو ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (227)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يؤخر الغسل، والنسائي (261)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب إذا لم يتوضأ، وغيرهما من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرفوعاً. وإسناده ضعيف؛ للكلام في عبد الله ابن نُجي - أحد رواته -. انظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي (7/ 17)، و"نصب الراية" للزيلعي (2/ 98). (¬2) "ت": "وإذا". (¬3) "ت": "المنع". (¬4) سقط من "ت".

الثالثة عشرة

خصصنا العامَّ به لزم تركُ دلالةِ اللفظ العام فيما عدا الصورة الخاصة من غير معارِضٍ، وتركُ الدليل من غير معارِضٍ ممتنعٌ، وهاهنا كذلك؛ لأنه إذا نهى عن الاغتسال في الماء الدائم لمن هو جنب، عمَّ اغتسالُه عن الجنابة و [عن] (¬1) غيرها، ثم إذا نهى عن الاغتسال من الجنابة فليس معارضاً لنهيه عن الاغتسال مع الجنابة، فلو خصصنا ذلك العام بالاغتسال عن الجنابة، تركنا دلالةَ العمومِ السابقِ على المنع من الاغتسال ما دامت الجنابة لا عن الجنابة، وهذا الترك من غير معارض، وهذا على تقدير مراعاة اللفظ دونَ النظر إلى ما يُفهَم منه بَدَئِيًا (¬2)، [ولا بدَّ - مع ذلك - من النظر في المفهوم ومعارضته للعموم] (¬3). الثالثة عشرة: لو نوى الجنبُ شيئاً من الأغسال مع غسل الجنابة، فعلى رأي الظاهري لا يُجْزِئُه لجنابة ولا لسائر الأغسال (¬4)، وبهذا (¬5) حَكَم في نية غسل الجنابة مع نية غسل الحيض والنفاس وغسل الجمعة وغسل الميت (¬6)، وهذا منطبقٌ جارٍ على (¬7) قاعدته في امتناع الغسل مع بقاء الجنابة، وبل أولى في هذه الصورة؛ لحصول نية ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "بديًّا". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "لا يجزئه إلا للجنابة لا لسائر الأغسال". (¬5) "ت": "ولهذا". (¬6) انظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 40). (¬7) "ت": "مع".

الرابعة عشرة

الغسل من الجنابة، [وكذا على مذهب غيره إن كان التشريك في الغسل لا يمنع صحةَ الغسل من الجنابة، كالمرأة تنوي غسلَ الحيضِ والجنابةِ، والله أعلم] (¬1). الرابعة عشرة: إذا شرَّك بين غسل الجنابة وغيرِها من الأغسال التي ليست بواجبة، فلا خفاءَ بالامتناع على مذهب الظاهرية (¬2)؛ لأنه مغتسلٌ وهو جنب، وأما على رأي غيره فالنظرُ في هذا التشريك، هل يمنع الصحة؟ وقد اختلف الفقهاء الذين لا يَروْن غسل الجمعة واجباً فيمِنْ نوى غسل الجنابة والجمعة (¬3) معاً، هل يصحُّ غسله عن الجنابة؟ وهذا الخلاف موجود في مذهبي مالك والشافعي (¬4) و (¬5) أصحابهما، رحمهم الله تعالى، فإنْ قلنا: [إنه] (¬6) لا يمنع صحةَ الغسل عن الجنابة، فقد حصل مُسمَّى المنهي عنه، وإن قلنا: إنه يمنع ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "الظاهري". (¬3) "ت": "الجمعة والجنابة". (¬4) مذهب المالكية والشافعية صحة الإجزاء عن غسل الجنابة والجمعة، وحكي في المذهبين عدم الإجزاء، وليس بالمعتمد. انظر: "الكافي" لابن عبد البر (1/ 20)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (4/ 454). (¬5) في الأصل: "أو"، والمثبتَ من "ت". (¬6) سقط من "ت".

الخامسة عشرة

نظراً (¬1) إلى العلة، رجعَ الأمر إلى اعتبار شروط القياس في صحة الإلحاق أو عدمِه. الخامسة عشرة: اختلفوا فيمن شَرَّك بين نية الجنابة والجمعة في [صحة] (¬2) غسل الجمعة أيضاً، فإذا كان ذلك بالانغماس في الماء الدائم فهو جارٍ على المباحث المتقدمة (¬3). السادسة عشرة: غَسل بعضَ بدنه بنية غُسْل الجنابة، هل يكون كغَسْل جميعِه، أم لا؟ ذكر الظاهريُّ أنه لو غسل شيئاً من جسده في الماء الدائم لم يُجْزِه، ولو أنه شعرةٌ لا واحدة؛ لأن بعض الغسل غسل (¬4)، واعترضه (¬5) القاضي أبو محمد عبد الحق بن عبد الله بن عبد الحق الأنصاري (¬6) في كتابه الذي ردَّ فيه على ابن حزم، وذكر بعد (¬7) حكاية لفظه: أن فسادَه ¬

_ (¬1) "ت": "ونظرنا". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "المقدمة". (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 42). (¬5) "ت": "واعترض". (¬6) هو القاضي عبد الحق بن عبد الله بن عبد الحق أبو محمد الأنصاري المغربي المهدوي، قاضي الجماعة بمراكش وإشبيلية، كان من العلماء المتفنِّنين، فقيهاً مالكياً، حافظاً للمذهب، نظاراً، بصيراً بالأحكام، صليباً في الحق، وكتابه في الرد على ابن حزم دلَّ على فضله وعلمه، وأفاد بوضعه، توفي سنة (631 هـ). انظر: "الوافي بالوفيات" للصفدي (18/ 36). (¬7) في الأصل و "ب": "بعض"، والتصويب من "ت".

وخطأه أظهرُ من أن يحتاج إلى تنبيه (¬1)، وهل يطلق على من غسل يده في غدير (¬2)، أو شعرة من (¬3) جسده، أنه اغتسل في ماء دائم؟ لا الظاهرَ اتَّبعَ، ولا القياسَ استعمل، ولا اللغة وقف عندها، ولا المعنى لَحَظَ. قال: ومن هذا قوله: لأن بعض الغسل غسل، ومتى قال الشارعُ - صلى الله عليه وسلم -: لا يغسلُ الجنب؟! وإنما قال: "لا يغتسلُ"، ومَنْ لا يفرق بين هاتين اللفظين، كان الواجبُ عليه ألا يعرِّض نفسه لما عرضها له، ولا يتعاطى ما تعاطى. قلتُ: نسبة (اغتسل) إلى الاغتسال كنسبة (غسل) إلى الغسل، والذي أنكره القاضي: أنه ينطلق على من غسل يده في غدير، أو شعرة من جسده، أنه اغتسل في ماء دائم، صحيح جارٍ على الإطلاق العرفي، ولا يندرجُ تحتَ اللفظِ عرفاً كما قال، وكأن (¬4) سببَهُ أنَّ الاغتسال أضيف إلى المغتسِل، وهو حقيقةٌ في الجميع مجازٌ في البعض. وأما الفرقُ بين الغسل والاغتسال في الانطلاق على البعض فقد يقال فيه: إنه ليس سببه افتراق مدلول اللفظتين؛ لأن (غَسَلَ) بالنسبة إلى الغسل كـ (اغتسلَ) بالنسبة إلى الاغتسال، فإن كان بعضُ الغسل ¬

_ (¬1) "ت": "تبيينه". (¬2) "ت": "الماء" بدل "غدير". (¬3) "ت": "في". (¬4) "ت": "فكأن".

السابعة عشرة

غسلاً، فبعض الاغتسال اغتسال، وإنما جاء هذا من حيثُ إضافةُ الاغتسال إلى المغتسِل، وهو حقيقة في جميعه مجازٌ في بعضه، فصحَّ نفيُهُ بأنْ يقال: ما اغتسل في الماء الدائم؛ لأن من أَمارة المجاز صحةَ النفي، وأما الغسل فإما أن يضافَ إلى البدن أو يطلق، فإن أضيف إلى البدن فبعضُهُ ليس غسلاً للبدن، فيصح نفيُه كما في الاغتسال، وإن أطلق من غير إضافة كما إذا قيل: لا يقعُ منك غسلٌ، فإنه حينئذٍ يكون (¬1) مخالفاً لغسل بعض البدن؛ لأن (¬2) بعض الغسل غسلٌ، والله أعلم. السابعة عشرة: استدلَّ بعضُ الأكابر ممن يرى تأثيرَ الاستعمال في سلب الماءِ الطهوريةَ بالنهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، وعلَّلَ [في] (¬3) ذلك بأن النهيَ يدُّل على الفساد. والاعتراضُ عليه من وجوه: الأول: أن هذا الحكمَ مخصوصٌ بالماء القليل، فيلزَمُ التخصيصُ للنصِّ. الثاني: أنه يلزم مَنْ سلك هذه الطريقة أن [لا] (¬4) يقولَ بكراهة الاغتسال في الماء الدائم [الكثير] (¬5) غير مستند (¬6) إلى النهي فيه، مع ¬

_ (¬1) "ت": "يكون حينئذ". (¬2) "ت": "فإن". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "ولا يستند".

وجود هذا في كلامهم. الثالث: أن النهي إنما يدل على فساد المنهي عنه، والمنهيُّ عنه هو الاغتسال، فيكون الاغتسال هو الفاسد بمقتضى استدلاله، لكنَّ فسادَ الاغتسالِ يلزم منه عدمَ فسادِ الماء؛ لأن الماء إنما يفسُد بالاغتسال إذا كان الاغتسالُ صحيحاً رافعاً للحدث. فإن قيل: ما ذكرتموه أنه يقتضي (¬1) فسادَ الغسل يلزمُ منه طهورية الماء، ويلزم من ذلك أن لا يجتمعَ (¬2) فسادُ الغسل وفساد الماء، لكنه يجتمع: أما أوَّلاً: فللوجه المحكي عن الخِضْرِيِّ (¬3) من أتباع الشافعي - رضي الله عنهما - فيما إذا انغمس الجنب في ماء قليل ناوياً للغسل لم ترتفعْ جنابتُه، وصار الماء مستعملاً؛ لأنه بأول ملاقاة جزء من بدنه الماء مع النية فسدَ الماءُ (¬4)، فإذا انغمس بعد ذلك فسد الغسل، ¬

_ (¬1) "ت": "يقتضي أن". (¬2) "ت": "يجتمع". (¬3) هو الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد الخضري المروزي الشافعي، صاحب القفال المروزي، من أساطين المذهب، ومتقدمي الأئمة، وكبار أصحاب الوجوه، وله وجوه غريبة نقلها الخراسانيون، وكان موثقاً في نقله، وله خبرة بالحديث. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 551)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 215) وذكر أن وفاته كانت في عُشْر الثمانين والثلاث مئة، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (18/ 172) وقال: كان حياً في حدود الخمسين إلى الستين وأربع مئة. (¬4) انظر: "الوسيط". للغزالي (1/ 124 - 125). قال الغزالي: هو غلط؛ إذ حكم =

فالغسل فاسد والماء فاسد، فقد اجتمعا. وأما ثانياً: فعند غيره من أصحاب الشافعي فيما إذا أخرج عضوَهُ من الماء، ثم انغمس بعد ذلك، فإنَّ الماءَ فاسدٌ والغسلَ فاسدٌ، فقد اجتمعا أيضاً (¬1). قلنا: على المذهبين إنما فسد الماء لارتفاع الحدث عن العضو الذي لاقى الماء، إلا أنه لا يُشترَطُ الانفصالُ عن الماء في ثبوت حكم الاستعمال على الوجه المحكي عن الخِضْرِيّ، ويشترط على المذهب الآخر، فالاتفاق على أن فساد الماء إنما هو بارتفاع الحدث عن ذلك العضو، وإنما الاختلاف (¬2) في اشتراط الانفصال أو عدم اشتراطه، فلو لم يرتفعِ الحدثُ عن العضو الملاقي للماء، لَمَا صار الماءُ مستعملاً، فصحَّ أنه إنما يفسُد الماءُ لصحة الغسل. فإن قيل: المنهيُّ عنه هو الغسل الكامل المتعقب لإباحة الصلاة، وهذا الغسل الكامل يجتمع فساده مع فساد الماء، إما بأول الملاقاة على مذهب الخِضْرِيِّ، وإما بأن ينفصلَ العضوُ ثم يقعَ الانغماسُ في الماء بعد ذلك على مذهب غيره، فيصير التقدير: لا تغتسلوا الغسلَ الكاملَ بالانغماس في الماء الدائم، فإن الماء يفسد قبلَ كمال الغسل، فلا يصحُّ الغسلُ. ¬

_ = الاستعمال إنما يثبت بالانفصال، ولا يَثبت حالة تردده على الأعضاء. (¬1) المرجع السابق، (1/ 127). (¬2) "ت": "الخلاف".

قلنا: الجوابُ عنه من وجهين: الوجه الأول: أنه إذا كان المنهيُّ عنه هو الغسل الكامل لزمَ التخصيصُ مرتين، وفي ذلك زيادةُ مخالفةِ الدليل. بيانُهُ: أن النصَّ يُخَصُّ أولاً بالماء القليل؛ لأن الاستعمال لا يؤثر إلا فيه، ثم إذا قلتم: إن النهيَ منزلٌ على الغسل الكامل، لم يدلَّ على فساد الغسل إلا بواسطة فساد الماء بالغسل الناقص (¬1)، وفسادُ الماء بالغسل الناقص (¬2) مخصو صٌ لا يعمُّ جميعَ صورِ الاغتسال في الماء الراكد [القليل] (¬3)؛ لأنَّ مِنْ صوره: ما إذا نوى بعد تمام الانغماس واستواء الماء على رأسه، فإنه حينئذ يرتفع الحدث اتفاقاً، فلا (¬4) يكونُ الغسلُ فاسداً، فلا يكون النصُّ دالاً على فساد هذه الصورة حينئذٍ، مع أن اللفظَ يتناول هذه الصورة؛ إذ يصحُّ أن يقال: اغتسل في الماء الدائم. الوجه الثاني: إنكم استدللتم بالنهي الدالِّ على الفساد على فساد الماء بالاستعمال، فيكون فسادُ الماء بالاستعمال لازماً لهذه الدلالة، وإلا لم يصحَّ الاستدلالُ، وإذا حملتم النهي على الغسل الكامل لم يكن فسادُ الماء لازماً للنهي [عن الغسل الكامل] (¬5)، ولا ناشئاً ¬

_ (¬1) "ت": "الكامل". (¬2) "ت": "الكامل". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "فلا". (¬5) سقط من "ت".

عنه؛ لأنه إنما أنشأ (¬1) عن صحة الغسل [الناقص] (¬2)، لا عن النهي عن الغسل الكامل. وأيضاً: فإذا توقفت دلالة النهي - كما (¬3) ذهبتم إليه - على فساد الماء بالغسل الناقم، [الذي] (¬4) لا يَتِمُّ إلا بعد ثبوت تأثير الاستعمال في إفساد الماء، فتكونون قد استدللتُم بشيء على أمر لا يتمُّ ذلك الاستدلالُ به إلا بعد ثبوتِ ذلك الأمر؛ لأنكم استدللتم حينئذ بالنهي عن الغسل الكامل على فساد الماء بالاستعمال، المتوقِّفِ على فساده بالغسل الناقم، المتوقفِ على مطلق فساده بالاستعمال، وذلك غيرُ جائز. [وقد استدلَّ بعضُ المتأخرين بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاغتسال في الماء الراكد على مسألة الماء المستعمل من وجه آخر، وهو أنه لو لم يَفْسُدِ الماءُ، لم يكنْ للنهي عنه معنى، هذا معنى ما ذَكَرَ. وهذا إنما يلزم إذا انحصرت الفائدةُ فيما ادَّعاه، ومخالفوه ينازعون في ذلك، وهو أن تكون علةُ النهي بضرر غيره بالاستقذار الناشئ عن الاغتسال فيه مع الجنابة، أو لأنَّ إباحةَ ذلك طريق إلى تكرره، وتكررُهُ سبيلٌ إلى إفساده على المستعملين في الشرب وغيره] (¬5). ¬

_ (¬1) "ت": "نشأ". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "على ما". (¬4) زيادة من "ت"، وفيها أيضاً: "وفساد الماء بالغسل الناقص". (¬5) سقط من "ت".

الثامنة عشرة

الثامنة عشرة: نستنتجُ (¬1) من قول أبي هريرة - رضي الله عنه -: "يتناولُه تناولاً" أحكاماً (¬2)، إلا أنَّ حاصلَها - إذا صحَّت - يَرجِعُ إلى قوله ومذهبه؛ [أعني: إلى قول أبي هريرة ومذهبه] (¬3)؛ لأن ذلك اللفظَ لم يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك ما ذكره البغوي - رحمه الله تعالى - في آخر باب النهي عن البول في الماء الدائم بعد إيرادِ ألفاظِ أحاديثَ (¬4) - الظاهرُ أنه أراد هذا الحديث منها -: وفيه دليلٌ على أنَّ الجنب إذا أدخل يده فيه ليتناولَ الماء لا يتغيَّرُ به حكمُ الماء، وإن أدخلها ليغسلَها من الجنابة تغيَّر حكمه (¬5). قلت: أما أنه لا يغير حكم الماء إذا أدخل يده لتناول [الماء] (¬6)، فظاهرٌ [إن كان المرادُ التناولَ باليد] (¬7)، وأما أنه إن أدخلها فيه ليغسلَها من الجنابة تغير حكمُه، فليس ذلك من الحديث، ولا يدلُّ عليه [لفظاً، لكن لعله يُؤخَذُ من جهة التفريق بين التناول وغيره، فيكون بطريق المفهوم] (¬8)، فإن كان أراد به كلاماً مبتدأ غيرَ مستنبط له من الحديث بدليل ¬

_ (¬1) "ت": "يُستنتج". (¬2) "ت": "أحكام". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "الحديث". (¬5) انظر: "شرح السنة" للبغوي (2/ 68). (¬6) سقط من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) زيادة من "ت".

التاسعة عشرة

قام عنده، فقريبٌ، لكنَّهُ موهِمٌ؛ لدلالة الحديث على ما لا يدلُّ عليه. التاسعة عشرة: هذا الذي ذكره البغوي - رحمة الله عليه - حملَ التناولَ (¬1) على التناول باليد، وهو من حيثُ اللفظُ أعمُّ من ذلك، لكنه يجوز حملُه على ذلك؛ لأنه إن لم يكن ظاهراً فيه فهو مُحتمِل له بإطلاقه، فإذا أدخل يده في الإناء كان الإذنُ مُتناوِلاً له، و (¬2) يقول: لو كان تناولُهُ بالآلة واجباً، وتناولُهُ باليد ممنوعاً، لتعيَّنَ على المفتي بيانُ ذلك؛ لعدمِ الدلالة على المقصود، وكونِ الآلة على خلاف الأصل، وحاجة المستفتي إلى بيان ذلك، والله أعلم. العشرون: إذا كان دالاً على التناول [باليد] (¬3)، فللجُنُبٍ عندَ إدخال (¬4) يده في الإناء بعد النية ثلاثةُ (¬5) أحوال: أحدها (¬6): أن ينويَ الاغترافَ لرفع الحدث، فلا يفْسدُ الماء عند مَنْ يرى أنَّ الاستعمالَ يُفْسِده؛ إذ لا استعمالَ. الثانية: أن ينويَ رفعَ الحدث، فيفسدُهُ على هذا المذهب؛ لحصول المُفْسِد. ¬

_ (¬1) "ت": "للتناول". (¬2) "ت": "أو". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "إدخاله". (¬5) "ت": "ثلاث". (¬6) "ت": "إحداها".

الحادية والعشرون

الثالثة: أن لا ينويَ واحداً منهما، ففيه احتمالٌ على هذا المذهب من حيثُ [إنَّ] (¬1) استصحابَ النية السابقة، إذا لم يظهر عليها رافعٌ، يقتضي أنَّ الماء يصير مستعملاً، وهيئةُ الاغتراف تُصرَف عن نية رفع الحدث. فيمكنُ بعد تقرير هذا المذهب أن يقال: حالةُ الإطلاق من جملة حالات التناول، فتدخل تحت الإذن، إذ لو لم تدخل، لَفَسدَ الماءُ وفَسدَ بقيةُ الغسل، والمقصودُ تصحيحُه. الحادية والعشرون: قد تتمسَّكُ بالإطلاق مَنْ يرى أن الماء المستعمل طهورٌ؛ لأنَّ من جملة صور التناول ما إذا نوى رفع الحدث، فيتناوله الإذن، أو يقال: لو كان مُفسِداً لتعيَّنَ بيانُه لمن يجهله، لاسيَّما وهو إذا نوى الاغترافَ لم يرتفعْ حدثُهُ عن اليد، فيحتاج بعد ذلك إلى تجديد النية لرفع الحدث عن اليد، وفي ذلك عُسْرٌ وخفاء على المستفتي، وهذا الاستدلال بالإطلاق على طريقة الفقهاء. وفيما يَعرِض له المتأخرون: أن المطلقَ إذا عُمِل به مرة كفى، وقد عملنا به في صورةِ ما إذا نوى الاغتراف، فلا يبقى حجةً في غيره، وقد تقدَّم ما لنا فيه من البحث، والفرقُ بين العملِ به فعلاً، والعملِ به حَمْلاً. * * * ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

الحديث الخامس

الحديث الخامس رَوى سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَفْنَةٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيتَوَضَّأَ منها أَوْ يَغْتَسِلَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كُنْتُ جُنُباً. قَالَ: "إِنَّ الْمَاءَ لاَ يَجْنُبُ". لفظ رواية (¬1) أبي داود، وأخرجه الترمذي وصحَّحه (¬2). الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) " ت": "ورواية". (¬2) * تخريج الحديث: رواه أبو داود (68)، كتاب: الطهارة، باب: الماء لا يجنب، والترمذي (65)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الرخصة في ذلك، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (370)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة بفضل وضوء المرأة، وابن حبان في "صحيحه" (1248)، وغيرهم من طريق سماك بن حرب، به. وقد رواه عن سماك غير واحد، كما ذكر المؤلف في "الإمام" (1/ 135). قال الحازمي: لا يعرف مجوَّداً إلا من حديث سماك بن حرب، عن عكرمة، وسماك مختلف فيه، وقد احتج به مسلم. كذا نقله الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 14)، وسيأتي الكلام عليه قريباً.

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

* الأول: في التعريف بمن ذكر فيه: أما ابن عباس رضي الله عنهما: فهو عبد الله بن (¬1) العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي، كنيتُهُ أبو العباس، ابنُ عمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر الرواية عنه، وروى عن جماعة من الصحابة، وروى عنه جماعة من التابعين، مات بالطائف - رضي الله عنه - سنةَ ثمان - ويقال: سنة تسع - وستين. [و] (¬2) قال يحيى بن بكير: قال ابن عباس: وُلِدتُ قبلَ الهجرة بثلاث، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابنُ ثلاثَ عشرةَ (¬3). وبحرُهُ في العلم زاخرٌ، وفضلُهُ في التواريخ مُشتهَرٌ ظاهرٌ (¬4). ¬

_ (¬1) "ت": "أبو". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (10567)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 285): إسناده منقطع. وقد رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 373) وغيره من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة سنة. وهذا الذي رجحه الإمام أحمد وغيره. انظر: "العلل" لعبد الله بن الإمام أحمد (2/ 104). (¬4) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 365)، "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 3)، "فضائل الصحابة" لعبد الله بن الإمام أحمد (2/ 949)، "الثقات". لابن حبان (3/ 207)، "المستدرك" للحاكم (3/ 614)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 314)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 933)، "تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 173)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 285)، "أسد الغابة" =

وأما عِكْرِمَةُ: فهو أبو عبد الله، مولى ابن عباس، كان من علماء التابعين، سمع ابن عباس، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وابن عمر، - رضي الله عنه - قال عمر [و] (¬1) بن علي: مات سنة خمس ومئة. وقال أبو نعيم: سنة سبع ومئة. وقال الواقدي: حدثتني ابنتُه أمُّ داودَ: أنه توفي سنة خمس ومئة، وهو ابن ثمانين سنة (¬2). وقد احتجَّ البخاري بحديثه، وأخرج له أحاديثَ متعددةً، وعنه أنه قال: ليس أحدٌ من أصحابنا إلا يحتجُّ بعكرمةَ (¬3). وأخرج له مسلمٌ مقروناً بطاووسَ (¬4). ¬

_ = لابن الأثير (3/ 291)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 258)، "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 62)، "تهذيب الكمال" للمزي (15/ 154)، "سير أعلام النبلاء" (3/ 331)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 40)، "البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 295)، "الوافي بالوفيات" للصفدي (17/ 121)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 141)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (5/ 242). (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 392). (¬3) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 49). (¬4) حديث رقم (1208)، كتاب: الحج، باب: جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه.

وروى عنه العدد [الكثير] (¬1)، وقد ذكر أبو حاتم جماعةً رووا عنه من أهل البلدان، فذكر المدينة ومكة واليمن والكوفة والبصرة وواسط ومصر والشام (¬2) وأَيْلَة والجزيرة واليمامة وخراسان. وذكر سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: قال جابر - يعني: ابن زيد - هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا أعلم الناس (¬3). وقال يحيى بن معين: حدثني مَنْ سمع حمادَ بن زيد يقول: سمعت أيوب، وسُئِلَ عن عكرمة كيف هو؟ قال: لو لم يكن عندي ثقةً لم أكتب عنه (¬4). وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عكرمة مولى ابن عباس فقال: هو ثقة، قلت: يحتجُّ بحديثه؟ قال: نعم إذا روى عنه الثقاتُ، والذي أنكره عليه يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك فلسبب رأيه (¬5). وذكر عثمان بن سعيد قال: سألت يحيى بنَ معين قلت: عكرمةُ أحبُّ إليك عن ابن عباس، أو عبيد الله بن عبد الله؟ قال: كلاهما، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل "وشام" والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "الضعفاء" للعقيلي (3/ 375)، و"الكامل في الضعفاء" لابن عدي (5/ 267). (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (7/ 8)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (41/ 98). (¬5) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 8).

ولم يخير. قلت: فعكرمة (¬1)، وسعيد بن جبير؟ قال: ثقةٌ وثقةٌ، ولم يخيِّر (¬2). وعن أحمد بن عبد الله قال: عكرمة مولى ابن عباس ثقةٌ، وهو بريء مما يرميه به الناس (¬3) (¬4). وأما سِمَاكٌ: فقال ابن طاهر في "رجال الصحيحين": هو سِمَاك ابن حرب بن أوس بن خالد بن نزار بن معاوية بن حارثة بن ربيعة بن عامر بن ذُهَيل (¬5) بن ثعلبة الذُّهلي الكوفي، يُكنى أبا المغيرة (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "فقلت: عكرمة". (¬2) انظر: "تاريخ ابن معين - رواية الدارمي" (ص: 117). (¬3) "ت": "الناس به". (¬4) انظر: "معرفة الثقات" لأحمد بن عبد الله العجلي (2/ 145). * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 385)، "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 49)، "معرفة الثقات" للعجلي (2/ 145)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 7)، "المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان (2/ 3)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 326)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (41/ 79)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 103)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 312)، "تهذيب الكمال" للمزي (20/ 264)، "سير أعلام النبلاء" (5/ 12)، "ميزان الاعتدال" كلاهما للذهبي (5/ 116)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 234). (¬5) "ت": "ذهل". (¬6) انظر: "الجمع بين الصحيحين" لابن طاهر المقدسي (1/ 204).

أدرك جماعةً من الصحابة، قال البخاري عن مؤمَّل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سماك: أدركت ثمانين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان [قد] (¬1) ذهب بصري، فدعوتُ اللهَ تعالى فردَّه عليَّ (¬2). وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه في "العلل": حدثنا أبي [قال] (¬3): حدثنا مؤمَّل بن إسماعيل، ثنا حماد؛ يعني: ابن سلمة: سمعت سِماكاً يقول: ذَهبَ بصَرِي، فرأيتُ إبراهيمَ خليلَ الرحمنِ - صلى الله عليه وسلم - في المنام (¬4)، فمسح يدَهُ على عيني فقال لي: ائتِ الفراتَ فاغتمسْ فيه وافتحْ عينيك، [ففعلت] (¬5)، فردَّ الله تعالى عليَّ بصري (¬6). ووثقه ابنُ معين وأبو حاتم، قيل لابن معين: فما الذي عِيْبَ عليه؟ قال: أسندَ أحاديثَ لم يسندْها غيرهُ (¬7). انتهى. وقد اختلفوا فيه؛ فمِنْ مُثْنٍ عليه، ومِنْ متكلِّمٍ، ومن متوسِّط. أما الأول: فعن أبي بكر بن عيَّاش قال: سمعت أبا إسحاق السَّبِيعي ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 173). (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "النوم". (¬5) زيادة من "العلل". (¬6) انظر: "العلل" لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 270). (¬7) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 279)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 214).

يقول: عليكم بعبد الملك بن عُمير وسِماك (¬1). وقال أحمدُ بن حنبل: سماك أصلحُ حديثاً من عبد الملك بن عُمير (¬2). وإذا كان أصلحُ حديثاً منه، فقد اتفقَ الشيخانِ على الاحتجاج بعبد الملك [بن عمير] (¬3)، فهو على هذا القول راجح على من احتجَّ به الشيخان. وأما يحيى بن معين فسُئِلَ عنه فقال: أسندَ أحاديثَ لم يُسندْها غيرُه، وسماك ثقة (¬4). وقال الكوفي: هو تابعي جائزُ الحديث، إلا أنه كان يخطئ في حديث عكرمة، وربَّما وصلَ الشيءَ عن ابن عباس، وكان الثوريُّ يضعِّفه بعضَ الضعف، وهو جائزُ الحديث لم يَتْرُكْ حديثَهُ أحدٌ، وكان عالماً بالسير وأيامِ الناس، وكان فصيحاً. هذا نقل أبي الحسين بن القَطَّان، عن الكوفي (¬5). وقال أبو حاتم: صدوقٌ (¬6)، ومسلمٌ أخرج له عن جابر بن سَمُرة، ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 214). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 279). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 279)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 214). (¬5) وانظر: "معرفة الثقات" للعجلي (1/ 436). (¬6) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 279).

والنُّعمان بن بَشير من الصحابة، وعن غيرهما من التابعين (¬1)، وأخرج عن سبعة (¬2) ممن روى عنه من أجلَّائهم؛ شعبةُ، وزائدةُ، وحمادُ بنُ سلمةَ، وأبو الأحوصِ، وأبو عوانةَ. والترمذيُّ يصحِّح له، وكذلك ابنُ حبان في "صحيحه"، والحاكم يخرِّج له ويقول: إنه على شرط مسلم. وأما الثاني (¬3): ففي رواية أبي طالب عن أحمدَ بنِ حنبل: كان مضطربَ الحديث (¬4). وقال النسائيُّ فيه: إذا انفرد بأصل لم يكن حجةً؛ لأنَّه (¬5) كان يُلقَّنُ فيتلقَّن، وربما قيل له: عن ابن عباس، فيقول: عن ابن عباس (¬6). وذكر العُقَيلي قال: ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، [ثنا أبي] (¬7) قال (¬8): ثنا حجَّاجٌ قال: قال شعبةُ: كانوا يقولون لسماك: عكرمة عن ابن عباس؟ فيقول: نعم، قال شعبة: فكنت أنا لا أفعل ذلك (¬9) به (¬10). ¬

_ (¬1) "ت": "والتابعين". (¬2) "ت": "شعبة". (¬3) أي: من تكلم عليه. (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 279). (¬5) "ت": "إلا أنه". (¬6) انظر: "المختلطين" للعلائي (ص: 49)، و"ميزان الاعتدال" للذهبي (3/ 326). (¬7) زيادة من "ت". (¬8) سقط من "ت". (¬9) "ت": "ذاك". (¬10) رواه العقيلي في "الضعفاء" (2/ 178)، من طريق عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (1/ 395).

قال ابن القطَّان: وفي رواية عنه: كان الناسُ ربما لقَّنوه فقالوا: عن ابن عباس فيقول: نعم، وأما أنا فلم أكنْ ألقِّنُه (¬1). قال ابن القطَّان: وهذا أكثر ما عِيْبَ به سماك، وهو قَبول التلقين، وإنه لعيب يُسْقِطُ الثقةَ بمن يتَّصف به، وقد كانوا يفعلون ذلك بالمحدِّث تَجْرِبةً لحفظه وضبطِه وصِدْقِه. ثم حكى: أنَّ سعيد بن بَشير روى عن قَتَادةَ قال: قال أبو الأسود الدِّيلي: إنْ [سرَّك] (¬2) أن تكذِّبَ صاحبَك فلقِّنْهُ (¬3). [وروى هشامٌ، عن قَتادةَ أنه قال: إذا أردتَ أن تكذِّب صاحبَك فلقِّنْهُ] (¬4). وروى محمد بن سليم عن قَتَادة أيضاً قال: إذا سرَّك أن تكذِّبَ صاحبَك فلقِّنه (¬5). قلت: مطلق التلقين والإجابة ليس دليلاً صحيحاً على اختلال (¬6) حال الراوي، فقد يلقِّنُهُ السائلُ ما لا علمَ له به، فيجيبُه بالصواب عنه، وربَّما يتحققه، وليس يقدَّمُ تلقينُه بالدليل على مجازفته في جوابه، نعم ¬

_ (¬1) ذكره يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (3/ 255)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 178). (¬2) في الأصل "سماك"، والتصويب من "ت". (¬3) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (3/ 66)، والخطيب في "الكفاية" (ص: 149). (¬4) سقط من "ت". (¬5) وانظر: "فتح المغيث" للسخاوي (1/ 355). (¬6) في الأصل: "اختلاف"، والمثبت من "ت".

التلقينُ للباطل - إذا عُرِف بطلانُه - فأجاب الملقَّنُ بما عُرِف بطلانه، كان دليلاً على مجازفته، لا على تعمُّدِه الكذبَ، فالكذبُ فيه يقيناً يتوقفُ على أن يثبتَ [على] (¬1) أنه لقِّنَ الباطلَ الذي عَرَفَ بطلانَه فأجاب به، وأما الإجابة بما يلقَّنُ (¬2) من غير تحققٍ لفسادهِ، فإنما يُجَعل (¬3) قَدْحاً بطريق التهمة، أو بقرينة شهدت بالمجازفة وعدم التثبت، وقد يكون ذلك مأخوذاً من كثرة وقوعه منه، لاسيَّما مع مخالفة الأكثرين والحفاظ، وهذا الذي يُسأل عنه سماكٌ فيقال: عن ابن عباس؟ فيقول: نعم، قد لا يكون السائل عارفاً بفساده، ويكون صحيحاً، وقد يُستَدلُّ على الخطأ بمخالفة الغيرِ له في روايته. وقال ابن القطَّان: فمَنْ تفطَّنَ لما يُرمَى به يوثَّقُ، ومَنْ يلقَّنُ ولا يفطَنُ لِمَا لقِّنَ من الخطأ تسقطُ الثقةُ به إذا تكرر ذلك منه، ومن شُهِد عليه بالتلقين بما هو خطأ، وكان ذلك منه مرة، تُرِك ذلك الحديثُ من حديثه، ومن شُهِد عليه بأنه كان يتلقَّن، ولم يُعلَم من حاله أنه كان يَفْطَن أو لا يفطن، هذا موضع نظر. قال: وهذه حالُ سماك. قلت: لابدَّ أن يُشهَدَ عليه أنه كان يتلقَّنُ ما عُرِفَ خطؤُهُ فيه حتى ينظرَ بعد ذلك هل كان يَفْطَنُ، أم لا؟ فيحتاج ابنُ القطَّانِ فيما رمى به ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": يلقنه. (¬3) "ت": "يجعله".

سماكاً أنه يشهد عليه بأنه لُقِّن (¬1) الخطأ. وأما قولهم له: عن ابن عباس؟ فيقول: نعم، فقد يكون صواباً، فلابدَّ أن يُشهَدَ عليه بأنَه لُقِّنَ الخطأ، وأجاب بالخطأ، فَيلْمَحُ هذا (¬2) فيمَنْ نُقِلَ عنه أن سماكاً كان يتلقَّنُ، اللهمَّ إلا أن يكونَ هاهنا عُرِفَ أنَّ (¬3) مَنْ قيل فيه: إنه كان يتلقن، أُريد به أنه كان يتلقن الخطأ، وأن هذه العبارة إنما تطلق ويراد بها هذا المعنى، فتكون حينئذٍ الشهادةُ عليه بالتلقين كالتبيين؛ لأنه كان يلقَّنُ الخطأ، ومما يقرِّبُ حال هذا التلقين لسِماك: أني رأيت بعضَهم قد حكى عن الكوفي أنه قال فيه: إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصلَ الشيءَ عن ابن عباس، وربما قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان عكرمةُ يُحدِّث عن ابن عباس. وأما الثالث (¬4): فقال عبد الرحمن بن يوسف -[هو ابن خِرَاش] (¬5) - في حديثه: وقال ابن أبي خيثمة: أسندَ أحاديثَ لم يسندها غيرُه (¬6)، والبخاريُّ يستشهدُ (¬7) به في "صحيحه" (¬8). ¬

_ (¬1) "ت": "يلقن". (¬2) "ت": "ذلك". (¬3) "ت": "بأن". (¬4) وهم المتوسطون في الكلام عن سماك. (¬5) زيادة من "ت". (¬6) تقدم ذكره، إلا أنه من كلام ابن معين، نقله عنه ابن أبي خيثمة. (¬7) "ت": "استشهد". (¬8) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 173)، "معرفة الثقات" للعجلي (1/ 436) , =

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجه الثاني: في تصحيحه: وقد ذكرنا أن الترمذيَّ صحَّحه (¬1)، فحصل شرطُنا، وبسطنا القولَ في رواية عكرمة وسماك. * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: القَصْعَة - مفتوحة القاف - تنطلقُ على إناء من خشب، والجمعُ قِصاع وقِصَع، واختلفوا في كونها عربية أصلية، أو معربة عن الفارسية. قال أبو هلال العسكري في كتاب "التلخيص": والقَصْعة والجمع قِصاع: عربيٌ معروف، قال الشاعر [من الطويل] (¬2): ¬

_ = "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 279)، "الثقات" لابن حبان (4/ 339)، "تاريخ بغداد" للخطيب (9/ 214)، "الجمع بين رجال الصحيحين" لابن طاهر (1/ 204)، "تهذيب الكمال" للمزي (12/ 115)، "سير أعلام النبلاء" (5/ 245)، "ميزان الاعتدال" (3/ 326)، "الكاشف" (1/ 465) ثلاثتها للذهبي، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 204). (¬1) قال المؤلف رحمه الله في "الإمام" (1/ 135) معلِّلاً تصحيح الترمذي: لتصحيحه - أي الترمذي - لسماك بن حرب. (¬2) هو عجز بيت للسليك بن السلكة السعدي، كما نسبه إليه ابن منظور في "لسان العرب" (1/ 512). ونسبه ابن السكيت في "إصلاح المنطق" (ص: 143) إلى المخبل السعدي. وصدر البيت: سيكفيكَ صَرْبَ القومِ لحم معرض

الثانية

وَمَاءُ قُدُورٍ في القِصَاعِ مشيبُ وقال بعضُهم: القَصعة: فارسية معربة، وأصلها كاسة (¬1). وقال كُرَاع في "المنتخب" (¬2): وأعظمُ القِصاع الجَفْنَةُ، ثم القصعة تُشْبعُ العَشَرَةَ، ثم الصَّحْفةُ تشبع الخمسة [و] (¬3) نحوهم، ثم المَكِيلةُ تُشْبعُ الرَّجلين والثَّلاثَة، ثم الصَّحِيفةُ تشبعُ الرَّجلَ (¬4). الثانية: يشبه أن يكون أصلُ هذه اللفظة؛ أعني: القصعةَ، وما دونَها يرجع إلى التأثير بقوة، فالقصعُ (¬5): جرعُ الماء، وقصعتِ الناقةُ بِجرَّتها: ردَّتها إلى جوفها، وقيل: أخرجتها فملأَتْ فَاهَا (¬6). قال أبو عُبيد: قصعُ الجِرَّة: شدةُ المَضْغِ وضمُّ بعضِ الأسنان إلى بعض، وقَصَعَ القملةَ: هو أن يَمْرُسَها (¬7) ويقتلَها، وقَصَعْتَ هامَتَه: ¬

_ (¬1) انظر: "التلخيص" لأبي هلال العسكري (1/ 297). (¬2) للإمام اللغوي علي بن الحسن المعروف بكُراع النمل، المتوفى سنة (307 هـ) كتاب: "المنتخب والمجرد في اللغة"، كذا ذكره حاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/ 1850). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "المحكم" لابن سيده (1/ 149)، (مادة: قصع). قلت: كلام المؤلف رحمه الله هنا عن القصعة يخالف مرادَه؛ إذ إنه بصدد الكلام عن لفظة "جفنة" الواردة في الحديث، والله أعلم. (¬5) "ت": "فالقصعة". (¬6) "ت": "جوفها". (¬7) في الأصل: "يرسمها"، والتصويب من "ت". وفي "الصحاح" وعنه نقل المؤلف: "يهمشها".

الثالثة

هامَتَه: إذا ضربتَها ببُسْطِ كفِّك، وقَصَعَ اللهُ شبابَهُ، وغلامٌ مقصوعٌ: إذا بقي قَمِيئاً لا يَشِبُّ ولا يزدادُ، والقَاصِعَاء: من جِحَرَةِ اليربوع. فمعنى التأثير بقوة في الجميع، وكأنَّ القصعةَ لُمِح فيها معنى نَحْتِها وتجويفِها. وأما قصعَ الماءُ عطشَهُ، بمعنى: أذهبه وسكَّنه، (¬1) فَيحتمِلُ أن يكون مجازاً؛ تشبيهاً لشدة إِذْهابِه العطشَ ببردِه بقوة التأثير في الأجسام، ويحتمل أن يكونَ اللفظُ موضوعاً للقَدْر المشترك، فلا مجازَ. الثالثة: كلمةُ (في) للظرفية حقيقةً، والذين يرونَ دخولَ بعض حروفِ الصفاتِ على بعض في المعنى، ذكروا لها معانيَ؛ منها أن تكونَ بمعنى (مِنْ)، وأنشد بعضُهم في ذلك قولَ امرئ القيس [من الطويل]: وَهَلْ يَنْعَمْنَ مَنْ كانَ أَقْرَبَ عَهْدِهِ ... ثَلاثُونَ شَهْراً في ثَلاثَةِ أحْوَالِ (¬2) وهذا ضعيفٌ لقُربِ ردِّهِ إلى معنى الظَّرفية. الرابعة: يقال: أَجْنَبَ وجَنُبَ واجْتَنَبَ، ومستقبلُ أَجْنَبَ: يُجْنِبُ [جزما] (¬3)، [وأما مستقبله: يَجنُب - بفتح أوله، وضم ما قبل آخره -] (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1266)، (مادة: قصع)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله. (¬2) انظر: "ديوان امرئ القيس" (ص: 27) (ق 2/ 3) وعنده: وهل يَعِمَنْ من كان أحدثُ عهدهِ ... ثلاثين شهراً في ثلاثةِ أحوالِ (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت".

الوجه الرابع

وأما المستقبلُ الذي هو يُجنَب - بضم الياء، وفتح ما قبل الأخير - ففي ماضيه احتمالٌ أن يكونَ جُنِبَ - بضم الأول، وكسر ما قبل الأخير -، [وأن يكون أُجنِبَ - بضم أوله، وكسر ما قبل الأخير -] (¬1)، بخلافِ يُجْنِبُ (¬2)، فإنَّ ماضيَهُ متعيِّنٌ أن يكونَ أَجْنَبَ (¬3). * * * * الوجه الرابع: لابدَّ في الكلام من محذوف يوضِّحُهُ السياقُ ويدلُّ عليه، وهو معلومٌ قطعاً، فإنَّ قولَها رضي الله عنها: (إنِّي كنتُ جُنُباً)؛ أي: حالةَ استعمالِ الماء، ثم تحذفُ منه أيضاً مقصودَ هذا الإخبار، وهو أنه هل يمنعُ ذلك من استعمالِه، أم لا؟ * * * * الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: فيه إباحةُ استعمال (¬4) أواني الخشب في الطهارة، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في "ت": الجنب. (¬3) نقله المؤلف عن الحسين بن المهذب المصري في كتابه: "السبب إلى حصر كلام العرب"، والقزاز في كتابه: "جامع اللغة"، كما ذكر في "الإمام" (1/ 136). وانظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 461)، (مادة: جنب). (¬4) سقط من "ت".

الثانية

ولا خلافَ في صحته، ولا في عدم كراهتِه، وليس كالزُّجاج الذي حُكِيَ عن بعضهم [احتمالُ] (¬1) تَوَقِّيهِ لاعتقاد أنَّ فيه شرفاً وترفهاً (¬2). وقيامُ الإجماعِ على الحكم لا يمنعُ من أن يُستدَلَّ بالنصِّ عليه، فكمْ من مسألةٍ استدلَّ الفقهاءُ عليها بالنص والإجماع، وقد فعلوا ذلك في المتواترات؛ كوجوب الصلاة والزكاة والحج. الثانية: فيه جوازُ البناءِ على الظاهرِ والأصلِ في استعمال الماء في الطهارة، وعدمُ لزومِ السؤال عند احتمال طَرَيانِ ما قد يُفسِدُ الماءَ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قصدَ الوضوءَ أو الغسل؛ بناءً على الأصل، ولم يسأل هل طرأ عليه ما يُفسدُه، أم لا؟ الثالثة: قولُها رضي الله عنها: (إنيِّ كنتُ جُنُباً) إنما كان لاحتمال أن يكونَ استعمالُه في الغسل من الجنابة مُفسِداً له، فيدخل الإخبارُ بذلك في باب النُّصح، ولا يلزم أن يكونَ لاعتقادها الإفسادَ ولابدَّ، بل يكفي مجرَّدُ احتمالِ ذلك عندها، وكأنَّ سبَبهُ ما تقرر من معنى البعدِ في الجنابة، وكونِها مانعةً من أمورٍ من العبادات. الرابعة: الحديثُ يتعلَّق بمسألة الماء المستعمل، وقد اختلفوا في حكمه على أقوال: أحدها: أنه طَهورٌ إذا لم يتغيَّر، وهو المشهور من مذهب مالك، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "وترفاً".

واختيار ابن القاسم في "المدونة" (¬1)، إلا أنه يُكْرهُ استعمالُه عند وجود غيره (¬2)، والقول بطهوريته مرويٌّ عن الحسن، والنخعي، وعطاء، والزُّهري، ومكحول، وهو مذهب أبي ثَور، وداودَ، وأهلِ الظاهر، واختيارُ ابن (¬3) المنذر، ويُنسَبُ قَوْلاً للشافعيِّ قديماً، ومنهم مَنْ لم يثبتْهُ، وجزم القولَ بالجديد. وثانيها: أنه طاهر غير مطهر، وهو مشهور قولِ الشافعي، وأبي حنيفةَ، ويُنسَبُ إلى الليث بن سعد، والأوزاعي (¬4). وثالثها: أنه نجس، وهو محكيٌّ عن رواية الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة، وهو مذهبُ أبي يوسف (¬5). ورابعها: أنه يتوضَّأُ به ويتيمَّمُ إذا لم يجدْ سواه كالمشكوك فيه، ويصلّي صلاةً وأحدة، ذكره ابن القَصَّار من المالكية، عن الأبهري منهم (¬6). وإذا قيلَ بكراهته مع طهوريته، فقد اختُلِفَ في تعليله، فقيل: ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (1/ 4). (¬2) انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (1/ 55). (¬3) في "الأصل": "أبي"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 28)، و"الوسيط" للغزالي (1/ 114)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 206). (¬5) انظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 24). (¬6) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 66).

الخامسة

لاختلاف العلماء فيه، فغيرُهُ مما لا اختلافَ فيه أولى. وقيل: لشبَهِهِ بالماء المُضَاف، وإن كانت الإضافةُ لم تغيرْهُ؛ إذ الأعضاءُ في الأغلب لا تخلو من أَعْراقٍ وأوساخٍ، لاسيما أعضاءُ الوضوءِ؛ لأنها بارزةٌ للغَبَرات والقَتَرات فتخالطُه. وأشار بعضُهم إلى التعليل بخروج الخطايا معه، واستُضْعِفَ؛ لأنَّ الخطايا ليست جسماً خالطَ الماء (¬1). الخامسة: استُدلَّ به على طهورية الماء المستعمل، وهو من وجوه: أحدها: ما دلَّ عليه الجواب من ردّ توهُّمِ المرأة لفساد الماء بالاستعمال، [لاسيَّما] (¬2) مع الوضوء منه على ما رُوي في رواية أخرى. وثانيها: قوله - عليه السلام -: "إن الماءَ لا يجنبُ"؛ أي: لا ينتقل إليه حكمُ الجنابة، وهو المنع، ذكرَ ذلك تعليلاً لجواز الوضوء به. وثالثها: أنها لما أخبَرَت أنها كانت جنباً؛ أي: عند الاغتسال منه، وأحوالُ الجنب عند الاغتسال مختلفةٌ، تارةً يكون بالانغماس، وتارةً يكون بالتناول، وبعد التناول تارةً ينوي رفع الحدث، وتارةً ينوي الاغترافَ بخصوصه؛ أعني: مع قطع نية رفع الحدث عن اليد، وتارةً لا ينوي واحداً منهما ويَذْهَل، ثم حصل الجوابُ بما يقتضي إباحةَ الاستعمال، فيقتضي عدمَ تاثيرِ الاستعمال في الماء بناءً على القاعدة المشهورة في ترك ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 42). (¬2) سقط من "ت".

السادسة

الاستفصال مع قيام الاحتمال، وقد يَرِدُ على هذا ما يرد على تلك القاعدة من جواز عِلْمِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالواقعة (¬1)، وجوابُهُ عنها على حسب علمه، إلا أنه هاهنا ضعيفٌ؛ لأنه حَكَمَ على عموم الماء بأنه لا يجنب، ولم يحكم على خصوص ما سئل عنه، وهذا أمر زائد. السادسة: الذين يرونَ أنَّ المستعملَ غيرُ طهور يعتذرون عن الحديث بوجهين: أحدهما: ما قدَّمناه من أمر رواته (¬2) على مذهب مَنْ لا يرى الاحتجاجَ بِسِمَاك أو عكرمة، وجوابُهُ ما تقدم من مقتضيات التصحيح. وثانيهما: حملُ لفظةِ (¬3) (في) على معنى (من)، وأن الاغتسالَ كان منها لا فيها، ومخالِفُهم يتمسك بالحقيقة، وقد يُقوَّى تأويلُهم برواية مَنْ رواه بلفظةِ (من)، وذكر الحافظ أبو حاتم بن حبان: أن أبا الأحوصِ انفردَ بهذه اللفظة (¬4)، [واللفظة؛ يعني: لفظة (في)] (¬5). ¬

_ (¬1) "ت": "بتلك الواقعة". (¬2) في "الأصل": "راويه"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "لفظ". (¬4) انظر: "صحيح ابن حبان" (4/ 73)، حديث رقم (1261). قلت: وقد روى الدارمي في "سننه" (734)، من حديث يحيى بن حسان، عن يزيد بن عطاء، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قامت امرأة من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلت في جفنة من جنابة ... ، الحديث. وقال: أخبرنا عبيد الله، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وانظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 135 - 136). (¬5) سقط من "ت".

السابعة

[وهذا] (¬1) إن أُرِيد به أنَّ غيرَهُ لم يذكرْهَا ولا غيرَها، فهذا قريبٌ، وزيادةُ العَدْلِ مقبولةٌ، وإن أُريد به أنَّ غيرَه رواها بلفظ (من) [وهو رواها] (¬2) بلفظة (في)، [فهذا] (¬3) اختلافٌ على سِمَاك، فإنْ ظَهر ترجيحٌ لأحد الروايتين عُمِل به. وقد أُكِّدَ كونُ المرادِ الاغتسالَ منها لا فيها، باستبعاد الاغتسال فيها عادةً، ويُقرِّب الاغتسالَ (¬4) فيها أنَّ البيوتَ لم تكن واسعةً، والظاهرُ أنها غيرُ مُجَصَّصةٍ ولا مُحَجَّرةٍ، فالاغتسال فيها لأجل أن يَسْلَمَ المكانُ من الابتلال والوَحل، على أنَّ هذا لا يمنعُ من التمسك بطريقة ترك الاستفصال وقوله - عليه السلام -: "إن الماءَ لا يَجْنُبُ"، وخرَّج ابنُ حبان هذا الحديث من رواية سفيان، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنَّ امرأةً من أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اغتسلت من جفنةٍ [من جنابة] (¬5)، فجاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضأُ من فَضْلِها، فقالت له، وقال: "الماءُ لا يُنَجِّسِهُ شيءٌ" (¬6). السابعة: لا يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بـ "إنَّ الماءَ لا يجنبُ" أنه ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "وهذا مع من رواه"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "الاستعمال". (¬5) زيادة من هامش "ت". (¬6) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1242).

لا ينتقلُ إليه حكمُ الجنابة بخصوصه (¬1)؛ لأنَّ ذلك محالٌ عقلاً، فلا يجوز حملُ [لفظِ] (¬2) الشارعِ عليه، فبقِي على أن يُحمَلَ على معنى أعم من هذا المعنى، بأن يُؤخَذَ مطلقُ المنع وجنسُه لا المنع الخاص، ويقال: إن الجنبَ تعلق به منعٌ بسبب الجنابة، ولا يتعلق بالماء منعٌ بسبب الجنابة، هذا إن لم يُزاحَم بمعنى آخر ينافيه. قال أبو سليمانَ الخطابيُّ رحمه الله تعالى: قوله: "إنَّ الماءَ لا يجنبُ" معناه: لا ينجُس، وحقيقتُهُ: أنه لا يصيرُ بمثل هذا الفعل إلى حالةٍ يُجتنبُ فلا يُستَعملُ، وأصلُ الجنابة البعدُ، ولذلك قيل للغريب: جُنُب؛ أي: بعيد، وسُمِّي (¬3) المُجَامعُ - ما لم يغتسل - جُنُباً؛ لمجانبته الصلاةَ وقراءةَ القرآنِ، كما يُسمَّى الغريبُ جنباً لبعده عن أهلِه ووطنِه. وقد رُوِيَ: "أربعٌ لا يَجْنُبْنَ: الثوبُ، والإنسانُ، والأرضُ، والماءُ" (¬4)، وفسَّروه: أنَّ الثوبَ إذا لاصقه عرقُ الجنب لم ينجُس (¬5)، والإنسانَ إذا أصابته الجنابةُ لا ينجس، وإن صافحه جنبٌ أو مشركٌ لم ينجُسْ، والماءَ إذا أَدخلَ يدَه فيه جُنُبٌ أو اغتسلَ لم ينجُس، والأرضَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مخصوصة"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "فسمِّي". (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 113)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 276)، عن ابن عباس من قوله. (¬5) في المطبوع من "معالم السنن": "وفسروه: أن الثوب إذا أصابه عرق الجنب والحائض لم ينجس ... ".

الثامنة

إذا اغتسل عليها جنبٌ لم تنجُس (¬1). وأقول: تفسيرُه (لا يجنبُ) بـ (لا ينجسُ) تفسيرٌ لما هو أعمُّ بالأخصِّ، وهو يَحتاج إلى دليل؛ لأنَّ قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الماءَ لا يجنبُ" إما أن يُؤخَذ من معنى الجنابة، وهو الذي يدلُّ عليه سياقُ الحديث وقولهُا رضي الله عنها: "إني كنت جنباً"، فقوله: "لا يجنب" على هذا التقدير؛ [أي] (¬2): لا يكونُ له حكمُ الجنابة، وهو المنع، وهذا أعمُّ من كونِه منعاً لأجل النجاسة أو لأجل عدمِ الطهورية، فتخصيصُهُ بمعنى (¬3) النجاسة يحتاج إلى دليل، وإن أُخِذَ من معنى الاجتناب، فهو أعمُّ أيضاً من الاجتناب لأجل النجاسة، أو لأجل عدمِ الطُّهورية. الثامنة: من القواعد الأصوليَّة: أن العامَّ لا يُخَصُّ بسببه على المختار (¬4)، فإذا حُمِلَ قولُه - عليه السلام -: "لا يجنبُ" على أنه لا يتعلَّقُ به منعٌ بسبب الجنابة، دلَّ على جواز استعماله مع طهارة الحَدَث والخَبَث معاً، وإن كان سببُ الحكم طهارةَ الحدث. التاسعة: بعد القول بإفساد الاستعمال للماء، وأنَّ الاستعمال (¬5) كان من الجَفْنَةِ، قد يؤخذُ منه مسألةُ الاغترافِ إذا لم ينوِ به رفعَ ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 38). (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "بمنع". (¬4) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 504). (¬5) "ت": "الاغتسال".

العاشرة

الحدث، ولا مجرَّدَ الاغترافِ، بل غَفَل عنهما حالةَ الاغترافِ، وذلك لترك الاستفصال. العاشرة: إنما يدلُّ على أنه [لم يحصلْ] (¬1) منعٌ بسبب الجنابة، كما حصل للجُنُبِ منعٌ بسببها، ولا يمنعُ [من] (¬2) ذلك من أنْ يتعلَّقَ به منعٌ بسبب آخرَ، كالمنع بسبب تغيُّرِهِ بما يخالِطُه. الحادية عشرة: إنما يدلُّ على أنه لا يحصُلُ له منعٌ لسبب (¬3) الجنابة من التطهير، وإن كان اللفظُ إذا حُمِل على [المعنى] (¬4) أعمَّ من هذا، وهذا من باب تخصيص العموم بالسِّياق، لا من باب تخصيص العموم بالسبب، وبينهما فرقٌ نافعٌ في مواضعَ عديدةٍ (¬5). الثانية عشرة: إذا حملنا (في) على الظرفية، كما هو الحقيقة، وجعلناه دليلاً على الطهورية، فهو دليل على الطهارة من باب الأَوْلَى. الثالثة عشرة: المحكيُّ عن أصْبَغَ من المالكية رحمهم الله تعالى: أن الماءَ المستعمَل غيرُ طَهور (¬6)، ولم يعلِّلوه بانتقال مانع ولا بتَأَدِّي عبادة، بل عُلِّلَ بما يلحقُه ويَحُلُّه من الأوساخ والأَدْرَان، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "بسبب". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 503). (¬6) انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (1/ 75).

الرابعة عشرة

والحديثُ يدلُّ على بطلان هذا التعليل بعد الحمل على كون الاغتسال في الجفنة؛ لأنَّ الاغتسالَ في الجفنة موجودٌ هاهنا، فلو مَنَعَتْ هذه العلةُ التطهيرَ، لامتنعتِ الطهارةُ، [و] (¬1) لم تمتنعْ، فلا تمتنعُ (¬2). الرابعة عشرة: المحكيُّ من مذهب أبي الحسين القَابِسيِّ من المالكية: أنَّ الماءَ القليلَ إذا خالطه طاهرٌ لم يغير [5] (¬3)، فهو غيرُ طهور (¬4)، والكلامُ فيه كالكلام في المسألة قبلَها؛ لأنَّ المخالطةَ غالباً حاصلةٌ، فلو مَنَعت، لامتنع التطهيرُ به. والفرقُ بين هذا والذي قبلَه: أنه يُستدَلُّ هاهنا على بطلان الحكم، وهناك يُستدلُّ على بطلان العلة، فقد يمكنُ أنْ يَسْلَمَ الحكمُ لأصبغَ، ويبطُلُ التعليلُ بما ذُكِرَ. الخامسة عشرة: بعضُ مَنْ أفسدَ الماءَ بالاستعمال علَّلَ بوجهين: تأدِّي العبادة، وانتقالِ المنع، وقولُه - عليه السلام -: "إنَّ الماءَ لا يجنبُ" كالتصريح بردِّ هذه العلةِ الثانيةِ. السادسة عشرة: بطلانُ هذه [العلة] (¬5) لا يلزمُ منه بطلانُ الحكم الذي هو عدمُ الطُّهورية، فقد يقول مَنْ رأى تأثيرَ الاستعمالِ في الماء: إنما يدلُّ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الماءَ لا يجنبُ" على عدم انتقالِ المنعِ إلى ¬

_ (¬1) بياض في "الأصل"، والمثبت من "ت". (¬2) أي: لم تمنع التطهير، فلم تمنع الطهارة. (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (1/ 60). (¬5) سقط من "ت".

السابعة عشرة

الماء، ولا يلزم من [بطلان] (¬1) هذه العلة بطلانُ الحكم، فالاستدلالُ (¬2) بهذا اللفظ على بطلان [الحكم] (¬3) لا يصحُّ، وجوابُهُ: أنَّ ذكرَ هذا الكلامِ إبطالٌ لقيام المانع من استعماله، وهو دليلٌ على عدم تأثير الاستعمال في الماء، ولاسيَّما مع استعماله - صلى الله عليه وسلم -، ولو انفردَ أنَّ الماءَ لا يجنبُ عن إشعارِ الدلالة به على عدم المانع لاتَّجهَ ما قال. السابعة عشرة: إذا أُقيمَ دليلٌ على أنَّ المرادَ الاغتسالُ من الجفنة، لا فيها، كان الحديثُ دليلاً على جوازِ الوضوءِ بفضل طَهور المرأة في الجملة. الثامنة عشرة: ويكون أيضاً دليلاً على الجواز وإن خَلَتْ به؛ لأنها إنما أخبرت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لتُعْلِمَه ما لم يكنْ عنده علمُهُ، فيحترزُ منه، فقد خَلَتْ به عنه. التاسعة عشرة: مَنْ جمعَ بين كونِ الماء يفسدُه الاستعمالُ، وكونِ الوضوء من فضل المرأة ممنوعاً؛ إما بشرط الخَلْوة به، أو بغير شرطِها، صَعُبَ عليه الاعتذارُ عن هذا الحديث؛ لأنَّ هذا الغسلَ إما أن يكون في الجَفْنة، أو منها، فإن كان الأولُ: فالماء مستعملٌ، ولم تزُلْ طهوريتُهُ بالحديث، وإن كان الثاني: فهو فضلُ امرأةٍ قد خَلَتْ، ولم تَزُلْ طهوريتُه بالحديث. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "والاستدلال". (¬3) سقط من "ت".

العشرون

العشرون: إذا حُمِلَ الحديثُ على الاغتسال في الجفنة، فيؤخذُ منه طهارةُ عَرَقِ الجُنُبِ، لكنْ بعد تقدير مقدمةٍ أخرى، وهي: تنجُّسُ (¬1) الماء القليل بوقوعِ النجاسة فيه. الحادية والعشرون: إذا حُمِلَ على الاغتسال في الجفنة، [لا] (¬2) منها، فقد يُدَّعى أنَّ الغالبَ أنه يحصُل في الماء تغيُّرٌ ما بسبب ما يُلابِسُ البدنَ من الأَدْرَان والأوساخ، فيؤخذُ منه: أنَّ التغيُّرَ باليسير من الطاهرات لا يَضُرُّ. الثانية والعشرون: يُستَدلُّ بوجود العلة على وجود المعلول، وبوجود المعلول على وجود العلة إذا اختصَّ بها، وفي هذا الحديث كلا الأمرين؛ أما الروايةُ [الأولى] (¬3) التي أوردناها (¬4)، ففيها (¬5) أخذُ المعلولِ من العلة؛ لأن حكمَهُ - عليه السلام - بأنَّه لا يجنبُ، علةٌ لجواز الطهارة به، الذي هو المقصود، فذكرَ العلةَ ليدلَّ بها على المعلول، وأما [على] (¬6) روايةِ استعماله [له] (¬7) - صلى الله عليه وسلم -، فيؤخذُ منه العلةُ من المعلول؛ لأن جوازَ تطهُّرِهِ منه - عليه السلام - لازمٌ لطهوريته، فاستعمالُهُ دليلٌ على طهوريتِهِ دلالةَ المعلول على العلة. ¬

_ (¬1) "ت": "تنجيس". (¬2) بياض في "الأصل" والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت" "أفردناها". (¬5) في الأصل: "ففيه"، والتصويب من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) سقط من "ت".

الحديث السادس

الحديث السادس عنْ أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا وَقَعَ الذُّبابُ في شَرابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزَعْهُ، فَإنَّ في أحَدِ جَنَاحَيهِ دَاءً، والآخَرِ شِفاءً"، أخرَجَهُ البُخاريُّ (¬1). ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه البخاري (3142)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، فإن في إحدى جناحيه داء، وفي الأخرى دواء، من طريق سليمان بن بلال، عن عتبة بن مسلم، عن عبيد بن حنين، عن أبي هريرة، به. ورواه البخاري أيضاً (5445)، كتاب: الطب، باب: إذا وقع الذباب في الإناء، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عتبة بن مسلم، به. قال المؤلف في "الإمام" (1/ 221): وليس لعبيد بن حنين في "الصحيح" عن أبي هريرة غير هذا. وقد رواه ابن ماجه (3505)، كتاب: الطب، باب: يقع الذباب في الإناء، من طريق مسلم بن خالد، عن عتبة بن مسلم، به. ورواه أبو داود (3844)، كتاب: الأطعمة، باب: في الذباب يقع في الطعام، من طريق ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، به. قلت: وللحديث طرق كثيرة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 221) وما بعدها.

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف بمن ذُكر فيه: أمَّا أبو هُريرَةَ - صلى الله عليه وسلم -: فقد تقدَّمَ التعريف به. وأمَّا البُخَارِيُّ: فهو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة [بن الأحنف] (¬1) بن بَرْدَزْبِه - مفتوح الباء الموحدة، ساكن الراء مكسور الدال المهملتين، ساكن الزاي المعجمة، مكسور الباء الموحدة، وآخرها (¬2) هاء -، جبلٌ في هذا العلم شامِخٌ، وعالمٌ بالصناعة راسِخٌ، طافَ وجَالَ، ووسَّعَ الطلب المجالَ، فضلُه كبيرٌ، والثناء عليه كثيرٌ. قال الحاكمُ أبو عبد الله الحافظُ في "تاريخ نَيْسَابور": محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله الجُعفي، إمامِ أهل الحديث بلا خلافٍ أَعرِفُه بين أئمة أهل النقل فيه، إلا أن يكون كما قال الأوَّلُ [من الطويل]: بِحسبِكَ أنّي لا أرَى لكَ عائِباً ... سِوَى حاسِدٍ والحَاسِدُونَ كَثيرُ قال الحاكم: سمعت أبا الطيِّبِ محمَّدَ بنِ أحمدَ المُذَكِّرَ يقول: سمعت أبا بكر محمَّد بن إسحاقَ بن خُزيمةَ يقول: ما رأيت تحت أديمِ هذه السماءِ أعلمَ بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحفظَ من محمَّدِ بنِ إسماعيل البخاريِّ (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "آخره". (¬3) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 74)، والخطيب في "تاريخ =

قال: وسمعت يحيى بنَ عمرو بن صالح يقول: سمعت أبا العبَّاس محمَّد بن إبراهيم الفقيه يقول: كُتِب إلى محمَّد بن إسماعيل البخاري من بغداد [من البسيط]: والمُسلِمُونَ (¬1) بِخَيرٍ مَا بَقِيتَ لهُمْ ... ولَيسَ بعدَكَ خَيرٌ حِينَ تُفْتَقَدُ (¬2) قال: وسمعت أبا عبد الله محمَّد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت أبي يقول: رأيت مسلمَ بن الحجَّاج بين يدي محمَّد بن إسماعيل البخاري، وهو يسأله سؤالَ الصبيِّ المتعلِّم (¬3). قال: وسمعت أبا نصر أحمدَ بن محمَّد الورَّاق يقول: سمعت أبا حامد أحمد بن حَمْدُون يقول: سمعت مسلم بن الحجاج، وجاء إلى محمَّد بن إسماعيل البخاري، فقَبَّلَ بين عينيه، وقال: دعني حتَّى أُقبِّل رجلَيك يا أستاذَ الأُستَاذِين، و [يا] (¬4) سيدَ المحدِّثين، ويا طبيبَ الحديثِ في عللِهِ، حدَّثك محمَّد بن سلام ... فذكر بقيةَ الحكاية (¬5). ¬

_ = بغداد" (2/ 27)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 65). (¬1) "ت": "المسلمون". (¬2) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 74)، ومن طريقه: ابن نقطة في "التقييد" (ص: 33). ورواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 22)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 90). (¬3) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 29)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 89). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 112 - 113)، والسمعاني في =

وروى الخطيبُ بسنده إلى أحمد بن سيَّار قال: محمَّد بن إسماعيل ابن إبراهيم [بن] (¬1) المغيرة الجعفي، أبو عبد الله، طلبَ العلم، وجالسَ النالسَ، ورحَلَ في الحديث، ومَهَرَ فيه، وتبصَّر [وخالط] (¬2)، وكان حسنَ المعرفة وحسنَ الحفظ، وكان يتفقَّهُ (¬3). وروى الحافظُ عبدُ الغنيِّ بنُ سعيد، عن أبي الفضل جعفر بن الفَضْلِ قال: أخبرنا محمَّد بن موسى بن يعقوب بن المأمون قال: سُئِلَ أبو عبد الرحمن النسائيُّ عن العلاء وسُهَيل فقال: هما خيرٌ من فُلَيح، ومع هذا ما في الكتب كلِّها أجودُ من كتاب محمَّد بن إسماعيل البخاري (¬4). وذكره الحافظُ أبو أحمدَ في كتابه "الأسماء والكُنَى" وقال: كان أحدَ الأئمة في معرفة الحديث وجمعِه، ولو قلتُ: إنِّي لم أرَ تصنيفاً يفوق تصنيفَه في المبالغة والحُسن، أو لم أسمعْ بأذني في باب الحديث مثلَه، رجوتُ أن أكونَ صادقاً في قولي. وروى الخطيب من حديث أبي الهيثم الكُشْمِيْهَني قال: سمعت ¬

_ = "أدب الإملاء والاستملاء" (ص: 136)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 102)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 68). (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 6)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 52). (¬4) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 9)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 74).

محمَّد بن يوسف الفِرَبْرِي يقول: قال محمَّد بن إسماعيل البخاري: ما وضعتُ في كتاب "الصحيح" حديثاً إلا اغتسلتُ قبلَ ذلك، وصليتُ ركعتين (¬1). وذكر أيضاً عن أبي إسحاق المُسْتَملي، عن محمَّد بن يوسف الفِرَبْرِي: أنه كان يقول: سمع كتابَ "الصحيح" لمحمَّد بن إسماعيل تسعون ألفَ رجلٍ، فما بقي أحدٌ يرو [يه عنه] (¬2) غيري (¬3). قلت: وهذه الرواية في "صحيح البخاري" من جهة الفِرَبْرِي هي المشهورة شرقاً وغرباً، وللمغاربة رواية أخرى من جهة إبراهيم بن معقل النَّسَفي عن البخاري موجودةٌ في فهارسهم وغيرها، ولا أعلمُها اليومَ في جهة أهل الشرق (¬4). وكانت وفاة البخاري - رحمه الله تعالى - ليلةَ عيدِ الفطر، سنةَ ست وخمسين ومئتين بخِرْتَنْكَ، مكسور (¬5) الخاء المعجمة، ساكن الراء، مفتوح ثالث الحروف، ساكن النون، [و] (¬6) آخره كاف (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 9)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 71). (¬2) بياض في الأصل، والمثبت من "ت". (¬3) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 9)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 74). (¬4) "ت": "المشرق". (¬5) "ت": "بكسر". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) * مصادر الترجمة: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 191)، "معرفة علوم الحديث" للحاكم =

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجه الثاني: في تصحيحه: وقد ذكرنا أنَّ البخاريَّ أخرجه، وحسبُك بذلك، وهو من أفراده، انفرد به عن مسلم، رحمهما الله تعالى، أخرجه في موضعين من كتابه: أحدهما في بَدْء الخلق، والثاني في كتاب الطب. وهو عنده من طريقين: أحدهما عن سليمان بن بلال، والثاني من حديث إسماعيل بن جعفر، كلاهما عن عتبة بن مسلم، عن عبيد ابن حُنين، عن أبي هُريرَةَ، - رضي الله عنه - (¬1). * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: قال الجوهري: الذُّبَابُ معروفٌ، الواحدة ذُبَابة، ولا يقال: ذِبَّانة، وجمع القِلَّة: أَذِبَّة، والكثير: ذِبَّان، مثل غُراب وأغرِبة وغِربان (¬2). ¬

_ = (ص: 74)، "تاريخ بغداد" للخطيب (2/ 4)، "الإرشاد" للخليلي (3/ 959)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (52/ 50)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 86)، "تهذيب الكمال" للمزي (24/ 430)، "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 188)، "سير أعلام النبلاء". (12/ 391)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (2/ 555)، "طبقات الشافعية" للسبكي (2/ 212)، "البداية والنهاية" لابن كثير (11/ 28)، "مقدمة فتح الباري"، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (9/ 41). (¬1) وقد تقدم تخريج الطريقين قريباً. (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 126).

الثانية

وقال أبو هلال العسكري في "التلخيص": والذُّبَاب واحد، والجمع: ذِبَّان، والعامةُ تقول: ذُبابة للواحد، والذُّبان للجمع، وهو خطأ، وتقول (¬1) للأنثى: ذبابة (¬2). الثانية: الشرابُ أعمُّ من الماء، فيدخل تحته بعضُ المائعات، قال الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} [النحل: 69]، وسنذكر ما يترتَّبُ عليه إن شاء الله تعالى. الثالثة: الجَناحُ حقيقة فيما للطائر، ويُستعار لغيره، فمنه جناحُ الآدمي، وجناح العسكر، والاستعارة للمشابهة الحسيَّة في حصول الطرفين عن الجانبين والواسطة بينهما، وأما الجناحُ في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، فهو مُستعارٌ لأجل المشابهة المعنوية بين التواضعِ والنُّزولِ المعنوي، وبين النزول الحسِّيِّ (¬3). وفي الآية معنى آخرُ، وهو قوله تعالى: {جَنَاحَ الذُّلِّ}، ولم يقل: جناحَ العزِّ، وفيه وجهان: أحدهما: أن تكون الإضافة من باب عِرْق النَّسا (¬4). ¬

_ (¬1) "ت": "ويقال". (¬2) انظر: "التلخيص" لأبي هلال العسكري (2/ 657). قلت: وقد نقل ابن سيده في "المحكم" (10/ 54) عن أبي عبيدة، عن الأحمر تجويز ما زعم العسكري أنه خطأ. (¬3) ويسمى هذا النوع استعارة تخييلية. (¬4) أي: إضافة الشيء إلى نفسه، قال الزَّجَّاجُ: لا تَقُلْ عِرْق النَّسَا؛ لأنَّ الشيءَ =

الوجه الرابع: في شيء يتعلق بالعربية، وفيه مسألتان

والثاني: أن هذه الإضافة تدل - من الأمر بالتواضع - على أكثر مما (¬1) تدلُّ عليه الإضافةُ إلى العز؛ لأن هذا يقتضي ذُلاً يخفضُ جناحَه، فأصلُ الذلِّ تواضعٌ، والجناحُ المخفوضُ زيادةٌ في ذلك، بخلاف جناح العز؛ فإنَّه لا يدل على مثل هذه الزيادة. وأيضاً ففيه مبالغةٌ أخرى من جهة لفظ الذُّلِّ، ودلالتُهُ على أزيدَ مما يدلُّ عليه لفظُ التواضعِ. * * * * الوجه الرابع: في شيء يتعلَّق بالعربية، وفيه مسألتان (¬2): الأولى: هذا الحديث على الرواية التي ذكرناها (¬3) يتعلق بمسألة جواز العطف على عاملين، وقد اختلفوا في ذلك، ورأيتُ في كتاب "القوانين" للأستاذ ابن أبي الرَّبيع عصريِّنا - رحمه الله - وقد ذكر العطفَ على عاملين: لا أعلمُ أحداً من النحويين أجازه غيرَ الأخفش (¬4). ¬

_ = لا يُضافُ إلى نَفْسِه، أو كما قال في لسان العرب (10/ 28): هذا من باب إضافة العامّ إلى الخاصّ، كقولهم عِرْقُ النَّسا، وإن كان العرق هو النسا من جهة: أَنّ النسا خاصّ والعِرق عامّ لا يخصُّ النسا من غيره. وانظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 164)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 50). (¬1) "ت": "ما". (¬2) في الأصل و "ب": "مسائل"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "ذكرها". (¬4) انظر: "الملخص في ضبط قوانين العربية" لابن أبي الربيع الإشبيلي (1/ 577).

وفي كون هذا القولِ مطابقاً لما في نفس الأمر نظرٌ، قال ابنُ يَعيشَ شارحُ "المفصل" لما تكلَّم على المَثَل (مَا كُلُّ سَودَاءَ تَمْرَةٌ، ولا [كُلُّ] (¬1) بَيضاءَ شَحْمةٌ) قال: وكان أبو الحسين (¬2) الأخفش - رحمه الله تعالى - وجماعةٌ من البصريين يحمِلون ذلك وما كانَ مثلَهُ على العطفِ على عاملين، وهو رأيُ الكوفيين، رحمهم الله تعالى (¬3). فقد (¬4) حُكيَ هذا المذهبُ عن الكوفيين وجماعةٍ من البصريين. ووجهُ تعلُّقِ الحديث بهذه المسألة: أنه إذا جُرَّ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "والآخر"، ونصب قولُه: "شفاء"، فقد عطف (الآخر) على (أحد)، وعطف (شفاء) على (داء)، والعامل في (أحد) حرف الجر الذي هو (في)، والعامل في (داء) (إن)، فقد شُرِّكت الواو في العطف على العاملين اللذين هما (في) و (إن)، وذلك ما يقولُه الأخفشُ ومن معه، وحاصله: عطف شيئين على شيئين، والعامل فيهما شيئان مختلفان، وسيبويه لا يجيز ذلك، وقد استدلَّ الأخفشُ بأشياءَ منها المَثَلُ المذكور، فاحتاج ناصرو مذهبِ سيبويه إلى تخريجها وتأويلها، فقالوا في المثل: إنه على حذف المضاف وإبقاءِ عمله، والتقدير: ما كل سوداء تمرة، ولا كل بيضاء شحمة، فحذفَ (كلَّ) بعد حرف العطف ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "الحسن"، والصواب ما أثبت كما في "ت". (¬3) انظر: "شرح المفصل" لابن يعيش (3/ 270). (¬4) "ت": "وقد".

وأبقَى عملَها، فكأنها ملفوظٌ بها، ولو كانت ملفوظاً بها لما وقع العطف على عاملين، فكذلك إذا حُذفت، فكانت (¬1) كالملفوظ به، وكذلك قالوا في قراءة حمزة والكِسائي: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله تعالى {آيَاتٌ} [الجاثية: 5]، وهي ممَّا (¬2) استُدِلَّ بها لمذهب الأخفش، فقالوا: إنه على حذف حرف الجر وإبقاء عمله، والتقدير: في (¬3) اختلاف الليل والنهار، وعلى مساق هذا يقولون في الخبر المذكور "والآخر": إنَّ حرفَ الجر محذوفٌ مبقيُّ العملِ، والتقدير: وفي الآخر شفاء (¬4). ¬

_ (¬1) "ت": "وكانت". (¬2) "ت": "ما". (¬3) "ت": "وأنه في". (¬4) قال ابن هشام في "مغني اللبيب" (ص: 632) في مسألة العطف على معمولي عاملين: فإن لم يكن أحدُهما جاراً فقال ابن مالك: هو ممتنع إجماعاً نحو: كان آكلاً طعامَك عمروٌ وتمرَك بكر، وليس كذلك، بل نقل الفارسىُّ الجواز مطلقاً عن جماعة، وقيل: إن منهم الأخفش، وإن كان أحدهما جاراً؛ فإن كان الجارُّ مؤخراً نحو زيد في الدار والحجرة عمروٌ، أو وعمروٌ الحجرة، فنقل المهدويُّ أنه ممتنع إجماعاً، وليس كذلك، بل هو جائز عند من ذكرنا، وإن كان الجار مقدماً نحو في الدار زيد والحجرة عمروٌ؛ فالمشهور عن سيبويه المنع، وبه قال المبرد وابن السراج وهشام، وعن الأخفش الإجازة، وبه قال الكسائي والفراء والزجاج، وفضّل قوم - منهم الأعلم - فقالوا: إن ولي المخفوضُ العاطف كالمثال جاز؛ لأنه كذا سُمع، ولأن فيه تعادل المتعاطفات، وإلا امتنع نحو في الدار زيدٌ وعمروٌ الحجرة. وانظر المسألة في "شرح الرضي على الكافية" (2/ 344 - 348).

واعلمْ أنه وردَ في مواضعَ ما ظاهرُه العطفُ [على] (¬1) عاملين، وتأويلُه وتخريجُه بحذف المضاف أو حذفِ حرف الجر خلافَ الظاهر، وهو أيضاً ضعيفٌ؛ أعني: حذفَ الجار وإبقاءَ عملِه في القياس والاستعمال معاً كما ذكروه، كما أنَّ العطفَ على عاملين ضعيفٌ في القياس والاستعمال، فالفِرار من العطف على عاملين لضعفه قياساً واستعمالاً إلى حذف المضاف وحرف الجر مبقياً عملَهما (¬2) مع ضعفه في القياس والاستعمال معاً لابُدَّ فيه من ترجيح (¬3). وليس غرضنا هاهنا المناظرة، ولكنَّ الذي نبَّه (¬4) عليه: أن المقصودَ بالعربية إنما هو النطقُ بالصواب، وذلك حكمٌ لفظيٌّ، وما عداه من التقديراتِ وغيرِها ممَّا لا يقدح في اللفظ، ليس هو بالمقصود (¬5) في علم العربية بالذَّات، فمتى احتجَّ محتجٌّ بشيء مسموع عن العرب لمذهبٍ (¬6) له، فذُكِرَ فيه تأويلٌ، وكان ذلك التأويل مما يطَّرِد في جملة ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "مبقي عملها". (¬3) قلتُ: ذهب المصنف إلى ضعف حذف المضاف، ولكن قد قال ابن جني في "الخصائص" (1/ 192): وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل هذا الموضع نيفاً على ألف موضع، وقَلَّت آيةٌ تخلو من حذف المضاف، نعم، وربما كان في الآية الواحدة من ذلك عدة مواضع. (¬4) "ت": "ننبه". (¬5) "ت": "بمقصود". (¬6) "ت": "العربية بمذهب".

مواردِ الاستعمال، فحينئذٍ لا يظهر للاختلاف (¬1) فائدةٌ لفظية؛ لأن اللفظَ جائزُ الاستعمالِ على الصورة والهيئة المذكورة [و] (¬2) على كل تقدير، إما من غير تأويل كما يذهب إليه المستدلُ، وإما بتأويل مطَّرِد [كما] (¬3) في الموارد كما يذكر المجيب، فلا يظهر للاختلاف فائدة في الحكم اللفظي، وهو المقصود من علم العربية، مثالُه فيما نحن فيه: أنَّا إذا قلنا: فإن في أحدِ جناحيه داء والآخرِ شفاء، فأوَّله مؤول بحذف حرف الجر، وأوَّل قولنا: (ما كلُّ سَوداءَ تَمرةٌ، ولا بيضاءَ شحمةٌ) بحذف المضاف، فاللفظُ على الهيئة المذكورة جائزٌ غيرُ خارج عن الصواب، وغايةُ ما في الباب أن يكونَ الخلافُ وقعَ في وجه جوازِه، فقائل يقول: هو على حذف المضاف وإبقاء عمله، وهو جائز، وقائل يقول: هو على تقدير العطف على عاملين، وهو جائز، فالاتفاق وقع على الجواز، واختُلِف في علَّتِهِ، وذلك لا يُفيدُ فائدةً لفظيةً، اللَّهمَّ إلا إذا بُيِّنَ (¬4) في بعض المواضعِ فائدةٌ؛ بأن يكون الجواز مختصًّا بأحد المذهبين دونَ الآخر، فحينئذٍ تظهر الفائدةُ المحقَّقةُ المعتبرةُ في علم العربية. فانظر هذا فإنه يقعُ في مواضعَ من مباحثِ النحويين، وقد وقع في بعض الروايات في الحديث: "وفي الآخرِ ¬

_ (¬1) "ت": "في الاختلاف". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "تبين".

الثانية

شفاءٌ" (¬1) بإعادة حرف الجر المذكور في الكتاب. [المسألة] (¬2) الثانية: قد أجازوا في مثل (¬3) (مَا كُلُّ سَودَاءَ تَمْرَةٌ، ولا بَيضاءَ (¬4) شَحْمةٌ) وجوهاً خمسةً منها ما يحتملُهُ لفظُ [هذا] (¬5) الحديث، فممَّا أجازوه: ما كلُّ سوداءَ تمرةً، بالنصب في (تمرة) على إعمال (ما)، ولا بيضاءُ شحمةٌ، بالرفع فيهما على الاستئناف أو عطف جملة على جملة (¬6)، فعلى هذا إن كان أحدٌ روى في هذا الحديث: "والآخرُ شفاءٌ" - بالرفع فيهما - فهو على هذا الوجه، ويخرج (¬7) به عن العطف على عاملين، ولكنَّه يحتاجُ إلى حذف مضاف في قوله: "والآخر شفاء"؛ أي: ذو شفاء. * * * * الوجه الخامس: في اللفظ مجازٌ، وهو كون الدَّاءِ في أحد الجناحين (¬8)، وهو إما ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند أبي داود وغيره. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "المثل". (¬4) "ت": "سوداء" وهو خطأ. (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 65 - 66). (¬7) "ت": "فيخرج". (¬8) "ت": "جناحيه".

الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

إما من مجاز الحذف بأن يقال: فإنَّ في أحدِ جناحيه سببَ داء، و (¬1) ما أشبهَ ذلك من التقديرات، وإما على جهة المبالغات (¬2) بأن يجعل كالداء (¬3) في أحد جناحيه لَمَّا كان سبباً له ومُفضياً إليه (¬4)، كما قال الشاعر [من الرجز]: صَارَ الثَّريدُ في رُؤوسِ العِيدَان (¬5) بمعنى أنَّ مآل الزرع بعد انتهائه واشتداده وطحنه وعجنه إلى أن يُعملَ منه ثريدٌ، فجعله في رؤوس العيدان مبالغةً لما أنه سيصير إليه. * * * * الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: اختلفوا فيما لا نفسَ له سائلةً، كالذباب، والنمل، والعقرب، والزنبور، والخنفساء ونحوها، إذا مات في ماء قليل ¬

_ (¬1) "ت": "أو". (¬2) "ت": "المبالغة". (¬3) "ت": "كان الداء". (¬4) ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 251) أنه ورد في حديث أبي سعيد أنه: "يقدم السم، ويؤخر الشفاء". قال: ويستفاد من هذه الرواية تفسير الداء الواقع في حديث الباب، وأن المراد به السم، فيستغنى عن التخريج الذي تكلفه بعض الشراح فقال: إن في اللفظ مجازاً، وهو كون الداء في أحد الجناحين ... ، ثم ساق الحافظ ابن حجر تتمة مقالة الإمام ابن دقيق العيد هذه. (¬5) البيت أورده النحاس في "معاني القرآن" (3/ 426)، والقرطبي في "تفسيره" (13/ 146)، وأبو حيان في "البحر المحيط" (7/ 400)، وغيرهم دون نسبة، وصدر البيت: الحمد لله العلي المنَّان

- أو [في] (¬1) مائعٍ آخرَ، هل ينجس الماء، [أو المائع] (¬2)؟ فالمنقولُ عن الشافعي - رضي الله عنه - قولان: أصحهما - وهو قول جمهور أهل العلم -: أنه لا يَنجُس [وما] (¬3) مات فيه، حتى قال في "الإشراف": وأجمعوا أن الماء لا ينجس بوقوع الذُّباب فيه، والخنفساء بمنزلة الآدمي في أحد قولي الشافعي (¬4). وقد استدلَّ الجمهورُ بهذا الحديث، وهو الذي أُدْخِلَ لأجله في باب المياه، ووجهُ الاستدلالِ: أنه أمرَ بغمس الذباب في الطعام مع احتمال موته فيه، وقرب ذلك بما إذا كان الطعام حاراً، ولو كان ينجس الطعام لكان في غمسه تعريضاً لتحريم أكله وإتلاف ماليَّتِه (¬5). والقول الثاني: أنه ينجس، قال بعضُ مصنفي الشافعية: وهو القياس، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بغمسِ الذباب فيه فَطَرْحِه (¬6)، لا بقتله، وإنما ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) وانظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 282). (¬5) "ت": "وإتلافاً لماليته". (¬6) "ت": "وطرحه".

أمر به فَطْماً لهم عن عاداتهم (¬1)، فإنهم كانوا يستقذرون طعاماً يقع فيه الذباب (¬2). وهذا الذي ذكره اعتذاراً عن الاستدلال بالحديث ضعيفٌ؛ أما قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغمسِ الذباب فيه وطرحِه لا بقتله، فوجه الدليل إنما هو التعريض بغمسه لإفساد الطعام بأن يقال: لو كان يُفْسِدُ الطعامَ لَمَا أمر بغمسه لتعريضه الطعامَ للإفساد، فإن كانت هذه الملازمةُ باطلةً: فلتُمنعَ ليُستدلَّ عليها، وإن كانت الملازمةُ صحيحةً: فالدليلُ صحيح، [و] (¬3) غايةُ ما في الباب أنَّه لو أمر بقتله لكان أقوى في الدلالة، وليس من شرط اللفظ المستدَلِّ به أن لا يمكنَ ذكرُ ما هو أقوى في الدلالة منه. وأمَّا قوله: وإنما أمر به فطماً لهم عن عاداتهم، فهذا يُعترَض عليه بوجهين: أحدهما: أنه مخالفٌ لظاهر الحديث في التَّعليل؛ فإنَّ ظاهرَه يدل على أنَّ العلةَ إذهابُ الشفاء للداء، والعلة تقتضي الحصرَ على ما قرَّره الخلافيون من المتأخرين. ¬

_ (¬1) "ت": "لفظهم عاداتهم". (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 337)، و "المغني" لابن قدامة (1/ 185)، و "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 188). (¬3) زيادة من "ت".

الثانية

الثاني: لو سلَّمنا أنَّ علَّةَ الأمر [بالغمس] (¬1) فطمُهم عن الاستقذار: لما نافَى ذلك دَلالةَ الأمرِ على عدم التنجيس من الوجه الذي ذُكِر، وهو التعريضُ للإفساد. الثانية: اختلف الشافعيةُ في القولين، هل يجريان في نجاسة هذا النوع من الحيوان في نفسه، أم لا؟ فمنهم من قال: نعم، ومنهم من أبَى ذلك، وقال: المذهبُ أنَّها تنجُس بالموت قولاً واحداً، وإنما الاختلافُ في نجاسة ما وقع فيه من المائعات لعموم البلوى، ولتعذُّر الاحتراز (¬2). ولقائلٍ أن يقول: قد قلتم: إن علةَ عدم تنجيس ما وقع فيه تعذُّرُ الاحترازِ، [وتعذُّرُ الاحترازِ] (¬3) لا يلزم منهُ عدمُ التنجيس، بل اللازم إما هو، وإما العفوُ عنه مع الحكم بنجاسته، فما جعلتموه علةً غيرُ مُستلزِمٍ (¬4) لما حكمتم به من عدم التنجيس، نعم إن ثبتَ بدليل خارج أنه لم يُعطَ أحكامَ النَّجِسِ المعفوِ عنه، تمَّ ما قيل. الثالثة: استُدِلَّ بهذا الحديث على [عدم] (¬5) نجاسة ما لا نفسَ له ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 147)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 189). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "ملتزم". (¬5) سقط من "ت".

سائلة بالموت، وطريقُه أن يقالَ: لو نَجُسَ بالموت، لنجَّس ما وقع [فيه] (¬1) من المائع، ولا ينجِّسه بالحديث، فلا ينجُس بالموت. والاعتراضُ عليه بما قدَّمناه من أمر العفو، وتحريرُهُ: أن تُمنعَ الملازمةُ بين كونه لم ينجِّس ما وقع فيه، وكونه لم ينجُس بالموت، بناءً على قيام المانع من التنجيس على تقدير النجاسة بالموت، والمانعُ تعذُّرُ الاحتراز، فيقال عليه: الحكمُ بعدم تنجيس ما وقع فيه دائرٌ بين أن يكونَ لعدم المُقتضِي للتنجيس؛ بأنْ لا تكونَ ميتةُ هذا الحيوان نجسةً، وبين أن يكونَ لقيام المانع [مع] (¬2) وجود مقتضي التنجيس، وهو أن يكون نجساً عُفِي عنه لتعذُّرِ الاحتراز، وإحالةُ الحكم على عدم المقتضي أولى من إحالته على قيام المانع، فحينئذٍ يكون الحكمُ بأنَّ هذا الحيوانَ لا ينجس بالموت واقعاً على وِفْقِ المُقتضَى، والحكمُ بتنجيسه (¬3) مع عدم تنجيس الماء واقعاً على خلاف المقتضى؛ لأن تنجيسَه بالموت مُقتضٍ (¬4) لتنجيس ما وقع فيه، وتكون هذه المخالفةُ لقيام المانع، وهو عُسْرُ الاحترازِ، فكان الأوَّلُ أولى. وقد يقال على هذا: إنَّ الحكمَ - أيضاً - بعدم نجاسة هذا الحيوان على خلاف المُقتضي للدليل الدَّالِّ على نجاسة الميتات، والله أعلم. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في النسخ الثلاث: "من". (¬3) كذا في النسخ الثلاث، ولو قال: بنجاسته، أو: بتنجسه، لكان أولى، والله أعلم. (¬4) "ت": "يقتضي".

الرابعة

الرابعة: اختلفوا في رَوْث السَّمَك والجراد، وما ليس له نفسٌ سائلة، هل هو نجس، أم لا؟ (¬1). فإذا أردنا أن نستدلَّ على عدم نجاسته بهذا الحديث، جعلناه مقدمةً من مقدماتِ الدليل، فنقول: لو كان بولُه نجساً لنجَّس ما وقع فيه من المائع (¬2)، لكنه لا ينجِّسه، فلا يكون نجساً، أما الملازمةُ؛ فلأنَّ وقوعَ النجاسة في المائع موجبٌ لتنجيسه، إما قياساً على سائر الصور، وإما عملاً بمفهوم حديث القُلَّتين (¬3)، وحديث الفأرة (¬4)، ووقوعُ بولهِ فيه يلازمُ وقوعَهُ فيه لِمَا على منفذه من النجاسة، وأما أنه لم ينجِّسْه؛ فلهذا الحديث. الخامسة: منطوقُهُ دالٌّ على ما يقع، وعلى ما يقع (¬5) فيه، فكلُّ ما يسمَّى شراباً فهو داخلٌ تحتَ اللفظِ، فيدخل تحته (¬6)، [فيتناول الماءَ] (¬7)، [ولا يختصُّ به] (¬8)، والنظرُ في بقية المائعات، هل يُطلَق ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 154)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 508). (¬2) "ت": "التابع". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) "ت": "يوقع". (¬6) أي: تحت منطوق الحديث. (¬7) زيادة من "ت". (¬8) سقط من "ت".

السادسة

عليها اسمُ (الشراب)؟ وقد وردَ في بعض الروايات: "في إناء أحدكم" (¬1)، وهو أعمُّ وأكثر في الفائدةِ اللفظيَّةِ من لفظة (الشراب) (¬2). السادسة: ما لا يُسمَّى شراباً يُؤخَذ بالقياس في معنى الأصل، وهو هاهنا قويُّ المرتبة؛ لأنَّ الحكمَ في لفظ الشارع أُديرَ على الواقع بسبب وصفٍ فيه، لا على ما يقعُ فيه، فمهما كانت العلةُ موجودةً ثبتَ الحكمُ فيما يقع فيه. السابعة: يُلحَقُ غيرُ الذبابِ بالذباب - ممَّا يشاركه في أنَّه لا نفسَ له سائلة - في معنى عدم التنجيس، وليس ذلك كالرتبة (¬3) [التي] (¬4) قبلَها؛ لأنَّ الإلحاقَ إنما يكون باعتبار علةٍ (¬5) استنبطها المستدلُّ من الأصل، وهو كونُهُ لا نفسَ له سائلة، ويقرِّرُه بالمناسبة التي يُبْدِيها، [وهو قويٌّ؛ أعني: إلحاقَ غيرِ الذباب به] (¬6)، [وليس ذلك في القوة كالتي قبله] (¬7). ¬

_ (¬1) هي رواية البخاري المتقدم تخريجها رقم (5445)، وكذا وقع في رواية غيره. (¬2) نقله الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 28). (¬3) "ت": "كالمرتبة". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "العلة"، والمثبت من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) زيادة من "ت".

الثامنة

الثامنة: اختلفوا في الحيوان الطَّاهر، إذا وقع في ماء قليل، أو مائعٍ آخرَ، فخرج حيًّا، هل يَنجُس ما وقع فيه، بناءً على نجاسة مَنفَذِ بولهِ؟ وقد استُدِلَّ بهذا الحديث على عدم التنجيس، قال البَغَويُّ - رحمه الله - في "تهذيبه" (¬1): ولو وقع حيوانٌ سوى الكلبِ والخنزيرِ والمتولِّدِ؛ يعني: من أحدهما، في ماء قليل، أو مائع آخرَ، فخرج حيًّا، لا ينجِّسه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بِمَقْلِ الذباب في (¬2) الطعام، ولم يحكم بنجاسته. ولقائل أن يقول: الاستدلالُ بالحديث على حكم المسألة لا يصحُّ؛ لأنَّ بولَ هذا الحيوان الذي ورد فيه النصُّ إما أن يكونَ نجساً، أو لا، وأيَّما كان يمتنعُ الاستدلالُ به؛ أمَّا إذا لم يكنْ، فيتعذَّرُ الاستدلالُ به قطعاً؛ لأنه لا يصحُّ أنْ يؤخذَ عدمُ التنجيس بوقوع حيوانٍ نجسِ البول من الحكم بعدم التنجيس بوقوع حيوانٍ ليس بنجس البول، وأمَّا إذا كان؛ فلأنَّ موردَ النصِّ حيوانٌ يكثُر وقوعُه في الأواني، ويشقُّ الاحترازُ منه، وهذا معنى مُعتبرٌ، لا يمكن أن يقال: إنه ملغى، وغيرُه من سائر الحيوانات النجسةِ البولِ لا يساويه في كثرة الوقوع، ولا (¬3) في ¬

_ (¬1) للإمام محي السنة حسين بن مسعود البَغوي الشافعي، المتوفى سنة (516 هـ) كتاب: "التهذيب في الفروع"، وهو تأليف محرر مهذب، مجرد عن الأدلة غالباً، لخصه من تعليق شيخه القاضي حسين، وزاد فيه ونقص. انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 517). (¬2) "ت": "من". (¬3) في الأصل: "وإلا"، والمثبت من "ت".

التاسعة

تعذُّرِ الاحتراز منه، فلا يساويه في الحكم. وقد يقال عليه: لو كان هذا المعنى معتبراً في الأصل، لوقع الفرقُ بين أن يقعَ الذبابُ بنفسه في الإناء، أو يوقعَه غيرُهُ فيه، لكنَّه لم يفرق، فلا يكون المعنى معتبراً. بيان الملازمة: أنَّ ما وقع قصداً لا يشقُّ الاحترازُ منه، ولا يكثر، فكان يجب حينئذٍ أن يفرَّقَ لانتفاء العلة في أحد القسمين. بيان انتفاء الفرق: أنَّ الوقوعَ الذي رُتِّبَ عليه الحكمُ مشترَكٌ، بين الوقوع بنفسه، وبين الإيقاع بغيره (¬1)، لصحة أن يقال: وقع بنفسه، ووقع بإيقاع غيره، ومَوْرِدُ التقسيم مشتركٌ، وإذا آل الأمر إلى هذا، فيتصدَّى النظرُ في أن لفظة (وقع)، هل تدلُّ على إسناد الفعل إلى الفاعل؟ فقد يقال ذلك، ويُدَّعَى أنه الأصلُ والحقيقةُ. التاسعة: في الحديث شيءٌ (¬2) مجزوم به، وإن لم يكنِ اللفظ دالاً عليه بنفسه، وهو أنَّ الأمر بالغمس إنما هو لمقابلة الداء بالدواء، [وعلى رواية من روى "وفي الآخر دواء" (¬3)] (¬4)، يؤخَذ (¬5) منه أمرٌ آخرُ، وهو أنَّ الأمر بالغمس مما يقتضي نفعَ الدواء من الداء. ¬

_ (¬1) "ت": "من غيره". (¬2) "ت": "أمر". (¬3) رواه أبو يعلى في "مسنده" (986)، وابن حبان في "صحيحه" (1247)، وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "أو يؤخذ"، والمثبت من "ت".

العاشرة

أما الأول؛ فلأنه (¬1) لو لم يكنْ كذلك لما صحَّ التعليلُ، وكانت العلةُ أجنبيةً. وأما الثاني؛ فلأنه لو لم يُذهِبْه لما كان في الأمر به فائدةٌ. العاشرة: الذي قدَّمناه (¬2) في الكلام، في إلحاق غيرِ الذباب به، إنما هو في الإلحاق في (¬3) التنجيس بالوقوع، لا في حكم الغمس، فليُنَتبَّهْ لذلك، فإنَّا لم نأخذْ عدمَ التنجيس من [أجل] (¬4) العلة المذكورة، وإنما أخذناه من محضِ الأمر بالغمس مع توقُّعِ إفساد ما (¬5) يُغْمَسُ فيه على تقدير نجاسته، فلو تجرَّد الأمرُ بالغمس على (¬6) العلة المذكورة لكفانا الأمرُ بالغمس في الإلحاق. الحادية عشرة: إذا أردنا النظرَ في إلحاق غير الذباب به في حكم الغمس مع اعتبارِ العلة، فذلك يتوقَّفُ على أمرين: أحدهما: أن نثبتَ [العلةَ] (¬7) فيما نريد إلحاقَه، وهو أن يكون في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء، وهذا أمرٌ مُتعذِّر لا يُرشِدُ الطبُّ إليه، وإنما يُدرَكُ بنور النبوَّة. ¬

_ (¬1) "ت": "فإنه". (¬2) "ت": "قدمنا". (¬3) "ت": "في غير"، وهو خطأ. (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "الإفساد لما". (¬6) "ت": "عن". (¬7) سقط من "ت".

الثانية عشرة

والثاني: أن يكون غمسُهُ فيه مما يفيد في ذلك الداء، وهو - أيضاً - لا يُعلَم. الثانية عشرة: إذا أردنا أن نلحِقَ غير ذي الجناحين بالذباب، كما إذا كان في أحد العضوين (¬1) منه داء، ويكون في الآخر [منه] (¬2) شفاء، فهو دونَ الرتبةِ التي قبلَها [في المانِعِيَّة، لإمكان الاطِّلاع من جهة الطبِّ، على أنَّ في أحد العضوين داءً، وفي الآخر دواءٌ له] (¬3). الثالثة عشرة: لمَّا تقرَّرَ أنَّ المقصودَ بالغمس إذهابُ (¬4) ضررِ الداء، كان ذلك أصلاً في التداوي. الرابعة عشرة: ويكون أصلاً فيما هو أخصُّ من ذلك، وهو استعمالُ ما يَدْفَعُ ضررَ الأغذيةِ. الخامسة عشرة: اللفظُ يدلُّ على تعليق الحكم بأن يقعَ في الشراب، فلا يُلحَق به وقوعُه على الشراب؛ لأنَّ اللفظَ لا يدل عليه، ولا المعنى أيضاً يُرشِدُ إليه؛ لأنَّا لا نعلمُ جريانَ العلة في وقوعه عليه. السادسة عشرة: الظاهرُ في الداء والدواء أنَّه أمرٌ يتعلَّق بالأمراض ¬

_ (¬1) "ت": "عضوين". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "إظهار".

السابعة عشرة

وبُرئِها، ويُحتمَلُ (¬1) أن يكون الداءُ ما يعرِض في نفس المُتْرَفِين والمترفِّهين مِن عيافة الطعام، والنُّفْرة منه، والتكبُّر عن أكله، حتى ربَّما كان سبباً لترك الطعام وإتلافه، والدواءُ ما يحصُلُ مِن قمعِ النفس، وحملِها على سبيل التواضع، وعدم التعمُّق في الترفُّه، وسلوك طريق المتكبرين، وهذا مجازٌ، والحقيقةُ ما تقدَّمَ، والله أعلم. السابعة عشرة: هذا الذي ذكرناه أمرٌ واقع، ومصلحةٌ محقَّقةٌ من توابع الأمر بغمسه، والذي قدَّمناه إنما هو في حمل اللفظ عليه، فإن كان هذا المجازُ مُراداً - والله أعلم -: فإيرادُهُ بلفظ الداء والدواء أبلغُ في تحصيل هذه المصلحة، التي هي كسرُ النفسِ ورياضتُها؛ لِمَا جُبِلت الأنفسُ عليه من محبة البقاء ودفع الضرر والآفات. الثامنة عشرة: الأمرُ بانتزاعه بعد غمسه لحصول المقصود بالغمس، ودفع الداء الذي حصل، أو يُتوقَّع حصولُهُ بالوقوع، وما زاد على ذلك مُستغنى عنه، ولعلَّ بقاءَهُ ومكثَه يُحدِثُ مفسدةً أخرى غيرَ المفسدةِ التي نشأت بالوقوع الأول، أو لعلَّه يَخْرُجُ عن حدِّ النظافة التي بُنِي الدِّينُ عليها، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيء قدراً. التاسعة عشرة: قد يُؤخَذ من هذه الصيغة [التي] (¬2) وردت في هذه الرواية - أعني قوله: "ثمَّ لِيَنْزَعْهُ" - سرعةُ إخراجِه بعد غمسِهِ لِمَا ¬

_ (¬1) "ت": "ويحصل". (¬2) في "الأصل": "الذي"، والتصويب من "ت".

العشرون

تُشْعِرُ به هذه البِنْيةُ من التكلُّف في العمل؛ إذْ ليس في نفس الإخراج كُلْفَةٌ، فلْيُصرَفْ إلى إعمال نفسه في الإسراع، إن لم يزاحمْهُ معنىً آخرُ يساويه، أو يُرجَّحُ عليه. العشرون: التعليلُ يقتضي انتفاءَ الحكم إذا لم يكنْ له جناحان - كما لو انقطعا فوقعَ (¬1) - لانتفاء العلة، والله أعلم. الحادية والعشرون: [ويقتضي أيضاً: أنَّه لو انقطعَ أحدُ جناحيه، لم يتعلَّقْ به أمرُ الغمس؛ لأنَّ] (¬2) المقصودَ إذهابُ الداء بالجناح الآخر، وذلك لا يحصُل عند انقطاعه. الثانية والعشرون: ذكر الجاحظ [عن] (¬3) النَّظَّام في الكلام على هذا الحديث كلاماً رديئاً، وأقوالاً شنيعة (¬4)، حاصلُها إبطالُ الحديث باستبعادات وخيالات (¬5). قال الخطَّابي رحمه الله: تكلَّم على هذا الحديث مَن لا خلاقَ له، وقال: كيف يجتمع الداءُ والشفاءُ في جناحَيْ الذبابِ؟ وكيف تعلمُ ذلك من نفسها، حتى تُقدِّم جناحَ الداءِ، وتؤخِّر جناحَ الشفاءِ، ¬

_ (¬1) أي: كما لو انقطعَ جناحا الذباب، ثم وقع في الشراب. (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "عند" والتصويب من "ت". (¬4) "ت": "شنعة". (¬5) انظر: "الحيوان" للجاحظ (3/ 312 - 313) حيث نقل إنكار شيخ من بني العدوية - لم يسمِّه - للحديث.

وما هداها إلى ذلك؟ قال: وهذا سؤالُ جاهلِ أو مُتَجاهلٍ، وإنَّ الذي يجدُ نفسَهُ ونفوسَ عامة الحيوان [و] (¬1) قد جُمِع فيهما بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، وهي أشياءُ متضادةٌ إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى (¬2) اللهَ سبحانه وتعالى قد ألَّف بينها، فقهرها على الاجتماع، وجعل منها قُوى الحيوان [التي] (¬3) بها بقاؤها وصلاحُها، لجديرٌ أن لا ينكرَ اجتماعَ الداء والدواء في جزأين من حيوان واحدٍ، وإنَّ الذي ألْهمَ النحلةَ أن تتَّخذَ البيتَ العجيبَ الصنعةِ، وأن تَعْسِل فيه، وأَلهمَ الذَّرَّةَ أن تكتسبَ قوتَها، وتدَّخر [5] (¬4) لأوان حاجتها إليه، هو الذي خلق الذبابة، وجعل لها الهدايةَ إلى أنْ تقدِّمَ جناحاً، وتؤخِّر آخرَ، [لِما أراد] (¬5) من الابتلاءِ الذي هو مدرجةُ التَّعبُّدِ، والامتحانِ الذي هو مضمارُ التكليف، وفي كلِّ شيء حكمةٌ، وما يذَّكَّرُ إلا أولو الألباب (¬6). وأقولُ: [إن] (¬7) هذا وأمثالَه ممَّا تُرَدُّ به الأحاديثُ الصحيحةُ، إن ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في النسخ الثلاث: "ترى". (¬3) في "الأصل" و "ب": "الذي"، والتصويب من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "معالم السنن". (¬6) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 259). (¬7) زيادة من "ت".

أراد به قائلُه (¬1) إبطالَها بعدَ اعتقاد كون النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالها، كان كافراً مُجاهراً، وإن أراد به إبطالَ نسبتِها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسببٍ يرجع إلى متنه، فلا يكفرُ بذلك، غيرَ أنَّه مُبطِلٌ لصحة الحديث بطريق سنده الصحيح، وهذه طريقةٌ لجماعة من المتكلمة (¬2) وبعض الفقهاء، كمَن أبطلَ حديثَ العاليةِ (¬3) في مسألة العِينَة، بقول عائشةَ رضي الله عنها: أبلغِي زيداً أنَّهُ (¬4) أبطلَ جِهادَهُ معَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إنْ لمْ يَتُبْ. ¬

_ (¬1) في النسخ الثلاث: "قائلها". (¬2) "ت": "المتكلمين". (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (14812)، والدارقطني فى "سننه" (3/ 52)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 330)، وغيرهم من طريق أبي إسحاق، عن العالية، عن عائشة، به. قال الإمام الشافعي في "الأم" (3/ 78): وجملة هذا أنا لا نثبت مثله على عائشة. قال الدارقطني في "سننه": والعالية مجهولة لا يحتج بها. قال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 328): وهذا الأثر مشهور. وقد رد ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 184) على من ذكر أن العالية مجهولة؛ بأن ابن سعد ذكرها في "الطبقات" وأنها امرأة جليلة القدر معروفة. وجوّد ابن عبد الهادي في "التنقيح" (2/ 558) إسنادَ حديث الإمام أحمد الذي رواه في "مسنده" عن أبي إسحاق، عن امرأته العالية، عن عائشة، به، ثم قال: وإن كان الشافعي قد قال: إنا لا نثبت مثله على عائشة، وكذلك قول الدارقطني في العالية: إنها مجهولة لا يحتج بها، فيه نظر، وخالفه غيره، فلولا أن عند أم المؤمنين علماً من رسول الله لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد، والله أعلم. وانظر: "حاشية ابن القيم على سنن أبي داود" (9/ 245) وما بعدها. (¬4) "ت": "وأن الله".

وكما يُشنِّع به أهلُ الحديث على أبي حنيفةَ في قولهِ في حديث: "البَيِّعَانِ بالخِيارِ [ما لم يتفرقا] (¬1) " (¬2): أرأيتَ إن كانا في سفينة، فكيف يفترقان (¬3)؟ فكأنَّه أبطلَ استنادَهُ إلى الرسول (¬4) - صلى الله عليه وسلم - بهذا، إن صحَّ عنه، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه البخاري (1973)، كتاب: البيوع، باب: إذا بيَّن البيِّعان ولم يكتما ونصحا، ومسلم (1532)، كتاب: "البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان، من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -. (¬3) روى هذه الحكايه عن أبي حنيفة رحمه الله: البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 272)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 405). وانظر التعليق على الحكاية: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 13)، و"الجوهر النقي" لابن التركماني (5/ 272). (¬4) "ت": "إسناده إلى رسول الله".

الحديث السابع

الحديث السابع وعنهُ منْ روايةِ محمَّدِ بنِ سيرينَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "طَهُورُ إناَءَ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ، أنْ يَغْسِلَهُ سَبع مَرَّاتٍ، أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ" [أخرجَهُ مسلمٌ] (¬1). وفي رواية عليِّ بنِ مُسْهِرٍ عندَ مسلمٍ، عن الأعمش، عن أبي رَزِينٍ، وأبي صَالحٍ، عن أبي هُريرَةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إنَاءَ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ، ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبع مَرَّاتٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه مسلم (279/ 91 - 92)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، وأبو داود (71)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الكلب. وقد رواه النسائي (339)، كتاب: المياه، باب: تعفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه، والترمذي (91)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في سؤر الكلب، بمعناه، كلهم من طريق ابن سيرين، به. (¬2) رواه مسلم (279/ 89)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، والنسائي (66)، كتاب: الطهارة، باب: الأمر بإراقة ما في الإناء إذا ولغ فيه الكلب، كلاهما من طريق علي بن حجر، عن علي بن مُسهر، عن الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة، به. =

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف بمَنْ ذُكر: أما أبو هُريرَةَ - رضي الله عنه -: فقد تقدَّمَ [ذكرُه] (¬1). وأمَّا محمَّدُ بن سيرين: فهو أبو بكر، محمَّد بن سيرين البصري، مولى أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -. قال موسى بن إسماعيل: سألت الأنصاريَّ؛ يعني: محمَّدَ بن عبد الله، قلت: من أين كان أصلُهُ؟ قال: من عين التمر (¬2). وقال ابن [عُليَّة] (¬3): كنا نسمع أنَّ ابنَ سيرين وُلِد في سنتين بقيتا من خلافة عثمان - رضي الله عنه - (¬4). ¬

_ = قال الحافظ أبو عبد الله ابن منده - بعد تخريجه رواية علي بن مسهر من جهة علي ابن حجر عنه -: رواه إسماعيل بن خليل، ومنجاب بن الحارث، وسويد بن سعيد، عن علي ين مسهر بإسناده ومتنه مثله. قال: وهذه زيادة تفرد بها علي بن مسهر، ولا تعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه إلا من هذه الرواية، وأخرجه مسلم بن الحجاج والنسائي في كتبهما الصحاح، انتهى ما نقله المؤلف في "الإمام" (1/ 258). قال الدارقطني في "سننه" (1/ 64) بعد تخريجه له من طريق علي بن مسهر: صحيح، إسناده حسن، ورواته كلهم ثقات. (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "التعديل والتجريح" للباجي (2/ 677). (¬3) في النسخ الثلاث: "عيينة"، والصواب ما أثبت، كما في "تاريخ دمشق" لابن عساكر. (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 175).

قلت: وكان ابنُ سيرينَ إماماً من أئمة المسلمين، وصدراً في (¬1) علماء التابعين، ورأساً في أعمال المُتورِّعين، وعَلَماً في سِيمَاءِ الصالحين، وعجباً في طبقات المُعَبِّرين (¬2). قال أبو عَوَانة (¬3): رأيتُ ابنَ سيرينَ دخلَ السوق، فما رآه (¬4) أحدٌ إلا ذكرَ الله (¬5). وقال سَوَّار: الحسنُ وابنُ سيرين سيدا أهلِ البصرةِ، رَضِيَ مَنْ رَضِى، وسَخِطَ من سَخِط (¬6). وروى أبو بكر بن أبي خَيثمة في "تاريخه" عن بكر بن عبد الله قال: مَنْ سرَّهُ أنْ ينظرَ إلى أورعِ مَنْ أدركنا في زماننا، فلينظرْ إلى محمَّدِ بن سيرين، إنَّهُ لَيدعُ بعضَ الحلالِ تأثُّماً (¬7). وعن عاصمٍ قال: سمعت مُوَرِّقاً يقول: ما رأيتُ (¬8) أورعَ مِن ¬

_ (¬1) "ت": "من". (¬2) "ت": "العابرين". (¬3) "ت": "ابن عون". (¬4) "ت": "يراه". (¬5) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 272)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (5/ 337)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 211). (¬6) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 191). (¬7) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: - 308)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (3/ 203). (¬8) "ت": "سمعت".

فقيهٍ، ولا أفقهَ من ورعٍ من محمَّدِ بن سيرين (¬1). [وعن أيوبَ قال: ذُكِرَ يوماً عند أبي قِلابةَ محمَّدُ بن سيرين، قال: وأيُّنا يطيقُ ما يطيقه، يركبُ في مثل حدِّ السِّنَان (¬2). وقال ابن عَون: كان ابنُ سيرين] (¬3) من أرجى الناس لهذه الأمة، وأشدِّهم إزراءاً على نفسه (¬4). [و] (¬5) قال ابنُ أبي خيثمةَ: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضَمْرة، عن السَّرِي بن يحيى قال: تركَ ابنُ سيرينَ ربحَ أربعين ألفاً، قال: فسمعتُ سليمانَ التيمي يقول: ما نعلمُ أحداً من أهل العلم شكَّ فيها (¬6). وعن هشام، عن ابن سيرين: أنه اشترى بيعاً، وأشرف فيه ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35149)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 198)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 266)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 334)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 195)، وغيرهم. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 198)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 91)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 267)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 337)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 175). (¬3) سقط من "ت". (¬4) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (6684)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 335)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 206). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) رواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/ 39)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 266)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 229).

على ثمانين ألفاً، فعرض في قلبه منه شيء، فتركه، قال هشام: والله ما هو بِرِبا (¬1) (¬2). وروى أحمد بن حنبل قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، ثنا الأشعث قال: كان محمَّدُ بن سيرين إذا سئل عن شيء من الفقهِ الحلالِ والحرام، تغيَّر لونُه وتبدَّل، حتى كَأَنَّه ليسَ بالذي كان (¬3). وعن ابن عون قال: كان لابن سيرين منازلُ لا يُكريها إلا من أهل الذِّمة، فقيل له في ذلك، فقال: إذا جاء رأسُ الشهر رُعْتُه، وأكره أنْ أُروِّعَ مسلماً (¬4). وعن الفُضيل بن عِياض قال: قال الحسن: إنَّما هي طاعةُ الله أو النارُ، وقال ابنُ سيرين: إنَّما هي رحمةُ الله أو النَّارُ (¬5). وعن حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين قال: كان لمحمَّد بن سيرين سبعةُ أوراد يقرؤها بالليل، فإذا فاته منها شيءٌ قرأها من النهار (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "رياء". (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 199)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 266)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (2/ 346)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 229 - 230). (¬3) رواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/ 37)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 264)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 199)، من طريق الإمام أحمد، به. (¬4) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 268). (¬5) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 270). (¬6) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 200)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" =

وعن [ابن] (¬1) شَوذبٍ قال: كان ابنُ سيرين يطوي يوماً ويفطر (¬2) يوماً، وكان اليوم الذي يفطر فيه يتغدَّى، ولا يتعشَّى، ثم يتسحَّر، ويصبحُ صائماً (¬3). وعن أمِّ عباد امرأةِ هشام بن حسان قالت (¬4) كنَّا نزولاً مع محمَّدِ ابن سيرين في داره، فكنا نسمع بكاءَه بالليل، وضَحِكَه بالنهار (¬5). وعن زهيرٍ الأقطَعِ [قال] (¬6): كان محمد ين سيرين إذا ذَكرَ الموتَ، مات كل عضوٍ منه علي حِدَتهِ (¬7). وكانت وفاةُ ابن سيرين - رحمه الله تعالى - على ما ذكر الواقدي سنةَ عشر ومئة، بعدَ الحسنِ بمئة يوم، وقيل: بينهما تسعةّ وتسعون يوما، مات الحسن في رجب، ومات ابنُ سيرين فيي ذي القعدة، وإنه دُفِن كل واحدٍ منهما في يوم الجمعة، وقيل: مات ابنُ سيرين في شوَّال. ¬

_ = (2/ 271)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 210). (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ب": "ويصوم". (¬3) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" (ص: 307)، ومن طريقه: أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 272). (¬4) "ت": "قال". (¬5) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 272) والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 335)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 209). (¬6) سقط من "ت". (¬7) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 232)، والبيهقي فى "الزهد الكبير" (2/ 218)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 218).

أسندَ عن عدَّة من الصحابة، منهم: أبو هُريرَةَ، وأبو سعيد الخُدري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعِمران بن الحُصَين، وأبو بَكْرة، وأنس بن مالك، وجماعهٌ، قاله أبو نعيم (¬1). وأمَّا أبو صالح: فهو ذَكْوان السَّمَّان، ويقال أيضاً: الزيَّات، وكان يجلبهما (¬2) إلى الكوفة، يقال: مولى جُوَيرية بنت الحارث امرأةِ قيسٍ الغَطَفاني، ويقال: مولى لعبد الله بن غَطَفَان (¬3)، وهو والد (¬4) سُهَيل، سكنَ الكوفةَ، أحدُ المشاهير من وواة التابعين، والمعتمد عليهم في الرواية والحديث، أخرج الجماعةُ كلّهم حديثَه، وأخرج الشيخان روايتَهُ عن أبى هُريرَةَ وأبي سعيد، وأخرجا روايةَ عبد الله بن ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 193)، "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 90)، "المعارف" لابن قتيبة (ص: 442)، "الثقات" لابن حبان (5/ 348)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 263)، "تاريخ بغداد" للخطيب (5/ 331)، "التعديل والتجريح" للباجي (2/ 676)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (53/ 172)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 241)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 99)، "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 181)، "تهذيب الكمال" للمزي (25/ 344)، "سير أعلام النبلاء" (4/ 606)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 77) "تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 190). (¬2) في الأصل: "يجلبها"، و "ت": "لجلبه لهما"، والمثبت من "ب". (¬3) في الأصل و "ب": "عفان "، و "ت": "عثمان"، والتصويب من مراجع ترجمته. (¬4) "ت": "ولد".

دينار، وأبي حُصَين، وسُمَي، والأعمش، وعمرو بن دينار، وحُمَيد ابن هلال، وعطاء بن أبي رباح، عنه. قال عمرو بن علي: مات أبو صالح ذكوان سنة إحدى ومئة (¬1). وأما أبو رَزِين: فهو مسعود بن مالك الكوفي الأسدي، قيل: مولى أبي وائل شَقيق بن سَلَمة، انفردَ مسلمٌ بإخراج روايته هذه مقروناً بأبي صالح. روى عنه: الأعمش، وإسماعيل بن سُميع، قال ابن أبي حاتم (¬2) رحمه الله تعالى: روى عن علي، وابن مسعود، وأبي هُريرَةَ، وابن عبَّاس، يقال: إنَّه شهد صفينَ مع علي - رضي الله عنه -. وقال أيضاً: سئل أبو زرعةَ عن أبي رزين، فقال: اسمه مسعود، كوفي، ثِقَةٌ. وذكر البخاري، عن عليِّ بن المديني، قال يحيى القطَّان: وكان شعبةُ ينكرُ أنْ يكونَ أبو رزين سمعَ [من] (¬3) ابن مسعود (¬4). ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 260)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 450)، "الثقات" لابن حبان (4/ 221)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 524)، "تهذيب الكمال" للمزي (8/ 513)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 36). (¬2) "ت": "حامد". (¬3) سقط من "ت". (¬4) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 180)، "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 423)، =

وأما الأعمش: فهو أبو محمَّدٍ، سليمانُ بن مَهرانَ الكاهِليّ مولاهم، الكوفيّ، يقال: أصلُه من طَبَرستانَ من قريةٍ يقال لها: دباوند (¬1)، جاء به أبوه إلى الكوفة، فاشتراه [رجل] (¬2) من بني كاهلٍ من بني أسد، فأعتقه. رأى أنسَ بن مالك، وأخرج الشيخان روايتَهُ عن أبي صالح، وأبي وائل، وإبراهيم النخعي، ومجاهد، ومسلم البَطِين، والشعبي، وسعيد بن جبير، وزيد بن وهب. وأخرج مسلم روايتَه عن جماعةٍ غيرِ هؤلاء. وأخرجا أيضاً رواية شعبةَ، والثوري، [وابن عُيينة] (¬3)، وأبي معاوية، وأبي عوانة، وجرير، وحفص بن غِياث عنه، وأخرج مسلم رواية جماعة غير هؤلاء عنه. قالَ عمرو بن علي: ولد عمرُ (¬4) بن عبد العزيز مقتلَ الحسين بن علي سنةَ إحدى وستين، وولد معه الأعمش (¬5)، ومات سنةَ ثمانٍ ¬

_ = "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 282)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 514)، "تهذيب الكمال" للمزي (27/ 477)، "الكاشف" للذهبي (2/ 257)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (7/ 150)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (10/ 106). (¬1) في الأصل و "ب": "دياوند"، و "ت" "دناوند"، والتصويب من "معجم البلدان" لياقوت (2/ 436)، ودباوند: كورة من كور الري، بينها وبين طبرستان. (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "ابنُ عمر"، والمثبت من "ت"، و "ب". (¬5) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (25/ 135).

وأربعين ومئة (¬1). وللأعمشِ - رحمه الله تعالى - مع المحدِّثين حكاياتٌ عجيبة، ونوادرُ غريية، وكان أحدَ القرَّاء المجوِّدين، والحفاظ المُعتَبرين، معدوداً في طبقات النُّسَّاك العاملين (¬2). وعن مبشر بن عبيد عنه، أنه قال: قرأتُ القرآن على يحيى بن وثَّاب، وقرأَ يحيى على علقمةَ أو مسروقٍ، وقرأ هو على عبدِ الله بن مسعود، وقرأ ابنُ مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وروى أحمد بن حنبل قال: ثنا أبو نعيم قال: سمعت الأعمش يقول: كانوا يقرؤون القرآنَ على يحيى بن وثَّاب، وأنا جالس، فلمَّا ماتَ، أحدَقُوا بي (¬4). وعن داود، عن الأعمش قال: قال حبيبُ بن أبي ثابت: أهلُ الحجاز و (¬5) أهلُ مكة أعلمُ بالمناسك، قلت له: فأنتَ عنهم، وأنا عن أصحابي، لا تأتي (¬6) بحرفٍ إلا جئتك فيه بحديث (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "رجال صحيح مسلم" لابن منجويه (1/ 265). (¬2) "ت": "العابدين". (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 46). (¬4) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (3/ 201)، ومن طريقه: أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 46)، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (1/ 357 - 358). (¬5) "ت": "أو". (¬6) في الأصل و "ت": "تأتيني"، والمثبت من "ب". (¬7) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 47).

وعن زياد بن أيوب قال: سمعت هُشَيماً يقول: ما رأيتُ بالكوفة أحداً أقرأَ لكتاب الله تعالى، ولا أجودَ حديثا من الأعمش (¬1). وعن عيسى بن يُونسَ قال: ما رأينا في زماننا مثلَ الأعمش، ولا الطبقةِ الذين كانوا قبلَنا، ما رأيتُ الأغنياءَ والسلاطينَ في مجلسٍ قطُّ أحقرَ منهم في مجلسِ الأعمش، وهو مُحتاجٌ إلى درهم (¬2). وعن سفيانَ، عن عاصم قال: كان القاسمُ بنُ عبدِ الرحمنِ يقول: ليس أحدٌ أعلمَ بحديث عبدِ الله من الأعمش (¬3). وعن محمَّد بن خَلَف قال: سمعت ضرارَ بن صُرَدٍ يقول: سمعت شَرِيكا يقول: ما كان هذا العلمُ إلا في العرب، وأشراف الملوك، فقال له رجل من جلسائه: وأيُّ نبلٍ (¬4) كان للأعمش، قال شريك: أما لو رأيت الأعمش ومعه لحم يحمله، وسفيان الثوري عن يمينه، وشريك عن يساره، ينازعه حملَ اللحم، لعلمت أنَّ ثَمَّ نبُلاً (¬5) كثيراً (¬6). وعن عبد الرزاق قال: أخبرني بعضُ أصحابنا: أنَّ الأعمش قام ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 50). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 47). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 48). (¬4) في الأصل و "ب": "وإن نيل"، و "ت": "وأيُّ نيل"، والصواب ما أثبت، والله أعلم. (¬5) "ت": "نيلاً". (¬6) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 48).

من النوم لحاجته، فلم يجدْ ماءً، فوضع يده على الجدار فتيمَّم، ثمَّ قام، فقيل له في ذلك، فقال: [أخافُ] (¬1) أن أموتَ على غير وضوء، قال عبد الرزاق: وربَّما فعله معمر (¬2). وعن محمود بن غيلان قال: قال وَكيع: كان الأعمش (¬3) قريبأ من [سبعين سنة، لم تَفُتْهُ التكبيرةُ الأولى، واختلفتُ إليه قريبا من] (¬4) سنتين، فما رأيتُهُ يقضي ركعة (¬5). وعن إبراهيم بن عَرْعرة قال: سمعت يحيى القطَّان إذا ذكرَ الأعمشَ قال: كان من النُّسُّاك، وكان مُحافظا على الصلاة في الجماعة، وعلى الصَّفِّ الأول (¬6). وعن أبي بكر بن عيَّاش - رحمه الله تعالى - قال: دخلتُ على الأعمش في مرضِهِ الذي تُوفَيَ فيه، فقلتُ: أدعو لكَ الطبيبَ؟ فقال: ما أصنعُ به؟! فو اللهِ لو كانت نفسي في يدي لطرحتُها في الحُشِّ (¬7)، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 49). (¬3) "ت": "للأعمش". (¬4) سقط من "ت". (¬5) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 49)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 8 - 9)، ووقع في المطبوع عندهما: "ستين" بدل "سنتين"، وفيه نظر. (¬6) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 50)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 8). (¬7) الحُشِّ، مثلثة: المخرَجُ؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين. انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 761).

إذا أنا متُّ فلا تُؤذِنْ (¬1) بي أحداً، واذهبْ واطرحني في لَحدي (¬2). وكانت وفاتُهُ كما قدَّمنا، وقال أبو نعيم الأصبهاني الحافظُ: تُوفِّي ابنُ عمر، وقُتِلَ ابنُ الزبير، وللأعمشِ ثلاثَ عشرة (¬3) سنة (¬4). وأما عليُّ بن مُسْهِرٍ - بضم الميم، وسكون (¬5) [السين] (¬6) [المهملة] (¬7)، وكسر الهاء -: فهو أبو الحسن، عليُّ بن مُسهِر الكوفي، قاضي الموصل، أخو عبدِ الرحمن بن مُسهِر، اتَّفق الجماعةُ على إخراج حديثه. وقال أحمدُ بن حنبل: صالحُ الحديث، هو أثبتُ من أبي معاويةَ الضريرِ. وقال أحمدُ بن عبد الله: وكان ممَّن جمعَ الحديثَ والفقه، ثِقةٌ. ¬

_ (¬1) " ت" "تُؤْذِنَنَّ". (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 51). (¬3) في الأصل و "ب": "ثلاث وستون"، والمثبت من "ت". (¬4) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 342)، "حلية الأولياء" (5/ 46)، "تاريخ بغداد" (9/ 3)، "رجال صحيح مسلم" لابن منجويه (1/ 264)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 117)، "تهذيب الكمال" للمزي (12/ 76)، "وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/ 400)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (6/ 226)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 195). (¬5) "ت": "وإسكان". (¬6) سقط من "ب". (¬7) سقط من "ت".

الوجه الثاني

وقال أبو زُرعةَ: صدوقٌ، ثِقَة. وقال يحيى بن معين في رواية: ثِقَة. قال ابنُ مَنْجَويه: مات سنة تسعٍ وثمانين ومئة، والله أعلم (¬1) * * * * الوجه الثاني: ذكرُه لمحمَّدِ بن سيرينَ فائدتُه أنَّ التتريبَ في غسل الإناء من حديث أبي هُريرَةَ راجعٌ إلى روايته، وذكرُه لعليّ بن مُسهِر فائدته أنَّ الأمرَ بالإراقة مُستنِدٌ إلى روايته. واقتصرَ على رواية محمَّد بن سيرين؛ لما فيها من الأمر بغسل الإناء سبعا مع زيادة التتريب، واستغنَى بها عن الروايات التي ليس [فيها] (¬2) ذكرُ التتريب، بل الأمرُ بالغسل سبعا لا غيرَ. [وقوله: "وفي رواية علي بن مُسْهِر" إلى آخره، يريد به أنه عند مسلم] (¬3). ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 388)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 204)، "رجال صحيح مسلم" لابن منجويه (2/ 58)، "التعديل والتجريح" للباجي (3/ 961)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 321)، "تهذيب الكمال" للمزي (21/ 135)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (8/ 484)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 335). (¬2) زيادة من "ت" و "ب". (¬3) زيادة من "ت" و "ب".

الوجه الثالث: في تصحيحه

* الوجه الثالث: في تصحيحه: وقد ذكرنا أنَّ مُسلماً - رحمه الله تعالى - أخرجه، وهو من أفراده عن البخاري بهذا اللفظ من هذا الوجه، وكذلك حديثُ علىّ بن مُسهِر من أفراده أيضاً. * * * * الوجه الرابع: في شيء من مفردات ألفاظه (¬1)، وفيه مسائل: الأولى: الطَّهور: بفتح الطاء هو المُطَهِّر، وبضمها الفعل، هذا هو المشهور، وقد تقدَّمَ في الحديث الأول (¬2) الاستدلالُ به على أنَّ الطَّهور هو المطهّر. الثانية: وَلَغَ الكلبُ في الإناء، يَلَغُ - بفتح اللام في الماضي والمستقبل جميعاً - وُلوغا: إذا شرب ما فيه بطرف لسانه، وَيولَغُ: إذا أولغَهُ صاحبُهُ، قال الشَّاعر [من المديد]: مَا مَرَّ يَوْمٌ إلا وعِنْدَهُمَا (¬3) ... لَحْمُ رِجَالٍ، أَوْ يُوْلَغَانِ دَما (¬4) ¬

_ (¬1) "ب": "في شيء من مفرداته". (¬2) "ت": "أول الحديث". (¬3) في الأصل و "ب": "وعندهم"، والمثبت من "ت". (¬4) هذا البيت في وصف شبلين، نسبه الجوهري لأبي زُبيد الطائي، ونسبه الأزهري لابن الرُّقيَّات، انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/ 460)، وانظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1329)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله.

الثالثة

الثالثة: حكَى أبو زيدٍ: وَلَغَ الكلبُ شرابنَا (¬1) وفي شرابنا، ويقال: ليسَ [في] (¬2) شيءٍ من الطيورِ [ما] (¬3) بَلَغَ غيرُ الذباب (¬4). ورأيت عن القاضي أبي بكر بن العربي: الوُلوغ للسِّباع والكلاب كالشُّراب لبني آدم، وقد يُستعمَلُ الشرب للسباع، ولا يستعمل الولوغ في الآدمي (¬5) قال: وقال أبو عبيد: الوُلوغ - بضم الواو -: إذا شَرِب، فإن كَثُرَ ذلك فهو بفتح الواو (¬6). * * * * الوجه الخامس: [و] (¬7) إنَّما كانت اللامُ مفتوحةً في الماضي والمستقبل لحرف الحلق، وهي (¬8) الغين، والثلاثيُّ من الأفعال إذا كان صحيحَ العينِ واللامِ غيرَ مضاعفٍ على (فَعَل) - بفتح العين في الماضي -، وكانت العينُ و (¬9) اللامُ حرفَ حلق، فإنَّ الأكثرَ فيه (يفعَل) - بفتح العين في ¬

_ (¬1) في "الصحاح" للجوهري، وعنه نقل المؤلف رحمه الله زيادة: "ومن شرابنا". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1329 - 1330). (¬5) "ت": "للآدمي". (¬6) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 134). (¬7) سقط من "ت". (¬8) "ت": "وهو". (¬9) "ت": "أو".

المستقبل - نحوَ: (ذهب: يذهَب)، (ذبح: يذبَح)، وقد يجيء على الأصل (¬1). وكذلك إذا كان معتلَّ اللام، وكانت العينُ حرفَ حلق، فإنه يكثرُ (¬2) (يفعَل) - بفتح العين - نحو: (سعى: يسعَى)، (مَحَى: يمحَى) (¬3)، [و (شأَى، يشأَى)] (¬4) (¬5). وإن (¬6) لم تكن العينُ حرفَ حلق، كان مضارعُه (يفعِل) بكسر العين، إن (¬7) كانت اللامُ ياءً، [و (يفعُل) بضم العين، إن كانت اللامُ واواً. أمَّا ما كان معتلَّ العينِ، فمضارعُهُ (يفعِل) بكسر العين، إن كانت العينُ ياءً كـ (باع: يبيع)، (¬8)، و (يفعُل) بضم العين، إن كانت واواً ¬

_ (¬1) أي: بالضم أو الكسر. (¬2) "ت": "الأكثر فيه". (¬3) يقالُ: محاه يمحوه ويمحيه ويمحاه: أزال أثره. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص: 1718). (¬4) سقط من "ت". (¬5) قال المبرد معللًا هذه الظاهرة في "المقتضب" (2/ 111): واعلم أن حروف الحلق إذا وقعت من فعل المفتوح في موضع العين أو اللام جاء فيه يفعَل بالفتح؛ وذلك لأن حروف الحلق من حيز الألف، والفتحة منها، وإن كان حرف الحلق في موضع العين من الفعل انفتحت العين ليكون العامل من وجه واحد. (¬6) "ت": "فإن". (¬7) "ت": "إذا". (¬8) سقط من "ت".

الوجه السادس

كـ (ضاع: يضوع) (¬1)، ولا يُنظَر إلى كون اللامِ حرفَ حلقٍ هنا (¬2). وكذلك إنْ [تضاعفَا كَثُر في مضارعه] (¬3) (يفعِل) بكسر العين، إن كان غيرَ مُتَعَدٍّ، و (يفعُل) بضمها، إن كان مُتعدِّيا، فلا نظرَ (¬4) هاهنا إلى كونِ اللام حرف الحلق إلا ما شذَّ. * * * * الوجه السادس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا وَلَغَ [الكلب] (¬5) "يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكونَ فيه حذفٌ على أن يكونَ المرادُ: إذا ولغ في الشيء الذي فى الإناء. والثاني: أن لا يكونَ فيه حذفٌ، لأنه إذا وَلَغ في ماءٍ (¬6) في الإناء فقد ولغ في الإناء، وكان (¬7) الإناءُ ظرفا لولوغه. [و] (¬8) أما الروايةُ التي فيها: "إذَا وَلَغَ الكلبُ في إناءِ أحدِكُم، فلْيُرِقْه": ¬

_ (¬1) "ت": "صاغ يصوغ". (¬2) "ت": "هاهنا". (¬3) "ت": "إن كان مضاعفاً كـ: شدَّ، فمضارعه". (¬4) "ت": "ولا ينظر". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "فيما" بدل "في ماء". (¬7) "ت": "فكان". (¬8) سقط من "ت".

الوجه السابع

فإنْ أُضمِرَ عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في [الإناء] (¬1) "على أن يُقدَّر: في شراب إناء أحدكم، أو في مظروف إناء أحدكم، استُغْنِي عن الإضمار في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلْيُرِقْه". وإن لم يُضمَرْ أولاً، فلا بُدَّ من الإضمار آخراً، وليكن التقدير: فليرقْ شرابَه، أو مظروفَه، أو ما ولغ فيه، أو أشباه ذلك. ويرجِّحُ الثاني بأنا (¬2) إذا أضمرنا: فليرق شرابه، أو ما يقاربُ ذلك، كان الضميرُ للإناء، وقولُه: "ثم لْيغسِلْهُ" الضمير فيه للإناء، فتتحدُّ الضمائر ولا تختلفُ، وإذا أضمرنا: إذا ولغ في شراب [إناء] (¬3) أحدكم، كان الضميرُ في قوله: "فليرقْهُ" للشراب، والضمير في "ثم ليغسلْهُ" للإناء، فتختلف الضمائرُ مع المجاورة في اللفظ، وغيرُهُ أولى منه (¬4). * * * * الوجه السابع (¬5): قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُوْلاهُنَّ"، وفي رواية: "أُخْرَاهُنَّ" (¬6)، الذي يُفهَم منه: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل "بإناء"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) قلت: اتفاق الضمائر أولى من اختلافها، ولكن اختلافها غير ممتنع، قال ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (16/ 80): ولا ضير في ذلك إذ كان السياق يُرجِعُ كلاّ إلى ما يناسبه. (¬5) سقط الوجه السابع كاملاً من "ت". (¬6) تقدم تخريجها عند الترمذي برقم (91).

أنَّ المرادَ بالأولى المبتدأ بها، وبالأُخرى المختتمَ بها، وفيه نزاعٌ: وهو أنَّ (الأخرى) تأنيث (آخَر) بفتح الخاء، وأنَّ ذلك لا يدلُّ إلا على المغايرةِ لا على الانتهاءِ. قال ابنُ مالك رحمه الله تعالى: الفرق بين (آخِرَة) و (أُخْرَى)، أن التي هي أنثى لا تدلُّ على انتهاء، كما لا يدل عليه مُذَكَّرُها، فلذلك تعطف عليهما مثلَهما من صنف واحد، كقولك: عندي رجلٌ وآخرُ وآخرُ، وعندي امرأةٌ وأخرى وأخرى، وليس كذلك (آخِرة)، بل تدلُّ على الانتهاء، كما يدلُّ عليه مذكرها، وكذلك لا تعطفُ عليهما مثلَهما من صنف واحد، فلا يقال: جاء زيدٌ أوَّلٌ، وعمرو آخِر، ورجل آخِرٌ. وقال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى: لا يقال: العشرُ الأُخَر؛ لأنَّ (الأُخر) جمع (أُخرى)، و (أخرى) تأنيث (آخَر)، ومدلولُهُ وصفٌ لمُغايرٍ لمتقدّمٍ ذكرُه، وإن كان متقدماً في الوجود، وكذلك مؤنَّثُه ومجموعُه، ونُسيت (¬1) دلالتُه على المتأخِّر في الوجود، حتى صارت نسياً منسياً، فتقول: مررت بزيدِ ورجلٍ آخَر، فلا يفهَمُ من ذلك إلا وصفُه لمغايرٍ لمتقدِّمٍ ذكرُه وهو (زيد)، حتى صار معناه أحدَ الشيئين، ولا يُفهَم من ذلك كونُه متأخراً وجودًا، ومن ثَمَّ لم يقولوا: ربيع الآخَر، ولا جمادى الأُخرى، لعلمهم بانتفاء دلالة ذلك ¬

_ (¬1) في الأصل: "وليست".

الوجه الثامن: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

على مقصودهم؛ لأنَّ المقصودَ التأخر الوجودي، فعدلوا إلى ربيع الآخِر - بكسر الخاء - وإلى جمادى الآخِرة، حتى تحصل الدلالة على مقصودهم في التأخر الوجودي (¬1). * * * * الوجه الثامن (¬2): في الفوائد والمباحث، وفيهِ مسائل: الأولى: استُدلَّ بلفظة: (طَهور) على نجاسة سُؤْرِ الكلب، من حيث إن لفظة (طهور) تُستعمل إما عن حدَثٍ، أو [عن] (¬3) خَبَثٍ، ولا حدثَ على الإناء بالضرورة، فيتعيَّنُ (¬4) الخبثُ. واعتُرِض على هذا: بمنع الحصر، فإن التيمّم قد أُطلق عليه الطّهور، وليسَ عن حدث ولا خبث، إذ ليسَ يرفع الحدث، فكان لإباحة الاستعمال، وفي الإناء كذلك يمنعُ من استعماله قبلَ غسله، فيُطلَق عليه (طَهور)، كما يطلق على التيمُّم. وأجيبَ عن هذا الاعتراض: بأنَّ التيمَّم من (¬5) حدث، ولا يلزم كونُه عن حدث، أنْ يكونَ رافعاً للحدث. ¬

_ (¬1) وانظر: "الأمالي النحوية" لابن الحاجب (1/ 116) و"الإيضاح في شرح المفصل" له أيضاً (1/ 521). (¬2) "ت": "السابع". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "فتعين". (¬5) "ت": "عن".

ولِقائِلٍ أنْ يقولَ: لفظة (طهور)؛ إمَّا أن يلازِمَها معنى التطهير، [أو لا] (¬1): فإنْ لم يلازمْها معنى التطهير، بطلت دَلالتُها على نجاسة الإناء؛ لأنَّها إنَّما تدكُ على ذلك من حيثُ إنَّ معنى التطهير يلازمه ما يطهَّر عنه (¬2)، وهو النَّجاسَة. وإنْ لازَمَها معنى التطهيرِ، فمتى كان عن حدثٍ لزمَ أنْ يرفعَ الحدث، وإلا لزم الجمعُ بين التطهيرِ عن الحدث، وبقاءِ الحدث، وهو محالٌ؛ لأنَّا نتكلم على تقدير أنْ يلازمَها معنى التطهير، ومعنى التطهير يقتضي مُطهَّراً، ولا مطهرَ إذا كان (¬3) عن الحَدَثِ إلا الحدَثُ، والذي يدفع هذا أحدُ أمرين: الأول: أن تُلتزَم ملازمةُ معنى التطهير لها، ويقال: بأنَّ التيممَ يرفعُ الحدث، وحيمئذٍ يتمُّ الدليلُ؛ لأنَّه إذا ثبت دلالتها على التطهير، ودلالة التطهير على أنَّ ثَمَّ ما يُطهَّر، وانحصر التطهيرُ بين رفع الحدث ورفع الخبث، وبطلَ الأولُ، تعيَّن الثاني. الثاني: أنْ يُقالَ: إنَّه لا يلازمها معنى التطهير، فيتوجَّهُ حينئذٍ منعُ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "منه". (¬3) "ت": "كانت".

الثانية

الحصر، ولا يغني فيهِ الفرقُ بين كونِ التيمم عن الحدث، أو (¬1) رافعاً للحدث، وأنَّ التيمُّمَ لا يرفع الحدث. واعلمْ أن هذا لا يمنعُ من الاستدلال بلفظة (الطَّهور) على النجاسَة إلا على تقدير القول بأن التيممَ لا يرفع الحدث، وما يُمنعُ على تقدير لا يلزم أن يُمنعَ في نفس الأمر، فمَن يختار أن التيممَ يرفع الحدثَ أمكنه الاستدلالُ بهذه اللفظة على نجاسة الإناء بالولوغ (¬2). الثانية: إذا ثبتت دَلالَةُ [لفظة] (¬3) (الطَّهور) على نجاسهَ السُّؤر، فالنجاسَة أعمُّ من نجاسة العيق والذات، ومن النَّجاسَة الطارئة على العين الطاهرة، وإذا كانت (¬4) أعمَّ، لم تدل على أحد الخاصَّتين، فلا بدَّ من دليل آخر يدل على تعيين حمل النَّجاسَة على نجاسة العين، ويمكن أن يقالَ فيهِ: لو كان التطهيرُ لنجاسه طارئةٍ لزِمَ أحدُ أمرين، إما التخصيص في محلِّ العموم؛ وإما ثبوتُ الحكم بدون علتِه، وكلاهما على، خلاف الأصل. ¬

_ (¬1) "ت": "وبين كونه". (¬2) وانظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 39)، وعارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 135)، وشرح عمدة الأحكام" للمؤلف رحمه الله (1/ 26). (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "كان".

الثالثة

بيانُه: أنَّا إذا فرضنا تطهيرَ فمِ الكلب، أو ولوغ كلبٍ لم يأكل النَّجاسَةَ قبلَ الولوغ (¬1)، كجَرْو صغير، فإما أنْ يُقالَ: لا يلزم غسلُ الإناء، فيلزم التخصيصُ؛ لأنَّ لفظَ الكلب عامٌّ، وإما أنْ يُقالَ: إنه يلزم أن يُغسلَ منه، فيلزم ثبوتُ الحكم بدون علته؛ لأنَّا نتكلم على تقدير عدم تنجيسه باستعمال النَّجاسة، ولا سببَ حينَئذِ للغسل إلا التنجيسُ، وقد انتفى، وقد يقالُ على هذا: الحكمُ مبنيٌ على الغالب من استعمالِ الكلاب النَّجاسةَ واطِّراح النادر. الثالثة: ليسَ يدلُّ على نجاسة ذاتِ الكلب كلِّه بنفسه بعد تقدير نجاسة سُؤرر بذاته، بل لا [بدَّ] (¬2) من واسطة، وفيها طريقتان (¬3): إحداهما: أنْ يُقالَ: لعابُه نجسٌ للأمر بغسلِ الإناء منه، ففمُهُ نجسٌ؛ لأنَّ اللعابَ متحلِّبٌ منه، وجزءٌ منه، ويلزم من نجاسة عينِ فمه نجاسةُ كلِّه. الثانية: أنْ يُقالَ: لعابُه عَرَقُ فمه، وهو نجسٌ، فعرقُه كلُّه نجسٌ (¬4)؛ فكلُّه نجسٌ؛ لأنَّ العرقَ متحلَّبٌ من جملة البدن، وخارجٌ ¬

_ (¬1) في الأصل: "البلوغ"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "طريقان". (¬4) "ت": "لأن فمه أطيب أعضائه، فإذا كان ما يتحلب منه نجس، فغيره نجس، فغيره أولى، فبدنه كله نجس".

الرابعة

منه، وهذا بعد ثبوت أنَّ نجاسةَ الفم عينيَّة (¬1). الرابعة: يدلُّ على أنَّ حكمَ النَّجاسَة يتعدَّى عن محلِّها إلى ما يجاوِرُها بشرط كونِهِ مائعًا؛ لأنَّ الكلبَ إذا ولغ في شيء لم يُبَاشِرْ بلسانه كلَّ ذلك المائعِ، أو قد لا يُباشرُ، فالأمرُ بإراقته على العموم دليل على ما ذكرنا، بل الأمر بغسل الإناء من ولوغه فيهِ مع إمكانِ أن لا يصلَ لسانُه إلى الإناء دليل على ذلك. الخامسة: وإذا دلَّ على ذلك دلَّ على نجاسة المائعات إذا وقعَ في جزء منها نجاسة، وإن عُلِمَ أنَّ ذلك الجزءَ لا يسري إلى جميع ذلك المائع لنجاستها بما يجاورُ ذلك الجزء. السادسة: ثُمَّ يُجعَلُ أصلاً في نجاسة ما يتَّصلُ مع البِلَّة بنجس يُعلَم أنه لا يتحلَّلُ منه شيءٌ، كما لو وطئ برجله المبتلةِ عظماً نَخِراً لا دُهْنِيَّةَ فيه، أو مُتنجساً صلباً كجيرِ (¬2) ممزوج بالسِّرْقين (¬3) النجس، ورأيت لبعض نُظَّار المالكية منعا في هذه المسألة؛ أعني: نجاسةَ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" للمؤلف (1/ 27)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 277). (¬2) "ت": "كجصّ". (¬3) الشرقين - بكسر السين وسكون الراء: فسره البخاري بزبل الدواب، وهي فارسية السرجين - بالجيم - وكذا قال ابن قتيبة. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 213).

السابعة

الطاهر إذا اتصل بنجس لا يتحلل منه شيء، هذا أو معناه، ذَكَرَه في مسألة خلافية. السابعة: [و] (¬1) يدلُّ حينئذٍ على نجاسة الإناء الذي يتَّصلُ بالمائع النجس للأمر بغسل الإناء، وهو عامّ فيما يصل إليه لسانُ الكلبِ، وما لا يصلُ إليه. وهذه المسائل تفريع على [دلالة] (¬2) لفظة (طهور) على النَّجاسَة. الثامنة: استُدِلَّ به على أنَّ الماءَ القليل ينجسُ بوقوع النَّجاسَة فيهِ وإنْ لم يتغيَّر، بناءً على أنَّ الغسل للنجاسة، وولوغُ الكلب فيهِ لا يغيِّره غالباً. [قلت] (¬3): و [قد] (¬4) يُتمسَّك بالعموم الذي يتناول ما غيَّره، وما لم يغيِّرْهُ. التاسعة: الإناءُ عامّ يدخلُ تحته أحوالُ الإناء؛ لِما كنَّا قد قرَّرنا في عموم الحكم في الأحوال إذا كان التخصيصُ ببعضها يخالفُ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت"

العاشرة

ما دلَّ عليه اللَّفظُ من العموم في الذوات (¬1)، على خلاف ما يقوله بعضُ المتأخرين. العاشرة: فعلى هذا يدخل فيهِ الإناءُ الذِي فيهِ الطَّعام للعموم، ولمالكٍ - رحمه الله تعالى - قولٌ: إنَّه لا يغسل إلا إناء الماء دونَ إناء الطعام، قال في "المُدَونَةِ": إن كان يغسل سَبعًا للحديث، ففي الماء وحدَه (¬2). وقد وجَّهَ ذلك بأمرين: أحَدُهُما: مبنيٌّ على تخصيص العامِّ بالعُرف، والعُرْفُ أنَّ الطعامَ محفوظٌ عنْ الكلابِ مصونٌ عنها لعزَّتهِ عندَ العرب، فلا يكاد الكلبُ يصلُ إلا إلى آنية الماء، فيقيَّدُ اللَّفظُ بذلك. الثاني: أنَّ في الحديث: "فليُرِقْهُ، وَلْيَغْسِلهُ سَبع مَرَّاتٍ"، والطعام لا يجوز إراقتُهُ لحرمته، ولنهيهِ - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال (¬3). وَيجيء على البحث المُتأخِّرِ وجهٌ ثالثٌ، وهو أنْ يُقالَ: هو عامٌّ ¬

_ (¬1) "ت": "الدوران". (¬2) انظر: "المدونة الكبرى" (1/ 5). (¬3) رواه البخاري (1407)، كتاب: الزكاة، باب: قوله الله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، ومسلم (593)، كتاب: الأقضية، باب: النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -.

في الأواني، مُطلَقٌ في أحوالها، عمِلْنا (¬1) به فيما إذا كان فيها الماء، والمُطلَقُ إذا عُمِلَ به مَرَّة [كفَى] (¬2) في تَأَدّي الواجبِ، فلا يبقَى حجة في إناء الطعام. فامَّا الوجهُ الأوَّلُ: فمبنيٌّ على تخصيص العموم بالعُرْف، وفيهِ منع في الأصول، والراجحُ عندَ كثيرٍ من الأصوليّين خلافُه (¬3). وأمَّا الثَّاني: فضعيفٌ؛ لأنَّ عمومَ الأمر بالإراقة يقتضي إراقةَ الطعام أيضاً، وتحريمُ إراقتِهِ ممنوعٌ بعد دَلالَة العمومِ على الأمر بها، وماليَّتُهُ أيضاً يمنعها القائلُ بتنجيسِهِ بعد الولوغِ فيه، وأمَّا الاستدلالُ بالنهي عن إضاعة المال، فنتكلَّمُ عليه عقيبَ (¬4) هذه المسألة. وأمَّا الوجهُ المُتَأخِّر: فمتأخِّر؛ لِما بيَّنا أنَّا لو خصَّصناه ببعض أحواله لكان الخارجُ عن تلك الحال (¬5) مخصوصاً عن العموم مع دَلالَة العموم على تناوله، ووجوبِ المحافظة (¬6) عليها. ¬

_ (¬1) في الأصل: "علمنا" والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 519). (¬4) "ت": "عقب" وهو الأصح. (¬5) "ت": "الأحوال". (¬6) "ت": "المحافظ".

الحادية عشرة

الحادية عشرة: نهيُه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعةِ المال خاصٌّ بالمال، عامٌّ بالنسبة إلى ما يَلغُ فيهِ الكلب، وما لمْ يَلغْ فيه، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بإراقة ما ولغ فيهِ [الكلب] (¬1) خاصّ بالنسبة إلى ما يَلغُ فيه، عامٌّ بالنسبة إلى المال وغير المال، فكلُّ واحدِ منهما عامٌّ من وجه، خاصٌّ من وجه، فلئن (¬2) قال أحد الخصمين: أخصُّ عمومَ الأمر بإراقة ما ولغ فيهِ الكلبُ بالماء؛ عملًا بنهيهِ - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال، قال خصمُهُ: أخصُّ نهيَهُ - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال بما [لمْ] (¬3) يَلَغْ فيهِ الكلبُ؛ عملاً بقوله: "إذَا وَلغَ الكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيُرِقْهُ"، فإذا تقابلا، فلا بُدَّ من التَّرجيح، وقد يُرجَّحُ العملُ بهذا الحديث لوجهين: أحَدُهُما: أنْ يُقالَ: النهيُ عن إضاعة المال عامٌّ مخصوصٌ بالاتِّفاق، فإنَّهُ يخرج عنه المائعاتُ الَّتِي تغلو قيمتُها وتكثُرُ بعد وقوعِ قطرةٍ من البول فيها، والعمومُ في هذا الحديث غيرُ مخصوصٌ بالإجماع؛ أعني: [أنه] (¬4) لمْ يُجْمَعْ على تخصيصه، فإنَّ القائلَ بالنَّجاسَة يعمُّ به كلَّ ما يُولَغُ فيه، والعملُ بالعموم الَّذِي لمْ يُجمع على تخصيصه أَولَى من العموم الَّذِي أُجمعَ على تخصيصه، فإن قال: لا أسلِّمُ أنَّ المائعَ الَّذِي وقعت فيهِ قطرةُ البول مالٌ (¬5) بعد وقوعها فيه، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "ولئن". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل و "ت": "مالًا"، والصواب ما أثبت.

الثانية عشرة

قال خصمُه: لا أسلِّم أنَّ الطعام مال (¬1) بعد ولوغ الكلب فيهِ. الوجهُ الثاني: أن يقال: مقصود ذلك الحديث النهى عن التبذير وإضاعة المال من غير عوض صحيح، والمقصود من هذا الحديث، إما الإبعاد، وإما التنزه عما لحقه سؤر الكلب؛ لنجاسته أو لقذارته، وهذا المقصود أخص بالنسبة إلى ما يقع فيه الولوغ من ذلك المقصود؛ أعنى: النهى عن إضاعة المال، وقد ظهر اعتباره فى بعض ما يقع فيه الولوغ، فالعموم بالنسبة إلى هذا المقصود أمسُّ من العموم بالنسبة إلى ذلك إذا اعتبرنا المقاصد. الثانية عشرة: لفظُ (الإناء) لما كان عامًّا دخل تحته إناء الفَخَّار غير المترشح (¬2) مما يتشرب الماء أو غيره، ويغوص فيه، وقد حكم بطهارته بالغسل، فقد يجعل أصلا لمسألة اختلف فيها، وهي أن الفخار إذا اتصل به نجس غواصُّ (¬3) كالخمر، هل يطهر بالغسل؛ وكذلك ما يناسبه مثل الزيتون يُمَلح بماء [نجس] (¬4)، والقمح يُنقع بماء نجس، وهذا البحث بناء على نجاسة الماء فيستمرُّ (¬5) من غير ¬

_ (¬1) "ت": "كون الطعام مالاً". (¬2) فى الأصل و "ب": "المزجج"، والمثبت من "ت". (¬3) أى: كثير الغوص، أى: النفوذ فى أجزاء الإناء. انظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 60). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "يستمر".

الثالثة عشرة

اعتراض؛ لأنَّهُ حينئذٍ لا فرقَ بين أنْ يلغَ في الماء الَّذِي في الإناء، أو يُؤخَذَ الماءُ الَّذِي في الإناء بعد ولوغه، ويُجعلَ في إناء فخَّار. الثالثة عشرة: الطَّحاوِيُّ - رحمه الله تعالى - لمَّا تكلَّم في مسألة نزحِ ماءِ البئرِ قال: فإنْ قال قائل: فأنتم قد جعلتم ماءَ البئر نجساً بوقوع النَّجاسَة فيها، وكان (¬1) يقتضي ذلك أنْ لا تطهُرَ البئرُ أبداً؛ لأنَّ حيطانَها قد تشرَّبت ذلك الماءَ النجسَ واستَكَنَّ فيها، فكان ينبغي (¬2) أن تُطمَّ. قيل [له] (¬3): [ألم] (¬4) ترَ العاداتِ جرت على هذا؟ [و] (¬5) قد فعلَ عبدُ الله بن الزُّبير ما ذكرنا في ماء زمزم (¬6)، ورآه أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلمْ ينكروا ذلك عليه، ولا أنكرَهُ مَن بعدَهم، ولا رأى أحدٌ منهم طمَّها، وقد أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الإناء الَّذِي قد نَجَس من ولوغ الكلب فيهِ أن يُغسَلَ، ولم يأمرْ أنْ يكسرَ (¬7)، وقد تشرَّب من الماء ¬

_ (¬1) "ت": "فكان". (¬2) "ت": "وكان يقتضي". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 17)، عن عطاء: أن حبشياً وقع في زمزم فمات، فأمر ابن الزبير، فنُزح ماؤها ... إلخ. وإسناده ضعيف، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الدراية" (1/ 60). (¬7) "ت": "بكسره".

الرابعة عشرة

النجس، فكما (¬1) لمْ يأمرْ بكسر الإناء في ذلك، فكذلك لا يُؤمَرُ بطمِّ تلك البئر، فهذه فائدة استنتجتُها من هذا الحديث (¬2). الرابعة عشرة: الظاهريُّ لا يرَى بالغسل إذا وقع اللعابُ في الإناء من غير ولوغ (¬3)، وهذا زيادةٌ في التَّعبُّد على ما في الغسل عندَ الولوغ من التعبُّد، فإنَّ (¬4) الأمر بالغسل لأجل اتّصال اللعاب بالماء، لا لمعنى يقال على غير اللعاب، فيكونُ (¬5) وقوعُ اللُّعابِ فيهِ من غير ولوغ مساوياً للولوغ، من غير أن ينافيَهِ التعبدُ بالغسل لأجل اتصال اللعاب به، وإذا كان التعبد قليلاً في الأحكام بالنسبة إلى ما عُقِلَ معناه، كان القول به على خلاف الغالبِ والأصلِ، ويكون هذا زيادةً في مخالفة الأصل، ومالكٌ - رحمه الله تعالى - لما قام عنده الدليلُ على طهارة الكلب، ولم يمكنْ مخالفةُ الأمر بالغسل، لزم الجمعُ بالقول بالتعبُّد، فالموجبُ لذلك هو قيامُ الدليل المانع من القول بالنَّجاسَة عنده، والله أعلم. الخامسة عشرة: هاهُنا مرتبةٌ دون الَّتِي قبلَها، وهو أن يأكلَ الكلبُ من طعام الإناء مع بِلَّتِهِ المتصلةِ بالإناء. ¬

_ (¬1) "ت": "فلما". (¬2) انظر: "شرح معاني الآثر" (1/ 18). (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 109 - 110). (¬4) "ت": "في" بدل "فإن". (¬5) "ت": "ويكون".

السادسة عشرة

السادسة عشرة: وهاهُنا [مرتبة] (¬1) أيضاً دون [مرتبةِ] (¬2) الَّتِي قبلها، وهو أن يقعَ الكلبُ كلُّهُ في الإناء. السابعة عشرة: لو أدخل جزءاً من أجزائه كاليد والرجل وغيرِهما، فالتعبُّد يقتضي عدمَ إجراء [هذا] (¬3) الحكم في هذه المسائل، ويقتضي (¬4) القولُ بالنَّجاسَة إجراءَها (¬5) فيها، وهو الَّذِي ذكره المُزَنيُّ في "المختصر"، قال: وما مسَّ الكلبُ والخنزير من أبدانهما نجسٌ، وإن لمْ يكنْ فيهما قذرٌ (¬6). وربَّما ادُّعِيت الأولويَّةُ في هذا، ووُجِّه ذلك: بأنَّ فمَهُ أنظفُ من غيره، فإذا وردَ التغليظُ فيهِ، فغيرُهُ أَولَى. ولبعض أصحاب الشَّافِعي - رحمه الله تعالى - وجه: أنَّ غيرَ اللعاب كسائر النجاسات (¬7)، والأولويةُ المذكورةُ قد تُمْنَعُ؛ لأنَّ فمهُ محل استعمال النَّجاسات أكلاً. الثامنة عشرة: ادَّعَى بعضُ مَن يُعمِّم الحكمَ في سائر أعضائه ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "ومقتضى". (¬5) "ت": "إجراؤه". (¬6) انظر: "مختصر المزني" (ص: 8). (¬7) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 538).

التاسعة عشرة

الأولويَّةَ في الحكم فيها، وذكر وجهين: أحدهما: أنه لما نَصَّ على الولوغ، وهو أصونُ أعضاءِ الكلب، كان وجوبُ الغسل بما ليسَ بمصونٍ منها أَولَى. والثاني: أنَّ ولوغَهُ يكثُر، وإدخالُ غير ذلك من أعضائه يَقِلُّ، فلما علَّق وجوبَ الغسل بما يكثُرُ، كان وجوبُهُ بما يقلُّ أَولَى؛ لأنَّ النَّجاسَة إذا عمَ وجودُها خَفَّ حكمُهَا، وإذا قلَّ وجودُها تغلَّظ (¬1) حكمُها (¬2). وهذا إن كان مَبنياً على القول بالقياس، وفَرعاً له، فلا يصلُحُ ردًّا على داودَ مُنكِرِ القياسِ، بل طريقُه إثباتُهُ عليه، ثمَّ ادِّعَاءُ أولويتِهِ، وإن كان ذلك بنَاء على ما في نفس الأمر، سواءٌ قلنا بالقياس، أم لا، فهذا إنَّما يكونُ فيما يقوَى فيهِ الإلحاقُ، كالضرب مع التأفيف، مع القول بأنَّ ذلك ليسَ بقياس. التاسعة عشرة: لا بُدَّ من التَّخصيص في الأواني عند مَن يرَى أنَّ الغسلَ للنجاسة، ويرَى أنَّ القليلَ من الماء ينجُسُ بوقوع النَّجاسَة فيه، فحينئذٍ يَخصُّ ذلك بالماء القليل، ويُخرِج عنه الماءَ الكثير. والشَّافِعيُّ - رضي الله عنه - لمَّا حدَّد (¬3) الكثيرَ بالقُلَّتين يُخرِجُ الإناء الَّذِي ¬

_ (¬1) "ت": "يتغلظ". (¬2) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 315). (¬3) "ت": "حدَّ".

العشرون

[يكون] (¬1) فيهِ قُلَّتان من العموم. العشرون: لمَّا تَعلَّقَ الحكمُ بالإناء، فمَن قال بالتعبد يُخرِجُ عنهُ كلَّ ما لا يُسَمَّى إناءً، كبقعةٍ من الأرض، ويدِ الإنسان (¬2) مثلاً. الحادية والعشرون: ومن قال بالتعبُّد لا يُعدِّي الحكمَ أيضاً إلى ما (¬3) لا يُسَمَّى ولوغًا، كما إذا مسَّ اللعابُ ثوباً أو جسداً أو متاعاً، أو عضَّ صيداً، أو وَطِئَ برطوبة يديهِ أرضًا أو بِسَاطاً أو ثوبا [يابساً] (¬4) (¬5). الثانية والعشرون: هذه الإضافةُ الَّتِي في (أحدِكُمْ)، والضميرُ الَّذِي في (أن يغسلَهُ)، مُلغَى الاعتبارِ بخصوصِهِ في هذا الحكم؛ لأنَّ الطهارةَ لا تتوقَّفُ على ملكه الإناء المُطَهَّر، ولا على أن يكونَ هو الغاسل. الثالثة والعشرون: في مرتبةٍ دون هذه، وهو ما إذا صبَّ المطر على الإناء [مثلاً] (¬6)، و (¬7) تركُهُ من غير قصدِ قاصدٍ، والمعنى فيهِ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": ""إناء". (¬3) "ت": "فيما" بدل "إلى ما". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 109 - 110). (¬6) سقط من "ت". (¬7) "ت": "أو".

الرابعة والعشرون

كالَّذِي قبلَه، لكنَّ (¬1) مرتبتَهُ دونَ ما قبلَه؛ لأنَّ (¬2) ذاك فيهِ إلغاءُ خصوصِ الفاعل، [وهذا فيهِ إلغاءُ أصل الفاعل] (¬3)، والله أعلم. الرابعة والعشرون: الألفُ واللامُ تكون للجنس، وتكون للعهد، وتكون لتعريف الماهيَّةِ، وقد دخلت على لفظة (¬4) (الكلب)، فيجب النظرُ في أنَّها من أيِّ هذه الأقسام [هي] (¬5)؛ ليترتَّبَ عليه غيرُه من المسائل. فأمَّا العهدُ: فسيأتي الكلامُ على مَن ادَّعى حملَ بعضِ المسائل على كون الألف واللام للعهد. وأما تعريفُ الحقيقة: فإنَّهُ يلزم مِنهُ ترتُّبُ الحكم على ولوغ كلِّ كلب، فإنَّهُ يصير الحكم مرتباً على ولوغ ما وُجِدَت فيهِ هذه الحقيقة، [وكلّ كلبٍ وَلَغ فقد وُجِدَت فيهِ هذهِ الحقيقة] (¬6) ضرورةَ وجودِ (¬7) المُطلَق في المُقَيَّد، فيَثبت وجوبُ الغسل بالنسبة إلى كلِّ كلب والغ، ثمَّ بعدَ ذلك بحثان دقيقان يجب أنَ ينظرَ فيهما لا يختصَّان بهذا ¬

_ (¬1) "ت": "لأن". (¬2) في الأصل و "ب": "لكن"، والمثبت "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "لفظ". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) في الأصل: "وجوده"، والمثبت من "ت" و "ب".

الخامسة والعشرون

الموضع [فقط] (¬1): أحَدُهُما: حملُ الألف واللام على الجنس الاستغراقي (¬2)، والنظر في دَلالته حينَئذٍ على ثبوت الحكم في كلِّ فرد، أو على تَوَقُّفِهِ على المجموع بحسب اختلاف المجال. والثاني: الفرقُ بين هذا العمومِ الَّذِي جاء من حملِها على تعريف الحقيقة، والعمومِ الَّذِي يأتي من حملها على الجنس الاستغراقي إذا كان دالاً على ثبوت الحكم في كلّ فرد، فتأمَّله. الخامسة والعشرون: خصَّصَ بعضُ المالكيَّةِ الحكم (¬3) بالكلب المنهيّ عن اتخاذِهِ دونَ المأذونِ فيه، وأشار بعضُهم إلى أنَّ هذا التخصيصَ مبنى على حمل الألف واللام على العهد (¬4) (¬5)، وهذا (¬6) التخصيصُ خلافُ العموم، وحملُهُ على العهد يحتاج إلى أمرين: أحَدُهُما: أنْ يثبتَ تقدُّمُ النهي عن اتخاذ الكلاب على هذا الأمر بالغسل من ولوغها. والثاني: أنَّه - وإنْ تقدَّمَ - فلا بُدَّ من قرينة تُرشدُ إلى أنَّ المُرادَ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "للاستغراق". (¬3) "ت": "الكلب" بدل "الحكم". (¬4) "ت": "العهدية". (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 101). (¬6) "ت" زيادة: "أو على الجنس، فإن حمل على الجنس فهذا التخصيص ... ".

السادسة والعشرون

هذا المنهيُّ عن اتخاذه، ولا يكفي مجرَّد تقدّمِ النهي، ولعلَّه أن يأخذَهُ من مناسبة هذا الحكم والكُلفةِ فيهِ لتقدّم (¬1) مخالفة ومعصية، فينصرفُ إلى ما نهي عن اتخاذه، ولم يُنْتَهَ عنه، وإذا لمْ تَقُمْ قرينة على إرادة ما تقدَّمَ النهيُ عنه، فهذه المناسبةُ - الَّتِي ذكرتُ - عِلَّةٌ استُنْبِطَت من اللَّفظ تعودُ عليه بالتخصيص، وفيهِ ما عُرِفَ في الأصول [من الخلاف في الصحة، واختيارِهم عدمَ الصحة في كثير من المسائل] (¬2). السادسة والعشرون: إذا ولغ كلبٌ واحدٌ (¬3) في إناء مرَّتين فأكثر، فَهلْ يُغسَلُ لكلِّ مَرَّة سبعًا، أم تكفي غسلَة (¬4) واحدةٌ للمرَّتين؟ فيهِ اختلافٌ عن أصحاب الشَّافِعي رحمة الله عليه، فالمنقولُ عن أبي سعيد الإصْطَخْرِيِّ منهم: أنَّهُ يُغسَلُ لكلِّ ولوغ سبعاً، وتنفرِدُ كلُّ واحدة (¬5) باستحقاق السبع لها، فإنْ ولغ مرَّتين غُسِلَ أربعَ عشرةَ مَرَّة، وإن وَلغ عشراً غسل سبعين مَرَّة، والمنقول عن أبي العبَّاس ابنِ سُرَيج، وأبي إسحاق المَرْوَزي، وأبي علي ابن أبي هريرة: أنه يُغسَلُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "التقديم"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "الكلب" بدل "كلب واحد". (¬4) "ت": "السبع مرة" بدل "غسلة". (¬5) "ت": "مرة".

السابعة والعشرون

من جميع ولوغه سبعاً (¬1). السابعة والعشرون: إذا ولغ جماعةُ كلاب في إناء، فَهلْ يغسل لكل سبعاً (¬2)، أو للجميع؟ فيهِ اختلافٌ عند الشَّافِعية والمالكية، وجمع الماوَرْدِيُّ [بين] (¬3) هاتين المسألتين (¬4) فحكَى فيهما ثلاثةَ أوجه (¬5): الثالث - وهو قول بعض المُتأخِّرين -: أنَّهُ إذا (¬6) كان تكراراً لولوغٍ مِن كلبٍ واحد اكتُفِيَ فِيهِ بسبع، وإن كان من كلابٍ وجب أن يُفرَدَ ولوغُ كلِّ كلب بسبع. قال: ولا أعرف بينهما فرقاً، والأَصَحُّ هو الوجهُ الثاني (¬7)، والله أعلم (¬8)؛ يريد الَّذِي حكيناه عن أبي العبَّاس بن سُرَيج ومن معه. قُلْتُ: علَّلَ الماورديُّ ذلك الوجهَ بأنَّ الأحداثَ لَمَّا تداخلَ ¬

_ (¬1) انظر: "حلية العلماء" للقفال (1/ 247). (¬2) "ت": "فهل يغسل سبعاً لكل واحد". (¬3) سقط من "ت". (¬4) أي: بين مسألة ولوغ كلب واحد في إناء مرتين فأكثر، وبين ولوغ جماعة كلاب في إناء. (¬5) تقدم الوجهان في المسألة السابقة. (¬6) "ت": "إن". (¬7) في النسخ الثلاث: "الأول"، والمثبت من المطبوع من "الحاوي"، وهو الصواب. (¬8) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 310 - 311).

بعضُها في بعض، كان تداخلُ الولوغ اعتباراً له بسائر الأنجاس أَولَى بالتداخل، فهذا يرجعُ إلى التعليل بأمر خارج عن اللَّفظِ الَّذِي ورد في هذا الحديث، ويعود إلى القياس. وأمَّا إنْ أردنا أنْ نرَدَّ المسألتين إلى لفظ [هذا] (¬1) الحديث، فقد ذكر بعضُ المالكية بناءَه على ما تقتضيه الألفُ واللامُ، فنقول في بيانه: إنَّا إنْ حملنا الألفَ واللامَ على تعريف الحقيقة، اقتضى ذلك تكرارَ الغسل عند تكرر الولوغ من كلب واحد لوجود الحقيقة في كلِّ مَرَّة، ولا يجبُ على تقدير حملِها على الاستغراق؛ بمعنى: ثبوتُ الحكمِ في كلِّ فرد؛ لأنَّه (¬2) لو قيل: إذا ولغ كلُّ كلب، فولغ [كلُّ] (¬3) كلبٍ مَرَّة، لمْ يدخلْ [تحتَ] (¬4) اللَّفظ - الَّذِي هو (كلّ كلب) - ولوغُهُ مَرَّةً ثانية [من واحد] (¬5). وإذا (¬6) حملناه على الاستغراق، بمعنى: ثبوت الحكم في (¬7) كلِّ فرد، لزم تكررُ الغسلِ عند ولوغ جماعة من الكلاب، ولا يلزم عند تكرُّر الولوغ من واحد. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "ولأنَّهُ"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "وإن". (¬7) "ت": "تحت" بدل "في".

الثامنة والعشرون

الثامنة والعشرون: ما تولدَ من كلبٍ (¬1) وحيوانِ طاهرٍ مُلحَقٌ (¬2) بالكلب عند مَن يرَى التعليل بالنَّجاسَة مع ضَميمة [مقدمة] (¬3) أُخرَى، وهو تغليبُ المُحرّم على المبيح، ومَن يقول بالتعبُّد أو الظاهِرِ لا يُلحقُهُ به؛ لانتفاء الاسم، والله أعلم. التاسعة والعشرون: هاهُنا مرتبةٌ دونَ الَّتِي قبلَها، وهي أنَّ الحكمَ معلَّقٌ بولوغ الكلب، فَهلْ يُلحَقُ به الخنزيرُ في هذا الحُكم؛ أعني: الغسلَ سبعاً؟ فيهِ اختلافٌ محكيٌ عن مالك والشَّافِعي، رحمة الله عليهما (¬4). وبعضُ الشَّافِعية - رحمهم الله - لا يثبِتُ القولَ بعدم الإلحاق، ومَن أثبته - أو بعضُ من أثبته - منهم نسبَهُ إلى القديم، وذكر المُزَنِيُّ عن الشَّافِعي - رحمة الله عليهما -: أنَّهُ احتجَّ بأنَّ الخنزير أسوأ حالاً من الكلب (¬5)، فقاسه عليه، وقرَّرَ كونَ الخنزير أسوأَ حالاً بوجهين: ¬

_ (¬1) "ت": "الكلب ". (¬2) "ت" زيادة: "وغيره". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 524)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 178). (¬5) انظر: "الأم " للإمام الشافعي (1/ 6). وقال الإمام أحمد: هو شر من الكلب. انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 204).

أحدُهُما: أنَّ نجاستَهُ بالنَّصّ، والكلبُ نجاستُه (¬1) بالاستدلال. والثاني: أنَّ تحريمَ الانتفاع بالخنزير عامّ، وبالكلب خاصٌّ (¬2). والأول ممنوعٌ؛ أعني: [أن] (¬3) نجاسةَ الخنزير بالنص، والذِي استدلَّ به على هذا، قولُهُ تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، بناءً على أن المرادَ بلحم الخنزير هو جملةُ الخنزيرِ؛ لأنَ لحمَه قد دخل في عموم الميتة، فكان حمله على الجملة أَولَى من حمله على (¬4) التكرار (¬5)، فيقال عليه: إنَّ حملَهُ على ما ذكرتَ يلزَمُ مِنهُ مجازُ إطلاقِ لفظِ البعضِ على الكلِّ. واعلم أنَ إلحاقَ الخنزير بالكلب قويٌّ على مذهب مَن يرَى التعليلَ بالإبعاد بناءً على هذين الوجهين؛ لأنَّهما يثبتان زيادةً فيما جعلَ علةً، وهو الإبعاد، فيكون من باب ثبوت الحكم فيما هو أَولَى بالعِلَيَّة، ولا يساوي ذلك إلحاقه على التعليل بالنَّجاسَة؛ لأنَّ زيادةَ الإبعاد ليست قوةً فيما جُعِل عِلَّةً، وإنَّما يُنْقَلُ (¬6) إلى ذلك بطريق خارجٍ تتجاذبُهُ النظرُ، والخمرُ مبعد ممنوعٌ مِن اتخاذها، ولم يلزم غسل ¬

_ (¬1) "ت": "ونجاسة الكلب". (¬2) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 315). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "تفسير القرطبي" (2/ 233)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (4/ 674). (¬6) "ت": "ينتقل".

الثلاثون

الإناء منها سبعاً، وأيضاً فإنَّ مُطلَق النَّجاسَة ليسَ هو العلَّةُ، بل لا بُدَّ من مقدار زائد عليه، وذلك القدرُ (¬1) بالنسبة إلى الخنزير قد لا يظهر كلَّ الظهور، وأيضا فاعتبارُ العدد المخصوصِ مع ما فيهِ من استعمال التّرابِ بخصوصِهِ، أمَّا حقيقةُ التعبّدِ أو القربُ من التعبّد، فلا يقوَى الإلحاقُ كلَّ القوة على التعليل بالنَّجاسَة. وقد يقال أيضاً - على التعليل بالإبعاد -: إنَّ العلَّةَ إبعادُ ما كانوا يتَّخذونه لما فيهِ من المنافع الَّتِي ليست في الخنزير، فشُددَ عليهم فيهِ، فلا يقاسُ الخنزيرُ به. وأمَّا مَن (¬2) ذهب إلى (¬3) التعبّد، فعدم إلحاق الخنزير أظهر، ومالك - رحمه الله تعالى - يقول بالتعبُّد، وله قول بإلحاق الخنزير بالكلب، وهذا يلتفت على (¬4) ما قدَّمْناه من البحث في مسألة إلحاقِ وقوع الكلب في الإناء بالولوغ فيه، وأنَّ ذلك لا يُنافي التعبُّدَ. الثلاثون: الحكمُ إذا عُلِّقَ بشيءٍ (¬5) لمْ يثْبُتْ إلا بحقيقة ذلك الشيء، وتيقُّنِ وجود ما عُلِّقَ الحكمُ عليه، فإنْ وقع شَكٌّ متساوي الطرفين فلا ثبوتَ، كما إذا ولغ حيوانٌ، ولم يتَحَقَّقْ كونُهُ كلباً، ¬

_ (¬1) في الأصل: "المقدر"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "ما". (¬3) "ت": "إليه من". (¬4) "ت": "إلى". (¬5) "ت": "على شيء".

الحادية والثلاثون

لا يجب غسلُهُ، إلا أن يذهبَ [إليه] (¬1) مَن يرَى الاحتياطَ عند الشَّكِّ. الحادية والثلاثون: وكذا لو تحقَّقَ كونُهُ كلبًا، ولم يَتَحَقَّقِ الولوغُ، كما لو أدخلَ فمَهُ في الإناء، ثمَّ أخرجه، ولم تقمْ قرينة على ولوغه مثلُ ابتلالِ فمه. الثانية والثلاثون: فإن وقعت قرينةٌ مُغلِّبةٌ للظنِّ بولوغه، فَهلْ تُجعَلُ كالتحقيق، فيترتَّبُ (¬2) عليها الحكمُ، أو لا؟ ومثاله: ما إذا أدخل فمه في الإناء، ثمَّ أخرجه مُبتلاً، فقد حكَى القاضي أبو الحسن الماوردي الشَّافِعي وجهين: أحَدُهُما: أنَّهُ نجسٌ؛ لأنَّ رطوبةَ فمه شاهدةٌ على ولوغه، فصار كنجاسةٍ وقعت في ماءٍ كثير، ثمَّ وُجِدَ مُتغيِّراً، ولم يُعلَم هلْ تغيَّر بالنَّجاسَة أو غيرها (¬3)؛ حُكِمَ بنجاستِهِ تغليباً لتغيُّرِه بها. والوجه الثاني: [قال:] (¬4) وهو الأَصَحُّ: أنَّ الماءَ طاهرٌ؛ لأنَّ طهارتَهُ يقين، ونجاستَهُ شَكٌ، والماء لا يَنجُس بالشكِّ، وليست رطوبةُ فَمِه شاهداً قاطعا لاحتمالِ أن يكونَ من لُعَابه، أو من ولوغه في غيره، وليسَ كالنَّجاسَة الواقعة في الماء؛ لأنَّ لوقوع النَّجاسَة ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "فيرتب". (¬3) "ت": "بغيرها". (¬4) زيادة من "ت".

الثالثة والثلاثون

تأثيراً في الماء (¬1). فيقال عليه: إنْ أردتَ باليقين ما لا احتمالَ فيه، فلا نسلِّم أنَّ نجاستَهُ في الصورة المذكورة شَكٌّ بل ظاهر، وإنْ [أ] ردتَ ما فيهِ احتمال، فلا نسلِّمُ أنَّهُ لا تَثبتُ النَّجاسَة إلا بيقين لا احتمالَ فيه، بل يكفي فيهِ غلبةُ الظن بالأمارة، [كما في مسألةِ الماءِ المتغيِّرِ بعد وقوع النَّجاسَة فيهِ] (¬2). الثالثة والثلاثون: هذا الَّذِي ذكرناه أمرٌ يَتَعَلَّقُ بتحقُّقِ ما عُلِّقَ الحكمُ به، وهو الولوغ، وأنَّ غلبةَ الظنِّ بالولوغ، هلْ تجري مجرى تحقُّقِ الولوغ، أم لا؟ ومن هذا القبيل إخبارُ العَدْلِ عن الولوغ في الإناء، فإنَّهُ يجري مَجرَى اليقين لوجوب قَبول خبرهِ، فيثبتُ الولوغ، فيترتَّبُ الحكم. الرابعة والثلاثون: إذا جعلنا إخبارَ العدل عن ولوغ الكلب في الإناء كتحقُّقِ (¬3) الولوغ، فلو كانَ له إناءان، فأخبرَهُ مَن يَسكنُ إلى خبرة أنَّ كلباً ولغ في الأكبر منهما دونَ الأصغر (¬4)، وأخبره آخرُ ثقة أنَّ كلباً ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 315). (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "تحقق". (¬4) "ت": "في الأصغر منهما أو في الأكبر".

الخامسة والثلاثون

ولغ في الأصغر دون الأكبر (¬1)، قال الشَّافِعيُّ - رضي الله عنه -: كان والغاً فيهما جميعاً؛ لأنَّهُ قد يرَى كلُّ واحد منهما ما غفَلَ عنه الآخرُ، ويلزم من كونه والغًا فيهما وجوبُ الغسل [فيهما] (¬2) لاندراجِهِ تحتَ اللَّفظ، والله أعلم (¬3). الخامسة والثلاثون: أخبره مَن يثقُ بخبره أنَّ هذا الكلبَ بعينه وقع في إنائه هذا في وقتِ كذا في يومِ كذا، وشَهِدَ عندَهُ عَدْلان أنَّ ذلك الكلبَ بعينه كان في ذلك الزمان ببلدٍ آخر، قال الماوَرْدِيّ: فقد اختلفَ أصحابُنَا في حكم الإناء على وجهين: أحَدُهُما: أنَّهُ طاهر؛ لأنَّ الخبرين [قد] (¬4) تعارضا، فسقطا، ووجب الرجوعُ إلى حكم الأصل. والوجه الثاني: أنَّ الماءَ نجس؛ لأنَّ الخبرَ الأولَ موجبٌ للنجاسة، والشهادةُ المعارضةُ له محتملة؛ لأنَ الكلابَ قد تَشْتَبِه (¬5). وهذه المسائلُ الَّتِي ذكرناها في تحقُّقِ ولوغ الكلب ترجع إلى ¬

_ (¬1) "ت": "في الأكبر دون الأصغر". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 237). (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 316).

السادسة والثلاثون

[تحقُّقِ] (¬1) كونه كلبًا، أو تحققِ كونه والغاً إلى اللفظ، ويرجع [عند] (¬2) عدمِ تحقق ذلك إلى دَلالَة المفهوم؛ لأنَّ الحكمَ معلَّقٌ (¬3) بولوغ الكلب، وهو تعليق بصفة، فيدلُّ على (¬4) انتفاء الحكم عندَ انتفاء تلك الصفة، وانتفاءُ تلك الصفة إمَّا بانتفاء ولوغ ما تحقَّقَ كونُهُ كلباً، أو بانتفاء تحقُّقِ كويهِ كلباً؛ لأنَّهُ إذا انتفَى تحقُّقُ كونِه كلبًا، فقد انتفى ولوغُ ما هو كلب حقيقةً، أو وُجِدَ ما يتَسَاوَى (¬5) مع انتفائه (¬6) في الحكم وهو عدم التحقُّق، والبحث الَّذِي في هذهِ المسائل، إنَّما هو في تحقُّقِ (¬7) الولوغ، وفي تحقُّقِ (¬8) كونه كلباً، فإذا تحقَّقَ ذلك بدليلٍ دخلَ تحتَ الاستدلال [بالحديث لفظًا، وإن لمْ يتحقَّقْ دخلَ في الاستدلال به مفهوماً] (¬9). السادسة والثلاثون: الغسلُ المأمورُ به يُحمَلُ مطلقُهُ على الغسل ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) ت ": "تعلق". (¬4) في الأصل: "إلى"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "يساوي". (¬6) "ت": "انتفاءه". (¬7) "ت": "تحقيق". (¬8) "ت": "أو تحقيق". (¬9) ما بين معكوفتين جاء في "ت": "إما لفظاً أو مفهوماً".

السابعة والثلاثون

بالماء، كما حُمِلَ (¬1) مُطلَقُ قوله تعالى: {فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وغيرِه على ذلك، وقد صرَّحَ به بعضُهم هاهُنا، وقال: المعنى: فليغسلْهُ بالماء. السابعة والثلاثون: اختلفوا في هذا الأمر، هلْ هو على الوجوبِ، أم [لا]؟ فظاهرُ الأمر الوجوب، وبه قال الشَّافِعي - رضي الله عنه - (¬2)، وعن مالك - رضي الله عنه - قولٌ يحمِلُ (¬3) على الندب (¬4)، ويمكن توجيهُهُ بأنَّ الأمرَ يُصرفُ عن ظاهره إلى الندب بقرينةٍ، أو أمر خارجٍ، فيُجعَلُ (¬5) قيامُ الدليل عندَه على طهارة الكلب سبباً لصرفه (¬6) عن الظاهر. الثامنة والثلاثون: اختلفوا هلْ هذا الأمر تعبُّدِيٌّ لا يُعقَلُ معناه، أو مُعلَّل؟ والَّذِين (¬7) علَّلوا اختلفوا في العلَّة، فقيل: النَّجاسَة، وقد قدَّمْنا أنَّهُ لا ينبغي أنْ يعلَّلَ بمُطلَقِ النَّجاسَة، بل بما هو أخصُّ من ذلك، ¬

_ (¬1) "ت": "يحمل". (¬2) انظر "الأم" للإمام الشافعي (1/ 6). (¬3) "ت": "يحمله". (¬4) انظر: "المدونة الكبرى" (1/ 5)، و"التمهيد" لابن عبد البر (18/ 269). (¬5) "ت": "ويجعل". (¬6) "ت": "يصرفه". (¬7) "ت": "فالذين"

و [قد] (¬1) قيل: العلَّةُ القذارةُ؛ لاستعمالِ (¬2) النجاسات، وعلى هذا فالسبعُ تعبُّدٌ؛ لأنَّ القذارةَ لا تقتضي هذا العددَ المخصوص، وهذا هو البحث الَّذِي ذكرناه فيما تقدَّمَ في الاستدلال على نجاسة عينه، وقيل: علَّتُهُ أنَّهم نُهوا عن اتخاذه فلم ينتهوا، فغُلِّظ عليهم بذلك، ومنهم من ذهب إلى أنَّ ذلك معلَّلٌ بما يتَّقَى منْ أنْ يكونَ الكلبُ كَلِباً (¬3)، وذكر أنَّ هذا العددَ - السبعَ - قد جاء في مواضعَ من الشرع على جهة الطبِّ والتداوي، كما قال: "مَنْ تصبَّح كلَّ يومٍ بسَبع تَمَرَاتٍ من عَجْوَةِ المدينةِ لمْ يضرَّه ذلك اليومَ سُمٌّ [ولا سِحْرٌ] " (¬4) (¬5)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في مرضِهِ: "أهْرِيقُوا عليَّ مِنْ سَبع قِرَبٍ لمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ" (¬6)، ومثلُ هذا [كثيرٌ] (¬7). وأُورِدَ على هذا أنَّ الكلبَ الكَلِبَ لا يقرَبُ الماء، وانفصل بعضُ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "لاستعماله". (¬3) أي: مصاباً بداء الكَلَبِ. (¬4) سقط من "ت". (¬5) رواه البخاري (5130)، كتاب: الأطعمة، باب: العجوة، ومسلم (2047)، كتاب: الأشربة، باب: فضل تمر المدينة، من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬6) رواه البخاري (4178)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬7) سقط من "ت".

العارفين بالطب عن ذلك بأنَّ ذلك لا يكون إلا في حالةِ تَمكُنِ [ذلك] (¬1) الداء، وأما في مبادئه فيقرَبُ الماء ويشربُهُ، انتهى محصول ما ذكروا (¬2) (¬3). أمَّا (¬4) القولُ بالتعبُّد، فيَرِدُ عليه ندرتُهُ بالنسبة إلى معقوليَّةِ المعنى، والأمرُ بالغسل إبعادٌ للمغسول قبلَ الغسل، فيقتضي ظاهرُهُ تنجيسَهُ، وقد استدلُّوا على نجاسة المَذْيِ بالأمر بغسله، وعلى نجاسة المني بذلك أيضاً عند مَن يقولُ بنجاسته. والمالكيةُ استدلوا على كونه تعبُّدًا بأمرين: أحدُهُما: دخولُ عددِ السبعِ فيهِ، ولو كان للنجاسة اكتُفِيَ فيهِ بمرَّةٍ واحدة. والثاني: جوازُ أكلِ ما صادَهُ الكلبُ من غيرِ غسل. وزاد بعضُهُم وجهاً ثالثاً: وهو دخول التراب، وقال: غسلُ النَّجاسَة لا مَدخلَ للتراب فيه (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "ذُكِر". (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 539 - 540). (¬4) "ت": "فأما". (¬5) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 540).

فأما دخولُ عدد السبع، فالاستدلالُ به على التعبُّد (¬1) ينبني على قاعدة سنذكرها عقيبَ هذه المسألة، إن شاء الله تعالى. وقوله: لو كان للنجاسة لَاكتُفِيَ فيهِ بمرة، يمنعه الخصْم، ويُحيلُ زيادةَ العدد على زيادة الغِلَظ (¬2) في نجاسة الكلب. وأمَّا وجهُ دخولِ التراب [فيه] (¬3): فيتعذَّرُ عليه الاستدلالُ به، مع كونه لا يقول به، فكيف يكون منشأُ القول بالمذهب أمراً لا يقولُهُ صاحبُ المذهب؟! وأما بقيَّةُ المعاني: فمَن علَّل أنَّهم (¬4) نُهوا فلم ينتهوا، فغُلِّظ عليهم بذلك، فلا بُدَّ [له] (¬5) من إثبات هذا، وأنَّ النهيَ تقدَّمَ، ولم (¬6) يقع الانتهاء، وأمرَ بالغسل ليفيد (¬7) التغليظ، وهذا بعيدُ الثبوت، ولا يُكتَفَى في إثبات الأمور الَّتِي يُدَّعَى وقوعُها في الماضي بالمناسبة؛ لأنَّ طريقَ ذلك إنَّما هو النقل. ¬

_ (¬1) "ت": "على التعبد به". (¬2) "ت": "التغليظ". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "بأنهم". (¬5) سقط من "ت". (¬6) في الأصل: "ومن"، والتصويب من "ت". (¬7) "ت": "لقصد".

التاسعة والثلاثون

وأما أمر التداوي، فهو معنى مُزاحِم للتعليل به، وما استشهدَ به من أمرِ السبعِ في التَّداوي فقرينةٌ تمسَّك بها، وليست بالقوية. والصوابُ - إن شاء الله تعالى - إجراءُ اللَّفظِ على العموم، وعدمُ تخصيصِهِ بالمعاني الَّتِي ليسَ فيها إلا المناسبة، [و] (¬1) لا سيَّما إن كانت المناسبة ليست قويةَ المرتبة (¬2)، وما كان في معنَى [المعنى] (¬3) المنصوصِ [عليه] (¬4) قطعاً - أو بظن غالبٍ - قويَ الإلحاقُ به، لا بمجرَّد المناسبة المُزاحمَةِ (¬5) بغيرها. التاسعة والثلاثون: الحكم إذا عُلِّقَ بشيءٍ معيَّنٍ على أقسامٍ، منها ما لا يُعقَل معناه في أصلِهِ وتفصيلِهِ، ومنها ما يُعقل فيهما (¬6)، ومنها ما يُعقَل معناه في أصله، ويتعلَّقُ الأمرُ بشيء من تفصيله لمْ تتحقَّقْ فيهِ التَّعبّديةُ ولا عدمُها. فأمَّا ما عُقِلَ المعنى فيهِ مطلقاً: فيتبع ويُقَاس على المنصوص عليه ما هو في معناه عند (¬7) القائلين بالقياس إلا لمعارض، وهذا مثلُ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "الرتبة". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "للمزاحمة". (¬6) في الأصل: "ومنها ما لا يعقل فيها"، والمثبت من "ت" و "ب". (¬7) في الأصل: "وعند" والمثبت من "ت".

تعيين الأحجار في الاستجمار؛ فإنَّهُ فُهِمَ مِنهُ أنَّ المقصودَ إزالةُ النَّجاسَة جزما، فلم يقتصروا فيهِ على الأحجار، وعَدُّوهُ إلى (¬1) ما في معناها (¬2) بالنسبة إلى الإزالة من الخَزَف والخِرَق. وأمَّا ما لمْ يُعقَل فيهِ المعنى أصلاً وتفصيلاً: فيُمثَّلُ بالحكم المعلَّقِ بالأحجار في رمي الجمار على ما هو المشهورُ من أنَّ ذلك تعبُّدٌ لا يعقَلُ معناه، فلم يُعدُّوه إلى غيره، واقتصروا على ما يُسَمَّى حجراً؛ لأنَّ شرطَ القياس معقوليةُ المعنى، وتعيينُ العِلِّة لتعدي (¬3) الحكم بسببها إلى ما وُجِدَت فيه. وأمَّا ما عُقِل أصلُ معناه، وورد [أمرٌ في] (¬4) تفصيلِهِ: فيمثَّلُ بإزالة النَّجاسَة بالماء؛ فإنهُ عُيِّنَ الماءُ فيها على مُقتضَى ما رَووه من الحديث، وأصلُ (¬5) المعنى معقولٌ جزماً، و [هو] (¬6) طلب إزالة النَّجاسَة، لكنْ تعلَّقَ الأمرُ بالماء (¬7)، فَهلْ يقال: الأصلُ اتِّباع اللفظ وما عُلِّق به الحكمُ إلى أنْ يتبيَّنَ أنَّ التعيينَ لِمَا عُيّن غيرُ مُراد، أو يقال: لمَّا ¬

_ (¬1) في الأصل: "على" والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "معناه" والتصويب من "ت". (¬3) "ت": "ليعدى". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "فأصل". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) في الأصل "بها" بدل "بالماء"، والمثبت من "ت".

الأربعون

فهمنا (¬1) أصلَ المعنى لمْ يخرج عنه، حتى يتبيَّن التَّعبُّد؟ هذا محلُّ نظرٍ، والَّذِي نحن فيهِ من هذا القَبيل، فإنَّ السبع، إن لمْ يظهرْ فيها بعينها معنى، فقد ظهر عند القائلين بالتنجيس أصلُ المعنى، وهو [إزالة] (¬2) النَّجاسَة، فإذا قالوا بالتَّعبُّد في هذا التفصيل؛ أعني: في السبع، لمْ يلزم مِنهُ اطِّراحُ أصل المعنى الَّذِي ثبت عندهم، وأصلُ هذا: أنَّ القولَ بالتَّعبُّد على خلاف الغالب، فيكون على خلاف الأصل، فيُقتَصَرُ فيهِ على محل النَّصِّ؛ لأنَّ ما كان على خلاف الأصل يتقيَّدُ (¬3) بقدر الضرورة (¬4). الأربعون: هلْ يجبُ هذا الغسل على الفور، أو عند إرادة الاستعمال؟ مَن قَصَرَ الأمرَ على التَّعبُّد، فيناسبُهُ إيجابُهُ على الفور، وفي كلام بعض المَالِكيَّةِ بناءُ ذلك على أنَّ الأمرَ المُطلَقَ، هلْ يقتضي الفورَ؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فهما" والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "يتقدر". (¬4) في الأصل: "لأنَّ ما كان على خلاف الأصل فيقتصر فيهِ على محل النص؛ لأن ما كان على خلاف الأصل يتقيَّدُ بقدر الضرورة"، ولاشك أنَ فيه تكرار نسخ بعض الكلام خطأً.

الحادية والأربعون

وأنَّهُ إذا لمْ يقلْ بذلك جاز التأخير، هذا معنى قوله (¬1). وهو مُعترَض؛ لأنَّهُ إذا لمْ يقلْ بأنَّ الأمر المُطلَق على الفور، لمْ يلزم مِنهُ انقطاعَ دَلالَةِ هذا الأمر على الفور من حيثُ إنَّهُ أمرٌ مطلق، وقد يدلُّ عليه من غير هذا الوجه، وهو (¬2) التعقيب الَّذِي تدل عليه الفاء، [والظرفية الَّتِي تدل عليها "إذا"، مع أن العاملَ فيها الفعلُ الَّذِي بعدها [في لفظ بعض الروايات] (¬3)، فيقتضي الأمرُ بالغسل المذكور عند الولوغ، فيخرج عنه ما لا يمكن اعتبارُه، وهو حالة الولوغ تحقيقاً، ويبقى فيما عداه بحسب الإمكان، والمشهور من مذهب المَالِكيَّة: أنه لا يؤمر إلا عند قصد الاستعمال، وأمَّا من قال بالتنجيس، فالأمر ظاهر [في ذلك] (¬4). الحادية والأربعون: في غسلِهِ بالماء المولوغ فيهِ خلافٌ عند المَالِكيَّة، ذكَرَه (¬5) بعضُ مُتأخِّريهم، وهو قَريبٌ على القول بالتَّعبُّد، مُحالٌ على القول بالنَّجاسَة؛ أعني: نجاسةَ الماء (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 102)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 178). (¬2) "ت": "وهذا". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت"، وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 178). (¬5) في الأصل و "ب": "ذكر"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 101).

الثانية والأربعون

الثانية والأربعون: الضميرُ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يغسلُهُ سبعاً" (¬1) عائدٌ إلى الإناء؛ أعني: ضميرَ المفعول، والإناءُ حقيقةٌ في جملتِهِ، وقد لا يقعُ الولوغُ فيما يعمُّ الإناءَ، بلْ يَختصُّ بما يلاقي بعضَ الإناء، فَهلْ يُقال: إنَّما يَغسِلُ ما لاقَى الشيءَ الَّذِي حصل فيهِ الولوغُ، أو يقال: يغسل جميعَ الإناء؟ أمَّا مَن قال: إنَّ الغسلَ للنجاسة أو القذارة، فلا شَكَّ أنه لا يقول إلا بالغسل (¬2) فيما لاقاه الولوغُ، وأمَّا مَن قال بالتَّعبُّد، فيلزمُهُ أنْ يقولَ بغسل جميع الإناء، ما لاقَى الولوغ وما لمْ يلقه (¬3)، عملًا بحقيقة لفظة (¬4) (الإناء)، فإنْ استكرَهْتَ هذا فتَأْنَسُ بما قالَهُ المغاربةُ من المَالِكيَّة: إنَّهُ يغسلُ جميعَ الذكر من المذي عملًا بحقيقة لفظة (¬5) (الذكر)، وانطلاقِها (¬6) على الجملةِ (¬7)، هذا مع كون المعنى معقولاً قطعاً في غسل ما لاقى المذي، وأنَّهُ للنجاسة، وإنْ لمْ يقلْ هذا ¬

_ (¬1) "ت": "فليغسله" بدل "يغسله سبعًا". (¬2) "ت": "بالغسل إلا". (¬3) "ت": "يلاقه". (¬4) "ت": "لفظ". (¬5) "ت": "لفظ". (¬6) "ت": "وإطلاقها". (¬7) انظر: "المدونة الكبرى" (1/ 12)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 285).

الثالثة والأربعون

الذاهب إلى التَّعبُّد بغسل الإناء كلِّه، واقتصر على الغسل فيما يلاقي، [عكَّر] (¬1) عليه في هذا (¬2) القولُ بالتَّعبُّد، وذلك بأنْ يُقالَ: لو كان تعبُّدًا لما اختصَّ بمحلِّ الولوغ، لكنْ يختصُّ، فليسَ بتعبُّد، وحينَئذٍ يحتاج إلى الجواب عن هذا، وهذا الكلامُ يجري في غسل ظاهر الإناء. الثالثة والأربعون: يُؤخَذُ مِنهُ الأمرُ بالعدد المخصوص، وهو السَّبع، وذلك يقتضي أنْ لا يقعَ الامتثالُ بما دونَها، والحنفيَّةُ يخالفون فيهِ، ولا يقولون بتعيينِ السبع، ويقال من جهتهم في الاعتذار عن هذا الحديث [وجوه] (¬3): الأول: مخالفةُ [حديث] (¬4) أبي هُرَيرَةَ في فتواه، ذكرَ الطحاويُّ رحمه الله في "شرح الآثار" عن أبي نعيم، ثنا عبد السلام بن حرب، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هُرَيرَةَ في الإناء يلغ فيهِ الكلب أو الهرة (¬5)، قال: يُغسَلُ ثلاثَ مرات (¬6). قال الطحاوي: فلما كان أبو هُرَيرَةَ قد رأى أنَّ الثلاثةَ تطهِّرُ الإناءَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل و"ب": "هذا في"، والتصويب من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "الهر أو الكلب". (¬6) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 23)، ورواه الدارقطني في "سننه" (1/ 66) من طريق عبد الملك عن عطاء، به، وإسناده صحيح، كما قال المؤلف في "الإمام" (1/ 264).

من ولوغ الكلب فيه، وقد رَوَى عن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا، ثبت بذلك نسخُ السبعِ؛ لأنَّا نحسنُ الظنَّ به، ولا نتوهَّمُ عليه أنَّهُ يترك ما يسمعه (¬1) من النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا إلى مثله، وإلا سقطت عدالتُهُ، فلم (¬2) يُقبَلْ قولُه وروايتُه. الثاني: المعارضةُ برواية عبد الوهاب بن الضحاك، عن إسماعيل بن عيَّاش، عن هشام بن عروة، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُرَيرَةَ، عن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - في الكلب يَلَغُ في الإناء: "أنْ يغسلَهُ ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا" (¬3). وجهُ الدليل: أنَّ السبعَ لو كانت واجبةً لمْ يخيَّرْ بينها وبين الثلاث. الثالث: إلزامُ (¬4) الخصم القائل بالسبع أنْ يغسلَ سابعةً بالتراب، ¬

_ (¬1) "ت": "سمعه". (¬2) "ت": "ولم". (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 65)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 74). قال الدارقطني: تفرد به عبد الوهاب عن إسماعيل وهو متروك الحديث، وغيره يرويه عن إسماعيل بهذا الإسناد: "فاغسلوه سبعًا"، وهو الصواب. وقال البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 240): وهذا - أي: الإسناد - ضعيف بمرة؛ عبد الوهاب بن الضحاك متروك، وإسماعيل بن عياش لا يحتج به خاصة إذا روى عن أهل الحجاز، وقد رواه عبد الوهاب بن نجدة، عن إسماعيل، عن هشام، عن أبي الزناد: "فاغسلوه سبع مرات" كما رواه الثقات. (¬4) "ت": "إزالة".

وثامنةً بالتراب، لحديث عبد الله بن المُغفَّلِ الَّذِي فيهِ: "وعفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بالتُّرَابِ" (¬1). قال الطَّحاويُّ: فكان ينبغي لهذا المخالفِ لنا أنْ يقولَ: لا يَطهُرُ الإناءُ حتَّى يُغسَلَ ثماني مرات [الثامنةُ] (¬2) بالتراب (¬3)؛ ليأخذَ بالحديثين جميعًا؛ يعني: أنَّ أحدَ الحديثين يقتضي أن تكونَ السابعةُ بالتراب، والآخرُ يقتضي أن تكونَ الثامنةُ (¬4) بالتراب، وهو زائدٌ على الأول، قال: [فإن] (¬5) تركَ حديثَ عبد الله بن المغفل (¬6) فقد لزِمَهُ ما ألزمَ (¬7) خصمَهُ في ترك السبع الَّتِي (¬8) قد ذكرنا. الرابع: الاستدلالُ بحديث أبي هُرَيرَةَ في الأمر بغسل اليدِ قبلَ إدخالها في الإناء ثلاثًا (¬9)، وما في معناه، بناءً على أنَّ ذلك للطهارة من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (280)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في المطبوع من "شرح معاني الآثار" (1/ 23): " ... . حتى يغسل ثماني مرات، السابعة بالتراب، والثامنة كذلك". (¬4) في الأصل و"ب": "ثامنة"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل "مغفل"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬7) "ت": "لزم". (¬8) "ت": "الذي". (¬9) رواه البخاري (160)، كتاب: الوضوء، باب: الاستجمار وترًا، ومسلم (278)، كتاب: الطهارة، باب: كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. إلا أن البخاري لم يذكر العدد.

البول؛ لأنَّهم كانوا يتغوَّطون [ويبولون] (¬1) ولا يستنجون بالماء، فأمرهم بذلك إذا قاموا من نومهم؛ لأنَّهم لا يدرون أينَ باتت أيديهم من أبدانهم، وقد يجوز أن تصيبَ ذلك فتنجس، فأُمِروا بغسلها ثلاثًا، وكان ذلك لطهارتها من الغائط والبول إن كانَ أصابَهُما، وهما أغلظُ النجاسات، فما دونهَما أحرَى أن يطهُرَ بالثلاث. الخامس: ما نُقِلَ عن بعضهم: أنَّ هذا إنَّما كان إذْ أمرَ بقتل الكلاب، فلمَّا نهَى عن قتلها، نُسِخَ ذلك. السادس: ما نُقِلَ عن بعضهم أيضًا: أنَّهُ كان ذلك على وجه التغليظ. السابع: التأويلُ بحمل الأمر بالسبع على مَنْ غلب على ظنِّهِ أنَّ نجاسةَ الولوغ لا تزولُ بأقلَّ من السبع (¬2). الثامن: حملُ السبعِ على الاستحباب، والثلاثِ على الإيجاب لفتوى أبي هُرَيرَةَ - راويه (¬3) - بالثلاث، ولا يجوزُ أنْ يفتيَ بخلاف ما روَى إلا وهو قد عَقَلَ معنى الرواية وصرفَهَا عن الإيجاب إلى الاستحباب، كما حملْتُم حديثَ ابن عمر على التفرق بالأبدان (¬4)؛ لأنَّ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "لا تزال إلا بالسبع". (¬3) في الأصل: "رواية"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬4) تقدم تخريجه بلفظ: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا".

ابن عمر - رضي الله عنهما - فسَّرَهُ بذلك (¬1). فأمَّا الوجهُ الأول: فالجوابُ عنه فيما ذكروا (¬2)، بيانُ أنَّ مذهبَ الراوي، إذا خالف روايتَهُ لا يمنعُ التمسكَ بها، وقولُ الطحاويِّ رحمه الله تعالى: ثبتَ نسخُ السبعِ، [الجوابُ] (¬3) عنه من وجهين: أحَدُهُما: أنَّهُ لا يلزَمُ [مِنهُ] (¬4) النسخُ لاحتمال مخالفةِ ذلك برأيٍ و (¬5) اجتهاد رآه، فقد يكون اعتقدَ أنَّ الأمرَ بالسبع على الندب، ولا يتعيَّنُ حملُه على النسخ. [و] (¬6) الثاني: لو سلَّمنا أنَّهُ يلزمُ النسخُ، لكنْ عندَهُ، أو في نفس الأمر؟ الأول مُسلَّم، ولكن لا يلزمُ ثبوتُهُ في نفس الأمر؛ لاحتمال مخالفة مجتهدٍ آخرَ سواه في ذلك. والثاني ممنوعٌ، وهو ظاهرٌ، هذا ما نراه من الجواب. وأمَّا البيهقيُّ - رحمه الله - فإنَّهُ سلكَ في الجواب غيرَ هذا، ونحن ¬

_ (¬1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 22) وما بعدها. (¬2) في الأصل: "ذكر"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "أو". (¬6) سقط من "ت".

نذكر ما قال ملخَّصا (¬1)، وذلك من وجوه: الأول: تضعيفُ الرواية، فإنَّه (¬2) لمْ يروِهِ عن عطاء غيرُ عبد الملك، وعبدُ الملك لا يُقبَلُ مِنهُ ما يخالِفُ [فيهِ] (¬3) الثقاتَ، وقد رواه محمَّدُ ابن فضيل عن عبد الملك مضافًا إلى فعلِ أبي هُرَيرَةَ دونَ قوله (¬4). قُلْتُ: عبد الملك قد أخرج له مسلم في "صحيحه"، والثناءُ عليه كثيرٌ (¬5) من جهات، فعن سفيانَ أنه قال فيهِ: ثِقَةٌ (¬6). وقال الترمذيُّ عقيبَ (¬7) حديث الشُّفعة الَّذِي أورده عبد الملك: هو ثِقَةٌ مأمون عند أهل الحديث، لا نعلَمُ أحدًا تكلَّمَ فيهِ غيرَ شعبةَ من أجل هذا الحديث (¬8). وقال عليُّ بن الحسين بن حبان، وجدتُ في كتاب أبي بخط ¬

_ (¬1) في الأصل: "مخلصًا"، والمثبت من "ت" و "ب". (¬2) "ت": "بأنه". (¬3) سقط من "ت". (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 66): أنه كان - أي: أبو هريرة - إذا ولغ الكلب في الإناء أهراقه، وغسله ثلاث مرات. (¬5) "ت": "كثير عليه". (¬6) انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (10/ 395). وانظر: "تهذيب الكمال" للمزي (18/ 322). (¬7) "ت": "عقب" وهو الأصح. (¬8) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 651).

يدِهِ: سُئِلَ [أبو] (¬1) زكريا عن حديث عطاء، عن جابر، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الشُّفعهْ، فقال: هو حديثٌ لمْ يحدِّثْ به إلا عبدُ الملك، عن عطاء، وقد أنكر عليه الناس، ولكنَّ عبدَ الملك ثِقَةٌ صدوق لا يُرَدُّ على مثله (¬2). وقولُ البيهقي رحمه الله: لا يُقبَلُ مِنهُ ما يخالف فيهِ الثقات. قُلْنا: المخالفةُ على وجهين: مخالفةُ معارضةٍ ومناقضة، ومخالفةٌ على غير ذلك، كالمخالفة في الزيادة وتركِها مثلًا، وحيثُ يمكنُ الجمع، [و] (¬3) الَّذِي ذكرَهُ مِنْ مُخالفةِ رواية محمَّد بن فضيل بكونه رواها فعلًا، [ورواها] (¬4) عبد الملك قولًا، ليسَ من قَبيل مخالفة المعارضة والمناقضة، ولا يمتنع الجمعُ بينهما، بأنْ (¬5) فَعَلَ مَرَّة، وقال أُخرَى. الثاني: أنه روى عن أبي هُرَيرَةَ من قوله نحوَ (¬6) روايته عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: فروينا عن حماد بن زيد ومعتَمِر بن سليمان، عن ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (10/ 393). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "فإن"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "يجوز"، والتصويب من"ت".

أيوب، عن محمَّد بن سيرينَ، عن أبي هُرَيرَةَ من قوله، نحو (¬1) روايته عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ثمَّ ذكر من جهة أبي داود رواية المعتمر وحماد عن أيوبَ بالوقف (¬2). فنقول: هذا اختلافٌ في حديث واحد، ورواية أيوب والَّذِي ذكره أبو داودَ من رواية معتمر بالوقف هي روايةُ مسدَّد، عن معتمر مرفوعًا، ذكره الطحاوي من رواية المقرئ، عن المعتمر. وإذا كان اختلافًا في حديثٍ واحد وروايةٍ ترجعُ إلى أصل واحد: فإما أن يَسلُكَ الطريقَ الفقهية، ويخرج ما أمكن الجمع إذا لمْ يقع التعارضُ والتَّنافي. وإمَّا أن يَسلُكَ الطريقَ الحديثية بالتعليل عند الاختلاف في الحديث الواحد. فإنْ سلكَ البيهقيُّ - رحمه الله تعالى - الطريقَ الأول بطَلَ تعليلُهُ السابقُ لرواية عبد الملك لمخالفة ابن فضيل (¬3)، فإنَّهُ اختلافٌ يمكن الجمع فيه، وإن سلك الطريق الحديثية، فإمَّا أن يجريَ على تقديم رَفْعِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يجوز"، والتصويب من "ت". (¬2) رواه أبو داود (72)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الكلب. (¬3) "ت": "ابن حميل"، ثم صوَّب في الهامش: "ابن فضيل".

مَن رفع على وَقْفِ مَن وقف، أو يُعلّلَ روايةَ (¬1) الرفع بالوقف، ويحكُمَ بالوقف، فإنْ قدَّمَ الرفعَ، فالحديثُ واحد ثبت رفعُهُ، فلا يكونُ موقوفًا، فلا يَصِحُّ أنْ يجعلَ مذهبا لأبي هُرَيرَةَ، وإن قدم [الوقفَ على الرفعِ] (¬2) في الحديث الواحد، فهو - مع كونهِ مذهبًا يَرغَبُ عنه هو وغيرُهُ في مواضعَ - يُبطِلُ استدلالَهُ بالحديث، ويمكنه هاهُنا أن يقول: أتمسَّكُ برواية هشام بن حسَّان، عن محمَّد بن سيرين الَّتِي لمْ يُختَلَفْ في رفعها (¬3)، وأرجعُ في رواية أيوبَ إلى الوقف فأثبتُ قولَ أبي هُرَيرَةَ، لكنْ لمَّا كان الكلُّ راجعًا إلى قول محمَّد بن سيرين وروايته [فـ]ــــقد يُجعل حديثًا واحدًا مُختلَفًا فيهِ من أيّ جهة ورد عن ابن سيرين. الثالث: قال البيهقيُّ مُريدًا للطحاوي رحمه الله تعالى: وهلَّا أخذنا الأحاديثَ (¬4) الثابتةَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[في السبع] (¬5)، وبما (¬6) روينا عن أبي هُرَيرَةَ من فُتياه بالسَّبعِ، وبما (¬7) روينا عن عبد الله بن مغفَّل، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو مُحتمِل أنْ يكونَ موافقًا لحديث ¬

_ (¬1) في الأصل: "برواية"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل و"ت": "الرفع على الوقف". (¬3) "ت": "فيها" بدل "في رفعها". (¬4) "ت": "أخذ بالأحاديث". (¬5) سقط من "ت". (¬6) في الأصل: "وربما"، والتصويب من "ت". (¬7) في الأصل: "وربما"، والتصويب من "ت".

أبي هُرَيرَةَ، ولِما تقدَّمَ ذكرُنا له على خطأِ عبد الملك فيما تفرَّدَ به من بين أصحابِ عطاء، ثمَّ أصحابِ أبي هُرَيرَةَ. فنقول: إنَّما ردَّ الأحاديثَ الثابتةَ بناءً على زعمه النسخَ كما تقدم، وما يتعلَّقُ بمخالفة عبد الملك فيما تفرَّد به، فقد أشرنا إلى أنها مخالفةُ زيادةٍ لا مخالفةُ مناقضةٍ وتضادٍّ، وأمَّا مخالفة أصحاب أبي هُريرَةَ، فإن أراد الَّذِين رووه مرفوعًا عنه (¬1)، فلا يُعارَضُ ذلك بما رواه عبد الملك موقوفا، فإنَّ الرافعين أسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعبد الملك ردَّهُ إلى فتوى أبي هُريرَةَ، وإنَّما يُرَدُّ عليه بمثل هذا الَّذِي ذكره البيهقيُّ إذا كان تقديمُ الطحاويّ روايةَ (¬2) عبد الملك [على رواية غيره من جهة تعارض الروايتين، بحيث يَحْكُم للمرجوحة على الراجحة] (¬3)، فأمَّا إذا ثبتت تلك الروايات، ويدَّعِي نسخَهَا بهذه الروايات، فلا تعارضَ فيهِ، وإنْ أراد البيهقيُّ الَّذِي رووه موقوفًا، فقد قدَّمْنا ما فيهِ، وأنه يجبُ أنْ يحكمَ للرافع على الواقف إذا كان الحديث واحدًا على طريقه. الرابع: وقع في كلامه مُريدًا لعبد الملك بن أبي سليمان: ولم يحتجَّ به محمَّد بن إسماعيل في "الصحيح". ¬

_ (¬1) "ت": "رووا عنه مرفوعًا". (¬2) في الأصل: "تقديم رواية الطحاوي على رواية"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

وهذا ضعيف؛ لأنَّهَ تعارضَ (¬1) بتخريجِ مسلمٍ له، وتركُ احتجاجِ البخاريّ لا يعارض ما ذكرناه من [الثناء عليه] (¬2)، وكمْ من حديثٍ يُحتَجُّ به، لمْ يَحتجَّ به الشيخان [برواية] (¬3) في "الصحيحين"، ولم يلتزما إخراجَ حديثِ جميعِ الثقاتِ، وأيضًا فتركُ الاحتجاج به لا يلزم مِنهُ القدحُ فيه؛ لاحتمالِ أن يكون [ذلك] (¬4) لتوقُّفٍ وقع له، وفرقٌ بين الترك للتوقف، وبين الترك لثبوت الجرح. الخامس: قالَ البَيهَقِيُّ رحمه الله تعالَى: وحديثُهُ هذا مُختلَفٌ عليه فيهِ، يُروَى عنه من قول أبي هُرَيرَةَ، ويُروَى عنه من فعله، فكيف يجوز تركُ رواية الحُفَّاظ الثِّقات الأثبات من أوجهٍ كثيرةٍ لا يكونُ مثلُها غلطًا لروايةِ واحدٍ (¬5) قد عُوِفَ بمخالفة (¬6) الحُفَّاظ في بعض أحاديثه (¬7). فيُقَال عليه (¬8): الَّذِي رواه الثقات الأثبات من أوجه (¬9) كثيرة هو ¬

_ (¬1) "ت": "معارض". (¬2) في الأصل: "البناء"، والمثبت من"ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "واحدة". (¬6) "ت": "مخالفة". (¬7) انظر ما أورده المؤلف عن البيهقي: "معرفة السنن والآثار" (1/ 310 - 312). (¬8) "ت": "عامة" بدل "عليه". (¬9) في الأصل: "جهة"، والمثبت من "ت".

الحديث المرفوع، ولم يتركْها الطَّحاوِيُّ لنزاع مِنهُ في صحَّتِها، وإنَّما تركها زاعمًا أنَّ عنده روايةً دلَّتهُ علَى النسخِ، فلو صحَّ له ما ادَّعاه من جهة النظرِ الأصولي لمْ تعارضْهُ تلك الروايات الثابتة، وإنَّما يَتَّجِهُ هذا الَّذِي ذكره البَيهَقِيّ حيثُ يحصل الاختلافُ بين الرواة ويُحتاج إلَى الترجيحِ من جهة الرواة، فيغلب رواية الأضعف علَى الأقوَى (¬1)، والجواب المُتَّجِهُ [ما] (¬2) قدَّمْناه من النزاعِ في القاعدة. وأمَّا ابنُ حزم فإنَّهُ ردَّ روايةَ عبدِ الملك بوجوهٍ: أحدها: أنَّ عبدَ السلام بنَ حربٍ ضعيفٌ. وثانيها: أنَّ رواية عبد السلام بن حرب إنَّما فيها: أنَّهُ يغسلُ الإناء ثلاثَ مرات؛ يريد: أنهم لا يقولون بالثلاثِ. وثالثها: أنَّ الحجةَ في قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لا في قولِ أحدٍ غيره. ورابعها: أنَّهُ لو صحَّ عن أبي هُرَيرَةَ خلافُ ما رَوَى، فقد رواه من الصحابةِ غيرُ أبي هُرَيرَةَ، وهو ابن مغفل، ولم يخالِفْ ما رَوَى (¬3). هذا مُلخَّصُ ما تحصَّلَ من كلامه بعد حذف بعضِهِ وتشنيعٍ مُشَنَعٍ (¬4) به. ¬

_ (¬1) لعل الصواب: فيغلب رواية الأقوَى علَى الأضعف. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 114 - 115). (¬4) "ت": "شنع".

فأمَّا تضعيفُهُ عبدَ السلام بن حرب: فإنَّ البخاريَّ أخرج عنه في "الصحيحِ" ووثَّقَهُ، وقال أو حاتم: ثِقَةٌ، وفي رواية عن يحيىَ بن معين أنَّهُ قالَ: صدوقٌ، وفي رواية: ليسَ به بأسٌ، يُكتَبُ حديثُهُ (¬1). وأمَّا كونهم لا يقولون بالثلاثِ، فإنَّهُ قد (¬2) حكَى المَاوَردِيُّ (¬3): أنَّ بعضَهُم يجعل الثلاثَ استحبابًا، وبعضهم يجعلُهَا واجبًا (¬4). وأمَّا الثالث: فجيِّدٌ. وأمَّا الرابع: فليسَ اعتراضًا، وإنَّما هو احتجاج صحيحٌ في السَّبعِ، ويحتاج إلَى الجوابِ فيما يقتضيه من غسلها ثامنًا (¬5). وأمَّا الوجهُ الثاني: وهو المعارضةُ بحديث عبد الوهاب: [فحاصلُ ما يُقَال فيهِ وجوهٌ: أحدُها: أنَّ عبدَ الوهاب متروك. ¬

_ (¬1) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 47)، و"الثقات" لابن حبان (7/ 128)، و"تهذيب الكمال" للمزي (18/ 66)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 282). (¬2) "ت": "فقد" بدل "فإنه قد". (¬3) في الأصل: "عن الجعبري"، وفي "ب": "عن الخضري"، وقد سقط ذلك من "ت"، وكذا من المطبوع من "الحاوي". (¬4) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 308). (¬5) "ت": "ثامنة".

والثاني: أنَّهُ اختُلِفَ علَى عبد الوهَّاب] (¬1)، فرواه الحسنُ بن سُفيانَ عنه، ومتنه: "إذا ولغَ الكلبُ في إناءِ أحدِكُم، فليغْسِلْهُ سبعَ مرَّاتٍ" (¬2)، وقيل في تلك الرواية: إنَّ راويَها كثيرُ الغلط. الثالث: أنَّ عبد الوهاب بن نجدة رواه عن إسماعيل بن عيَّاش شيخِ عبد الوهاب بن الضحَّاكِ بالإسنادِ وقال: "فاغسلُوهُ سبعَ مرَّاتٍ"، وقال الدَّارَقُطني: إنَّ هذا هو الصحيح (¬3). الرابع: أنَّ الأمرَ فيهِ بالسبع كالأمرِ بالثلاثِ، فلمْ يكنْ حملُ الثلاث علَى الإيجابِ دونَ السَّبع بَأولَى من حملِ السَّبعِ علَى الإيجابِ دونَ الثلاث. الخامس: [أنَّ] (¬4) (أو) تحتمل التَّخييرَ، أو (¬5) الشكَّ من الراوي، فلا يثبتُ التخييرُ. وأمَّا الوجهُ الثالث: وهو إلْزامُ الخصمِ القولَ بحديث عبد الله بن المغفَّل، وأنَّهُ يقتضي إيجابَ غسله ثامنةً بالترابِ مع سابعةٍ بالترابِ: ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) لم أقف عليه من طريق الحسن بن سفيان، عن عبد الوهاب بن الضحاك، به. ولم يذكره المؤلف في "الإمام" (1/ 264) عند ذكر طرق وألفاطُ من روى أقل من سبع فى غسل الإناء من ولوغ الكلب، والله أعلم. (¬3) رواه الداراقطني في "سننه" (1/ 65). (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "و"، والتصويب من "ت".

فإنْ كانَ المقصودُ بهذا الكلام مقابلةَ تشنيعٍ بتشنيعٍ، فهذا قد يقرُبُ في هذا المقصود، وإن كَان المقصودُ به الاعتذارَ عن ترك العمل بالسَّبعِ، فليسَ بشيء؛ لأنَّهُ إمَّا أنْ يكونَ للخصم عذر صحيح أو لا، فإنْ لمْ يكن له عذر صحيح فهو مَلوم في ترك (¬1) العمل به، والآخرُ ملومٌ في ترك (¬2) العمل بالسَّبعِ، فإنْ (¬3) كَان له عذرٌ صحيح ومعارِضٌ راجحٌ فلا لومَ عليه فيهِ، فيحتاجُ خصمُهُ إلَى إبداءِ عُذرٍ ومعارِضٍ راجحٍ، وإلا كان مُنفردًا باللومِ. وأمَّا الوجهُ الرابع: وهو الاستدلالُ بحديث أبي هُرَيرَةَ في المُستيقظِ من نومه: فمَبنيٌّ علَى أنَّ الغائطَ والبول (¬4) أغلظُ النجاسات، والخصمُ يمنعُهُ، ويرَى (¬5) أنَّ نجاسةَ الكلب أغلظُ من نجاسة العَذِرَة والبول، ودليلُهُ علَى ذلك هذا الحديثُ مع الدليل الدالِّ علَى الاكتفاءِ في الغائطِ والبول بدون السَّبع. ¬

_ (¬1) "ت": "بترك". (¬2) "ت": "يترك". (¬3) "ت": "وإن". (¬4) "ت": "البول والغائط". (¬5) في الأصل: "روي"، والمثبت من "ت".

وأمَّا الوجهُ الخامس: فأجاب عنه ابنُ حزمٍ بوجهين: أحَدُهُما: قالَ: دعوَى فاضحة بلا دليلٍ، وقَفْوٌ لما علمَ لقائلِهِ به، وهذا حرام. والثاني: أنَّ ابنَ المغفل رَوَى النهيَ عن قتل الكلاب، والأمرَ بغسل الإناء منها سبعًا في خبرٍ واحدٍ معًا. قالَ: وأيضًا فإنَّ الأمرَ بقتل الكلاب كان في أوَّلِ الهجرةِ، وإنَّما [روى] (¬1) غسلَ الإناء منها سبعًا أبو هُرَيرَةَ وابنُ مغفل، وإسلامُهُما مُتأخِّرٌ (¬2). وأمَّا الوجهُ السادس: وهو وإنْ كَان قُبِلَ مثلُهُ في غير هذا الموضع، فهو قبيح جدًّا؛ لأنَّهُ لا يجوزُ عليه - صلى الله عليه وسلم - أنْ يأمرَ إلا بما هو شرع لله (¬3) واجبُ الطاعة. وأمَّا [الوجهُ] (¬4) السابع: فأُجِيبَ عنه بوجهين: أحَدُهُما: أنَّ نجاسةَ الولوغ ليست عينًا مُؤثِّرَةً فيُرجُعُ في زوال ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 115). (¬3) في الأصل و "ت": "شرع الله"، والمثبت من "ب". (¬4) سقط من "ت".

عينها (¬1) [إلى] (¬2) غلبةِ الظن [بزوالها] (¬3) [منها] (¬4). والثاني: أنَّ ما كان مُعتبرًا بغلبة الظن لمْ يجزْ أنْ يكونَ محدودًا بالشرعِ؛ كالتقويمِ في المُتلَفات. وأمَّا الوجهُ الثامن: فهو خلافُ الظاهرِ، [و] يحتاج إلَى دليلٍ راجح. وأمَّا تفسيرُ الراوي فينقسم قسمين: أحَدُهُما: تفسيرُ مُحتمِلِ اللَّفظِ، فهذا يُقبَلُ فيهِ تفسيرُ الراوي، وعليه حُمِلَ تفسيرُ ابنِ عمر - رضي الله عنهما - للتفريق (¬5) بالأبدانِ. والثاني: نسخٌ أو تخصيصٌ، فلا يقبَلُ؛ كتخصيصِ ابنِ عبَّاس - رضي الله عنهما - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بدَّلَ دينَهُ فَاقْتُلُوهُ" (¬6) في إخراجِ النساء من الجملةِ (¬7)، وحديثُ الولوغِ مُفَسَّرٌ لا يفتقِرُ إلَى تفسيرِ راوٍ، ¬

_ (¬1) "ت": "غسلها". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "للتفرق". (¬6) رواه البخاري (2854)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا يعذب بعذاب الله، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬7) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (28994)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 5)، والدارقطني في "سننه" (3/ 201)، والبيهقي في "السنن =

الرابعة والأربعون

ولا غيره، فوجب حملُهُ علَى ظاهرِهِ. الرابعة والأربعون: هذا العددُ المخصوصُ - وهو السبع - يقتضي (¬1) الخروجَ من العهدةِ به، ومفهومُهُ أيضًا يقتضي عدمَ وجوبِ الزائدِ؛ لأنَّهُ مفهومُ العدد، وبهذا قالَ الأكثرون، وحديثُ عبدِ الله بن المغفل يقتضي غسلَهُ (¬2) ثامنةً، وهو ما خرَّجَهُ مسلم في "صحيحه" عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن ابن المُغفَّل قالَ: أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلِ الكلابِ، ثُمَّ قالَ: "مَا بَالُهم وبَالُ الكِلابِ"، ثمَّ رخَّصَ في كلبِ الصيدِ وكلب الغنم، وقال: "إذَا وَلَغَ الكَلبُ في الإناَءِ فَاغْسِلُوهُ سَبع مَرَّاتٍ، وعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بالتُّرابِ" (¬3)، ونُقِلَ عن الحسنِ أنَّهُ قالَ به (¬4)؛ أعنِي: بالغسلةِ الثامنة، وهو قولٌ [عن] (¬5) أحمد رحمه الله ¬

_ = الكبرى" (8/ 203)، عن ابن عباس قال: لا يقتلن النساء إذا هنَّ ارتددن عن الإسلام. وإسناده ضعيف. (¬1) "ت": "فيقتضي". (¬2) "ت": "غسلة". (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (280). (¬4) وقيل: إنه لم يقل به غيره، ولعل المراد بذلك: من المتقدمين، كما قاله المؤلف رحمه الله في "شرح عمدة الأحكام" (1/ 29). إلا أن الحافظ ابن حجر ذكر في "فتح الباري" (1/ 277) أنه ثابت عنه. وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 266). (¬5) سقط من "ت".

تعالَى (¬1)، ويقوِّي القولَ به بأنَّهُ [يقتضي] (¬2) زيادةً علَى ما في حديثِ أبي هُرَيرَةَ، والأخذُ بالزائدِ مُتَعَيِّن، والاعتذارُ الَّذِي يُعتذَرُ به عنه وجهان: أحَدُهُما: ما نُقِلَ أنَّ الشَّافِعيَّ - رضي الله عنه - قالَ: هو حديث لمْ أقفْ علَى صحَّتِهِ (¬3). والثاني: لو صحَّ لكان محمولًا علَى أحدِ أمرين: إما أنْ يكونَ جعلها ثامنةً؛ لأنَّ الترابَ جنسٌ غيرُ الماء، فجُعِلَ اجتماعُهما (¬4) في المرةِ الواحدة مَعدودًا باثنتين. وإما أنْ يكونَ مَحمولًا علَى مَن نسيَ استعمالَ التراب في السبعِ، فيلزمُهُ أنْ يعفرَهُ ثامنةً. فأمَّا الوجهُ الأول: فعُذرُ الشَّافِعى - رحمة الله عليه -[عنهُ] (¬5) عذر صحيح في حقِّهِ، وأما مَن صحَّ عنده: فلا عذرَ له [عنه] (¬6) من هذا الوجه. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 203). (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 309). (¬4) في الأصل: "اجتماعًا"، والمثبت من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) سقط من "ت".

وأمَّا التأويلان: فمُستكرهان مُخالفانِ (¬1) للظاهرِ مخالفةً ظاهرةً؛ لأنَّ قولَهُ - صلى الله عليه وسلم -: "فَاغْسِلُوهُ سَبع مَرَّاتٍ"، ذِكرُ السبعِ فيهِ لبيانِ عددِ الغسلاتِ الَّتِي دلَّ عليها قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "فَاغْسِلُوهُ". و [قوله] (¬2): "عَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بالتُّرابِ" إمَّا أنْ يُحافَظَ فيهِ علَى معنَى الغَسلةِ كما هو في سبع مرات؛ كأنَّهُ قيل: الغسلةُ الثامنةُ بالترابِ، أو لا، فإنْ حوفظَ علَى ذلك فإلقاءُ (¬3) التُّرابِ في الماءِ لا يُطلَقُ عليه اسمُ الغسلة (¬4)، وإنْ كان التعفيرُ بأنْ يُذَرَّ الترابُ علَى المحلِّ فاللَّفظُ لا يقبلُهُ أصلًا، فإنْ (¬5) لمْ يُحافظْ علَى معنَى الغسلةِ؛ كأنَّهُ قيل: الفَعلةُ الثامنة، فهو أبعدُ أيضًا، فقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "وعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بالتُّرابِ" ظاهرٌ في كونها غَسلةً ثامنةً (¬6)، ومخالفةُ هذا الظاهر إنْ كَان سببُها (¬7) الرواية الَّتِي فيها "السبعُ" فلا معارضةَ بينهما؛ لحصولِ الزيادةِ في هذا الحديثِ. ¬

_ (¬1) "ت": "وأما التأويلات فمستكرهات مخالفات". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "فألقاه"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "غسلة". (¬5) "ت": "وإن". (¬6) نقله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 278). (¬7) في الأصل: "منتهى"، والمثبت من "ت".

وما يُقَال: مِن أنَّ مقتضَى [ذلك الحديث]، (¬1) الإجزاءُ بالسبعِ وذلك مُعارِض لوجوب الثامنة، فهذا مثلُهُ لازِم لِمَن يقولُ بوجوب التتريب؛ لأنَّ الرواياتِ الَّتِي فيها الأمرُ بالسبعِ دونَ التتريب تقتضي الاكتفاءَ بها (¬2) دونَ التراب بغيرِ ما ذكروه، فلو كانَ مثلُ هذا يقتضي نفيَ (¬3) الزائدِ ومعارضتَهُ بما يقتضي إثباتَهُ، لزمَ أنْ لا يجبَ التتريبُ. وإنْ احتُمِلَ تركُ الظاهر وارتكابُ مثلِ هذا التأويل لأجل هذا الَّذِي ذكرناه، فلنْ يَعْدَمَ المَالِكيَّةُ لأجلِهِ تأويلًا مثلَ هذا التأويل - أو أجودَ - في تركِ التتريبِ. والعجبُ من الظاهريِّ في تركِهِ هذا الحديث وعدمِ إيجابه الثامنةَ، والَّذِي قاله في هذا أنْ قالَ: وبلا شَكِّ ندرِي (¬4) أنَّ تعفيرَهُ بالترابِ في أولاهن ثامن إلَى السبعِ غسلات (¬5). فيُقَال له: أتريدُ أنَّ تعفيرَهُ بالترابِ [فعلة ثامنة] (¬6)، أم غسلةٌ ثامنة؟ إنْ قلتَ بالأولِ فصحيح، لكنَّهُ ليسَ هو ظاهرُ اللَّفظ، وسياقُهُ في ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "بما" بدل "بها". (¬3) في الأصل: "ففي"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "يدرى"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 111). (¬6) في الأصل "فعل ثامن"، والتصويب من "ت".

اعتبار معنَى الغسلِ، لا مُطلَقِ الفعل. وإن قُلْتَ: إنَّهُ غسل ثامن فممنوعٌ. وأمَّا التأويلُ [الثاني] (¬1) - وهو حملُهُ علَى مَن نسيَ استعمالَ التراب في السبعِ -: فبعيدٌ جدًّا؛ لأنَّهُ حملُ اللَّفظِ العامِّ الواردِ في (¬2) غير سببٍ خاصٍّ لأجل تأسيسِ قاعدةٍ شرعية علَى أمرٍ نادرٍ عارضٍ، وهو من التأويلاتِ المَردودةِ كما عُرِفَ في فنِّ الأصول، وبه يَرُدُّ (¬3) الشَّافِعيةُ علَى الحنفيةِ في حملِهِم الحديثَ الدالَّ علَى اعتبارِ الولي في النِّكاحِ (¬4) علَى المُكاتِبَةِ. وأمَّا مَا ذَكرَهُ الطَّحاوِيُّ من أنَّهُ يقتضي التتريبَ في السابعةِ عملًا ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "على". (¬3) "ت": "ترد". (¬4) رواه أبو داود (2085)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1101)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه (1881)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، وغيرهم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 156): اختلف في وصله وإرساله، قال الحاكم: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش. قال: وفي الباب: عن علي وابن عباس، ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًا. وقد جمع طرقه الدمياطي منْ المتأخرين. قلت: الحديث صحيح بمجموع الطرق والشواهد.

الخامسة والأربعون

بحديث السبع، وفي الثامنةِ [عملًا] (¬1) بحديث عبد الله بن المغفل (¬2) أخذًا بالزائدِ، فإنْ لمْ يقمْ إجماعٌ علَى عدمِ وجوبِ ذلك، وإلا فهو قولٌ يحتاج إلَى ردّهِ بطريقة. الخامسة والأربعون: لو غَسَلَ الإناء ثلاثًا من الولوغِ، ثمَّ ولغ الكلبُ فيهِ (¬3)، فَهلْ يَغسِلُ سبعًا، أو يُدخِلُ فيها تلك الثلاثَ ويُكْتَفى بأربع؟ الحديثُ يقتضي الغسلَ سبعًا، لأنَّ الغسلَ مُرتَّبٌ علَى الولوغِ، وقد وُجِدَ هاهُنا، فيَتَرتَّبُ (¬4) عليه موجِبُهُ، وهو السبع، والله أعلم. السادسة والأربعون: غَسَلَهُ دونَ السبع، فولغ الكلبُ فيهِ (¬5)، فغسله سبعًا كما ذكرنا، فَهلْ يُكْتَفى بها، وينوبُ عمَّا بَقِيَ من السبعِ الأُوَلِ (¬6)؟ هذا مبنيٌ علَى المسألةِ السابقة، فيما إذا ولغ الكلبُ مرتين، أو ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "وفي الثامنةِ عملًا بحديث السبع، وفي الثامنةِ عملًا بحديث عبد الله ابن المغفل". (¬3) "ت": "فيه الكلب". (¬4) "ت": "فترتب". (¬5) "ت": "فولغ فيه الكلب". (¬6) "ت": "وينوب عن الأربع البواقي في الغسل الأول".

السابعة والأربعون

كلبان في إناء، فإنْ قلنا (¬1) ثَمَّ: يُكتفَى بسبعٍ واحدة، فهاهُنا أَولَى؛ لأنَّهُ إذا نابَ عن كاملٍ، فلأَنْ ينوبَ عمَّا (¬2) دونَهُ أَولَى، فإن قلنا ثَمَّ: لا يُكتفَى، فهاهُنا كذلك، وقد تقدَّمَ في تلك المسألةِ ما يتعلَّقُ باستنادها (¬3) إلَى الحديثِ، وهو هاهُنا جارٍ، لأنَّ بالولوغِ الأول وَجَبَ السبعُ عملًا بالنَّصِّ، وبالثاني كذلك، وإنَّما قيل بالاكتفاءِ بسبع واحدة بناءً علَى تداخل النجاسات في الحكمِ، وذلك أمرٌ خارجٌ عن دلالَة اللَّفظ، فإنْ ثبتَ أنَّ ذلك قاعدةٌ مقرَّرةٌ، فقد يُرجِّحُهُ بعضُ الناظرين علَى الظاهرِ هاهُنا، وليسَ يَليق بمذهب مَن يقول بالتَّعبُّدِ إلا تكرارُ الغسل بتكرار الولوغ؛ عملًا بالظاهرِ من اللَّفظ ومُقتضاه، والله أعلم. السابعة والأربعون: كانَ المحلُّ نجسًا قبلَ الولوغ، ثمَّ طرأ عليه الولوغُ، فغسلَهُ سبعًا، يقتضي - ما ذكروه - الاكتفاءَ بالغسلِ سبعا بناءً علَى تداخل النجاسات في الغسلِ، ويمكن (¬4) أنْ يوجدَ ذلك من قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ (¬5)، أنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا"، فإنَّهُ يقتضي طهارةَ الإناء بالغسلِ سبعًا، وذلك عامٌّ بالنسبةِ إلَى الإناءِ ¬

_ (¬1) "ت": "قلت". (¬2) في الأصل: "عن عما"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "باسنادها". (¬4) "ت": "وهل يمكن". (¬5) "ت": "الكلب فيه".

الثامنة والأربعون

المتنجِّس والإناءِ الَّذِي لمْ يتنجسْ، إلا أنَّهُ ليسَ بذاك القوي؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ المُرادَ طهورُهُ عن ولوغ الكلب؛ لأنَّهُ حكمٌ رُتِّبَ علَى مُناسب له، فيكون المناسبُ علةً، وإذا كان طهورًا عن الولوغِ، لمْ يدلَّ علَى كونِهِ طهورًا عن غير الولوغ. الثامنة والأربعون: إذا كانت النَّجاسَة عينيةً فطرأتْ عليها نجاسةُ الولوغ، كما لو كانت دمًا فوَلَغَ فيها الكلب، وكانت تلك النَّجاسَةُ لا تزولُ إلا بغَسلةٍ أو غسلتين، فغُسِلَت، هلْ (¬1) يُحسَبُ ذلك من السبعِ، أم (¬2) لا؟ فيهِ اختلافٌ عن الشَّافِعية رحمهم الله (¬3)، والكلامُ فيها كما في الَّتِي قبلَها، لكنَّ الحديثَ يقتضي أنَّ الغسلَ عن الولوغِ بسببه (¬4) ترتَّبَ الحكمُ على الوصفِ، وإذا وَجَبَ سبع عن الولوغِ، فالغسلتان الأُوليان لإزالةِ العين لا للولوغ، ووجهُ الاستدلال [به] (¬5) ما ذكرناه من العمومِ في الأولَى، وفيهِ الاعتراضُ المذكورُ وجوابُهُ. ¬

_ (¬1) "ت": "فهل". (¬2) "ت": "أو". (¬3) انظر: "روضة الطالبين" (1/ 32)، و"المجموع شرح المهذب" كلاهما للنووي (2/ 539). (¬4) "ت": "بسبب". (¬5) سقط من "ت".

التاسعة والأربعون

التاسعة والأربعون: لما جاءَ الأمرُ بالعددِ في الغسلات وَجَبَ اعتبارُ ما يُسَمَّى غسلةً ليحصلَ امتثالُ الأمر بغسلها (¬1)، فلو طرح الماء في الإناءِ لمْ يحتسب (¬2) به غسلة حتَّى يُفرِغَهُ مِنهُ، هكذا قالَ بعضُهم، وعلَّله بأنَّهُ العادةُ في غسله، وينبغي أنْ يقولَ: حتَّى يتفرَّغَ مِنهُ، وكأنَّه (¬3) مقصودُهُ؛ لأنَّ تفريغَهُ [مِنهُ] (¬4) ليسَ شرطًا عندهم، والأَولَى أنْ يُقَال في ذلك: إنَّهُ [ما] (¬5) لا يُسَمَّى غسلةً عرفًا فلا يَحصُلُ به الامتثالُ. [المسألة] (¬6) الخمسون: وقعَ الإناءُ في ماءٍ كثير، واستوَى عليه الماءُ، [قيل] (¬7): يُحتسَبُ بوضعه فيه ومرورِ الماءِ علَى أجزائه غسلة، وهذا بخلاف المسألة [قبلَهَا] (¬8) في أنه لا يكفِي وضعُ الماء في الإناءِ حتَى يُفرَغَ منه، وهو راجع إلَى اعتبار العُرف، وكأنَّهُ يدَّعي أنَّ العرفَ يفرِّقُ بين الإناء والماء الكثير. الحادية والخمسون: خضخضَ الماء في الإناء وحرَّكَهُ بحيثُ ¬

_ (¬1) "ت": "بفعلها". (¬2) في الأصل: "يحسب"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "مكانه"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) سقط من "ت".

[الثانية والخمسون]

يمرُّ عليه أجزاءٌ غير الَّتِي كانت تلاقيه، قالَ بعضُهم: يُحسَبُ (¬1) غسلةً ثانيةً كما لو مرَّت جَرياتٌ من الماءِ (¬2). [الثانية والخمسون] (¬3): إذا كان الإناءُ يسعُ قُلَّتين فصاعدًا، فملأه وخضخضه، قالَ بعضُ الحنابلة: [و] (¬4) يحتمل [أن] (¬5) إدارَةَ الماء فيهِ تَجري مَجرَى الغَسَلات؛ لأنَّ أجزاءَهُ يمرُّ عليها جَريات [من الماءِ] (¬6) غيرُ الَّتِي كانت ملاقيةً لها، فأشبهَ كما لو مرَّت عليها جَرياتٌ من جارٍ. قال: وقال ابنُ عقيل: لا يكونُ غسلةً إلا بتفريغه مِنهُ أيضًا (¬7). قُلْتُ: والمُتَّبَعُ في هذا ما يُسَمَّى غسلةً في اللسانِ والعُرف، فما كانَ (¬8) دلَّ اللَّفظُ علَى الاكتفاءِ به، وما لا يُسَمَّى غسلةً، فإنَّما يُكتفى فيهِ بالقياسِ؛ لأنهُ معنَى الأصلِ عندَ مَن يقول به. ¬

_ (¬1) "ت": "يجب". (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 48). (¬3) سقط من "ت"، وكتب في الهامش: "لما سقطت المسألة (52) من الأصل حصل بسببها الخلل في عدد المسائل، فلتقرأ ولتكتب على الصواب". قلت: لا سقط في النسخة "ت" إلا قوله: "الثانية والخمسون". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 48)، وهو المعني بقول المؤلف: "بعض الحنابلة". (¬8) أي: يُسَمَّى غسلةً في اللسانِ والعُرف.

الثالثة والخمسون

الثالثة والخمسون: وهي دونَ المرتبة الَّتِي قبلَها، وَضَعَ الإناءَ في ماءٍ كثير راكدٍ مُتغيّر لا يسلبُ الطهورية، فمرَّ عليه أزمنةٌ، [وهو ساكن] (¬1)، هلْ يُكتفى بها، ويقومُ مقامَ سبع غسلات؟ في اندراجِهِ تحتَ اللَّفظ بُعدٌ، وإنَّما يُقَال به إذا قيلَ بالقياسِ. الرابعة والخمسون: ظاهرُ الخِطابِ (¬2) مُتوجّهٌ إلَى فعلِ المُكلَّفِ لقوله: "فليغسله"، وهذا أمرٌ متعلِّقٌ (¬3) بفعل المكلف، إلا أنَّ مَن يعلِّلُ بالنَّجاسَةِ لا يَعتبرُ الفعل، فلو نزل عليه المطرُ، أو كان في نهرٍ جارٍ فمرَّت عليه جرياتُ النهر، كانـ[ـــت] (¬4) كلُّ جِرْية تمرُّ عليه غسلةً، وهذا تخصيص بالمعنى (¬5) وإلغاءٌ لما دلَّ عليه اللَّفظ بسبب ما فُهِمَ من المقصودِ، وينبغي لمَنْ قالَ بالتَّعبُّدِ أن لا يكتفيَ بذلك، لا سيَّما الظاهرية. الخامسة والخمسون (¬6): عدمُ اعتبارِ القصدِ من الآدمي (¬7) في الغسلِ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "أنَّ اللَّفظَ بعد، وإنَّما يُقَال به إذا قيل بالقياسِ"، وهو سهو من الناسخ إذ نقل من السطر السابق، وجاء الكلام في "ت" على الصواب المثبت هنا. (¬3) "ت": "يتعلق". (¬4) في الأصل و "ت": "كان". (¬5) في الأصل: "مختص للمعنى"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "الرابعة والخمسون" وعليه فقد اختلف ترقيم المسائل في النسخة "ت" وهو خطأ من الناسخ. (¬7) في الأصل: "الأذى"، والمثبت من "ت".

السادسة والخمسون

المذكور مبني علَى هذا الَّذِي قدَّمْناه، والله أعلم. السادسة والخمسون: المَالِكيَّةُ يقولون: إنَّ مُجرَّدَ إصابةِ الماء لا يُسَمَّى غسلًا، ولا بُدَّ من أمرٍ زائد، فأوجبوا (¬1) الدَّلكَ، وأُورِدَ عليهم قولُهم: غَسلَت المطرُ، وأجابوا بأنَّ الصبَّ وتكرارَ الماء يقوم مقامَ الدَّلك، هذا أو قريبا منه (¬2). فعلَى هذا يلزم أن لا يَحصُلَ مُسمَّى الغسل بمُجرَّد الإصابة (¬3)، وإذا لمْ يحصلْ لمْ يُكتفَ به في امتثال الأمر. السابعة والخمسون: اختلفوا في وجوبِ العَصْرِ من النَّجاسَةِ، وبُنِيَ علَى وجوبه أنَّهُ إذا كان المغسولُ جسمًا يدخل فيهِ أجزاءُ النَّجاسَة، لمْ يحتسبْ برفعه من الماءِ إلا بعدَ عصرِهِ، وعصرُ كلِّ شيءٍ علَى حَسبِه (¬4)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "فأحيوا"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 179) قال: وفي كلام ابن العربي ما يدل على عدم اشتراط ذلك - أي: الدلك -، وأنه المذهب، فإنه قال: اختلف الناس في الغسل، فقيل: هو صب الماء على المغسول، وقيل: هو إمرار اليد مع الماء على المحل، أو عرك المحل بعضه ببعض مع الماء، وقيل: هو صب الماء خاصة. والصحيح: أنه صب الماء لإزالة شيء، فإذا زال كان غسلأ، وكان المحل مغسولًا، ألا ترى أن غسل الإناء من ولوغ الكلب صب الماء عليه؛ لأنه ليس هناك شيء يزال. وانظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 161 - 162). (¬3) "ت": "الإفاضة". (¬4) "ت": "بحسبه".

فلو كان بساطًا ثقيلًا أو زَلِّيًا (¬1)، فعصرُهُ بَقْلبِهِ ودقِّهِ، وهذا كلُّهُ بناءً علَى إرادة الحكم علَى النَّجاسَةِ مِن غيرِ اعتبارِ لفظِ (¬2) (الولوغ) ولا (الإناء). وبعد ذلك: فإذا صحَّ إطلاقُ لفظة (¬3) (الغسلة) علَى الشيءِ قبل عصرِه، فيمكن أنْ يُستدَلَّ به علَى عدم وجوب العصر، وطريقُهُ أنْ يُقَال: اللَّفظ يقتضي حصولَ الاكتفاء بمُسمَّى الغسلات، وإيجابُ العصر ليسَ مأخذُهُ تحصيل مسمَّى الغسل، بل بدليل خارج عندَ من يراه، وإذا كان بدليل خارج كان اللَّفظُ متناولًا لما قبله؛ أعني: أنَّهُ غسلَ غسلةً، فلا يجبُ [عليه] (¬4) غيرُهَا، [لحصول المسمى] (¬5) عملًا بقوله (¬6) - صلى الله عليه وسلم -: "طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ، أنْ يَغْسِلَهُ (¬7) سَبْعًا" [فإنه يقتضي حصولَ مسمى الغسلاتِ بمجرد إصابةِ الماء، وهذا المسمى حاصلٌ في الثوب، فليكتفَ به، إلا أن يقومَ دليلٌ على اعتبار أمر زائد] (¬8). ¬

_ (¬1) أي: مصنوعًا من الزلِّ. (¬2) في الأصل: "ولفظ"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "لفظ". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "في قوله" بدل "عملًا بقوله". (¬7) "ت": "يغسل". (¬8) زيادة من "ت".

الثامنة والخمسون

الثامنة والخمسون: ألحقَ أحمدُ - رحمة الله عليه - في روايةٍ عنه سائرَ النجاسات بنجاسة الولوغ (¬1) في اعتبار العدد فيها، وإذا قيل بها، ففي قدره روايتان: ثلاث وسبعٌ، وقال الخِرَقيُّ من الحنابلةِ: وكلُّ إناء حلَّت فيهِ نجاسة من ولوغ كلب أو بول أو غيره، فإنَّهُ يُغسَلُ سبعًا، إحداهُنَّ بالترابِ (¬2). قالَ القاضي منهم: الظاهرُ [من] (¬3) قولِ أحمدَ ما اختاره الخرقي، وهو وجوبُ العدد في جميع (¬4) النجاسات (¬5). وإيجابُ العددِ والتتريبِ قياسًا علَى الولوغِ، [وهذا إنما يصِحُّ إذا أُلغي الفارقُ بين نجاسة الكلب وغيره، وهو غِلَظُ أمرِ النجاسة، أو المعنى الموجبُ لغِلْظَتِها، والله أعلم] (¬6). التاسعة والخمسون: الحديثُ يقتضي استعمالَ التراب في غسل الإناء بمنطوقهِ، وقد قالَ به الشَّافِعي - رضي الله عنه - (¬7)، ولم يقل به مالك، ¬

_ (¬1) "ت" "بنجاسة الولوغ سائر النجاسات". (¬2) انظر: "مختصر الخرقي" (ص: 16). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "سائر". (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 47)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله. (¬6) زيادة من "ت". (¬7) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 6).

و [لا] (¬1) أبو حنيفة رحمة الله عليهما، فقيل في العذر لمالك: إنَّهُ لمْ يروِ هذه الزيادة، فلم (¬2) يقلْ بها، ومنهم مَن علَّلَ باضطراب الزيادة من قوله: "أولاهن"، أو "السابعة"، أو "الثامنة"، قال هذا القائل: فهذه (¬3) الزيادةُ مضطربةٌ، ولذلك لمْ يأخُذْ بها مالكٌ، ولا أحدٌ من أصحابه (¬4). فأمَّا الوجهُ الأولى في العذر: فصحيحٌ لمالك إنْ كَان لمْ يقفْ عليها من رواية عدلٍ غيرِه، وليسَ عذرًا أصلًا لمَن وقف عليها من رواية [عدلٍ] (¬5) غيرِه. وأمَّا الثَّاني: [فلابدَّ في التعليل بهذا الاضطراب من عدم الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى بوجهٍ من وجوه الترجيحات، وإلا فالعملُ بالأرجحِ واجبٌ، والمرجوح مُطَّرَحٌ، وأيضًا فإذا صحَّ التعارضُ الموجُب للاطِّراح فيُخَصُّ بما وقع فيه التعارض، وهو محل التتريب، فلا يسوغ إسقاطُ ما اتُّفِقَ عليه، وهو أصل التتريب] (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "ولم". (¬3) "ت": "وهذه". (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 540). (¬5) سقط من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

الستون

الستون: في قاعدة يُبنَى عليها غيرُها: [وهي] (¬1): الأمرُ إذا تعلَّقَ بشيء بعينه، لا يقعُ الامتثالُ إلا بذلك الشيء؛ لأنَّهُ قبل فعلِهِ لمْ يأتِ بما أُمِرَ به، فلا يَخرج عن العُهدةِ، وسواءٌ كانَ الَّذِي تناولهُ الأمرُ صفةً أو لقبًا عندنا؛ لما ذكرناه من توقُّفِ الامتثال عليه. وكان بعضُ أصحابنا قد اعترض في مسألةِ غسلِ النَّجاسَة، وأنَّهُ يتعيَّنُ فيهِ بالماءُ بناءً] (¬2) علَى الاستدلالِ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثمَّ اغْسِلِيهِ بالماءِ" (¬3)، [و] (¬4) أنه حكمٌ عُلِّقَ بلقبٍ، ومفهومُ اللقب ليسَ بحجَّةٍ، فلا يدلُّ علَى أنَّهُ لا يجوز بغيرِ الماء، هذا أو قريبًا منه. والَّذِي نقول: إنَّ ما هو مُتعلِّق بالأمرِ (¬5) لا بُدَّ مِنهُ لضرورة الامتثال، إلا أن يُعلَمَ إلغاؤُهُ، ولا نظرَ هاهُنا لكونه لقبًا أو صفة، ومحلُّ ذلك الحكمِ يُفرَّقُ فيهِ بين اللقب والصفة كالحديثِ المذكور، فإنَّ محلَّ الحكم هو الدم، فلا يُقَال: إنَّهُ يدلُّ علَى أنَّ غيرَ الدم يجوز غسلُهُ بغيرِ الماء عملًا بالمفهومِ؛ لأنَّ الدمَ لقب لا يدلُّ علَى انتفاء الحكم عمَّا عداه. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل و"ب": "البناء"، و "ت": "الماء"، والصواب ما أثبت، والله أعلم. (¬3) قال المؤلف في "الإمام" (3/ 433): ليس في الأمهات ما اشتهر بين الفقهاء: "ثم اغسليه بالماء". وانظر تمام كلامه هناك. (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "والذي نقول إن ما فيه تعلق الأمر".

الحادية والستون

الحادية والستون: فيما يترتَّبُ عليه: لمَّا كان الأمرُ هاهُنا مُتعلِّقًا بالترابِ وجبَ أنْ لا يقعَ الامتثالُ إلا به؛ لأنَّهُ لا خروجَ عن العُهدةِ إلا بفعل المأمور به، والأمرُ مُتعلَّقُهُ الترابُ، نعم، لو قالَ قائل: إذا ولغ في كفِّ إنسان، لمْ يجبْ غسلُه بالترابِ، مُستنِدًا في ذلك إلَى المفهومِ ودلالته، قيل: محلُّ الحكمِ هاهُنا هو الإناء، وهو لقبٌ لا يدلُّ علَى نفي الحكم عما عداه. وإنَّما قُلْتُ: مستندًا في ذلك إلَى المفهومِ للإضراب عن الاستناد (¬1) إلَى الظاهرِ والتَّعبُّد، فإنَّ ذلك توجيهٌ آخر. الثانية والستون: اختلفَت (¬2) الشَّافِعيةُ - رحمهم الله تعالَى - في أنَّ التعفيرَ لماذا رُوعيَ؟ فمنهم مَنْ قالَ: [هو] (¬3) تعبُّدٌ يُتبَعُ فيهِ ظاهرُ النقل، وهذا يَرجعُ إلَى القاعدةِ الَّتِي ذكرناها فيما مضَى، وهو أنَّهُ لا يلزمُ من كون المعنَى معقولًا في الأصلِ أنْ يطرحَ ما تعلَّقَ به الأمرُ في التفصيلِ، ولا يَمتنع (¬4) حملُهُ علَى التَّعبُّدِ، وإنْ عُقِلَ المعنَى في الأصلِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاستثناء"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "اختلفوا"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "يمنع".

ومنهم مَنْ قالَ: سببُهُ الاستظهارُ بغيرِ الماء، [فكأنَّ اقترانُ هذه اللُّزوجةِ] (¬1) الَّتِي في لُعاب الكلب يُوهِم (¬2) أنَّ ذلك سببُ إضافةِ التراب لإزالتها. ومنهم مَنْ قالَ: سببـ[ـــه]، الجمعُ بين نوعي الطَّهور. وَينبنِي (¬3) علَى هذا الخلاف ما إذا غسلَ بالصابونِ والأشْنَان بدلَ التراب، فمَنْ قالَ بالتَّعبُّدِ، أو الجمعِ بين نوعي الطهور لمْ يكتفِ به، ومَنْ قالَ: سببُهُ الاستظهارُ بغيرِ الماء [اكتفَى (¬4). وتعيينُ التراب يُوجِبُ عدمَ الاكتفاء، ومَنْ قالَ بالاكتفاءِ مستندًا إلَى أنَّ المقصودَ الاستظهارُ بغيرِ الماء] (¬5)، فهو ضعيفٌ لوجهين: أحَدُهُما: أنَّ هذا استنباطُ عِلَّةٍ من الحكمِ المنصوص [عليه] (¬6) يعود علَى النَّصِّ لإبطالِ؛ لأنَّا إذا اكتفينا بما لا يُسَمَّى ترابًا لمْ يجبِ الترابُ أصلًا، وصار هذا كما ردَّ الشَّافِعيةُ علَى الحنفيةِ حيثُ قالوا: ¬

_ (¬1) في الأصل: "وكان قرن هذا باللزوجة"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "وتوهم". (¬3) "ت": "ويبنى". (¬4) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 20). (¬5) سقط من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

المقصودُ سَدّ خلَّة الفقر (¬1) بمقدار ما [ليَّة] (¬2) الشاة دونَ عينِها، فقالوا لهم: هذا استنباط لعلَّةٍ تقتضي أن لا تجبَ الشاةُ المنصوصُ عليها، فعادت علَى النَّصِّ بالإبطالِ، فكذلك (¬3) هذا. الوجه الثاني: إنَّ القاعدةَ في (¬4) الأوصافِ الَّتِي يشتمل عليها محلّ الحكم [أن تكون معتبرةً] (¬5) إلا ما يُعلَمُ عدمُ اعتباره، ومهما كان في محلِّ الحكمِ مما (¬6) يمكنُ أنْ يكونَ معتبرًا لمْ يجزْ إلغاؤُهُ، ومحلّ النَّصِّ قد اشتمل علَى الترابِ وله وصفُ التطهير، وهو وصف يمكن أنْ يكونَ مُعتبرًا في معنَى التغليظِ للنَّجاسةِ المُزالة، فلا يُلغَى. وللشافعيةِ وجهٌ: أنَّهُ يقومُ غيرُ الترابِ مقامَه (¬7) عندَ عدمِهِ دونَ وجودِه (¬8). [وهذا الذي ذكرناه من تعيين ما عُيِّن في لفظ الرسول واردٌ على ¬

_ (¬1) "ت": "الفقير". (¬2) بياض في الأصل، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "وكذلك". (¬4) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "ما". (¬7) "ت": "مقام التراب". (¬8) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 208).

الثالثة والستون

قائل هذا الوجه أيضًا، إلا لمانع من دليل منفصل] (¬1). الثالثة والستون: غسلهُ ثامنةً (¬2) مِن غيرِ ترابٍ، هلْ يقوم مقام التراب؟ اختلف فيهِ الشَّافِعيةُ - رحمهم الله تعالَى - علَى ثلاثة أوجه: ثالِثُها: الفرقُ بينَ وجودِ التراب وعدمِهِ، [والقول في هذا] (¬3) كما [قلنا] (¬4) في غيرِ الترابِ من المَذْرُورات في الماءِ (¬5). وهذا متأخِّرُ الرتبة عن (¬6) ذلك لقُربِ المذرورات من الترابِ في معنَى الاستعانة. والصوابُ عدمُ الاكتفاء لما ذكرناه من أنَّ المعيَّنَ لا يقعُ الامتثالُ إلا به، واحتمالِ اعتبار معنَى الجمع بين [نوعين، أو] (¬7) نوعي الطَّهور، وما يذكرُ من المعاني المستنبطةِ ليسَ بالقويِّ بالنسبة إلَى مدلولِ الألفاظِ إذا كانت مُزاحِمَةً لغيرِها. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "ثمانية". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 207)، و"جلية العلماء" للقفال (1/ 246)، و"روضة الطالبين" للنووي (1/ 32). (¬6) في الأصل: "على"، والمثبت من "ت". (¬7) سقط من "ت".

الرابعة والستون

الرابعة والستون: كان المائعُ الَّذِي يصحبُهُ التعفيرُ غيرَ الماءِ كماءِ الوردِ والخَلِّ، وغسلَهُ ستًّا بالماءِ، ففي الاكتفاء به وجهان للشافعية (¬1)، واستُدِلِّ لعدم الاكتفاء بقوله - صلى الله عليه وسلم - " [فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا] (¬2)، إحْدَاهُنَّ بالتُّرابِ"، معناه "فليغسله بالماءِ سبعًا، وإلا لجازَ الغسلُ ستًّا بغيرِ الماء. الخامسة والستون: كان الترابُ نجسًا، ففيهِ للشافعية - رحمهم الله - وجهان: قيل: يُكتفَى به (¬3)؛ لأنِّ المقصودَ الاستعانةُ بشيء آخرَ، وهذا ضعيف؛ لأنَّهُ لا دليلَ علَى [أنَّ] (¬4) ذلك كانَ (¬5) المقصودَ، إذا سُلِّمَ أنَّهُ مقصودٌ، ولا سيَّما والإطلاقُ فيما يُقصَدُ به التطهيرُ محمولٌ علَى الطاهرِ؛ لمنافاةِ النَّجِسِ لمقصود الطهارة. السادسة والستون: الأرضُ الترابيةُ إذا تنجَّسَت بإصابة الكلب إيَّاها، هلْ تَحتاجُ في تطهيرها إلَى تراب آخر، أم يَكفي مَحضُ الماء؟ فيهِ اختلافٌ للشافعية، ورُجِّحَ أنَّهُ لا حاجةَ إلَى استعمال التراب؛ ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 208)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 539) وقال: لم يكفه على الصحيح، ومنه وجه مشهور عند الخراسانيين: أنه يكفى، وهو خطأ ظاهر. (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 208). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "كل".

السابعة والستون

لأنَّهُ لا معنَى للتعفير في الترابِ (¬1). ويُقَال علَى هذا: إنَّ مَنْ ذهبَ للتَّعبُّدِ بالترابِ، ينبغي أنْ يقولَ بالاحتياجِ إليه هاهُنا؛ لأنَّ كلَّ ما تنجَّسَ بنجاسة الكلب عندَهُ كالإناءِ، ولا اعتبارَ باسم الإناء، وإذا كانَ كالإناءِ، واقتضَى اللَّفظُ [ثَمَّ] (¬2) استعمالَ الترابِ، فكذلك هاهُنا، والله أعلم. السابعة والستون: غمسَ الإناءَ في ماء كثير، فَهلْ يَطهُرُ، أم يعدُّ ذلك غسلةً واحدة، ويجب غسلُهُ ستًّا، إحداهُنَّ بالترابِ؟ فيهِ اختلافٌ للشافعية رحمهم الله (¬3)، ومقتضَى الحديثِ عدمُ الاكتفاء؛ لعدم حصول ما عُيِّنَ للتطهير (¬4)، والقولُ بالاكتفاءِ إنَّما هو بالنظرِ إلَى المعنَى. الثامنة والستون: قالَ أقضَى القضاة المَاوَردِيُّ الشَّافِعيُّ رحمهما الله تعالَى: اختلفَ أصحابُنا في قَدْرِ ما يلزمُهُ استعمالُه (¬5) من التراب علَى وجهين: أَحدهما: أنَّهُ يستعملُ مِنهُ ما يَنطَلِقُ عليه اسمُ التراب من قليلٍ أو ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 538). (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 539) وقال: فيه خمسة أوجه حكاها الأصحاب مفرقة وجمعها صاحب "البيان" وغيره. ثم قال النووي: ولم يصحَّ شيء من الأوجه، والأظهر أنه يحسب مرة. (¬4) في الأصل: "التطهر"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "استعمال ما يلزمه".

التاسعة والستون

كثيرٍ لورود الخبر بإطلاقه. والوجه الثاني: أنَّهُ يستعملُ مِنهُ ما يستوعِبُ محلَّ الولوغ؛ لأنَّهُ ليسَ موضعٌ مِنهُ لاستعمالِ الترابِ فيهِ أخصُّ من موضعٍ، فَلَزِمَ استيعابُ جميعِهِ (¬1). فقد استدلَّ بالخبرِ للوجهِ القائل بالاكتفاءِ، وهو مقتضَى ظاهرِ اللفظ، وكذلك هو مقتضَى مَن يرَى بالتَّعبُّدِ في استعمال التراب، وأمَّا الاستيعابُ فمتوجِّهٌ علَى القولِ بأنَّ الغسلَ للنَّجاسةِ، وقد تنجَّسَ كلُّ جزء ممَّا اتصل به الماءُ الَّذِي ولغ فيهِ، والمقصودُ التطهيرُ، فيجبُ في كلِّ ما حصل له التنجيس. التاسعة والستون: قالَ بعضُ مصنفي الشَّافِعية (¬2): لا يكفي ذرُّ التراب علَى المحلِّ، وإنْ غسلَهُ سبعًا، بل لا بُدَّ من مائع يمزجه [به] (¬3) ليَصِلَ الترابُ بواسطته إلَى جميع أجزاء المحلِّ. وفي إطلاقِ اسمِ التعفيرِ علَى هذا نظرٌ، فإنَّ من غسل وجهَه بماءٍ ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 309). (¬2) نسب المؤلف رحمه الله في"شرح عمدة الأحكام" (1/ 29) هذا الذي ذكره إلى أصحاب الشافعي أو بعضهم. ونسبه النووي في "المجموع" (2/ 538) إلى الأصحاب. (¬3) سقط من "ت".

يتكَّدرُ بالترابِ فلا يُطلَقُ (¬1) عليه أنَّهُ عفَّرَ (¬2) وجهَهُ بالترابِ، إلا أنْ يُؤخَذَ من اشتقاقِ التعفير من [العفرِ] (¬3)، وإنْ كَان كذلك - أو لمْ يكنْ - فلا شكَّ أنَّ التعفيرَ ينطلق علَى إيصال التراب إلَى المحلِّ واتِّصالِهِ به مِن غيرِ ماءٍ أصلًا، وقد ثبتَ في "الصحيحِ" إنَّ أبا جهل قالَ: هلْ يُعفِّرُ محمَّدٌ وجهَهُ في الترابِ (¬4). وقال الشاعر (¬5): لأُعَفِّرَنَّ مَصُونَ شَيبِي بَينهَا (¬6) فإذا كانَ الاسمُ مُنطلِقًا عليه، وعلَى ما يُمزَجُ به، فتعيينُ المزجِ بالماءِ بعينه يحتاجُ إلَى دليلٍ، فإنْ كَان الدليلُ وجوبُ إيصال التراب إلَى جميع المحلِّ، فهذا يحصُل بذرِّه إلَى حيثُ وصولُ (¬7) الترابِ إلَى جميعِ أجزائِهِ. نعم، هاهُنا بحثٌ (¬8) من حيثُ لفظُ الحديثِ، وهو أنَّ اللَّفظَ يقتضي ¬

_ (¬1) "ت": "يصدق". (¬2) في الأصل: "غبر"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) رواه مسلم (2797)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) هو من شعر القاضي عياض كما في "الشفا" له (2/ 59). (¬6) "ت": "هاهنا". (¬7) "ت": "يصل". (¬8) "ت": "لفظ".

السبعون

حصولَ مُسمَّى الغسلِ في مرَّةِ التراب، وأنَّ الغَسلةَ تكونُ مُستصحِبَةً للتراب، والغسلةُ إنَّما تكون بالماءِ، فيكون يقتضي ماءً مُستصحَبًا بالترابِ، وذلك بالمزجِ به، إلا أنَّ هذا يتوقَّفُ علَى أنَّ الاستصحابَ المذكورَ لا يكونُ إلا بالمزجِ عندَ إطلاقِ اللَّفظ، وفيهِ وَقْفةٌ، ولا يَبعُدُ أنْ يُقَال: إنْ [من] (¬1) ذَرَّ السِّدرَ والخِطميَّ علَى رأسه ثمَّ أتبعَهُ بالماءِ، أنَّهُ غَسَلَ رأسَهُ بالخطميِّ والسِّدر، فانظر في ذلك. اللَّهُمَّ إلا أنْ يُرادَ بالمزجِ اجتماعُ الماءِ والترابِ كيف كان؛ أبالمزج (¬2) قبلَ الصَّبِّ، أو بالذرِّ ثمَّ الصَّبِّ؟ ويكون قوله: لا يكفي ذرُّ الترابِ علَى المحلِّ؛ أي: مقتصرًا علَى ذرِّهِ دونَ اجتماعِه مع الماء، فلا إشكالَ علَى هذا من هذا الوجه، وتكون فائدةُ ما ذكرناه التنبيهَ علَى ما في هذا الوجه. السبعون: مَنْ قال بالتتريبِ، اختلفوا في تعيينِ مرَّة التتريب، واختلفـ[ــــت] (¬3) الرواياتُ فيها، والشَّافِعيةُ والحنبليةُ لمْ يُخصِّصوه بغسلة معينة (¬4)، وفي "صحيح مسلم": "أولاهُنَّ بالترابِ"، وروي: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "إما بالمزج". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) قال النووي في "المجموع شرح المهذب" (2/ 535): الحاصل أنه يستحب جعل التراب في الأولى، فإن لم يفعل، السابعة أولى، فإن جعله في السابعة جاز، انتهى. =

"السابعة" و"الثامنة" (¬1). وقال الظاهريُّ بتعيين الأولَى، قالَ: وقد جاء الخبر بروايات شَتَّى في (¬2) بعضها: "والسابعة بالترابِ" (¬3)، وفي بعضها: "إحداهُنَّ بالتراب" (¬4)، قال (¬5): وكلُّ ذلك لا يختلف معناه؛ لأنَّ الأُولَى هي بلا شَكٍّ إحدَى الغسلات، وفي لفظ "الأولى" (¬6) بيانُ أيَّتُهُنَّ هي، ومن (¬7) جعل التراب في أولاهن فقد جعلهُ في إحداهن بلا شَكٍّ، واستعملَ اللفظتين معًا، ومن جعلـ[ــــه] في أُخراهن (¬8) فقد خالف أمرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في أنْ تكونَ أولاهن، وهذا لا يحلُّ، وبلا شَكٍّ ندري ¬

_ = والذي استقر عليه مذهب الحنابلة كون التراب في الأُولى أَولى، ليأتي الماء من بقية الغسلات عليه، فينظف المحل منه بإزالة أثره عليه. قاله السفاريني في "كشف اللثام شرح عمدة الأحكام" (1/ 86). (¬1) وقد تقدم تخريجها. (¬2) "ت": "وفي". (¬3) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 212) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وإسناده ضعيف. (¬4) رواه إسحاق بن راهويه في"مسنده" (39)، ومن طريقه: النسائي في "السنن الكبرى" (69). (¬5) في الأصل: "وقال"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "الأول"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "من". (¬8) "ت": "إحداهن"، وفي المطبوع من "المحلى": "في غير أولاهن".

أنَّ تعفيرَهُ بالترابِ أولاهنَّ [تطهيرٌ] (¬1) ثامنٌ إلَى سبع غَسَلات، وأنَّ تلك الغسلةَ سابعةٌ لسائرِهِنَّ إذا جُمِعْنَ، وبهذا تصحُّ الطاعةُ لجميع ألفاظِه - صلى الله عليه وسلم - المأثورةِ في هذا الخبر (¬2). قُلْتُ: أمَّا مَا ذَكرَهُ من عدم الاختلاف بالنسبةِ إلَى إحداهن [والأُولَى] (¬3): فصحيحٌ واضحٌ، وأمَّا مَا ذَكرَهُ من أنَّ تلك الغسلةَ سابعةٌ لسائرهنَّ إذا جُمِعْنَ، فإنْ أراد به [أنه] (¬4) ينطلق علَى الأُولَى سابعةٌ باعتبار الإجماع مع الست، فهذه (¬5) الأعداد إنَّما تُعتبَرُ بالنسبةِ إلَى المبدأِ والاختيارِ (¬6)، [فيلزم] (¬7) أنْ يُطلَقَ علَى جميعِ السبع جميعُ أسماء الباقيات بحسب اختلاف المبدأ الَّذِي تعتبره، فالسابعةُ ثانيةٌ إنْ أخذت المبدأ من السادسةِ، والسادسةُ ثانيةٌ إن أخذت المبدأ من الخامسةِ، وكذا (¬8) إلَى آخر الأعداد، وهذا ليسَ بشيء؛ فلا يَصِحُّ له أنْ يكونَ ¬

_ (¬1) زيادة من "المحلى". (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 110 - 111). (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "هذه"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "والانحسار". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) "ت": "وكذلك".

عاملًا برواية السابعة أو الثامنة إذا عيَّنَ الأولَى. وأما قوله: وبلا شَكٍّ ندري أنَّ تعفيرَهُ بالترابِ في أولاهن ثامنٌ إلَى السبعِ غسلات. قُلْتُ (¬1): أتعني أنَّهُ غسلٌ ثامن، أو تعني أنَّهُ فعلٌ ثامن؟ فإن عَنَيْتَ الأوَّلَ فذلك باطلٌ؛ لأنَّ استعمالَ التراب - من حيثُ هو ترابٌ - ليسَ غسلًا، ويلزم علَى هذا أنْ يكونَ الإناءُ لا يغسل سبعًا أصلًا، بل لا يزالُ الغسلُ ثامنًا (¬2) متَى استعملَ الترابَ في واحدة من الغسلاتِ. وإنْ أردتَ به أنَّهُ فعلٌ ثامن فمُسَلَّمٌ، ولكنَّ الظاهرَ يقتضي أنَّ الثامنةَ غسلةٌ كما قبلها، وهو ظاهرٌ قوي. وجعل بعضُهُم اختلافَ الرواياتِ دليلًا علَى أنَّ محلَّ التراب من الغسلاتِ غيرُ مقصودٍ (¬3). وقال آخرُ: لَمَّا نصَّ علَى الطرفينِ كانَ حكمُ الوسط مُلحَقًا (¬4) بهما أو بأحدهما، وهذان ضعيفان، أمَّا الأوَّلُ (¬5). ¬

_ (¬1) "ت": "قلنا". (¬2) في الأصل: "ثانيًا" والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "مقصوده"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "ملحق"، والصواب ما أثبت كما في "ت". (¬5) كذا في النسخ الثلاث؛ يعني: أنهم تركوا البياض سهوًا، وكان عليهم إثباته للتنبه إليه. وقد جاء على هامش "ت": "كذا، وبعده بياض في الأصل، تركته سهوًا".

الحادية والسبعون

الحادية والسبعون: أُورِدَ علَى الشَّافِعيِّ - رضي الله عنه - في عدم تعيين مرَّة التتريب سؤالٌ، وهو: أنَّ من مذهبِهِ حملَ المُطلَقِ علَى المُقَيَّدِ، وقد ورد "إحداهنَّ"، وورد "أولاهنَّ"، فيجبُ حملُ المُطلَقِ في "إحداهن" علَى المُقَيَّدِ في "أولاهن"؟! هذا أو معناه (¬1). وهذا هو الَّذِي حكيناه عن ابن حزم فيما تقدَّمَ. وأُجِيب عنه بما حاصلُهُ: أنَّهُ لَمَّا اختلفت الرواياتُ في التعيينِ تعارضت، وبَقِيَ المُطلَقُ علَى إطلاقه. ويُعترَضُ علَى هذا: بأنَّ شرطَهُ التساوي في الرواياتِ (¬2) وعدمُ وجود الترجيح في إحداهما (¬3)، فأمَّا إذا وُجِدَ ذلك وجبَ العملُ بالراجحِ واطِّراحُ المرجوحِ؛ لامتناعِ إسقاط الراجح بمعارضة المرجوح. ¬

_ (¬1) قال القرافي في "شرح تنقيح الفصول" (ص: 269): فائدة: قال صدر الدين قاضي قضاة الحنفية يومًا: نقض الشافعية أصلهم، فإنه يقولون يحمل المطلق على المقيد، وقد ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا" وهذا مطلق، وروي "أولاهن بالتراب" و "إحداهن بالتراب"، فإحداهن مطلق، ولم يحملوه على المقيد الذي هو أولاهن. قال وجوابه: أن هذا الحديث تعارض فيه قيدان: "أولاهن" و"أخراهن"، فليس حمل المطلق الذي هو "إحداهن" على أحدهما بأولى من الآخر، وقاعدة القائلين بالحمل أنه إذا تعارض قيدان بقي المطلق على إطلاقه، فلم يتركوا أصلهم، بل اعتبروا أصلهم. (¬2) في الأصل: "تساوي"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "إحديهما"، والمثبت من "ت".

الثانية والسبعون

الثانية والسبعون: اختلفوا في إراقة ما وَلَغ الكلبُ فيه، وعند المَالِكيَّةِ أقوالٌ: ثالثها (¬1): الفرقُ بين الماء والطعام نظرًا إلَى رعاية الماليَّةِ. ورابعها: قالَ عبد الملك: إنْ شربَ من لبنٍ وكان بَدَوِيًا أُكِلَ (¬2)، وإنْ كَان حضريًا طُرِحَ، بخلاف الماء، فإنَّهُ يطرحه البدويُّ والحضريُّ. وخامسها: إنْ كَان الطعامُ كثيرًا أُكِلَ، وإنْ كَان قليلًا طُرِحَ (¬3). وظاهرُ اللَّفظِ في الأمرِ بالإراقةِ يقتضي عدمَ [هذه] (¬4) التخصيصاتِ كلِّها، والقولُ بعدم إراقته مُطلقًا مخالفةٌ لظاهر (¬5) الحديث، وباقي الأقوال تَرجِعُ إلَى مصالحَ مُرسَلَةٍ، أو استحساناتٍ يُخصَّصُ بها الظاهرُ أو يُقيَّدُ، والعملُ بالظاهرِ أَولَى. الثالثة والسبعون: استُدِلَّ (¬6) بإراقتِهِ علَى نجاسةِ ما وَلَغَ فيهِ، وهو ¬

_ (¬1) أي: الأول إراقته، والثاني عدم الإراقة. (¬2) في الأصل: "يأكل"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 270)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 176). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "ظاهر"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "ظاهر الأمر الوجوب استُدِلَّ"، وهو سهو من الناسخ الذي نقل من المسألة التالية، والله أعلم.

الرابعة والسبعون

دليلٌ آخرُ غيرُ الدليلِ المأخوذِ من غسلِ الإناء مِنهُ. الرابعة والسبعون: ظاهرُ الأمر الوجوبُ، فيقتضي وجوبَ الإراقةِ، والَّذِي قدَّمْناه من الفرقِ بين الماء والطعام، إنْ كَان المرادُ مِنهُ أنَّهُ (¬1) لا يجوزُ إراقةُ الطعام، ففيهِ مخالفةٌ [ظاهرةٌ] (¬2) قويةٌ للظاهر، وإنْ كَان المرادُ مِنهُ أنَّهُ يجوز عدمُ الإراقة وإبقاؤُهُ، فهو أقربُ من الأولِ لاحتمالِ أنْ يُحمَلَ الأمرُ علَى الاستحبابِ. الخامسة والسبعون: حكَى المَاوَردِيُّ عن الشَّافِعيِّ - رحمة الله عليهما - أنَّهُ قالَ: وعليه أنْ يُهريقَهُ. قالَ: فاختلف (¬3) أصحابُنَا؛ هلْ إراقتُهُ واجبةٌ، والانتفاعُ به مُحرَّمٌ؟ فذهب بعضُهُم إلَى التمسُّكِ بظاهر هذا الكلام، وأوجبَ إراقتَهُ، وحرَّمَ الانتفاعَ به استدلالًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا وَلَغَ الكَلبُ في إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَأَرِيقُوهُ" (¬4)، ولأنَّهُ لمَّا كان الانتفاعُ بأجزاء الكلب كلِّها حرامًا، كان الانتفاعُ بما نفذت (¬5) إليه نجاستُهُ حرامًا. ¬

_ (¬1) "ت": "أن". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "واختلف". (¬4) لفظ الحديث: "فليرقه"، فليتبنه لذلك. (¬5) "ت": "تعدت".

السادسة والسبعون

وقال جمهورُهُم: إنَّ إراقتَهُ لا تجبُ، وإنَّما تُسْتَحَبُّ، والانتفاعُ به من وجهٍ مخصوصٍ لا يَحْرُمُ؛ لأنَّها نجاسةٌ طرأت علَى عينٍ طاهرة، فلم تكنِ المنفعةُ بها مُحرمةً كالميتةِ، ويكون قوله: "فَأَرِيقُوهُ" ليُتَوَصَّلَ بالإراقةِ إلَى غسله، لا لوجوب استهلاكِهِ، قالَ (¬1): وهذا أصحُّ (¬2). وهذا الَّذِي قاله حملٌ للإراقة علَى الاستهلاكِ وعدمِ الانتفاع، وليسَ ذلك بلازمٍ من لفظِ الإراقة؛ فإنَّها لا يلازمُهَا الإتلافُ وامتناعُ الانتفاعِ؛ لجوازِ أنْ يراقَ ويبقَى بحيثُ (¬3) يمكنُ الانتفاعُ به. السادسة والسبعون: إذا ثبتَ أنَّ الإراقةَ تدلُّ علَى الإتلافِ والاستهلاك، فيُؤخَذُ مِنهُ: أنَّهُ لا يجوزُ غسلُهُ بالماءِ المولوغ [فيه] (¬4)؛ لأنَّ كلمةَ (ثُمَّ) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلْيُرِقْهُ، ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبع مَرَّاتٍ" تقتضي تَرَتُّبَ سبعٍ علَى الإراقةِ، فلو جازَ غسلُهُ بالمولوغِ فيهِ، لأمكنَ أن يغسلَ مرَّة [به] (¬5) قبل الإراقة، يَحتسِبُ بها، فلا يجبُ غسلُهُ سبعًا بعد الإراقة، وهو خلافُ النَّصِّ. ¬

_ (¬1) أي: المَاوَردِيُّ. (¬2) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 306). (¬3) "ت": "حيث". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت".

السابعة والسبعون

السابعة والسبعون: الَّذِين قالوا بالفرقِ بينَ كونِ الماء وارداً علَى النَّجاسَةِ، وكونِ النَّجاسَةِ واردةً علَى الماءِ يستدِلُّون بالحديثِ، ووجهُهُ: أنَّ الحديثَ يقتضي إراقةَ الماء، ويقتضي غسلَ الإناء (¬1)، وإراقةُ الماء حقيقةٌ في إراقة جميعِهِ، فلا (¬2) يتأدَّى المأمورُ إلا به، وحقيقةُ الغسلِ المأمورِ به تتأدَّى بما يُسَمَّى غسلاً، وإنْ كَان أقلَّ من الماءِ الأول، فقد اقتضَى الحديثُ تنجيسَ الماء الأكثرِ بورود النَّجاسَةِ عليه مع حصولِ التطهيرِ بالماءِ الأول (¬3)؛ لوروده علَى النَّجاسَةِ، وذلك دليلٌ علَى ما قيل من الفرقِ، وهذا بناءً علَى (¬4) نجاسةِ الغُسالة. الثامنة والسبعون: ويُستدلُّ بالحديثِ علَى أنَّ الماءَ المتغيّرَ بالترابِ المطروح فيهِ طهورٌ؛ لأنَّ الطهورَ هو المُطَهّرُ، وقد جُعِلَ المُطَهِّرُ سبعَ غسلات، فما كلُّ واحد مطهِّرٌ، وإلا لكان المُطَهّرُ ستًّا، وهو خلاف الحديث، ولا يُقَال: إنَّما يتمُّ هذا إذا كان التعفيرُ بمزج التراب بالماءِ، وأمَّا إذا كانَ بذرِّ التراب علَى المحلِّ وإِتْباعه بالماءِ، فلا؛ لأنَّا نقول: إنَّ دلَّ (¬5) دليلٌ علَى تَعَيُّنِ المزج للتعفير، فقد تمَّ (1) "ت": "غسله ". ¬

_ (¬1) "ت": "غسله". (¬2) "ت": "ولا". (¬3) "ت": "الأقل". (¬4) في الأصل: "على عدم"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "ذلك"، والمثبت من "ت".

التاسعة والسبعون

المقصودُ، وإلا فالمأمورُ به مُطلَق [التعفير] (¬1)، فما دخل تحتَ اسمِهِ وجبَ أنْ يَحصُلَ الإجزاءُ به، وصورةُ المزج تدخل تحت اسمه، فيجبُ أن يحصلَ بها امتثالُ الأمر. فإن قلتَ: فهذا لا بُدَّ فيهِ من أنْ يكونَ اسمُ التعفير منطلقاً علَى صورة المزج. قلتُ: نعم، الأمرُ كذلك لا بُدَّ مِنهُ. التاسعة والسبعون: إذا ولغ الكلبُ في إناءٍ فيهِ [ماءٌ] (¬2) أقلُّ من قُلَّتين، تنجَّسَ الماءُ علَى مذهب الشَّافِعيِّ رحمة الله عليه، وكذلك الإناءُ، فلو صُبَّ علَى الماءِ ماءٌ آخرُ حتَّى بلغَ قُلَّتين فصاعداً، فالماءُ طاهرٌ بغيرِ خلافٍ عندَ الشَّافِعية رحمهم الله تعالَى (¬3). وأمَّا الإناءُ فحُكِيَ فيهِ ثلاثةُ أوجه (¬4): أحدها: أنَّهُ نجسٌ، حتَّى أنَّهُ لو نقصَ الماءُ عن قُلَّتين نجسَ الماءُ بنجاسة الإناء. والثاني: أنَّ الإناءَ طاهرٌ. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 539). (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 33)، و"المجموع" له أيضاً (2/ 539).

والثالث: أنْ يُفَصَّلَ فيُقَال: إنْ ولغ الكلبُ في الإناءِ ولا ماءَ فيه، فيَحصُلُ (¬1) فيهِ قُلَّتان من ماءٍ: لمْ يطهرِ الإناء. وإنْ كَان فيهِ ماءٌ أقلُّ من قُلَّتين، فولغ فيهِ، تنجَّسَ الإناءُ بنجاسة الماء، ثمَّ صُبَّ فيهِ ماءٌ حتَّى صار قُلَّتين: طَهُرَ الإناء. وقد وُجِّهَ القولُ بأنَّهُ لا يطهرُ الإناءُ؛ بأنَّ الإناءَ حُكِمَ له بنجاسة الكلب، فلا يُحكَمُ بزوالها إلا بعد حصول الغسلات، فأمَّا إذا كان في الإناءِ قُلَّتان من ماءٍ، فولغَ فيهِ، لمْ ينجسْ لكثرة الماء، وفي مسألتنا قد ثبتت النَّجاسَةُ، فلا يُحكَمُ بزوالها وإن صار الماءُ قُلَّتين؛ لأنَّ الغسلاتِ المشروطةَ لمْ توجدْ. قُلْتُ: وهذا يندرجُ تحتَ لفظِ الحديثِ بما أشارَ إليه من قوله: لأنَّ الغسلاتِ المشروطةَ لمْ توجدْ، وُجِّهَ [وجهُ] (¬2) التفصيلِ بأنَّ الكلب إذا ولغ في الإناءِ - وفيهِ أقلُّ من قُلَّتين - فإنَّما ينجُسُ الإناءُ تَبَعاً للماء، فإذا حُكِمَ للماء بالطهارةِ، حكم للإناء بالطهارةِ أيضاً تبعاً، فأمَّا إذا ولغَ - ولا ماءَ فيهِ - فإنَّما نَجُسَ الإناءُ نفسُهُ، لا علَى طريق التَّبَع، فلا يَطْهُرُ إلا بأنْ يُغسَلَ سبعاً، وجعلُ القُلَّتَين من الماءِ فيهِ ليسَ كغسلِهِ سبعَ مرات، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "فحصل". (¬2) زيادة من "ت".

الثمانون

الثمانون: قد مرَّ في المسألةِ قبلَها تصويرُ نجاسة الإناءِ نفسِهِ (¬1) مِن غيرِ أنْ يكونَ فيهِ ما ولغ (¬2) فيهِ الكلب، وهذه الصورةُ لا تندرجُ تحتَ لفظ الحديثِ؛ لأنَّ اسمَ الولوغِ لا ينطلقُ إلا علَى أخذِ الكلبِ من شيءٍ مائعٍ في الإناءِ، وأمَّا تنجُّسُ الإناء بمباشرة بعضِ أعضائه له، فلا ينطلقُ عليه ولوغٌ، فإنْ أُجرِيَ حكمُهُ عليه، فبِطريقِ القياسِ بعدَ تبينِ أنَّ العلةَ النَّجاسَةَ لجميع أعضائه، ومن هاهُنا ينبغي أنْ يُؤخَذَ علَى مَن صوَّرَ نجاسةَ الإناء بنفسِهِ في صور (¬3) الولوغ، وأدرجها تحت لفظه. والصوابُ أنْ يُقَالَ في تصوير أصل المسألة: إذا تنجَّسَ الإناءُ بنجاسةٍ كلبيةٍ، ويندرجُ تحتَ هذه العبارة ما تنجَّسَ بالولوغِ في مائعٍ، وما تنجَّسَ بمباشرة الإناء مِن غيرِ ولوغٍ، والله أعلم (¬4). * * * ¬

_ (¬1) "ت" "بنفسه". (¬2) "ت": "يلغ". (¬3) "ت": "صورة". (¬4) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 278): والكلام على هذا الحديث وما يتفرع منه منتشر جداً، ويمكن أن يفرد بالتصنيف، انتهى. قلت: كلام الإمام ابن دقيق في هذا الحديث من أجمع شروح المحدثين عليه؛ لضبطه القواعد الفقهية والأصولية فيه، فما على الفقيه إلا التأمل فيها واستنباط ما يمكنه منها، والله الموفق.

الحديث الثامن

الحديث الثامن رَوَى التِّرْمِذِيُّ من حديثِ المُعتَمِرِ بنِ سليمانَ، عن أيوبَ، عن محمَّدِ بنِ سيرينَ، عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يُغْسَلُ الإنَاءُ إِذَا وَلَغَ فِيْهِ الكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ (¬1)، أُوْلاهُنَّ - أو أُخْرَاهُنَّ - بِالتُّرَابِ، وَإِذَا وَلَغَتْ فِيْهِ الهِرَّةُ غُسِلَ مَرَّةً"، صحَّحهُ التِّرْمِذِيُّ، وقد اختُلِفَ في رَفْعِهِ (¬2). ¬

_ (¬1) "ت": "سبعاً". (¬2) * تخريج الحديث: رواه الترمذي (91)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في سؤر الكلب، وقال: حسن صحيح، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا ولم يذكر فيه: "إذا ولغت فيه الهرة غسل مرة". ورواه أبو داود (72)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الكلب، من طريق المعتمر بن سليمان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم -، وبيَّن أنه موقوف في الهر. وسيأتي الكلام عن الحديث صحة وضعفاً في الوجه الثالث من هذا الحديث.

[الوجه] الأول: في التعريف

الكلامُ عليه من وجوهٍ: * الأول: في التعريفِ: أمَّا أبو هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - فقد تقدَّمَ، وكذلك محمَّدُ بن سيرينَ رحمَهُ الله تعالَى. وأمَّا أيوبُ: فهو ابنُ أبي تميمةَ كَيسانَ، بصريٌّ، والمشهورُ في كُنيتِهِ أبو بكر، وذكر ابنُ الحذَّاء أنَّهُ يُكنَى أبا عثمان، وأنَّهُ رأَى أنسَ ابن مالك، وأيوبُ يُعرَفُ بالسَّخْتَيَانِيِّ، بفتح السين المهملة. قالَ أبو القاسم الجَوهري: مولَى عمَّارِ بن شدَّاد مولَى لعنزة (¬1)، ثمَّ انتمَوا إلَى بني طُهَيَّةَ (¬2)، وماتَ - رحمه الله - في الطاعونِ (¬3) الجارفِ بالبصرةِ سنةَ إحدَى وثلاثين ومئة، وقيل: سنة تسع وعشرين ومئة، وقيل: سنة ثلاثين ومئة، وهو ابنُ ثلاثٍ وستينَ سنةً، وإنَّما يُسَمَّى (¬4) بالسَّخْتَيَانِيِّ؛ لأنَّهُ كانَ يبيعُ الجلودَ. قُلْتُ: وكان أيوبُ - رحمه الله تعالَى - من أكابر المسلمين، ¬

_ (¬1) في النسخ الثلاث: "المغيرة"، والتصويب من مصادر ترجمته. (¬2) في النسخ الثلاث: "طهير"، والتصويب من "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 409)، و"التمهيد" لابن عبد البر (1/ 339). (¬3) "ت": "طاعون". (¬4) "ت": "سُمّى".

وسادات المُتعبِّدِين، وخِيَارِ المُتَثبِّتين (¬1)، قالَ حماد بن زيد: [قال] (¬2) ثنا ميمون الغزَّال قالَ: كُنَّا عندَ الحسن فجاءه أيوبُ، فسلَّمَ عليه وساءَلَهُ، فلمَّا مَضَى أيوبُ، قالَ الحسنُ: هذا سيِّدُ الفِتيان (¬3). وعن عبد الله بن بشر (¬4) قالَ: كان محمَّدُ بن سيرين إذا حدَّثَهُ أيوبُ بالحديثِ يقول: حدَّثَني الصَّدوقُ (¬5). ورَوَى أحمد بن عليٍّ - هو القاضي أبو بكر - حدثنا (¬6) أحمد الموصلي، ثنا حماد بن زيد، عن ابن عون قالَ: كانَ أيوبُ أعلمَنَا بالحديثِ (¬7). ورَوَى أبو بكر أيضاً قالَ: ثنا أبو السائب، ثنا حفص بن غياث قالَ: سمعتُ هشامَ ابن عُروةَ يقول: ما قَدِمَ علينا من العراقِ أفضلُ من ¬

_ (¬1) "ت": "المُنيبين". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 246 - 247)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/ 135)، وعبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (2/ 466)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 3). (¬4) "ت": "بسر". (¬5) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 4). (¬6) في الأصل و"ب": "بن" بدل "حدثنا"، والمثبت من "ت". (¬7) ورواه مسلم في "التمييز" (ص: 177)، ومن طريقه: الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" (2/ 42)، من طريق حماد بن زيد، به.

أيوبَ السَّخْتَيَانِيِّ، ومن ذلك الرَّواسي،؛ يعني: مِسعَراً، لأ [نَّ] (¬1) رأسَه كان كبيراً (¬2). ورَوَى أيضاً قالَ: ثنا داود بن رشيد، ثنا معمر، ثنا عبد الله بن بشر قال: إنَّ الرجلَ رُبَّما جلسَ إلَى أيوبَ، فيكونُ لما يرَى مِنهُ أشدَّ انتفاعاً [منه] (¬3) لو سمعَ مِنهُ حديثاً (¬4). ورَوَى الجوهريُّ من حديث عَفَّان: ثنا حماد بن زيد قالَ: قالَ أيوبُ السَّخْتَيَانِيُّ: ينبغي للعالمِ أنْ يضعَ الترابَ علَى رأسِهِ تواضعاً لله عز وجل (¬5). قُلْتُ: وحسبُك بمالكِ [بن أنس] (¬6) - رضي الله عنه -، وناهيك بما قال في مدحه، وهو قوله: ما حدَّثُتكُم - أو ما أُحَدِّثُكُم - عن أحدٍ إلا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 339) من طريق القاضي أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) ورواه من طريق داود بن رشيد: أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 7) وجاء عنده: فيكون لما يرى منه أشد اتباعاً منه لو سمع حديثه. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35684)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن" (ص: 324)، من طريق عفان، به. (¬6) سقط من "ت".

وأيوبُ أفضلُ مِنهُ (¬1). وكذلك ما قالَ عبدُ الله بن الزُّبَيرِ الحميدي: لقيَ ابنُ عُيَينةَ ستةً وثمانينَ من التابعين، وكان يقول: ما لقيتُ فيهم مثلَ أيوبَ (¬2). وقال ابنُ أبي حاتم: سمعت أبي يقول: هو أحبُّ إليَّ في كلِّ شيءٍ من خالد، وهو ثِقَةٌ لا يُسألُ عن مثله، وهو أكبرُ من سليمانَ التيميِّ، ولا يبلغُ التيميُّ منزلةَ أيوبَ (¬3). وقال محمَّدُ بن سعدٍ فيهِ: [كان] ثِقَةً، [ثبتاً في] (¬4) الحديث، جامعاً، كثيرَ العلم، عَدْلاً، حجةً (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "التعديل والتجريح" للباجي (1/ 386)، و"التمهيد" لابن عبد البر (1/ 340). (¬2) ذكره الحميدي في "مسنده" (2/ 502)، ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 3). (¬3) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 255). (¬4) في الأصل: "شامي"، والتصويب من "ت" و"ب"، و"الطبقات". (¬5) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 246). * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 246)، "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 409)، "المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان (2/ 135)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 255)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 3)، "التعديل والتجريح" للباجي (1/ 385)، "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 339)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 291)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي =

وأما المُعتَمِرُ: فهو ابنُ سليمانَ بن طَرْخَانَ البصري، أبو محمَّدٍ، المشهورُ بالتيميِّ، قيل: كانَ نازلاً فيهم، وهو مولَى مُرَّة. سمع أباه، وعبيدَ الله بن عمر، وخالداً الحذاءَ، وكَهْمساً، وغيرَ واحد. رَوَى عنه: عليُّ بن المَدِيني، وأحمد بن حنبل، ومحمَّد بن أبي بكر، ومحمَّدُ بن الفضل. قالَ محمَّدُ بن سعد (¬1): كان ثقةً، وُلِدَ سنةَ ستٍّ ومئة، ومات سنة سبع وثمانين بالبصرةِ. وعن قُرةَ بن خالد: ما مُعتمرٌ عندنا بدون أبيه. وقال أبو حاتمٍ: ثِقَةٌ صدوقٌ. وعن [أبي] (¬2) سعيد بن يونسَ (¬3) قالَ: مات معتمرٌ يوم قُتِلَ زَبَّانُ (¬4) الطّليقي بالبصرةِ، وكان الناسُ يقولون: ماتَ اليومَ أعبدُ الناس، وقُتِلَ أشطرُ الناس. ¬

_ = (1/ 140)، "تهذيب الكمال" للمزي (3/ 457)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (6/ 15)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (1/ 348). (¬1) في الأصل: "قال: قال محمد بن سعيد"، والتصويب من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في "تهذيب الكمال" (28/ 255)، و"سير أعلام النبلاء" (8/ 478): سعيد بن عيسى الكريزي. (¬4) "ت": "زيَّان".

الوجه الثاني

وقد اتَّفقَ الجماعةُ كلُّهم علَى إخراج حديثه؛ الشيخان في "الصحيحين"، وباقي الستة (¬1). وأمَّا التِّرْمِذِيُّ فقد تقدَّمَ. * * * * الوجه الثاني: ذَكَرَ المُعتَمِرَ وبقيةَ الإسنادِ للتعريف بمَخرَج هذه الرواية. وقولُهُ: وقد اختُلِفَ في رفعه، إشارةٌ إلَى ما يُعَلِّلُ به مَنْ يُعَلِّلُ هذا الحديثَ تبرِّياً عن العُهدةِ. * * * * الوجه الثالث: في تصحيحه: قد ذكرنا تصحيحَ التِّرْمِذِيِّ له، وهو اعتمادٌ علَى عدالةِ الراوي، وقَبولِ زيادةِ العدل فيما يرويه، وحاصلُ تعليل من علَّلَهُ يرجع إلَى ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 290)، "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 49)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 402)، "الثقات" لابن حبان (7/ 521)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 408)، "تهذيب الكمال" للمزي (28/ 250)، "سير أعلام النبلاء" (8/ 477)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 266)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 204).

الاختلافِ في رفعه ووقفه. والَّذِي تلخَّصَ لنا: أنَّهُ مُختلَفٌ في رفعه عن أيوبَ (¬1)، وعن المُعتَمِر (¬2)، وعن قُرَّةَ بن خالد، عن محمَّد (¬3)، ورواه مرفوعاً عن قُرَّةَ أبو عاصم النَّبِيلُ، وفيهِ: "والهِرَّة مَرَّتين" (¬4). ¬

_ (¬1) أما الاختلاف عن أيوب: فرواه أبو عبيد في "الطهور" (204) من طريق إسماعيل ابن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، به، وفي الحديث: ولم يرفعه أيوب. قال أبو عبيد: والثابت عندنا أنه مرفوع، ولكن أيوب ربما أمسك عن الرفع. (¬2) والاختلاف على المعتمر: أنه تقدم رواية سوار عنه. ورواه الحافظ الفقيه أبو بكر الإسماعيلي في "مجموع حديث أيوب السختياني" من طريق أبي بكر البوراني وابن ياسين، عن أحمد بن المقدام، عن المعتمر، عن أيوب، به. قال ابن ياسين: عن أبي هريرة مثله موقوف، لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخالف سوار عن معتمر وقال: ثنا أبو الأشعث، ثنا يزيد بن زريع، ثنا أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: طهور ... ، فذكره من قول أبي هريرة - رضي الله عنه -. وكان الإسماعيلي قد أخرجه من جهة البغوي وغيره، عن سوار، عن معتمر مرفوعاً ثم قال: قال المنيعي: حدثناه يعقوب بن إبراهيم موقوفاً، ثنا المعتمر، عن أيوب، فذكره، وذكر الهر. كذا ذكره المؤلف رحمه الله في "الإمام" (1/ 242). ثم قال (1/ 243): والترمذي اعتمد في التصحيح على عدالة الرجال عنده، ولعله لم يلتفت لوقف من وقفه مع رفع من رفع. (¬3) انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 343). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 64) من طريق أبي عاصم، عن قرة بن خالد، =

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرِّ: وهذا الحديثُ لمْ يرفعْهُ إلا قُرَّةُ بن خالد، وقرة ثِقَةٌ ثبت، إلا أنَّهُ قد خالفه (¬1) غيرُهُ (¬2). وقال البَيهَقِيُّ: وأبو عاصمٍ الضحاكُ بنُ مخلد ثِقَةٌ؛ إلا أنَّهُ أخطأ في إدراج قول أبي هُرَيرَةَ [في الهرة] (¬3) في الحديثِ المرفوع في الكلبِ، وقد رواه عليُّ بن نصر (¬4) الجَهْضَمِيُّ، عن قرة، فبيَّنَهُ بياناً شافياً. ثمَّ أخرجه البَيهَقِيُّ بلفظ: "طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فيهِ الكَلبُ أنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ"، ثُمَّ ذكر أبو هُرَيرَةَ الهِرَّةَ، لا أدري قالَ (¬5): مرَّةً أو مرتين. ¬

_ = به بلفظ: "والهرة مرة أو مرتين" قرة يشك. قال الدارقطني: هذا صحيح. ثم رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 67) من طريق أبي عاصم مرة أخرى وقال: قال أبو بكر - يعني شيخه -: كذا رواه أبو عاصم - بالشك - مرفوعاً، ورواه غيره عن قرة ولوغ الكلب مرفوعاً، وولوغ الهر موقوفاً. وسيأتي تخريجه عند البيهقي من طريق الدارقطني، وكلام البيهقي عليه. (¬1) "ت": "خالف". (¬2) انظر: "التمهيد" (1/ 326)، و"الاستذكار" كلاهما لابن عبد البر (1/ 166). (¬3) زيادة من "السنن الكبرى". (¬4) "ت": "نصر بن علي". (¬5) في "السنن الكبرى": "قاله".

قالَ نصرُ بن عليٍّ: وجدتُهُ في كتاب أبي في موضعٍ آخر (¬1) [عن قُرَّة] (¬2)، عن ابن سيرينَ، عن أبي هُرَيرَةَ، في الكلبِ مسنداً، وفي الهِرَّة موقوفاً (¬3). فتبيَّنَ بما ذكرناه أنَّ مَن صحَّحهُ اعتمد علَى عدالة الرواة الرافعين، ومَن علَّلَهُ علَّلَهُ بالوقفِ (¬4). وأمَّا ما اعترضَ به أبو الفرج بن الجوزي علَى هذا الحديث، وقد رواه من جهة التِّرْمِذِيِّ عن سوار بن عبد الله العنبري عن المُعتَمِر، فأجاب بأنَّ سواراً قالَ سفيان الثوري؛ يعني: أنَّهُ ليسَ بشيء (¬5). [فهذا الَّذِي اعتَرَض به أبو الفرج ليسَ بشيء] (¬6)؛ لأنَّ سواراً الَّذِي قالَ فيهِ سفيان هذا غيرُ سوار الَّذِي رَوَى عنه (¬7) التِّرْمِذِيُّ، ذاك سوارُ بن عبد الله بن قدامة متقدِّمٌ في الطبقةِ (¬8)، وشيخُ التِّرْمِذِيِّ ماتَ ¬

_ (¬1) "ت": "مواضع أخر". (¬2) زيادة من "السنن الكبرى". (¬3) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 247). (¬4) انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 246). (¬5) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 81). (¬6) سقط من "ت". (¬7) "ت": "قال فيه". (¬8) هو جد سوار بن عبد الله شيخ الترمذي. انظر: "الكامل في الضعفاء" (3/ 452).

سنةَ خمس وأربعين [ومئتين] (¬1) فيما قيل (¬2). وقد قالَ الطَّحاوِيُّ بعدما ذكر حديثَ قرة بن خالد، ثنا محمَّد بن سيرين، عن أبي هُرَيرَةَ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "طَهُورُ الإناَءِ إذَا وَلَغَ فيهِ الهِرُّ أنْ يُغسَلَ مرَّةً أو مَرَّتَين"، قرةُ شكَّ (¬3). رواه (¬4) عن أبي بكرة، عن أبي عاصم، عن قرة، وقال: هذا حديثٌ مُتَّصِلُ الإسناد، فيهِ خلافُ ما في الآثارِ الأُوَلِ؛ يعني: الآثار الَّتِي فيها الوضوء من سؤر الهِرَّة، قالَ: وقد فصلَهَا هذا الحديثُ بصحة إسناده، فإنْ كَانَ هذا الأمرُ يُؤخَذُ من جهة الإسناد، فإنَّ القولَ بهذا أَولَى من القولِ بما خالفه، قالَ: فإنْ قالَ قائل: فإنَّ هشامَ بن حسانٍ قد رَوَى هذا الحديثَ عن محمَّد بن سيرين، فلمْ يرفعْهُ - ثمَّ أسندَ الطَّحاوِيُّ الخبرَ من هذه الجهة إلَى أبي هُرَيرَةَ قالَ: سؤرُ الهِرَّةِ يُهْراقُ، ويغسَلُ الإناءُ منه مرَّةً أو مرَّتين. رواه من حديث [أبي هريرة، عن] (¬5) وهب بن جرير، عن هشام قالَ: [قيل له] (¬6): ليسَ في هذا ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "الثقات" لابن حبان (8/ 302)، و"الكاشف" للذهبي (1/ 472). (¬3) "ت": "شك قرة". (¬4) "ت": "فرواه". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت".

ما يُوجِبُ فسادَ حديث قرة؛ لأنَّ محمَّدَ بن سيرين قد كان يفعل هذا في حديث أبي هُرَيرَةَ يَقِفُها (¬1) عليه، فإذا (¬2) سُئِلَ عنها، هلْ [هي] (¬3) عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ رَفَعَها. والدليلُ علَى ذلك ما حدثنا إبرَاهيمُ بن أبي داود، ثنا إبرَاهيم بن عبد الله الهَرَوِي، ثنا إسماعيل بن إبرَاهيم، عن يحيَى بن عتيق، عن محمَّد بن سيرين: أنَّهُ كان إذا حدث عن أبي هُرَيرَةَ فقيل له: عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كلُّ حديثِ أبي هُرَيرَةَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وإنَّما كان يفعلُ ذلك؛ لأنَّ أبا هُرَيرَةَ لمْ يكنْ يحدِّثُهم إلا عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأغناه ما أعلمهم من ذلك في حديث إبرَاهيمَ بن أبي داود أنْ يرفعَ كلَّ حديث يرويه لهم محمَّدٌ عنه. قال: فثبتَ بذلك اتصالُ حديث أبي هُرَيرَةَ [هذا] (¬4) مع ثَبْتِ قُرَّةَ وضبطِه وإتقانِهِ (¬5). * * * ¬

_ (¬1) "ت": "يوقفها"، وكذا في المطبوع من "شرح معاني الآثار". (¬2) "ت": "فإن". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 19 - 20).

الوجه الرابع

* الوجه الرابع (¬1): فيهِ استعمالُ لفظِ (الوُلوغ) في شُرب الهِرَّة. * * * * الوجه الخامس (¬2): في حكمه، وفيهِ مسائل: الأولَى: اختلفـ[ـــت] (¬3) الروايةُ في المرةِ الَّتِي يكون فيها الترابُ، فالَّذِي في "الصحيحِ" لمسلم: "أُولاهُنَّ" (¬4)، وروي "أخراهنَّ" (¬5) أو [ما] (¬6) في معناه، وروي بالشكِّ في "أولاهن" و"أخراهن" (¬7)، ورَوَى عنه (¬8) غيرُ مسلم "إحداهُنَّ" (¬9). وهذه الروايةُ قد حصل فيها لفظة (أو)، وهي إمَّا للشكِّ من (¬10) ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": "الوجه الثالث" وهو خطأ، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل و"ب": "الوجه الرابع" وهو خطأ، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (279/ 91). (¬5) تقدم تخريجه من رواية خلاس، عن أبي هريرة، به. (¬6) زيادة من "ت". (¬7) وهي رواية الترمذي المتقدم تخريجها. (¬8) "ت": "عند". (¬9) تقدم تخريجه عند إسحاق بن راهويه والنسائي. (¬10) في الأصل: "في"، والتصويب من "ت".

الثانية

الراوي، أو للإباحة من الشارعِ، وظاهر اللَّفظ: أنَّهُ من لفظ الشارع. والأقربُ من جهة الدليل: أنْ يكونَ شكًّا من الراويِ، أمَّا أوَّلاً: فلأنَّا لا نعلمُ أحداً يقول بتعيين الأولَى أو الأخيرة (¬1) فقط، بل إمَّا بتعيينِ الأُولَى، أو التخييرِ بين الجميع، وأمَّا ثانياً: فلأنَّهُ لا يظهر معنًى معقولٌ لتخصيصِ التخييرِ بين الأُولَى والأخيرة، فتأمَّلْه (¬2). الثانية: الخبرُ يَرِدُ بمعنَى الأمر، والأمرُ يرد بمعنَى الخبر؛ لاشتراكِ كلِّ واحدٍ منهما مع الآخر في معنَى التحقُّقِ (¬3) والثبوت، فمِنْ ورود الخبر بمعنَى الأمرِ قولُهُ تعالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ ¬

_ (¬1) "ت": "الآخِرة". (¬2) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 275): طريق الجمع بين هذه الروايات أن يقال: "إحداهن" مبهمة و"أولاهن" و"السابعة" معينة، و"أو" إن كانت في نفس الخبر فهي للتخيير، فمقتضى حمل المطلق على المقيد: أن يحمل على أحدهما؛ لأن فيه زيادة على الرواية المعينة، وهو الذي نص عليه الشافعي في "الأم" والبويطي، وصرح به المرعشي وغيره من الأصحاب، وذكره ابن دقيق العيد والسبكي بحثاً، وهو منصوص كما ذكرنا. وإن كانت "أو" شكاً من الراوي؛ فرواية من عيَّن ولم يشك أولى من رواية من أبهم أو شك، فيبقى النظر في الترجيح بين رواية "أولاهن" ورواية "السابعة". ورواية "أولاهن" أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية ومن حيث العدد أيضاً؛ لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسله أخرى لتنظيفه، وقد نص الشافعي على أن الأولى أَولى، انتهى. (¬3) "ت": "التحقيق"

الثالثة

كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، وهذا الحديث مِنهُ؛ أعني: قولَهُ - صلى الله عليه وسلم -: "يُغْسَلُ الإناءُ مِنْ وُلُوغِ الكلب" (¬1). ولَمَّا كان إطلاق الخبر علَى الأمرِ استعمالاً للفظ في غير موضعِهِ كان مجازاً، ولا بُدَّ في الحملِ عليه من دليل يدلُّ عليه، ودليلُهُ (¬2) استحالةُ حملِهِ علَى الحقيقةِ لوجوبِ صدقِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إخباره عن الواقعِ، وعدمِ لزومِ وقوعِ ذلك في الوجودِ. الثالثة: يَستدلُّ به مَن يرَى غسلَ الإناء من ولوغ الهِرَّة (¬3)، وعذرُ مَن خالفَهُ ما قدَّمْناه من أمر رفعِ الحديثِ ووقفِهِ، وقد ذكرنا ما قيل فيه، أو لعلَّهُ يحمِلُه علَى الندبِ، وهو خلافُ الظاهر، يحتاجُ فيهِ إلَى دليلٍ، فإنْ جَعل دليلَهُ الحديثَ الَّذِي يأتي بعد ذلك، فهناك يُنْظَرُ في الترجيحِ بين السَّندَين، أو غيرِهِ. الرابعة: ظاهرُ الأمر بغسلِ الإناءِ من ولوغه تنجسُه (¬4)؛ بناءً علَى ¬

_ (¬1) كذا في النسخ الثلاث، والحديث الذي بنيت عليه المسألة ليس بهذا اللفظ، وإنما لفظه: "يُغْسَلُ الإِنَاءُ إِذَا وَلَغَ فِيْهِ الكَلْبُ"، ولكن موضع الشاهد صحيح، والله أعلم. وانظر: "الإبهاج" للسبكي (2/ 21 - 22). (¬2) "ت": "ودليل". (¬3) وهم الحنفية، انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 65)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 137)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 233). (¬4) "ت": "تنجيسه".

الخامسة

ما تقدَّمَ في ولوغ الكلب، وهذا يقتضي منعَ استعماله في الأكلِ والشرب، ولمْ يقلْ به الظَّاهِريُّ، وقال: يُؤكلُ و (¬1) يشربُ، أو يستعملُ، ثمَّ يغسلُ الإناء بالماءِ (¬2) مرَّةً واحدة فقط (¬3). الخامسة: إذا كان مقتضاهُ النَّجاسَة، فمقتضاه إراقتُهُ، والظَّاهِريُّ خالفَ في ذلك، وقال بوجـ[ـــو] (¬4) بِ غسل الإناء، وأنَّهُ لا يجبُ إهراقُ ما فيه؛ لأنَّهُ لمْ ينجسْ، ثمَّ قالَ: ولا يَنجُسُ إلا ما سمَّاهُ الله تعالَى ورسولُهُ - صلى الله عليه وسلم - نَجِساً (¬5). قُلْتُ: هذا لا يَصِحُّ؛ أعني: هذا الحصرَ الَّذِي ذكره، ولا يتوقَّفُ التنجيس [علَى] (¬6) التسميةِ، وإنَّما يتوقف علَى دليلٍ شرعي يقتضيه، وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "تَنَزَّهُوا مِنَ البَوْلِ، فَإنَّ عَامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنهُ" (¬7) دليلٌ علَى ¬

_ (¬1) "ت": "أو". (¬2) في الأصل: "لما"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 117). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 117 - 118). (¬6) سقط من "ت". (¬7) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 127)، بهذا اللفظ من حديث أنس - رضي الله عنه -، وقال: المحفوظ مرسل. وكذا قال أبو حاتم كما في "العلل" لابنه (1/ 26). وروى عبد بن حميد في "مسنده" (642)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11104)، والدارقطني في "السنن" (1/ 128)، وقال: لا بأس به، والحاكم =

السادسة

وجوبِ التنزُّهِ عنه، ووجوبُ التنزه عنه دليلٌ علَى نجاستِهِ؛ لأنَّهُ معنَى النَّجاسَة، فهذا دليلٌ شرعيٌّ علَى النَّجاسَةِ، وإنْ لمْ يسمَّ نَجِساً. السادسة: من المعلومِ قطعاً أنَّهُ لا أثرَ للذُّكورةِ والأنوثة في معنَى التطهير والتنجيس، فإذا عُلِّقَ الحكمُ بأحدهما تَعَلَّقَ بالآخرِ قطعاً، ويلزمُ الظَّاهِريَّ أنْ (¬1) يَخصَّه بما ذُكِرَ فيهِ من تذكير أو تأنيث (¬2)، إلا أنَّهُ في هذا الجنس يدَّعي أنَّ اللَّفظَ للجنس يعمُّ الذكورَ والإناث، وهو يحتاجُ فيما يدَّعيه من ذلك إلَى نقلٍ خاصٍ، وليسَ إذا فَعَلتِ العربُ هذا في البعيرِ والشاةِ وغيرِهِ يلزمُ تعميمُهُ، والله أعلم. * * * ¬

_ = في "المستدرك" (654)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: "إن عامة عذاب القبر في البول، فتنزهوا من البول". قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 106): إسناده حسن، ليس فيه غير أبي يحيى القتات وفيه لين. وانظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي (7/ 443). (¬1) "ت": "أنه". (¬2) "ت": "تأنيث أو تذكير".

الحديث التاسع

الحديث التاسع رَوَى مَالِكٌ منْ حَدِيثِ كَبشَةَ بنتِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ، وكانَتْ تَحْتَ ابنِ أبي قتَادَةَ: أنَّ أبا قتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوْءاً، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ لِتَشْرَبَ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الإنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ. قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أنْظُرُ إلَيهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " [إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ] (¬1)؛ إنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَافَاتِ". أخرجَهُ الأربعةُ، وابنُ خزيمةَ وابنُ حِبَّانَ فى "صحيحيهِما"، وصحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (¬2). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) * تخريج الحديث: رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 22)، ومن طريقه: أبو داود (75)، كتاب: الطهارة، باب: سؤر الهرة، والنسائي (68)، كتاب: الطهارة، باب: سؤر الهرة، و (340)، كتاب: المياه، باب: سؤر الهرة، والترمذي (92)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في سؤر الهرة، وقال: حسن صحيح، وهذا أحسن شيء روي في هذا الباب، وقد جوَّد مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي =

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

وأمَّا ابنُ مَنده فخالف (¬1). الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريفِ بمَنْ ذُكِرَ فيهِ: أمَّا أبو قَتَادَةَ - رضي الله عنه -: فهو الحارثُ بن رِبعيِّ - بكسر الراء المُهملة، وسكون الباء المُوَحَّدة، بعدها عينٌ مُهملة - (¬2) ويُقَال: النُّعمانُ بن ربعي، ويُقَال: عمرو بن ربعي بن بُلْدُمـ[ـــة] (¬3) - بضم الباء المُوحدة والدال المُهملة أيضاً، وبينهما لامٌ ساكنة - بن خُنَان (¬4) - بضم الخاء ¬

_ = طلحة، ولم يأت به أحدٌ أتمَّ من مالك، وابن ماجه (367)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، وابن خزيمة في "صحيحه" (104)، وابن حبان في "صحيحه" (1299). وقد صحح هذا الحديث جمع من الأئمة والحفاظ منهم: البخاري كما نقله البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 245)، والترمذي وابن خزيمة وابن حبان كما ذكر عنهما آنفاً، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 141)، والدارقطني كما نقل ابن عبد الهادي في "التنقيح" (1/ 59)، والحاكم في "المستدرك" (567)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 246) , وغيرهم. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 41). وسيأتي مزيد كلام عن الحديث في الوجه الثاني من هذا الحديث. (¬1) في كتابه "الصحيح بالاتفاق والاختلاف" كما نقله عنه المؤلف في الوجه الثاني من هذا الحديث. (¬2) وهذا هو الأصح في اسم أبي قتادة واسم أبيه. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "خناس"، والتصويب من "ت".

المُعجَمَة، وبعدها نونٌ - بن سِنَان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن [سَلِمَةَ] (¬1) - بكسر اللام - الأنصاري السَّلَمي، بفتح السين واللام معاً. اتَّفقَ الشيخان وبقيةُ الجماعة علَى إخراح حديثه، قالَ يحيَى بن بُكير: مات رحمه الله سنةَ أربعٍ وخمسين، وسنُّهُ سبعون سنة (¬2). وأما كبشةُ بنت كعب فسيأتي الكلام علَى أمرها. وأما مالكٌ: فهو أبو عبد الله، مالكُ بن أنس [بن مالك] (¬3) بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غَيمان - بفتح الغين المُعجمة، وبعدها [ياء] (¬4) آخرُ الحروف - بن جُثَيل - بضم الجيم، وفتح الثاء المُثلثة، وبعدها آخرُ الحروف - بن عمرو بن الحارث - وهو ذو أصبح - بن حمير بن ¬

_ (¬1) في الأصل: "مسلمة"، والتصويب من "ت". (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 15)، "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 258)، "تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 159)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1731)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (67/ 141)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 647)، "أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 244)، "تهذيب الكمال" للمزي (24/ 194)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 449)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (7/ 327)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (12/ 224). (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

سبأ. ذكر نسبه إسماعيل ابن أبي أويس (¬1) ابن أُخته (¬2). ولد سنةَ ثلاثٍ وتسعين من الهجرةِ - فيما قالَ يَحيَى بن بُكير -، ومات مِن غيرِ خلافٍ سنةَ تسعٍ وسبعين ومئة. وقدرُهُ في الإسلامِ [كبير] (¬3)، والثناءُ عليه من الأئمةِ كثيرٌ، أجلُّهُ وأعظمُهُ مَا ذَكرَهُ مُصعَبُ بن عبد الله الزبيري قالَ: قالَ لنا سُفيان بن عُيَينةَ: نَرَى هذا الحديث الَّذِي يُروَى عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: "يضرِبُ [الناس] (¬4) أكبادَ الإبلِ في طلبِ العلمِ، فلا يَجِدُونَ عالِماً أعلمَ مِنْ عالمِ المَدينةِ": أنَّهُ مالكُ بن أنس (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: "إسماعيل بن يونس"، والتصويب من "ت" و"ب". (¬2) أي: ابن أخت الإمام مالك رحمه الله، وأبوه هو عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي، كان زوج أخت مالك بن أنس وابن عمه. كما ذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 5 - 6). وانظر نسبه في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 63)، و"الإكمال" لابن ماكولا (2/ 566). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) الحديث رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 84) من طريق مصعب بن عبد الله الزبيري. وروى الحديث أيضاً: الترمذي (2680)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في عالم المدينة، وقال: حسن، وقد روي عن ابن عيينة أنه قال في هذا: سئل من عالم =

وقال الطَّهْراني: قالَ عبد الرزاق: وفي قول رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يُوشِكُ أنْ يَضربَ الناسُ أكبادَ الإبلِ يطلبونَ العلمَ، فلا يَجِدونَ عالماً أعلمَ من عالمِ المدينةِ"، قالَ عبدُ الرزاق: وكنا نَرَاهُ مالكَ بن أنس (¬1). وقال عليُّ بن المَدِيني: سمعت عبدَ الرحمن بن مَهدي يقول: أخبرني وهيب (¬2) بن خالد - وكان مِنْ أبصرِ النَّاسِ بالحديثِ - أنَّهُ قدم المدينةَ، قالَ: فلمْ أرَ أحداً، إلا تَعرِفُ وتُنْكِرُ، إلا مالكاً ويَحيى بن سعيدٍ الأنصاري (¬3)، قال عبدُ الرحمن بن مهدي: لا أُقَدِّمُ علَى مالكٍ في صحة الحديث أحداً (¬4). وقال عليُّ بن المديني: سمعتُ يحيَى بن سعيد يقول: ما في القومِ أصحُّ حديثاً من مالك - قالَ: يعني بالقومِ: الثَّوريَّ والأوْزَاعيَّ وابنَ عُيَينةَ - قالَ: ومالكٌ أحبُّ إليَّ من معمر (¬5). ¬

_ = المدينة؟ فقال: إنه مالك بن أنس، وقال إسحاق بن موسى: سمعت ابن عيينة يقول: هو العمري عبد العزيز بن عبد الله الزاهد. (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" (1/ 12). (¬2) "ت": "وهب". (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" (1/ 13 - 14). وانظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (8/ 74). (¬4) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 322)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 65). (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" (1/ 15).

وكان يحيَى بن سعيد يقول: سفيانُ وشعبةُ ليسَ لهما ثالثٌ إلا مالكٌ (¬1). وقال عبد الرحمن بن مهدي: أئمةُ الناس في زمانهم أربعةٌ: سفيانُ الثوري بالكوفةِ، ومالكٌ بالحجازِ، والأوزاعيُّ [بالشامِ] (¬2)، وحمادُ بن زيد بالبصرةِ (¬3). وقال يحيَى بن مَعين: كان مالكٌ من حُجَجِ الله تعالَى علَى خلقه (¬4). وقال أبو حاتم الرَّازيُّ: الحجةُ علَى المُسلمينِ الَّذِين ليسَ فيهم لبسٌ: سفيانُ الثوريُّ، وشعبةٌ، ومالكُ بن أنس، وسفيانُ بن عُيَينةَ، وحمادُ بن زيد (¬5). وقال الربيعُ: سمعت الشَّافِعيَّ يقول: إذا جاءَكَ الحديثُ عن مالكٍ فشُدَّ به يديكَ، وسمعتُ الشَّافِعيَّ يقول: إذا جاءك الخبرُ فمالكٌ النجمُ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 63). (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" (1/ 31)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (35/ 174). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 74). (¬5) انظر: "مقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 10) وزاد فيهم: الأوزاعي. (¬6) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 64) وعنده: "الأثر" بدل "الخبر".

وقال الحسنُ بن رشيق: سمعتُ أبا عبد الرحمن؛ يعني: النَّسَائي، يقول: أمناءُ الله عز وجل علَى علمِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - شعبةُ بن الحجَّاجِ، ومالكُ ابن أنس، ويحيَى بن سعيد القَطَّان، قالَ: والثوريُّ إمامٌ إلا أنَّهُ يروي عن الضعفاءِ، قالَ: وما أحدٌ عندي بعدَ التابعين أنبلُ من مالك بن أنس، ولا أحدٌ آمنُ علَى الحديثِ مِنهُ، ثمَّ يليه (¬1) شعبةُ في الحديثِ، ثمَّ يحيَى بن سعيد القطان، [و] (¬2) ليسَ أحدٌ بعد التابعين آمنَ علَى الحديثِ من هؤلاء الثلاثة، ولا أقلَّ روايةً عن الضعفاءِ (¬3). ورَوَى ابن دَاسَةَ عن أبي داودَ السِّجِسْتَانِيِّ قالَ: رحمَ اللهُ مالكاً كان إماماً، رحم الله الشَّافِعيَّ كان إماماً، رحم الله أبا حنيفةَ كان إماماً. رواه أبو عمر (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "إليه"، والتصويب من "ت" و"ب". (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 62 - 63). (¬4) رواه أبو عمر ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 163). * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (ص: 344 - القسم المتمم"، "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 310)، "مقدمة الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 11)، "الثقات" لابن حبان (7/ 459)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (6/ 316)، "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 61)، "التعديل والتجريح" للباجي (2/ 696)، "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (1/ 102)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي =

وأمَّا ابنُ حِبَّانَ - بكسر الحاء المُهملة، وبعدها باءٌ مُوحَّدةٌ مشددة -: فهو أبو حاتمٍ محمَّدُ بن حبان بن أحمد بن حبان - كالأولِ - ابن معاذ بن مَعْبَدٍ - بالباءِ المُوحدة -[ثم اختلف بعد هذا، فقيل: ابن سعيد بن سَهِيد، وقيل: ابن معبد] (¬1) بن هَدِيَّةَ، وقيل: معبد بن سَهِيد - بفتح السين، وكسر الهاء - بن هدية - بفتح الهاء، وكسر الدال المُهمَلَة، وتشديدِ الياءِ آخرِ الحروف، بعدها هاءٌ - بن مرَّة بن سعد (¬2) ابن يزيد [بن مرَّة] (¬3) بن زيد بن عبد الله بن دارِم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زهير بن زيدِ مَنَاة بن تميم. كان أحدَ الحفاظِ المشهورين، والفضلاءِ في هذه الصناعة (¬4) المُبرِّزِين، سمع الخلقَ الكثير، ورحل الرحلةَ الواسعة، وزار (¬5) الأقطارَ الشاسعة، وصنَّفَ التصانيفَ العديدة، وأظهر المعارف المُفيدة، قالَ في ¬

_ = (2/ 177)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 383)، "تهذيب الكمال" للمزي (27/ 91)، "سير أعلام النبلاء" (8/ 48)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 207)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 5)، "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 96). (¬1) زيادة من "ت" و"ب"، وقد ألحقت في الأصل إلا أنها مطموسة. (¬2) في النسخ الثلاث: "سعيد"، والتصويب من مصادر ترجمته. (¬3) زيادة من "ت" و"ب"، وقد ألحقت في الأصل إلا أنها مطموسة. (¬4) "ت": "الصنعة". (¬5) في هامش "ت": "لعله: ودار".

مقدمة (¬1) كتابه المُسمَّى بـ"التقاسيم والأنواع" - وهو الَّذِي عنيناه بـ "صحيحه" -: ولعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ (¬2) من إسبيجابَ إلَى الإسكندريةِ، ولمْ نروِ في كتابنا هذا إلا عن مئة وخمسين شيخاً، أقلَّ أو أكثرَ، ولعلَّ مُعَوَّلَ كتابِنا هذا يكون علَى نحوٍ من عشرين شيخاً ممن أدَرْنا السننَ عليهم، واقتنعْنَا بروايتهم عن رواية غيرهم علَى الشرائطِ الَّتِي وصفتُهَا (¬3). وذكر الحافظُ أبو بكر الخطيب في كتاب "الجامع بين أخلاق الراوي وآداب السامع" قالَ: ومن الكتبِ الَّتِي تكثر منافعُهَا - إنْ كَانت علَى قدرِ ما ترجمها به [واضعُها] (¬4) - مصنفاتُ أبي حاتم محمَّدِ ابن حِبَّان البُسْتِيِّ الَّتِي ذكرها لي مسعودُ بن ناصر السِّجْزيُّ، وأوقفني علَى تذكرة بأساميها، ولمْ يُقَدَّرْ [ليَ] (¬5) الوصولُ إلَى النظرِ فيها؛ لأنَّها غيرُ موجودةٍ بيننا، ولا معروفةٍ عندنا، وأنا أذكرُ منها [ما] (¬6) ¬

_ (¬1) "ت": "تقدمة"، وكتب في الهامش: "لعله: مقدمة". (¬2) قال الذهبي في "السير" (16/ 94): كذا فلتكن الهمم، هذا مع ما كان عليه من الفقه والعربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف. (¬3) انظر: "صحيح ابن حبان" (1/ 152). وعنده: "وصفناها" بدل "وصفتها". (¬4) زيادة من "ت"، وألحقت في الأصل إلا أنها مطموسة. (¬5) زيادة من "الجامع لأخلاق الراوي" (2/ 302). (¬6) سقط من "ت".

استحسنته (¬1) سِوَى ما عَدَلْتُ عنه اطَّرحته. قُلْتُ: وأنا أذكرُ ممَّا ذكرَ الخطيبُ ما استحسنتُهُ (¬2): كتابُ "علل أوهام أصحاب التواريخ" عشرةُ أجزاء، كتاب "علل حديث الزهري" عشرون جزءاً، كتاب "علل حديث مالك بن أنس" عشرة أجزاء، كتاب "علل ما أسند أبو حنيفة" عشرة أجزاء، كتابُ "ما خالف الثوريُّ شعبةَ" عشرة أجزاء (¬3)، كتاب "ما خالف شعبةُ الثوريَّ" جزءان، كتاب "ما انفردَ به أهلُ المدينة من السننِ" عشرة أجزاء، كتاب "ما انفرد به أهل مكة من السننِ" خمسة أجزاء، [كتاب "ما انفرد به أهل خراسان من السنن" (¬4) خمسة أجزاء] (¬5)، كتاب "ما انفرد به أهل العراق من السننِ" عشرة أجزاء، كتاب "ما عندَ شعبةَ عن قتادةَ وليسَ عندَ سعيدٍ عن قتادة" جزءان، كتاب "ما عندَ سعيد عن قتادة وليسَ عندَ شعبة عن قتادة" جزءان، كتاب "غرائب الأخبار" عشرون جزءاً، كتاب "ما أَغْرَبَ الكوفيون علَى البصريين" عشرة أجزاء، كتاب "ما أغرب ¬

_ (¬1) "ت": "استحسنه". (¬2) "ت": "مما استحسنه". (¬3) كذا في النسخ الثلاث، وفي المطبوع من "الجامع": ثلاثة أجزاء. (¬4) في الأصل: "السنة"، والتصويب من "ت". (¬5) سقط من "ب".

البصريون علَى الكوفيين" ثمانية أجزاء، كتاب "الفصل والوصل" عشرة أجزاء، كتاب "التمييز بين حديث النَّضر الحداني والنضر الخزاز" جزءان، كتاب " [التمييز] (¬1) بين أشعث بن عبد الملك وأشعث بن سِوَار" جزءان، كتاب "الفصل بين حديث منصور بن المُعتَمِر ومنصور ابن زاذان" ثلاثة أجزاء، كتاب "الفصل بين حديث مكحول الشامي ومكحول الأزدي" جزء، كتاب "آداب الرحَّالة" جزءان، كتاب "ما جعل عبد الله بن عمر عبيد الله بن عمر" [جزءان] (¬2)، كتاب "ما جعل شيبان سفيان أو سفيان شيبان" ثلاثة أجزاء، كتاب "مناقب مالك بن أنس" جزءان، كتاب "مناقب الشَّافِعي" جزءان، [كتاب "المُعجَم علَى المُدنِ" عشرة أجزاء، كتاب "الجمع بين الأخبار المُتضادَّة" جزءان] (¬3)، كتاب "وصف العدل والمُعدِّلِ" جزءان، كتاب "أنواع العلوم وأوصافُها" ثلاثون جزءاً. قال: ومن آخر ما صنف كتاب "الهداية إلى علم السنن" (¬4)، قصد ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في النسخ الثلاث: "الهداية على السنن"، والتصويب من "الجامع" ومصادر الترجمة.

فيهِ [إظهارَ] (¬1) الصناعتين اللتين هما صناعتا (¬2) الحديث والفقه، يذكرُ حديثاً ويترجمُ له، ثمَّ يذكرُ من يَتَفَرَّدُ بذلك الحديث، ومِن مَفَارِيدِ أيِّ بلد، ويذكرُ تاريخَ كلِّ اسم في إسناده من الصحابةِ إلَى شيخه مما يُعرَفُ نسبُهُ (¬3) ومولده وموته وكنيته وقبيلته وفضله وتيقظه، ثمَّ يذكُرُ ما في ذلك الحديثِ من الفقهِ والحكمة، وإنْ عارضَه خبرٌ آخرُ ذكره، وجَمَعَ بينهما، وإنْ تضادَّ لفظُهُ في خبرٍ آخرَ تَلَطَّفَ للجمع بينهما، حتَّى يُعْلَمَ ما في كلِّ خبر من صناعة الفقه والحديث معاً، وهذا من أنبلِ كتبِهِ وأعزِّها. قال الخطيب: سألتُ مسعودَ بن ناصر فقلتُ له: أكلُّ هذه الكتب موجودةٌ عندكم، ومقدورٌ عليها ببلادكم؟ فقال: لا، إنَّما يوجدُ منها الشيءُ اليسير، والنزرُ الحقير، قالَ: وقد كانَ أبو حاتم بن حبان سَبَّلَ (¬4) كتبَهُ، ووقفها (¬5)، وجمعها في دار رسمها (¬6) بها، فكانَ السببَ في ذهابها - مع تطاولِ الزمان - ضعفُ أمر ¬

_ (¬1) زيادة من "الجامع". (¬2) في الأصل و"ب": "صناعة"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "مما تعرف نسبته"، وفي المطبوع من "الجامع": "بما يعرف من نسبته". (¬4) أي: جعلها في سبيل الله. (¬5) في الأصل و "ت": "ووضعها"، والمثبت من "ب". (¬6) "ت": "وسماها".

السلطان، واستيلاءُ ذوي العبث والفساد علَى أهل تلك البلاد. [و] (¬1) قال: [و] (¬2) مِثْلُ هذه الكتبِ الجليلة كان يجبُ أنْ يكثرَ بها النسخُ، ويتنافسَ أهل العلم، ويكتبوها (¬3) لأنفسهم، ويُخلِّدوها (¬4) أحرازَهم، ولا أحسبُ المانعَ من ذلك كان إلا قلَّةَ معرفة أهل تلك البلاد بمحلِّ العلم وفضله، وزهدهِم فيهِ، ورغبتهِم عنه، وعدمِ تَبصرتهم به، والله أعلم (¬5). قُلْتُ: ولمْ يذكرِ الخطيبُ فيمَا ذَكرَهُ كتابَ "التقاسيم والأنواع" الَّذِي اتَّصلَ وجودُهُ إلَى زماننا، وانتهَى أمرُهُ إلينا، وقد رأيت أيضاً لأبي حاتم غير مَا ذَكرَهُ الخطيب عن مسعود. وقد ذكر أبا حاتم أبو سعد الإدريسيُّ في "تاريخ سَمَرْقَنْدَ" فقال: وكان أبو حاتم علَى قضاء سمرقند مدةً طويلة، وكان من فقهاء (¬6) الدين، وحُفَّاظ الآثار، والمشهورين في الأمصارِ والأقطار، عالماً بالطبِّ والنجوم وفنون العلم، ألَّف "المُسندَ الصحيح"، و"التاريخ"، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في النسخ الثلاث: "ويكتبونها" بالنون، والصواب حذفها. (¬4) "ت" و"ب": "ويخلدونها" وهو خطأ. (¬5) انظر: "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب (2/ 302 - 304). (¬6) "ت": "حفاظ".

و"الضعفاء"، والكتب الكثيرة في كلِّ فنٍ، وفقَّهَ الناس (¬1) بسمرقند، وبنَى له الأميرُ أبو المُظفر أحمدُ بن نصر بن أحمد بن شامان صُفَّةً لأهل العلم، خصوصاً لأهل الحديث، ثمَّ تحوَّلَ أبو حاتم من سمرقند إلَى بُسْتٍ، ومات بها، رحمه الله تعالَى. رَوَى عن الحسنِ بن سفيان، وأبي خليفة، وهذه الطبقة من الخراسانيين، والعراقيين، والشاميين، والحجازيين. وذكره الحاكمُ أبو عبد الله في "تاريخ نَيْسَابور" فقال: أبو حاتم البُستِيِّ القاضي، كان من أوعيةِ اللغةِ والفقة والحديث والوعظ، ومن عقلاءِ الرجال، وكان [قد] (¬2) قدم نَيْسَابورَ فسمع (¬3) من عبد الله بن شِيرَوَيه، ثمَّ إنَّهُ دخلَ العراق فأكثرَ عن أبي خليفة وأقرانِه، وبالأهوازِ وبالموصلِ وبالجزيرة وبالشامِ وبمصرَ وبالحجازِ، وكتب بهراةَ ومروٍ وبُخارَى، ورحل إلَى عمر بن محمَّد بن بجيرٍ وأكثر عنه، ثمَّ صنَّفَ، فأُخْرِجَ له من التصنيفِ في الحديثِ ما لمْ يُسبقْ إليه، ووَلِيَ القضاءَ بسمرقندَ وغيرِها من المدنِ بخراسان، بمروٍ (¬4) ونَيْسَابورَ سنةَ أربع وثلاثين وثلاث مئة، وخرج إلَى القضاءِ إلَى نَسَا وغيرها، ¬

_ (¬1) "ت": "وقفه للناس". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "سمع". (¬4) جاء في هامش "ت": "لعله: ومرو".

وانصرفَ إلينا سنةَ سبع وثلاثين، وأقامَ بنَيْسَابور، وبنَى الخانِقاهَ (¬1) في باغ الراس (¬2) المنسوب إليه، فبقي بنَيْسَابور [إلَى] (¬3) سنة أربعين، وانصرف إلَى وطنه ببُسْتٍ، وكانت الرحلةُ بخراسان إلَى مصنفاتِهِ. وذكره الحافظ أبو بكر الخطيبُ فقال فيهِ: وكان قد سافر الكثيرَ، وسمع وصنَّفَ كتباً واسعةً، وحدَّث عن أبي خليفة الفضل بن الحُباب الجُمَحي، والحسن بن سفيان النسوي، وأبي يعلَى المُوصلي، وأبي بكر بن خُزَيمة، ومحمَّد بن إسحاق السرَّاج النَيْسَابوري، وغيرهم من أهل خرسان والعراق والشام ومصر، وكان ثقةً، ثبتاً، فاضلاً، فَهِماً (¬4). وذكره الأميرُ أبو نصرٍ فقال فيهِ: حافظٌ جليلٌ كثيرُ التصانيف (¬5). وذكر [هـ] (¬6) في موضع آخر فقال: وكان من الحفاظِ الأثبات (¬7). ¬

_ (¬1) أصل الخانِقاه بقعة يسكنها أهل الصلاح والصوفية، معربة، وخانِقاه: بلدة. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (مادة: خنق). (¬2) بلدة بمروٍ على فرسخين من مرو، انظر: "معجم البلدان" لياقوت (1/ 382). (¬3) سقط من "ت". (¬4) ورواه عن الخطيب: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 252). (¬5) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (1/ 432). (¬6) زيادة من "ت". (¬7) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (2/ 316).

وذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر فقال بعدَ ذكرِ نسبِهِ: أحدُ الأئمةِ الرَّحَّالين (¬1) المُصنفين المُحسنين (¬2). قُلْتُ: وكان أبو حاتم من المُنزِّهةِ المُؤولة، مُتحفِّظاً في الكلامِ علَى الأحاديث المُشكِلَة، نافياً عن أهل الحديث عُقَدَ التشبيه، ناطقاً في هذا الفن بملءِ فيه، فرُبَّما تسبَّبَ بذلك (¬3) - أو بعضِه - إلَى الشناءةِ (¬4) والشناعة من مخالفيه، واختلاف [الناس] (¬5) في العقائدِ والمذاهب جزيلاً طويلاً، وأرتعَ بعضُهُم في أعراضِ بعضٍ مَرتعاً وبيلاً، وسدَّدَ في الطعنِ من السهام ما لا تردُّهُ دروع (¬6) الزجرِ ولا المَلام، وبثَّ في الأرضِ داهيةً يَحِقُّ أنْ يُقَال [لها] (¬7): صَمِّي صَمامَ (¬8) {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25]. ¬

_ (¬1) "ب": "الراحلين". (¬2) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (52/ 249). (¬3) "ت": "فربما نسب في ذلك". (¬4) "ت": "السفاهة". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل و"ب": "يرده روع"، والمثبت من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) قولهم: صَمِّي صَمَام: يضرب للرجل يأتي الداهية؛ أي: اخرسي يا صمام. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 345)، (مادة: صمم).

قالَ الحاكم بعد كلام ذكره أبو حاتم: كثيرُ العلم، وكان يُحسَدُ لفضلِهِ وتقدمِهِ (¬1). قُلْتُ: وقد اخترنا في غير هذا الكتاب تركَ اعتبار المذاهب بالنسبةِ إلَى قَبول الرواية، وهو المنقول عن الشَّافِعيِّ - رضي الله عنه - في أهل الأهواء، واستثنَى الخطَّابِيَّةَ الَّذِين يَرَون شهادةَ الزور علَى وفق مذهبهم (¬2). وذكر أبو بكر بن نُقْطَةَ أبا حاتم في كتابِهِ فقال: وكان إماماً، حافظاً، صنَّفَ في علم الحديث كتباً حسنة، توفي سنة أربع وخمسين وثلاث مئة (¬3). وكذا ذكره الأميرُ قبلَه (¬4). ¬

_ (¬1) نقله ابن حجر في "لسان الميزان" (5/ 114). (¬2) انظر: "الاقتراح" للمؤلف (ص: 292). وانظر: "الكفاية" للخطيب (ص: 120)، و"شرح مسلم" للنووي (1/ 60)، وغيرهما. (¬3) انظر: "التقييد" لابن نقطة (ص: 65). (¬4) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (2/ 317). * مصادر الترجمة: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (52/ 249)، "الإكمال" لابن ماكولا (2/ 316)، "التقييد" لابن نقطة (ص: 64)، "سير أعلام النبلاء" (16/ 92)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (3/ 920)، "طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 131)، "لسان الميزان" لابن حجر (5/ 112)، "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 375).

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجه الثاني: في تصحيحِهِ: رواه مالك في "المُوطأ" عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حُميدة بنت عبيد بن رفاعة (¬1)، عن كبشة، وقد ذكرنا من صحَّحه. وقوله: وأمَّا ابن منده فخالف؛ أي: في التصحيحِ، فإنَّهُ لمَّا أخرجَ الحديثَ في "صحيحه بالاتفاقِ والاختلاف" قالَ: وأمّ يحيَى اسمُها حُميدة، وخالتُها كَبشة، ولا يُعرَفُ لهما روايةٌ إلا في هذا الحديث، ومحلُّها محلُّ الجَهالة، ولا يثبتُ هذا الخبرُ من وجه من الوجوهِ، وسبيلُهُ [سبيلُ] (¬2) المعلولُ. فجرَى ابن مَنْدَه على ما اشتهر عن أهل الحديث [أنَّهُ] (¬3) مَن لا يروي (¬4) عنه إلا راوٍ واحد فهو مجهول، ولعلَّ من صحَّحهُ اعتمد علَى ¬

_ (¬1) فائدة: اختلف في حُميدة، هل هي بضم الحاء أو فتحها؟ قال المؤلف رحمه الله في "الإمام" (1/ 233): اختلف في رفع الحاء ونصبها، فبعضهم يقول: حَميدة، وبعضهم يقول: حُميدة، وهو الأكثر، انتهى. وهي: حميدة بنت عبيد بن رفاعة، كذا قال سائر الرواة في اسمها، وهو الصواب، وقال يحيى بن يحيى في نسبها: حميدة بنت أبي عبيدة بن فورة، قاله القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (2/ 119). (¬2) زيادة من "البدر المنير" لابن الملقن (2/ 342)، حيث نقل كلام ابن منده هذا. (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "لم يرو".

كون مالك رواه وأخرجه، مع ما عُلِمَ من تشدُّدِهِ وتحرُّزِهِ في الرجالِ. قرأت بخط الحافظ أبي الفضل محمَّد بن طاهر وروايته في "سؤالات أبي زرعة" قالَ: سمعتُ أحمدَ بن حنبل يقول: مالك إذا رَوَى عن رجل لمْ يُعرَفْ فهو حجَّةٌ (¬1). ورَوَى طاهر بن خالد بن نزار، عن أبيه، عن سفيان بن عُيَينةَ: أنَّهُ ذكر مالكَ بن أنس فقال: كان لا يُبَلِّغُ من الحديثِ إلا صحيحاً، ولا يُحدِّثُ إلا عن ثقات الناس، وما أرَى المدينةَ إلا ستَخْرَبُ بعد موت مالك بن أنس (¬2). وهذا اللَّفظ الَّذِي لسفيانَ أعمُّ من كلام أحمدَ الَّذِي قبله مع احتمال كلام أحمد لموافقته. وذكر بشر بن عمر الزَّهراني قالَ: سألتُ مالكَ بن أنس عن رجلٍ فقال: هلْ رأيتَهُ في كتبي؟ قُلْتُ: لا، قالَ: لو كان ثقةً لرأيته في كتبي (¬3). وهذا يُفهَمُ مِنهُ أنَّ كلَّ من في كتبه ثِقَةٌ، وإنْ كَان قد شَغَّبَ في هذا بعضُ المُتَأخِّرين؛ لأنَّهُ لا يلزم من كون كلِّ ثقةٍ في كتابِهِ أنْ يكونَ ¬

_ (¬1) نقله عن أبي زرعة: ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (1/ 377). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 74). (¬3) رواه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص: 410)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 14)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 22)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 68).

الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

كلُّ من في كتابِهِ ثقة، إلا أنَّ هذا يُبْطِلُ فائدةَ هذا الكلام بالنسبةِ إلَى السائلِ؛ لأنَّهُ لو كان في كتابِهِ غيرُ ثقةٍ لمْ يدلَّ وجودُهُ في كتابِهِ علَى أنَّهُ ثِقَةٌ، وكلامُ مالك يدلُّ علَى أنَّهُ أحاله في الثقة علَى وجوده في كتابِهِ. وبالجملةِ فإنْ سلكْتَ هذا (¬1) الطريق في تصحيح هذا الحديث؛ أعني: الاعتمادَ علَى تخريج مالك له، وإلا فالقولُ ما قالَ ابنُ منده (¬2)، وقد ترك الشيخان إخراجَهُ في "صحيحيهما"، وأخرجه أبو داودَ، والنَّسَائيُّ، والتِّرْمِذِيُّ، ونُسِبَ في الأصلِ إلَى التِّرْمِذِيِّ لحكمِهِ بتصحيحه. ومُرادُنا بما نقوله في هذا الكتاب أنَّ ابنَ خزيمة أخرجه في "صحيحهِ" الكتابُ المُسمَّى بـ"مختصر المُختصر من الصحيحِ"، ومرادنا بـ"صحيح ابن حِبَّان": "التقاسيمُ والأنواعُ". * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيهِ مسائل: الأولَى: قولُهُ: "كانت تحت ابن أبي قتادة" كنايةٌ عن كونها زوجتَهُ، والأشبهُ أنْ تكونَ من مجاز التشبيه، شبَّهَ علوَ الزوجِ المعنوي علَى المرأةِ بالفوقيَّةِ الحِسيَّةِ، وضِدُّهُ في حق المرأة بالتحتيَّةِ الحسية. ¬

_ (¬1) "ت": "هذه". (¬2) نقله عنه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 42).

الثانية

الثانية: فسكبتْ له وَضوءاً؛ أي: صبَّتْهُ، قالَ الله تعالَى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة: 31]؛ أي: مصبوب، ومن مَجاز هذه اللفظة فَرَسٌ سَكْبٌ، كأنَّ شدةَ جَريِهِ كَسَكْب الماء، فهو سَكْبٌ (¬1)، [و] (¬2) كذلك ثوب سَكْبٌ، يُشَبَّهُ بالمُنْصَبِّ لدِقَّتِهِ ورِقَّتِهِ، كأنَّهُ ماءٌ مَسْكوب، ودمعٌ ساكِبٌ؛ إمَّا بمعنَى مَسْكوب، وإمَّا تصويراً (¬3) له بصورة الفاعل (¬4). الثالثة: المشهور أنَّ الوَضوءَ - بالفتحِ - هو الماء، وبالضمِّ: المصدر الَّذِي هو الفعل (¬5)، قالَ سِيبَوَيْه - رحمه الله تعالَى - في بابِ ما جاء من المصادرِ علَى (فُعُول): وذلك قولك: توضَّأْتُ وُضُوءاً حَسَناً (¬6)، [وتطهَّرْتُ طُهُوراً حسناً] (¬7). وذكر بعضُ المُتكلمين عليه: أنَّهُ شذَّ في هذا الباب خمسةُ مصادر فجاءت علَى هيئة الاسم (¬8)، وكان الوجهُ فيها أنْ تكونَ مضمومةَ الأول، ¬

_ (¬1) "ت": "يسكب". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "أو تصوير" بدل "وإما تصويراً". (¬4) "ت" زيادة: "باعتبار دفع بعض أجزائه لما بين يديها". وانظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 416)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله. (¬5) "ت": "الفاعل". (¬6) انظر: "الكتاب" لسيبويه (4/ 42). (¬7) سقط من "ت". (¬8) قال الزبيدي: والفَعولُ في المصادر - بالفتح - قليلٌ جدًّا غيرَ خمسَةِ أَلفاظٍ فيما =

إلا أنهم استعملوا ضَمَّ الأول فيها اسماً، فعكسُ القياسِ في ذلك، فقال (¬1): فمنها الوَضوء - بالفتحِ - المصدر، ولذلك وصفَهَ بالحسنِ ليتبيَّنَ (¬2) معنَى المصدرية فيه، ثمَّ قالَ: فإذا أردتَ الاسمَ قُلْتَ: الوُضوء - بضم الواو -، وكذلك الطَّهور والطُّهور. قُلْتُ: لا ينبغي أنْ يكونَ الوَضوء - بالفتحِ - مُختصًّا بالمصدرِ، فإنَّهُ قد ورد إطلاقُهُ في الماءِ هاهنا، فإنَّ المشهورَ علَى الألسنةِ فيهِ الفتحُ، نعم هاهُنا بحثٌ، وهو أن الوَضوءَ - بالفتحِ - هو اسمٌ للماء من حيثُ هو ماءٌ (¬3)، [أ] (¬4) وللماءِ بقيدِ نسبتِهِ إلَى الوُضوءِ بالضمِّ (¬5)؟ وقد ذكرتُ في "شرح العمدة" فائدةً تتَعَلَّقُ بهذا (¬6) , وستأتي في ¬

_ = سَمِعْتُ، ذَكرها ابنُ عُصفورٍ وثعلبٌ في "الفصيح" وهي: الوَضُوءُ والوَقُودُ والطَّهُورُ والوَلُوعُ والقَبُولُ. انظر: "تاج العروس" (مادة: وض أ). (¬1) "ت": "قال". (¬2) "ت": "ليبين". (¬3) أي: مطلق الماء. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) أي: للماء بقيد كونه مُتَوضأ به، أو معداً للوضوء به. (¬6) قال المؤلف رحمه الله في "شرح عمدة الأحكام" (1/ 32): فيه نظر - أي البحث الذي ذكره آنفاً - يحتاج إلى كشف، وتنبني عليه قاعدة فقهية وهو أنه: في بعض الأحاديث التي استدل بها على أن الماء المستعمل طاهر قول جابر: "فصب علي من وضوءه"، فإنا إن جعلنا "الوضوء" اسماً لمطلق الماء، لم يكن =

الرابعة

هذا الحديث فائدةٌ أُخرَى إنْ شاء الله تعالَى، ويُستَدَلُّ علَى أنَّهُ اسمٌ للماء، بما جاء في الحديثِ مِنْ وضعِ الوَضوء للغُسل لا للوُضوء، وفيهِ احتمالٌ، والله أعلم. الرابعة: أصغَى: أمال، مُعدَّى بالهمزةِ من (صَغَى) إذا مال، والصَّغْو: الميل، يُقَال: صَغَت النجومُ والشمس صَغْواً: مالت للغروب، ويُقَال: صَغَيْتُ (¬1) الإناء وأصغَيتُهُ، وأصغيتُ إلَى فلان: مِلْتُ بسمعي نحوه (¬2)، قالَ الله تعالَى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ ¬

_ = في قوله: "فصب علي من وضوئه" دليل على طهارة الماء المستعمل؛ لأنه يصير التقدير: فصب عليَّ من مائه، ولا يلزم أن يكون ماؤه هو الذي استُعمل في أعضائه؛ لأنا نتكلم على أن "الوضوء" اسم لمطلق الماء، وإذا لم يلزم ذلك: جاز أن يكون المراد بوضوئه: فضلة مائه الذي توضأ ببعضه، لا ما استعمله في أعضائه، فلا يبقى فيه دليل من جهة اللفظ على ما ذكر من طهارة الماء المستعمل. وإن جعلنا "الوَضوء" - بالفتح -: الماء مقيداً بالإضافة على الوُضوء - بالضم -، أعني: استعماله في الأعضاء، أو إعداده لذلك، فهاهنا يمكن أن يقال: فيه دليل؛ لأن "وَضوءه" - بالفتح - متردد بين مائه المُعدِّ للوُضوء - بالضم -، وبين مائه المستعمل في الوضوء، وحمله على الثاني أولى؛ لأنه الحقيقة، أو الأقرب إلى الحقيقة، واستعماله بمعنى المُعد مجاز، والحمل على الحقيقة أو الأقرب إلى الحقيقة أولى، انتهى. (¬1) قال شَمِرٌ: صَغَوْتُ وصَغَيْتُ وصَغِيتُ، وأكَثرهُ صَغَيْت. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 461). (¬2) "ت": "له" بدل "نحوه".

الخامسة

لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام: 113]، وقيل: صَغَيْتُ أَصْغَى، وأَصْغَيْتُ أُصْغِي، من صَاغِيَةِ الرجل الَّذِين يميلون إليه، ومن مجازِهِ قولُهم: فلانٌ مُصغًى إناؤُهُ؛ أي: منقوصٌ حقُّهُ، وقد يُكنَّى به عن الهلاك (¬1). الخامسة: قوله: "لِتَشربَ مِنهُ": يُحتمَلُ أنْ يكونَ فيهِ حذفٌ؛ أي: تشرب (¬2) من مائه، وتكونُ (مِن) للتبعيض [أو لابتداء الغاية] (¬3)، ويُحتمَلُ أنْ لا يكونَ فيهِ حذف، وتكون (من) لابتداء الغاية؛ أي: يكونُ ابتداءُ شربِها من الإناءِ. السادسة: قالَ القاضي أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالَى: قوله: "أتعجبينَ يا ابنةَ أخي؟ " يُحتمَلُ أنْ يكونَ علَى معنَى التحقيق لما ظنَّهُ من تعجبِهَا؛ لجواز أنْ يكونَ نظرُهَا إليه لغير ذلك، [فلما] (¬4) قالت: نعم، قال لها: إنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّهَا لَيسَتْ بِنَجَسٍ" (¬5). السابعة: "لَيسَتْ بِنَجَسٍ" - مفتوحَ الجيم -: من معنَى النَّجاسَة، وأصلُهَا القذارةُ، قالَ الله تعالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، ثمَّ اشتُهرَ في عُرْفِ حَمَلَةِ الشريعةِ فيما يُجتنَبُ استصحابُهُ في الصلاةِ، ¬

_ (¬1) انظر: "مفرادات القرآن" للراغب (ص: 485)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله. (¬2) "ت": "لتشرب". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "المنتقى" للباجي. (¬5) انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (1/ 62).

الثامنة

ويُعبَّر عن إزالته بالطهارة من الخبث (¬1). الثامنة: قالَ الراغبُ الأصبهاني: الطَّوْفُ والطَّوَافُ المشيُ حولَ الشيء، ومنه: الطائفُ لمن يطوفُ حولَ البيوت حافظاً، يُقَال: طافَ به يطوف، وقالَ عز وجل: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17]، وقالَ تعالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، ومنه استُعيرَ الطائفُ من الجنِّ، والخيال، والحادثة وغيرها، قالَ الله تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ} [الأعراف: 201]، وقد قرئ: {طَيْفٌ} (¬2): [وهو خيال الشيء وصورته المُترائي له في المنامِ أو اليقظة] (¬3)، ومنه قيل للخيال: طَيف، قالَ تعالَى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19] تعريضاً بما نالهم (¬4) من النَّائبةِ، ومنه قولُهُ عز وجل: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125]؛ أي: لِقُصَّادِهِ الَّذِين يطوفون به، والطَّوَافون في قوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] عبارةٌ عن الخدمِ، وعلَى هذا الوجه قالَ - صلى الله عليه وسلم - في ¬

_ (¬1) في "الأصل" و"ب": "ويعتبر فيه الطهارة من الخبث"، والمثبت من "ت". (¬2) هي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب، والكسائي. انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 295). (¬3) ما بين معكوفتين ألحق على هامش الأصل إلا أنه مطموس، والمثبت من "ت" و"ب". (¬4) "ت": "نابهم".

الهِرَّةِ: "إنَّهَا منَ الطَّوافينِ عليكمْ (¬1) أو الطَّوَافات" (¬2). وقال البَغَويُّ رحمة الله عليه في "شرح السنة": وقوله: "إنَّما هيَ منَ الطَّوَافين عليكُمْ أو الطَّوَافَاتِ" يتأوَّلُ علَى وجهين: أحدهما: شبَّهَها بالمماليكِ وبخدم البيت الَّذِين يطوفون علَى أهله للخدمة، كقوله تعالَى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58]؛ يعني: المماليكَ والخدم، وقال إبرَاهيمُ [النخعي] (¬3): إنَّما الهِرَّة كبعضِ أهل البيت، وقولُ ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما: إنَّما هي من متاع البيت (¬4). والآخر: شبَّهَها بمَن يطوفُ للحاجة والمسألة، يريدُ أنَّ الأجرَ في مُواساتِها كالأجرِ في مواساة من يطوف للحاجة والمسألة (¬5). قُلْتُ: هذا غريبٌ بعيد؛ لأنَّ قوله: "إنَّهَا منَ الطَّوَافين" يقتضي التعليلَ لما سبق ذكرُهُ، والَّذِي سبق هو كونُها ليست بنجس، لا ذِكْرُ الأجر. ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": زيادة "بالليل". (¬2) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 531). (¬3) سقط من "ت". (¬4) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (358)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (328)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 320). قلت: وهذا الوجه قد ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" (1/ 270 - 271). (¬5) انظر: "شرح السنة" للبغوي (2/ 70).

الوجه الخامس

قالَ القاضي أبو الوليد الباجي: وقوله: "أوِ الطَّوَافَاتِ" يُحتمَلُ أنْ يكونَ علَى معنَى الشكِّ من الراوي، ويحتمل أنْ يكونَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ ذلك، يريد أنَّ هذا الحيوانَ لا يخلو أنْ يكونَ من جملة الذكور الطوافين، أو الإناث الطوافات (¬1). * * * * الوجه الخامس: إذا حملْنَا (الطَّوَافين) أو (الطَّوَافَاتِ) علَى الخدم، كانت (من) للتبعيض، وليست الهِرَّة منهم حقيقة؛ لأنَّ اللَّفظَ [حينَئذٍ] (¬2) يدلُّ علَى جمع المذكر العاقل، أو المُؤنثِ العاقل، فيجبُ إمَّا إضمارٌ أو مَجاز، أمَّا الإضمارُ فيُقَدَّرُ أنَّها من شِبْهِ الطوافين، أو مثلِ الطوافين، أو ما يُقاربُه، وأمَّا المجازُ فأنْ يُطلقَ عليها لفظُ (الخدم) مجازاً. * * * * الوجه السادس: في الفوائدِ والمباحث، وفيهِ مسائل: الأُولَى: فيهِ جوازُ الدُّخول علَى المحارمِ بسبب الصهر. ¬

_ (¬1) انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (1/ 62). (¬2) سقط من "ت".

الثانية

الثانية: فيهِ جوازُ الاستعانةِ في أسباب الطهارة، إنْ كَان لفظُ الوَضوء يعتبر فيهِ نسبتُهُ إلَى الطهارةِ، إمَّا بالفعلِ أو بالصلاحيةِ، وهذا إحدَى (¬1) الفوائد للبحث الَّذِي حركناه، وهو أنَّ الوَضوءَ - بالفتحِ - للماء من حيثُ هو [هو] (¬2)، أو يكونُ للماء بقيدِ كونهِ منسوباً إلَى الوُضوءِ - بالضمِ - الَّذِي يُرادُ به الفعل، وقد ذكرتُ في "شرح العمدة" فائدةً أُخرَى (¬3). الثالثة: إصغاؤُهُ الإناءَ لتسهيلِهِ الشربَ عليها، [و] (¬4) هو من باب الإحسان إلَى البهائمِ، وطلبِ الأجرِ في كلِّ كبد رطبة، والتسببِ إليه، وهو [من] (¬5) دقيقِهِ. الرابعة: هذا الماءُ الَّذِي سكبتْهُ كبشةُ، الظاهرُ أنَّهُ (¬6) لها [لثبوتِ يدها عليه] (¬7)، وقد سقَى أبو قتادة الهِرَّة، ولم يستأذنها، ففيهِ دليلٌ علَى جوازِ مثلِ هذا للضيفِ. ¬

_ (¬1) "ت": "أحد". (¬2) سقط من "ت". (¬3) تقدم ذكرها عند المسألة الثالثة من الوجه الثالث. (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "أنها". (¬7) سقط من "ت".

الخامسة

الخامسة: فيهِ استعمالُ حسنِ الأدب مع الأكابر؛ لعدم إنكارِها عليه فيما تعجَّبَتْ منه، أو شكَّتْ في جوازهِ، ويدخلُ فيهِ ما هو من جنسِهِ. السادسة: فيهِ مع ذلك التَّنبيهُ علَى ما يعرِضُ للسائل، ويقعُ في نفسه؛ لتقَعَ الفائدةُ والعلمُ بما لعلَّهُ يحتاجُ إليه، فإنَّ كبشةَ لا بُدَّ أنْ تكونَ نظرت نظرًا فَهِم مِنهُ أبو قتادةَ التعجبَ، وإلا فأصلُ النظرِ لا يقتضي فهمَ التعجب. السابعة: فيهِ دليلٌ علَى أنَّ اجتنابَ النَّجاسَة وما يتَّصِلُ بها أمرٌ متقرر في أنفسِ حملةِ الشرع وأهل الإِسلام، وذلك من تعجُّبِ كبشةَ، ومن تقريرِ أبي قتادة علَى التعجبِ، وجوابُهُ بأنَّها (¬1) ليست بنجس؛ لأنَّ النجسَ يُجتنَبُ. الثامنة: فيهِ سؤالُ العالم عن الحالةِ الَّتِي تُوقع عنده احتمالُ غلطِ الجاهل واعتقادِه ما ليسَ بصحيحٍ، ليبيِّنَ أنَّهُ صحيحٌ. التاسعة: فيهِ ذكر الدليلُ مع الحكم، لتحصلَ الثقةُ للجاهلِ به، ويطمئنَّ قلبُهُ إليه، وهكذا ينبغي للمفتي إذا أفتَى بشيء ظهرَ له توقُّفُ المُستفتي فيه، وعدمُ فهمِهِ لعلَّتِهِ، أنْ يذكرَ له الدليلَ لتسكنَ نفسُه، وتنتفي عنه عوارضُ الشكوك، وكذلك الحاكمُ إذا حكم بما لا يظهَرُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "لأنها"، والتصويب من "ت".

العاشرة

وجهُهُ للمحكوم عليه، وقد ينسبُهُ فيهِ إلَى الظلمِ، فينبغي أنْ يبينَ [له] (¬1) وجهَهُ (¬2). العاشرة: في قوله: "أتعجبين" عدولٌ إلَى أحسن العبارتين، وألطفِ المُخاطَبتين؛ [لأنَّهُ لمْ يقلْ: أتنكرين. وإنَّما قلنا: إنَّهُ أحسن المُخاطبتين] (¬3)؛ لأنَّ قولَه "أتعجبين" لا ينافي عدمَ الإنكار، فقد يعجب الإنسان من الشيءِ ولا ينتهي إلَى أنْ ينكرَه؛ أي: يردَّهُ نكرًا، وفي قوله: "أتنكرين" ما ينافي عدمَ الإنكار، ونسبةُ المُخاطب إلَى الإنكارِ إيحاشٌ له؛ لما فيهِ من الحكمِ بالمُنافرة والمُعاندة، بخلاف نسبتِهِ إلَى التعجبِ. الحادية عشرة: فيه استدلالٌ علَى طهارةِ السُّؤْرِ، باللَّفظِ الدالِّ علَى طهارة الجُملَةِ، فتأمَّلْه. الثانية عشرة: اختلفوا في سُؤرِ الهر (¬4)، فالمنقولُ عن أكثر أهل العلم طهارتُهُ، وكَرِهَ أبو حنيفةَ وأبو يوسفَ الوضوءَ من سؤره (¬5)، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "فتاوى ابن الصلاح" (1/ 92)، و"قواطع الأدلة في الأصول" لابن السمعاني (2/ 357). (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "الهرة". (¬5) كما تقدم عنهم، وانظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 137).

الثالثة عشرة

واستُدِلُّ بهذا الحديث علَى الطهارةِ، وأجاب الطَّحاوِيُّ: بأنَّ ذلك يجوز أنْ يكونَ أُريد به كونُها لا تضرُّ مُماسَّتُها للثياب، فأمَّا ولوغُها في الإناءِ فليسَ في ذلك دليلٌ علَى أنَّ ذلك يوجبُ النَّجاسَةَ، أو لا، وإنَّما الَّذِي في الحديثِ من ذلك فعلُ أبي قتادة، فلا ينبغي أنْ يُحتجَّ من قول النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بما قد يَحتملُ المعنَى الَّذِي احتَجَّ به فيه، ويَحتملُ غيرَهُ، وقد رأينا الكلابَ، كونُها في المنازلِ غيرُ مكروه، وسؤرُها مكروهٌ، فقد يجوزُ أيضًا أنْ يكونَ ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما في حديث أبي قتادة، أريدَ به الكونُ في المنازلِ، وليسَ في ذلك دليلٌ علَى حُكْمِ سؤرها، هلْ هو مكروهٌ، أَمْ لا (¬1)؟ وهذا من الطَّحاوِيِّ تنبيهٌ علَى أنَّ شربَها من الإناءِ المُتوضّأ منه ليسَ (¬2) مرفوعًا إلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، وإنَّما هو فعلُ أبي قتادة، وحملٌ مِنهُ للفظِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - علَى ما يدخلُ تحتَهُ (¬3) هذا الحكمُ، والَّذِي ذكره من احتمالِ قولِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما ذَكرَهُ تأويلٌ وتخصيصٌ، والَّذِي احتَجَّ به خصوصيةُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها لَيْسَتْ بِنَجَسٍ"، وإذا لمْ تكنْ نَجَساً، كان سؤرُها طاهرًا. الثالثة عشرة: يُقال في الشيءِ: إنَّهُ نجسٌ، بمعنَى: نجاسةِ عينهِ، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 19). (¬2) في الأصل: "وليس"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "تحت".

الرابعة عشرة

ويُقال: نَجس، بمعنَى: تَنَجُّسِها بما لابسها من النَّجاسَةِ، وإنْ كان طاهرَ العينِ، والباجي - رحمه الله تعالَى - ذكرَ أنَّ ظاهرَ قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها لَيْسَتْ بِنَجَسٍ" ينفي نجاسةَ العينِ (¬1). ويمكن أنْ يقرَّرَ هذا الَّذِي ذكره [من الظاهرِ] (¬2) بأنَّ الضميرَ في قوله: "إنَّها" عائدٌ إلَى الذاتِ، فيعودُ الحكمُ إليها. الرابعة عشرة: إذا كان (النَّجِسُ) مُنطلِقاً علَى نجس العين، و (المُتَنَجِّسُ) بالغيرِ، فيُحتمَلُ أنْ يكونَ من الألفاظِ الَّتِي يُسمِّيها الأصوليون وغيرُهُم: المُشَكَّكَة (¬3)؛ لأنَّهُ في نجس العين أَولَى وأقوَى، إذْ لا يمكنُ زوالُهُ عن العينِ بخلاف (المُتنجِّسِ) (¬4)، ويُحتمَلُ أنْ يكونَ إطلاقُهُ علَى المُتنجسِ مَجازاً. الخامسة عشرة: يمكنُ أنْ يَعتذرَ من لا يَرى طهارةَ سؤرِ الهرِّ عن هذا الحديث بحملِهِ على نجاسةِ العينِ، ونفيُ نجاسة العين لا يلزمُ مِنهُ نفيُ النَّجاسَة بالغيرِ، فإنَّ الظاهرَ من الحيوانِ وغيرِه طاهرٌ، وقد ينجسُ ¬

_ (¬1) انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (1/ 62). (¬2) سقط من "ت". (¬3) ومثال الألفاظ المشككة أيضًا: الفاسق بالنسبة إلى من فعل الكبيرة الواحدة، وبالنسبة إلى فعل الكبائر المتعددة؛ فإن تناوله للثاني بطريق الأولى، وانظر: "الإبهاج" للسبكي (1/ 287)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 37). (¬4) يراد: بخلاف لفظ المتنجس، أما في العبارة التالية فيراد الشيء المتنجس.

السادسة عشرة

بملابسةِ النَّجاسَة، فلا يلزم من نفي النَّجاسَة عن العينِ نفيُ نجاسةِ السُّؤر، وتكون فائدةُ نفيِ نجاسةِ العينِ عدمَ الاحتراز عن المُلابسةِ والمُلامسة. ويُجاب عنه بعدَ أنْ يقرّرَ أنَّ ظاهرَ قوله: "لَيْسَتْ بِنَجَسٍ" نفيُ النَّجاسَة عن كلها، فيدخل فيهِ سؤرها، وإذا دخل فيهِ سؤرها لمْ يمكنْ حملُ نفي النَّجاسَة علَى نجاسة العين؛ لأنَّ نفيَ نجاسةِ سؤرها بعينه - مع الحكم بتنجيسه - لا يَصِحُّ تعليلُهُ بالطَّوْفِ (¬1)، فإنَّهُ إذا انتفتِ النَّجاسَةُ عن ذاتها لمْ يناسبِ الحكمَ بعدم نجاستها التعليلُ بالطوفِ [مع الحكم بتنجيس السؤر] (¬2)، فإنَّ العلةَ حينَئذٍ هي الطهارة، وما كان طاهرَ العين مِن غيرِ ورود نجاسة عليه لا يعلَّلُ بالطوفِ، وإنما المُناسبُ للتعليل بالطوفِ رفعُ الحرج في الاحترازِ عنه، مع أنَّ ظاهرَ اللَّفظ يقتضي تعليلَ العفو بالطوفِ (¬3)، [ثم فيه نظر] (¬4). السادسة عشرة: إذا أكلتِ الهِرَّةُ فأرةً، ووَلغت في ماء قليل، ¬

_ (¬1) يستعمل المؤلف لفظ "الطوف" حيناً، و"الطواف" حينًا آخر، وهما بمعنى واحد، كما تقدم عن الراغب. (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "المعفو". (¬4) زيادة من "ت".

السابعة عشرة

ولمْ تَغِبْ، ففي تنجيسه (¬1) وجهان للشافعية والحنبلية رحمهم الله تعالَى، ويُستدَلّ للعفو بالتعليلِ المذكور في الحديثِ، وكذلك إنْ غابَتْ، [ثمَّ] (¬2) وردت، ففيهِ خلافٌ دونَ الأول في الرتبةِ، علَى نزاعِ يقعُ في هذه الرتبة، فإنَّ الهِرَّةَ عندَ الغَيبةِ لا تَكْرَعُ في الماءِ، بل تجذِبُهُ بلسانها، فلا يطهر (¬3). السابعة عشرة: ألحقَ الحنابلةُ بالسِّنورِ ما دونَهُ في الخِلْقةِ كالفأرِ وابن عُرسٍ، قَالَ الخِرَقيّ منهم: ولا يُتَوَضَّأُ بسؤرِ كل بهيمةٍ لا يُؤكَلُ لحمُها، إلا السنور، وما دونها في الخلقةِ (¬4). واعتبارُ الخلقةِ ها هُنا أجنبيّ عن مقتضَى التعليل بالطَّوفِ، وإنَّما المُعتبرُ العلةُ المذكورة، فحيثُ وُجِدَت ثبتَ الحكمُ. الثامنة عشرة: قد يستدِلُّ به مَن يرَى أن أَسْآرَ السِّباع الَّتِي تشارك الهرَّ في استعمالِ النَّجاسَةِ ليست بطاهرة، ووجهه: أنَّ التعليلَ ها هنا بالطوافِ تعليل بالمانعِ؛ لأنَّ المشقةَ اللاحقةَ بسبب الطَّوفِ مانعة من الحكمِ بالنَّجاسَة، والتعليلُ بالمانعِ يستدعي قيامَ المُقتَضِي، فيكون ¬

_ (¬1) "ت": "تنجسه". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 226)، و"الفروع" لابن مفلح (1/ 221). (¬4) انظر: "مختصر الخرقي" (ص: 15)، و"المغني" لابن قدامة (1/ 43).

التاسعة عشرة

المُقتَضِي للتنجيس موجودًا في السِّباعِ؛ لأنَّهُ لو لمْ يكنْ المُقتَضِي موجودًا فيها لكان التعليلُ بالأصلِ، لا لقيام المانع، ألا ترَى أنَّهُ لا يَحسنُ أنْ تعلَّلَ طهارةُ سؤر الآدميِّ - وما (¬1) يُؤكَلُ لحمُهُ، ولا يستعملُ النَّجاسَةَ - بعلةِ (¬2) الطَّوْفِ، لَمّا أنَّ المُقتضيَ للنَّجاسةِ ليسَ موجودًا فيه، فلا يَحسُنُ تعليلُه بالمانعِ. التاسعة عشرة: اختلفوا فيما إذا تعارضَ الأصل والغالبُ، أيُّهُما يُقَدَّمُ؟ ورجَّحَ بعضُ مصنفي الشّافِعية العملَ بالأصلِ (¬3)، ويردُّ عليه أنَّ العملَ بأقوَى الظَّنَّين وأرجحِهِما واجبٌ، والظنُّ الحاصلُ بسبب إلحاقِ الفرد المُعيَّنِ بالأعمّ الأغلبِ أقوَى من الظنّ الحاصل بالأصلِ، فوجبَ تقديمُهُ. ولو أرادَ مَن رجَّحَ العملَ بالأصلِ الاستدلالَ بهذا الحديثِ كان طريقُهُ أنْ يقولَ: لَمّا كان الغالبُ من الهِرَّةِ استعمالَ النَّجاسَةِ بأكل الميتة: وقعَ التردُّدُ في حال ولوغها في الإناءِ بينَ الحمل علَى الأصلِ؛ فيُحكَمُ بطهارة الإناء، وبين الحمل علَى الغالبِ؛ فيحكم بنجاسته، ¬

_ (¬1) "ت": "ولا". (¬2) في الأصل: "لعلة"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 102).

وكانَ الحديثُ دليلًا علَى العملِ بالأصلِ، دلَّ تقديمُه علَىْ العملِ بالغالب. وجوابُهُ: أنَّ الأمرَ بالعكسِ، وهو دلالتُهُ علَى العملِ بالغالب لأجلِ التعليلِ بالمعارِضِ، وهو الطوافُ (¬1) المُوجِبُ للطهارةِ أو العفوِ، وقد تقدَّمَ أنَّ التعليلَ بالمانعِ يستدعي قيام المُقتَضِي، فيكون المُقتَضِي للتنجيس لولا هذا المانعُ الخاصُّ موجودًا، والمُقتضي هو غلبةُ استعمالِ النَّجاسَة، فيكون العملُ به هو الراجحُ عندَ عدمِ [هذا] (¬2) المُعارِضِ [الخاص] (¬3)، وهو الطواف (¬4). أو يقول: دلالتُهُ علَى العملِ بالأصلِ مُطلقًا، أم مع مُعارِضٍ؟ الأول ممنوعٌ، ولا يمكنُ دعواه؛ لأنَّ المُعارضَ قائمٌ علَى ما دلَّ عليه التعليلُ بالطوافِ (¬5)، وأرشدَ إليه من اعتبار المشقة. والثاني مُسَلَّمٌ، ولكنْ لا يلزمُ من إعمالِ الأصلِ عندَ قيامِ مُعارِضِ الضرورةِ والحاجة إعمالُهُ مُطلقاً، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "الطوف"، وهما بمعنى. (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "الطوف". (¬5) "ت": "بالطوف".

العشرون

العشرون: المالِكيَّةُ يستدِلُّون بهذا التعليل بالطَّوفِ علَى طهارة الكلب، فإنَّ العلةَ موجودةٌ فيهِ عندَ العرب، وطوافُهُ علَى أهل البوادي منهم - وهم الأكثرون - أغلبُ من طواف الهِرَّة (¬1) عليهم، وهو في الحقيقةِ قياسٌ للكلب علَى الهرِّ، لكنهم يقولون: هو قياسٌ بعلةٍ وَقَعَ الإيماءُ إليها (¬2)، وهو استدلالٌ جيِّدٌ، وطريقُ من يريد الجوابَ عنه أنْ يبينَ أنَّ نجاسةَ الكلبِ - أو سُؤْرَه - مُستندٌ إلَى النصّ، ويرجِّحُ دلالَةَ النَّصِّ عليه، وحينئذٍ يُصارُ إليه؛ لأنَّ الحكمَ المُستنِدَ إلَى النَّصِّ أقوَى من القياسِ، ولو كانت العلَّةُ قد أُومِئ إليها، وهناك يقع النظرُ بين الخصمين؛ أعني: في ترجيح دلالَة الأمر بغسل الإناء من الولوغِ علَى النَّجاسَة، علَى الَّذِي دلّ عليه [هذا] (¬3) النَّصُّ من الإيماءِ إلَى العلةِ المُقتضية للطهارة، والله أعلم. الحادية والعشرون: الأصوليون يذكرون هذا الحديثَ في دلالَة التنبيهِ والإيماءِ إلَى التعليلِ؛ لأنَّهُ لو لمْ تكنْ علةً لمْ يكنْ ذكرُ الطواف مفيدًا، فإنَّهُ لو قَالَ: لأنَّها سوداء أو بيضاء لمْ يكنْ منظومًا، إذ (¬4) لمْ يَرِدِ التعليلُ. ¬

_ (¬1) "ت": "الهر". (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 325)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 175). (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "إذا"، والمثبت من "ت".

الثانية والعشرون

هذه عبارة بعضهم عن هذا المعنَى (¬1)، وغيرُهُ يقرِّرُه بأنَّهُ لو لمْ يكنْ للتعليل، تَجرَّدَ إخبارًا عن الواقعِ المعلوم، ويجبُ تنزيهُ لفظِ الشَّارع عن مثلِهِ. الثانية والعشرون: يدلُّ علَى اعتبار المشقة في جنس التخفيف، وهو من القواعدِ الأصولية، والله أعلم. الثالثة والعشرون: إذا ثبتَ حكمُهُ (¬2)، وأمكنَ أنْ يُقال: إنَّهُ علَى مقتضَى الأصل، [وأنْ يُقال: إنَّهُ علَى خلاف مقتضَى الأصل] (¬3) لمُعارِضٍ، فالمصيرُ إلَى الأولِ أَولَى، لما يلزم في الثاني من مخالفة مقتضَى الدليل. مثاله: إذا حكمَ الشارعُ بأنَّ أثرَ الدم بعد الغسل لا يضرُّ، أمكنَ أنْ يكونَ ذلك؛ لأنَّ المحلَّ قد طَهُرَ، وأمكن أنْ يكونَ ذلك للعفو عنه مع بقاء النَّجاسَة، فيُقال: الأوّل أَولَى؛ لأنَّهُ يلزمُ من الحكمِ بالنَّجاسَة مع العفو مخالفةُ الدليل، فإنْ لزم مخالفةُ أصلٍ آخرَ من القولِ بالطهارة، فحينَئذٍ يُحتاج إلَى الجوابِ والتَّخريجِ. ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 308)، وهو المعني بكلام المؤلف رحمه الله. (¬2) "ت": "حكم". (¬3) سقط من "ت".

الرابعة والعشرون

الرابعة والعشرون: وهذا الحديث يُؤخَذُ مِنهُ ما قدَّمْنا بيانَهَ أنَّ عدمَ المُؤاخذة باستعمال سُؤره، يُحتمَلُ أنْ يكونَ لطهارته، ويُحتمل أنْ يكونَ للمشقة، والحديث دلَّ علَى عدم النَّجاسَة المُساوي لطهارتها، ولو تساوَى القولُ بنجاستها - مع عدم المُؤاخذةِ باستعمال سُؤرها لأجل المانع - مع القول بطهارتها، لمْ يدلَّ طوافُها علَى طهارتها، ولا استلزمه؛ لاحتمالِهِ لأمرين مُتساوِيين علَى هذا التقدير، لكنَّ الشرعَ جعل ذلك دليلًا علَى طهارتها كما أشعر به التعليلُ، فدلَّ علَى أنَّ الإضافةَ إلَى ما لا يلزمُ مِنهُ مخالفةُ الدليل، أَولَى من الإضافةِ إلَى ما يلزمُ مِنهُ مخالفةُ الدليل، والله أعلم بالصواب.

الحديث العاشر

الحديث العاشر عنْ أَنسَ بْنِ مالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جاءَ أَعْرابِيٌّ فَبالَ في طائِفَةِ المَسْجدِ، فَزَجَرَهُ النّاسُ، فَنَهاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمّا قَضَى بَولَهُ، أَمَرَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِذَنُوبٍ مِنْ ماءٍ، فأُهْرِيقَ عَلَيهِ. لفظُ روايةِ البخاريِّ، وهو مُتَّفَقٌ عليه (¬1). ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه البخاري (219)، كتاب: الوضوء، باب: يهريق الماء على البول، وهذا لفظه، و (218)، باب: صب الماء على البول في المسجد، ومسلم (284/ 99)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل البول وغيره، والنسائيُّ (54 - 55)، كتاب: الطهارة، باب: ترك التوقيت في الماء، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أنس، به. ورواه البخاري (5679)، كتاب: الأدب، باب: الرفق في الأمر كله، ومسلم (284/ 98)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل البول وغيره، والنسائيُّ (53)، كتاب: الطهارة، باب: ترك التوقيت في الماء، و (329)، كتاب: المياه، باب: التوقيت في الماء، وابن ماجه (528)، كتاب: الطهارة، باب: الأرض التي يصيبها البول كيف تغسل؟ من طريق حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، به. =

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

الكلامُ عليه من وجوه: * الأول: في التعريفِ بمَنْ ذُكِرَ فيهِ: فنقولُ: أنسُ بن مالكٍ بنِ النَّضْر بن ضَمْضَم بن حَرام - بفتح الحاء والراء المُهمَلَتين - بن جُندب بن عامر بن غَنْم بن عَدِي بن النَّجّارِ، الأنصاريُّ، النجاريُّ، خادمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمُّهُ أمُّ سُليم بنت مِلْحان الأنصاريةُ، كان سِنُّهُ حين قدم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سنين (¬1)، وقيل: تسعًا، وقيل: ثمانياً. وكانت وفاتُهُ - رضي الله عنه - سنةَ إحدَى وتسعين من الهجرةِ (¬2)، وقيل: [سنة] (¬3) ثلاث وتسعين (¬4). وقيل: كان سنُّهُ إذ مات مئةَ سنة وعشر سنين، وقيل: بزيادة سبع علَى المئةِ فقط، وقيل: بزيادة ثلاث فقط، وقال حُمَيد: إنَّ أنسَ بن ¬

_ = ورواه البخاري (216)، كتاب: الوضوء، باب: ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، ومسلم (285)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، من طريق إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس، به. (¬1) هذا هو المشهور. (¬2) وهو الذي رجحه ابن الأثير. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) وهو الذي رجحه النووي والذهبي وغيرهما.

مالك عُمِّرَ مئة سنةٍ إلا سنةً (¬1). قال أبو عمر: ويُقال: إنَّ أنسَ بن مالك قَدَّمَ من صُلبه من (¬2) ولدِهِ وولدِ ولده مئةً قبلَ موته، وذلك أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دعا له فقال: "اللهُمَّ اززُقْهُ مالًا وولدًا، وبارِكْ لَهُ"، قَالَ أنس - رضي الله عنه -: فإني لمِنْ أكثرِ الأنصار مالًا وولداً (¬3). ويقال: إنَّه وُلِدَ لأنسِ بن مالك ثمانون ولدًا، منهم ثمانية وسبعون ذكورًا وأُنثَيان، الواحدة تسمَّى حفصةُ، والثانية تُكنَى أمَّ عمرو، وهذه الأولاد لمْ تعرفْ أسماءُ جميعهم، والَّذِين ذُكِرَ اسمُهُم (¬4) منهم: عبد الله، وعبيد الله، وزيد، ويحيى، وخالد، وموسَى، والنضر، وأبو بكر، والبراء، والعلاء، وأبو عمير، وعمر (¬5) ابن بنتِهِ. وأنسُ بن مالك - رضي الله عنه - من المُكثِرِينَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في روايته، معدودٌ في (¬6) أصحاب الألوف، وقد عُدَّ له ألفا حديثٍ، ومئتا ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في "تهذيب الأسماء" (1/ 137): واتفق العلماء على مجاوزة عمره مئة سنة. (¬2) "ت": "و" بدل "من". (¬3) رواه البخاري (1881)، كتاب: الصوم، باب: من زار قومًا فلم يفطر عندهم. وانظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 111). (¬4) "ت": "اسمه". (¬5) "ت": "وعمرو" بالواو. (¬6) "ت": "من".

حديث، وستةٌ وثمانون حديثاً، وهذا العددُ بالنسبةِ إلَى مُسنَدِ بَقِيِّ بن مَخْلَد الأندلسي، كذا وجدتُهُ. وأمَّا في "الصحيحينِ" فإنَّهُ نُسِبَ إليهما ثلاثُ مئةِ حديثٍ وثمانيةَ عشرَ حديثًا، المُتَّفَقُ عليه منها مئةٌ وثمانية وستون، وانفردَ البخاريُّ بثمانين، ومسلمٌ بتسعين، والَّذِي رأيته في "الجمعِ بين الصحيحين" في عدد أفراد البخاريّ: اثنان وثمانون، وفي عدد أفراد مسلم: واحدٌ وسبعون (¬1). ويقال: إنَّ أنس بن مالك آخرُ من مات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبصرةِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للحميدي (2/ 482). (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 17)، "الثقات" لابن حبان (3/ 4)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 109)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/ 332)، "صفة الصفوة" (1/ 710)، "المنتظم" كلاهما لابن الجوزي (6/ 303)، "أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 294)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 136)، "تهذيب الكمال" للمزي (3/ 353)، "سير أعلام النبلاء" (3/ 395)، "تذكرة الحفاظ" (1/ 44)، "العبر" ثلاثتها للذهبي (1/ 107)، "البداية والنهاية" لابن كثير (5/ 331)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 126)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (1/ 329).

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجه الثاني: في تصحيحه: وهو مُتَّفَقٌ علَى صحَّتِهِ وإخراجِهِ في "الصحيحينِ" من رواية إسحاقَ بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، فأخرَجَهُ البُخاريُّ عن موسَى، عن همام (¬1)، وأخرجَهُ مسلمٌ عن زهير، عن عمر بن يونس عن عكرمة بن عمار (¬2)، [وكلاهما] (¬3) عن إسحاق المذكور، والله أعلم. * * * * الوجه الثالث: في شيءً من مفردات ألفاظه، وفيهِ مسائل: الأولَى: قَالَ الراغب: العَرَبُ: أولادُ إسماعيلَ عليه الصلاة والسلام، والأَعْرابُ: جمعُهُ (¬4) في الأصلِ، وصارَ ذلك اسماً لسكّان البادية، قَالَ الله - عز وجل -: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14]، وقال الله تعالَى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97]، ثم قال: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 99]، وقيل في جمع ¬

_ (¬1) برقم (216) كما تقدم قريبًا. (¬2) برقم (285) كما تقدم قريبًا. (¬3) زيادة من "ت". وقد ألحقت في هامش الأصل إلا أنها مطموسة. (¬4) في الأصل: "جميعه"، والمثبت من "ت" و"ب".

الثانية

الإعراب: أَعارِيبُ، قَالَ الشاعر [من الوافر]: أَعارِيبٌ ذَوُو فخرٍ بإفكٍ (¬1) والأَعْرابُ في التعارفِ [صار اسماً] (¬2) [للمنسوبين] (¬3) إلَى سكان البادية (¬4). الثانية: قال الراغب: والطائفةُ من الناس: جماعةٌ منهم، ومن الشيءِ: القطعةُ منه، وقولهُ - عز وجل -: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122]، قَالَ بعضُهُم: قد يقعُ علَى واحد [فصاعداً]، وعلَى ذلك قولُهُ تعالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، وقولُهُ - عز وجل -: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ} [آل عمران: 122]. وطائفةٌ إذا أُرِيدَ به الجمعُ فجَمْعُ طَوّاف (¬5)، وإذا أريد الواحدُ ¬

_ (¬1) في النسخ الثلاث: "إفك وفخر"، والتصويب من "مفردات القرآن" للراغب، وهذا صدر بيت ذكره المرزوقي في "شرح الحماسة" (3/ 1522)، والتبريزي في "شرح الحماسة" أيضًا (4/ 44) دون نسبة، وعجزه: وألسنةِ لطافٍ في المقال (¬2) زيادة من "مفردات القرآن". (¬3) في الأصل: "المنسوبين"، والتصويب من "ت"، و"ب". (¬4) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 556 - 557). (¬5) في المطبوع من "مفردات القرآن": "والطائفة إذا أريد بها الجمع فجمع طائف".

الثالثة

فيصحُّ أنْ يكونَ (¬1) جمعًا، وكُني به عن الواحدِ، ويصحُّ أن يُجعلَ كراوِيَةٍ وعَلَّامَةٍ ونحوِ ذلك (¬2). الثالثة: قَالَ الجوهريُّ: الزَّجْرُ: المنع والنهي (¬3)، يقال: زَجَرَهُ وازْدَجَرهُ فانْزَجَرَ وازْدَجَر، والزَّجُورُ من الإِبلِ: الَّتِي تَعْرِفُ بعَيْنها، وتُنْكِرُ بأَنفها (¬4). وقال الراغب: الزَّجْرُ: طردٌ بصوتٍ، يقال: زَجَرَهُ فانْزَجَرَ، قَالَ الله تعالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14]، ثمَّ يستعمل في الطردِ [تارةً]، وفي الصوتِ تارةً، وقولُه تعالَى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 2]؛ أي: الملائكة تَزْجُرُ السَّحاب، وقوله تعالَى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر: 4]؛ أي: طَرْدٌ ومَنعٌ عن ارتكاب المآثم، وقوله - عز وجل -: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر: 9]؛ أي: طُرِدَ، ومنه استعمالُ الزجرِ فيهِ لصياحهم بالمطرودِ، نحو أنْ يُقالَ: اُغْرُبْ، وتَنَحَّ، ووراءَكَ (¬5). ¬

_ (¬1) "ت": "يقال". (¬2) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 531 - 532). (¬3) "ت": "والمنع". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 668)، (مادة: زجر). (¬5) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 378).

الرابعة

الرابعة: الذَّنُوبُ: لفظٌ مُشتَرَكٌ في اللغةِ، قَالَ الشاعر [من مجزوء الرجز]: وما الذَّنُوبُ والذنُو ... بُ والذَّنُوبُ والرَّمَل فالذَّنُوبُ: يُطلَقُ علَى الفرسِ الطويل الذنب، وعلَى النَّصيبِ، قَالَ الله تعالَى: {ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات: 59]، وعلَى الدَّلوِ الكبيرة، والمرادُ ها هُنا: الدلو المَلأَى. قال الجوهري: والذَّنُوبُ: الدَّلْوُ المَلأَى ماءً، وقال ابن السِّكِّيت: فيها ماءٌ قريبٌ من المِلْء، تُؤَنَّثُ وتُذَكَّرُ، ولا يُقال لها وهي فارغةٌ: ذَنوب (¬1)، والجمع في أَدنىَ العَدد: أَذْنِبة، والكثيرُ: ذَنائبُ، مثل قَلُوصٍ وقَلائصَ (¬2). * * * * الوجه الرابع: في شيءٍ من العربيةِ، [وفيهِ مسألتان] (¬3): [الأُولَى] (¬4): الأعرابيُّ نسبةٌ إلَى الأعرابِ، والأعرابُ جمعٌ في اللَّفظِ والمعنَى له واحدٌ مُستعمَلٌ، وما كان كذلك فالأصلُ في النسبِ ¬

_ (¬1) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 361). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 128 - 129)، (مادة: ذنب). (¬3) سقط من الأصل، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من الأصل، والمثبت من "ت".

أن يُنسَبَ إلَى الواحدِ، كـ (مَسجديٍّ) في النسبةِ إلَى (المساجد) (¬1)، وقد جاء نسبُ الأعرابيِّ إلَى اللفظِ، فيحتاج إلَى التخريجِ. قال سِيْبَوَيْه رحمه الله تعالَى: وتقول في الأعرابِ: أعرابي؛ لأنَّهُ ليسَ له واحدٌ علَى هذا المعنَى، ألا ترَى أنَّك تقول: العَرَب، فلا يكون علَى هذا المعنَى (¬2). وقال أبو علي رحمه الله تعالَى: لو رَدَدتَهُ إلَى الواحدِ - وهو (عَرَبٌ) - لَزِدتَهُ عُموماً (¬3). والكلامان متقاربان أو مُتَّحِدا المعنَى، وتقريرُهُ: أنَّ الأعرابَ أخصُّ من العربِ، وكلُّ أعرابي عربيٌّ، وإذا كان كذلك، فلو رددته إلَى الواحدِ لكان معناه العموم؛ لأنَّ (¬4) الخصوصَ الَّذِي في (أعراب) (¬5)، فعلَى هذا قَالَ سِيْبَوَيْه: لأنَّهُ ليسَ له واحد علَى هذا ¬

_ (¬1) جاء في "ت" بعد قوله: "المساجد" ما نصه: "وقوله: جمع في اللفظ والمعنى، إلا أنه لم ينطق له بواحد نحو (عباديد)، فهذه الأقسام ينسب فيها إلى اللفظ، بخلاف الأول كما ذكرنا فإنه ينسب إلى الواحد" كذا. ثم كتب في الهامش: "ينظر من نسخة صحيحة". (¬2) انظر: "الكتاب" لسيبويه (3/ 379)، باب: الإضافة إلى الجمع. (¬3) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 403)، (مادة: ربب). (¬4) "ت": "لا" بدل "لأن". (¬5) أي: المعنى الموجود في لفظة (أعراب).

الثانية

المعنَى؛ أي: ليسَ له واحد علَى معنَى الخصوص. وقوله: ألا ترَى أنَّك تقول: العَرَب، فلا يكون علَى هذا المعنَى؛ أي: يكون عامًّا ليسَ علَى معنَى الخصوص، فكأنَّهُ وإنْ كان له واحد، فليسَ (¬1) بمنزلة عباديد، فإنَّ واحدَهُ ليسَ علَى معنَى لفظه (¬2)، وهو كلامُ أبو على رحمه الله تعالَى. وقال بعضهم: إنَّهُ بمنزلة عباديد، واحتَجَّ بأنَّهُ ليسَ علَى معنَى الإعراب للتخصيص [الَّذِي فيه] (¬3)، وقال بعضُهم: الأعرابُ اسمٌ للجمع، [و] (¬4) قال بعضُهم: جمع سُمّيَ به (¬5)، وعلَى هذا يدلُّ كلامُ الرّاغبِ الَّذِي قدَّمْناه حيثُ قال: والأعرابُ جمعُه (¬6) في الأصلِ، وصار ذلك اسمًا لسكان البادية. الثانية (¬7): لا بُدَّ من حذفٍ في قوله: "بذَنُوب من ماء"؛ لأنَّ الذنوبَ لا يُصَبُّ، ولا هو أيضاً من جنس الماء، ولا بعضُهُ، فتكون ¬

_ (¬1) "ت": "وليس". (¬2) "ت" زيادة "فصار بمنزلة عباديد". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "المخصص" لابن سيده (4/ 13/ 247)، باب: الإضافة إلى الجميع. (¬6) في الأصل: "جميعه"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬7) "ت": "الخامسة" وهو خطأ، وإنما هي "الثانية" من مسألتي الوجه الرابع.

الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

(من) لبيان الجنس، أو للتبعيض، ولا يَحسنُ أنْ يُقدَّرَ المحذوفُ: ماء، حتَّى يصيرَ التقدير: فأمر بماء ذنوب من ماء، والَّذِي ينبغي أنْ يُقدَّرَ: بملاءِ ذنوب من ماء، أو ما يقارب (¬1) هذا، ويجوز أنْ يكونَ التقدير: بذنوب مملوء من ماء. وقولُهُ: "فزجرَهُ النّاسُ"، إمّا أنْ يكونَ من العامّ الَّذِي أُريدَ به الخاص، أو يكون من باب حذفِ الصّفةِ، كأنَّهُ قيل: فزجره الناس الحاضرون مثلًا. * * * * الوجه السادس: في الفوائدِ والمباحث، وفيهِ مسائل: الأولَى: فيهِ دليلٌ علَى أن الاحترازَ عن النَّجاسَةِ، وتَجَنُّبَها في الجملةِ، أمرٌ مُتَقَرِّرٌ في نفوس حَمَلَةِ الشرع. الثانية: فيهِ المبادرةُ إلَى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المُنكرِ. الثالثة: فيهِ أمرٌ زائدٌ علَى أصل الأمر بالمعروفِ، وهو استعمالُ القوة والغلظة في ذلك، إمّا لما حكيناه عن بعضهم: أنَّ الزجرَ أشدُّ النهي، وإمّا لمبادرةِ جماعة من الناسِ إليه. وذلك أمرٌ مطلوبٌ لما فيهِ من الغضبِ والغَيْرةِ لحق الله تعالَى، ¬

_ (¬1) "ت": "قارب".

الرابعة

ولأنَّهُ أبلغُ في حصول المقصود، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب على صوتُهُ واشتدَّ غضبُهُ كأنَّهُ مُنذِرُ جيش (¬1). فإن قُلْتَ: فقد أنكرَ - صلى الله عليه وسلم - هذا الإنكارَ؟ قُلْتُ: لعلَّ إنكارَهُ - عليه السلام - لأجلِ مُعارِضِ (¬2) الجهلِ من الأعرابي، وقربِ العهد بالإِسلامِ (¬3)، والإنكارُ من هذا الوجهِ لا يُنافي الإغلاظَ عندَ عدم هذا المُعارِض، والله أعلم. الرابعة: فيهِ أنَّ مبادرةَ الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين إلَى الإنكارِ بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن غيرِ مُراجعة، ليسَ من باب التَّقدم بين يدي الله ورسوله، وذلك أنَّهُ قد تقرَّرَ عندهم من الشرعِ ما أوجبَ الإنكارَ، فأمرُ الشرع متقدّمٌ، فلا يكونُ فعلُهُم تقدُّماً (¬4)، ولا شكَّ أنَّ هذه الواقعةَ الخاصَّة لمْ يتقدَّمْ فيها إذنٌ، فيدلُّ علَى أنَّهُ لا يُشتَرَطُ الإذنُ الخاص، ويُكتفَى بالعامّ، وقد اختلف المُفسرون في معنَى قوله تعالَى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (867)، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬2) "ت": "لمعارض" بدل "لأجل معارض". (¬3) "ت": "من الإِسلام". (¬4) "ت": "متقدماً". (¬5) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. =

الخامسة

الخامسة: في قاعدةٍ ينبني عليها غيرُها: المحكيُّ عن ابن سُرَيجٍ رحمه الله تعالَى: أنَّهُ لا يجوزُ التمسكُ بالعامّ قبل البحث عن المُخصصِ، وعن الصَّيْرَفي - رحمه الله تعالَى - جوازُهُ، واختيارُ بعض المُتَأخّرين (¬1) المنعُ، وزعم أنَّهُ لا يكادُ يُختلَفُ فيه (¬2). والَّذِي أقوله: إنَّهُ إنْ أريدَ بذلك أنَّهُ لا بُدَّ للمجتهدِ من نظرةٍ فيما [تأخَّر من النصوص، أو ما] (¬3) تيسَّرَ له مراجعتُهُ ممَّا شُعر فيهِ باحتمال التخصيص، فذلك صحيح، وإن أُريد به التوقُّفُ حتَّى يقعَ علَى ما لمْ يبلغْهُ من النصوصِ، ولا شعر به مع قُربِ المُراجعة، فلا يصحُّ، ¬

_ = وقال العوفي عنه: نهو أن يتكلموا بين يدي كلامه. وقال مجاهد: لا تفتأتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه. وقال الضحاك: لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله من شرائع دينكم. وقال سفيان الثوري {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] بقول ولا فعل. وقال الحسن: لا تدعوا قبل الإمام. وقال قتادة: ذكر لنا: إن ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا، لو صنع كذا، فكره الله ذلك. انظر: "تفسير ابن كثير" (4/ 206). (¬1) كالغزالي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم. (¬2) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 256)، و"الإحكام" للآمدي (3/ 57)، و"المحصول" للرازي (3/ 29)، و"الإبهاج" للسبكي (2/ 141)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 47). (¬3) زيادة من "ت".

السادسة

والدليلُ عليه: أنَّ علماء الأمصار ما بَرِحوا يُفتون بما بَلَغهم مِن غيرِ توقفٍ علَى البحثِ في الأمصار والبلاد عمّا لعلَّهُ يكونُ تخصيصاً (¬1). وبهذا نجيب عن قول الناصر للوجوب: إنَّهُ لو كان كذلك، لكانت رتبةُ الاجتهادِ مُمكِنَةً لكلِّ أحدٍ حصلت له أدنىَ أهليَّةٍ؛ لأنّا أولًا شرطنا أنْ يكونَ أهلًا للاجتهاد، وذلك يقتضي اطِّلاعَهُ علَى جملةٍ من النصوصِ زائدةٍ لا يصلُ إليها من له أدنىَ أهلية، وأيضًا [فقد] (¬2) شرطنا [النظر] (¬3) فيما بَلَغه من النصوصِ، وهلْ فيها تخصيص، أم لا؟ (¬4) وذلك لا يكفي فيهِ أدنىَ أهلية. السادسة: مما (¬5) يُبتنَى علَى هذه القاعدة: أنَّ الصحابةَ رضوان الله عليهم أجمعين لما استقرَّتْ عندهم [هذه] (¬6) القاعدةُ الكليَّةُ، وثبت الحكمُ [العام] (¬7) في وجوب تنزيه المسجد عن النَّجاسَةِ، وكانت هذه الواقعةُ المُعينةُ مخصوصةً من ذلك الحكم العام، كما تبيَّن من قول ¬

_ (¬1) "ت": "مخصصاً". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) لو قال: وهلْ فيها تخصيص أو لا؟ لكان أولى، فالمشهور أن (أم) بعد (هل) منقطعة، وهي تفيد الإضراب، وهو غير مراد هنا. (¬5) "ت": "فيما". (¬6) سقط من "ت". (¬7) زيادة من "ت".

الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونهيِهِ عن زَجْرِه، وقد جرَى الصحابةُ علَى الحكمِ بالأمرِ العام مِن غيرِ مراجعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع احتمال التخصيص، فيدلُّ (¬1) ذلك علَى ما ذكرناه. ويُعتَرَضُ عليه: بأنَّ بحثَ المُجتهدِ عن المُخصِّصِ بحثٌ عن أمر مُحتمَلٍ غيرِ محقَّقِ الوجود في نفس الأمر، وها هُنا المُخصّصُ -[أي: سببُ التخصيص - المُناسبُ] (¬2) موجودٌ في نفس الأمر - وهو أعرابيَّتُهُ، وقربُ عهده بالإِسلامِ، وتَيَسُّرُ مراجعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -[وفي مثلِ ذلك يجبُ طلبُ المُخصص جَزمًا] (¬3)، [فيكون الحكم بالعموم خطأ] (¬4). وقد يُجاب عن هذا الاعتراض: بأنَّ وجوبَ البحث عن المُخصصِ إنَّما هو للتحرُّزِ عن الخطأِ المُحتمَل، ورجاءَ إدراكِ الصواب بالبحثِ، وهذا المعنَى موجودٌ في هذه الواقعة؛ لأنَّ احتمالَ التخصيص واقعٌ جزمًا، وإدراكُ الصواب بمراجعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حاصلٌ قطعًا، بل هو أيسرُ من طلب المُخصِّصِ المجهولِ والبحثِ عنه، فإنْ لمْ تكنِ المسألةُ بعينها، فهي مشاركةٌ في العلةِ لها، ومساويةٌ في المُقتضِي لوجوب البحث عن أمر يُحتمَلُ أنْ يكونَ الحكمُ بدون ¬

_ (¬1) "ت": "فدلَّ". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

السابعة

البحث عنه خطأً، ويُحتمل أنْ يكونَ الحكمُ مخصوصًا بمخصص متقدم في نفس الأمر علَى حالة السؤال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيهِ بعد ذلك محلٌّ للنظر في موضعين اثنين. السابعة: من القواعدِ الكليَّةِ: أنْ ندرأَ (¬1) أعظمَ المفسدتين باحتمال أيسرِهما، إذا تعيَّنَ وقوعُ إحداهما (¬2)، وأن نُحَصِّلَ أعظمَ المصلحتين بتركِ أخفِّهِما، إذا تعيَّنَ عدمُ إحديهما (¬3)؛ أعني: أنَّ ذلك في الجملةِ أمرٌ معتبَرٌ، لا أعني: أنَّ ذلك أمر عامٌّ مُطلَقًا حيثُ كانَ ووُجِدَ (¬4). وهذا الموضعُ أحدُ ما يشهد لهذه القاعدة، فإن (¬5) البولَ في المسجدِ مفسدةٌ، وتنزيهُهُ عنه مصلحة، وقد احتُمِلَتْ تلك المفسدةُ، ودُفِعَت تلك المصلحة، فلولا رجحان وقع في الطرفينِ لِما دُفعَ من ¬

_ (¬1) "ت": "تدرأ". (¬2) في الأصل "أحدهما"، والتصويب من "ت". (¬3) "ت": "إحداهما". (¬4) أي: ليست هذه القاعدة مطردة في الأمور والأحوال كافة، وهذا كلام دقيق جدًا، فكثيراً ما يجد الناظر في كتب الأصول والفقه هذه القاعدة وكأنها إحدى المسلَّمات التي لا تنقض، وهو غلط بيِّن، وقد أشار شيخ الإسلام أبو العباس في مواضع من كتبه إلى أن هذه القاعدة ليست أمرًا عاماً مطلقًا؛ كما أشار إليه الإمام ابن دقيق رحمهما الله تعالى. (¬5) في الأصل "بأن"، والتصويب من "ت".

الثامنة

المفاسدِ، ولما حُصّلَ من المصالحِ، لكان ذلك احتمالًا لمفسدة خالصَةٍ، ودفعًا لمصلحة خالصة، وذلك غيرُ جائز، فحيثُ منعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زجره، وتَرَكَهُ إلَى فراغ بوله، دلَّ علَى رجحان المفاسد المدفوعة علَى المفسدةِ الواقعة، وهو من هذه القاعدة. الثامنة: هذه المفاسدُ التِي دُفِعَت واحتُمِلَ لأجلها مفسدةُ التنجيس، [يُحتمَلُ أنْ تكونَ مراعاةً لِحقّ المسجد في صونِهِ عن احتمال انتشار النَّجاسَةِ عندَ انصرافِهِ بالزجرِ عن ذلك المكان، ويَحتمِلُ ذلك أنْ يكونَ ذلك مراعاةً لحقِّ البائل لِما يلحقُهُ من الضررِ من قطع البول بعد تهيئتِهِ للبروز] (¬1)، ويحتمل أنْ يكونَ مراعاةً للتيسيرِ علَى الجاهل، والتأَلُّفِ للقلوب علَى الدينِ الحق. وقد وقع الإيماءُ إلَى هذين الأمرين الأخيرين (¬2)، وأحدُهُما أقوَى من الآخرِ؛ لأنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُزْرِمُوهُ" (¬3) في بعض الروايات؛ أي: لا تقطعوا عليه بولَهُ (¬4)، قد يُفهَمُ مِنهُ الإشارةُ إلَى مراعاةِ حقّهِ، ¬

_ (¬1) "ت": حصل تقديم وتأخير في الجملتين كالتالي: "يحتمل أن تكون مراعاة لحق البائل لما يلحقه من الضرر من قطع البول بعد تهيئته للبروز، ويحتمل أن يكون مراعاة لحق المسجد في صونه عن احتمال انتشار النجاسة عند انصرافه بالزجر عن ذلك المكان". (¬2) "ت": "الآخرين". (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5679)، ومسلم برقم (284). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 310).

التاسعة

وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم - في رواية: "فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسرِينَ ولمْ تُبْعَثُوا مُعَسرِينَ" (¬1) أظهرُ في التعليلِ، واحتمالُ أنْ يكونَ (¬2) مراعاةً لمصلحةِ بدنِهِ وصونًا له عن الضررِ المُحتمَلِ علَى تقدير القطع، [فهو] (¬3) معنى مناسبٌ [أيضاً] (¬4)، والحكمُ علَى وِفْقِهِ، فيكونُ عِلَّةً علَى ما قَرَّرُوهُ، وليسَ يمتنعُ أن يكونَ (¬5) جميعُ المعاني مُعتبَراً (¬6)، إمّا علَى سبيل الاستقلال، أو علَى سبيل الجُزئية؛ أعني: أن تكونَ جُزءَ عِلَّةٍ. التاسعة: ويكونُ الحديثُ أصلًا في الرفقِ بالجاهل، واللطفِ في تعليمه، واستمالةِ قلبِهِ للحقّ. العاشرة: فيهِ المُبادرةُ إلَى إزالةِ المفسدةِ عندَ زوال المانع من إزالتها، وذلك من قوله في الحديث: "فلمّا قَضَى بولَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ"، والقواعدُ تقتضيه، فإنَ المانعَ إذا زالَ، وجبَ إعمالُ المُقتضي. الحادية عشرة: قولُ الرّاوي: "أَمَرَ" تعبيرٌ عن أمرِه - صلى الله عليه وسلم -، لا حكايةٍ للفظِه، وهو حجةٌ علَى المُختارِ في علم الأصول؛ لأنَّ علمَهُ باللغةِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (217)، كتاب: الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) "ت": "وأما الاحتمال الأول وهو أن يكون". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "تكون". (¬6) "ت": "معتبرة".

الثانية عشرة

وأوضاع الكلام مع ديانته مُقتضٍ لمطابقةِ ما حكاه للواقع، واحتمالُ كونهِ اعتقدَ ما ليسَ بأمرٍ أمرًا يُبْعِدُهُ الأمران المذكوران. وما وقعَ في حديثِ ابن عباس رضي الله عنهما في خبرِ إجارة الأرض فنادرٌ لا يقدحُ فيما ذكرناه، وقد وقعتِ الحكايةُ للفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ آخرَ حيثُ قال: "صُبّوا عَلَيهِ ذَنُوبًا مِنْ ماءٍ" (¬1). الثانية عشرة: إذا اشتملت الواقعةُ (¬2) علَى أمورٍ، فقد تنقسمُ تلك الأمورُ علَى أقسام؛ أحدها: ما يُقطَعُ بعدمِ اعتباره. والثاني: ما يُقطَعُ باعتباره. والثالث: ما يُحتمَلُ اعتبارُهُ وعدمُ اعتبارِه، ويدلُّ علَى اعتباره ما يقتضيه مقصودُ الحكم، وما يُعلَمُ اعتبارُ الشارعِ له بالنسبةِ إلَى ذلك الحكم، وما يُعلَمُ عدمُ اعتباره بالنسبةِ إليه. وممّا اشتملت عليه هذه الواقعةُ كونُ المصبوب مِنهُ ذَنوبًا، وذلك غيرُ معتبَرٍ جزمًا؛ لأنَّ المقصودَ التطهير، وهذا المقصودُ لا أثرَ فيهِ لكويهِ ذنوبًا، والجرَّةُ والحُبّ (¬3) والخشب وغيرُهُ قائمٌ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا عند البخاري برقم (217). (¬2) "ت": "القاعدة". (¬3) الجرَّةُ، أو الضخمة من الجِرار، انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص:91).

الثالثة عشرة

مقامَهُ قطعًا في تحصيل المقصود، ولست أدري ما تقولُهُ الظّاهِريّة الجامدة ها هنا، فإنْ ذهبوا -[همْ] (¬1) أو بعضُهُم - إلَى اعتبار الذَّنوب عندَ القدرة عليه فليسَ ذلك بعيدًا عن تصرفاتهم، ولا قريبًا من الحقّ، والله أعلم. الثالثة عشرة: ودونَ هذا مرتبةٌ أُخرَى، وهو اعتبارُ القصد في التطهيرِ، والفقهاء - أو من شاء الله منهم - ألغَوْه أيضًا، فلو صَبَّ المطرُ علَى الأرضِ، وحصل ما يكفي في التطهيرِ عندَ القصدِ كَفَى ذلك. وإنَّما جعلتُه دونَ الأُولَى؛ لاحتمال اعتبار القصد لأجل امتحان (¬2) المُكلَّفِ، والامتحانُ والتكليف أمر معلومُ الاعتبارِ في الجملةِ في الأحكام، ولا مانع من أنْ نَعتبرَها (¬3) ها هنا، ولا قاطعَ علَى عدمِ اعتبارِه، بخلاف كونِ المصبوب مِنهُ دلوًا، فإنَّهُ معلومُ الإلغاء بالنسبةِ إلَى مقصودِ التطهير. الرابعة عشرة: تعيينُ الماء قيدٌ (¬4) يُستدَلُّ به علَى تَعَيّنهِ في الإزالةِ؛ لأنَّ المُعيَّنَ لا يقعُ الامتثالُ إلا به، وليسَ يُقطَعُ بإلغائِهِ، بل ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "لامتحان". (¬3) "ت": "يعتبر". (¬4) "ت": "قد".

رُبَّما يُدَّعَى مناسبتُهُ لما فيهِ من الرِّقةِ واللَّطافة، ويردُّ عليه ما يُقال من أنَّهُ مفهومُ لقبٍ لا يقتضي نفيَ الحكم عمّا عداه، ونحن قد أشرنا إلَى بحثٍ فيه، وهو أنَّ المُعينَ لا يقعُ الامتثالُ إلا به، وإنْ كان لقباً؛ لأنَّ الآتيَ بغيرِه لمْ يأتِ بما أُمِرَ به، فيبقَى في العُهْدةِ، وهذا إذا لمْ يُقطَعْ بعدم اعتباره، علَى أنَّهُ لو كان للقب (¬1) مفهومٌ، لأمكنَ الخصمُ أنْ يقولَ: المفهومُ إنَّما يدلُّ علَى نفي الحكم عما عدا محلِّ الذكر إذا تعيَّنَ [في] (¬2) اختصاصِ الحكم به ذكرًا فائدة (¬3) للتخصيص بالذكرِ، أمَّا إذا لمْ يتعينْ فلا يدلُّ، ولهذا علَّلوا عدمَ القول بالمفهومِ في قوله تعالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] بأنَّهُ خرج علَى العادةِ (¬4)، ولا قَالَ الأكثرون بمفهوم: "أَيّما امرأةٍ نكحتْ نفسَها بغيرِ إِذْنِ وليّها فنِكاحُها باطِلٌ" (¬5) حيثُ حملوه علَى أنَّ الغالبَ والعادةَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "اللقب"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ب". (¬3) "ت": "وفائدة". (¬4) "ت": "خرج مخرج العادة". (¬5) رواه أبو داود (2583)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1102)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي، وقال: حسن، وابن ماجه (1879)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها. وقد أعل الحديث بالإرسال، وتكلم فيه بعضهم من جهة بعض رواته. وقد تكلم عليه الدارقطني في جزء "من حدث ونسي"، والخطيب بعده، وأطال في الكلام عليه البيهقي في "السنن الكبرى"، وفي "الخلافيات"، وابن الجوزي =

الخامسة عشرة

أنَّ المرأةَ لا تنكحُ نفسَها مع موافقة الولي لها؛ لما هي عليه من الحياءِ، وإذا ثبتَ هذا فيقولُ الخصمُ: إنَّما ذكرَ الماءَ؛ لتيسُّرِ وجودِهِ، وعدمِ إتلافِ الماليَّةِ باستعماله في إزالة النجاساتِ (¬1)، بخلاف غيرِهِ مما له ماليَّةٌ. وجوابُهُ: أنَّ هذا إنَّما يلزمُ من يستدلُّ بالمفهومِ، وأمَّا (¬2) من يستدلُّ بتَعَيُّنِ ما تَعَلَّقَ به الأمرُ، إذا لمْ يُقطَعْ بعدم اعتباره، فلا يلزمهُ ذلك. الخامسة عشرة: عُلّقَ (¬3) الحكمُ بما يُسَمَّى ماءً، وذلك يقتضي حصولَ التطهير بما ينطلقُ عليه اسمُ الماءِ عندَ الإطلاق، [وهو الماء] (¬4) المطلق في اصطلاح الفقهاء، الَّذِي ينصرف إليه اللَّفظُ إذا لمْ يُقَيَّد، وهو الباقي علَى أوصاف خِلْقتِهِ في حدِّ بعضهم للماء المُطلَقِ، فما (¬5) يكون المأمورُ مُمتثلًا به، فهو الَّذِي يرتَّبُ عليه الحكمُ. ¬

_ = في "التحقيق"، وأطال الماوردي في "الحاوي" في ذكر ما دل عليه هذا الحديث من الأحكام نصًا واستنباطاً فأفاد. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 156 - 157). (¬1) "ت": "النجاسة". (¬2) "ت": "فأما". (¬3) "ت": "علل". (¬4) زيادة من "ت"، وقد ألحقت في الأصل إلا أنها مطموسة. (¬5) في الأصل و "ت": "فيما"، والمثبت من "ب".

السادسة عشرة

وإنَّما قلتُ: في اصطلاح [الفقهاء] (¬1)؛ تحرُّزًا مما يقوله بعضُ مَنْ يميل إلَى المَعقولِ من الفَرْقِ بين الماء المُطلَق ومطلق الماء، ولأنَّ الماءَ المُطلَق باعتبار اصطلاح الفقهاء مقيَّدٌ بقيدِ عدمِ التغيّرِ، وهذا لا يضرُّنا في الاستدلالِ؛ لأنَّ النصوص إنَّما تطلق لأجل الامتثال، والامتثالُ بحسب الفَهْم، والفهمُ بحسب المُتعارَفِ عندَ السامعين، فإذا كانوا عندَ الإطلاق للفظِ الماءِ لا يصرفونَهُ إلا إلَى المُقَيَّدِ بقيد عدم التغيير مثلًا، وجبَ تعليقُ الحكمِ به، لا بمطلق الماء. السادسة عشرة: هذا الأمرُ بصبِّ الذَّنوب، إنَّما هو لقصدِ التطهير جزماً، فيجبُ أنْ يحصلَ به التطهيرُ، والمخالفون لأبي حنيفة يَحكون عنه: أنَّ الأرضَ إذا أصابَتْها نجاسة يُحفَرُ الترابُ ويُنقَلُ (¬2)، ويستدلون عليه بالحديثِ (¬3): أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر (¬4) بنقل التراب. والطَّحاوِيّ الحنفيُّ - رحمه الله تعالَى - لمْ يطلقِ القولَ بالحفرِ، وفصَّلَ في "مختصره" فقال: ومَنْ بالَ علَى الأرضِ، فطهارةُ ذلك المكان - إذا كان إذا صُبَّ عليه الماءُ نزل إلَى ما هو أسفلَ من الأرضِ - صَبُّ الماء عليه حتَّى يُغسَلَ وجهُ الأرض وينخفضَ إلَى ما تحتَها، وإنْ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت"، وقد ألحقت في الأصل إلا أنها مطموسة. (¬2) انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 89). (¬3) أي حديث الباب المذكور. (¬4) "ت": "أمر".

كانت حجرًا، فحتَى يغسِلَها غسلًا يُطهّرُها، وإنْ كانت غيرَ ذلك من الأرضِ الصلبة فإنَّهُ (¬1) يُحفَرُ مكانُ البول منها حتَّى تعودَ طاهرةً مِنه (¬2). وبهذا (¬3) التفصيلِ الَّذِي ذكره، يتأتَّى لهم الجوابُ عن الحديثِ، إمّا بما قيل: إنَّها كانت رملًا ينزل فيها الماء، أو بأنَّهُ يُحتمَلُ ذلك، إنْ لمْ يكنْ نُقِلَ، ولمْ (¬4) تبطلْه المُشاهدةُ في الأرضِ المذكورة؛ أعني: أرضَ المسجد. وعلَى كلِّ حالٍ فكان القياسُ يقتضي ما أُطلِقَ من القولِ عن أبي حنيفةَ؛ لأنَّ ذلك غُسالةُ نجاسة، فهو ماءٌ قليلٌ حلَّته نجاسةٌ، فينجُسُ علَى مذهب من يقول ذلك، إلا أنَّ النَّصَّ يدلُّ علَى التطهيرِ مع بقاء البلل، فلا اعتبارَ بالقياسِ إنْ لمْ يصحَّ نقل بالنقلِ؛ أعني: بنقل التراب. وقد وردَ الأمرُ بالحفرِ في حديثٍ مُرسَلٍ عن طاوس (¬5)، وفي حديثٍ مسند عن عبد الله، والمسندُ من رواية أبي بكر بن عيّاش، عن ¬

_ (¬1) "ت": "فإن". (¬2) انظر: "مختصر الطحاوي" (ص: 31). (¬3) "ت": "وهذا". (¬4) "ت": "وإن لم". (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (1659)، وإسناده صحيح، كما ذكر الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 37).

السابعة عشرة

سمعان بن مالك الأزدي، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: بالَ أعْرابِيٌّ في المَسْجِدِ، فَأَمَرَ به النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصُبَّ عليه دلوٌ مِنْ ماء، ثمَّ أَمَرَ به فَحُفِرَ مَكانُهُ (¬1). واعْتُرِضَ علَى الأولِ بالإرسال؛ بناءً علَى أنَّهُ ليسَ بحجةٍ، و [قد يُورد] (¬2) علَى الثاني المُطالبةُ بمعرفةِ حالِ سمعان بن مالك الأزدي، فلْيُكْشَفْ عنه (¬3). السابعة عشرة: اختلفوا في الماءِ المُستعملِ في إزالة النَّجاسَة، إذا كان قليلًا غيرَ مُتَغَيِّرٍ علَى مذاهب: أحدُها: أنَّهُ طاهِرٌ طَهور. ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى في "مسنده" (3626)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 14)، والدارقطني في "سننه" (1/ 131)، وقال: سمعان مجهول. وقال أبو زرعة: هذا حديث ليس بالقوي، كما نقله ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 249)، وانظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 78). قلت: في مطاوي كلام الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 37) ما يومئ إلى تقوية أصل الحديث، فلينظر عنده. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سمعان بن مالك الأسدي: روى عن أبي وائل شقيق بن سلمة، وروى عنه أبو بكر بن عياش، قال الدارقطني عنه في "السنن" (1/ 131): مجهول، وكذا قال ابن خراش، كما نقله الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/ 328)، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 316).

والثاني: أنَّهُ نَجِسٌ. والثالث: أنَّ حكمَهُ حكمُ المحلّ بعد الغسل، إنْ كان نجسًا بعدُ فهو نجس، وإلا فطاهرٌ غيرُ طهور. والأخيرُ منسوبٌ إلَى جديد قولي الشّافِعيّ - رضي الله عنه -، والأول إلَى قديمهما، والأوسط إلَى التخريجِ (¬1)، وهو منسوب إلَى أبي حنيفة - رضي الله عنه -؛ أعني: أنَّهُ نجس (¬2) [وقيَّدَ بعضُهم الخلافَ فيما إذا لمْ يزدِ الوزنُ] (¬3). وقد استُدِلُّ بالحديثِ علَى طهارةِ غُسالةِ النَّجاسَةِ الواقعة علَى الأرضِ، وهو محلُّ النَّصّ الوارد، ووجهه أمران: أحدهما: ما تقدَّمَ من أمرِ البِلَّةِ الباقيةِ علَى الأرضِ، فإنَّها غُسالةُ نجاسة، فإذا لمْ يثبتْ أنَّ الترابَ نُقِلَ، وثبتَ يقيناً أنَّ المقصودَ التطهيرُ، وجبَ الحكمُ بطهارة تلك البِلَّةِ. وثانيهما: أنَّ الماءَ المصبوبَ لا بُد وأنْ يتدافعَ عندَ وقوعه علَى الأرضِ، ويصلَ إلَى محلّ لمْ يُصبْهُ البولُ مما يجاوزه، فلولا أنَّ ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 211 - 212)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 217). (¬2) انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 67). (¬3) سقط من "ت".

الثامنة عشرة

الغُسالةَ طاهرةٌ، لكان الصبُّ ناشرًا للنَّجاسةِ، وذلك خلافُ مقصودِ التطهير. الثامنة عشرة: واستُدِلُّ به علَى طهارةِ مُطلَقِ الغُسالة، سواءٌ كانت علَى الأرضِ أو غيرها، بناءً علَى أنَّهُ لا فارقَ، وأنَّ غيرَ الأرض في معنَى الأرض الَّتِي هي محلُّ النصِّ. والحنابلةُ فرَّقوا بين الأرض وغيرِها، فالمُنفصِلُ غيرَ مُتغيّرٍ من الغسالةِ الَّتِي طهرت الأرضُ بها طاهرٌ، وذكر بعضُهم: أنَّهُ روايةٌ واحدة، وإنْ كان غيرَ الأرض: فوجهان (¬1). وقد ذكرنا مأخذَ الجمهور وإلحاقَ ما هو في معنَى الأرض بهـ[ـا]، ولعلَّ سببَ التفرقةِ عندَ مَن يراها إتباعُ القياسِ في تنجُّسِ الغُسالةِ لحلول النَّجاسَةِ بها مع قلَّتِها، ويُخرِجُ عنه الأرضَ بالنصِّ، فيبقَى فيما عداه علَى القياسِ، ويمكنُ فيهِ غيرُ هذا. التاسعة عشرة: ذكر بعضُ الحنابلةِ (¬2): أنَّهُ إنَّما يُحكَمُ بطهارة المُنفصِلِ من الأرضِ إذا كانت [قد] (¬3) نشفت أعيانُ البولة، فإنْ كانت أعيانُها قائمةً - وجرَى الماء عليها - طهَّرَها، وفي المُنفصلِ روايتان، كالمنفصلِ عن غير الأرض، قال: وكونُهُ نَجِسًا أصحُّ في كلامه. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 48 - 49)، و"الفروع" لابن مفلح (1/ 205). (¬2) هو أبو الخطاب. (¬3) سقط من "ت".

العشرون

قَالَ غيرُهُ منهم (¬1): والأَولَى الحكمُ بطهارته؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل بول الأعرابيِّ عَقيبَ بولِه؛ يعني: ولمْ يشترطِ النُّشوفَةَ (¬2). العشرون: ذكر المُزنيُّ - رحمه الله تعالَى - في "المختصر": وإنْ بالَ رجلٌ في مسجدٍ أو أرض، طَهُرَ بأنْ يُصَبَّ عليه ذَنوب من ماء (¬3). فنُقِلَ عن الأنماطيّ والإصطَخْرِيِّ: أنَّهُ شرطٌ وتحديدٌ، حتَّى لو بال اثنان، لمْ يُطَهّر إلا دلوان، كعدد السبع في وُلوغ الكلب، والأكثرون [على] (¬4) أنَّ الاعتبارَ بالمُكاثرةِ، قيل: إنَّما ذَكرَهُ الشّافِعيُّ رحمة الله عليه علَى سبيل التقريبِ، أو لموافقةِ الخبر (¬5). الحادية والعشرون: المنقولُ عن الشّافِعيِّ - رضي الله عنه - أنَّهُ قال: الَّذِي يشبه أنْ لا يُزالَ البولُ بأقلَّ من سبعة أمثالِهِ (¬6). وقد حُكِيَ هذا وجهًا في اشتراط سبعةِ أمثال البول، وهذا ليسَ له وجهٌ إلا أنْ يقومَ دليلٌ علَى أنَّ الذَّنوبَ كان سبعةَ أمثال البول، فيُجزِئُ علَى ظاهر الأمر، وهذا لا سبيلَ إليه، والظاهرُ أنَّهُ كان أكثرَ من ذلك، ¬

_ (¬1) هو الإمام ابن قدامة. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 49)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله. (¬3) انظر: "مختصر المزني" (ص: 18). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) وانظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 52). (¬6) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 544).

الثانية والعشرون

أو يُقال: إنَّ التجرِبةَ دلَّت علَى أن هذا المقدارَ هو الَّذِي يحصلُ به الانغمارُ والغلبة، وهذا أيضًا مُختَلِفٌ باختلاف مقادير البول. الثانية والعشرون: قد يتعلق به مَنْ يرَى استعمالَ اللَّفظِ في حقيقتِهِ ومجازِه، وذلك في الروايةِ الَّتِي جاء فيها: "صُبُّوا عَلَيه ذَنُوبًا مِنْ ماءِ". ووجهُهُ: أنَّ صيغةَ الأمر توجَّهَت إلَى صبِّ الذَّنوب، والقدرُ الّذِي يَغمُرُ النَّجاسةَ واجبٌ، [والقدرُ الزائدُ على ذلك غيرُ واجب] (¬1) في إزالتها، فتناوُلُ الصيغةِ له (¬2) استعمالٌ اللَّفظَ في حقيقتِهِ، وهو الوجوبُ، والزائدُ علَى ذلك مُستحَبّ، فتناولُ الصيغة له استعمالٌ لها في الندبِ، وهو مجازٌ فيه، فقد استعملَتْ صيغةُ الأمر في حقيقتها ومجازها (¬3)، وهذا بناء علَى زيادة الذَّنُوب علَى القدرِ الواجب، والله أعلم. الثالثة والعشرون: يستدلُّ به علَى الاستظهارِ في إزالة النَّجاسَةِ بزيادة الماء علَى القدرِ الَّذِي يَحصُلُ به المقصودُ (¬4) طلبًا لزيادة التنظيف ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "لها". (¬3) "ت": "في مجازها وحقيقتها"، وهذه الفائدة نقلها الزركشي في "البحر المحيط" (2/ 406) عن المؤلف رحمه الله. (¬4) "ت": "الفرض".

الرابعة والعشرون

والتطهير (¬1)، وقد استحبَّهُ الشّافِعيُّ في زيادة الغسلات في كلِّ نجاسة تُزال، واستحبَّ الثلاث، ووجَّهَ ذلك بحديث أمرِ المُستيقِظِ بغسلِ يديه ثلاثًا، وأنَّهُ إذا استُحِبَّ ذلك لتوهُّمِ النَّجاسَة فَمَعَ تحقُّقِها أَولَى (¬2). ووجهُ هذا الاستدلال من هذا الحديث علَى ما ذكرناه من الاستظهارِ بالزيادةِ، أنَّ الذَّنوبَ يزيدُ علَى القدرِ الَّذِي يتَحَصَّلُ به المقصودُ من انغمارِ النَّجاسَة، فالزائدُ عليه يكونُ من هذا القَبيل، والله أعلم. الرابعة والعشرون: ها هُنا بحيث يُنظَرُ فيه، وهو أنَّ تواليَ الصبِّ إذا حصل به مقصودُ الاستظهار، هلْ يقومُ مقامَ عددِ المرات؟ فيمكنُ أنْ يُقالَ ذلك، ويُستدَلُّ عليه بأنَّهُ لو لمْ يقمْ مقامَها لما حصل تأدِّي السنة في الثلاثِ الَّتِي دلَّ عليها حديثُ المُستيقِظِ من النومِ، مع [طلب] (¬3) حصول المقصود في الاستظهارِ كما في عدد المرات، وفي هذا بعضُ نظرٍ، وهو أنَّ العددَ المُعتبَرَ في غسل الإناء من ولوغ الكلب لو صُبَّ عليه مُتَّصلًا بحيثُ لو قُطّعَ لكان سبعًا، هلْ يعدُّ غسلةً أو سبعًا، وفي الثاني بعدٌ ظاهر، [أو لا ينبغي أن يُجزَم به] (¬4). ¬

_ (¬1) "ت": "التطهير والتنظيف". (¬2) انظر: "مغني المحتاج" للشربيني (1/ 86). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الخامسة والعشرون

الخامسة والعشرون: فإنْ قلنا: إنَّ تواليَ الصبِّ يقومُ مقامَ العدد في المراتِ، دلَّ أيضًا علَى أنَّ جِريات الماء البخاري يقوم مقامَ المرات في الغسلاتِ المُعتبرة، كعدد الغَسَلات في ولوغ الكلب؛ لمساواةِ ذلك للماء المصبوب. السادسة والعشرون: قد ذكرنا من مذهب الشّافِعية أن جِرياتِ الماء الجاري مُتَفاصِلَة، فما فوقَ النَّجاسَة من الماءِ الجاري طاهر، ما لمْ ينتهِ إليها، واستشهدَ بعضُهُم في ذلك بما أجمعوا عليه من أنَّ إبريقًا لو صُبَّ من بُزالِهِ ماءٌ علَى نجاسة، كان الماءُ الخارجُ من البزالِ طاهرًا ما لمْ يلاقِ النَّجاسَة، وإنْ كان جاريًا إليها، كذلك ما جرَى إلَى نجاسة، فلِقائِلٍ أنْ يقولَ: الصبُّ من الذنوبِ علَى الأرضِ فيهِ هذا المعنَى المذكور في بزال الإبريق، فليكنْ دالًا وأصلًا يُستشهَدُ به علَى ما قَالَ. فإن اعتُرِضَ عليه: بأنَّ الذنوبَ يمكنُ أنْ يصبَّ ماؤُهُ دفعةً واحدة، فلا يَحصُلُ فيهِ المعنَى المذكور في بزال الإبريق، فلا يكون مثلَهُ في صحة الاستشهاد. فيقال عليه: قد أُمِرَ بالصبِّ مُطلقاً، فمتَى حصل مُسمّاه حَصَل الامتثالُ، وبالصبِّ علَى التدريج يَحصل المُسمَّى؛ أعني: مُسمَّى صبِّ الذَّنُوب عليه، فيَحصُلُ به الإجزاءُ لاندراجه تحتَ ما دلَّ عليه (¬1) إطلاق اللفظ، وإذا حصل الإجزاءُ به في هذه الصورة، ¬

_ (¬1) في الأصل: "عليها"، والمثبت من "ت".

السابعة والعشرون

تساوَى مع بزال الإبريق فيما ذُكِرَ، إلا أنَّ الذِيَ ذكرَهُ، وهذا الَّذِي أُلحِقَ به موقوفُ (¬1) الصحةِ علَى أنْ لا تحصلَ طهارةُ [النَّجاسَة] (¬2) بأولِ المُلاقاة، فإنَّ ما قاله مبنيٌ علَى نجاسة أسفلِ الماء - أو ما يلاقيه - وطهارةِ أعلاه، [و] (¬3) مع حصولِ الطهارة بأول المُلاقاة لا يَحصلُ هذا المعنَى، اللهُمَّ إلا أنْ يَدَّعِيَ أنَّ الإجماعَ قائمٌ علَى طهارة أعلَى الماء الَّذِي عندَ البُزال وإنْ كان الأسفلُ لمْ يطهر، فيلزمُهُ إثباتُهُ. السابعة والعشرون: في طهارةِ الأرض قبلَ نُضُوب الماء خلافٌ للشافعية (¬4)، ويمكنُ أنْ يستدلَّ علَى عدمِ اشتراط النضوب بالحديثِ. وطريقُهُ: أن يَحصل امتثالُ الأمر بصبِّ ماء الذنوب علَى الأرضِ لحصول مسمَّى ما تَعَلَّقَ به الأمر، وفعلُ المأمور به يقتضي الإجزاءَ، وهذا ضعيف؛ لأنَّ فعلَ المأمور به يقتضي الإجزاء بالنسبةِ إلَى ما تَعَلَّقَ به الأمر، والَّذِي تَعَلَّقَ [به] (¬5) الأمرُ الصبُّ، وهذا الفعلُ يقتضي الإجزاءَ في الأمر بالصب، لا في تطهير الأرض، إلا أنْ يُقالَ (¬6): إنَّ ¬

_ (¬1) في الأصل "موصوف"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 29). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "يدعي مدع".

الثامنة والعشرون

الأمرَ وإنْ كان بالصبّ، إلا أنَّهُ لمقصودِ التطهير؛ ليَحصُلَ (¬1) التطهيرُ علَى هذا التقدير؛ أعني: على تقديرِ اعتبار معنَى التطهير في هذا الأمر. والذِين اشترطوا النضوبَ بنَوْهُ علَى نجاسة الغُسالة، واشتراطِ العصر، وأنَّ عَصرَكلِّ شيءٍ علَى حَسَبِهِ. الثامنة والعشرون: وبهذا الطريقِ أيضًا يُؤخَذُ عدمُ اشتراطِ الجفاف، وفيهِ من البحثِ ما تقدَّمَ في الَّذِي قبلَهُ. التاسعة والعشرون: قد يُؤخَذُ مِنهُ أنَّ العصرَ في الثوبِ المغسول من النَّجاسَةِ لا يجبُ. وطريقُهُ أنْ يُقالَ: لو وجبَ العصرُ في الثوبِ لتوقَّفَتْ طهارةُ الأرض علَى النّضوبِ، ولا تتوقَّفُ لما ذكرناه، فلا يجبُ العصر. بيانُ الملازمة: أنَّ النضوبَ في الأرضِ قائمٌ مَقامَ العصرِ كما ذُكِرَ؛ لأنَّ عصرَ (¬2) كلِّ شيء علَى حسبه، فلو وجبَ [النضوبُ الذي هو في الأرض بمنزلة العصر في الثوب، لوجب العصرُ في الثوب] (¬3). ¬

_ (¬1) "ت": "فيحصل". (¬2) في الأصل: "العصر"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "فلو وجب العصر في الثوب لوجب النضوب في الأرض"، والمثبت من "ت"، وهو أوضح.

الثلاثون

الثلاثون: استُدِلَّ به علَى أنَّ الأرضَ إذا أصابَتْها نجاسةٌ لا تَطهُرُ بالجفافِ، ولا بشروقِ الشمس عليها، إلا بالماءِ. وعن أبي قِلاَبة أنَّهُ قال: تطهُرُ بالجفافِ (¬1). وعن أصحابِ الرأيِ: أنَّهُ إذا أشرقت عليها الشمس حتَّى ذهب أثرُ النَّجاسَة تطهُرُ (¬2). ووجهُ الاستدلالِ بهِ: أنَّ الأمرَ توجَّهَ بصبِّ الماءِ على الأرضِ، والمقصودُ به التطهيرُ، فلا يحصلُ الامتثالُ إلا بهِ. والاعتراضُ: أنَّ ذكرَ الماء لوجوب المبادرة إلَى تطهير المسجد، وتركَه إلَى الجفافِ تأخيرٌ لهذا الواجب، وإذا ترددَ الحالُ بين الأمرين لا يكونُ دليلًا علَى أحدِهِما بعينِهِ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (625) عن أبي قلابة قال: إذا جفت الأرض فقد زكت. ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (5143) عنه بلفظ: جفوف الأرض طهورها. (¬2) انظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 176).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ الأَلْمَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى مِن إِصْدَارَاتِ وَزَارَة الشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالأَوْقَافِ وَالدَّعْوَةَ وَالإِرْشَادِ المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ 1429 هـ - 2008 م الطَّبْعَةُ الثَّانِيَة مِنْ إِصْدَارَاتِ دَارُ النَّوَادِرِ 1430 هـ - 2009 م دَارُ النَّوَادِرِ لصاحبها ومديرها العام نُورِ الدِّين طَالِب سوريا - دمَشق - ص. ب: 24306 لبنان - بيروت - ص. ب: 5180/ 14 هاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

باب الآنية

باب الآنية الآنية: جمعُ إناءٍ، كخِمارٍ وأخْمِرةٍ، ورِداءٍ وأرديةٍ ونحوِهما، وجمعُ الآنيةِ: أواني (¬1)، وأطلقَ بعضُ الفقهاء لفظَ الآنيةِ على المفرد، وقيل: ليس بصحيح (¬2)، وقد جاء في "الصحيح": "لا تشربوا في آنية الفضة" (¬3)، وهو جمعٌ مُضافٌ فيعُمّ، والعموم يقتضي ترتُّبَ (¬4) الحكمِ على كلَ فردٍ فردٍ. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (15/ 398)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 48). (¬2) نقله المؤلف رحمه الله عن "الاقتضاب في شرح غريب الموطأ" لأبي محمد عبد الحق، كما ذكر في "الإمام" (1/ 276). (¬3) رواه البُخاريّ (5110)، كتاب: الأطعمة، باب: أكل في إناء مفضض، ومسلم (2067)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، من حديث حذيفة - رضي الله عنه - بلفظ: " ... ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ... " الحديث. (¬4) "ت" "ترتيب"

الحديث الأول

الحديث الأول منه عَنْ مُعَاويةَ بنِ سُويدٍ بن مُقَرِّن قال: دخلتُ على البَراءِ بنِ عازبٍ فسمعتُه يقولُ: أَمَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسَبع، ونَهانَا عَنْ سَبع؛ أَمَرَنَا بعيادةِ المَرِيْضِ، واتِّباعِ الجَنَازة (¬1)، وتَشْمِيْتِ العَاطِسِ، وإبْرارِ القَسَم - أو المُقْسِم -، ونَصْرِ المَظْلُومِ، وإجابَةِ الدَّاعي، وإفْشَاءِ السَّلام، ونهَانَا عن خَواتَيِمَ - أو [عن] (¬2) تختُّمٍ - بالذَّهَبِ، وعن شُرْبٍ بالفِضَّةِ، وعن المَيَاثِرِ، وعن القَسِيِّ، وعن لُبْسِ الحريْرِ والإسْتَبْرقِ والدِّيباجِ. لفظ رواية مسلم في بعض وجوهه (¬3). ¬

_ (¬1) في النسخ الثلاث: "الجنائز"، والصواب ما أثبت كما في "صحيح مسلم"، ونسخ "الإلمام" المطبوعة للمؤلف، و"الإمام" له أيضًا (1/ 278). (¬2) سقط من "ت". (¬3) * تخريج الحديث: رواه مسلم (2066)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، من طريق زهير بن معاوية، عن أشعث بن سليم، عن معاوية بن سويد، عن البراء، به.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المرضى، باب: وجوب عيادة المريض، و (5525)، كتاب: اللباس، باب: خواتيم الذهب، و (5868)، كتاب: الأدب، باب: تشميت العاطس إذا حمد الله، ومسلم (2066)، (3/ 1636)، كتاب: اللباس، والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، والترمذي (2809)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل، والقسي، من طريق شعبة، عن أشعث، عن معاوية، عن البراء، به. ورواه البُخاريّ (5511)، كتاب: اللباس، باب: الميثرة الحمراء، و (6278)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: قوله الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]، ومسلم (2066)، (3/ 1636)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، من طريق سفيان، عن أشعث، عن معاوية، عن البراء، به. ورواه البُخاريّ (5881)، كتاب: الاستئذان، باب: إفشاء السلام، (2066)، (3/ 1636)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، من طريق أبي إسحاق الشيباني، عن أشعث، به. ورواه البُخاريّ (5312)، كتاب: الأشربة، باب: آنية الفضة، ومسلم (2066)، (3/ 1636)، من طريق أبي عوانة، عن أشعث، به. ورواه البُخاريّ (4880)، كتاب: النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة، والنَّسائيُّ (1939)، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، و (3788)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إبرار القسم، من طريق أبي الأحوص، عن أشعث، به. =

[الوجه] الأول

الكلامُ عليه من وجوهٍ: * الأول: في التعريفِ بمن ذُكِرَ فنقول: البراءُ بنُ عازبٍ - بالعين المهملة، وبعد الألف زايٌ معجمة - بن حارثِ بن عَديِّ بن جُشَم - بضم الجيم، وفتح الشين المعجمة - بن مَجْدعَة - بفتح الميم، وسكون الجيم، وفتح الدال المهملة - بنِ حارثةَ بنِ الحارثِ بنِ الخَزْرَجِ، قال أبو عمر: الأنصاريُّ الحارثيُّ الخزرجيُّ، يكنى: أبا عُمارة، وقيل: أبا الطُّفيل، [وقيل: أبا عمر] (¬1)، وقيل: أبا عمرو، والأشهر: أبا عُمارة، وهو الأصحُّ إن شاء الله تعالى. وفي إطلاق أبي عمر - رحمه الله تعالى -: "الحارثيَّ الخزرجي" ما يسبق إلى الفهم منه: أنَّه مِنَ الخزرجِ [أخي الأوس] (¬2)، والأوسُ والخزرجُ ولدا حارثةَ بنِ ثعلبةَ العنقاءِ بنِ عمرِو مُزَيقياء بنِ عامرِ بنِ ماءِ السَّماءِ بن حارثةَ الغِطْريف بن ثعلبةَ بن مازنٍ بنِ أَزْدٍ (¬3)، وقد رأيتُ [في] (¬4) نسَبِهِ في كتاب "ذيل المُذَيَّل" (¬5) لأبي جعفر ¬

_ = ورواه مسلم (2066)، (3/ 1636)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، من طريق ليث ابن أبي سليم مقروناً مع الشيباني، عن أشعث، به. (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت"، وقد ألحقت على هامش الأصل إلَّا أنها مطموسة. (¬3) "ت": "الأزد". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) كتاب: "ذيل المذيل في تاريخ الصحابة والتابعين" لابن جرير الطبري، =

الطَّبَرِيّ، فلمّا انتهى إلى حارثة بن الحارث بن الخزرج قال: ابن عمرو وهو النَّبِيت (¬1) بن مالك بن أوس (¬2)، فعلى هذا هو أوسيٌّ. والبراءُ معدودٌ في أهلِ الكوفةِ، ويقال: توفّي في إمارةِ مُصْعبِ ابنِ الزُّبير، وفي "الصحيح" (¬3) من حديث شعبةَ، عن أبي إسحاق، [عن البراء] (¬4): استُصْغِرْتُ أنا وابنُ عمرَ يومَ بدْرٍ (¬5). [و] (¬6) عن بعضِهم: أولُ غزوةٍ شهدَها ابنُ عمرَ والبراءُ بن عازبٍ وأبو سعيدٍ وزيدُ بنُ أرقمَ الخندقُ (¬7). وعازبُ: والدُ البراءِ، أغفله أبو عمرَ بنُ عبد البَرِّ، فلم يذكره في "الاستيعاب"، فاستدركَه عليه أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن يَحْيَى المعروف بابن الأمين (¬8)، وقال ابنُ عمرو - هو الواقديّ -: عندي لم يَسْمَع ¬

_ = طبع مختارات منه في مصر سنة (1326 هـ) في آخر كتابه "تاريخ الأمم والملوك". انظر: "معجم المطبوعات" لسركيس (2/ 1230). (¬1) "ت": "اللَّيث". (¬2) "ت": "الأوس". (¬3) في الأصل: "الأصح"، والتصويب من "ت" و "ب". (¬4) سقط من "ت". (¬5) رواه البُخاريّ (3739)، كتاب: المغازي، باب: عدة أصحاب بدر. (¬6) زيادة من "ت". (¬7) قاله الواقدي، كما نقله ابن عبد البر في "الاستيعاب" (1/ 156). (¬8) للإمام المحدث والفقيه أبي إسحاق إبراهيم بن يَحْيَى الطليطلي القرطبي المعروف بابن الأمين، المتوفى سنة (544 هـ) استدراك على كتاب ابن =

بعازبٍ يُذكر في شيء من المغازي، وقد سمعنا حديثَه في الرَّحل الذي اشترى [منه] (¬1) أبو بكر (¬2). وللبراء أخٌ لأبيه وأمِّه، اسمه عُبيد بن عازب، وقيل: هو أحدُ العَشَرَةِ الذين وجَّههم عمرُ بنُ الخطَّاب مع عمَّار بنِ ياسرٍ إلى الكوفةِ - رضي الله عنهم - أجمعين (¬3). وأمَّا معاويةُ بن سويد وهو ابن مقرِّن بن عائدٌ - بالذال المعجمة -، ¬

_ = عبد البر "الاستيعاب" سماه: "الإعلام بالخِيَرة الأعلام من أصحاب النَّبيُّ - عليه السلام - ". انظر: "الأعلام" للزركلي (1/ 79)، و"معجم المؤلفين" لكحالة (1/ 125). (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه البُخاريّ (3452)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، ومسلم (2009)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: في حديث الهجرة، ويقال له: حديث الرجل، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما. (¬3) * مصادر التَّرجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 364)، "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 117)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 155)، "تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 177)، "أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 362)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 140)، "تهذيب الكمال" للمزي (4/ 34)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 194)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 278)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (1/ 372).

وأبوه (¬1) سُويد بن مُقَرِّن أحدُ الصحابة، أخو النَّعمان بن مُقَرِّن، وهم سبعة إخوة ذكرهم أبو عمر بن عبد البر في ترجمة مَعْقِل بن مقرِّن، وذكر أنهم كانوا سبعةَ إخوة كلُّهم هاجَر وصَحِبَ النبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وليس ذلكَ لأحد من العربِ سواهم، قاله الواقديُّ، ومحمدُ بن عبد الله بن نُمَير، وسمى الواقديُّ منهم خمسةً من أصحابِ النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وذكر غيرَه سَبْعَةً. قال الحافظ أبو بكر بن محمد بن سليمان بن فَتْحُون الأندلسي (¬2): وقد ذكرَ الشَّيخُ - رحمه الله - يعني: ابنَ عبدِ البرّ - أبناءَ الحارثِ بنِ قيسٍ السَّهْميِّ، وهم: بِشر، وتميم، والحارث، وعبد الله، وأبو قيس، وسعيد (¬3)، وحجاج، والسائب، ومعمر، كلهم هاجرَ إلى أرض الحبشة، وهم أشرف محتدِاً، وأكثر عددًا، وأعظم منقبةً. قلت: ومعاوية بن سويد [بن مقرن] (¬4) متَّفقٌ على الاحتجاجِ به ¬

_ (¬1) في الأصل: "أبو"، والتصويب من "ت". (¬2) للإمام الفقيه المحدث أبي بكر محمد بن خلف بن سليمان بن فتحون، المتوفى سنة (520 هـ) ذيل على "الاستيعاب" لابن عبد البر، استدرك فيه قريبًا ممَّا ذكره ابن عبد البر وسماه: "الإلحاق على الاستيعاب في معرفة الأصحاب". انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 81)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 488). (¬3) "ت": "سعد". (¬4) زيادة من "ت".

الوجه الثاني: في تصحيحه

في "الصَّحيحين"، مُخرَّجٌ له في بقيَّة الكتبِ المشهورةِ، سمع البراءَ و [أباه سويداً] (¬1)، وروى عنه أبو عمر، وعامرٌ الشَّعبي، وأبو عبد الله عمرو بن مُرَّة الجَمَلي، وسَلَمة بن كُهيل، وحديثُه عن أبيه في صُحْبة المماليك من كتابِ مسلم (¬2). * * * * الوجه الثَّاني: في تصحيحه: وهو حديثٌ متَّفقٌ عليه، أخرجَه الجماعةُ، إلَّا أنَّ منهم من يختصِر ويقتصِر على بعضِ الأمور التي فيه، ومنهم من يُخرج الجميع، وقد ذكَرَه البُخاريّ في عشرةِ مواضعَ من كتابه؛ في الجنائزِ والملازمةِ، واللِّباسِ، والطِّبِّ، والأدبِ، والنُّذورِ، والنِّكاحِ، والأشربةِ، والاستئذانِ، وأخرجَه مسلمٌ في الأطعمةِ (¬3). وقوله في الأصل: لفظُ مسلم في (¬4) بعض وجوهه، يقتضي أمرين: أحَدهما: أنَّ لفظَ غيرِه قد يخالفه، والثاني: أنَّ له وجوهاً عندَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأبا سويد"، والتصويب من "ت". (¬2) رواه مسلم في "صحيحه" برقم (1658)، (3/ 1279). * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 330)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 378)، "الثقات" لابن حبان (5/ 412)، "تهذيب الكمال" للمزي (28/ 181)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 188). (¬3) كما تقدم في التخريج قريبًا. (¬4) "ت": "من".

الوجه الثالث: في شيء من مفردات ألفاظه

مسلم قد يخالف بعضُها لفظَه (¬1)، والوجوهُ التي رواها مسلم فيه من حديث زهير بن معاوية، وأبي عوانة، وأبي إسحاق الشَّيباني، وليث ابن أبي سُليم مع الشَّيباني مقروناً، وشعبةَ، وسفيانَ، كلُّهم عن أشعثَ ابنِ أبي الشَّعثاء المحاربي، عن معاوية بن سُويد (¬2). * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفردات ألفاظه: أحدها: مُقَرِّن: بضم الميم، وفتح القاف، وتشديد الراء المكسورة، وآخره نون. وثانيها: العيادةُ من مادة العَود، من الرُّجوع إلى الشَّيء بعد الانصراف عنه، إمَّا انصرافاً بالذَّات أو بالقول والعزيمة، وقد أُطْلِقَ العَوْدُ على الطَّريق [القديم] (¬3) يعود إليه السَّفْرُ (¬4)، فإن أُخِذَ ¬

_ (¬1) فرواية أبي عوانة قال فيها: إلَّا قوله: "وإبرار القسم أو المقسم" فإنّه لم يذكر هذا الحرف في الحديث وجعل مكانه: "وإنشاد الضال". ورواية الشيباني قال فيها: مثل حديث زهير - أي حديث الباب - وقال: إبرار القسم من غير شك، وزاد في الحديث: "وعن الشرب في الفضة، فإنّه من شرب فيها في الدُّنيا، لم يشرب في الآخرة". وقال في رواية شعبة: لم يقل فيها: "وإفشاء السلام" وقال بدلها: "وردّ السلام" وقال: نهانا عن خاتم الذهب أو حلقة الذهب". وفي رواية سفيان قال: "وإفشاء السلام وخاتم الذهب". من غير شك. (¬2) وقد تقدم ذكرها في تخريج الحديث. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 514)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 386)، (مادة: عود).

من الأولِ، فقد يُشعر بتَكرار العيادة، وإن أُخِذَ من الثَّاني بعد نَقْلِهِ نقلًا عُرْفِيًّا إلى الطَّريق، لم يدلَّ على ذلك. وثالثها: قال أبو القاسمِ الحسينُ بنُ محمدِ بنِ المفَضلِ الرَّاغبُ الأصبهانيُّ: المَرَضُ: الخروجُ عنْ الاعتدالِ الخاصِّ بالإنسان وذلك ضربان: [الأول]: مَرَضٌ جِسْمِيٌّ، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] {وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91]. والثاني: عبارةٌ عن الرَّذائل؛ كالجهلِ، والجبنِ، والبخلِ، والنِّفاقِ، ونحوها من الرَّذائلِ الخُلُقيةِ. قلتُ: الحقيقةُ هو المرضُ الجِسميُّ، وأما مرضُ القلوبِ فمجازٌ، وهو مجازُ التَّشبيهِ. قال الرَّاغبُ: ويُشَبَّه النِّفاقُ والكفرُ ونحوُهما من الرذائلِ بالمرضِ؛ إمَّا لكونها مانعةً من إدراكِ الفضائلِ، كالمرضِ المانعِ للبدنِ عنِ التَّصرُّفِ - الكاملِ، وإما لكونها مانعةً عن تحصيلِ الحياةِ الأُخروَّيةِ المذكورة في - قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، وإمَّا لميلِ النَّفسِ عن الاعتقاداتِ (¬1) الرَّدية ميلَ البدنِ المريض إلى الأشياءِ المُضرَّة. قال: ويكون هذه الأشياء مُتَصوَّرَةً بصورةِ المرضِ (¬2) قيل: دَوِيَ ¬

_ (¬1) في المطبوع من "مفردات القرآن": "وإما لميل النفس بها إلى الاعتقادات". (¬2) في الأصل "المريض"، والمثبت من "ت".

صدرُ فلانٍ ونَغِلَ (¬1) قلبُه. قال - صَلَّى الله عليه وسلم -: "وأيُّ داءٍ أدوأُ مِنَ البُخْلِ؟ " (¬2)، قال: ويقال: شمسٌ مريضةٌ: إذا لم تكنْ مضيئةً لعارضٍ يعرِض لها (¬3). قلت: يجوزُ في [هذا أن يكونَ من مجاز التَّشبيه الصُّوريِّ، و] (¬4) أن يكونَ من مجازِ التَّشبيه المعنويِّ. ورابعها: قال الرَّاغبُ: يقال: تَبِعه وأتْبعه: قَفَا (¬5) أثرَه، وذلك تارةً بالجسمِ، وتارةً بالارتسامِ والائتمار، وعلى ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، و {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20 - 21] (¬6). ¬

_ (¬1) نغل قلبُه عليّ: ضَغِنَ. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1374)، (مادة: نغل). (¬2) رواه البُخاريّ في "الأدب المفرد" (296)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. ورواه الحاكم في "المستدرك" (4965)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وصححه ووافقه الذهبي. وانظر: "فتح الباري" (5/ 178)، و"تغليق التعليق" كلاهما لابن حجر (3/ 346). (¬3) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ع: 765). (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "إذا قفا". (¬6) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ع: 162 - 163).

قلت: الحقيقةُ: الاتِّباع بالجسم، والمجاز كثير شائع، فمن الحقيقة: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ} [الدخان: 23]، {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]، {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 89]، {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [المؤمنون: 44]، والمُسْتَتْبَع من البهائم: التي يتبعُها ولدُهها، والتَّبِيع: ولدُ البقرة إذا اتَّبع أمَّه. ومن انطلاقِهِ على المعنى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38]، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} [يوسف: 38]، {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. ومن المحتَمِلِ للأمرين: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} [الكهف: 66]، فيحتَمِلُ أنْ يكونَ من الحقيقة، بمعنى أنْ يتقدَّمه ويتَّبِعَه ليتعلَّمَ منه، ويَحْتَمِل أن يكونَ من المجازِ؛ أي: أَلْتَزِمُ اتِّباعَك واقتفاءَ أمرِك، والمجازُ هنا (¬1) أقرب. ومن المحتمل أيضاً: ما في هذا الحديث من اتِّباع الجنازة، وعلي هذا ينبغي ما الأفضلُ؛ هل المشيُ خلفَها أو أمامَها، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "ت": "ها هنا".

وعلى طريقة المتأخِّرين: يمكن أن يُجعلَ حقيقةً في القَدْر المُشْتَرَكِ دَفْعاً للاشتراك والمجاز، إلَّا أنَّ الأَولى عندي إذا كثُرَ الاستعمالُ في أحد الخاصَّتين وتبادرَ الذِّهنُ إليه عند الإطلاق أن يُجْعَلَ حقيقةَ اللفظِ، وتقدمه على الأصل المذكور؛ أعني: عدمَ الاشتراكِ والمجاز؛ لأنَّ الأصل يُتركُ بالدَّليل (¬1) الدالِّ على خلافه، ومبادرةُ الذهن، وكثرةُ الاستعمال: دليلٌ على الحقيقة، [نعمْ] (¬2) حيثُ يقرُبُ الحالُ أو يُشْكِل، فلا بأسَ باستعمالِ الأصْلِ. وخامسها: قال الجوهريُّ في "صحاحه": [الجِنازة: واحدة] (¬3) الجنائز؛ يعني: بالكسر في جيم الجنازة، قال: والعامَّةُ تقول: الجَنازة - بالفتح -، والمعنى: الميِّتُّ على السَّرير، فإذا لم يكن عليه الميِّت، فهو سريرٌ ونعش (¬4). وقال أبو بكر الزُّبيدي (¬5): الجَنازةُ: الميتُ، والجِنازة: خَشَبُ ¬

_ (¬1) "ت": "للدليل". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت"، وقد ألحقت في هامش الأصل إلَّا أنها مطموسة. (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 870)، (مادة: جنز). (¬5) لأبي بكر محمد بن الحسن بن مذحج الزبيدي الأندلسي اللغوي، المتوفى سنة (379 هـ) كتاب على معجم "العين" سماه: "الاستدراك على كتاب العين" قال فيه: إنه لا يصح له - أي: للخليل - ولا يثبت عنه، وأكثر الظن أن الخليل سبب أصله ثم هلك قبل كماله، فتعاطى إتمامه من لا يقوم في ذلك، فكان ذلك سبب الخلل، ثم قال؛ ومن الدليل على كونه لغير =

الشَّرْجَعِ - قلت: الشَّرْجَعُ - مفتوح الشين المعجمة، ساكن الراء المهملة، [و] (¬1) مفتوح الجيم، وآخره عين مهملة -، وقد ضبط بعضهم معنى الجَنازة - بالفتح -، والجِنازة - بالكسر - فقال: الأعلى للأعلى والأسفل للأسفل (¬2). وسادسها: التَّشْمِيْتُ: وفيه النَّظر من جهات: الأولى: صيغةُ (¬3) لفظهِ، ويقال بالشِّين المعجمة، وبالسِّين المهملة. الثَّانية: قال الجوهري: وتشميت العاطس: أن يقال له: يرحمُك الله، بالسّين والشِّين (¬4)، قال ثعلب: الاختارُ: بالسِّين؛ لأنَّه ¬

_ = الخليل: أن جميع ما وقع فيه من معاني النحو إنَّما هو على مذهب الكوفيين، وبخلاف مذهب البصريين، على خلاف ما ذكره سيبويه عن الخليل، وفيه خلط الرباعي والخماسي من أولهما إلى آخرهما، قال: فهذَّبنا ذلك في المختصر، وجعلنا لكل شيء منه باباً يحصره، وكان الخليل أولى بذلك، انتهى. انظر: "معجم الأدباء" لياقوت (8/ 179)، و"بغية الوعاة" للسيوطي (1/ 84)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1443). قلت: والمؤلف رحمه الله ينقل في مواضع عدة من هذا الشرح عن كتاب الزبيدي هذا. (¬1) سقط من "ت". (¬2) يعني: أن الجنازة بالفتح تطلق على الميت، أما بالكسر فالمراد النعش. (¬3) "ت": "من جهة". (¬4) "ت": "بالشين أو السين".

مأخوذ من السَّمْت (¬1)، هو القصدُ (¬2) والمَحجَّة، وقال أبو عبيد: الشين أعلى في خاصتهم وأكثر (¬3)؛ لأنَّ فعله يتعدى إلى المفعول بنفسه وبحرف الجرِّ. قال ابن الأنباري فيما حكاه عن القاضي: يقال: سمَّت (¬4) فلاناً، وشمّت عليه، وكلُّ داعٍ إلى الخير مشمّت ومسمّت (¬5). الثَّالثة: في موضوعه، وفيه وجوهٌ منها: التَّشميت بمعنى الدُّعاء، قال الزُّبيدي في "مختصر العين": وشمّتُّ العاطس، إذا دعوتُ له، ويقال بالسِّين. وقال ابن سِيْدَه في "المحكم": وكلُّ داعٍ بالخير مُشَمِّتٌ (¬6). وقال الخطَّابيُّ: وسمّتَ وشمّتَ بمعنى، و [هو] (¬7) أن يدعوَ للعاطسِ بالرَّحمة (¬8). ¬

_ (¬1) في الأصل: "السِّمة"، والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "القصة"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 254)، (مادة: سمت)، وعنده: أعلى في كلامهم وأكثر. (¬4) "ت": "شَمَّتُّ". (¬5) انظر: "الزاهر في معاني النَّاس" لابن الأنباري (2/ 180). (¬6) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 34)، (مادة: شمت). (¬7) سقط من "ت". (¬8) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 141).

وقال أبو عبد الله محمدُ بن جعفرٍ التَّميميُّ في "جامعِ اللغةِ" (¬1): وقيل: التَّسميتُ (¬2): الرَّجاءُ والتبريك، والعربُ تقول: سَمَّته، إذا دعا له بالبركة، وفي [الـ] (¬3) ــــــحديث المرفوعِ: شمَّتَ (¬4) عليهما؛ أي: علياً وفاطمة - رضي الله عنهما -، دعا لهما، وبرَّك عليهما (¬5). ومنها: [أنَّه] (¬6) مأخوذ من الشَّماتةِ التي هي فرحُ الرَّجل ببلاءِ عدوِّه وسوءٍ يَنزِلُ به، يقال: شَمَتَ بعدوِّه شَماتةً وشَماتاً، وأشمتَهُ اللهُ بهِ، وبات بليلةِ سوءٍ من ليالي الشَّوامتِ (¬7)؛ أي: من الليالي التي تشوبها الشَّوامت. ¬

_ (¬1) لأبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز القيرواني، المتوفى سنة (412 هـ) كتاب "الجامع في اللغة"، وهو كتاب كبير معتبر حسن متقن، يقارب كتاب "تهذيب اللغة" للأزهري، رتبه على حروف المعجم، لكنه قليل الوجود. انظر: "معجم الأدباء" لياقوت (18/ 105)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 576). (¬2) "ت"، "التشميت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "سَمَّت". (¬5) ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" (2/ 183 - 184). ولم أقف عليه مسنداً هكذا. نعم حديث تزويج فاطمة بعلي رضي الله عنهما والدعاء لهما بالبركة: روي عند ابن حبان في "صحيحه" (6944)، وفيه نكارة، وعند النَّسائيّ في "عمل اليوم والليلة" (ص: 559)، من حديث أنس وفيه ضعف، وعند غيرهما من طرق وألفاظ متعددة، وفيه: الدعاء لهما بالبركة. (¬6) زيادة من "ت". (¬7) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 33)، و"الصحاح" للجوهري (1/ 255).

ثمَّ في توجيه هذا المعنى وجهان: أحدهما: قالَ أبو عليِّ فيما ذكره عنه ابن سِيْدَه: معناه: دعا له أن لا يكون في حالٍ يُشْمَتُ به فيها (¬1). وثانيهِما: أنَّك إذا قلتَ: يرحمُك الله، فقد أدخلتَ على الشَّيطان ما يُسخِطُه، فيُسَرُّ العاطسُ بذلك. ومنها: أنّه مأخوذٌ منَ التَّشميت الذي هو اجتماع الإبل في المرعى، قال صاحب "الجامع": والتشميتُ: اجتماعُ الإبل في المرعى، قيل (¬2): [و] (¬3) منه شَمَّتَ العاطسَ، إذا قلتَ له: يرحمُك الله، فيكون معنى شمتُّه: سألتُ اللهَ - عز وجل - أن يجمَعَ شملَه وأمرَه. ومنها: ما ذَكَرَهُ القاضي أبو بكر بن العربي فيما وجدْتُه عنه قال: فإن كان بالشِّين المعجمة فهو مأخوذٌ من الشَّوامت، وهي القوائم، وإن كان بالسِّين المهملة فهو مأخوذ من السَّمْت، وهو قصدُ الشّيء وناحيتُه، كأنَّ العُطاسَ يَحُلُّ معاقِدَ البَدَنِ، ويَفْصِلُ معاقدَه، فيدعو له بأنْ يردَّ اللهُ شوامتَه على حالها، وسَمْتَهُ على صِفَتِهِ (¬4). وهذا يقتضي أنَّ الشَّوامتَ تنطلَقُ على قوائمِ الإنسان؛ لأنَّ العاطسَ المُشَمَّتَ إنسانٌ لا غيرُ، وقد قال ابنُ سِيْدَه: الشَّوامتُ: قوائم ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 34). (¬2) "ت": "وقيل". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 207).

الدابة (¬1)، وهذا أخصُّ ممَّا ذكرتُه عن القاضي أبي بكر. ومنها: ما ذكره التميميُّ: وقال قومٌ: معنى سَمَّتَّه (¬2) وأسْمَتَّهُ: دعوتَ له بالهُدى والاستقامةِ على سَمْتِ الطريق، وقال: العرب تجعل الشين والسين في لفظٍ بمعنى، كقولهم: جَاحَشْتُه وجاحسته بمعنى. قلت: يقال جَاحَشَ عن نَفْسِهِ: دافعَ، فيكون جَاحَشْتُه بمعنى دَافعْتُه، هذا ما يتعلق بالتَّشميت بالشين المعجمة. فأما السين المهملة: فقد قدَّمنا ما حكيناه عن القاضي ابن العربي أنه أُخِذَ من السَّمْتِ الذي هو قصدُ الشَّيِء وناحيتُه، وأحسنُ منه عندي أنْ يكونَ مأخُوذاً مِنَ السَّمتِ الذي هو الهيئةُ الموصوفةُ بالحُسْنِ والوَقَار، ومنه ما جاء في الحديث: "إنّ الهَدْيَ الصالحَ والسَّمْتَ والاقْتِصادَ جُزْءٌ منْ خَمْسةٍ وعشرين جُزْءاً من النُّبوَّة" (¬3). وسابعها: القَسَم - بفتح القافِ والسِّين معًا -: [الحَلْفُ] (¬4)، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]. ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 33). (¬2) "ت": "شمته". (¬3) رواه أبو داود (4776)، كتاب: الأدب، باب: في الوقار، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 296)، والبخاري في "الأدب المفرد" (791)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وإسناده حسن كما قال الحافظ في "الفتح" (10/ 509). (¬4) سقط من "ت".

قيل: وأصلُه منَ القَسَامة، وهي أَيمانٌ تُقسَم على أولياءِ المقتولِ (¬1)، ثمَّ صارَ اسماً لكلِّ حَلِفٍ (¬2). وفي هذا نظرٌ، ولو قيل: إنَّ القَسامة مِنَ القَسَمِ كان (¬3) أولى، ولو قيل أيضاً: إنَّه مأخوذ من القِسامة التي [هي] (¬4) بمعنى الحُسْنِ، يقال: وَجْهٌ قَسيمٌ؛ أي: حَسَنٌ (¬5)، لكان له وجهٌ، [و] (¬6) كأنَّ الحالفَ حَسَّن ما حُكِمَ [بِهِ] (¬7) بتأكيده باسمِ الله تعالى. وثامنها: إبرارُ القَسَم: يكونُ المرادُ به الوفاءَ بمقتضاه، وعدمَ الحِنْث فيه، قال الزُّبيديُّ: وبرَّتْ يمينُه: صَدَقَتْ، وأبرَّها: أمضاها صِدْقاً. ويحتملُ أنْ يكونَ إبرارُ القَسَمِ جَعْلَه ذا بِرٍّ، والمرادُ بالبِرِّ: ما يقابِلُ الإثمَ؛ كما جاء في الحديث: "جئْتَ تسألُني عن البِرِّ والإثمِ" (¬8)، فيكون إبرارُها أن يحلفَ بها على الأمر الجائزِ، لا على ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2010). (¬2) "ت": "حالف". (¬3) "ت": "لكان". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2011). (¬6) زيادة من "ت". (¬7) سقط من "ت". (¬8) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 228)، وأبو يعلى في "مسنده" (1587)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 147)، من حديث =

فعلِ المحظورِ، ولا على تركِ الواجبِ. فإن حملْنَا اللفظَ على الأوَّلِ، وكان متعلِّقاً بالقَسَمِ، فلا حاجةَ إلى إضمارٍ، ثمَّ يُحتمل أنْ يكونَ المرادُ إبرارَ الإنسانِ قَسَمَ نفسِه؛ بأنْ يفيَ بمقتضى اليمين، وإبرارَه لقَسَمِ غيرِه عليه، وهو أن لا يحنثه، ويوقِعَه في مخالفةِ اليمينِ، وإن كان الإبرارُ متعلقًا بالمُقْسِمِ، فلا بدَّ فيه من إضمار؛ وهو أن يقدِّر: وإبرار يمين المقسم، أو ما يقاربُ ذلك. وتاسعها: قد وَقَعَ التَّردُّدُ بكلمة (أو) بين القَسَمِ و (¬1) المُقْسِم، و (أو): تكونُ للشَّكِّ والإباحة، والأقربُ أنها ها هنا للشَّكِّ مِنْ بعضِ الرُّواة؛ لأنَّ في رواية النَّسائيِّ، وعند البخاريِّ: "إبرار القسم" (¬2) مِنْ غَيْرِ شك (¬3). وعاشرُها: قيل: النَّصر والنّصرة: العونُ {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] (¬4). ¬

_ = وابصة بن معبد - رضي الله عنه -. وهو حديث حسن بشواهده. وانظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 250 - 251). (¬1) "ت": "أو". (¬2) "ت": "المقسم". (¬3) تقدم تخريجه عند البُخاريّ برقم (1182)، و (4880)، وعند النَّسائيّ برقم (1939)، و (3778)، وكذا عند مسلم برقم (2066)، (3/ 1636)، والترمذي برقم (2809). (¬4) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 808).

[الحادية عَشرة] (¬1) منها: الإجابةُ: تنطلق على القولِ والفعلِ مَعاً، يقالُ: أجاب الله دعاءَك؛ أي: فعلَ ما سألتَه إيَّاه، وقول الشاعر (¬2) [من الطَّويل]: وَداع دَعا يا مَنْ يُجيبُ إِلى النَّدَى ... فلم يَسْتَجِبْه عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ (¬3) يحتمل الإجابةَ بالقولِ؛ لتقدُّمِ النِّداءِ، ويحتمل الإجابة بالفعلِ ببذلِ العَطاءِ. الثَّانية عشرة منها: قيل: الظُّلم: وضعُ الشَّيءِ في غيرِ مَوْضِعهِ المُخْتَصِّ به، إمَّا بنقصانٍ أو بزيادة، أو بعدولٍ عن وقتهِ ومكانهِ، ومن هذا يقال: ظَلَمْت السِّقاء (¬4): إذا تناولته في غير وقته (¬5). الثالثة عشرة منها: الدُّعاء: يُسْتَعْمَلُ بمعنى (¬6) النِّداء {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر: 14]. ¬

_ (¬1) سقط من "ت" قوله: "الحادية عشرة"، وعليه فقد اختلف الترقيم بين النسختين، والمثبت هنا موافق للأصل. (¬2) هو كعب بن سعد الغنوي، كما في "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام (1/ 213). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 104). (¬4) في الأصل وكذا "ت": "ظلمته السماء"، والتصويب من "ب". (¬5) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 537). (¬6) "ت": "في".

ويستعملُ استعمالَ التَّسميةِ، نحو: دعوتُ ابني زيدًا؛ أي: سمَّيتُهُ، قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] حثًّا على تعظيمه، وذلك مخاطبةُ منْ [كان] (¬1) يقولُ: يا محمد! ودعوتَه: إذا سألتَه واستغثتَ به، قال الله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: 68]؛ أي: سَلْه. وقال أبو القاسم أيضًا: إنَّ الدُّعاءَ إلى الشَّيْء: الحثُّ على قَصْدِهِ، قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] (¬2). الرابعة عشرة منها: قال أبو القاسم: والدُّعاء: كالنِّداء، لكنَّ النِّداءَ قد يقال (¬3): (يا) و (أيا) ونحوُ ذلك، من غير أن يَضُمَّ إليه الاسم، والدعاء لا يكاد يقال إلَّا إذا كان معه الاسم، نحو: يا فلان، وقد يُستعمل كلُّ واحد منهما موضعَ الآخر، قال تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171] (¬4). الخامسة عشرة منها: قال الراغبُ: ونصرةُ الله للعبد (¬5) ظاهرةٌ، ونصرةُ العبدِ [لله] هي نصره لعبادِه، والقيامُ بحفظِ حدودِه، ورعايةُ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 315). (¬3) "ت" زيادة "إذا قيل". (¬4) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 315). (¬5) في الأصل و"ب": "العبد"، والمثبت من "ت".

عهدِهِ، واعتناقُ (¬1) أحكامِهِ، واجتنابُ نهيِهِ، قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف: 14] (¬2). السادسة عشرة منها: مادَّةُ (الإفْشَاءِ) تدل على الظُّهور والانتشارِ، فَشَتِ المقالة: إذا انتشرت وذاعت، وليُفْشوا العلم؛ أي: يُظْهروه وَينْشُروه، وأفشى (¬3) السرّ: أظهرَه ونشرَه (¬4). فإفشاء السلام: إظهارُه وعدمُ إخفائه بخفضِ الصَّوتِ، وأما نشرُه: فتداوله (¬5) بين النَّاس، وأن يحيوا سنَّتَه ولا يميتوها. السابعة عشرة منها: السلام يطلق بمعنى السلامة، قال الشاعر (¬6) [من الوافر]: تُحَيِّي بالسَّلامَةِ أُمُّ عمروٍ ... وهَلْ لَكِ بعد قَومِكِ من سَلامِ ويُطلَقُ اسماً من أسماء الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ¬

_ (¬1) "ت": "واعتبار". (¬2) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 809). (¬3) في الأصل و"ب": "إفشاء"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (15/ 155)، (ماة: فشا). (¬5) في الأصل: "وتداوله"، والمثبت من "ت". (¬6) هو شداد بن الأسود، كما ساقه ابن هشام في "السيرة" (2/ 29) في بكاء قتلى بدر، وعنده: تحيي بالسلامة أمُّ عمرو ... وهل لي بعد قومي من سلام

{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} [الحشر: 23]، ويطلق بإزاء اللفظِ الموضوعِ للتَّحية، وهو المرادُ هاهنا، فمن المواضع المذكورة ما يراد به المعنى الأول، وهو السَّلامة، كالبيت الذي ذكرناه: وهَلْ لَكِ بعد قَومِكِ من سَلامِ ومنها ما يَحْتَمِلُ أنْ يرادَ به السَّلامةُ، ويرادَ به التَّحيَّةُ كقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ} [يس: 57 - 58] على أنْ يكون (سلام) بَدَلاً مِنْ (ممَّا يدعون)؛ كأنَّه قيلَ: ولهم سلامٌ؛ أي: سلامة، ويحتمل أن يرادَ التَّحيَّةُ؛ أي: منَ الملائكةِ أو منَ اللهِ، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23 - 24] وقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] مُخْتلَفٌ في معناهُ (¬1). الثامنة عشرة منها: الخواتِيْمُ: جمعُ خاتِم، قال أبو عمر الجرمي (¬2): وكلُّ ما كانَ على فَاعَل - يريد: مفتوحَ العينِ - نحو تابَل، فإنَّ جمعَه على فواعِيْل، نحو طوابِيق وتوابِيل وخواتِيم. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (12/ 309)، و"الصحاح" للجوهري (5/ 1950)، و "مفردات القرآن" للراغب (ص: 421)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 289)، (مادة: سلم). (¬2) للإمام الأديب النحوي صالح بن إسحاق أبي عمر الجرمي البصري، الفتوفى سنة (225 هـ) مصنفات جليلة في اللغة منها: "أبنية الأسماء والأفعال والمصادر"، و"تفسير غريب كتاب سيبويه في النحو"، و"التنبيه"، و"التثنية والجمع"، و"مقدمة في النحو" مشهورة، وغيرها. وانظر: "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 220).

وفي الخاتَم لغاتٌ: فتحُ التَّاءِ وكسرُها، وخاتَام، وخَيتام (¬1). وفي اللفظ تردُّدٌ بين (خواتيم) و (تختم)، فعلى الأولى: لا بدَّ من حذفِ مضافٍ؛ أي: لُبْسُ خواتيم، وعلي الثَّاني: لا حاجةَ إلى الحذف؛ لأنَّ في اللفظ الأول أضيف النَّهيُ إلى الذات، فلا بدّ وأن يُصرفَ إلى فعل يتعلَّقُ بها، وفي اللفظ الثَّاني أُضيف إلى المصدر، فلا حاجة إلى غيره، فإن النَّهيَ يصحُّ تعلُّقه به بنفسه. التاسعة عشرة منها: الذَّهبُ لفظٌ مشتَرك في لسانِ العربِ، ويرادُ به هاهنا ما غَلَبَ استعمالُه فيه، وهو النَّقْدُ المشهور، ويُذَكَّر ويُؤَنَّثُ، قال الجوهريُّ: والقِطْعةُ منه ذَهَبَةٌ، ويُجْمع على الأَذْهَابِ والذُّهُوبِ. والذَّهَبُ أيضًا: مِكْيالٌ لأهلِ اليمن معروفٌ، والجمع أذْهاب، وجمعُ الجمعِ أَذَاهِب، عن أبي عُبَيْد (¬2). العشرون منها: المَياثِر: جمع مِيْثَرَة - بكسر الميم، وبعد آخرِ الحروفِ ثاءٌ مثلَّثةٌ لا (¬3) همزَ فيها - واختلفت عباراتُهم في تعريفها، قال ¬

_ (¬1) في الخاتم ثمان لغات جمعها الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 316) في نظم لها بقوله: خُذْ نَظْمَ عَدِّ لُغاتِ الخاتَمِ انتُظِمَت ... ثمانياً مَا حَواها قطُّ نَظَّامُ خاتَامُ خاتَمُ خَتْم خاتِمٌ وخِتَا ... مٌ خاتِيامٌ وخيتُومٌ وخيتَامُ وهمزُ مفتوحِ تاءٍ تاسعٌ وإذا ... ساغَ القياسُ أتمَّ العَشْرَ خأْتَامُ (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 425). وانظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 129)، (مادة: ذهب). (¬3) "ت": "ولا".

الزُّبيدي: المِيْثَر والمِيثَرة: مِرفَقةٌ كصُفَّةِ السَّرْج، وقال الطبري: المياثر: [وطائفُ] (¬1) كانتِ النِّساء يَصْنَعْنَهُ لأزواجهنّ من الأُرجوان الأحمر ومن الدّيباج على سُروجهم، وكانت مراكبَ العجمِ، وقيل: هي أغْشِيَةُ السُّروجِ من الحرير، وقيل: هي سروجٌ من الديباج (¬2). قال أبو عبيد: وأما المياثر الحمرُ، التي جاء فيها النص، فإنها كانت من مراكب الأعاجم من ديباجٍ أو حرير (¬3). قلت: أصلُ اللفظ من الوَثَارة، والوِثْرة - بكسر الواو، وسكون الثاء -، والوثيرُ: هو الفراشُ الوَطِيُّ، يقال: ما تحته وِثْر ووِثَارٌ، وامرأةٌ وَثيرةٌ: كثيرةُ اللحمِ، ووَثُرَ الشيءُ وُثَارةً - بالضم -؛ أي: وطئ، [والجمع للميثرة: مياثر ومواثر] (¬4) (¬5). الحادية والعشرون منها: القَسِّي - بفتح القاف، وتشديد السين المهملة -، وذكر أبو عبيد - رحمه الله تعالى -: أن أصحاب الحديث يقولونه: القِسِّي - بالكسر - (¬6)، وأهل مصرَ يفتحون القاف، يُنسب إلى بلادٍ يقال لها: القَسّ (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 567)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 389)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 293). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 228). (¬4) سقط من "ت" في هذا الموضع، وقد ألحقت في نهاية الفائدة الحادية والعشرين. (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 844). (¬6) "ت": "بكسر القاف". (¬7) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 226).

وقال ابن وهب وابن بُكير فيما حكاه القاضي: هي ثياب مُضُلَّعة بالحرير، تُعملُ بالقَسِّ من بلاد مصرَ ممَّا يلي الفَرْمَا (¬1). وقال الجوهريُّ: والقَسِّيُّ: ثوبٌ يحمل من مصر يخالطُه الحريرُ (¬2). وقد روى أبو داودَ من حديثِ أبي بُرْدَةَ، عن عليّ - رضي الله عنه - في حديث ذكره: ونهاني عن القَسِّيَّةِ والمِيْثَرَةِ، قال أبو بردة: فقلنا لعلي - رضي الله عنه -: ما القَسِّيَّةُ؟ قال: ثيابٌ تأتينا من الشام أو من مصرَ، مُضَلَّعةٌ، فيها أمثالُ الأُتْرُجّ، قال: والميثر: شيءٌ (¬3) كانت تصنعه النساءُ لبعولتِهنَّ (¬4). قلتُ: ومنهم من جَعَلَ السين مُبْدَلةً من الزَّاي، ويكون بمعنى القَزِّيّ المنسوبِ إلى القَزّ (¬5). الثَّانية والعشرون منها: اللُّبس - بضم اللام - مصدرُ لبِستُ ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 567). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 963)، (مادة: قسس). (¬3) في الأصل و"ب": "وشي"، والتصويب من "ت"، ومراجع التخريج المشار إليها. (¬4) رواه أبو داود (4225)، كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في خاتم الحديد، والنَّسائيُّ (5376)، كتاب: الزينة، باب: النهي عن الجلوس على المياثر من الأرجوان، وهو حديثٌ صحيحٌ. (¬5) في الأصل و"ب": زيادة: "مياثر"، وفي "ت" ألحقت الجملة المشار إليها بالسقط سابقاً هنا، ولا موضع للكلام عن المياثر في هذه الفائدة، إذ الكلام عن القسط لا المياثر، والله أعلم.

الثوبَ، ألبَس، بكسر الباء في الماضي، وفتحها في المستقبل. وأما اللِّبس - بكسر الباء - (¬1) فهو ما يُلَبس، ولِبْس الكعبةِ والهودجِ: ما (¬2) عليهما من لِباس. وأمَّا اللَّبسُ - بالفتح - فمصدر لَبَسْتُ الأمرَ ألبِسُ - بفتح الماضي، وكسر المستقبل - قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] (¬3). والثالثة والعشرون منها: قال أبو منصورٍ موهوبُ بن أحمدَ الجواليقيّ في كتابه في "المُعَرَّب من الكلام العجمي": والإستبرقُ: غليظُ الدِّيباج، فارسيٌّ معرَّبٌ، وأصلُه: اسْتَفْرَهَ، وقال ابن دُريد: إِسْتَرْوه، ونُقِلَ من العجمية إلى العربية، فلو حُقِّر استبرق أو كُسِّر لكان في التحقير أُبَيْرِق، وفي التكسير أبارِق، بحذف السين والتاء جميعاً (¬4). وقال بعضهم: الباء في استبرق ليست باءً خالصة، وإنَّما هي بين الفاء والباء. الرابعة والعشرون منها: قال الجوهري: الديباج: فارسيٌّ ¬

_ (¬1) "ت": "اللام". (¬2) "ت"، "هو ما". (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 973). (¬4) انظر: "المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم" للجواليقي (ص: 15).

معرَّبٌ، ويجمع على: ديابيج، وإن شئت: دباييح - بالباء - على أن تجعل (¬1) أصله مشدداً كما (¬2) قلنا في الدينار، وكذلك في التصغير (¬3). والذي قاله في الدينار: إن أصله دِنّار - بالتشديد -، فأبدلَ من أحد حرفي تضعيفه ياءً لئلا يلتبس بالمصادر، والتي (¬4) تجيء على فِعَّال، كقوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ: 28] إلَّا أن يكون بالتاء (¬5)، فيخرج على (¬6) أصله، مثل: الصِّنَّارة والدِّنَّامة؛ لأنَّه أُمِنَ الآن الالتباس (¬7). قال الجواليقي: والدِّيباجُ: أعجميٌّ معرَّبٌ، وقد تكلمت به العرب، قال مالك بن نُوَيْرَة [من البسيط]: ولا ثيابٌ مِنَ الدِّيْبَاجِ تَلْبَسُها ... هي الجِيَادُ وما في النَّفْسِ مِنْ دَبَبِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "تجعله"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "وكما". (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 312)، (مادة: دبج). (¬4) "ت": "حتَّى" بدل "والتي". (¬5) في الأصل و "ب": "بالياء"، والتصويب من "ت"، وقد جاء في المطبوع: "بالهاء". (¬6) في الأصل: "عن"، والتصويب من "ت". (¬7) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 659)، (مادة: د ن ر).

الوجه الرابع: في شيء من العربية والمعاني

قال: الدَّبَب: العيب، وأصل الديباج بالفارسية: دِيُوبَاف؛ أَي: نِسَاجَةُ الجِنّ (¬1)، والله أعلم. * * * * الوَجْهُ الرابعُ: في شيءٍ من العربيَّة والمعاني: قد ذكرنا أنَّ المِيْثَرَةَ، من مادَّة الوَثارة، فأصلها الواو، وإنَّما انقلبت ياء؛ لانكسار ما قَبْلها معَ سكونها على القاعدة التَّصريفيَّة. وذكرنا ما يتعلق بالحذف وعدمِهِ في إبرارِ القَسَمِ، وكذلك يقعُ الحذفُ في قوله: "وعن المياثر"، ويُقدَّرُ: وعن افتراشِ المياثرِ، أو ما يقربُ منه، وقوله: "وعن القَسِّيِّ" يقدر فيه: وعن لُبس القَسِّيّ، وقد وقع مصرَّحاً به في الخبر (¬2)، [والاستبرق: الديباج] (¬3)، وقوله: "وعن خواتيم أو عن تختم الذهب" هو من بابِ: بين ذراعَي وجبهة الأسدِ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "المعرب من الكلام الأعجمي" للجواليقي (ص: 140). (¬2) رواه مسلم (2078)، كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، من حديث عليّ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس القسط والمعصفر، وعن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) هذا عجر بيت للفرزدق، كما ذكره سيبويه في "الكتاب" (1/ 180)، والبغدادي في "حر أنَّه الأدب" (2/ 319 - 320)، وصدره: يا مَنْ رأى عارِضاً أسرَّ به

الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

وفيه مذهبان: أحدهما: أن يكونَ من الفصلِ بينِ المضافِ والمضافِ إليه، والأصلُ: عن خواتيمِ الذَّهبِ. والثاني: أنَّ يكون على حذفِ المضافِ إليه من الأوَّلِ. والأول (¬1) أولى، فإنّه لو كانَ كما ظَنَّ لقال: وجبهتِهِ (¬2). * * * * الوجهُ الخامسُ: في الفوائدِ والمباحثِ، وفيه مسائل: الأولى: إخبار الصحابيِّ في الأمرِ والنَّهي على ثلاث (¬3) مراتب: الأولى: أن يحكيَ صيغةَ لفظِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -، كقوله مضيفاً إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عُودوا المريض"، و "أفْشوا السَّلام"، و"انْصَرْ أخاك"، و"أَجِيبوا الدَّاعي" (¬4). الثَّانية: قولُه: "أمرَنَا رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بكذا"، أو "نهانا عن كذا"، والمختار أنه كالمرتبة (¬5) الأولى في العمل به أمراً ونهياً، وإنَّما نزل عن الرتبة الأولى لاحتمال أن يكون ظَنَّ ما ليس بأمرٍ أمراً، إلَّا أنّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "والثاني"، والتصويب من "ت". (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (2/ 33)، و "المفصل" للزمخشري (ص: 132)، و "لسان العرب" لابن منظور (3/ 92). (¬3) "ت": "ثلاثة". (¬4) سيأتي تخريج الروايات الأربع هذه في الفائدة التالية. (¬5) "ت": "كالرتبة".

الثانية

هذا الاحتمالَ مرجوحٌ؛ للعلم بعدالته، ومعرِفَته بمدلولاتِ الألفاظ لغة (¬1). الثالثة: قوله: "أُمرنا أو (¬2) نُهينا"، وهي كالمرتبةِ الثَّانيةِ في العلمِ على المختار عندَ الجمهور، وإنَّما نزلتْ عنها لاحتمالٍ [آخرَ] (¬3) يَخُصُّها؛ وهو أنْ يكون الآمرُ غيرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو مرجوحٌ أيضاً (¬4). الثَّانية: قد ورد في هذه الأمور كلِّها من لفظ الرسول - صَلَّى الله عليه وسلم - ما يقتضي الحثَّ عليها أو الأمر، فترقَّت إلى الدَّرجةِ الأولى، ففي حديث أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسٌ تَجِبُ للمُسْلمِ على أخِيه؛ ردُّ السَّلامِ، وتشميتُ العاطسِ، وإجابةُ الدَّعوةِ، وعيادةُ المريضِ، واتِّباعُ الجنائز (¬5) " (¬6). وفي حديثِ عبد الله بن دِينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا عَطَسَ أحدُكم فليقُلْ: الحمدُ لله على ¬

_ (¬1) في الأصل: "ومعرفة مدلولات الألفاظ"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "و". (¬3) سقط من "ت". (¬4) نقله عنه مُختصِراً: الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 317). (¬5) في الأصل و "ب": "الجنازة"، والمثبت من "ت"، وكذا "صحيح مسلم". (¬6) رواه البُخاريّ (1183)، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (2162)، كتاب: السلام، باب: من حق المسلم على المسلم رد السلام، واللفظ له.

كلِّ حالٍ، وليقُلْ من صَحِبَهُ أو سَمِعَه (¬1): يرحمُك اللهُ، ويقول هو: يَهْدِيكُم اللهُ ويصلحُ بالكُم" لفظ رواية أبي داود (¬2). وأما نصرُ المظلومِ فثابتٌ من حديث أنس - رضي الله عنه -: "انصرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً" (¬3). وأما إفشاءُ السَّلامِ ففي حديث الأعمشِ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - أنَّه - قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ... الحديث، وفيه: "أَفشُوا السَّلامَ بينكمْ" (¬4). فقدْ تبيَّن أنَّ جَميعَ السَّبعِ المأمورِ [بها] (¬5) قد وردَ في لفظ الشَّارع ما يقتضي الحديث عليها والأمرَ بها، وفي حديث: "وعودوا المريضَ، وأجيبوا الدَّاعي" (¬6)، وقد حصل بهذا الحديث الواحد الاكتفاءُ عن جلب أحاديثَ كثيرةٍ في هذا المعنى. ¬

_ (¬1) "ت": "من خلفه أو صاحبه"، وفي المطبوع من "سنن أبي داود": "وليقل أخوه أو صاحبه". (¬2) رواه أبو داود (5033)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في تشميت العاطس. ورواه البُخاريّ (5870)، كتاب: الأدب، باب: إذا عطس كيف يشمت؟ من طريق عبد الله بن دينار، به. (¬3) روه البخاري (2311)، كتاب: المظالم، باب: أعِن أخاك ظالماً أو مظلوماً. (¬4) رواه مسلم (54)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلَّا المؤمن. (¬5) زيادة من "ت". (¬6) رواه البُخاريّ (4879)، كتاب: النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة، من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -، ولفظه: "فكُّوا العاني، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض".

الثالثة

الثالثة: الأوامرُ والنَّواهي في هذا الحديث تعود إلى فَصْلِين؛ فالأوامرُ تعود إلى حقّ المسلم على أخيه على رواية: "المقسم"، والنواهي تعود إلى ما يرجع إلى اللباس أو الاستعمال. الرابعة: يجبُ أن يُفرَّقَ بين الجمعِ في الخبرِ، وبينَ الخبرِ عن الجَمْعِ؛ فإنَ الخبرَ قد يقع عن أمورٍ متعدّدة في أوقاتٍ مختلفة، فيجمعها الرَّاوي في إخباره، كما لو رأى رجلًا يأكلُ ويشربُ ويتكلَّم ويصلي في أوقات مختلفة، فأخبرَ عن الجميع، فقد جَمعَ في خبره بين هذه الأمور، وإن كانت متفرقةً غيرَ مجتمعةٍ بالنسبة إلى وقتِ الفعل. وأمَّا الخَبرُ عن الجمع فأَنْ يكونَ الفاعلُ قد فعلَ أشياءَ في وقتٍ واحدٍ أو حالٍ واحدةٍ، فأخبر عن الجميع (¬1). والجمعُ في الخبرِ أعمُّ من الخبر عن الجمعِ؛ لأنَّه متى ثبت الخبرُ عن الجمع ثبتَ الجمعُ في الخبر، ولا ينعكس، ويترتب على هذا فوائدُ حكميَّة في غير ما موضع مثل قولِ الراوي: "مَسَحَ على ناصيته وعِمامته" (¬2)، وفرضنا أنه لم يدلَّ دليلٌ على الجمعِ بينهما في وضوءٍ واحدٍ، فإذا أردنا أن نَستدِلَّ به على أنَّ مَنْ مَسح بعضَ رأسِه كمَّل على العمامة، أو أردنا أَنْ نجعلَه قرينةً دالَّةً على ¬

_ (¬1) في الأصل: "الجمع"، والمثبت من "ت". (¬2) سيأتي تخريجه مفصلاً في باب: فرائض الوضوء، من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -.

الخامسة

وجوب التَّعميم كما فعله أصحابُ مالك: - رحمهم الله أجمعين - لم يتمَّ ذلك؛ لجوازِ أن يكون ذلك جمعاً في الخبر (¬1)، لا خبراً عن الجمع، ويكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَعلَ ذلك في وقتين مختلفين، وحينئذٍ لا يدلُّ على التكّميل، ولا تتمُّ القرينةُ. وكذلك لو أرادَ مَنْ يجيزُ المسحَ على العِمامة مِنْ غيرِ مسحِ الشَّعرِ أو بعضِه أن يستدلَّ بمثل هذه الصيغة، وقولهِ: (وعلى عمامته)، لاعتُرِضَ عليه بأنَّه يجوزُ أن يكونَ خبراً عن الجمع؛ أي: جُمعَ بينهما في وقتٍ واحد، فلا يكونُ دليلاً على جواز الاكتفاء بالمسح على العِمامة. وإنَّما قلتُ: مثل قولِ الراوي: "على ناصيته وعمامته"، وفرضنا أنَّه لم يدلَّ دليل على الجمعِ بينهما في وضوء واحد؛ لأنَّ الظاهرَ من روايةِ المغيرةِ: أنه في وضوء واحد، وإنَّما قصدنا بيانَ الطريقِ بضرب المثال. الخامسة: ممَّا يترتب على هذه القاعدةِ في هذا الحديثِ أنه: هل استَعْمل اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، أم لا؟ وأمَّا في لفظِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - فلا؛ أعني: أنْ يقالَ: إنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - استعملَ ها هنا اللفظَ الواحدَ في حقيقتِهِ ومجازِه، وإنَّما قلنا ذلك؛ لأنَّ بعضَ هذه المأموراتِ مستحبٌّ وبعضُها واجبٌ، إمَّا بالإجماع أو بدليلٍ يُدلُّ عليه، فقولُ البراءِ - رضي الله عنه -: " أَمر رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - "، احْتَمَل أن يكون جمعاً في الخبر، لا خبراً عن الجمع، واحْتَمَلَ أن يكون ¬

_ (¬1) في الأصل: "الخبرين"، والتصويب من "ت".

السادسة

النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد تعدَّدت صيغةُ الأمرِ في لفظِه بالنَّسبة إلى [بعض] (¬1) هذه الأمور [دون بعض] (¬2)، فأمرَ ببعضها بصيغةٍ مفرَدَةٍ له، وأمر بأُخرَ بصيغةٍ مفردةٍ، وأرادَ بإحداهما الوجوبَ، وبالأخرى النَّدبَ، فلا يلزم في لفظه - صَلَّى الله عليه وسلم - أن يكونَ لفظاً واحداً استُعمِلَ في حقيقتِهِ ومجازه (¬3). وأمَّا لفظُ الراوي، وهو قوله: "أمرنا"، فهل يكون مستعملاً للفظِ في حقيقتِه ومجازِه؟ فيه نظرٌ دقيق عندي، فيُلْمَح ها هنا ما قيل في علم الأصول: أنَّ مدلولَ اللفظِ قد يكونُ لف ظًا، ومذهبُ من يرى أنَّ الأمرَ حقيقة في الوجوب (¬4)، مع أن بعضَ هذه الأوامرِ للوجوب جَزْماً، وتأمَّلْ [في] (¬5) ذلك. السَّادسة: ومما يترتَّب على ذلك أيضاً أنه قال: "وعن الحريرِ والإستبرقِ والدّيباج"، ولقائلٍ أَنْ يسألَ ويقول: ما الفائدةُ في التكّرارِ وكلُّه حريرٌ؟ فيقال فيه: إنَّما يكونُ تَكراراً لو كانَ إخباراً عن الجمع، بمعنى: أنه أخبر عن الرسول - صَلَّى الله عليه وسلم - أنه نهى عن هذه الثلاثةِ في وقتٍ واحدٍ، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (2/ 399)، (3/ 259). (¬4) انظر: "الأحكام" للآمدي (2/ 162)، و"الإبهاج" للسبكي (2/ 5). (¬5) زيادة من "ت".

السابعة

فحينئذٍ يُحتاج إلى الجوابِ وإظهارِ الفائدةِ في الجمع بين (¬1) النَّهي عنها مع إمكانِ الاكتفاء بذكر الحرير، أمَّا إذا كان جمعاً في الإخبار بأنْ يكونَ سمعَ النَّهيَ عن الحرير في وقتِ، [وعن الإستبرقِ في وقتِ] (¬2)، وعن الدِّيباج في وقتِ، فلا يلزَمُ طلبُ الفائدةِ؛ لأنَّ السؤالَ إنَّما يقرُبُ إذا كان النَّهيُ عن الجميع في وقت واحد، فأردنا (¬3) أن نبيّنَ تعلُّقَ [هذه] (¬4) الألفاظِ بهذه القاعدة، واحتمالِ الجوابِ بها. [المسألة] (¬5) السابعة: هذا الذي ذكره الصحابي - رضي الله عنه - في جانب الأمرِ يتعلَّقُ النَّظرُ فيه بالأمِر، والمأمور، والمأمورِ لأجله؛ لأئا بينَّا أنها كلها حقوقُ المسلم على أخيه على رواية المُقْسم. وأما (¬6) الأمرُ فيُنْظَرُ فيه؛ هل هو على الوجوب، أو الندب؟ وأمَّا المأمورُ فهم المخاطَبون، فيُنْظَر هل تناولَهمُ الأمرُ على الأعيان، أو على الكفاية؟ وأمَّا المأمورُ من أجله فيُنظر في عمومه وخصوصه. وَينْشَأُ من هذه الأنظار أقسامٌ متعدِّدةٌ، بعضُها يتعذَّر الحَمْلُ ¬

_ (¬1) "ت": "عن". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "ولكن أردنا". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "فأما".

الثامنة

عليه، وبعضُها يُمكِنُ ويتوقَّفُ على الدَّليل. القسم الأول: أن يكونَ الأمرُ للوجوبِ على الأَعيان، والعمومُ بالنسبة إلى المأمور من أجله. الثَّاني: أنْ يكونَ الوجوبُ على الأعيان لا على العمومِ بالنسبة إلى المأمور من أجله. الثالث: أنْ يجبَ على الكفاية على العموم بِالنسبة إلى أفرادِ المأمورِ من أجله. الرابع: أن يجبَ على الكفاية لا على العموم بالنسبة إلى أفراد المأمور من أجله. الخامس: أن يكونَ الأمرُ للنَّدب، ويكونَ فيه هذه الأقسام الأربعةِ كلها. وهذه الأقسامُ تجري في كل نوعٍ من هذه السَّبعةِ المذكورة في الحديث، فتزيد الأقسام وترتقي إلى ستَّةٍ وخمسين قسماً من ضرب ثمانية في سبعة. الثامنة: في مقدمةٍ يُحتاج إليها فيما بعد: اختلفَ الأصوليُّون في أن فرض الكفاية؛ هل يتعلق بالجميع ويسقُط بفعلِ البعض؟ أو يتعلق ببعضٍ منهم؟ واختاروا القولَ الأولَ (¬1). التاسعة: في مقدمةٍ أخرى؛ وهو أن فرضَ الكفاية إذا باشَرَه أكثرُ ¬

_ (¬1) انظر: "الإبهاج" للسبكي (1/ 100).

العاشرة

مِمَّن يَحْصُل به تأدِّي الفرض، هل يُوصَف فعلُ الجميعِ بالفَرْضيَّة؟ تكلَّموا فيه (¬1)، ونحن إذا قُلنا في بعض الأقسام الآتية: إنه يُسْتحَبُّ في حقِّ مَنْ حصلتِ الكفايةُ بغيره، أرَدْنا به أنَّه يُستحبُّ الشُّروعُ والابتداءُ، ولم نُردْ به أن يقعَ مُستحبًّا في حَقِّه، إذا شَرَعَ فيه مع غيره، فإنَّ ذلك لا غرضَ لنا فيه (¬2). العاشرة: كلُّ ما نَصِفهُ بالوجوبِ أو بالجوازِ أو بالاستحبابِ على العموم، إنَّما نعني به في محل (¬3) الإمكان، ولا نريدُ العمومَ بالنسبةِ إلى حالة الاستحالة، حتَّى نجعلَ اللفظَ مخصوصاً بالنِّسبة إلى تلك الحالةِ، فإنَّ من جُملة المُخصِّصاتِ العقلَ، لكنَّا إنَّما نريدُ العمومَ في محلِّ الإمكانِ كما قلنا؛ مثلًا: [إن] (¬4) عيادةَ المريض فَرْضٌ على الكفاية في حق عمومِ المرضى، فلا نعني به مرضى بلادِ السِّنْدِ والهندِ، والغائبين الذين يعسُر - أو يُتعَذَّر - الوصولُ إليهم. الحادية عشرة: قد نُطلقَ القولَ بالأحكام بالنِّسبة إلى بعضِ الأمورِ، ولا نريدُ به إلَّا ذلكَ الأمرَ من حيثُ هو هو، وقد يكون ثَمَّ عوارضُ وموانعُ في خُصوص بعض الصُّور، فليس مرادنا العمومَ ¬

_ (¬1) انظر: "الموافقات" للشاطبي (1/ 176). (¬2) نقله عن المؤلف: الزركشي في "البحر المحيط" (1/ 327). (¬3) في الأصل و "ب": "محمل"، والتصويب من "ت". (¬4) سقط من "ت".

الثانية عشرة

فيها، وليس (¬1) محلَّ ذكرِها في هذا الموضع، وإنَّما محلُّ ذكرها حيث نتعرض إلى المُخصِّصاتِ، وما يُستثنى من العُمومات، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وهذا حكمٌ بالنَّظر إليها من حيثُ هي مَيْتَةٌ، وقد يعرِض الوجوبُ في بعض الصُّور عند خوف الهَلاكِ. ولم يزلِ الفقهاءُ يفعلون هذا، فيقولون: هذا واجِبٌ على الأعيان، ولا يريدون به وجوبَه على المجنونِ، ولا على الصبيِّ، ولا مَنْ يقومُ به بعضُ الموانعِ (¬2)، وكذلك يقال: الصَّيْدُ حلالٌ، ولا نعني به في كلِّ حال، فقد يقوم مانعٌ يحرِّمه، أو مقتضِ يوجبُه في بعض المواضع، وكذلك نقول: النكاح مستحبٌّ، وقد يعرض ما يُوجبه أو يُحرِّمه، وكذلك قولنا (¬3): الإجابةُ لدعوةِ العُرس فرضٌ، لا يزيد به معَ قيام الموانعِ؛ كحضورِ الخمرِ والمنكرِ، وإنَّما ذكر هذا عند التعرض للموانع. الثَّانية عشرة: القانونُ في معرفة فرض الكفاية: [أنَّ] (¬4) ما كان المقصودُ منه تحصيلَ المصلحةِ منه، أو دفعَ المفسدة، ولم يتعلَّقِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وليس ذلك"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "المواضع". (¬3) "ت": "قوله". (¬4) سقط من "ت".

الثالثة عشرة

المقصودُ بأعيانِ الفاعلين وامتحانِهم، فهو فرضُ كفايةٍ، وما لم يظهرْ فيه ذلك، واقتضى الخطابُ فيه العمومَ، فهو فرضُ عينٍ، إلَّا لمعارضٍ خارجٍ يُخرج اللفظَ عن عمومِهِ (¬1). الثَّالثة عشرة: فيما يمكن من هذه الأقسام بالنِّسبة إلى عيادة المريض (¬2)؛ أمَّا القسمُ الأول فمقتضاه: أن يجبَ على كل مسلمٍ عيادةُ كلِّ مريضٍ، وهذا القسم ممتنعٌ جزمًا، ولا استمرَّ عليه عملُ الأمَّةِ. وأمَّا القسم الثَّاني فمقتضاه: أن يجبَ على كلِّ مسلمٍ عيادةُ مُطْلَقِ المرضى؛ أي: أنَّه يجبُ على كلِّ مسلمٍ القيامُ بهذه الوظيفةِ بالجملة، حتَّى يعصيَ من مات ولم يَعُدْ مريضًا ما (¬3)، وهذا ممكن، بل هو مقتضى الحديث إذا قلنا بالعموم بالنِّسبة إلى المخاطَبين، وقد تعذَّر العمومُ بالنسبة إلى المرضى، فيجيءُ منه ما قلناه، وهو أنْ يجبَ على الجميعِ عيادةُ مطلَقِ المرضى، أو مطْلَقُ عيادةِ المرضى، فإن قامَ الإجماعُ على أنَّ هذه الوظيفةَ لا تجبُ على الأعيانِ بالنسبة إلى مطلقِ العيادة، أو مطلقِ المرضى، امتنعَ هذا (¬4) القسْمُ لأمرٍ من خارجٍ، لا لعدمِ دَلالةِ اللفظِ عليه. ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (1/ 322). (¬2) "ت": "المرضى". (¬3) يعني: مَنْ مات ولم يَعُدْ مريضاً فإنه يُعَدُّ عاصياً. (¬4) في الأصل: "بهذا"، والتصويب من "ت".

واعلمْ أنَّه قد وردَ في بعض فروض الكفايات ما يدل على مثل [هذا] (¬1) الحكمِ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "مَنْ ماتَ، ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يحدِّثْ نَفْسَهُ بالغَزْوِ، ماتَ على شُعْبَةٍ من النِّفَاقِ" (¬2)، فإنَّ لَفْظَ "مَنْ" للعموم، فيقتضي طلبَ الجهاد، أو العزمَ مِنْ كلِّ أحدٍ عليه (¬3)؛ أي: على مُطْلَقِ الجهاد. وأما القسمُ الثالث - وهو الوجوبُ على الكفاية مع العموم في المرضى - فمقتضاه: أن تجبَ في حقِّ كلِّ مريض عيادةُ عائدٍ وجوبًا على الكفاية، يسقطُ بفعل البعض، فهذا قسمٌ مُخْتَلَفٌ فيه؛ لأنّ بعضَ النَّاس يُوجِبُ عيادةَ كلِّ مريضٍ على وجهٍ سنذكره إن شاء الله تعالى، فهذا يقول بهذا القسم وهو محافظٌ (¬4) على صيغةِ العموم في المريض، وليس محافظاً على العموم في ضمير المخاطَبِيْن، وأمَّا على المذهب المشهور فإنَّما يجب عيادةُ مريضٍ يضيعُ بترْكِ عيادتِهِ، فلا يستقيمُ الوجوبُ في حقِّ جميعِ المرضى على هذا. وأما القسمُ الرابع: وهو أن يجبَ على الكفاية عيادةُ مطلقِ المريض، لا على العموم، فهذا ثابتٌ على مذهب الجمهور؛ لأنّه ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه مسلم (1910)، كتاب: الإمارة، باب: ذم من مات، ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "فيقتضي طلب الجهاد أو الغزو والعزم عليه من كل أحد". (¬4) "ت": "يحافظ".

الرابعة عشرة

يجب عيادةُ مريضٍ يضيعُ بترك العيادة وجوبًا على الكفاية، هذا إذا حُمِلَ الأمرُ على الوجوبِ. أما إذا حُمِلَ على النَّدب؛ فالقسمُ الأولُ: وهو (¬1) أنْ يُستحبَّ لكل أحدٍ عيادةُ كلِّ مريض، فهذا لا يتأتَّى؛ لأنَّ بعضَ المرضى واجبُ العيادة على بعض النَّاس، وذلك يُضَادُّ الاستحبابَ في حق الجميع. والقسم الثَّاني: وهو أن يُستحبَّ في حقِّ كل أحدٍ عيادةُ بعضِ المرضى، فهذا ثابتٌ. والقسم الثالث: وهو أن يُستحبَّ في حقِّ البعض عيادةُ كلِّ مريضٍ، فهذا ثابتٌ في حقِّ من سقط الفرضُ عنه. والقسم الرابع: وهو أن يُستحبَّ في حقِّ البعض عيادةُ بعض المرضى، ولا شك أيضاً في وقوع هذا، ولا خلاف فيه. الرابعة عشرة: في الكلامِ على هذه الأقسام بسبب اتِّباع الجنائز (¬2)؛ أمَّا على حمل الأمر على الوجوب، فاتِّباع (¬3) جَنازةٍ يُحتاج فيها إلى الاتِّباع؛ لسقوطِ الفرضِ الواجبِ منَ الدَّفن وغيره، واجبٌ على الكفاية: [فأمَّا القسمُ الأول: وهو الوجوب على الكلِّ في حق الكلِّ، فهو ممتنعٌ. ¬

_ (¬1) "ت": "هو". (¬2) "ت": "الجنازة". (¬3) في الأصل: "باتباع"، والمثبت من "ت".

والثَّاني] (¬1): وهو الوجوبُ على الكلِّ في حقِّ البعض، ممتنع، وهو ظاهرُ اللفظِ في العموم بالنسبة إلى المخاطَبين، فالقولُ به - إذ (¬2) مَنعَ منه الإجماعُ - ممتنعٌ. والثالث: وهو وجوبُ الاتِّباعِ على البعض في حقِّ كلِّ جَنازة، وهذا ليس بثابتٍ؛ لأنَّ بعضَ الجنائز لا يجب اتِّباعُه على أحد، وهو ما يتأدَّى (¬3) الفرض فيه من الصَّلاة والدفن من غير حَمْلٍ؛ بأن يُصلّى عليه ويدفنَ في مكانه، هذا إذا حملنا الاتّباعَ على الاتّباعِ الحسّيّ (¬4). [وأما الرابع: وهو الوجوبُ على الكفاية، لا في حق كلِّ جَنازةٍ] (¬5)، فهو ثابتٌ؛ لأنّه يصيرُ معناه: أنَّ بعضَ الجنائزِ لا يجب اتباعُه، وذلك ثابتٌ لما ذكرناه في القسم قبلَه. أمَّا إذا حُمِلَ الأمرُ على الاستحباب؛ فالقسم الأولُ ممتنعٌ؛ لأنَّ بعضَ الاتِّباع واجبٌ، وذلك ما يقوم به الفرضُ، ونَفْيُ الوجوبِ الكليِّ يناقضه إثباتُ الوجوبِ الجزئيِّ. أما القسمُ الثَّاني: وهو أن يُستحبَّ في حقِّ كل أحدٍ اتِّباعُ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "إن"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "يتأدى به"، والمثبت من "ت". (¬4) في "ت" زيادة: "وذلك الاتباع الحسي ثابت لوجوب أتباع من يقوم به الفرض في الحمل والدفن والصلاة بالنسبة إلى كل جنازة يُحتاج إلى الاتباع في سقوط الفرض فيها، ولا يكون عاماً في كل جنازة". (¬5) سقط من "ت".

الخامسة عشرة

مطلق الجنازة، فهذا أيضاً ممتنع؛ لأنَّ بعضَ الاتباعِ فرضُ كفاية، وفرضُ الكفايةِ إما واجبٌ على الجميعِ ويسقط بفعل البعض، وإما على البعض، وكيف (¬1) ما كان، فالاستحبابُ الكليُّ ينافيه (¬2) الوجوبُ الكليُّ والجزئيُّ معاً. وأما القسم الثالث: وهو الاستحباب في حق البعض أنْ يتّبع كلَّ جَنازة، وذلك ثابتٌ في حق البعض الذين سقط فرضُ الاتباعِ بغيرهم، بالنسبة إلى الجنائز المتَّبعة، وأما إذا أخذناه (¬3) عموماً [في الجنائز] (¬4)، لم يقعْ هذا القسْمُ بخروج الجنازة التي لا تُتَّبَعُ، ويلزمُ منه جوازٌ. القسم الرابع: وهو الاستحبابُ في حق البعض أن يتّبع البعض؛ لأنَّه إذا ثبت في حق البعض، وهم الذين سقط الفرضُ بغيرهم اتِّباعُ كل جَنازة، لزمَ منه اتِّباعُ جَنازةٍ بالضرورة. الخامسة عشرة: في هذه الأقسام بالنسبة إلى تشميت العاطس: المشهورُ في تشميتِ العاطس أنّه مُستحبٌّ بخلافِ ردِّ السَّلام (¬5)، ¬

_ (¬1) "ت": "فكيف". (¬2) "ت": "يناقضه". (¬3) "ت": " أخذنا". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 483).

وظاهرُ الحديثِ الوجوبُ (¬1)، وكذلك ظاهرُ (¬2) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حقُّ المسلمِ على المسلمِ خمس" (¬3)، فإن قيل به: فالقِسْمُ الأولُ: وهو العموم في حق كل سامعٍ لكل عاطس، فهذا لا يمتنعُ القولُ به، وهذا بخلافِ هذا (¬4) القسم في عيادةِ المريضِ، حيث منعناه؛ لأنّه لا يتأتَى أن يُوْجَبَ على كل واحدٍ (¬5) عيادةُ كل مريض يمكن أن يُعاد؛ لمخالفته لعملِ الأُمَّةِ، وليس من الممتنع [أن يجبَ على كل سامع للعاطس تشميتُ كل عاطسٍ سَمعَ. والقسم الثَّاني: وهو عمومُ الوجوب لبعض العاطسين، وهو] (¬6) أن يجبَ على كل مَنْ سمع التشميت، لا في حق [كل عاطس، بل في حق، (¬7) البعض، ولا يتجه لهذا وجهٌ من حيثُ المعنى عند الإطلاق (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 603)، قال الحافظ: والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية؛ فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين، ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح، وويسقط بفعل البعض. (¬2) في الأصل: "وظاهره"، والمثبت من "ت" و "ب". (¬3) تقدم تخريجه قريبًا عند الشيخين. (¬4) "ت": "ذلك". (¬5) "ت": "أحد". (¬6) سقط من "ت". (¬7) سقط من "ت". (¬8) جاء على هامش "ت": "سقط القسم الثَّاني وهو أن يجب على العموم تشميت بعض العاطسين، فلينظر من نسخة أخرى". قلت: السقط المبين قريبًا يُظهر الخلل الواقع في هذا الموضع من النسخة "ت".

والقسمُ الثَّالث: وهو الوجوبُ على الكفايةِ في حقِّ كلِّ عاطس سَمِعَ، وهذا ممكنٌ، لكنه مخالفٌ للعموم في حقِّ المخاطَبين. القسم الرابع: وهو الوجوبُ على الكفاية في حقِّ بعض العاطسين، وهذا يخالف العمومَ في المخاطبين وفي العاطسين، ولا يتَّجه معنى في تخصيصِ بعض العاطسين عند الإطلاق، هذا الكلامُ على طَرَفِ الوجوب. وأمَّا [الكلام] (¬1) على طَرَفِ الاستحباب فلا يمتنعُ الاستحبابُ عموماً في حقِّ السامعين وحق العاطسين إلَّا لمعارِضٍ، لكنْ فيه مخالفةُ ظاهرِ الأمر، وفيه وفاءٌ بالعمومَين؛ أعني: العمومَ في المخاطَبين وفي العاطِسين. [وأمَّا الاستحبابُ عموماً في حقِّ السامعين، وخصوصاً في حقِّ العاطسين، فمخالفٌ للعموم في العاطسين، مع عدم اتِّجاه معنى يقتضي التخصيصَ عند الإطلاقِ. وأما الاستحبابُ كفايةً في حقِّ بعض السامعين، وعموماً في حقِّ العاطسين، فمخالفٌ للعموم في حقِّ المخاطبين. وأما الاستحباب كفايةً في المخاطبين في حق بعض العاطسين، فمخالفٌ للعمومين معاً؛ أعني: العمومَ في المخاطَبين والعاطسين] (¬2)، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت".

السادسة عشرة

معَ أنَّه لا يظهر معنًى في التَّخصيص ببعض العاطسين عند الإطلاق. السادسة عشرة: في الفَرْقِ بين الفرض على الكفاية والاستحبابِ على الكفاية؛ لتعلُّقِهِ بما قبلَه: أنَّ الفرض على الكفاية لا ينافيه الاستحبابُ في حقِّ من زادَ على القَدْرِ الذي سقطَ به الفرضُ. وأما الاستحبابُ على الكفايةِ: فمعناه أن (¬1) يقعَ الامتثالُ لأمر الاستحباب بفعل البعض، فتنقطعُ دلالةُ النَّصِّ على الاستحباب فيما زاد على ذلك، ولا يبقى مستحباً، بل هو (¬2) داخلٌ في حيِّز المباح أو غيرِه (¬3). فالفرضُ على الكفاية لا ينافيه الاستحبابُ فيما زاد، والاستحبابُ على الكفاية ينافيه الاستحبابُ فيما زاد من ذلك الوجهِ الذي اقتضى الاستحبابَ. السابعة عشرة: في الكلام في الأقسام بالنِّسبة إلى إبرار القسم، ولنتكلمْ أولاً فيما إذا حملنا إبرارَ القَسمِ على الوفاء بمقتضى اليمين، ولا شكَّ أن من الأيمانِ ما يحرُم الوفاءُ بمقتضاه؛ كالوفاء بمقتضى اليمينِ على فعل المحرَّم، ومنها ما يجب الوفاءُ بمقتضى اليمينِ فيه، ¬

_ (¬1) "ت": "أنه". (¬2) في الأصل: "هو بل"، والمثبت من "ت". (¬3) مثال الاستحباب على الكفاية: الأذان، والإقامة، والتسمية عند الأكل، وغيرها.

وهو اليمينُ على فعلِ الواجب، لكنْ ليس الوجوبُ من جهته، بلْ من جهة الخطابِ الأصليِّ. فعلى هذا يمتنع القِسْمُ الأولُ: وهو أن يجبَ على كلِّ حالفٍ الوفاءُ بمقتضى كلِّ يمين. ويمتنع أيضًا القسمُ الثالثُ: [وهو] (¬1) أن يجبَ على بعض المخاطَبين الوفاءُ بمقتضى كلِّ يمين. ويجوز القسمُ الثاني: وهو أن يجبَ على العمومِ الوفاءُ بمقتضى بعضِ الأَيمانِ، وهو اليمينُ على فعلِ (¬2) الواجبات. وكذلك الرابعُ: وهو أن يجبَ على بعض المخاطَبين الوفاءُ بمقتضى بعض الأيمان، وهذا الكلام في طَرَفِ الوجوبِ. أمَّا في طَرَفِ الاستحبابِ، فالنَّظرُ إلى ما قدمناه، وهو وجوبُ الوفاءِ بمقتضى بعض الأيمان، وتحريمُهُ في بعض الأيمان، يقتضي (¬3) منعَ القولِ بالاستحباب عمومًا في المخاطبين، وفي حقِّ [جميع] (¬4) الأقسام؛ لأنَّ بعضَ الوفاء واجبٌ وبعضَه محرمٌ، والوجوبُ الجزئيُّ والتحريمُ الجزئي يضادُّ الاستحبابَ الكليَّ. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "بعض" بدل "فعل". (¬3) "ت" زيادة "أيضًا". (¬4) سقط من "ت".

وبهذا يمتنعُ أيضًا الخصوصُ بالنسبة إلى المخاطَبين، وعمومُ الاستحبابِ بالنسبة إلى الأقسام، بمعنى أنه: يُستحَبُّ لبعض الناس إبرارُ جميع الأقسام؛ لما ذكرناه من الوجوبِ في البعض والتحريمِ في البعض، معَ أن التخصيصَ خلافُ ظاهرِ العموم في المخاطبين. وأمَّا الخصوصُ بالنسبة إلى بعض المُقْسِمين، والخصوصُ بالنسبة إلى بعضِ الأقسام، فهذا واقعٌ؛ لأنَّ المُقسِم (¬1) على فعل المُستحبِّ يُستحَب له الوفاءُ، هذا إذا حملنا إبرارَ القسم على الوفاء بمقتضى اليمين، أما إذا حملناه على جعلِ القَسَمِ بارًّا؛ أي غير آثم، فلا أحسب أحدًا من المُقْسِمين إلا ويجبُ عليه أن يكونَ قَسَمُه بارًا؛ أي: غيرَ ذي إثم. أما إبرارُ المُقْسِم؛ أي: الحالف عليك بالشيء، فإبرارُ قَسَمِهِ أن تفعلَ ما حلَف على فعلِك له، أو تتركَ ما حلفَ على تركِك له. ولا يمكنُ العموم في الأقسام؛ لاحتمال أن يحلفَ على فعلِ معصيةٍ، أو تركِ واجبٍ، فيحرمُ إبرارُ يمينه (¬2)، فالتخصيصُ لا محالةَ واقعٌ في هذه الصورة، وأمَّا العموم في المخاطبين فممكن، ويكون المرادُ أمرَ جميعِ المخاطَبين بإبرار بعضِ الأقسام، وذلك ثابتٌ؛ لوجوب إبرار يمين المُقسم على فعلِ الواجبِ أو تركِ المحرَّم، لكنَ هذا الوجوبَ ليس ناشئًا عن كونِهِ إبرارًا للمُقْسم، بل هو ثابتٌ ¬

_ (¬1) "ت": القسم. (¬2) "ت": "قسمه".

بأصل الخطابِ الشَّرعيِّ. وإن حلفَ على فعلِ مُحرَّمٍ أو تركِ واجبٍ، فالإبرارُ محرَّمٌ، وإن حلف على فعل مكرهٍ، فالإبرارُ لقَسمِهِ مكروهٌ إلا لمُعَارض، وذلك عندما تكون المَفْسَدةُ في عدم الإبرار أعظمَ من المفسدة في فعلِ المكروهِ. فتلَخَّص من هذا: أنه لا سبيلَ إلى الحملِ على الوجوب مُستنِدًا إلى إبرار القسم، بل بأصل الشرع، ولا على الوجوب مطلقًا بالنسبة إلى فعل المحرَّم، ولا على الوجوب بالنسبة إلى فعل المكروه إلا لمُعارِضٍ، ولا عليه بالنسبة إلى اليمين على (¬1) فعل يستحب إلا لمعارض. أما إذا حُمِل الأمرُ على الاستحباب، فلا شكَّ في تعذُّرِ الحمل على العمومِ؛ لتحريمِ إبرار القَسَم على فعل المعصية أو تركِ الواجب. وإذا تعذَّرَ الحملُ على العموم في المُقْسِمين والأقسام معًا؛ أي: على سبيل الجمع بالضرورة، فبطل القسمُ الأول. وأما الثاني: وهو الاستحبابُ لكلِّ أحدٍ أن يَبَرَّ بعضَ أقسام المُقْسمين، فهذا ثابتٌ عندما يكون قد حلفَ عليك أن تفعلَ مُسْتَحَبًّا، أو تفعلَ مُبَاحًا. والثالثُ: وهو الاستحبابُ لبعض المخاطَبين إبرارُ كلِّ الأقسام، وهو ممتنعٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "إلا"، والتصويب من "ت".

الثامنة عشرة

والرابعُ: وهو إبرارُ بعضِ المخاطَبين لبعضِ الأقسامِ واقعٌ، لكنَّ فيه البحثَ الَّذي قدمناه في الفرقِ بين الفرض على الكفايةِ والاستحبابِ على الكفاية، وإنَّ مقتضى الاستحباب على الكفاية أن ينقطعَ الاستحبابُ عمَّن حصلَ المقصودُ بغيره، وذلك بهذا الاعتبار غيرُ ثابت، إذ (¬1) يُستَحبُّ لكلِّ المخاطَبين أن يَبَرُّوا بعضَ الأقسامِ، والله أعلم. الثامنة عشرة: في هذه الأقسام بالنسبة إلى نصرِ المظلوم. أما الوجوب عمومًا؛ أعني: عمومًا بالنسبة إلى المظلومين، فهذا ثابتٌ من حيثُ المظلوميَّةُ والنظرُ إليها مجردًا عن العوارض، إذ لا شيءَ ولا واحدَ من الظلُّم - من حيث هو ظلمٌ - إلا وهو واجبُ الإزالةِ. وأما بالنسبة إلى المُنْكِرين؛ أعني: العالِمين بالظُّلم، فلا عمومَ فيه؛ لأنَّ الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المنكر من فروض الكفايات، وإن كان ظاهرُ اللفظِ يقتضي العمومَ بالنسبة إلى المخاطبين، وذلك لما مَرَّ في المسألة الثانية عشرة من قانون فرض الكفاية، وعلى هذا؛ أعني: القولَ بفرض الكفاية، امتنعَ القولُ بالوجوب عموما بالنسبة إلى المخاطبين والمظلومين؛ أعني: العمومَ بصفة الاجتماع في الفريقين، على ما هو القسمُ الأول؛ لأنه إذا امتنعَ العمومُ بالنسبة إلى المخاطبين، ¬

_ (¬1) "ت": "أو".

امتنعَ بالنسبة إليهم وإلى المظلومين معًا ضرورةً. وأمَّا العمومُ في الناصرين، والخصوصُ في المظلومين، والخصوصُ في الناصرين، والعمومُ في المظلومين، وهو مقتضى القولِ بكونه فرضَ كفايةٍ، فهنا يظهر الفرقُ بين القولِ بأن فرضَ الكفاية على الجميع أو على البعض، وقِسْ على (¬1) أمثاله فيما تكلَّمنا فيه من فروض الكفايات. وأمَّا الخصوصُ بالنسبة إلى النَّاصرين، والخصوصُ بالنسبة إلى المظلومين فممتنعٌ أيضًا؛ لوجوب العموم بالنسبة إلى المظلومين من حيث هم مظلومون، أمَّا الاستحبابُ فلا مساغَ للقول به (¬2) في العمومَين معًا؛ أعني: أن نجعلَه عامًا بالنسبة إلى النَّاصرين والمظلومين؛ لأن نصرَ المظلومين واجبٌ، والاستحبابُ يضادُّ الوجوبَ، وبه يمتنعُ الحملُ على العموم في حقِّ الناصرين، والخصوصِ في حقِّ المظلومين، من حيث هم مظلومون؛ لوجوبِ نُصرة كلِّ مظلوم من حيث هو مظلوم، ولأن بعض المخاطبين ثَبَتَ الوجوبُ (¬3) في حقِّه. وأما استحبابُه في حقِّ بعض الناصرين وكل المظلومين، فذلك في حق القوم الذين باشَر (¬4) إسقاطَ فرضِ الكفاية في النُّصْرة غيرُهم ¬

_ (¬1) "ت": "عليه". (¬2) "ت": "أما الاستحباب فلامتناع القول به". (¬3) "ت": "الاستحباب". (¬4) في الأصل: "باشروا"، والمثبت من "ت".

التاسعة عشرة

ممن يكفي في ذلك، فيستحبُّ لغيرهم المشاركةُ في دفع الظلمِ، وهنا (¬1) تظهرُ فائدةُ المسألةِ التَّاسعة. وأما الاستحبابُ في حق بعض الناصرين وبعض المظلومين، ففي مثالِ هذا القسمِ قبلَه يقعُ هذا، وهو استحبابُ شُروعِ مَنْ باشرَ الفرضَ غيرُه ممن يكفي في ذلك، والله أعلم. التاسعة عشرة: في هذه الأقسام بالنسبة إلى إجابة الدَّاعي. إن حملناه على الإجابة بالفعل، فقد اختلفَ الفقهاء في وجوبِ إجابة الدّاعي إلى وليمة العُرس (¬2)، فإن قام الإجماعُ على أنه لا يجبُ ¬

_ (¬1) "ت": "وها هنا". (¬2) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 179): لا أعلم خلافًا في وجوب إتيان الوليمة لمن دُعي إليها، إذا لم يكن فيها منكر ولهو. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 242): وكذا نقل عياض، ثم النووي الاتفاق على القول بوجوب الإجابة لوليمة العرس. قال الحافظ: وفيه نظر. نعم المشهور من أقوال العلماء الوجوب، وصرح جمهور الشافعية والحنابلة بأنها فرض عين، ونص عليه مالك، وعن بعض الشافعية والحنابلة: أنها مستحبة، وذكر اللخمي من المالكية: أنه المذهب، وكلام صاحب "الهداية" يقتضي الوجوب مع تصريحه بأنها سنة، فكأنه أراد وجبت بالسنة وليست فرضًا كما عرف من قاعدتهم، وعن بعض الشافعية والحنابلة: هي فرض كفاية. ثم حكى الحافظ ابن حجر عن الإمام ابن دقيق في "شرح الإلمام" محل وجوبها. وانظر: "روضة الطالبين" للنووي (7/ 333)، و"الفروع" لابن مفلح (5/ 226)، و"مواهب الجليل" للحطاب (4/ 2).

إجابةُ كلِّ داعٍ بل البعضِ منهم، امتنعَ الحملُ على العموم في الداعين والمدعُوِّين معًا؛ أعني: على سبيل الجمع؛ لأنه إذا امتنع في أحدِهما امتنعَ فيهما قطعًا، فبطلَ القسمُ الأول على هذا التقدير، وكذلك يبطلُ الحملُ على العمومِ في الدَّاعين والخصوصِ في المدعُوِّين لهذا بعينه على هذا التقدير، وأردنا بالداعين (¬1) هاهنا الداعين إلى وليمة العُرسِ. وأما العمومُ في حق المدعُوِّين، والخصوصُ في حقِّ الداعين؛ فمنْ أوجبَ الإجابةَ إلى وليمة العرس فقط، أو إلى دعواتٍ مخصوصة، فهذا القسمُ واقعٌ عندَه؛ لأنه يجب على كل مدعُوِّ إجابةُ هذا الدَّاعي الخاص، وهو الداعي إلى وليمة العرس مثلًا. وأما الخصوصُ بالنسبة إلى الداعين والمدعُوِّين: فغيرُ واقعٍ عند من يرى وجوبَ إجابةِ كلِّ مدعوٍّ إلى وليمةِ العرسِ، ولا يخفى عليك أنَّ هذا النظرَ في العموم والخصوص إنما هو بالنسبة إلى المدعُوِّين، لا إلى كل المكلفين. أما إذا حملنا الأمرَ على الاستحباب؛ فمن يُوجب الإجابةَ إلى وليمة العرس تعذَّر على قوله القسمُ الأولُ، وهو الحملُ على العموم في الدَّاعين والمدعوِّين معًا؛ لأنَّ إجابةَ وليمة العرس واجبةٌ، فلا مَدْخَلَ للاستحباب فيه، ومن لم يوجبِ الإجابةَ إليها - ولا إلى غيرها - أمكنَ عندَه هذا القسمُ؛ أي: يُستحبُّ لكلِّ مدعوٍّ إجابةُ كلِّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالفاعلين"، والمثبت من "ت".

العشرون

داعٍ إلا لمُعارِض (¬1). ومن أوجب الإجابةَ إلى وليمة العرس دونَ غيرها، فالاستحباب محمولٌ على غيرها عنده، فهو محمولٌ على الخصوص بالنسبة إلى الدَّاعين؛ لأنَّه يَستحبُّ الإجابة إلى الداعين لغير وليمة النكاح، ويوجبُها (¬2) على الداعين إلى وليمة النكاح. العشرون: في هذه الأقسام بالنِّسبة إلى إفشاء السلام، فسيأتي الكلامُ في الإفشاء إن شاء الله تعالى. وإنما نتكلَّم هاهنا في السَّلام نفسِهِ، والمشهورُ: أنَّ ابتداءَه مستحبٌ، وردَّهُ واجبٌ (¬3)، وإذا جَرَينا على هذا، سَقَطَ الوجوبُ بالنسبة إلى العمومَين؛ أعني: بالنسبة إلى عموم المسلِّمِين والمسلَّمِ عليهم، دماذا سقط بالنسبة إلى العمومَين، سقط بالنسبة إلى الخصوصَين؛ لأنَّ معنى سقوطِه بالنسبة إلى العمومَين: أنه لا واحدَ من الناس يجبُ عليه ابتداءُ السلامِ على واحدٍ من الناس، وذلك يُوجب سقوطَ الخصوصين؛ أعني: سقوطَ كلِّ واحدٍ منهما، فسقطتِ الأقسامُ كلُّها بالنسبة إلى الوجوب. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لعارض"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "وتوجهًا"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر "التمهيد" لابن عبد البر (5/ 288)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 140)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 4).

الحادية والعشرون

وأما بالنسبة إلى الاستحباب، فالعمومُ بالنسبة إلى كلا الفريقين؛ أي: يُستَحبُّ لكلِّ لاقٍ التسليمُ (¬1) على كل ملقٍّ، وهذا مُمكنٌ إلا أنَّ التخصيصاتِ الخارجةَ عن هذا اللفظ تمنع (¬2) القولَ به، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في التَّسليم على الكفار والنساء. وإذا خرج بعضُ هذه الأقسام في المسلَّم عليهم كان الحملُ على الخصوصِ بالنسبة إليهم، وعلى العمومِ بالنسبة إلى اللَّاقين، إلا أنَّ ما يُوجِبُ التَّخصيصَ فيهم (¬3) أيضًا، فيُحْمَلُ على الخصوص فيما يأتي، فبهذه المسائلِ يتبين ما يُمكِنُ الحملُ فيه على العموم، وما لا يُمكنُ، على حَسَب ما قدَّمناه. الحادية والعشرون: ظاهرُ الأمرِ في هذه الأشياء الوجوبُ، وقد وردتْ صيغةُ الوجوب في بعضها عن حديث الزُّهْرِيِّ، عن ابن المُسَيِّبِ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسٌ تجبُ للمُسْلِم على أخيه؛ ردُّ السَّلامِ، وتَشْميتُ العاطسِ، وإجابةُ الدَّعوةِ، وعِيادةُ المريضِ، واتِّباعُ الجَنازةِ" (¬4)، والله أعلم. الثانية والعشرون: ظاهرُ النَّهيِ في هذه الأشياء السَّبْعةِ التحريمُ، ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة "أن يسلم". (¬2) "ت": "يمنع". (¬3) أي: موجب التخصيص متحقق فيهم. (¬4) تقدم تخريجه عند الشيخين، وهذا لفظ مسلم.

الثالثة والعشرون

وهو معمولٌ [به] (¬1) عند الجمهور؛ أعني: أنَّ هذه الأمورَ يتعلَّق بها التَّحريمُ، إلا ما خُصَّ منها، فيخرج موضعُ التَّخصيصِ منها، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. الثالثة والعشرون: أطلقوا القولَ باستحبابِ عيادة المريض، وأنَّه سُنَّةٌ (¬2)، ولا شكّ في أنَّ تركَ عيادةِ من يَضِيع إذا لم يُعَدْ محرَّمٌ، والقيامَ عليه فرضُ كفاية، فإذا لم يتمَّ إلا بعيادته، فعيادتُه فرضُ كفاية؛ لأن ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب، فالإطلاق إذنْ بالنسبة إلى الأعمِّ الأغلبِ من غير نظرٍ إلى العوارض، أما الظاهريُّ فإنَّه ذهبَ إلى أن عيادةَ مرضى المسلمين فرضٌ، ولو مرة على الجار الَّذي لا تشقُّ عليه عيادتُه (¬3). فأمَّا قولُه بالفرضيَّةِ فهو مقتضى ظاهرِ الأمر، وظاهرُ صيغةِ الوجوب التي رَويناها من حديثِ الزُّهْرِيِّ، عن ابن المسيِّب، عن أبي هريرة (¬4). وأمَّا تخصيصُه بالجارِ فليس في حديث البَراء ما يقتضيه، وكذلك الحديثُ الَّذي ذكره الظاهريُّ في هذه المسألة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حقُّ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (14/ 31): أما عيادة المريض، فسنة بالإجماع، وسواء فيه من يعرفه ومن لا يعرفه، والقريب والأجنبي. (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 172). (¬4) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس تجب للمسلم على أخيه ... ".

المُسْلِمِ على المُسْلِمِ خَمْسٌ" (¬1)، لا يقتضي أيضًا التَّخصيصَ بالجار، فتخصيصُه بالجار يحتاج إلى دليل، وليس هذا التخصيصُ بالهيِّن؛ لأنه إذا خُصَّ الوجوبُ بالجار لا يتأدَّى [الفرضُ] (¬2) بعيادة غيرِ الجار، وإذا عمَّمنا الوجوبَ تأدَّى الفرضُ بعيادة غيرِ الجار من المسلمين، بل نزيد ونقول: إنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حقُّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ خَمْسٌ" يقتضي ثُبُوت هذا الحكم على المسلمِ، والمسلمُ أعمُّ من المسلمِ الجار، فصار اللفظُ دليلًا على عدمِ التَّخصيص. وأمَّا تخصيصُه الوجوبَ بمرةٍ فظاهرٌ؛ لأنه مطلقٌ في عدد المرَّات، يتأدَّى بمرة واحدة، اللهم إلا أن يكونَ الوجوبُ ثابتًا لسبب مستمرٍّ كخوف الضَّيْعَةِ على المريض مثلًا، فيبقى الوجوبُ ما بقي سببُهُ. وأما قولُه (¬3): الَّذي لا تشُقُّ [عليه] (¬4) عيادتُه، فليس فيه تعريفٌ لمقدار المشقَّة المسقطِ (¬5) للوجوب، وليس كلُّ (¬6) المشقَّاتِ مسقطًا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند الشيخين. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) أي: ابن حزم. (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "المسقطة". (¬6) في الأصل: "لذلك" بدل "كل"، والمثبت من "ت".

الرابعة والعشرون

الرابعة والعشرون: هو عامٌّ بالنسبة إلى المرضى، فيدخلُ فيه المسلمُ والكافرُ؛ فأمَّا الجوازُ في حقِّ الكافر: فثابتٌ بعيادة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عمَّه أبا طالب (¬1)، وعيادتِه - صلى الله عليه وسلم - الغلامَ اليهوديَّ الَّذي [أَسلم] (¬2) بحضرته (¬3). وأما الوجوب: فإنَّ الظاهريَّ أسقطه في حقّ الكافر، وقال: إنَّ عيادَته فعل حسن (¬4). فإنْ أَخَذَهُ من مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حقُّ المسلمِ على المسلم"، وأنَّ مفهومه: أنَّ غيرَ المسلم ليس كذلك، فهو لا يقولُ بالمفهوم، وكان يَلْزمُه أن يأخذ بحديث البراء في عموم عيادة المريض؛ لأنهّ زائدٌ على ما في ذلك الحديث. وأما من يرى الاستحبابَ فيقول بالمفهوم، فيقول: هاهنا مفهومُ صفةٍ، فيقتضي نفيَ الحكم عمّا عدا محلِّها، لا سيَّما مع ما دلَّ الشرعُ عليه من (¬5) المنافاة بين المسلمِ والكافرِ، وانقطاعِ الوصلة، وعيادةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه والغلامِ اليهودي الَّذي كان يخدمُه لا عمومَ فيها؛ لأنها ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4398)، كتاب: التفسير، باب: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113]، من حديث سعيد بن المسيب، عن أبيه. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه البخاري (5333)، كتاب: المرضى، باب: عيادة المشرك، من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 173). (¬5) "ت": "في".

الخامسة والعشرون

واقعةُ فعلٍ لا تقتضي العمومَ، وقد حصل فيها ما يمكنُ أن يُعتبرَ في الحكم، وهو القرابة والخدمة، فإنهما مقتضيان لمعنىً من الرعاية لا يوجد في عمومِ الكفار، وقد ذكر بعضُ أئمة الشافعيَّة: أنه إن كان ذميًّا جازَتْ عيادتُه، ولا يُستحب إلا لقرابة أو جِوَارٍ (¬1). الخامسة والعشرون: هو [عندنا] (¬2) عامٌّ بالنسبة إلى المرضى، ويلزم (¬3) منه العمومُ بالنسبة إلى الأمراض، لئلا يخرجَ عنه بعضُ المرضى، وهو خلافُ مقتضى صيغةِ العموم. وقد أُوْلِعَ بعضُ العوامِّ بأنَّ الأرمدَ لا يُعادُ (¬4)، وخرَّج أبو داود في "السنن" من حديث زيد بن أرقم قال: عَادَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وَجَعٍ كان بِعَيْني. ورجالُه ثقات (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (2/ 96). (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "فيلزم". (¬4) نقله عن المؤلف: العجلوني في "كشف الخفاء" (1/ 127)، وقد أسند البيهقي في "شعب الإيمان" (9190) عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: ثلاثة لا يعادون: الضَّرِس، والرَّمدِ، والدَّمِل. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 202): فإن ثبت النهي - أي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو غير ثابت - أمكن أن يقال: إنها لكونها من الآلام التي لا ينقطع صاحبها غالبًا بسببها لا يعاد، بل مع المخالطة قد لا يفطن لمزيد ألمه، كما أوضحته مع غيره في جزء أفردته لهذا الحديث. (¬5) رواه أبو داود (3102)، كتاب: الجنائز، باب: في العيادة من الرمد، والحاكم في "المستدرك" (1265)، وغيرهما.

السادسة والعشرون

السادسة والعشرون: قد قدَّمْنا كونَه مطلقًا في العيادة، وأن مقتضاه الاكتفاءُ بمرة، وذكرنا ذلك في المباحث مع الظاهريِّ وما فيه. السابعة والعشرون: الاكتفاءُ بالمرة يرفعُ القولَ بالوجوب [ثانيًا] (¬1) ظاهرًا، فأما بالنسبة إلى الاستحباب فلا يتقيَّدُ بمرة، وقد ثبت عن عائشةَ - رضي الله عنها -[قالت] (¬2): لمَّا أُصِيبَ سعدُ بنُ مُعَاذ يومَ الخندقِ، رماه رجلٌ في الأَكحَلِ، فضربَ عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيمة في المسجد؛ ليعودَه من قريب (¬3). وهذا يُشْعِرُ بالتكرار. الثامنة والعشرون: لا تقييدَ ولا تخصيصَ بالنسبة إلى أوقات المرض، فيسترسل الاستحبابُ مطلقًا، وعلى خاطري حديث: "كان لا يزورُ المريضَ إلا بعد ثلاث"، أو كما قال، فَلْيُكْشَفْ عنه (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه البخاري (451)، كتاب: المساجد، باب: الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم، ومسلم (1769)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد. (¬4) جاء على هامش "ت": "الحديث رواه ابن ماجه، ثنا هشام بن عمار، ثنا مسلمة بن علي، ثنا ابن جريج، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث"، قلت: ووجدته كذلك في "سنن ابن ماجة" (1437)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في عيادة المريض. وإسناده ضعيف جدًّا؛ فيه مسلمة بن علي، وقد تفرد به وهو متروك. انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (6/ 317)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 113).

التاسعة والعشرون

التاسعة والعشرون: هو عامٌّ بالنسبة إلى الصِّبْيان، ولا مانعَ من إجرائه على عمومه، بل ربما يكون المُوجِبُ في حقهم أقوى لضَعْفِهم. الثلاثون: هو عامٌّ بالنسبة إلى النِّسوان، ويُخَصُّ منه بعضُهنَّ بالقواعد الشرعية، كحرمة الخَلْوة، والفرق بين من يخاف منهن الافتتان به (¬1)، ومن لا (¬2)، وغير ذلك مما يقتضي المنعَ أو الكراهةَ، فإن لم يقم مانعٌ عُمِلَ بالعمومِ. الحادية والثلاثون: عيادةُ من يجب عليه القَسْمُ بين الزوجات [لغير صاحبة النَّوبة] (¬3) إذا لم يَخفِ الهلاكَ، قال بعضُ مصنِّفي الشافعيَّةِ: ليس له العيادةُ بالليل على المذهب، قال: وفيه قولٌ ارتضاه المحققون، وغلَّط صاحبُ "التقريب" من أجاز ذلك (¬4). الثانية والثلاثون: إذا خافَ هذا القاسمُ الهلاكَ على امرأةٍ من نسائه، قال بعضُ الشافعية: له أن ينتقلَ إليها ليُمَرِّضَها، إن لم يوجدْ ممرّضٌ غيرُه، وإن وجد، ففيه تردُّد (¬5). ¬

_ (¬1) "ت" "بها". (¬2) "ت" زيادة: "يخاف". (¬3) سقط من "ت". (¬4) وانظر: "الحاوي" للماوردي (9/ 577). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الثالثة والثلاثون

الثالثة والثلاثون: المرضُ مطلقٌ يترتب الحكمُ على مسمَّاه ظاهرًا، وقال بعضُ مصنِّفي الشافعية: وليس له العيادة بما يقع عليه اسمُ المرض (¬1). وهذا يُحتاج فيه إلى دليلٍ يقتضي خلافَ هذا الإطلاق، وهذا يتعلق بالقاسم. الرابعة والثلاثون: هو عامّ بالنسبة إلى القضاة، قال جماعةٌ من أصحاب مالك: وهو مرويّ عن أشهبَ ومُطَرِّفٍ وابنِ الماجَشون: أنه لا بأس للقاضي بحضور الجنائزِ، وقالوا: [و] (¬2) بعيادة المرضى (¬3). الخامسة والثلاثون: المطلوباتُ الشرعيةُ منها ما يُطلب لنفسه، أي لمصلحةٍ تتعلق بفعله، ومنها ما يُطلب طلبَ الوسائل، وعيادةُ المريضِ تَحتمِلُ أن تكونَ من القسمين معًا؛ لما فيها من تأنيس المريض، وانبساطِ نفسهِ بحضور من يحضُرُهُ، وغيرِ ذلك من المصالح، ثمَّ هي وسيلةٌ إلى القيام بمصالحه، وقضاءِ حاجاته، وإيصالِ النفعِ إليه. السادسة والثلاثون: إذا توقَّفَ أداءُ الفرضِ في الجَنازةِ على الاتِّباع، وجبَ بمقدار ما يتأدى به الفرضُ؛ لأنه ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ، وقد تقدم ذلك في أثناء التقاسيم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 120).

السابعة والثلاثون

السابعة والثلاثون: اختلفوا هل الأفضلُ التشييعُ أمامَ الجنازةِ أو خلفَها؟ ومذهب الشافعي - رضي الله عنه -: أنَّ المشي أمامَها أفضل (¬1)، ومذهبُ أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد - رضي الله عنهم -: أن المشيَ خلفَها أفضلُ (¬2)، وقيل: إن كان راكبا كان خلفَها، وإن كان ماشيًا كيف أراد، وهذا محكِيٌّ عن مذهب الثوريِّ، وقولِ أنس - رضي الله عنه -، والمشهورُ عند المالكية: أن المشاةَ يتقدَّمون، على ما نَقلَ بعضُهم (¬3). والذين اختاروا المشيَ خلفَها يحتجُّون بظاهر الحديث، بناءً على حمل الاتِّباعِ على [الاتِّباعِ] (¬4) الحسيِّ في المكان، والمُختارون للتقديم حَمَلُوْه على الاتِّباع المعنويِّ، فإن كان مجازًا فيه وجب أن يكون الدليلُ الدالُّ على استحباب التقدُّم راجحًا على العمل بظاهر الاتباع وحقيقتِهِ، وإذا كان كذلك كان دليلًا عاضدًا للتأويل. ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 271)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (5/ 233). قلت: وهذا مذهب الحنابلة كما في "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 361)، و"الفروع" لابن مفلح. (2/ 204). (¬2) انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 309). (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (12/ 94)، و"مواهب الجليل" للحطاب (2/ 227). (¬4) سقط من "ت".

الثامنة والثلاثون

والدليلُ على التقدُّمِ حديثُ الزهري، عن سالم، عن أبيه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمرَ كانوا يمشون أمامَ الجنازةِ (¬1). وقد قيل: إنَّه محمولٌ على الجواز، وليس فيه بيانُ الأفضل، ومجرَّدُ الفعل يدل على الأفضليَّة إذا لم يعارضْهُ معارِضٌ أقوى منه، [إلا أنَّ حديثَ الزُّهْرِيِّ هذا اختُلِفَ في رفعه ووَقْفِهِ، وبعضُ أكابر المحدثين يرجّحُ الوقفَ، ويجعلُ الرفعَ وهمًا] (¬2). الثامنة والثلاثون: لا بدّ في اتِّباع الجنازة من النِّيَّة والقصدِ لأَنْ يكونَ لأجل الجنازة، فلو مشى في حاجة له خلفَ الجنازة، أو أمامها، لم يكن متَّبعًا، إما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمالُ بالنيَّات" (¬3)، أو لأنَّه المفهومُ والمقصودُ من الاتباع قطعًا بالقرائن، فلا يحتاج إلى دليلٍ من خارج. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3179)، كتاب: الجنائز، باب: المشي أمام الجنازة، والنسائي (1944)، كتاب: الجنائز، باب: مكان الماشي من الجنازة، والترمذي (1007)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في المشي أمام الجنازة، وابن ماجه (1482)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في المشي أمام الجنازة. قال الترمذي: وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح، وقال النسائي: هذا خطأ - أي: كونه موصولًا - والصواب مرسل. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (2/ 111). (¬2) سقط من "ت". (¬3) تقدم تخريجه.

التاسعة والثلاثون

التاسعة والثلاثون: هو عامٌّ بالنسبة إلى جنازة المسلم والكافر، فمن لا مُوجبَ لاتِّباعه من الكفار - كالقرابة مثلًا - يَخرجُ عن العموم بدليل يدلُّ عليه إن وُجِد، وأما اتباعُ جنازةِ القريبِ الكافر، فإنَّ المزنيَّ - رحمه الله تعالى - ذكر في "المختصر": أنه يَغْسِلُ المسلمُ قرابتَه؛ أي: من المشركين، ويشيّعُ جنازتَه (¬1). وهذا داخلٌ تحت العموم، فإذا خرج غيرُه تناولَه اللفظُ مع رعاية المعنى الَّذي اختص من القرابة مع ما جاء من حديث علي - رضي الله عنه - في شأن والده أبي طالب ومُواراتِهِ (¬2). الأربعون: هو عامٌّ بالنّسبة إلى القضاة، وقد قالوا: إنه لا باسَ للقاضي بحضور الجنائز، وإنما ذُكِرَ هذا؛ لأن قومًا خصُّوا القاضي بأمور رأَوْها من باب حفظ الحرمة وإقامة الهيبة التي هي من أسبابِ نفوذِ الكلمة وإقامة الحقِّ، فبيَّن أنَّ هذا ليس من ذلك البابِ. الحادية والأربعون: في قاعدةٍ ينبني عليها غيرُها، اختلف أهلُ ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر المزني" (ص: 36). (¬2) رواه أبو داود (3214)، كتاب: الجنائز، باب: الرجل يموت له قرابة مشرك، والنسائي (190)، كتاب: الطهارة، باب: الغسل من مواراة المشرك، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 97)، وغيرهم. قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/ 114): ومدار كلام البيهقي على أنه ضعيف ولا يتبين وجه ضعفه، وقد قال الرافعي: إنه حديث ثابت مشهور.

الثانية والأربعون

الأصولِ في خطاب المواجهة؛ هل يَخُصُّ، ويكونُ عموم الحكم بالنَسبة إلى غيرهم بدليل من خارج، أو يَعُم؟ (¬1) فمن قال بخصوصه فينبغي أن يَعتبرَ فيه أحوالَ المخاطَبين، ولا يدخلُ في خطابهم من ليس بصفتهم إلا بدليلٍ من خارج. وهذا غيرُ الاختصاص بأعيانهم، وهو أعلى مرتبةً منه؛ لأنَّ اعتبارَ الأعيانِ في الأحكام مهجورٌ غالبًا غلبةً كثيرةً. ويُحتمل أن يقالَ: لا تُعتبر (¬2) أحوالُهم وصفاتُهم إلا أنْ يحتمل اعتبارُها بمناسبة أو غيرِها، والأَلْيَقُ بالتخصيص الأولُ. الثانية والأربعون: إذا قلنا بالعمومِ بالنسبة إلى المخاطَبين وغيرِهم، فهو عامٌّ بالنسبة إلى الأحرار والعبيد، فيُخَصُّ عنه العبدُ إذا كان في الاتِّباع تعطيلُ منافِعِهِ على السَّيّد؛ إما للحاجة إليه في وقتِ الاتِّباع، أو بكونِ الاتِّباعِ للجنائزِ كثيرًا منه، فيتعرَّض (¬3) للتّعطيلِ؛ لِمَا عَسَاهَ يَمنعُ من حاجة السِّيد إليه، وأما المنعُ من مطلقِ الاتّباع حتى مرَّةً واحدةً لا تعطِّل حقَّ السِّيد، ففيه نظرٌ بالنسبة إلى مأخذ المجتهدين؛ وهو أنَّه هل يُدار الحكمُ على الحكمة، فتُباح هذه الصورةُ المعيَّنةُ التي لا تُعَطِّلُ ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 251). (¬2) في الأصل: "لا تعتبر ما"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "فيعرض"، والمثبت من "ت".

الثالثة والأربعون

حق السَّيد، أو يُدارُ [الحكمُ] (¬1) على المَظِنّة، وهي حاجةُ السيِّد إلى منافعه؟ الثالثة والأربعون: هذا الاتِّباع لم يتبيَّن (¬2) في هذه الرواية ابتداؤه وانتهاؤه، وقد جاء في حديث أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شَهِدَ الجَنازةَ حتَّى يُصلَّى عليها فَلَهُ قِيْراطٌ، ومَنْ شهِدَها حتى تُدْفَنَ فلَهُ قيراطان" قيل: وما القيراطانِ؟ قال: "مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ" (¬3). وفي رواية قال: "إِنْ شَهِدَ" (¬4). قال سالمُ بن عبد الله بن عمرَ: وكان ابن عمرَ - رضي الله عنهما - يصلّي عليها، ثم ينصرفُ، فلمَّا بلغَه حديثُ أبي هريرة قال: لقد فرَّطْنا في قراريطَ كثيرةٍ (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "يُبين". (¬3) رواه البخاري (1261)، كتاب: الجنائز، باب: من انتظر حتى تدفن، ومسلم (945/ 52)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. (¬4) رواه مسلم (946/ 57)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، من حديث ثوبان - رضي الله عنه -، بلفظ: " ... فإن شهد دفنها". (¬5) رواه مسلم (945/ 52)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها.

وفي رواية عبد الرزاق، عن مَعْمَر: "حتَّى تُوْضَعَ في اللَّحْدِ" (¬1). وفي رواية أبي صالح، عن أبي هريرةَ، عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صلَّى على جَنازةٍ لم يَتْبَعْها فلَهُ قيراطٌ، فإنْ تَبِعَها فله قِيْرَاطَان". قيل: وما القِيراطَانِ؟ قال: "أصغرُهُما مِثْلُ أُحُدٍ" (¬2). وفي رواية أبي حازم، عن أبي هريرة: "مَنْ صلّى على جَنازةٍ فلَهُ قيراطٌ، ومن اتَّبعَها حتَّى تُوْضَعَ في القبرِ فقيراطَانِ". قال: قلتُ يا أبا هريرة! وما القِيراطُ؟ قال: "مِثْلُ أُحُد" (¬3). ومن رواية داودَ (¬4) بن (¬5) عامر بن سعد بن أبي وقَّاص، عن أبيه: أنه كان قاعدًا عندَ عبدِ الله بنِ عمرَ، إذْ طَلَع خَبَّابُ صاحبُ المقصورةِ، فقال: يا عبدَ الله بنَ عمرَ! ألا تسمعُ ما قال أبو هريرة؛ أنه سَمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ خَرَجَ معَ جنازةٍ من بيتها، وصلَّى عليها، ثمَّ تَبِعَها (¬6) حتَّى تُدفَنَ، كان له قِيراطانِ مِنْ أجرٍ، كلُّ قيراطٍ مثلُ أحدٍ، ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (6268)، ومن طريقه: مسلم (945/ 52)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. (¬2) رواه مسلم (945/ 53)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. (¬3) رواه مسلم (945/ 54)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. (¬4) "ت": "أبي داود" وهو خطأ. (¬5) في النسخ الثلاث: "عن" وهو خطأ. (¬6) "ت": "يتبعها".

ومن صلَّى عليها ثمَّ رَجَعَ، فإنَّ له مِنْ الأجرِ مثلَ أُحد". فأرسل ابنُ عمرَ خبابًا إلى عائشةَ - رضي الله عنها - يسألُها عن قولِ أبي هريرةَ، ثم يرجع إليه فيخبرُه ما (¬1) قالت، وأخذ ابنُ عمرَ قبضةً من حَصْباءِ (¬2) المسجد يُقَلِّبُها في يده حتَى يرجعَ إليه الرسول، فقال: قالتْ عائشةُ: صدَقَ أبو هريرةَ، فضربَ ابنُ عمرَ بالحصى الَّذي كان في يده الأرضَ، ثم قال: لقد فرَّطْنا في قراريطَ كثيرةٍ (¬3). وفي روايةِ ثَوْبانَ مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صلَّى على جَنازةٍ فلهُ قِيراطٌ، فإِنْ شَهِدَ دفْنَها فله قيراطانِ، القيراطُ مثلُ أحد" (¬4). وهذه الرواياتُ التي حَكيناها كلُّها في "الصحيح"، وقد تبيّن من بعضها ابتداءُ الاتِّباعِ من أهلها، وفي بعضها الانتهاءُ إلى أن "تُوضَع في اللحد"، وفي بعضِها: "حتى تُوضَعَ في القَبر"، وفي بعضها: "حتى ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": "بما"، والمثبت من "ت" و"صحيح مسلم". (¬2) في النسخ الثلاث: "حصى"، والتصويب من "صحيح مسلم". قال الإمام النووي: هكذا ضبطناه الأول "حصباء" بالباء، والثاني: بالحصى، مقصور جمع حصاة، وهكذا هو في معظم الأصول، وفي بعضها عكسه، وكلاهما صحيح، والحصباء هو الحصى. انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 16). (¬3) رواه مسلم (945/ 56)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. (¬4) تقدم تخريجها قريبًا عند مسلم برقم (946/ 57).

الرابعة والأربعون

تُدْفَن"، وفي بعضها: "فإن (¬1) شَهِدَ دَفْنَها". الرابعة والأربعون: حديثُ البراء الَّذي نحن في شرحِهِ فيه الأمرُ بالاتِّباع، وهذه الأحاديثُ التي سُقْناها إنَّما فيها ترتيبُ ثوابٍ مخصوصٍ على اتِّباع مخصوصٍ، ولا يَلْزَمُ من ذلك أنه لا يحصُل الامتثالُ لأمرِ (¬2) الاتِّباع إلا بها، فمقتضى الحديثين ليسَ واحدًا، والذي نقول الآن: إنَّ ما توقَّف أداءُ الواجب عليه من الاتباعِ لا كلامَ فيه؛ لوضوح وجوبه، وعدمِ الاكتفاء بما دونَه، وما لم يتوقف عليه ذلك، فالأليقُ بمذهب الظاهريَّة - ومن لا يعتبرُ المعاني - أن يكتفيَ بالمسمَّى؛ أعني: بما يسمَّى اتباعًا، ومن يتبع المعانيَ؛ فإنْ ظهرَ مقصودُ الاتباع فيه تأدَّى الأمرُ به، لا بما دونَه، سواءٌ كان الاتباعُ في درجةِ الاستحبابِ، [أو في درجةِ الوجوبِ، وإنْ لم يظهرِ المقصودُ، والكلامُ في درجةِ الاستحباب] (¬3)، فيُحْتَمَلُ هاهنا أمران: أحدهما: أن يُجعلَ حديثُ البراءِ مفسَّرًا بالأحاديث التي سُقناها في بيانِ الابتداء والانتهاء. وثانيهما: أن تكونَ تلك الأحاديثُ، والاختلافُ فيها، بيانًا لدرجاتٍ متفاوتةٍ بالنسبة إلى الاتِّباعِ المستحبِّ، فإنَّ المستحبَّ تختلفُ رُتبُه (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": "وإن"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل و"ب": "امتثال الأمر"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "رتبته".

الخامسة والأربعون

والفرق بين الاحتمال الأول والثاني: أنّا إذا جعلناها تفسيرًا، لم يقعِ الامتثالُ إلا بها، وإذا جعلناها (¬1) بيانًا لترتُّبِ (¬2) الاستحبابِ لم يلزمْ ذلك، وأمكنَ حصولُ أصلِ الامتثال بما دونَ ذلك. الخامسة والأربعون: رأيتُ في تعليق القاضي الحسين بن محمد المِرْوزي الشافعيِّ (¬3) - رحمة الله عليه - ما يشير إلى شيء مما نحن بسبيله، فإنه تكلَّم [فيه] (¬4) في مسألةِ المشيِ أمامَ الجنازةِ أو خلفَها، ¬

_ (¬1) "ت": "جعلنا ذلك". (¬2) "ت": "لرتب". (¬3) هو الإمام أبو علي الحسين بن محمد المروزي، ويقال له أيضًا: المروذي - بالذال المعجمة وتشديد الراء الثانية وتخفيفها -، وهو من أصحاب الوجوه، كبير القدر، مرتفع الشأن، وهو من أجل أصحاب القفال المروزي، له "التعليق الكبير" وما أجزل فوائده، وأكثر فروعه المستفادة، ولكن يقع في نسخه اختلاف، توفي سنة (462 هـ). واعلم أنه متى أُطلق القاضي في كتب متأخري الخراسانيين؛ "كالنهاية"، و"التتمة"، و"التهذيب"، وكتب الغزالي ونحوها، فالمراد: القاضي حسين. ومتى أُطلق القاضي في كتب متوسط العراقيين، فالمراد: القاضي أبو بكر الباقلاني الإمام المالكي في الفروع. ومتى أُطلق القاضي في كتب المعتزلة أو كتب الأصول الشافعية حكاية عن المعتزلة، فالمراد به: القاضي الجُبَّائي، والله أعلم. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 167 - 168). (¬4) سقط من "ت".

السادسة والأربعون

ورجَّح المشيَ أمامَها بأنهم إذا كانوا يمشون أمامَ الجنازة، يكونون شفعاءَ له، فيكون أولى. قال: فإن قيل: إذا كانوا يَمشون خلفَ الجنازة ينظرون إليه وَيعتبرون. قلنا: فيما قلناه أيضًا يحصلُ الاعتبارُ؛ لأنَّ عندنا إنما يجوزُ المشيُ أمامَ الجنازة بحيثُ لو التفتَ لوقَعَ بصرُه عليها؛ أي: على الجنازة، فأمَّا إذا مشى أمامَ الجنازة بساعةٍ (¬1) طويلة بحيثُ يجلسُ في المصلَّى وينتظرُ الجنازةَ، فلا يُستحبُّ ذلك، والله تعالى أعلم. السادسة والأربعون: الَّذي أشرنا إليه في أحد الاحتمالَين المتقدمَين، وهو أن يكونَ الاختلافُ في تلك الأحاديثِ بيانًا لرُتَب متفاوتةٍ، قد تعرَّضَ لمعناه - كلِّه أو بعضِه - بعضُ مصنِّفي الشافعيَّة - رحمهم الله -[و] (¬2) قال: قال الأصحابُ: وللانصرافِ عن الجنازة أربعُ درجات: إحداهنَّ: أنْ ينصرفَ عَقيبَ (¬3) الصَّلاةِ، فله من الأجر قيراطٌ. والثانيةُ (¬4): أن يتَّبعَها حتَّى تُوارى، ويرجعَ قبلَ إهالةِ الترابِ عليه. ¬

_ (¬1) "ت": "كساعة". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "عقب". (¬4) "ت": "والثاني".

والثالثةُ: أن يقفَ إلى الفراغِ من القبر، وينصرفَ من غيرِ دعاء. والرابعةُ: أن يقفَ على القبرِ، ويستغفرَ الله تعالى للميِّت، وهذه أقصى الدَّرجاتِ في الفَضيلة. رويَ: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فَرغَ من قبرِ الرجل، وقف عليه وقال: "استغفِروا اللهَ تعالى لَهُ، واسألُوا اللهَ تعالى [لهُ] التثبيتَ، فإنَّه الآنَ يُسأَلُ" (¬1). وحيازة القيراط الثاني يَحصُلُ لصاحب الدرجة الثالثة، وهل يحصُل للثانية؟ حكى الإمامُ فيه ترددًا، واختارَ الحصول. انتهى ما وجدته عنه (¬2). قلت: أما الوقوفُ إلى فراغِ الدعاءِ للميت، فلا يرجع إلى معنى الاتِّباعِ حتى يُشترطَ في الامتثال، ويدلُّ عليه أنّ الرواياتِ التي ذكرناها منتهاها الدَّفنُ، والدعاءُ بدليلٍ خارجٍ عن الأمر بالاتِّباع، وأما التردّدُ في حصول القيراطِ الثاني لصاحب الدرجة الثانية - وهو أن يتّبعَها حتى تُوارى ويرجعَ إلى أهله قبلَ إِهالةِ الترابِ عليه - فيدلُّ على ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3221)، كتاب: الجنائز، باب: الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (2/ 137)، قال النووي: قلت: وحكى صاحب "الحاوي" في هذا التردد وجهين، وقال: أصحهما: لا تحصل إلا بالفراغ من دفنه، وهذا هو المختار.

السابعة والأربعون

حُصولِ القيراط الثاني له ظاهرُ روايةِ مَعْمَر، عن الزهريِّ: "حتى تُوضعَ في اللَّحْدِ" (¬1)، وروايةُ أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ: "ومن اتَّبعها حتَّى تُوْضَعَ في القَبْرِ فقيراطانِ" (¬2). السابعة والأربعون: إن قلت: هل يُمكنُني أن أقولَ: إنَّ القيراطَ لفظٌ يدلُّ على مقاديرَ مختلفةٍ، وأجعلَ القيراطَ الحاصلَ بالاتِّباع إلى أن يوضعَ الميِّتُ في اللَّحدِ؟ قلت: قد حكيتُ لكَ من روايةِ أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ: "ومن اتَّبعَها حتى تُوضعَ في القبرِ، فلهُ قيراطانِ". قال: قلتُ: يا أبا هريرةَ! وما القيراطُ؟ قال: "مثلُ أُحُد". وحكيتُ لكَ من رواية عامرِ بن سعدٍ: "من خَرَجَ مع جَنازةٍ من بيتِها، وصلَّى عليها، ثم تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، كانَ لَهُ قِيْرَاطَانِ من الأَجْرِ، كُلُّ قِيراطٍ مِثْلُ أُحُدٍ". فأنت ترى أنَّ المقدارَ في روايةِ أبي حازم، هو المقدارُ في روايةِ عامرِ بنِ سعدٍ هذه، وهو تقديرُ القيراطِ بأُحُدٍ، وأَحدُ الحديثين رتَّبه على الوضعِ في اللَّحد، والثاني على الدَّفْن، ومع اتِّحادِ المقدارِ كيف يُمكنُ التفاوتُ فيه (¬3)؟ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجها عند مسلم برقم (945/ 52). (¬2) تقدم تخريجها عند مسلم برقم (945/ 54). (¬3) قال الإمام المحقق ابن القيم في "بدائع الفوائد" (3/ 655): لم أزلْ حريصًا على معرفة المراد بالقيراط في هذا الحديث، وإلى أي شيء نسبتُه، =

فإذا (¬1) كان تقديرُ القيراط بشيءٍ واحد - وهو أُحُد - يمنع من اختلاف مقداره، فالذي يبقى هاهنا عندي أحدُ وجهين: إمَّا أن يقالَ بإجراءِ الألفاظِ على ظاهرِها والتعارض، ويُطلبُ التَّرجيحُ بِين الرواياتِ بأحَدِ وجوهِ التَّرجيح؛ كالكثرة مثلًا، وزيادةِ الحفظ. وإمَّا أن يقالَ - وهو الأقرب عندي -: إنَّ اللفظَ من بعض الرُّواةِ وقع فيه (¬2) تَجَوُّزٌ؛ فعبَّر (¬3) عن الشيء بما يقارِبُه، وهو سائغٌ، لا سيّما مع فهم ¬

_ = حتى رأيت لابن عقيل فيه كلامًا، قال: القيراط نصف سدس درهم مثلًا، أو نصف عشر دينار، ولا يجوز أن يكون المراد هنا جنس الأجر؛ لأن ذلك يدخل فيه ثواب الإيمان بأعماله؛ كالصلاة والحج وغيره، وليس في صلاة الجنازة ما يبلغ هذا، فلم يبق إلا أن يرجع إلى المعهود، وهو الأجر العائد إلى الميت، ويتعلق بالميت صبر على المصاب فيه وبه، وتجهيزه، وغسله، ودفنه، والتعزية به، وحمل الطعام إلى أهله، وتسليتهم، وهذا مجموع الأجر الَّذي يتعلق بالميت، فكان للمصلي والجالس إلى أن يُقبرَ سدس ذلك، أو نصف سدسه إن صلى وانصرف. قلت - أي: ابن القيم -: كأن مجموع الأجر الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحده، وقضاء حق أهله وأولاده وجبرهم دينار مثلًا، فللمصلي عليه فقط من هذا الدينار قيراط، والذي يتعارفه الناس من القيراط أنه نصف سدس، فإن صلى عليه وتبعه، كان له قيراطان منه، وهما سدسه، وعلى هذا فيكون نسبة القيراط إلى الأجر الكامل بحسب عظم ذلك الأجر الكامل في نفسه، فكلما كان أعظم، كان القيراط منه بحسبه، فهذا بيِّن هاهنا، انتهى. (¬1) "ت": "وإذ". (¬2) "ت": "وفيه". (¬3) "ت": "ويعبر".

الثامنة والأربعون

المراد، وعدمِ المشَاحَّة (¬1) في الألفاظ في مثل هذا، فيكون روايةُ من روى "حتى تُوضعَ في اللَّحدِ"، و"حتَّى توضَعَ في القبرِ"، و"حتَّى تُدفنَ": كلٌّ (¬2) شيءٌّ واحدٌ عُبِّر به عن الدَّفنِ؛ لأنَّ الوضعَ في اللحد أو القبرِ مقاربٌ لحالة الدَّفن، والمقصودُ - والله أعلم -: الاتِّباعُ إلى حالة الفراغ. ويدلُّ على هذا: أنَّه لا يُتوهَّمُ الفرقُ بين وضعهِ في اللحد، ووضعِه في القبر، وبينهما اختلافٌ في الحقيقة، اللهمَّ إلا على مذهب الظاهريَّة الجامدة. وعلى هذا البحثِ لا يترجَّح حصولُ القيراط الثاني لصاحب الدَّرجة الثَّانية من حيثُ اللفظُ؛ لأنَّه إن سلكنا طريقَ الترجيحِ، فقد يكونُ الراجحُ روايةَ من روى: "إلى أَنْ تُدفنَ"، فلا يترجَّحُ حصولُ القيراطِ لمن لم يتّبعْ إلى الدفن، واكتفى بالوضعِ في اللَّحدِ. وإن سلكنا طريقَ التجوُّزِ فقد آلَ الحالُ إلى أنَّ الكلَّ راجعٌ إلى الاتباعِ إلى أَنْ تدفنَ، وقد اتَّضح لك سبيلان، فاسلكْ أيَّهُمَا رَجَحَ (¬3) عندكَ، أو فكِّرْ في طريقٍ ثالث، والله أعلم. الثامنة والأربعون: اتباعُ الجنائزِ عامٌّ بالنسبةِ إلى الرجال والنساء، وقد وردَ في اتباع النساء تشديدٌ يقتضي التخصيصَ من حديثِ إسرائيلَ، عن إسماعيلَ بنِ سلمانَ، عن دينارِ أبي عمرَ، عن ¬

_ (¬1) "ت": "المشاححة". (¬2) "ت": "كله". (¬3) "ت": "أرجح".

ابنِ الحنفيَّةِ، عن عليٍّ - قال: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا نِسوةٌ جلوسٌ، قال: "ما يُجْلِسُكُنّ؟ " قلنَ: ننتظر الجنازة، قال: "هل تَغْسِلْنَ؟ " قلن: لا، قال: "هل تَحْمِلْنَ؟ " قلنَ: لا، قال: "تُدْلِيْنَ فيمَنْ يُدْلِي؟ " قلنَ: لا. [قال]: "فارْجعْنَ مأزُوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ". رواه ابن ماجه، عن محمد بن مصفَّى، عن أحمد بن خالد، عن إسرائيل (¬1). وأصحُّ من هذا حديثُ أمِّ عطيةَ الصحيحِ قالت: نُهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَم علينا. متَّفق عليه (¬2). وفي "التهذيب" المالكي (¬3): وتتبعُ المرأةُ جنازةَ زوجِها وولدِها ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (1578)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في اتباع النساء الجنائز. وإسناده ضعيف. انظر: "العلل المتناهية" لابن الجوزي (2/ 902)، و"مصباح الزجاجة" للبوصيري (2/ 44). (¬2) رواه البخاري (1219)، كتاب: الجنائز، باب: اتباع النساء الجنائز، ومسلم (938/ 34)، كتاب: الجنائز، باب: نهي النساء عن اتباع الجنائز. (¬3) للإمام شيخ المالكية خلف بن أبي القاسم أبي القاسم وأبي سعيد الأزدي القيرواني المغربي المالكي المعروف بالبراذعي، كتاب: "التهذيب في اختصار المدونة" اتبع فيه طريقة اختصار أبي محمد إلا أنه ساقه على نسق المدونة، وحذف ما زاده أبو محمد - أي: ابن أبي زيد -، وقد ظهرت بركة هذا الكتاب على طلبة الفقه، وعليه معوَّل الناس بالمغرب والأندلس، توفي بعد (430 هـ)، وكان من كبار أصحاب ابن أبي زيد وأبي الحسن القابسي رحمهم الله أجمعين. انظر: "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (4/ 708)، و"الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 112)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (17/ 523).

ووالدِها وأختِها، إذا كان يُعرف أنَّ مثلَها يخرج على مثلهِ، وإن كانت شابةً، ويُكرَهُ أن تخرجَ على غير هؤلاء ممَّن (¬1) لا يُنكر عليها الخروجُ عليهم من قرابتها (¬2). وذكر بعضُ مصنفي الشافعيَّة: أنَّه يكرهُ لها - يعني: المرأةَ - أتِّباعُ الجَنازةِ، والخروجُ إلى المقبرةِ مع النِّسوان (¬3). وقال بعض مصنفي الحنابلة: ويُكره اتباع النساءِ الجنائزَ (¬4). قلت: حديثُ أمّ عطيةَ يدلُّ على الكراهة لا على التَّحريم؛ لقولها: ولم يُعزم علينا، والذي ذكرناه عن ابنِ ماجة يقتضي التحريمَ؛ لقوله: "مأزورات"، إلا أنه حديث فيه من لا يُعرف حالُه، وفي معناه حديث رواه أبو داود: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لقيَ فاطمةَ، قال: "ما أخرجَكِ يا فاطمةُ من بيتك؟ " قالت: أتيتُ أهلَ هذا البيتِ، فرحمت (¬5) على ميِّتهم، أو عزَّيتهم به. قال لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلعلَّكِ بلغتِ معهم الكُدى"، قالت: معاذَ اللهِ! وقد سمعتكَ تذكرُ [فيها] (¬6) ما تذكر. قال: "لو بَلَغْتِ مَعهُم الكُدى"، فذكر تشديدًا (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "ويكره أن تخرج على غيرها ولا ممن". (¬2) انظر: "تهذيب المدونة" للبراذعي (1/ 130). (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (5/ 231). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 176). (¬5) في الأصل: "فترحمت"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬6) سقط من "ت". (¬7) رواه أبو داود (3123)، كتاب -: الجنائز، باب: في التعزية، وابن حبان =

التاسعة والأربعون

فإن (¬1) لم يثْبُتِ التحريمُ، فحديثُ أم عطيةَ يقتضي الكراهةَ، ويَخصُّ به هذا الأمرَ باتباعِ الجنائز بالنسبة إلى النساء. التاسعة والأربعون: هاهنا تخصيصٌ آخرُ من رواية إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: نهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نتبعَ جنازة معها رانَّةٌ. رواه ابن ماجه، عن أحمدَ بنِ يوسفَ، عن عبيد الله، عن إسرائيل (¬2). وقال بعضُ الحنابلة: فإن كان مع الجنازة منكَرٌ يراهُ أو يسمعُه؛ فإنْ قدِرَ على إنكارِه وإزالتِه أَزالَهُ، وإن لمْ يَقْدِرْ على إزالتِهِ، ففيه وجهان: أحدهما: يُنكرُه ويتَّبعُها؛ فيسقطُ فرضُه بالإنكار، ولا يتركُ حقًا بالباطل. والثاني: يرجع؛ لأنه يؤدّي إلى استماعِ محظورٍ ورؤيتِه مع ¬

_ = في "صحيحه" (3177)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وإسناده ضعيف؛ لضعف ربيعة بن سيف المعافري. إلا أن المنذري قال في "الترغيب والترهيب" (4/ 190): وربيعة هذا من تابعي أهل مصر فيه مقال لا يقدح في حسن الإسناد. (¬1) "ت": "وإذا". (¬2) رواه ابن ماجه (1583)، كتاب: الجنائز، باب: في النهي عن النياحة. وإسناده ضعيف؛ لضعف أبي يحيى وهو القتَّات، وقد تقدم أنه منكر الحديث.

الخمسون

قدرته على ترك ذلك. ثم ذكر كلامًا يقتضي أصلًا لهذا، وأنَّه يتخرَّجُ وجهانِ على ذلك الأصل (¬1). والحديثُ الَّذي أوردناه يقتضي المنعَ من الاتباع مع وجود الرانَّة، وغيرُه يكون بالقياس عليه، وهو قياسٌ قويّ. الخمسون: الاتِّباعُ المعنوي، وهذا (¬2) التقييد بالجنازة، له مراتبٌ، ومن أبعدِها انتظارُها في المصلَّى قبل أَنْ يؤتَى بها، فإذا أُتي بها صَلَّى عليها، وفي انطلاق الاتباعِ عليه بُعدٌ. ودونَ هذا في البُعد أنْ يبعُدَ عنها في المَمْشَى، وإن كان قد خرج معها، والذي ذكرناه عن القاضي الحسين فيما تقدم، فيه إلمامٌ بهذا الَّذي قلناه، لكنَّه لا يُغني عنه، يُعرف ذلك بالتأمُّل لمدلول لفظه. الحادية والخمسون: من ضرورة تحقُّقِ الاتباعِ وجودُ مُتَّبَع، فإذا لم يوجدْ سقطَ الأمرُ بالاتباعِ، فلو أنّ ميتًا غُسِلَ في مكانه ودُفِنَ فيه، سقط الأمرُ باتّباعه، إذ لا متَّبَعَ وجوبًا كان أو استحبابًا، إن حُمِلَ الاتباعُ على الحسيّ لا على المعنوي، وهل يحصُلُ به الثوابُ الموعودُ به على الاتباع؟ فيه احتمال؛ فيحتملُ أن يقالَ به نظرًا إلى المعنى، واطِّراحِ الظاهرِ إذا لم يتعلَّقْ به مقصودٌ، ويحتمل أن لا يحصلَ الثوابُ ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 176). (¬2) في الأصل: "وهو"، والمثبت من "ت".

الثانية والخمسون

المخصوصُ إلا بما رتِّبَ عليه من اللفظ، وليس ذلك من جُمود الظاهرية لوجهين: أحدهما: أنَّ مقاديرَ الثوابِ لا تَهتدي إليها العقولُ، فهي مثلُ التعبداتِ في الأحكام، لا تتعدَّى محلَّها (¬1). [و] (¬2) الثاني: أنَّ في الاتِّباع زيادةَ عمل يناسبُ زيادةَ الأجرِ. الثانية والخمسون: اختُلف في تشميتِ العاطسِ على أقوال: فقيل: هو واجبٌ على كلِّ من سمعَه على الكفاية كردِّ السَّلام، وهو قول القاضي أبي الوليد بن رشد المالكي. وقيل: هو نَدْبٌ وإرشادٌ، وليس بواجب (¬3). وظاهرُ الأمرِ الوجوبُ، فمن قالَ به، فقد مشى على الأصل، ومن لم يقل به، فلا بدّ له من دليل يخرج به عن ظاهرِ الأمر، وقد وردت صيغةُ الوجوب في حديثٍ صحيحٍ، وهي (¬4) روايةُ الزُّهري، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمسٌ تجبُ للمسلِمِ على أخيه؛ ردُّ السلام، وتشميتُ العاطسِ، وإجابةُ الدَّعوةِ، وعيادةُ المريضِ، واتِّباعُ الجنازةِ" وهذا لفظُ روايةِ ¬

_ (¬1) "ت": "محالّها". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 482 - 483)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (8/ 483)، و"شرح مسلم" للنووي (18/ 120). (¬4) "ت": "من" بدل "وهي".

الثالثة والخمسون

مَعْمَر، عن الزُّهري عند أبي داودَ، رواه عن محمد بن داودَ بن سفيان، وخُشَيش بن أَصْرم، عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر (¬1). الثالثة والخمسون: لهذا الأمرِ مخصِّصٌ في تَكرارٍ العُطَاسِ، وذلك في أحاديث: منها: روايةُ عِكْرمةَ بنِ عمَّار، عن إياس بن سَلَمَةَ بنِ الأكْوَع، عن أبيه: أنَّ رجلًا عطَسَ عند النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "يرحمُك اللهُ"، ثم عطسَ [أخرى]، فقال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّجُلُ مزكومٌ؟ " (¬2). ومنها: رواية يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة (¬3)، عن أمِّه حُمَيْدَة - أو عُبَيْدَة - بنت عبيد بن رفاعة الزّرَقِيّ، عن أبيها، عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "تشميتُ العاطسِ ثلاثًا؛ فإن شئتَ فشمِّته، وإن شئتَ فكُفَّ" رواه أبو داودَ، عن هارونَ بنِ عبد الله، عن مالكِ بن ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (5030)، كتاب: الأدب، باب: في العطاس، وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (2162)، من رواية عبد الرزاق، عن معمر، به، وهو كلفظ أبي داود الَّذي ساقه المؤلف رحمه الله، إلا أن في آخره: "الجنائز" بدل "الجنازة". (¬2) رواه مسلم (2993)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: تشميت العاطس وكراهية التثاؤب. (¬3) في الأصل و "ت": "ومنها: رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي طلحة"، والتصويب من "ب".

إسماعيل، عن عبد السلام (¬1) بن حَرْب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن يحيى (¬2). ومنها: راوية [محمد] (¬3) بن عَجْلان، عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة، واختُلِفَ في رفعه ووقفه: ففي رواية مُسَدَّد، عن يحيى، عن ابن عَجْلانَ موقوفًا قال: شمِّتْ أخاكَ ثلاثًا، فما زاد فهو مَزْكُومٌ (¬4). وفي رواية عيسى بن حمَّاد المصري، [عن الليث] (¬5)، [عن] (¬6) ابنِ عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: لا أعلمه إلا أنه رفعَ الحديثَ إلى النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناه؛ رواه أبو داود وقال: رواه أبو نعيم (¬7) قال: عن موسى بن قَيْسٍ، عن محمدِ بن عَجْلانَ، عن ¬

_ (¬1) في النسخ الثلاث: "عبد الله"، والتصويب من "سنن أبي داود". (¬2) في النسخ الثلاث: "محمد"، والصواب ما أثبت. وقد رواه أبو داود (5036)، كتاب: الأدب، باب: كم مرة يشمت العاطس. وهو مرسل، كما نبه إليه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 406)، وابن حجر في "الإصابة" (5/ 59). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) رواه أبو داود (5034)، كتاب: الأدب، باب: كم مرة يشمت العاطس. (¬5) زيادة من "سنن أبي داود". (¬6) سقط من "ت". (¬7) في النسخ الثلاث: "أبو معمر"، والتصويب من "سنن أبي داود".

الرابعة والخمسون

سعيد، عن أبي هريرة، عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأقوى هذه الأحاديثِ، حديثُ سَلَمَةَ بن الأكْوَعِ الَّذي بدأنا به، والله تعالى أعلم. الرابعة والخمسون: هذا التخصيصُ في تَكرار العُطاس يقتضي ظاهرُهُ سقوطَ الأمرِ بالتّشميت بعد الثلاث، وأنَّ الثَّلاثَ هي التي استُدلَّ بها على الزُّكام. وبعضُ مصنفي الشافعية - رحمهم الله تعالى - قال: ويكرِّرُ التشميتَ إذا تكرَّرَ العطاسُ، إلا أَنْ يعرفَ أنَّه مزكومٌ، فيدعو له بالشفاء (¬2). وهذا يمكن تقريرُه بأنَّ العمومَ يقتضي التكرارَ؛ لأنَّ كلَّ مرة هو فيها عاطس، فيشمِّته (¬3) عملًا بالحديث، وأن لا يوجدَ عاطسٌ من غير تشميت، وهو خلافُ العموم، وإذا اقتضى العمومُ الإجابةَ، فيُعملُ بها، إلا في موضع العلة التي عُلِّلَ بها عدمُ التشميت، وهو الزكام. وظاهرُ هذا الكلام الَّذي حكيناه عن هذا المصنف: أنَّ التشميتَ يسقطُ الأمرُ به عند العلم بالزكام، ولا يعتبرُ تكرارَ العطاسِ ثلاثًا، وسنذكر الآن ما يُورَدُ عليه. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (5035)، كتاب: الأدب، باب: كم مرة يشمت العاطس. وانظر: "علل الحديث" لابن أبي حاتم (2/ 291). (¬2) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 233). (¬3) "ت": "فيشمت".

الخامسة والخمسون

الخامسة والخمسون: لو سألَ سائلٌ فقال: التعليلُ بالزُّكام يقتضي أن لا يشمِّتَ من عَلِمَ زكامَه ولا مرةً واحدة عملًا بعموم الحكم؛ لعموم علته، فيقالُ عليه: المذكورُ هو العلةُ دونَ المعلّل، فلا نسلِّمُ أنَّ المعلَّلَ هو مطلقُ التَّركِ، ليعمّ الحكمُ بعموم علتِهِ، بل المعلَّلُ هو التَّركُ بعد التكرير، فكأنَّه قيل: لا يلزمُ تكرارُ التّشميتِ؛ لأنه مزكومٌ (¬1)، ويؤيد ذلك مناسبةُ المشقةِ الناشئةِ عن التكرار (¬2). السادسة والخمسون: تكلم بعضُ الفضلاءِ في تعليلِ عدم التشميت [بالزّكام] (¬3) فقال (¬4): للحديثِ مخصِّصٌ آخرُ صحيحٌ ثابتٌ مقتضٍ (¬5) تَرْكَ التشميتِ لمن لم يحمدِ اللهَ تعالى. ¬

_ (¬1) في الأصل زيادة: "لأن المراد لا يشمت؛ لأنه مزكوم"، والمثبت من "ت". (¬2) نقل الحافظ في "الفتح" (10/ 606) عن المؤلف الفائدتين الرابعة والخمسين والخامسة والخمسين بتصرف. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) جاء في الأصل: بعد قوله: "فقال": "السابعة والخمسون"، وكذا في "ب" وكتب عندها: كذا في الأصل. ومقتضى السياق لا يناسب قطع الكلام بين قوله: "فقال" ثم ذكرِ الفائدة التي تليها وفيها تتمة الكلام، فهذا غير معهود في هذا الكتاب، وقد جاءت على الصواب في النسخة "ت"، فأثبتُّ ترقيم الفوائد بدءًا من هنا موافِقة للنسخة "ت"، وأغفلتُ ترقيم النسختين الأصل و"ب"؛ للاضطراب فيهما في أكثر من موضع. (¬5) "ت": "يقتضي".

السابعة والخمسون

روى سليمانُ التَّيميُّ، عن أنس قال: عَطَسَ رجلان عندَ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فشمَّتَ أحدَهما، [وتركَ الآخَرَ، قال: فقلت: يا رسولَ اللهِ! رجلان عَطَسَا فشمَّتَّ أحدَهُمَا!] (¬1) - قال بعضُ الرواة: فشمتَّ أحدَهما، وتركتَ آخر - قال: "إنَّ هذا حَمِدَ الله، وإنَّ هذا لم يحمَدْ" (¬2). وهذا دليل على سقوطِ التشميتِ لمن لم يحمدِ اللهَ، وهو مخصِّصٌ للعموم الَّذي في الحديث، والله أعلم (¬3). السابعة والخمسون: إذا ثبت أنَّ التشميتَ مشروطٌ بالحمد، فإنْ سَمِعَهُ فقد حصَلَ الشرطُ، وإن لم يسمعْهُ؛ فإنّ مالكًا - رحمه الله تعالى - يذهبُ إلى أنه لا يشمّته حتى يَسْمَعَهُ يحمدُ اللهَ تعالى (¬4)، قيل له: فإنَّه ربَّما كانت الحلقةُ كثيرةَ الأهلِ فأسمعُ القومَ يشمتونه، قال: إذا سمعتَ الذين يشمّتونه فشمّتْهُ. وهذا اكتفاءٌ بالدليل على الحمد عن السماعِ له من العاطس، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه البخاري (5867)، كتاب: الأدب، باب؛ الحمد للعاطس، ومسلم (2991)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: تشميت العاطس وكراهة التثاؤب. (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (8/ 543)، و"المفهم" للقرطبي (6/ 623). (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 201).

الثامنة والخمسون

وهو دليلٌ ظاهرٌ إذا كان المشمّتون عالِمين بأنه لا يُشَمَّتُ حتى يحمَدَ اللهَ تعالى، وكذا إذا لم يظنَّ بخصوصهم العلمَ بذلك، إذا كان الحكمُ شائعًا. أمّا إذا كانوا من أهلِ الجهل الذين يُظَنُّ بهم عدمُ العلم بذلك، فالدَّلالةُ ليست بالقويَّة، فيحتمل أن يكونَ مالكُ - رحمه الله - اعتبرَ الأعمَّ الأغلبَ، ويمكن أن لا يكونَ حكمُهُ فيمن هو من أهل الجهل. الثامنة والخمسون: الحكمُ عامٌّ بالنسبة إلى المسلم والذمي، وقد روى سفيان، عن حكيم بن الدَّيْلَم، عن أبي بُرْدَةَ، عن أبيه قال: كانت اليهودُ تَعاطَسُ عند النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجاءَ أن يقولَ لها: يرحمُكِ الله، فكان يقول: "يهديكُمُ اللهُ، ويُصْلِحُ بالَكَم". رواه أبو داود، عن عثمان بن أبي شيبة، عن وكِيعْ، عن سفيان (¬1). وقد ذكرنا عمَّن حكينا عنه من أهل اللغة: أنّ كلَّ داعٍ مشمِّتٌ، فهذا على هذا (¬2) تشميتٌ لأهل الذمة (¬3)؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية، وتركَ الدعاءَ لهم بالرحمة، فيقتضي أن لا يُدعى للكافر ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (5038)، كتاب: الأدب، باب: كيف يشمت الذمي، وصححه الحاكم في "المستدرك" (7699). (¬2) أي: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الذمة: "يهديكم الله، ويصلح بالكم" تشميت على قول أهل اللغة: "إن كل داع مشمت". (¬3) "ت": "الكفر".

التاسعة والخمسون

برحمةِ الله (¬1)، والمغفرةُ في معناه، ولعلّ مَن خصَّ التشميتَ بالدعاءِ بالرحمة، إنما بناه على الغالب، لا أنه تقييدٌ لوضع اللفظ في اللغة (¬2)، والله أعلم. التاسعة والخمسون: مناسبة الدعاء بالرحمة للعاطس من حيث إنه دفعُ المؤذي للجسد باحتبَاسِهِ، فتسهيلُه نعمةٌ من الله تعالى، ناسَبَ أن يُحمَدَ اللهَ سبحانه وتعالى عليها، والنعمةُ من الله تعالى رحمةٌ منه للعبد، فيُدعى له بعدَ الرحمةِ الخاصةِ بالرحمةِ العامَّةِ. [من المتقارب]: كما أحسنَ اللهُ فيما مَضَى ... كذلكَ يُحْسِنُ فيما بَقي (¬3) ¬

_ (¬1) "ت": "بالرحمة". (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (10/ 604) بعد أن نقل كلام ابن دقيق هذا، قلت: وهذا البحث أنشأه من حيث اللغة، وأما من حيث الشرع، فحديث أبي موسى دالٌ على أنهم يدخلون في مطلق الأمر بالتشميت، لكن لهم تشميت مخصوص، وهو الدعاء لهم بالهداية وإصلاح البال، وهو الشأن، ولا مانع من ذلك، بخلاف تشميت المسلمين، فإنهم أهل الدعاء بالرحمة بخلاف الكفار. (¬3) نسبه القيرواني في "زهر الآداب" (3/ 883 - 884) إلى منصور بن إسماعيل الفقيه. وقبله: رضيت بما قسم الله لي ... وفوّضت أمري إلى خالقي وقد نسب إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما في "ديوانه" (ص: 135).

الستون

الستون: ما حكينا عن غيرِ واحدٍ من أن التشميتَ الدعاءُ، ليس فيه تقييدٌ ولا تخصيصٌ بدعاء معيَّنٍ، بخلاف ما حكيناه عمَّن خصَّه بالدُّعاء بالرحمة، وعلى هذا يدلُّ الحديثُ، أعني: التخصيص. والحديث ما رواه هلالُ بنُ يَساف قال: كنّا عند سالمِ بن عُبيد، فعطسَ رجلٌ من القوم، فقال: السَّلامُ عليكم، فقال سالم: وعليك وعلى أمِّك، ثم قال بعد: لعلَّك وجدتَ ممَّا قلتُ لك؟ قال: لودِدْتُ أنَّك لم تذكرْ أمّي بخير ولا بِشَرّ، قال: إنَّما قلتُ لك كما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بينا نحنُ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ عطس رجلٌ من القوم فقال: السَّلام عليكم، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وعليك، وعلى أمّك"، ثم قال: "إذا عَطَسَ أحدُكُم فلْيَحْمَدِ اللهَ تعالى"، [قال] (¬1) فذكر بعضَ المحامِد، "وليقلْ له مَنْ عندَهُ: يرحمُك اللهُ، وليردّ؛ يعني: عليهم، يغفرُ اللهُ لنا ولكم" (¬2). فهذا أمرٌ بخصوص هذا الدُّعاء، وهو يقتضي سنِّيتَهُ، وأن لا يتأتَّى (¬3) المأمورُ به بغيره. الحادية والستون: فيه تخصيصٌ آخرُ بعد تخصيصِهِ بالدعاء ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه أبو داود (5031)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في تشميت العاطس، ومن طريقه: الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 301)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9342). (¬3) "ت": "يتأدَّى".

الثانية والستون

بالرحمة، وهو أن يكونَ ذلك بلفظِ المُخَاطَبة، وهو قولُه: "يرحمُكَ اللهُ"؛ لحديث سالمِ بنِ عُبيد - رضي الله عنه - الَّذي أوردناه، [وقد نصّ عليه] (¬1). وهؤلاء المتأخرون إذا خاطبوا من يعظِّمُونَه قالوا: يرحم الله سيِّدَنا، أو ما أشبهَ ذلك، من غيرِ خطاب، وهو خلافُ ما دلَّ عليه الأمرُ في الحديث، وبلغني عن بعضِ رؤساءِ أهلِ العلم في زماننا: أنه خُوطِبِّ بهذا الَّذي جرت عادتُهم به، فقال: قل: يرحمُك الله يا سيِّدنا، أو كما قال. وكأنه قصدَ الجمعَ بين لفظِ الخطاب وبين ما اعتادُوه من التعظيم. الثانية والستون: إذا علمَ من رجل أنه يكرَه أن يُشَمَّتَ، ويرفع نفسه عن ذلك تكبُّرًا؛ كما يُقال: إنّ الملوكَ لا تشمَّت، فقد ذكر بعضُ الأكابرِ من الفقهاء والفضلاءِ فيما إذا علم من رجل [أنه] (¬2) يكره أن يشمّت، لَمْ يشمَّت، فقال (¬3): لا إجلالًا له، بل إجلالًا للتشميت عن أن يُؤهَّل له من يكرهه، قال الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيما حكاه عن نوح النّبيّ - عليه السَلام - أنّه قال لقومه: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28] ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "قال".

قال: فإن قيل: إذا كان التشميتُ سنّةً، فكيف تُتركُ السنّةُ بكراهة من يكرهُها؟ قيل: هي السنّة (¬1) لمن أحبَّها، وليس بسنّةٍ لمن يكرهُها (¬2)؛ لأن من يَرغَبُ عن الخيرِ، يَرغَبُ الخيرُ عنه، وإن كَرِهَ رجلٌ أن يُسلَّم عليه عند اللقاء، لم يسلَّمْ عليه؛ لِمَا وَصفْنا، كما أنَّه إذا مرض فكرِهَ أن يُعاد، لم يُعَدْ، وإن أوصى مُحتَضِرٌ بأن لا يصلّى عليه إذا مات، صُلِّي عليه؛ لأن الصلاةَ عليه شفاعةٌ له، وهو - إذا أسرف على نفسه بأن أوصى أن لا يُصلَّى عليه - أحوجُ إلى الشفاعة له منه إذا لم يُوصِ به. وأما السلامُ فتحيةٌ، والتشميت مثلُه، ومن كَرِهَ التحيةَ لم يُحيَّ، كما أن مَنْ كرِهَ الزيارةَ لم يُزَرْ، والله أعلم. ولأنَّ الصلاةَ عليه ودفنَه واجبانِ بإيجاب الله تعالى، وفرضه، فلا يُعْمَلُ بوصيته في إبطالهما، والله أعلم. ويظهر لي: أنه إذا أَمِنَ من الضَّررِ من هذا المتكبِّر، فإنَّه ينبغي تشميتُه؛ لأنَّ فيه امتثالًا للأمر (¬3)، وفعلَ السنة مع مناقضة كِبْرِه، وكسرٍ سَوْرتهِ (¬4) في الكِبْرِ بما يضادُّ مقصودَه، وهذا المعنى أظهرُ من معنى ¬

_ (¬1) "ت": "هو سنة". (¬2) "ت": "كرهها". (¬3) "ت": "امتثال الأمر". (¬4) أي: سطوته واعتدائه.

الثالثة والستون

إجلالِ التشميت عنه (¬1)، إلا أَنْ يقالَ: إنَّ المشمّتَ لا يخلو من أنَ يقصِدَ معنى اللفظِ، وهو الدعاء، أو لا، والئاني لا فائدةَ فيه، والأول لا يناسبُهُ حالُ المتكبرِ المخالفِ للشرع كِبْرًا وعُلُوًّا، بل مناسِبُ حالِه الإغلاظُ، والله أعلم. الثالثة والستون: إذا ظُنّ أو خيفَ من المسلَّمِ عليه أن لا يردَّ الردَّ الواجبَ، فهذا أولى بأن لا يسلَّمَ عليه، مما ذكرهُ هذا الفقيهُ الفاضلُ؛ لأنَّ فيه إقامةَ سنة، يلزمها (¬2) التعريضُ لتركِ واجب، والله أعلم. الرابعة والستون: إذا عطسَ أحدُ الحاضرين للخطبة، والإمام يخطب، وقال: الحمد لله، فقد اختلفوا فيه: هل يشمَّت بالإشارة، أو يشفت بالكلام، أو لا يشمّت؟ [والذين قالوا: إنه لا يشمّت، إذا تمَّ الدليلُ على ما قالوه، فهو من محالِّ التخصيص] (¬3)، والذين قالوا: يشمَّتُ بالكلام، جَرَوْا على العموم، والذين قالوا: يُشمَّت بالإشارة، حملوا اللفظَ على مجازِهٍ؛ لأن التشميتَ حقيقةٌ في الكلام (¬4). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "الفتح" (10/ 606) بعد أن نقل كلام المؤلف هذا مختصرًا: ويؤيده أن لفظ التشميت دعاء بالرحمة، فهو يناسب المسلم كائنًا من كان، والله أعلم. (¬2) في الأصل: "يلزمه"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) نقله عنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 606).

الخامسة والستون

الخامسة والستون: ذكر بعضُ أكابر الفضلاء (¬1) فيما إذا عطسَ الخاطبُ، وقال: الحمد لله: أنه - إنْ مرَّ في خطبته - لم يشمّت، وإن وقفَ شمَّتوه، وهذا - إذا قام عليه دليلٌ وتمَّ - من محالِّ التخصيص أيضًا (¬2). السادسة والستون: قال: وينبغي إذا عطسَ العاطسُ، أن يتأنّى حتى يَسْكُنَ ما به، ثم يشمّتوه، ولا يُعَاجِلُوه بالتشميت، وهذا إذا (¬3) لم يكن في الأمر بالتشميت لفظٌ يقتضي التعقيبَ، فلا منافاةَ بينه وبين ما قال، ولا دَلالةَ لهُ أيضًا عليه، بل يُطلب دليلٌ (¬4) من أمر خارج (¬5)، والله أعلم. السابعة والستون: قولُ المشمِّتِ: "يرحمك الله" الظاهرُ منه والسابقُ إلى الفهم: أنه دعاءٌ بالرحمة، ويحتمل أن يكونَ إخبارًا على طريقةِ البِشارة المبنيّة على حسنِ الظنِّ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - للمَحْمُومِ: "لا بأسَ، طَهُورٌ إن شاء الله" (¬6)؛ أي: هي طهورٌ لك إن شاء الله، واللهُ أعلمُ بمُرادِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأكابر والفضلاء"، والمثبت من "ت". (¬2) روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (5259) عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يردون السلام يوم الجمعة والإمام يخطب، ويشمتون العاطس. وروى أيضًا (5260) عن الحكم وحماد في الرجل يدخل المسجد يوم الجمعة وقد خرج الإمام قال: يسلم ويردون عليه، وإذا عطس شمتوه وردوا عليه. (¬3) "ت": "إن". (¬4) "ت": "دليله". (¬5) في الأصل: "من خارج"، والمثبت من "ت". (¬6) رواه البخاري (5338)، كتاب: المرضى، باب: ما يقال للمريض وما يجيب، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

الثامنة والستون

رسولِهِ، فكأنَّ (¬1) المشمِّتَ بشَّر العاطسَ بحصول الرحمة في المستقبل؛ بسبب حصولها في الحال الحاضر بدفع المؤذي، فيكون من باب {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] عند مَنْ فَهِمَ منه هذا المعنى. [من المتقارب]: كما أحسنَ اللهُ فيما مضى ... كذلك يُحْسِنُ فيما بَقِي (¬2) الثامنة والستون: في قاعدة: إذا كان الغالب من إطلاق اللفظ إرادةَ معنىً مع احتماله لغيره، فالحالُ فيه بالنسبة إلى ما بعد إطلاقه على أقسام: أحدها: أن يستحضِرَ المطلِقُ أنَّه نوى المعنى الغالبَ إرادتُه عند الإطلاق. الثاني (¬3): أن يستحضرَ أنه نوى المعنى المحتملَ؛ أعنى: غيرَ الغالب. والثالث: أنّه (¬4) لا يحضرُه أنَّه نوى الغالِبَ، ولا غيرَه. فأمَّا القسم الأول: فلا إشكال فيه، وأته يعملُ بما نواه. وأما الثانى: فهو أيضًا محمولٌ على المحتَمِلِ، إلا لمانعٍ فيه ¬

_ (¬1) "ت": "وكأن". (¬2) تقدم ذكره، وأنه منسوب إلى منصور بن إسماعيل الفقيه، وقيل بنسبته إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "والثاني". (¬4) "ت": "أن".

التاسعة والستون

تفصيل بين ما يتعلق بالعبادات وألفاظ الشارع في المأمورات، وبين ألفاظ المكلَّفين في أيمانهم وتعليقاتهم، وفي ذلك طولٌ اقتصرناه. وأما الثالث: فهو محلُّ نظرٍ، فيحتمل أن يقال: لا يلحق بما وُجِدَتْ فيه نيَّةُ الغالب؛ لعدم نيَّةِ الغالب إذ لم يستحضر، ويحتمل أن يقالَ: يجري مجرى ما وُجِدت فيه نيَّةُ الغالب؛ لغلبة إرادة الغالب عند الاسترسال في الإطلاق، ولهذا القولِ غَور (¬1) نذكره، إن شاء الله تعالى (¬2). التاسعة والستون: هاهنا قاعدةٌ عقلية (¬3)، وهي الفرق بين العلم بالشيء، والعلم بالعلم بالشيء، والفرقُ بين حضورِ الشيء، وبين حضورِ تذكُّرِه، فقد يكون الشيءُ حاضرًا، ولا يحضُرُ تذكُّره بعد ذلك في وقت، والمَلَكَاتُ النفسانيَّةُ كلُّها من هذا القَبيل؛ لأنَّ شرطَ الفعلِ لا يحصُل الفعلُ إلا به، فإذا صار ذلك مَلَكَةً للنفس كان الشرطُ حاضرًا، وإلا وُجِدَ المشروطُ بدون شرطِه، لكنه إمّا حصلَ العلمُ به عند الفعلِ وَلم يحصلِ العلمُ بالعلمِ به، أو حصلَ لكن لم يحضرْ تذكُّره بعد انقضاء وقتِ حضورِه. مثال ذلك: أن الكتابةَ تتوقف على العلم بكيفية التركيب بين ¬

_ (¬1) "ت": "عون". (¬2) نقل هذه القاعدة عن المؤلف: الزركشي في "المنثور" (3/ 128). (¬3) في "الأصل" و"ب" زيادة: "إلى قاعدة عقلية"، وليست في "ت"، ولا موضع لهذه الزيادة، والله أعلم.

السبعون

الحروف، وتقدُّمِ (¬1) بعضِها على بعضٍ ضرورةً، ثم إنَّها تكثرُ وتتكرر إلى أن تصيرَ ملكةً للنفس، فيكتب الإنسانُ مجلدًا، بل ما شاء الله تعالى أن يكتبَ، ولا يستحضرُ أنه رتَّب الترتيبَ الَّذي يتوقفُ عليه انتظامُ الكتابةِ، وفي التحقيق قد حصل ذلك في نفس الأمر عند الكتابة، ولكنه لم يحضر (¬2) تذكُّره بعد (¬3) انقضائه. وكذلك نقول في الكلامِ واللفظِ إذا كثُرَ استعمالُه في معنىً وتكرَّر على الألسنة، فإنه عند الاسترسال يُرادُ به ذلك المعنى ظاهرًا، وإن كان بعد ذلك لو سُئِلَ المتكلِّمُ: هل تَستحضِرُ أنك أردت به هذا المعنى [المعين] (¬4)، أو لا؛ لم يذكر أنه حَضَرَتْهُ النيّةُ بعينها، ويُحرِّكُ هذا إلى النظر في بعض دَلائلِ المتكلمين في بعض المسائل (¬5). السبعون: فيما يترتَّب على هذا مما نحن فيه، أنَّا قد ذكرنا أنّ قولَ المشمّت: "يرحمك الله" الظاهرُ منه إرادةُ الدعاء، وأنَّ إرادةَ الخبر على طريق البِشَارة المبنية على حسن الظن محتملةٌ، وإذا كان كذلك وحُمِلَ الأمرُ على الظاهر - وهو الدعاء - فحينئذٍ يكون المأمورُ به على جهة الدعاء، وهو قوله: "يرحمك الله"، فيرجع إلى الأقسام الثلاثة: ¬

_ (¬1) "ت": "وتقديم". (¬2) "ت": "يحضره". (¬3) "ت": "عند". (¬4) سقط من "ت". (¬5) نقل هذه القاعدة العقلية عن المؤلف: الزركشي في "المنثور" (3/ 129).

الحادية والسبعون

أحدها: أن يقصدَ المشمّت الدعاءَ، فهذا يكون ممتثلًا جزمًا، آتيًا بما أُمِر به. وثانيها: أن يقصِدَ صرفَه إلى الخبر، فهذا لا يكون ممتثلًا على مقتضى ما قلناه، وأنَّ كونَه دعاءً داخلٌ (¬1) تحت الأمر (¬2). وثالثها: أن يُطْلِقَ اللفظَ إطلاقًا، ولا يحضرُهُ بعدُ أَنّه قصد الدعاء أو الخبر، فمقتضى ظاهرِ الحديث الاكتفاءُ به؛ لأنَّه قد أتى بما أُمِرَ به، وهو قوله: "يرحمك الله". ففيه دليلٌ على أنَّ اللفظَ عند الإطلاق وعدم الاستحضارِ لنية التخصيص بعدهُ، يُحمل على ما الغالب إرادتُه؛ لأنه لو لم يكن كذلك؛ أعني: أنه (¬3) لا يكونُ الأصلُ حملَه على ما الغالب إرادته، لَمَا اكتفى بقوله: "يرحمك الله" في هذه الصورة؛ [لأنّه لم يكُ آتيًا بما دخل تحت الأمر، وهو الدعاء] (¬4)، لكنه اكتفى به عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليقل: يرحمك الله"، والإتيانُ بالمأمورِ به يقتضي الإجزاءَ. الحادية والسبعون: فإذا تقرر هذا جاءك تحت هذا مسائلُ من ¬

_ (¬1) في الأصل: "داخلًا"، والمثبت من "ت". (¬2) أي: الذي يعتمد الإخبار، لا الدعاء، لا يكون آتيًا بما أمر به من تشميت العاطس؛ بناءً على أن أمر الشارع يتحقق بالدعاء للعاطس، فلفظ: "يرحمك الله"، مأمور به، ومأمور بأن يراد به الدعاء. (¬3) في الأصل "أن"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت".

أحكامِ الأيمان، منها: أنّ البدويَّ إذا أطلقَ لفظَ البيتِ في يمينه، وقال: لا أدخل بيتًا، فإنه يُحمل على بيتِ الشَّعر حتى يحنَثَ بدخوله؛ لأن الغالب إرادتُه مع وضع اللفظ له. وبهذا علَّل بعضُ مصنفي الشافعية حملَ هذ اللفظ من البدوي على بيتِ الشعر، وقال: فإذا (¬1) أطلقه من يغلب عليه إرادتُه كالبدوي حُمِل عليه؛ لاجتماع الوضع وغلبةِ الإرادة. فتراه اعتَبرَ غلبةَ الإرادة، وهو دليل على أن النيّةَ (¬2) لإرادة بيت الشَّعْر لم تُستحضَر؛ لأنها لو استُحْضِرَت لم يحتجْ إلى التعليل بغلبة الإرادة (¬3). فإن قلت: إنما اعتبر غلبة الإرادة عند موافقةِ الوضعِ لذلك؛ لأنَّ لفظَ البيتِ حقيقةٌ في بيت الشَّعْر؛ بدليل أنه يجيء في القُرويِّ أوجه: أحدها، وهو النص أنه: كالبدويّ. والثاني: أنه لا يحنث إلا بالبيت المبنيّ. والثالث: إن قَرَبتْ قريتُه من البادية بحيث يطرُقُونها ويناطقونهم فيها، فهو كالبدوي، وإن لم يكن كذلك، لم يحنث (¬4). ¬

_ (¬1) "ت": "إذا". (¬2) في الأصل زيادة: "الإرادة وهو دليل على أن النية". (¬3) من بداية الفائدة إلى هنا: نقله الزركشي في "المنثور" (3/ 130). (¬4) انظر: "الوسيط" للغزالي (7/ 226).

الثانية والسبعون

قلت: إن لم يكن لغلَبَةِ الإرادة عند عدم استحضار النيّة أثرٌ [أصلًا] (¬1)، فكلامُهُ لغوٌ، وإن كان له أثر مانعٌ (¬2) عدمَ استحضارِ النيّة حصلَ المراد، والأصلُ الذي ذكرته؛ لأنه قد تبين (¬3) أنَّ الاستدلالَ بغلبة الإرادة إنما يكون حيث لم تُستحضَرْ النيّةُ، فإنها لو استُحضرت لم يُحتجْ إلى التعليل بغلبة الإرادة. وأمَّا الخلاف المذكور في القروي، فالقول بعدم تحنيثه، جارٍ على ما قلناه (¬4)، والفارقُ بين من قربت قريتُه من البادية وغيرِه تحويمٌ على حصول الغلبة، والقولُ بالتحنيث اعتبارٌ للوضع عند عدم استحضار النيّة المعينة، ونحن ما ادَّعينا الإجماعَ على ما قلناه، وإنما ادَّعينا أنَّ مقتضى ظاهرِ الحديثِ الاكتفاءُ، وهذا حاصل، وإن اختُلف فيه. الثانية والسبعون: حلف لا يأكلُ اللحمَ، لم يحنثْ بلحم السمك، وهو حقيقةٌ فيه، قال الله تعالى: {مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]، والمسألةُ مفروضةٌ فيما إذا لم يحضرْه أنه نوى اللحمَ المعتادَ تسميتُه باللحم عند الإطلاق، وهو (¬5) محمول على المعتاد لغلبة إراداته عند ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "ما مع" بدل "مانع". (¬3) "ت": "بين". (¬4) "ت": "ذكرناه". (¬5) "ت": "فهو".

الثالثة والسبعون

الإطلاق، وهذا يخالف مسألةَ البدوي الحالفِ أنه لا يدخل بيتًا، فإن اعتيادَ الإرادةِ ثَمَّ وافَقَ الوضعَ، واعتيادُ الإرادة هاهنا خالفَه مخالفةَ التخصيص. الثالثة والسبعون: حلف لا يدخل بيتًا، فدخل الكعبةَ أو المسجدَ، لم يحنثْ عند الجمهور، وقيل: يحنث (¬1)، وقول الجمهور موافق للقاعدة (¬2) التي ذكرناها؛ لأن غلبةَ الإرادةِ تقتضي إرادةَ غيرِ المساجد، وهو كالمسألة قبلَها في أنّ غلبةَ الإرادةِ خالفتِ الوضعَ مخالفةَ الخصوصِ للعموم. الرابعة والسبعون: دخل الرّحى والحمام فقيل: إنه كالمسجد (¬3)، وهذا أيضًا تخصيص للوضع بغلبة الإرادة، والله أعلم. الخامسة والسبعون: بعضُ ما ذكرناه - وما لم نذكره - من مسائلِ الأيمان، قد ندَّعي فيه أنَّ السببَ في التخصيص نقلُ الاسم إلى حقيقةٍ عُرفية عن الحقيقة الوضعية، فالحملُ عليه عند الإطلاق من باب اتباع الوضع لا النظرِ إلى غلبة الإرادة، فتأمَّلْه؛ لئلًا يُوْرَدَ عليك دَفعًا لما قررناه (¬4)، وفَرْقًا [بينه و] (¬5) بين ما ادَّعيناه واستشهدنا ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة" (3/ 133)، و"الوسيط" للغزالي (7/ 226)، و "المغني" لابن قدامة (10/ 58)، و"الهداية" للمرغيناني (2/ 76). (¬2) "ت": "للعادة". (¬3) انظر: "الوسيط" للغزالي (7/ 226). (¬4) في الأصل: "قدرناه"، والمثبت من "ت" و "ب". (¬5) سقط من "ت".

السادسة والسبعون

به، وهذه الدعوى لا تصحُّ في كل مكان، وصاحبُها مطالَبٌ بالدليل عليها، ولا يُمكِنُ أن يُدَّعَى أنَّ (¬1) البدويَّ نقلَ لفظَ البيتِ إلى بيت الشَّعر، حتى صار إطلاقُه على يت المَدَرِ مهجورًا؛ كهجران لفظ الغائطِ بالنسبة إلى المُطْمَئِنِّ من الأرض، ولا أيضًا نقل القروي (¬2) لفظ البيت إلى بيت المَدَرِ، حتى صار إطلاقُه على بيت الشعر مهجورًا، والأغلب إرادة كلِّ واحدٍ منهما ما اعتاده وأَلِفَهُ، فانصرافُ اللفظِ إليه بالغلبةِ في الإرادة. وقد قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] فأطلق لفظَ البيوت على المساجد، وهو إطلاقٌ عُرْفي في زمن نزول الآية، فإن ادعى أن النقلَ العرفي إنما حدث بعد ذلك؛ أي: بعد نزول الآية، فقد أبعد، وأقلُّ ما يُدفَعُ به [قولهُ] (¬3): أن (¬4) الأصلَ عدمُ التغيير بعد الإطلاق عند نزول الآية، والناس يقولون: الكعبة والمسجد (¬5) بيت الله، إلى الآن، والله أعلم. السادسة والسبعون: وطريقُ الاستدلالِ في مسائل الأيمان التي من هذا الجنس بردِّها إلى الحديث، أنْ يقالَ: لو لم يُحْمَلْ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يدعي"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل و"ب": "القروي نقل"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "بأن". (¬5) "ت": "للمسجد والكعبة".

السابعة والسبعون

هذا اللفظُ في المسألة الفُلانية على ما يُعتادُ قصدُه به غالبًا، لما حُمِلَ قولُهُ: "يرحمك الله" للمشمِّت على ما يقصد به غالبًا، وهو الدعاء؛ لأنه أحدُ أفرادِ هذه القاعدة، لكنه حُمِلَ عليه عملًا بالحديث، فإنه يقتضي الاكتفاءَ بقوله: "يرحمك الله"، والاكتفاء بذلك إنما هو لرجحان حملِهِ على ما يعتاد قصده من اللفظ غالبًا مع احتماله لغيره؛ لأنه لو لم يكن راجحًا لكان (¬1) إما مرجوحًا أو مساويًا، وكلاهما يمتنع (¬2) الحملُ عليه. السابعة والسبعون: ويجيء من هذا اعتبارُ ما يقتضيه سببُ كلام الحالف، ومثارُ يمينه (¬3) الذي اعتبره مالكٌ وأحمدُ - رحمهما الله تعالى - وهو [الذي] (¬4) تسميه المالكيةُ بساطَ اليمين، ويقال: إنه يُرْجَعُ (¬5) إليه، إذا لم تكن نية (¬6). وهذا فيه تَسامُحٌ في اللفظ، وتعبير عن عدم استحضار النية بعدم النيّة، فإنَّ الفائتَ في هذه الصورة - على ما قررناه في هذه القاعدة ¬

_ (¬1) "ت": "كأن". (¬2) "ت" "يمنع". (¬3) "ت": "نيته". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "رجع"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 287).

العقلية - إنما هو استحضارُ النيّةِ. والاستدلالُ بالبساطِ على حضور النيّة عند الإطلاق مثالُه: إذا مرَّ إنسانٌ بمن يأكل فاستحضرهُ للأكل، وأكَّد عليه طلبَه لذلك، فقال: والله لا أكلتُ. فلو قيلَ له بعد ذلك: أتستحضرُ أنَّكَ نويتَ لا أكلتَ الآن أو معك، [أو ما أشبهه] (¬1)، لقال: لا أستحضرُ هذا، لكنَّ البساطَ دلَّ على أن المرادَ لا أكلت الآن أو معك أو ما أشبه (¬2)، فيسدلن به على حضور النيّة وقتَ اليمين، وأن الفائتَ بعدَه تذكُّرُ النيّةِ، لا أنَّ الفائتَ نفسُ النيّةِ عند التلفُّظ، وقد حَمَلَهُ قومٌ على العمومِ فحنّثوه بالأكل مطلقًا. وأنا أرى صحةَ هذه القاعدة في الجملة، وهي عندي من قَبيل دَلالةِ السياقِ التي ترشُد إلى بيانِ المُجْمَلات (¬3)، وتخصيصِ العمومات، وتعميمِ الخصوصات، واستعمالُها في ألفاظ الشارع كثيرٌ جدًا، بل هي الدالَّةُ على مقصود الكلام (¬4)، وإني لأَستَبْعِدُ أنّ العامي ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "أشبهه". (¬3) "ت": "المحتملات". (¬4) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (8/ 54). =

إذا أَطلقَ لفظًا وأراد به معنى أَنْ يقالَ له: قد بَرَرْتَ، أو حَنَثْتَ، بسبب شيءٍ لم يخطُرْ بباله، ولا يفهمه إلا بعد قوله له وتفهيمِهِ [إيَّاه] (¬1)، كما لو قال لزوجته: وهي في ماءٍ جارٍ: اطلعي من هذا الماء، فأبت عليه، فقال: إن أقمتِ فيه، فأنت طالقٌ، فيقال له: لو أقامت يومًا مثلًا لم تَطْلُق؛ لأن الماءَ المعيَّنَ الذي (¬2) هي فيه حين يمينك لم تُقِمْ فيه؛ لأنَّه قد مضى، فإنَّ (¬3) جريانَه على الدوام له، فهذا معنى لا يفهمُه إلا بعد ¬

_ = قال المؤلف رحمه الله في "شرح عمدة الأحكام" (2/ 225): ويجب أن تتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن الدالة على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، ولا تُجريهما مجرى واحدًا؛ فإن مجرد ورود العام على السبب لا يقتضي التخصيص به، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بسبب سرقة رداء صفوان، وأنه لا يقتضي التخصيص به بالضرورة والإجماع. أما السياق والقرائن: فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه، وهي المرشدة إلى بيان المجملات، وتعيين المحتملات. فاضبط هذه القاعدة، فإنها مفيدة في مواضع لا تحصى. وانظر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من البر الصيام في السفر" مع حكاية هذه الحالة، من أيِّ القبيل هو؛ فنزِّله عليه، انتهى. (¬1) زيادة من "ت". (¬2) الأصل: "التي"، والمثبت من "ت". (¬3) الأصل: "فإنه"، والمثبت من "ت".

الثامنة والسبعون

التفهيم، وربما يُتْعَبُ (¬1) مع بعضهم في تفهيمه، فكيف نقول: إنَّ لفظَه محمولٌ عليه؛ ويمينُه بارَّةٌ بما لم يخطر بباله؟! ولا شكَّ أن (¬2) حالةَ الإطلاق، لم يكن كلامُه لغوًا ولا هَذْرًا لا معنى له، فله معنى أراده قطعًا، فكيف يَبَرُّ بموافقته ما لم يفهم (¬3) إلا بعد قوله المفتي له، وإنما [هذا] (¬4) يَرْجِعُ إلى القاعدة التي قدَّمناها، وهو أنه لم يُرِدْ إلا مطلقَ الماء وجنسَه، لا الجزئية المعينة، وإنما فَقَدَ بعد إطلاقِهِ اللفظَ استحضارَ النيّة التي كانت عند الإطلاق، فإذا قيل له: هل نويتَ جنسَ الماء؟ لم يستحضر ذلك، والله أعلم. نعم لا أسترسل في هذه القاعدة استرسالًا يفعلُه بعضُ من يرى بها، وإنما الذي ينبغي: أن ينظر إلى القرب في دلالة الحال على وجودِ النيّة والبعدِ من ذلك، والله أعلم. الثامنة والسبعون: الذي ذكرناه في اليمين على اللحم أقوى مما ذكرناه هاهنا، والسببُ في قوته: أنه يمكن المُدَّعي أن يدّعيَ انتقالَ اللفظِ إلى الخصوص بوضعٍ عرفي، فيقوله: إن أهل العرف نقلوا لفظَ اللحمِ عند الإطلاق إلى اللحم الفلانيّ، فيصير حملُ اللفظِ على ¬

_ (¬1) "ت": "تعبت". (¬2) "ت": "أنه". (¬3) "ت": "بمواقعة ما لم يفهمه". (¬4) زيادة من "ت".

الحقيقةِ العرفيةِ كحمله على الحقيقة الوضعية. ومسألةُ بِسَاطِ اليمين لا يُدَّعى فيها ذلك، ولا يقال: إنّ قولَ الحالف: والله لا أكلتُ، نُقِلَ عُرفًا (¬1) إلى خصوصِ ما خُوطِب بأكله (¬2)، وقد قدمنا ما في هذه الدعوى، والمسألتان تشتركان في أمرٍ عالم، وهو حملُ اللفظ على ما يقتضيه حملُه عليه عرفاً؛ إمّا بطريق النقل العرفي للاسم، أو بطريق الدَّلالةِ العرفيَّةِ على التخصيص، والدلالةُ العرفيةُ أعمُّ من الدلالة العرفية في نقل موضوع اللفظ، وإذا أردت العبارةَ في مسألة البساطِ لتردَّه إلى الحديث؛ أعني: قوله: "يرحمك الله"، فله طريقان: أحدهما: أن يقال: لو لم يَعْتَبِرْ ما دلَّ عليه البساطُ عند احتمال اللفظ لغيره، وعدمَ تذكُّرِ نية التخصيص، لما اكتفى بقوله: "يرحمك الله" في مثل هذه الصورة؛ أعني: صورة ما إذا قال: "يرحمك الله" ولم تحضرهُ نيةُ الدعاء، لكن (¬3) اكتفى به عملًا بظاهر الحديث، وهو قولُه: "وليقلْ: يرحُمك الله"، فإنَّ ظاهرَه يقتضي الاكتفاءَ به مطلقًا، قَصَدَ الدعاءَ أو لم يقصِدْ. بيانُ (¬4) الملازمةِ: أنه لو لم يعتبرْ، لكان ذلك للاحتمال المعارض ¬

_ (¬1) في الأصل: "عرف"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "بأكلٍ". (¬3) "ت": "لكنه". (¬4) "ت": "فإن".

التاسعة والسبعون

للفظ مع عدم حضور نية التخصيص، وهذا المعنى موجودٌ في قوله: "يرحمك الله"، فإنه محتمِلٌ، ولا نيةَ تخصيصٍ، وقد حُمِلَ على الدُّعاء الذي يقتضي اللفظُ اعتبارَه، وفيه البحث في النقل العرفي وغيرِه. الطريق الثاني: لو لم يَعتبر البساطَ، لكان المانعُ عدمَ حضور نية التخصيص، ووجوب حمل اللفظ على الوضع حينئذٍ، لكن ذلك غير مانع؛ لأنه لو كان مانعًا لَمَا حُمِلَ قوله: "يرحمك الله" على الدعاء؛ لاحتماله للخبر، وعدمِ حضور نية التخصيص. التاسعة والسبعون: هذا التشميت للعاطس من حكمته حصولُ المودَّةِ والمؤالفةِ بين المسلمين، وهي قاعدةٌ لا يحصى ما دلّ عليها من الشرع؛ "لا تحاسَدُوا، ولا تباغَضُوا" (¬1)، "لا تختلِفوا فتَخْتَلِفَ قلوبُكُمْ" (¬2)، "لا يَحِلُّ لمسلِمٍ أن يهجُرَ أخاه" (¬3)، "عودُوا المريِضَ وأجيبوا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5717)، كتاب: الأدب، باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ومسلم (2563)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظن، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (432)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (5718)، كتاب: الأدب، باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ومسلم (2559)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

الثمانون

الدَّاعي" (¬1)، وهذا الموضعُ على الخصوص - وهو تأديبٌ راجع إلى تشميتِ العاطس - أصلٌ في استجلاب المودّات بحُسْنِ المواظبات (¬2). الثمانون: فيه مع ذلك [أنّ] (¬3) التأديبَ للعاطس بكسرِ النفس عن طُغيان الكِبْر، وحملِها على التواضع، وتقريرِه (¬4) عندها، وذلك لِمَا في الدُّعاء بالرحمة من الإشعار بالذَّنب الذي يُحتاج فيه إلى الدعاء بالرحمة، ولهذا يُرى بعضُ المُتَخلِّفين يُعرِضُ عن الدعاء بالرَّحمة إلى الدعاء بالعيش، فيقول: عِشْتَ، أو غير ذلك، وزاد الملوك - أو من شاء الله تعالى منهم - فترفعوا عن التشميت بالكليَّة، وجعله حاضروهم (¬5) من الآدابِ مع الملوك، والأدبُ أدبُ اللهِ ورسوله، والكبرياءُ رداءُ الحقِّ فمن نازَعَه (¬6) قَصَمَه. وقد أشار الإمام الحليميُّ في دعاء التشميت إلى معنى حسن يتعلق بأمر الذنوب، ومناسبة دعاء التشميت لها؛ وهو [أن] (¬7) أنواعَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في "ت": "وهذا الوضع أصل في استجلاب المودَّات بحسن المواظبة على الخصوص، وهو تأديب راجع إلى تشميت العاطس". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "وتقديره"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬5) في الأصل: "محاضروهم"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": زيادة: "إياه". (¬7) سقط من "ت".

الحادية والثمانون

البلاءِ والآفاتِ كلَّها مؤاخذاتٌ يؤاخِذُ اللهُ بها عبادَه، وإنما تكون المؤاخَذةُ بالذنوب، فإذا حَصَلَتْ مغفرةٌ، وأدركت العبدَ رحمةٌ من الله تعالى، لم تقعِ المؤاخذةُ، فإذا قيل للعاطس: يرحمك الله، أو يغفر الله لك؛ أي: جعل الله ذلك لك؛ لقدوم السلامة والصحة لك (¬1). الحادية والثمانون: قد يكون فيه أيضًا تنبية للعاطس وتعريضٌ لطلبِه الرحمةَ من الله تعالى بالتوبة من الذنوب، فينبغي أن يستحضرَ ذلك، ويجعل التشميتَ سببًا للتذكير، وتأمّلْ ما دلّ عليه الحديثُ من رد العاطس على المشمت بقوله: "يغفرُ اللهُ لنَا ولكُم" تجدْه مؤكَدًا لهذا المعنى، دالًا على محاسن وضعِ الشريعة ولطائفِ مَقاصدِها. الثانية والثمانون: ليس في الحديث تعرُّضٌ لتشميت العاطس؛ أعني: هذا الحديث، ولكن في غيره ما أرشد إلى حمد الله (¬2) تعالى، كما سيأتي في توقيف التشميت على الحمد، وذكر الإمام الحليْمِيّ في حكمة ذلك: أن معنى حمد لله تعالى عند (¬3) العُطَاس (¬4): دفعُ الأذى (¬5) من الدّماغ الذي فيه قوةُ الذِّكْر والفِكْر، ومنه ¬

_ (¬1) انظر: "المنهاج في شعب الإيمان" للحليمي (3/ 340). (¬2) "ت": "حمد العاطس لله". (¬3) "ت" زيادة: "العطاس أن". (¬4) في الأصل: "العاطس"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "للأذى".

الثالثة والثمانون

منشأُ الأعصاب التي هي معدِنُ الحسِّ والحركةِ، وبسلامتها تكون سلامةُ الأعضاء؛ يعني: والتوصُّل بكل شيء منها إلى ما خُلِقَ له، فإذا تيسَّرَ ذلك، فإنما هو نعمةٌ [من الله] (¬1) جليلة، وفائدة عظيمة، فلا أقلَّ من أن يُعرفَ قدرُها بالحمد لله عز وجل، وفيه مع ذلك اعترافٌ له بالخلق والتدبير، وإضافةُ ما يصدر (¬2) منه إليه، لا إلى الطباع كما يقوله المُلْحِدون، فكان مما تحقق المحافظة عليه بهذا المعنى. الثالثة والثمانون: يُستحبُّ للعاطس إجابةُ المشمّت بدعاء يخاطِبُه به، كما ذكرناه في الحديث السابق، لكنه ليس من مقتضيات هذا الحديث الذي نحن في شرحه، إلا أنهم ذكروا في تعيين ما يجيبه به العاطسُ اختلافًا وترجيحاتٍ ذكروها، وهي لا تختصُّ بجواب العاطسِ للمشمت، بل هي مطَّردة في تشميت العاطس، فينجرُّ [النظرُ] (¬3) بسبب ذلك إلى البحث عنها بالنسبة إلى التشميت، وهل ينتقلُ إلى التشميت ويجري فيه، أم لا؟ فنذكرها، ونذكر ما يَنجرُّ إليه النظرُ بسببها، فنقول: ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "يقدّر". (¬3) سقط من "ت".

[نقل] (¬1) القاضي أبو الوليد بنُ رشد المالكيُّ قاضي الجماعة، عن مالك - رحمه الله تعالى - أنه قال: إن شاء قال العاطسُ في الرد على من يشمّته: "يغفر الله لنا ولكم"، وإن شاء قال: "يهديكم الله ويُصلحُ بالَكُم"، [وهو قول الشافعي؛ أي: ذلك. قال: وقال أصحابُ أبي حنيفة: يقول: "يغفر الله لنا ولكم"، ولا يقول: "يهديكم الله ويصلح بالكم"، (¬2)، ورووا عن [إبراهيم]، (¬3) النخعي أنه قال: "يهديكم الله ويصلح بالكم" قالته الخوارج؛ لأنهم لا يستغفرون للناس (¬4). قال: والصحيحُ ما ذهب إليه مالك، من أنه يَرُدُّ عليه بما شاء من ذلك، فقد (¬5) جاء عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الأمران جميعًا. قال: وقد اختار الطَّحاوي وعبدُ الوهاب وغيرُه: "يهديكم الله ويصلح بالكم"، على قول: "يغفر الله لنا ولكم"؛ لأنَّ المغفرةَ لا تكون إلا عن (¬6) ذنب، والهداية قد تَعْرَى عن الذنوب (¬7). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 302). (¬5) "ت": "إذ قد". (¬6) "ت": "من". (¬7) انظر: "التمهيد" (17/ 332)، و"الاستذكار" كلاهما لابن عبد البر (8/ 482).

[قال] (¬1): والذي نقول به: إنّ قوله: "يغفر الله لنا ولكم" أولى؛ إذْ لا يَسْلَمُ أحدٌ من مواقعة الذنوب، وصاحبُ الذنب يحتاج إلى الغفران؛ لأنه إن هُدي فيما يستقبل، ولم يُغفَر له ما تقدم من ذنوبه، بقيت التَّبِعَةُ عليه فيها، وإن جَمَعَهما جميعًا، فقال: يغفر الله لنا ولكم، ويهديكم الله ويصلح بالكم، كان أحسن وأولى، إلا في الذمِّي إذا عطس وحمد الله، فلا يقال له: يرحمك الله، وإنما يقال: يهديك الله ويصلح بالك؛ لأن اليهودي والنصراني لا تُغفر له السيئاتُ حتى يؤمن (¬2). قلت: هذا الترجيح الذي ذكره لقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم، على قوله: يغفر الله لنا ولكم (¬3)، لا يختصُّ بردِّ العاطس على المشمّت، بل هو مطَّردٌ في المشمّت أيضًا، ولا تتأدَّى [به] (¬4) السنةُ في المشمّت للمسلم، وإنما تتأدَّى به للكافر، فقد يُستدل بإلغاء هذا الترجيح في المشمّت على الغاية في الرادِّ على المشمّت، فإن المعنى عامٌّ فيهما، فإلغاؤه في أحدهما إلغاءٌ له في الآخر. وقد يقول المرجِّحُ: إنما أرجِّحُ حيث دلَّ الدليلُ على جوازِ الأمرين، لا حيثُ لم يدلَّ على جوازهما، بل خصص بلفظ آخر ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 444 - 445). (¬3) وقد تقدم أنه اختيار الطحاوي وعبد الوهاب وغيرهما. (¬4) زيادة من "ت".

الرابعة والثمانون

غيرهما، وهو الرحمة، ولا يخفى ما يرِدُ عليه. وما قاله القاضي أبو الوليد في اختيار الجمع بين اللفظين حسنٌ، ولا يُردُّ في التشميت؛ للتخصيص باللفظ الوارد في الرحمة، والله أعلم. الرابعة والثمانون: الأمر بإيجاد الصفة وإدخالِها في الوجود، يقتضي الأمرَ بالموصوف؛ لاستحالةِ دخولِ الصِّفةِ في الوجود بدون الموصوف (¬1)، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب. وقد يكون الأمر بالصفة على تقدير وجود الموصوف، وقد يحتمل الحالُ الأمرين، كما سيأتي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفشوا السَّلام"، وهل المرادُ إدخالَ إفشاءِ السلام في الوجود، فيكون أمرًا بأصل السلام، أو المرادُ إفشاؤُه على تقدير وجودِه؛ أي: إذا سلَّمتم فليكن فاشيًا؟ في ذلك بحث. الخامسة والثمانون: إذا تقرر هذا، فالأمرُ بإبرارِ القَسَم إذا كان المرادُ به أن يكونَ ذا بِرٍّ لا إثمَ فيه، من باب الأمر بالصفة على تقدير وجود الموصوف؛ أي: إذا حلفتم فلتكن اليمينُ برّةَّ؛ أي: ذاتَ برّ، وليس أمرًا بإيجاد الصِّفة الذي يستلزم الأمرَ بوجود [الموصوفِ] (¬2)؛ لأن اليمينَ لا تكون مَأمورًا بها على الإطْلاق، بل قَدْ نصَّ بعضُ مصنِّفي الشافعيَّة على أنَّ الأيْمانَ مكروهةٌ إلا إذا كانتْ في ¬

_ (¬1) في الأصل "الصفة"، والتصويب من "ت". (¬2) سقط من "ت".

السادسة والثمانون

طاعة، وذَكَر قَولَه - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ لأغزونَّ قريشًا" (¬1) مستدِلًا به على أنَّ اليمين لا تُكْرِهُ على الطَّاعَةِ؛ [كبَيعة الجهاد] (¬2). قال: ويُستثنى أيضًا اليمينُ الواقعةُ في الدَّعاوى إذا كَانتْ صَادِقةً فإنها لا تُكْرِه (¬3). وهذا الذي ذكره في كراهة الأَيْمان على الإطلاق وردَ فيه حديثٌ يخالفُه، ذُكِرَ فيه: "فإنَّ الله يُحب أن يُحْلَف بِه" (¬4)، فإنْ صحَّ، أو كان بمثابةِ ما يَسْتَدِلُ به الفُقهاءُ، لَزِمَ القولُ بخلافه؛ إمَّا في نَفْس الأمر، أو إلْزَامًا لَهُمْ. السَّادسة والثَّمانون: إذا كانتِ اليمينُ على فِعْلِ واجبٍ أو تركِ مُحرَّمٍ، فهي يمينٌ بَرّ [ةٌ] غيرُ محرَّمَةٍ، ونصَّ بعضُ فقهاءِ الشَّافعيَّة على أنَّها طاعةٌ (¬5)، وفيه بحثٌ؛ لأنَّ الطَّاعةَ امتثالُ الأمرِ، فيلزَمُ مِنْ كونِها ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3285)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الاستثناء في اليمين بعد السكوت، وابن حبان في "صحيحه" (4343)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقد رجح الأئمة إرساله. انظر: "الدراية" لابن حجر - (2/ 92 - 93). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "روضهّ الطالبين" للنووي (11/ 20). (¬4) رواه أبو نعيم فى "حلية الأولياء" (7/ 267)، والديلمي في "مسند الفردوس" (333)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وإسناده ضعيف. انظر: "فيض القدير" للمناوي (1/ 200). (¬5) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (11/ 20).

السابعة والثمانون

طاعةً أنْ يكون الأمرُ متوجِّهاً بها قبلَ وقوعِها، وأقلُّ درجاتِ الأمرِ النَّدبُ، فيلزم أن يكونَ الإنسانُ مندوبًا إلى اليمينِ على فعلِ الطاعاتِ وتركِ المحرَّماتِ، وهذا بعيدٌ إذا أُخِذَ على الإطْلاقِ، أمَّا إذا حصلتِ الدَّاعية إلى فِعْلِ ممنوعٍ أو تركِ واجبٍ، ولم تتعيَّنِ اليمينُ طريقاً لأداءِ ما يجبُ منَ التَّركِ أو الفعلِ، بلْ كانتْ مُقَرِّبَةً لفعلِ ما يجبُ وتَرْكِ ما يَحْرُمُ، فحينئذٍ يَصِحُّ القولُ بالنُّدْبِيَّةِ فيها، وإنَّما قلتُ: ولم تتعيَّن؛ لأنَّها لو تعيَّنتْ طريقًا تعيَّنَ الوجوبُ فيها (¬1). السابعة والثَّمانون: إذا حلفَ على فعلِ محظورٍ أو تركِ واجب، فاليمينُ مَعْصيةٌ، وهذا ظاهرٌ؛ لأنّ المختارَ عند جمعٍ من العلماء: أنَّ العزمَ على المعصية ذنبٌ وإثمٌ (¬2)، فكيف يكون الحال في تأكيده بالحلف؟! [وما تقدَّمَ من أنّ الطاعة تقتضي تقدُّمَ الأمرِ، ينبغي أن يُنظر فيه، وهل اقتضاؤها (¬3) للأمر الخاص، أو ما هو أعمُّ من ذلك؟] (¬4). الثامنةُ والثَّمانون: إذا حلفَ على فعل مُستَحَبٍّ؛ كصلاةِ التطوُّع وصدقةِ التَّطُوُّعِ مثلًا، فنفي الكراهة حاصل بما نقلناه فيما تقدَّم، ¬

_ (¬1) في "ت" زيادة: "وهذا الذي ذكرناه من استلزام كونها طاعة أن يكون الأمر متوجهًا بها بعينها، فينظر، وأما استلزامها للأمر بها بعينها أو لما هو أعم منها". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 107). (¬3) في الأصل و "ت": "اقتضاها" والمثبت من "ب". (¬4) سقط من "ت".

التاسعة والثمانون

ولكن النَّظر في كونها مستحبّهً أو طاعةً، وفيه ما قدَّمناه من البحث، وأنّ مقتضى كونِه طاعةً أن يتقدَّمَ الأمرُ بها، ومقتضى ذلك: أنْ يكونَ الإنسانُ مندوبًا إلى أن يحلفَ على فعلِ المستحبَّاتِ [أو ما في] (¬1) معناها، وفي هذا بُعدٌ، إلاّ أنْ يعرضَ ما يقتضي تركَها وتكون اليمين مقرِّبَة لفعلها، فحينئذٍ يتَّجه القولُ باستحبابِ اليمينِ؛ لما فيها من الحثِّ على فعلِ الطاعةِ. التاسعة والثمانون: حَلَفَ على فعلِ مكروهٍ، فاليمينُ مكروهةٌ؛ لأنَّها وسيلةٌ إلى فعلِ المكروهِ، والتوسُّلُ إلى المكروهِ مكروهٌ، وهذا ظاهر. التُّسعون: هذهِ الأقسامُ التي ذكرناها في حُكْمِ الأيمان على تَقْدِيرِ أنْ يُحْمَلَ إبرارُ القَسَمِ على أن يكون ذا بِرّ، فإن تعيَّن (¬2) ذلك، فالطاهرُ أنَّ المرادَ طلبُ أنْ تكونَ اليمينُ حاصلًا فيها البرُّ؛ أي: موجودًا، وقد يراد به: أنّه لا إثمَ فيها، وهو أعمُّ من الأوَّلِ، فإنَّ عَدمَ الإثمِ أعمّ من وجودِ البرِّ. وإذا حملنا الأمرَ على الوجوبِ، فيصيرُ التَّقديرُ: أنَّه يجبُ أن تكونَ اليمين برَّةً؛ أي: طاعةً، فيتعيَّنُ حينئذٍ التّخصيصُ؛ لأنَّ ذلك ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "صحّ".

[إنما] (¬1) يكونُ في اليمينِ على الماضي، فإنَّه يجب أن تكونَ صادقةً، والصِّدقُ واجبٌ، فهي متَّصفةٌ بطاعةٍ واجبةٍ، وأمَّا اليمينُ على المستقبل فلا يتأتَّى فيها ذلك، فإنَّ اليمينَ على المستقبلِ؛ إمَّا على فعلِ واجب أو تركِهِ، أو تركِ محرَّمٍ أو فعلِهِ، أو فعلِ مُستَحَبٍّ أو مكروهٍ، أو تركِ مستحَبٍّ أو مكروهٍ (¬2)، وكلُّ ذلك لا تكونُ اليمين فيه متَّصفةً بطاعةٍ واجبةٍ؛ لأنَّ أعظمَ الدَّرجاتِ أن يكونَ على تركِ محرَّمٍ أو فعلِ واجبٍ (¬3)، ولا تجبُ اليمينُ على شيءٍ منهما عندَ الإطلاق، والمكروهُ لا يتعلَّق به الوجوبُ، وكذلك المستحبُّ لا يتعلق الوجوبُ بفعله، ولا باليمين على فعله، وأمّا وجوب الوفاء عند الحلف على فعلِ الواجب أو تركِ المحرم، فليس مما نحنُ فيه؛ لأنَّا نتكلم على أنه يجب أن تكونَ اليمينُ ذاتَ برّ؛ أي: مشتملة على وجوب، وهذا غير وجوب الوفاء، فاعلمْهُ. أما إذا حملنا كونَها ذاتَ برّ على أنها ليست بمعصية، فلا تخصيصَ؛ لأنهّ لا واحدَ - ولا شيء - من الأيمان إلا ويجب أن لا يكون معصية، وهذا الحمل يكون مجازًا؛ أعني: حملَ كونِها بَرَّة، على أنه لا معصيةَ فيها، إذا كان حملُه على أن يكون طاعةً هو ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "إما على فعل واجب، أو ترك محرم، أو فعله، أو فعل مستحب أو مكروه". (¬3) "ت": "على فعل محرم أو ترك واجب".

الحادية والتسعون

الحقيقة، وهو الأقرب (1). الحادية والتسعون: الحملُ على أنّ المرادَ بكونها برّةً عدَمُ الإثم فيها، مجازٌ لا يلزم فيه التخصيصُ كما ذكرناه، وحملُه على أن يكونَ طاعة، يلزم فيه التخصيصُ على تقدير الحمل على الوجوب كما ذكرناه من أنه يختص باليمين على الماضي، فمن أراد ترجيحَ أحد المَحْمَلين على الآخر، فهذا موضعُ تعارضِ المجاز والتخصيص، وقد قالوا: إنّ التخصيصَ أولى (¬2)، والله أعلم. الثانية والتسعون إلى تمام السابعة: وإذا حملنا إبرارَ القَسَمِ على الوفاء بمقتضى اليمين، وهو الظاهر كما تقدم في المفردات، فما كانت اليمينُ فيه على فعل واجبٌ، فالوفاءُ واجبٌ، والحِنث محرّمٌ، وكذلك ما كان فيه على ترك محرم، وإن كانت على ترك واجب أو فعل محرم، فالوفاء بمقتضى هذه اليمينِ محرّمٌ، وإن كانت على [فعل] (¬3) محبوب، فالوفاء مستحبٌّ والمخالفة مكروهةٌ، وإن حلف على ترك محبوبٍ، فالوفاء مكروهٌ [والإقامة عليها مكروهة] (¬4)، ويستحبُّ أن يحنّثَ نفسَه. ¬

_ ((1) "ت": "الأقوى". (¬2) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (3/ 128). (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الثامنة والتسعون

هذا (¬1) مقتضى ما ذكره الشافعية - رحمهم الله تعالى -، أو من ذكره منهم (¬2)، وهو ظاهر، ويدل على الأخير منه قولُه تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22]. والمرادُ بالنهيِ عن اليمين في الآية: النهيُ عن الوفاء بمقتضاها - والله أعلم - إطلاقًا لاسم الابتداء على الدوام، ويُحتَمل أن يكون النّهيُ على ظاهره متناوِلًا للمستقبل، وإذا تحقق النهيُ [عنه] (¬3) في المستقبل، كان الأمرُ باختيار الحنث لازمًا من لوازم هذا الأمر، والله أعلم. فهذه ستُّ مسائل تنضاف (¬4) على العدد السابق، واعلمْ أن حملَ القَسَم على أن تكون اليمينُ برّةً يحتاج إلى أن تتأمله لتخرِّجَه على القواعدِ النَّحوية. الثامنة والتسعون: حلفَ على مباح؛ كدخول دار، وأكل طعام، ولُبْسِ ثوب، وتَرَك ذلك، فله أن يقيمَ عليه، وله أن يحنّث نفسَه. وأطلق القول في "التهذيب" المالكي فقال في يمين الرجل: والله ¬

_ (¬1) في الأصل: "وهذا"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (11/ 20). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "تنساق".

التاسعة والتسعون

لأفعلنّ، ووالله لا فعلتُ: أنه إن رأى الحنثَ أفضل، حنَّث نفسَه (¬1). وفي الأَولى في صورة الحلف على المباح أوجه للشافعية رحمهم الله: الأول: أن الوفاء أولى؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]؛ لما (¬2) فيه من تعظيم اسم الله تعالى. والثاني: الحنثُ أولى؛ لقوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]، ولينتفعَ المساكينُ بإخراج الكفارة. والثالث: أنه مخيَّرٌ بين الوفاء والحنث ولا ترجيح، كما قيل [في] اليمين (¬3). والذي يقتضيه اللفظُ في الحديث أن يُحمل على كل وفاء، ويخرج عنه ما تعيَّن إخراجُه؛ كاليمين على فعل الممنوع وترك الواجب، وكذلك يخرج منه اليمين على فعل المكروه، ويبقى اليمينُ على فعل المستحب وترك المكروه، وعلى المباح، إلا أن يقومَ دليلٌ خارج عن هذا العموم، فيصار إليه، والله أعلم. التاسعة والتسعون: حلف لا يأكلُ طيبًا ولا يلبسُ ناعمًا، اختلف فيه الشافعية رحمهم الله تعالى: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب المدونة" للبراذعي (1/ 279). (¬2) "ت": "ولِمَا". (¬3) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 129)، و"روضة الطالبين" للنووي (11/ 20).

فقيل: اليمينُ مكروهةٌ، لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وهذا اختيار أبي حامد منهم. وقيل: اليمين طاعةٌ، لاختيارِ السلف خشونةَ العيش، وهذا اختيار أبي الطَّيب. وقيل: يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس وقصودهم وفراغِهم للعبادة، ولتمتعاتهم (¬1) بالضيق والسعة (¬2). وينبني على كونِها مكروهةً استحبابُ الحنثِ وعدمِ الوفاء، وعكسُه على كونِها طاعةً، ويقتضي لفظُ الحديث الوفاءَ، إلا أن المعارض في هذه الصورة قذ يقوى بالتسبب (¬3) إلى ذلك العمومِ. والأصحُّ عندي - مع اعتبار القصد -: أن لا يخرجَ الفعلُ إلى التنطُّعِ والتشديد والتشبُّه بأفعال المترهبين (¬4)، والخروج عن سيرة السلف، وحينئذٍ أقدّمُ المعارضَ في هذه الصورة على العموم لقوته، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "وتمتعاتهم". (¬2) قال النووي: وهذا أصوب، انظر: "روضة الطالبين" له (11/ 20). (¬3) "ت": "بالنسبة". (¬4) "ت": "المترفهّين"، وفي "ب": "المرتهبين".

الموفية المئة

المُوفِيّة (¬1) المئة: قد ذكر في الحديث (¬2): "إبرار المقسم" على ما (¬3) ذكره من الترديد (¬4)، وهو محمول على أن يجعلَ يمينَه بَارّةً؛ أي: لا يحنث (¬5) فيها، وله صور: منها: أن يحلفَ عليه إنسانٌ: ليفعلنَّ كذا، أو لا يفعلنّ كذا، فإبرارُ يمينه أن يوافقَ مقتضاها، ولا يحنثه، وهذا يختلف الحكم فيه بحسب حكم تلك اليمين: فإن كانت يمينًا على فعلِ محرم أو تركِ واجب، فلا شكّ في تحريمِ إبرارِ قسمِهِ. وإن كانت على فعلِ واجب أو تركِ محرم، فلا شكّ في وجوب إبرار قسمه، لا من جهةِ اليمين، بل بأصل الشَّرع. وإن كانت على فعل مستحبٍّ، فالإبرار مستحبٌ، وكذلك على تركِ المكروهِ. وإن كانت على ترك مستحبٍ أو فعلٍ مكروه، فالإبرارُ مكروهٌ، [و] (¬6) هذا ما تقتضيه الأصول المتقدِّمةُ. ¬

_ (¬1) أو فى الشيءُ: تمَّ، وقوله: "الموفية مئة"؛ أي: تمام المئة. (¬2) في الأصل: "حديث"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "وما"، والمثبت من "ت". (¬4) أي: التردُّد بين إبرار القسم وإبرار المقسم. (¬5) في الأصل: "يحنثه"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

وإن كانت على فعل مباح أو تركه، فالأقرب أن يكون الإبرارُ مستحبًا؛ لدخوله تحت اللفظ حيث يقول: إنّ إبرارَ يمينِ المُقْسِم مستحبٌ، فمن مصلحته سلامةُ المقسم عن غرامة كفارة اليمين إذا كان قد بتّ اليمين، و [قد] (¬1) تعارضه مصلحةُ انتفاع المساكين بالكفارة على تقدير عدم الإبرار لقَسَم الحالف، وقد تُقَدَّمُ مصلَحةُ سلامته عن غرامة الكفارة على مصلحةِ انتفاع المساكين بها، كما يَقتضيه ظاهرُ لفظِ الحديث، كما (¬2) ذكرناه. فلك أن تسأل: لِم قُدّمَتْ مصلحةُ سلامةِ الحالف على مصلحة انتفاع المساكين؟ فيمكن أن يقالَ فيه: إن المصلحتين لو تساوتا بحيث لا يظهرُ الترجيحُ بينهما، لكان في جانب المُقْسِم مصلحةٌ أخرى، وهو الإحسان إليه بفعل ما تعلق غرضُه به، وأكّد اليمينَ عليه، وفي تحنيثه إيحاشٌ له ومعاندةٌ في فعل مقصوده، وذلك أمر زائد على إلزامه غرامةَ الكفارة. ووجهٌ ثانٍ: وهو أنّ في إبرار يمينه مع سلامته من غرامته (¬3) الكفارة أمرٌ زائد، وهو تعظيمُ اسمِ الله تعالى بالوفاء بما أكد وجودَه به، فإذا تقابلت مصلحةُ المقسم ومصلحةُ المساكين، ترجح هذا ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "وكما". (¬3) "ت": "غرامة".

الحادية بعد المئة

الجانبُ بهذا الوجه، وهو تعظيم اسم الله تعالى. ووجهٌ ثالث: وهو أن المساكينَ غيرُ معيَّنين، فعلى تقدير إبرار القسم، لا يلحق الضررُ بفرد معين منهم، بل قد لا يُعلَمُ أحدٌ منهم، فتتعلق أطماعُه بالكفارة، وأما تحنيثُ الحالف (¬1) فضررٌ لاحقٌ به بعينه، والضرر الذي لا يتعين من يلحقه أخفُّ من الضررِ الذي يلحق المتعين (¬2)، والله أعلم. الحادية بعد المئة: إبرارُ المقسم أعمُّ من مقسمٍ تلزمُه الكفارةُ بحنثه، ومقسمٍ لا تلزمُه الكفارةُ بحنثه، كالصبيِّ مثلًا؛ فإذا حلف الصبيُّ على غيره: ليفعلنَّ كذا، فهل يستحب أن يُوفِيَ بمقتضى يمينه؟ لا شكَّ أن اسمَ المُقْسِمِ يتناولُه لغةً، [و] (¬3) لكنه قَسَمٌ لا تتعلق به الكفارةُ، وليس يلزم من كونه قسمًا لا تتعلق به الكفارةُ أن لا يكونَ قسمًا، واعتبارُ لزوم الكفارةِ يقتضي أنّ العلةَ في إبرار المُقْسِم صيانتُه عن غُرم الكفارة، فإذا انتفت هذه العلةُ انتفى الأمرُ بإبرار المُقْسِم، لكن ليس في اللفظ إيماءٌ إلى هذا التعليل، ولا تنبيهٌ عليه، وإنما هو مجردُ مناسبةٍ، وهي مُزاحَمَةٌ بغيرها (¬4)، ونحن نذكر ما قلنا من ¬

_ (¬1) "ت: "الحانث". (¬2) "ت": "بالمتعيّن". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "لغيرها".

[الثانية بعد المئة]

مناسبات (¬1) في ذلك: أحدها: سلامةُ المقسم من لزوم الكفارة. والثانية: تعظيمُ اسمِ الله تعالى بموافقة مقتضى اليمين به. والثالثة: الإحسانُ إلى المقسم بموافقة غرضه، ومتابعتِه على مقصودِه، وعدمِ إيحاش نفسه بالمخالفة. فأما الأولى: فمنتفية في حقِّ من لا تلزمه الكفارةُ بالحنث. وأما الثانية: فموجودةٌ في حق من تلزمه الكفارةُ ومن لا تلزمه. وأما الثالثة: فإذا كان الإحسان موجودًا في حقّ من تلزمه الكفارة ومن لا تلزمه، والإحسان أمرٌ مطلوب شرعًا بالنسبة إلى سائر المسلمين، والله يحبُّ المحسنين، واللفظ بعمومه يتناولُ (¬2) الصبيَّ، فلا مانعَ من استحباب الموافقة. الثانية بعد المئة إلى تمام السادسة: [الثانية بعد المئة]: هذا الذي قدَّمناه إذا تحققتِ اليمينُ من المخاطب، وقد يصدرُ منه ما لا يكون مقتضاه اليمين، أو يحتملُ أن لا يكونَ كذلك، فإن (¬3) قال: أُقسم عليك بالله، أو أقسمتُ عليك، أو أسألُك بالله لتفعلنّ، قال أصحابُ الشافعيِّ - رحمة الله عليهم - أو من ¬

_ (¬1) "ت": ونحن نذكر ما يمكن من أسباب". (¬2) في الأصل: "تناول"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "فلو".

[الثالثة بعد المئة]

قال ذلك منهم: إتَّه إِنْ قصدَ به المناشدةَ؛ ليُقرِّبها (¬1) للغرض، لم تكن يمينًا. قلت: وإن لم تكن يمينًا، فلا يبعدُ أن تندرجَ تحتَ إبرارِ المقسم القائل: أقسمتُ عليك، أو أُقسم عليك، حتى يُؤمَر أنْ يوافِقَه المخاطَبُ في مقتضى كلامِهِ. [الثالثة بعد المئة]: قال: وإن قصدَ القائلُ عقدَ اليمين عليه، لم يكن ذلك يمينًا لا في حقِّه ولا في حقِّ القائل؛ أمّا في حقه فلأنَّه لم يوجد منه لفظ ولا قصد، وأمّا في حق القائل فإنَّ (¬2) اللفظ ليس صريحًا في القسم، وهو قصدَ اليمينَ على غيره لا على نفسه. [الرابعة بعد المئة]: قال: وإن قصدَ عقدَ اليمين على نفسِهِ كان يمينًا كأنه قال: أسألُك، ثم حَلَف أنَّه يفعل، والإنسان قد يحلف على فعلِ نفسِهِ، وقد يحلف على فعلِ غيرِه. قال الرافعيُّ رحمه الله: وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ وجهٌ عن ابن أبي هريرةَ رحمهم الله: أن (¬3) لا يكون يمينًا وإن قصده، وهو بعيد (¬4). [الخامسة بعد المئة]: قال: قال في "التهذيب": ويُستحبّ ¬

_ (¬1) "ت": "لقربها". (¬2) "ت": "فلأن". (¬3) "ت": "أنه". (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (11/ 4).

[السادسة بعد المئة]

للمخاطَبِ إبرارُه في قسمه (¬1)، لما روي عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -: أنَّ النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بسبعٍ؛ قلت: وذكر في الحديث: "إبرار المقسم"، من غيرِ تردُّدٍ وقال: "ونصرُ المظلومِ من الظَّالمِ". قلت: اندراجُه تحتَ الحديثِ بعد صحة كونه مقسمًا لا إشكالَ فيه. [السادسة بعد المئة]: قال الرافعيُّ: وإن أطلقَ ولم يقصد شيئاً فهو محمول على المناشدة (¬2). السابعة بعد المئة: الرواية التي أوردناها في الأصل فيها تردُّدٌ كما قدمناه بين إبرار القَسَم وإبرارِ المُقْسِم، فإنْ كان الواقعُ إبرارَ القسم: فهو متناولٌ لليمين التي يقسم بها الحالف، ولليمين التي يحلِفُ عليه بها، وكلاهما داخلٌ تحتَ اللفظِ، ولا مانعَ من الحمل عليهما. وإن كان الواقعُ إبرارَ المقسم: فهو متناولٌ لليمين التي يُقسم بها الغيرُ على الإنسان، ولا يتناول يمينَ الحالفِ نفسه إلا على بُعْدِ بَعيد، ووجهُ تناولِه: أنَّ التقدير: إبرارُ يمين المقسم، والحالفُ مقسمٌ. ¬

_ (¬1) قال النووي بعد أن أورد هذا الكلام: قلت: يسن إبرار المقسم، كما ذكر؛ للحديث الصحيح فيه، وهذا إذا لم يكن في الإبرار مفسدة، بأن تضمن ارتكاب محرم أو مكروه. انظر: "روضة الطالبين" له (11/ 4). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الثامنة بعد المئة

الثامنة بعد المئة: نذرُ اللَّجاجِ والغضبِ، وهو ما يُقصَدُ به حثٌّ على فعلِ أو منعِ منه، فيه عند الشافعية - رحمهم الله - أقوالٌ: وجوبُ الوفاء بما التزم، وكفارةُ يمين، والتخييرُ بينهما (¬1)، ومذهب مالك هو الأول (¬2). وهذا القدر قد يطلق عليه يمين اللَّجاج، والغضب، ويمين الغَلَق، فقد يجري هذا الإطلاقُ على ظاهره، ويُستدلُّ على وجوب الوفاء بالحديث المذكور، وهذا لا يصحُّ؛ لأن إطلاقَ اليمين عليه مجاز من مجاز التشبيه؛ لأنَّ هذا النذرَ يشبهُ اليمينَ من حيث إنَّ مقصودَه الحثُّ أو المنعُ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كفّارةُ النَّذر كفَّارةُ اليمين" (¬3)، أو "كفارةُ نذرٍ كفارةُ يمينٍ" (¬4)، لا يلزمُ منه أن يكونَ يمينًا، وإنما فيه تنزيلُهُ منزلةَ اليمينِ في الكفارة. ¬

_ (¬1) الأصح عندهم: التخيير بين ما التزم وكفارة اليمين. انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (8/ 350 - 351). (¬2) انظر: "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (3/ 229). (¬3) رواه مسلم (1645)، كتاب: النذر، باب: في كفارة النذر، من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. (¬4) رواه أبو داود (3290)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، والنسائي (3835)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كفارة النذر، والترمذي (1524)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نذر في معصية، وابن ماجه (2125)، كتاب: الكفارات، باب: النذر في معصية، من حديث عائشة رضي الله عنها، بلفظ: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة اليمين".

التاسعة بعد المئة

وإنما ذكرنا هذا دفعًا لِمَا عَسَاه [أن] (¬1) يقعَ [من] (¬2) الغَلَطِ، فقد سقط بعضُ المشهورين في مثل هذا من عَلُ، فاعتقد فيمن جعل على نفسِهِ المشيَ إلى مكة، أو فيمن حنثَ فيها: أنه لا يلزمُه [شيء] (¬3)؛ للدليل الدال على منع اليمين بغير الله تعالى، وكأنه أوقعه في ذلك إطلاقُ الفقهاءِ قولَهم: إذا حلف بالمشي إلى مكة، وهذا مجازٌ منهم؛ فأما جعلُهُ على نفسه المشيَ إلى مكة فنذرٌ، وإن علَّقه بشيء فهو تعليق لا يمين، وأمّا اليمين التي لا تلزم، [فأن] (¬4) يقول: والمشي إلى مكة لا فعلتُ، أو لأفعلنًّ، فهذا لا يلزمه شيءٌ للدليل المذكور. التاسعة بعد المئة: إذا أردنَا أن نجعلَ إبرارَ القسم متناولًا لجعله ذا برٍّ وللوفاء بمقتضاه معًا، فهو من حملِ اللفظ على معنيين مختلفين، وإن أمكنَ أن يُجعلَ لقدرٍ مشتركٍ ينطلق عليهما، خرجَ عن ذلك. العاشرة بعد المئة: نصرُ المظلوم من باب إنكار المنكر، وهو من فروض الكفايات كما مرَّ فى التقاسيم التي أوردناها، وقد تكررتِ الأحاديثُ وكثرت؛ أعني: في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا خلافَ في الوجوب، وهو من فروض الكفايات؛ لأنَّ المقصودَ زوالُ المفسدة، وذلك يتأدَّى بفعل البعض. الحادية عشرة بعد المئة: إذا ثبت أنّه فرضُ كفاية، فهل دخلة تخصيصٌ بالنسبة إلى المخاطَبِين؟ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "أن".

الثانية عشرة بعد المئة

هذا يُبتنى [على] (¬1) أن فرض الكفاية على بعضٍ منهم، أو على الجميع، ويسقط بفعل البعض؛ فعلى القولِ الأول: يلزم التخصيصُ لدلالة اللفظ -[الذي هو "أمرنا"] (¬2) - على التعميم، وعلى القول الثاني: لا يلزم، والله أعلم. الثانية عشرة بعد المئة: لا يشترط في مُنكِر المُنْكَر أن يكون عَدْلًا، حتى يجب على متعاطي الكأس أن يوجِّهَ الإنكارَ إلى الجُلًاس؛ لأن النَّهيَ عن المنكر واجبٌ، وتركَ ارتكاب المحرم واجبٌ، والإخلال بأحد الواجبين لا يمنعُ من وجوب الفعلِ الآخر. ونُقل عن بعضهم: أنه ليس للعاصي أن يأمرَ بالمعروف وينهى عن المنكر استدلالاً بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، ذكره في مَعْرِضِ الذنب، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]. وربما شنَّع على القائلين بما ذكرناه، بأنه يلزم عليه أنَّ الزاني بالمرأة ينكر عليها كشفَ وجهها (¬3). وجوابُه: أن الجمع بين الأمر بالبرِّ ونسيانِ النفس، وردَ لبيان زيادة القُبْح وتعظيم ما ارتكبوه، لا أنه يشترط في الإنكار عدمَ نسيانِ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 312 - 313).

الثالثة عشرة بعد المئة

الأنفس، وأما التشنيعُ بالصورة المذكورة فيلزمه (¬1) للدليل المذكور. إذا ثَبَت هذا، فهل يُؤخذ هذا الحكمُ من الحديث؟ فيه نظرٌ، تُقدَّم عليه مسألة (¬2) نذكرها الآن. الثالثة عشرة بعد المئة: في قاعدة الخطاب مع الموجودين في زمن النّبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يتناول مَنْ بعدَهم إلا بدليل منفصلٍ، هكذا عبّر بعضُ الأصوليين عن هذه المسألة (¬3)، وذكر بعضُهم أخصَّ من هذه العبارة، وفَرَضَ المسألةَ في نحو: ({يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، والمنسوبُ إلى الحنابلة التعميمُ (¬4). وقال بعض المتأخرين: مسمَّيات الألفاظ لها حالتان: تارةً تكون محكومًا بها نحو: زيدٌ قائمٌ، أو مخاطبةً بخطاب المواجهة نحو: يا زيد ويا عمرو. وتارةً تكون متعلق الحكم، نحو: اصحبِ العلماءَ. فالمسميّات في الحالة الأولى يجب أن تكون موجودةً حالةَ ¬

_ (¬1) "ت": "فنلتزمه". (¬2) "ت": "ينبني على مسألة". وكتب في الهامش: "تقدم عليه مسألة" ورمز عندها بحرف الخاء، إشارة إلى أنها في نسخة أخرى كذا. (¬3) انظر: "المحصول" للرازي (2/ 634). (¬4) انظر: "الإحكام" للآمدي (2/ 294).

الحكمِ والخطابِ، فإنَّ القضاءَ بالحقيقة (¬1) في الخارج فرعُ وجودها، [وكذلك التكلم معها ونداؤها] (¬2). وفي الحالة الثانية: لا تجبُ أن تكونَ موجودة في الخارج، بل اللفظُ حقيقةٌ فيما وُجِدَ وسيُوجد منها، كقول الوالد لولده: اصحبِ العلماءَ، لا فرق فيه بين من كان عالمًا قبل الخطاب ومن سيصير عالمًا بعد ذلك، وكذلك: اقطعوا السارق، وحُدُّوا الزُّناة، واقتلوا المشركين، والله تعالى أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) "ت" ": "القضايا الحقيقية". (¬2) سقط من "ت". (¬3) نقل هذه القاعدة والكلام عنها عن المؤلف: الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 251) وذكر أنه قال ذلك في كتابه الآخر: "شرح العنوان". قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص: 223) بعد أن نقل كلام المؤلف في "شرح العنوان" عن خطاب المواجهة وهو قوله: "الخلاف في أن خطاب المشافهة هل يشمل غير المخاطبين، قليلُ الفائدة، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند التحقيق؛ لأنه إما أن ينظر إلى مدلول اللفظ لغة، ولا شك أنه لا يتناول غير المخاطبين، وإما أن يقال إن الحكم يقصر على المخاطبين، إلا أن يدلَّ دليل على العموم في تلك المسألة بعينها، وهذا باطل؛ لما علم قطعًا من الشريعة أن الأحكام عامة إلا حيث يرد التخصيص، انتهى. قال الشوكاني: وبالجملة فلا فائدة لنقل ما احتج به المختلفون في هذه المسألة؛ لأنا نقطع بأن الخطاب الشفاهي إنما يتوجه إلى الموجودين وإن لم يتناولهم الخطاب، فلهم حكم الموجودين في التكليف بتلك الأحكام حيث كان الخطاب مطلقًا، ولم يرد ما يدل على تخصيصهم بالموجودين".

الرابعة عشرة بعد المئة

الرابعة عشرة بعد المئة: [هل يترتب على هذه القاعدة حكمٌ في] (¬1) قول البراء - رضي الله عنه -: أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ، ونهانا عن سبعٍ؟ هل يقتضي أن [يكون] (¬2) ذلك الأمرُ خطابَ مواجهةٍ (¬3) حتى ينبنيَ على هذه المسألة السابقةِ ويدخلَ تحتَها؟ قد يسبق إلى الفهم ذلك، [و] (¬4) لكنه غيرُ متعيِّنٍ له؛ لأنه يصحُّ أن يُقالَ: أمرنا، بطريق خطاب المواجهة، وأن يكون (¬5) الصادر من النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمرًا يتناولهم لا بطريق خطاب المواجهة. فلو قال قائل - بسبب سَبق الفهم الذي قدمناه -: إنْ بنينا على أنَّ خطابَ المواجهة [لا] يخصُّ المخاطَبين إلا بدليلٍ من خارج، والخطابُ هاهنا مع الموجودين من الصحابة، فلا يتناولُ غيرَهم، على ما عُرِفَ عند الأصوليين من عدالة جميعهم، ولا يكون اللفظُ متناولًا لمن ليس بعدل بطريق العموم، وإن بنينا على العموم أمكنَ ذلك؛ لأنَّ الخطاب على هذا التقدير يتناولُ العدلَ وغيرَه، ويحتاج على المذهب الأول في تناوله غير العدل إلى دليل منفصل يقتضي دخولَ غيرِ المخاطبين ممن لا يتَّصفُ بوصفهم، وهو العدالة، أو دليلٍ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "بخطاب المواجهة". (¬4) سقط من "ت". (¬5) أي: ويصح أن يكون.

الخامسة عشرة بعد المئة

يقتضي أنَّ وصفَ العدالة في هذا الخطاب غيرُ معتبر، وحينئذ يعمّ؛ لوجوب الاستواء في الأحكام بين المخاطبين وغيرِهم اتفاقًا. فهذا إن قاله قائل بعد وجود دليل يدل على أن الأمر بطريق المخاطبة، فهو متوجِّهٌ أو قريبٌ، وفيه بحث (¬1). الخامسة عشرة بعد المئة: اشترطَ بعضُهم في الإنكار بالوعظ عدمَ الفسق بالنسبة إلى [من] (¬2) يُعرف فِسقُه؛ لأنه لا يتَّعظ، فأما الحِسْبةُ العامةُ فلا يُشرَط فيها ذلك (¬3). السادسة عشرة بعد المئة: عمومُ الخطاب بالنسبة للمكلفين (¬4) يدلُّ على عدم الافتقار إلى إذن الإمام في ذلك، وإلا خرج عن العموم من لم ياذن له الإمامُ، ونُقل عن الروافض - أو بعضِهم - المخالفةُ في هذا، وأنه لا يجوزُ إلا بإذن الإمام العدلِ؛ أي: لا يجوز الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر إلا بإذنه أو نائبه (¬5)، [وهو باطلٌ ¬

_ (¬1) "ت": "فهو قريب أو متوجه، وفيه بحث تقدم". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 313). (¬4) "ت": "إلى المكلفين". (¬5) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 315) قال الغزالي رحمه الله: وهؤلاء أخسُّ رتبة من أن يكلَّموا، بل جوابهم أن يقال لهم إذا جاؤوا إلى القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم: إن نصرتكم أمر بالمعروف واستخراج حقوقكم من أيدي من ظلمكم نهي عن المنكر، وطلبكم لحقكم من جملة المعروف، وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق؛ لأن الإمام الحقَّ لم يخرج بعدُ.

السابعة عشرة بعد المئة

بالعمومات والظواهر] (¬1). السابعة عشرة بعد المئة: لم يشترطوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحريَّةَ، وأثبتوا ذلك للعبد، وإن توهم فيه معنى الولاية فقد أُلغي، وجُعلت هذه الولايةُ مُستفادةَ (¬2) بالإيمان. الثامنة عشرة بعد المئة: وكذلك الذُّكورةُ لم يشترطوها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام المانعِ. وكلتا (¬3) المسألتين لابدَّ أن يُعتبر في آحاد صورها ما يمكن أن يمنع فيهما. التاسعة عشرة بعد المئة: ولا البلوغ في الجواز حتى قيل: إنَّ الصبيَّ المراهق للبلوغ المميِّز، وإن لم يكن مأمورًا، فله إنكارُ المُنْكَر، وله أن يُرِيقَ الخمرَ ويكسرَ الملاهي، وإذا فعل ذلك نال به ثوابًا، ولم يكن لأحد منعُه من حيث إنه ليس بمكلف، فإن هذه قُربةٌ، وهو من أهلها، والإثابة بها (¬4) وبسائر القربات، وليس حكمُه حكمَ الولايات (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "تستفاد"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "وكلا". (¬4) "ت": "فيها". (¬5) انظر: شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 312) وما بعدها.

العشرون بعد المئة

العشرون بعد المئة: يتحقَّقُ الفرقُ بين نصرة المظلوم وبين إيصال الحقِّ إلى مستحقه، فإنِّ الأول يكون أخصَّ من الثاني، فكل ما حصل نصرُ المظلوم بإيصال الحق إلى مستحقه، فقد حصل إيصالُ الحق إلى مستحقه، وليس كلما وصل الحق إلى مستحقه، تحصلُ نصرةُ المظلوم؛ لأن وجوبَ إيصالِ الحق إلى مستحقه أعمُّ من وجوبه بسبب الظلم، وهذا موجود في جانب الرفع والدفع معًا؛ أمّا في جانب الرَّفع فكلُّ حق وجَبَ لإنسان على آخرَ لا بسبب الظلم كالقَرْضِ مثلًا، فإيصالُ الحقّ إلى مستحقه (¬1) واجبٌ، ولا ظلمَ في القرض إلا أن يكون مَطْلٌ محرَّم، فيدخل تحتَ الحديثِ. وأمّا في جانب الدفع فكما إذا رأى بهيمةً تصُولُ على مال مسلم أو نفسِهِ، فيجب دفعُها ومنعُ الضرر أن يصلَ إليه، وهو غير (¬2) مظلوم، إذ لا يتَّصفُ فعلُ البهيمة بالظلم، وبهذا (¬3) يظهر لك الفرقُ بين ما يندرجُ تحتَ الحديثِ من إيصال الحقوق إلى مستحقيها، وما لا يندرج، وعماد نصرِ المظلوم تحققُ الظلم من الفاعل، وذلك بتحريم الفعلِ عليه، وقد يكون الكفُّ كالفعل، والله أعلم. الحادية والعشرون بعد المئة: دلَّ الحديثُ على وجوب نصر المظلوم، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المستحق إلى حقه"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "ولا" بدل "وهو غير". (¬3) في الأصل: "لهذا"، والمثبت من "ت".

ولا يُسْلِمُهُ" (¬1)، فكما (¬2) أوجب نصرةَ المظلوم منعَ من إسلام الأخ، فينبغي أن يُنظر في كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر؛ هل هو بالمساواة أو بالعموم والخصوص؟ وبذلك نستفيد ما يمكن أن يُؤخذَ من كل واحد [منهما] (¬3)، أو من أحدِهما دونَ الآخر. فنقول: نصرُ المظلوم أخصُّ من عدمِ إسلام الأخ؛ لأنه متى نصره مظلومًا لم يُسْلمه، وليس إذا لم يُسْلمه يجب أن يكونَ نَصَرَه مظلومًا؛ لأنَّ نَصْرَهُ مظلومًا ينتفي تارةً بانتفاء نُصرته مع كونه مظلومًا، وتارةً بانتفاء كونه مظلومًا؛ لأنه إذا انتفى كونُه مظلومًا انتفت نصرتُه مظلومًا قطعًا، فحينئذٍ يجتمع عدمُ إسلامه مع عدم نصرته مظلومًا، فليس كلما لم يُسْلِمْهُ يكون ناصرًا له مظلومًا. وقد بيَّنا أنه كلما كان ناصرًا له مظلومًا فلم يسلمه، ومثال اجتماع كونه لم يسلمه مع عدم نصرته مظلومًا: ما إذا رآه في مَخْمَصَةٍ تُهلكه جوعًا أو عطشًا، أو أشرف على مَهْلكة من غَرَقٍ أو حرقٍ أو نحوه، فإذا تركه حتى هلك فقد أسلمه إلى الهلاك، وإذا أنقذهُ صَدَقَ عليه [أنه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6551)، كتاب: الإكراه، باب: يمين الرجل لصاحبه: إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، ومسلم (2580)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) "ت": "فكل ما". (¬3) زيادة من "ت".

الثانية والعشرون بعد المئة

لم يسلمه، وصدق عليه] (¬1) أيضًا أنه لم ينصرْهُ مظلومًا؛ لأنَّ شرطَ نصرته له مظلومًا أن يكون مظلومًا، وهذا ليس بمظلوم. الثانية والعشرون بعد المئة: يسبق إلى الفهم التغايرُ بين الظالم والمظلوم، ولكنَّ مانعَ الحق الواجب عليه لغيره ظالم لنفسه، وإيفاؤه الحقَّ نصرةٌ للمظلوم على نفسه، ونصرةُ المظلوم أعمُّ من نصرِه غيرَه ومن [نصره] (¬2) نفسَهُ، وليس يمتنع الاستدلالُ بهذا النص على هذا الحكم؛ لأجل قيام الدليل على وجوب إيصال الحق إلى مستحقه؛ لأن الدلائلَ قد تتعاضدُ على شيء واحد، إلا أنَّ الأظهرَ أن المرادُ هو الأولُ. الثالثة والعشرون بعد المئة: دونَ هذا من المرتبة (¬3)، أخذُ الإنسان حقَّه الذي ظُلم فيه بنفسه؛ لأنه حينئذٍ يتَّحد الناصرُ والمنصورُ، بخلاف المسألة قبلَها؛ لأن النّاصرَ غيرُ المنصور ثَمَّ، وهذا كاستيفاء السيِّدِ حقَّه الذي ظُلِمه من عبده بخروجه عن الطاعة، وكَرَدِّ الزوج زوجتَه الناشزةَ عن الطاعة بنفسه، وغيرِ ذلك، وأما إلزام الحكَّامِ الظالمَ بالطاعةِ وإيفاءِ الحقِّ، فلا شك أنه نصرةٌ للمظلوم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "في الرتبة".

الرابعة والعشرون بعد المئة

الرابعة والعشرون بعد المئة: دون هذا في المرتبة (¬1)، امتناعُ الإنسان من تسليم ما طُلب منه ظلمًا إذا قدِرَ على ذلك، فإنه ليس بفعل، فيقرُبُ من لفظ النصر، وهذا يظهر له فائدةٌ، كبيرة في بعض المسائل: [مثاله] (¬2): أسيرُ العدوِّ إذا فادَوه على أن يعودَ إليهم بفدائه، فعند الشافعيّ: يحرم العَوْدُ ولا يجب المال، وقيل: يلزمه العود أو المالُ على قول قديم لا يُعدُّ من المذهب (¬3). أما المالكية ففي كتاب ابن حبيب: قال مُطَرِّف وابن الماجشون في أسيرٍ مسلمٍ بيد العدو، فأطلقوه على أنْ يأتيَهم بفِدَائه، فله أن يبعثَ بالمال إليهم، ولا يرجع هو، فإن لم يجد الفداء فعليه أن يرجع، فأما إنْ عُوهد على أن يبعثَ إليهم بالمال فلم يجدْه، فهذا يجتهد فيه أبدًا، وليس عليه أنْ يرجعَ، وقاله أَصْبَغ (¬4). ومن كتاب سُحْنُون (¬5): قال عطاء والأوزاعي فيمن أسرَتْه الدَّيلمُ فأطلقوه بشرط أن يبعثَ إليهم بفداء؛ فإن لم يقدر فليرجع إليهم، فلم ¬

_ (¬1) "ت": "الرتبة". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 243)، و"روضة الطالبين" للنووي (10/ 282). (¬4) نقله النفراوي في "الفواكه الدواني" (1/ 399). (¬5) "ت": "ابن سحنون".

يقدر، لا يرجع إليهم (¬1)، ولكن على المسلمين أن يُفْدُوه (¬2). وقال سفيان: لا يرجع إليهم. قال سُحنون: ومن أصحابنا من قال: لا يرجع، ويسعى في فدائه، ومنهم من يقول: يرجع، وقاله أشهب. قال سحنون: وإنه لحسن، وربما تبين لي القولَ الآخر (¬3). وأما الحنابلة فقال بعضُ مصنِّفيهم: وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالًا، وإن عَجَز عنه عاد إليهم، لَزِمَهُ الوفاءُ، إلا أن تكون امرأةٌ فلا ترجع إليهم (¬4). وقال الخِرَقِيّ: لا يرجع الرجل أيضًا [إليهم] (¬5) (¬6). فقد وُجِدَ الخلافُ في رجوعه إليهم، فلو أراد مَن منع الرجوع أن يقول: رجوعُه ودفعُ [المال] (¬7) إليهم ظلمٌ، فامتناعُه من ذلك نصرٌ للمظلوم الذي هو نفسُه، فيدخلُ تحتَ الحديث، لَبَعُدَ ذلك، وإنما ¬

_ (¬1) أي: اشترطوا عليه الرجوع إنْ لم يقدر على الفداء، فله أن لا يرجع إليهم إن لم يقدر على الفداء. (¬2) "ت": "فداؤه"، والأثر: رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (32854)، عن عطاء. (¬3) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (1/ 363). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 253). (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "مختصر الخرقي" (ص: 132). (¬7) زيادة من "ت".

الخامسة والعشرون بعد المئة

ينبغي أن يؤخذَ حكمُ هذه المسألة من دليل آخرَ، فمن منعَ الرجوع ولم يوجب المالَ أخذَ بالقياس، وذلك أنّ ما اشترطوه عليهم فلا يجبُ الوفاءُ به في المال، ولا يجوز العَودُ (¬1)؛ لوجوب الهجرة من أرض العدو ومنعِ دخولها على وجه الإذلال للمسلم. وأما من ألزم الرجوعَ ودَفْعَ المالِ فله مأخذان: أحدهما: الدلائل الدالة على الوفاء بالعهدِ ومنعِ الخيانة. والثاني: المصلحة العامة في أنَّ العودَ وإرسالَ المالِ يوجبُ وثوقَهم بالمسلم وعقدِه وعهدِه، وذلك سببٌ لتيسير إنقاذ الأَسرى بدخولهم إلى بلاد الإسلام، وسعيهم بأنفسهم في خلاص مُهجتهم (¬2)، وهذه مصلحةٌ كبيرةٌ قويةٌ في باب إرسال المال. وأما في العَودِ بالنفس، فلا يبعُدُ أنْ يُنظرَ فيه إلى المَذَلَّة (¬3) اللاحقة به بعد العود إليهم، وتُوازَنُ بهذه المصلحة التي ذكرناها، والله أعلم. والمقصودُ من هذه المسائلِ بيانُ ما ينبغي أن يدخلَ تحت نَصرِ المظلومِ ورُتَبِهِ، وما يمكنُ أن يُستدلَّ به من ذلك أو يَبعُدَ، والله أعلم. الخامسة والعشرون بعد المئة: في مرتبة أخرى أبعدَ، وذلك ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا العود"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "مهجهم". (¬3) "ت": "المفسدة".

السادسة والعشرون بعد المئة

أن الإنسانَ ظالمٌ لنفسه بالمعصية، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]، {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، فردُّهُ نفسَه عن العمل بدواعي المعصية إلى إجابة داعي الشرع نصرٌ لها، وأُمرِنا بنصر المظلوم، فهذا يمكن أن يقال، إلا أنه يبعد أن يكونَ هو المرادُ من لفظ الحديث. السادسة والعشرون بعد المئة: قد صحَّ في الحديث: "اُنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، فيل: نَصرتُهُ (¬1) مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تمنعُهُ من الظلمِ، فذلك نصرُك إيَّاه" (¬2). والأمرُ بنصرِ المظلوم لاشكَّ في أن المرادَ به نصرُه مما ظُلم فيه، فلا يتأدَّى الفرضُ إلا به، وإن كان اللفظ لا يقتضي هذا التخصيصَ بوضعه، ولكنه معلوم ضرورةً، فلو لم ينصرْه فيما ظُلِم فيه، ونَصرَهُ بوجوه أُخرَ لم يتأدَّ الفرضُ (¬3)، وهذا مما يحلل (¬4) عُقَدَ الظاهريةِ الجامدة، ويحقق اتباع ما يفهم من مقصود الكلام. ¬

_ (¬1) "ت": "قال أنصره". (¬2) رواه البخاري (6552)، كتاب: الإكراه، باب: يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، من حديث أنس - رضي الله عنه -، وفيه: "فقال رجل يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا، كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره". (¬3) في "الأصل": "ونصره بوجوده أجزى، ولو لم يتأدَّ الفرض"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "ويحل".

السابعة والعشرون بعد المئة

السابعة والعشرون بعد المئة: لا يحصل الامتثالُ إلا بما يسمى نصرًا، والنصرةُ على مراتبَ، فما أدّى إلى ارتفاع الضرر وزوال المفسدة فلا شك في الاكتفاء به، كإزالة المنكر باليد. والإنكار أيضًا باللسان نصرةٌ يُكتفى بها إذا عُجز عن الأولى، على ما جاء في الحديث الصحيح من رواية أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه -: "من رأى منكمْ مُنْكَرًا فليغيِّرْهُ بيده، فإن لم يستطعْ فبلسانِهِ، فإن لم يستطعْ فبقلبِهِ، وذلك أضعفُ الإيمانِ" (¬1). أما إذا حصل العجزُ عن الإنكار باللسان أيضًا، أو قام ما يُسقِطُ وجوبَه، فقد دلَّ الحديثُ المذكورُ أيضًا (¬2) على وجوب الإنكار بالقلب، وعلى إطلاق التغيير عليه؛ لأنه قسم التغييرَ إلى تغييرٍ باليد، وتغييرٍ باللسان، وتغيير بالقلب، فاسمُ التغيير منطلق على الجميع، فهل يكون نصرةً كما يكون تغييرًا؟ الأقرب أنه لا ينطلق عليه اسمُ النصرة، فلا يكون هذا الحديث متناولًا له، ويُؤخَذ وجوبُه من حديث أبي سعيد المذكور، وعلى هذا يُحتاج إلى النظر في السبب الذي لأجله سُمِّيَ تغييرًا ولم يسمَّ نصرةً. [ويمكن أن يكون سببُ تسميتِه تغييرًا: من جهة أنَّ النفسَ تدعو إلى عدم التغيير؛ إما للميل إلى الشَّهوات، أو لأن التغييرَ سببٌ لإثارة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (49)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان. (¬2) "ت": "آنفًا".

النفوس والخصومات، فإذا أنكر بقلبه كان مغيرًا لحالة نفسه من الرضا بالمنكر أو الميلِ إلى عدم الإنكار إلى ضدِّ ذلك، فكان تغييرًا من وجه. وأما عدم تسميته نصرة؛ فلعدم تأثُّر فاعلِ المنكَرِ بالنسبة إلى الظاهر، وبالنسبة إلى المعنى أيضًا، فإنه لا أثر لتغيير قلبه بالنسبة إلى فاعل المنكر] (¬1). واعلمْ أنه يمكن أن يُردَّ إلى معنى النصرة، لكنْ بتأويل غامضٍ، فيه بُعدٌ عمّا يتبادَرُ الذهنُ إليه من النصرة، [ووجهه: أنه إذا لم ينكر بقلبه، فقد عَدِمَ إنكارَ المنكرِ من سائر الوجوه، وذلك سببٌ لعموم العذاب، فإذا أنكر بقلبه عند العجز عن غيره، فقد وُجد إنكارُ المنكر من وجه، فقد ينتفي السببُ الموجبُ لعموم العذاب، فينتفي العذابُ، فيكون نصرةً من هذا الوجه] (¬2). فإن قلت: فإذا سلَّمْتُ أن الإنكار باللسِان نصرةٌ، فينبغي أن يحصُلَ الاكتفاءُ به، وإن قدر على الإنكار باليد. قلت: إن سلمتَ أنَّ التاركَ لإزالةِ المفسدة بيده مع القدرةِ على ذلك - إذا أنكر باللسان - يسمى ناصرًا، أخذتُ الترتيبَ من حديث ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

الثامنة والعشرون بعد المئة

أبي سعيد الخُدَري، وأخذتُ الاكتفاءَ بالإنكار باللسان في محله من هذا الحديث، ومن حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. الثامنة والعشرون بعد المئة: النُّصرة من الظُّلم تارةً تكونُ قبل وقوعِه، وتارةً تكون حالَ وقوعه، وتارة تكون بعدَ وقوعه. أما النصرة قبلَ الوقوع، فمثل ما إذا رأى ظالمًا يطالِبُ إنسانًا بماله ظُلْمًا، وقد أَعَدَّ له آلةَ التعذيب على ذلك، فَنُصرتُه بالرفع (¬1) لهذه المفسدة، أن يقع نصُره قبلَ الوقوع. وأما النصرة مع الوقوع، فمثل أن يراه قد باشر عقوبتَه فيمنَعه (¬2). وأما النصرة بعد الوقوع، فمثاله: أن يظلمَهُ بأخذ مالٍ أو قذفِ عرضٍ، ويكون أخذُه للمال قد انقضى، فنصرته بإلزامه إيفاءَ حقه وإقامة الحدِّ على قاذفه، وكلُّ هذه واجباتٌ. وقد ذكر بعضهم في شرط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن يغلب على ظنِّ الآمر أو الناهي أن المعروفَ لا يُفْعَل، وأن المنكرَ يقَعُ، قال: نحو أن يراه لا يتهيأ للصلاة وقد ضاق وقتُها، أو يُهيئُ آلاتِ شربِ الخمر. وهذا الذي ذكره إنما هو في أحد الأقسام التي قدمتها، وهو ما يسبق (¬3). ¬

_ (¬1) "ت": "بالدفع". (¬2) "ت": "فيدفعه". (¬3) "ت" زيادة: "جميع أقسام الظلم".

التاسعة والعشرون بعد المئة

التاسعة والعشرون بعد المئة: المظلومُ إسمٌ مشتقٌّ من الظلم، واسم الفاعل والمفعول المشتق إذا صادف حالَ قيامِ المشتق منه: حقيقةٌ، وقبل قيام المشتق منه: مجازٌ، وبعد قيام المشتق منه وانقضائه: فيه خلافٌ؛ هل هو مجاز أو حقيقة؟ وقد رُجِّحَ كونُه مجاز [اً]. فإن قلت: فقد ذكرتَ أنَّ النصرةَ من الظلم تارةً تكون قبل وقوعه، وقبلَ وقوع الظلمِ ليس بمظلوم حقيقةً على ما ذكرت، فلا يكون دفعُ الظلم عنه نصرةً للمظلوم حقيقةً؛ لأن نصرةَ المظلوم حقيقةً متوقفةٌ (¬1) على كونه مظلومًا حقيقةً بالضرورة، وإذا كانت (¬2) نصرتُه إياه مجازًا، فالأصل عدمُ المجاز. قلت (¬3): هذا سؤال أُوْرِد في هذه المسألة، فقيل: هذه الأزمنة، الماضي والحال والمستقبل إنما هي بحسب زمن إطلاق اللفظ المشتق، فعلى هذا يكون قولُه تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ¬

_ (¬1) "ت": "تتوقّف". (¬2) في الأصل: "كان"، والمثبت من "ت". (¬3) في "ت": "قلت: هذا الذي حكيناه من الانقسام إلى الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى الأوقات، إنما هو راجع إلى اللفظ الذي يطلق في أحد هذه الأوقات، ويحكم يه على ذات بوقوع المشتق منه بها، وذلك بأن يقال: فلان ظالم أو سارق، فيختلف بحسب أوقات هذا القول بالنسبة إلى الماضي والحال والمستقبل، أما إذا لم يقع الحكم في وقت بإنصاف الذات بالمشتق منه نظرًا إلى الأوقات، فلا، والإلزام على هذا أن يكون قوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ... الخ

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]، ونظائرها، مجازاتٍ باعتبار من اتَّصف بهذه الصفات في زماننا؛ لأنهم في المستقبل باعتبار زمنِ الخطاب عند النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا التقدير تَسقط الاستدلالاتُ بنصوص الكتاب والسنة، فإنّ للخصم في كل صورة يدل عليها نصّ أن يقولَ: الأصلُ عدمُ التجوُّزِ إلى هذه الصورة، فيفتقرُ كلُّ دليلٍ (¬1) إلى دليل يدل على إرادة المجاز، وهذا خلافُ ما عليه الأمةُ. وأجيب عنه: بأنّ (¬2) المشتقَّ قسمان: أحدهما: محكوم به، وهو المراد بقولنا (¬3): زيدٌ مشركٌ، أو سارقٌ، أو زانٍ. والثاني: مُتَعلَّقُ الحكم، وهذا ليس هو المراد هاهنا، بل هو حقيقة مطلقا، فمن اتصف به في الماضي والحال والمستقبل تعلَّق به الحكم. والله - سبحانه وتعالى - في تلك الآياتِ لم يحكمْ بشركِ أحد ولا زِناهُ ولا سرقتِهِ، وكذلك نظائرُها، وإنما حكم بالقطع والرجم والقتل، والموصوفون بتلك الصفات هم متعلَّقُ هذه الأحكامِ. ¬

_ (¬1) "ت": "صورة". (¬2) "ت": "وتحرير هذا أن ". (¬3) "ت": "وهو المراد في هذه المسألة، وهو المراد بقوله".

الثلاثون بعد المئة

فعلى هذا: المظلومُ متعلق الحكمِ؛ أي: متعلق وجوب النصرة، لا محكوم (¬1) به؛ أي: لم يحكم على أحد بأنه مظلوم، فيصدق حقيقةً [في] (¬2) مَن اتَّصف به، [لكن اندراج هذا الحكم قبل الاتصاف بكونه مظلومًا يجب الأمر بنصر المظلوم السابق، وادعاء تناوله له بطريق المجاز، فحينئذٍ لابدَّ من دليل يدل على الحمل على هذا المجاز] (¬3)، [واعلم أن هذا الجواب الذي حكيناه منقولٌ نقلًا لطيفًا طريفًا من بعض العلوم] (¬4). ومما يدلُّ على ثبوت هذا الحكم - أعني: وجوبَ دفعِ الظلم عند تهيُّؤ وقوعه - قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "المُسْلِمُ أخو المسلمِ لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ" (¬5)، فكيف ما كان فالحكم ثابت؛ إما بطريق وجوب النصرة، أو بطريق وجوب عدم إسلام الأخ المسلم. الثلاثون بعد المئة (¬6): النصرة التي تتعلق بالظلم الماضي هو بالحمل على الإيفاء الشرعي على حسب مَا يوجبُ الشرعُ من غُرمٍ أو حدٍّ أو غيرِهما، فإذا أسقطه المستحقُ الذي مضى الظلمُ له، فقد ¬

_ (¬1) "ت": "محكومًا". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) سقط من "ت" ذكر رقم الفائدة، وجاء الكلام في هذه الفائدة موصولًا قبلها، وقد أثبت الرقم موافقًا لتسلسل أرقام الفوائد.

الحادية والثلاثون بعد المئة

سقطتِ النصرة، فتنقطع دلالة هذا الحديث على ذلك، ومن لم يسقط حدَّ القذف بعفو المقذوف بعد بلوغ الإمام، فيجب أن يكون عنده دليلٌ (¬1) آخرُ، والله أعلم. الحادية والثلاثون بعد المئة: إذا ثبت للابنِ على أبيه حَقٌّ بطريقٍ من طرق الثبوت، فأراد حبسَه به، فقد اختلفوا في ذلك، والقولُ بحبسه نصر للمظلوم (¬2) إذا كان الأب ظالمًا بترك الوفاء، فيجب عملًا بالحديث، والذين أبَوا ذلك عارضوه بقاعدةِ وجوبِ البرّ. ولك أن تجعلَ هذا الدليلَ مع تلك الدلائلِ الدَّالة على وجوب البرّ من باب تعارُضِ العمومَين من وجه دون وجه؛ لأن وجوب نصرة المظلوم عامٌّ بالنسبة إلى الوالد (¬3) وغيرِه، ووجوب بر الوالد عام بالنسبة إلى ترك حبسه وغيره، فيحتاج إلى الترجيح، وقد ترجَّح العملُ بهذا الحديث، فإنَّ تحقُّقَ (¬4) الظلمِ مُتَصَوَّرٌ مضبوطٌ، وتحقيقُ ما يجب من البرّ ومقدارِه غيرُ منضبطٍ كانضباط هذا. وأيضًا فالأب إما أن يلزمه بوجه من وجوه الإلزام التي تحثُّ على الوفاءِ دفعًا للضرر به (¬5)، أو لا. ¬

_ (¬1) "ت": "الدليل". (¬2) "ت": "نصرة المظلوم". (¬3) "ت": "الولد". (¬4) "ت": "تحقيق". (¬5) "ت": "الضرر ما يلزم به".

الثانية والثلاثون بعد المئة

فإنْ أُلزمَ كالملازمة له والتَّرْسِيم، فهو حقيقةُ الحبس ومعناه، وربما تعيَّنَ (¬1) الحبسُ طريقًا، إنْ لم يُفِدْ غيرُه. وإن لم يلزم بوجه من الوجوه ضاع الحقُّ، وتُرِكَ نصرُ المظلوم بالكلية، وهذا بعيدٌ من قواعد الشرع. نعم ينبغي أن يتفاوتَ الحالُ في إلزام الولد له بين ما يفعل معه، وبين ما يفعل مع الأجانب؛ لمراعاة قاعدة البرّ، وهذه المسألة مفرَّعةٌ على المذهب المشهور في أنه ليس للأب أن يأخذَ من مال ابنه إلا فقدارَ ما يجب عليه من الإنفاق، والله أعلم. الثانية والثلاثون بعد المئة: التَّسَبُّبُ إلى النصرة - إذا توقفت النصرةُ عليه - نصرٌ للمظلوم، فيدخلُ تحت ذلك إبداءُ العالم والمفتي الحكمَ الشرعيَّ الذي يحصل به نصرُ المظلوم، وهو من الواجبات عليه بشرطه، ويترتبُ عليه أنَّ كلَّ مظلومٍ نَصَرَهُ بقوله، فإنَّ ثوابَ النُّصرةِ له (¬2)، وهذا فضلٌ عظيم ومَنْقبةٌ عاليةٌ للعلماء، لاسيما الذين أسسوا القواعدَ من المُدَد المديدة والسنين (¬3) العديدة، ويقابلُه الخطرُ العظيمُ فيه على تقدير الخطأ، وكثيرًا ما رأيتهم يستهينون في هذا بقولهم: الواجبُ في ذلك بَذْلُ الجهد، والخطأ بعد بذل الجهدِ معفوٌّ ¬

_ (¬1) "ت": "يتعين". (¬2) "ت": "أن كل مظلوم نَصَر بقوله، فله ثواب النصر". (¬3) "ت": "والمِئين".

الثالثة والثلاثون بعد المئة

عنه، وهذا صحيح، ولكنّ الشأن في بذل الجهد، فيهاهنا تُسكَبُ العَبَرات. وللتقصير أسبابٌ كثيرة، وبعضها قد يخفى، ومن أسبابها: سرعةُ المبادرة إلى الفتوى قبل التأمُّل فيما لعله يَحتاج إلى التأمل. وكذلك السرعة في الجواب قبل تأمُّلِ معنى الاستفتاء، والنظرِ في ألفاظه وما يحتمله. وهذا الذي ذكرناه من الثواب إنما يكونُ للمصيب، والمخطئُ الباذلُ للجهد معذورٌ مأجورٌ على اجتهاده لا غير، وكذلك من نظر واجتهد، ولم يتبيَّن له الحكم. الثالثة والثلاثون بعد المئة: استدلوا على أنّ القضاءَ من فروض الكفايات (¬1) بالدلائل الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرُ المظلوم داخلٌ [تحت] (¬2) هذه القاعدة، فالدليل على وجوبه دليلٌ على وجوب القضاء. الرابعة والثلاثون بعد المئة: وهو في الدلالة على وجوب الإمامة الكبرى أقوى (¬3). ¬

_ (¬1) "ت": "الكفاية". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) جاء على هامش "ت": "سقطت الرابعة والثلاثون بعد المئة، فلينظر". قلت: هي الفائدة المشار إليها بالرقم "الثلاثون بعد المئة"، وقد تقدم التنبيه على ذلك.

الخامسة والثلاثون بعد المئة

الخامسة والثلاثون بعد المئة: كلُّ حقٍّ وجبَ على الإنسان بسبب ظليم تعلَّقَ به، فحملُ الظالم على الخروج من ذلك الحق نصرةٌ للمظلوم، ويدخل تحته من تصرفات الحكام والولاة ما لا يحصى عددُه من أفراد المسائل، ونحن نذكر بعضَها، إن شاء الله تعالى. وليس يخفى عليكَ إذا نظرت إلى تصرفاتِ الفقهاءِ فيما ذكروه من الأحكام، أنَّ بعضَ ما حكموا به استندوا فيه إلى قاعدة كليةٍ معلومةٍ عندهم، فلو سُئِلَ بعضُهم عن دليل خاص يرجع إلى نص، لم يستحضره، والذين لا يرجعون [إلا] (¬1) إلى النصوص (¬2) قد لا يستحضرون اندراجَ المسألة المعينة تحت نص معين، فإنَّ استحضارَ كلّ ما ينبغي كما ينبغي ليس من قدرةِ غير المعصوم من البشر، فإذن ذِكْرُ بعضِ ما ذكرناه، فيه فائدةُ التنبيه على هذا الاندراج. وفيه أيضًا من الفائدة: أن بعضَه قد يقع فيه خلاف، فيتنبه له؛ لينظر في سبب الخلاف. وفيه أيضًا: أنه قد يحتاج إلى إثبات كونه ظلمًا، فيتنبه لذلك؛ ليدلَّ عليه. وفيه: أنه قد يقومُ في بعضه مانعٌ، أو يُتَوهَّمُ قيامُ مانعٍ، فيتنبه عليه. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "المنصوص"، والمثبت من "ت".

[السادسة والثلاثون بعد المئة]

السادسة والثلاثون بعد المئة إلى تمام المئتين: [السادسة والثلاثون بعد المئة]: الدفنُ في الأرض المغصوبة ظلمٌ، وإخراج الميِّت منها نُصرةٌ للمالك. [السابعة والثلاثون بعد المئة]: الممتنعُ من إخراج الزكاة ظالمٌ للمساكين، فإلزامُه إياه - ولو بالقتال إذا تعيَّنَ طريقًا - نصرةٌ لهم. [الثامنة والثلاثون بعد المئة]: المفرِّطُ في إخراج الزكاة حتى يموتَ ظالمٌ، فإخراجها (¬1) من تَرِكَتِهِ نُصرةٌ للمساكين. [التاسعة والثلاثون بعد المئة]: استيلاءُ الكافر على المسلم بإذلاله بالملك له ظلم، وإزالةُ ملكِه عنه إذا أسلم نصرةٌ. [الأربعون بعد المئة]: ومن هذا القَبيل: ما إذا شرطَ جاريةُ من قلعة لكافر، فأسلمت قبل الفتح، فيُعطى قيمتَها لهذا المأخذ. [الحادية والأربعون بعد المئة]: التّدليسُ بالعيب على المشتري ظلمٌ، فإيفاء (¬2) حقه بردِّ رأس ماله عليه؛ إما باسترداد الثمن أو بالأرش في محلهما نصرةٌ. وأمّا عند عدم التدليس، فلا يدخل في هذا الباب. [الثانية والأربعون بعد المئة]: التفريقُ في البيع بين الأمِّ والولد ¬

_ (¬1) في الأصل: "فإخراجه"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "فإيتاء".

الثالثة والأربعون بعد المئة

[ظلمٌ] (¬1) لها، أو له، أو لهما، ورفع هذا الظلم نصرةٌ. [الثالثة والأربعون بعد المئة]: من (¬2) امتنع من قبض حقه إذا بُذِل له، حيث يجب عليه القَبول ظُلمٌ، وإلزامُه بقبضِه نصرةٌ. [الرابعة والأربعون بعد المئة]: فإنْ لم يفعلْ، فقد يندرِج (¬3) قبضُ الحاكمِ عنه تحتَ اللفظِ. [الخامسة والأربعون بعد المئة]: مَنْ وَجَبَ عليه حقٌّ مالي فامتنع من أدائه، فبيعُ الحاكم لإيفاء الحق [من هذا القَبيل] (¬4)، نصرٌ (¬5) للمالك. [السادسة والأربعون بعد المئة]: إذا امتنع الشَّريكُ من العَمَارة لغير عذر، حتى يشهد إضراراً لشريكه فهو ظلمٌ، وكذلك تعطيلَه المنفعةَ بغير (¬6) غَرَضٍ سوى الضرر. [السابعة والأربعون بعد المئة]: تبرعاتُ المفلس بعد الحَجْر إتلافٌ؛ لتعلقِ حقِّ الغرماء، فهو (¬7) ظلم، فردُّها نصرةٌ. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "وأما تعيين من"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "يدرج". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "نصرة". (¬6) "ت": "لغير". (¬7) "ت": "فهي".

الثامنة والأربعون بعد المئة

[الثامنة والأربعون بعد المئة]: [من أحاط] (¬1) الدينُ بماله - وإن لم يُحْجَرْ عليه - فتبرعاتُه فيها إذْهابُ حقِّ الغرماء، فَمَنْ يردُّها أدرجه تحت اللفظ؛ لأنه مساوٍ لما بعد الحجر في معنى المنع من إتلاف أموال الغرماء من غير فرق، وتوقيف ذلك على أمر آخر، وهو حجر الحاكم، يحتاج إلى دليل على اعتبار هذا الوصف الزائد. [التاسعة والأربعون بعد المئة]: مخالفةُ الوكيلِ في الشراءِ أو البيعِ من هذا القَبيل، فردُّ تصرفِه نصرةٌ. [الخمسون بعد المئة]: الشافعيُّ - رحمة الله عليه - يوجِبُ ضمانَ المغصوبة بأقصى القِيَم من حينِ الغصب إلى حينِ التَّلَفِ (¬2)، فحبسُ العينِ في تلك المدة على المالك عن ملكه تفويت لمَا زاد من القيمة عليه، وهو ظلمٌ، فإلزامُه بما زاد من القيمةِ بعد الغصب نصرةٌ، فله أن يستدل بالحديث. [الحادية والخمسون بعد المئة]: الحيلولةُ بين المالك وملكِه بغير وجه (¬3) شرعي ظلم، فمن يقولُ بإيجاب القيمة بالحيلولة فقد يُدرِجُه تحتَ اللفظِ. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 368)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (9/ 352). (¬3) "ت": "عوض".

الثانية والخمسون بعد المئة

[الثانية والخمسون بعد المئة]: المسابقةُ على الخيل جائزة (¬1)، وبعثُها إلى غايةٍ لا تحتمِلُها ظلم. [الثالثة والخمسون بعد المئة]: إزالةُ ما يُحْدِثُه الغاصبُ في الأرض المغصوبة من بناءٍ وغراسٍ، من هذا القبيل. [الرابعة والخمسون بعد المئة]: من وجبَ عليه أداءُ أمانة فأخَّره من غير عذر، فهو ظلمٌ، وإلزامُه الأداءَ نصرةٌ. [الخامسة والخمسون بعد المئة]: ومن ذلك ضمانُ الحيلولة إذا خرج المغصوبُ عن يد الغاصب. [السادسة والخمسون بعد المئة]: وضمان الحيلولة إذا أقرَّ بِعَيْنٍ لزيد، ثم أقرّ بها لعمرو، عند من يوجب غرمَ القيمة لعمرو (¬2)، للحيلولة بين المالك وملكِه بسبب الإقرار الأول. [السابعة والخمسون بعد المئة]: وضمانُ الحيلولة إذا أحبلَ جاريةً الأجنبيّ بالشّبهة مادامت حاملًا على مذهب من يراه (¬3). [الثامنة والخمسون بعد المئة]: وضمانُ الحيلولةِ إذا وَطِئَ ¬

_ (¬1) قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة؛ لما في ذلك من التدريب على الحرب. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 72). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (10/ 347). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 156).

التاسعة والخمسون بعد المئة

الأبُ جاريةً ابنهِ وأحبَلَها عند من لا يرى بنفوذ الاستيلاد (¬1)، ويمنع بيعَها مادامت حاملًا. [التاسعة والخمسون بعد المئة]: تضمينُ المستأجر إذا تعدَّى. [الستون بعد المئة]: والمؤدب إذا تعدَّى، والصانعُ كذلك. [الحادية والستون بعد المئة]: وإحبال الأب جارية ابنه من هذا القبيل. [الثانية والستون بعد المئة]: العدلُ بين الزوجات في القَسْم واجبٌ، وتركه ظلمٌ، وإلزامُه العدلَ نصرةٌ. [الثالثة والستون بعد المئة]: وأما استيفاؤه حق نفسه، فقد تكلمنا عليه. [الرابعة والستون بعد المئة]: عَضْلُ الوليِّ المرأةَ بعد طلبها النكاحَ لكفءٍ (¬2) ظلمٌ، فتزويجُ الحاكمِ نصرةٌ. [الخامسة والستون بعد المئة]: التغريرُ بالعيب في النكاح محرَّمٌ مع العلم بالعيب، فإذا تعلَّقَ به ضررٌ بغرامة المَغْرورِ بشيء فقد ظلم، وإثباتُ الرجوع على الغَاز بما غَرِمَ حيثُ يقالُ به نصرةٌ، وذلك كالتغرير بالحرية. [السادسة والستون بعد المئة]: وفاسخ النكاح بالعيب المقارن ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" للغزالي (6/ 444). (¬2) في الأصل: "الكفؤ"، والمثبت من "ت".

السابعة والستون بعد المئة

للعقد سبيله غرم المهر، ومن لا يوجب الرجوعَ في مثل ذلك فلِمُعَارِضٍ. [السابعة والستون بعد المئة]: المغرور بحرية الأمة إذا عَلِقَتْ (¬1) منه قبل معرفته بالرقِّ، فالولد حرُّ، وعليه قيمتُهُ باعتبار يومِ الولادة، وَيرجعُ بها على الغارّ. [الثامنة والستون بعد المئة]: ونقل بعضُ مصنّفي الشَّافعيةِ الإجماعَ؛ أعني: في الرجوع (¬2)، والتزامُ الرجوعِ عليه لارتكابه الظلمَ بالغرور المؤدِّي إلى الإضرار بالواطئِ (¬3) نصرةٌ للمظلوم. [التاسعة والستون بعد المئة]: إذا وَطئ الأبُ جاريةً الابنِ وأحبَلَها، فالظاهر من الأقوال عند الشافعية (¬4) رحمهم الله: ثبوتُ الاستيلاد، فتلزمُه قيمتُها، وفي قيمة الولد وجهان. وإن لم يثبتِ الاستيلادُ لزِمَه قيمةُ الولد، إن انفصل حيًا باعتبار قيمته (¬5) يومَ الانفصالِ (¬6)، فهذه المسائلُ تتبع (¬7) ظلمه بالوطء المحرَّمِ ¬

_ (¬1) عَلِقَت المرأةُ: حبلتْ. انظر "القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 1276)، (مادة: علق). (¬2) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (12/ 312 - 313). (¬3) في الأصل: "بالوطء للمظلوم"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "الشافعي". (¬5) في الأصل: "قيمة"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "الوسيط" للغزالى (5/ 188). (¬7) "ت": "يمنع".

السبعون بعد المئة

الموجبِ للإضرار بالغير، فالتغريمُ نصرةٌ. [السبعون بعد المئة]: وأما لزومُ قيمةِ الولد في غير مسألة الأب حيث لا يكون الوطء محرمًا، فليس من هذا القبيل. [الحادية والسبعون بعد المئة]: الإكراهُ على الطلاق والعتاق وسائر ما [لا] (¬1) يلزم المُكْرَهَ ظلمٌ، فمن يرفع حكمَه يُدْرِجُه تحت اللفظ. [الثانية والسبعون بعد المئة]: إذا امتنع المُولي بعد المدَّة من الطلاق أو الفيئة، فنصرةُ المرأة بإلزام فُراقِها منه نصرةٌ. [الثالثة والسبعون بعد المئة]: حبسُ نفقات الحيوان ظلمٌ، فالتزام (¬2) ذلك الإيفاء بذلك الحقِّ نصرةٌ لها. [الرابعة والسبعون بعد المئة]: إقامةُ الإمام جلَّادًا كافرًا يستوفي الحدودَ من المسلمين تسليطٌ للكافر على المسلم، يُمنع منه لذلك (¬3)، ويكون ظلمًا، والمنعُ منه نصرةٌ. [الخامسة والسبعون بعد المئة]: استعانة الإمام بالكفار (¬4) على قتال البُغَاة، تسليطٌ للكافر على المسلم، وقد مُنع، وهو ظلم. [السادسة والسبعون بعد المئة]: التعدّي في استيفاء القصاص ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "فإلزام"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "ذلك"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "بالكافر".

السابعة والسبعون بعد المئة

فوق القدر المستحق مما يوجب لحوقَ ضررٍ زائدٍ بالمقتصِّ منه، كقتله بسيف مسموم مثلًا، ظلمٌ. [السابعة والسبعون بعد المئة]: توكيلُ من لا يُحْسِنُ استيفاءَ القَصاصِ تسبب إلى إضرار (¬1) غيرِ مستحق. [الثامنة والسبعون بعد المئة]: كل جَناية على الأطراف ظلمٌ، فإيجابُ القصاص نصرةٌ. [التاسعة والسبعون بعد المئة]: وأما إيجابه على الأنفس بالقتل، ففي دخولها تحت هذا المعنى نظرٌ، فليتأمَّلْ. [الثمانون بعد المئة]: حفرُ البئرِ في مَحلِّ العُدْوانِ حيثُ يَحرُمُ ذلك ظلمٌ. [الحادية والثمانون بعد المئة]: ويدخل تحته من إيجاب الضمان مسائلُ. [الثانية والثمانون بعد المئة]: الأسباب الموجبة للتعزير لحقِّ الآدمي، بإقامة التعزير نصرةٌ للمظلوم، فيجب عند طلبه، فلا (¬2) يدخل تحت ما نحن فيه التعزيرُ لحقِّ الله تعالى. [الثالثة والثمانون بعد المئة]: المرتدُّ تلزمه غرامةُ (¬3) ما أتلَفَ في ¬

_ (¬1) في الأصل: "الإضرار"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "ولا". (¬3) "ت": "غرم".

الرابعة والثمانون بعد المئة

حالا ردَّته إذا أسلم عند الشافعية رحمهم الله (¬1)، فيندرج تحت نصرةِ المظلوم، وكان أبى ذلك فلمعارض (¬2). [الرابعة والثمانون بعد المئة]: [أخذُ] (¬3) الباغي مالَ العادل، والعادلِ مالًا الباغي ظلمٌ؛ لأنَّ البغيَ لا يُبيح المال. [الخامسة والثمانون بعد المئة]: إذا وقعت الخصومةُ بين مسلمٍ وذمي، فحكمُ الحاكم بينهما رفع لظلم الظالم منهما، فيجب. [السادسة والثمانون بعد المئة]: شرط الشافعية للبغاة شروطًا لا يثبتون حكمَ البغي إلا بها (¬4)، فإذا اختلّت بعض تلك الشروطِ أوجبوا الضمانَ بالأتلاف؛ لكونه ظلمًا، إلا أن هذا لا يتمُّ إلا بعد إثبات تلك الشروط بأدلتها (¬5). [السابعة والثمانون بعد المئة] قتالُ البغاة قتالٌ لدفع المفسدة مع قيام المانع، وهو الإسلام، فنشأ من هذا اعتبار الفقهاء لكيفيات في قتالهم (¬6)، فالخروج عنها ظلم، وإلزامُ ما يترتب عليها نصرةٌ للمظلوم. ¬

_ (¬1) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 224). (¬2) في الأصل: "ومن أبى ذلك فللمعارض أسباب"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) فقالوا: يعتبر فيهم ثلاثة شروط: الشوكة، والتأويل , ونصب إمام فيما بينهم، انظر: "الوسيط" للغزالي (6/ 415). (¬5) في الأصل: "بدليله"، والمثبت من "ت". (¬6) منها: ألا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يغنم لهم مالٌ، =

الثامنة والثمانون بعد المئة

ويدخل تحت هذا مسائل (¬1): [الثامنة والثمانون بعد المئة]: قتالُ الإمام مع البُغاةِ قد يدخل في نصرة المظلوم، وسيأتي ما يشير إليه النظر فيه، [واستخلاص الحقوق فيه ما هو] (¬2). [التّاسعة والثمانون بعد المئة]: أعوان الحاكم في تنفيذ أحكامه نصرة للمظلومين، وإقامتهم (¬3) فرضٌ إذا تعيَّنت. [التسعون بعد المئة]: حاكمان حضرا مجلسَ حكميهما، فاختلف مذهباهُما في قتلِ إنسانٍ مثلًا؛ كالزنديق بعد إسلامه، فمبادرةُ من يعتقد عصمتَه بالإسلام إلى الحكم بعصمته، قبل أن يحكمَ مخالفُه بقتله، دفعٌ للظلم عنده، فهو نصرة. [الحادية والتسعون بعد المئة]: [إقامة الشهادة على الظالمين بالإنكار، يدخل تحت نصرة المظلوم] (¬4). [الثانية والتسعون بعد المئة]: إعلامُ الشَّاهدِ بشهادته لمستحق ¬

_ = ولا تسبى لهم ذرية، وغير ذلك. انظر: "الوسيط" للغزالي (6/ 421)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 6). (¬1) في الأصل: "المسائل"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "فإقامتهم". (¬4) سقط من "ت".

الثالثة والتسعون بعد المئة

الحق إذا لم يكن عالمًا بأنه يشهد له عندما ينكر المدعى عليه، نصرةٌ للمظلوم، فيجب. [الثالثة والتسعون بعد المئة]: وكذلك شهادة الحِسْبة فيما يتعلق بحق الآدمي عند الحاكم. [الرابعة والتسعون بعد المئة]: كلُّ حق [الآدمي] (¬1) وجب تقديمُه، فتأخيرُهُ ظلمٌ، وكذا عكسُهُ. [الخامسة والتسعون بعد المئة]: المظلوم أعمُّ من كونه آدميًّا أو غيرَه، فتحميل الدَّابةِ ما لا تحمِلُه ظلمٌ. [السادسة والتسعون بعد المئة]: للشارع أحكام في ذبح الحيوان المأكول، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قتلتُمْ فأحسنُوا القِتْلة، وإذا ذبحتُم فأحسنُوا الذِّبْحة، وليحدَّ أحدُكُمْ شفرتَهُ، ولْيُرِحْ ذبيحتَهُ" (¬2)، فكلُّ خروجٍ عن تلك الأحكام ظلمٌ. [السابعة والتسعون بعد المئة]: الحيوان الذي لا يؤكل، ولا ضرر فيه، ولم يؤمر بقتله، الأقربُ تحريمُ قتله، والرافعي - رحمه الله - في كتاب "الحج" قسم الحيوان الذي ليس أصله (¬3) مأكولاً على أضرُب: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه مسلم (1955)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، من حديث شداد بن أوس - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "قسم الحيوانات التي ليس أصلها".

الثامنة والتسعون بعد المئة

منها: ما يستحب قتلُها للمُحْرِم وغيره، وهي المؤذيات بطبعها نحو الفواسقُ الخمسُ. ومنها: الحيوانات التي فيها منفعة ومضرة، كالفهد والصَّقر والبَازِي، فلا يستحبُ قتلُها؛ لِمَا يُتوقعُ من المنفعة، ولا يكره؛ لما يخاف من المضرة. ومنها: التي لا يظهر فيها منفعة ولا مضرة، كالخنافس والجُعلان والسَّرطان والرَّخمةُ (¬1) والكلب الذي ليس بعقور، فيكره قتلها (¬2). فجعل هذا من قبيل المكروه لا غير. [الثامنة والتسعون بعد المئة]: قتل الكافر للمسلم ظلم، فلو تبارز مسلم وكافر، وأراد الكافرُ قتلَه بعد إثخانه (¬3) مُنِعَ منه. [التاسعة والتسعون بعد المئة]: ولو شرط الكفَّ عنه إلى حينِ القتلِ فالشرطُ باطلٌ، نصَّ على معناه بعضُ مصنفي الشافعية (¬4). [الموفية مئتين]: الغيبة ظلم للمغتاب، فالردُّ لها، والقيام بِنَصرِه، نصرةٌ للمظلوم. ¬

_ (¬1) الرَّخمُ: طائرٌ معروف، واحدُه: الرَّخمةُ. انظر "القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 1436)، (مادة: رخم). (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (7/ 488 - 489). (¬3) في الأصل: "إيجافه"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 237).

الأولى بعد المئتين

الأولى بعد المئتين: من أعظم نصرةُ المظلومين فِكاكُ الأسرى (¬1) المسلمين من أيدي العدو؛ إما بالجهاد أو بالفداء، وقد أَعْظَمَ العلماءُ ذلك، وإنه لعظيمٌ. فعند الشافعية وجه: أنه كدخول الكفار بلاد الإسلام (¬2)، فعلى هذا يصيرُ الجهادُ فرضَ عين، ويجبُ النَّفيرُ العام، وينحلُّ حَجْر السادة على الأرقاء، على الوجه الذي فُصِّلَ في مسألة نزول الكفار بلاد الإسلام. وروى أَشْهَبُ عن مالك أنه قال: ويجب على المسلمين فِداءُ أُساراهم بما قدروا عليه، كما يجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم. وقال أَصْبَغ، عن أشهب، عن مالك: وإن لم يقدروا إلا على فدائه بكل ما يملكون، فذلك عليهم (¬3). الثانية بعد المئتين: قتال الكافر للمسلم ظلم، فإذا تبارز كافر ومسلم فخيف على المسلم، فهل يُعان؟ اختلفوا فيه؛ فأجاز الشافعيةُ - رحمهم الله - قتلَ الكافر إذا لم يكن شرطَ الكفَّ عنه (¬4). ¬

_ (¬1) " ت": "أسرى". (¬2) انظر: "الوسيط" للغزالى (7/ 89). (¬3) وانظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 102). (¬4) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 237).

الثالثة بعد المئتين

وأمّا المالكية فاختلف قولُ سُحْنُون: إذا بارز مشركاً فخيف عليه، هل يُعان؛ فقال: لا يُعانُ، وقال: لا بأس أن يُعانَ (¬1)، ولا يقتل الكافر؛ لأن مبارزته كالعهد أن لا يقتلَه إلا واحدٌ. وذكره (¬2) ابنُ حبيب أيضًا الخلافَ، وقال (¬3): لا بأس أن يُعضد إذا خِيْفَ عليه الغلبة، وقيل: لا يُعْضَد؛ لأنه لم يُوفِ بالشَّرطِ. قال: ولا يعجبنا (¬4)؛ لأن العِلْج إذا أَسرَهُ فحقٌّ علينا أن نستنقذَهُ إذا قدرنا (¬5) (¬6). وقد ضرب شيبة رِجْل عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب في المبارزة فقطعها (¬7)، فكرَّ عليه حمزةُ وعليٌّ فاستنقذاه من يده (¬8). الثالثة بعد المئتين: إذا بارزَ المسلمُ الكافرَ، وشرَطَ الكافرُ الكفَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يعين"، والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "ويذكر"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "فقال". (¬4) في النسخ الثلاث: "يثخنا"، والتصويب من المصادر الآتية. (¬5) في الأصل: "قدر"، والتصويب من "ت". (¬6) انظر: "الإكليل" لابن المواق (3/ 359)، و"حاشية الدسوقي" (2/ 184)، و"منح الجليل" للشيخ عُلَيش (3/ 167). (¬7) "ت": "وقطعها". (¬8) رواه الحاكم في "المستدرك" (4882)، وصححه، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 276)، وغيرهما من حديث علي - صلى الله عليه وسلم -.

الرابعة بعد المئتين

عنه إلى انفصال القتال، فأثُخِنَ المسلمُ، فقد انقضى القتال، فيُمنع منه، هذا مقتضى كلامِ بعضِ مصنفي الشافعية رحمهم الله (¬1). الرابعة بعد المئتين: قال سُحْنُون: ولو أنَّ ثلاثة أو (¬2) أربعة بارزوا مثلَهم، جاز معونةُ بعضِهم بعضًا، مثل أن يفرُغَ أحدُهم من صاحبه من الكفار، فلا بأس أن يعينَ أصحابَه، ودليلُه: ما ذُكِرَ في مبارزة الثلاثةِ [الثلاثةَ] (¬3) يوم بدر (¬4). الخامسة بعد المئتين: المماثَلةُ التي يعتبرها مالك والشافعي - رضي الله عنهما - في القصاص، وكيفيَّته (¬5) أن يُفعَل في الجاني ما فَعل بالمَجني عليه (¬6)، ويخالفهم فيها أبو حنيفة - رضي الله عنه - فلا يرى القَوَدَ إلا بالسيف (¬7)، ويمكن (¬8) أن يستدِلَّ بالحديث على رعايتها بأن يقال: الألمُ الحاصل ببعض (¬9) تلك الصفات فوقَ الألمِ الحاصل ¬

_ (¬1) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 237). (¬2) "ت": "و". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "الوسيط" للغزالي (6/ 311)، و"القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 227). (¬5) في الأصل و"ب": "وكيفية"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 322). (¬7) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 161). (¬8) في الأصل "هل"، والتصويب من "ت". (¬9) "ت": "لبعض".

السادسة بعد المئتين

[بالقود بالسيف، فما أنزله القاتلُ بالمقتول من الألم الزائد ظلمٌ للمقتول، فإذا أنزل به ما يقابله في جرأته فقد نصر فيه] (¬1). والمخالف إمّا أن يَمنعَ عدمَ النصرة بعد القتل بالسيف، أو يقيم دليلاً على اعتبار القدر الزائد، ويدخل تحت هذه القاعدة مسائلُ. السادسة بعد المئتين: اختلفوا على [الجناية على] (¬2) العبد فيما دون النفس، على مذاهب: أحدها: أرشُ ما نَقَصَ من قيمته فقط، وربما عُبِّر عن القيمة بالثمن، فقيل: ما نقص من ثمنه، وهذا مروي عن الحسن (¬3)، [ومن طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزُّهْري: أن رجالاً من [العلماء] (¬4) ليقولون: العبيد والإماء [سلع] (¬5) يبلغ فينظر ما نقص ذلك من أثمانهم (¬6)، وهذا مذهب الظاهرية] (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": "ينزل بالقاتل أنزله بالمقتول، فإن القدر الزائد من الألم ظالم للمقتول، فإذا نزل ما يقابله في جزائه فهل ينصر فيه؟ "، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "الخيار في"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (27230)، عن الحسن في حر أصاب من عبد شيئًا، قال: يرد على مولاه ما نقص من ثمنه. (¬4) بياض في الأصل و"ب"، والمثبت من "مصنف عبد الرزاق". (¬5) زيادة من"ب". (¬6) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18142). (¬7) سقط من "ت". (¬8) انظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 150).

وثانيها: أن خَراجَ العبدِ من قيمته كخراج الحرِّ من ديته، فعلى هذا في كل واحد من عينه ويده ورجله نصفُ قيمته، ورُوي هذا عن عمر - رضي الله عنه - من طريق عبد الرزاق، عن ابن جُرَيج، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: وعَقْلُ (¬1) العبد في ثمنه كعقل الحر في ديته (¬2). ورُوي أيضًا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬3). [و] (¬4) الروايةُ عن عمر منقطعةٌ فيما بين عمر بن عبد العزيز وعمر ابن الخطاب - رضي الله عنهما -؛ إذ لم يلْقَه (¬5)، ولعلّه اشْتُهِر عندهُ (¬6) فنقله. ومن طريق عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن سعيد بن المُسَيِّب قال: جِراحاتُ العبيد في أثمانهم بقدر جِراحات الأحرارِ في دِيَاتِهم (¬7). ¬

_ (¬1) عَقَلَ القتيلَ: وَداه. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 931)، (مادة: عَقَل). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18150). (¬3) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (6/ 238 - 239). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 36). (¬6) "ت": "عندهم". (¬7) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18142)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (27228).

قال بعضُهم (¬1): وهو قول الشَّعْبي والنَّخَعِيّ وعمرَ بن عبد العزيز والشافعي وسفيان الثَّوري والحسن بن حي (¬2) وشُرَيْح، إلا أنَّ الحسن قال: إنْ بَلغ فيه جميعَ القيمة لم يكن له إلا أن يسلِّمَه ويأخذَ قيمَتَه، أو يأخذَ ما نقصه (¬3). وثالثها: مذهب مالك رحمه الله تعالى: أن الواجب في جراحه (¬4) ما نقصه بعد بُرْئه إلا في أربع جراحات: المُوضحة (¬5) والمَأْمُومة (¬6) والجَائِفَة (¬7) والمُنَقِّلة (¬8)، فإن الواجبَ فيها من قيمته (¬9) بمنزلتهنَّ من دية الحر، هذا هو المعروف من مذهبه (¬10). ¬

_ (¬1) هو ابن حزم. (¬2) في الأصل و"ب": "الخزرجي"، والمثبت من "ت" و"المحلى" لابن حزم. (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 151) وعنه نقل المؤلف رحمه الله هذه المسألة. (¬4) " ت ": "جراحته". (¬5) المُوضحة: الشجَّةُ التي تُبدي وَضَحَ العظام، أي: بياضه. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 224)، (مادة: وضح)، و"المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 367). (¬6) شجَّة مأمومة: بلغتْ أمَّ الرأس. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 971)، (مادة: أمم). (¬7) الجائفة: طعنة تبلغُ الجوف. انظر: "القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 718)، (مادة: جوف). (¬8) المُنَقّلَة كمحدّثة: الشجَّةُ التي تنقل العظم، أي: تكسره حتى يخرج منها فَرَاشُ العِظام. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 959)، (مادَّة: نقل)، و"أنيس الفقهاء" (ص: 294). (¬9) في الأصل: "قيمتها"، والمثبت من "ت". (¬10) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (6/ 247).

وقد رويَ عن مالك فيما حكى ابنُ حزم: إذا قطع يدي (¬1) عبد أو فَقَأَ عينَه، أُعتق عليه، وغَرِم قيمتَه كاملةً لسيده (¬2)، وهذه المسألة إحدى المسائل التي اختارها المُزَنيّ للرد على مالك فيها، وهي (¬3) ثلاثون مسألةً جمعها في كتاب، وأجابه عنه من المالكية أبو بكر الأَبْهَري (¬4) وأبو محمد عبد الوهاب القاضي (¬5) رحمهم الله تعالى. ورابعها: أن جِراحَ العبدِ في قيمته كجراح الحرِّ في ديته إلا أن تبلغَ قيمةُ العبدِ عشرةَ آلاف درهمٍ فصاعدًا، أو تبلغَ قيمةُ الأمَةِ خمسةَ آلافِ في رهمٍ فصاعدًا، فلا يبلغُ بأرش تلك (¬6) الجراحة مقدارها من دية الحرِّ أو الحرة، لكن يحطُّ من ذلك [قيمتَها] (¬7) وحصتها من عشرة دراهم في العبد، وحصتها من خمسة دراهم في الأمة، إلا أن يكون ¬

_ (¬1) "ت": "يد". (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 152). وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 112). (¬3) في الأصل "وهو"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "الفهرست" لابن النديم (ص 283)، و"الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 257). (¬5) انظر: "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (2/ 692). وممن ردّ على المزني في هذه المسائل الإمام الفقيه أبو الفضل بكر بن العلاء القشيري المتوفى سنة (344 هـ)، كما في "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 100). (¬6) في الأصل: "تألم"، والتصويب من "ت". (¬7) سقط من "ت"، وكذا من المطبوع من "المحلى" لابن حزم.

قطعَ أذناً فَبرِأ، أو نتفَ حاجبًا فَبرِأَ، ولم ينبت، فليس فيه إلا ما نقصه، وهذا محكيٌ عن أبي حنيفةَ رحمة الله عليه. فإن بلغ من الجناية على العبد ما لو جنى على حرٍّ لوجب فيه الديةُ كلُّها، فليس له إلا إمساكُهُ كما هو، ولا شيء له، أو إسلامُه إلى الجاني، وأخذ جميع قيمته، ما لم تبلغْ عشرةَ آلافِ درهمٍ فصاعدًا، فليس له إلا عشرةُ آلافِ درهم غيرَ عشرةِ دراهم، وفي الأمةِ نصفُ ذلك، وقد نُقل في المسألة غيرُ هذه الأقاويل التي ذكرناها (¬1). أما القول الأول - وهو تضمين الجراحات بما نقص من القيمة مطلقًا - فظاهر، وطريقُ الاستدلالِ عليه من الحديث أن يقالَ: قد عُلِمَ جزمًا أن مقصودَ التضمين في الجنايات على الأموال جبرُ ما فات على المالك بالجناية، والجبرُ يقتضي (¬2) المماثلةَ والمساواةَ، فما نقص أو زاد فهو ظلم؛ إما للمالك أو للجاني، فحينئذ نقول: لو كانت جراحُ العبدِ من قيمته كجراح الحرِّ من ديته، لزم إما الظلم للمالك أو الجاني. بيانُ الملازمة: أنه إذا لو قَطعَ يدَ عبدٍ يساوي مئةً (¬3)، فنقَصَ من قيمته ثلاثون، فإيجابُ الخمسين مع حصول الجبر بثلاثين ظلمٌ ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 152)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله مذاهب العلماء التي ذكرها. (¬2) "ت": "والجبر مقتضى". (¬3) "ت": "يساوي من قيمته"، وكتب في الهامش: "لعله خمسين".

السابعة بعد المئتين إلى تمام العاشرة بعدها

للجاني، ولو نقص من قيمته ستون، فالاكتفاء بخمسين في جبر ما نقص على المالك ظلم له، وإذا كان ظلمًا وَجَبَ أن يُمنعَ بالنص، وهو الأمر بنصر المظلوم، وهذا قياس جليٌّ جدًا، فالقاعدةُ - وهي أن المقصودَ بالضمان جبرُ المالية الفائتة على المالك - معلومةٌ جزمًا (¬1)، فلا ينبغي أن يُخرَجَ عن هذا إلا بمانع من النصوص يمنع منه. وابن حزم يدَّعي أن [قولَ] (¬2) من قال: جراح العبد في قيمته كجراح الحر في ديته قولٌ لا دليلَ عليه، لا من قرآن ولا من سُنَّة [ولا من رواية] (¬3) فاسدة (¬4). [قلت] (¬5): وأما الأقيسة الشَّبْهِية، ورَدُّ هذا القياس الجلي بها، فمشكل. السابعة بعد المئتين إلى تَمامِ العاشرةِ بعدَها: قدْ ذكرنا الحكم (¬6) في تحاكُم المسلمِ والذمّي إلى حاكم المسلمين، وأنه يجب دفعًا للظلم، وهذا عند الشافعية. أما تحاكم الذمي مع أهل دينه، ففي وجوب الحكم بينهما قولان ¬

_ (¬1) في الأصل: "معلومة جبرها"، والتصويب من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من المطبوع من "المحلى". (¬4) "ت": "ثابتة"، وانظر: "المحلى" لابن حزم (8/ 153). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "أن الحكم"، والمثبت من "ت".

الحادية عشرة بعد المئتين

عند الشافعية، الصحيحُ الوجوب. وإن كان ملة أخرى ففيه طريقان: منهم من خرَّجه على القولين، وقطع الجمهورُ بوجوب الحكم، فإنهما لا يجتمعان على حاكم واحد، فيستمر خصامُهما في دار الإسلام. وأهل العهد إذا كانت خصومتُهم مع المسلمين وجب الحكم، وإن اتحدت ملَّتُهم لم يجب الحكم اتفاقًا، نقله بعضُ مصنفي الشافعية رحمهم الله، وإن اختلفت ملَّتُهم، فقيل: يُلْحَقُ باختلاف ملَّة الذميين، وإنما لم يوجب الحكم بين المعاهدين إذا اتفقت ملتهم بناءً على أنَّا إنما التزمنا الكفّ عنهم دون الذَّبِّ والسياسة. وهذا مأخذ غيرُ ما نحن فيه، فإنَّا إنما ننظر بالنسبة إلى الظلم ووجوب النصرة فيه، لا بالنسبة إلى مآخذ أُخرَ، وهذه أربع مسائل للبحث فيها مدخلٌ بالنسبة إلى الظلم و [وجوب] (¬1) النصرة، تنبني على مسألة نذكرها، وهي في محل النظر. الحادية عشرة بعد المئتين: [هل] (¬2) يُوصَفُ مالُ الكافرِ على الكافر بالحرمة بناءً على القول بأنهم مخاطَبون بالفروع؟ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت".

فقد قالوا في الأصول: إنّ المسألة معناها أنهم يُعاقَبون عليها في الدار الآخرة (¬1)، وهذا ممَّا لا يثبت بالعقل وإنما يثبت بالنقل، فإن وُجِدَ دليل يدل عليه فقد ثبتت (¬2) الحرمة، وترتب عليها الظلم، وترتب عليها وجوب النصرة في المسائل المذكورة، وإن لم يقم دليل عليه، فسبب وجوب الحكم بين المسلم والذمي أنَّ ظلم المسلم للذمي وبالعكس حرام، والأول بمقتضى العهد، والثاني بمقتضى الدين. وأما في مسألة حكم الذميين أو المعاهدين، فهو يبنى على ما قلناه من أن مالَ الكافرِ على الكافر حرام، أم لا؟ فإن قيل به، دخل في نصرة المظلوم، وإن لم يُقَلْ به، خرج منه (¬3) ما إذا جاء الحربيُّ لأجل مال الذميّ؛ لأنه لا يكون حينئذٍ من باب الظلم، ويكون عن الذمي من باب الوفاء بمقتضى الذمّة، وبهذا ينظر ما في المسائل المذكورة، وقد يُستدلُّ على أنه ليس من باب الظلم بقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]، فإنه لو كان ظلمًا لزمه التخصيصُ في نصرة المظلوم، ومخالفة القاعدة الكلية التي فُهمتْ من الشرع في دفع ¬

_ (¬1) انظر: "البرهان" للجويني (1/ 92)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 191)، و"الإبهاج" للسبكي (1/ 177)، و"الموافقات" للشاطبي (3/ 355). (¬2) في الأصل: "ثبت"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "عنه".

الثانية عشرة بعد المئتين

الظلم وإزالة البغي والفساد في الأرض مع التمكن من إزالته، والله لا يُحِبُّ الفساد. وقد يُستدَلُّ على أنه منه بقوله - صلى الله عليه وسلم - حكايةً عن الله تعالى: "يا عبادي إنيّ حَرَّمْتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلْتُهُ بينكم مُحَرَّمًا، [فلا تظالموا] (¬1) " (¬2)، وهو عامٌّ في جميع العباد، فيدخل فيه ظلمُ الكافرِ للكافر، إذا حمل الظلمُ على الظلمِ العرفيِّ، لا على الظُّلم الشرعيِّ، فإنَّه إنْ حُمل عليه فقد يمنع كونه ظلمًا، وأنه يدخل تحت النص، فتتبَّعِ الأدلةَ في هذه المقدمة فعليها تنبني (¬3) المسائلُ المذكورة. * القول في الموانع من النصرة، وما يتوهَّمُ كونُه مانعًا واختلف فيه، وفيه مسائلُ نُورِدُها على سياق العدد السابق [إلى الثالثة والثلاثين بعد المئتين] (¬4): الثانية عشرة بعد المئتين: قد يتحقق كونُ الشيء ظلمًا لكونه إضرارًا بالغير محرمًا، ويمتنع فيه بعضُ النصرة لمانع، ومنه امتناع القِصاص في جناية العَمْد عمَّنْ لا يكافئ الجاني، كجناية المسلم ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه مسلم (2577)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "تبنى". (¬4) سقط من "ت".

الثالثة عشرة بعد المئتين

على الذميّ، وجناية الحرِّ على العبد عند من لا يرى القصاصَ فيه، وجنايةِ الأب على ولده؛ إمَّا مطلقًا عند من يراه، وإما حيثُ يُتفق عليه، فإنه ظلمٌ قطعًا، وامتنعتِ النصرة بإيجاب القصاص، ولم يمتنعْ مطلقُ النصرة، ولتعرض ذلك في الجناية على الطّرَف؛ لما أشرنا إليه من أن دخولِ الجناية تحت هذا المعنى فيه نظر، وإذا وجب البدلُ في الجناية فلم تعْدُه النصرةُ. الثالثة عشرة بعد المئتين: فإن قلتَ: فهل (¬1) يلزم في مثل هذا تخصيصُ العمومِ في وجوب النصرة، أم لا؟ قلتُ: لا يبعُد أن يُبنى [على] (¬2) أنَّ موجبَ العمد ماذا؟ فإن قلنا: إن موجبَه القودُ عينًا، فها هنا امتنعتِ النصرةُ الواجبةُ للمجني عليه لمعارضٍ، فيلزم التخصيصُ. وإن قلنا: إن موجبَ العمدِ أحدُ الشيئين، إما القصاصُ أو الدِّيةُ، فلا تخصيص. الرابعة عشرة بعد المئتين: وكذلك يلزم التخصيصُ في كيفية المماثَلَة التي يعتبرها مالكٌ والشافعيُّ - رحمهما الله تعالى - في القصاص إذا ثبت لقيام المانع من بعضها، كالقتل باللِّياطَة، واتِّجار الخمر، والأفعال المحرمة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فهذا"، والتصويب من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

الخامسة عشرة بعد المئتين

الخامسة عشرة بعد المئتين: كلُّ عمد من الجنايات أُسقِطَ القصاصُ فيه بالشبهة التي لا ترجع إلى اعتقاد الحلّ، كشريك الخاطئ، وشريك الأب عند من يرى ذلك، فهو ظلم لتحريمه، ولا يجب نصرُه عند ذلك (¬1) القائلِ بالقصاصِ، وفيه البحثُ المتقدم (¬2). وإنما قلت: بالشبهة التي لا ترجع إلى اعتقاد الحلّ؛ لأن اعتقادَ الحلِّ قد ينفي التحريمَ عن مُعتقِد، فلا يكون ظلمًا، وإنْ أوجبنا الضمانَ، فالضمانُ لا يتوقف على الظلم. السادسة عشرة بعد المئتين: قد تتوقف نُصرة المظلوم على شرط يراه بعضُ العلماء، كما يُقالُ في حقوق الآدميين: إنها تتوقف على استدعاء المدّعي، فإذا ثبت ذلك فهذا تخصيصٌ آخرُ. السابعة عشرة بعد المئتين: باع عبدين من رجلٍ دلَّس بعيب في أحدِهما، ففي جواز إفرادِهِ بالردّ خلافٌ، وعند الشافعية قولان (¬3)، فيمكن أن يُستَدلَّ على تمكينه بأن البائعَ ظالمٌ بتدليسه عليه، فتمكينه من الرد عليه نصرٌ للمظلوم، والمانعُ من ذلك يراعي حقَّ البائعِ بتبعيض الصفقة عليه، وهذا يكسِرُ شوكةَ القولِ بتغريمِ الغاصبِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "من ذلك"، والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "المقدم"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 423).

الثامنة عشرة بعد المئتين

[من] (¬1) ماله إذا جَبَرَ حقَّ المغصوبِ منه بما يُوفيه، وإنما فرضنا المسألةَ في تدليس الغاصب لتدخُلَ تحت نصرةِ المظلومِ، فإنه لو لم يكن مُدَلِّسًا، كان الردُّ عليه من [باب] (¬2) إيفاء الحق لمستحِقِّه، وقد بينَّا أنَّه أعمّ من نصرة المظلوم. الثامنة عشرة بعد المئتين: فإن كان العبدان معيَّنَين، ففي الإفراد خلاف مرتَّبٌ على ما قبلَه، والكلامُ كالكلامِ (¬3). التاسعة عشرة بعد المئتين: اشترى اثنان عبدًا من واحد، فأراد أحدُهما أن ينفردَ بردِّ نصيبِه، جاز على أصح القولين عند الشافعية رحمهم الله، فتُفْرَضُ المسألة في التَّدليس، ويجيء الكلام إلى آخره، ومَنْ مَنعَ فلِقيامِ مانعٍ عندَه، وفي هذه المسألة مانعان: أحدُهما: عيبُ التَّشقيصِ بسبب الردّ. والثاني: اتّحادُ الصفقة. وفي تعيين أحدِهما للاعتبار وجهان: يُخَرَّج عليهما ردّ ما لا ينقصه التشقيصُ من ذوات الأمثال (¬4). العشرون بعد المئتين: الحربيُّ إذا ظلمَ المسلمَ في نفسه وماله ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) أي: حكمُ هذه المسألة كحكم المسألة السابقة. (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 423).

الحادية والعشرون بعد المئتين

ثم أسلم، لم يُطالَبْ بما سلف من جناياته، وإن (¬1) كان ظالمًا للمسلم، وإنَّما كان كذلك للمصلحة الراجحةِ، [و] هي التأليفُ (¬2) على الإسلامِ وعدمُ التنفير عنه. الحادية والعشرون بعد المئتين: في مقدمة، نُقل عند الشافعية اختلاف في أن البغيَ هل هو اسمُ ذمٍّ؟ وهل يسمَّى الباغي عاصيًا؟ فقيل: ليس باسم ذم، وإنَّ الباغين ليسوا فَسَقة، كما أنهم ليسوا بكفرة، ولكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل، ومنهم من يسمّيهم عصاةً، ولا يسمّيهم فسقةً، ويقول: ما (¬3) كلُّ معصيةٍ توجبُ الفسقَ (¬4). الثانية والعشرون بعد المئتين: ما وُجِد من أموال أهل العدل عند البُغاة، وجب ردُّه إلى أربابه، وهو ظاهر. الثالثة والعشرون بعد المئتين: اختُلف في ضمان البغاة ما أتلفوه على أهل العدل من نَفْسٍ أو مال، وهذا ينبني أولًا على أنَّ الباغي عاصٍ، أو لا؟ فإن قلنا: لا، لم يدخلْ تحتَ نصرةِ المظلوم (¬5)، وإن ¬

_ (¬1) في الأصل: "قد"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "التألف"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "من"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 50). (¬5) "ت": "تحت هذه القاعدة".

الرابعة والعشرون بعد المئتين

وجبَ (¬1) الضمانُ، فمِنْ باب إيفاء الحقّ، وإن [قلنا] (¬2) بالعصيان، فإتلافُهم ظلمٌ، فمقتضاه ضمانُهم لِمَا أتلفوه، ولكنَّ المانعَ قائمٌ، وهو مصلحة التأليف بالعَوْدِ إلى الطاعة، وقد قيل به عند الشافعية؛ أي: بأنَّهم لا يلزمُهم الضمانُ (¬3). وقال سُحنون المالكيُّ في الخوارج: ولا يُتْبَعوا بما سفكوا من دمٍ، ونالوا من فرج، لا بِقَوَدٍ ولا دية ولا صَدَاق ولا حدّ (¬4). الرابعة والعشرون بعد المئتين: اختلفوا في الجماعة من المرتدّين لهم شوكةٌ، إذا أتلفوا مالًا أو نفسًا (¬5) ثم أسلموا، هل يجب عليهم الضمان؟ وهذه نصرةُ مظلومٍ، ومن لم يوجبِ المطالبةَ راعى المانعَ الذي ذُكر في الكافر الأصليِّ، وهو التألُّفُ (¬6) وعدمُ التنفيرِ. الخامسة والعشرون بعد المئتين: أصحاب الشوكة - إذا لم يكن لهم تأويل - ظَلَمَةٌ، وفي إلزامهم تغريمَ المُتْلَفاتِ خلافٌ للشافعية، ¬

_ (¬1) في الأصل: "أوجب"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 218)، و"الوسيط" للغزالي (6/ 421)، و"روضة الطالبين" للنووي (10/ 57). (¬4) انظر: "التاج والإكليل" لابن المواق (6/ 278). (¬5) "ت": "نفسًا أو مالًا". (¬6) "ت": "التأليف".

السادسة والعشرون بعد المئتين

ومقتضى القاعدةِ الإلزامُ، [وعدمُهُ لمانع (¬1)] (¬2). السادسة والعشرون بعد المئتين: من الموانع المُحَقَّقة مسألةُ ما إذا غَصبَ سَاجَةً (¬3)، وأدخلها في سفينة، وفيها حيوان أو مال مُحتَرمٌ لغير الغاصب، فإنه يمتنع نزعُها ودفعُها للمالك إذا كان سببًا لإتلاف ما ذكر (¬4)، وهذا ظاهرٌ جارٍ على القواعد؛ لأن حقَّ المالك يمكِنُ جبرُه من غير إتلافٍ لهذه المُحْتَرمات، فتقديمُه [على] (¬5) الإتلاف تقديمٌ لأخفّ المفسدتَيْن على أعظمِهِمَا. السابعة والعشرون بعد المئتين: ومن الموانع ما إذا غصب خيطًا وخَاطَ به جرحَ حيوانٍ محتَرمٍ (¬6). الثامنة والتاسعة والعشرون بعد المئتين: إذا تبارز فارسان مسلمٌ وكافرٌ، وشَوطَ الكافر أن لا يُعانَ المسلمُ عليه إلى انقضاء القتال، ¬

_ (¬1) أي: لا يُلجأ إلى عدم الإلزام إلا إذا حالَ مانعٌ دونَه. (¬2) سقط من "ت". (¬3) السَّاجُ: هو خشبٌ أسود رزين يُجلب من الهند، ولا تكادُ الأرضُ تُبليه، واحدتُه: ساجَةٌ، انظر "المصباح المنير" للفيّومي (ص: 111)، (مادة: سوج). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 87)، و"المهذب" للشيرازي (1/ 372). (¬5) في الأصل: "مع"، والتصويب من "ت". (¬6) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 372).

الثلاثون بعد المئتين

وجب الوفاءُ بالشَّرط في ترك إعانةِ المسلم عليه قبلَ انقضاءِ القتال، نصُّوا عليه عند الشافعية (¬1). ولا شكَّ أن قتالَ الكافرِ للمسلم ظلمٌ، وإعانةُ المسلم عليه نصرةٌ للمظلوم (¬2)، فهذه نصرةٌ محرَّمة (¬3)، وإنما قيل بها لمعارضٍ، وهو أن المبارزةَ عظيمةُ النفعِ في الجهاد، ولا تتمُّ إلا بأن [يأمنَ] (¬4) كلُّ واحد منهما من غير قِرْيهِ. الثلاثون بعد المئتين: من صور تعذُّر النصرة، ما لو ظلم القاسِمُ بين النساء إحدى نسائه ثم طلق المظلوم لهنّ (¬5)، فقد تعذَّرتِ (¬6) النصرةُ، وهو القضاء؛ لأن معناه انقطاعه عنهن، والاشتغال بقضاء المظلومة، وهو بطلاقه مترفِّع عنهن. وكذلك لو طلَّق المظلومةَ ولم يردَّها، وهناك قيل: تبقى الظُّلامةُ إلى يوم القيامة. وكذلك لو مَرِضت واحدةٌ حيث توجَّب عليه القضاء، تعذّر عليه ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 284). (¬2) في الأصل: "المظلوم"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "محترمة". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "بهن"، والمثبت من "ت"، والمعنى: أنه طلق النساء اللواتي دفعنه إلى الظلم. (¬6) في الأصل: "تعذر"، والمثبت من "ت".

الحادية والثلاثون بعد المئتين

القضاءُ، قال بعضُهم: فإن برئتْ قضى بالإجماع (¬1). الحادية والثلاثون بعد المئتين: قد تبين أن من أعظم نصرة المظلوم إنقاذَ أسيرِ المسلمين من أيدي العدو؛ إمَّا بالقتال أو بالفداء، وقد يقع في بعض صور الفداء موانعُ، أو ما يمكن أن تكون موانعُ، فيحتاج إلى النظر فيها، وفي إباحة الفداء بها. فمن ذلك الفداءُ بالسلاح والخيل، وفيه من المفسدة إعانةُ الكفّار وتقويتُهم على قتال المسلمين، فأجاز أَشهبُ من المالكية ذلك، قال: فإن طلبوا الخيلَ والسلاحَ فلا بأس أن يُفْدَى به، وفي رواية ابن سُحنون، عن أبيه: يفدى بالخيل والسلاح، والمؤمنُ أعظمُ حرمَة. وفي كتاب "ابنِ الموَّاز" (¬2) قال ابنُ القاسم: إذا طلبوا منّا فداءَ المسلم بالخيل والخمر، فلا نصالح بالخيلِ، وهو بالخمر أخفُّ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" للغزالى (5/ 296). (¬2) للإمام الفقيه محمد بن إبراهيم بن رباح الإسكندراني المعروف بابن المواز، المتوفى سنة (269 هـ) كتابه المشهور "الكبير"، وهو من أجل الكتب التي ألَّفها قدماء المالكية وأصحها مسائل، وأبسطها كلامًا، وأوعبها، وقد ذكره أبو الحسن القابسي ورجحه على سائر الأمهات. انظر: "ترتيب المدارك للقاضي عياض (2/ 72). (¬3) انظر: "حاشية الدسوقي" (2/ 258)، و"التاج والإكليل" لابن المواق (3/ 389).

الثانية والثلاثون بعد المئتين

فاقتضى هذا النقلُ الخلافَ في الفداءِ بالخيل، وأما بالسلاح: فاذا مُنِع بالخيل ففي السِّلاح أولى. الثانية والثلاثون بعد المئتين: ومن ذلك الفداء بالخمر، وقد قدَّمنا تخفيفَ ابنِ القاسم له بالنسبة إلى الخيل، والمنقول عن أَشهب أنه قال: وأما الخمرُ فلا، ولا يدخل في نافلةٍ بمعصية. وعن سُحنون: لا بأس أن يبتاعَ لهمُ الخمرَ للفداء، وهذه ضرورة. وفي كتاب ابنه (¬1) عنه: وإن طلبوا الخمرَ والخنزيرَ والمَيْتةَ أمرَ الإمامُ أهلَ الذمةِ بدفع ذلك إليهم، وحاسَبَهم بقيمته في الجزية، فإن أبى من ذلك أهلُ الذمة لم يُجبروا، ولم يرَ أشهبُ؛ يعني أنه: لا يُفدى (¬2) بالخمر (¬3). قلت: النظر في هذا كلِّه إنما هو راجعٌ إلى اعتبار المصالح والمفاسد، وترجيحِ بعضِها على (¬4) بعض، وفي النظر إلى العمومات والنصوص في مثل هذا عُسْرٌ شديدٌ، يدور فيه رأسُ من يريد أن يحاوِلَه من الظاهرية [إنْ حاولوه] (¬5)؛ لِمَا يقع فيه من التعارضِ بين ¬

_ (¬1) في الأصل: "أبيه"، والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "يفدو"، والمثبت من "ت". (¬3) وانظر: "التاج والإكليل" لابن المواق (3/ 389). (¬4) في الأصل: "مع"، والمثبت من "ت". (¬5) سقط من "ت".

العمومات، والذي أقولُه الآن بالنسبة إلى النظر إلى المصالح والمفاسد - والعلم عند الله تعالى -: إنّ الحال لا يخلو من أن يتعيَّن الفداء بما ذُكِر (¬1)، أو لا، فإن تعين الفداء بأحد هذه الأمور؛ بأن لا يرضى العدوُّ إلا بها، فها هنا يقعُ التعارضُ، والأقربُ الجواز، أمّا في حقِّ الخمر؛ فلأنَّ وضعَ اليدِ عليها وعدمَ إراقتها متأخرُ المرتبة في المصلحة عن فِكاك المسلمِ من أسر العدو قَطْعًا؛ لأنَّ ذلك من (¬2) مرتبة الضرورة، والمنعُ من وضع اليد على الخمر من (¬3) مرتبة التكميل، والأولُ أرجح، وأمَّا الفداءُ بالسلاح والخيل فهو - وإن كانْ أعظمَ مفسدةً من الفداء بالخمر - إلا أنه يرجُحُ على ترك الفداء بهِ في حال تعيُّن الفداء به لوجوه: الأول: أنَّ المنعَ من تمكين العدو من السلاح، [من قَبيل منعِ الوسائل، والمنعَ من إذلال المسلمين في الحال] (¬4) من قبيل المقاصد، والثاني راجحٌ على الأول. الثاني: ما قدمناه من مرتبة الضرورة والتكميل. والثالث: أنَّ المفسدةَ في إذلالِ العدو والإضرارِ به مفسدةٌ محقَّقةٌ في الحال، والمفسدةُ في استعانةِ العدو به على القتال مفسدةٌ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ذكروا" والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "في". (¬3) "ت": "في". (¬4) سقط من "ت".

الثالثة والثلاثون بعد المئتين

مترقَّبةٌ مُحتمِلةٌ لعدم الوقوع، فالأولُ أولى بالدفع. وأما قول سُحنون: [فلعله يقول] (¬1) بجواز الفداء بالخمر، فإذا فوَّضه الإمامُ إلى أهل الذمَّة، فلم يفوِّضْ إليهم إلا أمرًا جائزًا، وتُستفاد بالتفويض إليهم مصلحةُ عدمِ وضعِ اليد عليه. الثالثة والثلاثون بعد المئتين: قَدِمَ من له أمان، وبيده مالُ المسلم وأحرارٌ مسلمون، اختلف المالكيةُ فيه، فقال بعضُهم: إنهم يُعْطَوْنَ قيمةَ المسلمين الأحرارِ وإن كرهوا. وقال ابنُ الموَّاز: لا يُعْرَض للمستأمَنين فيما بأيديهم من متاعِ المسلمين ومن عبيدِهم (¬2)، ولا أحرارٌ مسلمون وذميون ولا مكاتَبون ومدبَّرون، وقال: وله بيعُ ما شاء من ذلك وأخذُ ثمنِهِ، أو الرجوعُ به بعد أن يُغْرَم ما بَذَلَ عليه. قال ابنُ أبي زيد - يزيدُ على قول ابن القاسم في روايته -: قال ابنُ المَوَّاز: وأما إذا أَسلمَ المستأمَنُ أو الحربيُّ فلا حقَّ له في كل ما بيده من حرٌّ ومسلم، وَيخرجون من يده بلا غُرْمٍ، لم يختلف في ذلك أحد. وهذا الذي حكيناه عن ابن الموَّاز من المُشنَّعات، وهو تجويزُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فقول"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "عبدهم".

الرابعة والثلاثون بعد المئتين

بيعِ الأحرارِ المسلمين واستملاكِ الكافر لهم، [وليس فيه ما يعارضه إلا اعتبار المصلحة العامة، فإنه إذا أقرَّ يزيده كان أقرب إلى التمكين بسبب إمكان العود، أما لو رُدَّ واحد منهم لامتنعوا من العود بذلك] (¬1). الرابعة والثلاثون بعد المئتين: قد قدمنا المنعَ (¬2) من التفريق بين الأم وولدها وإيجابَ الجمع، قال بعضُ مصنِّفي الشافعية - رحمة الله عليهم -: ويجوز التفريقُ للضرورة؛ بأن تكونَ الأمّ حرةً، أو مِلْكًا لغير مالكِ الطفل (¬3). الخامسة والثلاثون بعد المئتين: المانعون للخروج على الإمام الجائرِ - وهم الأكثرون، حتى عُدَّ ذلك في اعتقاد أهل السنة - قائلون بالتخصيصِ لنصرةِ المظلوم في هذا المحل، ولهم أحاديثُ وردتْ بذلك، وأقرّوها (¬4) على ظاهرها لمعارضِ مفسدةِ الفتن وثَوَران الهيج، ومن رأى الخروجَ لإزالة ظلمهم عن المظلومين - وهم بعضُ السَّلف - فهو داخلٌ على مذهبهم تحت الحديثِ. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت"، وقد جاء في الأصل بدلها: "وليس فيه ما يُتوهَّم معارضته لأصلِ الإذلال، إلا أن يَتَوهَّم - إن منعناه - أنَّه تعرضٌ له فيما يزيده". (¬2) في الأصل: "أن المنع"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 258). (¬4) في الأصل: "أمروها"، والمثبت من "ت".

السادسة والثلاثون بعد المئتين

السادسة والثلاثون بعد المئتين: المانعون لقضاء القاضي بعلمه في الحدود، سببُه: عظيم أمرها، واقتضاء ذلك أن لا يتولاها إلا الأئمةُ، فيكون هذا تخصيصًا لعمومِ نصرةِ (¬1) المظلوم. السابعة والثلاثون بعد المئتين: المانعون لقضاء المّاضي [بعلمه] (¬2) في غير الأموال، سببُه: انحطاطُ رتبة الأموال (¬3) عن غيرها، [وهذا كما تقدَّم من رجوع الأمر إلى التخصيص للمانع المدَّعى] (¬4). الثامنة والثلاثون بعد المئتين: ما عُدَّ من منع (¬5) الإنكار بالوعظ في حقّ الفاسق [لمن يعلم فسقَه، سببُهُ] (¬6): أنهُ يُفضي إلى تطويل اللسان في عرضِهِ بالإنكار (¬7)، وأما الحِسْبة القَهْرية فلا [حسبةَ] (¬8) على الفاسق في إراقة الخمر، وكسرِ الملاهي، وغيرِها، إذا قَدر عليه. التاسعة والثلاثون بعد المئتين: قال بعضُ مصنِّفي الشافعية ¬

_ (¬1) "ت": "نصر". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "المال". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "عدم". (¬6) سقط من "ت"، وجاء بدلها: "يعلل". (¬7) "ت" زيادة: "بعرضه". (¬8) زيادة من "ت".

- رحمهم الله -: ولو قُصِد (¬1) قريبُه أو أجنبيٌّ بقتلٍ أو فاحشةٍ كان دفعُه عنهما كدفعه عن نفسه في الوجوب وغيره. وقال أربابُ الأصول: لا يجبُ ذلك إلا على الوُلاة. قال: واختلفوا في جوازِ شَهْرِ السلاح لذلك في حقِّ الآحاد. [وهذا الذي قاله قد فُصِّل من قولِ غير؛ وبُسِط، وحاصلُه ومعناه: أنَّه إذا صالَ صائلٌ على أجنبي، فلغير ذلك الأجنبي دفعُ ذلك الصائل؛ لأنه معصوئم مظلومٌ، وسواءٌ في ذلك أن يكونَ الصائلُ أبًا للمصول عليه أو سيدًا له، وإذا كان المصولُ عليه ذمّياً والصائلُ مسلمًا، فكذلك يجوز الدفعُ عنه (¬2). قلت: وإذا كان ذلك داخلًا في نصرةِ المظلومِ، فمقتضى الأمرِ الوجوبُ، فينبغي أن يقالَ به بمقتضى الحديث. والشافعيةُ اختلفوا في وجوب الدفع عن الغير على ثلاثة طرق: الأظهر منها: أن حكمَ الدفع عن الغير حكمُ الدفع عن النفس حتى يجبَ هنا حيث يجبُ هناك، وينتفي الوجوبُ هنا حيث ينتفي هناك. والثانية: القطعُ بالوجوب؛ لأنَّ الإيثارَ إنما يكون لحظ النفس، فأما سائرُ الناسِ فلا يُؤْثرُ بعضُهم على بعض. والثالثة: القطعُ بالمنع، ونُسِب إلى معظم الأصوليين؛ لأنَّ شَهْرَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "قصده"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 186).

السلاح يحرِّكُ الفتن، وليس ذلك من شأن آحاد الناس، وإنما هو من وظيفةِ السلطان. وعلى هذا: فهل يحرم، أو يجوز من غير وجوب؟ حُكيَ عنهم فيه اختلاف] (¬1) (¬2). قلت: لاشك أنَّ هذا داخلٌ تحت نصرِ المظلوم، ومن أراد إخراجَه فعليه دليلٌ يدلُّ عليه، والذي ظهر من الكلام الذي حكيناه: أنه جَعَلَ الولاية في دفع هذا المنكر شرطا في الوجوب، فيكون عدمُها مانعًا أو مساويًا للمانع، وهذا بعيدٌ عندي إن (¬3) أُخِذَ على إطلاقه، ولم يُشترط فيه إمكانُ الإنكار من جهة الولاة، وكيف يمكن أن يقال: إنه إذا قصدَه بالقتل حيث لا واليَ وأمكن خَلاصُه بنصره أنه يترك وقتلَه، وهذا الحديث الذي نحن فيه مما يأبى ذلك، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمُ أخو المسلمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يُسْلِمُه" (¬4)، وهذا إسلامٌ للمسلمِ [إلى] (¬5) الهلاك (¬6)، إلى غير ذلك من الدلائل. ¬

_ (¬1) من قوله: "وهذا الذي قاله قد فُصِّل" إلى هنا سقط من "ت". (¬2) وانظر: "الوسيط" للغزالى (6/ 530). (¬3) في الأصل: "وإن"، والمثبت من "ت". (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "للهلاك"

الأربعون بعد المئتين

الأربعون بعد المئتين: إذا قلنا: إن الكافر مخاطَبٌ بالفروع، فهل يُخص من نصرة المظلوم حتى يمتنعَ عليه ذلك في حق المسلم؟ هذا قد تُكلم فيه في (¬1) باب الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وقيل فيه: إنَّ الكافر إنْ مَنع المسلمَ بفعله، فهو تسليط عليه، فيمنع (¬2) من حيث إنه تسلُّطٌ، وما جَعَلَ اللهُ للكافرين على المؤمنين سبيلاً. وأما مجرد قوله: "لا تزنِ"، فليس محرَّمًا عليه من حيث إنه نَهْيٌ عن الزنى، ولكن من حيث إنه إظهارُ دلالةِ الاحتكام على المسلم، وفيه (¬3) إذلال للمتحكَّم (¬4) [عليه] (¬5)، والفاسقُ يستحق الإذلال، لكنْ لا من الكافر الذي هو أولى بالذلِّ منه، فهذا وجهٌ منعنا (¬6) إياه من الحسبة، وإلا فلسْنا نقول: إنَّ الكافر يعاقَب بسبب قوله: "لا تزنِ" من حيث إنه نهي، بل نقول: إذا لم يقل: "لا تزِن"، يعاقب (¬7) إن رأينا خطابَ الكفار بفروع الدين، وفيه نظر. ¬

_ (¬1) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "فيمنعه"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "في". (¬4) في المطبوع من "إحياء علوم الدين" وعنه نقل المؤلف هنا: "للمحتكم". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "منعناه"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "يعاقب عليه".

هكذا وجدته عمن نقلته عنه، أو كما قال (¬1). ولقائلٍ أن يقولَ: قوله: "لا تزن" حقيقةٌ واحدةٌ، والنظر في ترتيب حقيقة واحدة عليها، وهو مقدار من العقاب، فلا يخلو الحالُ من أن يكونَ معاقبًا على ترك هذه الحقيقة الواحدة، أو لا؛ فإن كأن معاقبًا - وقد فرضنا أنه ممنوعٌ من أن يقول للمسلم: "لا تزنِ"، ومن لوازم كونه ممنوعًا منه أن يُعاقَبَ على فعله - فإذاً يلزم أن يترتبَ على هذه الحقيقة الواحدةِ العقابُ على فعلها، والعقابُ على تركها، وهو مُحالٌ؛ لأن من لوازم العقاب على فعلها عدمُ العقابْ على تركها، ومن لوازم العقاب على تركها عدمُ العقاب على فعلها، ولو وُجِدَ الملْزومان لوُجِدَ الَّلازمان، وهو العقاب وعدم العقاب، وهو محال، واختلاف الجهتين هاهنا لا أثرَ له؛ لأنّا فرضنا الكلامَ في حقيقة واحدة، وهو مقدارٌ من العقاب، فمتى دخلت تلك الحقيقةُ في الوجود الخارجيّ، امتنع أن يدخلَ نقيضُها معها [قطعا] (¬2)، نعم اختلاف الجهتين قد يفيد إذا رتِّبَ على إحدى الجهتين حكم وعلى الأخرى (¬3) حكمٌ آخرُ لا ينافيه لذاته، كالصلاة في الدارِ المغصوبة؛ فإنة يُرتَّب على الغصبِ العصيانُ، وعلى الصلاة الإجزاءُ، والعصيانُ والإجزاءُ ليسا بمتناقضين لذاتهما. ¬

_ (¬1) هو الإمام الغزالي كما في "إحياء علوم الدين" له (2/ 314 - 315). (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "آخر"، والتصويب من "ت" و"ب".

الحادية والأربعون بعد المئتين

الحادية والأربعون بعد المئتين: قد يحصل طريقان في النصر، ويختلفون في تعيين أحدهما، فمن ذلك ما قدّمناه في الممتنع من أداء الحق الماليِّ إذا قدرنا على ماله، وتمكنَّا من بيعه. ومنه إذا امتنع المُوْلي من الفَيْئَةِ أو الطلاق، فهل يطلّق عليه الحاكمُ أو يُحْبَسُ حتى يُطلِّق؟ فيه خلاف عند أصحاب الشافعي رحمهم الله تعالى (¬1)، ولعل السببَ في هذا الخلاف معارضةُ القاعدة (¬2) لتطليق غير الزوج المالكِ للعصمة، كما قيل: الطلاقُ بيد من أخذ بالسَّاق (¬3). وكذلك في المسألة قبلَها: بيعُ مالِ الرشيد من غير رضاه، ولا توكيلِهِ، مخالفٌ القياسَ، ويقول هذا القائل: الإلجاءُ إلى الوفاءِ بالحبسِ طريقٌ إلى إيفاء الحقِّ مع المشيِ على قاعدة القياس. الثانية والأربعون بعد المئتين: ومنه مُؤَنُ المرهون؛ كالنَّفقة على الحيوان عند من يُوجب النفقةَ على الراهن عينًا، إذا امتنع فهل يُجْبَرُ على الإنفاق، أو لا يجبرُ ويبيعُ الحاكمُ جزءًا ينفقُ منه؟ فيه اختلاف (¬4). ¬

_ (¬1) أصح القولين وأظهرهما: أنه يطلقها الحاكم طلقة. انظر: "الوسيط" للغزالي (6/ 25)، و"روضة الطالبين" للنووي (8/ 255). (¬2) أي: مناقضةُ قوله: (الطلاقُ بيد من أخذ بالسَّاق) لحكمِ تطليق غير الزوج. (¬3) جاء من حديث ابن عباس مرفوعًا، رواه ابن ماجه (2081)، كتاب: الطلاق، باب: طلاق العبد، وإسناده ضعيف، كما قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 219). (¬4) انظر: "الوسيط" للغزالي (3/ 508).

الثالثة والأربعون بعد المئتين

الثالثة والأربعون بعد المئتين: إذا امتنع الزوجُ من الكسب لنفقة زوجتِهِ، وهو قادرٌ عليه، فهل للمرأة رفعُ النكاح؟ اختلف العلماءُ فيه، وأظهرُ قولي الشافعي - رضي الله عنه -: أن لها ذلك. والذين قالوا: لها ذلك، اختلفوا؛ هل رَفْعُه بالطلاق، أو بالفسخ؟ [و] (¬1) فيه قولان عند الشافعية رحمهم الله تعالى (¬2). فإذا وجبَ على الزوج الكسبُ لنفقة الزوجة، فامتنعَ مع القدرة فهو ظالمٌ مُضرٌّ بالمرأة (¬3)، ورفْعُ ضررِها بارتفاع النكاح نصرٌ لها، وقد وُجِدَ طريقان كل واحدٍ يرفعُ الضررَ: الطلاقُ والفسخُ، واختلفوا في التعيين. الرابعة والأربعون بعد المئتين: إذا جعلنا رفعَه بالطلاق، أَمَره الحاكمُ [به] (¬4)، فإن أبى فهل يطلّق عليه، أو يحبِسُه حتى (¬5) يطلّقَ؟ فيه اختلافٌ كما ذكرنا في الإيلاء. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "الوسيط" للغزالي (6/ 222 - 223)، و"روضة الطالبين" للنووي (9/ 74). (¬3) "ت": "للمرأة". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "على أن"، والمثبت من "ت".

الخامسة والأربعون بعد المئتين

القول في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ذَكَرناها هاهنا لتعلق ما نحن فيه بها. الخامسة والأربعون بعد المئتين: لمّا كان الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر أعمَّ من نصرة المظلوم، كما تبين مما ذكرناه (¬1)، كانت الشروط التي في الأعم شروطًا في الأخص، وكان عدمها في الأخصر مانعًا أو مساويًا للمانع، فلزم (¬2) التخصيصُ في النص الذي نحن بسبيله. السادسة والأربعون بعد المئتين: الشروط المذكورة منها ما يُسقِطُ عدمُه الوجوبَ، ومنها ما يُسقِطُ الجوازَ أيضًا، وكلاهما يقتضي التخصيصَ؛ لأنَّ ظاهرَ الأمرِ الوجوبُ، والجوازُ من لوازم الوجوب، وأعني بالجواز: إباحةَ الإقدام على الفعل، فإذا انتفى الجوازُ انتفى الوجوبُ بالضرورة. السابعة والأربعون بعد المئتين: يُشترط في الآمر والنّاهي أن يكون عالما بالمعروف والمنكر، وفيما نحن فيه يجب أن يكون محقِّقًا لكون الفعل ظُلمًا، وقد يختلف العلماءُ في ذلك كما مرَّ، وهذا الشرط إذا انتفى انتفى الوجوبُ والجوازُ معًا؛ لأن من لا علمَ عندَه ¬

_ (¬1) " ت ": "ذكرنا". (¬2) "ت": "لزم".

الثامنة والأربعون بعد المئتين

بذلك قد يرى المنكرَ معروفاً والمعروفَ منكراً، كما نشاهد من العامة العَمْيَاء، ولهذا قيل: العامّي ينبغي (¬1) أن لا يحتسبَ إلا في الجَلِيَّات المعلومات؛ كشرب الخمر والزنا وتركِ الصلاة. الثامنة والأربعون بعد المئتين: إذا عَلِمَ أنَّه لا يُفيدُ إنكارُه، ولكنه [لا] (¬2) يَخاف مكروهاً، فقد أُسقط الوجوبُ؛ لعدم الفائدة، وأُثبت الاستحبابُ؛ لإظهارِ شِعَار الإسلام، وتذكيرِ الناس بأمور (¬3) الدين. التاسعة والأربعون بعد المئتين: وإن كان غالبُ الظن أنّه لا يُفيد، ولكن يحتمل أن يُفيدَ، وهو مع ذلك لا يتوقع مكروهاً، فقد ذكر في "الإحياء" اختلافًا في وجوبه، وجعل الأظهرَ وجوبَه، ووجه هذا: أن المقتضي للوجوب - وهو الأمر - قائم، فلا يترك إلا لمعارضِ خوفِ الضرر، أو اليأسِ من فائدة الأمر، ولا ضررَ هاهنا ولا يأسَ، فيُعمل بالمقتضي (¬4). الخمسون بعد المئتين: عَلم أنه لا ينفع كلامُه، وينالُه ضرر إن تكلَّم، فالنظر في الوجوب والجواز. أما الوجوب: فإذا سقط الوجوب عندنا (¬5) إذا لم يخفِ الضررَ، ¬

_ (¬1) "ت": "لا ينبغي أن". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "بأمر". (¬4) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 320). (¬5) "ت": "عندما".

فَلأنْ يسقطَ إذا خاف الضررَ أولى، وهذا ظاهرٌ. وأما الجواز: ففي "الإحياء" فيما إذا علم أنه لا ينفع كلامُه، ويتضرر إن تكلم: لا يجب عليه الحِسْبةُ، بل ربما يحرُم في بعض المواضع، قال: نعم يلزُمه أن لا يحضرَ موضعَ المنكر، ويعتزلَ في بيته حتى لا يُشَاهِدَ، ولا يخرجَ إلا لحاجة مهمة أو واجب، ولا يلزمه مفارقةُ البلد والهجرةُ إلا أن يُرهقَ إلى الفساد، أو يُحملَ على مساعدة السلاطين في الظلم والمنكرات، فيلزمه الهجرةُ إن قدر عليها، فإن الإكراهَ لا يكون عذراً في حقِّ من يقدر على الهرب من الإكراه (¬1). وقال غيرُه من المتكلمين: إن غلب على ظن المُنْكِر أن الذي يُنْكِر عليه لا يترك المنكَر، ويُوصِلُ إليه الضررَ الكبيرَ، لم يجزْ [له] (¬2)؛ لأنه مفسدةٌ محققة من غير وجود مصلحة. ورأيت في "المحيط" (¬3) من كتب الحنفية في كتاب "السير"، وذكره عن "السير الكبير": أنه لا بأس بأن يحملَ الرجلُ وحدَهُ على العدو إذا كان بحيث يُنْكِي فيهم ظاهراً، ووجَّهَ ذلك، ثم ذكر بعده: وإن كان يعلم أنه لا يُنْكِي فيهم، بل يُقتَل، فإنه لا يحلُّ له أن يحملَ ¬

_ (¬1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 319). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) للإمام شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي الحنفي المتوفى سنة (438 هـ)، كتاب "المحيط" في الفقه في عشر مجلدات، صنفه أولاً ثم لخصه قال: جمعت فيه عامة مسائل الفقه مع مبانيها ومعانيها. انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1620).

الحادية والخمسون بعد المئتين

عليهم؛ لأنه لا يحصُل بحمله (¬1) شيء مما يرجع إلى إعزاز الدين، بل يكون مُلْقياً نفسَه إلى التهلكة، قال: بخلاف ما إذا كان يرى قوماً من فُسَّاق المسلمين على منكر، وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بنهيه وأنهم يقتلونه، فلا بأسَ بالإقدام عليه، وهو العزيمة، وإن كان يجوز له أن يترخَّص في السكوت؛ لأن هناك القوم يعتقدون ما يأمرهم به وما ينهاهم عنه، فلابدَّ [من] (¬2) أن يكون نهيُه مؤثراً في باطنهم، فأمَّا الكفار فغيرُ معتقدين ما يدعوهم إليه، فالظاهر أنهم يقتلونه، فلا يسعُهُ الإقدامُ عليه (¬3). [قلت: في هذا وانتظامِهِ على قانون واحد نظرٌ] (¬4). الحادية والخمسون بعد المئتين: علمَ - أو ظنَّ - أنَّه يزولُ المنكرُ، ولكنه يخاف مكروهاً ينزل به، فالنظر في الوجوب والجواز. أمَّا الوجوب: فقد أُسقط للضرر. وأما الجواز: ففي "الإحياء" أنه يجوز للمحتسب، بل يُستحب أن يعرّض نفسَه للضرر والقتل إذا كان للحسبة (¬5) تأثيرٌ في رفع المنكرات، أو كسرِ جاه الفاسق، أو في تقوية قلوب أهل الدين (¬6). وهذا اكتفاء في الاستحباب بما هو أعمُّ في زوال المنكر، فإنه ¬

_ (¬1) في الأصل: "بحملته"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "المبسوط" للسرخسي (24/ 154). (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "لحسبته". (¬6) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 319 - 320).

جَعلَ لكسرِ جاهِ الفاسق وتقويةِ [قلوب] (¬1) أهل الدين تأثيراً في هذا الحكم، ولم يقصِرْه على زوال المنكر فقط. قال: فأمَّا إن رأى فاسقاً متغلبًا (¬2) وحدَه، وعنده سيفٌ، وبيده قَدَحٌ، وعلم أنه لو أنكر عليه لشربَ القدحَ، وضربَ رقبَتَه (¬3)، فهذا ما لا أرى للحسبة فيه وجهاً، وهو عين الإهلاك، فإنَّ المقصودَ أن يؤثر في الدين أثراً ويفديه بنفسه، فأمَّا تعريضُ النفس للهلاك من غير أثر فلا (¬4) وجهَ له في الدين (¬5)، فينبغي (¬6) أن يكون هذا حرامًا، أو كما قال (¬7). واستدل لهذه (¬8) المسألة بالخبر الذي أورده في فضل كلمة حقٍّ عند إمام جائر (¬9)، ولا شكَّ أن ذلك مَظِنَّةُ الخوف، وقال: فإن قيل: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في النسخ الثلاث: "منفلتًا"، والمثبت من المطبوع من "الإحياء"، ولعله الصواب. (¬3) "ت": "شرب القدح ضرب رقبته". (¬4) "ت": "فهذا لا". (¬5) في "ت" زيادة: "أن يغريه بنفسه". (¬6) "ت": "بل قد ينبغي". (¬7) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 320). (¬8) "ت": "في هذه". (¬9) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"، رواه أبو داود (4344)، كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي، والترمذي (2174)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (4011)، كتاب: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وهو حديث حسن.

فما معنى قوله: {وَلَا تُلقُواْ بِأيدِيكم إِلَى التهلُكَةِ} [البقرة: 195]؟ قلنا: لا خلافَ في أن للمسلم الواحد أن يهجُمَ على صفّ الكفارِ ويقاتلَ، وإن علم أنه يُقْتَلُ، وهذا ممَّا ظُنَّ أنه مخالف لموجِب الآية، وليس كذلك، فقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ليس التهلكةُ ذلك، بل بذلُ النفقةِ في غير طاعةِ اللهِ عز وجل (¬1). فلت: قسم محمودٌ الخوارزميّ (¬2) [تلميذُ أبي الحسين البصري] (¬3) الأمرَ فيما إذا عَلم أنه يزول المنكر، ولكنْ يصلُ إليه الضررُ، فإن كان ما يتركه أيسرَ مما يفعله من الضرر (¬4) به، مثل أن يتركَ شربَ الخمر ويقتلَه، فذكر أنه لا يجوز، ووجه هذا: أن فيه دفعَ المفسدة الدنيا باحتمال الكبرى. وإطلاقُ القاضي أبي الوليد بن رشد يقتضي أيضاً هذا، فإنه شرطَ أن يأْمَنَ من أن يؤدّي إنكارُ المنكر إلى منكر آخرَ أعظم (¬5) منه، وهو أن ينهى عن شرب خمر فيؤول نهيُهُ عن ذلك إلى قتلِ نفسٍ ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في "تفسيره" (2/ 200 - 201) عن ابن عباس قال: ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله. (¬2) هو العلامة الزمخشري صاحب "الكشاف". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "المضرة". (¬5) "ت": "أشهر".

الثانية والخمسون بعد المئتين

وما أشبه ذلك، فهذا الإطلاق يدخلُ تحته أن يؤديَ إلى قتلِ نفسه، ويمكن أن يريد به (¬1) قتلَ نفسِ غيره. هذا إذا كان ما يتركه أيسرَ مما يفعله، فأمّا إن كان ما يتركه أعظمَ مما يفعله، فحكى محمود عن مشايخه اختلافاً، قال: قال قاضي القضاة؛ [يعني: عبد الجبار بن أحمد] (¬2): إنَّ هذا الإنكار قبيحٌ. قال: وقال شيخُنا أبو الحسين: إنه حسنٌ، واتَّفقوا على أنه غيُر واجب؛ لأن إلله تعالى أباح [لنا] (¬3) كلمةَ الكفر في حال الإكراه خوفاً على النفس؛ [أي] (¬4): فلأَنْ يباحَ لنا أن نتركَ غيرَنا يفعل المنكر خوفاً على النفس أولى. قال: واحتج قاضي القضاة بأن هذا الإنكارَ مفسدةٌ؛ يعني: بخلاف تركِ إظهارِ كلمة الكفر؛ لأنَّ فيه إعزازَ الدين، وقال الشيخ أبو الحسين: لا فرقَ بينهما؛ إذْ في كل واحد منهما إعزازُ الدين. قلت: مشايخ محمود هذا معتزلة. الثانية والخمسون بعد المئتين: هذا الذي حكيناه من الخلافِ في الإنكار على شرب الخمر إذا أدى إلى قتل المُنْكِرِ، له عندي تعلُّقٌ بمسألة جواز الاستسلام للصائل المسلم على النفس، وفيه اختلافُ قولٍ عند الشافعية - رحمهم الله -، فإِنْ أبحناه فهذا أولى بالإباحة؛ لِمَا ¬

_ (¬1) في الأصل "له"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

فيه من إذهاب المنكر وزوالِهِ، والقيامِ بحقوق الشرع وشعارِ الإسلام. وإذا أجزنا الاستسلامَ ففي استحبابِهِ وجهان للشافعية (¬1)، وهاهنا أولى بالاستحباب كما ذكرناه. أما إذا منعنا الاستسلامَ فسببُه أن النفس حقٌّ لله عز وجل، وليست من حقوق العبد التي له إسقاطَها، فإن الله تعالى حرَّم على العبد قتلَ نفسه، وتعلَّقَ به الوعيدُ الشديدُ، وإذا كان قتلُ نفسه محرماً عليه لحق الله تعالى، فهو بمنزلة قتل غيره، فكما ليس له أن يُنْكِرَ على الخمر بحيث يؤدي إلى قتل مسلمٍ غيره، فكذلك في قتلِ نفسِهِ. ولا يعارض هذا إلا ما فيه [من] (¬2) القيام بالشعار وزوال المفسدة، وعلى هذا التقدير يكون المقتضي للمنع قائماً، وما يقال في ذلك من إقامة الشعارِ وإهانة العاصي، فهو من قبيل المعارض، ومحل النظر فيه: أنه هل يساوي ذلك المقتضي - أو يَرجُح عليه - حتى يُقدَّمَ عليه، ويباحُ الإنكارُ مع قيام المفسدة لأجل معارض المصلحة؟ ومما يستدل به على الجواز: الحديثُ عن أبي سعيد الخُدْري - رضي الله عنه -: أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أفضلَ الجهادِ كلمةُ عَدْلٍ عند سلطانٍ جائرٍ". وهذا الحديث أخرجه الترمذي في "جامعه" من رواية عطيَّة، عن أبي سعيد الخُدْري، وقال فيه: وهذا حديث حسن غريب (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" للغزالي (6/ 529). (¬2) سقط من "ت". (¬3) تقدم تخريجه قريبًا.

الثالثة والخمسون بعد المئتين

والأمر كما قال؛ لعدم تهمة عطّية بن سعيد (¬1) بالكذب، ورواية الأكابر عنه، لكنه ممسوسٌ بالضعف (¬2). الثالثة والخمسون بعد المئتين: لمَّا حَكَمَ في "الإحياء" بأنه يستحب الإنكارُ في حالة خوف الضرر، وبَسطَ الكلامَ فيه، [وشرَطَ] (¬3) أن يقتصرَ المكروهُ عليه، فإنْ علمَ أنه يُضرب معه من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه، فحكمه أنه لا يجوز له الحسبة، بل يحرم؛ لأنه عَجزَ عن دفع المنكر، إلا أن يُفضي ذلك إلى منكرٍ آخرَ، وليس [ذلك] من القدرة في شيء (¬4). الرابعة والخمسون بعد المئتين: علم أنه لو احتسب لَبَطل ذلك المنكرُ، ولكنْ كان سبباً لمنكرٍ آخرَ يتعاطاه غيرُ المُحتسبِ عليه، فذكر في "الإحياء": أنه لا يحل له الإنكارُ على الأظهر؛ لأنَّ المقصودَ عدمُ مناكير (¬5) الشرع مطلقاً لا من زيدٍ أو عمروٍ؛ وذلك بأن يكون مع الإنسان مثلاً شرابٌ حلالٌ نجسٌ بسبب وقوع نجاسة فيه، وعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبُه الخمرَ، أو شربَ أولادُه؛ لإعوازه الشراب الحلال، فلا معنى لإراقته ذلك. قال: ويحتمل أن يقال: إنه يريقُ ذلك فيكون هذا مبطلاً للمنكر، ¬

_ (¬1) "ت": "سعد". (¬2) انظر: "شرح علل الترمذي" لابن رجب (2/ 823). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 320). (¬5) "ت": "مناكر".

الخامسة والخمسون بعد المئتين

وأما شُرب [الآخرِ] (¬1) [الخمرَ] (¬2) فهو المَلومُ فيه، والمحتسب غيرُ قادرٍ على منعه من ذلك المنكر، وقد ذهمب إلى هذا ذاهبون، وليس ببعيد. قال: هذه مسائل فقهية لا يمكن فيها الحكمُ إلا بظن، ولا يبعد أن يفرقَ بين درجات المنكر، وينكرها الذي تُفضي إليه الحِسْبةُ والتغييرُ، فإنه إذا كان يذبحُ شاةً لغيره ليأكلها، وعلم أنه لو منعه ذلك لذبح إنساناً وأكله، فلا (¬3) معنى لهذه الحسبة، نعم لو كان مَنْعُهُ من ذَبْحِ إنسانٍ وقَطْعِ طرفِهِ يحملُهُ على أخذ ماله، فذلك له وجهٌ (¬4). الخامسة والخمسون بعد المئتين: ذكر غيرُ واحد هذا (¬5) الذي أذكر معناه، واللفظ لبعضهم، وهو: أن سبيل مُنْكِرِ المُنْكَر أن ينكرَهُ بقدر ما يظن زوالَه فقط، فإن أمكن زوالُه بالتخويف والوعظ والزجر اقتصر على ذلك، ولم يبسط يدَه إلى سواه، وإن احتاج فيه إلى فعلٍ مع القولِ، اقتصر على أيسرِ ما يمكن زوالُه به، ولم يجاوز ذلك، وإن احتاج إلى القتال قاتَلَ عليه. ورتَّب ذلك على حسب ما يؤدِّيه اجتهادُه وغلبةُ الظنِّ، فإن لم يمكن إنكارُه بلسان، ولا يد، أنكر بقلبه، ورغب إلى الله تعالى في إزالته. قال: هذا الذي أشرتُ إليه. ولا يبلغ مُنْكِرُ المُنْكَرِ بالسيف ¬

_ (¬1) سقط في "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "ولا"، والمثبت من "ت". (¬4) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 320). (¬5) في الأصل: "ما هذا"، والمثبت من "ت".

والسلاح إلا مع السلطان (¬1)، ولكن ينكر بما دونَ السيفِ والسلاحِ (¬2). [و] (¬3) هذا التدريج الذي حكينا، ذهب إليه غيرُ واحد من الأشعريةِ والمعتزلةِ، والذي ذكرته آنفاً هو عن بعض الأشعرية. ورأيت بعض المتكلمين، وبعضَ من تكلم في التفسير [قد] (¬4) استأنس في ذلك بقوله (¬5) تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} [الحجرات: 9]، فأمرَ أولاً بالإصلاح، وفي الأخير بالقتال. قال المفسّرُ بعد أن تلا الآيةَ: قدَّمَ الإصلاح على القتال، وهذا يقتضي أن يبدأ - في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالأرفقِ فالأرفقِ مترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ، قال: وكذا قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34]، وإذا لم يتمَّ الأمرُ بالتغليظ والتشديد، وجب عليه القهرُ (¬6) باليد، فإنْ عَجَزَ فبالقلبِ (¬7). قلت: هذا الذي ذكر من التدريج إن كان على سبيل الاستحباب فلا بأسَ، وإن كان على سبيل الوجوب، فيُشكل عليه حديثُ أبي ¬

_ (¬1) "ت": "سلطان". (¬2) في الأصل زيادة: "إلا مع السلطان ولا ينكر". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "بذلك في قوله"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "التغيير". (¬7) انظر: "التفسير الكبير" للرازي (8/ 147).

سعيد الخُدْري - رضي الله عنه - الصحيح: "منْ رأى مُنْكَراً فَليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستَطِعْ فبلسانِهِ، فإن لم يستطِعْ فبقلبِهِ، وذلكَ أضعفُ الإيمان" (¬1). فأمرَ بالتغيير أولاً باليد، وشرطَ في الاكتفاء بتغيير اللسان عدمَ الاستطاعة بتغيير اليد، وما ذكره من الاستشهاد على ذلك بقتالِ البغاة، وكذلك ما يمكن أن يُستشهد به عليه من دفع الصائل، فإنه يجب البَداءةُ فيه (¬2) بالأهون فالأهون، فالسببُ فيه أنَّ قتلَ المسلمِ مفسدةٌ [عظيمة] (¬3) [عظمُي] (¬4) عند الله من زوال الدنيا (¬5)، فيجب أن لا تُوْقَع هذه المفسدةُ مهما أمكن ذلك، وكذلك ضربُ المرأةِ مفسدةٌ لا تُوْقَعُ إلا بعد العجْز عن دفعها بما دونه لقيام المانع، فإن كان إنكارُ المنكر مما يؤدي إلى مثل هذا من إيقاع المفاسد المحظورةِ شرعاً، فهو مثل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) "ت": "فيها". (¬3) سقط من "ت". (¬4) الأصل و "ت" "أهونُ"، والمثبت أشير إلى تصحيحه في هامش "ت". (¬5) روى النسائي (3987)، كتاب: تحريم الدم، باب: تعظيم الدم، والترمذي (1395)، كتاب: الديات، باب: ما جاء في تشديد قتل المؤمن، من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم". وقد رجح الترمذي وقفه. قلت: الأحاديث في تحريم قتل المسلم كثيرة جدًا قد يبلغ مجموعها حدَّ التواتر، وقد أفردها غير واحد من العلماء بالتصنيف.

السادسة والخمسون بعد المئتين

ما ذُكِر سواء، لكنه أمرٌ عارضٌ، فلا ينبغي أن يُجعلَ ذلك حكماً عامًّا في إنكار المنكر حيث لا يؤدي إلى وقوعِ المفاسد المحرمة شرعاً، والكلامُ في درجة الوجوب. فإن قلت: الإغلاظُ سببٌ في ثوران نفس الظالم المرتكِبِ للمنكر، ولجاجِهِ فيما هو فيه، وأحبّ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَ، وربَّما أدى ذلك إلى فتنة. قلت: إن كانت هذه قضية جزئية تفرضها، وكانت البُداءة بالإغلاظ (¬1) توقع في مثل هذه المفسدة المذكورة في قتل الباغي ودفع الصائل، سلَّمناه، فلا (¬2) يجوز في هذه الصورة إلا ما يجوز في دفع الصائلِ والباغي من التدريج. وإن جعلتَ هذه المفسدةَ مقتضيةً لوجوب التدريج مطلقاً، فهذه مفسدة ألغى الشارعُ اعتبارَ دفعِها؛ لأنها عامةٌ غالبة في حق مرتكب المنكر، فلو اعتُبِرَ ذلك مطلقا أدى إلى مخالفة النص المذكور في حديث أبي سعيد، وقد يكون الشارعُ اعتَبرَ مصلحةَ الإغلاظ (¬3) على مرتكب المنكر عقوبة له على تجرّئه على حدود الله تعالى. السادسة والخمسون بعد المئتين: قد قدمنا الحكايةَ عن بعض ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالأغلظ"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "ولا". (¬3) "ت": "الإنكار".

السابعة والخمسون بعد المئتين

متكلمي الأشعرية، فإنه لا يبلغ مُنْكِرُ المنكَر بالسيف والسلاح [إلا مع السلطان، ولكن يُنكر بما دون السيف والسلاح] (¬1). وذكر محمود الخوارزميُّ المعتزليُّ تلميذُ أبي الحسين البصري اختلافاً فيما بعد النهيِ بالقولِ من المنع بالضرب والقتال قال: فقال قوم: إنَّ ذلك واجبٌ على الإمام ومن يَلِي منه دونَ غيرِه. قال: وقال شيوخُنا: بل ذلك واجب على الكل، والدليل لذلك قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} إلى قوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9]، والأمرُ في الآية بالقتال يتناول جميعَ المكلفين. وقال بعضُ مصنِّفي الشافعية الفقهاء (¬2): ومن رأى مرتكباً لمحرَّمٍ؛ كشرب الخمر وغيره من أنواع المحرمات، وافتقر في إزالته إلى شهرِ السلاح، فقد منعه الأصوليون اتفاقاً، وأجازه طوائفُ من الفقهاء (¬3). السابعة والخمسون بعد المئتين: الصَّائلُ لأخذ المال: المشهور أنّه يجوز قتالُه، وحُكِيَ عن قديم الشافعي - رضي الله عنه -: أنه إنْ أدى إلى قتل الصَّائل - أو (¬4) إتلافِ بعض أعضائه (¬5) لم يجزْ، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "من الفقهاء". (¬3) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 189). (¬4) "ت": "و". (¬5) "ت": "بعضه".

الثامنة والخمسون بعد المئتين

والمذهبُ خلافُه (¬1)، والحديثُ الصحيح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قُتِلَ دُوْنَ مالِهِ فهو شهيدٌ" (¬2) يدلُّ على الجواز، هذا في المال الكثير. الثامنة والخمسون بعد المئتين: لا يجوز إنكار المنكر بمباشرة فعلٍ محرمٍ شرعاً إلا لمعارض، لاسيما إذا كان ما يُبَاشَرُ أعظمَ مفسدةً مما يُنْكَر، فمن بَسط لسانَه بالغيبةِ والقذفِ مثلاً، فخطر ببالِ المتولِّي أن ينكرَ عليه بقطع لسانه [لم يجزْ] (¬3). وقد (¬4) نقلوا ما معناه: أن عمر - رضي الله عنه - عزم على قطع (¬5) لسان الحُطَيئةِ بسبب الهجوِ (¬6)، فإنْ صحَّ ذلك فهو من باب العزم على المصالح المرسلة، فحَمْلُهُ على التهديد الرادعِ للمصلحة أولى من حَمْلِهِ على حقيقة القَطْعِ للمصلحة، وهذا يجرُّ (¬7) إلى النظر فيما يسمَّى ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 186). (¬2) رواه البخاري (2348)، كتاب: المظالم، باب: من قاتل دون ماله، ومسلم (141)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان القاصد مهدر اندم في حقه، من حديث عبد الله بن عمرو بت العاص رضي اللُّه عنهما. (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "فقد". (¬5) "ت": "همَّ بقطع". (¬6) رواه أبو ذر الهروي في "فوائده" (1/ 120)، عن زيد بن أسلم، عن أبيه. (¬7) "ت": "ينجر".

التاسعة والخمسون بعد المئتين

مصلحة مرسلةً، والاسترسالُ في ذلك (¬1) عظيم، ويقع فيه منكراتٌ عظيمةُ الوقع في الدين، واسترسال قبيح في أذى المسلمين، ولست أنكِرُ على من اعتبر أصلَ المصالح المرسلة، لكن يحتاج إلى نظر شديدٍ، وتأمل سديدٍ، وعدمِ التجاوز للحد المعتبر. التاسعة والخمسون بعد المئتين: تكلَّموا في إنكار الولد على الوالدى (¬2)، قال بعضُ المالكية: فإذا رأى الرجلُ أحدَ أبويه على منكرٍ من المناكير فَلْيَعِظْهُما برفق، وليقل لهما في ذلك قولاً كريماً، كما أَمرَ الله تعالى حيث يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} [الإسراء: 23] الآية إلى قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]. وغيرُه رتَّب الحِسْبةَ خمسَ مراتب: الأولى: التعريف. والثانية: الوعظ بالكلام اللطيف. والثالثة: السب والتعنيف، قال: ولست أعني بالسبِّ الفحشَ، بل أن يقول: يا جاهل! يا أحمق! أما تخاف الله؟! وما يجري هذا المجرى. ¬

_ (¬1) "ت": "والاسترسال في ذلك، وشاورني بعض القضاة في قطع أنملة شاهد، والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها، وكل هذه منكرات عظيمة الوقع ... ". (¬2) "ت": "الوالد على الولد"، وهو خطأ.

والرابعة: القهرُ (¬1) بطريق المباشرة؛ ككسر الملاهي، وإراقةِ الخمر، واختلاعِهِ الثوبَ الحريرَ من رأسه، واستلابِ الشيء (¬2) المغصوب منه وردِّه على صاحبه. و [الخامسة]: التخويف بالتهديد بالضرب، أو مباشرة الضرب له حتى يمتنعَ عمَّا هو عليه (¬3). وجعلَ للولد الحسبةَ بالرتبتين الأوليين وهو التعريف، ثم الوعظ والنصح باللطف، قال: وليس له الحِسبةُ بالسبِّ والتعنيف والتهديد، ولا بمباشرة الضرب، وهما الرتبتان الأخيرتان، وهل له الحسبة بالرتبة الأخيرة (¬4) بحيث يؤدي إلى أذى الوالد وسخطِهِ؟ قال: فيه نظرٌ، وهو أن يكسرَ [مثلاً] (¬5) عودَه، ويريقَ خمرَه، ويَحِلَّ الخيوطَ من ثيابه المنسوجةِ بالحرير، ويردَّ إلى الملَّاكِ ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقَه أو أخذَه عن (¬6) إدرار ¬

_ (¬1) "ت": "والمنع بالقهر" بدل "والرابعة: القهر"، وفي المطبوع من "الإحياء" للغزالي، وعنه نقل المؤلف: "المنع بالقهر". (¬2) في المطبوع من "الإحياء" للغزالي: "واختطاف الثوب الحرير من لابسه، واستلاب الثوب ... ". (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 315). (¬4) أي: التي لم يوضح أمرها بعد، وهي الرابعة، فقد ذكر جواز الأولى والثانية، وامتناع الثالثة والخامسة. (¬5) سقط من "ت". (¬6) في الأصل و"ب": "من"، والمثبت من "ت".

ورزق من ضريبة المسلمين، إذا كان صاحبه معيناً، ويُبطل الصورَ المنقوشةَ على حيطانه، والمنقوشةَ في خشب بيته، ويكسرَ أوانيَ الذهبِ والفضةِ، فإنَّ فِعْلَه في هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب، بخلاف الضرب والسبّ، لكن الوالد قد يتأذى به ويسخطُ بسببه، إلا أنّ فعلَ الولدِ حق، وسخطَ الأبِ (¬1) منشؤه حبُّه للباطل والحرام. والأظهر في القياس أن يثبتَ ذلك للولد (¬2)، بل يلزمه أن يفعلَ ذلك، ولا يبعد أن ينظرَ إلى قُبحِ المنكر؛ كإراقة خمرِ مَنْ لا يشتدُّ غضبُه، فذلك ظاهر (¬3)، فإن كان المنكرُ فاحشاً والسخطُ شديداً؛ كما لو كانت آنيةَ بلور أو زجاج على صورة حيوان، وفي كسرِها خُسرانُ مالٍ كثير، فهذا مما يشتد فيه الغضب، وليس تجري هذه المعصيةُ مجرى الخمرِ وغيرِه، فهذا كلُّه مجالُ النظرِ (¬4). قلت: أمّا إباحةُ التعريف، والوعظ بالقول اللطيف، فلا شكَّ في [إباحة] (¬5) ذلك. وأما المنع من السبّ فصحيح أيضاً، بل لو طُولبنا بدليل على ¬

_ (¬1) "ت": "الوالد". (¬2) "ت": "للولد ذلك". (¬3) "ت": "ولا يبعد أن ينظر إلى قبح المنكر وإلى مقدار الأذى والسخط، فإن كان المنكر شديداً وسخطه عليه قريبًا؛ كإراقة خمر ... ". (¬4) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 318). (¬5) سقط من "ت".

جوازِ السب في حقِّ الأجنبي لاحتجنا إلى ذلك، لا سيما إذا كان مستغنىً عنه في إنكار المنكر. وأما الثالثة التي جعل فيها نظراً، فتحريمُ الإنكارِ على الولد عندي فيها بعيد. وأمّا ما نحن فيه من نصرة المظلوم إذا كان الأب ظالماً فأبعد؛ لاسيما إذا كان الضررُ شديداً، فلا يمكن بوجهٍ من الوجوه أن يقالَ بتحريم الإنكار على الأب بطريق المنع والدفع، وإنما اخترت هذا المذهب لوجوه: أحدها: أنَّ الأبَ إذا أُمِر بترك إنكار المنكر وكانت مخالفتُه مما يسخطُه، وجبَ أن لا يطاعَ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طَاعَةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخَالِقِ" (¬1)، وكذلك (¬2) إذا لم يكن هاهنا أمرٌ ومخالفةٌ له (¬3) بدليل، وبل أولى؛ لأنَّ المخالفةَ بعد الأمر أشدّ منها قبلَ الأمرِ. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 66)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 165)، وفي "المعجم الأوسط" (4322)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (602)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (873)، وغيرهم من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 226): رجال أحمد رجال الصحيح. (¬2) "ت": "فكذلك". (¬3) في الأصل: "ومخالفته له"، والمثبت من "ت".

وثانيها: أنَّ جنسَ هذه المصلحة؛ أعني: احترامَ الوالد (¬1)، قد ألغاه (¬2) الشرعُ في جنس المعصية حيث يقول: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، [وبسبب هذا سقطت حرمة الأبوين في الشرك، وذلك] (¬3) لتقديم حفظِ حرمات الله تعالى، ودفعِ المفاسد في الأرض على حُرمةِ الوالد. فإن قلت: فذاك في حقّ الأب الكافر لا في حق [الأب] (¬4) المسلم. قلت: قد ذكرتُ أنَّ الشارعَ أهدرَ جنسَ المصلحةِ بالنسبة إلى جنس برِّ الوالدين، ولم أقل: أهدرَ عينَها. وثالثها: أناّ إذا اعتبرنا اشتقاقَ (المحادّة)، وأخذناه (¬5) من الحدّ، وأن يكون كلُّ واحد من المُتَحادَّين في حد عن الآخر (¬6)، والمرادَ (¬7) ¬

_ (¬1) "ت": "الولد". (¬2) "ت": "ألغاها". (¬3) في الأصل: "وليس هذا لسقوط حرمة الأب، فإذاً ليس ذلك لعدم اعتبار حق الولد، فهو إذن"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "أخذها"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (3/ 140)، (مادة: حدد). (¬7) أي: اعتبرنا المراد.

بمحادّة الله تعالى مخالفةَ أمرِه وتعدِّي حدوده، أو مخالفة رسوله، أو ما أشبهه، فباعتبار الاشتقاق يدخل تحت (¬1) المخالفةِ بالمعصية، فتتناوله الآيةُ. ورابعها: الإنكارُ على الأب إحسانٌ إليه، والإحسان إليه واجب، فالإنكار عليه واجب. أما إنه إحسان إليه؛ فلأنه تخليصٌ له من ورطة العقاب واستحقاقِ العذاب، وذلك إحسان. وأما إنّ الإحسان إليه واجب؛ فلِقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، فهو عام أو مطلق [يفهم منه العموم] (¬2) في كل إحسان إلا ما خصَّهُ الإجماع، أو دليلٌ مقدمٌ على العموم. وخامسها: إذا كان منكَرُ الأب ظلماً للغير؛ كأخذ ماله أو غصبِهِ، فردُّه على المالك نصرة للأب؛ لأنه منعٌ له من الظلم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالمٌ أو مظلوماً"، وجَعَلَ نصرَه ظالماً أن يمنَعه من الظلم (¬3)، واذا كان نصراً للأب وجبَ أن يجب؛ لأنَّا أُمِرْنا بنصر (¬4) المظلوم. ¬

_ (¬1) "ت": "تحته". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) "ت": "بنصرة".

وسادسها: قد قدمتُ الإشارةَ إليه [من] (¬1) أنّ القدرَ الواجبَ من برِّ الوالدين غيرُ منضبط عندنا بضابط حاصِرٍ مُبيَّنٍ (¬2)، والقيامُ بحدود الله تعالى، ودفعُ محارمِهِ، وإزالةُ المفاسد عن الدين، قاعدةٌ معلومةُ الثبوتِ قطعًا من الشرع، وكون هذا الشيء المُزالِ منكراً و (¬3) محرماً ومفسدة، معلومٌ أيضاً قطعاً، وتقديمُ المعلومِ على المجهولِ راجحٌ. وسابعُها: أن إزالةَ المفاسد الشرعية والمنكراتِ (¬4) القبيحةِ عن الدين من مرتبة الضرورة، وجنسُ برِّ الوالدين من مرتبة التحسين أو تتمتِهِ (¬5)، ومرتبةُ الضرورة متقدمةٌ (¬6)، وليس قولنا: إنه من مرتبة التحسين والتتمة (¬7)، مما ينافي القولَ بوجوبه، فلا يُغْلَطنَّ (¬8) في ذلك. وثامنها: أنّ الأبَ - بارتكابه [ما] (¬9) حرّمه اللهُ تعالى - هاتِكٌ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "متين". (¬3) "ت": "أو". (¬4) "ت": "والمذمات". (¬5) "ت": "أو شبهه". (¬6) "ت": "مقدمة". (¬7) "ت": "أو شبهه". (¬8) "ت": "تغلطن". (¬9) سقط من "ت".

لحرمته، فإن انهتكت (¬1)، فهو هاتكُها بالحقيقة، ولا شكّ أن المسلمَ محرَّمُ الدمِ واجبُ العِصمة، فإذا صَالَ على غيرِه في نفسِهِ أو مالِهِ، دفَعه، ولو أدَّى إلى قتله، فكان (¬2) هو الهاتك لحرمته وعصمته بالصّيال. ولا ينتهض عندي غضبُ الوالد وسخطُه؛ لأَنْ يرى الولدُ المالَ المحرَّمَ تحت يده يأكله ظلماً كمالكه، ويتركَ الوالدَ (¬3) يأكلُه يستبيحُه مع القدرة على ردِّه لمالكه، هذا في غاية البُعد. فإن ترقَّينا إلى أن يراه يريدُ قتلَ المسلم بالسيف ظلماً، وتعذَّر عليه دفعهُ عنه إلا بما يُسْخطُه، فقد خرج الأمر [عن الاستبعاد] (¬4) إلى القطع يبطلان [قول] (¬5) من يقول بمنع ذلك. وأما القول بالنظر إلى مقابلة المصالح والمفاسد فهو جَرَيَانٌ على قاعدة عامّة، ولكن النظر في إن اشتدَّ غضبُ الأب، هل يقاوم (¬6) ارتكابَ هذه المعاصي؟ ومن قال: إن الابنَ إذا رأى الأبَ قد أعدَّ آلاتِ شربِ الخمر، ¬

_ (¬1) "ت": أنهتك". (¬2) "ت": "وكان". (¬3) "ت": "ويتركه الولد". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) الضمير هنا يعود على الابن؛ أي: هل يقاوم الابن ارتكابَ المعاصي؟

وأحضرَ الخمرَ إلى منزله، والابنُ قادرٌ على إزالة ذلك بالإراقة، ويكون الواجب عليه أن لا يفعلَ ذلك، ويمكِّنُ (¬1) الأبَ من الشرب؛ لأجل حرمته، فقد أتى عندنا أمراً يحتاج إلى نصٍّ شرعي مبيّنٍ لهذا الحكم، ودالٍّ عليه. [قال] (¬2): فإن قيل: ومن أين قلتم إنه ليس له الحسبةُ بالتعنيف والضرب والإرهاق (¬3) إلى ترك الباطلِ، والأمرُ بالمعروف في الكتاب والسنة ورد عاماً من غير تخصيص، وأما النهي عن التأفيف والأذى فقد وردَ، وهو خاصٌّ فيما لا يتعلق بارتكاب المنكر؟ فنقول: قد وردَ في حق الأب على الخصوص ما (¬4) يوجب الاستثناء عن (¬5) العموم؛ إذ لا خلاف في أن الجلَّادَ ليس له أن يقتُلَ أباه [في الزنا] (¬6) حَدًّا، ولا أن يباشِرَ إقامةَ الحد عليه، بل لا يباشرُ قتل أبيه الكافرِ، بل لو قطع يدَه لم يلزمه قِصاصٌ، ولم يكن له أن يؤذيَهُ في مقابلته، وقد ورد في ذلك أخبارٌ، وثبَتَ بعضُها بالإجماع (¬7)، فإذا ¬

_ (¬1) "ت": "ولا يمكن". (¬2) سقط من "ت"، والقائل: هو الغزالي رحمه الله. (¬3) "ت": "والإراقة". (¬4) في الأصل: "بما"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "على". (¬6) زيادة من "الإحياء" للغزالي. (¬7) قال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (2/ 318): قلت: لم =

لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جنايةٍ سابقة، فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع من جناية مستقبَلةٍ متوقَّعَةٍ، بل أولى، هذا قوله، أو كما قال (¬1). قلت: أمّا أنه ورد في حق الأب ما يوجب استثناءَه في إنكار المنكرات، فإن كان ذلك هي العمومات الموجبةُ لبره والإحسان إليه، فهي بالنسبة إلى العمومات الدالة على وجوب إنكار المنكر مما تتعارض فيه العموماتُ من وجهٍ دون وجه؛ لأنه إذا قال: وجب أن يُستثنى عن (¬2) الأمر بالمعروف حالُ الوالد للدلائل الدالة على [وجوب] (¬3) برِّه، قال خصمُه: وجب أن يُستثنى عن الدلائل الدالة على وجوب برِّه حالُ ارتكابِه للمعصية؛ للدلائل الدالة على وجوب الأمر ¬

_ = أجد فيه إلا حديث: "لا يقاد الوالد بالولد" رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمر. قال الترمذي: فيه اضطراب، انتهى. قال عبد الحق: هذه الأحاديث - أي: ما ورد في عدم قتل الوالد بالولد" كلها معلولة لا يصح منها شيء، وقال الشافعي: حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم: أن لا يقتل الوالد بالولد، وبذلك أقول. قال البيهقي: طرق هذا الحديث منقطعة، وأكد الشافعي بأن عدداً من أهل العلم يقولون به. انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 17). (¬1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 318). (¬2) "ت": "يستثني". (¬3) زيادة من "ت".

بالمعروف والنهي عن المنكر (¬1). فليس استثناء الأب من دلائل الأمر بالمعروف بأولى من استثناء الأمر بالمعروف من دلائل وجوب البِر إلا بترجيحٍ من خارج، وقد أشرنا إلى ما يقتضيه، وإن كان الموجبُ للاستثناءِ ما ذُكِرَ [من] (¬2) أنه لا خلافَ في أنّ الجلَّادَ ليس له أن يقتلَ أباه حدًّا، فلعل السببَ فيه أنه لا يتعيَّنُ لذلك، ويمكن إقامةُ الحدِّ بدونه، فإقدامُه عليه إيذاءٌ (¬3) واستهانةٌ من غير ضرورة، لا سيما إذا لم يتضيَّقِ الوقت في إقامة الحد. وكذلك نقول: سبيلُ إراقة الولدِ خمرَ الوالد الذي أعدَّه للشرب سبيلُ فروض الكفايات، فإن كان يمكن إزالة غيره [له] (¬4)، وارتفاع المفسدة بفعل سواه، فلا يجب عليه ذلك، بل نزيد ونقول: إنه قد يمكن أن يُعتبر في إسقاط الوجوب عن الولد ما لا يُعتبر في إسقاطه عن الأجنبي، وهذا حقيقةُ مذهبِ مالك في قتل الأبِ لولده، فإنه قال: إذا أضجعه وذبحه أُقيد (¬5) [به] (¬6) (¬7)، وحاصلُه: أن يُتَوَسَّعَ ¬

_ (¬1) "ت": "قيل له: وجب أن يستثنى عن دلائل الأمر ببره حالة ارتكابه المعصية للدلائل الدالة ... ". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "إهانة". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) من القَوَد، وهو أن يُقتَل القاتلُ بالقتيل. (¬6) سقط من "ت". (¬7) ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/ 94).

في إسقاط القصاص عن الأب بما (¬1) لا يُتَوَسَّع بِهِ في إسقاطه عن الأجنبي. وأما أن يجبَ عليه تركُ الإنكار والإراقة، والتمكينُ (¬2) من هذه المعصية الكبيرة بحفظ حرمة عاصٍ لله تعالى بارتكابها، فبعيد. فإن فُرضَ في مسألة الجلَّادِ أنه تعيَّن لإقامة الحد، والوقت مضيق لا يحلُّ التأخيرُ فيه، فقد يَمنع قيامُ الإجماع على التحريم (¬3)، والله أعلم. وأما قتلُ أبيه الكافر فليس فيه إجماع، والمذكور (¬4) عن مالكٍ وغيره: الكراهةُ في أن (¬5) يبارزَهُ، وقال سُحنون: وإن اضطرَّهُ أبوه المشركُ وخافَه، فلا بأس أن يقتلَه، وذكر في "النوادر" (¬6) في أثناء كلامٍ لغيره - أو له -: وقد تنازعَ الناس في الأب، وقد أتى أبو عبيدة إلى النّبي - صلى الله عليه وسلم - برأس أبيه، وفيه نزلت: {لَا تَجِدُ قَوْمًا} إلى قوله ¬

_ (¬1) في الأصل: "مما"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "بالتمكين". (¬3) أي: من إقامة الحد. (¬4) "ت": "والمنقول". (¬5) "ت": "بأن". (¬6) لإمام المالكية في وقته ابن أبي زيد القيرواني المتوفى سنة (386 هـ)، وعلى كتابه هذا المعوَّل في التفقه. انظر: "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 138).

الستون بعد المئتين

{آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] (¬1). ومسألةُ قطع يده لا إجماعَ فيها أيضًا، فالمالكية (¬2) ينازعون فيه، ونصَّ بعضُهم على المسألة؛ أعني: أنه لو حزَّ يدَه أنه يُقاد (¬3). الستون بعد المئتين: قال (¬4): وهذا الترتيبُ أيضاً ينبغي أن يجريَ في العبد والزوجة مع السيد والزوج، فهما قريبان من الوالد في لزوم الحقِّ، وإن كان مِلكُ اليمينِ آكدَ من مِلك النكاحِ، ولكن في الخبر أنه: "لو جازَ السجودُ لمخلوقٍ لأمرتُ المرأةَ بالسُّجودِ لبَعْلِها" (¬5)، وهذا يدلُّ على تأكيد الحق أيضاً. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (360)، والحاكم في "المستدرك" (5152)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 101)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 27)، كلهم من طريق أسد بن موسى، عن ضمرة بن ربيعة، عن عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينصب الآلهة لأبي عبيدة، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراحُ، قصدَه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية. قال البيهقي: هذا منقطع، انتهى. وقد جوَّد الحافظ ابن حجر إسناده في "الإصابة" (3/ 587). (¬2) "ت": "والمالكية". (¬3) انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 589). (¬4) أي: الغزالي رحمه الله. (¬5) رواه الترمذي (1159)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج =

الحادية والستون بعد المئتين

الحادية والستون بعد المئتين: قال: وأمّا الرعيَّةُ مع السلطان، فالأمرُ فيه أشدُّ من الولد (¬1)، فليس لها (¬2) معه إلا التعريفُ والنصحُ، وأما الرتبة الثالثة ففيها نظرٌ من حيثُ إنَّ الهجومَ على أخذ الأموال (¬3)، وردَّها إلى الملاك، و (¬4) تحليلَ الخيوطِ من ثيابِهِ الحريرِ، وكسرَ الخمورِ من بيته، يكاد يُفضي إلى خَرْقِ هَيْبتِه، وإسقاطِ حِشْمته، وذلك محذورٌ وردَ النهيُ عنه (¬5)؛ كما ورد في السكوت عن المنكر، فقد تعارضَ (¬6) فيه محذوران (¬7)، والأمر فيه موكولٌ إلى اجتهادٍ منشؤُه ¬

_ = على المرأة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقال: حسن غريب. ونقل النووي رحمه الله في "رياض الصالحين" (ع: 92) عن الترمذي أنه قال: حسن صحيح. (¬1) "ت": "الوالد". (¬2) في النسخ الثلاث: "له"، ولعل الصواب ما أثبت؛ إذ المقصود من كلام المؤلف: الرعية. (¬3) "ت": "المال من خزانته". (¬4) "ت": "وعلى"، وكذا في المطبوع من "الإحياء". (¬5) روى الترمذي (2224)، كتاب: الفتن، باب: (47). وقال: حسن غريب، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 42)، وغيرهما من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من أهان سلطان الله في الأرض، أهانه الله". (¬6) "ت": "فتعارض". (¬7) "ت": "محظوران".

الثانية والستون بعد المئتين

النظرُ في تفاحُشِ المنكر (¬1)، ومقدارِ ما سقطَ من حِشْمتِهِ بسبب الهجوم عليه، وذلك مما لا يمكن ضبطُه. الثانية والستون بعد المئتين: قال: وأما التلميذ والأستاذ فالأمر فيما بينهما أخفُّ؛ لأن المحترمَ هو الأستاذُ المفيدُ للعلم من حيث الدين، ولا حرمةَ لعالم لا يعمل بعلمه، فله أن يعامِلَه بموجب علمه الذي تعلَّمه منه. ورُوي أنه سُئِل الحسنُ [عن الولد] (¬2): كيف يحتسب على والده؟ فقال: يعِظه ما لم يغضب، فإنْ غضِبَ سكتَ عنه (¬3). الثالثة والستون بعد المئتين: قد تقدم أن الضررَ - أو (¬4) المكروه - اللاحق بالمنكِرِ مما يُسقِطُ الوجوبَ، لكن ذلك أمرٌ مترقَّب متوقَّع يكفي فيه غلبةُ الظن، فلو غلب على ظنِّه أنَّه يصيبه المكروهُ سقط الوجوب، وإن احتمل أن لا يصيبَه. الرابعة والستون بعد المئتين: فإن (¬5) غلب على ظنه أن لا يُصابَ، ولكن يجوّز ذلك، ففي "الإحياء": أن مجودَ التجويزِ ¬

_ (¬1) في الأصل و "ب": "في بقاء حشمته"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 318 - 319). (¬4) "ت": "و". (¬5) "ت": "وإن".

الخامسة والستون بعد المئتين

لا يُسقط الوجوبَ، فإن ذلك ممكن (¬1) في كل حسبة (¬2). الخامسة والستون بعد المئتين: وإن شكَّ فيه من غير رجحان، قال في "الإحياء": فهذا محلّ النظر؛ فيحتمل أن يقال: الأصل الوجوب بحكم العمومات، وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعاً، وهذا هو الأظهر. ويحتمل أن يقال: إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضَرر عليه، أو ظن أنه لا ضررَ عليه، والأولُ أصحّ نظراً إلى قضية العمومات المُوجبةِ للأمر بالمعروف (¬3). السادسة والستون بعد المئتين: التوقُّع للمكروه يختلف باختلاف الجُبن والشجاعة، فقد جُعِلَ التعويلُ على اعتدال الطبع، وسلامةِ العقل والمزاج، قال صاحب (¬4) "الإحياء": وعلى الجبان أن يتكلَّف إزالةَ الجبن بإزالة علَّتِه، وعلّتُه: جهلٌ أو ضعفٌ، ويزول الجهلُ بالتَّجْرِبة، وبزول الضعفُ بممارسة الفعل المَخُوف منه تكلفاً حتى يصيرَ معتاداً، إذ المبتدئ في المناظرة والوعظ مثلاً قد يجبُن عنه طبعُه لضعفِهِ، فإذا مارس (¬5) واعتادَ فارقَه الضعفُ (¬6)، فإن ¬

_ (¬1) "ت": "لأن ذلك يُمكن". (¬2) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 320 - 321). (¬3) المرجع السابق (2/ 321). (¬4) "ت": "في" بدل "صاحب". (¬5) "ت": "مارسه". (¬6) "ت": "الوعظ".

السابعة والستون بعد المئتين إلى تمام السبعين

صار ذلك ضروريًّا غير قابل للزوال بحكمِ استيلاء الضعف على القلب، فحكم ذلك الضعيف يتبع حالَه، فيُعْذر كما يُعذر المريضُ في التقاعد عن بعض الواجبات، وكذلك قد نقول على رأي: لا يجب ركوبُ البحر لأجل حَجَّةِ الإسلام على من يغلب عليه الجبنُ في ركوب البحر، ويجب على من لا يعظُم خوفُه منه، فكذلك الأمر في وجوب الحسبة (¬1). قلت: لا يبعد أن يُعتبر حالُ الشخص في نفسه وطبعه، ويُدار عليه الحكم في الوجوب أو السقوط، ويشهد له إطلاقُهم القولَ على ذلك الرأي بالسقوط عن الجبان المستشعر من غير أن يُكلَّف إزالةَ الجبنِ وتعويدَ النفس ركوبَ البحر؛ ليسهُلَ على طبعه ركوبُه، وتزولَ قوةُ خوفه، والله أعلم. السابعة والستون بعد المئتين إلى تمام السبعين: المكروه المتوقع غير منضبط في كلام أكثرهم، وليس مطلقُ المكروه كافيًا في سقوط الواجبِ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودرجاته تختلف، كالكلمةِ المؤذية، واستطالةِ اللسان، والضرب، والقطع، والقتل، وغيرِ ذلك مما تتفاوتُ رتبُه. ولقد بلغني عن بعض أهل الإسكندرَّية: أنه كان يأمر بالمعروفِ و (¬2) يناله المكروهُ، فقال له بعضُ فقهائهم المشهورين بالعلم، وكان ¬

_ (¬1) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 321). (¬2) "ت": "وهو".

يُنسب إلى بلدٍ: أنا لو قيل لي: يا فلاني، وذكر نسبتَه إلى بلده، يسقط (¬1) عني التكليفُ، أو كما قال. وهذا بعيدٌ لا سيما إذا عظُم المنكرُ، ولابد في هذا من الموازنة بين عِظَمِ المنكرِ والمكروهِ الذي يُتوقع، وقد طوَّل في "الإحياء" ضبطاً لهذه الأمور، ونحن نُورد منه باختصارٍ يسير، فقال: المكروه نقيضُ المطلوب، ومَطالِبُ الخَلْق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور؛ أما في النفس فالعلمُ، وأما في البدن فالصحةُ والسلامة، وأمّا في المال فالثروةُ، وأمّا في قلوب الناس فقيامُ الجاه. ثم قال: وكلُّ واحد من هذه الأربعة يطلبها الإنسانُ لنفسه ولأقاربه المختصين (¬2) به، ويُكره في هذه الأربعة أمران: أحدهما: زوالُ ما هو حاصلٌ موجود. والآخر: امتناعُ ما هو مُنتَظَرٌ مفقود. وذكر أن خوفَ امتناعِ المُنتظَرِ لا ينبغي أن يكون مُرخِّصاً في ترك الأمر بالمعروف أصلاً، ومثَّله في المطَالِب الأربعة: أما العلم: فمثالهُ تركُ الحسبة على الأستاذ خوفاً من أن يَقبُحَ حالُه عنده، فيمتنع من تعليمه. ¬

_ (¬1) "ت": "لسقط". (¬2) "ت": "والمختصين"، وكذا في المطبوع من "الإحياء".

وأما الصحة: فكتركِهِ (¬1) الإنكارَ على الطبيب الذي يدخل عليه مثلاً - وهو لابسُ حريرٍ - خوفاً [ن] (¬2) أن يتأخرَ عنه، فتمتنع بسببه صحتُه المنتظرةُ. وأما المال: فهو كتركِهِ (¬3) الحسبةَ على السلطان وأصحابه، وعلى من يُواسيه من ماله، خوفًا (¬4) من أن يَقطع إدرارَه في المستقبل، ويترك مواساتَه. وأما الجاه: فتركه الحسبة على من يَتوقع منه نصرةً وجاهاً في المستقبل، خِيفةَ أن (¬5) لا يحصلَ له الجاه، أو خيفةً من أنْ يَقبُحَ حالُه عند السلطان الذي يتوقع منه ولايةً. وقال (¬6): وهذا كلُّه لا يُسقط وجوبَ الحسبة، فإن هذه زيادات امتنعت، وتسميةُ امتناع حصول الزيادت ضرراً مجاز، وإنّما الضرر الحقيقي فواتُ حاصلٍ. ولا يستثنى من هذا شيء إلا ما تتحقق (¬7) إليه الحاجة، ويكون فى فواقه محذوز يزيد على محذور السكوت على المنكر، كما أنه إذا ¬

_ (¬1) "ت": "فتركه". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "وأما المال: فتركه". (¬4) "ت": "خيفة". (¬5) "ت": "من أن". (¬6) "ت": "قال". (¬7) "ت": "تحقق".

كان محتاجاً إلى الطبيب لمرض ناجز، والصحةُ منتظرة من معالجة الطبيب، ويعلم أن في تأخيره شدةَ الضَّنَى، وطولَ المرض، وقد يُفْضِي إلى الموت، وأعني بالعلم: الظنَّ الذي يجوز بمثله تركُ استعمالِ الماء والعدول إلى التيمم، فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يَبعد أن يُرخَّص؛ [يعني] (¬1): في ترك الحسبة. وأما في العلم: فمثلُ أن يكونَ جاهلاً بمهمَّات دينه، ولم يجد إلا معلماً واحداً (¬2)، وعلمَ أن المحتسب عليه قادرٌ على أن يسدّ عليه طريقَ الوصول إليه، لكون العالم مطيعاً له، أو مستمعاً لقوله، فإذًا الصبرُ على الجهل بمهمات الدين محذورٌ، والسكوت عن (¬3) المنكر محذور (¬4)، ولا يبعد أنْ يرجّحَ (¬5) أحدُهما، ويختلف ذلك بتفاحُشِ المنكر وشدة الحاجة إلى المعلم؛ لتعلُّقه بمهمات الدين. وأما في المال: فكمَنْ يعجَزُ عن الكسب والسؤال، وليس هو قويَّ النفس في التوكل، ولا ينفق (¬6) عليه سوى شخصٍ واحد، ولو احتسب عليه لقطع رزقه، وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرارٍ حرامٍ، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في المطبوع من "الإحياء" زيادة: "ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره". (¬3) "ت": "على". (¬4) "ت": "محظور". (¬5) "ت": "يترجح". (¬6) "ت": "منفق"، وكذا في المطبوع من "الإحياء".

أو مات جوعاً، فهذا أيضاً إذا اشتدَّ الأمرُ فيه لم يبعد أن يرخَّص له في السكوت. وأما الجاه: فهو أن يؤذيَه شريرٌ، ولا يجدُ سبيلاً إلى دفع شره إلا بجاهٍ يكتسبه من سلطان، ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحريرَ أو يشرب الخمرَ، ولو احتسب عليه لم يكن واسطةً ووسيلة [له] (¬1)، فيمتنع عليه حصولُ الجاه، ويدومُ بسببه أذى الشريرِ. فهذه كلُّها إذا ظهرت وقَوِيت لم يبعد استثناؤها، ولكنَّ الأمرَ فيها منوطٌ باجتهاد المحتسب حتى يستفتيَ فيها قلبَهُ، وَيزِنَ أحدَ المحذورَيْن بالآخر، ويرجِّحَ بنظر الدين، لا بموجب الهوى والطَّبعْ. وأما القسم الثاني، وهو فوات الحاصل: فهو (¬2) مكروهٌ معتَبرٌ في جواز السكوت في الأمور الأربعة إلا العلم، فإن فواتَه غيرُ مخوف إلا بتقصير منه، وإلا فلا يقدِرُ أحدٌ على سَلْبِ العلم من غيره. ثم قال: وأما الصحَّة والسلامة ففواتُها بالضرب، فكل مَنْ عَلِمَ أنه يُضْربُ ضرباً مؤلماً [مبِّرحاً] (¬3) يتأذى به في الحسبة، لم تلزمه الحسبةُ، وإن كان ذلك يستحب له كما سَبق (¬4)، فإذا فُهم هذا في ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "قال: فهو". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "وإن كان يستحب له ذلك".

الإيلام والضرب (¬1)، فهو في الجرح والقتل والقطعِ (¬2) أظهرُ. وأما الثروة فهو أنه (¬3) يعلم أنه تُنْهَبُ دارُه ويُخَرَّبُ بيتُه، وتُسلَبُ ثيابُهُ، فهذا أيضاً يُسقط عنه الوجوب، ويبقى الاستحباب، إذ لا بأس أن يفديَ دينَه بدنياه. ولكل واحد من الضرب والنهب حدٌّ في القلة لا يُكترث به؛ كالحبة في المال، واللَّطْمةِ الخفيف (¬4) ألمُها في الضرب، وحدٌّ في الكثرة يُتيقَّن اعتبارُه (¬5)، ووسطٌ يقع في محل الاشتباه والاجتهاد، وعلى المتديّن أن يجتهدَ فيه، ويرجحَ جانبَ الدين ما أمكن. قلت: إطلاقُ القول في اللطمة الخفيفة فيه نظرٌ بالنسبة إلى أرباب المروءات وأعيانِ الناس. قال: وأمّا الجاه ففواتُه بأن (¬6) يُضربَ ضربًا غيرَ مؤلمٍ، أو يُسبَّ على ملأٍ من الناس، أو يُطرحَ منديلُه في رقبته ويدارَ به في البلد، أو يسوَّدَ وجهُه ويطافَ به، وكل ذلك من غير ضرب مؤلم للبدن، وهو قادح في الجاه، ومؤلمٌ للقلب، وهذا له درجات. ¬

_ (¬1) "ت": "بالضرب". (¬2) "ت": "والقطع والقتل". (¬3) "ت": "بأن". (¬4) في الأصل: "الخفيفة"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل و"ب": "يتعين اعتبارهما"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "وأن".

والصواب أن يُقسَم إلى ما يُعبَّر عنه بسقوط المروءة؛ كالطواف به في البلد حاسِراً حافياً، فهذا يرخَّص [له] في السكوت؛ لأنَّ المروءةَ مأمور بحفظها في الشرع، وهو (¬1) مؤلم للقلب ألماً يزيد على ضرباتٍ معدودة، وعلى فوات دُرَيهِمَاتٍ قليلةٍ، فهذه درجة. الثانية: ما يُعبَّر عنه بالجاه المَحْضِ وعلوِّ الرتبة، فإن الخروجَ في ثياب فاخرة تجمُّل، وكذلك الركوب للخيول، فلو عَلِم أنه لو احتسب كُلِّفَ المشيَ في السوق في ثياب لا يَعتاد هو مثلَها، أو كُلِّف المشيَ راجلأ وعادتُه الركوب، فهذا من جملة المزايا، وليس المواظبةُ على حفظها محموداً، وحفظ المروءة [محمود] (¬2)، فلا ينبغي أن يسقطَ وجوبُ الحسبة بمثل هذا العذر، وفي معنى هذا ما لو خاف أن (¬3) يُتعرض له باللسان؛ إمَّا في حضرته بالتجهيل أو (¬4) بالتحميق والنسبة إلى الرياء والنفاق، وإما في غِيبته بأنواع الغيبة، فهذا لا يُسقط الوجوب إذْ ليس فيه إلا زوالُ فضلات الجاه التي ليس إليها كبيرُ حاجة، ولو تُركَت الحسبةُ بلوم لائمٍ، أو باغتيابِ فاسقٍ، أو شتمِهِ، أو (¬5) تعنيفِهِ، أو سقوطِ المنزلةِ عن قلبه، أو (¬6) قلبِ أمثاله، لم ¬

_ (¬1) "ت": "وهذا". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "أنه"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "و". (¬5) "ت": "و". (¬6) "ت": "و".

يكن للحسبة وجوبٌ أصلاً، إذْ لا تنفكُّ الحسبةُ عن ذلك، إلا إذا كان المنكرُ هو الغيبة، وعَلِمَ أنه لو أنكر لم يسكت [عن] (¬1) المغتاب، ولكن أضافَه إليه، وأدخله معه في الغيبة، فتحرُم هذه الحسبة؛ لأنّها (¬2) سبب لزيادة المعصية، وإن علم أنه يتركُ تلك الغيبةَ، ويقتصرُ على غيبته، فلا تجب [عليه] (¬3) الحسبة؛ لأنَّ غِيبتَه أيضاً معصيةٌ في حق المغتاب المذكور، ولكن يستحب له ذلك؛ ليفديَ عرضَ المغتاب المذكور بعرض نفسه على سبيل الإيثار. وقد دلَّت العموماتُ على تأكُّد وجوب الحسبة وعِظَم الخطر في السكوت عنها، فلا يقابله إلا ما عظُم في الدين خطرُه، والمالُ والنفسُ والمروءة قد ظهر في الشرع خطرُها، فأما مزايا الجاهِ والحشمةِ ودرجاتِ التجمُّل وطلب ثناء الخلق، فكل ذلك لا خطر له. قال: وأما امتناعُه لخوف شيء من هذه المَكَاره في حق أولاده وأقاربه، فهو في حقه دونَه؛ لأنَّ تأذِّيَه في حق نفسه (¬4) [أشدُّ من تأذيه بأمر غيره، ومن وجه الدين هو فوقَه؛ لأنَّ له أن يسامح في حقوق نفسه] (¬5)، وليس له المسامحةُ في حقّ (¬6) غيره، فإذاً ينبغي أن يمتنع، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "لأنه". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "لأن تأذيه بأمر نفسه". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "حقوق".

فإنه إن كان ما يفوتُ من حقوقهم يفوت على طريق المعصية كالضرب والنهب، فليس له هذه الحسبة؛ لأنهّ دفعُ منكرٍ يُفْضي إلى منكر، وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إيذاءُ المسلم أيضاً، وليس له ذلك إلا برضاهم، فإذا كان ذلك يؤدي إلى إيذاء قومه فليتركه (¬1)، وذلك كالزاهد الذي له أقاربُ أغنياءُ، فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان، ولكنه (¬2) يقصدُ أقاربَه انتقاماً منهم بواسطته، فإذا (¬3) كان يتعدّى الأذى في (¬4) حِسْبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركْها، فان إيذاءَ المسلم محذور، كما أن السكوتَ على المنكر محذور، نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال ونفس، ولكن ينالُهم الأذى بالشتم والسب [والذم] (¬5)، فهذا فيه نظر، ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحُشها ودرجاتِ الكلام المحذور في نِكَايته في القلب وقَدْحِهِ في العرض (¬6). هذا ما تيسَّر ذكرهُ على وجه الحكاية عن "الإحياء"، وقد تضمن مسائلَ كثيرةً أدخلنا بعضَها في العدد، ولم نُدخل بعضَها فيه، وكان يمكننا ذلك، ووجهُ الحاجة إلى هذه الأمور في الكلام على الحديث ¬

_ (¬1) "ت": "فإن كان يؤدي إلى أذى قومه فليتركه". (¬2) "ت": "ولكن". (¬3) "ت": "وإذا". (¬4) "ت": "من". (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 321 - 323).

الحادية والسبعون بعد المئتين

ظاهر؛ لأنها أمورٌ قد تعود على العموم بالتخصيص، ومن ضرورة الكلام على الحديث [التنبيهُ على ذلك] (¬1)؛ لأن العملَ بالعموم في محل التخصيص خطأ. الحادية والسبعون بعد المئتين: هذا الذي حكيناه عن "الإحياء" هو بحسب ما أدى إليه اجتهادُ مؤلفه رحمة الله عليه، وبسطٌ في القول - نفعه الله بذلك - على وجهٍ لم نره لغيره، وهو في محل الاجتهاد. ولا يبعد أن يسلُكَ في معرفة كثير من هذه الأحكام طريقان: أحدهما: أن ينظر إلى الأعذار التي ذكرها الفقهاءُ في إزالة حكم الطلاقِ المُكْرَه عليه، ويناظرَ بينهما وبين ما نحن فيه (¬2)، ووجهُهُ: أنّ الطلاق يتعلق به التحريم، والوطء الحرام مفسدةٌ عظمى في الشريعة ومنكر شديدٌ، والاختيارُ من بعض الوجوه حاصلٌ في تلك الأعذار؛ لأنه اختيار لدفعِ أعظمِ المفسدتين عند المطلق بتحمل أدناهما، وهذا - والله أعلم - هو الذي لَحِظَهُ من رأى وقوعَ طلاق المكره، فقد رأينا عددًا من الأعذار قد انتهض سبباً لرفع حكم المكرَه عليه رفعَ حكم (¬3) التحريم في الوطء المنكَرِ العظيمِ، فلينتهضْ لرفع حكم التحريمِ في السكوت عن المُنكَر. الطريقة (¬4) الثانية: أن ينظرَ إلى ما وقع فيه نصُّ الفقهاء من الأعذار ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "في إزالة حكم الإكراه على الطلاق، وينظر بينها وبين ما نحن فيه". (¬3) "ت": "لرفع حكم الإكراه، فقد رفع حكم". (¬4) "ت": "والطريق".

الثانية والسبعون بعد المئتين

التي أسقطوا بها بعضَ الواجبات على الأعيان بالنسبة إلى الشخص المعيّن بقياس (¬1) ما يقع فيه النظرُ (¬2) من هذه الصورة إليه، وفنظر هل يساويه، أو يترجَّحُ عليه، أو يقصرُ عنه؟ فإن ساواه، أو رجح، فهو عذرٌ مُسقِطٌ للوجوب على مقتضى مذهب من قال بسقوط الواجب في الأصل، وإن نقصَ عنه فليس بعذرٍ بالنسبة إلى قول ذلك القائل، وإذا أردنا أنْ نجعلَه عذراً لم يكن بالقياس إلى ما نصَّ عليه ذلك القائلُ، بل بطريقٍ آخرَ إن وُجد. هذا كله بعد العلم بأنه لا بدَّ من مراعاة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وفي أمثال هذه الأمور يتسع المجالُ، ويحتاج الناظرُ إلى علم كثير بالمواد الشرعية، وذهنٍ ثاقبٍ، [وورعٍ (¬3) شديدٍ، والله الموفق. قال، (¬4) [من البسيط]: لا تحسبِ المجدَ تمراً أنت آكِلُهُ ... لنْ تبلُغَ المجدَحتى تلعَقَ الصَّبِرا (¬5) الثانية والسبعون بعد المئتين: هاهنا سؤالات ترِدُ على ما تقدَّم، نذكرها على سبيل النظر فيها، والتنبيه على الفكر في أحكامها. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فقياس"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "النظر فيه". (¬3) في الأصل: "ونظر"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) البيت لرجل من بني أسد، كما في "الحماسة - شرح المرزوقي" (4/ 1511).

الثالثة والسبعون بعد المئتين

منها: أنَّا حكينا عن كتاب "الإحياء" في مرتبة الجاه الفرقَ بين ما كان من قَبيلِ المروءة و [ما كان من] (¬1) قبيل التجمُّل؛ ولك أن تقول في قسم التجمل: إنهم سامحوا في بيع مال المفلس في هذا الجنس، وتركوا له دَستَ (¬2) ثوبٍ يليق يه، هذا مشهور [ما] (¬3) في الكتب، وإن كان بعضُ المالكية قد خالفَ فيه وقال: يُترك له ما يواريه (¬4)، ولا شك أنَّ إيفاءَ الديونِ واجبٌ مضيق، وقد اشتُهر أن حقوقَ العباد مبنيةٌ على المُشَاححة، فما السبب في المسامحةِ هاهنا، وعدمِها في باب ترك المنكر. الثالثة والسبعون بعد المئتين: وكذلك أيضًا سامحوا بأكثر من هذا في الكفارات في الانتقال (¬5) إلى الأبدال فيها، وهي من حقوق الله تعالى، فالنظر فيها كذلك، والله اعلم. الرابعة والسبعون بعد المئتين: ذكروا أعذارأ تُبيح تركَ الجمعة، كالمطر (¬6)، والوحل الشديد وغيرِ ذلك، وبعضُ هذه الأعذار يستبعد ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) الدَّستُ من الثياب: ما يلبسه الإنسان ويكفيه لتودُّده في حوائجه، والجمع دُسوت، انظر: "المصباح المنير" للفيّومي (ص: 74) (مادة: دست). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "التاج والإكليل" لابن المواق (5/ 46 - 47). (¬5) "ت": "الانتقالات". (¬6) في "ت" زيادة: "والريح العاصف بالليل"، وكأنها خطأ.

الخامسة والسبعون بعد المئتين

أن يكونَ عذراً في ترك الأمر بالمعروف، وإذا كان كذلك والجمعةُ فرضُ عينٍ، فإباحةُ تركِها لهذا العذر دونَ إباحة تركِ [إنكار] (¬1) المنكر الذي فُرض على الكفاية يحتاج إلى بيان سببه، وما يقال في هذا [و] (¬2) في الكفارات من أن لها بدلاً فيُسامَح فيها، ضعيف ليس بالمتين القويّ؛ لأن اعتبارَ الأبدال وتجويزَ العدول إليها إنما هو بعد تعذُر الأصول، والشأنُ في تعذر الأصول بسبب هذه الأعذار حتى يترتب عليه الانتقالُ إلى البدل، ومجردُ كونِ الشيء له بدلٌ لا يقتضي المسامحةَ بأصله، إلا على ملاحظة قاعدة الاستحسان الضعيفة، والله أعلم. الخامسة والسبعون بعد المئتين: قد ذكرنا في جملة ما يندرج تحت الظلمِ ظلمَ الإنسان لنفسه {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، وإنَّ امتناع الشخص من المعاصي قد يكون نصراً على ضعف ذلك، فإن المفهومَ من اللفظ المغايرةُ بين الناصر والمظلوم. وهاهنا مرتبةٌ أخرى أقربُ من هذا، وهي أن يظلمَ الإنسانُ نفسَه بمنكرٍ يفعله فيها، فيُمنع منه على طريق إنكار المنكر، ويكون نصرًا للمظلوم لكن من غيره، فمِنْ هاهنا يكون أعلى من تلك المرتبة. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت".

السادسة والسبعون بعد المئتين

مثالُه: لو أراد أن يقطع يدَ نفسه، أو يُتلفَ بعضَ أعضائه، إلى غير ذلك، فيجب منعُه منه على طريق الحسبة بإنكار المنكرات؛ لأنَّ نفسَه ليست له حتى يتصرفَ فيها بالإتلاف، وإنما هي لله تعالى، فلا يجوز التصرفُ فيها إلا بما يأذن فيه المالكُ سبحانه وتعالى. السادسة والسبعون بعد المئتين: نشأ عن هذا إشكالٌ في بعض صور المنع في مثل هذا، وهو ما إذا توقف منعُه من قطع يده على قتاله، فهل يجوز قتالُه، وإن أدّى إلى قتله؟ ووجه الإشكال فيه: أنَّا إذا أبحنا ذلك، كان فيه إتلافُ جملةِ البدنِ، واليدُ منه، فكيف يُتلَفُ كلُّه؛ [للمنع] (¬1) من إتلاف بعضه الذي يدخل إتلافُه تحت إتلافِ الكُلّ؟ وقد قيل في جواب هذا السؤال بعد أن حكم بقتاله ومنعه: إنه ليس غرضُنا حفظَ نفسِه وطرفِه، بل الغرضُ حسمُ سبيلِ المنكرات والمعاصي، وقتلُه في الحِسبة ليس بمعصية، وقطعُه طرفَ نفسه معصية، وذلك كدفع الصائل على مال مسلم بما يأتي على قتله، فإنه جائز لا على معنى أنَّا نفدي به درهما من مال مسلم، فإن ذلك مُحال، ولكنَّ قصْدَه لأخذ مال المسلمين معصية، وقتلَه في الدفع عن المعصية ليس بمعصية، وإنما المقصود دفعُ المعاصي. السابعة والسبعون بعد المئتين: قد قدّمنا أن نصرَ المظلوم قد ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

يكون بالمنع قبل الوقوع، ويكون في حال الوقوع، ويكون بعد الوقوع، وذلك كلام جلي (¬1)، ويبقى النظر فيما به يُزال في هذه الأحوال، فإنه قد يمتنع الإنكار ببعض الوجوه بالنسبة إلى بعض هذه الأحوال. ومثالُه: ما إذا كان الشخص إذا خلا بنفسه قطَعَ طرَفَ نفسِهِ، فالمنعُ هاهنا بقتله في الحال أو بقتاله المؤدي (¬2) إلى قتله ممنوعٌ، وعُلِّل بأنه لا يُعلم يقيناً، ولا يجوز سفكُ دم بتوهُّمِ معصيةٍ، ولكنا إذا رأيناه في حال المباشرة للقطع (¬3) دفعناه، فإن قاتَلنا قاتلناه، ولا نبالي بما يأتي (¬4) على روحه، هكذا قيل (¬5). وفي التصؤير تضييقٌ؛ لأنَّا إنْ تركناه حتى يشرع في القطع حقيقةً وقعتِ المفسدة، ولو في ابتداء القطع، فإن الجرح أيضاً مُنكَر ومحرم، فلا بد أن يقع الإنكار قبل الشروع، إنْ أراد بالشروع الشروعَ في حقيقة الأمر، وينبغي أن يُفْصَل في هذا بين القُرْب والبعد من الشروع، وقوةِ احتمالِ أن لا تقع المفسدة وضعفِه (¬6)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "جملي"، والمثبت من "ب". (¬2) "ت": "المفضي". (¬3) "ت": "مباشرة القطع". (¬4) "ت": "يتأتى". (¬5) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 324). (¬6) "ت": "ضعفها".

الثامنة والسبعون بعد المئتين

الثامنة والسبعون بعد المئتين: قسَّم في "الإحياء" المعصيةَ على أحوال: إحداها: أن تكونَ المعصيةُ متصرِّمةً، فالعقوبة [متصرمةٌ] (¬1) على ما تضرم منها حذاً أو تعزيراً، وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد (¬2). قلت: هذا صحيحٌ في العقوبة بالحدّ والتعزير - فيما يوجب ذلك على مقتضى ما اشتُهر، ولكنَّ نصرَ المظلوم الذي نحن فيه أخصُّ من مطلق الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ونصرُه بالنسبة إلى الظلم في الأموال يحتاج إلى نظرٍ آخرَ، فإِنَّ نصرَه في باب الأموال بردّ الظُّلامة على المالك، فهل ذلك للآحاد؟ أما إذا كانت العينُ المغصوبة قائمةً، فإن للإمام أن ينتزعها من يد الغاصب ويردَّها على المالك، وهل للآحاد ذلك؟ إن كان الغاصب حربيًّا جاز، وإلا فوجهان للشافعية، رحمهم الله (¬3). فهذا إنكارُ منكرٍ بعد تصرمِه وانقضائه؛ لأن الغصبَ قد وقع وانقضى، فإذا أجيز (¬4) ذلك، كان لغير الولاة إنكارُ المنكر المتصرمِ في ¬

_ (¬1) سقط من "ت" و"ب". (¬2) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 324). (¬3) انظر: "الوسيط" للغزالي (4/ 284)، و"روضة الطالبين" للنووي (5/ 393). (¬4) في الأصل: "جبر" والتصويب من "ت".

التاسعة والسبعون بعد المئتين

هذه الصورة، إلا أن يرادَ بالمُتصرِّم أمرٌ لا يدخل تحته بقاءُ العين؛ كالتلف مثلاً. التاسعة والسبعون بعد المئتين: إذا فرضنا العينَ تالفةً، وقدرَ المحتسب على جنس مالِ المظلوم، فهل له أخذُه حيث يجوز للمالك أخذه؛ ليرُدَّ على المظلوم ظلامتَه؟ هذا أبعدُ مرتبةً من المرتبة التي قبلها، فليُنظرْ فيه؛ لأنّا إذا أجزنا مثلَ هذا للمظلوم، فإنما نجيز أخذَه تملّكا، والمحتسبُ لا يأخذه لذلك، بل لتمكين المالك من تملّكه عند أخذه، فقد يقال: إنَّ بَدلَ العين قائمٌ مقامَها، فمن أجاز للآحاد أخذَ العين للرد فلْيُجِزْ هذا، وقد يقال بخلافه لنقص المرتبة. الثمانون بعد المئتين: وَجدَ ما يخالف جنسَ مال المظلوم، وجوَّزنا للمظلوم أخذَه، فهل (¬1) للمحتسب أخذُه؛ ليتمكَّنَ المالكُ من الوصول إلى حقه بالتملُّك؟ هذه أبعد مِنَ التي قبلها في المرتبة (¬2)، وليس يبعد - إنْ أُجيز ذلك - أن يُدرجَ تحت العمومات، كقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، والأمرِ بنصر المظلوم، وغير ذلك، ولكنَّ مثل هذا يُنظر فيه إلى القواعد، وقوةِ الموانع وضعفِها بالنسبة إلى قوة ¬

_ (¬1) "ت": "فقيل". (¬2) "ت": "الرتبة".

الحادية والثمانون بعد المئتين

العموم وضعفِه، والله أعلم. الحادية والثمانون بعد المئتين: قد حكينا خلافاً في أنه: هل للآحاد انتزاعُ العينِ المغصوبة من الغاصب غير الحربي؛ ليردَّها على المالك؛ فإذا أبحناه فيُنظر، [هل] (¬1) يجب؛ لما فيه من نصر المظلوم وإزالة المنكر، أم لا؟ قد فرَّعوا (¬2) على القول بالإباحة أن العين تكون أمانةً عند المُنتَزِع، وعلى القول بالمنع أنه يلزمه الضمان، فعلى القول بالإباحة لا يقوم هاهنا معارِضٌ يتوهم [به] (¬3) إسقاطُ الوجوب، وهو لزوم الضمان، وإنّما يبقى النظر في مانعٍ غيره، وهو كيفية إزالته، ومراتب ما يُزال به. قال في "الإحياء": الثانيةُ (¬4)، يعني: الحال الثانية: أن تكون المعصيةُ راهنةً وصاحبُها مباشرٌ لها؛ كلُبْسِه الحريرَ، وإمساكِه العودَ والخمرَ، فإبطال هذه المعصية واجبٌ بكل ما يمكن، ما لم يؤدّ إلى معصيةٍ أفحشَ منها أو مثلِها، وذلك يثبت للآحاد والرعية. قلت: قد تقدم في هذا من الكلام لغيره، وبماذا يُنْكر. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "وفرعوا". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) من أحوال المعصية الثلاثة.

الثانية والثمانون بعد المئتين

الثانية والثمانون بعد المئتين: قال: والثالثةُ: أن يكون المنكر متوقعاً؛ كالذي يستعدُّ بكنس المجلسِ وترتيبهِ، وجمع الرياحين [لشرب الخمر] (¬1) وبعد لم يُحضر الخمرَ، فهذا مشكوك فيه، وربما يعوقُ عنه عائق، فلا يثبت للآحاد سلطتُه على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما بالتعنيف [أو] (¬2) الضرب، فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان. قلت: يقوى المنعُ بالتعنيف إذا قَوِيتِ القرائنُ، فإنّ المقصودَ [منع] (¬3) فعلِ المنكر المتوقع، بل ولا يبعد الضرب من السلطان إذا أصرَّ على [ترك] (¬4) رفع الآلات التي تبيَّن أنها معدةٌ للشرب. الثالثة والثمانون بعد المئتين: قال: إلا إذا كانت تلك المعصيةُ معلومةً منه بالعادة المستمرة، وقد أقدم على السبب الذي يُفضي إليها، ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس [له] فيه إلا الانتظار، وذلك كوقوف الأحداثِ على باب حمّامات النساء للنظر إليهن عند الدخول والخروج، فإنهم، وإن لم يضيقوا الطريقَ لسعته، فتجوزُ الحسبةُ عليهم بإقامتهم من الموضع، ومنعِهم من الوقوف بالتعنيف والضرب. ¬

_ (¬1) زيادة من "الإحياء". (¬2) في الأصل: "و"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت".

قال: وكأن حقيقةَ هذا إذا بُحِثَ يرجع إلى أن هذا الوقوفَ في نفسه معصيةٌ، وإن كان مقصدُ العاصي (¬1) وراءه، كما أن الخلوة غالباً (¬2) بحيث لا يقدر على الانفكاك منها (¬3) [معصية] (¬4)، فإذاً هو على التحقيق حسبة على معصية راهنةٍ، لا على معصية منتظرة (¬5). ولقائل أن يقول: إما أن تُعتبرَ في تحقيق هذه المعصية - التي عُدَّت راهنةً لا منتظرة - القرائنُ التي تدل على مقصد الفاعل، أولا؟ فإن اعتُبرت تلك القرائن، فإعدادُ آلات الشرب، وترتيبُ المجلس على الوجه المعتاد للشرب، من غير حضور سببٍ آخرَ يقتضي ذلك، وإحضارُ الآلات المعدة لأَنْ توضعَ فيها الخمر، قرائنُ تدل على قصد الإعداد للشرب المحرم، وإعدادُ آلات الشرب للقضد المذكور معصيةٌ راهنةٌ فليُنْكَرْ. وإن لم تعتبر القرائن في تحقيق قصد الفاعل، وطلب العلم فيها، فقرائنُ (¬6) الحداثة والوقوفِ على باب الحمام سبيلٌ (¬7) يُحصِّل العلمَ ¬

_ (¬1) "ت": "المعصية". (¬2) في الأصل: "عالماً"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬3) في الأصل: "عنها"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 324). (¬6) "ت": "بقرائن". (¬7) "ت": "سبب".

الرابعة والثمانون بعد المئتين

بقصد الواقف للرؤية المحرَّمة، بل ندَّعي أنَّ بعضَ القرائن والأحوال في إعداد آلات الشرب ربّما تكون أقوى. وقد ذكر بعضُ المتكلمين في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يغلِبَ على ظنِّ الآمر أو الناهي أن المعروف لا يُفعل وأن المنكر يَقعُ، نحو أن يراه لا يتهيأ للصلاة وقد ضاق وقتُها، أو يهيئ آلاتِ شرب الخمر، وهذا يقتضي أنَّ تهيئَةَ (¬1) آلات الشرب منكر يقتضي الإنكار. الرابعة والثمانون بعد المئتين: شرطوا في إنكار المنكر أن يكون كونُه منكرًا معلومًا بغير اجتهاد، وكل (¬2) ما هو في محل الاجتهاد فلا حِسبة فيه، فليس للحنفيِّ أن ينكرَ على الشافعي أكلَ الضبِّ والضَّبع ومتروكِ التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفيِّ شربَ النَّبيذ الذي ليس بمُسكر، وتناولَه ميراثَ ذوي الأرحام، وجلوسَه في دارٍ أخذها بشُفْعة الجوار، وغيرَ ذلك من مجاري الاجتهاد (¬3). ولسائلٍ أن يسأل فيقول: قد جعلتم من جملة نصر المظلوم إيفاءَ الحقوق المالية إذا أُخذت على وجه التعدّي، وهذا النوع مما يقع فيه الاختلاف عن العلماء؛ كإتلاف خمر الذميِّ عليه عمدًا أو تعديًا، فإنَّ ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": "تهيئ"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "فكل". (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 326).

مالكًا وأبا حنيفةَ يغرّمان المُتلف (¬1)، والشافعيُّ لا يُغرِّمه (¬2)، وحصل الاتفاق على أنه إذا رُفع إلى الحاكم شيء من هذا النوع قبل أن يحكم فيه غيرُه بشيء: أن عليه أن يحكُمَ بموجب اجتهاده؛ فعلى المالكيِّ والحنفيِّ أن يحكما بالتغريم، وعلى الشافعي أن لا يحكم به، وحينئذ نقول: أحدُ الأمور الثلاثة لازمٌ، وهو إما أن لا يكون شيء من مسائل الاجتهاد داخلًا تحت حقيقةِ الظلم عند من يعتقد التغريمَ فيها، أو يكون (¬3) ما ذكرتموه من العموم والخصوص فيما بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صحيحًا، أو يكون العموم الذي ذكروه في اشتراط أن لا يكون في محل الاجتهاد مخصوصًا لا على حقيقته، واللوازمُ الثلاثةُ منتفيةٌ. بيان لزوم أحد الأمور الثلاثة: أنَّ ما هو من هذا النوع لا يخلو إمّا أن (¬4) يكون داخلاً تحت حقيقة الحكم عند من يرى التغريم، أو لا. فإن لم يكن فهو أحدُ الأمور الثلاثة. وإن كان [داخلًا] (¬5) تحت حقيقة الظلم؛ فإما أن يكون داخلًا ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 21)، و"التاج والإكليل" لابن المواق (5/ 280). (¬2) انظر: "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 397). (¬3) في "ت": "لا يكون". (¬4) "ت": "من". (¬5) زيادة من "ت".

تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا. ومتى (¬1) لم يكن داخلًا تحته لزم بطلان ما ذكرتموه من العموم (¬2). وإن كان داخلًا تحته وقد حصل الاتفاق على وجوب حكم الحاكم بما أدى إليه اجتهادُه فيه، فحينئذٍ يكونُ بعضُ أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُشترط فيه الاتفاق، ويجري في محلِّ الاجتهاد، [فـ] (¬3) ـيلزم تخصيصُ قولهم العامّ في: أنه (¬4) يشترط أن لا يكون في محل الاجتهاد، وهو أحد الأمور الثلاثة. وبيان انتفاء اللوازم الثلاثة؛ أما كونُه ليس بظلم فظاهر الانتفاء؛ لأن الظلمَ الماليَّ هو التعدي على مال الغير، وهذا تعدٍّ على (¬5) مالِ الغير، فيكون حدُّ الظلم منطلقًا عليه. وأما كونُ النصرة بردّ الظُّلامة في صور الخلاف داخلًا تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلوجهين: أحدهما: أنه ليس المرادُ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ¬

_ (¬1) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت". (¬2) في "ت" زيادة: "والخصوص بينهما؛ لأن الخاص داخل تحت العام، وهو أحد أجزاء العام". في الأصل: "فإنه"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "فإنه"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "إلى"، والتصويب من "ت".

إيرادَ صيغةِ الأمر والنّهي، وإنما المرادُ إزالةُ المنكرِ والحملُ على المعروف، فإذا فعل ذلك في إلزام الغرامة في هذه الصور (¬1) المختلفِ فيها، فقد وُجد الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر، أو ما ينطلق عليه ذلك. والدليلُ على أن المراد بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر ما قلناه: الاتفاقُ على أنَّ من رأى خمرًا بيد إنسان مثلًا، فأراقها من غير كلمةٍ قصد بها الأمر أو النهي، أنه خرج عن العُهدةَ (¬2)، وأنه لا يعصي بترك صيغة الأمر أو النهي، وإذا كان المطلوبُ إزالةَ المنكر، فردُّ الظلامة إزالة الظلم، فيدخل (¬3) تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والوجه الثاني: لو سلّمنا أن الصيغة مطلوبةٌ، أعني: صيغةَ الأمر والنهي، [وأعني بكونها مطلوبة؛ أي: معتبرة في حقيقة الأمر والنهي] (¬4)، لكان لنا أن نقول: إنَّ للقاضي الأمرَ والنهي بما يراه حقًّا، فلنفرضْهُ قد أمَرَ بالتغريم في مسألة خمر الذمّي، أو أَمَرَ بردِّ السَّاجَة وهدمِ البناء في مسألة - غصب السَّاجة وإدراجِها في البناء، فأمْرُه هذا أمرٌ بمعروف عنده، وقد جاز له ذلك، فقد جاز الأمر بالمعروف والنهي ¬

_ (¬1) في الأصل: "الصورة"، والمثبت من "ت". (¬2) أي: أدّى الواجب الذي في ذمته. (¬3) في الأصل: "ليدخل"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الخامسة والثمانون بعد المئتين

عن المنكر في صورة (¬1) الاجتهاد. وأما انتفاء اللازم الثالث، وهو عدمُ القول بحقيقة العموم، فلأنه خلافُ الحقيقة، وخلاف المشهور المستفيض بين أرباب العلم. ولقائلٍ (¬2) أن يقول: نختار هذا القسم، وهو أن هذا العمومَ مخصوصٌ لا يتناول كلَّ صورة، وهو [و] (¬3) إن كان خلافَ الأصل، لكن جاز أن يُصارَ إليه، إذا دلَّ (¬4) الدليلُ عليه، وقد دلَّ؛ لِما تبيّنَ من إبطال كونه ليس بظلم، وكونُ إزالة الظلم داخلًا تحت الأمر بالمعروف، والتزامُ التخصيص أهونُ من مخالفة كلِّ واحد من الدليلَين المذكورَين، ولا يبقى بعد هذا إلا نوع من الجدليَّات يمكن أن يُورَد على حدِّ الظلم والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وليست الجَدَليَّاتُ بجَلَديَّاتٍ (¬5) في إثبات الأحكام الشرعية، والله أعلم. الخامسة والثمانون بعد المئتين: قد يكونُ السببُ المبيح للشيء ثابتًا في نفس الأمر وغيرَ ثابت في الظاهر، فمن تعاطاه معتقدًا للتحريم، وعلمَ غيرُه السببَ المبيحَ له، فهل ينكر عليه من حيث ¬

_ (¬1) في الأصل: "صور"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "لمسائل"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "وإذا كان"، والمثبت من "ت". (¬5) كذا في الأصل و "ت"، ولعلها من "الجَلَد" بمعنى: شديدات، فتأمله، وقد جاءت في "ب": "بجليدات".

إقدامُه على ما يعتقده معصيةً، وهو معصية، فينكر، [أو لا] (¬1)؛ لوجود السبب المبيح في نفس الأمر؟ تكلم فيه في "الإحياء"، ومثَّله بأن يجامع الأصمُّ مثلًا امرأةً على قصد الزنا، وعلم المحتسبُ أن هذه امرأته زوَّجه إياها أبوه (¬2) في صغره، ولكنه ليس يدري، وعجَز عن تعريفه لصمم، أو لكونه غير عالم بلغته. قال: فهو في الإقدام - على اعتقاد أنها أجنبية - عاصٍ ومعاقَبٌ عليه في الآخرة، فينبغي أن يمنعَه مع أنها زوجُهُ، وهو بعيدٌ من حيث إنه حلالٌ في علم الله، قريبٌ من حيث إنه حرام عليه بحكم غلطِهِ وجهلهِ (¬3). وهذا الأقربُ فيه المنعُ، وهو نُوزع في مثله (¬4) اشتباهُ الزوجة بالأجنبية، وقيل: كلتاهما حرامٌ، إحداهما بالاشتباه وهي الزوجة، والأخرى بكونها أجنبية، فعلى هذا وطءُ هذا الأصم الذي فرضت المسألة فيه حرامٌ في علم الله تعالى بسبب عدم العلم بالحل، وإنما هي حلالٌ بعد انكشاف الحال. وإنما ينشأ الاختلافُ في مثل هذا بناءً على توهُّم أن الأحكام ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) ت: "أبوه إياها". (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 326). (¬4) "ت": "وقد نوزع في مثل هذا في مسألة".

الشرعية تتنَّزل (¬1) منزلةَ الصفاتِ للأعيان، فتبقى ما بقيت العَين، فيعتقد أن حلَّ الزوجة بمثابة صفةٍ لها لا تزول عن هذا الوجه ما دامت زوجة (¬2)، وعلى كل حال فلا (¬3) بدَّ بعد هذا من النظر في مثل هذا بالنسبة إلى ما نحن فيه من نصر المظلوم لتعلُّقه بالكلام على الحديث، فليكن مثالُه: أن يعلم إنسان أن هذا المالَ الذي تحت يد زيدٍ ملكٌ (¬4) لعمرو، ولم يعلم عمرو بكونه (¬5) ملكًا له، فأقدم على أخذه من (¬6) جهة الغصب، فهل يجب على المحتسب منعُه من حيث إنه نصر للمظلوم، أم لا؟ فنقول: لا يجب عليه من هذا الوجه؛ لأنّ شرطَ كونِه نصرًا للمظلوم أن يكون ثَمَّ مظلوم، ولا مظلوم عند المحتسب؛ لعلمه باستحقاق الأخذ بالمال (¬7)، فلا وجوبَ لنصره. ونحن قد بينَّا افتراقَ نصرةِ المظلوم من غيرها من الواجبات، وإن كان واجبًا، وهذا بخلاف المسألة المتقدمة في وطء المرأة، فإنا (¬8) قد ¬

_ (¬1) "ت": "تنزل". (¬2) "ت": "زوجته". (¬3) "ت": "لا". (¬4) في الأصل و "ت": "وملكًا"، وجاءت على الصواب في "ب" كما أثبت. (¬5) "ت": "كونه". (¬6) "ت": "على". (¬7) "ت": "الأخذ للمال". (¬8) في الأصل: "فإنها"، والمثبت من "ت".

السادسة والثمانون بعد المئتين

نقول (¬1): إن المحتسب [قد] (¬2) يعلم أنها حرام على الواطئ حالةَ الجهل، وأما هاهنا فغايته أن يعلم أنه مرتكبٌ للمحرم بجهله، وليس كل ارتكاب للمحرم ظلمًا في الحال، فإنْ وجب الإنكار عليه فمن غير هذا الوجه؛ أعني: من وجه النصر للمظلوم في مالهِ (¬3)، والله أعلم. السادسة والثمانون بعد المئتين: التعدي بما يضرُّ الغيرَ ظلمٌ، وقد قدّمنا في نصر المظلوم بالنسبة إلى الأمور الماضية إيفاءَ الحقوق؛ كالتعزيرات، وحدِّ القذف، وغرامات الأموال، وأُروشِها، وكقذف (¬4) الوالدِ الولدَ، [والولدِ الوالدَ بعد عدم الإجماع] (¬5)، فهو ظلم له، فمقتضى القاعدة المتقدمة وجوبُ الحدِّ عليه، وهو المحكي عن ابن المنذر، وأبي ثورٍ. والشافعيةُ - أو من قال منهم - استثنوه، ولم يوجبوا (¬6) على الأب [والجد] (¬7) الحدَّ بقذف الولد وولد الولد، وقاسوه على القصاص بجامعِ أنه عقوبةٌ لآدمي (¬8). ¬

_ (¬1) في الأصل: "تقول"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "أعني: من غير وجه النصر للمظلوم". (¬4) "ت": "وأرشها وقذف". (¬5) سقط من "ت". (¬6) ت": "يوجب". (¬7) سقط من "ت". (¬8) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 106).

السابعة والثمانون بعد المئتين

السابعة والثمانون بعد المئتين: إذا أتلف الصبيُّ أو المجنون لغيره مالًا، وجب أن يوفَى حقُّ الغير من مالهما، وهل هو من باب نصر المظلوم، أو من باب إيفاء الحق لا غير؟ الأقربُ أنه ليس من قَبيل (¬1) نصر المظلوم؛ لأن تلازمَ كونِ (¬2) المستحق مظلومًا، [لا يلزم منه] (¬3) كونُ الفاعل ظالمًا، واللازمُ منتفٍ؛ لأن الظلم (¬4) يلزمه التعدي من الفاعل، والتعدي (¬5) يلزمه التكليفُ، ولا تكليفَ، فلا تعدّي، [و] (¬6) لا ظلم، [فلا مظلوم] (¬7)، وهذا قريب من البحث المذكور في مسألة متروك التسمية حيث استدل [بقوله] (¬8) تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، فقيل (¬9): المراد الميتة؛ لأنَّ [أكل] (¬10) متروك التسمية ليس بفسق ¬

_ (¬1) "ت": "باب". (¬2) "ت": " لأن كون". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "الظالم". (¬5) "ت": "والفاعل". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) سقط من "ت". (¬8) زيادة من "ت". (¬9) "ت": "قيل". (¬10) سقط من "ت".

الثامنة والثمانون بعد المئتين

لأنه لو كان فسقًا لكان آكلُه فاسقًا، والإجماعُ على خلافه، فقيل عليه: لا نسلم أنه ليس بفسق، والمنتفي إنما هو كون الآكل فاسقًا، وانتفى ذلك لمانع الاجتهاد واعتقاد الحل؛ أي: لا يعطى [أحكامَ] (¬1) الفاسق. الثامنة والثمانون بعد المئتين: يدخل المجاز في النصرة وفي الظلم معًا، فيقال: فلان ينصر الحق، وفلان يظلم الحق (¬2)، وليس ذلك مما يعتقد أنه مراد باللفظ بالقصد، لكنه قد يُستعار ويُتجوَّز به في هذا المعنى، وهو مفيدٌ [جدًا] (¬3) في بعض المقاصد، وهذا قريب من حملهم إماطةَ الأذى عن الطريق على إزالة الشبهات عن طريق الحق (¬4)، وما يقرب من ذلك، أو يشبهه، أو يُلِمُّ به. التاسعة والثمانون بعد المئتين: كل محرم لحقِّ الآدمي ففيه حقُّ الله تعالى، فإن مرتكبَه متعدٍّ لحدود الله تعالى، والقياس يقتضي أن ما وجب نصرةٌ للآدمي إذا أسقط حقه سَقَط، وقد يتردد في بعض الحقوق، هل يغلب عليه حقُّ الله تعالى أو حقُّ الآدمي؟ فمن غلَّب حقَّ الآدمي أسقطه بإسقاطه، ومن غلب حقَّ الله تعالى ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "ينصر الظلم". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "النظر".

التسعون بعد المئتين

لم يسقطه (¬1) لأجل إسقاطه. التسعون بعد المئتين: إقامة حد القذف على القاذف نصر للمظلوم كما قدمناه، فإذا أسقطه، فقد اختلفوا في سقوطه بعد البلوغ إلى الإمام، وهو من هذا القبيل الذي نبِّهنا عليه، فمذهب مالك: أنه لا يسقط إلا أن يريدَ المقذوفُ سترًا (¬2). الحادية والتسعون بعد المئتين: الأمر بإجابة الداعي عمومٌ يتناول الدعاء إلى الوليمة، [والوليمة] (¬3) كل مأدبة تصنع لحادثة سرور؛ كالأملاك، والنفاس، والعُرس، والختان، وفي وجوب الإجابة إلى وليمة العرس وغيرها خلافٌ، وظاهرُ العمومِ في الأمر (¬4) الوجوب، وفي وليمة العرس نصٌّ يخصُّها. الثانية والتسعون بعد المئتين: إذا علم المدعوُّ أن امتناعَه لا يَعِزُّ على الداعي، فالظاهر الوجوبُ في هذه الحالة أيضًا (¬5)، وقد أبدى بعضُهم فيه احتمالًا، وهو نظر إلى المعنى، وهو أن الأمر بالإجابة لما في تَرْكِها من إيحاش الداعي وتغيُّرِ قلبه، فإذا انتفى ذلك انتفت علةُ الوجوب، فينتفي الوجوب. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يسقط"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "الشرح الكبير" للدردير (4/ 331). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "والأمر"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "الوسيط" للغزالي (5/ 278).

الثالثة والتسعون بعد المئتين

الثالثة والتسعون بعد المئتين: اشتُرط (¬1) في وجوب إجابة الداعي أن يُخصّ بالدعوة، فلو قال الداعي لنائبه: ادعُ من لقيت، لم تجب الإجابة، كذا ذكره بعضُ مصنِّفي الشافعية (¬2)، ولا يخلو من احتمالٍ لو قيل بخلافه. الرابعة والتسعون بعد المئتين: مقتضى العموم أن يتناولَ الحكمُ كلَّ فرد من الأفراد، فمتى حصل مسمى الدعاء بالنسبة إلى كل فرد فقد تناوله الأمرُ، وعند الشافعية - رحمهم الله -: لو دعا جمعًا فأجاب بعضُهم، ففي السقوط عن الباقين وجهان خصَّهُما بعضُهم بما إذا دُعي (¬3) الجميعُ، وقال: لو خصَّ كلَّ واحد بالدعوة، أو خص كل واحد من الجماعة بالسلام، تعينت الإجابةُ على الكل (¬4). والعموم يقتضي العمومَ في الإجابة، كما ذكرناه. الخامسة والتسعون بعد المئتين: يجب تخصيصه قطعًا؛ لتحريم الإجابة على (¬5) الداعي إلى الضلالات والمعاصي. السادسة والتسعون بعد المئتين: هاهنا صور غير ما ذكرناه تقتضي التخصيص (¬6)، أو يُحتمل فيها ذلك، منها ما إذا كان في الدعوة ¬

_ (¬1) "ت": "اشترط بعضهم". (¬2) انظر: "الوسيط" للغزالي (5/ 278). (¬3) "ت": "أدعى". (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) "ت": "إلى". (¬6) "ت": "هاهنا بحث، وهو أن ثبوت غير ما ذكرناه يقتضي التخصيص في صور".

السابعة والتسعون بعد المئتين

منكرٌ كالمعازف، قال بعضُ مصنِّفي الشافعية: فإن علم أنها تزول بنهيه (¬1)، فليحضرْ من باب النهي عن المنكر، فإن (¬2) لم ينزجروا، وعجزَ عن المنع، فلا يقعد معهم مختارًا (¬3). وليس في هذا تعرضٌ للامتناع من الحضور ابتداءً، ولكنه إذا عَلِمَ الحالَ قبل الوصول، وأنه لا يزول المنكر، فهو كما بعد الحضور. السابعة والتسعون بعد المئتين: ومنها: إذا كان في البيت صورٌ على وجه ممنوع في الاستعمال، وقد ورد الامتناعُ من الدخول لأجل الصور في حديث القاسم، عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها اشترت نُمْرُقةً فيها تصاوير، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالباب فلم يدخل، فقلت: أتوبُ إلى الله تعالى مما أذنبت، قال: "فَمَا هذه النُّمرُقَةُ؟ "، فقلت: لتجلسَ عليها وتتوسَّدها، قال: "إنَّ أَصْحَابَ هذه الصُّورِ يُعذَّبونَ يومَ القِيَامَةِ، يُقَالَ لَهُم: أحيُوا ما خَلَقْتُم، وإنَّ الملائكةَ لا تدخلُ بيتًا فيه الصور"، أخرجهُ البخاري (¬4). وروى أبو داودَ من حديث إسماعيلَ بنِ عبدِ الكريمِ قال: حدّثني ¬

_ (¬1) في الأصل: "هيبة"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "وإن". (¬3) انظر: "الوسيط" للغزالي (5/ 276). (¬4) رواه البخاري (5612)، كتاب: اللباس، باب: من كره القعود على الصور، واللفط له، ومسلم (2107)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان.

الثامنة والتسعون بعد المئتين

إبراهيم؛ يعني: ابنَ عَقيل، عن أبيه، عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ، عن جابرٍ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ عمرَ بنَ الخطَّاب زَمَنَ الفتحِ - وهو بالبَطْحَاءِ - أن يأتيَ الكعبةَ فيمحوَ (¬1) كلَّ صورة فيها (¬2). وإذا ثبتَ التشديدُ في التصوير، فهو منكر من المنكرات يجب إنكارُه إن قدَرَ على ذلك، وإن لم يقدر فالحضور مع عدم الاضطرار إليه مشاهدةُ منكر من غير ضرورة، فالقواعد تمنعه. الثامنة والتسعون بعد المئتين: لمَّا كان من المخصَّصاتِ الصورُ في الدار؛ إما على وجه الكراهة، أو التحريم، وجبَ أن تُعلم الصور الممنوعة (¬3)؛ لأن التخصيص مبنيٌّ على ذلك فقيل في هذا: إنها الشاخصة والمنقوشة على السقوف (¬4) والجدران، وكذلك إذا كانت الصور على الأُزُرِ (¬5) المرتفعة والمَسَاند والسُّجوف (¬6) ¬

_ (¬1) من قوله: "فيمحو" وحتى قوله: "من رواية البخاري" في الفائدة التاسعة والخمسين بعد الثلاث مئة، سقط من النسخة "ب"، أي: بمقدار عشر لوحات. (¬2) رواه أبو داود (4156)، كتاب: اللباس، باب: في الصور، وابن حبان في "صحيحه" (5857)، وغيرهما من طريق إسماعيل بن عبد الكريم، به. (¬3) "ت": "الصورة الممتنعة". (¬4) "ت": "السُّقُف". (¬5) الإزرارُ: معروف، ويقال: أزّرتُ الحائطَ تأزيرًا؛ أي: جعلتُ له من أسفله كالأزار. انظر: "المصباح المنير" للفيّومي، (ص: 5) (مادة: أزر). (¬6) السَّجف: السِّتر. انظر: "القاموس المحيط" للفيروز أبادي، (ص: 736) (مادة: سجف).

التاسعة والتسعون بعد المئتين

فيحرم تعاطيها، والأمر باتخاذها (¬1) (¬2). التاسعة والتسعون بعد المئتين: وما (¬3) كان من الصور [مفتَرشًا] (¬4) يوطَأُ ويداس (¬5): فهو جائز عند الشافعية والمالكية، وتركُه أحسن (¬6). الموفية الثلاث مئة: تصويرُ (¬7) الشجر اختلفوا فيه: وأجازه الشافعية، والمنقول عن بعض السلف منعُه، وعن مجاهد أنه حَمَلَ قولَه تعالى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60]، على النهي (¬8)، ونفي الكونِ تارةً يكونُ المراد به للنفي (¬9) وتارة للنهي (¬10)، والظاهر أنه في الآية للنفي (¬11) كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ¬

_ (¬1) "ت": "التحريم تعاطيها واتخاذها". (¬2) انظر: "الوسيط" للغزالي (5/ 277). (¬3) "ت": "فما". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "يداس ويوطأ". (¬6) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 64)، و"روضة الطالبين" للنووي (7/ 335)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 551 - 552). (¬7) في الأصل: "صور"، والمثبت من "ت". (¬8) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 638). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 394 - 395) ومناقشته في هذه المسألة. (¬9) "ت": النفي". (¬10) "ت": "النهي". (¬11) "ت": "والظاهر من الآية أنه للنفي".

الأولى بعد الثلاث مئة

الْغَيْبِ} [آل عمران: 179]، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. ومثال النهي: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113]. الأولى بعد الثلاث مئة: في تصوير حيوان بلا رأس وجهان للشافعية رحمهم الله تعالى (¬1)، ووجه الجواز انتفاء حقيقة الصورة، وعلى ذهني الآن أن فيه حديثًا أو أثرًا (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) الصحيح منهما: أنه لا بأس به. انظر: "روضة الطالبين" للنووي (7/ 335). (¬2) "ت": "أن فيه شيئًا يؤثر". (¬3) روى الإسماعيلي في "معجمه " (2/ 662)، ومن طريقه - كما قال المناوي في "فيض القدير" (4/ 242) -: الديلمي في "مسند الفردوس" (3870)، عن عدي بن الفضل، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فلا صورة". قال الدارقطني: تفرد به عدي بن الفضل، عن أيوب، كما في "أطراف الغرائب والأفراد - تخريج ابن طاهر المقدسي" (3/ 224). قلت: وعدي هذا ضعيف، كما ذكره غير واحد، قاله الذهبي في "ميزان الاعتدال" (5/ 79). قلت: وقد تابع عديَّ بن الفضلِ وهبُ بن منبه، رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 270). وقد جاء الحديث من قول أبي هريرة - رضي الله عنه -: رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 287). ومن قول عكرمة: رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (25299).

الثانية بعد الثلاث مئة

الثانية بعد الثلاث مئة: هو عامٌّ بالنسبة إلى القضاة والداعين، وقد خصَّه بعضُهم فقال: لا ينبغي للقاضي أن يجيبَ الدعوة إلا في الوليمة وحدَها للحديث، وهذا مروي عن مُطَرِّف، وابن الماجشُون من أصحاب مالك رحمهم الله تعالى، [وقال] (¬1) في كتاب ابن الموَّاز: كُرِهَ (¬2) أن يجيب أحدًا، وهو في الدعوة الخاصة أشدُّ. وقال سُحنون في كتاب ابنه: يجيبُ الدعوةَ العامة، ولا يجيب الخاصّة، فإن تنزَّه عن مثل هذا فهو حسن (¬3) (¬4). والعمومُ يقتضي ظاهرُه المساواةَ بين القاضي وغيره، والذين استثنَوا القاضي فإنما استثنوهُ لمعارضٍ قام عندهم، وكأنه (¬5) طلب صيانته عما يقتضي ابتذالَه وسقوطَ حُرمتهِ عند العامة، وفي ذلك عودُ ضررٍ على مقصود القضاء من تنفيذ الأحكام؛ لأن الهيبةَ (¬6) مُعِينةٌ عليها، ومن لم يعتبرْ هذا رَجَعَ إلى الأمر (¬7)، فإنَ تَرْكَ العملِ بمقتضاه مفسدةٌ محققةٌ، وما ذكر من سبب التخصيص قد لا يُفْضِي إلى ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "أكره". (¬3) "ت": "أحسن". (¬4) انظر: "تبصرة الحكام" لابن فرحون (1/ 34). (¬5) "ت": "فكأنه". (¬6) "ت": "الهيئة". (¬7) "ت": "عن الأوامر".

الثالثة بعد الثلاث مئة

المفسدةِ (¬1) والنقصِ في مخالفة أمر الشارع. الثالثة بعد الثلاث مئة: هو عامٌّ بالنسبة إلى أهل الفضل وغيرهم، والمنقولُ عن مالك - رحمه الله تعالى -: أنه كَرهَ لأهل الفضل أن يجيبوا كلَّ من دعاهم (¬2). وذكر ابنُ حَبيب قال: قال مطرفٌ وابن الماجشون: وكلُّ ما لزمَ القاضيَ من النزاهات في جميعِ الأشياء فهو أجملُ به وأولى، وإِنَّا لَنُحِبُّ هذا لذوي المروءةِ والهدى أن لا يجيبَ إلا في الوليمة، إلا أن يكون الأخ في الله تعالى، أو خاصَّةِ أهله، أو ذوي قرابته، فلا بأس بذلك. وهذا تخصيصٌ آخر، ومقتضيه (¬3) أضعفُ من الأول (¬4)، وظاهرُ الحديث يقتضي الإجابةَ، والمروءةُ والفضلُ والهدى في اتّباع ما دلَّ عليه الشرع، نعم إذا تحققت (¬5) مفسدة راجحة، فقد يُجعل ذلك مخصصًا (¬6). ¬

_ (¬1) نقل هذه المسألة عن المؤلف رحمه الله: العراقي في "طرح التثريب" (75/ 7). (¬2) انظر: "تبصرة الحكام" لابن فرحون (1/ 34). (¬3) "ت": "مقتضاه". (¬4) يعني: استثناء القاضي. (¬5) في الأصل: "تحقق"، والمثبت من "ت". (¬6) ذكر المؤلف رحمه الله نحو هذه الفائدة في كتابه الآخر: "شرح عمدة الأحكام" (4/ 218). وعن المؤلف هنا نقل العراقيُّ الفائدةَ في "طرح التثريب" (7/ 78).

الرابعة بعد الثلاث مئة

الرابعة بعد الثلاث مئة: يدخل المجازُ فى الدُّعاء والداعي، كما فى [من] (¬1) دعا إلى هدى، ومن دعا إلى ضلالة، ولا يتوقف ذلك على الدعاء حقيقةً، بل [تقريره] (¬2) وإقامةِ الدليل عليه إن (¬3) كان حقًا، وإقامةِ الشبهة فيه إن كان باطلًا؛ كالدعاء في ترتيب الثواب والعقاب، والله أعلم. الخامسة بعد الثلاث مئة (¬4): أخرجوا من وجوب الإجابة في وليمة النكاح صورًا: منها: أن يكونَ الداعي كافرًا. ومنها: أن تكون الدعوةُ خاصةً. ومنها: أن تكون الدعوةُ في غير اليوم الأول. ومنها: الدعوةُ لخوف أو طمع. ومنها: أن يحضر الدعوة من يتأذى به المدعو. وهذه كلها تخصيصاتٌ إذا حُمل الأمر على الوجوب، يحتاج كلٌّ منها إلى دليل يخصُّ به، ويبقى النظر في الاستحباب والإباحة. السادسة بعد الثلاث مئة: إفشاء السلام يتناول أمرين: ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "وإن". (¬4) هذه الفائدة سقطت من النسخة "ت".

السابعة بعد الثلاث مئة

أحدهما: كثرته وشهرته بكثرة تعاطي الناس له. والثاني: الجهر به وإعلانه (¬1). ومن الإفشاء بالمعنى الأول: قولُ عمر بن العزيز - رضي الله عنه -: ولْتُفْشُوا العلمَ (¬2)، والمراد نشره بين الناس، وسنتكلم على كل واحد من المعنيين، وما يقتضيه العمومُ والتخصيصُ، والإطلاق والتقييد إن شاء الله تعالى بتيسيره، والله الموفق. السابعة بعد الثلاث مئة: المشهورُ: أنَّ ابتداء السلام سنة، وذكر أبو عمر بن عبد البر - فيما حكاه القاضي عنه -: أنه أجمعَ العلماء أن ابتداءَ السلام سنة، والردَّ فرضٌ (¬3). ¬

_ (¬1) في "ت" زيادة "إذا أتى". (¬2) ذكره البخاري في "صحيحه" (1/ 49)، باب: كيف يقبض العلم، فقال: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: "انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يَعْلَم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا". ثم قال البخاري: حدثنا العلاء بن عبد الجبار قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار بذلك. يعني: حديث عمر بن عبد العزيز إلى قوله: "ذهاب العلماء". قال الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (2/ 88): وهذا مشعر بأن باقي الكلام مدرج من كلام البخاري على كلام عمر بن عبد العزيز، وهذا يقع له في الصحيح كثيرًا. وقد أخرج أبو نعيم في "مستخرجه": بأن كلام عمر بن عبد العزيز انتهى إلى قوله: "ذهاب العلماء" وأن الباقي من كلام البخاري. (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (5/ 288 - 289). وانظر: "إكمال =

وقال العلامة أبو عبد الله [محمد] (¬1) المازَريُّ المالكي: ابتداءُ السلام سنةٌ، والردُّ (¬2) واجبٌ، هذا المشهور عند أصحابنا (¬3). وهذا يُشعر بالخلاف، وفي كلام القاضي أيضًا ما يُشعر به، فإنه حاول الجمعَ بين قول من قال أجمعوا أنه سنة، وبين إطلاق فرض الكفاية عليه؛ بأنَّ ذلك غير خلاف (¬4). قال: فإنَّ إقامةَ السنن وإحياءَها فرضٌ على الكفاية (¬5). ¬

_ = المعلم" للقاضي عياض (7/ 45). (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "ورده". (¬3) انظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازري (3/ 87). (¬4) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 4) بعد أن نقل كلام ابن عبد البر في الإجماع: ولكن في كلام المازري ما يقتضي إثبات خلاف في ذلك، كذا زعم بعض من أدركناه، وقد راجعت كلام المازري وليس فيه ذلك، فإنه قال: ابتداء السلام سنة، ورده واجب، هذا هو المشهور عند أصحابنا، وهو من عبادات الكفاية. فأشار بقوله: "المشهور" إلى الخلاف في وجوب الرد هل هو فرض عين أو كفاية، وقد صرح بعد ذلك بخلاف أبي يوسف. نعم وقع في كلام القاضي عبد الوهاب فيما نقله عنه عياض قال: لا خلاف أن ابتداء السلام سنة أو فرض على الكفاية، فإن سلم واحد من الجماعة أجزأ عنهم، قال عياض: معنى قوله: "فرض على الكفاية" مع نقل الإجماع على أنه سنة: أن إقامة السنن وإحياءها فرض على الكفاية. (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 40).

الثامنة بعد الثلاث مئة

وفيه إشكال للتنافي الحاصل من (¬1) حد الواجب [وحد السنة؛ لدخول الذمِّ على التَّرْك في حد الواجب] (¬2)، وخروجه في حد السنة، فلا بدَّ من اختلاف المحل الذي يتعلق به الحكم المختلِف، فتلخَّصَ من هذا - على ما ذكر (¬3) القاضي -: فرضيّةُ السلام من حيث الجملة، لا من حيث الإفراد. الثامنة بعد الثلاث مئة: وأمّا النظر إلى الإفراد: فمقتضى ما ذكرنا عن أبي عمر بن عبد البر الإجماعُ على أنّ ابتداءَ السلامِ سنةٌ، وليس يعارضه ما قاله القاضي، فإنَّ ذلك حكم على الجملة من حيث هي هي؛ أي: فرض أن يوجدَ السلامُ بين المسلمين، وهذا حكمٌ على الإفراد، ولا يخلو من إشكالٍ، فإنْ تمَّ الإجماعُ على عدمِ الوجوب على الإفراد، فهو دليلٌ يُخرِجُ الأمرَ عن ظاهره. التاسعة بعد الثلاث مئة: الابتداءُ إذا كان سنَّةً فهو سُنَّةُ كفايةٍ، فإذا سلَّم واحدٌ من القوم أجزأ عنهم. العاشرة بعد الثلاث مئة: المشهورُ في الردِّ أنه فرضُ كفايةٍ، فإذا سلَّم على جماعةٍ، تأدَّى الفرضُ بردِّ واحدٍ على حكم فروض الكفايات. وعن أبي يوسفَ رحمه الله تعالى: لا بدَّ أن تردَّ الجماعةُ ¬

_ (¬1) "ت": "بين". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "ذكره".

الحادية عشرة بعد الثلاث مئة

جميعها (¬1)، وظاهرُ الآية يعطيه، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، وكذلك لفظ الحديث إذا حملنا الإفشاءَ على النشر، وإيجاد السلام بالنسبة إلى المسلَّم عليهم، وليس ظاهرُه مختصًا بالمسلمين (¬2). وقد روى أبو داود في "سننه" قال: حدَّثنا الحسنُ بن علي، ثنا عبد الملك بن إبراهيم الجُدِّي، ثنا سعيد بن خالدٍ الخُزاعي قال: حدثني عبد الله بن المُفَضَّل، ثنا عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال أبو دواد: رَفَعه الحسنُ ابن علي، قال: "يُجْزِئُ عن الجماعةِ إذا مرُّوا أَنْ يُسلِّمَ أحدُهم، ويُجْزِئُ عنِ الجُلوسِ أَنْ يَرُدَّ أحدُهُم" (¬3). الحادية عشرة بعد الثلاث مئة: قال القاضي أبو الوليد بن رُشْدٍ المالكي: والاختيارُ في السلام أن يقول المبتدئُ (¬4): السلام عليكم، ويقول الرادُّ عليه: وعليكم السلام (¬5)، ولاشكَّ في انطباق لفظ السلام ¬

_ (¬1) "ت": "وليس على ظاهره بالنسبة إلى المسلِّمين". (¬2) "ت": "بالسلام". (¬3) رواه أبو داود (5210)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في رد الواحد عن الجماعة. وفي سنده ضعف، لكن له شاهد من حديث الحسن بن علي عند الطبراني، وفي سنده مقال، وآخر مرسل في "الموطأ" عن زيد بن مسلم، كما قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 7). (¬4) "ت" زيادة: "بالسلام". (¬5) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 439).

الثانية عشرة بعد الثلاث مئة

على هذا، فكأنه الأقل. وقال بعضُ مصنّفي الشافعية: وصيغةُ: (السلامُ عليكم) يقوم مقامَها: (سلامٌ عليكم) (¬1) (¬2)، وهذا ظاهرٌ أيضًا؛ لانطباقِ لفظِ السلام عليه. وقد جاء في التنكير قولُه تعالى: {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54]، وقوله: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23]، "والتعريف في التشهد: "السلامُ عليكَ أيُّها النَّبيُّ [ورحمةُ اللهِ] (¬3) " (¬4). الثانية عشرة بعد الثلاث مئة: قال القاضي أبو الوليد بن رُشْد المالكي: ويجوز الابتداءُ بلفظ الردِّ، والردُّ بلفظ الابتداء. وذكر إمامُ الحرمين الشافعي في صيغة السلام: عليكمُ السَّلامُ، مع غيرها من الصيغ. وقال المتولِّي الشافعيُّ في "التتمة": إنه لو قال: عليكم السَّلام، ¬

_ (¬1) في الأصل: "وصيغته: السلام عليكم، ويقوم مقامه: سلام عليكم"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 227). (¬3) سقط من "ت". (¬4) رواه البخاري (797)، كتاب: صفة الصلاة، باب: التشهد في الآخرة، ومسلم (402)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

الثالثة عشرة بعد الثلاث مئة

لم يكن مسلِّمًا، وإنما هي صيغةُ جواب (¬1). وكأنَّ الأقربَ هو الأول (¬2)؛ لوجهين: أحدهما: أنه يحصل به مسمَّى السلام، وينطلق (¬3) لفظُه عليه. والثاني: أنهّم قالوا: [إنه] (¬4) ينوي بإحدى التسليمتين في الصلاة الردَّ على الحاضرين، والصيغةُ صيغةُ الابتداء، [وهذا على أنّ المراد بقوله: وإنّما هي صيغةُ جوابِ حصرِ الجوابِ في عليكم السلام] (¬5). الثالثة عشرة بعد الثلاث مئة: قال بعضُ المصنِّفين من الشافعية: وتراعى صيغةُ الجمع، وإن كان السلام على واحد؛ خطابًا له وللملائكة، ولو لم يأت بلفظ الجمع، حصَّلَ أصلَ الصيغةِ (¬6). وهذا في الابتداء ظاهرٌ. الرابعة عشرة بعد الثلاث مئة: قد ذكرنا في صيغة السلام عن ابن رشد: وعليكم السلام، وقال بعضُ مصنِّفي الشافعية: وصيغةُ الجواب: وعليكم السلام، أو: وعليك السلام، للواحد (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 227). (¬2) وهو الذي صححه النووي رحمه الله. (¬3) "ت": "وينطبق". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 227). (¬7) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الخامسة عشرة بعد الثلاث مئة

ولقائل أن يقول: إن كان ابتداءُ السلام بصيغة الجمع وهو قوله: [السلام] (¬1) عليكم، فالرد بصيغة الواحد لا يكون ردًّا للتحية بأحسنَ منها أو مثلِها؛ لأنّ خطابَ الواحد بصيغة الجمع يقتضي التعظيم؛ كإيراد ضمير الجمع للمتكلمين في موضع ضمير المتكلم؛ كنحنُ فَعَلْنا، ونحن قُلنا، وأشباهِهِ، وقد قيل في قوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]: إنه خطاب (¬2) الواحد بلفظ الجمع، وإذا كان كذلك، فالرد بصيغة خطاب الواحد لا يقتضي معنى التعظيم، والابتداء بلفظ الجمع يقتضيه، أو يحتمله، فلا يكون ردًا للتحية بأحسنَ منها أو مثلِها، والاكتفاء به من حيث حصولُ مسمى السلامِ فيه. الخامسة عشرة بعد الثلاث مئة: قال القاضي [أبو الوليد] (¬3): وأمّا في الردِّ، فيقول: السلام عليكم، أو عليكم السلام ورحمةُ الله، وإنِ اقتصر على السلام أجزأه، إلا أن يكونَ المسلّمُ الأولُ زاد الرحمةَ والبركةَ، فعلى الرادِّ مثلُ ذلك (¬4). السادسة عشرة بعد الثلاث مئة: ولو ترك حرفَ العطف فقال: عليكم السلام، قال الرافعيُّ الشافعي - رحمهم الله تعالى - في "النهاية": ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "من خطاب". (¬3) سقط من "ت"، ولعل إسقاطه هو الصواب؛ إذ الكلام للقاضي عياض، لا القاضي أبي الوليد. (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 42).

السابعة عشرة بعد الثلاث مئة

يكفي ذلك ويكون جوابًا، والأحسن أن يُدخَل حرفُ العطف. قال الرافعي: وفي "التتمة": إنه ليس بجواب، وإنه لو تلاقى اثنان، فسلم كلُّ واحد منهما على الآخر، وجبَ على كلِّ واحد منهما جوابُ الآخر، ولا يحصل الجواب بالسلام، وإن ترتَّب السلامان (¬1). السابعة عشرة بعد الثلاث مئة: لو قال المجيبُ: وعليكم، قال الإمام: الرأيُ عندي أن لا يكتفيَ بهذا، فإنه ليس فيه تعرُّضٌ للسلام (¬2). ومنهم من قال: إنه يكون جوابًا للعطف، ورجوعه على قوله: السلام (¬3). قلت: هذا هو الأقربُ بالنسبة إلى حصول معنى اللفظ، وأما بالنسبة إلى امتثال قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، ففيه نظر، والله أعلم. الثامنة عشرة بعد الثلاث مئة: قال: ولو قال: عليكم، لم يكن جوابًا بلا خلاف (¬4)؛ يعني: إذا اقتصر عليه في الجواب دونَ ¬

_ (¬1) نقله النووي في "روضة الطالبين" (10/ 228). (¬2) "ت": "تعويض السلام". (¬3) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 228). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

التاسعة عشرة بعد الثلاث مئة

حرف العطف (¬1). التاسعة عشرة بعد الثلاث مئة: مما جُعل من مقتضيات إفشاء السلام؛ أنَّه لا يمنع (¬2) السَّلامَ على من هو في مساومةٍ أو معاملةٍ (¬3)، قال بعضُهم: وإلا فلا يحصل إفشاءُ السلام، والناس في أغلب الأحوال في أشغالهم (¬4). العشرون بعد الثلاث مئة: ما (¬5) يحصل به مسمى السلام فهو كافٍ في امتثال الأوامر (¬6)، والأكملُ في الابتداء أن يقولَ: السَّلام عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه. وقد ووى جعفر بن سليمان، عن عَوْفٍ، عن أبي رجاء، عن عِمرانَ بنِ حُصينٍ قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم، فردَّ عليه، ثم جلس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عَشْرٌ"، ثم جاء آخرُ فقال: ¬

_ (¬1) في "ت" زيادة: "وهذه المسائل التي تقدمت مما، ذكرنا فيها تقييدًا عن بعضهم: إذا حصل مسمى السلام في شيء منها، فمقتضاه الاكتفاء به، وعلى من ادَّعى زيادة قيد في الاعتبار، أو إخراج شيء مما يقتضيه الإطلاق، إقامة الدليل، فهذا اقتضى إدخاله هذه المسائل في الكلام على الحديث". (¬2) "ت": "يشرع"، وهو خطأ. (¬3) المرجع السابق (10/ 232). (¬4) نقله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 19) عن المؤلف رحمه الله. (¬5) "ت": "ما كان". (¬6) "ت": "الأمر كما قدمناه".

الحادية والعشرون بعد الثلاث مئة

السلام عليكم ورحمة الله، فردَّ عليه، فجلس، فقال: "عِشْرُون"، ثم جاء آخرُ، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ عليه، فجلس، فقال: "ثلاثون" (¬1). الحادية والعشرون بعد الثلاث مئة: وهاهنا تقييداتٌ وتخصيصاتٌ في الأقوال والأحوال والهيئات التي تَرجع إلى السلام أو المسلِّم (¬2)، وتُخرِج بعضَ الصور عن كونها مطلوبة، فلا بدَّ من التعرُّض لها. الثانية والعشرون بعد الثلاث مئة: قد ذكرنا انتهاءَ السلامِ إلى البركة في الابتداء، فلو زاد عليها فالمنقولُ عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه أنكر الزيادةَ [على ذلك] (¬3)، وقال: إنَّ السلامَ انتهى إلى البركة (¬4). قال القاضي أبو الوليد بن رشد المالكيُّ: في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] دليلٌ على جواز الزيادة على البركة إذا انتهى المبتدئُ بالسلام في سلامه إليها (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (5195)، كتاب: الأدب، باب: كيف السلام، والترمذي (2689)، كتاب: الاستئذان، باب: ما ذكر في فضل السلام، وقال: حسن صحيح، وغيرهما بإسناده قوي، كما قال الحافظ في "الفتح" (6/ 11). (¬2) "ت": "التي ترجع إلى السلام والمسلِّم والمسلَّم عليه". (¬3) سقط من "ت". (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 959). (¬5) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 439).

الثالثة والعشرون بعد الثلاث مئة

وقد ذكر مالك في "موطَّئه": أن رجلًا سلَّم على عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فقال: السلام عليكم ورحمته وبركاته والغادياتُ والرائحاتُ، فقال ابنُ عمر: وعليك ألفًا؛ كأنه كره ذلك (¬1). وقد روى أبو داودَ عَقيبَ حديثِ عِمرانَ بنِ حُصَيْنٍ الذي قدمناه، عن إسحاق بن سُوَيْد الرَّملي، عن ابن أبي مريم فقال (¬2): أظنُّ أني سمعت نافعَ بن يزيد قال: أخبرني أبو مرحوم (¬3)، عن سهلِ بن [معاذ ابن] أنس، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فزاد: ثم أتى آخرُ، فقال: السلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته، فقال: "أربعون"، قال: هكذا تكون الفضائل (¬4)، وهذا يدل على جواز الزيادة، بل على طلبِها (¬5)، إلا أنّه حديثٌ فيه شكٌّ (¬6). الثالثة والعشرون بعد الثلاث مئة: ذكر بعضُ مصنِّفي الشافعية: أنَّ سلامَ النساءِ على النساءِ كسلام الرجالِ على الرجالِ، ولو سلَّم ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 962). (¬2) "ت": "قال". (¬3) في الأصل: "أبو عمر حزم"، وفي "ت": "أبو عمر بن حزم" وكلاهما خطأ، والصواب ما أثبت. (¬4) رواه أبو داود (5196)، كتاب: الأدب، باب: كيف السلام. (¬5) "ت": "استحبابها". (¬6) يلمح المؤلف رحمه الله إلى ضعفه، وهو كذلك كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 6)، والسفاريني في "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" (1/ 281)، وغيرهما.

الرابعة والعشرون بعد الثلاث مئة

رجلٌ على امرأة، أو بالعكس؛ فإن كان بينهما زوجيَّةٌ، أو محرميّةٌ جاز، وثبتَ الاستحقاقُ للجوابِ (¬1)، وإلَّا لم يثبت، [إلا] (¬2) إذا كان عجوزًا خارجًا عن مَظِنَّةِ الفتنة (¬3). الرابعة والعشرون بعد الثلاث مئة: ومِنْ صور الاستثناءِ ابتداءُ السلام على المرأة الشابة: قال ابن رشد: ويُكره السلام على المرأة الشابة، ولا بأس على المُتَجالّة (¬4). والمُتَجالّة: بضم الميم، وفتح التاء ثالث الحروف، وبعدها جيم، ثم ألف، ثم لام مشددة مفتوحة (¬5). وروى أبو داود من حديث ابن [أبي] (¬6) حُسين، سمعه من شَهْرِ ابن حَوْشَب يقول: أخبرَتْه أسماءُ بنتُ يزيد: مرَّ علينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في نسوة، فسلَّم علينا (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "والجواب". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 230) وعنده: "إلا أن تكون عجوزًا خارجة عن مظنة الفتنة". (¬4) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 440). (¬5) المتجالّة: المُسنّة، يقال: جَلَّ يجلُّ جلالةً: وجلالاً: أسنّ. انظر: "القاموس المحيط" للفيروز أبادي، (ص: 880) (مادة: جلل). (¬6) زيادة من "ت". (¬7) رواه أبو داود (5204)، كتاب: الأدب، باب: في السلام على النساء، =

الخامسة والعشرون بعد الثلاث مئة

الخامسة والعشرون بعد الثلاث مئة: ومن صورهِ: بَداءةُ الكفار بالسلام: وقد روى شعبةُ، عن سُهيل بن أبي صالح قال: خرجتُ مع أبي إلى الشَّام، فجعلوا يمرّون بصوامعَ فيها نصارى، فيسلِّمون عليهم، فقال أبي: لا تبدؤوهم بالسَّلام، فإن أبا هريرة حدّثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَبْدَؤُوهُمْ [بالسَّلامِ] (¬1)، وإذا لَقيتُموهُمْ [في طريق] فاضطَرُّوهُم إلى أضيقِ الطريقِ" (¬2). وذكر (¬3) أبو الوليد بن رشد: [أنَّ] (¬4) مِنْ أهل العلم مَنْ أجاز أنْ يُبدأَ أهلُ الذمَّة بالسَّلام، وهو خلافُ ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ = وابن ماجه (3701)، كتاب: الأدب، باب: السلام على الصبيان والنساء. ورواه الترمذي (2697)، كتاب: الاستئذان، باب: ما جاء في التسليم على النساء، من حديث عبد الحميد بن بهرام: أنه سمع شهر بن حوشب يقول: سمعت أسماء بنت يزيد تحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ في المسجد يومًا، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم. وأشار عبد الحميد بيده. قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال أحمد بن حنبل: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب. (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه مسلم (2167)، كتاب: السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وأبو داود (5205)، كتاب: الأدب، باب: في السلام على أهل الذمة، والسياق له، وغيرهما. (¬3) "ت"؛ "وذكر القاضي". (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 443).

قلت: لعله أخذ بالعموم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفشُوا السلامَ بينكم" (¬1)، ولم يجعلِ الخطاب مخصوصًا بالمسلمين، [وهذا القول حكاه القاضي عن غير واحد] (¬2) من السلف فقال: وقد اختلف العلماءُ في ردِّ السلام على أهل الذمّة، فألزمه جماعةٌ إلزامَ (¬3) الردِّ على المسلمين لعموم الآية والحديث، وهو مذهب ابن عباس، والشعبي، وقَتادة. وذهب غيرُهم إلى أنَّ الآية والحديث مخصوصان بالمسلمين بدليل تفسير هذه الأحاديث التي في الباب، وأنّه لا يردُّ عليهم، ورواه (¬4) أشهب وابن وهب، عن مالك، قال: فإن رددتَ فقلْ: عليك. والذي تقدَّم من قول من قال: يرد بـ: (عليك السلام)، ذكره القاضي عن ابن طاووس، ومما يُستدلُّ به على إباحة السلام قوله تعالى: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، وقوله تعالى: {سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89]، وأُجيب: بأنه لم يَقصد به التحية، وإنما قَصد به المقاطعة (¬5) والمتاركة (¬6)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في الأصل: "حكى القاضي من السلف"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "التزام"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "رواه". (¬5) في الأصل: "المناعة"، والمثبت من "ت"، وفيها: "لم تُقصد التحية، وإنما قُصدت المقاطعة". (¬6) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 49).

السادسة والعشرون بعد الثلاث مئة

السادسة والعشرون بعد الثلاث مئة: قال القاضي أبو الوليد بن رشد المالكي: ولا يُسلَّم على أهل الأهواء كلِّهم، قاله ابنُ القاسم في سماعه من "جامع العُتبيّة"، وحكى أنه رأى ذلك من مذهب مالك، [قال] (¬1): ومعناه في أهل الأهواء الذين يُشبهون القدرية من المعتزلة والروافض والخوارج، إذ من الأهواء ما هو كفرٌ صريح لا يُختلف في أنَّ معتقدَه كافر (¬2)، ولا يُختلف في أنه لا يَسلم عليه، ومنه ما هو هوى حقيقة، فلا يُختلف في أنه ليس بكافر، فلا يختلف في أنه يسلم عليه، ويُحتمل أنه يريد أنه لا نسلّم عليه (¬3) على وجه التأديب لهم، والتبرِّي منهم، والبُغضة فيهم لله (¬4)، لا لأنهم عنده كفار (¬5)، فقد اختلف قوله في ذلك. قلت: أما إذا حُكِمَ بكفرهم، فقد تقدَّم الحكمُ في السلام على الكافر، وأما إذا لم يُحكمْ بكفرهم، وهو الصحيح، إلا في من أنكرَ معلومًا بالتواتر من الشريعة، فعلى هذا هم مُسلمون وداخلون تحت العمومات، وإخراجُهم منها تخصيص بالمانع الذي يُعتقد راجحًا (¬6) عند من يراه. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "كفر". (¬3) "ت": "يسلم عليهم". (¬4) كذا في الأصل وفي "ت". قلت: ولو قال: لهم في الله، لكان أحسن، والله أعلم. (¬5) في الأصل زيادة: "قولهم: ويحتمل أنه يريد أنه لا يسلم عليهم بأنهم عنده كفار"، ولكن مضروب عليها، وقد أسقطت من "ت". (¬6) "ت": "أنه راجح".

السابعة والعشرون بعد الثلاث مئة

السابعة والعشرون بعد الثلاث مئة: قال ابنُ رشد القاضي: لا ينبغي أن يُسلَّم على أهل الباطل في [حال تلبُّسهم] (¬1) بالباطل، ومثَّله باللاعبين بالشِّطرنج، وغيرِهم (¬2)، قال: وشبهِ ذلك (¬3). وهذا أيضًا إخراج من العموم، وتخصيص بمعارض. الثامنة والعشرون بعد الثلاث مئة: ذكرَ بعض الشافعية [أن] (¬4) في الاستحباب على الفاسق جوابين. التاسعة والعشرون بعد الثلاث مئة: مِنْ صورِ التخصيص أو التقييد: السلامُ على من يقضي حاجتَه، [وذُكر فيمن سلم على من يقضي حاجته] (¬5)، هل يستحق الجواب بعد الفراغ؟ وجهان (¬6) (¬7). الثلاثون بعد الثلاث مئة: أطلقَ صاحبُ "الوسيط" الشافعي: أنه لا يُستحب السلام على المصلي (¬8). ¬

_ (¬1) في الأصل: "جيئهم"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "وغير ذلك". (¬3) انظر: "المقدمات" لابن رشد (2/ 443). (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) جاء في "ت": "التاسعة والعشرون بعد الثلاث مئة: السلام على من هو مشغول بالذكر أو التلاوة" كذا. (¬7) انظر: "الوسيط" للغزابي (37/ 14). (¬8) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الحادية والثلاثون بعد الثلاث مئة

ولم يمنع منه المُتولِّي الشافعي، وقال: إذا سلم على المصلي فلا يُجبْه حتى يفرَغَ من الصلاة، ويجوز أن يجيبَ في الصلاة بالإشارة وغيره. ذكر عن القديم: أن المصلي إذا سُلِّم عليه يَردُّ بالإشارة، وفي لزومِهِ وجهٌ، وفي لزومه بعد الفراغ من الصلاة وجهان (¬1). الحادية والثلاثون بعد الثلاث مئة: المشغولُ بالأكل، ذكر الشيخ أبو محمد الجويني الشافعي - رحمة الله عليهما -: أنه لا يُسلَّم عليه، ورأى ولدُه إمامُ الحرمين حَمْل ذلك على ما إذا كانت اللقمةُ في فمه، وكان [قد] (¬2) مضى زمانٌ في المضغ والابتلاع، وَيعْسُر عليه الجواب في الحال، أما إذا وقع سلام بعد الابتلاع وقبل وضع لُقمة [أخرى] (¬3) في الفم فلا يَتوجه االمنع؛ حكاه الرافعي (¬4)، والله أعلم. الثانية والثلاثون يعد الثلاث مئة: إذا غلب على ظنِّه أنه إذا سلم لا يردُّ السلام، فهل يسلم؟ أجاب بعضُ [أهلِ] (¬5) العصر: أنه يسلم، ويُحتمل أن يقال: إن المفسدةَ على تقدير التَّركَ هو تركُ السنة، وعلى تقدير الفعل توريطُ ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 232). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 232). (¬5) سقط من "ت".

الثالثة والثلاثون بعد الثلاث مئة

المسلَّم عليه في المعصية، وهو أشدُّ مفسدةً من الأولى (¬1). الثالثة والثلاثون بعد الثلاث مئة: ذكر بعضُ مصنفي الشافعية: أنه لا يُستحب لمن دخل الحمامَ أن يسلِّم على من فيه، قال: لأنه بيتُ الشيطانِ وليس بموضع التحية؛ ولأنهم في الدلك والتنظيف، فلا تليق التحيةُ بحالهم. وهذا تقييدٌ أو تخصيص، وليس المعنى المذكورُ فيه بالشديد القوةِ، ولكنَّه بالنسبة إلى عدم الاستحباب قد يقرُب، لا بالنسبة إلى إثبات الكراهية (¬2) (¬3). الرابعة والثلاثون بعد الثلاث مئة: من صيغة (¬4) الاستثناءِ في جواب السلام ممّا ينطلق عليه اسم السلام: أن يقولَ المصلي (¬5): عليكم السلام، فإنه مبطل (¬6) الصلاةَ على ما ذكره الشافعيةُ، أو من ذكره ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع شرح المهذب" (4/ 510)، و"الأذكار" كلاهما للنووي (ص: 258). وهو المعنيُّ بقول المؤلف: بعض أهل العصر. وقد نقله عنه ابن حجر في "الفتح" (11/ 21). (¬2) "ت": "الكراهة". (¬3) نقله ابن حجر في "الفتح" (11/ 19 - 20)، ثم قال: قلت: وقد تقدم في كتاب الطهارة من البخاري أنه إن كان عليهم إزار فيسلِّم، وإلا فلا. (¬4) "ت": "صور". (¬5) "ت": "المسلم من الصلاة". (¬6) في الأصل: "مطلق"، والتصويب من "ت".

الخامسة والثلاثون بعد الثلاث مئة

منهم (¬1)، فليُمنعْ منه على الوجه الذي يَمنع (¬2) إبطالَ الصلاة. الخامسة والثلاثون بعد الثلاث مئة: ومما (¬3) جاء من صوره؛ أي: من صور الاستثناء في الابتداء؛ أنْ يقول: عليك السلام، من حديث أبي خالدٍ الأحمر، عن أبي غِفَار (¬4)، عن أبي تميمةَ الهُجَيمي، عن أبي جُرَي الهُجَيمي قال: أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، [فقلت: عليك السلام] (¬5)، فقال: "لا تقلْ: عليكَ السَّلامُ، فإنَّ عليكَ السَّلامُ تحيةُ الموتى" (¬6). قال القاضي عياض - رحمه الله -: ويُكره أن يقول في الابتداء: عليك السلام، وجاء في الحديثِ النَّهيُ [عنه، و] (¬7) أنه تحيةُ الموتى، ومَنعَهُ لأنها (¬8) عادةُ الشعراء والمؤنسين للموتى في أشعارهم ومراثيهم (¬9)، كقوله [من الطويل]: ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 232). (¬2) "ت"، "يمنع في". (¬3) في الأصل: "ما"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "أبي غفار"، وفي "ت": "عفان"، والصواب ما أثبت. (¬5) زيادة من "ت". (¬6) رواه أبو داود (5209)، كتاب: الأدب، باب: كراهية أن يقول: عليك السلام، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 482)، وغيرهما بأسانيد صحيحة. (¬7) في الأصل: "في"، والمثبت من "ت". (¬8) "ت": "لأنه". (¬9) في الأصل: "أشعارها ومراثيها"، والمثبت من "ت".

عليكَ سلامُ اللهِ قيسَ بنَ عاصمٍ ... وَرَحْمَتُهُ ما شاءَ أَنْ يَتَرَحَّما (¬1) لا أنَّ هذه هي السنة (¬2)، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "السلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين" (¬3)، فحياهم تحيةَ الأحياء. قال بعضُهم: ولأنَّ عادةَ العرب في تحية الموتى قد جرتْ في تقديم اسمِ المدعوِّ عليه في الشرّ، كقولهم: عليك لعنةُ الله وغضبُه، وقد قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 78]، وهذا لا حجَّة فيه؛ لأنَّ الله تعالى قد نص في المُلاَعنة على تقديم اللعنة والغضب على الاسم. قيل: السلامُ هو اسم الله (¬4)، وهو أولى بالتقديم، وهو أحسن لو سلَّم، وقد تقدم الخلافُ فيه، ويناقضُه جوازُ ذلك في الرد، وهو مما (¬5) يُختلَفُ في جوازه (¬6). ¬

_ (¬1) من شعر عبدة بن الطبيب، يرثي قيس بن عاصم، كما قال الخطابي في "غريب الحديث" (1/ 692)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (63/ 173). (¬2) في الأصل: "إلا أن هذه في السنة"، والمثبت من "ت". والمعنى: لا أن هذه التحية - تحية الموتى - هي السنة في تحيتهم. (¬3) رواه مسلم (249)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) "ت": "اسم من أسماء الله تعالى". (¬5) في المطبوع من "إكمال المعلم" "ما لا" بدل "مما". (¬6) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 41).

السادسة والثلاثون بعد الثلاث مئة

قلتُ: هذه الكراهة التي أثبتها القاضي إنَّما تقوِّي الحكمَ (¬1) بعد صحة الحديث المذكور في ذلك، والله أعلم. السادسة والثلاثون بعد الثلاث مئة: ومن هذا (¬2) القبيل كيفيةُ جوابِ سلامِ الكافرِ إذا ابتدأ بالسلام، وقد ثبت من حديث عبد الله بن دِيْنار، عن عبد الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اليهودَ إذا سَلَّمَ عليكُمْ أحدُهُمْ، فإنَّما يقولُ: السَّامُ عليكُمْ، فقولوا: وعليكُمْ" (¬3). وقال أيضًا: مِنْ حديثِ شعبةَ، عن قتَادَةَ، عن أنسٍ: أنَّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أهلَ الكتاب يُسلِّمون علينا، فكيف نردُّ عليهم؟ قال: "قُولُوا: وَعَلَيكُم" (¬4). قال القاضي أبو الوليد بن رشد: وقد روى أشهبُ، عن مالك في ¬

_ (¬1) "ت": "يقوى الحكم بها". (¬2) في الأصل: "هذه"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه البخاري (5902)، كتاب: الاستئذان، باب: كيف الرد على أهل الذمة بالسلام، ومسلم (2164)، كتاب: السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم. (¬4) رواه البخاري (5903)، كتاب: الاستئذان، باب: كيف الرد على أهل الذمة بالسلام، ومسلم (2163)، كتاب: السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف الرد عليهم.

السابعة والثلاثون بعد الثلاث مئة

"الجامع من العتبية": أنَّه لا يُسلِّمُ على أهل الذمة، ولا يَرُدُّ عليهم بمثل ما يَرُدُّ على المسلمين، وأن يقتصرَ في الردِّ عليهم بأنْ يقالَ: وعليكم؛ على ما جاء في الحديث (¬1). قلت: قد جاء الإذنُ في الردِّ عليهم بصيغة الأمر، وأقلُّ ما يدل عليه الإباحة، والله أعلم. السابعة والثلاثون بعد الثلاث مئة: قد قدَّمنا الروايةَ في الردِّ على اليهود بقوله: "وعليكم"، من رواية شعبة، عن قتادة، بإثبات الواو، وكذلك من رواية عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بالواو (¬2). قال أبو داود: ورواه الثوري، عن عبد الله بن دينار، فقال: "وعليكم" (¬3). وما في "الموطّأ": "أنَّ اليهودَ إذا سلَّمَ عليكُمْ أحدُهُمْ، فإنَّما يقولُ: السَّامُ عليكم، فقل: عليك" (¬4) بغير واو. ففرَّق ابن رشدٍ في هذا بينَ أن يتحقّقَ أنه قال: السَّامُ عليك، أو ¬

_ (¬1) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 442). (¬2) "ت" زيادة: "وعليكم". (¬3) رواه أبو داود (5206)، كتاب: الأدب، باب: في السلام على أهل الذمة. (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 960).

الثامنة والثلاثون بعد الثلاث مئة

السِّلام - بكسر السين -، وهي الحجارة، وبين أن لا يتحقق، فخيَّر في الأول بين أن يقول: (عليك) بغير واو، [أو] (¬1) (وعليك) بالواو؛ لأنه يُستجابُ لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا، على ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وقال في الثاني: إن لم يتحقَّقْ ذلك (¬3). قلت: بالواو؛ لأنك إذا قلت بغير واو، وكان هو قد قال: السلام عليك، كنت قد نفيتَ السلامَ عن نفسك، ورددتَه عليهِ. الثامنة والثلاثون بعد الثلاث مئة: بعد التقييد في ردِّ الجواب على أهل الكفر، وقد (¬4) تبيَّن فيه كيفيةُ الجواب، وهو: (وعليكم)، وذكر بعضُهم: أنه قيل: إنه يقول في الردِّ على الذمّي: عليك السِّلام - بكسر السين -، وعلاك السلامُ؛ ارتفع عليك (¬5)، وهو خلافُ ما أُمر به في الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه البخاري (6038)، كتاب: الدعوات، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يستجاب لنا في اليهود، ولا يستجاب لهم فينا"، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 442). (¬4) "ت": "فقد". (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 48). (¬6) وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (8/ 467): وهذا كله ليس بشيء، ولا يجوز أن يلتفت إليه، ولا يعرج عليه، وفي السنةِ الأسوةُ الحسنة، وما سواها فلا معنى له، ولا عمل عليه.

التاسعة والثلاثون بعد الثلاث مئة

التاسعة والثلاثون بعد الثلاث مئة: الذي وردَ في الحديث الذي قدَّمناه: "إنَّ اليهود إذا سلَّم عليكُمْ أحدُهُمْ، فإنَّما يقول: السَّامُ عليكُمْ فقُلْ: عليْكَ" ظاهرُه (¬1) يقتضي: أنَّ العلَّة في هذا الردّ قولهم: السَّام [عليكم] (¬2)، إما (¬3) على سبيلِ التحقُّق، وإما (¬4) على سبيل الظَّنِّ من السَّامع لشدة عداوتهم للمسلمين، فلو تحقّق السامعُ أنه قال: السلام عليكم، من غير شكٍّ، فهل يقال: إنه لا يمتنع الردُّ عليه بالسلام الحقيقي، كما يردُّ على المسلم، أو يقال بظاهر الأمر، وحصر جوابهم (¬5) في "وعليكم"؟ ويترجّح الثاني بظاهر اللفظ، ويترجّح الأولُ بالنظر إلى المعنى، فإن (الفاء) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقل: عليك" تقتضي التعليل، وأن علة هذا القول: "أنهم يقولون: السَّام عليكم"، إذا دلَّ اللفظُ على التعليل، فعند تَحَقُّقِ السلام زالتِ العلةُ، والحكم يزول بزوال علته، والله أعلم. الأربعون بعد الثلاث مئة: ذكر بعضُ [مصنفي] (¬6) الشافعية: أنّ ما يعتادُه بعضُ الناس من السلام عند القيام، ومفارقةِ القوم دعاءٌ لا تحيةَ، يُستحب الجوابُ عنه ولا يجب (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "ظاهره أنه". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "إنما"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "التحقيق أو"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "جوابه". (¬6) سقط من "ت". (¬7) قاله المتولِّي، كما ذكره النووي في "روضة الطالبين" (10/ 231) قال =

الحادية والأربعون بعد الثلاث مئة

وروى أبو داود، عن أحمد بن حنبل، ومُسَدَّد قالا: ثنا بِشْرُ بن المُفَضّل، عن ابن العجلان، عن المقبُري، قال مسدَّد: سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انتهى أحدُكُمْ إلى المجلِسِ فليسلِّمْ، وإذا أرادَ أنْ يقومَ فليسلِّمْ، فليستِ الأولى بأحقَّ مِنَ الآخِرَةِ"، وذكر الترمذيُّ أنه حديث حسن (¬1). الحادية والأربعون بعد الثلاث مئة: من جملةِ ما صحَّ من (¬2) آدابِ السَّلام، وهو يقتضي تخصيصًا في رتبة الاستحباب إذا حُمِل على الاستحباب، [وهو] (¬3) تسليمُ الرَّاكبِ على الماشي، والصغيرِ على الكبيرِ، والمارِّ على القاعِد، والقليلِ على الكثير (¬4). ¬

_ = النووى: قلت: هذا الذى قاله المتولي، قاله شيخه القاضي حسين، وقد أنكره الشاشي فقال: هذّا فاسد؛ لأن السلام سنة عند الانصراف كما هو سنهّ عند القدوم. (¬1) رواه أبو داود (5208)، كتاب: الأدب، باب: في السلام إذا قام من المجلس، واللفظ له، والترمذي (2756)، كتاب: الاستئذان، باب: ما جاء في التسليم عند القيام وعند القعود. (¬2) "ت": "في". (¬3) زيادهّ من "ت". (¬4) رواه البخاري (5878)، كتاب: الاستئذان، باب: يسلم الراكب على الماشي، ومسلم (2160)، كتاب: السلام، باب: يسلم الراكب على الماشي، والقليل على الكثير، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير"، وروى البخاري أيضًا (5877)، كتاب: الاستئذان، باب: يسلم الراكب على الماشي، من حديث أبى هريرة مرفوعًا: "يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير".

الثانية والأربعون بعد الثلاث مئة

قال ابن رشد - بعد أن ذكر الروايةَ في تسليمِ الصغيرِ على الكبيرِ، والراكبِ على الماشي -: ومعنى ذلك: إذا التقيا، فإن كان أحدُهما راكبًا والآخرُ ماشيًا، بدأ الراكب بالسلام، فإن (¬1) كانا راكبَيْن أو ماشِيَيْن بدأ الصغيرُ بالسلام، وأما المارُّ بغيره أو الداخلُ عليه فهو الذي (¬2) بدأ بالسلام، و [إن كان] (¬3) الذي يُمَرُّ به راكبًا أو صغيرًا، وكذلك السائر في الطريق فتقدُّمه أوجبَ (¬4) عليه أن يبدأ بالسلام، وإن كان صغيرًا أو راكبًا وهو ماشٍ. الثانية والأربعون بعد الثلاث مئة: ذكر بعضُ مصنفي الشافعية: أنه لا يُكره أن يَبدأَ الماشي والجالسُّ (¬5)، ولفظُ الحديث وإن كان خبرًا فهو بمعنى الأمر، وهو يُثبت (¬6) الاستحبابَ إن لم يدلَّ على الوجوب، ولكن ليس يلزم من ترك المستحَبِّ ارتكابُ المكروه لاختلافٍ بينهما، فحمْلُه على المرتبة الدنيا هو مقتضى ما ذكره هذا المصنف. ¬

_ (¬1) "ت": "وإن". (¬2) "ت": "يبدأ". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "يتقدمه وجب"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 229). (¬6) "ت": "يثبت به".

الثالثة والأربعون بعد الثلاث مئة

الثالثة والأربعون بعد الثلاث مئة: يعرضُ (¬1) الفاضلُ أبو عبد الله المازري المالكي - رحمه الله - لذكر الحكم في هذا الأدب الذي ذكرناه من سلام الراكب على الماشي: [لفضلِ الراكب عليه] (¬2) في باب الدنيا، فعَدَلَ الشرعُ بأن جعلَ للماشي فضيلةً أن يبدأ احتياطًا على الراكب من الكِبْر والزُّهو إذا حاز الفضيلتين، قال: وإلى هذا المعنى أشار بعضُ أصحابِنا. قال: وأما بدءُ المارِّ على القاعد فلم أرَ [في] (¬3) تعليله نصًا، ويحتمل أن يجريَ [في] (¬4) تعليله على هذا الأسلوب، فيقال: بأنَّ (¬5) القاعد قد يتوقَّع شرًا من الوارد عليه، أو توجَّس (¬6) في نفسه خيفةً منه، فإذا ابتدأه بالسلام أَنِسَ إليه، أو لأنَّ التصرفَ والتردد في الحاجات الدنيوية وامتهانَ النفس فيها، ينقص من مرتبة المتجاوِرين (¬7) والآخذين بالعزلة تورُّعًا، فصار للقاعد مزيّةً في باب الدين، فلهذا أَمَرَ بابتدائهم، أو لأنَّ القاعدَ يشقُّ عليه مراعاةُ المارين من كثرتهم والتشوفِ إليهم، فسقطتِ البداءة عنه، وأُمر بها المارُّ لعدم المشقة عليه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يفرض"، والتصويب من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "فإن". (¬6) "ت": "توحشًا". (¬7) "ت": "المتصاونين".

الرابعة والأربعون بعد الثلاث مئة

قال: وأما بداءةُ القليلِ الكثيرَ: فيحتمل أن يكونَ لفضيلة الجماعة (¬1)، ولهذا قال الشرع: "عليكُمْ بالسَّوادِ الأعظَمِ" (¬2)، و"يدُ اللهِ معَ الجماعةِ" (¬3)، فأمر ببداءتهم لفضلهم، أو لأن الجماعة إذا بدؤوا الواحدَ خِيفَ عليه الكبرُ والزهو، فاحتيط له بأن لا يُبدأ. قال: ويحتملُ غيرَ ذلك، ولكنّ ما ذكرناه هو الذي يليق بما قدمناه عنهم من التعليل. قال: ولا يحسُن معارضةُ هذا التعليلِ بآحادِ مسائلَ شذَّتْ عنها؛ لأن التعليلَ الكليَّ لوضع الشرع لا يُطلب فيه ما لا يشِذُّ عنه بعضُ الجزئيات (¬4). الرابعة والأربعون بعد الثلاث مئة: السلام عامٌّ بالنسبة إلى السَّلام بالعربية أو بغيرها من اللغات، وذكرَ بعضُ مصنفي الشافعية: أنَّ بعضَهم علَّق (¬5) في السلام بالفارسية ثلاثَة أوجه: ¬

_ (¬1) "ت": "أن تكون الفضيلة للجماعة". (¬2) رواه ابن ماجه (3950)، كتاب: الفتن، باب: السواد الأعظم، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - بلفظ "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافًا، فعليكم بالسواد الأعظم". وإسناده ضعيف؛ فيه معان بن رفاعة السلامي، وقد تفرد به، قال ابن عدي في "الكامل " (6/ 328): عامة ما يرويه لا يتابع عليه. (¬3) رواه الترمذي (2166)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء في لزوم الجماعة، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال الترمذي: حسن غريب. وفي الباب عن غير واحد من الصحابة - رضي الله عنهم -. (¬4) انظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازري (3/ 87 - 88). (¬5) "ت": "حكى".

الخامسة والأربعون بعد الثلاث مئة

ثالثُها: الفَرْقُ؛ إن (¬1) كانا عالمين بالعربية (¬2) لم يجزْ (¬3). ويمكن أن يكونَ التخصيص بالسلام بالعربية مبنيًا على مذهب بعض أهل الأصول. الخامسة والأربعون بعد الثلاث مئة: السلامُ حقيقةٌ في القول اللساني، فالإشارة به من القادرِ عليه لا يتأدَّى بها المقصود؛ لوجوبِ حمل اللفظ على الحقيقة. السادسة والأربعون بعد الثلاث مئة: كثير من الناس يبذل عند اللقاء السلامَ بألفاظٍ أُخَر: كالتصبيحِ بالعافية، والسعادة، أو ما أشبهَ ذلك (¬4)، وهو تركُ القيام بالسنَّة، ولكنه ليس بمكروه في نفسهِ من حيث هو هو إذا لم يُقصد به العدولُ عن السلام إلى ما هو داخلٌ في التعظيم؛ لأجل (¬5) مناصبِ الدنيا، و [إذا] (¬6) لم يؤدِّ ¬

_ (¬1) "ت": "وإن". (¬2) في الأصل: "على العربية"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "روضة الطالبين" (10/ 230)، و"المجموع شرح المهذب" كلاهما للنووي (4/ 504). قال النووي: قلت: الصواب صحة سلامه بالعجمية إن كان المخاطب يفهمها، سواء قدر على العربية أم لا، ويجب الرد؛ لأنه يسمى تحية وسلامًا. وأما من لا يستقيم نطقه، فيسلم كيف أمكنه بالاتفاق؛ لأنه ضرورة. (¬4) "ت": "وبالسعادة وما أشبهه". (¬5) "ت": "إذا لم يقصد به العدول عن السلام لأجل تعظيم". (¬6) سقط من "ت".

السابعة والأربعون بعد الثلاث مئة

الترك لسنة (¬1) السلام كثيرًا. السابعة والأربعون بعد الثلاث مئة: إذا ابتدأَ بالسلام الشرعي، فأجابه بمثل هذه الألفاظ (¬2) التي يعتادونها، فالظاهر أنه لا يحصل به تأدِّي الواجبِ. الثامنة والأربعون بعد الثلاث مئة: إذا حملنا الإفشاءَ على الإعلان والجهر، فلا بد أن يفعل من ذلك ما يحصُل به الإسماعُ لمن يسلِّم عليه. التاسعة والأربعون بعد الثلاث مئة: الإطلاقُ أو (¬3) العموم يقتضي أن يسلَّم على الأصمِّ، وأن لا يكون الصممُ فيه مانعًا من السَّلام عليه، فذكر بعضُ الشافعية - رحمهم الله تعالى - في السلام على الأصمّ: أنه يأتي باللفظ لينبه (¬4) عليه، ويشير باليد ليحصل الإفهامُ، ولو لم يضمَّ الإشارةَ إلى اللفظ لم يستحقَّ الجواب، وكذا في جواب الأصم ينبغي أن يُجمعَ بين اللفظ والإشارة (¬5). الخمسون بعد الثلاث مئة: ذكروا أن سلامَ (¬6) الأخرسِ بالإشارة معتدٌّ به، فهو إما سلامٌ في حقه، أو قائمٌ مقامَ السلام في حقه، فإن ¬

_ (¬1) "ت": "إلى ترك سنة". (¬2) أي: التصبيح بالعافية والسعادة وأضرابهما. (¬3) "ت": "و". (¬4) "ت": "ليتنبه". (¬5) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 227). (¬6) "ت": "جواب".

الحادية والخمسون بعد الثلاث مئة

كان الأول فيدخل تحت الأمر بإفشاء السلام حتى يستحبَّ له الابتداءُ بالسلام، ويجب عليه الرد (¬1)، وإن كان ليس بسلام، ولكنَّه قائمٌ مقامَه في حقه، فهذا يرجع إلى اعتبار المعنى دون الحملِ على اللفظ. الحادية والخمسون بعد الثلاث مئة: الصبيُّ مُستثنى من وجوب الردِّ لعدم التكليف، وداخلٌ تحت الندب إلى الابتداء. الثانية والخمسون بعد الثلاث مئة: النهيُ عن خواتيمِ الذهب -[أو تختُّمِ الذهبِ] (¬2) مخصوصٌ بالرجال دون النساء، وقد نُقِل إجماعُهم على أنه للنساء مباح، ونُقل ذلك عن "الاستذكار" (¬3)، وسيأتي الكلام في دلائلِ التخصيص - إن شاء الله تعالى - في مسائل الحرير. الثالثة والخمسون بعد الثلاث مئة: ظاهرُ النهي التحريمُ، قال القاضي - رحمه الله تعالى -: وما حُكي فيه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزمٍ [من تختُّمِهِ بالذهب] (¬4) فشذوذٌ، والأشبهُ أنه لم تبلغْهُ السنَّةُ، والناسُ بعدَه على خلافه مُجْمِعون. قال: وكذلك (¬5) ما روي فيه عن (¬6) خبَّاب بدليل إلقائه له حين قال ¬

_ (¬1) "ت": "الرد عليه". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 304). (¬4) سقط من "ت". (¬5) في المطبوع من "إكمال المعلم": "ولذلك"، ولعله خطأ. (¬6) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت".

الرابعة والخمسون بعد الثلاث مئة

له ابن مسعود: أما آن لهذا الخاتَمِ أن يُلْقَى؟ وقوله: أما إنك لن تراه عليَّ بعد هذا اليوم (¬1). قال: وقد ذهب بعضُهم إلى أنَّ لُبسه للرجال بمعنى الكراهة لا لتحريمٍ (¬2)، ولأجل السَّرَف، كما قال في الحرير (¬3). قلت: هذا يقتضي إثباتَ الخلاف في التحريم، وهو يناقضُ القولَ بالإجماع على التحريم (¬4). الرابعة والخمسون بعد الثلاث مئة: استدلَّ بتحريم خاتم الذهب ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4130)، كتاب: المغازي، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن. قال الحافظ في "الفتح" (8/ 101): ولعل خبابًا كان يعتقد أن النهي عن لبس الرجال خاتم الذهب للتنزيه، فنبهه ابن مسعود على تحريمه، فرجع إليه مسرعًا. (¬2) "ت": "للتحريم". (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 604). (¬4) قال الحافظ في "الفتح" (10/ 317) بعد أن نقل كلام القاضي عياض وابن دقيق: التوفيق بين الكلامين ممكن؛ بأن يكون القائل بكراهة التنزيه انقرض، واستقر الإجماع بعده على التحريم. وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب. ثم قال الحافظ: وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الَّذي روى النهي، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال: رأيت على البراء خاتمًا من ذهب، وعن شعبة، عن أبي إسحاق نحوه. قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ. قلت: لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى حديث النهي المتفق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله؛ إما بأن يكون حمله على التنزيه، أو فهم الخصوصية له من قوله: "البس ما كساك الله ورسوله"، وهذا أولى من قول الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي، انتهى. ثم ذكر الحافظ ما يؤيد هذه الأوَّليَّة.

على أنَّ الذهبَ حرامٌ على الرجال قليلَه وكثيرَه. قال المستدِلُّ: لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التختم بالذهب، وهو قليل. قلت: الَّذي يدل عليه الحديث تحريمُ الخاتم، وفي معناه ما هو في قَدْره، وأما مّا ينقص من (¬1) قَدْره فلا ينبغي أن يُؤخذ من الحديث؛ لأنه لا دلالةَ عليه من الحديث، وأيضًا فيمكن أن يُعتبر وصفُ كونه خاتمًا (¬2). ¬

_ (¬1) "ت": "عن". (¬2) نقل الحافظ ابن حجر في "الفتح" جملًا كثيرة عن الإمام ابن دقيق في فقه هذا الحديث، وفرَّقه في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه حسبما يقتضي الكلام على الأحاديث عند البخاري، إلا أن فروقًا كثيرة تظهر بين كلام ابن دقيق هنا، وبين ما ينقله الحافظ في "الفتح". وأنا أذكر فائدة تتعلق بهذا، جاءت بعد نظر في كتاب الحافظ "فتح الباري" وكتابي "شرح عمدة الأحكام" و"شرح الإلمام" للإمام ابن دقيق، فأقول: الحافظ في "الفتح" قد جعل عمدته في الاستدلالات والاستنباطات الفقهية، وفي المباحث الأصولية، وفي التعقبات والاستدراكات جملةً من المصادر، من أهمها "شرح عمدة الأحكام" و"شرح الإلمام"، والحافظ كثير النقل عنهما في الأمور الثلاثة المذكورة، فلا تكاد مسألة فقهية أو أصولية أو استدراك إلا ولكلام ابن دقيق فيها نصيب، والمراد من هذا الَّذي أذكره أمران: أحدهما: أن الحافظ ابن حجر في كثير من المواضع يُغْفِلُ اسمَ المؤلف أو المرجع الَّذي أخذ عنه، وهذا مما يؤخذ عليه؛ إذ إن المطالع يظن أنه هذا الاستدلال أو التحرير للمسألة من كلامه، والواقع خلافه. =

الخامسة والخمسون بعد الثلاث مئة

الخامسة والخمسون بعد الثلاث مئة: لا يجوز لُبس الخاتم في مفاجأة الحربِ بخلافِ الحرير في هذه الحالة، وكذلك لو كان له سيفٌ عليه حليةُ ذَهَب ففاجأته (¬1) الحربُ، فلا بأس أن يتقلَّده، فإذا انقضتِ الحربُ، قال الشافعي - رضي الله عنه -: أحببتُ له نقضَه (¬2). قال الروياني: وهكذا في حَمائل سيفِه وتُرسِهِ ومِنْطَقَتِهِ؛ لأنَّ كلَّ هذا جُنَّة. قال: ولا يجوز لبس خاتم من الذهب وإن فاجأته (¬3) الحرب؛ لأنه لا جُنَّةَ فيه (¬4). ¬

_ = ثانيهما: أن نقل الحافظ لكلام الأئمة - وابن دقيق منهم - نقلًا بالمعنى، فإنه يتصرف في عباراتهم وكلامهم، حتى إن المرء - أحيانًا - يعسُر عليه استخراج كلام الأئمة الذين نقل عنهم الحافظ في كتبهم، لأجل هذا، والله أعلم. وهذه المسألة والتي قبلها مما نقله الحافظ في "الفتح" (10/ 317 - 318) إلا أنه جعل قول ابن دقيق هنا: "وأيضًا فيمكن أن يعتبر وصف كونه خاتمًا" ملحقا بقوله في الفائدة السابقة: "وهو يناقض القول بالإجماع على التحريم". إلا أن الحافظ ذكر: "ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتماً"، فتأمل ذلك. (¬1) في الأصل: "ففاجأه"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 221). (¬3) في الأصل: "فاجأه"، والمثبت من "ت". (¬4) انظر: "بحر المذهب" للروياني (3/ 206)

السادسة والخمسون بعد الثلاث مئة

السادسة والخمسون بعد الثلاث مئة: إذا حرُم الخاتم من الذهب فما فوقَه في (¬1) المقدار كالدُّمْلُج والمِعْضَدَةُ أولى بالتحريم، وقد عُرف أن ما هو في معنى الأصل نذكُره في فوائد الحديث؛ لأنه بمثابة لوازم دلالة اللفظ. السابعة والخمسون بعد الثلاث مئة: هكذا في هذه الرواية التي أوردناها في الأصل: "وعن شُرْبٍ بالفِضة"، وهو يحتمل أن تكون "الباء" فيه للاستعانةِ وما يستعمل في الآلة؛ كنجرتُ بالقَدُّوم، ويحتمل أن تكون للمصاحَبة، وعلى المعنى الأول (¬2): الأظهر تناولُه لإناء الفضة، وعلى الثاني: يدل على ما هو أعمُّ من ذلك، فإنَّ (¬3) الشُّربَ بها أعمُّ من الشربَ فيها (¬4) وهي إناء. الثامنة والخمسون بعد الثلاث مئة: الأقربُ حملُ قولِهِ في هذه الرواية "شربٍ بالفضة" على إناءِ الفضَّة؛ لأنَّ ذلك قد ورد مفسَّرًا عند البخاري في رواية آدمَ، عن شعبةَ، عن أشعثَ بن سُلَيْمِ قال: سمعت معاويةَ بن سُوَيْد (¬5) قال: سمعت البراءَ بن عَازِبٍ: نهانا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن خاتمِ الذهب، أو قال: حَلْقة الذهب، وعن الحريرِ والإستبرقِ، ¬

_ (¬1) "ت": "من". (¬2) "ت": "معنى الآلة"، وهما بمعنى. (¬3) "ت": "وإن". (¬4) "ت": "بها" وهو خطأ. (¬5) "ت": زيادة "بن مقرّن".

التاسعة والخمسون بعد الثلاث مئة

والدِّيباجِ، والقَسِّيِّ، وآنيةِ الفضة (¬1). والحديث (¬2) راجعٌ إلى أشعث بن سليم، والاختلافُ اختلافٌ في ألفاظ حديثٍ واحد من جهة الرواة، هذا غالبُ الظن، والله أعلم. التاسعة والخمسون بعد الثلاث مئة: في هذ الحديث النهيُ عن آنية الفضة على ما أوردناه (¬3) من رواية البخاري، وعلى ما حملناه عليه من هذا الحديث على الظاهر، وقد زاد عياضٌ - رحمه الله -: وأجمعَ العلماءُ على أن الأكلَ والشربَ في آنية الذهب والفضة لا يحلُّ. قال: وما رُوي عن بعض السلف في (¬4) إجازة ذلك فشاذٌّ، والظن به أنه لم تبلغه السنَّةُ في ذلك (¬5). قلت: قد حكى العراقيون من أصحاب الشافعي - رحمة الله عليهم - قولًا: أنَّ استعمالَها مكروهٌ غيرُ محرم، وقيل: لم تعرفِ (¬6) المراوِزَةُ ذلك، ونقلوا نصًّا عن الشافعي - رضي الله عنه - في نفي التحريم [قولًا] (¬7) ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5525). (¬2) في الأصل: "هو"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "أفردناه"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "من". (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 562). (¬6) في الأصل: "تعرض"، والمثبت من "ت". (¬7) زيادة من "ت".

الستون بعد الثلاث مئة

مجملًا، ثم أوَّلوه وحملوه على أن المشروبَ في نفسه غيرُ محرم (¬1). [والحديثُ الصحيح في التوعد عليه بالنار يُوجب الجزمَ بالتحريم، ويُبطل القول بالكراهة] (¬2). الستون بعد الثلاث مئة: الظاهريَّةُ على أصلهم في تخصيص الحكم بالمنصوص عليه من غير نظرٍ إلى المعنى، وأما القائسون فمنهم من خَصَّ الحكم بالنقدَيْن من غير رعاية معنى، وزعم أن اختصاصَ التحريم بهما كاختصاص أحكامٍ بهما من القِراض والنقد (¬3) ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في "المجموع في شرح المهذب" (1/ 310): استعمال الإناء من ذهب أو فضة حرام على المذهب الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور. وحكى المصنف، وآخرون من العراقيين، والقاضي حسين، وصاحباه المتولي والبغوي قولًا قديمًا: أنه يكره كراهة تنزيه ولا يحرم، وأنكر أكثر الخراسانيين هذا القول، وتأوله بعضهم على أنه أراد أن المشووب في نفسه ليس حرامًا. وذكر صاحب "التقريب" أن سياق كلام الشافعي في "القديم" يدل على أنه أراد عين الذهب والفضة الَّذي اتخذ منه الإفاء ليست محرمة، ولهذا لم يحرم الحلي على المرأة، ومن أثبت القديم فهو معترف بضعفه في النقل والدليل، ويكفي في ضعفه منابذته للأحاديث الصحيحة. وقولهم في تعليله: إنما نهى عنه للسرف والخيلاء، وهذا لا يوجب التحريم، ليس بصحيح، بل هو موجب للتحريم، وكم من دليل على تحريم الخيلاء، قال القاضي أبو الطيب: هذا الَّذي ذكروه للقديم موجب للتحريم، كما أوجب تحريم الحرير، والمعنى فيهما واحد، انتهى. (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "من ربا النقد والقراض".

الحادية والستون بعد الثلاث مئة

وغيرهما، ومنهم من لم يُخصِّصْ، بل نظر إلى العِلَّة، ثم اختلفوا فيها؛ قيل (¬1): هي السَّرَف والخُيَلاء والتزيي بزِيِّ الأعاجم، وقيل: لأنها قِيَمُ المُتْلَفات، فإذا اتُّخِذت أوانيَ قلَّتْ من أيدي الناس. الحادية والستون بعد الثلاث مئة: التشوُّف إلى المعنى وعدمُ الوقوف على مجردِ الاسم لا بأسَ به على طريقة القياسيين، وقد استنبطوا المعنى في الأشياء المنصوصِ عليها في الربا، ومسلكُ المعنى فيه أضيقُ مما نحن فيه، ولهذا توقَّف بعضُ الناس في إلحاق غير الستة المنصوص عليها بها؛ لا لأجل الوقوف على الظاهر، بل لأمرٍ يرجع إلى العللِ المستنبطةِ، وعدمِ ظهور شيء منها عندَه، أو ما يدلُّ على اعتباره. قال إمام الحرمين: والذي أراه أن معنى الخُيَلاء لا بد من اعتباره، فإنه مما يَبْتَدِرُ (¬2) إلى الفهم، فإذا أمكن اعتبارُ المعنى، فحسْمُه مع القول بالمعاني بعيدٌ (¬3). قلت: إذا ظهرَ المعنى فهو المناسب للقياس، كما قال، لكنَّ تعيينَ معنى الخيلاء للاعتبار، شرطه أن يتعيَّن مناسبًا، أو يرجَّح على ما يزاحمُه، ومعنى السَّرف هاهنا أيضًا مناسبٌ، فإن لم يُردَّا معًا إلى وجه واحد، وإلا فلا بدَّ من الترجيح. الثانية والستون بعد الثلاث مئة: يُعترَض على التعليل بالسَّرَفِ ¬

_ (¬1) ت": "فقيل". (¬2) "ت": "يتبادر". (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 321 - 322).

الثالثة والستون بعد الثلاث مئة

بالنقض بالأواني من الجوهر والياقوت التي فيها الثمنُ الكثير، الَّذي ربما زاد على ماليَّة مثلهما من الذهب والفضة. الثالثة والستون بعد الثلاث مئة: ويُعترضُ على التعليل بالخيلاء بالاتفاق على أنَّ مَنِ استعمل إناء الذهب والفضة بحيث لا يطَّلعُ عليه إلا الله تعالى، فقد ارتكب المعصيةَ، ولا خيلاءَ لعدم اطلاع الناس عليها، وعدمِ انكسار قلوب الفقراء بسبب رؤيتهم لها. فإن قيل: الاعتراض على هذا من وجهين: أحدهما: أن هذا إلزام للعكس في العلل الشرعية، وهو غير لازم. الثاني: أنْ نقيم النهي للخيلاء مقامها (¬1)، وحينئذٍ لا يكون الحكم ثابتًا بدون العلة، وصار ذلك كآلات الملاهي، وإثباتُها (¬2) على صورة يتهيأ لها (¬3) الاستعمالُ فإنه ممنوع، وإن لم يستعمل. قلنا: الَّذي يُعلِّل بالخيلاء يدَّعي كونهَا علةً مفردة لجنس الحكم، والذي يدل على ذلك أنهم بَنَوْا مسألةَ الذهب المغشَّى بغيره كنحاسٍ أو رصاص مثلًا على العلتين، وحُكم بالجواز على علة الخيلاء، فاستدلوا بانتفائها على انتفاء الحكم، ولا يصح ذلك (¬4) إلا على اعتقاد ¬

_ (¬1) "ت": "أنا نقيم التهيؤ للتزيّن والخيلاء مقامها". (¬2) "ت": "وتهيئتها". (¬3) "ت": "بها". (¬4) "ت": "ولا تصح الدلالة".

الرابعة والستون بعد الثلاث مئة

انفرادها بالعلية، والعلةُ إذا كانت مفردة في الحكم لزمَها العكسُ، فلا يثبت الحكم بدونها. وأما الثاني: وهو إقامةُ التهيُّؤ (¬1) للخيلاء مقامَ حقيقته، فهو حكمٌ تقديري على خلاف الأصل، ومن هاهنا يترجَّح التعليلُ بالسَّرف على التعليل بالخيلاء، إذ لا آنيةَ من ذهب وفضة إلا وتحريم الاستعمال موجودٌ فيها، والعلة فيها - وهي (¬2) السرف - موجودة، وليس كذلك في التعليل بالخُيلاء؛ لأن بعض أواني الذهب والفضة محرَّمُ الاستعمال، والعلةُ مفقودةٌ وهي الخيلاء. الرابعة والستون بعد الثلاث مئة: النهيُ عامٌّ في الإناء الصغير والكبير من الذهب والفضة، فيُعَمَّم (¬3) الحكمُ فيهما. الخامسة والستون بعد الثلاث مئة: هو عامٌّ بالنسبة إلى الرجال والنساء، فيعمُّ التحريمُ كلَّ واحد من الصنفين، واتَّفق عليه أربابُ المذاهب المشهورة. السادسة والستون بعد الثلاث مئة: لسائل أن يسألَ فيقولَ: قد رويتم في الذهب والحرير عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - "وهو حِلٌّ لإناثهم" (¬4)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "النهي"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "التي هي". (¬3) "ت": "فيعمُّ". (¬4) رواه النسائي (5148)، كتاب: الزينة، باب: تحريم الذهب على الرجال، والترمذي (1720)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في الحرير والذهب، =

وهذا النص خاصّ بالنساء، فهلا خُصَّ به [هذا] (¬1) العمومُ في النهي عن الأكل والشرب، فإن الخاصَّ مقدَّم على العام؟ فنقول: هذا من قبيل (¬2) إضافة التحريم والتحليل إلى الأعيانِ، وقد اختَلف فيه الناس، فنُقل عن لمحوم من القدرية: أنه مجمَلٌ، وهو مردود؛ لأنَّ عرف الاستعمال كالوضع، ولهذا قُسّمت الأسماء إلى عرفية ووضعية، وعرف الاستعمال يصرِفُ اللفظَ عن الإجمال، فمن قال: حرَّمْتُ الطعام، فُهم منه في العرف أكلُه، أو حرَّمْتُ الثوبَ، فُهِمَ لُبْسه، ولا يُفهم منه النظرُ إليه، ولا مسُّه، وكذلك حرَّمْتُ المرأة، يُصرف إلى الاستمتاع، ورأيتُ فْي تصرف بعض الفقهاء استعمالَه في العموم؛ أعني: في الأفعال المنسوبة إلى العين، فإذا ثبت هذا فنقول: مَنْ صَرَفَ اللفظ في (¬3) التحريم والتحليل إلى المقصود من منافع العين عادةً، فتحريم الحرير منصرِفٌ إلى اللُّبس، وأما تحريمُ الذهب فلا يبعدُ أنْ يتصرفَ إلى التحلِّي به؛ لأنه المعتادُ، وأما اتخاذُ الأواني منه فقليلٌ نادرٌ، وإذا كان كذلك فتحليلُ الذهب للنساء منصرفٌ (¬4) على هذا التقدير ¬

_ = وقال: حسن صحيح، وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 52). (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت" "قِبَل". (¬3) "ت": "و". (¬4) "ت": "ينصرف".

إلى التحلِّي بالمعتاد (¬1)، ولا يتناول الشربَ والأكلَ في أوانيهما، فيبقى النصُّ الدال على تحريمهما في أوانيهما غيرَ معارض، وأما إذا حُمل على العموم إمَّا بالنسبة إلى منافع العين، وإما ما على هو أعمُّ من التحلِّي، وإن لم يستغرق منافع العين، فحينئذ يكون هذا من قبيل تعارضِ العمومَيْن من وجه دون وجه. بيانُه: أن النهيَ عن الشرب [بالذهب و] (¬2) الفضة خاصٌّ بالنسبة إلى هذا الانتفاع المعيَّن، عامٌّ بالنسبة إلى الرجال والنساء، وإباحةُ الذهب للنساء خاصٌّ بالنسبة إليهن، عامٌّ بالنسبة إلى هذا الانتفاع المعين، وإذا كانَ كلُّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عامًا من وجه خاصًا من وجه، فلابدَّ من الترجيح، فيمكن أن يقال فيه: الترجيحُ لعموم النهي بالنسبة إلى الرجال والنساء لوجهين: أحدهما: أن هذا الحكم قد عُلِّل بعلة تَعُمُّ الفريقين، وتوجب التحريم على النوعين، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشربُوا في آنيةِ الفضةِ والذهبِ (¬3)، ولا تأكلوا في صِحافِها؛ فإنَّها لَهُم في الدُّنيا، ولكُم في الآخرةِ" (¬4)، فانحصارُها للكفار في الدنيا يقتضي أن لا تكونَ لمقابلهم ¬

_ (¬1) "ت": "المعتاد". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "الذهب والفضة". (¬4) رواه البخاري (5110)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل في إناء مفضض، ومسلم (2067)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء =

في الدنيا، وهم المسلمون، لا للرجال فقط؛ لأنه لو أبيحَ للنساء لما انحصرت للكفار في الدنيا. وأيضًا فإن هذا التعليل إنما هو للتزهيد فيها في الدُّنيا، والترغيب لنا فيها في الآخرة، وسائر المؤمنين مطلوبون بترجيحِ أمر الآخرة على الدنيا، ولا أثرَ في هذا المعنى للأنوثة والذكورة حتى يقال بالتخصيص، فظهرَ أن هذا الحكمَ معلل بعلةٍ دلَّ اللفظ عليها يقتضي الاستواءَ في الحكم بين الرجال والنساء. وأما تحليلُ الذَّهب للنساء فلم يُعلَّل بعلة لفظية تقتضي عمومَ أنواع الانتفاع، وما عُلِّل لفظا راجح على ما لم يُعلَّل لفظًا، بل ربما نقول: إن المقصودَ الأظهرَ من التحليل للنساء معنى الزينة، وذلك لا يقتضي جميعَ أنواع الانتفاع حتى ينتهيَ إلى السرفِ والتبخترِ (¬1) والتكبرِ. والثاني: الترجيحُ بالنصوص الشرعية الدالة على ذمِّ السَّرف؛ {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43]، {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] وهذه المفسدة لا تختص بالرجال دونَ النساء، بل هما شَرْعٌ في ذلك. ¬

_ = الذهب والفضة، من حديث حذيفة - رضي الله عنه -، وسيأتي تخريجه مفصلًا في الحديث الثاني من هذا الباب. (¬1) "ت": "والتجبُّر".

السابعة والستون بعد الثلاث مئة

السابعة والستون بعد الثلاث مئة: المرجَّح عند المالكية منعُ التضبيب (¬1)، قال مالك - رحمه الله تعالى -: لا يعجبني أن يُشْرب فيه، ولا أن يُنظر فيها (¬2)؛ يعني: المرآة، وللشافعية - رحمهم الله تعالى - طرق؛ أشهرُها إذا اجتمعَ الصِغَرُ والحاجةُ حَلَّ الاستعمال (¬3)، [وإن كبُرتِ الضَّبةُ ولا حاجةَ حرُمَ] (¬4)، وإن صغُرت الضَّبة ولا حاجةَ، أو كبُرت ومسَّت الحاجة، فوجهان. ومنهم من قال؛ إن كانت الضَّبة تلقى فمَ الشارب لم يجزْ، وإن صغُرت وتحقَّقت الحاجة (¬5) (¬6). وحكي [وجه] (¬7) في تحريمِ استعمال المُضَبَّب كيف ما فُرِض الأمرُ تخريجًا (¬8) على اعتبار عين التِّبر، وهي موجودة (¬9). ¬

_ (¬1) الضبّة: من حديدٍ أو صُفر أو نحوه، يُشْعَبُ بها الإناء، وضبَّبتُه: عملتُ له ضبّةً. انظر: "المصباح المنير" للفيومي، (مادة: ضبب)، (ص: 135). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 561)، و"التاج والإكليل" لابن المواق (1/ 129). (¬3) "ت": "الاستمتاع". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": زيادة: "إليها". (¬6) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 242). (¬7) زيادة من "ت". (¬8) "ت": "ترجيحًا". (¬9) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 320).

الثامنة والستون بعد الثلاث مئة

والذي يتعلق بهذا الحديث أن روايةَ من روى: "إناء الفضة" لا تتناول المضبَّب، ومن روى: "عن شُرْبٍ بالفضة" فلا يبعد أنْ تتناول من الضَّبة ما يلقى فمَ الشارب، وإن جعلنا الباء للاستعانة، ففي تناولِها نظرٌ، والله أعلم. الثامنة والستون بعد الثلاث مئة: إذا شرب وفي فمه (¬1) دنانير، [أو] (¬2) طرح الدنانير في الكوز [وشرب منه] (¬3)، أو شرب من يده وفي إصبعه خاتَمٌ، قال بعضُ مصنّفي الشافعية: لم يُكْرَه، ولم يحرُمْ؛ لأنَّ العادة ما جرت بذلك، ولا يُعَدُّ مثلُ هذه الأشياء من الزينة (¬4). قلت: لا يبعد أن يُلتَفتَ في هذا إلى لفظ الرواية التي ذكرناها، وهي: "وعن شرب (¬5) بالفضة" إذا جعلتِ الباءُ للمصاحبةِ في الشرب، وهي في بعض هذه الصور أظهرُ من بعضٍ، وأما مسألة الخاتم فبعيدٌ جدًّا، ودونهَا مسألةُ الشرب وفي الفم الفضة، وهو بعيدٌ أيضًا، وأقربُها وضعها في إناء الشرب، والأظهرُ الإباحةُ كما ذكرنا، لا سيما على ما اخترناه من حمل هذه الرواية على الرواية الأخرى، وهي: "إناءِ ¬

_ (¬1) "ت": "يده". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 46). (¬5) في الأصل: "الشرب"، والمثبت من "ت".

التاسعة والستون بعد الثلاث مئة

الفضَّة"، فإنَّ هذا لا يسمَّى إناءً. وإنما استقربتُ (¬1) مسألة الشرب على الفضة الموضوعة في الإناء؛ لأنه قد يُقصد هذا المعنى في الاستعمال، وربما يُدَّعى فيه منفعةٌ بالنسبة إلى الذهب، وعلى كلِّ تقدير ففيه إحداثُ سرور في نفس فاعله، فيقرِّبُه من الاستعمال المنتَفَعِ به، ومن لا يقف مع ظاهر اللفظ ويعتبر وجوهَ [الاستعمال] (¬2)، فليس يبعد منه أن يقول: هو استعمال الفضة لما يتعلق به من الغرض. والمذكور عن نَقْلِ المُزَنيِّ، عن الشافعي - رضي الله عنهما -: وأكره المضبَّب بالفضة؛ لئلَّا يكون شاربًا [و] (¬3) على فمه فضة (¬4). التاسعة والستون بعد الثلاث مئة: اتَّخذ آنيةً من ذهب أو فِضَّة، وموَّهها بنحاسٍ أو برصاصٍ: ففيه خلاف. ووجه المنع: بأنَّ (¬5) الإسرافَ موجودٌ لوجود الفضة (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: "استقرئت"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "مختصر المزني" (ص: 1)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 302). قال: وللأصحاب في المسألة أربعة أوجه. ثم قال: وأصح هذه الأوجه وهو الأشهر عند العراقيين، وقطع به كثيرون منهم أو أكثرهم وصححه الباقون منهم: أنه إن كان قليلًا للحاجة لم يكره. (¬5) "ت": "أن". (¬6) في الأصل: "أو الفضة موجودة، بدلَ "لوجود الفضة" المثبتة من "ت".

السبعون بعد الثلاث مئة

ووجه الجواز: بأن (¬1) ذلك السَّرف لا يظهر للناس حتى يُخشى منه فتنةُ الفقراء، ولا يحصُل به إظهارُ التكبرِ. قلت: هذا رجوعٌ إلى اعتبار العلَّتين المستنبطتَيْن في السرف أو الخيلاء، والتحريمُ ورد على آنية الفضةِ، وهذا إناء فضةٍ، ولا يخرج عن الإناء اسمُه بتمويهه بغير جوهره، هذا من حيث اللفظُ، وأما من حيث المعنى وهو اعتبار السرفِ، فقد قدَّمنا ما يقال في ترجيحه. السبعون بعد الثلاث مئة: اتَّخذ آنيةً من حديد أو نحاس وموَّهها بذهب أو فضة: ففيه الخلافُ المتقدِّم، وعُلِّل التحليلُ: بأن الإسراف لم يوجَد، والتحريم: بأن خوفَ الفتنة موجودٌ؛ يعني: لإظهار السَّرف والتزيُّنِ للناس. قلت: هذا عكسُ المسألةِ الأولى، واعتبارُ اللفظ يقتضي أن لا تحرم؛ لأنها (¬2) لا تسمى آنيةَ فضة، وإنما هي (¬3) آنيةُ نحاس أو رصاص، وكما لا يزول اسم الإناء بتمويهه بغير جوهره كما قدمنا في المسألة الأولى، فكذلك لا يحدث له اسمٌ آخر بتمويهه بغير جوهره، وإذا لم يحدث له اسم آخر فلا (¬4) يتناوله اللفظُ، والمعنى أيضًا، وهو ¬

_ (¬1) "ت": "أن". (¬2) "ت": "ألا يحرم لأنه". (¬3) "ت": "هو". (¬4) "ت": "لا".

الحادية والسبعون بعد الثلاث مئة

السرف، معدومٌ، وأما الخيلاءُ التي بنى عليها (¬1) التحريم فقد تقدم ما فيها (¬2). الحادية والسبعون بعد الثلاث مئة: سترَ إناءَ نحاسٍ بذهب أو قضة من غير ممازجةٍ بالإذابة (¬3)؛ أما اعتبارُ لفظِ الإناء من الفضة أو الذهب: فقد يخرجُ هذا عنه، فإنه لا يسمَّى إناءَ فضة أو ذهب عند الإطلاق. أما اعتبار التعليل بالخيلاء: فمنتفٍ لاستتاره. الثانية والسبعون بعد الثلاث مئة: هذا التنكيرُ في قوله: "عن شربٍ بالفضة" يتناول يسيرَ الشربِ وكثيرَه، ويمنع من ترتيب الحكم على كمال الشرب المقصودِ (¬4). الثالثة والسبعون بعد الثلاث مئة: أخذَ مقدارًا من الذهبِ أو الفضةِ، ومقدارًا مثلَه من غيرهما، كالنحاس والرصاصِ، ومزجَهما بحيث تنشأ عنهما صفةٌ أخرى من غير ظهور أحدهما على الآخر؛ فمن قال بجوازِ الإناء من الذهبِ إذا غُشِّي بغيره لانتفاء الخُيلاء، فيجيءُ على قوله جوازُ هذا؛ لأنَّا فرضنا أنه لم يظهرِ الذهبُ عليه، بل ربَّما يقال: إنّه ¬

_ (¬1) "ت": "الَّذي بنى عليه". (¬2) "ت": "فيه". (¬3) "ت": "مزج إناء نحاسٍ بذهب - أو فضة مستترًا". (¬4) "ت": "المطلوب".

الرابعة والسبعون بعد الثلاث مئة

هاهنا أولى؛ لعدم انطلاق اسم الإناء حقيقةً على بعضه، فإذًا ليس هو إناءَ ذهبٍ حقيقةً، بل بعض إناء، [فلا يبعد في هذه المسألة وفي التي تقدمت من تغشية إناء نحاس بذهب أو فضة مستترًا أن يمنع ويستند فيه إلى التنكير في "شرب بالفضة"] (¬1). الرابعة والسبعون بعد الثلاث مئة: الظاهريةُ على أصلهم في الوقوفِ على المنصوص، فلا يُعَدُّون الحكمَ إلى غير الشرب والأكل، وغيرهم عَدَّاه إلى وجوه الاستعمال؛ كالوضوءِ بآنيتهما، واستعمالِ ماء الورد والبخورِ من الآنية المذكورة. وادَّعى بعضُ المُعَدِّين إلى غير المنصوص عليه: أن النهي عن الشرب للتنبيه على سائر المنافع، فإنَّ ما سوى منفعةِ الشرب دونَ منفعةِ الشرب، وقلما يُتَّخذ لأجلها إناءُ الذهب والفضة، فإذا حرُم الشرب منها، فسائر وجوهِ الانتفاعِ أولى بالتحريم. الخامسة والسبعون بعد الثلاث مئة: إذا صَبَّ من إناء الفضة أو الذهب، وشَرِبَ من غير أن يلاقيَ فَمُه الإناءَ؛ من اعتبرَ معنى الاستعمال فلا تردُّد في امتناعه على مذهبه؛ لأنه مستعملٌ لإناء الذهب والفضة. ومن اعتبرَ اللفظَ؛ فأما في لفظ هذه الرواية، وهو قولُه: "وعن شربٍ بالفضة" فظاهرٌ أيضًا تحريمُهُ، إذا حملنا الباء على باء الاستعانة ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

السادسة والسبعون بعد الثلاث مئة

والآلة؛ لأنه قد شرب بها. وأما على روايةِ من روى: "عن آنيةِ الفضة"، فمن ذهبَ في مثل هذا إلى العموم في المقتضى؛ لأنّه أقربُ إلى الحقيقة، دخلَ تحته أيضًا هذا النوع، بل سائرُ وجوه الانتفاع. السادسة والسبعون بعد الثلاث مئة: قد تقدَّم تفسيرُ المياثر، وحكينا الأقوالَ في معناها، وتلك الأقوالُ يرجع بعضها إلى النهيِ عن الحرير، كمن فسَّرها بأغشية السّروج من الحرير، ومن فسَّرها بسروج من الديباج، وبعضها يرجع إلى ما هو أعمُّ، كما جاء: "المياثر الحمر" (¬1)، وبعضُها إلى جلودِ السباع، والأقربُ أنها تدل على ما هو أعمُّ من الحرير؛ لأن في حديث آخر: "مَياثر الأُرْجُوان" (¬2)، وذلك يدلُّ على إطلاق اللفظ على ما هو من الأُرجوان، [وأما تخصيصها؛ فقد] (¬3) اختلفتِ الروايةُ [في المياثر] (¬4)؛ ففي الراوية التي قدمناها الإطلاقُ أو العموم، وفي روايةٍ عن أشعثَ عند البخاري بهذا الإسناد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5500)، كتاب: اللباس، باب: لبس القسي، من حديث البراء - رضي الله عنه - قال: نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المياثر الحمر، والقسي. (¬2) رواه أبو داود (4050)، كتاب: اللباس، باب: من كرهه، والنسائي (5184)، كتاب: الزينة، باب: حديث عبيدة، من حديث علي - رضي الله عنه - أنه قال: نهى عن مياثر الأرجوان. وإسناده صحيحُ كما قال الحافظ في "الفتح" (10/ 307). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

السابعة والسبعون بعد الثلاث مئة

بعينه: "ومَيَاثر الحُمُر" (¬1)، وأما تخصيصُها بالحرير، أو [به و] (¬2) بالأُرجوان، فيُحتمل أن يكون لعادةٍ جرتْ فيهما في ذلك الوقت، فانصرف النهيُ إليهما، وتكونُ الألف واللام للعهد، والله أعلم. السابعة والسبعون بعد الثلاث مئة: فإنْ كان المرادُ بها مياثرَ (¬3) الحرير، فالتحريمُ في ذلك ظاهر؛ لما سيأتي عن النهي عن لُبس الحرير، وإن كان من الأرجوان، أو من الأحمر الَّذي هو أعمُّ من الحرير، فيجب على المذاهبِ المشهورة عن العلماء أن يكونَ النهيُ على الكراهة [فيما عدا الحرير] (¬4)؛ لاعتقادهم الحلَّ فيها. الثامنة والسبعون بعد الثلاث مئة: إذا حُملت على جلودِ السِّباع كما وردَ في [بعض] (¬5) تفسير هذه اللفظة (¬6)، فلا تعلَّقَ له بعلةِ تحريمِ لُبس الحرير، وقد يتعلق بعلة النجاسة، فيُستدل به على أن الذَّكاةَ لا تَعمَلُ في جلود ما لا يُؤكل لحمُه، وتبقى على نجاستها (¬7). وقد استدل بالنهي عن افتراش جلود النُّمور ونحوِها (¬8) على هذه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا، إلا أنه قال: "عن المياثر الحمر". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "المياثر"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) انظر: "صحيح البخاري" (5/ 2195). (¬7) "ت": "نجاسته". (¬8) "ت": "ونحوه".

التاسعة والسبعون بعد الثلاث مئة

المسألة، فعلى هذا يدخلُ النهيُ عن المياثر إذا فُسِّرت بهذا (¬1) التفسير في هذا الباب، ويُستدل به عليه على النحو الَّذي حكيناه، إلا أنه استدلالٌ على تقديرِ تفسيرِ المياثر بهذا التفسير في هذا الحديث (¬2)، وقد ذكرنا أن الأقربَ تفسيرُها بما هو أعمُّ من هذا. التاسعة والسبعون بعد الثلاث مئة: فإن صحَّ هذا الاستدلالُ على نجاسة جلدِ ما لا يؤكل لحمُه، وجعلَ ذلك علة النهي، فيتعدَّى منه إلى مسألةِ استعمالِ الثوب النجسِ لغير الصلاةِ. الثمانون بعد الثلاث مئة: النهيُ عن المياثر إذا حملناه على الحريرِ يدل على تحريم ما ظاهرُه محرَّمُ اللُّبسِ إن (¬3) كان بِطَانتُه وحَشْوُه من غيره، وأنه لا يجعلُ اختلاطَه به على هذا الوجه كاختلاطِ الحرير بغيره نسجًا، فإن مياثرَ السروج لابد فيها من الحشو، وأنْ تتصلَ بما ليس بحرير غالبًا، ولو فرضناه ليس كذلك نادرًا، لكان لفظُ المياثر يدخلُ تحتَه هذه (¬4) الصورة؛ أعني: ما إذا كانت الظهارة من حرير، والحشوُ والبطانة من غيره، فيدخلُ تحت النهي، فيحصل ما ذكرناه من الاستدلال. ¬

_ (¬1) "ت": "هذا". (¬2) "ت": "على تقدير تفسير المياثر بجلود السباع". (¬3) "ت": "وإن". (¬4) "ت": "وهذه".

الحادية والثمانون بعد الثلاث مئة

الحادية والثمانون بعد الثلاث مئة: ظاهرُ النهي عن لبس الحرير التحريمُ، وقول الشافعي - رضي الله عنه -: وأكره لُبسَ الديباج (¬1)، محمولٌ على أن المرأد بالكراهة التحريمُ، والمتقدِّمون يطلقون مثلَ هذا [اللفظِ] (¬2) ويريدون التحريم. الثانية والثمانون بعد الثلاث مئة: هذا التحريم متعلق بالرجال، وهو كالمتَّفق عليه؛ لكثرته وشهرته، وعن "الاستذكار": أنه لا خلافَ: أن ما كان سَداه ولُحْمتُه حريرًا أنه لا يجوز للرجال لباسُه (¬3). وقد تقدم حكايةُ كلامِ القاضي في مسألة الخاتم (¬4). الثالثة والثمانون بعد الثلاث مئة: المشهورُ المستفيضُ قولًا وفعلًا: لباسُ النساءِ الحريرَ، وفيه خلافٌ (¬5) قديم، فقد ثبتَ عن ابن الزُّبير - رضي الله عنهما - أنه قال: "ألا لا تُلبِسُوا نساءَكم الحريرَ"، ¬

_ (¬1) الَّذي وجدته في "الأم" (1/ 221) قول الإمام الشافعي رحمه الله: ولو توقَّى المحارب أن يلبس ديباجًا أو قزًا ظاهرًا كان أحب إليَّ، وإن لبسه ليحصنه، فلا بأس به إن شاء الله تعالى؛ لأنه قد يرخص له في الحرب، فيما يحظر عليه في غيره. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 318). (¬4) في المسألة الثالثة والخمسين بعد الثلاث مئة. (¬5) "ت": "قول".

أخرجه مسلم (¬1). وروى النسائي من حديث يوسفَ بنِ مَاهِك: أن امرأةً سألتِ ابنَ عمرَ - رضي الله عنهما - عن الحرير فقال لها ابن عمر: مَنْ لَبِسَهُ في الدُّنيا لم يلبَسْه في الآخرة (¬2). وروى النسائيُّ أيضًا من حديثِ عمرو بنِ الحارثِ: أن أبا عُشانة المَعَافِريَّ (¬3) حدَّثه: أنه سمع عقبةَ بنَ عامر يخبر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمنعُ أهلَه الحليةَ والحريرَ، ويقول: إنْ كنتُمْ تُحبونَ حِلْيَةَ الجنةِ وحريرَها فلا تلبسوها (¬4) في الدُّنيا (¬5). وللجواز دلائلُ منها: ما ثبتَ في الصحيح من حديثِ زيدِ بن وهبٍ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كَساه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةً سُيَرَاءَ، فخرجْتُ فيها، فرأيتُ الغضبَ في وجهِهِ، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2069)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (9595)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 251). (¬3) في الأصل: "أن أبا عشانة بن عامر"، وقد سقط من "ت" و "ب" قوله: "بن عامر"، ولعل المراد: "المعافري" كما أثبت من مراجع التخريج؛ لأن أبا عشانة اسمه: حي بن يومين، كما أفاده ابن حبان في "صحيحه". (¬4) في الأصل: "تلبسوه"، والمثبت من "ت" و"ب". (¬5) رواه النسائي (5136)، كتاب: الزينة، باب: الكراهية للنساء في إظهار الحلي والذهب، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 145)، وابن حبان في "صحيحه" (5486)، والحاكم في "المستدرك" (7403).

قال: فشقَقْتُها بين نسائي. وهو متَّفقٌ عليه، واللفظ لمسلم (¬1). وعن أبي صالح الحنفيِّ، عن علي: أن أُكَيْدِرَ دُومةَ أهدى إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثوبَ حرير، فأعطاه عليًّا - رضي الله عنه - فقال: شقَقْتُه خُمُرًا بين الفواطِمِ، وفي رواية: بين النسوة، أخرجه مسلم (¬2). واشتهر في هذا الاستدلال بما (¬3) جاء في الذهب والحرير من تحريمه على الرجال، وحلّه للنساء. ومنه: ما روى سعيدُ بنُ أبي هند، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ أحلَّ لإناثِ أمتي الحريرَ والذهبَ، وحرَّمَهُ على ذكورِها"، أخرجه النسائي (¬4)، واعتمده ابنُ حزم، قال: وهو أثرٌ صحيحٌ؛ لأنَّ سعيدَ بن أبي هندٍ ثقةٌ مشهورٌ، روى عنه نافعٌ، وموسى ابن مَيْسَرة (¬5). والذي ذكره من توثيق سعيدٍ صحيحٌ، ولكن لا يكفي ذلك في الحكم بالصحة، بل لابد من شرط آخر، وهو الاتصالُ وعدمُ الانقطاع، ولم يضع ابنُ حزم نظرَه عليه، ولا وجَّه - والله أعلم - فِكْرَه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2472)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: هدية ما يكره لبسه، ومسلم (2071)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (¬2) رواه مسلم (2071)، (3/ 1645)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (¬3) "ت": "ما". (¬4) وتقدم تخريجه قريبًا. (¬5) انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 86).

إليه (¬1)، وكان يلزمُه ذلك قبلَ الحكم بصحته. وقد ذكرَ أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى الأندلسي الداني في كتاب "الإيماء" عن الدَّارقطني: أن سعيدَ بن أبي هند لم يسمعْ عن (¬2) أبي موسى شيئًا (¬3)، فعلى هذا يفوت شرطُ الاتصال. واشتُهر أيضًا الاستدلالُ بما رُوي عن علي - رضي الله عنه - في هذا، وهو حديثٌ رواه أبو داود من حديث يزيد بن [أبي] (¬4) حبيب، عن أبي ¬

_ (¬1) في الأصل: "عليه"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "من". (¬3) قال الزين العراقي: لا حجة إلى إبعاد النجعة في حكايته - أي: ابن دقيق - من كتاب غريب ومؤلف غريب، فقد ذكره ابن أبي حاتم في كتاب "المراسيل"، ومن ثم ضعَّفَ ابنُ حبان الخبر وقال: معلول لا يصح. قال الزين: وقد يجاب أنه يرتفع بالشواهد إلى درجة الصحة، كما يتأكد المرسل بمجيئه من غير ذلك الوجه. كذا نقله المناوي في "فيض القدير" (3/ 380). قلت: أراد الإمام ابن دقيق كلام الدارقطني، فجاء ذكر كتاب: "الإيماء" عرضًا لا قصدًا. وقول الدارقطني: أن سعيد بن أبي هند لم يسمع عن أبي موسى شيئًا، ذكره في "العلل" له (7/ 241). وما نقله الزين العراقي عن ابن أبي حاتم؛ ذكره في "المراسيل" (ص: 75). وما نقله عن ابن حبان، ذكره في "صحيحه" (12/ 250)، حديث رقم (5434). (¬4) زيادة من "ت".

الرابعة والثمانون بعد الثلاث مئة

أَفْلَح الهمداني، [عن] (¬1) عبد الله بن زُرَير: أنه سمع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: إنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: "إن هذَيْنِ حرامٌ على ذكورِ أمتي، حِلٌّ لإناثِها" (¬2). الرابعة والثمانون بعد الثلاث مئة: تكلَّمَ القاضي على حديث عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -: "لا تُلبسوا نساءَكم الحريرَ ... " الحديث، فقال: هذا مذهب عبد الله ومن قال بقوله، يحرِّمُهُ على الرجال والنساء، ويحمله على العموم، وقد انعقدَ الإجماعُ بعدَه من العلماء على جوازه للنساء، وتخصيصُ تحريمِه بالذكور، وقيل: نُسخ في الرجال والنساءِ بالإباحة لهنَّ، والجمهورُ على أنّه ليس بناسخٍ ولا منسوخٍ، وإنما هذه أحاديثُ مجملةٌ، وحديثُ تخصيصِ الرجال بذلك مبيِّنٌ، وحملَ بعضُهم النهىَ العام في ذلك على الكراهة لا على التحريم (¬3). قلت: هذا الكلامُ يحتاج إلى تأويل؛ فإن أراد به إثبات قولٍ بالكراهة دونَ التحريم، فهذا يناقضه ما قدمه من انعقاد الإجماع بعد ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه أبو داود (4057)، كتاب: اللباس، باب: في الحرير للنساء، والنسائي (5144)، كتاب: الزينة، باب: تحريم الذهب على الرجال، وابن ماجه (3595)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير والذهب للنساء، وغيرهم من طريق يزيد بن أبي حبيب، به، ولم يقل "حل لإناثهم" إلا ابن ماجه. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 53). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 582).

الخامسة والثمانون بعد الثلاث مئة

ابن الزبير - ومن قال بقوله من العلماء - على جوازه [للنساء] (¬1)، [وتخصيص تحريمه بالذكور] (¬2). وإنْ أرادَ به أنه كان الحكمُ العامُّ قبل التحريم على الرجال هو الكراهة دون التحريم، ثم انعقد الإجماعُ على التحريمِ للرجال، والإباحةِ للنساء، فهذا يوجب الحكمَ بنسخ الكراهة في حق الرجال إلى التحريم، وفي حقِّ النساء إلى الإباحة، والله أعلم. الخامسة والثمانون بعد الثلاث مئة: لُبسُ الحرير، إن كان يتناول الحريرَ المنفردَ دون (¬3) المخالَطِ، فلا تخصيصَ فيه بالنسبة إلى الرجال حيث حرُم (¬4) عليهم، وإن كان يتناول الخالصَ والممزوجَ، فما (¬5) يُباح منه يكون بطريق التخصيص، وقد يُستدل على تناوله الممزوجَ بحديث سُويد بن غَفَلة: أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب بالجابية قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لُبْسِ الحَريرِ، إلا موضعَ [إصبعٍ، أو] (¬6) إصبعين، أو ثلاثٍ، أو أربعٍ (¬7). ووجهُ الدليل منه: الاستثناء، وهو يقتضي إخراجَ ما لولاه لدخلَ، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "عن". (¬4) "ت": "يحرم". (¬5) في الأصل: "فيما"، والمثبت من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) رواه مسلم (2069)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.

السادسة والثمانون بعد الثلاث مئة

فيكونُ لُبس الحرير منطلقًا على الممزوجِ قبل الاستثناء. السادسة والثمانون بعد الثلاث مئة: تحريمُ الحرير على الرجال يُعلَّلُ بأمرين: أحدهما: الفخرُ والخيلاء، والثاني: أنه ثوبُ رفاهية وزينة، وإبداء زِيٍّ يليق بالنساء دون شَهَامةِ الرجال، وقد يكون المعنيان معتَبَريْن، إلا أنه قيل: إنَّ (¬1) هذا القدر - أعني: المعنى الثاني - لا يقتضي التحريمَ عند الشافعي - رحمه الله تعالى - قال (¬2) في "الأمّ": ولا أكرهُ لباسَ اللؤلؤ إلا للأدب، فإنه من زِيِّ النساء (¬3). قلت: ما كان مخصوصًا بالنساء في جنسه أو هيئته، أو (¬4) غالبًا في زِيِّهنَّ، فالمنعُ فيه (¬5) ظاهر؛ لأنه قد يثبت (¬6) اللعنُ على المتشبِّهين من الرجال بالنساء، وذكر بعضُهم في تعليل التحريم [للحرير] (¬7): التشبهَ بالكفار (¬8)، ولعلَّه يعود إلى [معنى] (¬9) الخيلاء، فإنه زُّيهم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "أعني". (¬2) "ت": "لأنه قال". (¬3) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 221). (¬4) "ت": "و". (¬5) "ت": "منه". (¬6) "ت": "ثبت". (¬7) سقط من "ت". (¬8) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 582). (¬9) زيادة من "ت".

السابعة والثمانون بعد الثلاث مئة

السابعة والثمانون بعد الثلاث مئة: [من] (¬1) صور التخصيص: لباس [الحرير] (¬2) للحكَّة، ويخصِّصه الحديثُ الصحيحُ عن أنس قال: رخَّص رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - في لُبس الحرير، لِحكَّةٍ كانت بهما. متفق عليه، واللفظ لمسلم (¬3). ورواه مسلمٌ من وجهٍ آخرَ، عن سعيد، ثنا قتادة: أنَّ أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنبأهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير (¬4) بن العوام - رضي الله عنهما - في القميص الحرير في السفر، من حِكَّة كانت بهما. ورواه محمد بن بشر، عن سعيد، ولم يذكرِ السفرَ (¬5). وأجاز الشافعيةُ - رحمهم الله تعالى - لُبسَ الحرير للحِكَّة ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه البخاري (5501)، كتاب: اللباس، باب: ما يرخص للرجال من الحرير للحكة، ومسلم (2076/ 25)، كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها. (¬4) "ت": "وللزبير". (¬5) روإه مسلم (2076/ 24)، كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها. ووقع عنده: "في القُمُص الحرير"، وزاد في آخره: "أو وجع كان بهما".

والحَرْب، وفي "التنبيه" حكايةُ وجهٍ (¬1): أنه لا يجوز (¬2)، والمشهورُ الأولُ، وهل (¬3) يُشرط السفر في ذلك، أم يجوز بمجرد الحِكَّة؟ فيه وجهان للشافعية، قال الرافعي - رحمه الله -: [أصحهما] (¬4): لا يشترط لإطلاق الخبر، والثاني: نعمْ؛ لأنَّ السفر شاغلٌ عن التفقد والمعالجة. قال: وفي الرواية الثانية - يعني: من الحديث - ما يقتضي اعتبارَه في دفع القمل (¬5). قلتُ: كأن منشأَ الخلاف [اختلافُ] (¬6) الروايات في ذكر السفر وعدم ذكره، وقد قدمنا في رواية سعيد بن أبي عروبة ذكرَ السفر في الحِكَّة، لا في القمل (¬7). ولقائل أن يقول: الاختلافُ راجعٌ إلى مَخْرج واحد في الرواية عن قتادة، ففي رواية شعبة عنه: إطلاق الرخصة في لبس الحرير ¬

_ (¬1) "ت": "وجه أو قول". (¬2) انظر: "التنبيه" لأبي إسحاق الشيرازي (ص: 43). (¬3) في الأصل: "وهو"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 28)، و"روضة الطاليين" للنووي (2/ 68). (¬6) زيادة من "ت". (¬7) كما تقدم تخريجه قريبًا عند مسلم برقم (2076/ 24).

للحِكَّة، واختلف على سعيد، عن قتادة، ففي رواية أبي أسامة، عن سعيد: ذِكْرُ السفر، وفي رواية محمد بن بشر، عن سعيد: عدمُ ذكرِهِ، هذا بحسب ما في كتاب مسلم، رحمه الله تعالى. وعلى مقتضاه: أن المَخْرجَ إذا كان واحدًا فهو حديث واحد، ذكر بعضُ الرواة فيه السفر، ولم يذكره بعضُهم، فوجب أن يُحمل الإطلاقُ على إهمال بعض الرواة للقيد، إما لعدم سماعه من شيخه، أو لنسيانه، أو لغيره، ويتعيَّنُ - اعتبارُ (¬1) القيد في الرواية. وحينئذ نقول: وجب أن يُعتبر في الحكم؛ لأن هذا وصفٌ عُلِّق الحكمُ به، ويمكن أن يكون معتبرًا فلا يُلْغى. ووجه اعتبارِهِ: ما قدمناه من كون السفر شاغلًا عن التفقُّد والمعالجة، أو لكونه مَظِنَّةَ الرُّخَص، فيكون هذا منها. فإنْ وُجد حديثٌ آخرُ من وجه آخر، ومخرجٍ آخر، بحيث لا يغلب على الظن أنه حديث واحد، فهاهنا يمكن أن يقال: إنه من قَبيل النَّصَّين اللذين أحدُهما مطلق والآخر مقيَّد، وتلحق بقاعدته واختلاف العلماء فيها، وفيه نظر أيضًا على هذا التقدير؛ أعني: على تقدير أن يوجد حديثٌ آخر مطلق، ووجه النظر: أنه وإن اختلف المخرج، فليس هو حكايةَ لفظين أحدُهما مطلقٌ والآخرُ مقيدٌ، وإنما هو حكاية قضيةٍ مخصوصة، وهو الترخيص لعبد الرحمن والزبير - رضي الله ¬

_ (¬1) في الأصل: "اعتباره"، والمثبت من "ت".

الثامنة والثمانون بعد الثلاث مئة

عنهما - لعذر معيَّن، فالظاهر أنها قضية واحدة، فيرجع (¬1) الأمرُ فيها إلى ما قلناه فيما إذا كان المخرج واحدًا، والله أعلم. الثامنة والثمانون بعد الثلاث مئة: قال الرافعي الشافعي - رحمة الله عليهما -: وعَدَّ الأئمةُ القَزَّ من الحرير، وحرَّموه على الرجال، وإن كان كَمِدَ اللون، وادَّعى صاحبُ "النهاية" وِفاقَ الأصحاب [فيه] (¬2)، ثم حكى أن في "التتمة" حكايةَ وجه: أنه لا يحرم؛ لأنه ليس من ثياب الزينة (¬3). قلت: إن كان مرادُه بالقزّ ما نطلقه نحن في زماننا عليه، فليس يخرجُ عن اسم الحرير، وإذا كان اسمُ الحريرِ منطلقًا عليه وجب أن يحرم، ولا معنى لاعتبار اللون وكُمُودَتِهِ، ولا لكونه من ثياب الزينة، فكلاهما تعليلٌ ضعيفٌ لا أثرَ له بعد انطلاق الاسم عليه (¬4). التاسعة والثمانون بعد الثلاث مئة: أجاز (¬5) الشافعيةُ لُبْسَه لدفع ¬

_ (¬1) "ت": "فرجع". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 29). (¬4) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 295): ولم يتعرض - أي: ابن دقيق - لمقابل التقسيم، وهو وإن كان المراد به شيئًا آخر، فيتجه كلامه، والذي يظهر أن مراده به رديء الحرير، ونحو ما تقدم في الخز، ولأجل ذلك وصفه بكمودة اللون، والله أعلم. (¬5) "ت": "اختار".

القمل (¬1)، وقد خرَّج مسلم من حديث همَّام قال: ثنا قتادة: أن أنسًا أخبره: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شَكَوَا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - القملَ، فرخَّص لهما في قميص الحرير، في غَزَاةٍ لهما (¬2). فهذه الرواية فيها الرخصة للقمل، وفيها ما يدل على السفر أيضًا، وذكر (¬3) القاضي عياض - رحمه الله تعالى - حديثَ الحكة وحديث القملِ في الغزاة اللذين قدمناهما، وقال: مذهبُ مالك - رحمه الله تعالى - مَنْعُه في الوجهين، وبعضُ أصحابِه يبيحه فيهما (¬4). وقال شيخُه القاضي أبو الوليد بن رشد المالكيُّ: ولا اختلاف في أنَّ لباسَ الرجالِ له في الحرب محظورٌ، لا يباح إلا مِنْ ضرورة، فقد أَرْخَصَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف والزُّبير بن العوَّام في قميص الحرير، لحكةٍ كانت بهما. قال: وكره ذلك مالك، ولم يرخص فيه (¬5)، إذ لم يبلغه الحديث، والله أعلم، وقد روي عنه: أنه أَرْخَصَ فيه للحكَّة على ما في الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (4/ 381). (¬2) رواه مسلم (2076/ 26)، كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها. وعنده: "في قمص الحرير". (¬3) "ت": "وحكى". (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 585). (¬5) "ت": "يرخصه". (¬6) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 432).

التسعون بعد الثلاث مئة

التسعون بعد الثلاث مئة: روى مسلم من حديث عبد الله (¬1) مولى أسماء بنت أبي بكر - وكان خالَ ولدِ عطاء - قال: أرسلتني أسماءُ إلى عبد الله بن عمر، فقالت (¬2): بلغني أنك تحرِّم أشياءَ ثلاثةً: العَلَم في الثوب، ومِيثرةَ الأُرْجوان، وصومَ رجبٍ كلِّه؟ فقال لي عبدُ الله: أمَّا ما ذكرت من رجبٍ، فكيف بمن (¬3) يصومُ الأبدَ؟ وأمَّا ما ذكرت من العَلَم في الثوب، فإني سمعتُ عمرَ بنَ الخطابِ يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما يلبسُ الحريرَ مَنْ لا خَلاقَ له"، فخِفْتُ أن يكونَ العَلَمُ منه، وأما مِيثرةُ الأُرْجوان فهذه مِيثرةُ عبدِ الله، فإذا هي أرجوان (¬4)، فرجعت إلى أسماءَ فخبَّرتُها (¬5)، فقالت: هذه جُبَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرجت إليَّ جبةً طَيَالسية كِسْرَوَانيَّةً، لها لَبِنةُ ديباجٍ، وفَرْجَاها مكفوفان بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة - رضي الله عنها - حتى قُبِضت، فلما قُبِضت قَبَضْتُها، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يلبسها، فنحن نغسِلُها للمرضى نستشفي بها (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: "عبيد الله"، والتصويب من "ت" و"ب". (¬2) في الأصل و"ب": "فقال"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "ميثرة أرجوان". (¬5) "ت": "فأخبرتها". (¬6) رواه مسلم (2069/ 10)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.

قال الروياني الشافعي: لو كانت جبةَ صوفٍ أو لَبِدٍ يُكَفُّ أكمامُها وجَيْبها (¬1) وأذيالُها بالحرير المصمَّت أو الديباج، كما يُفعل في العرف؛ لا يحرم لُبسها (¬2). وقال الرافعي: يجوز لُبْس الثوب المطرَّف بالديباج والمطرَّز به، وقال: قال الشيخ أبو محمد وغيرُه: والشرط فيه الاقتصارُ على عادة التَّطريف، فإن جاوز العادةَ فيه كان سَرَفًا محرَّمًا (¬3). وقد اعتُرض على الاستدلال بالحديث، بأن قيل: لعلَّ هذا الحرير أُحْدِث بعد موتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لا أنه لَبِسَها وفيها هذا الحرير (¬4) (¬5)، فيكون في ذلك حجة على جَوازه، وإذا احتمل، سقطَ التعلُّق به. قال القاضي عياض: وهذا بعيد جدًا؛ لأن أسماء إنما احتجت ¬

_ (¬1) "ت": "جيبها وأكمامها". (¬2) انظر: "بحر المذهب" للروياني (3/ 204 - 205). (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 30). (¬4) "ت": "ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبسها وفيها هذا الحرير، ولا صرح به". (¬5) كذا أجاب الباجي في "المنتقى" (7/ 222). قال ابن العربي في "العارضة" (7/ 224 - 225): هذا احتمال فاسد - أي: ما ذكره الباجي -؛ لأن إخراجها لها بصفتها وقولها هذه التي كانت عائشة، نص في كونها بهيئتها؛ لأنهم ما كانوا ليغيروها بما لا يجوز، أو بما يختلف فيه، ثم ينسبونها كذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

الحادية والتسعون بعد الثلاث مئة

بهذا على العَلَم لأجل الحرير الَّذي فيها، قال: وقد قيل: لعلَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يلبسها في الحرب (¬1). الحادية والتسعون بعد الثلاث مئة: قدمنا (¬2) رواية سويد بن غَفَلة: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -[خطب] (¬3) بالجابية، فقال: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضِعَ إصبعين أو ثلاثٍ أو أربعٍ"، أخرجه مسلم (¬4). وهذا دليل على جواز التَّطريز بمثل هذا المقدار، وقد شرط في "التهذيب" الشافعي: أن يكونَ الطّرازُ بقدر أربع أصابع فما دونَها، فإن زاد لم يجزْ (¬5). وهذا موافق لمقتضى ما دلَّ عليه الحديثُ، والله أعلم. الثانية والتسعون بعد الثلاث مئة: أجيز لُبسُ الثوبِ الَّذي يخيط بالإبرِيْسَم (¬6)، وهذا ظاهر إذا كان الخيط بمقدار ما رُخّص فيه، وهو قياسٌ في معنى الأصل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 582). (¬2) "ت": "قد قدمنا". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) وتقدم تخريجه. (¬5) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 31). (¬6) الإبريسَمُ: الحرير. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي، (مادة: برسم)، (ص: 974).

الثالثة والتسعون بعد الثلاث مئة

الثالثة والتسعون بعد الثلاث مئة: قد ذكرنا في تفسير القَسِّي ما يُشعر بأنه غير مُتمحِّض الحرير في بعض الأقاويل، وأوردنا عن ابن وَهْب، [وابن بُكير] (¬1): أنها ثيابٌ مُضَلَّعةٌ بالحرير تُعْمل بالقَسِّ من بلاد مِصر مما يلي الفَرْما (¬2)، وفي كتاب البخاري: فيها حريرٌ أمثال الأتْرُجِّ (¬3). وعلى هذا يكون النهيُ متوجهًا على بعض الممزوج بالحرير. وللشافعية في الممزوج طريقان؛ أحدهما: إن كان ذلك المغيّر (¬4) أكثرَ في الوزن لم يحرُم لُبسه، [وذلك كالخزّ سَدَاه إبْرِيْسَم، ولُحْمتُه صُوف، فإنَّ اللُحمةَ أكثرُ من السَّدَاة] (¬5)، وإن كان الإبريسمُ أكثرَ يحرمْ، وإن كان نصفين ففيه وجهان؛ قال الرافعي: أصحُّهما أنه لا يحرم؛ لأنه لا يسمى ثوبَ حرير، والأصلُ الحِلُّ (¬6). وهذا الَّذي صحَّحه الرافعيُّ خالَفه غيرُه في التصحيح وقال: الصحيحُ أنه يحرم (¬7)، [يريد] (¬8): تغليبًا للتحريم. ¬

_ (¬1) سقط من "ت"، وفي الأصل: "وابن مكين"، والتصويب من "ب". (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 193). (¬3) انظر: "صحيح البخاري" (5/ 2195). (¬4) "ت": "الغير". (¬5) هذه الجملة جاءت على هامش "ت"، وذكر أنها في نسخة. (¬6) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 29). (¬7) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (4/ 379 - 380). (¬8) سقط من "ت".

قال الرافعي: وقال القفَّال، وطائفةٌ من أصحابه: لا يُنظر إلى الكثرة والقِلَّة، ولكن يُنظر إلى الظُّهور، فإن لم يظهرِ الإبريسَمُ حلَّ، كالخزِّ الَّذي سَداه إبريسمُ، وهو لا يظهر، وإن ظهر الإبريسمُ لم يحلّ، وإن كان قدرُه في الوزن أقلَّ. قال الرافعي - رحمه الله تعالى -: فيخرج من هاتين الطريقتين القطعُ بالتحريم إن كان الإبريسم ظاهرًا، أو (¬1) غالبًا في الوزن؛ لاجتماع المعنيين المنظور إليهما، وإن وُجد الظهور دون غلبة الوزن حرُمَ عند القفَّال، ولم يحرم عند الجمهور، وإن وجد غلبةُ الوزن دون الظهورِ انعكس المذهبان (¬2). وقال القاضي أبو الوليد بن رشد المالكي: وقد اختلف السلف - رضي الله عنهم - في لباس الحرير الَّذي سَداه حرير، وما كان في معناه اختلافًا كثيرًا، وذكر أنه يتحصَّل فيه أربعة أقوال: أحدها: أنَّ لباسَها جائزٌ من قَبيل المباح، مَنْ لَبِسَهُ لم يأثَمْ، ومَنْ لا، لم يؤجر [على] (¬3) تركها، وهو مذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - وجماعةٍ من السلف، منهم ربيعة على ما وقع من قوله في أول سماع ابن القاسم من كتاب "جامع العتبية"؛ لأنهم تأولوا أن النهي والتحريم في لباس ¬

_ (¬1) "ت": "و". (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 29 - 30). (¬3) زيادة من "ت".

الحرير للرجال، إنَّما ورد في الثوب المصمَّت الخالصِ من الحرير. والثاني: أنَّ لباسَها غيرُ جائز، وإن لم يُطلق عليه أنه حرام، فمن لَبِسَها أَثِمَ، ومن تركها نجا، [وفيها] (¬1) أثر: قيل في حُلَّة عُطَارِد والسِّيَراء التي قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما يلبسُ هذه مَنْ لا خلاقَ له في الآخِرَةِ" (¬2) إنها كانت يخالطها الحرير، وكانت مضلَّعَةً بالقَزِّ؛ وهو مذهب عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، والظاهرُ من مذهب مالك، وإن كان قد أَطلقَ القولَ فيه أنه مكروه، والمكروهُ ما كان في تركه ثواب، وإن لم يكن في فعله عقاب؛ أذهب مطلقه فيما هو عنده غير جائز، تحرُّزًا من أن يُحرِّم ما ليس بحرام، والذي يدل على ذلك من مذهبه قوله في "المدونة": وأرجو أن يكونَ الحريرُ للصِّبيان خفيفًا (¬3). والثالث: أن لباسَه مكروهٌ على المكروه، فمن لبسه لم يأثَم، ومن تركه أُجِرَ على تركه، قال: وهذا أظهر الأقوال، وأولاها بالصواب؛ لأنّ ما اختلف أهلُ العلم فيه لتكافُؤ الأدلة في تحريمه ¬

_ (¬1) زيادة من "ب". (¬2) رواه البخاري (2470)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: هدية ما يكره لبسه، ومسلم (2068)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (¬3) انظر: "المدونة" (2/ 460).

وتحليلِه، فهو من المُشْتَبهات التي قال فيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اتَّقاها فقدِ اسْتبرأَ لدينهِ وعِرْضهِ" (¬1). وعلى هذا القول: بأن (¬2) ما حُكي عن مطرِّف؛ من أنه رأى على مالكِ بن أنسٍ كساءَ إبريسم كساه إيَّاه هارونُ الرشيدُ، إذْ لم يكن ليلبس ما يعتقدُ أنه يأثَمُ بلبسه. والرابع: الفرقُ بين ثياب الخَزِّ وسائر الثياب المشُوبة بالقطن والكتان، فيجوز لُبس ثياب الخز اتباعًا للسلف، ولا يجوز مما (¬3) سواها من الثياب المشوبة بالقطن والكتان بالقياس عليها، إلى هذا ذهب ابنُ حبيب، وهو أضعف الأقوال؛ إذْ لا فرقَ في القياس بين الخز وغيره من المُجوَّزات (¬4) التي قِيامُها حريرٌ وطُعْمتُها قطن أو كتان؛ لأنّ المعنى الَّذي من أجله استجاز لباسَ الحرير مَنْ لَبِسها من السَّلف، وهو أنه ليس بحرير مَحْضٍ، موجودٌ في المجوَّزات (¬5) وشبهها، فلهذا المعنى استجازوا لُبسه، لا من أجل أنه خز، إذ لم يأتِ أثرٌ بالترخيص (¬6) لهم في لُبس ¬

_ (¬1) رواه البخاري (52)، كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599)، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -. (¬2) "ت": "يأتي". (¬3) "ت": "ما". (¬4) "ت": "الثياب". (¬5) "ت": "المحررات". (¬6) "ت": "في الترخيص".

الرابعة والتسعون بعد الثلاث مئة

الخز، فيختلف في قياس غيره عليه. وقال القاضي أبو الوليد أيضًا: واختُلف في العَلَمِ من الحرير في الثوب، فمِنْ أهل العلم مَنْ أجازه؛ لِمَا جاء: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحرير وقال: "لا تَلْبسُوا منه إلا هَكَذا وهَكَذا"، وأشار بالسَّبَّابة والوُسطى (¬1)، ورُوي إجازةُ ذلك عن عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - في مثل الإصبع والإصبعين والثلاث والأربع (¬2)، وكَرِهَهُ جماعة من السلف - رضي الله عنهم - (¬3). الرابعة والتسعون بعد الثلاث مئة: اختلفوا في افتراش الحرير للرجال. وليس يَختصُّ التحريم باللُّبسِ عند الشافعية؛ بل افتراشِهِ، والتدثُّرِ به، واتخاذهِ سترًا، وسائرُ وجوه الاستعمال في معنى اللُّبس (¬4). وحكي فيه خلاف [عن] (¬5) أبي حنيفة - رحمة الله عليه - وأنه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5490)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير وافتراشه للرجال، وقدر ما يجوز منه، ومسلم (12/ 2069)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "المقدمات الممهدات" لابن رشد (3/ 432). (¬4) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 34). (¬5) زيادة من "ت".

قال: لا يَحرُم إلا اللبس (¬1). وفي كتاب الرافعي، ذُكِرَ وجه: أنه يجوزُ لهم الجلوس عليه؛ أي: للرجال (¬2). وقال القاضي عياض المالكي: المشهورُ عندنا منعُ الجلوس على الحرير. وقال عبدُ الملك بإجازته، وعلَّقَ المنع باللبس المذكور بالحديث (¬3) (¬4). قلت: للمسألة من هذا الحديث مأخذان: أحدُهما: النهيُ عن المياثر، إذا حُملت على أن تكون من الحرير. والثاني: النهيُ عن لبس الحرير بناءً على [أنَّ] (¬5) الافتراشَ لُبْسٌ، وششدل عليه بحديث أنس - رضي الله عنه -: فقمت إلى حصر لنا قد اسودَّ من طُولِ ما لُبِس (¬6). فأَطلقَ عليه اسم اللبس وهو مُفتَرش، فدل على ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 81). (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 34). (¬3) "ت": "في الحديث". (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 566). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) روإه البخاري (373)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على الحصير، ومسلم (658)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جوإز الجماعة في النافلة؛ والصلاة على حصير وخمرة وثوب وغيرها من الطاهرات.

الخامسة والتسعون بعد الثلاث مئة

إطلاق اللبس على المُفْتَرش. على أنه قد وردَ ما يغني عن هذا كلِّه في حديث صحيح صرَّح فيه بالنهي عن الجلوس عليه، فروى البخاري من حديث ابن أبي ليلى، عن حذيفة قال: نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشربَ في آنية الذهب والفضة، وأن نأكلَ فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلسَ عليه (¬1). الخامسة والتسعون بعد الثلاث مئة: نقل صاحب "البحر" الروياني الشافعي عن "الإملاء"، و"الأم": لو لبس رجلٌ قبَاءً محشوًّا بالقز فلا بأس؛ لأن الحشو باطن (¬2). وذكر صاحبُ "التهذيب" الشافعي فيه خلافًا، فقال فيما حكي عنه: ولو لَبِس جبة محشوة بالقز، أو الإبريسم، جاز على الأصح (¬3). وذكر القاضي عياض المالكيُّ: أنَّ المذهبَ النهيُّ عن الجلوس [عليه] (¬4)، وإن كان بطانةً لم يجلس عليه، أو محشوًا فيها، [كما يُحشى الصوف] (¬5)، يجلس عليه (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5499)، كتاب: اللباس، باب: افتراش الحرير. (¬2) انظر: "بحر المذهب" للروياني (3/ 205). (¬3) نقله الرافعي في "فتح العزيز في شرح الوجيز" (5/ 33). (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 567)، ووقع في المطبوع: =

السادسة والتسعون بعد الثلاث مئة

قلت: إذا انطلق عليه اسم اللباس، أو الاستعمال، أو اندرجَ تحت لفظ النهي عنه؛ فلا اعتبار بالتعليل الَّذي ذكره في جوازه، وأنَّهْ باطن، فإن ذلك مرتب (¬1) على اعتبار معنى الخيلاء، وهو معنىً أُخذ من مجرد المناسبة، واتباعُ اللفظ أولى، ثم البطانة ممنوعةٌ وليست بظاهرة. السادسة والتسعون بعد الثلاث مئة: لباس الحرير في الحرب اختلفت عباراتُهم فيه، قال القاضي: واختُلف في لباسه في الغزو، إذ لا يقصد به الخيلاء الممنوعة (¬2). وأطلق الغزالي في موضع القول بأنه يجوز للغازي لُبس الحرير، فقيَّده الرافعيّ وقال: ليس الغزو عذرًا على الإطلاق (¬3). السابعة والتسعون بعد الثلاث مئة: أجاز الشافعية - رحمهم الله - لُبسَه عند مفاجأة القتال إذا لم يجدْ غيرَه، وذلك في حكم الضرورة. الثامنة والتسعون بعد الثلاث مئة: قال الرافعي الشافعي - رحمهم الله تعالى - بعد ذكر جواز لبسه لمفاجأة القتال: وكذلك لُبس ما فيه جُنَّة للقتال، كالديباج الصَّفيق الَّذي لا يقوم غيرُه مقامه، ¬

_ = "أو محشوًا فيها يجلس عليه كما يحشى الصوف". (¬1) "ت": "وكان ذلك مرتبا". (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 575). (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 35 - 36).

التاسعة والتسعون بعد الثلاث مئة

وجوز القاضي ابن كَجٍّ اتخاذَ القَباء ونحوه مما يصلح في الحرب [من الحرير] (¬1)، ولُبسَه فيها على الإطلاق؛ لما فيه من حسن الهيبة (¬2) وزينة الإسلام، فينكسر (¬3) قلبُ الكفار منه؛ كتحلية السيف ونحوِه. قال الرافعي: والمشهور الأول (¬4). قلت: تخصيص العمومات والنصوص بمثل هذا المعنى لا يقوى، واتِّباع النص أولى. التاسعة والتسعون بعد الثلاث مئة: افتراشُ الحرير للنساء، فيه اختلاف عند الشافعية على وجهين (¬5)، ومَنْ يمنعه يمكنه (¬6) أن يُدرجَهُ تحت (¬7) العموم في النهي عن الجلوس على الحرير، أو العموم في النهي عن لباس الحرير، إذا كان الافتراش لُبسًا، ويخرج عنه ما عداه من أنواع اللبس، فيبقى الافتراشُ، وهو ضعيف، ويعارضه العمومُ الَّذي جاء في ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "الهيئة". (¬3) "ت": "لينكسر". (¬4) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (4/ 654). (¬5) المرجع السابق (5/ 34). (¬6) "ت": "يمكن". (¬7) "ت": "في".

الموفية أربع مئة

جواز لُبس الحرير للنساء، وقد قدمنا الكلامَ في تلك الرواية (¬1)، فعليك باعتبار تعارضِ العمومين إن أردت التمسك به (¬2) في هذه المسألة. وذكر الرافعي - رحمه الله - الوجهين في تحريم افتراشِ الحرير للنساء، قال: وأظهرهما - ولم يورِد في "التهذيب" سواه -: نعم، كاستعمال الأواني للسَّرف والخيلاء بخلاف اللبس، فإنه للزينة، فصار كالحُلِي (¬3). المُوفية أربع مئة: اختلفوا في جواز إلباس الصبيان الحريرَ، وللشافعية وجوه: ثالثها (¬4): الفرقُ بين أن يكون دون سبعِ سنين فلا يُمنع، وبين أن يكون له سبعُ سنين فصاعدًا فيُمنع منه؛ كيلا يعتادَه (¬5). وإنْ (¬6) أراد مستدركٌ أنْ يقولَ: اللباسُ مصدر يتناول لباسَ الإنسانِ وإلباسَه لغيره، فيخرج عنه ما يخرج؛ إما بالإجماع أو غيره من النصوص، ويبقى ما عداه، لكانَ ضعيفًا؛ فإن العرف يقتضي سَبقَ ¬

_ (¬1) "ت": "المسألة". (¬2) "ت": "بهذه". (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 34 - 35). (¬4) أي: الأول: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: ما ذكره. (¬5) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (5/ 35). (¬6) "ت" "ولو".

الأولى بعد الأربع مئة

الذهن إلى لباسِ (¬1) الإنسان لنفسه، ولو قيل: إنه لا يتناول الإلباسَ أصلًا؛ لكان كما قالته المالكيةُ في مسألة الاستنابة في الحج: إن الآية إنما تدل على الحجِّ لا على الإحجاج، وحَجُّ البيتِ: مصدر حَجَّ يَحُجُّ، وإحجاجُه: مصدُر أَحَجَّ يُحِجُّ، فالآية تقتضي الحجَّ بنفسه لا الإحجاج، إلا أن غايةَ هذا: أن الآيةَ لا تدل على الإحجاج، وذلك لا يمنع من أخذه من الحديث. الأولى بعد الأربع مئة: قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتاب "سراج المريدين" (¬2) في أثناء الكلام على لباس المرأة: وهاهنا مسألةٌ حسنة، وهي أن المرأة لها لباسُها وفراشها من الحرير والذهب، وإذا (¬3) جاءها زوجُها جَالَسها عليه وضَاجَعَها فيه، وإن دعاها إلى فراشه جاءت إلى إزاره وكسائه، ولا يلزمها إذا أراد الإتيانَ إليها أن تخرجَ [له] (¬4) من بيتها إلى بيتِ فراشه الصوف، كما لا يلزمها أن تتجرَّدَ له إلى مِدْرعته الصوف، ولا خلافَ بين الأُمَّة أن يخالطَها وعليها ثوب الذهب، فيكون ثوبُها لهما لِفاعًا واحدًا. ثم قال بعد ذلك: وروى محمد بن أحمد بن حماد، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا محمد بن فُضَيل، عن الأعمش، عن حبيب، عن ¬

_ (¬1) في الأصل: "لإلباسه"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 282). (¬3) "ت": "فإذا". (¬4) سقط من "ت".

كُرَيب، عن ابن عباس قال: بعثني أبي إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في إبل أعطاه إياها من الصدقة، فلما أتاه -[وكانت ليلةَ ميمونة]، وكانت ميمونة خالته (¬1) قال: فأتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسجدَ، وصلَّى العشاء، ثم جاء وطرح ثوبَه، ودخل مع امرأته في ثيابها (¬2). ثم قال بعد ما ذكره من ألفاظ الحديث، إلى قوله: فدخل على (¬3) امرأته في ثيابها، فهو فقه الحديث الَّذي قصدنا منه أن الزوجَ يأتي امرأتَه فيدخل في ثيابها الحرير والذهب من لباسها. قلت: أدلةُ تحريم الذهب والحرير على الرجال عامَّةٌ تتناول هذه الصورةَ التي ذكرها، وإخراجُها عن تلك الدلائل العامة تخصيصٌ يحتاج إلى دليل شرعي يدل عليه، وكأن ما ذكره يلتفت إلى قاعدة التبعية وإعطاءِ التابع حكمَ المتبوع، إلا أنها قاعدةٌ مضطربةٌ لا تجري على قانون واحد، وهي ذَاهِبةٌ إلى طريق الاستحسان، أو شبيهٍ بها (¬4). وما ذكره من أنه يخالطها وعليها ثوب الذهب، فيكون ثوبُها لهما لَفَاعًا واحدًا، وأنه لا خلاف فيه، فإن (¬5) أراد أن يَمَسَّ (¬6) ثيابها عند ¬

_ (¬1) "ت": "جالسة". (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (1339)، وابن عبد البر في "التمهيد" (13/ 216)، من طريق ابن فضيل، به. (¬3) "ت": "مع". (¬4) في الأصل: "فيها"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "فإن كان". (¬6) "ت": "يماسّ".

الثانية بعد الأربع مئة

المخالطة وهي عليها، فمسُّ الذهب والحرير ليس بحرام. وإن أراد أن يخالِطَها بحيث يكون ثوبُ الحريرِ والذهب مشتملًا عليه اشتمالًا يحرم على الرجل (¬1) استعماله لو كان منفردًا عن المرأة، فهذه هي المسألة بعينها، فلا يستشهد بها [عليها] (¬2)، وحينئذ يمنع وقوعُ الاتفاق على جواز هذا. وأما ما ذكره في آخر الحديث: فدخل مع امرأته في ثيابها، وَأنه فقهُ الحديث، فهي واقعةُ حال لا عمومَ لها، ولا لفظَ عمومٍ، ولا دليلَ بوجه من الوجوه على كونِ تلك الثياب محرمةً على الرجال، وإذا لم تكن واقعةُ الحال دالة على خصوص المدَّعى، ولا اللفظُ متناولًا لها (¬3) بعمومه، فلا دَلالة على المُدَّعى، والله أعلم. الثانية بعد الأربع مئة: قد تقدمت الإشارةُ إلى تَكرار لفظ القَسِّي والحرير والإستبرق والديباج، وأنه قد يُورَدُ أنَّ لفظَ الحرير يتناول الجميع، فما السبب في التكرار؟ فأمّا إذا جعلنا القَسِّي ليس خالصًّا، فلا تكرار من جهته. وإن جعلناه خالصَّا، ففي الجواب وجهان: أحدهما: ما تقدَّم من الفرق بين الجمع في الخَبَر، و [في] (¬4) ¬

_ (¬1) في الأصل: "الرجال"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "يتناولها". (¬4) سقط من "ت".

المُخْبَرِ عنه، وأنه لا يلزم من الجمع في الخبر الجمعُ في المخبَر عنه، فيجوز أن يكونَ النهيُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَعَ عن هذه الأشياء متفرقًا، وجَمَعَ الراوي بينها في خبوه، إلا أن هذا لا يتمُّ في جميع ما ذكر هاهنا، فإنه قد صحَّ: "لا تَلْبسوا الحريرَ والديباجَ" (¬1) من لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والوجه الثاني: أنَّ اختلافَ الصور والهيئات قد يُوْهِم اختلافًا في الحكم، إذ يمكن أن يكون بعض تلك الأوصاف مُعتبرًا، ألا ترى أن الإستبرق ما غلُظ، فقد يُوهِم أن غِلَظَه يُخرجِه من الاعتبار في معنى التحريم؛ لأنَّ وصفَ اللِّين (¬2) أقربُ إلى الرفاهية، ألا ترى إلى قولهم: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، هذه البطائن فكيف الظهائر؟ (¬3)، أو كما قيل. وإذا كان اختلافُ الهيئات مما يُورث وهمًا، فذكرُ الأنواع المتعددة مفيدٌ في نفي اعتبار كلّ وصفٍ مخصوص من الأوصاف المذكورة، ويبين تعلَّقَ (¬4) الحكم العام بالعام. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، وسيأتي الكلام عليه مفصَّلًا في الحديث الثاني من هذا الباب. (¬2) "ت": "الرِّقة". (¬3) رواه ابن مردويه في "أماليه" (ص: 203)، من قول ابن مسعود - رضي الله عنه -. وانظر: "تفسير ابن كثير" (4/ 278). (¬4) "ت": "تعليق".

ولما قال الشيخُ أبو إسحاق الشيرازيُّ: ويَحرُم على الرجال استعمالُ الديباج والحرير في اللبس وغيره (¬1)، قال بعضُ المتكلِّمين على كلامه: أراد بالحرير هاهنا ما لا نقشَ فيه، والديباجُ ما فيه نقش. وهذا إن كان إشارة إلى ما ذكرناه، فقد بسطنا القولَ فيه وفي تعليلِهِ، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 108).

الحديث الثاني

الحديث الثاني مِنْ هذا البَاب عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي لَيْلَى: أنهم كانوا عند حُذَيفةَ فاستسقى، فسقاهُ مَجُوسِيٌّ، فلما وضعَ القَدَحَ في يده رمى به (¬1)، وقال: لولا أنِّي نهيتُهُ غيرَ مرةٍ ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعلْ هذا، ولكنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تَلْبسوا الحَرِيرَ، ولا الدِّيباجَ، ولا تَشْربُوا في آنيةِ الذَّهبِ والفِضَّةِ، ولا تأكلُوا في صِحَافِها، فإنَّها لَهُمْ في الدُّنيا، ولكُمْ في الآخِرَةِ"، متَّفق عليه، واللفظُ للبخاري (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) وقع في "الفتح" (10/ 95): "رماه به"، وهكذا هو في المطبوع من "صحيح البخاري" (5110)، وكذا ذكر الإمام ابن عبد الهادي في هامش نسخته لكتاب "الإلمام" (ق 3 / ب) فقال: "وفي رواية: رماه به، وهو أصوب". (¬2) "ت": "ولفظ المتن للبخاري"، وكذا في المطبوع من "الإلمام" (1/ 55)، وكذا وجدته بخط الإمام ابن عبد الهادي في نسخة "الإلمام" (ق 3 / ب). (¬3) * تخريج الحديث: رواه البخاري (5110)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل في إناء مفضض، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومسلم (5/ 2067)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، من طريق سيف بن أبي سليمان، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به. ورواه البخاري (5309)، كتاب: الأشربة، باب: الشرب في آنية الذهب، و (5493)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير، ومسلم (2067)، (3/ 1637)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وأبو داود (3723)، كتاب: الأشربة، باب: في الشرب في آنية الذهب والفضة، والترمذي (1878)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية الشرب في آنية الذهب والفضة، وابن ماجه (3590)، كتاب: اللباس، باب: كراهية لبس الحرير، من طريق الحكم، عن ابن أبي ليلى، به. ورواه البخاري (5310)، كتاب: الأشربة، باب: آنية الفضة، ومسلم (2067)، (3/ 1638)، كتاب: اللباس الزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، من طريق ابن عون، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، به. ورواه البخاري (5499)، كتاب: اللباس، باب: افتراش الحرير، ومسلم (2067)، (3/ 1637)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، والنسائي (5301)، كتاب: الزينة، باب: ذكر النهي عن لبس الديباج، من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، به. ورواه ابن ماجه (3414)، كتاب: الأشربة، باب: الشرب في آنية الفضة، من طريق أبي بشر، عن مجاهد، عن أبي ليلى، به.

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف بمن ذكر: أما حذيفة - رضي الله عنه -: فهو أبو عبد الله حذيفة بن اليمان، واسمه حُسَيل - بضم الحاء المهملة، وفتح السين المهملة أيضًا - ويقال: حِسْل - بغير تصغير - (¬1) ابن جابر بن عمرو بن ربيعة بنِ جُروة بن الحارث ابن مازن بن قُطَيعة بن عَبْسٍ العَبْسيِّ القُطعي، واليَمانُ (¬2) لقبٌ. قال أبو عمر: وشهدَ حذيفةُ، وأبوه حُسيل، وأخوه صفوان أُحُدًا، وقَتَلَ أباه يومئذٍ بعضُ المسلمين، وهو يحسَبُه من المشركين. قال أبو عمر: وكان حذيفةُ من كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الَّذي بَعَثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الخندق ينظر إلى قريش فأتاه بخبرٍ مِنْ عندِهم، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسأله، وهو معروفٌ في الصحابة بصاحبِ سرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمر - رضي الله عنه - يَنظر عند [موت] (¬3) مَنْ مات منهم، فإن لم يشهدْ جنازتَه حذيفة لم يشهدْها (¬4)، وكان حذيفة - رضي الله عنه - يقول: خيَّرني رسولُ - صلى الله عليه وسلم - بين الهجرة والنُّصرة، ¬

_ (¬1) ووقع في "المستدرك" للحاكم (3/ 427): حذيفة بن اليمان بن حِسْل، فجعل حسلًا جدَّه، لا اسمَ أبيه. (¬2) "ت": "واليماني". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": زيادة "عمر".

فاخترتُ النصرة (¬1). وهو حليف الأنصار لبني عبد الأَشْهل، وشهد حذيفة نهاوَنْد، فلما قُتل النعمان بن مُقَرِّن، أخذ الرايةَ، وكان فتحُ همذان والرِّي والدِّيْنَوَر على يد حذيفة - رضي الله عنه -، وكانت فتوحُه سنةَ اثنين وعشرين. ومات حذيفة - رضي الله عنه - سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان - رضي الله عنه - في أول خلافة علي - رضي الله عنه -، وقيل: توفي سنة خمس وثلاثين، والأول أصحُّ، وكان موتُه بعد أن أتى نَعْيُ عثمان إلى الكوفة، ولم يُدْرِك الجمل (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (3011)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 326): رجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد وهو حسن الحديث. (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 15)، (7/ 317)، "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 95)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 354)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 354)، "تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 161)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (12/ 259)، "المنتظم". لابن الجوزي (5/ 104)، "أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 706)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 158)، "تهذيب الكمال" للمزي (5/ 495)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 361)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (2/ 44)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (2/ 193).

وأما عبد الرحمن بن أبي ليلى: فالمشهورُ [أنه] (¬1) ابن يسار، وقيل: داودُ بن بلال، كنية عبد الرحمن أبو عيسى، وهو أنصاري، إمّا بالنسب (¬2) أو بالولاء، قال البخاريُّ: وكان بعضُهم يقول: هو من أنفسهم، وكان عثمانُ بن أبي شيبةَ يقول: هو مولى، وممن نسبه في الأنصار ابنُ سعدٍ كاتبُ الواقديِّ فقال: ابن أبي ليلى بن أصحبة قال: هو أحد بني جَحْجَبا، وكذلك (¬3) رأيته منسوبًا في مسند يعقوب بن شيبة إلى بني جَحْجَبا في نسبٍ (¬4) ذكره. وابن أبي ليلى أحدُ كبار التابعين، وأبوه له صحبة، ذكر يعقوب ابن شيبة عنه أنه قال: أدركتُ عشرين ومئةً (¬5) من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: إنه وُلِدَ لستِّ سنين من خلافة عمر - رضي الله عنه -. قال يعقوب: وروى عبد الرحمن عن عمر، وعلي، وعبدِ الله، وأبيِّ بن كعب، وسهلِ بن حنيف، وخوَّات بن جُبير، والبراءِ ابن عازب، وأبي ذرٍّ، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبي سعيد الخدري، وقيس بن سعد، وزيد بن أرقم - رضي الله عنه -، وكلُّ هؤلاء من الصحابة. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "بالنسبة". (¬3) "ت": "ولكن". (¬4) "ت": "ينسب" بدل "في نسب". (¬5) "ت": زيادة: "من الأنصار".

الوجه الثاني: في تصحيحه

قال [يعقوب] (¬1): وكان يحيى بنُ مَعين فيما حدثني عنه عباس (¬2) يُنكر سماعَه منه، ويصحح له السماعَ من علي، فعلى مذهب يحيى أنه لم يسمعْ أيضًا من معاذ بن جبل. قلت: ذكروا وفاةَ عبدِ الرحمن بن أبي ليلى سنةَ ثلاث وثمانين، يقال: مات غريقًا بنهر (¬3) البصرة الَّذي يقال له دُجَيْل (¬4). * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: وقد اتفق الشيخان على إخراجه في "الصحيحين" من حديث مُجاهد، والحَكَم، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وهذا الَّذي ذكرناه رواية (¬5) سيف (¬6) بن أبي سليمان، عن مجاهد، عن البخاري. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "أحمد بن العباس". (¬3) "ت": "في نهر". (¬4) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 109)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 350)، "تاريخ بغداد" للخطيب (10/ 199)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (36/ 79)، "تهذيب الكمال" للمزي (17/ 372)، "سير أعلام النبلاء" (3/ 262)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 58)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 234). (¬5) "ت": "رواه". (¬6) في النسخ الثلاث: "سعيد"، والصواب ما أثبت.

الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

* الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: استسقى: استفعل من السَّقي، وهو بمعنى طَلَبَ منه السَّقْيَ، وذلك أحد ما تدل عليه هذه الصيغة، ويجيء لمعان أُخَرَ، لا مدخل لها هاهنا (¬1). الثانية: المجوسيُّ: يحتمل أن يكون نسبة إلى أب، كما تنسب القبائل إلى أبيها، فيقال: تميمي وهاشمي مثلًا، ويحتمل أن يكون نسبة إلى مذهب أو (¬2) دين، وقد أنشد سيبويه (¬3) [من الوافر]: كَنَارِ مَجُوسَ تستعرُ اسْتِعَارا (¬4) الثالثة: هذا المجوسيُّ قد ورد ذكرُه بأعمَّ من هذا الوصف وبأخصَّ منه، ففي رواية: [شهدتُ] (¬5) حذيفةَ استسقى بالمدائن، فأتاه ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 489)، (مادة: سقى). (¬2) "ت": "و". (¬3) في "الكتاب" له (3/ 254)، باب: ما لم يقع إلا اسمًا للقبيلة. (¬4) هذا عجز بيت للتوأم اليشكري، وصدره - وهو لامرئ القيس -: أحار أريك برقًا هبَّ وهنًا كذا قال ابن بري. قال أبو عمرو بن العلاء: كان امرؤ القيس ينازع كل من قال: إنه شاعر، فنازع التوأم اليشكري، فقال له: إن كنت شاعرًا فملّط أنصاف ما أقول وأجِزْها، فقال: نعم، فذكر هذا في جملة أبيات أُخر. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (6/ 213 - 214). (¬5) سقط من "ت".

فأتاه إنسانٌ بإناء من فضة (¬1)، وفي رواية عبد الله بن عُكَيم: فجاءه دُهْقان بشراب في إناء من فضة (¬2). والذُهقان - بكسر الدال وضمها -: الزعيم في القرية من الفرس. قال القاضي: ويَحتمل أن يكون سُمِّي بِهِ من جَمعِ الماء (¬3) وصَبَّه (¬4) ومِلءِ الأوعية به، يقال: أدْهَقْتُ الماء إدهاقًا، ودَهَقْتُهُ، وأَدْهَقُه: إذا أفرغتُه إفراغًا، ودَهَقَ لي دَهْقَةً من المال: إذا أعطانيه، وأَدْهَقْتُ الإناءَ: ملأْتُهُ. قال الشاعر [من المنسرح]: دِهْقَانةٌ تَسْجُدُ الملوكُ لها ... يُجبَى إليها الخَرَاجُ في الحَربِ (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2067)، (3/ 1637). (¬2) رواه مسلم (4/ 2067)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (¬3) في النسخ الثلاث: "المال" بدل "الماء"، وكذا في المطبوع من "إكمال المعلم"، ولعل الصواب ما أثبت. (¬4) "ت": "وضمه". (¬5) "ت": "الخرب". (¬6) لم أقف على قائله. وقد ذكره ابن نقطة في "تكملة الإكمال" (1/ 335) في ترجمة بوران بنت كسرى، ولها يقول الشاعر ذلك.

الرابعة

أو يكون من اللين، والدّهْقَنَة: لِيْنُ الطعام، والدَّهاقين؛ لأنهم يُلَيِّنون طعامَهم وعيشهم لِسَعَةِ مالِهم (¬1)، أو يكونُ دَهْقَنَةَ الطعام ولينَهُ مستفادٌ (¬2) من اسمهم، إذ هي عادتهم، والله أعلم، وقيل معناه: الحِذْقُ والدَّهاء والنُّهَى (¬3) (¬4). الرابعة: في هذه الرواية: [فرمى به] (¬5)، وفي رواية عبد الله بن عُكَيْم: فرماه، وفي رواية عن ابن أبي ليلى: فرماه به. فأما رواية: رمى به، فالضميرُ للقدح، والفعلُ يتعدى (¬6) بالباء، يقال: رميتَ الشيء، ورميت به: إذا طرحتَه من يدك، هذا هو الظاهر. وأما رواية: رَمَاه به، ففيها زيادةُ ضمير المفعول في رماه، وهو المجوسيّ. وأما رواية: رماه، فيحتمل أن يكون الضمير للمجوسيّ، ويحتمل أن يكون للإناء، وينبغي أن يكون المعنى على رواية: رماه به؛ لدلالتها على ما دلَّ عليه الروايتان الأخريان وزيادة. ¬

_ (¬1) "ت": "حالهم". (¬2) "ت": "مشتقًا". (¬3) "ت": "الحذق والذكاء والدهاء". (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 568 - 569). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "معدى".

الخامسة

الخامسة: في قاعدة حروف الجرّ: يسميها الكُوفيون صفاتٍ؛ لنيابتها عن الصفات، ويترجم على هذا: باب (¬1) دخول بعض الصفات على بعض؛ أي: كون معنى هذا الحرف بمعنى هذا. قال أبو محمد بن السِّيْد الأندلسيُّ - رحمه الله تعالى -: هذا الباب أجازَه قومٌ من النحويين أكثرُهم كوفيون، ومنع منه آخرون أكثرُهم بصريون، وفي القولين جميعًا نظر؛ لأن من أجازه دون شرط وتقييد لزمه أن يُجيز: سرت إلى زيد، وهو يريد: مع زيد، قياسًا على قولهم: إن فلانًا لظريف عاقل إلى حسب ثاقب، أي مع حسب ثاقب، قال: ويلزمه أن يجيز: في زيد ثوب؛ أي: عليه، قياسًا على قول عنترة (¬2) [من الكامل]: بَطَلٌ كأنَّ ثيابَهُ في سَرْحَةٍ (¬3) وهذه المسائل لا يُجيزها مَنْ أجازَ إبدال الحروف. ومن مَنع ذلك على الإطلاق لزمه أن يتعسَّف في التأويل [التعسُّفَ] (¬4) الكثيرَ، [وأورد] (¬5) في هذا الباب أشياء كثيرةً يبعد تأويلُها ¬

_ (¬1) "ت": "الباب". (¬2) في الأصل: "غيره"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "ديوان عنترة" (ص: 65) من معلقته المشهورة، وعجزه: يُحذي نِعالَ السِّبْتِ ليس بتوْأَمِ (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "مما".

على غير وجه البدل (¬1)، كقوله [من الطويل]: إذا [ما] امرؤٌ ولَّى عليَّ بِوُدِّه (¬2) وقوله [من الوافر]: إذا رضيتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ (¬3) ولا يمكن المنكر لهذا أن يقول: هذا من ضرورة الشعر؛ لأنَّ هذا النوع قد كثُر وشاع، ولم يخصَّ الشعر دون الكلام، فإذا لم يصح إثكار المُنْكِر له، وكان المجيزون لا يجيزونه في كل موضع، ثبت بهذا أنه موقوف على السماع، غيرُ جائزٍ القياس عليه، ووجب أن يُطلب له وجهٌ من التأويل يزيل (¬4) الشناعة عنه، ويُعرفَ كيف المأخذ فيما يُورَد ¬

_ (¬1) في "خزانة الأدب" للبغدادي حيث نقل عن ابن السيد هذا الكلام: "ومن منع ذلك على الإطلاق لزمه أن يتعسف في التأويل لكثير مما ورد في هذا الباب؛ لأن في هذا الباب أشياء كثيرة، يتعذر تأويلها على غير وجه البدل". (¬2) صدر بيت لدوسر بن غسان اليربوعي، كما ذكر ابن السيد في "الاقتضاب" (ص: 433)، وعجزه: وأدْبَرَ لم يصدُر بإدباره وُدِّي (¬3) صدر بيت للقُحيف العُقيلي، كما نسبه ابن قتيبة في "أدب الكاتب" (ص: 507)، والبغدادي في "خزانة الأدب" (4/ 247). وعجزه: لعمرُ اللهِ أعجبني رِضَاها (¬4) في النسخ الثلاث: "يجيز"، والتصويب من "خزانة الأدب" للبغدادي.

منه، ولم يأتِ فيه (¬1) للبصريين تأويلٌ أحسن من قولٍ ذكره ابن جني في كتاب "الخصائص" (¬2)، وأنا أورده في هذا الموضع، وأَعضُده بما يشاكله من الاحتجاج المقنع، إن شاء الله. قلت: ثم ذكر أشياءَ كثيرةً، حاصلُها يرجع إلى المعنى الَّذي يُسمَّى التضمينَ، وهو تضمينُ لفظٍ (¬3) معنىً آخر؛ ليفيد المعنيين، ومما اشتُهر فيه قوله [من الرجز]: قَدْ قَتَل اللهُ زيادًا عنِّي (¬4) قيلَ: ضمّن (قتلَ) معنى صرفَ؛ ليفيد الصَّرْف بالقتلِ، وأنه وَقَعَ به لا بغيره. وذكر ابن السِّيْد فيه وجهًا آخر فقال: وقد يجوز أن يكون بمنزلة قولهم: حَجَجْتُ البيتَ عن زيدٍ، أي نِبْتُ في ذلك منابَه، وفعلتُ في ¬

_ (¬1) "ت": "ولم نر فيه". (¬2) انظر: "الخصائص" لابن جني (2/ 306). (¬3) "ت": "كلمة". (¬4) للفرزدق كما نسبه إليه ابن سيده في "المحكم" (6/ 332)، والعسكري في "جمهرة الأمثال" (1/ 211)، وابن جني في "الخصائص" (2/ 310)، وابن منظور في "لسان العرب" (11/ 552)، وغيرهم. وذلك أن زيادًا قد نفى الفرزدق وآذاه، ونذر قتله، فلما بلغ موتُه الفرزدقَ شمِت به، فقال: كيف تراني قالبًا مِجَنِّي ... أقلِبُ أمري ظهرَهُ للبطْنِ قد قتلَ اللهُ زيادًا عنِّي

ذلك مرادَه، فيكون معنى: قَد قتل الله زيادًا عني؛ أي: فعل به ما كُنْتُ أفعلُ أنا به لو قَدِرْتُ عليه. وهذا يتعلق بهذا المثال الخاص، والأمثلة كثيرة في التضمين: ومنه: [قائدها السِّيادة] (¬1). إذا [ما] امرؤٌ ولَّى عليَّ بودّه قيل: إنَّما عُدِّي فيه "ولى" بـ "على"، وكان القياس أن يعدِّيهَا (¬2) بـ "عن"؛ لأنَّه إذا ولى عنه بودِّه، فقد ضنَّ عليه به وبخل، فأجرى التولِّيَ بالودِّ مجرى الضَّنانة، والبخلَ بودِّه مجرى السُّخط؛ لأنّه تولية عنه [بودِّه] (¬3)، [والتولي] (¬4) لا يكون إلا عَنْ سُخْطٍ عليه، ومنه ما تقدَّم [من الوافر]: إذا رضيتْ عليَّ بنو قُشيرٍ قيل: إنما عُدِّي فيه "رضي" بـ "على"؛ لأنَّ الرضى بمعنى الإقبال (¬5). قلتُ: المانِعون لهذا الباب (¬6) إمَّا أن يمنعوا الاستعمالَ على ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "يعدي فيه". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) وانظر: "أدب الكاتب" لابن قتيبة (ص: 506) وما بعدها. (¬6) "ت": "قلت: قوله: المانعون لهذا الباب نحن نقول فيه".

سبيل الحقيقة والمجاز معًا، أو على سبيل الحقيقة فقط، ويجيزونه على سبيل المجاز. والقائلون بالجواز إمَّا أن يدَّعوا في الاستعمال الحقيقة، أو يقولوا بالمجاز فيه. فإن ادَّعى المانعون العمومَ بالنسبة إلى الحقيقة والمجاز، لم يصحَّ لهم ذلك، لأنهم إذا ردُّوا على المجيزين، جعلوا مدلولَ اللفظ حقيقة معنى من المعاني، ثم ردُّوا الاستعمالاتِ التي يذكرها المجوِّزون بالتأويل إلى ذلك المعنى، وهذا التصرف هو تقريرُ المجاز وبيانُ وجهه؛ لأنَّ اللفظ المستعمَلَ في ذلك المعنى ليس موضوعًا له، واستعمالُ اللفظ في غير ما وُضِعَ له مجازٌ، مثاله: إذا ضمَّنَّا (قتل) معنى (صرف)، فقد استعملنا لفظة (قتل) في غير ما وضعت له، وكذلك إذا ضمنّا (رضيَ) معنى (أقبل)، فلم توضع لفظة (رضي) لمعنى (أقبل)، فهي مجاز فيه، وكذلك تضمينَ (ولَّى) معنى (ضَنَّ) و (بَخِل). وكذلك إذا قلنا في قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]: إنه يعود إلى معنى الظرفية؛ لاستقرارِ المصلوب على الجذع استقرارَ الشيء في ظرفه فهو مجاز وبيان لوجه (¬1) علاقته. فإذا كان الأمر على هذا، وسلَّم الكوفيون أنَّ الاستعمالَ في ¬

_ (¬1) في الأصل: "وجه"، والمثبت من "ت".

السادسة

المعاني التي يوردونها مجاز، وكان تصرُّف البصريين آيلًا إلى المجاز، فهذا ينبغي أن يكونَ الخلافُ [فيه] (¬1) في ترجيح أحدِ المجازين على الآخر، لا في المنع من الاستعمال، [والحمل] (¬2) أو الجواز فيهما. وإن كان الكوفيون يروْنَ الاستعمالَ في هذه المعاني التي يوردونها حقيقةً، والبصريون يقولون هي مجاز، فقد تقررَ في علم الأصول أنَّ المجاز خيرٌ من الاشتراك، والاشتراكُ لازم على هذا القول؛ لأن الفريقين يتفقون على استعمال اللفظ في معنى حقيقته، والكوفيون على هذا التقدير يرون استعمالَه في معانٍ حقيقةً، فيلزم الاشتراك على هذا التقدير جزمًا، ولست أذكر التصريح من مذهب المجوِّزين بأنه حقيقة، وإنما المشهور قولُهم: ويكون كذا بمعنى كذا، وليس في هذا دليل على أنه حقيقة فيه. السادسة: المجاز يحتاج (¬3) إلى العلاقة والقرينة، والعلاقةُ (¬4) هي المجوِّزة للاستعمال، والقرينة هي الموجبة للحمل، فإن كان الواقع ما قدَّمناه من رجوع الخلاف إلى ترجيح أحد المجازَين على ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "محتاج". (¬4) "ت": "فالعلاقة".

الآخر، فهذا المقام قد يقع الترجيح فيه (¬1) بسبب العلاقة، وقد يقع بسبب القرينة. أما بسبب العلاقة: فأن (¬2) يكون أظهرَ للذهن، وأحصر عند الفهم (¬3)، كما في مجاز الملازمة مثلًا، فإنَّ رُتَبَ التلازمِ متفاوتةٌ، ويكون بعضُها أقربَ (¬4) من بعض. وأما بسبب القرينة: فالقرائن لا تُحصى رُتبها، فقد تختلف بالكثرة والقلة، وبالظهور والخفاء، وغير ذلك، على هذا التقدير يُحتاج إلى النظر الجزئي بالنسبة إلى مواقع الاستعمال في (¬5) علاقته وقرينتِهِ، والذي يدل على ما قلناه من رجوع المعنى إلى ترجيح مجاز على مجاز: أنه إذا قلنا: إنَّ (في) للظرفية، نحوَ: المال في الكيس، وزيد في الدار، فإذا (¬6) قال بعضهم: إنها تكون بمعنى (على)، واستدل عليه بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وبقول الشاعر (¬7) [من الكامل]: ¬

_ (¬1) "ت": "فيه الترجيح". (¬2) "ت": "فقد". (¬3) "ت": "وأخصر للفهم". (¬4) "ت" زيادة: "وأظهر". (¬5) "ت": "وإلي". (¬6) في الأصل: "وإذا"، والمثبت من "ت". (¬7) هو الفرزدق كما تقدم.

بطلٌ كأنَّ ثيابَهُ في سَرْحَةٍ فقال خصمُه: لا حجةَ في ذلك؛ لأن الجذوعَ صارت لهم بمنزلة المكان؛ لاستقرارهم فيها، وكذلك السَّرْحةُ بمنزلة المكان؛ لاستقرار الثياب فيها. فيقال له: هاهنا هيئةٌ للمصلوب بالنسبة إلى الجذع، هي المدلول عليها بالكلام المذكور، فهذه الهيئة المعينة، هل حقيقة الظرفية والوعاء موجودة فيها، كما في قولنا: المال في الكيس، وزيد في الدار، أم لا؟ فإن لم تكن موجودة فقد استعملت في التي موضوعها الظرفية والوعاء فيما ليمس كذلك، فهي مجاز، وإن ادَّعيت أنها موجودة فهي خلاف ما ذكر من الظرفية في قولك: [المال في الكيس، وكفى دليلًا على أنها مجاز قولك: إن الجذوع] (¬1) صارت لهم بمنزلة المكان لاستقرارهم فيها، فإن الشيء لا يكون بمنزلة نفسه، فهي إذن غيرُه. ثم يقول: إن (على) للاستعلاء، فهذه الهيئة المعيَّنة هل وجدت هذه الحقيقة فيها، أو لا؟ فمان وجدت فاللفظ الموضوع لهذه الهيئة هو (على) وهي (¬2) معناها، ولم يستعمل فيها، واستعمل فيها (في)، فقد استعملت ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "وهو".

[في] (¬1) حيث يكون المعنى معنى (على)، ولا نعني بقولنا: إنها بمعنى (على) إلا أنها استعملت حيث يكون المعنى لـ (على)، فعلى كل حالٍ فالمجاز لازمٌ، والاختلاف في طريقه وتعيينه، وكذلك نقول في سائر ما يُدَّعى أنه لا حجةَ فيه، ونعتذر عنه بالتضمين أو بالحذف، فالتضمين والحذف مجازان، كما اعتذر عن استدلال من قال إن (على) تكون بمعنى الباء بقول (¬2) الشاعر (¬3) [من الكامل]: فكأَنَهُنَّ رِبَابةٌ وكأَنَّهُ ... يَسَرٌ يُفِيضُ على القِدَاحِ وَيصْدَعُ ويصدع مفسَّر بأنه يتكلم بالحق والعدل، فيبلغ ذلك أسماعَهم فيشقها [به] (¬4)، من قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] أي: فشُقَّ بها أسماعَهم. فقيل في الجواب: إنه لا حجة فيه؛ لأنه قد تضمن (يفيض) معنى يَحمل (¬5)، كأنه قال: يحمل (¬6) على القداح، والتضمين مجاز؛ لأنه استعمال اللفظ في غير ما هو موضوع (¬7) له، وكذلك أجيب عن ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "لقول"، والمثبت من "ت". (¬3) هو أبو ذؤيب الهذلي، كما في "ديوانه" (ص: 152). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل و"ب": "يحيل"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل و"ب": "يحيل"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "في غير ما وضع".

الاستدلال بقوله: اركب على اسم الله؛ أي: بسم الله، فقيل: لا حجة في ذلك؛ لأن (على) تحتمل أن تكون متعلقة بمحذوف، ويكون المجرور في موضع الحال، فكأنه قال: اركب متكلًا على اسم الله، فهذا من مجاز الحذف، ويقال أيضًا: إنَّ (على) حقيقة في الاستعلاء (¬1) كما ذكرتم، فهذه الحقيقة موجودة (¬2) في محل الاستعمال على بابها، أو لا؟ الأول (¬3): باطل قطعًا، والثاني: يوجب أن يكون استعملت في غير موضوعها، فهي مجاز. وأما ما ذكره أبو محمد بن السِّيْد - رحمه الله تعالى - من أن مُجوِّز (¬4) ذلك من غير شرط وتقييد يلزمه أن يجيز (¬5): سرت إلى زيد، وهو يريد: مع زيد، قياسًا على قولهم: إن فلانًا ظريف عاقل إلى حسب ثاقب؛ أي: مع حسبٍ ثاقب. فنقول فيه: إن حملْتَ كلامَهم على عدم اشتراط شيء أصلًا، وأنهم يحملون اللفظ المشترك على أحد معنييه حملًا بلا قرينة، تعيَّنَ ¬

_ (¬1) "ت": "إن (على) للاستعلاء". (¬2) في الأصل: "هل موجودة". (¬3) "ت": "والأول". (¬4) في الأصل: "يجوز"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "يجوز".

المراد، و (¬1) يحملون اللفظ على المعنى المجازي من غير شرطي المجاز، وهما (¬2) العلاقة والقرينة، فما ذكرت لازم على هذا التقدير، ولكنه لا نسلم أن دعواهم كذلك؛ لأنّ المواضع التي يستشهدون بها، والاستعمالات التي يوردونها، لم تعرَ من العلاقة والقرينة إذا (¬3) ادُّعِيِ المجاز، أو من القرينة في الحمل إذا (¬4) ادُّعِي الاشتراك، وأما امتناع سرت إلى زيد، بمعنى: مع زيد، فإما أن يُفرض انتفاءُ قرينة تدل على معنى (مع)، أو لا يفرض، فان فُرِضَ انتفاءُ القرينة (¬5)، فهو ممتنعٌ لانتفاء شرط الحمل على المجاز إذا جعلنا الاستعمالَ مجازيًا، وليس امتناعُ الحمل على المجاز مع عدم شرط المجاز مما يوجب امتناعَ الحمل حيث يوجد شرط المجاز في الاستعمالات التي يدَّعونها، وإن منعت استعمالها في هذا الموضع (¬6) مع وجود القرينةُ الدالة على أنها بمعنى (مع) فلا نسلِّم امتناعَه، ولو قامت القرينةُ على أنه أراد بقوله: سرت إلى زيد، [مع زيد] (¬7) بكلام تقدم، أو بحالة ¬

_ (¬1) "ت": "أو". (¬2) في الأصل: "وهي"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "إن". (¬4) "ت": "إن". (¬5) "ت": "قرينة". (¬6) "ت": "وإن حملت كلامهم على الاستعمال". (¬7) زيادة من "ت".

السابعة

مُشاهَدَةٍ (¬1) تدلُّ على المراد، لجاز ذلك، والله أعلم. السابعة: قول ابن السّيْد - رحمه الله تعالى -: وإذا لم يصح إنكار المنكر له، وكان المجيزون لا يجيزونه في كل موضع، ثبت بهذا أنه موقوف على السماع غيرُ جائز القياس عليه. فهذا كلام يحتاج النظر فيه إلى قاعدة أصولية، وهي أنَّ المجاز هل يتوقف على السمع، ويشترط فيه الوضعُ، أم لا؟ وتحقيق القول في ذلك، فنذكر هذه القاعدة. الثامنة: فرض الأصوليون مسألةً في [أن] (¬2) المجاز هل يتوقف على السمع؟ وذكروا الدليل من الجانبين. قال بعضهم: القائلون بأن المجاز يفتقر إلى الوضع خصَّصوا ذلك بالأنواع دون جزئيات المجاز الشخصية (¬3)، فيقولون: لابد أن تضعَ العربُ نوعَ التجويز (¬4) بالكل إلى الجزء، وبالسبب إلى المسبب، وغيرهما من الأنواع. وأما وضعها للتعبير بهذا الكلِّ المعين عن هذا الجزء المعين، أو التجوز بهذا السبب المعين إلى هذا السبب المعين، فلا يشترطه أحد اتفاقًا (¬5). ¬

_ (¬1) "ت": "شاهدة". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "الجزئيات الشخصية". (¬4) "ت": "التجوز". (¬5) انظر: "الإحكام" للآمدي (1/ 54)، و"مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصفهاني" (1/ 187)، و"التمهيد" للأسنوي (ص: 196)، و"المحصول" =

التاسعة

ولم يزل الأدباءُ في الأعصار والأمصار يكتفون بمجرد العلاقة من غير فحص عن الوضع (¬1). فأقول: إن أراد (¬2) ابن السِّيْد قَصْرَه على السماع في الجزئيات، فالذي حكيناه آنفًا يمنع من ذلك، وإن أراد قصرَه على السَّماع في الأنواع، ففيه ما ذكرنا من الخلاف، ويرجع إذًا الخلاف هاهنا (¬3) إلى أنه هل يثبت السماع في هذا النوع، أم لا؟ التاسعة: في وجه تعلُّقِ الحديث بما ذكرنا من القاعدة وما بعدها بعضُ من (¬4) يرى استعمالَ حرف بمعنى آخر، قال: إن (في) تكون بمعنى (من) وأنشد فيه، قال الشاعر [من الطويل]: ثلاثون شهرًا في ثلاثة أحوال (¬5) ¬

_ = للرازي (1/ 456)، و"الإبهاج" للسبكي (1/ 305)، و"البحر المحيط" للزركشى (3/ 59). وقد اختار ابن الحاجب وغيره أنه يفتقر إلى الوضع، واختار إمام الحرمين والرازى وغيرهما أنه لا يفتقر إلى الوضع ولا يتوقف على السمع، وتوقف فيه الآمدي. (¬1) هذا كلام ابن الحاجب في "أماليه"، كما نقله الزركشي في "البحر المحيط" (3/ 61). (¬2) "ت": "إما أن يريد". (¬3) "ت": "وسيأتي هاهنا رد الخلاف في المسألة". (¬4) في الأصل: "ما"، والمثبت من "ت". (¬5) عجز بيت لامرئ القيس، كما تقدم (1/ 31) من هذا الكتاب، إلا أنه قال فيه: "ثلاثين شهرًا" وصدره: وهل يَعِمَنْ مَنْ كان أحدثُ عهدِهِ

العاشرة

وقال: المعنى من ثلاثة أحوال. ولفظة (في) هاهنا مستعملة حيث يقول - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تأكلُوا في صِحَافها"، فانظر هاهنا في أنَّ كلمةَ (في) محمولةٌ على الظَّرفية، أو بمعنى (من) على مذهب من يرى ذلك، والحكم الشرعي في التحريم يتعلق بذلك. العاشرة: الَّذي يمنع من حمله (¬1) على الظرفية أنه لو كان قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشربوا في آنيةِ الذَّهب والفضَّة، ولا تأكلوا في صِحافها" محمولًا على الظرفية والوعاء الَّذي مُثِّل بقولهم (¬2): زيد في الدار، والمال في الكيس، لما كان اللفظ متناولًا إلا لتحريم الأكل والشرب، بحيث يكون الإناءُ ظرفًا لهما، وذلك بعيد و (¬3) ممتنع. أما أولًا: فإنه حمل اللفظ على صورةٍ مخالفة للعادة لا تقع إلا نادرًا، وحينئذ يحرم. وأما ثانيًا: فلأنه لا يكونُ تحريمُ (¬4) الصورة المعتادة بطريق اللفظ، وهذا إن صحَّ فيه القياسُ لم نَرَ أحدًا فَعَلَهُ، وليس صحة القياس فيه بالظاهر (¬5)، وأعني يالصورة المعتادة: أن يأخذَ المأكولَ من الإناء ¬

_ (¬1) "ت": "من أن يحمل". (¬2) في الأصل: "قولهم"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "أو". (¬4) "ت": "لا يكون الحكم في". (¬5) "ت": "بالظهارة".

ويرفعه إلى فيه ويأكله. وأما ثالثًا (¬1): فلأن أهلَ العرف يطلقون على من فعل هذا أنه أكل في صِحَاف الذهب والفضة، وإذا كان كذلك (¬2) على معنى (من) فيتناول حيحئذ الصورةَ المعتادةَ، ولا تنافي بين معنى (من) الَّذي هو لابتداء غاية الأكل، وبين معنى الظرفية، فيكون حينئذ اللفظُ متناولًا لهما معًا، إلا أنه يُعَدُّ حملُ اللفظ على مجازه بسبب تعذُّرِ حملِهِ على حقيقته، أو يُعدُّ حملُه على حقيقته (¬3)، فالذين يمنعون من كون (في) بمعنى (من): إن ردُّوه إلى معنى الظرفية بطريق التأويل فهو مجاز، ويتعين ترجيح أحد المجازين [على الآخر] (¬4)، وإن قصروه على معنى الظرف، فعليهم الجواب عما ذكرناه مما يبعُد حملُه على ذلك، وليس يبعد (¬5) أن ينازِعَ منازعُ منهم في معنى الظرفية، وأنها لا تقتضي الاقتصارَ على الصورة التي استبعدناها، وهو أن يكون الإناء ظرفًا للفم عند تعاطي الأكل والشرب، لكنه مقتضى تمثيلهم (¬6) بقولهم: المال في ¬

_ (¬1) في الأصل و"ب": "بالباء"، والتصويب من "ت". (¬2) "ت": "ذلك". (¬3) في الأصل بعد قوله: "حقيقته": "الحادية عشرة: الذين يمنعون ... ". وقد أثبت ما في "ت" هنا؛ لاتساق الكلام مع سابقه وانتظامه. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "ببعيد". (¬6) "ت": "يقتضي تمثيله".

الحادية عشرة

الكيس، وزيد في الدار، وقد قال: سعيد بن الدَّهان النحوي في كتاب "الغُرَّة" (¬1): المفهوم من معنى (في) هو اشتمال مقرِّ الشيء أو محله (¬2) على ما يلاقيه، كقشر البيضة والمُحِّ (¬3)، نقول: زيد في الدار، والمال في الكيس. الحادية عشرة: قوله (¬4): "فإنَّها لهُمْ في الدُّنيا، ولكُم في الآخرة"، وفي رواية عن عبد الله بن عُكَيم: "لا تشربوا في آنية الذَّهبِ والفِضَّةِ، ولا تَلبسوا الدِّيباجَ والحريرَ، فإنَّه لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" (¬5)، فأمّا على هذه الرواية في تذكير الضمير في قوله - صلى الله عليه وسلم - (فإنه) (وهو)، فينبغي أن يعودَ على المذكور أولًا من إناء الذهب والفضة والحرير والديباج على تقدير، فإن ذلك (¬6) كما ذكر عن رؤبة في قوله ¬

_ (¬1) للإمام الأديب النحوي سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري، أبو محمد، المعروف بابن الدهان، المتوفى سنة (569 هـ) كتاب: "الغرَّة في شرح اللمع لابن جني" وهو شرح كبير، لا مثيل له مع كثرة شروح "اللمع". انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1562)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 205). (¬2) في الأصل: "مصلحته"، والتصويب من "ت". (¬3) المُحُّ، وكذا المُحَّة: صفرة البيض. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 589)، (مادة: محح). (¬4) في الأصل: "قولهم"، والتصويب من "ت". (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) "ت": "ذاك".

الوجه الرابع: [في الفوائد]

[من الرجز]: فيها خُطُوطٌ من سَوَادٍ وبَلَقْ ... كأنَّه في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ وإنه قيل له: لمَ لا تقول (¬1) (كأنها) فتحمله على المخطوط، أو (كأنهما) فتحمله على السواد والبَلَق؟! فغضب، وقال: ذلك - ويلك - الَّذي بها توليعُ البهق (¬2). وأما على رواية تأنيث الضمير: "فإنها لهُم في الدُّنيا، وهي لكم في الآخِرَةِ"، فيحتمل أن يعودَ على الآنيةِ والصِّحاف، ويحتمل أن يعودَ على الجميع على معنى: فإن تلك المذكوراتِ، وما يقرُب منه. * * * * الوجه الرابع: [في الفوائد] (¬3)، وفيه مسائل: الأولى: فيه الشرب من آنية المجوس، وسيأتي الشُّرب من آنية الكفار. الثانية: حذيفة - رضي الله عنه - كان على المدائن، فيؤُخذ منه أن مثل هذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "لو لم"، والتصويب من "ت". (¬2) انظر: "مجالس ثعلب" (2/ 375)، و"خزانة الأدب" للبغدادي (1/ 88)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 410)، وعندهم: قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة: إن كانت المخطوط فقل: "كأنها"، وإن كان سواد وبياض فقل: "كأنهما"؟ فقال: كأنَّ ذا - ويلك - توليع البهق: قال ابن منظور: قال ابن بري: ورواية الأصمعي: "كأنها" أي: كأن المخطوط. (¬3) سقط من "ت".

الثالثة

مما يُسامِحُ به الحاكمُ والمتولِّي، ولا يكون داخلًا تحت هدايا العمال. فإن قلتَ: هذا يحتاج إلى أمرين؛ أحدهما: أن يكون الماء للدِّهقان، والثاني: أن يكون في حال ولاية حذيفة. قلت: نعم، وكلا الأمرين هو الظاهر؛ أما الأول، فلوجهين: أحدهما: ثبوت يدِه عليه مع عدم الدليل على خلافه بوجه من الوجوه: والثاني: أنه علَّل الإنكار بكونه آنيةَ فضةٍ أو ذهب، فيكون هو منشأَ الإنكار، ولو كان الماء لغيره لزاحم العلةَ التي ذكرها (¬1)، وظاهر التعليلِ يقتضي الاستقلالَ. وأما الثاني: فلأنه إنما يحتمل خلافَه بتقديراتٍ لا دليل [له] (¬2) عليها أصلًا، وليس فيها إلا مجردُ التجويز. الثالثة: فيه حسن التأديب على مخالفة الأمر، فإنه جعله منشأَ العُذرِ. الرابعة: فيه أنه ينبغي تقديم الإنذار على التَّأديب؛ لاحتمال كون الجهل عذرًا، وبعد الإنذار ينبغي الإعذار. الخامسة: فيه الاعتذار عما (¬3) يبدُرُ من الإنسان مِمَّا قد يُنْكَر عليه ¬

_ (¬1) "ت": "ولو كان مثل هذا ممنوعًا لزاعم العلة التي ذكرها". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "مما".

السادسة والسابعة والثامنة

فعلُه، والله أعلم (¬1). السادسة والسابعة والثامنة: فيه النهي عن لبس الحرير والديباج، والشرب في آنية الفضة، وقد تقدم الكلام على ذلك في الحديث قبلَه. فإن قلت: فما الفائدة في ذكر هذا هاهنا بعد تقدمه؟ قلت: لو كان المقصودُ بيانَ الحكم كما في الكتب الفقهية لكان تكرارًا من غير فائدة، وإنما المقصود بيان ما في الحديث من الفوائد، وما يُستَنتج منه من الأحكام، وثبوت الحكم بحديث لا ينفي ثبوته بآخر، واستفادته من حديث ليس هي استفادته من آخر، وبهذا تحصل الفائدة في إعادة الذكر بحسب إعادة الأحاديث، وتتكرَّرُ الأدلةُ وتتعاضد. التاسعة: في هذا الحديث النهيُّ عن الشرب في آنية الذهب، ¬

_ (¬1) حصل هنا سقط كبير في الأصل "م" بمقدار أربعين ورقة، وفيه تتمة شرح الحديث الثاني هذا، وشرح أربعة أحاديث أخرى من أحاديث باب الآنية، وقد استدركت هذا السقط من النسخة "ت"، ولله الحمد والمنة. وقد جاء على هامش الأصل في هذا الموضع: "بلغ مقابلة فصحَّ، ولله الحمد والمنة، ومنه التوفيق والعصمة، ويليه: باب السواك. . عدد (35) حديثًا، يسَّر الله إتمامها". وعند هذا الموضع تنتهي النسخة البديعية المرموز لها بحرف "ب"، وقد تقدم الكلام عن هذه النسخة وسقمها، والسقوط التي فيها، واختلاط أوراقها في مقدمة الكتاب.

العاشرة

وهو زيادةٌ على ما دل عليه الحديثُ من النهي عن الشرب في آنية الفضة، وذلك بالنسبة إلى رعاية المعاني من باب الأولى، ولكن بالتنصيصِ عليه يندفعُ الشَّغبُ الظاهري، والأوهام البعيدة، والله أعلم. العاشرة: فيه زيادة النهي عن الأكل، فينضاف إلى النهي عن الشرب المذكور في غير هذا الحديث. الحادية عشرة: من المتبين أنَّ مأخذَ الظاهرية من النصوص مقصورٌ على مدلولات الألفاظ، والقياسيُّون معهم في ذلك، لكن لا على سبيل الحصر، بل يعتبرون المعاني، فقد يؤدي ذلك إلى تعميمه بالنسبة إلى مدلول اللفظ وتخصيصه. وهذا الحديث الَّذي نحن في الكلام عليه يرجع إلى ما يستنبط منه إلى هاتين القاعدتين، والألفاظ التي (¬1) ينظر فيها بالنسبة إلى هذا الحديث، هي ما تدلُّ على الفعل المنهي عنه كالشرب والأكل، وما يدلُّ على كيفية ذلك الفعل؛ أي: كيفية الأكل والشرب، وإنما جاء النظر في هذا من جهة كلمة "في"، وأن المراد: هل هو الظرفية الحقيقية، أو هي بمعنى "مِن"، فإنَّ الأحكامَ تختلف بحسب ذلك. الثانية عشرة: قد عُلم أنَّ اعتبارَ حقيقة الظرفية، بمعنى أن يكون الإناءُ ظرفًا للأكل والشرب متعذرٌ أو بعيد؛ لأن تلك الهيئة غيرُ معتادة في حق بني آدم، وهم المخاطبون، وتنزيلُ اللفظ عليها، تنزيلٌ له على ¬

_ (¬1) "ت": "الذي".

الثالثة عشرة

أمر نادر مع كونه وردَ في تأسيسِ قاعدةٍ كليةٍ. وإذا حملت كلمة "في" على معنى "مِن" تناولت الظرفية وغيرَها؛ لأن الظرفية في الأكل والشرب لا تنافي معنى ابتداء الغاية على ما عُرف، فعلى هذا لو وَضَع فَمَه في الإناء يَكْرَعُ فيه شربًا أو أكلًا، لكان مرتكبًا للنهي جزمًا، اعتُبِرت الحقيقة في كلمة "في"، أو لم تُعتبر. الثالثة عشرة: إذا تعذَّرت الحقيقة، وتعدَّدت وجوهُ المجاز، وكان بعضُها أقربَ إلى الحقيقة تعيَّن الحملُ عليه، وهذا ظاهرٌ مشهور إذا كان المجازان بينهما تنافٍ في الحمل. يبقى النظر فيما إذا كان المجازُ المحمول عليه عند تعذُّرِ الحقيقة مجازًا واحدًا يتناول محلَّين لا مانع من الحمل عليهما معًا، وأحدُهما أقربُ إلى الحقيقة من الآخر، فهل يتعين الحملُ على الأقرب من الاحتمالين، أو يُحمل عليهما معًا؛ لتناول ذلك الوجه العام لهما، وعدم التنافي؟ فقد يُحمل على الأقرب إلى الحقيقة، وقد يقال ذلك إذا تعددت وجوهُ المجاز عند تعذُّر الحقيقة، وكان في الحمل بينهما تنافٍ. أما إذا اتَّحد المجازُ المحمولُ عليه، ولم يتنافَ الحملُ على وجهته، فليُحملْ عليهما؛ لأن في الحمل على الأقرب محذورَ التخصيص مع إمكان التعميم، بخلاف ما إذا تعددت وجوهُ المجاز، ووقع التنافي في الحمل، فإنه ليس فيه هذا المحذور.

الرابعة عشرة

ومثال ما إذا تعذر الحمل على الحقيقة، وتعددت وجوهُ المجاز مع التنافي: ما إذا دخل النفي على الحقيقة اللغوية، وتعذر الحملُ عليها، كما في: (لا عملَ إلا بنيَّةٍ) مثلًا، فإن الحقيقة متعذرة، واحتمل أن يقدَّر: لا صحةَ عمل، واحتمل أن يقدَّر: لا كمالَ عمل. فهذان وجهان من المجاز، وفي الحمل على أحدهما منافاةٌ للحمل على الآخر، لأنَّا إذا [قلنا]: لا صحة، لزم انتفاء الكمال، وإذا قلنا: لا كمال، لم يلزم انتفاء الصحة، بل قد يشعر بوجودها، والحملُ على نفي الصحة أقربُ إلى انتفاء الحقيقة من الحمل علي نفي الكمال. وأما مثال القسم الثاني: فسيأتي في المسألة التي تلي هذه المسألة، إن شاء الله تعالى، ويتبين تنزيلُ الأمرِ فيها على ما أشرنا إليه من التخصيص وعدمِه. الرابعة عشرة: قد ذكرنا تعذُّرَ الحمل على حقيقة الظرفية في كلمة "في" من قوله: - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تأكلوا في صحافها"، فإذا حملناها على معنى "من" مجازًا كانت لابتداء الغاية، وابتداءُ الغاية يتناول الشربَ مع مباشرة الإناء بالفم، والشرب من غير مباشرته، كما إذا صبَّ من الإناء في فِيْهِ من غير ملاقاته الإناءَ، والشرب منه لا مع مباشرته، ويمكن حملُه عليهما معًا، وليس أحدهما أولى من الآخر بالنسبة إلى ابتداء الغاية، ولكنَّ الأقربَ إلى حقيقة الظرفية الشربُ مع مباشرة الإناء، ومتى حملناه على المباشرة أخرجنا عنه الشربَ منه من

الخامسة عشرة

غير مباشرةٍ مع تناول ابتداء الغاية له، وأنه ليست إحدى (¬1) الصفتين أولى - فيُحمل عليه اللفظُ وهو ابتداء الغاية - من الأُخرى، وهذا تخصيصٌ لبعض مدلول اللفظ بعد الحمل على ابتداء الغاية، فهذا هو المثال الَّذي قصدنا ذكره في المسألة قبلَها. الخامسة عشرة: هذه الصورة التي فرضناها، وهي أن يرفع الإناء، ثم يصبُّ في فمه من غير مُماسَّة، ظاهرةٌ في التحريم؛ لأنه إذا أدرنا الحكمَ على الاستعمال فهو مستعملٌ، وإن أدرناه على مسمَّى الشرب من الإناء فهو حاصل، إذ يسمى شاربًا منه في الإطلاق العرفي. وهاهنا تظهر فائدةُ البحث الَّذي قدمناه من النظر في قرب هذه الصورة من الحقيقة، وهل لذلك أثرٌ في تعيُّن الحمل عليها، أو لا؟ فإن لم يكن فظاهر، وإن كان اقتضى ذلك أنْ تخرجَ هذه الصورةُ من دلالة اللفظ، وأنْ يؤخذَ ذلك من دليلٍ آخرَ، فهو بعيدٌ. السادسة عشرة: في قاعدة ينبني عليها غيرُها، المتقدمون من الأصوليين يقسمون الأحكام إلى وضعية وتكليفية، وبعض المتأخرين يردُّ الكلَّ إلى حكم التكليف. ومن الأحكام الوضعية نصب الأسباب، والأصلُ فيها ترتُّبُ مسبَّبِها عليها من غير اعتبارِ شرطٍ في إعمال السبب. وأما الأحكام التكليفية فاعتبار القصد فيها مناسب؛ لأن غايتَها ¬

_ (¬1) "ت": "ليس أحد".

السابعة والثامنة عشرة

امتحانُ المُكَلَّف بالامتثال، والقصدُ ركنٌ في ذلك، وعلى هذا يقول الحنفية في مسألة النية: إن الماء مطهِّرٌ بنفسه، فلا حاجةَ فيه إلى النية، وهذا إشارة إلى ما ذكرناه من أن الأصلَ ترتبُ المسبب على سببه، ومن يَشترِط النيةَ في الوضوء فبدليل من خارج على اعتبار شرط في إعمال السبب (¬1). السابعة والثامنة عشرة: قد يتعلَّق النظرُ فيما نحن فيه بما (¬2) إذا جلسَ في الوضوء أو الغسل تحتَ الميزاب، أو برز للمطر فأصابه الماءُ، ناويًا للوضوء أو الغسل صحَّ، وإذا وقف في مَهَبِّ الريح قاصدًا بوقوفه التيممَ حتى أصابه الترابُ فمسحه بيده، ففيه اختلافٌ عند الشافعية، رحمهم الله (¬3). فأما صحةُ الوضوء والغسل فكأنَّه لمعنى السببية في تطهير الماء كما يذكره الحنفية، لكن باعتبار شرط آخر بدليل من خارج، وهو النيةُ عند الشافعية والمالكية. وأما مسألة التيمُّم؛ فالاختلاف فيها راجعٌ إلى أنَّ الأمرَ توجَّه بالقصد إلى الصَّعيد في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيبًا} [المائدة: 6]. ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (1/ 171). (¬2) "ت": "بهما". (¬3) ظاهر نص الشافعي رحمه الله وقول أكثر الأصحاب: أنه لا يصح تيممه؛ لأنه لم يقصد التراب، وإنما التراب أتاه. انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (2/ 317).

التاسعة عشرة

ومن منع يقول: لم يقصدِ الترابَ، وإنَّما الترابُ أتاه، ومن صحَّح فكأنه يرى أنَّ هذا التعرُّضَ قصدٌ، أو كالقصد إلى التراب، وقصدُ التراب من الأحكام التكليفية. التاسعة عشرة: رفعَ غيرُه الإناء، وصبَّ منه في فمه، فشرب منه، إن كان ذلك بأمره فليلتحقْ بما لو رفعه هو، وإن كان بغير أمره فليس هاهنا إلا التعرُّضُ لمصبِّ الماء، أما اعتبارُ الاسم وكونُه يقتضي شاربًا من إناءِ فصة فظاهر، وأما اعتبارُ هذا الاستعمال، فهل يتنَزَّلُ هذا التعرضُ لمصبِّ الماء من الإناء منزلةَ الاستعمال للإناء؟ من هاهنا يجيء النظرُ في مسألتي التعرض لماء الميزاب أو المطر من حيث إنَّ تطهيرَ الماء لاحقٌ بالأسباب؛ لما أشرنا إليه، وذكرنا أن الأصلَ ترتبُ المسبب على سببه، وترتُّبُه على أمر زائد يكون بدليل من خارج. ويبقى النظرُ في مسألة التراب؛ لأن هذه المسألة ومسألة التيمم، كلاهما من أحكام التكليف، وقد ذكرنا مناسبةَ اعتبار القصد فيه تُلحقُ هذه المسألة، فيقال: إن هذا التعرضَ هل يُنَزَّل منزلةَ الاستعمال لإناء الذهب والفضة، أو لا؟ هذا محل نظر، والأقربُ - والله أعلم - المنعُ؛ لوجهين: أما أولًا: فلحصول مسمَّى الشرب من إناء الذهب أو الفضة. وأما ثانيًا: فلهذا التعرُّضِ الَّذي وقع به القصدُ إلى الشرب.

العشرون والحادية والعشرون

العشرون والحادية والعشرون: تعرَّضَ لميزاب ذهب أو فضة من غير قصدِ قاصدٍ، أولماء يفور من ذهب أو فضة من غير قصد قاصد؛ فشرب منه، هو كالمسألة التي قبلَها. الثانية والثالثة والعشرون: قد عُلم أنَّ من جملة ما يقع فيه النظر من أحكام هذا الحديث كيفيةَ الشرب والأكل، وهيئةَ الاستعمال، ولا شكَّ أن التحريمَ في هذه الأمور ليس للأكل والشرب بمجرَّدِه، وإنما هو لهما بقيدِ الإضافة إلى إناء الذهب والفضة، فلا بدَّ من اعتبار تلك النسبة للإضافة، فكل ما يُسمى شربًا وأكلًا من الإناء، فهو مندرجٌ تحت اللفظ، فوضعُ اللقمة في الإناء ورفعُها إلى الفم، أو وضعُ آلة الشرب في الإناء ورفعُ المشروب إلى الفم، لا شكَّ في انطلاق الأكل والشرب من الإناء على ذلك، أما إذا رفع المأكول من إناء الذهب والفضة، ووضعه بين يديه على غير الإناء، ثم أكل، فهل يحرم، أم لا، ويجعل ذلك خارجًا عن الأكل من إناء الذهب والفضة؟ بلغني عن بعض الناس: أنه فعل هذا، وأخذ مأكولًا من الإناء، ووضعه على رغيف وأكل، والقصد بذلك. وهذا عندي يختلف (¬1) الأمرُ فيه باختلاف ما يرفع من الإناء، وما تقتضيه العادة، ويُطلِقه أهلُ العُرف في كونه أكلًا من الإناء، أم لا. فأقول: إن الكثيرَ الَّذي لم تجرِ العادةُ برفع جميعه، بل بأن يُرفعَ منه ويؤكل، ليس كالشيء اليسير الَّذي تجري العادةُ بأن يرفعَ من الإناء ¬

_ (¬1) "ت": "لا يختلف"، والسياق يقتضي ما أثبته.

الرابعة والعشرون

إلى الفم؛ فالأولُ - إذا رُفع ووُضع في غير الإناء وأكُل منه - أقربُ من الثاني إلى الجواز على كلِّ حال، فالممتنعُ المُسمَّى، وما ينطلقُ عليه اسم الأكل والشرب من الإناء. الرابعة والعشرون: غَرفَ بإناء فضة أو ذهب ماءً، ثم صبَّ في إناء غيرهما، فشرب أو استعمل، هل يمتنع؟ " أما الأكلُ والشربُ المضافُ (¬1) إلى إناء الذهب والفضة فمنتفٍ؛ لأن اللفظ إنما يدل على منع أن يكونَ ابتداءُ الأكل والشرب من الإناء، وهذا القدر ليس كذلك، وكذلك إذا اعتبرنا الاستعمالَ المنسوبَ إلى الأكل والشرب. وأما مطلقُ الاستعمال فإنَّ هذا الاغترافَ هل يحرُم؛ لأنه استعمالٌ في الجملة؟ فهذا من غير اللفظ الَّذي في الحديث. الخامسة والعشرون: وضع إناء خزف في إناء فضة أو ذهب أكبر منه، وأكل من الخزف: إن لم يَفضِ المأكولُ حتى يتصلَ بإناء الذهب والفضة لم يأثمْ. السادسة والعشرون: اسم الإناء معتبر، فحيث لا يُسمَّى إناءً لا يدل اللفظ عليه، فلو وضع شحطًا من فضة، ووضع عليه مأكولًا، فأكل، أيبنى الأمرُ فيه على اسم الإناء؟ فإن سُمِّي به حَرُم باللفظ، وإن لم يسمَّ به لم يحرمْ إلا بالقياسِ والنظرِ إلى المعنى. ¬

_ (¬1) "ت": "فالمضاف".

الحديث الثالث

الحديث الثالث مِن البَاب عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيَّمَا إهَابٍ دُبِغَ فقدْ طَهُرَ" أخرجوه إلا البخاريَّ (¬1). ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه مسلم (366)، (1/ 278)، كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ، وأبو داود (4123)، كتاب: اللباس، باب: في أهب الميتة، والنسائي (4241)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: جلود الميتة، والترمذي (1728)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، وابن ماجه (3609)، كتاب: اللباس، باب: لبس جلود الميتة إذا دبغت، من طريق سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن ابن وَعلة، عن ابن عباس، به. ورواه مسلم (366)، (1/ 278)، كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ، والترمذي (1728)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن زبد بن أسلم، به. ورواه مسلم (366/ 105)، كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ، من طريق سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، به. =

[الوجه] الأول: في التصحيح

أما التعريف بابن عباس - رضي الله عنهما - فقد مرَّ. ثم الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التصحيح: وقد ذُكِرَ في الأصل أنهم أخرجوه، والضمير للمصنِّفين الستة؛ البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، رحمهم الله أجمعين، وقد استثنى البخاريَّ، فدخل مسلم - رحمه الله - فيمن أخرجه، فهو من شرطه في الصحيح، وليس تظهر لنا العلةُ في ترك البخاري له، إلا التوهم في أن يكونَ ابنُ وَعْلةَ عند البخاري في حيِّز - الستر الَّذي لم يبلغْ به إلى الرتبة التي يعتبرها. وليس يُعلم في ابن وعلةَ مطعنًا، وهو عبد الرحمن بن السَمَيْفع ابن وَعْلة السَّبَأي (¬1)، وقد روى عنه أبو الخير مرثد بن عبد الله اليَزَني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وزيد بن أسلم، فقد ارتفعت الجهالة عنه على ما عُرف من مذاهب المحدثين، هذا وقد ذكر الحافظ أبو سعيد بن ¬

_ = ورواه مسلم (366/ 107)، كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ، والنسائي (4242)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: جلود الميتة، من طريق جعفر بن ربيعة، عن أبي الخير، عن ابن وعلة، به، بلفظ فيه قصة. ورواه مسلم (366/ 106)، كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ، من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن ابن وعلة، به، بلفظ فيه قصة أيضًا. (¬1) "ت": "النسائي"، والصواب ما أثبت. والسبأي: بالسين المهملة المفتوحة، والباء ثاني الحروف. كما ضبطه المؤلف في "الإمام" (1/ 304).

الوجه الثاني: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

يونس المصري المؤرخ بمصر: أنه كان شريفًا بمصر في أيامه، وله وفادة على معاوية، وصار إلى أفريقيا، وبها مسجده ومواليه (¬1)، وهذه شهرة شهيرة تزيد على رواية الجماعة عنه، مع تخريج مالك - رحمه الله - لحديثه في "الموطأ" (¬2)، والله أعلم. * * * * الوجه الثاني: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: قال محمد بن جعفر التميمي في كتاب "جامع اللغة" في مادة (أي ي): يستعمل من (أي ي) اسم يقع مواقع، منها الشرطُ إذا قلت: أيًّا تضربْ أضربْ، وأيٌّ يكرمْك أُكرمْه. فمعنى (أيّ) هاهنا التبعيض، ويسقط المضاف إليه لعلم المخاطب به. وتقع (أيّ) في الاستفهام على وجهين: إن أضيفت إلى معرفة طلبت الاسمَ إذا قلتَ: أيُّ الرجلين أخوك؟ فالجواب: زيد أو عمرو. وإن أضيفت إلى نكرة طلبت الصفةَ، فإذا قيل: أيُّ رجلين أخوك؟ قلتَ في الجواب: قصير أو طويل. ¬

_ (¬1) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 359)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 296)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 105)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 478). (¬2) روى مالك له في "الموطأ" (2/ 498) هذا الحديث، وروى له (2/ 846) حديثًا آخر في تحريم بيع الخمر.

وهي في الاستفهام والمجازاة بغير صلة، لأن صلةَ الشيء تبيينٌ له، وأنت لا تدري ما يستفهم عنه، فمحالٌ أن تبيِّنه. فتكون (أيُّ) نعتًا في النكرة إذا قلت: رأيت رجلًا أيَّ رجلٍ، وأتاني رجلٌ أيُّ رجل، وتكون حالًا مع المعرفة إذا قلت: جاءني زيدٌ أيَّ رجل. وتقع في الاستفهام عن النكرة، فإذا قال الرجل: جاءني رجل، قلتَ: أيْ؟ ساكنة، فإنْ وصلت قلت: أيٌّ يا هذا؟ تنصب مع النصب، وتخفض مع الخفض، وتُثنِّي مع التثنية، وتجمع مع الجمع، وتنوِّن، ولك أن تقول: أي، في كل الوجوه، مع التثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، بالرفع. فإن استفهمت بها عن المعرفة جئت بالمعرفة بعدَها، وإذا قلت: جاءني زيدٌ، قلت: أيُّ زيد، فإن رُفع أو نُصب أو جُرَّ، رفعت في كل الوجوه. وتجري (أيُّ) مجرى الأسماء في الأفراد، قال الشاعر [من الوافر]: فأيِّيَ ما وأيُّك (¬1) كانَ شرًّا ... فقِيْدَ (¬2) إلى المقامةِ لا يَرَاها (¬3) ¬

_ (¬1) "ت": "فأيًا ما وأيًّا". (¬2) ضبط في "ت": "فَقِيدٌ". (¬3) البيت للعباس بن مرداس، كما نسبه سيبويه في "الكتاب" (2/ 402)، والزمخشري في "المفصل" (ص: 118)، والبغدادي في "خزانة الأدب" (4/ 367)، وابن منظور في "لسان العرب" (12/ 496).

المقامة: مجلس القوم. وقال آخر [من الوافر]: ومشتبهانِ لستُ أرَى إذا ... ما رَأيتُهُما بأنَّهَما منَ ايِّ وكلُّ اسمٍ بصاحبِهِ يُسمَّى ... وليسَا عندَ مخبرِهِ بشيِّ وإنما يريدُ الماءَ العذب والمالح. [ونصلُ بها] (¬1) الهاء، ونجعلُها للنسبة والتخصيص، ولا يكون هذا المنادي ينادي غيرَه، وإنما هو مثل قولك: أما أنا فأفعلُ كذا وكذا أيُّها الرجل، لم تُرِد بقولك: أيُّها الرجل، غيرَك، ولكن أردت أن تُشخِّص نفسَك، وكذلك: نحن نفعل كذا وكذا أيَّتُها العُصَابة. قال - هو أو غيره -: ويقول في النداء: يا أيُّها الرجل، ف (أي) الاسم المنادى، وها للتنبيه، والرجل نعتٌ لى (أي). وقال الجوهري في "الصحاح": وأيٌّ: اسم معرب يُستفهم به ويُجازى، فيمن يعقل وفيمن لا يعقل، تقول: أيُّهم أخوك؟ وأيُّهم يكرمْني أُكرِمْه، وهو (¬2) معرفة للإضافة، وقد تتركُ الإضافةُ وفيه معناها. ¬

_ (¬1) "ت": "نص بهما". (¬2) "ت": "هي".

الثانية

وقد تكون بمعنى (الَّذي) فتحتاج إلى صلة، فتقول: أيُّهم في الدار أخوك. وقد تكون نعتًا [للنكرة] فتقول: مررت برجلٍ أيِّ رجل وأيِّما رجل، ومررت بامرأة أيِّ امرأة، وأيَّةِ امرأة، وبامرأتين أيَّتِما امرأتين، وهذه امرأة أيَّةُ امرأة، وأيَّتُما امرأتين، وما زائدة. قال: و (أيُّ) قد يُتعجَّب بها، قال جميل [من الطويل]: بُثَيْنُ الْزَمِي: لا، إنَّ (لا) إنْ لَزِمْتِهِ ... على كثرةِ الواشينَ أيُّ مَعُونِ (¬1) الثانية: (ما) في قولنا: أيّما، زائدة كما قدمناه في الحكاية عن الجوهري، ومن زعم أنها للعموم؛ ليعضِدَ بذلك تقويةَ هذه الصيغة في الدلالة على العموم؛ لاجتماعها مع (أي)، فقد وَهَلَ وغَلِط. الثالثة: اختلفوا في (الإهاب)؛ هل ينطلق لفظه على الجلد مطلقًا، أم يُخصُّ بما لم يُدبغ؟ فقال أبو منصور الأزهري في "تهذيبه": والإهاب: الجلد، وجمعه أَهَب، وأُهُب، وفي الحديث: وفي بيتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُهُبٌ ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان جميل" (ص: 220). وانظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2276).

[عَطِنةٌ] (¬1)؛ أي: جلود في دِباغِها (¬2). وقال محمد بن جعفر التميمي في كتاب "جامع اللغة" في مادة (أهب): استعمل منه الإهاب، وهو الجلد، يسمى بذلك مدبوغًا وغير مدبوغ، وفي الحديث: "وفي البيتِ أُهُبٌ عَطِنَةٌ" فسماها أهبًا وهي قد عطنت، وفيه: "أيُّمَا إهابٍ دُفيَ"، فقد سماه إهابًا وهو غير مدبوغ، وجمعه أَهَبٌ على فَعَلَ. قال: وهذا المثال إنما جاء في إهاب وأَهَب، وعَمُود وعَمَد، وأَفِيق وأَفَق، وا لأَفِيق: الحَبْل، وأَدِيم وأَدَم. قال أبو الحسين بن فارس في "مجمل اللغة": الإهاب: وهو كل جلد، وقال قوم: هو الجلد قبل أن يُدبغَ، والجمع أَهَب، على فَعَل (¬3). وقال الجوهري في "الصحاح": الإهاب: الجلد ما لم يدبغ، والجمع أَهَب؛ يعني: بفتح الهمزة والهاء معًا، قال: على غير قياس، ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 466)، عن الحسن مرسلًا. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (6/ 245)، (مادة: أهب). (¬3) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (1/ 105).

الرابعة

[مثل]: أَدَمٍ وأَفَقٍ وعَمَدٍ، جمع: أَدِيم وأفَيِق وعَمُود، وقد قالوا: أُهُب - بالضم -، وهو قياس (¬1). وذكر عبد الغافر الفارسي في "مَجْمعه" (¬2): أديمًا وأدمًا، وأفيقًا وأفقًا، وقضيمًا وقضمًا. وهذه (¬3) زائدة على ما ذكره التميمي، واقتضى لفظُه الحصرَ فيما ذكره من إهاب وأَهَب، وعمود وعَمَد، وأفيق وأَفَق، وأديم وأَدَم. الرابعة: في اشتقاق هذه اللفظة: وفسّر الزمخشري في "الفائق" الإهاب بالجلد، وقال: قيل: لأنه أهبة للحيِّ، وبناء للحماية على جسده، كما قيل له: المِسْك، لإمساكه ما وراءه (¬4). الخامسة: قال الجوهري: يقال: دَبَغَ فلانٌ إهابَهُ، يدبُغُهُ، ويدبِغُهُ دَبغًا ودِباغًا ودِباغةً، وفي الحديث: "دِبَاغُهَا طَهُورُهَا" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 89)، (مادة: أهب). (¬2) هو كتاب: "مجمع الغرائب في غريب الحديث" للإمام عبد الغافر بن إسماعيل أبي الحسن الفارسي المتوفى سنة (529 هـ). انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 225)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (20/ 16). (¬3) "ت": "هذا". (¬4) انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (1/ 67). (¬5) رواه أبو داود (4125)، كتاب: اللباس، باب: في أهب الميتة، واللفظ له، والنسائي (4243)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: جلود الميتة، من حديث سلمة بن المحبق - رضي الله عنه -. وإسناده صحيح. انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 49).

الوجه الثالث: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

والدِّباغ أيضًا: ما يُدبغ به، يقال: الجلد في الدباغ، وكذلك الدَّبغْ والدِّبغُ بالكسر، والدَّبغة - بالفتح -: المرة الواحدة، ويقال: دبغت الجلد فاندبغ (¬1). وذكر التميمي: والجلد مدبوغ ودبيغ، والصناعة الدِّباغة، قال: والدَّبغ الرماد كلَّ ساعة، فهذا لفظ مشترك. السادسة: قال الجوهري في "الصحاح": طَهَر الشيءُ، وطَهُرَ أيضًا، طهارةً فيهما، والاسم الطُهْرُ (¬2). * * * * الوجه الثالث: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: المشهور والجمهور على أنَّ جلد الميتة نَجِس (¬3). وحكي عن الزُّهري أنه قال: جلدُ الميتة لا ينجس، وحكاه أبو سعيد المتولي الشافعي وجهًا، وعزاه إلى ابن القطان (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1318)، (مادة: دبغ). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 727)، (مادة: طهر). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 53)، و"المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 268). (¬4) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 290)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله.

الثانية

وإنما الزُّهومةُ التي في الجلد نجسةٌ، فيؤمر بالدبغ لإزالة الزُّهومة، كما يغسل الثوبُ عن النجاسة. والذي رأيته في مصنف عبد الرزاق، من رواية الديري عنه، عن معمر: وكان الزهري يُنكِرُ الدِّباغَ، ويقول: يُستمتَعُ به على كلِّ حال (¬1). قلت: يستدلُّ بالحديث على نجاسة الجلد كما هو مذهب الجمهور، ووجه الدليل: أنَّ مقتضى اللفظِ من الشرط والجزاء ترتُّبُ الطهارة على الدباغ، ومن ضرورة ذلك تقدُّمُ النجاسة على الدباغ؛ لأن تطهيرَ الطاهر محالٌ. الثانية: الصيغة من صيغ العموم؛ أعني: "أيّما"، وهي من أقوى الصيغ في الدلالة على العموم؛ لأنها موضوعة لتأسيس ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (185)، ومن طريقه: أبو داود (4122)، كتاب: اللباس، باب: في أهب الميتة. قال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 268): مع أنَّا قد روينا من حديث الوليد بن الوليد الدمشقي، عن الأوزاعي، عن الزهري: أن دباغها طهورها. قال محمد بن نصر المروزي: وما علمت أحدًا قال ذلك قبل الزهري. كما نقله ابن عبد البر في "الاستذكار" (5/ 301).

الثالثة

القواعد، وبيان الحكم من غير تقدم سبب أو سياق؛ ليوهما التخصيص. الثالثة: اختلف العلماءُ في تأثير الدباغ في جلود الميتة على مذاهب: أحدها: أنها لا تطهر به، وهو المنصور عند الحنبلية من مذهبه (¬1)، وحقيقة مذهبِ مالكٍ - رحمه الله - المشهور، إلا أنه يُبيح الانتفاعَ به على وجه مخصوص (¬2). وثانيها مقابله: وهو تطهير الدباغ لكلِّ جلد من غير استثناء شيء، وهو مذهب الظاهرية (¬3)، والمنقولُ عن أبي يوسف (¬4). وذهب سُحنون من المالكية أيضًا إلى أنَّ الخنزير يطهُرُ جلده بالدباغ، وإذا كان كذلك فالكلبُ أولى، أو مساوٍ (¬5). وثالثها: يُستثنى جلدُ الخنزير والآدمي، ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 53). (¬2) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 303). (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 123). (¬4) انظر: "تحفة الفقهاء" للسمرقندي (1/ 72). (¬5) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 177 - 178).

الرابعة

وهو المشهور عن الحنفية (¬1)، وحكى ابن القطان المغربي عن مالك: أنَّه لا يؤثر الدباغ في طهارة جلد الخنزير (¬2). ورابعها: يستثنى جلد الكلب والخنزير، وهو مذهب الشافعي، وفي جلد الآدمي تردُّدٌ لأصحابه، أو لبعضهم (¬3). وخامسها: يفيد طهارة جلد ما يؤكل لحمُه، دون ما لا يؤكل، وهو مذهب أبي ثور، ونُقل عن أشهب، عن مالك: أنَّ ما لا يؤكل لحمُه لا يطهرُ جلدُهُ بالدباغ (¬4). الرابعة: في القواعد والمقدمات التي يُحتاج إليها في البحث عن دلائل هذه المذاهب، وهي تفيد أيضًا في غير هذا الموضع: أحدها: أنَّ التنصيصَ على بعض موارد العام بإثبات الحكم فيه، هل يقتضي التخصيص؟ وثانيها: أنَّ استنباط معنى من النص يعود على اللفظ بالتخصيص، هل يُقبَل، أم لا؟ وثالثها: أن المؤرَّخ، هل يُرجَّح على المطلق في التعارض بين البينتين؟ ورابعها: أن العموم، هل يُخصُّ بالعادة الفعلية؟ ¬

_ (¬1) انظر: " الهداية" للمرغيناني (1/ 20). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 177). (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 289 - 290). (¬4) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 294 - 295).

الخامسة

وخامسها: أنه لا بدَّ في التخصيص من قصد الإخراج لمحل التخصيص، ولا يُشترط في التعميم قصدُ الإدخال تحت العموم لِلفرد المعين. وسادسها: بيان اختلاف مراتب العموم في القوة والضعف. وسابعها: أن القياسَ، هل يَخصُّ العموم؟ وثامنها: أن العام إذا ورد بعد الخاص، هل يُخَصَّص، أو يكون نسخًا؟ وتاسعها: إذا لم يُعلم التاريخ في العام والخاص، هل يُقدَّم الخاص، أم لا؟ وعاشرها: أن اللفظ إذا ترددَ بين الحمل على الحقيقة الشرعية أو اللغوية، فحمله على الشرعية أولى. والحادية عشرة منها: في القانون المعتبر في التأويلات، وإزالة اللفظ عن ظاهره. الخامسة: إذا أُفرِدَ بعضُ أفراد العام في الذكر لا يقتضي تخصيصَهُ به، وصوَّروه بهذه المسألة؛ أعني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيَّمَا إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر" مع إفراد ذكر الشاة في حديث ميمونة (¬1). ¬

_ (¬1) وهو ما رواه البخاري (1421)، كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على موالي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (363)، كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة.

وأقول: لا ينبغي أن يُكتفى في تقرير هذه القاعدة، ونسبة هذا المذهب إلى أبي ثور بهذا؛ لأن استنتاجَ الكليات من الجزئيات يَعتَمِدُ كثرتها؛ لتنتفيَ الخصوصات، ويؤخذَ القدرُ المشترك. وأما الفردُ المعين؛ فيحتمل أن يكون الحكم فيه لأمر يخصه، مثاله فيما نحن فيه: أن يعتقدَ أبو ثور - رحمه الله -: أنَّ الأصل عدمُ طهارة الجلد بالدباغ، ويعتقدَ أنَّ المأكول مختصٌّ بمعنى مناسب للتطهير، أو التخفيف، فيجعل ذلك قرينة في تخصيص العموم، كما جعل أصحابُ الشافعي - أو بعضُهم - عدمَ اعتياد دباغ جلد الكلب قرينةً تَخص هذا العموم، أو يمنع تطهيرَ جلد ما لا يؤكل لحمه، بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن افتراش جلود السباع (¬1)، كما استدلَّ به ¬

_ = بالدباغ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد شاة ميتة أُعطيتَها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هلَّا انتفعتم بجلدها؟ " قالوا: إنها ميتة، فقال: "إنما حرم أكلها". (¬1) رواه أبو داود (4132)، كتاب: اللباس، باب: في جلود النمور والسباع، والنسائي (4253)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: النهي عن الانتفاع بجلود السباع، والترمذي (1770)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في النهي عن جلود السباع، من حديث أبي المليح بن أسامة، عن أبيه.

السادسة

بعضُهم لهذا المذهب، أو يستدل بقوله: "دباغُ الأديمِ ذَكاتُهُ" (¬1)، والذكاة لا تكون فيما [لا] يؤكل لحمه، فكذلك الدباغ، وقد استدل بهذا أيضًا. والمقصود: أنه إن كان أبو ثور نصَّ على قاعدة فذاك، وإن كان أُخِذ بطريق الاستنباط من مذهبه في هذه المسألة فلا يدلُّ على ذلك، وقد تقدم كلامٌ في هذه القاعدة مع قاعدة: أنَّ المفهوم يخصص العمومَ عند من يقوله. السادسة: دليلُ مذهب الجمهور في أنَّ العموم لا يُخصُّ بذكر الحكم في بعض أفراده ظاهرٌ؛ لأن المخصص منافٍ، وذكر الحكم في بعض الأفراد ليس بمنافٍ، فذكر الحكم ليس بمخصِّص. واعترض عليه بمنع المقدمة الثانية، وهو أن ذكر الحكم في بعض الأفراد ليس بمنافٍ بناءً على قاعدة المفهوم، وفرقٌ بين منافاة الحكم ومنافاة الذكر، فسوق الحكم في بعض الأفراد ليس بمنافٍ لثبوته في غيرها، وأما الذكر فلا تسلمُ عدمُ منافاتِه؛ لأجل المفهوم الدَّالِّ على نفي الحكم عمَّا عَدَاه. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 45)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 21)، من حديث سلمة بن المحبق بهذا اللفظ، وقد تقدم من رواية أبي داود والنسائي بلفظ: "دباغها طهورها".

السابعة

وهذا الاعتراض إنما يتأتَّى في ذكر الحكم في بعض الأفراد بتخصيصه بما له مفهومُ مخالفةٍ عند القائلين به؛ كالصفة مثلًا، فلا تجيء في ذكر الحكم في بعض الأفراد ذكرًا لا مفهومَ له كاللقب، والذين أوردوا المسألة أوردوها عامة، وقد قدّمنا تباعدَ ما بينهما، والله أعلم. السابعة: استنباط معنى من النص يعود على النص بالتخصيص، قد يُمنع منه ويقال: إنَّ العموم لا يخص بعلة مستنبطة منه؛ لأن العلل إنما تستنبط من الألفاظ بعد تحصيل مضمونها، وكمالِ فائدتها، وما يقتضيه لفظُها، فإذا استقرت فائدتُها فبَحَثَ الباحثُ عن سبب القول بعد تحصيله، فتحصَّلَ من هذا أن العلةَ تابعةٌ لتحصيل معنى اللفظ، وما يفيده، وهذا يمنع من تخصيص العموم بعلةٍ مستنبطة منه؛ لأنَّا قد نقدم قبل النظر في علته إفادتَه للاستيعاب، فإذا كان مفيدًا للاستيعاب نظرنا في علة إفادته الاستيعابَ منه. قلت: وبهذه القاعدة اعترضوا على مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - في مسائلَ منها: تعليلُهُ تحريمَ الربا في الأصناف الأربعة بالكيل، فإنه يخرج اليسيرَ الَّذي لا يُكالُ ليَسَارته، مع أنه داخل تحت: "البُرُّ بالبُرِّ"، ويكون تخصيصًا للعام بعلة مستنبطة منه.

الثامنة

الثامنة: اختلف العلماء في البينتين إذا تعارضتا، وأُرِّخت إحداهما بوقت، وأُطلِقت الأخرى، هل تقدَّمُ المؤرَّخةُ، أم لا؟ على قولين (¬1). والذي يتعلَّق بهذا الحديث من هذا: أنَّ قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دبغَ فقد طَهُر" غيرُ مؤرّخ، وحديث عبد الله بن عُكَيم: "أتانا كتابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ موتهِ بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتةِ بإهابٍ ولا عصبٍ" (¬2) مؤرَّخ. التاسعة: العمومُ هل يُخصُّ بالعادة، كما إذا قال - صلى الله عليه وسلم - لطائفة من أمته: حرَّمتُ عليكم الطعامَ والشراب مثلًا، وكان عادتُهم تناولَ طعامٍ مخصوص؟ ¬

_ (¬1) انظر: "البرهان في أصول الفقه" للجويني (2/ 753)، و"الإبهاج" للسبكي (3/ 228)، و"البحر المحيط" للزركشي (8/ 188). (¬2) رواه أبو داود (4127 - 4128)، كتاب: اللباس، باب: من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، والنسائي (4249 - 4251)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: ما يدبغ به جلود الميتة، والترمذي (1729)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، وقال: حسن، وابن ماجه (3613)، كتاب: اللباس، باب: من قال لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب، وسيأتي الكلام عن الحديث مفصَّلًا عند المؤلف في الفائدة السادسة والعشرين من هذا الحديث.

العاشرة

اختلفوا فيه، والمختارُ عندهم أن لا يُخصَّ، ولا يقصر النهيُ على مُعتَادهم، بل يَدخل فيه لحمُ السمك والطير وما لا يُعتاد في أرضهم، واستدلَّ عليه بأن الحجة في لفظه - صلى الله عليه وسلم -، وهو عام، وألفاظه غير مبنية على عادة الناس في معاملاتهم، حتى يدخلَ فيه شربُ البول، وأكلُ التراب (¬1)، وابتلاع الحَصَاة والنَّواة (¬2)، وهذا بخلاف لفظ الدابة، فإنها تحمل على ذوات الأربع خاصة بعرف أهل اللسان في تخصيص اللفظ، وأكلُ الحصاة والنواة يُسمى أكلًا في العادة، وإن كان لا يُعتاد فعلُه، ففرقٌ بين أن لا يُعتادَ الفعلُ، وبين أن لا يعتادَ إطلاقُ الاسمِ على الشيء (¬3). والذي يتعلق بهذا الحديث من هذه القاعدة أن جلودَ الخنازيرِ والكلاب غيرُ معتادةِ الدَّبغِ، فلا يقتضي على هذه القاعدة أن يُخص اللفظُ بما عداها مما يُعتاد دبغُهُ. العاشرة: لمَّا كان التخصيصُ إخراجَ بعضِ أفراد العام عن الإرادة منه، وجب قطعًا أن يكون شرطُه قصدَ الإخراج عن الإرادة، وأما العام فيتناول الأفرادَ بوضعه، فيدخل تحته ما لا يمكن أن يحصى من الأفراد، فليس من شرطه إرادةُ الفردِ المعين اتفاقًا؛ لأنه إذا لم يخرج ¬

_ (¬1) "ت": "الشراب". (¬2) والمراد: أن هذه لا تدخل في المشروبات والمؤكولات عادة. (¬3) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 519).

الحادية عشرة

منه بعضُ الأفراد، كَفَتِ الإرادةُ العامة لتناول الحكم لجملة أفراده في حصول الحكم في الفرد المعين، وإن لم يخطرْ بالبال ذلك الفردُ بخصوصه، وهذا مما لا يَختلِفُ فيه أحدٌ؛ أعني: أنه ليس شرطَ العموم إرادةُ كل فرد من أفراده بخصوصه. الحادية عشرة: اختلفوا في تخصيص العموم بالقياس على أقوال: جوازِ التخصيص بالقياس، ومنعِه، والوقفِ، والتفرقةِ بين ما خُصَّ من العموم وما لم يُخص، والتفرقةِ بين التخصيص بالمتصل والمنفصل، والتفرقةِ بين جليِّ القياس وخفيِّه. ثم قيل في تفسير الجليِّ: إنه قياسُ العلة، والخفيُّ قياسُ الشَّبَهِ، وعن بعضهم: أن الجليَّ مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقضِي القاضي وهو غَضْبَان" (¬1)، وتعليل ذلك بما يدهشُ العقلَ عن تمام الفكر حتى يَجريَ في الحاقِن. وبعضُهم يرى اعتبارَ توازنِ الظنَّين؛ أعني: الظنَّ الحاصلَ من القياس، والظنَّ الحاصلَ من العموم، فيُعمل بأقواهُما؛ فإن العموم يفيد ظنًا، والقياس يفيد ظنًا، وقد يكون أحدهما أقوى في نفس ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6739)، كتاب: الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، ومسلم (1717)، كتاب: الأقضية، باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، بلفظ: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان".

الثانية عشرة

المجتهد فيلزمه اتباعُ الأقوى، وهذا موافق للقاعدة الكلية في اتباع أقوى الظنين في الدلائل. وأصلُه: أنَّ الأصلَ عدمُ العمل بالظنِّ لما يتطرق إليه من الخطأ، والضرورة دعت إلى ذلك، فإذا رُجح أحد الظنين، فالعمل بالمرجوح منهما ترك لتلك المرتبة الراجحة مع كونها أقربَ إلى العثور على الصواب، وأبعدَ من احتمال الخطأ (¬1). الثانية عشرة: بحثَ بعضُ المتأخرين المباحثين - لا المصنفين - في منع تفاوت مراتب العموم؛ نظرًا إلى أن دلالةَ اللفظ العام على أفراده بصيغته، ولا تفاوت في الوضع، وتناوله الأفرادَ. وقد صرَّح في "المُستصفى" بتفاوت مراتب العموم، وتناولها لبعض الأفراد، لكن هذا التفاوتَ ليس من جهة الوضع، وإنما هو لأمور خارجة عنه. قال: والعموم يَضعُفُ بأن لا يظهرَ منه قصدُ التعميم، وبيَّن ذلك بأن يكثرَ المُخرَج عنه، وتتطرَّقَ إليه تخصيصات كثيرة. ومثَّله بـ {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فإن دلالةَ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 249)، و"الإحكام" للآمدي (2/ 361)، و"المحصول" للرازي (3/ 153)، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 203)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 489).

"لا تَبيعُوا البُرَّ بالبر" (¬1) على تحريمه الأرز والتمر، أقربُ من دلالة هذا العموم على تحليله. قلت: في هذا المثال نظرٌ قد لا يُساعد عليه. ثم قال: فقد دلَّ الكتابُ على تحريم الخمر، وخصَّ به قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]، وإذا ظهر منه التعليل بالإسكار، فلو لم يَرِدْ خبرٌ في تحريم كلِّ مسكر، لكان التحاق النبيذ بالخمر بقياس الإسكار أغلبَ على الظنِّ من بقائه تحت عموم قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]. قال: وهذا ظاهر في عموم هذه الآية، وآية إحلال البيع؛ لكثرة ما أُخرج منهما، ولضعفِ قصدِ العموم فيهما، ولذلك جوَّز عيسى بنُ أبانَ (¬2) التخصيصَ في أمثاله دون ما بقي على العموم، ولكن لا يَبعُد ذلك عندنا أيضًا فيما بقي عامًا، لأنا لا نشك في أن العموماتِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2027)، كتاب: البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، ومسلم (1586)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلفتظ: "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ... " الحديث. (¬2) هو الإمام فقيه العراق وقاضي البصرة، تلميذ محمد بن الحسن، له تصانيف وذكاء مفرط، وفيه سخاء وجود زائد، توفي سنة (221 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (10/ 440).

بالإضافات إلى بعض المسمَّيات تختلف بالقوة؛ لاختلافـ[ها] في ظهور إرادة قصد ذلك المسمى به، فإذا تقابلا وجب تقديمُ أقوى العمومين، وكذا القياسان إذا تقابلا، قدمنا أجلاهما وأقواهما (¬1). قلت: أما ظهورُ قصدِ التعميم الَّذي حكيناه أولًا فلا شكَّ في اقتضائه القوةَ، لكن قد يقال: هل المعتبرُ في الضعف عدمُ قصدِ التعميم، أو قصد عدم التعميم؟ فإن قيل: إن المعتبر عدم قصد التعميم بالنسبة إلى دخول بعض الأفراد في الإرادة، فهذا لا يعتبر كما قدمناه. وظاهر كلام "المستصفى" قد يوهم اعتبارَه بقوله: لا شكَّ في أن العموماتِ بالإضافة إلى بعض المسميات تختلف بالقوة؛ لاختلافها في ظهور إرادة قصد ذلك المسمى. فإن كان المرادُ من هذا الكلام أنه إذا ظهر قصدُ إرادة المسمى المعيَّن كان تناولُ العمومِ له أقوى من تناوله لما لم يظهرْ قصدُ إرادتِه، فهذا صحيحٌ جزمًا. وإن كان المراد أن ما لم يظهر قصدُ إرادته من العام يكون ضعيفًا بالنسبة إلى العموم، فلا نسلمه؛ لِمَا ذكرناه من أن الألفاظَ الدالةَ على العموم قد تتناول ما لا يمكن حصرُه من الصور، فلا يشترط قصدُ المتكلم بصيغة العموم لإرادة كلِّ فردٍ منها. ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 251 - 252).

الثالثة عشرة

وإن قيل: المعتبر في الضعف قصد عدم التعميم فهذا واضح، لكنَّ ذلك إنما يظهر باعتبار قرائنَ خارجةٍ عن مدلول اللفظ، كالسياق مثلًا. وقد تقوى القرائنُ وتَضعُف، وتَكثُر وتَقِل، وفيها مجال للنزاع فسيح. قال أحد المُنَاظرين: إذا قال: المقصود بهذا الكلام: كذا، لا ظاهره من العموم، نازعه خصمُه في ذلك، وقال: لا أسلم أنه المقصود، نعم هو مقصود، غير أنه لا يمتنع أن يقصدَ غيرَه معه، كما سيأتي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيمَا سقَتِ السماءُ العُشر" (¬1). الثالثة عشرة: قسمت المراتب على ثلاث: إحداها: أن يظهر أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُردِ التعميمَ، وإن كان اللفظ عامًّا لغةً كقوله: "فيمَا سقَتِ السماءُ العُشر ... " الحديث، فإن سياقَه لبيانِ (¬2) قدر الواجب لا غير، فهذا لا عمومَ له في غيره، وكذلك قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرِ} [المدثر: 4] لا عمومَ له في آلات التطهير؛ إذ المقصود إنما هو الأمر بأصل التطهير، ولذلك يحسن السؤال عنها، وهو كقوله: {فَاغْسِلُوْا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]؛ إذ الغرضُ بيانُ أعضاء الوضوء مع أنه مخصوصٌ بالماء اتفاقًا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1412)، كتاب: الزكاة، باب: العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: "فيما سقت السماء العيون أو كان عثريًا العشر ... " الحديث. (¬2) "ت": "البيان".

الرابعة عشرة

الثانية: لفظٌ عام ظهر فيه قصدُ التعميم بقرينة زائدة على اللفظ، فحكمَ إمام الحرمين بأنه لا يؤوَّل بقياس، وقال بعض المتأخرين: وفي هذا نظر؛ فإن كانت القرينةُ تفيد العلمَ بالتعميم صار نصًا، وإن لم تفدْ إلا قوةَ الظن، فما المانع من تأويله بقياس أجلى منه في النظر، فلا وجهَ لهذا الإطلاق. الثالثة: لفظ عام لغةً، ولا قرينةَ معه في تعميمٍ ولا في نقيضه، فالواجبُ - إذا أُوّل، وقُصِدَ بقياس - اتباع الأرجح في الظنِّ، فإن استويا وقف القاضي. قال بعض المتأخرين: وهو الصواب لعدم المرجِّح، وقدم الإمام الخبر لإطلاقه، وهو كقوله: "الأعمالُ بالنِّيَّاتِ" (¬1)، انتهى. وإمام الحرمين يقول: إنه لو قدَّم ظنَّ القياس على ظنِّ اللفظ لكان تقديمًا لمرتبة القياس على مرتبة الخبر (¬2). الرابعة عشرة: إذا آلَ الأمُر إلى تقديم الأرجح في الظن، فقياسُ الشَّبَهِ عندنا ضعيف، فإن قيل به، فيتقدمُ عليه العمومُ بالنظر إلى رتبته ورتبة العموم. وأما النظر في الجزئيات فلا ينبغي أن يقدَّمَ القياسُ الشَّبَهي عليه إلا عند ضعف العموم ضعفًا شديدًا بكون قياس الشبه أغلب على الظن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "البرهان في أصول الفقه" للجويني (1/ 364). وانظر: "البحر المحيط" للزركشي (4/ 177) حيث نقل عن المؤلف رحمه الله الفائدتين الثانية والثالثة عشرة.

منه، فإنا رأيناهم يستدلون بعموماتٍ ونصوصٍ بعيدةِ التناولِ في القصد لمحلِّ النزاع بظهور القصد، وكذلك القياسيون بالشبه يستدلون بقياسات مُتَهَالِكَةٍ في الضعف. مثال الأول: الاستدلال بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] على أن اختلافَ الأماكن مانعٌ من القدرة، حيث تُعتقد مانعيتُه، فإن المعلومَ أن المقصودَ بهذا الكلام إقامةُ الجمعة، وعدمُ تركها؛ لأن مقصود السعي مطلقًا يرشد إليه قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، ولو قال قائل: الآية تتناول من سمع الدعاء - وهو في آخر باب المسجد بحيث لا يسمع الخطبة - أنه يجب عليه أن يسعى في المسجد إلى محلِّ ذكر الله تعالى، لكان مبطلًا جزمًا. ومثال الثاني: قياس من قاس بطلانَ صلاة المأموم إذا تقدم على إمامه على بطلان صلاة المصلي الواقف على نجاسة، بجامعِ أنه وقف في مكان ليس فيه موقفٌ لأحد. أما قياسُ العلة فهو أرفعُ من قياس الشَّبَه، فما كان قد أُومِئ إليه في النص فهو صحيح، وكذا ما عُلم المقصودُ منه، والسبب فيه، فقد ينتهي ذلك إلى درجة القطع، كما نعلم قطعًا أن تحريمَ الخمر لإسكارها، وإفسادها للعقل والتمييز، حتى لو لم يَرِدْ أنها لذلك، لكفى مجردُ النهي والتحريم. وأما ما ليس فيه إلا مجرَّدُ مناسبةٍ تبيَّنَها النَّاظرُ لا يَقْوَى في النَّفس

الخامسة عشرة

انفرادُها بالتعليل، فالأولى تقديمُ العمومِ والظاهرِ عليها، لا سيّما إذا قَرُب أن تُزاحم، وكان ترجيحُها على ما تُقَابلُ به ليس بالقويّ (¬1). الخامسة عشرة: إذا ورد العامُّ بعد الخاص، هل يُخصص به، أم يكون نسخًا؟ اختلفوا فيه؛ فالشافعية اختاروا التخصيصَ، والحنفية اختاروا النسخَ. ومثاله: لو قيل أولًا: لا تقتلوا أهلَ الذِّمة، ثم قيل بعد ذلك بمدة متراخية: اقتلوا المشركين. فمن قال بالمذهب الأول منعَ قتلَ أهل الذمة، ومن قال بالثاني جوَّز، وحُكي في المسألة قولٌ ثالث بالوقف. واحتُجَّ لتقديم الخاص على العام المتأخر بأن الخاصَّ نصٌّ، والعامَّ ظاهرٌ في الاستغراق، فيقدَّم النص، كما إذا تقدم العام، وتأخر الخاص. والاعتراضُ عليه: بأن نصَّ التناولِ للخصوص ظاهرٌ في الدوام والاستمرار، فإزالتُه بالعموم الَّذي هو ظاهرٌ في الاستغراق إزالةٌ لظاهر متقدم بظاهر متأخر، لا إزالةَ معلوم بمظنون، وذلك سائغ، فإن ماء البحر معلوم الطهورية، ثم لو أخذنا منه يسيرًا في إناء، وأمكن وقوع النجاسة فيه، فأخبرَ بذلك عَدْلٌ، رُجع إليه، ولم يكن إزالةَ معلوم بمظنون، وكذلك لو تيقنَّا طهارةَ ثوب، ثم أمكن تنجسُه، ¬

_ (¬1) نقله الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 178) عن المؤلف.

فأخبر بذلك عَدْلٌ عن مشاهدة، فإنه يجب الرجوعُ إليه، وليس إزالةَ معلوم بمظنون. وحجةُ المذهب الآخر: أنَّ العام في تناوله لآحادِ ما دخل عليه يجري مجرى خبرٍ خاصٍ يخصُّه، ألا ترى أنَّه يصحُّ التمسكُ به لإثبات الحكم، كما يصح التمسك بالخاص، فجرى العام مع الخاص في تناول الخاص مجرى الخبرين الخاصين، وردا وهما متنافيان؛ أحدهما متقدم، والآخر متأخر، يصير المتقدمُ منسوخًا بالمتأخر، كذا هذا. وأحتجَّ للوقف بأنه وجد في كلّ واحد منهما ما يقتضي التقديم فتعارضا، ولم يقضَ بأحدهما على الآخر. وييانه: أن العمومَ مستغرقٌ بلفظه، وهو متأخر عن الخاص في الزمان، ويجوز أن يكون صاحبُ الشرع قصدَ رفعَ الحكم الخاص، فهذا ما وُجد في العموم مما يقتضي تقديمه، وفي مقابلة ذلك أن الخاص نصٌّ في الحكم، ويجوز أن يكون صاحب الشرع قصد تخصيص العموم به، وهذا يقتضي تقديمه فتعارضا، فوجب التوقفُ. وأما الترجيح بالجمع بين النصين، وأنَّ العمل بكل واحد منهما من وجهٍ أَولى من إلغاء أحدهما، فقد تنازعه الخصمان؛ أما القائلون بالتخصيص فيقولون: يعمل بالعموم فيما عدا صورةِ التخصيص، ويعمل بالتخصيص في محله، وهو أولى من إلغاء محل التخصيص بالكلية. وأما القائلوان بالعمل بالعام ونسخ الخاص به، فيقولون: إذا لم

السادسة عشرة

يُنسخ محل التخصيص بالعام الوارد عَقيبه أُلغيت دلالته بالكلية على محل التخصيص، [و] لم يبطل العمل بالخاص دائمًا، وفي كل حال؛ لأنه قد عُمل به في الأزمان السابقة على زمن ورود [العام] (¬1) (¬2). السادسة عشرة: إذا وردَ الخاص والعام، ولم يُعلمِ التاريخ، فالخاص مقدم عند من يقدمه على تقدير أن يتأخر العام؛ لأنه ليس للخاص حالة إلا وهو مقدم فيها، فإنه إما أن يتقدم أو يتأخر أو يتقارب، وكيف ما كان فهو مقدم. وأما من يقدم العام على تقدير تأخيره، فقد ألزم الوقفَ؛ لجواز أن يكون العام متأخرًا، فيتقدم عنده، أو متقدمًا، أو مقاربًا، فيقدم الخاص، ولا دليلَ على تقديم أحدهما. وعن عبد الجبار بن أحمد (¬3) في صورة الجهل بالتاريخ: أنه يقدم الخاص كما في الغَرْقى والهَدْمى، فإنَّ جماعةً لو غَرِقوا في سفينة، أو ماتوا تحت الهَدْمِ، أو عمَّهم وجهٌ من وجوه الهلاك، ولم يعلم أيُّهم ¬

_ (¬1) "ت": "الخاص". (¬2) انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصفهاني" (2/ 311)، و"شرح مختصر ابن الحاجب" للبابرتي (2/ 251). (¬3) هو العلامة المتكلم، القاضي شيخ المعتزلة عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار أبو الحسن الهمذاني، صاحب التصانيف، ومن كبار فقهاء الشافعية، وتصانيفه كثيرة، توفي سنة (415 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (17/ 244)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 97).

سبق موتُه، فإنهم يجعلون كأنهم ماتوا دفعةً واحدة، ولا يَرِث أحدُهم من صاحبه. واعترض على هذا بوجوه: أحدها: أن الأمة ما أجمعت على هذا. وثانيها: أنه لمّا اشتبه الحالُ لم يحكمْ بإرث أحدهما من الآخر، فكذا هاهنا، لما اشتبه حالُ الحديثين لا يعترض بأحدهما على الآخر. وثالثها: قال ابن بَرهان (¬1): إن هذا الاستدلال باطل؛ فإنه تضمَّنَ إثباتَ أحكام اللغة بأدلة الشرع، وحكم اللغة ثابت سابق على الشرع، والمدلولُ لا يكون مقدَّمًا على الدليل. فأما الوجه الأول: فالجواب عنه أنه مبنيٌّ على المذهب المشهور بين العلماء في عدم توريث الغَرْقَى والهَدْمَى، إذا لم يُعلم سبقُ موتِ أحدهما، فمن وافق على هذا المذهب فعليه الجواب. وأما الوجه الثاني: فيقال عليه: إنَّ التعارضَ وقع في التقديم والتأخير، ولم يُقضَ بأحدهما على الآخر، والحكم بتقديم الخاص ¬

_ (¬1) هو العلامة الفقيه، أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان البغدادي الشافعي، كان أحد الأذكياء، بارعًا في المذهب وأصوله، من أصحاب ابن عقيل، ثم تحوَّل شافعيًا، ودرَّس بالنظامية، وتفقه بالشاشي والغزالي، له من المصنفات في الأصول: "الأوسط"، و"الوجيز"، وغير ذلك، توفي سنة (518 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (19/ 456)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (6/ 30).

السابعة عشرة

مستندُه عدمُ ثبوتِ تقدم أحدهما على الآخر، وأن ذلك يوجب أن يجعلا كالمتقاربين، فيقدم الخاص، كما إذا اقترنا، وليس مستنده الحكم بتقدم الخاص - أو تأخره - حتى يكون حكمًا بالتقديم (¬1) لأحد المتعارضين على الآخر، فيكون الحكمُ بتقديم الخاص هاهنا بمثابة الحكم بتوريث ورثةِ كلِّ واحد منهما منه، وعدم الحكم بتقديم أحد الموتين على الآخر، لا لأنَّا حكمنا بتأخر الخاص فقدمناه. وأما الوجه الثالث الَّذي ذكره ابن بَرْهان: فساقطٌ؛ لأن تقديمَ الخاصِّ على العام - أو عكسِه - حكمٌ شرعي، اعتبره عبدُ الجبار بحكم شرعي آخر، وليس من باب الأحكام اللغوية، فإن الخطاب متوجه على المجتهد، فيقدَّمُ الخاصُّ إذا رأى أنه حكمُ اللهِ تعالى. السابعة عشرة: إذا دار لفظُ الشارع بين أن يُحمل على الحقيقة الشرعية أو اللغوية، حُمِلَ على الحقيقة الشرعية؛ لأنها مقصودُ البعثة، وصرف الكلام إلى ذلك أولى من صرفه إلى تعريف وضع اللغة. الثامنة عشرة: في القاعدة المعتبرة في التأويلات، وإزالة اللفظ عن ظاهره: لمَّا عُلم أنَّ التأويلَ صرفُ اللفظ عن ظاهره، وكان الأصلُ حملَ اللفظ على ظاهره، كان الواجب أن يُعضَدَ التأويلُ بدليل من خارج لئلَّا يكونَ تركًا للظاهر من غير معارض، وقد جعلوا الضابط فيه ¬

_ (¬1) "ت": "تقديمًا حكمًا بالتقديم".

التاسعة عشرة

مقابلةَ الظاهر يتأويل وعاضِدِهِ، فيقدم الأرجحُ في الظن، وإن استويا في الظق فقد قيل بالوقف، وإن كان ما يدعى تأويلًا لا ينقدح احتمالُه، فهو باطل. واعلم أَن تقديمَ أرجحِ الظنين عند التقابُل هو الصوابُ إن شاء الله، غير أنا نراهم إذا انصرفوا إلى النظر في الجزئيات يخرج بعضهم عن هذا القانون، ومن أَسباب ذلك اشتباهُ المَيلِ الحاصل بسبب الأدلة الشرعية بالميل الحاصل عن الإِلْف والعادة والعصبية، فإن هذه الأمورَ تُحدِثُ للنفس هيئةً وملكَةً تقتضي الرجحانَ في النفس بجانبها، بحيث لا يشعر الناظرُ بذلك، ويتوهم أنه رجحانُ الدليل، وهذا محل خوف شديد، وخطر عظيم، يجب على المتقي لله تعالى أن يصرِفَ نظرَه إليه، ويقفَ فكرَه عليه، والله أعلم. التاسعة عشرة: المحكيُّ عن أبي ثور وغيره، أن أثر الدباغ إنما هو فيما يؤكل لحمه، بمعنى: أنه لا يطهر غيره بالدباغ، وأن التنصيص على بعض أفراد العام يقتضي التخصيص، لورود النص في شاة ميمونة (¬1)، وقد قدمنا (¬2) أنه لا ينبغي أن تؤخذَ هذه القاعدة الكلية، وينسب إليها مذهب أبي ثور بسبب هذا الحكم الجزئي. العشرون: الذين قالوا باستئناء جلد الخنزير، وأنه لا يطْهُر بالدباغ، لم يَجْرُوا على مقتضى العموم في هذا الحديث، ولعل مأخذَه ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 294 - 295). (¬2) في الفائدة الخامسة من هذا الحديث.

عندهم القولُ بنجاسة الخنزير في حال الحياة، وأن غاية الدباغ أن يردَّ الجلد إلى حالة الحياة، وهو في حالة الحياة نجس، فكذلك بعد الدباغ، وبل أولى. وهذا يتوقف على إثبات نجاسة الخنزير أولًا، ثم على إثبات الملازمة بين نجاسة الذات في حال الحياة، ونجاسة الجلد بعد الدباغ. ونجاسةُ الخنزير ليس فيها إجماع (¬1) ولا نص. والدليل الَّذي استدل به على نجاسة الكلب، وهو غسل الإناء من ولوغه سبعًا (¬2) لم يردْ في الخنزير. والقول بأن الخنزيرَ أغلظُ حالًا من الكلب، فيكون أولى بالأغلظيَّة، ويستدل على الأغلظية بالمنع من اتخاذه في كلِّ صوره، أو بإباحة قتله، ودلالة ذلك على النجاسة، إنما هو لمناسبة شدة الإبعاد للتنجيس، ولا تخفى رتبةُ هذه المناسبة، وأن المنع من الاتخاذ بالكلية يقتضي أنه أسوأُ حالًا في ذلك المنع. وأما أنه أسوأُ حالًا في الطهارة والنجاسة فقد يمنع، وإنما طريقُه تلك المناسبةُ التي ذكرناها. وأما إثبات الملازمة بين نجاسة الذات في حال الحياة، ونجاسة الجلد بعد الدباغ، فسنعود إليه في مسألة استثناء جلد الكلب إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) وقد غلَّطوا ابن المنذر في نقله الإجماع على نجاسة الخنزير. (¬2) تقدم تخريجه.

الحادية والعشرون

الحادية والعشرون: الذين قالوا باستثناء جلد الكلب في الطهارة بالدباغ، مخالفون لظاهر هذا العموم، وفي الاعتذار عنه وجوه: الأول: ما قدمناه من استنباط العلة في تطهير الدباغ للجلد، وحفظِه للجلد عن التغير والفساد، وغايةُ هذا أن يَرُدَّه إلى حال الحياة، وهو في حال الحياة نجسٌ، فكذلك بعد الدباغ (¬1). وقد قدمنا ما فيه من استنباط علة من النص تقتضي تخصيصَه، وذكرنا ردَّهم على الحنفية بمثل ذلك، فيلزم مثلُه هاهنا، والله أعلم. الوجه الثاني: تخصيص هذا النص في جلد الكلب بما روى أبو المَليح بن أسامة، عن أبيه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن افتراش جلود السباع (¬2)، والكلب سبع، فوجب أن ينهى عنه بكل حال، وبهذا أجاب الشيخُ أبو حامد الإسفراييني الشافعي؛ أعني: أنه عامٌّ في الكلب وغيرِه، قال: وخبرُنا خاصٌّ في السبع فيقضى به عليه. قلت: وهذان الخبران ليس أحدُهما عامًا من كل وجه، والآخرُ خاصًا من كل وجه، حتى يقضى بالخاص منهما على العام، ولكنهما من قَبيل النصين اللذين كلُّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عامٌّ من وجه وخاصٌّ من وجه. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 288 - 289). (¬2) تقدم تخريجه.

بيانه: أن خبرَ النهي عامٌّ في جلود السباع قبل الدباغ وبعده، وخاص في السباع، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبغَ فقدْ طَهُر" عامٌّ في كل إهاب، خاصٌّ في الدباغ، فإذا قال أحد الخصمين: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبغَ فقدْ طَهُر" عامٌّ في كل إهاب، فأخص عنه جلد الكلب لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن افتراش جلود السباع، قال خصمُه: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن افتراش جلود السباع عام بالنسبة إلى المدبوغ وغيره، فأخص منه المدبوغَ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبغَ فقدْ طَهُر"، فيتساويان، ويُحتاج إلى الترجيح. والذي يقال في ترجيح الطريق الأول: أنا إذا أخرجنا الكلبَ من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبغَ فقدْ طَهُر" لم تسقط فائدةُ تخصيصِ الدباغ؛ لأنه ينفي هناك ما لا يطهر جلده إلا بالدباغ، وإذا أخرجنا ما دبغ من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن افتراش جلود السباع سقطت فائدة تخصيص السباع؛ لأن جلودَ السباع وغيرِ السباع في النهي عن افتراشها قبلَ الدباغ سواءٌ. والاعتراض عليه من وجوه: أحدها: أن طلبَ الفائدة في تخصيص جلود السباع غيرِ المدبوغة لم ينشأ من تخصيصنا هذا النهي بما لم يُدبغْ من جلود السباع، وإنما هو ناشئٌ عن ثبوت النهي عن جلود السباع قبل الدباغ ثبوتًا على سبيل العموم، أو على سبيل الخصوص؛ لأنه متى ثبت أن اللفظَ يتناولُ جلودَ السباع غيرِ المدبوغة بطريق العموم مع أن الحكم

غيرُ مخصوص بها، لزِمَ عدمُ الفائدة في تخصيص جلود السباع في القول بهذا العموم، كما يلزم عدمُ الفائدةِ في التخصيص من القول بالتخصيص، وإذا كان طلبُ الفائدة في التخصيص بأشياءَ عن ثبوت الحكم في جلود السباع المدبوغة مع اشتراك غيرِها معها في الحكم ثبوتًا عامًا، أو خاصًا، وأنهم يقولون بثبوت هذا الحكم في جلود السباع غيرِ المدبوغة، فالإلزامُ مشترك بيننا وبينكم، وطلبُ الفائدة إن لزم لزِمَ الجمعُ. فإن قيل: التخصيصُ يُحوِج إلى طلب الفائدة فيه بخلاف العموم. قلنا: التخصيص بالذكر مُحوِج إلى طلب الفائدة، أو تخصيصُ الحكم محوج إلى طلب الفائدة؟ الأول مسلّم، والثاني ممنوع، وهذا لأن الحاجة إلى طلب الفائدة في التخصيص حيث يطلب ذلك حكم يتبع اللفظَ لأمرٍ يرجع إلى اللفظ والوضع، لا مطلق ثبوت الحكم، فإنَّا في مفهوم الصفة قد نَدَّعي التخصيصَ، وطلبَ الفائدة لأمرٍ يرجع إلى ثبوت الحكم في بعض الأفراد، ولهذا نفرق بينه وبين التخصيص باللقب، ولو كانت العلةُ هو مطلق ثبوت الحكم في الفرد لاستويا، وإذا كان كذلك فنحن هاهنا لم ندَّعِ التخصيصَ بالذكر حتى يلزمنا الفرقُ بين تناول الحكم بالخصوص، وتناوله بالعموم، وإنما ادَّعينا تخصيصَ الحكمِ ببعض ما تناوله العامُّ، وليس ذلك من التخصيص باللفظ، بل هو ادعاءُ ثبوتِ الحكم مخصوصًا ببعض موارد العام،

فالتخصيص بالذكر يُحوِج إلى طلب الفائدة فيه، وتخصيصُ الحكم يحوِج إلى طلب دليل التخصيص، وهذه القاعدة تبين أن الردَّ على القائلين بالمفهوم بقول من قال: ثبوت الحكم في الفرد لا يدل على نفيه عمَّا عداه، وإلا لَمَا كانت القضيةُ الكليةُ ممكنةً غيرُ (¬1) تام؛ لأن القائلَ بالمفهوم لا يقول به؛ لأجل ثبوت الحكم في الفرد، بل لأجل ثبوته فيه بطريق التخصيص بالذكر، حكما لفظيا يتبع الوضعَ والعرف، ولا يتبع الحكمَ فقط. وثانيها: أن يقول: النهي عن افتراش جلود السباع مخصوصٌ بالاتفاق منا ومنكم بخروج كل جلد دُبغ من جلود السباع ما عدا جلدِ الكلبِ والخنزير عن النهي؛ فإنه لا يتناوله، وطهارةُ كل إِهابٍ دُبغ ليس (¬2) مخصوصًا بالاتفاق؛ لوجود القائل به، وما دخله التخصيصُ بالاتفاق مرجوحٌ بالنسبة إلى ما لم يدخله بالاتفاق. وهذه هي الطريقة التي سُلِكَتْ في الاستدلال على جواز صلاة ما له سببٌ من الصلوات في وقت الكراهة، حيث استدلَّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ نامَ عن صلاةٍ، أو نسيَهَا، فليصلِّهَا إذا ذكرَهَا" (¬3)، فإذا عُورِض ¬

_ (¬1) أي: أن الردَّ على القائلين بالمفهوم ... غير تام. (¬2) أي: الطهارة حكمها ليس مخصوصًا. (¬3) رواه البخاري (572)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، ومسلم (684)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، من حديث =

بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها (¬1)، وقيل: كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه، رُجِّح الأولُ بأن التخصيصَ دخل ذلك النص في عصر اليوم بالاتفاق، ولم يدخل التخصيص في ذلك النص بالاتفاق ... إلى آخر التقرير (¬2). وكذلك لمَّا قيل بقتل المرتدة، واحتُجَّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدَّلَ دينَهُ فاقتلُوهُ" (¬3)، فعُورِض بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان (¬4)، وكلُّ واحد منهما عامٌّ من وجه خاصٌّ من وجه، رُجِّح الأولُ بدخول التخصيص في حديث النهي بالاتفاق على قتل النساء في بعض الصور؛ ¬

_ = أنس - رضي الله عنه - بلفظ: "من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذ ذكرها". (¬1) رواه البخاري (556)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، ومسلم (826)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس. (¬2) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 254). (¬3) رواه البخاري (2854)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا يعذب بعذاب الله، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (2852)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل النساء في الحرب، ومسلم (1744)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

كالقصاص مثلًا، أو عند مقاتلتهن (¬1). وثالثها: أنه إن لم يُحمل النهيُ عن افتراش جلود السباع على العموم بالنسبة إلى المدبوغة وغيرِ المدبوغة، لم يصحَّ الاستدلالُ به على عدم طهارة جلد الكلب بالدباغ، وإذا كان عامًا بالنسبة إلى المدبوغ وغيرِه، فهو عامٌّ بالنسبة إلى الجلد المدبوغ، فيكون عامًا بالنسبة إلى كل جلد مدبوغ، فإذا حملناه على جلد الكلب فقط، أو على جلد الكلب والخنزير فقط، كان تنزيلًا للفظ العام على الصورة النادرة، وتنزيلُ الألفاظ العامة على الصور النادرة من غير تعدٍ إلى غيرها قد ردُّوه وأَبَوْه. ألا ترى كيف ردُّوا على الحنفية تنزيلَ قولِه - صلى الله عليه وسلم -: "أيّما امرأةٍ نكحَتْ نفسَهَا بغيرِ إذنِ وليِّهَا، فنكاحُهَا باطلٌ" (¬2) على المكاتبة، وأبطلُوا التأويلَ بأنه تنزيلُ اللفظ العام على الصورة النادرة، وعلى ما لا يجوز حملُ لفظِ الشارع؟ وكذلك ردُّ بعضِ أكابر الشافعية الاستدلالَ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ ملكَ ذا رحمٍ محرَّم عتقَ عليهِ" (¬3) على من حمله على الأصل والفرع ¬

_ (¬1) انظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 198). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (4897)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: لا نعلم أن أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان غير ضمرة، وهو حديث منكر، وقال الترمذي (3/ 647): رواه ضمرة بن ربيعة، =

فقط؛ لأنه حملٌ للصيغة العامة على الصورة المخصوصة، وقصر له عليها (¬1). وقيل: إن التعبيرَ عن الآباء والأبناء بهذا اللفظ تلبيسٌ، وقيل أيضًا: ليس كلُّ ما يشمله اللفظُ يجوز القصرُ عليه. فإن قيل: لم يحمل اللفظ العام على الصورة النادرة؛ لأن النهي محمولٌ على جلود السباع غيرِ المدبوغة، وعلى جلد الكلب، فلا ندرةَ في الحمل عندنا. قلنا: هذا اللفظُ العام يتناول نوعين، كلُّ واحد منهما عام في أفراده، فلزم على مذهبكم حملُ أحدِ العمومين في أحد النوعين على الصورة النادرة، ومثل هذا لا يلزمنا، فكان ما ذكرنا أرجح. واعلم أن هذا السؤال واردٌ على ما قالوه في مسألة التخصيص ¬

_ = عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتابع ضمرة على هذا الحديث، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث. قال البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 289): المحفوظ بهذا الإسناد حديث: "نهى عن بيع الولاء وعن هبته". وقد رد الحاكم ذلك في "المستدرك" (2851) بأن روى من طريق ضمرة الحديثين بالإسناد الواحد. وقد صححه ابن حزم، وعبد الحق، وابن القطان، كما ذكر الحافظ في "التلخيص الحبير" (4/ 212). (¬1) انظر: "البرهان في أصول الفقه" للجويني (1/ 352)، و"المستصفى" للغزالي (ص: 200)، و"الإحكام" للآمدي (3/ 66).

بالمكاتبة؛ لأن المرأةَ عامٌّ يدخل تحته الصغيرةُ والكبيرةُ والعاقلةُ، فإن تمَّ هذا السؤال فللحنفية أن يقولوا: لم نخصَّه بالصورة النادرة؛ لأناّ نحمله على المكاتبة، وعلى الصغيرة المجنونة، فلا يكون حملًا على الصورة النادرة. فتأمل هذا مع الجواب الَّذي تقدم، فأحد الأمرين لازم، إما فساد السؤال، أو تصحيحُه وإفساد الإبطال، والله أعلم. الوجه الثالث: في العدول عن ترك العموم، والقول بالتخصيص: أن الكلب ما لا يعتاد في العرف دباغُ جلده، فتنفكُّ الأفهامُ عن ذكره إذا جرى التعرض للدباغ، واللفظ ينزَّل على الاعتياد فيما يُدْبَغ، فلم يبقَ إلا عمومُ اللفظ من غير ظهور قصد التعميم، والعرف مُصادِق للعموم، فَظَنُّ الإخراجِ مع هذه القرائن أقوى من ظن الإدخال. وجوابه بالقاعدة التي قدمناها، وهي: أن المخصصَ إرادةُ قصد الإخراج عن العموم، وليس المعممَ قصدُ الإدخال للفرد المعين تحتَ العموم، ولذلك نتَّفق على إدخال بعض جلود الحيوانات التي لم تطرقْ الأسماعَ أسماؤُها، ولا رأت العيونُ أشخاصَها، ونُدرجها تحت العموم، ونحكمُ بطهارة جلودها بالدباغ، مع أنها ليست مما يغلب أن تدخل تحت القصد. الوجه الرابع من الأعذار: القياس على محل التخصيص، وهو جلد الخنزير، وهذا إن نفع فإنما ينفع في حق من يسلِّم أن جلد الخنزير لا يَطهُر بالدباغ، ومن يرى أن الجميعَ يطهر منعَ الحكمَ في الأصل، فهذا

الثانية والعشرون

عذرٌ لا يفيد في إثبات الحكم في نفس الأمر، وإنما هو إلزام لبعض المجتهدين - أو قياس - يعارضه هذا العمومُ القوي، والله أعلم. الوجه الخامس: قياس جلد الكلب بعد الدباغ على جلده حالَ الحياة، فقيل: هو بعد الدباغ جلد كلب، فكان نجسًا كحال الحياة، وهذا داخل تحت قاعدةِ تخصيص العموم بالقياسِ الشَّبَهي، أو قياسِ العلة التي لم يُومَأ إليها في النص، وقد تقدم الكلامُ فيه. ومن يرى الموازنة بين الظنَّين في مسألة معارضة القياس للعموم، فعليه اعتبارُ ذلك هاهنا، ولا أظنُّه يخفى وجهُ الرجحان عمَّن نظرَ في ذلك. الثانية والعشرون: لمَّا كان النظرُ الصحيح بالنسبة إلى هذا القياس ودلالة النص، هو الترجيح بين الظنين، فإن كلَّ ما يقتضي الترجيح يُحتاج إليه في التخصيصِ والكلامِ على الحديث، وكذلك ما يدفع ذلك الراجح يُحتاج إلى النظر فيه، فمن الأسئلة الضعيفة التي وُجِّهت على هذا القياس منعُ كونِ هذا جلدَ كلب، وإنما هو جلدُ ما كان كلبًا، وهذا بناء على أن الجلد (¬1) كان كلبًا باعتبار أوصاف قامت به، فإنَّ بعضَها انتفى بموته، فانتفت الحقيقةُ بانتفاء بعضِها بعد الموت. وجوابه: أن الأحكام تترتَّبُ على المتعارف بين الناس، وما يطلقون عليه الألفاظ، لا على الحقائق العقلية، والناس يطلقون على الكلب ¬

_ (¬1) "ت": "العبد" بدل "الجلد"، ولا أرى له وجهًا.

الثالثة والعشرون

اسمه بعد الموت إطلاقَهم إيَّاه عليه قبل الموت، وتبدُّل الحياة والموت عليه كتبدل صفة الصغر والكبر، فلا ينتفي به الإطلاق. الثالثة والعشرون: من الأسئلة التي لا نأنس بها: أن جلدَ الميتة نجسُ الذات، ويؤثر الدباغ فيه، والكلب إذا ثبتت نجاستُه في حال الحياة، فليس فيه أكثرُ من أن نجاسةَ ذاته في أزمنة أكثرُ من نجاسة ذاتِ جلد الميتة، وهذا ضعيفُ الأثرِ بعد الحكم بأن نجاسة الذات لم تنافِ تطهيرَ الدباغ. الرابعة والعشرون: لقائل أن يقول: القول بطهارة جلد الكلب لا يتوقف إلا على ثبوتِ هذا الحديث، وتناولِ صيغة العموم له، وكلاهما ظاهرُ الثبوت؛ لتخريج الأول في الصحيح، ودلالة صيغة العموم بالاتفاق من القائلين به. وأما القول بنجاسته بعد الدباغ فيتوقف على أن يكونَ الكلبُ نجسًا في حال الحياة، ثم على أن الدباغ لا يَرفعُ إلا نجاسةً ثبتت بالموت، وإثبات نجاسة الكلب من دلائلَ أُخرَ، أقواها قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "طَهُورُ إناءِ أحدِكُم ... " الحديث (¬1)، وهو يتوقف على أن لفظة "طَهور" لا تستعمل إلا في حَدَثٍ أو خَبَثٍ، ثم على أن ذلك الخبث هو نجاسة عين اللُّعاب، ثم أن نجاسة عين اللعاب تدل على نجاسة الفم، ثم أن نجاسة الفم تدل على نجاسة باقي الذات، وأن الدباغ لا يرفع إلا نجاسةً ثبتت بالموت. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الخامسة والعشرون

الخامسة والعشرون: إذا ثبتت الملازمةُ بين نجاسة ذات الكلب في حال الحياة ونجاسةِ جلده بعد الدباغ، فمن المعلوم أن إثباتَ الملزوم يلزم منه إثباتَ اللازم، وانتفاءَ اللازم يلزم منه انتفاءَ الملزوم. فكما يقال: الكلب نجس في حال الحياة فلا يطهر جلدُه بالدباغ، وثبتت نجاستُه في حال الحياة بدليل من خارج، وهو الملزوم، فثبتت نجاسة جلده بعد الدباغ، وهو اللازم. فكذلك يمكن أن يقال: جلده طاهر بعد الدباغ، فلا يكون نجسًا في حال الحياة كما يعتقده المالكي وغيره. وطريقه أن يقول: لو كان نجسًا في حال الحياة لما طهر جلده بالدباغ، لكن يطهر بالدباغ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر"، فلا يكون نجسًا في حال الحياة، والملازمة يثبتها بعين ما أثبته أصحاب الشافعي - رحمهم الله -، وانتفاء اللازم يثبته بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر"، وحينئذ يبقى النظرُ في المقابلة بين دليل ثبوت الملزوم وبين دليل انتفاء اللازم، وأيهما أرجح فيعمل به. السادسة والعشرون: الذين منعوا تأثيرَ الدباغ في طهارة الجلد مطلقًا اعتمدوا على حديث عبد الله بن عُكَيم: "أتانا كتابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ موتِهِ بشهرٍ أن لا تنتفعُوا من الميتةِ بإهابٍ ولا عصبٍ". وهو حديث أخرجه أصحابُ السنن؛ أبو داودَ، والترمذيُّ والنسائي، وأخرجه ابنُ

خزيمةَ في "صحيحه" (¬1)، وفي ألفاظه اختلاف، ويعارضه هذا الحديثُ وغيرُه، مثل حديث شاة ميمونة في الانتفاع بجلد الميتة بعد الدباغ (¬2). فيحتاج هؤلاء إلى الاعتذار عن تلك الأحاديث وفي ذلك طرق: الأول: ادِّعاء النسخ، وأن حديثَ المنعِ متأخرٌ عن حديث الإباحة، وذلك لوجوه: أحدها: التاريخ الَّذي ذكره في حديث عبد الله بن عُكَيم بالشهر أو بالشهرين، وهذا بناء على أن المؤرَّخَ مقدمٌ على المطلق إذا تعارضًا، وقد قيل: يجوز أن تكون الإباحة قبل موته بيوم أو يومين، وهذا مصير إلى عدم التقديم. وثانيها: ما في كتاب البخاري: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى من ماء في غزوة تبوك من شَنٍّ مُعلَّقة، فقيل: يا رسول الله! إنها ميتة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دِباغُ الأديمِ طَهورُهُ" (¬3)، فاستدل بذلك على تقدم الإباحة على المنع. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. ولم أره عند ابن خزيمة فيما طبع من "صحيحه". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) لم أقف عليه عند البخاري بهذا السياق، ولا ذكره المؤلف رحمه الله في "الإمام". قلت: وقد تقدم تخريجه من حديث سلمة بن المحبق - رضي الله عنه - بنحو اللفظ المذكور.

ووجهُ الدليل: أن أهلَ السير والتاريخ يذكرون أنَّ غزوةَ تبوك كانت في رجب سنة تسع، ودخول النبي - صلى الله عليه وسلم - منها إلى المدينة في رمضان، وهذا قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بشهور عديدة، فيكون كتابُ المنعِ قبلَ موته بشهر متأخرًا عنه. وثالثها: روى البخاريّ عن ميمونة: "ثم ما زلنا ننبذُ فيه حتى صار شنًّا" (¬1)، ولا تصيرُ القِربة شنًا في استعمال شهر، فتكون الإباحة متقدمة على الشهر. ورابعها - وهو أقوى الأدلة في التأخير -: ما في بعض الروايات: "كُنْتُ رخَّصتُ لكمْ في جلودِ الميتةِ" (¬2)، وهو لفظ يدل على تقدُّم الترخيص على المنع بنفسه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6308)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إن حلف أن لا يشرب نبيذًا فشرب طلاء أو سكرًا أو عصيرًا، لم يحنث في قول بعض الناس، لكن من حديث سودة رضي الله عنها. قال البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 17): ورواه عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل فقال: "عن ميمونة" بدل "سودة". (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (104)، ومن طريقه: الخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (2/ 171)، من حديث فضالة بن المفضل ابن فضالة، عن أبيه، عن يحيى بن أيوب، عن أبي سعيد البصري، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عكيم، به. قال الطبراني: لم يروه عن أبي سعيد البصري إلا يحيى بن أيوب، تفرد به فضالة بن المفضل، عن أبيه، وانظر: "نصب الراية" للزيلعي (1/ 121).

فأما الوجه الأول: فقد ذكرنا أنه ينبني على تقديم المؤرَّخ على المطلق، وفيه خلاف، وكذلك الثاني. وأما الثالث: فإن دلَّ فإنما يدل على تقدم الإباحة في جلد شاة ميمونة على المنع، ولا يدل على تقدم الإباحة مطلقًا على المنع، والإباحة لم ينحصرْ طريقُها في التعليق بحديث شاة ميمونة، وإذا لم ينحصر، فلا امتناعَ من تأخُّر الإباحة في غير حديث ميمونة، كهذا الحديث الَّذي نحن فيه المقتضي للإباحة مطلقًا. وَيرِدُ على هذا: أنه إذا ثبت تقدمُ الإباحة في حديث ميمونة على المنع، فلو تأخرتْ إباحةٌ أخرى عن المنع لزم النسخُ مرتين، وفي ذلك تكثيرُ مخالفةِ الدليل. وإنما رددنا القولَ في دَلالة الحديث على الإباحة؛ لأن قولَها: "فما زلْنَا ننبذُ حتى صارَ شنًا"، إنما يدل على التقدم على الشهر إذا كان دالًا على كونه صار شنًا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس في اللفظ ما يدل عليه، فجاز أنْ يستمرُّوا على استعماله بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أنْ يصيرَ شنًا، ويمكن لمُدَّعٍ (¬1) أنْ يدَّعيَ أن هذا خرج مَخرجَ الاستدلال، ولا دليلَ إلا في فعل الرسول أو قوله أو إقراره، فلو انتفى كلُّ ذلك لم يصحَّ الاستدلال، ويمكن أن يُنازَعَ في هذه الدعوى. ¬

_ (¬1) "ت": "مدعي".

وأما الوجه الرابع: وهو اللفظ الدال على تقدم الإباحة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُنْتُ رخَّصتُ لكم": فيتوقف على إثبات هذه اللفظة بعينها، وقد زعم بعضُ من ينسب إلى الحفظ من المتأخرين أنها بعيدةُ الثبوت، وكأن هذا كلامٌ لم يُحط به خُبْرًا، وهو حديث رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي من رواية أبي سعيد البصري (¬1)، من جهة الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عُكَيم قال: جاءنا كتابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن بأرض جُهَينة: "إنِّي كُنْتُ رخَّصتُ لكم في إهابِ الميتةِ وعصبِهَا، فلا تنتفعوا بعصبٍ ولا إهابٍ". وذكر ابن عدي، عن علي بن المديني أنه قال في أبي سعيد: كان ثقةً، وكان من أصحاب يونس، كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه كتاب صحيح. قال علي: وقد كتبنا (¬2) عن ابنه أحمد بن أبي سعيد. وقد ذكر ابن عدي: أنه حدث عنه ابنُ وهب بالمناكير (¬3)، وقد ذكرت في كتاب "الإمام في أحاديث الأحكام": أن لقائل أن يقول: إذا ثبت توثيقه بقول علي بن المديني، فلْتُعَدَّ هذه تفردات ثقة؛ أعني: الأحاديث التي قيل: إنها منكرة، رواها عنه ابن وهب (¬4). ¬

_ (¬1) عن شعبة. (¬2) في "الإمام" للمؤلف (1/ 321): "كتبتها"، وفي المطبوع من "الكامل": "كتبها". (¬3) انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (4/ 30 - 31). (¬4) انظر: "الإمام في معرفة أحاديث الأحكام" للمؤلف (1/ 322).

الطريق الثاني في الاعتذار: تأويل لفظ "طَهُر" على صلح وطاب ونظف، بناءً على إباحة استعمال الجلد بعد الدباغ، ويحمل "طهر" على مثل هذا، وهذا كما في قوله تعالى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55]، وهذا يرجع إلى القاعدة التي ذكرناها من وجوب حمل الألفاظ الشرعية على حقائقها الشرعية. وهذا التأويل إما أن يقال فيه: إنه حمل للفظ على حقيقته اللغوية، وهي أن الطهارة هي الوَضاءة والنظافة، وما أشبه هذا، أو على المجاز الشرعي. ومما يضعف هذا التأويل أن يقال: إن الحاجة إنما مسَّت إلى معرفة الطهارة الشرعية؛ لاعتقاد أن الموت ينافيها، والجواب كان على ذلك، ثم يحتاج إلى بيان عاضد مرجح لهذا التأويل على العمومِ، وقرينةِ الحال في أحاديث الطهارة، وفيه عسر. وممَّا يدل على أن السؤال كان عن الطهارة الشرعية، والجواب كان عن ذلك، الحديثُ الصحيح عن ابن وعلةَ السبأي قال: سألت ابنَ عباس، قلت: إنا نكون بأرض المغرب، ومعنا البربرُ والمجوسُ، نؤتى بالكبش قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحَهم، ونُؤتى بالسِّقاء يجعلون فيه الوَدَك، فقال ابنُ عباس: قد سألنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "دِبَاغُهُ طَهُورُه" (¬1). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (366/ 106).

السابعة والعشرون

وكذلك قولُهم في حديث ميمونة بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هلَّا أخذْتُم إهابَها فدَبغْتُموه، فانتفعْتُم به؟ " قالوا: إنها ميتة، قال: "إنَّما حَرُم أكلُها" (¬1). وكذلك قولهم: لما استسقى - صلى الله عليه وسلم - من شَنٍّ معلقة، فقال: يا رسولَ الله! إنها ميتة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "دِباغُ الأديمِ طَهُورُه" (¬2). السابعة والعشرون: الذين قالوا بطهارة الجلد بالدباغ يحتاجون إلى الجواب عن حديث عبد الله بن عُكَيم، والذي يقال فيه وجوه: الأول: التعليل باضطراب الإسناد، قال الترمذيُّ: سمعت أحمدَ بن الحسين يقول: كان أحمدُ بن حنبل يذهب إلى حديث عبد الله بن عُكَيم لما ذكر فيه: "قبل وفاته بشهرين"، وكان يقول: هذا آخر أمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم ترك أحمدُ هذا الحديث لمَّا اضطربوا في إسناده، حيث يروي بعضُهم: قال عبد الله بن عُكَيم عن أشياخ من جُهَينة (¬3). وفي كتاب الحافظ أبي الحسن علي بن المفضل المقدسي (¬4) ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "سنن الترمذي" (4/ 222). (¬4) هو الإمام الحافظ الكبير علي بن المفضل بن علي أبو الحسن المقدسي ثم الإسكندراني المالكي، جمع وصنف، وبرع في المذهب، وكان مقدمًا فيه، وفي الحديث، له تصانيف محررة، وكان ذا دين وورع، وأخلاق =

شيخ شيوخنا: وقد اعتمد الأصحاب على حديث عبد الله بن عُكَيم، ثم ذكره، قال: وهو ضعيف في إسناده، قابل للتأويل في مراده. وأقول: قولُه: وهو ضعيفٌ في إسناده، لا يُحمل على الطعن في الرجال، فإنهم ثقاتٌ إلى عبد الله بن عكَيم، وإنما ينبغي أن يحملَ على الضعف بسبب الاضطراب، كما ذكرنا عن أحمد بن حنبل رحمه الله (¬1). وأبو حاتم ابن حبان قد أخرجه في "صحيحه" (¬2). الوجه الثاني: القول بموجبه بناء على أن الإهابَ اسم للجلد قبل الدباغ، وقد تقدم الخلافُ فيه بين نَقَلة اللغة، وأن بعض أهل اللغة يجعل الإهابَ اسمًا للجلد من غير تقييد، وهو قول الهُنائي في "مجرده" (¬3)، والزُّبيدي في "مختصره" (¬4)، والأزهري في "تهذيبه" (¬5)، ¬

_ = رضية، توفي سنة (611 هـ). انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 290)، و"سير أعلام النبلاء" (22/ 66)، و"تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (4/ 1390). (¬1) نقله عنه الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 47). (¬2) برقم (1277). (¬3) هو كتاب: "مجرد الغريب" على مثال "العين" في اللغة، للإمام النحوي علي ابن الحسن أبي الحسن الهنائي الدوسي المصري المعروف بكُراع النمل، توفي بعد سنة (307 هـ). انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 358). (¬4) تقدبم ذكره والتعريف به، وهو "مختصر العين". (¬5) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (6/ 245)، (مادة: أهب).

وقال الأزهري في "غريب كتاب المزني": وكل جلد عند العرب إهاب (¬1). وعلى قول هؤلاء لا يتمُّ القولُ بالموجب. الوجه الثالث: التخصيص، وهو مبنيٌّ على أن الإهاب اسم للجلد مطلقًا، فإذا كان كذلك، فهو عامٌّ فيما قبلَ الدباغ وبعدَه، فنخصه بما قبل الدباغ، وهذا يُحوِج إلى قاعدتين قدمناهما؛ إحداهما: أن لا يُقدَّم المؤرَّخ. والثانية: حكمُ العام مع الخاص إذا جُهل التاريخ. الوجه الرابع: الترجيح، وهذا مذكور عن الشافعي - رحمه الله - في المناظرة التي ذكرها أبو الشيخ الحافظ، قال: إن إسحاق بن راهويه ناظر الشافعيَّ وأحمدَ بن حنبل (¬2) في جلود الميتة إذا دبغت، فقال الشافعي: دباغُها طهورُها، فقال له إسحاق: ما الدليل؟ فقال: حديث االزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هلَّا انتفعْتُم بإهابِهَا". فقال له إسحاق: حديث ابن عُكَيم: كتب إلينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ موته بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتة بإِهابٍ ولا عَصَبٍ، فهذا يشبه أن يكون ناسخًا لحديث ميمونة؛ لأنه قبلَ موتِه بشهر. ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 38). (¬2) في المطبوع من "غرر الفوائد" لابن العطار: "بحضرة الإمام أحمد" ولعله كذلك؛ إذ المناظرة معروفة بين الإمامين الشافعي وإسحاق بن راهويه.

الثامنة والعشرون

فقال الشافعيُّ - رضي الله عنه -: هذا كتاب، وذاك سماع. فقال إسحاق: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى وقيصرَ فكانت حجةً عليهم عند الله. فسكت الشافعيُّ، فلما سمع ذلك أحمدُ ذهب إلى حديث ابن عُكَيم، وأفتى به، ورجع إسحاقُ إلى حديث الشافعي (¬1). قلت: وكان والدي - رحمه الله - يحكي عن شيخه الحافظ أبي الحسنن علي المقدسي، وكان من مشاهير من ينسب إلى مذهب مالك: أنه كان يرى أن حجةَ الشافعي باقيةٌ، يريد: لأن الكلامَ في الترجيح بالسماع والكتاب، لا في إبطال الاستدلال بالكتاب. هذا معنى ما احتج به الشيخ، أو ما يقاربُه، والله أعلم. الثامنة والعشرون: اختلفوا في نجاسة الآدمي بالموت، وإذا قيل بنجاسته، فهل يطهر جلدُه بالدباغ؟ على وجهين للشافعية، وقيل: أظهرُهما: نعم؛ لعموم الخبر، والثاني: لا يطْهُر؛ لما فيه من الامتِهان (¬2). قلت: لا شك في تناول العموم له؛ فإما أنْ يخصَّ عنه بالعادة الفعلية كما أشرنا إليه في بعض الأعذار عن استثناء جلد الكلب، وقد ¬

_ (¬1) روى الحكاية: الحافظ رشيد الدين ابن العطار في "غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة" (ص: 325 - 327). (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 290).

التاسعة والعشرون

قدَّمنا الجوازَ عنه، على أن هذه المرتبةَ أقربُ من مرتبة استثناء جلد الكلب عن العموم، وإلى الإخراج عنه، وإما أن يخصَّ بما ذُكِر من الامتهان، وربما قيل: لأنه معصية، إلا أن هذه المعصيةَ مجانبةٌ لمقصود الدباغ، لا تعود بخَلَل ولا نقص فيه، فيمكن أن يُردَّ إلى أنَّ الرخصَ لا تُناطُ بالمعاصي، بعد تقرير أنَّ تطهيرَ الدباغ للجلد رخصةٌ، والله أعلم. التاسعة والعشرون: ويمكن من يقول بتنجيس الآدمي بالموت أن يستدل بالحديث، فيقول: إن كان يطهر جلدُه بالدباغ فقد نجس بالموت، والملزومُ ثابتٌ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبغ" فاللازم ثابت، وهو النجاسة بالموت. وبيان الملازمة: أن التطهيرَ بالدباغ يقتضي عدمَ الطهارة قبل الدباغ، وعدمُها بحصول النجاسة. الثلاثون: اختلفوا في طهارة ما لا يؤكل لحمُه بالذكاة، ومذهب الشافعي: عدم الطهارة (¬1)، وعن أبي حنيفة: ثبوتُها (¬2)، واستدلَّ لعدم الطهارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر"، وطريق الاستدلال من وجهين: أحدهما: أن الحديث يقتضي ترتبَ حكم الطهارة على الدباغ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 299). (¬2) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 69).

الحادية والثلاثون

عمومًا في كل جلد، وذلك يقتضي عدمَ الطهارة في المسألة المذكورة؛ لأنه يدخل تحت العموم جلدُ ما لا يؤكل لحمُه إذا ذُكِّي، فتكون الطهارةُ فيه مترتبةً على الدباغ، وعلى تقدير تأثير الذكاة في الطهارة لا تكون الطهارةُ مترتبة على الدباغ؛ لحصولها قبلَه بالذبح. وثانيهما: أن الحكم بطهارته بالدباغ يقتضي نجاستَه قبلَه، فلا يكون طاهرًا. الحادية والثلاثون: هل يقع الاتِّفاق على تخصيص هذا العموم، أم لا؟ وأما على ما حكيناه في هذه المسألة السابقة: أن قوله: "فقد طَهُر" يقتضي أن يطهرَ بالدباغ، فالتخصيص ظاهر؛ لأن جلد ما ذكي من المأكول طاهر لا تتوقف طهارتُه على الدباغ، فيخرج عن هذا العموم. ويحتمل أن يكونَ المرادُ: أيُّما إهاب نجس دبغ فقد طهر، ويدل على ذلك أن الطهارةَ تكتسب لتقدم النجاسة، ويكون من باب حذف الصفة، فعلى هذا لا يلزم التخصيصُ فيما دلَّ عليه الحديثُ بالاتفاق؛ لذهاب بعض العلماء إلى أن كلَّ جلد نجس يطْهُر بالدباغ. وهذا يقال فيه: إنه من أمثلة تعارض المجاز والتخصيص؛ لأنَّا إذا قدرنا: كل إهاب نجس، ففيه مجاز الحذف، وإذا لم نقدر ذلك لزم التخصيصُ على ما قررناه، وهو وإن كان قد قُرِّر في الأصول تقديمُ التخصيص على المجاز، إلا أنَّ الأغلبَ على الظنِّ - والله أعلم -

الثانية والثلاثون

أنَّ المقصودَ تعميمُ الطهارة فيما يدبغ من الأُهُب النجسة، وليس يمتنع أن يتقدمَ المرجوح، لا من حيث هو، بل بقرائنَ خارجةٍ عن ذاته تقتضي غلبةَ الظن بترجيحه، والقرينة هاهنا: أن المقصود بيانُ الطهارة، وإن ما يُتخيَّلُ راجحًا، [و] هو النجاسة بالموت، فهو زائل بالدباغ، وأما ما تقررت طهارتُه، فغنيٌّ عن البيان لطهارته. الثانية والثلاثون: قد قدمنا في بعض وجوه الترجيح بين الحديثين اللذين أحدهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر"، والثاني: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن افتراش جلود السباع، أنا قلنا: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن افتراش جلود السباع مخصوص بالاتفاق، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دبغَ فقد طَهُر" غير مخصوص بالاتفاق، فترجح العمل به على مُعارِضِهِ، وهذا البحث الَّذي ذكرناه في المسألة قبلها يقتضي دخولَ التخصيص أيضًا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دُبِغَ فقد طَهُر"، وهو التخصيص فيما ذكي، وقد ذكرنا ما يحتمل أن يُورَدَ عليه، فإن تَمَّ الجوابُ عنه بما ذكرناه، تمَّ ذلك الترجيحُ، وإن لم يتمَّ فطريقُ الترجيح أن يقال: ما ذكرتموه من التخصيص بما ذُكر مشتركٌ بيننا وبينكم، وتَنْفَرِدُون بتخصيص آخر، وهو إخراج جلد الكلب والخنزير، فما ذكرتموه فيه زيادةُ مخالفةٍ للدليل، وما ذكرناه فيه تعليلُ ذلك، فكان ما ذكرناه أولى. الثالثة والثلاثون: قوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا دُبغَ" يقتضي فعل فاعل للدِّباغة، والفقهاءُ لا يوقفون الطهارة بالدباغ على فعل فاعل، فلو

الرابعة والثلاثون

أطارت الريحُ الجلدَ فألقته في المَدْبَغة فاندبغ، طَهُر، والسبب فيه ما فهم من أنَّ الموجبَ للتطهير بالدباغ ما يحدثُهُ الدباغ في الجلد من الطِّيب، وينقله عن حاله من الخَبَث، وأن هذا الموجب لا تفاوتَ فيه بين القصد وعدم القصد، وصار هذا كما عُلم أن الماء مطهر للنجاسة، وأن ما يحصل من التطهير به حاصلٌ وإن لم يُقصد، حتى لو انجرَّ السيلُ ومرّ على نجاسة بالأرض فأزالها، طهرت الأرض، وهذا من المعاني القوية التي يقوى في النفس تقدُّمُها على الظاهر البعيد. الرابعة والثلاثون: إذا دبغَ الجلدَ غيرُ مالكه طَهُر؛ لأنه مندرجٌ تحت اللفظ؛ أي: تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابٍ دبغَ فقد طَهُر"، وهذا إهاب دبغ فطهر. وأما اختلاف الشافعية في أن الغاصب الدابغ؛ هل يملك الجلد، أو يكون للمالك، أو يُفرَّق بين زوال يد المالك قبل دبغه، أو إزالتها بفعل الدابغ (¬1)؟ فمما لا يتعلق بهذا اللفظ، وليس يبعد من الظاهري أن يقول: لا يطهر هذا الجلد بالدباغ من غير المالك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ منه فهو ردٌّ" (¬2)؛ أي: مردود، وهذا الدباغ ليس من أمره - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه معصية، ¬

_ (¬1) انظر: "التنبيه" للشيرازي (ص: 116). (¬2) رواه البخاري (2550)، كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، ومسلم (1718)، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، من حديث عائشة رضي الله عنها.

الخامسة والثلاثون

فيكون مردودًا، وردُّه بفساده، وترتب حكمه عليه (¬1). الخامسة والثلاثون: لمَّا كان الحكم متعلقًا بالدباغ، وجب أن يُعلمَ ما يحصلُ به مسمَّى الدباغ؛ لترتبِ الحكم عليه، وقد ذكر أقضى القضاة الماوردي الشافعي في كتابه "الحاوي": أنه جاء الخبر بالنص على الشَّبِّ والقَرَظ (¬2)، قال: واختلف الفقهاء، فذهب أهل الكوفة إلى ¬

_ (¬1) الَّذي وجدته عن ابن حزم رحمه الله في "المحلى" (11/ 335 - 336) قوله: وأما من سرق ميتة، فإن فيها القطع؛ لأن جلدها باق على ملك صاحبها، يدبغه فينتفع به ويبيعه. فإن قيل: ما الفرق بين الخنزير والميتة، أوجبتم القطع في الميتة من أجل جلدها، ولم توجبوا القطع في الخنزير، فهلَّا أوجبتموه من أجل جلده وجلد سائر الميتات، سواء في جواز الانتفاع به وبيعه إذا دبغ؟ ثم قال: وأما الخنزير فلا يقع عليه في حياته ملك لأحد؛ لأنه رجس محرم جملة، فمن سرقه حيًا أو ميتًا فإنما أخذ مالًا لا مالك له ... ثم قال: وكل شيء منه حرام جملة لا يحل لأحد تملك شيء منه إلا الجلد فقط بالدباغ؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما إهاب دبغ فقد طهر"، انتهى. (¬2) قال النووي في "خلاصة الأحكام" (1/ 77): وقولهم في كتب الفقه: "الشث والقرظ" باطل لا أصل له. وقال في "المجموع في شرح المهذب" (1/ 281): واعلم أنه ليس للشب ولا الشث ذكر في حديث الدباغ، وإنما هو من كلام الإمام الشافعي رحمه الله، وقد قال صاحب "الحاوي" وغيره: جاء في الحديث النص على الشث والقرظ، كذا نقله الشيخ أبو حامد عن الأصحاب، فإنه قال في "تعليقه": الَّذي وردت به السنة، ثم ذكر حديث ميمونة: "أوليس =

أن حكم الدباغ مقصورٌ عليه، وأنه لا يصح إلا به؛ لأن الدباغةَ رخصةٌ، فاقتضى أن يكونَ حكمُها مقصورًا على النص، وقال أبو حنيفة: المعنى في الشَّبِّ والقَرَظ أنه منشِّفٌ مجفِّفٌ، وكلُّ شيء كان قيه تنشيفُ الجلد وتجفيفُه جاز به الدباغُ حتى بالشمس والنار. قال: ومذهبُ الشافعي أنَّ المعنى في الشَّبِّ والقَرَظ أن يحدثَ في الجلد أربعة أوصاف: أحدها: تنشيفُ فضوله الظاهرة ورطوباتِه الباطنة. الثاني: تطييبه، وإزالة ما طرأ عليه من سُهوكة (¬1) ونتن. الثالث: نقل اسمه من الإهاب إلى الأديم، والسبت، والدَّارِش. الرابع: بقاؤه على هذه الأحوال بعد الاستعمال. فكلُّ شيء أثر في الجلد هذه الأوصاف الأربعة من الخشب ¬

_ = في الماء والقرظ ما يطهرها"، قال: هذا الَّذي أعرفه مرويًا. قال: وأصحابنا يروون "يطهره الشث والقرظ" وهذا ليس بشيء. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 49): فهذا شيخ الأصحاب قد نص على أن زيادة "الشب" في الحديث ليست بشيء، قكان ينبغي للإمام الجويني والماوردي ومن تبعهما أن يقلدوه، انتهى. قلت: وقد روى أبو داود (4126)، كتاب: اللباس، باب: في أهب الميتة، والنسائي (4248)، كتاب: العقيقة، باب: ما يدبغ به جلود الميتة، من حديث ميمونة رضي الله عنها في الشاة الميتة، أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "يطهرها الماء والقرظ". (¬1) السهوكة: الريح القبيحة.

وقشور الرمان والعفص جاز به الدباغ؛ لأنه في معنى الشَّبِّ والقَرَظ، وصحح ذلك من وجهين: أحدهما: أنه لما أثر الشَّبُّ والقَرَظ هذه الأوصافَ الأربعةَ، لم يكن اعتبارُ بعضِها في الدباغة بأولى من بعض، فصار جميعُها معتبرًا، ولم يكن حكمها في الشَّبِّ والقَرَظ مقصورًا؛ لأنها في غيرها موجودةٌ. والثاني: أن للدباغة عرفًا في العرف، ولم تكن في عرفهم مقصورة على الشَّبّ والقَرَظ كما قال أهل الظاهر؛ لاختلاف عادتهم في البلاد، ولا اقتصروا فيها على مجرد التجفيف بالشمس، كما قال أبو حنيفة، فصار كلا المذهبين مدفوعًا بعرف الكافة، ومعهود الجميع. فثبت بهذين جوازُ الدباغة بما سوى الشَّبِّ والقَرَظ، إذا أحدث في الجلد ما ذكرناه من الأوصاف الأربعة (¬1). قلت: ما ذكره الماوردي عن الظاهرية ذُكر وجهًا عند الشافعية؛ أعني: اختصاص الدباغ بالشَّبِّ والقرظ، وشُبِّه باختصاص ولوغ الكلب بالتراب على الأظهر. وحكي عند الشافعية وجهٌ آخر: أن التجميد بالإلقاء في التراب والشمس يكفي (¬2). وكلام الماوردي - رحمه الله -، للنظر فيه مجال. ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 62 - 63). (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 292 - 293).

السادسة والثلاثون

السادسة والثلاثون: اختلفت الشافعيةُ في وجوب استعمال الماء في أثناء الدباغ على وجهين، رُجِّح منهما عدمُ الوجوب، واستدلَّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما إهابِ دبغَ فقد طهرَ" (¬1). فإن كان الدباغ يتأتَّى بدون استعمال الماء فيه، فالحكم صحيح، والاستدلال ظاهر. وإن كان لا يتأتى في العادة إلا باستعمال الماء فيه، فإن كان اسم الدباغ ينطلق عليه، وإن لم يستعمل، فهو راجع إلى تخصيص العموم بالعادة الفعلية، وإن كان لا يستعمله (¬2) إلا بذلك يُخصَّص به. السابعة والثلاثون: إذا وقع الدباغ بشيء طاهر، فهل يجب إفاضة الماء على ظاهره؟ فيه اختلافٌ عند الشافعية، رُجِّح منه الوجوب؛ لإزالة الأجزاء التي تنجست بملاقاة الجلد (¬3). والحديث بظاهره يدل على عدم الوجوب؛ لترتب الطهارة على مسمى الدباغ، وقد حصل، إلا أنَّ وجوبَ الإفاضة عليه مبنيٌّ على قاعدتين قويتين: إحداهما: أن الأجزاء قد نجُست بالملاقاة للنجاسة، وهذا مقطوع به. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (1/ 293). (¬2) أي: لا ينطلق عليه الاسم إلا باستعمال الماء. (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 293).

الثامنة والثلاثون

والثاني: أن الماءَ متعيِّنٌ لإزالة النجاسات، وهذا منشأ عليه الحكمُ (¬1) المذكور عند القائلين به. فلقوةِ القاعدتين قد يترجح العملُ بهما على مجرد الظاهر من حيث يُعتقد: أن المقصود إنما هو تعريفُ تأثيرِ الدباغ في طهارة الجلد. الثامنة والثلاثون: الجديد من مذهب الشافعي أنه يطهر ظاهرُ الجلد وباطنُه (¬2). ودليله الحديث، وهو ظاهر؛ لأن الطهارة أضيفت إلى الإهاب، وهو حقيقة في الجملةِ ظاهرِها وباطنِها. وللشافعي قولٌ قديمٌ أنه يطهر ظاهرُه دون باطنِه، ووجهه: الجمع بين حديث المنع، وأحاديث الانتفاع، بحمل الأول على الباطن، والثاني على الظاهر (¬3). وهو ضعيف. التاسعة والثلاثون: في قاعدة يبنى عليها غيرُها: إذا كان السبب حاصلًا ترتَّبَ عليه وجودُ المسبَّبِ ظاهرًا إلا لمانع، وإذا ارتفع مانع لم يترتب عليه ثبوت الحكم، إلا إذا انحصر المانع في المرتفع، وقد يشتبه ارتفاعُ المانع بوجود السبب من حيثُ إنَّ الحكم قد يثبتُ عَقيب كلِّ واحد منهما. ¬

_ (¬1) "ت": "والحكم". (¬2) المرجع السابق (1/ 294). (¬3) المرجع السابق (1/ 295).

الأربعون

الأربعون: اختلفوا في جواز بيع الجلد المدبوغ، فقيل بالجواز، واستُدِلَّ عليه بأنه طاهرٌ، فجازَ بيعُه كغيره. واعتُرِض: بأن الطهارة لا يلزم منها جوازُ البيع بدليل أم الولد، فإن كان المُستدِلُّ اعتقد بأن الطهارة سببٌ لجواز البع، فيثبت الجواز عملًا بالسببية، فالسؤالُ واردٌ عليه. وإن اعتقد أن النجاسة [هي] (¬1) المانعُ من جواز البيع فيه دون غيرها؛ لفرضه وجودَ بقية الشرائط، فاستدلاله صحيح، والاعتراض عليه لا يصح؛ لأن المقتضي عنده للطهارة هو زوالُ المانع المتعين، وفي مسألة أمِّ الولد النجاسة ليست مانعةً أصلًا، ولا مدخل لها في المانعيَّة، وإنما المانع تعلُّقُ حقِّ الحرية. الحادية والأربعون: الدالُّ على وجود الملزوم، دالٌّ على وجود لازمه، من لوازم حصول الطهارة جوازُ الصلاة به وعليه، وقد حصلت بدلالة الحديث، فتجوز الصلاةُ عليه. الثانية والأربعون: ومن لوازمها: جواز استعماله في اليابسات والمائعات. الثالثة والأربعون: اختلفوا في جواز أكل جلود الميتة بعد الدباغ على وجوه عند الشافعية: ¬

_ (¬1) "ت": "هو".

الرابعة والأربعون

ثالثها (¬1): الفرق بين جلد ما كان مأكولًا فيجوز، وبين ما لم يكن مأكولًا فلا يجوز، والمنقول عن جديد قولي الشافعي: الجواز فيما كان مأكول اللحم، وعن القديم منعُه، واستدل للأول (¬2) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما حَرُم أكلُها" (¬3). الرابعة والأربعون: اختلفوا في نجاسة الشعور من الميتة، فظاهرُ مذهب الشافعي التنجيس (¬4)، ومذهب مالك الطهارة (¬5). فإذا قيل بالنجاسة، فدُبِغَ جلدٌ وعليه شعرُهُ، فهل يَطْهُر الشعر، أم لا؟ اختلف فيه عند الشافعية، وعُلِّل المنعُ بأن الدباغ لا يؤثر فيه (¬6). ويمكن أن يُستدلَّ للجواز بالحديث، لأن اسم الإهاب ينطلق على الجلد بشعره، فيقال: هذا إهاب الميتة، ولا يلزم أن يقال: هذا إهابُها وشعرُها، وإذا انطلق الاسم عليه حصلت الطهارة، ومما يؤيده حديثُ أبي الخير قال: رأيت على ابن وَعْلَةَ فَروًا، فمسستُه، فقال: قد سألت عبد الله بن عباس، قلت: إنَّا نكون بأرض المغرب، ومعنا ¬

_ (¬1) أي: الأول الجواز، والثاني المنع. (¬2) أي: القديم، وهو الَّذي ذكره آخرًا. (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 299). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 189). (¬6) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 299).

الخامسة والأربعون

البربرُ والمجوسُ، نُؤتَى بالكبش قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحَهم، ونؤتى بالسِّقاء يجعلون فيه الوَدَك، فقال ابن عباس: قد سألنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "دِباغُهُ طَهورُهُ" (¬1). وقد ذكرنا في "الإمام" (¬2) من حديث إبراهيم بن عبد الله العبسي، حدثنا عبيد الله، ثنا ابن أبي ليلى، عن ثابت البُنَاني قال: كنت سابعَ سبعة (¬3) مع عبد الرحمن بن أبي ليلى في المسجد، فأتى شيخ ذو ظَفِيرتين، فقال: يا أبا عيسى! حدثني حديثَ أبيك. فقال: حدثني أبي قال: كنت جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله! إنا لنصلِّي في الفراء. قال: "فأينَ الدَّبغُ"؟ قال (¬4): فلما ولَّى قلت: من هذا؟ قال: سُويد بن غَفَلة (¬5). الخامسة والأربعون: يمكن أن يستدلَّ على عدم نجاسة الشعور بالحديث بأن يُجعل دليلًا على مقدمة في الدليل. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (366/ 106). (¬2) انظر: (1/ 307 - 308) منه، وقد ساقه المؤلف هناك بإسناده. (¬3) في "الإمام" وكذا مراجع التخريج: "كنت جالسًا". (¬4) أي: ثابت البناني. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 348)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (24766)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2150)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 421).

السادسة والأربعون

وطريقه أن يقال: لو نجَسَ الشعرُ بالموت، لما كان طاهرًا بعد الدباغ، لكن كان طاهرًا بعد الدباغ، فلا تتحقق نجاستُه بالموت. بيان الملازمة: أن الدباغ إنما يفيد الطهارةَ فيما له فيه أثر، ولا أثرَ للدباغ في الشعر، فلا يفيد الطهارة، وبيان أنه طاهر بعد الدباغ: أن اسم الإهاب ينطلق عليه بالشعر المتصل به، فيقال: هذا إِهابُ الشاةِ مثلًا، ولا يلزم أن يقال: هذا إهابها وشعرها، فدل ذلك على إطلاق اسم الإهاب على الجلد بشعره، فإذا انطلق عليه وجب أن يُطَهر؛ لقوله عليه السلام: "أيُّما إهابٍ دبغَ فقد طهرَ". الاعتراضُ عليه يمنع الملازمةَ، وقوله في تقريرها: إن الدباغ إنما يفيد الطهارة فيما له فيه أثر، قصدًا أو تبعًا، الأول: مسلّم، ونحن لا نقول بأنه يفيدُها في الشعر قصدًا، وإنما يفيدها تبعًا للجلد بدلالة الحديث، وانطلاق لفظ الإهاب على الجميع. السادسة والأربعون: ويمكن أن يستدل به على العكس، وهو أنه ينجس الشعر بالموت، وطريقُه أن يقال: لو لم ينجس بالموت لما طَهُر بالدباغ، لكن طَهُر بالدباغ فنجس بالموت. وبيان الملازمة: أنه لو لم ينجس بالموت لكان طاهرًا، ولو كان طاهرًا لم يطهر بالدباغ؛ لأن تطهير الطاهر محال، وبيان طهارته بالدباغ قولُه عليه السلام: "أيُّما إهابٍ دبغَ فقد طهرَ"، بناءً على ما تقدم أن الإهاب ينطلق على الجلد مع شعره المتصل به.

السابعة والأربعون

والاعتراض عليه: أن الإهاب حمل على الجلد وحده دون الشعر، فلا دلالة للحديث على طهارة الشعر بالدباغ، وأن قلنا بتناول اسم الإهاب له وللشعر تبعًا، فالحكم للطهارة بالدباغ للمجموع، والله أعلم. السابعة والأربعون: يقال للشيء: إنه نجس بمعنى نجاسة ذاته، كما يقال: المَيْتة نجسةٌ، ويقال: نجس بمعنى أنه اتصل بالنجاسة، كما يقال في الثوب إنه نجس إذا أصابه البولُ مثلًا، وذلك شائع في الاستعمال الفقهي. وكما يقال ذلك في النجس، يقال في الحكم بكونه طاهرًا، فيقال لِمَا انقلبت عينُه من النجاسة إلى الطهارة: قد طَهُر، كالخمر منقلبةً خَلاًّ، ويقال لِمَا أُزيلت عنه النجاسة المتصلة به: قد طهر، فعلى هذا قولَّه عليه السلام: "فقد طهرَ" يحتملُ أن يريد به طهارته؛ أي: طهارة الذات بالانقلاب، ويحتمل أن يريد به الطهارة بإزالة ما لحقه من النجاسة. فإذا استدل على كونِ الجلد نجسَ الذات بقوله عليه السلام: "فقد طهر"، فذلك للحمل لكلمة "طهر" على الذات، ويلزم منه نجاستُها قبل الدباغ، فيقال عليه: إن ذلك محمول على طهارته، بمعنى إزالة الفضلات النجسة عنه، كما يقال: إذا غُسل الثوب فقد طهر، فلا يتم ما قال الأول، إلا إذا كانت (¬1) لفظةُ "طهر" حقيقةً في الذات، ولعله الأقرب؛ لأن الضمير عائد إلى الإهاب، وهو الذات. ¬

_ (¬1) "ت": "كان".

الثامنة والأربعون

ولولا كثرة الاستعمال للفظة "طهر" على ما أُزيلت عنه النجاسة، لكان حملُه على طهارة الذات راجحًا رجحانًا قويًا. الثامنة والأربعون: [قول] الذين اختلفوا في أن المدبوغ إحالة أم إزالة، راجعٌ إلى هذا البحث الذي قدمناه. فمن قال: إنه إحالة، فهو قائلٌ بنجاسة عينِ الإهاب، ومن قال: إنه إزالة، فهو قائل بأن الإهاب في نفسه طاهر، لكن لحقته الفضلاتُ المعفِّنةُ المُفْسِدة فتنجَّس بها، فإذا أزيلت بقي على أصله في الطهارة. التاسعة والأربعون: النجاسة إذا استحالت أعراضُها هل تطهر؟ قسم الأمر فيه على أقسام: أحدها: أن تكون الاستحالةُ قويةً؛ كاستحالة الدم في البيضة حيوانًا، فهذا يفيد الطهارة. وثانيها: أن تكون الاستحالة ضعيفة؛ كتغير بعض صفات النجاسة فقط، فهذا لا يؤثر في التطهير. وثالثها: أن تكون دون المرتبة الأولى، وفوق الثانية؛ كالميتة إذا أحرقت وصارت رمادًا، وغير ذلك. فيمكن أن يُجعل الحديث طريقًا في هذه المرتبة المتوسطة، وطريقه أن يقال: إن كان زوال الأوصاف المستقذرة الموجبة للتنجيس موجبًا للطهارة، فالطهارة ثابتة في هذه الصورة، وإن كان

الخمسون

زوال الأوصاف المستقذرة الموجبة للتنجيس ليس موجبًا للطهارة، فالنجاسة ثابتة، ولكنَّ انتفاءَها ثابتٌ؛ لقوله عليه السلام: "أيُّما إهابٍ دبغَ فقد طهرَ". الخمسون: ظُنَّ بابن سُريج - رحمه الله - أنه يقول باشتراط النية في إزالة النجاسة (¬1)، فإن كان الظنُّ صحيحًا، وثبت قول باشتراط النية فيها، فيمكن أن يستدلَّ بهذا الحديث، ووجهه: أن الطهارة معلقةٌ بأن يدبغَ الجلدُ، وقد قدمنا أن لفظة "دبغ" تقتضي فعلًا من فاعل، فيكون الحكمُ بالطهارة مقيَّدًا بالصفة، فإذا قيل بالمفهوم في مثل هذا اقتضى أن لا يطهر الجلد إلا بدباغة دابغ، ولا يطهر بمجرد حصول الدباغ، فإذا ثبت هذا ثبت في باقي المسائل؛ لعدم القائل بالعرف، إلا أنه ضعيف؛ لقوة المعنى وظهور المقصود بتأثير الدباغ في الطهارة، بسبب انتزاع الفضلات المستقذرة، ولا فرق في هذا بين القصد وعدمه. ووجه آخر: وهو أن التقييد بالصفة إذا خرج على الغالب لا يدل ¬

_ (¬1) قال الرافعي في "فتح العزيز في شرح الوجيز" (1/ 311): ويحكى عن ابن سريج اشتراط النية فيها، وبه قال أبو سهل الصعلوكي فيما حكاه صاحب "التتمة"، انتهى. قال الروياني: لا يصح النقل عندي عنهما. قال النووي: ونقل الماوردي والبغوي في "شرح السنة" الإجماع أنها لا تشترط. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 523).

على انتفاء الحكم عما عدا محلِّ التقييد على ما قرروه، والغالب في الدباغ الفعلُ والقصد، ووقوعُ الإهاب في المدبغة، ولُبْثُهُ فيها حتى يحصلَ مقصودُ الدباغ نادرٌ، والله أعلم. * * *

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أبي ثَعْلَبْةَ الخُشَنِيِّ - رضي الله عنه - قال: أَتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ! إنَّا بأَرضِ أَهْل الكتَابِ، فَنَأْكُلُ في آنيتِهمْ، وبأَرْضِ صَيْدٍ أَصيْدُ بقَوسِي، وَأَصِيْدُ بكَلْبِيَ المُعَلَّمِ، وبِكَلْبِيَ الذي ليسَ بِمُعَلَّمٍ. فَقَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا مَا ذَكَرْتَ أنَّكُم بأرْضِ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلا تَأْكُلُوا في آنيتِهِمْ، إلَّا أَنْ لا تَجِدُوا بُدًّا، فإنْ لم تجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوا وكُلُوا، وأمَّا مَا ذَكَرْتَ أنَّكَم (¬1) بِأَرْضِ صَيْدٍ، فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فاذْكُرِ اسْمَ اللهِ وكُلْ، وما صِدْتَ بِكَلْبِكَ المُعَلَّمِ فَاذْكُرِ اسمَ اللهِ [وكُلْ]، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الذي ليسَ بِمُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ، فَكُلْهُ"، أخرجَهُ البُخاريُّ (¬2). ¬

_ (¬1) "ت": "أنك". (¬2) * تخريج الحديث: رواه البخاري (5161)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: ما أصاب المعراض بعرضه، و (5170)، باب: ما جاء في التصيد، و (5177)، باب: آنية المجوس والميتة، ومسلم (1935)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، وأبو داود (2855)، كتاب: الصيد، =

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف بمن ذكر فيه: فنقول: أبو ثَعلبة الخُشَني: ممن اشتُهر بكنيته، واختلف في اسمه واسم أبيه، والمشهور فيه: جُرثوم بن نَاشِب، وقيل: جُرْهم بن ناشب، وقيل: ابن الأشب، وقيل: عمرو بن جُرثوم، وقيل: الأشَر ابن جُرهم، وقيل: ابن جُرْثومة. قال الحافظ أبو عمر: ولم يختلفوا في صحبته ونسبته إلى خُشَين، وهو ابن وائل بن النَّمِر بن وَبْرة بن ثعلبة بن خلدة بن عمرو (¬1) ابن الحاف بن قُضَاعة، وكان ممن غلبت عليه كنيتُه، وكان ممن بايع تحتَ الشجرةِ، ثم نزل الشامَ، ومات في خلافة معاوية. وقد قيل: إنه توفي في سنة خمس وسبعين، في خلافة عبد الملك بن مروان. وقال ابنُ الكَلْبي: أبو ثعلبة الأَشَر، بايعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بيعةَ الرضوان، وضرَبَ له بسهم يوم حنين، وأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه ¬

_ = باب: في الصيد، والنسائي (4266)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: صيد الكلب الذي ليس بمعلم، وابن ماجه (3207)، كتاب: الصيد، باب: صيد الكلب، من طريق حيوة بن شريح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة، به. قال ابن منده: وحديث ربيعة بن يزيد مشهور صحيح عند أهل الشام من رواية أبي إدريس الخولاني. كما نقله المؤلف في "الإمام" (1/ 323). (¬1) في المطبوع من "الاستيعاب": "عمران".

الوجه الثاني: في تصحيحه

فأسلموا، وأخوه عمرو بن حزم أسلم على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهما من ولد لبوانِ (¬1) بن مُرِّ بن خُشَين بن النجم بن وَبْرة، ثم نسبه كما ذكرناه (¬2). * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: وهو حديث متَّفقٌ عليه من حديث حَيوة بن شُريح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة، أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من هذا الوجه. * * * * الوجه الثالث: الموجب لإدخال هذا الحديث هاهنا: حكم استعمال أواني المشركين، واختير هذا الحديث لكثرة الأحكام المذكورة فيه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "لبون"، والصواب ما أثبت. (¬2) * مصارد الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 416)، "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 250)، "الثقات" لابن حبان (3/ 63)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 29)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1618)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (66/ 84)، "أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 43)، تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 487)، "تهذيب الكمال" للمزي (33/ 167)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 567)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 58).

الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

* الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: قال الراغب: الصَّيدُ: مصدر صاد، وهو تناول ما يُظْفَر به مما كان ممتنعًا، وفي الشرع: تناولُ الحيوانات الممتنعةِ مما لم يكن مملوكًا، والمُتناوَل منه ما كان حلالًا، وقد يسمَّى المصيدُ صيدًا؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]؛ أي: مصيد البحر، وقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} المائدة: 95]، وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1]، فإن الصيد في هذه المواضع مختصٌّ بما يؤكل لحمه - فيما قال الفقهاء - بدلالة ما رُوي: "خمسةٌ يقتلُهُنَّ المحرمُ في الحلِّ والحرم: الحيةُ، والعقربُ، والفأرةُ، والكلبُ العقورُ، والذئبُ" (¬1). قلت: الصيد كما قال: يكون مصدرًا، وهو الفعل الصادر من الصائد، ويُطلق على المَصِيد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1732)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب، ومسلم (1198)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، من حديث عائشة رضي الله عنها دون ذكر "الذئب"، وذكرا بدلًا عنه: "الحديَّا" أو "الحدأة". وجاء عند عبد الرزاق في "المصنف" (8384) من حديث ابن المسيب مرسلًا، ذكر "الذئب"، وكذا رواه (8385) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعًا. وانظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 496 - 497).

الثانية

وقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] محمولٌ على المصيد متعينٌ ذلك. وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة: 96] يَحتمل الأمرين معًا، وحمله على المصدر أولى من جهة عدم الحاجة إلى الإضمار، فإن الأفعالَ لا يتعلَّق بها التحريمُ لأنفسها. الثانية: قال أبو عبد الله بن خالَوَيْهِ في كتاب "ليس في كلام العرب": الصيد من غير حيوان، إلا في ثلاثة أشياء: صِدتُ الصيدَ، وصدتُ بيضَه، وصدت كَمَاه. وقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة: 94]؛ يعني: بيض النعامة والوحش (¬1). قلت: لا يتعين حملُ ما تناوله الأيدي على بيض النَّعام من حيث اللفظ. الثالثة: قال بعضُ الفقهاء في حد الاصطياد: إماتة الصيد، وهو كلُّ جرح مقصود حصل الموتُ به (¬2). الرابعة: ذكر الجوهري: أن التذكية: الذبح (¬3). وقال ابن سيده في "المحكم": والذكاة الذبح؛ عن ثعلب. ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في كتاب ابن خالويه "ليس في كلام العرب" مطبوعة مكة المكرمة سنة (1979 م) بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار، وذلك بعد النظر في الكتاب كاملًا، والله أعلم بحقيقة الحال. (¬2) انظر: "الوسيط" للغزالي (7/ 114). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2346)، (مادة: ذ ك ا).

الوجه الخامس

وقال ابن سِيْدَه: وذكى الحيوان: ذبحه؛ ومنه قوله: يذكيها الأسد، وجلد ذكي: ذبيح (¬1). * * * * الوجه الخامس: الإضافة تكسب الاسمَ معنى الصفة؛ لأنها توجب نسبةً بين المضاف والمضاف إليه، وتلك النسبة أمر زائد على الذات، يعود بوصفٍ لها عليه. وقد نصَّ النحويون في تعبيرات الاسم في النسب: أنه كان اسمًا فصار صفة، والنسب إضافة، وبهذا التعبير يعبِّر سيبويه، فيوقع اسم الإضافة على النسب (¬2)، وليس الاصطلاح أن يوقع اسم النسب على الإضافة؛ لأن النسبَ إضافةٌ خاصة، وستأتي فائدة هذا الكلام في قسم الفوائد، والله أعلم. الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: سؤالُ أبي ثعلبة - رضي الله عنه - يَحتمل أن يكون لطلب معرفة الحكم قبل الإقدام عليه، وقد ذكر بعضُهم: أنه لا يجوز الإقدام على الفعل إلا بعد معرفة الجواز، أو ما يقرب من هذا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 133)، (مادة: ذ ك و). (¬2) انظر: "الكتاب" لسيبويه (3/ 335)، باب: الإضافة، وهو باب النسبة. (¬3) انظر: "المحصول" للرازي (4/ 522).

الثانية

ويحتمل أن يكون عَلِمَ أصلَ الإباحة، وسأل عن أمور اقتضت عنده الشكَّ في بعض الصور، أو قيام مانعٍ من الإباحة التي علم أصلها، وهذا أقرب؛ لأن كل ما سأل عنه، فالمانع فيه ظاهر، يجوز أن يُمنع الفعل بسببه، فاستعمال أواني المشركين في الخمر والخنزير مانع ظاهر، بعد العلم بتحريم الميتة (¬1)، فلما احتمل أن يكون ذلك مانعًا سأل عنه. الثانية: سأل عن الصيد بالقوس مطلقًا، وعن الصيد بالكلب المُعلَّم، فلعلَّ سببَه: أن الاصطياد كان بالكلب معلومًا عنده، والسؤال عن طلب الفرق بين المُعلَّم وغيره، وهل يفترق الحكم فيهما، أم لا؟ وأما الصيد بالقوس فلم يكن معلومًا عنده، فاحتاج إلى معرفة أصل حكمه، أو يكون السؤال عن كيفية الصيد به، وما يشترط فيه من الشروط. الثالثة: ثياب المشركين وأوانيهم على أقسام: منها ما عُلمت طهارتُهُ، مثل الثوب يشتريه قبل أن يلبسَه، والإناء قبل أن يستعملَه، فهذا ظاهر. ومنها ما علمت نجاسته، فهو نجس حتى يغسل. ومنها ما جُهِل حالُه، وهو ما لبسوه من ثيابهم، واستعملوه من ¬

_ (¬1) أي: وقد تكون بعض آنيتهم مصنوعة من جلود الميتة.

أوانيهم، فهذا مختلَف فيه: ففي "مختصر المزني" (¬1)، قال الشافعي: لا بأس بالوضوء من مَزَادة مشرك، وبفضل وضوئه ما لم تتحققْ نجاسة، توضأ عمر - رضي الله عنه - من جرِّ نصرانية (¬2). وقال الشيخ أبو حامد من أتباعه في هذا القسم: إن الأصل عند الشافعي الطهارة حتى تتحققَ النجاسة، سواء كانوا يتدينون باستعمال النجاسة؛ كالمجوس الذين يعتقدون تعظيمَ الماء عن أن يُغسلَ به نجاسة، أو لا يتدينون به. قال حَرْمَلَة: وسواء في ذلك عبدة الأوثان وغيرهم، وأهل الكتاب، فإن استعمال أوانيهم جا [ئـ]ـز، ولكن يُكره ذلك. وقال في القديم: أكره استعمالَ أوانيهم إلا ما كان للماء، وأكره ¬

_ (¬1) انظر: (ص: 1) منه. وانظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 8). (¬2) ذكره البخاري في "صحيحه" (1/ 82) فقال: وتوضأ عمر بالحميم، ومن بيت نصرانية. وقد رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 32) من حديث سفيان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر - رضي الله عنه - توضأ من بيت نصرانية. وكذلك رواه الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 8)، ومن طريقه: ابن المنذر في "الأوسط" (1/ 314)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 32). قال الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (2/ 131): وهذا إسناد ظاهره الصحة، وهو منقطع.

لبس ثيابهم، وأنا للبس السراويلات أشدُّ كراهةً؛ لأنها تجاوِرُ محلَّ النجاسات. قال الشيخ أبو حامد: هذا مذهبه في كل المشركين، وهذا كما يقوله في معاملة مَنْ أكثرُ ماله من ربا أو حرام: إن علم أنه حلال؛ كالميراث ونحوه، فهو حلال، وإن علم أنه حرام؛ كالضريبة والمصادرة، فهو حرام، وإن أشكل ذلك حلَّ أخذه، ولكنه مكروه، كذلك هاهنا. وقال أبو إسحاق: إن كانوا يتدينون باستعمال النجاسة فهي نجسة؛ لأن الأصل النجاسة، وإن كانوا لا يتدينون بذلك؛ فالأصل الطهارة؛ على ما قال الشافعية (¬1). وأما المالكية: فعندهم في سؤر الكافر وما أدخل يدَه فيه خلافٌ (¬2). وأما الحنابلة: ففرَّقوا بين أهل الكتاب وغيرهم، فأما أهل الكتاب، فأباحوا الأكلَ في أوانيهم ما لم تتحقق نجاسة، قال ابن عَقِيل منهم: لا تختلف الرواية في أنه يجوز (¬3) استعمالُ أوانيهم. قالوا: وهل يكره له استعمالُ أوانيهم؟ على روايتين. ¬

_ (¬1) انظر: "المهذب" للشيرازي (ص: 12). (¬2) انظر: "القوانين الفقهية" لابن جزي (ص: 26). (¬3) "ت": "لا يجوز".

الرابعة والخامسة والسادسة

وأما غير أهل الكتاب، كالمجوس وعبدة الأوثان، فاختلفوا في أوانيهم: فقال القاضي منهم: لا يستعملُ ما يستعملوه من أوانيهم؛ لأن أوانيهم لا تخلوا من أطعمتهم، وذبائحُهم ميتة، فآنيتهم نجسة من وضعهـ[ـا]، فيها. وقال أبو الخطاب: حكمُهم حكمُ أهل الكتاب، وثيابهم وأوانيهم طاهرةٌ مباحةُ الاستعمالِ ما لم تتيقن نجاسة. قال بعضُهم: وظاهر كلامه - رحمه الله - مثل قول القاضي، فإنه قال في المجوس: لايؤكل من طعامهم إلا مثلُ الفاكهة (¬1). وأما الظاهرية: فقال أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المغلِّس (¬2) - وهو من كبار الظاهرية - في ديوانه الذي تكلم فيه على مسائل "المختصر" لأبي إبراهيم المزني على مذهب داود وأصحابه: وجاز الوضوء من أواني أهل الشرك، وبفضلِ وضوئِهم إذا لم تظهر في ذلك نجاسةٌ تمنع من استعماله، لأنَّ اللهَ عز وجل لم يحظر استعمال ذلك، ولا رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، ولا اتَّفق الجميعُ عليه (¬3). الرابعة والخامسة والسادسة: إذا جَرينا على مقتضى لفظ ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 61 - 62). (¬2) المتوفى سنة (324 هـ)، وعنه انتشر مذهب الظاهرية في بغداد، وكان من بحور العلم، وله عدة مصنفات. انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (9/ 385)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (15/ 77). (¬3) وانظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 424 - 425).

السابعة

الحديث، فالنهيُ يدلُّ على التحريم، فيقتضي أن يحرَّم الأكلُ في آنيتهم إذا وجدنا منها بدًا، ولو غسلت، وأن يجب غسلها إذا لم نجد بدًا؛ لأن الأمر على الوجوب. السابعة: استدل بحديث أبي ثعلبة في مسألة استعمال أواني الكفار من جانب المنع على الكراهة أو التحريم، ووجه الدليل منه ظاهر. والذين قالوا بجوازِ استعمال آنية المشركين، والبناءِ فيها على الطهارة، مخالفون لظاهر هذا الحديث على الجملة، والاعتذار بالمعارضة بما يدل على جواز أكل طعامهم واستعمال آنيتهم، ثم بالتأويل بعد بيان المعارضة. الثامنة: أقاموا الدليلَ على جواز الاستعمال من الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]. وأما السنة: فدل على هذا حديثُ عبد الله بن المُغفَّل، قال: دُلِّيَ جِرَابٌ من شحمٍ، فالْتزمتُهُ وقلت: واللهِ لا أعطي أحدًا منهُ شيئًا، فالتفتُ فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتبسمُ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2984)، كتاب: الخمس، باب: ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، ومسلم (1772)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب.

التاسعة

والشاةُ المسمومة التي أَكَلَ منها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر (¬1). وروي: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أضافه يهوديٌّ بخبزٍ وإهالةٍ سَنِخَةٍ، وهو في "المسند" عن أحمد، وفي كتاب "الزهد" له (¬2). وبالحديث الذي يأتي بعد هذا في توضُّؤِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من مَزَادة مُشركةٍ. وتوضَّأَ عمرُ من جر نصرانية (¬3). التاسعة: وإذا أقام المعارض المبيح، فالتأويل من وجهين: أحدهما: حمل النهي على الكراهة دون التحريم. والثاني: الحمل على آنية استعملوا فيها الخمر أو الخنزير، وحينئذٍ يكون الحديث في غير محل الخلاف، فإن محل الخلاف - كما ذكرناه - ما لم يتيقن طهارته، ولا نجاسته. وعند أبي داود: إنَّا نُجاوِرُ أهلَ الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2474)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: قبول الهدية من المشركين، ومسلم (2190)، كتاب: السلام، باب: السم، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 133)، وفي "الزهد" (ص: 5). وقد رواه البخاري (1963)، كتاب: البيوع، باب: شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة، كلاهما من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم تخريجه.

"إنْ وجدتُمْ غيرَهَا فكلُوا منها واشربُوا، وإنْ لَمْ تجدُوا غيرَها، فارْحَضُوها (¬1) بالماء، وكلُوا واشربُوا" (¬2). قال بعضُ الشارحين: المراد النهي عن الأكل في آنيتهم التي كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير، ويشربون الخمر، كما صرح به في رواية أبي داود (¬3). قلت: حملُه على الكراهة مع كونه على خلاف الظاهر يقتضي أنه يكره استعمالها بعد غسلها، والغسل للنجاسة، وإذا زالت النجاسة بالغسل، فكيف ثبتت الكراهة؟ أجاب بعضهم: بأنه إنَّما نهى عن الأكل فيها بعد الغسل للاستقذار، وكونها معدة للنجاسة، كما يكره الأكلُ في المِحْجَمة المغسولة. قال: وأما الفقهاء فمرادهم مطلق آنية الكفار التي ليست مستعملةً للنجاسات، فهذه يكره استعمالها قبل غسلها، فإذا غسلت فلا كراهة فيها؛ لأنها (¬4) طاهرة، وليس (¬5) فيها استقذار، ولم يريدوا نفي الكراهة عن آنيتهم المستعملة في الخنزير وغيره من النجاسات (¬6). ¬

_ (¬1) أَي: اِغسِلُوها. (¬2) رواه أبو داود (3839)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل في آنية أهل الكتاب. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 80)، وهو الذي قصده المؤلف بكلامه. (¬4) "ت": "فالكراهة فيها لا غير"، والمثبت من "شرح مسلم". (¬5) "ت": "ولكن". (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 80).

العاشرة

قلت: الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي، وكراهةُ الأكل من المِحْجَمة المغسولة أو الحديدة، إن أراد به كراهيةً طبيعية فمسلَّم، إلا أنها مبنية على قوة وهمية، صحبت الوهم لكثرة ملازمتها ذلك، وهذه الكراهة الوهمية إن أُثبت بها الكراهةُ الشرعية فتحتاج إلى دليل شرعي، ونظيرُ ذلك من مسألة الأواني أن تكون الآنيةُ التي استعمل فيها لحم الخنزير والنجاسات آنيةً مخصوصة بذلك، يصحب الوهم فيها ملازمتها للنجاسات. وأما حملُ الحديث على الآنية التي استعمل فيها لحم الخنزير والخمر، وقولُه: كما صرَّح به في رواية أبي داود، ليس كما قال في دعوى الصراحة بالنسبة إلى ما حمل عليه الحديث، فإن السؤال وقع عن الأكل في آنيتهم غيرَ مقيَّدٍ بما عُلِم أنهم استعملوا فيه لحم الخنزير والخمر. وقوله: "وهم يطبخون في قدورهم الخنزيرَ، ويشربون الخمر" قد يُحمل على أن المراد به: أن من شأنهم ذلك، وعادتهم فعله، وحينئذٍ يكون السؤالُ واقعا على محل الإشكال الذي اختلف فيه الفقهاء، ولا يتعيَّن أن يكون المراد السؤال عن آنية استعمل فيها ذلك بعينها، فليس إذنْ بصريحٍ فيما ادَّعاه. العاشرة: الاستدلالُ بالآية على هذه المسألة استدلالٌ بالعموم في الطعام، فيدخل تحته محلُّ النزاع، وهو الطعام الذي في آنيتهم، ويعترض عليه بأمرين:

أحدهما: أن يحمل الطعامُ على الذبائح، وهذا - وإن كان فيه تخصيص، وهو على خلاف الأصل - إلا أن فيه وفاءً بفائدة تخصيص أهل الكتاب بالذكر؛ لأنا إذا حملناه على الذبائح، دلَّ المفهوم على منع أكل ذبائح غير أهل الكتاب، فكان في التخصيص بهم فائدة. وإذا حملناه على الطعام، فالمبيحون لاستعمال أواني المشركين لا تخصُّ جماعة منهم ذلك بأهل الكتاب؛ كما هو مذهب الشافعي؛ كما قدمنا حكايتَه عن الشيخ أبي حامد، فلا فرق بين أهل الكتاب وبين غير أهل الكتاب، فلا يبقى في التخصيص بذكرهم فائدةٌ. واعلم بأن القولَ بأن المرادَ بالطعام الذبائحُ منقولٌ عن غير واحد من السلف. روى القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب "أحكام القرآن" (¬1) قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] قال: الذبائح. قال: حدثنا يحيى، ثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن القاسم بن نافع، عن مجاهد قال: ذبائحهم. ¬

_ (¬1) للإمام الحافظ شيخ الإسلام أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل ابن محدث البصرة حماد بن زيد المالكي، قاضي بغداد وصاحب التصانيف، وكتابه "أحكام القرآن" لم يسبق إلى مثله. توفي سنة (282 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (6/ 284)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (13/ 339).

قال: حدثنا يعقوب بن الدَّورقي، ثنا ابن إدريس، عن كثير، عن مجاهد: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، قال: الذبائح (¬1). حدثنا محمد بن أبي بكر، ثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن كعب، عن مجاهد وسفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم وأشعث، عن الحسن: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]،، قالوا: الذبائح (¬2). عن سعيد بن جبير، وعكرمة: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، قال: الذبائح (¬3). حدثنا محمود، أنبأ هشيم، عن يونس، عن الحسن والمغيرة، عن إبراهيم في قوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] قالا: ذبائحهم. فهذه روايات ساقها القاضي عن إبراهيم، ومجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة في حمل طعامهم على ذبائحهم، ولم يذكر حملَها على مطلق الطعام عن أحد فيما رأيت في كتابه، وفي هذا قوةٌ للحمل على ذلك. الوجه الثاني: أن يقال: المقصود من الكلام الحكمُ على ¬

_ (¬1) ورواهما ابن أبي شيبة في "المصنف" (32694)، وابن جرير في " تفسيره" (6/ 102 - 103)، عن مجاهد وإبراهيم. (¬2) رواه ابن جرير في "تفسيره" (6/ 103). (¬3) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 282).

الحادية عشرة

طعامهم - من حيث هو - بالحل، وامتناعُ أكله؛ لأجل غلبة النجاسة من قَبيل الموانع التي لا يُقصد التعرضُ لها؛ لِمَا (¬1) عُلِمت نجاستُه من أوانيهم، وهذا ليس بالشديد القوة؛ لإمكان المنازعة في هذه الدعوى، والتمسك بالعموم الذي يزعمه، والله أعلم. الحادية عشرة: الاستدلالُ بأكل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أهدته له اليهوديةُ في القول بالطهارة، وفي معارضته حديث أبي ثعلبة، إلا أنه استدلالٌ بفعل في واقعة خاصة لا عمومَ لها، وحديث أبي ثعلبة استدلالٌ بلفظ عام، فتكون معارضةُ الخصوصِ العمومَ في محل التخصيص فقط، فمن منع الاستعمالَ فيمكنه أن يقول: هذه واقعةُ حال لا عمومَ لها، فأَحمِلُها على صورة العلم بالطهارة لاحتمالها، وأنا لا أمنع الاستعمال في هذه الصورة، وهذا وإن كان متجهًا في المناظرة إلا أنه لا يقوى في النفس أن الواقع هو تلك الصورة؛ أعني: تيقن الطهارة، وقد تكون القرائنُ دليلًا على ما ذكرناه. أما من أراد الاستدلال به على جواز استعمال أواني الكفار، فإما أن يكون ممن يبيحُ ذلك مطلقًا، وإما أن يكون ممن يفرِّق بين من يتديَّن باستعمال النجاسة، أو لا. فإن كان من الأولين فقد بيَّنا أنه لا عمومَ فيه، وإذا لم يكن عموم، فالحكم مستفاد في غير محل النص بالقياس فقط، وشرط ¬

_ (¬1) "ت": "كما".

القياس مساواةُ الفرع للأصل في المعنى الموجب للحكم، أو زيادتُه عليه، وهذا الشرط مفقودٌ هاهنا؛ لأن اليهود لهم تحذُّر من النجاسات على ما جاء في الحديث: مِنْ قَرْضِ بني إسرائيل ما أصاب الثوبَ بالمقراض (¬1)، وعلى ما صحَّ من مجانبتهم الحائضَ، وعدم مؤاكلتها، ومشاربتها، ومجامعتها في البيوت (¬2)، ومحل النزاع عليه النجاسة على ما جُهِلَ حالُه. وإذا أردنا أن نقيسَ استعمالَ أواني النصارى في الجواز على استعمال أواني اليهود، مع كون النصارى لا احتراز لهم عن شيء من النجاسات، فلا يصح؛ لأن أبوالَهم في ثيابهم وأبدانهم من غير كلفة، والرهبان منهم يتدينون بإبقاء النجاسة، ويروْنَ أن ذلك من باب الترفُّهِ الداخل تركُه في الزهد في الدنيا، والعلةُ، وهي غلبة النجاسة في الفرع، وهو (¬3) آنية النصارى والمشركين، قاصرةٌ عن محل النص، وهو استعمال أواني اليهود، فكيف يصِحُّ القياس؟! وأما الذين يفرِّقون بين من يتدين باستعمال النجاسات، ومن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (224)، كتاب: الوضوء، باب: البول عند سباطة قوم، ومسلم (273)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (302)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "هي".

الثانية عشرة

لا يتدين باستعمالها، فإذا قال: إن اليهود ليسوا ممن يتدين باستعمال النجاسة، فجواز استعمالِ آنيتهم خارجٌ عن محل النزاع عندي، فلا يكون الحديثُ حجةً عليَّ، وهذا ظاهر. الثانية عشرة: إدارة حكم المنع على التدين باستعمال النجاسة ليس بالقوي عندي؛ لأن العلةَ غلبةُ النجاسة على ما جهل حاله من أوانيهم، وهذا يكفي فيه عدمُ التدين بتجنب النجاسة، لا التدين باستعمال النجاسة، وبين المعنيين فرق ظاهر. وإنما قلنا: إنه يكفي في ذلك عدمُ التدين بتجنب النجاسة، فإن من لا يفرق بين البول والماء في ملابسة ثيابه وبدنه، فالظنُّ القوي حاصلٌ بنجاسة ما يحاوله، ولا نزاعَ في أن التدينَ باستعمالها أقوى في غلبة الظن من عدم التدين بتجنبها، لكن يحتاج إلى دليل اعتبار ذلك القيد الزائد وإلغاء القدر الحاصل، والظن بعدم التدين باجتنابها مع مناسبة الاعتبار يعُمُّ. إن كان هاهنا نصٌّ على منع استعمال أواني من يتدين بالنجاسة، فأردنا أن نلحق به من لا يتدين بها، لم يستقم ذلك؛ لأنَّ فيه إلغاءَ القدر الزائد الوارد في محل النص مع إمكان اعتباره شرعًا، إذ الأصلُ ترتُّب الحكم على أوصاف محل النص، إلا إذا عُلم إلغاءُ بعضها، فالفرق بين أن يردَ ما يقتضي اعتبار القدر الزائد، ويريد إلغاءَه، وبين أن يكون المقتضى لاعتبارٍ مطلقٍ غلبَةُ الظن الحاصل، يريد إلغاءه

الثالثة عشرة

وتعليقَ الحكم بوصف زائد ظاهر؛ لأن في الأول إلغاء ما يمكن أن يكون معتبرًا، والمقتضي لاعتباره موجودٌ، وهو ورود النص في محله من غير دليل على إلغائه. وأما الثاني: ففيه إلغاء ما اقتضى الدليلُ اعتبارَه من تعليق الحكم بغلبة الظن بنجاسة الآنية، وطلب وصف زائد على ذلك، وهذا يفتقر إلى دليل يقتضي التعبُّدَ بالقدر الزائد من الظن. الثالثة عشرة: إن قلت: فقد ورد في هذا الحديث النهيُ عن استعمال أواني أهل الكتاب إذا وُجِد غيرُها، والأمرُ بالغسل إذا لم يُوجد غيرها، هل يُحقق ذلك ورودُ النص ممن يتدين باستعمال النجاسة حتى يمتنعَ قياسُ من لا يتدين باجتنابها عليه، على ما قرَّرتَ أولًا؟ قلت: في كلام بعض الفقهاء تمثيلُ من لا يتدين باستعمال النجاسة باليهود والنصارى، وهذا لا يصح في النصارى؛ لأن ما يسمُّونه قُربانًا لا بد فيه من استعمالهم الخمر، فقد صار لهم تدينٌ باستعمال الخمر، وهي نَجِسة عند الجمهور، ومنهم الذي مثَّل باليهود والنصارى. أما اليهود فقد تبين من الحديث تشديدُهم في البول، وفي ملابستهم الحائض، ولا علم لنا هل يتعلق لهم تعبدٌ باستعمال نجاسة أخرى، أم لا؟

الرابعة عشرة

فإن ثبت تعبُّدُهم في شيء بالاستعمال وتنجيسه كالنصارى، فقد ورد النصُّ على هذا التقدير في المتدينين باستعمال النجاسة، فلا يلحق به من لا يتدين باجتنابها على ما قررناه. وإن لم يثبت ذلك في حقهم، أو ثبت أن لا تدينَ لهم بذلك، لم يجُزْ أن يعلَّلَ الحكمُ بالامتناع بالتدين باستعمال النجاسة؛ لأن اللفظَ واحدٌ يقتضي حكمًا واحدًا يتناول الفريقين، فلا يجوز أن تكون العلةُ مخصوصةً بأحدهما؛ لأن الحكم لا يثبت لعلة مع انتفائها في المحل. وعلى هذا التقدير: يكون الحديثُ دليلًا على إلغاء التعليل بالتدين باستعمال النجاسة؛ لأنه إذا تعذَّرَ التعليلُ بما به الافتراقُ، تعيَّنَ التعليلُ بما به الاشتراكُ. الرابعة عشرة: أقام الفقهاء قاعدة يدخل تحتها استعمال أواني المشركين، وغير ذلك، وهي ما إذا تعارض الأصل والظاهر، فأيُّهما يُقدم؟ ورجَّحَ مصنفو الشافعية - أو من قال منهم - الأصلَ (¬1)، ولا يخفى أن الظنَّ المستفادَ من العِلّيَّة أقوى من الظن المستفاد من الأصل، يعرف هذا بالرجوع إلى العوائد والنظر إلى ما يحدث في النفس من اعتبارها، بل ربما انتهى ذلك إلى قريبٍ من درجة القطع، وإذا ترجَّح الظنُّ المستفادُ من العِلِّيَّة، وجب بناءُ الحكمِ عليه؛ لأن العملَ بأرجح ¬

_ (¬1) انظر: "الإبهاج" للسبكي (3/ 173)، و"المنثور" للزركشي (1/ 311).

الخامسة عشرة

الظنين واجبٌ، وحديث أبي ثعلبةَ هذا: فيه الأمر بالغسل قبل استعمالها، والنهي عن استعمالها إذا وجد غيرها، وهما يدلَّانِ على ذلك؛ أعني: اعتبارَ العِلِّيَّة. الخامسة عشرة: هذا الذي ذكرناه وهو بالنسبة إلى الظنين من حيث هما هما، وقد حكمنا بأن الراجح: الظن المستفاد من الغلبة، ولكن قد يقوم مانعٌ معارضٌ لاعتبار هذا الظن الراجح بالعليَّة؛ كالمشقة وعُسر الاحتراز مثلًا، ولا بِدْعَ في ترجيح المانع الراجح على المقتضى، ودرجات هذا المانع مختلفة، فما قوي منها ولزم منه الحرجُ والمشقة العامة، فاعتبارُه ظاهر، وما كان دون ذلك، فهو محلُّ نظرٍ. فإذا نظرت إلى العوام وأرباب الحِرَف والمِهَن، ومن لا يصلي منهم، ومباشرتهم النجاسات في حوانيتهم ومهنِهم وأشغالِهم، وطَرَآن (¬1) النجاسات الخارجة عنهم على حوانيتهم ومواضع أشغالهم، علمت غلبة النجاسة على كثير - أو على أكثر - ما هم فيه، لا سيما في بعض الحِرَف، فالقول بالتزام مجانبتهم ومُلابَستِهم في كل شيء يُفْضي إلى حَرجٍ ومشقة عامة، يعسُر اعتبارُها، فيقوى المانع من اعتبار الظن المستفاد من الغالب عمومًا، ويتأيَّد ذلك في بعض الصور بعمل السلف الصالح، ويمكن أن يكون ما في حديث أبي ثعلبة هذا من ¬

_ (¬1) مصدر (طرأ)، والمعروف عند أهل اللغة في مصدره: طَرْء وطُرُوء.

السادسة عشرة

الفرق بين أن يجدوا غيرها، أو لا، مراعاةً (¬1) لهذا المعنى؛ لأن الظنَّ لما كان غالبًا بنجاسة ما يستعملونه فحيث لا ضرورةَ في تركه؛ لوجود غيره، أَعملَ غلبةَ الظن؛ لرجحانها مع عدم المعارض، وهو (¬2) الضرورة في استعمالها، وحيث لا يوجد غيرُها قد تدعو الضرورة إلى الاستعمال، فيكون هاهنا مانع من إعمال غلبة الظن، فأُجيز الاستعمالُ، إلا ما يقتضيه الحديثُ من الأمر بالاجتناب مطلقًا عند عدم غيرها، وإن غُسِلَت، والأمر بغسلها إذا لم يوجد غيرها يبقى محلًا للنظر، زائدًا على ما ذكرناه. السادسة عشرة: هاهنا مانعٌ آخرُ من اعتبار الظن الناشئ من الغلبة، اعتبره بعضُ المالكية، وهو إتلاف المالية. وذلك أنَّ عندهم في سؤر ما عادته استعمال النجاسة، ولا يعسر الاحتراز عنه؛ كالسباع، والدجاج المُخَلَّاة؛ أي: غير المقصورة، أقوالًا: المنع، والإباحة، والفرق بين الماء والطعام، فيُطرح الماء ويؤكل الطعام. وسؤرُ الكافر وما أدخل يدَه فيه، جارٍ مجرى هذا القسم عندهم (¬3). ¬

_ (¬1) "ت": "ومراعاة". (¬2) "ت": "هي". (¬3) الصواب عندهم: أن هذه الأمور كلها محمولة على التنزه والاستحباب، كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي، وصوبه ابن عبد البر، كما في "التمهيد" له (1/ 335).

السابعة عشرة

إلا أن هذا المانعَ ضعيفٌ يحتاج إلى دليل شرعي يدل على اعتباره بعد قيام المقتضي للتنجيس. والذي يُستدلُّ به على هذا من نهيه عليه السلام عن إضاعة المال (¬1)، يردُّ عليه منعُ كونه مالًا بعد قيام الدليل على نجاسته. فلو قوِيَ هذا المانعُ كان ذلك عذرًا آخرَ عن أكل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - طعامَ اليهوديَّةِ، غير ما ذكرناه متقدمًا. السابعة عشرة: أمر عليه السلام بغسل الآنية، والأكل فيها بعد غسلها، وهذا مطلقٌ يكفي في امتثال الأمر به غسلةٌ واحدة، فيدل على جواز الاكتفاء في فضل العامة بغسلة واحدة. الثامنة عشرة: يمكن أن يستدلَّ به على الاكتفاء بغسلة واحدة في نجاسة الخنزير؛ لأنه قد ذكر في الحديث: أنهم يطبخون في قدورهم الخنزير، فهذا الأمر إما أن يكون على سبيل الوجوب، أو على سبيل الاحتياط والندب، وأيًّا ما كان، فلا بدَّ أن تفيدَ فائدةً في التطهير، وإلا كان الإناءُ باقيًا على ما كان عليه قبل الغسل، فإذا اكتفى بالمرة الواحدة في تحصيل المقصود، إما بإزالة النجاسة بالتطهير، أو بحصول مقصود الاحتياط بالتطهير، دلَّ على ما ذكرناه. التاسعة عشرة: فيه دليل على جواز الصيد في الجملة، مع تظافر الأدلة من الكتاب والأحاديث والإجماع. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

العشرون

العشرون: فيه دليل على جواز الصيد بالقوس، ولكنه أتى مُعرَّفًا بالإضافة إليه في سؤاله، وفي لفظ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والعرب إنما تَعرِفُ الرميَ بقوس يُرمى عنه بالسهام (¬1)، ولا يكاد يُعلم أن العرب ترمي بقوس يُرمى عنه بالطين اليابس المسمى في زماننا بالبُندق، وإن كان - على بُعدٍ - فالغلبة الكبرى لقوس السهام، ولا عمومَ في السؤال - ولا في الجواب - بالنسبة إلى ما ينطلق عليه اسم القوس، فينصرف إلى المتعيِّن عنده، والغالب عليه، ولا يدخل فيه قوسُ البندق. الحادية والعشرون: المنقول عن بعضِ مصنِّفي الشافعية منعُ الاصطياد بالقوس المعروف عندنا بالبُندق؛ إما تحريمًا، أو كراهة. وعن بعضر المتأخرين: جوازه (¬2). ويمكن أن يستدلَّ على ذلك بأن يقال: لو امتنع لكان لتعريضِ (¬3) الحيوان للموت من غير مَأْكَلة، ولا يمتنع لذلك، فلا يمتنع؛ أما بيان الملازمة، فبالمناسبة وبمقتضى تعليل المانع بذلك. وأما بيان انتفاء اللازم، فلأنَّ الشارعَ قد أَلغى هذا المانع، ولم يعتبرْه؛ لما سيأتي من بيان جواز الاصطياد بالكلب غير المعلَّم، مع أنه ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهرى (6/ 2362)، (مادة: رمى). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووى (13/ 105 - 106). (¬3) "ت": "كتعريض".

الثانية والعشرون

متعرضٌ لأنْ يموتَ قبلَ إدراكِ ذكاته، فيتعرض لوقوع المانع، مع أنه لم يعتبر. ونهيه عليه السلام عن الخذف إن كان يدخل تحته هذا القوسُ، فيتعلق به النهيُ، وفي دخوله تحتَه نظرٌ. الثانية والعشرون: استدل بعضُ المتأخرين على جواز الرمي بهذا القوس بحديث عبد الله بن المغفل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن الخذف، وقال: "إنَّه لا يَنْكَأُ العدوَ، ولا يقتلُ الصيدَ، ولكن يفقأُ العينَ، ويكسِرُ السنَّ" (¬1). قال: فمقتضى هذا الحديث إباحة الصيد بالبندق (¬2)، والله أعلم. وكأنَّه أَخذ هذا من أنَّ العلةَ في النهي على مقتضى لفظ الحديث، أنه لا ينكأُ العدو، ولا يقتل الصيد، فبمقتضى هذا إنما ينكأ العدو، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5162)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: الخذف والبندقة، ومسلم (1954)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو وكراهة الخذف، واللفظ له. (¬2) قال النووي في "شرح مسلم" (13/ 106): في هذا الحديث: النهي عن الخذف؛ لأنه لا مصلحة فيه، ويخاف مفسدته، ويلتحق به كل ما شاركه في هذا. وفيه: أن ما كان فيه مصلحة أو حاجة في قتال العدو، أو تحصيل الصيد فهو جائز، ومن ذلك رمي الطيور الكبار بالبندق إذا كان لا يقتلها غالبًا، بل تدرك حية وتذكَّى، فهو جائز.

الثالثة والعشرون

ويقتل الصيد، لا نهيَ فيه؛ لزوال علة النهي. وهذا هو الذي أشرنا إليه بقولنا: إن كان يدخل تحته هذا القوس، فيتعلق به النهي، والذي قاله هذا القائل دلالةُ مفهوم. الثالثة والعشرون: قد ذكرنا الاستدلال بجواز الصيد بالكلب غير المعلَّم، على جواز الاصطياد بهذا القوس؛ من حيث إن في كل واحد منهما تعريضَ الحيوان للموت من غير مَأْكلة، وقد ألغيَ هذا المعنى في الكلب، فليُلغَ في هذا القوس. ولعلَّ قائلًا يقول: حديث الصيد بالمعراضِ يدل على هذا أيضًا؛ أعني: جواز الصيد بالبندق، ولأن فيه أيضًا تعريضًا لموت الحيوان من غير مأكلة إذا أصاب بعرضه. فنقول على ذلك: الذي استدللنا به من جواز الصيد بالكلب غير المعلم أولى من هذا؛ لأن في الصيد بالمِعْراض ثلاثة أحوال: اثنان منها يُباح بهما الأكل، وهما: إذا أصاب بحده، ولم تدرك ذكاتُه، أو أصاب بعرضه وأُدرِكت ذكاتُه. وحالةٌ لا يباح، وهو ما إذا أصاب بِعَرْضه، ولم تدرك ذكاته. والصيد بهذا القوس ليس فيه إلا حالتان: إحداهما: للإباحة، وهي إدراك ذكاته. والثانية: للمنع، وهو عدم إدراك ذكاته، إذ لا مُحدَّد فيه. ووقوع واحد من ثلاثة، أخرب من وقوع واحد من اثنين، فكان

الرابعة والعشرون

صيد المِعْراض أولى بالجواز من الصيد بالقوس المذكور، فلا يُلحق به الصيدُ بالقوس، والله أعلم. وإنما قلنا: إنَّ وقوعَ واحد من ثلاثة أقربُ من وقوع واحد من اثنين؛ لأن عدمَ وقوعِ واحد من ثلاثة موقوفٌ على أكثر المقدمات؛ لأنه موقوف على عدم كل واحد منهما، وعدم وقوع واحد من اثنين موقوف على عدم واحد (¬1) من الاثنين، والموقوف على أكثر المقدمات أبعد وقوعًا من الموقوف على الأقل، وإذا كان العدم أبعد، فالوجود أقرب. الرابعة والعشرون: يدل على جواز الاصطياد بالكلب؛ أعني: مطلق الكلب؛ لأنه دل على جواز الاصطياد بالكلب المعلَّم، والدال على المقيد دال على المطلق، والاصطياد بغيره من جوارح الطيور والسِّباع، يكون مأخوذًا من القياس، أو من نصٍّ آخرَ، كما ورد في البازي، أو من قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4]، إن لم يكن قوله: {مُكَلِّبِينَ} يقتضي تقييدَها بالكلاب. الخامسة والعشرون: فيه دليل على جواز الاصطياد بالكلب المعلَّم، مع ما دل عليه الكتاب العزيز من ذلك. السادسة والعشرون: وفيه دليل على جواز الاصطياد بغير المعلَّم أيضًا. ¬

_ (¬1) "ت": "كل واحد"، والصواب ما أثبته.

السابعة والعشرون

السابعة والعشرون: فيه البناء على الأصل، أو الغالب؛ لأنه لمَّا أُبيح الصيدُ بغير المعلَّم، وكان من المحتمل أن لا تدرك ذكاتُهُ، فيكون الصيدُ ميتةً، فيكون الاصطياد بغير المعلم تعرضًا لإتلاف الحيوان لغير مَأْكلة، دل ذلك على عدم اعتبار هذا الاحتمال؛ إما لأن الأصلَ بقاءُ حياتِه إلى حين إدراك ذكاته، أو لأن الصائد بالكلب يتبعه ويقرب إدراكه للصيد من أخذ الكلب له؛ فيكون الغالبُ إدراكَ ذكاته. الثامنة والعشرون: هو عام بالنسبة إلى كل كلب له معلَّم، فيدخل تحته أنواعُ الكلاب. ويروى عن أحمد: أنه استثنى الكلب الأسود، وقال: لا يجوز الاصطياد به (¬1)، ونحوه عن الحسن البصري، والنخعي، وقتادة (¬2)، ويُحكى عن الفارسي من أتباع الشافعي موافقتُه (¬3). التاسعة والعشرون: علَّقَ الشارعُ حكمًا على صيد الكلب المُعلَّم، وحكما آخرَ على صيد غير المعلَّم، ولم يبينْ هاهنا التعليمَ المعتبرَ؛ لكونه معلومًا بالعادة عند المُخَاطب، وما كان معلومًا بالعادة وعُلِّق به حكم، رُجِع فيه إلى العادة؛ كما في القبض، والحِرْز، ¬

_ (¬1) وقال أيضًا: لا أعرف أحدًا يرخص فيه، يعني من السلف، ودليله: أنه كلب يحرم اقتناؤه، ويجب قتله، فلم يبح صيده، ولأن النبى - صلى الله عليه وسلم - سماه شيطانًا، ولا يجوز اقتناء الشيطان، وإباحة صيد المقتول رخصة، فلا تستباح بمحرم، كسائر الرخص. انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 297). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 297). (¬3) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 246).

الثلاثون

وغيرِهما، أو يكونُ قد بيُّن للمخاطب التعليم المعتبر، ولم يذكره الراوي؛ لأنه لولا أحدُ هذين الأمرين، لزم تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة. والأول أقرب، وهو أن يكون معلومًا بالعادة، فأُحيل عليها، [وهذا لأن] (¬1) أبا ثعلبة ذكر في سؤاله الكلب المعلَّم، وذلك يدل على معرفته بما يكون به هو عنده معلَّمًا. الثلاثون: الفقهاء ذكروا أوصافًا فيما يُعرف فيه كون الكلب معلَّمًا، والذي يقتضيه لفظ (المعلَّم) أن يكون له حالة حصلت بالتعليم، ومن لوازم هذا أن تكون تلك الحالةُ مخالفةً لما يقتضيه طبعُه، وما يقتضيه تعليمُه من هيئات التعليم؛ لأنه لو لم يكن مخالفًا لما يقتضيه تعليمُه، لكان معلَّمًا في حال تعليمه، وهو باطل، فعلى هذا كل ما يكون طبيعيًا لا اعتبار به، فانطلاقه من غير إطلاقِ صاحبِه طبيعيٌّ، فإذا لم يخرج عن هذه العادة فليس بمُعلَّم، وخروجه عن ذلك بأن ينزجرَ عند زجره عندما يقتضي الطبعُ خروجَه، وسيأتي الكلام فيه، ويدل على هذا أيضًا من الحديث رواية همَّام بن الحارث، عن عَدِي بن حاتم قال: "وإنْ قتلْنَ ما لم يَشْرَكْهَا كلبٌ ليسَ معها" (¬2)، فمجرد هذا يشير إلى اعتبار إرساله؛ لأنه عليه السلام لم يعلقِ ¬

_ (¬1) "ت": "ولهذا إن". (¬2) رواه مسلم (1929)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة.

الحادية والثلاثون

الحكمَ بعدم تعليمها، بل بأنه ليس معها؛ أي: فلا يكون مرسلًا من جهتك. الحادية والثلاثون: اعتبر في التعليم أن يسترسلَ بإرسال صاحبِه وإشارتِه؛ أي: إذا أُغريَ بالصيد هاج (¬1). الثانية والثلاثون: اعتبر أن ينزجر بزجره، هكذا أُطلق، وعن إمام الحرمين: يعتبر ذلك في ابتداء الأمر، وأما إذا أُطلق واشتد عَدْوه وجَرْيُه، ففي اعتباره وجهان، قيل: والأشبه الاعتبار، فإن التأديب به يظهر (¬2). ووجهُ المنعِ استبعادُ أن يلتفتَ (¬3) حينئذ. الثالثة والثلاثون: اختير في التعليم عدم الأكل من الفريسة، وفيه خلافٌ سيأتي - إن شاء الله تعالى - في غير هذا الموضع. الرابعة والثلاثون: علق حل الأكل على أمرين: أحدهما: تعليم الكلب. والثاني: ذكر اسم الله تعالى. فينتفي الحكمُ عند انتفاء المجموع، وانتفاؤه بانتفائهما معًا، أو ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 246). (¬2) انظر: "الوسيط" للغزالي (7/ 108)، و "روضة الطالبين" للنووي (3/ 246). (¬3) "ت": "يتلف"، وكتب على الهامش: "لعله: يلتفت"، قلت: وهو الصواب.

الخامسة والثلاثون

بانتفاء أحدِهما، فيمتنع الأكل عند عدم التعليم، وعند عدم التسمية، فالحكم في الإثبات واحدٌ يتعلق بأمرين، وفي النفي بثلاثة أمور. الخامسة والثلاثون: اشتراطُ التعليم في حل مَصِيد الكلب، يدل على نفي الحل عن مصيد غير المُعلَّم من الكلاب بطريق المفهوم، ولا يدلُّ على نفيه عن غير المعلم من غير الكلاب؛ كالفهد والنمر وما أشبهه، وإنما يؤخذ من دليلٍ آخرَ على ما نبَّهنا عليه. السادسة والثلاثون: قوله عليه السلام: "فَمَا صِدْتَ بقوسِكَ فاذكرِ اسمَ اللهِ وكُلْ، وما صِدْتَ بكلبِكَ المعلمِ، فاذكرِ اسمَ اللهِ وكُلْ" يدلُّ على اشتراط التسمية في الحل؛ لأن ظاهرَ الأمرِ الوجوبُ، وسيأتي الاستقصاء في المسألة إن شاء الله تعالى. السابعة والثلاثون: يقتضي إباحةَ ما صِيْدَ بسهمه، سواء صنعه أو بَرَاه وَثَنِيٌّ، أو غيرُه. الثامنة والثلاثون: يقتضي إباحةَ أكلِ ما قتله كلبُه المُعلَّمُ، سواء علَّمه من تُباح تذكيتُه، أو لا. وذكر ابنُ حزم في "المُحلَّى" قال: وقال قوم: لا يؤكل صيدٌ جارحٌ علَّمه مَن لا يحِلُّ أكلُ ما ذكَّى. قال: روينا من طريق وكيع، ثنا جرير بن حازم، عن عيسى (¬1) بن عاصم، عن علي بن أبي طالب: أنه كره صيدَ بازي المجوسي ¬

_ (¬1) "ت": "يحيى"، والتصويب من "المحلى" و"مصنف ابن أبي شيبة".

وصقرِه (¬1)، وصيدُ المجوسي [للسمك] كرهه أيضًا (¬2). قال: ومن طريق عبد الرزاق، عن حُميد بن رُومان، عن الحجاج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لا يُؤْكَلُ صيدُ كلب المجوسي، ولا ما أصاب سهمُه (¬3). قال: وروينا هذا أيضًا من طريق سعيد بن منصور، ثنا عتَّاب بن بشير، أنبأ خُصَيف قال: قال ابن عباس: لا تأكل ما صدتَ بكلب المجوسي وإن سمَّيت، فإنه من تعليم المجوس، قال الله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] (¬4). وجاء هذا القول عن عطاء، ومجاهد، والنخعي، ومحمد بن علي، وهو قول سفيان الثوري. قال: واحتج أهل هذه المقالة بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، قالوا (¬5): فجعل التعليم لنا. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (19629)، عن علي: أنه كره صيد صقره وبازه فيعني: المجوسي. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (19675) عن علي: أنه كره صيد المجوسي للسمك. (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (8495). (¬4) ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"، كما نسبه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 23). (¬5) "ت": "قال".

التاسعة والثلاثون

قال: ولا حجةَ لهم في هذا؛ لأن خطابَ اللهِ تعالى بأحكام الإسلام لازمٌ لكل أحد، وبالله التوفيق. قال: وهذا مما خالفوا فيه الرواية، لا يُعرفُ لهم في الصحابة - رضي الله عنهم - مخالفٌ (¬1). التاسعة والثلاثون: لما قسم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الكلبَ إلى معلَّم وغيرِ معلَّم، وحكم بأكل ما صِيد بالمعلَّم، وبأكل ما أُدركت ذكاتُه من غير المعلَّم، دلَّ ذلك دلالةً ظاهرة على أن المعلَّم لا يُشترط في حِلِّ صيدِه وقوعُ الذكاة، إذا لم تُدرَك، وأنه يُباحُ أكلُ ما قتله إذا لم تدرك ذكاته مهما انطلق عليه أنه صَادَه. الأربعون: فيه إباحة الاصطياد بالكلب غير المعلم من جهة إباحة أكل ما صِيد به إذا أُدركت ذكاته، وذلك فرع الاصطياد به، فلو كان ممنوعًا لنهى عنه، وهذا أبلغُ في الدلالة على الإباحة من التقرير على الاصطياد به - لو رآه يصطاد به - على أنه قد ذَكر السائلُ أنه يصيد بغير المعلم، ولم يُنكِرْ عليه. الحادية والأربعون: قد يوجد (¬2) من إطلاقه إباحةُ كل ما صاده بالكلب المعلم، وإن أكل منه، وقد اختلفوا في المسألة، وقديمُ قولي ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 476). (¬2) كثيرًا ما تستعمل كلمة (يوجد) عند الفقهاء بمعنى: يستفاد، أو يتحصَّل، واستعمال المؤلف - رحمه الله - كلمة (يوجد) هنا من هذا.

الثانية والأربعون

الشافعي الإباحةُ، وجديدُهما المنعُ (¬1)، إلا أنَّ المنعَ من أكله بعد أكل الكلب منه يقتضي اشتراطَ شرطٍ آخرَ، يجب إضافته إلى هذا الإطلاق، وفي الباب أحاديثُ أُخرُ تدل على الأكل منه وإن أكل، وسيأتي ذكرُ المسألة - إن شاء الله تعالى - في الصيد، ونبين الصحيح من تلك الأحاديث، وما عُلِّل منها، أو ضُعِّف، غير أنَّ المقصودَ أن هذا الإطلاق قد يَستدِلُّ به من يرى الجواز، وقيامُ المعارض لا يمنع الدلالة، والله أعلم. الثانية والأربعون: ومن هذا القبيل استرسالُ الكلب إذا حصل به الصيد، فقد مُنع من أكل صيده على هذا الوجه. واستُدِلَّ بقوله عليه السلام: "إذا أرسلْتَ كلبَكَ المعلمَ" على اشتراط الإرسال، ولا يوجد من حديث أبي ثعلبة الجواز في هذه المسألة؛ إما لأن مقتضى اللفظ الحل للصائد، وذلك يقتضي فعلًا ينسب إليه، وإذا لم يرسل الكلب لم ينسب إليه الصيد، فلا يكون صائدًا، وإما لأنه، وإن كان صائدًا، فالحديث الذي استدل به على جواز (¬2) اشتراط الإرسال، يقتضي زيادةً على هذا الإطلاق، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 162). (¬2) أريد بالجواز هنا: المعنى اللغوي، وهو الإمكان، لا المعنى الفقهي الاصطلاحي.

الثالثة والأربعون

الثالثة والأربعون: قوله عليه السلام: "ما صدتَ" - كما قدمناه - يقتضي نسبةَ الفعل إليه، فلو وقع السهمُ اتفاقًا من يده، فجرح صيدًا ومات بجرحه، لم يكن صائدًا له، فلا يحلُّ؛ لتوقف الحل على حقيقة كونه صائدًا، وانتفاء ذلك بسقوط الآلة اتفاقًا. وعن أبي إسحاق من الشافعية: أن السكين إذا وقعت من يده على حلق شاة وقتلتها: أنه يحل، والصيدُ مثله (¬1). الرابعة والأربعون: في مرتبة أخرى أقربُ إلى الجواز مما قبلها: قَصَدَ إلى الفعل، فأرسل سهمًا، ولم يقصِدْ إلى الاصطياد، ولا خَطَر بباله الصيدُ. عن أبي إسحاق من الشافعية حلُّه (¬2)، والمشهور عدم الحل؛ لأنه لم يقصد الصيد لا معيَّنًا ولا مبهمًا (¬3)، وهذا بناء على أن نسبة الفعل إلى الفاعل يقتضي قصدَه إليه، فإذا لم يقصد الصيد، فليس بصائد، والحل مرتَّبٌ على كونه صائدًا؛ لقوله عليه السلام: "إذا صدتَ بقوسِكَ". الخامسة والأربعون: في مرتبة أخرى: أرسل كلبًا حيث لا صيدَ، فاعترض صيدًا فأخذه: لم يحلَّ على المشهور عند الشافعية، وقيل: ¬

_ (¬1) انظر: "المهذب" لأبي إسحاق الشيرازي (1/ 255). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 250 - 251).

السادسة والأربعون

هو كالسهم فيجري فيه الخلاف (¬1). وهذه المرتبة أقربُ إلى المنع من مسألة السهم المُرسَل؛ لأنه إذا اعتُبر الانتسابُ إلى الفاعل، فالانتساب في باب السهم أقوى من الانتساب في إرسال الكلب؛ لأن الإصابة بالسهم متولدةٌ عن فعله، فهو أقرب إلى الانتساب مما يفعله الكلبُ. السادسة والأربعون: تكلم بعضُ الفقهاء فيما يقع اسم الاصطياد عليه، فذُكر أنه يقع على العقر المزهق في الوحشي، ويقع على ما هو أعمُّ منه، وهو إثبات اليد عليه، وإبطال امتناعه. السابعة والأربعون: أكثر الفقهاءُ التفريعَ على اعتبار القصد، وذكروا مسائلَ كثيرةً، فذكرنا بعضها، فإن كان مأخذ ذلك أن القصدَ معتبرٌ في تسمية الشخص صائدًا، فاللفظ الذي في الحديث يدل على كثير من تلك المسائل، وإن كان اسم الصائد له حاصلًا دونَ قصدٍ، فهذا يَحتاج في اعتبار القصد إلى دليل خارج. وعلى الأول - وهو أن يكون كونه قاصدًا لا بد منه في تسميته صائدًا -: يبقى النظر في مراتب القصد، وما هو معتبر منها وما لا يعتبر. والذي يقتضيه الحالُ: أن يُنظَرَ في مقتضى اللفظ لغة، فما انطلق عليه أنه صائدٌ به دخل تحت اللفظ، ومتى اشتُرط شرطٌ آخر، فيحتاج ¬

_ (¬1) المرجع السابق (3/ 251).

الثامنة والأربعون

إلى دليل خارج، وما لا ينطلق عليه به أنه صائد، لا يدخل تحت اللفظ، فلا يؤخذ من الحديث. وللقصد مراتب: القصد إلى الفعل، والقصد إلى الصيد، والقصد إلى المصيد؛ إما عمومًا أو خصوصًا، وقد بينا الكلام على القصد إلى الفعل واعتباره في اسم الصائد، فإن من وقع منه سهم اتفاقًا فذبحت، لا يسمى صائدًا، وبعدَه القصدُ إلى مطلق الصيد، وقد بيناه، والله أعلم. الثامنة والأربعون: وبعدَهُ القصدُ إلى جنس المصيد؛ كما إذا رأى سِربًا، فأرسل إليه سهمه، أو كلبه، فأصاب منه بعضه، فهو حلال، وإن لم يقصد عينه؛ لأن اسم الصائد ينطلق عليه، ولا يُخْرِج الناسُ فاعلَ هذا عن كونه صائدًا؛ لكثرة ما يقع من الصائدين، وقلة قصدهم إلى شيء بعينه من السرب. التاسعة والأربعون: القصد إلى عين المصيد، قد قدمنا أنه لا يشترط، ولكنه لو وقع فرمى إلى ظَبية فأصاب غيرَها من جنسها، فهل يكون هذا القصد مانعًا حتى لا يحل؟ أقوال: أحدها: وهو الأصح عند الشافعية، والمروي عن أبي حنيفة: الحل؛ لوجود القصد (¬1). والثاني: المنع؛ لعدم القصد إلى العين. ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 121).

الخمسون

والثالث: أنه إن كان يرى الصيد الثاني حالةَ الرمي، حلَّ أكلُ المُصَاب، وإن كان لا يراه حينئذٍ لم يحل؛ كما لو رمى سهمًا، وهو لا يرى صيدًا، فأصاب صيدًا (¬1). الخمسون: رمى بسهم، فعدل عن الجهة التي قصدها إلى غيرها، فأصاب: قالوا بالحِل، وهو مندرج تحت لفظ الحديث، فإنه صائدٌ بسهمه. الحادية والخمسون: إذا أرسل كلبًا إلى جهة صيد، فعدل عن الجهة إلى أخرى، وأصاب صيدًا: ففيه اختلاف، ورجَّح بعضُ الشافعية الحِلَّ، قالوا: لأنه أرسله على الصيد، وأخذ الصيد، وتكليفُه أن لا يعدلَ من جهة إلى جهة، بعيد (¬2). ووجه التحريم: أنه مضى في تلك الجهة باختياره، فهو كما لو استرسل بنفسه. والقول بالحلِّ مندرجٌ تحت إطلاق قوله عليه السلام: "وما صدتَ بكلبِك المعلَّمِ فكُلْ"، لكنه ليس الأخذ به بالقوي من حيث اللفظ؛ لأن العدول والاختيار من قَبيل المانع، وهو هاهنا فيه قوةٌ بدليل اعتباره في المانعية في ابتداء الحال، إلا أنه يعارضه ما تقدمت الإشارة إليه من عسر تكليف الكلب عدمُ العدول إلى جهة أخرى، وإذا كان ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 252). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الثانية والثالثة والخمسون

عَسِرًا في التعليم ألا يتكلف، قَرُب أن لا يعتبر، فإذا تعادل الأمران - أعني: هذين المعنيين - في نظر المجتهد، فالجري على الإطلاق حينئذٍ قوي، وإن لم يكنْ قبل فرض التعادل بالقوي (¬1). الثانية والثالثة والخمسون: لفظ هذا الحديث ليس عامًا بالنسبة إلى كل صائد، وإنما هو خطاب لإنسان معين، ذي أوصاف، فكل وصف له يجب إلغاؤه في هذا الحكم أُلغي، وما اعتُبر شَارَكَهُ فيه مَنْ يُشارِكه في الوصف، بالدليل الدال على عموم الأحكام للمكلفين، والله أعلم. الرابعة والخمسون: لفظ الصيد يقتضي أخذَ المُتوحِّش المَعجوزِ عنه، والاستيلاءَ عليه، إذ لا يسمى آخذ المستأنس المظفور به صائدًا، فيقتضي عدم حل المستأنس بأخذه بآلة الصيد؛ كالسهم والجارح. الخامسة والخمسون: ويلزم منه أيضًا أن ما استأنس من المتوحشات يزول عنه اسم الصيد، فلا يؤكل بما يؤكل به الصيد. السادسة والخمسون: أما ما استوحش من المستأنسات، فقد اختلف العلماء فيه، والمتبع الاسم؛ أعني: كونه صائدًا؛ لقوله عليه السلام: "إذا صدتَ"، فإن سمي صيدًا اندرج تحت اللفظ، وإلا فَمَنْ منع فله أن يستدل بالمفهوم، ومن أجاز فبدليل خارجٍ عن هذا اللفظ. ¬

_ (¬1) "ت": "ليس بالقوي".

السابعة والخمسون

السابعة والخمسون: هذه الإضافة التي في قوله عليه السلام "بكلبِكَ"، كما ذكرنا وأشرنا إليه، تجري مجرى الصفة، فالتقييدُ بها على مقتضى القول بالمفهوم يقتضي نفيَ الحكم عما عداها، فيقتضي أنه إذا لم يَصِد بكلبه لم يحصل الحل، فيدخل تحته - أعني: عدم الحل - كلبُه إذا استرسل، وكلبُ غيره إذا أرسله غيرُ مالكِه. الثامنة والخمسون: قد اختلفوا فيما إذا غصب كلبًا واصطاد به، هل يكون المصيد للمالك، أو الغاصب؟ فقد يستدل به من يقول: إن الصيد للغاصب، إذ لم يَصِد بكلبه، إلا أنه يدخل تحته ما يكون المصيد فيه للصائد، وليس ما يصيده بكلبه؛ كالمُعار. فإما أنْ يُقال: إن الإضافة يكفي فيها أدنى مُلابَسة، فيكون كونه تحت يده مُصحِّحًا لكونه كلبه مع تأيُّد ذلك بأنه ليس المقصود ظاهرًا الملك للكلب. فإن احتج بذلك على مسألة غصب الكلب، ويقال: ما خرج عنه بالدليل، أو بالإجماع يستثنى، ويبقى حجة في الباقي إن أمكن ذلك؛ لكنه عندنا يجري مجرى الجَدَليَّات الذي يَقصِدُ المجتهدُ المحققُ غيرَها. فإن قلت: الخلاف في مسألة الصيد راجع إلى أن المستحق للصيد هو المالك، أو الغاصب، لا إلى أنَّ المَصِيدَ هل هو ميتة، أم

التاسعة والخمسون

لا؟ وليس المقصودُ من الحديث بيانَ مَنْ المالك، فلا يصح التمسك به فيما يقصد بالحديث، وهو ما يكون مصيدًا شرعًا، أم لا؟ قلت: من اعتبر المقاصدَ من الكلام فقد يتجه هذا السؤال عليه، ويمكن أن يقال: الحديث دل على إباحة الأكل لقوله: "فكُله"، وإباحة الأكل يستدعي الملك، وينافيها الغصب لو كان الملك لغيره، وهذا يناسب مذهبَ الظاهرية ومن يرى أن المقصودَ من الحديث إباحةُ الأكل من جهة الاصطياد، لا من كل جهة. التاسعة والخمسون: قد يستدل به من يقول: إن الكلب يُملك باعتبار الإضافة، ويدعي أن كلبَه حقيقةٌ فيما يملكه، وقد عرف من مذهب الشافعية رحمهم الله: أنه إذا حلف لا يدخل دار فلان وأطلق: أنه يحمل على ما يملكه (¬1). وهذا يقتضي أن الإضافةَ حقيقةٌ في الملك؛ لأن اللفظ إنما يُحمل عند الإطلاق على ما تقتضيه حقيقتُه. الستون: قوله عليه السلام: "فأدركْتَ ذكاتَهُ فكُلْ" يُحمل الإدراكُ هاهنا على فعل الذكاة وإيقاعِها، فيدل على أن صيد غير المعلم لا يحل إلا بالذكاة، وقد فارق صيد المعلم؛ لأن ذلك يحل من غير فعل الذكاة؛ كما لو قتله قبل مجيء صائده. يبقى هنا ما لا يسمى ذكاة، ما حكمُه؟ ¬

_ (¬1) انظر: "الوسيط" للغزالي (7/ 243).

الحادية والستون

الحادية والستون: قد يتعلَّقُ به من لا يشترط التسميةَ في الحل، فإنه مطلق فيما إذا أدركت ذكاة المصيد بغير المعلم، فيدخل تحته ما لم يحصل فيه التسمية. وهو ضعيف؛ لأن الدلائل التي دلت على اشتراط التسمية في الصيد قوية، ومُعارِضها ضعيف، وذلك يوجب إلحاقَ شرط زائد على ما دل عليه الإطلاقُ، وتُلحق صورةُ عدمِ التسمية بقيام المانع الذي لا يقصد عند الإطلاق، كما تقول: الصيد مباح بالإجماع، ولو أدى في بعض الصور إلى ترك الصلاة وإخراجها عن وقتها يحرم، ولم يمنع ذلك من إطلاق القول بإباحته؛ كما أن هذا عارضٌ مانعٌ لا يمنع من الإطلاق، فكذا هاهنا. ومن طريق البحث يقال: لا يسلم أنه أُدركت ذكاته؛ لأن الذكاة الشرعية ما يكون معها التسمية. الثانية والستون: قد يستدل به في مسألة تردِّي البهيمة في مَهْواة يُعجز معها عن ذبحها في الحلق واللُّبة عند الإطلاق العرفي، وإذا لم تدرك ذكاته وجب أن لا يحل؛ لدلالة الحديث على اشتراط الذكاة، والمعلقُ بالشرط عدمٌ عند عدمه، كما قُرِّر في الأصول، وإذا لم يؤكل في هذه الصورة في بقية الصور ضرورةً إذ لا قائلَ بالفرق، وهو أيضًا ضعيف إن صح الدليلُ على الاكتفاء في تلك الصورة بغير الذبح،

الثالثة والستون

وقويت دَلالتُه على دلالة هذا الإطلاق؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها. الثالثة والستون: إذا عُلِّق الحكمُ بوصفين، وفرَّعنا على القول بالمفهوم، وأنه ينتفي الحكم عمَّا عدا المنطوق، اقتضى ذلك انتفاءَ الحكم بانتفاء مجموع الوصفين، وبانتفاء كل واحد منهما؛ كما إذا قال: إذا جاءك فقيه زاهد فأكرمْهُ، فإذا انتفى الوصفان معًا، وهو أن يأتيَ غيرُ فقيه ولا زاهد فلا إكرامَ، وإذا انتفى وصفُ الفقه فقط بأن يجيء غيرُ فقيهٍ زاهد فلا إكرام. وكذلك لو قيل: في سائمة الغنم الكبرى زكاة، لانتفى وجوبُ الزكاة بانتفاء الوصفين معًا، وهي أن تكون الغنم معلوفًة صغرى، وبانتفاء السَّوْم فقط بأن تكون معلوفةً كبرى، وبانتفاء وصف الكبر فقط، وهي أن تكون سائمةً صغرى. الرابعة والستون: فإذا تقرر هذا، فَلِسائل أن يسألَ ويقولَ: قد عُلِّق الحلُّ على صيد غير المعلم وإدراك الذكاة، فإذا جرينا على هذه القاعدة جاءت لنا ثلاث صور: انتفاء الوصفين معًا: وهو أن يكونَ معلَّمًا لم تدرك ذكاتُه. وانتفاء الوصف الأول: وهو أن يكونَ معلَّما أدركت ذكاتُه. وانتفاء الوصف الثاني: وهو أن يكونَ غيرَ معلَّم لم تدرك ذكاتُه. فأما أداء القسم الأخير، فظاهر أنه لا يؤكل، وجرى الأمر

فيه على القاعدة. وأما القسمان الأوَّلان، فلم يجرِ الأمرُ فيهما على القاعدة؛ لأن المعلَّمَ الذي لم تدرك ذكاتُه مأكول، وصيد المعلم الذي أدركت ذكاته مأكول أيضًا. والجواب من وجهين: أحدهما: أن ما يذكر من الأوصاف التي يقيد بها الحكم، منها ما يمكن أن يكون وصفاً معتبراً فيه، وعدم التعليم ليس وصفاً معتبراً في حل الصيد ولا يناسب الاعتبار، فلا يكون الحكم مرتباً إلا على التذكية في غير المعلم؛ لأنه الوصف المعتبر في الحل على ما نطق به الكتاب العزيز في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وإذا كان مرتباً على وصف واحد، وهو التذكية في غير المعلم، دلَّ على انتفاء الحكم عما عداه، وهو عدم التذكية في غير المعلم، لا غير. والوجه الثاني: أن محلَّ السكوت إذا كان الحكم فيه ثابتاً بطريق الأَولى، وجب الحكمُ به فيه، ولا يجوز أن يقالَ فيه بالمخالفة، وهو الذي يسمى بمفهوم الموافقة. والصورتان الأُوليان إحداهما من هذا القَبيل، فإنه إذا حل أكل ما ذكى من صيدِ غيرِ المعلم، فلأَنْ يحِلَّ كلُ ما ذكى من صيد المعلم أولى؛ لأن وصف التعليم لا يكون مانعاً قطعاً، فخرج

الخامسة والستون

الجواب عن هذه الصورة. وأما الصورة الأخرى: وهو المعلم الذي لم تدرك ذكاته، وأنه يلزم فيها عدم الحل، فالجواب عن ذلك: أن الشارع لما قسَّم الكلابَ إلى قسمين؛ معلمِ وغيرِ معلمِ، وأفرد غيرَ المعلم باشتراط الذكاة، عُلم أن المعلم بخلافه؛ لأنه الحكم الذي قصد فيه بيانَ الفرق بينهما، وهذا في غاية الظهور، حتى يكاد يكون كالصريح فيه، ودلالة ذلك على إباحة أكل ما لم تدرك ذكاته من صيد المعلم أقوى من دلالة هذا المفهوم الذي ذُكر على تحريمه، والعمل بأقوى الدليلين واجب، وهذا الذي ذكرناه ليس من مجرد المفهوم، بل من أمر زائد، وهو التقسيم إلى نوعين خُص أحدُهما بحكم معين لا غير، وهو أمر زائد علي مجرد المفهوم، إذ لو لم يفترقا في ذلك لبطلت فائدة التقسيم. الخامسة والستون: صيغة الأمر بالأكل في الحديث للإباحة فقط، فتخرج عن حقيقتها في الوجوب بالقرينة، فاذا اقتضى المفهومُ انتفاءَ الحكم عند انتفاء الوصف، فالمنتفي هو الإباحة. السادسة والستون: إذا دل مفهومُ المذكور في الحديث على انتفاء الحكم عما عدا المذكور، انضما إليه هاهنا دليل آخر، وهو أن الأصلَ تحريمُ أكلِ الميتة، فاذا قُيَّد الحِل بوصف، استند في عدم الحل عند انتفاء الوصف إلى أصل التحريم للميتةّ، فيتظافر دليلان.

وكذلك في كل ما هو من هذا القبيل مما يقتضي الأصلُ الشرعي تحريمَه، فيَخرج عنه شيء يشترط، فيُستند فيه إلى دليلين؛ المفهوم والأصل، وله نظائر، والله أعلم بالصواب. * * *

الحديث الخامس

الحديث الخامس وثبثَ من حديث عمرانَ بنِ حُصينٍ قالَ: كُنَّا فِيْ سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفِيهِ: ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فتَوَضَّأ، وَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْفتلَ مِنْ صَلاَتِهِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلّ مَعَ الْقوْمِ، فَقَالَ: "يَا فُلاَنُ! مَا مَنَعَكَ أَنْ تصَلِّيَ مَعَ الْقوْمِ" (¬1)؟ فَالَ: أَصَابتي جَنَابَة ولا وَلاَ مَاءَ، قالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ". ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَاشْتكَى النَّاسُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَلَ فَدَعَا فُلاَناً - كَانَ يُسَمِّيهِ أبو رَجَاءٍ فَنَسِيَهُ عَوْف - وَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: "اذْهَبَاِ ابْغيَا (¬2) الْمَاءَ". فَانْطَلَقَا، فَلَقيَا (¬3) امْرَأة بَيْنَ مَزَادتيْنِ، أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى ¬

_ (¬1) كذا في "ت". وفي نسخة "الإلمام" بخط ابن عبد الهادي (ق 4 / أ)، وكذا في المطبوع من "الإلمام" (1/ 56): "مامنعك يا فلان أن تصلي مع القوم". (¬2) كذا في "ت"، وفي نسخ "الإلمام": "فابغيا". (¬3) في نسخ "الإلمام": "فتلقيا".

بَعِيرٍ لَهَا، فَقَالاَ لَهَا [أينَ الماءُ؟ فقالت: عَهْدِي بِالمَاءَ أَمسِ هذه الساعةَ، ونَفَرُنَا خُلُوف، قالا لَهَا:] (¬1): انْطَلِقِي إِذنْ. وفيه: وَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإنَاء، فَأفْرغَ فِيهِ مِنْ أفوَاهِ الْمَزَادتيْنِ، أَوِ السَّطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأ أَفْوَاهَهُمَا، وَأَطْلَقَ الْعَزَالِيَ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: أَنِ اسْقُوا واسْتَقُوا، فَسَقَى مَنْ سَقَى، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ، وَكَانَ آخِرَ ذَلِكَ: أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "اذْهَبْ، فأفْرِغهُ عَلَيْكَ"، متَّفق عليه (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة من نسخة "الإلمام" بخط ابن عبد الهادي (ق 4 / أ)، وكذا من مطبوعة "الإلمام" (1/ 56). (¬2) * تخريج الحديث: رواه البخاري (337)، كتاب: التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء، و (341)، باب: التيمم ضربة، ومسلم (682)، (1/ 476)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، والنسائي (321)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم بالصعيد، من طريق عوف بن أبي جميلة، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، به. ورواه البخاري (3378)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم (682/ 312)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، من طريق سلم بن زَرير، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، به.

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف بمن ذكر: أما عِمْرانُ بن حُصَين - رضي الله عنهما -: قال ابن الأثير في كتاب "معرفة الصحابة" المسمى "أُسد الغابة": عمران بن حصين بن عُبيد (¬1) بن خَلَف بن عبد نُهم بن حذيفة بن جَهْمة بن غَاضِرة بن حبشية ابن كعب بن عمرو الخُزاعي، قاله ابنُ مَنده وأبو نعيم. وقال أبو عمر: عَبْدُ نُهم بن سالم بن غاضرة. وقال الكلبي: عبد نُهم بن جُرَيْبة بن جهمة. واتفقوا في الباقي. يكنى أبا نُجيد، بابنه نُجيد، أسلم عامَ خيبر، وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوات. بعثه عمرُ بن الخطاب إلى البصرة ليفقِّه أهلَها، وكان من فضلاء الصحابة، واستقضاه عبدُ الله بن عامر على البصرة، فأقام قاضياً يسيراً، ثم استَعفى، فأعفاه. قال محمدُ بن سيرين: لم نرَ في البصرة أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يفضُل على عمران بن حصين. وكان مجابَ الدعوة، ولم يشهد الفتنة. ¬

_ (¬1) "ت": "عتبة" وهو خطأ.

روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه الحسنُ، وابنُ سيرين، وغيرُهما. ثم قال: وكان في مرضه تُسلّم عليه الملائكةُ، فاكتوى، ففقد التسليم، ثم عاد إليه، وكان به استسقاء، وطالَ به سنينَ كثيرة، وهو صابر عليه، وشق بطنه، وأخذ منه شحم، ونقب له سرير، فبقي عليه ثلاثين سنة. ودخل عليه رجل فقال: يا [أ] با نُجيد! والله إنه ليمنعني من عيادتك ما أرى بك، فقال: بايعني فلا تبخس، فواللُّه إن أَحبَّ ذلك إليَّ أحبَّه إلى الله عز وجل. وتوفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين، وكان أبيض الرأسِ واللحية، وبقي له عَقِب بالبصرة (¬1). وأما أبو رجاء: فهو عمران بن عبد الله، ويقال: ابن تَيْم، ويقال: ابن مِلْحان العُطَاردي البصري، أدرك زمانَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، روى عن أبي حفص عمرَ بنِ الخطاب العدوي، وأبي العباس عبد اللُّه بن ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 9)، "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 408)، "الثقات" لابن حبان (3/ 287)، "المستدرك" للحاكم (3/ 534)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1208)، "أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 269)، "تهذيب الكمال" للمزي (22/ 319)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 508)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 705).

العباس الهاشمي، وأبي نُجيد عمرانَ بنِ حصين الخُزَاعي. وروى عنه أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني، وأبو عَون عبد الله بن عون المزني، وأبو خالد قُرَّة بن خالد السَّدُوسي. والقول بأنَّه عمرانُ بن تَيم: هو قول يحيى بن معين في رواية عباس الدُّوري (¬1). والقول بأنَّ اسمَه عمران بن ملحان: هو قول البخاري، قال: عمران بن مِلْحان أبو رجاء العطاردي. قال أحمد: اسمه عمران بن عبد الله. والمروي عن ابن نمير محمد بن عبد الله: أبو رجاء عمران بن مِلْحان. قال أبو عمر بن عبد البر: أدرك الجاهليةَ، ولم يرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمع منه، واختلف هل كان إسلامه في حياة النبي، وقيل: إنه أسلم يومَ الفتح، والصحيح: أنه أسلم بعد المبعث. وروى أبو عمر بإسناده عن أبي عمرو بن العلاء، قال: قلت لأبي رجاء العطاردي: ما تذكر؟ قال: قَتْلُ بِسْطام بن قيس، قال الأصمعي: قتل بسطام بن قيس قبل الإسلام بقليل، قال أبو عمرو بن العلاء: وأنشد أبو رجاء العطاردي [من الوافر]: ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ ابن معين - رواية الدوري" (4/ 235).

وخَرَّ على الأَلاءَة (¬1) لم يوسَّدْ ... كأنَ جبينَهُ سيفٌ صقيلُ (¬2) قال أبو عمرو: هذا البيت من شعر [ابن] عَنَمة في بسطام بن قيس، ومن ذلك قوله فيه [من الوافر]: لكَ المِرْباع منها والصَّفَايا ... وحُكْمُك والنَّشِيطةُ والفضولُ أماتته بنو زيدِ بنِ عمروٍ ... ولا يُوفي ببسطامٍ قتيلُ وخرَّ على الألاءةِ لم يوسَّدْ ... كأنَّ جبينَهُ سيفٌ صقيلُ (¬3) قلت: النَّشِيطَة - مفتوح النون مكسور الشين المعجمة، وبعد الياء طاء مهملة -: ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل البلوغ إلى الموضع الذي قصدوه (¬4) (¬5). قال أبو عمر: وقد قيل: إن قتل بسطام يومَ مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، يُعدُّ في كبار التابعين، ومعظم روايته عن عمر، وعلي، وابن عباس، ¬

_ (¬1) الألاءة مفرد الألاء، وهو نوع من الشجر، انظر: "لسان العرب" لابن منظور، (مادة: أل أ). (¬2) ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 138)، وابن قتيبة في "غريب الحديث" (2/ 580). (¬3) انظر: "الأصمعيَّات" (ص: 36)، (القصيدة: 8). (¬4) في "ت" زيادة: "يعني: أبا رجاء"، ولم أثبتها لخروجها عن سياق الكلام. (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1163)، (مادة: نشط).

وسمرة، وكان ثقة، روى عنه أيوب السختياني وجماعة. قال أبو عمر: وكان أبو رجاء يقول: بُعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا أرعى الإبلَ على أهلي، وأر [يـ]ـش وأبري، فلما سمعنا بخروجه لحقنا بمسيلمة. قال: كان رجاء رجلاً فيه غفْلة، وكانت له عيال، وعُمِّر عمرًا طويلاً أزيدَ من مئة وعشرين سنة، مات سنة خمس ومئة في أول خلافة هشام بن عبد الملك (¬1). وأما عوف: فهو ابن أبي جمِيلة، بفتح الجيم وكسر الميم، قيل: اسمه بَنْدويه، وقيل: رزينة، ويعرف عوف بالأعرابي، وليس بأعرابي الأصل. يكنى أبا سهل، ويقال: أبو عبد الله، يُعدُّ في البصريين. سمع أبا رجاء العطاردي، والحسن وسعيداً ابني الحسن ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 138)، "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 410)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 303)، "الثقات" لابن حبان (5/ 217)، " رجال صحيح البخاري" للكلاباذي (2/ 572)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1209)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 220)، "تهذيب الكمال" للمزي (22/ 356)، - "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 253)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (7/ 148)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (8/ 124).

الوجه الثاني

البصري، ومحمد بن سيرين، وسيار بن سلاَمة، والنضر بن شميل. قال أبو طاهر: قال يحيى بن سعيد القطان وأبو نعيم: مات سنة ست وأربعين ومئة، وقال: اتفق الشيخان على إخراج حديثه في "الصحيحين"، واتفقا على روايته عن أبي رجاء، وانفردَ مسلمٌ بروايته عن النضر، وانفرد البخاري بباقي من سميناه، والله أعلم (¬1). * * * * الوجه الثاني: قد ذكرنا أنه متفقٌ عليه، أخرجه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله، وقد اتفقا على إخراجه بين تطويل واختصار من حديث عوفٍ، وهو الأعرابي، وسَلْم بن زَرِير، كلاهما عن أبي رجاء، وهو عمران. وسَلْم هذا ثقة، وهو - بفتح السين المهملة، وسكون اللام - وزَرِير والده، بفتح الزاي المعجمة، وبعدها راء مهملة مكسورة، ثم ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 258)، "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 58)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 15)، "رجال صحيح البخاري" للكلاباذي (2/ 587)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 354)، "تهذيب الكمال" للمزي (22/ 437)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (8/ 148).

الوجه الثالث

ياء آخر الحروف، ثم راء مهملة. وأخرجه البخاريُّ مطولاً في الطهارة عن مسدد، عن يحيى القطان، عن عوف (¬1)، ومختصراً عن عبدان، عن ابن المبارك، عن عوف (¬2). وأخرجه في علامات النبوة بطوله عن أبيه، عن سلم بن زَرير (¬3). وأخرجه مسلم في الصلاة عن أحمد بن سعيد، عن عبيد الله الحنفي، عن سَلْم بن زَرير (¬4)، [وأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم] (¬5) وهو ابن راهويه، عن النضر بن شميل، عن عوف، كلاهما عن أبي رجاء (¬6). * * * * الوجه الثالث: في إيراد الحديث على الوجه بكماله من بعض الروايات (¬7): عَنْ أِبيْ رَجَاءٍ العُطَارِدِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (337). (¬2) تقدم تخريجه برقم (341). (¬3) تقدم تخريجه برقم (3378). (¬4) كما تقدم تخريجه برقم (682/ 312). (¬5) زيادة مِنِّي، موافقة لما في "صحيح مسلم". (¬6) تقدم تخريجه برقم (682)، (1/ 476). (¬7) هي رواية البخاري المتقدمة برقم (337).

النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّا أَسْرَيْنَا، حَتَّى إِذَا كُنا فِي آخِرِ الليْلِ، وَقَعْنَا وَقْعَةَ، وَلاَ وَقْعَةَ عِنْدَ الْمُسَافِرِ أَحْلَى مِنْهَا، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ بِلاَل ثُمَّ فُلاَن ثُمَّ فُلاَن - يُسَمِّيهِمْ أبَو رَجَاءِ فَنَسِيَ عوف (¬1) - ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الرَّابع، وَكَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نَامَ لَمْ نُوقظْهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ؛ لأنَّا مَا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِي نَوْمِهِ، فَلَمَّا اسْتَيقظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ، وَكَانَ رَجُلاً جَلِيداً، كَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتكبِيرِ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ وَيرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتكبِيرِ، حَتَّى اسْتَيْقَظَ لِصَوتهِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا اسْتَيقظَ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ، فَقَالَ: "لاَ ضَيْرَ أَوْ لاَ يضِيرُ، ارْتَحِلُو". فَارْتَحَلَ، فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدِ، ثُمَ نزَلَ فَدَعَا بِالْوَضُوء فتوَضَّأ، وَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاَتِهِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلِ مُعْتَزِلِ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: "مَا مَنَعَكَ يَا فُلاَنُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ"؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَة وَلاَ مَاءَ، قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ". ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَاشْتكَى النَّاسُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَلَ فَدَعَا فُلاَناً - كَانَ يُسَمِّيهِ أبو رَجَاءِ وَنسِيَهُ عَوْفٌ - وَدَعَا عَلِياً فَقَالَ: "اذْهَبَا فَابْغِيَا الْمَاءَ". ¬

_ (¬1) "ت": "قوماً".

فَانْطَلَقَا، فَلَقِيَا امْرَأة بَيْنَ مَزَادتيْنِ، أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِير لَهَا، فَقَالاَ لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ فَقَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَنَفَرُنَا خُلُوف، فَقَالاَ لَهَا: انْطَلِقِي إِذاً، قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالاَ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتِ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ؟ قَالاَ: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، فَانْطَلِقِي، فَجَاءَا بِهَا إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ. قَالَ: فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، وَدَعَا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بإنَاءٍ، فأفَرغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادتيْنِ، أَوِ السَّطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأ أَفْوَاهَهُمَا، وَأَطْلَقَ الْعَزَالِيَ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: أَنِ اسْقُوا وَاسْتَقُوا، فَسَقَى مَنْ شَاءَ، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ، وَكَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاء مِنْ مَاء، فَقَالَ: "اذْهَبْ، فَأفْرِغْهُ عَلَيْكَ". وَهْيَ قَائِمَة تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وَايْمُ اللَّهِ، لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا، وإنه لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَد مِلأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا، فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "اجْمَعُوا لَهَا"، فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَة وَدقيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ، حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَاماً، فَجَعَلُوهُ فِي ثَوْبٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا، وَوَضَعُوا الثوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: "تَعْلَمِينَ، مَا رَزَأْنَاكِ مِنْ مَائِكِ شَيْئاً، وَلَكِن اللَّهَ هُوَ الَّذِي سَقَاناً. فَأتَتْ أَهْلَهَا وَقَدِ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، قَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلاَنة؟ قَالَتِ: الْعَجَبُ، لَقيَنِي رَجُلاَنِ، فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا [الذي يقالُ لَهُ]

الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

الصَّابِئُ، فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَوَاللَّهِ، إِنه لأَسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذه وَهَذه - وَقَالَتْ بِإِصْبَعِيهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ، تَرَفَعَهُمَا إِلَى السَّمَاء؛ تَعْنِي: السمَاءَ وَالأَرْضَ - أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًا. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُغِيرُونَ بَعْدُ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلاَ يُصِيبُونَ صِرْمَهَا الَّذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ يَوْماً لِقَوْمِها: مَا أُرَى إلأَ أَنَّ هَؤُلاَء الْقَوْمَ يَدَعُونكُمْ عَمْداً، فَهَلْ لَكُمْ فِي الإِسْلاَمِ؟ فَأطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الإسْلاَمِ. * * * * الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: قال الجوهري: وسَرَيت سُرىَ ومَسرْىَ وأَسريْتُ بمعنى، إذا سرتَ ليلاً، وبالألف لغة أهل الحجاز، وجاء القرآن بهما جميعاً. قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه -[من الكامل]: حَيِّ النضيرةَ رَبَّةَ الخِدْرِ ... أَسْرَتْ إليك ولم تكن تُسْري (¬1) ويقال: سَرَينا سَرْيةَ واحدة، والاسم: السُّرْية، بالضم، والسرى. وأَسْراه وأَسْرَى به: مثل أخذ الخِطَام، وأخذ بالخِطَام، وإنما قال ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (1/ 52)، (ق 8/ 1)، وعنده: "إن النضيرة".

تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] وإن كان السُّري لايكون باللبل للتأكيد، كقولهم: سِرْتُ أمسِ نهاراً، والبارحة ليلاً. والسّراية سُرى الليل، وهو مصدر، ويقلُّ في المصادر أن تجيءَ على هذا البناء؛ لأنه من أبنية الجمع، يدلُّ على صحة ذلك أنَّ بعضَ العرب يؤنّث السرى والهُدى، وهم بنو أسدٍ، توهما أنهما سُرْية وهُدْية (¬1). قلت: النَّضيرة في شعر حسان: بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة، بعدها آخر الحروف، ثم راء مهملة. وقول الجوهري السِّراية: سُرى الليل، هو بكسر السين. وقوله: سَرينا سَرْية واحدة، هو بفتح السين. وقال ابن سِيْدَه في "المحكم": السُّرى: سيرُ اللَّيلِ عامتِه، وقيل: سيرُ الليلِ كلّه، يذكَّر ويؤنث، ولم يعرف اللَّحياني إلا التأنيث، ثم قال: وقد سرى سُرىَ وسَرية وسُرية، فهو سارِ. قال [من الوافر]: أتَوْا نارِي فَقُلْتُ: مَنُونَ؟ قالوا ... سَراةُ الجِنِّ، قلت: عِمُوا ظَلامَا (¬2) ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2376)، (مادة: سرا). (¬2) البيت منسوب إلى شُمير بن الحارث الضبي، كما ذكر ابن منظور في =

الثانية

وفي المثل "ذهبوا إسْراءَ قُنْفُذَةٍ، وذلك أن القُنْفُذَ يسري [ليلَه] كلَّه لا ينام. قال حسان: أَسْرَتْ إليكَ ولم تكُن تُسْري واسْتَرى: كأسرى. قال الهذلي [من الطويل]: وخَفُّوا فأمَّا الجاملُ الجونُ فاسْتَرى ... بليلٍ وأمَّا الحيُّ بعدُ فأصبحُوا وأَنشد ابنُ الأَعرابي قولَ كُثير [من الطويل]: أَرُوحُ وأَغْدُو من هَواكِ وأَسْتَرِي ... وفي النَّفْسِ مما قَدْ عَلِمْتِ عَلاقِمُ وقد سرى به، وأسرى به، وأسراه (¬1). الثانية: " وكان رجلاً جليداً": مأخوذ من الجَلاَدة، وهي الصَّلابة، يقال: جلُد - بالضم - فهو جليد وجَلْد. ¬

_ = "لسان العرب" (13/ 415)، و"البغدادي في خزانة الأدب" (6/ 170). وذكره الجاحظ في "الحيوان" (1/ 328) ولم ينسبه. (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 569 - 570).

قال ابن سِيْده: ورجل جَلد وجليد من قوم أجْلاد، وجُلداء وجُلَّاد وجُلُد، وقد جَلُد جَلادة وجُلودة، والاسم الجَلدُ والجلود، وتجلَّد: أظهر الجلد، وقوله [من الوافر]: وكيفَ تَجَلُّدُ الأقوامِ عنه ... ولم يُقتَلْ به الثَّأر المُنِيمُ (¬1) عدَّاه بعن؛ لأن فيه معنى تصبَّر. وأرض جلد: صلبة مستوية المتن غليظة، والجمع: أجلاد. قال أبو حنيفة: أرض جَلَد: بفتح اللام، وجَلْدة: بتسكين اللام (¬2). قلت: قوله: رجل جلْد، هو على مثال عبد، وجليد على مثال عبيد، وقوم أجلاد على مثال أبرار، وجُلَداء على مثال شهداء، وجُلاد على مثال عُبَّاد، وجُلُد على مثال عُنُق، وقد جَلُد على مثال ظَرُف، جَلادة على مثال طَلاقة، وجُلُودة على مثال رُطُوبة، والاسم الجَلَد على مثال البَلَد، والجُلود على مثال القُعود، وتجلَّد على مثال تعبَّد. وقال أبو حنيفة: أرض جَلَد - بفتح اللام - على مثال بَلَد، وجَلْدة: على مثال قَعْدة. فهذا ضبطناه بالأمثلة حذراً من تصحيفه لعدم ضبط ناقله. ¬

_ (¬1) البيت لعبد الرحمن بن زيد، كما نسبه إليه ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" (2/ 693)، وأبو علي القالي في "الأمالي" (11/ 266). (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 327 - 328).

الثالثة

الثالثة: قال الجوهري: ضاره يَضِيرُه ويضُورُه ضَوْراً وضَيْراً؛ أي: ضرَّهُ. قال الكسائي: سمعتُ بعضَهم يقول: لا يَنْفَعُني ذلك ولا يَضُورُني (¬1)؛ أي: لا يضر. وفسره بعضهم فقال: يقال: ضاره يَضِيره ضيراً: ضره، ويقال أيضاً: يضوره (¬2). وقوله - عليه السلام -: "لا تُضَارُونَ في رُؤْتيه" (¬3) من هذا؛ أي: لا يضير بعضُكم بعضاً. ووقع في "المستخرج" للحافظ أبي نعيم في هذا الحديث: لا يسوء ولا يضير (¬4). الرابعة: قوله: "فاذهبا فابغيا الماء"، الألف موصولة، يقال: بَغَيتُ الشيءَ: طلبتُه، وبغيتُكَ الشيء: طلبتُه لك، وأبغيتُكَه: أعنتك على طلبه. ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 723). (¬2) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 136). (¬3) رواه البخاري (6204)، كتاب: الرقاق، باب: الصراط جسر جهنم، ومسلم (182)، كتاب: الأيمان، باب: معرفة طريق الرؤية، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) وكذا عزاها إليه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 449 - 450).

قال الجوهري: والبُغية: الحاجة، يقال: لي في بني فلان بِغية، وبُغية؛ أي: حاجة، فالبِغية مثل الجِلسة: التي تبغيها، والبُغية: [الحاجة] نفسها، عن الأصمعي. وبغى ضالته، وكذلك كل طِلبة، بُغاءً - بالضم، والمد -، وبُغاية أيضاً. يقال: فرِّقوا لهذه الإبل بُغياناً يُضِبون لها؛ أي: يتفرقون في طلبها (¬1). قلت: يُضْبون: مضموم آخر الحروف، وبعده ضاد معجمة مكسورة، بعدها (¬2) ثاني الحروف، وبعد الباء المشددة نون. وذكر ابن سيده: بغى الشيء ما كان خيراً أو شراً يَبغيه بُغىً وبغاء، الأخيرة عن اللَّحياني، والأول أعرف. وأنشد غيره [من الطويل]: فلا أحْبِسَنْكم (¬3) عن بُغى الخيرِ إنني ... سقطتُ علي ضِرغامةٍ، وهوَ آكلِي (¬4) وابتغاه، وتَبَغَّاه، واستبغاه، كل ذلك: طلبه. ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2281 - 2282). (¬2) "ت": "بعد"، وفي الهامش: "لعله: بعدها"، وهو الصواب. (¬3) "ت": "أحسبنكم". (¬4) "ت": "آكل".

الخامسة

ثم قال: والاسم: البُغية، [والبِغية]. وقال ثعلب: بغى الخير يبغيه [بُغيةً وبِغيةً]، فجعلهما مصدرين. والبُغية: الحاجة (¬1). الخامسة: المَزَادة: بفتح الميم، قال الجوهري: والمزادة: الراوية، قال أبو عُبيد: ولا تكون إلا من جلدين تُفْأَم بجلد ثالث بينهما لتتسع، وكذلك السطيحة والشعيب، والجمع المزاد والمزائد (¬2). قلت: الشعيب: أوله شين معجمة، وبعد العين المهملة ياء، وآخره باء موحدة. السادسة: النفَر: بفتح النون والفاء، قال الجوهري فيه: عدةُ رجالٍ من ثلاثة إلى عشرة (¬3). وقال ابن سِيْدَه في "المحكم": والنفر ما دون العشرة من الرجال، والجمع أنفار. قال سيبويه: والنسب إليه: نَفَرِيٌّ. وقيل: النفر: الناس كلهم؛ عن كُراع. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]؛ قال الزجاج: ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 27). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 482)، (مادة: زيد). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 833)، (مادة: نفر).

السابعة

النفير جمع نفر؛ كالعبيد والكليب. وقيل معناه: وجعلناكم أكثر منهم نُصَّاراً (¬1). السابعة: قول المرأة: "ونفرُنا خُلُوف": بضم الخاء المعجمة واللام المخففة معاً. قال الجوهري: وحيّ خُلوفٌ، أي غُيَّبُ. قال أبو زُبيد [من الخفيف]: أصبحَ البيتُ بيتُ آلِ إياس ... مُقْشَعِرًّا والحيُّ حيُّ خُلُوفُ (¬2) أي: لم يبق منهم أحد. قال: والخلوفُ أيضاً: الحضورُ المُتَخَلّفونَ (¬3)، وهو من الأضداد (¬4). وكذا قال ابن سيده: والخلوف: "الحضر والغيب، ضدٌّ (¬5). قلت: الذي في البيت آل إياس، قال بعضهم: وقع في الأصل: ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (10/ 261). (¬2) انظر: "شعر أبي زبيد الطائي" (ص: 118)، جمع: نوري القيسي. (¬3) "ت": "الحضور والمتخلفون". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1356 - 1357)، (مادة: خلف). (¬5) انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 199) وعنده: "والخلوف: الحضور والغيَّب، ضد".

الثامنة

بيان (¬1)، والصواب ما في النسخة؛ لأن أبا زبيد رثى بهذه القصيدة فروة ابن أبي إياس بن قبيصة، انتهى (¬2). وقال ابن فارس: الخالف: المستقي، والخَلْف: الاستقاء (¬3). قلت: الخَلْف: بفتح الخاء وسكون اللام، وعن الخطابي: الذين خرجوا للاستقاء، وخلفوا النساء والأثقال (¬4). يقال: خلف الرجل واستخلف: إذا استقى، وحكى: الخلوف الذين غابوا وخلفوا أثقالهم، وخرجوا في رعي أو سقي. الثامنة: قال الجوهري: صبَأْتُ على القوم أَصْبَأ صَبْأً وصُبُوءاً، إذا طلَعْتُ عليهم. وصبأ نابُ البعير صُبوءاً: طَلَعَ حَدُّهُ. وصبَأَتْ ثَنِيَّةُ الغلام: طَلَعَتْ. وأصْبَأَ النجمُ؛ أي: طَلَعَت الثريَّا. قال الشاعر يصف قحطا [من البسيط]: وأَصْبَأ النجمُ في غبراءَ مُظْلِمَةٍ ... كأنه بائسٌ مُجْتَابُ أخلاقِ (¬5) ¬

_ (¬1) "ت": "يأبى"، والصواب ما أثبت. (¬2) قاله ابن بري، كما نقله ابن منظور في "لسان العرب" (9/ 82)، (مادة: خلف). (¬3) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (1/ 300). (¬4) نقله العيني في "عمدة القاري" (4/ 30) وعنده: "خرجوا للأسفار". (¬5) ذكره ابن السكيت في "إصلاح المنطق" (ص: 157) دون نسبة. ونسبه الزبيدي في "تاج العروس" (مادة: ضبأ) إلى أثيلة العبدي.

التاسعة

وصَبَأ الرجل صُبوءًا، إذا خرج من دينٍ إلى دين. قال أبو عبيد (¬1): صبأ من دينهِ إلى دينٍ آخرَ كما تَصْبَأُ النجوم؛ أي: تخرج من مطالعها (¬2). قلت: صبَأتُ على القوم أَصْبَأ صَبْأً: مثل ضَرْباً، وصُبوءاً: مثل: جُمُوح، وسمَّت العربُ المسلمَ الصابئَ؛ للخروج من دينه إلى الإسلام. التاسعة: رَزَأناك: بفتح الزاي وكسرها يُرْوَيان؛ أي: ما أنقصناك. يقال: ما رَزَأْتُه ماله، وما رَزِئتُه - بالكسر -؛ أي: ما نقَصتُه. وارْتَزأ الشيء: انتقص. قال الشاعر ابن مقبل [من المتقارب]: كريمُ النجارِ حَمَى ظَهْرَه ... ولم يُرتزأ برُكوبٍ زِبالا (¬3) زِبَالا - بكسر الزاي، وبعدها ثاني الحروف - قيل: ما تحمله النملة (¬4). ¬

_ (¬1) في المطبوع من "الصحاح": "أبو عبيدة". (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 59)، (مادة: صبأ). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 53)، (مادة: رزأ). وانظر: "الحيوان" للجاحظ (4/ 13). (¬4) "ت": "البعوضة"، والمثبت من "الصحاح" للجوهري (4/ 1715)، وكذا "الحيوان" للجاحظ (4/ 13).

العاشرة

العاشرة: العَزَالِي: جمع عزلاء، وهي عروة المزادة يخرج منها الماء بسعة. وقال الجوهري: والعزلاء: فم المزادة الأسفل، والجمع العزالي بكسر اللام، وإن شئت فتحت؛ مثل الصحارَى والصحاري، والعذارَى والعذارِي. قال الكُميت [من المتقارب]: مَرَتْهُ الجَنُوبُ فَلَمَّا اكْفَهـ ... ـرَّ حَلَّتْ عَزَالِيَهُ الشمْاَلُ (¬1) وعن الداوودي قال: العزالي: الجوانب الخارجة [لرجلي الزق] (¬2) يرسل منها الماء (¬3)، والله أعلم. الحادية عشرة: قال الجوهري: وايمُنُ الله، وضع للقسم، هكذا بضم الميم والنون، وألفه ألفُ وصلِ عند أكثر النحويين، ولم يجئ من الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها، وقد تدخل عليها اللام لتأكيد الابتداء، تقول: لَيْمُنُ (¬4) الله، فتذهب الألف في الوصل، قال ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (2/ 340). وانظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1763)، (مادة: عزل). (¬2) "ت": "الفرق"، والمثبت من "عمدة القاري" للعيني حيث نقل كلام الداوودي هذا. (¬3) وانظر: "عمدة القاري" للعيني (4/ 30). (¬4) "ت": "أيمن".

الشاعر (¬1) [من الطويل]: فقالَ فريقُ القومِ لمَّا نشدْتُهم (¬2) ... نعم، وفريقٌ لَيْمُنُ اللهِ ما ندري وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، والتقدير: ليمُن (¬3) الله قسمي، وليمُن (¬4) الله ما أقسم به، وإذا خاطبت قلت: ليمُنك (¬5)، وفي حديث عروة بن الزبير أنه قال: لَيْمُنُك (¬6) لئن كنتَ أبليت لقد عافيت، أو لئن كنت ابتليت لقد أبقيت (¬7). و [ربما] حذفوا منه النون، قالوا: وايْمُ الله، وايمُ الله - بكسر الهمزة -، وربما حذفوا منه الياء، قالوا: اِمُ الله، وربما أبقَوا الميم وحدها مضمومة، قالوا: مُ الله، ثم كسروها؛ لأنها [صارت حرفاً] (¬8) ¬

_ (¬1) هو نُصيب بن رباح، كما في "اللسان" لابن منظور (13/ 458)، (مادة: ي م ن). (¬2) "ت": "أنشدانه". (¬3) "ت": "أيمن". (¬4) "ت": "أيمن". (¬5) "ت": "أيمن". (¬6) "ت": "أيمن". (¬7) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 371)، وابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" (ص: 113)، ومن طريقه: البيهقي في "شعب الإيمان" (11144)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (40/ 261). (¬8) "ت": "لأنها صار معها واحداً".

الثانية عشرة

واحداً، فيشبهونها بالباء فيقولون: مِ الله، وربما قالوا: مُنُ الله - بضم الميم والنون -، ومَنَ الله - بفتحهما -، ومِنِ الله، بكسرهما (¬1). الثانية عشرة: قوله: "أشد مِلْئَة": مكسور الميم، ساكن اللام، وبعدها همزة مفتوحة، ثم تاء التأنيث، قال الجوهري: المَلْء بالفتح: المصدر، وملأت الإناء فهو مملوء، ودلوٌ مَلآى على فَعْلَى، والعامة تقول: ملأى ماء. والمِلْء بالكسر: اسم ما يأخذه الإناءُ إذا امتلأ، يقال: أعطى مِلأه ومِلإَنهِ ومَلِيئه أملائِهِ (¬2). الثالثة عشرة: فجمعوا لها ما بين عجوة: قال الجوهري: والعجوة: ضرب من أجود التمر بالمدينة، ونخلتها (¬3) تسمَّى لِينَة (¬4). ودَقيقة وسَويقة: ذكر بعضهم: أن في دقيقة وسويقة روايتان - بالضم والفتح في الدال - (¬5)، لم يزد على هذا، والله أعلم. الرابعة عشرة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هو الذِي أسقانا"، يقال: سقى ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2221)، (مادة: يمن). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 72)، (مادة: م ل أ)، وعنده: ويقال: مِلأَه ومِلأَيه وثلاثة أَملائِهِ. (¬3) "ت": "عليها". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2419)، (مادة: ع ج ا). (¬5) وقاله الكرماني، كما نقله العيني عنه في "عمدة القاري" (4/ 30) فقال: رُويا مكبرين ومصغرين.

الخامسة عشرة

وأسقى، والاسم: السُّقيا، وقد جمعه لَبِيد في قوله [من الوافر]: سَقَى قَومِي بني مَجدٍ وأسْقَى ... نمَيراً والقَبَائِلَ من هِلاَلِ (¬1) الخامسة عشرة: الصِّرْم: بكسر الصاد المهملة، وسكون الراء، وآخره ميم، قال الخطابي: النفر ينزلون بأهلهم على الماء (¬2). قال الجوهري: والصرم بالكسر: أبياتٌ من الناس مجتمعة، والجمع أَصْرامٌ وأصارِمُ (¬3). وقال غير الجوهري: والصواب: أصاريم؛ كما تقول أعراب وأعاريب، قال ذو الرُّمة (¬4): وانعَدَلَتْ (¬5) عنهُ الأَصارِيم (¬6) ونحوه ما قاله الجوهري: فسره بعضُهم في الحديث، قال: يريد الأبيات التي حولها. ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان لبيد" (ص: 93)، (ق 11/ 55). وانظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2379)، (مادة: س ق ا). (¬2) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 282). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1965)، (مادة: صرم). (¬4) انظر: "ديوانه" (1/ 434)، (ق 12/ 62) وتمام البيت: جادَ الربيعُ له روضَ القِذَاف إلى ... قَوَّيْنَ وانعدَلَتْ عنهُ الأصاريمُ (¬5) "ت": "وانعزلت". (¬6) قاله ابن بري فيما نقله عنه ابن منظور في "لسان العرب" (12/ 334).

الوجه الخامس

قلت: هذه اللفظة من المثلث؛ أعني: الصِرم بالكسر، والصَّرم بالفتح، والصُرم بالضم، فأما بالكسر فقد ذكرناه، وأما بالفتح فمصدر صرمت الشيء صرماً إذا قطعته، وأيضا الجلد، قال الجوهري: معرَّبٌ، وأما بالضم فالقطعة (¬1)، الفتح للمصدر، والضم للاسم (¬2). * * * * الوجه الخامس: قوله: فأوكأ أفواههما: استعمال اللغة الكبرى، قال الله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، قيل في علته: كراهة اجتماع تثنيتين، ولغة أخري بالتثنية وإبقاء اللفظ على أصله مثنى، وقد جمع اللغتين من قال [من الرجز]: ظَهْراهُمَا مثلُ [ظهورِ] (¬3) التُّرَسينْ (¬4) ¬

_ (¬1) "ت": "القطيعة". (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1965)، (مادة: صرم). (¬3) "ت": "عيون". (¬4) عجز بيت منسوب لخطام المجاشعي كما ذكر سيبويه في "الكتاب" (2/ 48)، وابن سيده في "المحكم" (3/ 300)، وابن منظور في "لسان العرب" (2/ 89). وصدره: ومَهْمَهَيْنِ قَذَ فَيْنِ مَرتَيْنْ

الوجه السادس: في الفوائد والمباحث

واستعمل في اللغة الأخرى من قال [من الطويل]: بما في فُؤادَيْنَا من الهم (¬1) كالهوَى (¬2) والأحسن أن يقال: أفئدتنا. والإفراد أيضاً لغة، وعليها قول من قال [من البسيط]: كأنه وجْهُ تُرْكيِيَّن قد غَضِبا (¬3) * * * * الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: قوله: وَإِنا أَسْرَيْنَا، حَتَّى إِذَا كُنَّا فِي آخِرِ الليْلِ، وَقَعْنَا تِلْكَ الوَقْعَةِ: فيه دليل على خلاف من قال: السُّري: سيرُ الليل كلِّه (¬4). الثانية: قوله: فما أيقظنا إلا حر الشمس: تكلموا في الجمع بين ¬

_ (¬1) "ت": "الهيم"، وجاء على الهامش: "الهم" وكتب فوقها "خ" إشارة إلى أنها في نسخة. (¬2) صدر بيت للفرزدق، كما في "ديوانه" (2/ 25). وعجزه: فيبرأ مُنْهاضُ الفؤادِ المسقَّفُ (¬3) صدر بيت للفرزدق، كما نسبه إليه البغدادي في "خزانة الأدب" (7/ 532، 540). وعجزه: مستهدفٌ لطعانِ غير مُنْجحر (¬4) كما تقدم ذكره عن صاحب "المحكم".

حديث النوم إذا طلعت الشمس، وبين قوله - عليه السلام -: "إنَّ عينى تنامان، ولا ينامُ قلبي" (¬1)، وذكر أبو محمد عبد الواحد بن عمر ابن عبد الوهاب (¬2) شارح البخاري فيه أقوالاً: أحدها: قال السفاقسي أبو عبد الملك: يعني بذلك: أنه لا يخفى عليه حاله في انتقاض وضوئه، وإن كان نائماً، وتخفى عليه الأوقات والساعات. وثانيها: قال: وقال أبو محمد عبد الحق: الحديثان متفقان، ومعناهما أن ما يدرك بالقلب لا ينام قلبه عنه، وما يدرك بالعين كرؤية الشمس تنام عينه عنه، فلا تدركه (¬3). وثالثها: قال: وقيل: إن ذلك غالب حاله: أنه لا ينام قلبه، وقد ينام نادراً لحديث الوادي هذا (¬4). ورابعها: قال: وقيل: إنه لا يستغرقه النوم حتى يوجد منه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1096)، كتاب: التهجد، باب: قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رمضان وغيره، ومسلم (738)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) هو الامام المشهور بـ "ابن التين" المتوفى سنة (611 هـ). (¬3) وهذا الجواب صححه الإمام النووي وشهَّره واعتمده، كما في "شرح مسلم" له (5/ 184). (¬4) قال النووي: وهذا التأويل ضعيف، كلما في "شرح مسلم" (5/ 184). قال الحافظ في "الفتح" (1/ 450) وهو كما قال.

الثالثة

الحدث، ولا يشعر يه. قلت: الوجه الأول: كأنه أراد التخصيص ليقظة القلب بإدراك حالة الانتقاض، وذلك بعيد (¬1). وأما الثاني: فتقريره أن يقول: للقلب مُدْرَكات، وللحواس مدركات، فمدركات الحواس تمتنع، ومدركات القلب على قسمين: أحدهما: ما تتبع إدراك الحواس وتتفرع عنه، فذلك يمتنع لمواقع إدراك الحواس؛ لتوقفها عليها. والثاني: ما لا يتبع إدراك الحواس، ولا يتوصل القلب (¬2) إلى إدراكها من جهة الحواس، فهذا لا يمنعه. ولا شك أنَّ يقظةَ القلب هو بقاء إدراكه، ونومَه ذهاب إدراكه، وإدراكه على قسمين؛ كما ذكرنا، فلا يلزم الإشكالُ إلا إذا كان النوم حتى طلعت الشمس من مدركات القلب التي لا تتبع الحواس، فأين الدليل على ذلك حتى يلزم الإشكال؟ الثالثة: قوله - عليه السلام -: "إنَّ عيني تنامان، ولا ينامُ قلبي"، خرج جواباً عن قول عائشة - رضي الله عنها - له: أتنام قبل أن توتر، ¬

_ (¬1) نقله الحافظ في "الفتح" (5/ 184) عن المؤلف، وقد ضعَّف الحافظ كذلك الجواب الأول والرابع. (¬2) "ت": "مواقع إدراك الحواس"، وهي جملة منسوخة خطأً من السطر السابق.

وهذا كلام لا تعلُّقَ له بانتقاض الطهارة الذي تكلموا فيه، والذي يظهر منه أن هذا الاستفهام سببُه أن يفوت الوترُ باستغراق النوم إلى الصباح. ولو كان الأمر فيما يتعلق بانتقاض الطهارة، لكان الاستفهام إنما يكون للصلاة بعد النوم، فيقال: أتصلي بعدما نمت؟ فلو قيل عقب هذا: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي، اقتضى الجواب حينئذٍ أن نومه - صلى الله عليه وسلم - لا يوجب الطهارة؛ لأن قلبه لا ينام. [و] إذا كان الجواب يتعلق بأمر فوات الوتر، لا بأمر انتقاض الطهارة، فيحمل نوم القلب على اطمئنان النفس بالنوم، وسكون القلب إلى استغراقه فيه، وعدم تعلقه بالاستيقاظ (¬1). وتحمل يقظته على تعلق القلب باليقظة للوتر، وعدم سكونه ودخوله إلى الاستغراق في النوم. ومن المعلوم بالعادة التفريقُ بين حالة من شرع في النوم مطمئنَ القلب، وبين من شرع فيه متعلقًا باليقظة، فإن الحالة الأولى تقتضي الاستغراق، والثانية لا تساويها فيه، وعلى هذا التقدير، فتكون يقظةُ قلبه - صلى الله عليه وسلم - بالتفسير المذكور مقتضيًا للقيام للوتر، وكذلك الإخبار عن عدم نومه، ويكون الجواب منطبقاً على ما وقع عليه السؤال من النوم، لا على ما لم يقع عليه السؤال، وهو الصلاة بعد النوم من غير تجديد ¬

_ (¬1) "ت": "الاستنقاض".

الرابعة

طهارة، وعلى هذا فلا تعارضَ ولا إشكال في حديث النوم حتى طلعت الشمس، ولا يقتضي ما ذكرناه أن النوم في ذلك الوقت إلى أن طلعت الشمس كان مع سكون النفس إلى الاستغراق؛ لأن ذلك يمكن حمله على ما أوجبه تَعَبُ السُّرى والسير، فلا يتعين حملُه على السكون إلى الاستغراق، أو يقال: سبب (¬1) السكونِ والطمأنينةِ الأمرُ بكِلائيةِ (¬2) الفجر ممن وكّل بذلك؛ كما جاء في حديث الوادي وأَمْرِ بلال بذلك، فهذا ما وقع لنا هاهنا، فتأمله. فإن قلت: هذا الذي ذكرته تخصيص بالسبب، والعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيقظة القلب أعمُّ مما ذكرته من التفسير، فيدخل تحته، فيعود الإشكال. قلت: لا نسلم أنه تخصيص بالسبب، بل هو استدلالٌ بسياق لفظي على بيان المراد، والسياق يرشد إلى تبيين المجمَلات وتعيين المحتملات. الرابعة: قوله - عليه السلام -: "لا ضير": فيه تأنيسٌ وتطييب لقلوب أصحابه - صلى الله عليه وسلم -؛ لِمَا عساه يَعْرِض لهم من الأسف على فوات الصلاة في وقتها. الخامسة: فيه دليل على سقوط هذا التكليف عن النائم مع قيام ¬

_ (¬1) "ت": "سببه". (¬2) أي: حراسة.

السادسة

الدليل عليه من الحديث الآخر في: "رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ" (¬1)، وقيام الدليل العقلي على امتناع تكليفه. السادسة: أمره - عليه السلام - بالارتحال لأجل الخروج عن المكان؛ بسبب ما وقع فيه من النوم عن الصلاة، فجعل أصلاً في الخروج عن المكان الذي وقع للإنسان فيه ما لا يختاره فيما يتعلق بالدين، وقد عُبّر عن هذا بعبارة لم أرضها (¬2). السابعة: " فسار غير بعيد": يدل على أن هذا الارتحال ليس للمسير الذي يقتضيه عادةً السفرُ، وسبق مثله فيما قبله من الأيام. الثامنة: فاذا لم يكن المقصود منه السفر المعتاد قبل ذلك، فقد ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4398)، كتاب: الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حداً، والنسائي (3432)، كتاب: الطلاق، باب: من لا يقع طلاقه من الأزواج، وابن ماجه (2041)، كتاب: الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغير والنائم، من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو حديث صحيح. وفي الباب من حديث علي وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً. (¬2) لعلها ما ذكره الحافظ في "الفتح" (1/ 451) عن بعضهم أنه قال: يؤخذ منه أن من حصلت له غفلة في مكان عن عبادة، استحب له التحول منه، ومنه أمر الناعس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكانه إلى مكان آخر. قلت: لعل المؤلف رحمه الله لم يرتضِ نسبة الغفلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تأدباً، والله أعلم.

التاسعة

اختلفوا في علة سببه، فقيل ما أشرنا إليه مما وقع فيه من النوم عن الصلاة، ويؤيده ما جاء في حديث الوادي: "إنَّ هذا واد فيهِ شيطانٌ " (¬1)، والحنفية - أو من شاء الله منهم - حملوه على ترك الصلاة في وقت الكراهة، وتأخيرها إلى أن يزول ذلك الوقت (¬2). التاسعة: قوله: "ونودي بالصلاة": يحتمل أن يراد به الأذان؛ لأنه كثيراً ما يطلق عليه ذلك، ومنه: "قمْ يا بلالُ فنادِ بالصلاةِ" (¬3)؛ أي: أذنْ، [و] "إذا نوديَ بالصلاةِ أدبرَ الشيطانُ" (¬4)، ويترجمُ على الأذان: النداء بالصلاة، ويحتمل أن يراد به الإقامة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (680)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: "ليأخذ كل رجل برأس راحتله، فان هذا منزل حضرنا فيه الشيطان". (¬2) قال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 410): وليس لهم فيه حجة، وإنما ارتحل النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك المكان؛ للعلة التي أخبر بها قال: "إن هذا مكان حضرنا فيه شيطان، فارتحلوا منه". (¬3) رواه البخاري (579)، كتاب: الأذان، باب: بدء الأذان، ومسلم (377)، كتاب: الصلاة، باب: بدء الأذان، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (583)، كتاب: الأذان، باب؛ فضل التأذين، ومسلم (389)، كتاب: الصلاة، باب: فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

العاشرة

وقال شارح البخاري عبد الواحد بن عمر: فيه أن ما فات وقتُه من الصلوات يؤذَّن لها، وليس هو مذهب مالك. وهذا حَمْل منه النداء على الأذان، والله أعلم. العاشرة: "يُصلِّي بالنَّاس": فيه الإقامة بالفوائت. الحادية عشرة: فيه الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن هذا المنعزلَ عن الناس لأجل الجنابة مع احتمال الحال لوجوه عديدة، وتعيينُه لبعضها طريقُه الاجتهادُ، فإنه يحتمل أن يكون لأنه لا يعلم مشروعيةَ التيمم، ويحتمل أن يكون لاعتقاده أن الجنب لا يتيمم، وأن التيمم للحدث الأصغر، كما نُقِل عن بعض الصحابة. ثم إذا لم يتيمم كان كمن عَدِمَ الماءَ والصعيدَ، فاحتمل أن يصلي ويقضي؛ ويصلي ولا يقضي، ولا يصلي ويقضي، ولا يصلي ولا يقضي؛ كما اختلف الفقهاء في ذلك، والذي يتعلق بالقضاء لا يعلم ما اعتقده فيه، لكنه رجح عدم الأداء، ويقع احتمالُه للأداء التيمم وعدمه، وتعيينُ المحتملاتِ طريقُه الاجتهادُ. ولا يُحمل على كونه لم يكن التيمم مشروعاً، وأن ذلك قبل نزول الآية؛ لأن قوله - عليه السلام -: "عليكَ بالصعيدِ، فانَّه يكفيكَ" دليل على تقدّم مشروعية التيمم على هذا القول؛ لأن مشروعية التيمم على هذا القول لم تُعلم إلا بالآية، ونزولها والحكم بمقتضاها يقتضي تقدّمَها.

الثانية عشرة

الثانية عشرة: وأخص من هذا الاجتهاد بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع إمكان مراجعته. الثالثة عشرة: الذي ذكرناه إنما هو استدلالٌ على وقوع الاجتهاد منه؛ لأن فعلَه يتردَّدُ بين مَحامل؛ بعضها جائز وبعضها ممتنع، وإذا تردد بينها، فحمله على الجائز في حق الصحابة متعيِّن، أما أنه هل وُجِد دليل من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تسويغ ذلك وإباحته؟ فيه بحث آخر. الرابعة عشرة: يجعل أصلاً في أن العالِم إذا رأى ممن لا يعلم فعلاً محتملاً لما يسوغ ولما لا يسوغ، سأله ليتبين الحال فيه. الخامسة عشرة: فيه أن انفرادَ المرء بترك الصلاة بحضرة المصلين أمر مَنعيٌّ (¬1) على صاحبه. السادسة عشرة: حسنُ الملاطفة والرفق في إنكار ما هو منكر، أو محتمل لما هو منكر، لإخراجه - صلى الله عليه وسلم - كلامَه مخرجَ السؤال عن السبب المقتضي للترك، لا مخرجَ التغليظ، وهذا بخلاف الذي ترك الصلاة من الناس في الحضر؛ لأن حالة السفر حالة مشقة وأعذار، فهي أقرب إلى احتمال ما هو عذر من حالة الحضر. السابعة عشرة: فيه أمر الصلاة في الجماعة. ¬

_ (¬1) يقال: هو ينعى على زيد ذنويه: يُظهرها ويشهرها، وانظر: "القاموس المحيط" مادة (ن ع ي)، (ص: 1205).

الثامنة عشرة

الثامنة عشرة: فيه إبداء ذكر العذر لنفي اللَّوم. التاسعة عشرة: قوله - عليه السلام -: "عليكَ بالصعيدِ"، يحتمل أن تكون الألف واللام فيه للعهد، إذ هاهنا صعيدٌ معهودٌ، وهو المكان الذي هُم فيه، ويحتمل أن يكون للجنس، فاذا حمل على العهد دل على جواز التيمم بما هو صعيد حينئذ بذلك المكان، ولا دليل لنا على تعيين ذلك الصعيد، فما اختلف فيه من المسائل لا يمكن الاستدلال بهذا عليه، وإن حمل على الجنس رجع الحال إلى معرفة ما يُسمَّى صعيداً، ويكون الحديث كالآية سواء في أخذ حكم التيمم منه. ولا شكَّ في تناول اللفظ لذلك الصعيد؛ إما بخصوصه، أو بعمومه. العشرون: هذه اللفظة (¬1) قد تدل على أن الذي عرض للمعتزل هو اعتقاد أن التيمم ليس سائغاً للجنب؛ لأنه - عليه السلام - أحاله على الصعيد من غير بيان للصعيد، وما يفعله فيه، وصفة تيممه به، ولم يزد على قوله: "عليك بالصعيد". هذا هو الظاهر من اللفظ، ولو كان غيرَ عالم بكيفية التيمم من صفة العمل فيه، لوجب بيانه، واحتمالُ بيانه من غير أن يُنقل البيان خلافُ ما دلَّ عليه ظاهرُ اللفظ. الحادية والعشرون: فيه الاكتفاء في البيان للأحكام الشرعية بما ¬

_ (¬1) يعني قوله: "عليك بالصعيد".

الثانية والعشرون

يحصل به المقصود من الإفهام دون تعيين ما هو صريح في البيان غير محتمل لشيء آخر، لقوله: "عليك بالصَّعيد". الثانية والعشرون: فيه دليل على اعتبار ما دلَّت عليه القرائنُ من فهم المقصود من العام أو المطلق، إذا اقتضت القرائنُ تخصيصاً أو تقييداً، فانَّ قولَه - عليه السلام -: "عليكَ بالصَّعيدِ، فإنَّه يكْفِيكَ"، لا بد أن يُفهمَ منه: يكفيك في هذه الحالة، أو في مثل هذه الحالة، ولا يوجد منه إطلاقُ الكفاية، بل يتقيد بما يوجد فيه الشرط، أو الركن في التيمم. الثالثة والعشرون: فيه تصريح بتيمم الجنب، وقد ذُكِر فيه خلاف قديم لبعض الصحابة، واختلف في النقل عنه (¬1)، وسيأتي ذلك في التيمم إن شاء الله. ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (19/ 275): وأجمع علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب - فيما علمت -: أن التيمم بالصعيد عند عدم الماء طهور كل مريض أو مسافر، وسواء كان جنباً أو على غير وضوء لا يختلفون في ذلك، وقد كان عمر بن الخطاب وعبد الله ابن مسعود يقولان: الجنب لا يطهره إلا الماء، ولا يستبيح بالتيمم صلاة؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، ولقوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، وذهبا على أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} الآية إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء 43]، ثم قال: وهذا معروف مشهور عند أهل العلم عن ابن مسعود وعمر.

الرابعة والعشرون

الرابعة والعشرون: في قوله: "يكفيك" دليل على أن المتيممَ في مثل هذه الحالة - أعني عدم الماء في السفر - لا يلزمه القضاء؛ لظاهر قوله - عليه السلام -: "يكفيك"، ودلالة الكفاية على عدم وجوب شيء آخر، وإن احتمل أنه يكفيه في حكم الأداء دون حكم القضاء، فهو تقييدٌ على خلاف ظاهر الإطلاق. الخامسة والعشرون: فيه الجريان على سنة العادة التي أجراها الله تعالى على خلقه، وعدمُ التوقف لأجل انخِراقها، وأن ذلك غيرُ منعيِّ، ولا ناقصُ التوكُّلِ والتوحيد. وهذا يحرِّكُ نظراً كثيراً في مسائلِ التوكلِ والانتصاب، وما ينافي التوكلَ في المباشرات للأسباب، وما لا ينافيه، وله موضع آخر، إلا أن الذي يحتاج إليه هاهنا هو أن مثلَ هذا السببِ غيرُ منافِ. السادسة والعشرون: قد خلا الصحابيان بها في هذه المدة التي سألاها وأتيا بها، فهو دليل على جواز مثل هذا؛ إما مطلقاً، أو مقيداً إن قام دليلٌ على الامتناع في غير هذه الحالة. السابعة والعشرون: نقل السفاقسي عن أبي عبد الملك أنه قال: أخُذَتْ كُرهاً؛ لأنها كانت حَرْباً، فَمَن النبى - صلى الله عليه وسلم -، وأطلَقها ببعيرها ومائها. الثامنة والعشرون: فإذا حُمل على ذلك، توجه سؤال، وهو أن يقال: إن الاستيلاءَ بمجرده رِقُّ النساء والصبيان، وإذا كان الاستيلاء

التاسعة والعشرون

موجباً لذلك، فقد دخلت في الملك، ويسأل عن إطلاقها؛ إما من غير استئذأن من أخذها، وإما مطلقاً. ويطلب الجواب عنه؛ فإما أن يقال: إن هذا الاستيلاء ليس الاستيلاء المتملك للنساء، أو يشترطُ في التملك قصدُه، أو غير ذلك مما ينظر فيه؛ للتصرف في مائها من غير إذن؛ إما لإباحته من حيث كونهُا حرباً على ما تقدم، أو من جهة أخرى أشرنا إليها، أو لعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما وقع وقوله: "ما رَزَأناك من مَائِكِ شيئاً"، أو لما نذكره في المسألة بعدها. التاسعة والعشرون: عن بعضهم: أنه أُخِذَ منه جوازُ أخذِ أموال الناس عند الضرورة بثمن إن كان له ثمن. فأما أخذها فلا بأس بما قيل فيه إن تبيَّن أن الماء مملوكاً للمرأة، وأنها معصومةُ المال، وانتفت تلك الاحتمالات التي قدمناها. وأما قوله: بثمن إن كان له ثمن، فإن كان أخذه من إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لها ما أعطاها، فيرد عليه أن الذي أعطاها مُتقوَّم، والفقهاء يقولون: إن ضمانَ المتقوَّم بالفَقد، وضمان المِثلي بالمِثل. فإن عدَّ الماءَ مِثلياً، أو متقوماً، فيرِدُ الإشكالُ على ما قاله بعد تقرير القاعد ة التي يقولها الفقهاء من ضمان المثلي بالمثل والمتقوم بالتقويم (¬1)، [و] ينعكس الحال إلى ضد ما قال؛ وهو أن المأخوذ من ¬

_ (¬1) "ت": "بالتقديم".

الثلاثون

المال للضرورة لا يجب العوض عنه (¬1)، إذ التعويض بما ليس بعوض ليس بتعويض، هذا بعد تقرير تصحيح أخذ الحكم من أخذه - عليه السلام - للماء كما ذكره. الثلاثون: فيه عَلَم عظيم من أعلام النبوة، ومعجزة من المعجزات له - صلى الله عليه وسلم - بتكثير الماء القليل إلى حدٍّ لا تقتضيه العادةُ. الحادية والثلاثون: فيه تقديم مصلحة شرب الآدمي والحيوان على غيره من مصلحة الطهارة بالماء، من قوله: وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابةُ إناءً من ماء، فقال: "اذهب فأفرِغْهُ عليك". وهذا أمر محقق؛ أعني: أنه يؤخذ منه أن هذه المصلحة مقدمة على تلك المصلحة، بسبب تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستقاء للإنسان والحيوان على إعطاء الجنب لطهارته. وأما أنه يؤخذ منه جواز التيمم مع وجود الماء لحاجة العطش، ففيه نظرٌ يحتاج إلى تأمل. الثانية والثلاثون: فيه جواز التوكيد بالإيمان لما يحتاج إليه في ذلك، وإن لم تَدع إليه الضرورةُ أو السؤال. ¬

_ (¬1) الى هنا نقله الحافظ في "الفتح" (1/ 454) عن المؤلف رحمه الله، وقد أغفل الحافظُ ذكرَ المؤلف فيما تَعقب به ما نقَل عن بعضهم. وهذا يؤيد ما كنت قد ذكرته من أن الحافظ رحمه الله يغفل - أحياناً - ذكر ابن دقيق وغيره في نقله، فيظن المطالع أن الكلام للحافظ، والأمر خلاف ذلك.

الثالثة والثلاثون

الثالثة والثلاثون: قال السَّفاقسي: وقوله: وإنه ليخيَّل إلينا أنها أشد ملاءة: يريد أن فيها من الماء فيما يظهر لنا أكثر مما كان، وذلك أن الملاءةَ ما يأخذه [الإناء] إذا امتلأ. الرابعة والثلاثون: إذا كان ما أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس على سبيل العِوَض على نقيض قاعدة الفقهاء، فهو من باب الإفضال والإنعام، أو من باب مقابلة حبسِها عن أهلها بالإحسان الذي يقوم مقامَ ما فاتها من مقصودها ببلوغ أهلها على حسب ما كانت عليه من السرعة. الخامسة والثلاثون: يقتضي إطلاقَ لفظِ الطعام على غير الحنطة؛ لأنه لم يذكر إلا عجوة ودقيقة وسَوِيقة، وقد وجد في الأحاديث ما يقتضي تخصيصَ لفظ الطعام بالحنطة، حتى اعتمد ذلك بعضُهم في بعض الأحكام. وقال بعضُهم: إذا قيل أكره السؤال في سوق الطعام، فإنه لا يفهم منه إلا سوق الحنطة، أو كما قال (¬1). ويحتمل أن يكون قوله: حتى جمعوا لها طعاماً؛ أي: انتهى جمعهم إلى أن جمعوا لها طعاماً؛ أي: حنطة، تنقُّلاً من الأدنى إلى الأعلى، والله أعلم. السادسة والثلاثون: يمكن أن يجعل أصلاً في جواز الأخذ من الجماعة للفقراء، ولمن يقتضي حالُه الأعطاءَ بناءً على ظاهر الحال من ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 50).

السابعة والثلاثون

رضا المطلوب منهم، لا سيما بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما إذا علم من حال المطلوب منهم الضِّنة والشُّح، فإنما يؤخذ منهم حيث يتعين ذلك، ويجب عليهم إعطاؤه، وليس هذا في هذه الصورة. السابعة والثلاثون: وفيه جواز المعاطاة في مثل هذا من الهيئات أو الاباحات من غير لفظ من المعطي والآخذ؛ لعدم ذكر شيء من ذلك في الحديث، مع أن الظاهرَ عدمُ وقوعِه، أخذًا مما يدل عليه اللفظ فقط. الثامنة والثلاثون: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رزأناكِ منْ مَائِكِ شيئًا"، إن أخذ على ظاهره، كان جميع ما أخذ مما زاده الله تعالى، وأوجده من غَيبه، لم يختلط به شيء من مائها، وذلك أبدع وأغرب في المعجزة؛ لاختلاط الماءين. ويحتمل أن يكون المراد: ما رزأناك من مقدار مائك شيئاً، أو ما يقرُب من هذا. التاسعة والثلاثون: قوله: "ولكنَّ اللهَ هو الذي سقَانا" يحتمل أن يكون معناه: جعل لنا سُقْيا، وذلك يطابِقُ قولَه - عليه السلام -: "تعلمينَ أنَّا لم نرزأكِ من مَائِكِ شيئاً، ولكنَّ اللهَ هو الذي أسقانا"؛ أي: لم يكن ماؤك من جهتك سقيا لنا، ولا جَعلتِ لنا سقيا، ولكنَّ اللهَ هو الذي جعل لنا السقيا، ويحتمل أن يكون ذلك إلى نفس السقي. الأربعون: اللفظ الذي ذكرته لأهلها ليس لفظ إيمان، بل هو في

الحادية والأربعون

نفسه كفر، وإنما حصل الإيمان بعد ذلك، فيكون تجنب الصحابة لصِرمها (¬1) ليس لأجل عصمتهم بالإيمان، ولعله لأجل الاستئلاف والترغيب فيه، وقد جزم به بعضُهم؛ أعني: أن قعودَهم عن قومها كان استئلافاً لهم. الحادية والأربعون: المقتضى لأيراد هذا الحديث في باب الآنية، أنه استدلَّ بالوضوء من مَزَادة المشرك: على أن أواني المشركين محمولة على الأصل في الطهارة، وأنه يجوز استعمالها لها (¬2)، ولما مرَّ في حديث أبي ثعلبة ما يقتضي الحكمَ بنجاستها ظاهراً، وهو الأمر بغسلها قيل الأكلِ فيها، أتبعه بما يتمسك به من يقول بخلاف هذا المذهب. الثانية والأربعون: " وأَطلقَ العَزَالِي، وسقى من سقى، واستسقى من شاء": يحتمل أن يكون الاستسقاء من فم العزالي عندما يخرج منها الماء، ويحتمل أن يكون ذلك بعد اجتماع الماء في شيء آخر بعد خروجه من العزالي، إلا أن هذا الاحتمال الثاني لا دليلَ عليه، لا من جهة الدلالة، ولا من جهة القرينة، والأصل عدمه، فهو مرجوح في الاعتبار، وستأتي فائدةُ كلِّ واحدٍ من الاحتمالين، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أي: جماعتها. (¬2) أي: استعمال آنية المشركين للطهارة.

الثالثة والأربعون

الثالثة والأربعون: وَيرِدُ على الاستدلال بالحديث على طهارة إناء المشرك، أن يقال: يحتمل أن يكون هذا الماءُ كثيراً، لا تؤثر فيه نجاسةُ الإناء، فلا يعارضُ الحديثَ المتقدمَ الدالَّ على نجاسة أواني المشركين، وهذا الاختلاف بحسب اختلاف المذاهب في حد الكثرة والقلة، فَمَنْ حَدَّ الكثرةَ بالقُلتين، والقليلَ بما دونهَا، فيبعد على مذهبه أن يكون الماء كثيرًا؛ لأنه إذا حَدَّ القلتين بخمس مئة رطل مثلاً، اقتضى أن يكون البعير قد حمل ألف رطل مع المرأة والمَزَادتين. وقد قالوا في تقدير القلتين: إنه مأخوذ من استقلال البعير، وأن بعير العرب يكون ضعيفا لا يحتمل أكثر من مئةٍ وستينَ مناً (¬1). وانما قلنا: إنه يقتضي على هذا المذهب أن يكون البعير قد حمل ألف رطل؛ لأن هذا الاستقاء كما قدمنا يحتمل أن يكون من فم العَزْلاَء، ويحتمل أن يكون بعد خروجه عنها واجتماعه في إناء واحد، وقد ذكرنا أن هذا الاحتمال مرجوح لا دليل عليه، فيحتمل على الأول، وهو أن يكون الشرب والاستقاء من الماء النازل من كل واحدة واحدة (¬2) من العزلاوين، فلا يكون كثيراً إلا إذا كان في كل مَزَادة خمسُ مئةِ رطل، ويلزم أن يكون البعير قد حَمَل ألفَ رطل مع ¬

_ (¬1) المَنُّ: كيل معروف. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (مادة: م ن ن). (¬2) أي: من كل واحدة على حدة.

الرابعة والأربعون

المرأة والمَزَادتين، وذلك بعيد. وأما من لا يرى تحديدَ الكثير بالمقدار المعين، ويعتقد فيما دونه أنه يكون كثيراً، فيجوز على هذا المذهب أن يكون الماء كثيراً، ولا يتم الاحتجاجُ على طهارة إناء المشركين. الرابعة والأربعون: وقد ظهر لك من الاحتمالين أنه يتوقف الاستدلال أيضاً أن يكون الاستقاء من العزلاوين، لا من ما يجتمع بعد خروجه عنها؛ لأنه لو كان كذلك أمكن أن يكون المجتمع كثيراً، فلا يكون الحديثُ حينئذ دالاً على الوضوء من ماء قليل في إناء مشرك. الخامسة والأربعون: ويتوقف الاستدلالُ بالحديث على طهارة إناء المشرك أيضاً، على أن الماء القليل ينجُس بايصال النجاسة؛ لأنه إن لم يثبت ذلك، لم تلزم من جواز استعمال الماء من آنيتهم طهارةُ الأناء؛ لجواز أن يكون الماءُ طاهراً، والإناءُ نجساً على هذا التقدير. السادسة والأربعون: هذا الذي ذكرناه فيما تقدم من توقف الدلالة على قلة الماء؛ أعني: ماء المَزَادة، وتأثر الماء القليل بوقوع النجاسة فيه، وأن المزادة لم تبلغ قلتين، وأن كان الاستقاء من فم العزلاء، يقتضي إثباتَ كل واحد من هذه الأمور، وترجيحه على ما يعارضه من وجوه: أحدها: أن القليل ما نقص عن القلتين. وثانيها: أن القليل يتأثر بإيصال النجاسة به.

وثالثها: أن المزادة كانت ناقصةً عن القلتين. ورابعها: أن الاستقاء لم يكن بعد اجتماع قلتين. فمتى ثبت كلُّ واحد من هذه الأمور، لزم طهارة إناء المشرك جزمًا؛ لأنه إذا ثبت أن القليل ما نقص عن القلتين، وثبت أن ذلك الماء ناقص عنهما بما ذكرناه من الاستبعاد، وثبت تنجُّسُ الماء القليل بايصال النجاسة به، وثبت أن الاستقاء قبل اجتماع قلتين، ثبت طهارة إناء المشرك جزماً؛ لأنه لو لم يكن طاهراً لثبت مجموع مركبٌ من نجاسة آنيتهم، وقلة الماء عن الحد المعتبر، وبتنجس القليل بإيصال النجاسة به، والوضوء به مع وصف القلة. فلو ثبت نجاسة آنيتهم حينئذ لم يجُزِ الوضوءُ بماء المزادة قطعاً، لكن جاز بالحديث؛ أعني: حديث عمران بن الحصين هذا، فينتفي هذا المجموع، وانتفاؤه ليس بانتفاء أحد هذه الأمور الأُول، لأنا تتكلم علي تقدير ثبوتها، فانتفاؤه بانتفاء نجاسة آنيتهم، فتكون طاهرة. فأما إثبات نقصان ماء المزادة عن القلتين، فقد ذكرنا ما فيه. وأما إثبات أن القلتين هو القدرُ المعتبر في دفع النجاسة عن الماء، فبحديث القلتين. وأما إثبات نجاسة الماء القليل بوقوع النجاسة فيه، فبمفهوم حدايث القلتين، أو بغيره. وأما إثبات الوضوء به قبل كثرته، فبما ذكرنا من مرجوحيّة ذلك

السابعة والأربعون

الاحتمال؛ أعني: الاجتماع. وكل واحد من هذه الأمور يحتمل المنازعةَ بما يُعارِضُها، فيحتاج إلى ترجيح ما يدَّعيه المستدل من إثبات كل واحد منها (¬1) على ما يعارضه. السابعة والأربعون: فأما تحديد الكثير بالقلتين، وتحديد القلتين بالقدر المذكور فيهما، إما خمس مئة رطل، أو غيره، فطريق الاعتراض فيه أن يقول الخصم: لو كان ما ذكرتموه من المقدار في القلتين معتبراً لما جاز الوضوءُ بماء المَزَادة، لكن جاز، فلا يكون ما ذكرتموه من المقدار معتبراً. بيان الملازمة: أنه لو كان ما ذكرتموه من المقدار معتبراً، لكان ماء هذه المزادة ماء قليلاً ملابِساً للنجاسة، ولو كان ماء قليلاً ملابِساً للنجاسة لم يَجز الوضوء منه، فلو كان ما ذكرتموه معتبراً، لما جاز الوضوء من ماء المزادة. وانما قلنا: إنه لو كان ما ذكرتموه من المقدار معتبراً، لكان ماء المزادة قليلاً لما قررتموه؛ ولأنه لا يتمُّ الاستدلالُ به على طهارة إناء المشرك، إلا إذا كان الماء قليلاً. وأما أنه يكون ملابساً للنجاسة، فلأنه ملابس لآنية المشرك، وآنية المشرك نجسة لحديث أبي ثعلبة، فثبت أنه لو كان ما ذكرتموه ¬

_ (¬1) "ت": "منهما".

الثامنة والأربعون

من المقدار معتبراً، لكان ماء المزادة قليلاً ملابساً للنجاسة، لم يجز الوضوء به؛ إما إلزاماً للمُناظِر على مقتضى مذهبه، وإما بالدليل الدال على نجاسة الماء القليل بوقوع النجاسة فيه. وحاصل هذا الوجه: إثباتُ تأثُّرِ الماء القليل بالنجاسة، وإثباتُ نجاسة إناء المشرك، وأن ماء المزادة لم يبلغ قلتين، ويلزمه ما ذكر من عدم التحديد بالقلتين. وتقع المعارضة هاهنا بين الدليل الدال على نجاسة آنية المشرك، والدليل الدال على تأثر الماء القليل بالنجاسة، والدليل الدال على قلة ذلك الماء، وأن الوضوء به كان مع قلته، وبين الدليل الدال على اعتبار القلتين. الثامنة والأربعون: وأما من يرى أن الماء القليل لا ينجس باتصاله بالنجاسة، فالطريق فيه أن يقول: الوضوء جائزٌ بالماء القليل الموضوعِ في أوانيهم، والماءُ القليلُ الموضوعُ في أوانيهم متصلٌ بالنجاسة، والوضوء جائزٌ بالماءِ القليلِ المتصل بالنجاسة. أما المقدمة، وهي: أن الوضوء جائز بالماء القليل الموضوع في أوانيهم، فإنه جاز بماء المزادة لحديث عمران، وماءُ المَزَادة ماءٌ قليل لِمَا تقدَّم، وهو موضوع في آنيتهم، فالوضوء جائز بالماء القليل الموضوع في آنيتهم. وأما المقدمة الثانية، وهي: أن الماء القليل الموضوع في آنيتهم

متصل بالنجاسة، فلأنَّ أوانيهم نجسةٌ بحديث أبي ثعلبة، والماء متصل بها، فالماء القليل الموضوع في أوانيهم متصل بالنجاسة. وحاصل هذا: ترجيح الدليل الدال على نجاسة آنية المشرك مع إثبات قلة الماء، على الدليل الدال على تنجيس الماء القليل بإيصال النجاسة به. واعلم أن هذا لا يتم الاستدلالُ به للمالكي الذي لا يرى تنجيسَ الماء القليل باتصاله بالنجاسة، وإن أمكن تقريرُه، فبطريق الإلزام لبعض المخالفين له. أمَّا أنه لا يتأتَّى له الاستدلال بالحديث على ذلك، فلأنَّ الاستدلالَ به موقوفٌ على إثبات قلة ماء المزادة، ولا فرق بين القلة والكثرة بالنسبة إلى الحكم والنجاسة على مذهبه، إذ لا نجاسة لقليل الماء ولا لكثيره، فلا فائدة لتحديد القليل حينئذ. اللهم إلا أن يثبُتَ له أن ماء المزادة انتهى إلى حد القلة، لا يُختلف في كونه قليلاً، ويحصل الاتفاق عليه، فيتم ذلك. لكن هذا غير ممكن، فإن للمزادة حظًّا من الكثرة عند بعض الناس، وهم الذين يمثلون القليل بملء الإناء الصغير، فالمزادة تَسعُ ما هو أكثر من ذلك، فإذا رأوا أن ذلك المقدار ينجس، وأراد الاستدلال عليهم بحديث المزادة، أجابوه بأنه كثيرٌ عندنا. وأما بطريق الإلزام فَبِأَنْ يلزمَ ذلك من يَحُدّ القليلَ بما دون

التاسعة والأربعون

القلتين، أو من يرى ما هو أكثر من ذلك قليلاً؛ كمن حدَّ ذلك بما يتحرك أحدُ طرفيه عند تحريك الطرف الآخر، وهذا - وإن وقع (¬1) وتم - فإلزامٌ لا طريقٌ لإثبات المذهب في نفس الأمر عند التحقيق، والله أعلم. التاسعة والأربعون: القول بأن القليل محدودٌ بما دون القلتين، وأن آنية المشركين نجسة، وأن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، يعسُر بعده الجواب عن حديث عمران بن الحصين هذا، ولا يتجه فيه إلا المنع لكون هذا الماء كان دون القلتين. وارتكاب المعاندة فيما ذكرناه من الاستبعاد، أو يُدَّعى أن حديث أبي ثعلبة فى تنجيس آنية المشركين متأخر عن هذا الحديث، ويقول بامتناع الوضوء من مثل هذه الآنية أن يأتيَ له دليل على التأخر. الخمسون: وأما من يرى أن الماء القليل ينجس بالنجاسة من غير تغيُّر، ولا يحد القليل بما دون القلتين، ويمثله بالإناء الصغير، فلا يتأتى أن يحتج عليه من هذا الحديث على أن الماء القليل لا ينجس بالنجاسة؛ لأنه يجوز أن يكون ماء المزادة كثيراً لا يتأثر بالنجاسة على مقتضى مذهبه؛ لأن الاستبعاد الذي ذكرناه في بلوغ ماء المزادة قلتين ينتفي على مقتضى مذهبه. الحادية والخمسون: القائلون بالقلتين اختلفوا في مقدارهما، فيمكن الاستدلالُ به - بعد القول بالرجوع إلى القلتين - على إبطال ¬

_ (¬1) "ت": "يقع".

بعض تلك المذاهب في التقدير بماء كثير يُجزمُ ببطلانه؛ كمن يقدرُهما بألف رطل، فيكون مجموعُ ما حملة البعير ألفي رطل مع المرأة، وذلك زائدٌ في البُعْد، وهذا كلُّه بعد القول بنجاسة إناء المشرك، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

الحديث السادس

الحديث السادس وَعَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ اللَّهِ رضَيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ، أَوْ (¬1) أَمْسَيْتُمْ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسمَ اللَّهِ، [فَإنَّ الشَّياطِيْنَ لاَ تَفْتَحُ بَاباً مُغْلَقاً، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ] (¬2)، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا (¬3) شَيْئاً، وَأَطْفِئُوا ¬

_ (¬1) في المطبوع من "الإلمام" (1/ 56)، وكذا ما رأيته بخط ابن عبد الهادي لكتاب "الإلمام" (ق 4 / أ): "إذا" بدل "أو". وقد أشار ابن عبد الهادي في هامش نسخته: ب "أو" وكتب فوقها (خ) إشارة إلى أنها في نسخة كذا. وكذا أثبت المؤلف رحمه الله "أو" في "الإمام" (1/ 329)، وهكذا هو في المطبوع من "صحيح البخاري"، حيث اللفظ له. (¬2) ما بين معكوفتين سقط من "ت"، والمثبت من المراجع المشار إليها في التخريج، ومما سيورده المؤلف بعد. (¬3) "ت": "عليه"، والمثبت من المطبوع من "الإمام" للمؤلف (1/ 329)، و"الإلمام" (1/ 56)، والنسخة الخطية لابن عبد الهادي "للإلمام" (ق 4 / ب)، وكذا مراجع التخريج.

مَصَابِيحَكُمْ"، متفق عليه (¬1). ¬

_ (¬1) كذا في "ت" قوله: "متفق عليه". وفي المطبوع من "الإلمام" (1/ 56)، والنسخة الخطية لابن عبد الهادي (ق 4 / ب). رواه البخاري. قلت: ولعله مراد المؤلف؛ لما سيأتي عنده في الوجه الثالث، وقد ذكر في "الإمام" (1/ 329) هذا الحديث فقال: روى البخاري ... ، فذكره. * تخريج الحديث: رواه البخاري (5300)، كتاب: الأشربة، باب: تغطية الإناء، والسياق له، و (3106)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، و (3128)، باب: خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومسلم (2012/ 97)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء، وأبو داود (3731)، كتاب: الأشربة، باب: في إيكاء الآنية، من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، به. ورواه البخاري (3138)، كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، و (5937)، كتاب: الاستئذان، باب: لا تترك النار في البيت عند النوم، وأبو داود (3733)، كتاب: الأشربة، باب: في إيكاء الآنية، والترمذي (2857)، كتاب: الأدب، باب: (74)، من حديث كثير بن شنظير، عن عطاء، عن جابر، به. ورواه البخاري (3128)، كتاب: بدء الخلق، باب: خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومسلم (2012)، (3/ 1595)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء، من حديث ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن جابر، به. ورواه البخاري (5301)، كتاب: الأشربة، باب: تغطية الإناء، و (5938)، كتاب: الاستئذان، باب: غلق الأبواب بالليل، من حديث همام، عن عطاء، عن جابر، به. =

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف بمن ذكر فيه: فنقول: في الصحابة ممن يسمى جابر بن عبد الله ثلاثة: أحدهم: جابر بن عبد الله بن رِئاب - بكسر الراء المهملة، وبعدها همزة، وبعد الألف باء موحدة - ابن سنان بن عبيد السَّلمَي، بفتح السين واللام، بدري المشهد مع غيره من المشاهد. قال الحافظ أبو عمر: وهو أول من أسلمَ من الأنصار قبلَ العَقَبةِ الأولى بعام، وله حديث عن الكلبي، عن أبي صالح، عنه في قول الله - عز وجل -: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] (¬1)، ¬

_ = ورواه مسلم (2012/ 96)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء، وابن ماجه (3410)، كتاب: الأشربة، باب: تخمير الإناء، من حديث الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر، به. ورواه مسلم (2012)، (3/ 1594)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء، وأبو داود (3732)، كتاب: الأشربة، باب: في إيكاء الآنية، والترمذي (1812)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في تخمير الإناء وإطفاء السراج والنار عند المنام، من حديث مالك، عن أبي الزبير، عن جابر، به. ورواه مسلم (2012)، (3/ 1594)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء، من حديث زهير وسفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، به. (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 574)، وابن جرير في "تفسيره" (13/ 168)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 119)، عن =

لا أعلم له غيره (¬1). وثانيهم: جابر بن عبد الله بن عمرو بن عبد الله الرَّاسبي من بني راسب، قال أبو عمر: روى عنه أبو شداد (¬2). وثالثهم: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام - بفتح الحاء والراء المهملتين - الأنصاري السَّلَمي، بفتح السين واللام معاً. قال أبو عمر: يُنسب جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن عمرو بن سواد بن سَلِمة، ويقال (¬3): جابر بن عبد الله بن حرام بن ثعلبة ابن حرام بن كعب بن غنم (¬4) بن كعب بن سلمة. وأمه نُسيبة بنت عقبة بن علي بن سنان بن نابي بن يزيد (¬5) بن ¬

_ = الكلبي في تفسير هذه الآية: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] قال: يمحو الله من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه. قال: قلت له: من حدثك؟ قال: حدثني أبو صالح، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإسناده ضعيف. (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 219). قال الحافظ في "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 433)، قلت: بل جاء عن جابر بن عبد الله بن رئاب أحاديث من طرق ضعيفة. ثم ذكر الحافظ حديثين له. (¬2) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 221). (¬3) "ت": "قال: وقال". (¬4) "ت": "عثمان". (¬5) في المطبوع من "الاستيعاب": "زيد".

حرام بن كعب بن غنم. اختُلف في كُنيته، فقيل: أبو عبد الرحمن، وأصحُّ ما قيل فيه: أبو عبد الله. شهد العقبةَ الثانية مع أبيه وهو صغير، ولم يشهد الأولى. ذكره بعضُهم في البدريين، ولا يصح؛ لأنه روي عنه أنه قال: لم أشهد بدراً، ولا أحداً منعني [أبي] (¬1). وذكر البخاري أنه شهد بدراً، وكان ينقل لأصحابه الماءَ يومئذٍ، ثم شهد بعدَها مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثماني (¬2) عشرة غزوةً، ذكر ذلك الحاكمُ أبو أحمد. وقال ابن الكلبي: شهد أحداً، وشهد صِفِّينَ مع علي - رضي الله عنه -. وروى أبو الزبير، عن جابر قال: غزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه إحدى وعشرين غزوة، شهدت معه منها تسع عشرة غزوة (¬3). وكان من المكثرين الحفاظ للسنن، وكُفَّ بصرُه في آخر عمره، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1813)، كتاب: الجهاد والسير، باب: عدد غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) "ت": "ثمانية عشر". (¬3) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 207)، والحاكم في "المستدرك" (6404). ورواه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 207)، من طريق أبي سفيان، عن جابر، به. قال الحافظ في "الإصابة" (1/ 434): إسناده صحيح.

الوجه الثاني: في تصحيحه

وتوفي سنة أربع وسبعين (¬1)، وقيل: سنة سبع وسبعين، وقيل: سنة ثمان وسبعين بالمدينة، وصلى عليه أبانُ بن عثمان، وهو أميرها، وقيل: توفي وهو ابن أربع وتسعين (¬2). قلت: وأبوه عبد الله بن عمرو بن حرام من الصحابة أيضاً ممن شهد أحداً، ولذلك قلنا: رضي الله عنهما؛ يعني: جابراً وأباه. وكذلك الجادةُ فيمن يكون هو وأبوه صحابيين، وفيه من الفائدة الدلالة على صحابيَّة أبي الراوي، فقد يكون خفياً عن الجمهور ممن لا أنس له بالرجال. * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: وهو حديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم في ¬

_ (¬1) وهو الأرجح. (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 648)، "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 257)، "الثقات" لابن حبان (3/ 51)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 219)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 208)، "أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 492)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 149)، "تهذيب الكمال" للمزي (4/ 443)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 189)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 434).

الوجه الثالث

"صحيحيهما" من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر. * * * * الوجه الثالث: في الاختيار المقصود بايراد الحديث في هذا الباب، وتخمير الإناء (¬1). واختيار هذه الرواية؛ لما فيها من الجمع بين أحكام عديدة يُستغنى به عن إيراد الدلائل المتعددة على كل حكم، ولأن في هذه الرواية ذكر اسم الله تعالى على هذه الأمور؛ أعني: التخمير، والإيكاءَ، وإغلاقَ الأبواب، وليس ذلك في رواية الليث، عن أبي الزبير، عن جابر (¬2)، فإنَّ فيها الأمرَ بتغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وغلق الباب، وإطفاء السراج، لم يذكر فيها التسمية في هذه الأمور، وكذلك رواية عمرو بن دينار، عن جابر (¬3). * * * ¬

_ (¬1) كذا في "ت". (¬2) وقد تقدم قريباً تخريجها عند مسلم برقم (96/ 2012)، وابن ماجه برقم (3410). (¬3) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها برقم (3128)، ومسلم برقم (2012)، (3/ 1595).

الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

* الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: قال في "الصحاح": جَنَحَ، أي مالَ، يَجْنَحُ جُنوحاً. واجْتَنَحَ مِثْلُهُ. وجُنوح الليل: إقْباله (¬1). وقال ابن سِيْدَه: جَنَحَ الشيء عن وجهه جَنْحاً، وأجنحه: أماله، والجنح الأصل (¬2). الثانية: قال في "الصحاح": المساء خلاف الصباح، والإمساء: نقيض الإصباح، وأمسينا مُمْسَى، قال (¬3) [من البسيط]: الحمدُ لله مُمْسانا ومُصْبَحَنا ... بالخَيْرِ صَبَّحنا ربِّي ومَسَّانا (¬4) وهما مصدران وموضعان أيضاً، قال امرؤ القيس يصِفُ جاريةً [من الطويل]: تُضيءُ الظَّلامَ بالعِشاءِ كأنَّها ... مَنارَةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ (¬5) يريد: صومعته حيث يُمسي فيها. والاسم: المسْيُ (¬6) والصبح، وقال (¬7) [من المنسرح]: ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 360)، (مادة: جنح). (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (3/ 87)، (مادة: جنح). (¬3) هو أمية بن أبي الصلت، كما في "ديوانه" (ص: 516)، (ق 96/ 1). (¬4) "ت": "وممسانا". (¬5) انظر: "ديوانه" (ص: 17)، (القصيدة: 1). (¬6) "ت": "المساء". (¬7) هو الأضبط بن قريع السَّعدي، كما في "غريب الحديث" لأبي عبيد =

والمُسْيُ والصُبْحُ لا فَلاَحَ مَعَهْ ويقال: أتيته لِمُسْي خامسةٍ، بالضم، والكسرُ لغة. وأتيته مُسَيَّانًا، وهو تصغير مَساءٍ. وأتيته أُصْبوحَةَ كلِّ يوم، وأُمْسِيَّةَ كلِّ يوم. وأتيته مُسْيَ أَمْسِ؛ أي: أَمْسِ عند المَساءِ (¬1). وقال ابن سيده: المساء: نقيضُ الصَّباح، قال سيبويه، قالوا: الصباح والمساء؛ كما قالوا البياض والسَّواد، ولقيته صباحَ مساءَ، مبنيٌّ، وصباحَ مساءٍ مضافٌ؛ حكاه سيبويه، والجمع: أَمْسِيَة، عن ابن الأعرابي. وقال اللَّحياني: تقول العرب إذا تطيَّروا من الإنسان أو غيره: مساءُ اللهِ لامساؤك. وقال عثمان (¬2) بن جِنِّي: أصل أمسى أمسَيَ، وأصل رمى رَمَيَ، ¬

_ = (4/ 38)، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 382 - 383)، و "الأمالي" للقالي (1/ 107)، و"البيان والتبيين" للجاحظ (3/ 341)، و "خزانة الأدب" للبغدادي (11/ 452)، وغيرها. وصدر البيت: لكل همٍّ من الهموم سَعَه (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2492)، (مادة: م س ا). (¬2) "ت": "عمر" وهو خطأ.

الثالثة

وأصل غزا غزَوَ (¬1). قلت: ليس فيما ذكره الجوهري وابن سيده تعيين الوقت الذي يطلق عليه المساء من الزمان. الثالثة: قال الجوهري: الشيطان معروف، وكل عاتٍ متمرد من الجن والإنس، والدواب شيطان، قال جرير [من البسيط]: أيامَ يدعُونني الشَيْطانَ من غَزَلٍ ... وهُنَّ يَهْوَيْنَنِي إذْ كُنتُ شَيْطانا (¬2) والعرب تسمي الحيةَ شيطاناً (¬3). قلت: ذكر الجوهري ما يطلق عليه في لغة العرب شيطاناً من غير تمييز بين حقيقته ومجازه، والذي يظهر: أنه حقيقةٌ فيما هو من الجن، مجازٌ في الإنس المتمرد الذي يكون فيه. وأما الحية فيحتمل أن يكون مجازاً، ويحتمل أن يكون حقيقة مشتركاً. وقال ابن سِيْدَه: الشيطان: حية له عُرْف، والشيطان: من سِمَات الإبل، وَسْمٌ (¬4) يكون في أعلى الإبل منتصباً (¬5) على الفخذ إلى ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 590). (¬2) انظر: "ديوان جرير" (ص: 493)، وعنده: أزمانَ يدعُونني الشَّيطانَ مِنْ غَزَلي ... وكنَّ يَهْوَينني إذا كنتُ شيطانا (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2144)، (مادة: شطن). (¬4) "ت": "وسمته". (¬5) "ت": "متقاعداً".

الرابعة

العُرقوب ملتوياً؛ عن ابن حبيب من "تذكرة أبي علي" (¬1). قلت: والأقرب في هذا الاشتراك. الرابعة: قال الجوهري: الوِكاء الذي يُشَدُّ به رأسُ القِربة، وفي الحديث: "احفظْ عِفَاصَهَا ووِكَاءَهَا" (¬2)، ويقال: أوكى على ما في سقائِهِ: إذا شَدَّه، بالوِكاء، وإن فلاناً لَوِكَاء (¬3). ما يَبِضُّ بشيء، وسألناهُ فأَوكى علينا؛ أي: بَخِل. وفي الحديث أنه: كان يُوكي بين الصفا والمروة (¬4)؛ أي: يملأ ما بينهما سعياً، كما يُوكَى السِّقاء بعد الملء، ويقال معناه: أنه كان يسكت فلا يتكلم، كأنه يوكي فمَه، وهو من قولهم: أوكِ حلقَك؛ أي: اسكت. أبو زيد: اسْتَوْكَت الناقة: إذا امتلأت شحماً (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 18)، (مادة: شطن). (¬2) رواه البخاري (2295)، كتاب: اللقطة، باب: ضالة الإبل، ومسلم (1722) في أول كتاب: اللقطة. (¬3) "ت": "أوكأ". (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13937) عن هشام، عن أبيه: أن الزبير كان يولي ما بين الصفا والمروة سعياً. كذا وقع في المطبوع من "المصنف": "يولي". وقد ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" (4/ 9) وغيره فقال: "يوكي". (¬5) "ت": "منها" بدل "شحماً"، وانظر: "الصحاح" للجوهري " 6/ 2528)، =

قلت: الحقيقة من ذلك وِكَاء السقاء، وما ينصرف منه، وقولهم: إنَّ فلاناً أوكأ، وأوكأ علينا؛ أي: بخل، مجاز تشبيه، شبَّه عدمَ خروج شيء منه من الجود، بعدم خروج ماء السقاء الموكى، وشبَّه ربطَه على ما في يده وحفظَه، بربط الوِكاء وحفظِه لما في السقاء. وكذلك السكوت مجاز على ما ذكرناه، وكذلك معنى الملء والامتلاء. وقال ابن سِيْدَه: الوِكاء: رباط القِربة وغيرها، وقد وكأها وأوكأها، وأوكى عليها، وفي الحديث: "إن العينَ وِكاء السَّهِ، فإذا نامَ أحدُكُم فليتوضَّأْ" (¬1)، جعل اليقظةَ لها وكاء، وفي حديث آخر: "إذا نامتِ العينُ استُطلقَ الوكاءُ" (¬2)، وكله على ¬

_ = (مادة: وكى). (¬1) رواه أبو داود (203)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من النوم، وابن ماجه (477)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من النوم، وغيرهما من حديث علي - رضي الله عنه -. وإسناده ضعيف. وقد حسنه المنذري وابن الصلاح والنووي، قال ابن الملقن: وفيه نظر؛ لأنه منقطع. انظر: "خلاصة البدر المنير" لابن الملقن (1/ 52)، و "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 118). (¬2) رواه الأمام أحمد في "المسند" (4/ 96)، وأبو يعلى في "مسنده" (7372)، والدارقطني في "سننه" (1/ 160)، والبيهقي في "السنن =

الخامسة

الملء (¬1)، وكل ما شد رأسه [من] (¬2) وِعاءٍ ونحوِه، وكأته (¬3)، ونحوه قول الحسن: يا ابن آدم جَمْعاً في وعاء، وشدًّا في وِكَاء (¬4)، الوكاء هاهنا كالجِراب، وأوكأ فمه سَدَّه، وفلان يُوكِئ فلاناً: يأمره أن يسدَّ فاه ولسكت. ووَكى الفرس الميدان شَدًّا: ملأه، وأصله من ذلك. وروى الزبير: كان يُوكِي بين الصفا والمروة؛ أي: يملأ [ما بينهما سعياً] (¬5). وقيل: هو من إمساك الكلام (¬6)، والله أعلم. الخامسة: التخمير: التغطية، يقال: خمَّر وجهه، وخمر إناءه، ومادة اللفظ تدل على السِّتر، و [ما] في معناه. والخمار سُترة الرأس، ¬

_ = الكبرى" (1/ 118)، وغيرهم من حديث معاوية - رضي الله عنه -. وإسناده ضعيف، كما ذكر ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 38)، والحافظ في "الدراية" (1/ 34)، وغيرهما. (¬1) في المطبوع من "المحكم": "المثل". (¬2) "ت": "و". (¬3) في المطبوع من "المحكم": "وكاء". (¬4) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 146). (¬5) "ت": "أي يملأ فاه بهما منه ماء"، والمثبت من المطبوع من "المحكم". (¬6) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 158 - 159)، (مادة: وكى).

السادسة

والخمر: الشجر الملتفِّ لستره ما يدخل تحته، والخمر لتغطيتها على العقل. وقال ابن سِيْدَه: خمَّر الشيء يخمره خمراً، وأخمره: ستره، وخمَّر شهادته، وأخمرها كتمها. ثم قال: وكلُّ شيء مغطَّى مُخمَّر (¬1). قلت: خمر الشهادة: مجاز من تشبيه المعنى بما يُحَسُّ، والله أعلم. السادسة: عَرَض العُودَ على الإناء، والسيفَ على فخذه: يَعرِضُه، وَيعْرُضُه، قال الجوهري: فهذه وحدَها بالضم (¬2). وقال ابن سِيْدَه: عَرَض العُودَ على الإناء، والسيفَ على فخذه: يَعرِضُه عرضاً، وعرضَ الرمح يعرُضه عَرْضًا [وعرضه]، قال النابغة [من الطويل]: لهُنَّ عَلَيهم عَادةٌ قد عَرَفْنَها ... إذا عرَّضوا (¬3) الخَطِيَّ فوقَ الكَواثِبِ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 187 - 188)، (مادة: خمر). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1082)، (مادة: عرض). (¬3) "ت": "عرضها"، وفي المطبوع من "ديوانه": "عُرِّض". (¬4) انظر: "ديوانه" (ص: 58)، (ق 4/ 15).

الوجه الخامس: في شيء من العربية، وفيه مسائل

وعرضَ الشيءُ يعرِض، واعترض: انتصب كالخشبة (¬1). * * * * الوجه الخامس: في شيء من العربية، وفيه مسائل: الأولى: (أفعل) في أمسى للدخول في الشيء؛ كما في أصبح، وأتهم، وأَنْجد، وهو أحد محامل (أفعل). الثانية: أصل أَمسى، أَمسَيَ، تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فانقلبت ألفاً على القاعدة؛ كما في رمى، أصله رمَيَ، ونظائرها. أصل أمسيتم: أمسييتم بيائين؛ أولاهما متحركة، والثانية ساكنة، فقُلبت الأولى ألفاً على القاعدة، فالتقت ساكنة مع الياء الساكنة فحذفت. قال الجوهريُّ: والشيطان نونُه أصلية، قال أُميَّة [من الخفيف]: أَيُّما شاطِنٍ عَصاهُ عَكاهُ ... ثم يُلْقى في السِّجنِ والأَغْلالِ (¬2) قال: ويقال أيضاً: إنها زائدة، فإن [جعلتَه] فَيْعالاً من قولهم: تشيطن الرجلُ، صرفْتَه، وإن جعلته من شيَّط (¬3) لم تصرفه؛ لأنه فَعلان (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (1/ 395). (¬2) انظر: "ديوانه" (ص: 445)، (ق 62/ 27). (¬3) في المطبوع من "الصحاح"، "تشيَّط". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2144)، (مادة: شطن).

الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

وقال ابن سِيْدَه: والشاطن: الخبيث، والشيطان: فَيْعال من ذلك، فيمن جعل النون أصلية، وقولهم: والشياطين دليل على ذلك، وفي التنز [يل]: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 210]، وقرأ الحسن: وما تنزلت به الشياطون (¬1)، قال ثَعلب: هو غلط فيه (¬2). وتشيطنَ الرجلُ: فَعَلَ فِعْلَ الشياطين (¬3). * * * * الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: فيه الأمر بكفِّ الصبيان في أول الليل؛ أي: كفُّهم عن الانتشار والتصرف؛ للمصلحة المذكورة في الحديث. الثانية: الفاء في قوله - عليه السلام -: "فإنَّ الشياطينَ تنتشرُ حينئذٍ" يقتضي التعليل؛ أعني: تعليل الأمر بكف الصبيان بانتشار الشياطين على ما تقرر في علم الأصول من اقتضاء مثل هذه الفاء ذلك (¬4). الثالثة: لا بدَّ من مناسبة العلة للحكم، والسبب فيه: أن انتشارَ ¬

_ (¬1) انظر: "الإتحاف" للدمياطي (ص: 424). (¬2) في المطبوع من "المحكم": "وهو غلط منه". (¬3) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 17)، (مادة: شطن). (¬4) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (3/ 152).

الرابعة

الشياطين حينئذٍ مما يقتضي اختلاطَ الصبيان بهم بوصف الكثرة والاجتماع، فإن المنتشرَ بعد الانقباض يقتضي انتشارَه الاجتماعَ في أوله (¬1)، كما هو المُعتَادُ في الجمع، واختلاط الصبيان بهم لا يُؤْمَن معه من حصول الضرر ولحوقِه بالصبيان، إما بما ينالُهم منهم على حسب المقدور، وإما برؤية بعضِهم فيختلُّ العقل. الرابعة: تعليق الأمر بذلك بالصبيان مناسبٌ لما فيه مِنْ ضعفِ عقولهم، وكون ذلك أقربَ إلى حصول الضرر، وما يخاف من المحذور. الخامسة: فيه الشفقة من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتعريفه لأمته ما يخفى عنهم من احتمال المكروه اللاحق بهم، وهو من المغيَّبات التي لا يُطَّلع عليها إلا من جهة الأخبار النبوية، وأن ذلك عن أمر خاصٍّ من الله تعالى، ففيه الرحمة من الله تعالى بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - به، وهذا القول في غير هذا من الأوامر التي في الحديثِ. السادسة: انتشارُ الشياطين حينئذ لِما يحصل بالليل، ودخول ظلمته من الوحشة، وانفصال أُنسِ النهار، وقد يقال: الليل أنسُ المستوحشين، ووحشة المتأنسين، ولما كانت الشياطينُ والجنُّ مائلةً إلى الوحدة وما يخالف الأنس؛ كالبراري والقفار، كان انتشارُهم حينئذ مناسباً لحالهم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "قوله".

السابعة

السابعة: الأمر بتخلية الصبيان بعد ساعة؛ لما تقدمت الاشارة إليه من أن الجمع المُنحبس إذا خرج اقتضى الاجتماع في ابتداء (¬1) خروجِه، ثم بعد ذلك يحصل الافتراق بالانتشار، فلا يبقى ما كان أولاً من قرب وقوع المحذور بالكثرة. الثامنة: فيه من مسائل الأصول، وقواعد الأيمان؛ إثبات الشياطين والجن، وهو أمر مقطوعٌ به من الشريعة، لا يحتمل التأويل، ولا يجامع إنكاره الإيمان، والعقلُ يدلٌ على الجواز، وإذا انضاف السمعُ بالوقوع وجبَ الاعترافُ به. أما أن العقلَ يدل على الجواز؛ فلأن الجائزَ ما لا يلزم من فرض وقوعه محالٌ لعينه، ووجود الجن والشياطين كذلك، فوجودُهم جائزٌ. وأما أن السماع دل على الوقوع، فبالتواتر الذي يفيد العلمَ عن الشريعة به، والشُّبهةُ التي تُورَد من جهة منكري الجن ركيكةٌ ضعيفة (¬2). ¬

_ (¬1) "ت": "الابتداء". (¬2) نقل إمام الحرمين في "الشامل" عن كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية أتهم أنكروا وجودهم رأساً. قال: ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المشرِّعين، إنما العجب من المشرعين مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة. قال. وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم. قال: وأكثر ما استروح إليه مَنْ نفاهم: حضورهم عند الإنس بحيث لا يرونهم، ولو شاؤوا لأبدوا أنفسهم. قال: وإنما يستبعد ذلك من لم =

التاسعة والعاشرة

التاسعة والعاشرة: ويدل أيضاً على حركتهم وتنقلهم في الأماكن، وتَتْبَعُ ذلك دِلالَتُهُ على جسميَّتهم؛ لأن الحركة والانتقال من غير تّبعيَّةٍ من صفات الأجسام. الحادية عشرة: الأمر بإغلاق الأبواب لما فيه من المصالح الدينية والدُّنيوية. أما الدُّنيوية: فمنها الحفظ، والحراسة للأنفس والأموال من أهل العَيْثِ والفساد. وأما الدينية: فلِمَا دلَّ عليه الحديثُ من كون الشياطين لا تفتح باباً مغلقاً، فيكون ذلك سبباً لامتناعه من مخالطة الإنسان، وامتناعُه من المخالطة من المصالح الدينية؛ لما في مخالطته من التعرض لإفساده بالوسوسة، وبما (¬1) يُلْقِيه في القلوب والنفوس. ¬

_ = يحط علماً بعجائب المقدورات. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم وينفونه الآن، ومنهم من يثبتهم وينفي تسلطهم على الإنس. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 343 - 344). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة. انظر: "مجموع الفتاوى" (24/ 276). (¬1) "ت": "وبوسوسة ما".

الثانية عشرة

الثانية عشرة: الفاء في قوله - عليه السلام -: "فإن الشياطين لا تفتح باباً مغلقاً دالَّةٌ على الـ[ت]ـعليل؛ كما قلناه فيما تقدم، فيحتمل أن يكون الأمر بإغلاق الأبواب قُصِد به مصلحة إبعاد الشياطين عن الاختلاط بالإنسان بمجردها، فعلّل بأنه لا يفتح باباً مغلقاً، ويحتمل أن يُرادَ به جميع مصالح إغلاق الأبواب، [ونبَّه بهذا] (¬1) التعليل على ما يخفى على الإنسان مما لا يمكنه الاطلاع عليه إلا من جهة النبوة، لا لتخصيص الأمر بذلك المقصود. الثالثة عشرة: الألف واللام في "الشياطين" للجنس؛ لأنه ليس المراد فرداً واحداً من أفراد الشياطين، واستعمال الاسم المفرد المحلَّى بالألف واللام للعموم (¬2). الرابعة عشرة: وإذا كان للعموم فيحتمل أن يكون على حقيقته في تناول كل فرد، ويحتمل أن يكون مخصوصاً. الخامسة عشرة: يحتمل أنْ يؤخذَ قولُه - عليه السلام -: "فإن الشياطينَ لا تفتحُ باباً مغلقاً" على عمومه في الأبواب، وهو ظاهره، ويحتمل أن يُؤخذَ على معنى أنه لا يَفتحُ باباً مغلقاً ذُكِر اسمُ الله تعالى عند إغلاقه؛ ¬

_ (¬1) "ت": "وبينه من بينها بهذا"، وقد نقل الحافظ في "الفتح" هذه المسألة والتي قبلها وبعدها، وجاء عنده: "وخصه بالتعليل تنبيهاً على مايخفى ... ". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 87).

السادسة عشرة

لأجل تقدم الأمر بالتسمية عند الإغلاق. السادسة عشرة: فيه دليل على أن إغلاقَ الباب يمنع من دخول الشياطين، فيحتمل أن يكون ذلك لأجل أمر يتعلق بجسمه وبِنْيته، ويحتمل أن تكون لا تمنع بِنيتُه ذلك، ويكون له مانع من الله تعالى بأمر خارج عن بنيته، وأن بنيتَه وجسمَه لا يمتنع عليه ذلك بسببها. السابعة عشرة: يقتضي منعَ دخول الشياطين الخارجة عن البيت بعد إغلاق الباب، لا خروجَ الشيطان يكون بالبيت قبل إغلاقه، فيحتمل أن يكون هذا من باب الأمر بتقليل المفاسد لا رفعِها بالكلية، وتقليلُ المفاسد مطلوبٌ؛ كما أن رفعَها مطلوبٌ، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإغلاق مما يوجب خروج من في البيت من الشياطين. الثامنة عشرة: فعلى هذا ينبغي أن تكون التسمية قبلَ تَمامِ الإغلاق. التاسعة عشرة: الظاهر من الأبواب هو السابق إلى الفهم من أبواب البيوت، وهو الذي يجب حملُ اللفظ عليه قطعاً، وعلى ذهني أن بعضَهم حمله على المجاز في بعض تصرُّفات كلامه، وربما يأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وأظنُّه استعمله في الأمر بكظم المثاوبة ما استطاع لمنع دخول الشيطان؛ أنه لا يفتح باباً مغلقاً. العشرون: فيه الأمر بالتسمية عند إغلاق الأبواب، والله أعلم. الحادية والعشرون: فيه الأمر بإيكاء السِّقاء، وذكرُ اسمِ الله عليه.

الثانية والعشرون

الثانية والعشرون: نقول في إيكاء السقاء، كما قلنا في غلق الأبواب، وأنه تتعلق به مصالحُ دنيوية ظاهرة؛ كمنع الهَوَامِّ وذوات السُّموم من الدخول في السِّقاء والشرب منه، وتتعلق به مصالح دينية؛ وهو منع مخا [لـ]ـطة الشياطين لما فيها. وقد ورد التعليل بأن الشيطان لا يَحُلُّ سقاء في "الصحيح" من رواية أبي الزُّبير، عن جابر: "غَطُّوا الإناءَ، وأوكُوا السِّقاء، وأغلقُوا البابَ، وأطفِئُوا المصباحَ، فإنَّ الشيطانَ [لا] يَحُلُّ سِقاءً، ولا يفتحُ باباً، ولا يكشفُ إناء" (¬1)، وإذا كان التعليل بذلك، فالكلام فيه كما قدَّمنا في التعليل بكونه لا يفتح باباً، وأنه يحتمل أن يكون الأمر بإيكاء السقاء لمصلحة منعِ الشياطين بخصوصها عملاً بظاهر التعليل، ويحتمل أن يكونَ لجميع المصالح، ونبَّه بالتعليل على ما لا يعرفهُ الإنسانُ إلا بأخبار النُّبوة. الثالثة والعشرون: فليُجعَلْ أصلاً لما في معناه؛ أعني: إيكاء القرب؛ كصِمامة (¬2) مخرج الإناء من الإبريق، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2012/ 96)، وابن ماجه برقم (3410) من طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، به. (¬2) صِمامُ القارُورَةِ، وصِمامَتُها وصِمَّتُها: بالكَسْرِ فِي الجميعِ: سِدادُها، وصَمَّها: سَدَّها. وانظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1019)، (مادة: صمم).

الرابعة والعشرون

الرابعة والعشرون: فيه الأمر بتخمير الإناء، وهو تغطيته، وقد ذكرنا أن اللفظةَ تدل على معنى الستر، وقد ورد مصرَّحاً بلفظ التغطية في رواية أبي الزبير: "غَطُّوا الإناء"، وكذلك في حديث القعقاع بن حكيم، عن (¬1) جابو: "غطوا الإناء" (¬2). الخامسة والعشرون: يظهر أن المرادَ من تخمير الإناء أن فيه شيئاً، ويشهد له روايةُ همَّام وعطاء، عن جابر في حديث ذكره: "خمِّروا الطعامَ والشرابَ"، قال همَّام: وأحسَبُه: "ولو بعود"، أخرجه البخاري (¬3). ويليق بالظاهرية أن يخصُّوه بذلك، إذ ليس في لفظ هذا الحديث لتخصيصٌ بإناءٍ فيه شيء، وليس هذا - ولا بدَّ - من مُشَنَّعات الظاهرية، فإنه سيأتي التعليلُ بنزول وَباءٍ في ليلة في السنة، وأنه لا يمر بإناءٍ ليس عليه غطاءٌ، أو سقاءٍ ليس عليه وكاءٌ، إلا نزل فيه من ذلك الوَباء، فإذا كان هذا هو العلة فلا يختص ذلك بإناء فيه شيء، فقد يكون نزولُ الوباء في الإناء الفارغ مُضِرًّا عند استعمال شيء، فيكون بعد ذلك فيه. ومما يقوّي هذا أن في رواية مالك - رحمه الله - عن أبي الزبير، عن جابر: "أكفؤا الإناء" (¬4)، وهذا إنما هو في إناء فارغ؛ لأن إكفاءه ¬

_ (¬1) "ت": "وعن". (¬2) رواه مسلم (2014/ 99)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء. (¬3) تقدم تخريجه عنده برقم (5301) و (5938). (¬4) تقدم تخريجها عند مسلم وأبى داود والترمذي، وقد رواه الإمام مالك =

السادسة والعشرون

قلبُه، ولو كان فيه شيء لتلِف عند قلبه، فيقتضي ذلك أن إكفاء الإناء أيضاً مطلوب كتغطية الإناء المشغول. ولولا أن الحديث واحد، والاختلاف في اللفظ على راوٍ وهو أبو (¬1) الزبير، وقال مالك: "أكفؤا الإناء"، وقال الليث: "غطوا الإناء"، لقوي ما قدمناه من عموم الحكم للإناء الفارغ والمشغول؛ أعني: التغطيةَ وما يقومُ مقامَها من الإكفاء، ويُنَزَّل ذلك على اختلاف حالين: ففي الإناء المشغول التغطيةُ، وفي الإناء الفارغ الإكفاءُ. السادسة والعشرون: تغطية الإناء المشغول بشيء مطلق في هذه الرواية من غير تعليل، ويمكن تعليله عند هذا الإطلاق بأمرين: أحدهما: صيانته من وقوع المُفسِدات لطهوريته، أو لطهارته. والثاني: صيانته عن المُضِرَّات البدنية. والتعليل الوارد في حديث الليث يُشْعِر بالثاني، فإنه عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهَاد اللَّيثي، عن يحيى بن سعيد، عن جعفر بن عبد الله بن الحكم، عن القعقاع بن الحكيم، عن جابر بن عبد الله قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "غطُّوا الإناءَ، [وأوكوا السِّقاء]، فإنَّ في السنةِ ليلةً ينزلُ فيها وباءٌ، ولا يمرُّ بإناءٍ ليس عليه غطاءٌ، أو ¬

_ = في "الموطأ" (2/ 928). (¬1) "ت": "ابن"، والصواب ما أثبت.

السابعة والعشرون

سقاءٍ ليس عليه وكاءٌ، إلَّا نَزلَ فيه من ذلك الوباءِ"، أخرجه مسلم (¬1). وفي رواية: "فإن في السنةِ يوماً ينزلُ فيه وباءٌ"، وفيه قال الليث: فالأعاجم (¬2) عندنا يتقون ذلك في كانون الأول (¬3). وهذا يقتضي التعليلَ بما ذُكر في الحديث على ما تقرر في مثله فيما تقدم. السابعة والعشرون: فيه الأمرُ بتسمية الله تعالى عند تغطية الإناء. الثامنة والعشرون: ليس في هذه الرواية تعليلُ وِكاء السقاء، وقد ذكر ذلك في التي سقناها في حديث القعقاع عن جابر، وفي رواية أبي الزبير، عن جابر أيضاً: "وأوْكِئُوا السقاءَ". وفيه: أن الشيطان لا يحل سقاءً، فيأتي من مجموع الحديث علتان. التاسعة والعشرون: قوله - عليه السلام - في هذه الرواية: "ولو أنْ تَعْرِضُوا عليه شيئاً" في لفظ الشيء عموم، وقد ورد ما هو أخص منه، وهو العُود؛ كما يأتي ذكرُه في حديث الليث، عن أبي الزبير، وروايته هذه أبلغُ من الرواية التي ذكرتُها في طلب التغطية؛ لأن الشيء يحتملُ ما هو أبلغُ في التغطية من العود. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريباً برقم (2014/ 99). (¬2) "ت": "ولا حاجة" بدل "فالأعاجم"، والتصويب من "صحيح مسلم". (¬3) رواه مسلم (2014)، (3/ 1596)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء.

الثلاثون

الثلاثون: قوله - عليه السلام -: "ولو أن تَعْرِضوا عليه شيئاً" يحتمل وجهين: أحدهما: أن لا يكونَ على حقيقةِ الطلب بتعريض العود، فيحتمل أن يكون ذلك مخصوصاً بحالة عدم غيره، ويحتمل أن يكون مخصوصاً بحالة العجز؛ للمبالغة في طلب التغطية. واللفظ يحتمل الأمرين، ولعل فيه إشارة إلى حالة العدم، وقد ورد التصريحُ بذلك في رواية الليث، عن أبي الزبير، وهو: "فإن لم يجدْ أحدُكم إلا أن يَعْرِضَ على إنائِهِ عوداً، أو يذكر اسمَ اللهِ فليفعلْ" (¬1). الحادية والثلاثون: فإن حملناه على الطلب حقيقة التغطيةَ بالعود، فقد ذكرنا أن في تغطيته صيانةً مما يفسده، ويخرجه عن الطهورية، أو الطهارة، والثاني: صيانته مما ينزل فيه من الوَباءِ المُضِرِّ، فعلى الأمر الأول أن يكون ذلك من باب تقليل الفاسد على حسب الإمكان؛ لأن الواقعَ يختلف بالكِبَر والصِّغَر، وقد يكون من الصغر بحيث يمنعه الشيء المعروض، فكل معروض يَمنع بحسب ما تقتضيه صورتُه ومقدارُه. وعلى الأمر الثاني يحتمل أن يكون كذلك، ويكون العود المعروض مما يمنع نزولَ ذلك الوباء على تقديرِ مضادٍ فيه، له دافع ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجها في أول الحديث.

الثانية والثلاثون

للمفسدة على تقدير ممكن، فليُفعَل. ويحتمل أن يكون العُود المعروضُ مانعاً من وقوع ذلك الوَباء في الإناء مطلقاً؛ لأن هذه الأمور والأسرار الغيبية لا تَنْقَاس بالإمكان والأوهام، ولا يُطَّلع على مقتضياتها وموانعها بصور الفكر والعقل، والله أعلم. الثانية والثلاثون: يجعل أصلاً في الاحتراز والاحتياط للأمور الدينية والمصالح البدنية على حسب العلتين، فإن كان لأجل صيانة الماء عن مُفْسِداته الشرعية، فهو احتياط للأمور الدينية، وإن كان الاحتراز عن الوباء؛ كما دلَّ عليه الحديثُ الآخر، فهو احتياط للأمور البدنية وصيانتها من المُضِرَّات. الثالثة والثلاثون: لأهل الطب أقوالٌ في حفظ الصحة، والاحتراز من الأمراض وأسبابها، فيمكن أن يجعل هذا أصلاً في ذلك، إلا أن يقومَ مانعٌ خاصٌّ بعض ما يقولونه، كما سيأتي في ذم الإفراط في هذه الأمور، فلا يتم ما ذكروه فيه، والله أعلم. الرابعة والثلاثون: كل واحد من الاحترازين؛ أعني: الديني والدنيوي، المحمودُ منه مقدارٌ معلوم، متى جاوزه الإنسانُ خرج في حيِّز الذم، فالاحتراز في الطهارات يُحْمَد منه الورعُ، والإفراط في ذلك يخرج إلى حد الوسوسة والغلوِّ في الدين، وكذلك الاحتراز عن المؤذِيات الدنيوية يُخرِجُ إفراطُه إلى ضعف التَّوكُّل وشدةِ الإغراق

الخامسة والثلاثون

في التعلُّق بالأسبابِ، وهو مذموم، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]. والفرق بين الموضعين دقيق عسِرُ العلم، وله طريق ونظر طويل يتعلق بباب التوكل، والذي يحتاج إليه هاهنا أن يُعلم أن هذا المقدارَ من الاحتراز؛ أعني: على الطهارة بتغطية الإناء وصَوْنه عن النجاسات والمفسدات، ليس من باب الوسواس والتنطُّع، إن كان ما ذكر من هذا المعنى داخلاً في هذا التعليل. وكذلك يؤخذ منه إن كان هذا الاحترازُ وقدره من المؤذي وأسبابه لا يُذمُّ. الخامسة والثلاثون: في مقدمة لغيرها؛ قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتُمْ بهِ بأرضٍ فلا تَقْدَموا عليهِ، وإذا وقعَ بأرضٍ وأنتمْ بها فلا تخرجُوا فِراراً منه" (¬1)، فقيل فيه: إن الوباء مرض عام، فإذا وقع بأرض والإنسان فيها فالظاهرُ مداخلةُ سببهِ له، فلا يفيد الفرار منه بعد دخول سببه في جسده، وإذا لم يكن بأرض فالظاهر سلامتُه، فإقدامه عليه تعرُّضٌ للضَّرر. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3286)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (2218)، كتاب: السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

السادسة والثلاثون

والذي يترجَّح فيه عندي - والله أعلم -: أن الإقدام عليه يعرِّض النفسَ للبلاء، وما لعلها لا تصبِر عليه، وربما كان فيه ضربٌ من الدَّعوى لمقام الصبر والتوكُّل، فلا ينبغي ذلك؛ لاحتمال اغترار النفس، ودعواها ما لا يثبت عند الحقيقة، فإذا كان بأرض ووقع بها، فالفِرار منها قد يكون داخلاً في باب التوغُّل في الأسباب، وتصوراً بصورة الفارِّ مما لعله يُقضى عليه به، فالتكلُّف في الأول في القدوم، والتكلف في الثاني في الفرار، فأمرَ بترك التكلف فيهما، وقد لمحَ الصحابيُّ ما ذكرناه بقوله: أفراراً من قدر الله؟! غير أنه استعمله في القدوم عليه، وهو الذي يشير إليه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتمنَّوا لقاءَ العدوِ، وإذا لقِيتُمُوهُمْ فاصبرُوا" (¬1)، فالنهي عن التمني؛ لما فيه من التعرض للبلاء، وخوف الاغترارِ من النفس وخَورِها عند الحقيقة (¬2). السادسة والثلاثون: فإذا تقرَّر هذا، فأمرُه - عليه السلام - بتغطية الإناء لدفعِ متوقَّعٍ لسبب البلاء، منعٌ لوقوع المسبَّب المُؤذي بالإنسان، وهو نظيرُ المنعِ مَنْ قدومُه على أرضٍ وقع فيها الوباء؛ لما يشتركان ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2863)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا تمنوا لقاء العدو، ومسلم (1741)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) نقل هذا الترجيح عن المؤلف: الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 190).

السابعة والثلاثون

فيه من عدم التعرض لسبب الأذى البدني، والتسبب هاهنا [لا] يدفعه، بل هاهنا أولى؛ لأن ذلك قد يَرْجِع إلى التَّرك، وهذا راجعٌ إلى الفعل. السابعة والثلاثون: قد يؤخذ منه الاِحتراز بالحِمْية عما يؤذي البدن، وأنه غيرُ مذموم، ولا داخلٌ في باب التوغُّل في الأسباب، وبل أولى؛ لما ذكرناه، وهذا فرد من أفراد ما ذكرناه في المسألة الثانية والثلاثين، وإنما أفردناه لِخصوصيته بدفع الضرر عن البدن من جهة الأمراض والأَعْلال. الثامنة والثلاثون: الأمر بإطفاء المصابيح في هذه الرواية مطلقٌ، وهو محمولٌ على إطفائها عند إرادة النوم، وقد جاء ذلك مبيَّناً مصرَّحاً به في روايةٍ عن عطاء، عن جابر في حديث ذكره: "أطفِئُوا المصابيحَ بالليلِ إذا رقدْتُم"، أخرجه البخاري (¬1). التاسعة والثلاثون: قد ورد تعليلُ إطفاء السراج، فأخرج البخاري من حديث كثير، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمِّرُوا الآنيةَ، وأطفئوا المصابيحَ، فإنَّ الفُوَيسِقةَ ربما جَرَّتِ الفتيلةَ فأحرقَتْ أهلَ البيتِ" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عنده برقم (5301) و (5938). (¬2) تقدم تخريجه عنده برقم (5937).

الأربعون

الأربعون: روى أبو بردة، عن أبي موسى قال: احترق بيتٌ على أهله بالمدينة، فلما حُدِّثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشأنهم قال: "إنَّ هذهِ النارَ إنما هي عدوٌّ لكم، فاذا نمتُمْ فأطفئوها عنكم" (¬1)، وهذا داخلٌ في أسباب الحديث، فذكر منه شيئاً يسيراً، وهو فنٌّ غريب يضاف إلى الكتاب العزيز، ولو تُتبِّعَ لحصل فوائد (¬2). الحادية والأربعون: إذا كانت العلةُ في إطفاء السِّراج الحذَرَ من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5936)، كتاب: الاستئذان، باب: لا تترك النار في البيت عند النوم، ومسلم (2016)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء. (¬2) قال المؤلف رحمه الله في كتابه: "شرح عمدة الأحكام" (1/ 11) عند شرحه لحديث: "إنما الأعمال بالنيات": شرع بعض المتأخرين من أهل الحديث في تصنيف أسباب الحديث، كما صنف في أسباب النزول للكتاب العزيز، فوقفت من ذلك على شيء يسير له، وهذا الحديث على ما ذكرناه من الحكاية عن مهاجر أم قيس، يدخل في هذا القبيل، وتنضم إليه نظائر كثيرة لمن قصد تتبعه، انتهى. قال الحافظ في "شرح النخبة" (ص: 144 - 145): وكأنه - أي ابن دقيق - ما رأى تصنيف العكبري أبي حفص، وهو من شيوخ القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي. قال السيوطي في مقدمة كتابه "أسباب ورود الحديث" (ص: 28): وأما أسباب الحديث، فألف فيه بعض المتقدمين ولم نقف عليه، وإنما ذكروه في ترجمته. وقد أحببت أن أجمع فيه كتاباً، فتتبعت جوامع الحديث، والتقطت منها نبذاً، وجمعتها في هذا الكتاب.

الثانية والأربعون

الفويسقة وجرِّها الفتيلة، فمقتضاه أنه إذا كان السِّراجُ على هيئةٍ لا تَصِل إليها الفويسقة أن لا يُمنَعَ إبقاؤه، أمّا إذا كان على مَنَارة من نحاس أملس لا يمكن الفويسقةَ الصعودُ إليه، وأُبعِد عن المواضع التي يتأتَّى لها الوصولُ منها إلى أعلى المنارة التي يوضع فيها السراج، وإنما كان هذا مقتضاه أَنْ يزولَ الحكمُ بزوال علته. الثانية والأربعون: هذا وإن كان مقتضى التعليل باطفاء المصابيح، إلا أنه قد ورد الأمر بإطفاء النار عند النوم مطلقاً، ففي حديث سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتركُوا النارَ في بيوتكُمْ حينَ تنامُون" (¬1)، وفي حديث أبي بردة، عن (¬2) أبي موسى: "إن هذه النارَ هي عدوٌ لكم، فإذا نمتم فأطفئُوها عنكم" (¬3)، والحديثان خُرِّجا في "الصحيحين". وإذا أُمِرَ بإطفاء النار مطلقاً، فهو أعمُّ من نار السراج، فالأمر المعلق بإطفاء المصابيح لأجل العلة المذكورة، وهي جَرُّ الفتيلة، إذا أُمِنَت المفسدة لما ذكرناه، وانتفت تلك العلة، يبقى بعده الأمرُ بإطفاء النار متناولاً للمصباح المتوقد المأمون معه جرهُ الفتيلةَ، وقد تتطرق بذلك مفسدةٌ أخرى غيرُ جرِّ الفتيلة؛ كسقوط شيء من السراج على ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5935)، كتاب: الاستئذان، باب: لا تترك النار في البيت عند النوم، ومسلم (2015)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء. (¬2) "ت": "عند"، والصواب ما أثبت. (¬3) تقدم تخريجه قريباً.

الثالثة والأربعون

بعض متاع البيت، فإذا أمن ذلك أيضاً وانحسرت موادُ الفساد، فلا يبعُد العمل بمقتضى زوال العلة، وهو زوال المنع. الثالثة والأربعون: إذا استُوثق من النار بحيث يؤمن معها الإحراقُ، فمقتضى زوال العلة جواز إبقائها؛ كما ذكرناه في السراج، وقد سمعت من يقول ذلك، أو معناه؛ أعني: الجواز عند الاستيثاق والأمن من المفاسد. الرابعة والأربعون: لعلك تقول: قد ذكرْتَ في إطفاء المصابيح أنه محمولٌ على إرادة النوم، واستشهدت بالرواية الأخرى، وهو قوله - عليه السلام -: "أطفئوا المصابيحَ بالليلِ إذا رقَدتُم، وقصَرْتَ الأمرَ على هذا الحال، فهلَّا قيل بالعموم فيما عدا حالة الرُّقاد حتى يتناوله الأمر، إذ لا منافاةَ بين إطفائها عند النوم، وإطفائها في غير هذه الحالة؟ قلت: لا يمكن هاهنا، وبيانه من وجوه: أحدها: أن الرواية التي ذكرناها هي رواية همام، عن عطاء، عن جابر، والرواية التي ذكرت في الأصل مطلقةً هي رواية ابن جريج، أو غيرِه، عن عطاء، عن جابر، فهما حديث واحد اختلفت الرواةُ فيهِ، عن عطاء، ذكر بعضُهم فيها قيداً، وأهمَله الآخرُ، والأخذ بزيادة العدل واجبٌ. ونحن نقول: إنه إذا ظهر أن الحديثَ واحدٌ باتحاد مَخْرَجِه،

الخامسة والأربعون

وذكرَ بعضُهم فيه قيداً وأهمله الآخر، حملنا ذلك على زيادة العدل بالذي ذكر القيد في ذلك الحديث على الآخر الذي لم يذكر، فكأنه منطوق به في الرواية التي لم يذكر فيها، بخلاف ما إذا تعدد الحديثان باختلاف الرواية والمخارج. الوجه الثاني: إن العمل بالعموم أو الإطلاق هاهنا متعذِّرٌ قطعاً، بخلاف ما ذكرتُ من المثال، وما هو في معناه؛ لأنا لو عملنا بالعموم أو الإطلاق لزم الإطفاء لكل مصباح أُوقِد في كل وقت، [و] يطلب من كل من أوقد مصباحاً أن يطفئه عقِب رقودهِ؛ لأنه مصباحٌ مُوقد حينئذ، وذلك باطل بالضرورة. الوجه الثالث: النظر إلى المعنى المناسِب الذي دل عليه الحديث الآخر بلفظة، وهو الخوفُ من الإحراق بَجرِّ الفويسقةِ الفتيلةَ، مع عدم الفائدة في إطفاء كلِّ مصباح لا يتعلَّقُ بإيقاده مفسدة، وذلك يقتضي التخصيصَ بحالة الغفلة عن اعتبار حال المصباح، وهي حالة النوم، واتباعُ المعاني الظاهرةِ متعيِّنٌ. الخامسة والأربعون: نشأ من هذا ذِكرُ قاعدة ينبغي أن يُوجَّه النَّظرُ إليها، وهي أنَّ اللفظ العام إذا عُلِّل الحكم فيه بعلة خاصة، هل مقتضى ذلك تخصيصه بِمحلِّ العلة عملاً بها، أو يقال بعمومه عملاً بمقتضى اللفظ (¬1)؟ ¬

_ (¬1) تقدم ذكر هذه القاعدة عند المؤلف رحمه الله في أكثر من موضع.

السادسة والأربعون

بيانه فيما نحن فيه: أَمْره - عليه السلام - بإطفاء المصابيح، أو المصباح، والتعليلُ بجر الفويسقة الفتيلة يقتضي التخصيص بما يمكن فيه ذلك، وأنه المراد بالعام، أو يقال: هو [على] عمومه، حتى إذا أُمن جرُّ الفتيلة تناوله الأمرُ بعمومه. فإن قيل بالأول، جاء ما تقدَّم من زوال الحكم عند زوال العلة، وإن قيل بالثاني بقي الأمرُ متناولاً لحالة الأمن، إلا بدليلٍ من خارج يقتضي إخراجَ تلك الحالة. وهذا غيرُ الذي تقدم من الأمر بإطفاء النار وما تكلمنا فيه. السادسة والأربعون: قد حملنا قوله - عليه السلام - في هذا الحديث: "أطفئوا المصابيحَ" على حالة النوم بالحديث الآخر، وهو قوله: "إذا رقدتُم"، ويجب أن يُحمَل قولُه: "إذا رقدتم" على إرادة الرقود لا على نفس الرقود، وإطلاق الفعل على إرادة الفعل مجازٌ مشهور في كلام العرب، وقد حَمَلَ الأكثرون عليه قولَه تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. وخالف الظاهريُّ فيه، وحمله على نفس الفعل، وأن الاستعاذة بعد القراءة (¬1)، وهذا مستحيل في هذا اللفظ الذي نحن فيه، والله أعلم. السابعة والأربعون: هذه الأوامر التي أوردت في هذا الحديث لم يحملها الأكثرون على الوجوب، وينبغي على مذهب الظاهرية ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 250).

الثامنة والأربعون

حملُها على ذلك؛ لأن ظاهرَ الأمرِ الوجوبُ، ويجب العمل بالظاهر إلا لمُعَارِض من خارج، فإن أبدى معارضاً يمنع من الظاهر، وإلا فلا عُذرَ له. وهذا الحكم - أعني: وجوب الحمل على الظاهر إلا لمعارض - ظاهر لا يختص بالظاهري، فإن القياسَ أيضاً يوافق في ذلك، إلا أن الظاهري أولى بالإلزام؛ لأنه لا يتتبَعُّ المعاني ولا يلتفت إلى المفهومات والمناسبات عند دلالة اللفظ، بخلاف القياس. واتباع المعاني قد يقيم القياس مأخذاً في الخروج عن الظاهر إن صحَّ له ذلك، فعلى كل حالِ له طريق مسدود عن الظاهر. الثامنة والأربعون: قد ذكر الأصوليون لصيغة الأمر محاملَ متعدِّدةً، وفي هذا الحديث صيغٌ متعددةٌ لأمرٍ، فإذا لم يُقَلْ بالوجوب فيها تعيَّنَ النظرُ في ماذا يُحمَلُ عليه؟ فمنها ما يحمل على الندب، ومنها ما يحمل على الإرشاد، ومنها ما يحمل على الإباحة. التاسعة والأربعون، والخمسون، والحادية والخمسون: وفيما تحمل فيه الصيغة على الندب - إذا لم يُقَل بالوجوب - الأمرُ بالتسمية في هذه الأحوال؛ أعني: عند إغلاق الأبواب، وإيكاء القِرَب، وتخميرِ الآنية؛ لما في اسم الله تعالى من رجاء البركة، ولما عُرِفَ من الندب إلى ذكر اسم الله تعالى عند الشروع في الأمور.

الثانية والخمسون

الثانية والخمسون: وأما الأمر بكفِّ الصبيان عند المساء، فينبغي أن يكون من باب الإرشاد؛ لأنه يتعلق بالمصالح الدنيوية. الثالثة والخمسون: وأما الأمر بتخليتهم بعد ساعة من الليل، فمحمول على الإباحة. الرابعة والخمسون: وأما الأمر بإغلاق الأبواب، فمقتضى التعليل بأنَّ الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، أن يدخل في باب الندب؛ لأن الاحتراز من مخالطةِ الشياطينِ وملابسةِ أماكِنِهم مندوبٌ. الخامسة والخمسون: وكذلك القول في إيكاء القِرَب سواء؛ لأن التعليل بأن الشياطين لا تَحُلُّ سِقاء، يقتضي أن يكون من باب الندب، والاحتراز من دخول الهوامِّ المؤذية، يقتضي أن يكونَ من باب الإرشاد. السادسة والخمسون: والأمر بتخمير الآنية كذلك؛ لأنه إن كان لأجل الاحتراز عن الوباء النازل كما في الحديث، كان إرشاداً، وإن كان لأجل صيانة الماء عما يخرجه عن الطهارة والطهورية كان ندباً، وأما بالنسبة إلى الطعام فيكون إرشاداً. السابعة والخمسون: قد أشرنا إلى وجه الحاجة إلى الترجيح بين الدليل الدال على نجاسة إناءِ المشرك في حديث أبي ثعلبة (¬1)، والدليل الدال على اعتبار مقدار القلتين (¬2)، ويمكن أن يرجَّح حديث ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريج حديث القلتين وكلام الأئمة فيه.

الثامنة والخمسون

أبي ثعلبة بأنه أصح؛ لأنه في "الصحيحين"، وليس فيه الاضطراب الذي في حديث القلتين، وبأن دلالة حديث القلتين على نجاسة الماء القليل دلالةُ مفهوم، وبأنه يتوقف الاستدلالُ به على مقدمة أخرى. الثامنة والخمسون: وذكرنا أيضاً الترجيحَ بين الدليل الدال لمقدار معين على نجاسة إناء المشرك، والدليلِ الدال على أن الماء القليل ينجس باتصال النجاسة به، ومن ذلك الدليل حديثُ القلتين، وقد ذكرنا ما يمكن فيه من الترجيح، ومنه حديث المستيقظ من النوم (¬1)، وهو حديث صحيح مشهور، لا يتأتَّى فيه الترجيح بزيادة الصحة، ولكن الترجيح فيه من جهة الدلالة، فجهة دلالة حديث أبي ثعلبة: هي الأمر بالغسل قبل الاستعمال، وهو دليل على النجاسة ظاهراً، وجهة الدليل من حديث المستيقظ: هي أنه لو لم يتأثر الماء بالنجاسة لمَا أُمِر بالغسل عند التوهم والاحتمال، وعليه سؤال سيأتي، فيكون محلَّ النظرِ ترجيحُ إحدى الدلالتين على الأخرى. التاسعة والخمسون: وأما الترجيح بين الدليل الدال على قلة ماء المَزَادة ونقصانِه عن حدِّ الكثرة بعد تسليم التحديد بالقلتين، أو احتمالِ كثرته، فذلك راجعٌ إلى أمر وجوديٍّ ينبني عليه الظنُّ بالنقصان أو عدمِه، والله أعلم بالصواب. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ الأَلْمَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى مِن إِصْدَارَاتِ وَزَارَة الشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالأَوْقَافِ وَالدَّعْوَةَ وَالإِرْشَادِ المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ 1429 هـ - 2008 م الطَّبْعَةُ الثَّانِيَة مِنْ إِصْدَارَاتِ دَارُ النَّوَادِرِ 1430 هـ - 2009 م دَارُ النَّوَادِرِ لصاحبها ومديرها العام نُورِ الدِّين طَالِب سوريا - دمَشق - ص. ب: 24306 لبنان - بيروت - ص. ب: 5180/ 14 هاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

باب السواك

بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ سهِّلْ ويسِّرْ بَابُ السّواك الحديث الأول منه عن عائشةَ - رضي الله عنها -، عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "السِّواكُ مَطْهَرَةٌ للفَمِ، مَرْضَاةٌ للرَّبِّ" [أخرجه النسائي، وابن حبان في "صحيحه"، وأخرجه ابن خزيمة بطريق أخرى في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك"] (¬1). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من كلا النسختين "م" و "ت". وقد أثبته من النسخة الخطية من كتاب "الإلمام" بخط الإمام ابن عبد الهادي (ق 4 / ب)، وكذا مطبوعة "الإلمام" (1/ 58). * تخريج الحديث: رواه النسائي (5)، كتاب: الطهارة، باب: الترغيب في السواك، - وابن حبان في "صحيحه" (1067)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (6/ 124) من طريق يزيد بن زريع، عن عبد الرحمن بن أبي عتيق، عن أبيه، عن عائشة، به. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (135)، من طريق ابن جريج، عن عثمان ابن أبي سليمان، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، به. وقد جوَّد المؤلف رحمه الله إسناده في "الإمام" (1/ 333). =

[الوجه] الأول: في التعريف

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف: فنقول: قال ابن الأثير - رحمه الله - في "معرفة الصحابة": عائشة ابنت أبي بكر، الصديقة بنت الصديق، أم المؤمنين، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ = أما رواية الحاكم، فقال المؤلف في "الإمام" (1/ 333) بعد سياقه إسناد ابن خزيمة، فالحديث جيد، ولهذا أخرجه الحاكم أبو عبد الله الحافظ في "المستدرك" فيما بلغني، انتهى. قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 60): وجزم الشيخ تقي الدين في "الإمام" أن الحاكم أورده في "المستدرك". قلت: وهذا من الحافظ رحمه الله إشارة على أنه لم يجده في "المستدرك"، ووجدته كذلك؛ فإنه لم يذكره الحاكم في "المستدرك" فيما هو المطبوع المتداول. قلت: فإما أن يكون عزو الشيخ رحمه الله الحديث على الحاكم اعتماداً منه على نسخة خطية عنده، وإلا فلينظر في قوله السابق: "فيما بلغني" دون جزم، لا كما قال الحافظ. ثم قال المؤلف في "الإمام" (1/ 333): وكلام البخاري (2/ 682) أيضاً يشعر بصحته عنده، فإنه قال: وقالت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "السواك مطهرة للفهم، مرضاة للرب"، فأورده بصيغة الجزم بأن عائشة رضي الله عنها قالته. وللحديث طرق أخرى أوردها المؤلف رحمه الله في "الإمام" (1/ 331) وما بعدها من حديث عائشة رضي الله عنها وغيرها من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

وأشهر نسائه، وأمُّها أم رُومان بنت عامر بن عُويمر بن عبد شمس بن أُذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كِنانة الكنانية. تزوَّجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة بسنتين، وهي بِكْر؛ قاله أبو عبيدة، وقيل: بثلاث سنين. وقال الزُّهري: تزوَّجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة بثلاث سنين، وتوفيت خديجة قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: بأربع سنين، وقيل: بخمس سنين. وكان عمرها لما تزوجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ست سنين، وقيل: سبع سنين، وبنى بها وهي بنمسا تسع سنين بالمدينة. وكان جبريل - عليه السلام - قد عَرَضها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَرَقَةِ حرير في المنام لما توفيت خديجة (¬1)، فكنَّاها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأم ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 349)، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 155)، من طريق موسى بن عبد الرحمن الصنعاني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لما توفيت خديجة بنت خويلد بمكة، جاءه جبريل - عليه السلام بصورة عائشة في سرقة حرير أخضر فقال: يا محمد هذه عائشة، زوجتك في الدنيا وزوجتك في الآخرة عوضاً عن خديجة بنت خويلد". وهذا حديث باطل كما قال ابن عدي، فيه موسى بن عبد الرحمن منكر الحديث. وقد روى البخاري (3682)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة، ومسلم (2438) كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله عنها، من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: =

عبد الله؛ بابن أختها عبد الله بن الزبير (¬1). ثم قال: وكان مسروق إذا روى عنها يقول: حدثتني الصادقة ابنة الصديق البريئة المبرأة (¬2). وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض (¬3). وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة - رضي الله عنها - من أفقه [الناس] (¬4)، وأحسن الناس رأيًا في العامة (¬5). وقال عروة: ما رأيت أحدًا أعلمَ بفقه، ولا بطب، ولا بشِعر، من عائشة (¬6). ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قضيةُ الإفك لكفى (¬7) فضلًا وعلوَّ مَجدٍ، فإنها نزل فيها من القرآن ما يُتْلى إلى يوم القيامة. ¬

_ = "أريتُك في المنام مرتين، أرى أنكِ في سرقة من حرير، ويقال: هذه امرأتك، فاكشف عنها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكُ هذا من عند الله يُمضه". وقوله: سرقة، يعني: قطعة حرير جيد. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 186)، والبخاري في "الأدب المفرد" (851)، والحاكم في "المستدرك" (7738)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 311)، وغيرهم بإسناد صحيح. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 181). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (31037)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 375)، والحاكم في "المستدرك" (6736)، وغيرهم. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه الحاكم في "المستدرك" (6748). (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (26044). (¬7) في الأصل: "كفى"، والمثبت من "ت".

الوجه الثاني: في تصحيحه

قال: وتوفيت عائشة - رضي الله عنها - سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، ليلةَ الثلاثاء لسبع (¬1) عشرة ليلة خلت من رمضان، وأَمرت أن تُدفَنَ بالبقيع ليلًا، فدفنت، وصلى عليها أبو هريرة، ونزل في قبرها خمسة: عبد الله وعروة ابنا الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، [وعبد الله بن محمد بن أبي بكر] (¬2)، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر. ولما توفي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان عمرها ثمانيَ (¬3) عشرةَ سنة (¬4). * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: وهو حديثٌ لم يخرجه الشيخان في "الصحيحين" مسندًا، وذكره ¬

_ (¬1) "ت": "لسبعة"، وهو خطأ ظاهر. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "ثمانية"، وهو خطأ. (¬4) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 58)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1881)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 15)، "أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 186)، "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 16)، "تهذيب الكمال" للمزي (35/ 227)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 135)، "الوافي بالوفيات" للصفدي (16/ 341)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجز (8/ 16)، "شذرات الذهب" لابن العماد (1/ 61).

الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

[البخاريُّ] (¬1) بغير إسناد (¬2). * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: السِّواكُ يطلق ويراد به الفعل الذي هو المصدر، ومنه: "السِّواكُ مَطْهَرَةٌ للفَمِ، مَرْضَاةٌ للرَّبِّ"، "عشرٌ منَ الفِطْرَةِ ... " (¬3) فذكر فيها (¬4): "السواك"، ويقول الفقهاء: السواك مستحب، السواك ليس بواجب، وغير ذلك مما لا يمكنُ أن يوصفَ به إلا (¬5) الفعل. ويطلق ويراد به الآلة التي يُستاك بها، ومنه حديث أبي داود عن عائشةَ - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستنُّ (¬6)، وعنده رجلان، أحدُهما أكبرُ من الآخر، فأوحى الله [إليه] (¬7) في فضل السواك أن كَبِّر كَبِّر؛ أعطِ السواكَ أكبرَهما (¬8). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) كما تقدم قريبًا. (¬3) سيأتي تخريجه مفصلًا. (¬4) "ت": "منها". (¬5) في الأصل: "غير إلا"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "يستاك". (¬7) سقط من "ت". (¬8) رواه أبو داود (50)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يستاك بسواك غيره. وهو حديث صحيح.

الثانية

وحديثُهُ أيضًا عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستاكُ، فيعطيني السواكَ [لأغسلَهُ] (¬1)، فأبدأُ به فأستاكُ، ثم أغسلُهُ، وأدفعُهُ إليه (¬2). وحديثها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوضعُ له وضُوءهُ وسواكُهُ، فإذا قام من الليل تخلَّى، ثم استاكَ (¬3). وحديث ابن عباس: بتُّ ليلةً عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما استيقظ من منامه أتى طهورَه، فأَخذَ سواكَه فاستاك (¬4). وقول حذيفة - رضي الله عنه -: كان إذا قام من الليل يشوصُ فاهُ بالسواكِ (¬5)، يحتمل الوجهين؛ يعني: الفعل والآلة، وتختلف القوة والضعف في الحمل عليهما بحسب اختلاف التأويل، فإذا أُوِّل بالدَّلك، حُمِل على الآلة، وإذا حُمِل على الغسل أو التنقية، احتملَ الفعل والآلة. الثانية: قال بعضُ المتأخرين: قال أهل اللغة: السِّواك، بكسر ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه أبو داود (52)، كتاب: الطهارة، باب: غسل السواك، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 39). وهو حديث حسن. (¬3) رواه أبو داود (56)، كتاب: الطهارة، باب: السواك لمن قام من الليل، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 39)، وصححه ابن منده، كما ذكره الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 63). (¬4) رواه مسلم (763)، (1/ 530)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (58)، كتاب: الطهارة، باب: السواك لمن قام من الليل، واللفظ له. (¬5) سيأتي تخريجه مفصلًا.

السين، وهو يطلق على الفعل، وعلى العود [الذي] يُتسوَّكُ به، وهو مذكر، قال الليث: وتؤنِّثُه العرب أيضًا. قال الأزهري: هذا من غُدَد الليث (¬1)؛ أي: من أغاليطه القبيحة. وذكر صاحب "المحكم": أنه يؤنَّث ويذكَّر (¬2). والسِّواكُ فعلُكَ بالسواك (¬3)، ويقال: ساكَ فمَه يسوكه سوكًا، فإن قلتَ: استاك، لم تذكرِ (¬4) الفمَ. وجمع السواك سُوُك، ككِتَاب وكُتُب، وذكر صاحب "المحكم" أنه يجوز أيضًا: سُوُك، بالهمز (¬5). ثم قيل: إن السواك مأخوذ من (ساك) إذا دلك، وقيل: من (جاءتِ الإبلُ تَسَاوك)؛ أي: تتمايل هزالًا. وهو في اصطلاح العلماء: استعمالُ عود أو نحوه في الأسنان ليُذهِبَ الصُّفرةَ وغيرها عنها (¬6)، انتهى (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 173)، (مادة: سوك). (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 125)، (مادة: سوك). (¬3) "ت": "بالمسواك". (¬4) في الأصل: "يذكر". (¬5) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 125). (¬6) في الأصل: "ليذهب الصفر عنها أو غيرها"، وفي "ت": "ليذهب الصفرة عنها"، والمثبت من المطبوع من "شرح مسلم". (¬7) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 142)، وهو المقصود بقول المؤلف: قال بعض المتأخرين.

قلت: تخصيصُهُ في اصطلاح العلماء باستعمال عود أو نحوه ليسَ على كل المذاهب. وقال ابن سِيْدَه في "المحكم": ساك الشيءَ سوكًا: دلكه، وساك فمه، واستاك، مشتقٌّ من ذلك، واسمُ العود السِّواك، يؤنَّث ويذكَّر، والسواك كالمِسْواك، والجمع سُوُك، وأخرجه الشاعر على الأصل فقال [من المتقارب]: تمنحُهُ سُؤُكُ الإسْحِلِ قال أبو حنيفة: ربما هُمِزَ [فقيل] (¬1): سؤك، قال: وأنشد الخليل لعبد الرحمن بن حسان [من المتقارب]: أغرُّ الثَّنايا أحمُّ اللِّثا ... تِ (¬2) تمنحُهُ سُؤُكُ الإسْحِلِ [بالهمز] (¬3)، وهذا لا يلزم همزُهُ. والسواك، والتساوك: السير الضعيف، وقيل: رداءة المشي من إبطاء أو عجف [قال] (¬4) [من الطويل]: إلى اللهِ أشكُو مَا أرَى منْ جِيَادِنا ... تساوَكُ هُزلًا مُخُّهُنَّ قليلُ (¬5) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "اللباب". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) البيت لعبيد الله بن الحر الجعفي، كما نسبه الأزهري في "تهذيب اللغة" (10/ 174)، والجوهري في "الصحاح" (4/ 1593)، وابن منظور في "لسان العرب" (10/ 446)، وغيرهم.

الثالثة

وجاءت الغنم ما تساوَكُ؛ أي: ما تحرِّكُ رؤوسَها من الهُزْل (¬1). الثالثة: مَطْهَرَةٌ: مأخوذٌ من الطهارة بالمعنى اللغوي الذي هو التنزُّه والتنقي من الأدناس. قال الجوهري: والمَطْهَرة والمِطْهَرة: الإداوة، والفتح أعلى، والجمع: المطاهر، ويقال: "السِّواكُ مَطهرَةٌ للفمِ" (¬2). الرابعة: الفَمُ: مفتوح الفاء مخفف الميم، هو اللغة الكُثْرَى الفُصحى، وقد حُكي في الفاء الضم والكسر، وحُكي في الميم التشديد. قال ابن سيده: فأما ما حكى فيها أبو زيد وغيرُه من كسرِ الفاء وضمِّها، فضربٌ من التغيير لَحِقَ (¬3) الكلمة؛ لإعلالها بحذف لامها وإبدال عينها. قلت: سيأتي بيان هذا الحذف والإبدال في الكلام على ما يتعلق بالعربية. [قال] (¬4): وأما قول الآخر [من الرجز]: يا ليتَهَا قدْ خرجَتْ من فُمِّهِ حتَّى يعودَ الملكُ في أُسْطُمِّهِ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 125)، (مادة: سوك). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 727)، (مادة: طهر). (¬3) في الأصل: "نحو"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) عاد الملك في أسطمه: في أصله، وانظر: "أساس البلاغة" للزمخشري مادة: (س ط م).

[و] (¬1) يروى بضم الفاء من (فمه) وفتحها. فالقول في تشديد الميم عندي: أنه ليس بلغة في هذه الكلمة، ألا ترى أنك لا تجد لهذه المشددة الميم تصرفًا؟! إنما التصرفُ كلُّه على (فوه)؛ من ذلك قول الله - عز وجل -: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]، [و] (¬2) قال الشاعر [من الوافر]: فلا لَغوٌ ولا تَأثيمَ فِيها ... وما فاهُوا بهِ أبدًا مُقيمُ (¬3) وقالوا: رجل مُفوَّه: إذا أجاد القول، ومنه الأَفْوَهُ: الواسع الفم. ولم نسمعهم [قالوا] (¬4): أَفْمام، ولا تَفَمَّمتُ، ولا رجل أَفمُّ، ولا شيئًا من هذا النحو لم يذكروه، فدلَّ اجتماعُهم (¬5) على تصرف الكلمة بالفاء والواو والهاء على أن التشديد في (فم) لا أصلَ له في ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) البيت لأمية بن أبي الصلت، كما في "ديوانه" (ص: 475، 477)، (القصيدة: 75)، إلا أن ابن سيده لفق صدر بيت على عجز بيت آخر لأمية، والبيتان في "ديوانه" كذا: ولا لغو ولا تأثيم فيها ... ولا غولٌ ولا فيها مليم وفيها لحمُ ساهرة وبحرٍ ... وما فاهوا به أبدًا مقيم وهما من قصيدة مطلعها: جهنمٌ تلك لاتُبقِ بَغيًّا ... وعدنٌ لا يُطالِعها رجيمُ (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "إجماعهم".

نفس المثال، إنما هو عارِضٌ لَحِقَ الكلمة. فإن قال قائل: فإذا ثبت بما ذكرته أن التشديد في فم [عارض] (¬1) ليس من نفس الكلمة، فمن أين أتى هذا التشديد، وكيف وجه دخوله إياها؟ فالجواب: أن أصل ذلك أنهم ثقَّلوا الميم في الوقف، فقالوا: فمّ؛ كما يقولون: هذا خالدّ، وهو يجعل في أنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف، فقالوا: هذا فمٌّ، ورأيت فمًّا؛ كما أجروا الوصل مجرى الوقف فيما حكاه سيبويه عنهم من قولهم [من الرجز]: ضَخْمٌ يُحبُّ الخُلُقَ الأضْخَمَّا (¬2) وقولهم: ببازلٍ وَجْنَاءَ أو عَيْهَلِّ (¬3) كأنَ مَهواهَا على الكَلْكَلِّ (¬4) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) شطر بيت لرؤبة بن العجاج، كما في "ديوانه" (ص: 183). (¬3) العَيْهَلُ من النوق: السريعة. انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1778)، (مادة: عهل). (¬4) ذكرهما ثعلب في "مجالسه" (2/ 535 - 536) فقال: قال الفراء: أنشدتني الدُّبيرية، ثم أورد أرجوزة، وفيها: فسل هم الوامق المغتل ... ببازل وجناء أو عيهل كأن مهواه على الكلكل ... بعد السرى من الندى المخضل وذكر ابن منظور في "لسان العرب" (11/ 590)، (مادة: كلل) أنه منسوب إلى منظور بن مرثد الأسدي.

يريد: العيهل والكلكل. قال ابن جِنِّي: فهذا حكم تشديد الميم عندي، وهو أقوى من أن تجعلَ الكلمةُ من ذوات التضعيف بمنزلة (همٍّ) و (حمٍّ). [قال] (¬1): فإن قلت: فإذا كان أصل (فم) عندك (فوه)، فما تقول في قول الفرزدق [من الطويل]: هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ من فَمَويهِما ... على النَّابِحِ العَاوي أشَدُّ رِجَامِ (¬2) وإذا كانت الميم بدلًا من الواو التي هي عين الكلمة، فكيف جاز له الجمع بينهما؟! فالجواب: أن أبا عليٍّ حكى لنا، عن أبي بكر وأبي إسحاق: أنهما ذهبا إلى أن الشاعر جمع بين العِوَض والمُعَوَّض منه؛ لأن الكلمة مجهورة منقوصة. وأجاز أبو علي فيها وجهًا آخر؛ وهو: أن تكون الواو في (فمويهما) لامًا في موضع الهاء (¬3) من أفواه، وتكون الكلمة تعقبت عليها (¬4) لامان، هاء أُخرةٌ (¬5) وواو أخرى، فجرى هذا مجرى (سَنَة) و (عِضَة)، ألا ترى أنهما في قول سيبويه: سَنَوات، وأسنُّوا (¬6)، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "ديوانه" (2/ 215)، ووقع في الديوان: "هما تَفَلا". (¬3) "ت": "الفاء". (¬4) "ت": "فيها". (¬5) في المطبوع من "المحكم": "مرة" بدل "أخرة". (¬6) "ت": "أسنو".

الخامسة

ومسانات، وعِضَوات، واوان، وتحذف الواحدة (¬1) في قول من قال: ليست بسنهاءَ، وبعير عاضِهٌ، هاءين. وإذا ثبت بما قدمناه أن عين (فم) في الأصل واو، فينبغي أن يقضى بسكونها؛ لأن السكونَ هو الأصلُ تقوم الدلالة على الحركة الزائدة. فإن قلت: فهلا قضيتَ بحركة العين لجمعك إياه على أفواه، ألا ترى أن أفعالًا إنما هو في الأمر العام جمع فَعَل؛ نحو: بَطَل وأبطال، وقدم وأقدام، ورَسَن وأَرْسَان. والجواب: أن فَعْلًا مما عينه واو، بابُهُ أيضًا أفعال، وذلك سوط وأسواط، وحوض وأحواض، وطوق وأطواق فـ (فوه) - لأن عينَه واوٌ - أشبهُ بهذا منه بـ (قدم) و (رسن) (¬2). الخامسة: قال ابن سيده في "المحكم": الفاه، والفُوه، والفِيه، والفم، سواء، والجمع: أفواه. ثم قال: أما كونه جمعَ فُوه فبيِّنٌ. وأما كونه جمع فاه؛ فلأن الاشتقاق يُؤْذِن أن فاهًا من الواو؛ لقولهم: مفوَّه. وأما كونه جمع فم؛ فلأن أصل فم (فوه)، فحذفت الهاء؛ كما حذفت من (سنة) فيمن قال: عاملته مسانهة، وكما حذفت من سنة، ¬

_ (¬1) في المطبوع من "المحكم": "وتجدهما" بدل "وتحذف الواحدة". (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (4/ 432 - 434)، (مادة: فوه).

ومن شفة، ومن عضة، ومن است، وبقيت الواو طرفًا متحركة، فوجب إبدالها ألفًا لانفتاح ما قبلها، فبقي (فًا)، ولا يكون الاسم على حرفين أحدهما التنوين، فأبدل مكانها حرف حدر مشاكل لها، وهو الميم؛ لأنهما شفهيتان، وفي الميم هوي في الفم يضارع امتداد الواو، وأما ما حكي من قولهم: أَفْمامٌ، فليس بجمع فم، إنما هو من باب ملامح ومحاسن. ويدل على أن (فًا) مفتوح الفاء، وجودك إياها مفتوحة في هذا اللفظ، وأما ما حكى فيها أبو زيد وغيره ... وذكر ما قدمناه (¬1). وذكر بعض الفضلاء في (فم): أن وزنه على مذهب سيبويه (فع)، والأصل فيه فَوْه على وزن سَوْط، فحُذِفت فيه الهاءُ التي هي لامُ الكلمة تخفيفًا؛ كما حُذِفت لامُ الكلمة في يد، ودم، وغدٍ، ونحوها، فبقي (فو) مثل (فع)، فلم يَرَوْا إيقاع الإعراب على الواو؛ لئلا تثقل الكلمة، ولم يَرَوْا حذفها؛ لئلا يبقى الاسم على حرف واحد، فيجحفوا به، فأبدلوا من الواو ميمًا؛ ليقع عليها الإعراب، فإذا تقدر (¬2) هذا، فالميم بدل من الواو التي هي عين الكلمة؛ هذا رأي سيبويه، وإنما أبدلوا من الواو الميم؛ لأنهما (¬3) من حروف الشفة، والحرفان إذا تقاربا جاز الإبدال. ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (4/ 432)، (مادة: فوه). (¬2) "ت": "تقرر". (¬3) "ت": "لأنها".

وأما الأخفش: فوزنه عنده (فُل)؛ لأن الميم عنده بدل من الهاء التي هي لام الكلمة، والأصل فيه أيضًا عنده فَوْه مثل سَوْط، ثم قلب، فقدمت لام الكلمة التي هي الهاء على عينها التي هي الواو، فبقي (فَهْو) على وزن (فَلْع)، ثم حذفت منه الواو التي هي عين الكلمة، فبقي (فَهْ)، ثم أبدلت الميم من الهاء فبقي (فم)، ومما يؤيد مذهب الأخفش أن مذهب من يقول في تثنيته: فموان، وعلى هذا قول الفرزدق [من الطويل]: هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ من فَمَويهِما ... على النَّابِحِ العَاوي أشَدُّ رِجَامِ وأن الشاعر لما اضطر إلى ردِّ الذاهب ردَّ الواو في نحو قوله [من الرجز]: لا تَقْلُوَاها وادْلُوَاها دَلوا إنَّ معَ اليومِ أخَاهُ غَدْوا (¬1) وكما قال سيبويه [من الطويل]: وما النّاسُ إِلَّا كالدِّيارِ وأَهلها ... بها يَوْمَ حَلُّوها وغَدْوًا بَلاقِعُ (¬2) فردَّ الواو في (غدو)، فعلمنا أن الذاهب من (غد) واو (¬3). ¬

_ (¬1) القلو: السير الحثيث، والدلو: السير الرفيق، يقول: ارفق بها ولا تقتلها، فإنك تحتاج إليها غدًا، وقال غدوًا، وأراد: غدًا، فأقام الفعل مقام الاسم. انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (2/ 284). (¬2) البيت للبيد بن ربيعة، كما في "ديوانه" (ص: 169)، (ق 24/ 5). (¬3) انظر: "الكتاب" لسيبويه (3/ 358).

وكذلك الفرزدق لما ردَّ الواو في (فمويهما) علمنا أن الذي ذهب من (فم) (¬1) هو الواو، وأن الذي بقي، وهو الميم، إنما هو عوض من الهاء، ولو كان الذاهب هو الهاء؛ كما رأى سيبويه، لقيل في التثنية: فمهان؛ لأن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها؛ كما تقول في دم (¬2): دموان، ودميان. واعلم أن من قال في بيت الفرزدق: إنه جمعٌ بين العوض والمعوض، فوزن (فمويهما) عنده (فععيهما)؛ لأنه قد اجتمع فيه عينان، إحداهما (¬3) أصلية، وهي الواو، وبدل من الأصلية، وهي الميم؛ هذا رأي سيبويه ومن تابعه. ومن رأى في بيت الفرزدق أنه لم يجمع بين العوض والمعوض، فوزن (فمويهما) عنده (فلعيهما)؛ لأن الميم عنده بدل [من] (¬4) الهاء، والهاء لام الكلمة بالإجماع؛ هذا رأي أبي الحسن الأخفش ومن تابعه. فإذا تقرَّر هذا الذي ذكرناه، فاعلم أن النحويين اختلفوا في وزن الكلمة بعد الإبدال، فمنهم من يُنزلُ البدلَ منزلَ (¬5) المبدل منه، فيصير ¬

_ (¬1) "ت": "فمه". (¬2) في الأصل: "رد"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل وفي "ت": "أحدهما"، وهو خطأ. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "منزلة".

السادسة

البدل أصلًا، ومنهم من لا ينزل البدل منزل (¬1) المبدل منه، بل يزنه بالزائد، والذي ذكرناه في وزن هذه الكلمة، مفردها ومثناها، هو تفريعٌ على الوجه الأول. وأما إذا فرَّعنا على الوجه الثاني، فوزن (فم): (فم)، ووزن (فمويهما) على رأي من يرى أنه يجمع (¬2) بين العوض والمعوض: (فَمَعَيْهما)، ويكون وزنه على رأي من يرى أنه لا يجمع بين العوض والمعوض: (فَمَعَيْهما) أيضًا مثل الأول، فيستوي المذهبان هاهنا في وزنه على لفظه (¬3). وأما لغاتُهُ فذكر الصّقِلِّي في كتاب "تثقيف اللسان": أنه يقال فيه: فَمٌ بفتح الفاء، وضمها، وكسرها، وقد جاء في بعض اللغات مشددًا، أنشد ابن السِّكِّيت (¬4): يا ليتَهَا [قدْ] (¬5) خرجَتْ من فُمِّهِ (¬6) السادسة: لما حملنا السواك على الفعل، والطهارة على النظافة، كانت (مَطهرة) مصدرًا؛ أي: السواك الذي هو الفعل طهارة للفم، ¬

_ (¬1) "ت": "منزلة". (¬2) في الأصل: "لا يجمع"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "الخصائص" لابن جني (3/ 174)، و"المقتضب" للمبرد (2/ 237 - 238). (¬4) في "إصلاح المنطق" (ص: 84). (¬5) سقط من الأصل، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "تثقيف اللسان وتلقيح الجنان" لأبي حفص الصقلي (ص: 230).

السابعة

ويجوز أن يكون محلًا على بُعدٍ؛ بأن يُجعلَ مجازًا لحصول الطهارة به. السابعة: قال ابن سِيْدَه في "المحكم": الرضا: ضد السخط، وتثنيته رِضَوَان ورِضَيَان، الأولى على الأصل، والأخرى على المعاقبة، وكان هذا إنما ثُنيِّ على إرادة الجنس، رضي رِضًا ورُضْوانًا؛ الأخيرة عن سيبويه، ونظَّره بشُكْرَان، ورُجْحان، ومرضاة، فهو راضٍ من قوم رُضاة، ورضيٌّ من قوم أرضياء [و] (¬1) رُضاة، الأخيرة عن اللّحياني، وهي نادرة؛ أعني: تكسير (¬2) رضي (¬3) على رُضاة، وعندي أنه جمع راضٍ لا غير، ورَضٍ من قوم رَضِين عن اللحياني (¬4). قلت: نجعل مرضاة من مصادر رضي (¬5). الثامنة: أما مَرضاة: فإن كانت مصدرًا فلا بدَّ من حذفِ مضاف بعد حمل السواك على الفعل قطعًا، إذ نفس السواك ليس نفسَ الرضا، وإن كانت محلًا ففيه مجاز من وجهين: أحدهما: استعارة المعنى الحقيقي للمعنى اللغوي. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "بكسر" والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "رضا". (¬4) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 243)، (مادة: ر ض ا). (¬5) في الأصل: "رض".

التاسعة

والثاني: استعارة الحلول للتعليق (¬1) النسبي بين الرضا وبين السواك. التاسعة: قال الراغب: الرَّبُّ في الأصل: التربية، وهو (¬2) إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حدِّ التمام، يقال: ربَّه، وربَّاه، وربَّبَه (¬3)، وقيل: لأن يَرُبَّنِي (¬4) رجل من قريش، أحبُّ إلي من أن يربَّني رجلٌ من هوازن (¬5). فالرب مصدر مستعارٌ للفاعل، ولا يقال: (الربُّ) مطلقًا إلا لله (¬6) تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات؛ نحو قوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15]، وعلى هذا قال: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} [آل عمران: 80]؛ أي: آلهة. وبالإضافة يقال له ولغيره؛ نحو: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 126]، ويقال: ربُّ الدار، ورب الفرس، لصاحبها (¬7)، وعلى ذلك: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ¬

_ (¬1) "ت": "للتعلق". (¬2) "ت": "وهي". (¬3) "ت": "وريته". (¬4) أي: يملكني. (¬5) هذا قول صفوان بن أمية لأبي سفيان يوم حنين، كما رواه أبو يعلى في "مسنده" (1863)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 370)، وغيرهما. (¬6) في الأصل: "الله"، والمثبت من "ت". (¬7) في المطبوع من "مفردات القرآن": "لصاحبهما".

فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42]، وقوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50]، وقوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23]، فقيل: عنى به الله تعالى، وقيل: عنى به الملك الذي ربَّاه، [و] (¬1) الأولُ أليقُ بقوله. ثم قال: والرُّبُوبيةُ مصدرٌ، يقال في الله تعالى، والرِّبَابَةُ تُقال في غيره. وجمع الرُّبُّ: أَرباب، قال الله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، ولم يكن من حقِّ (الربِّ) أن يُجمعَ إذا (¬2) كان إطلاقه (¬3) لا يتناول إلا الله تعالى، لكنْ أتى بلفظ الجمع فيه على حسب اعتقاداتهم، لا على ما عليه الشيءُ (¬4) في نفسه. و (الربُّ) لا يقال في التعارف إلا في الله تعالى، وجمعه: أرِبَّة ورُبُوبٌ، قال الشاعر [من البسيط]: كانتْ أرِبَّتَهُم بَهْزٌ وغَرَّهُمُ ... عَقْدُ الجِوارِ وكانوا مَعْشَرًا غُدُرا (¬5) وقال [من الطويل]: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "إذ"، وكذا في المطبوع من "المفردات". (¬3) في الأصل: "إطلاق"، والمثبت من "ت". (¬4) في المطبوع من "المفردات": "ذات الشيء". (¬5) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، كما في "ديوان الهذليين" (1/ 44).

وكنتَ امرأً أفضتْ إليكَ رِبابَتي ... وقبلَكَ رَبَّتني، فضِعْتُ، رُبوبُ (¬1) ويقال للعقد في موالاة الغير: الرِّبَابَة، ولِمَا [يُجمع] فيه من القدح: رِبابه. واختصَّ الرَّابُّ والرَّابةُ بأحد الزوجين إذا تولى تربية الولد من زوج كان قبله، والرَّبيبُ والرَّبيبةُ بذلك الولد (¬2)، قال تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]. وربَّبْتُ الأديمَ بالسَّمْن، والدواء بالعسل، وسِقاءٌ مَرْبوب، قال الشاعر [من] الطويل": وكُونِي لهمْ كالسَّمنِ رُبَّتْ له (¬3) الأَدَمْ (¬4) والرَّباب: السَّحاب، وسُمِّي بذلك؛ لأنه يَرُبُّ النبات، وبهذا النظر سُمِّي المطرُ دَرًّا (¬5). ¬

_ (¬1) البيت لعلقمة بن عبدة، كما في "ديوانه بشرح الشنتمري" (ص: 43) وعنده: وأنت امرؤٌ أفَضَتْ إليكَ أمانتي ... وقَبلَك ربَّتنى فضِعْتُ ربوبُ (¬2) في الأصل: "الواحد"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "وكوني له بالشمس ربت به". (¬4) عجز بيت لعمرو بن شأس، كما نسبه ابن سلام في "طبقات فحول الشعراء" (1/ 200)، وابن دريد في "جمهرة اللغة" (1/ 28)، وابن منظور في "لسان العرب" (1/ 403)، وصدره: فإن كنتِ مني، أو تريدين صحبتي (¬5) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 336 - 338).

الوجه الرابع: في شيء من العربية سوى ما تقدم مما استطرده الكلام، وفيه مسائل

* الوجه الرابع: في شيء من العربية سوى ما تقدم مما استطرده الكلام، وفيه مسائل: [الأولى] (¬1): مَفْعَلَةٌ تكون مصدرًا للزمان، وقد يقع منها ما يحتمل المصدرَ وغيرَه. وذكر اللحياني من ذلك أمثلة، قال: ويقال شراب مَبْوَلة، وطعام مَشربة [ومَتْخَمة. وطعام مشربة] (¬2): إذا كان يُشرب عليه الماء. وحُكي عن أبي جعفر الرواسي أنه قال: يقال: مَلْبَنَةٌ؛ إذا كان يكثر عليها اللبن ويغزر (¬3). ويقال: إن تَتَّجِرْ فإنه مَوْرَقَةٌ لمالك؛ أي: مَكْثَرة للوَرِق. ويقال: البطنة مَوْسَنة، والنوم (¬4) مَوْرَمَة، وأكل الرطب مَوْرَدَة؛ أي: مَحَمَّة من الحُمَّى (¬5)، [وهي الورد] (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "ويعزز"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "اليوم"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "الحماء". (¬6) زيادة من "ت".

الوجه الخامس: في شيء من المعاني، وفيه مسائل

ويقال: اتخذ لهذا (¬1) الطائر مَوْقَعةً؛ أي: فتوقعه (¬2)، والأصمعيُّ لا يعرف الفتح. ويقال: الولدُ مَبخلةٌ مَجبنة مَسفهة. * * * * الوجه الخامس: في شيء من المعاني، وفيه مسائل: الأولى: لما وجب حملُ الطهارة على المعنى اللغوي، وهو النظافة، وذلك أمر محسوس، وجب أن تُطلبَ الفائدة في الإخبار عنه، فتحتملُ وجوهًا: أحدها: أن النظافة لمَّا كانت صفةً مطلوبة عند النفوس الشريفة، والطباع الكريمة، كان ذكرُ كونه نظافة منبِّهًا للنفس على جهة تَبعثُها على الفعل طبعًا. وثانيها: أن النظافةَ وحسنَ الهيئة لما كانت مطلوبةً شرعًا؛ كما هي مطلوبة طبعًا؛ "بُني الدينُ على النظافةِ" (¬3)، "عشر من الفطرةِ ... " (¬4)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "هذا". (¬2) في الأصل: "متوقعه". (¬3) قال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (1/ 124): لم أجده هكذا، وفي "الضعفاء" لابن حبان (3/ 57) من حديث عائشة: "تنظفوا فإن الإسلام نظيف"، وللطبراني في "الأوسط" (7311) بسند ضعيف جدًا من حديث ابن مسعود: "النظافة تدعو إلى الإيمان". (¬4) سيأتي تخريجه مفصلًا.

"إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ" (¬1)، إلى غير ذلك من الأمر بتجنبِ النجاسات، وتبرئة الأماكن الشريفة عن المُستَقْذَرات، كان ذكر ذلك تنبيها على الطلب الشرعي؛ كما ذكرنا في الأول التنبيهَ على الطبعي. وثالثها: أن يكون هذا من جنس ما قيل في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]: إن الحفدةَ الخَدَمَةُ، وهم البنون بعينهم؛ أي: ليسوا بنين فقط، بل بنين وحفدة معًا، فالمقصود الإخبار عن المجموع، فكذلك نقول هاهنا: المقصود الإخبار عن الوصف بالأمرين معًا؛ أي: ليس مطهرة للفم فقط كما تعلمون ذلك حسًّا، بل هو مع ذلك مرضاة للرب. ورابعًا: أن تكونَ الفائدةُ [في] (¬2) قِرانِ كونه مرضاة للرب بكونه مطهرة للفم حِسًّا، وما هو متعلقُ الحس فهو معلوم التحقق ضرورة، فكذلك كونه مرضاة للرب في التحقق، وهذا ينشأ من القِران، وإذا كان قوم من الفقهاء جعلوا القِران في الذكر دليلًا على الاستواء في الحكم، فما ظنك بهذا الذي نحن فيه؟ وهذا عندي مما يمكن في قوله - عليه السلام -: "للصَّائمِ فَرحتانِ: فرحةٌ عندَ فطرِه، وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربِّهِ" (¬3)، فذكروا تأويلات؛ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (91)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه مسلم (1151)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الثانية

لاستبعادهم التنبيه على فرحة الإفطار؛ لحقارتها عندهم، حتى قال بعضهم: إن فرحته عند فطره بإتمام عبادته، لا بما تناله شهوتُه من الطعام. فأقول (¬1): المرادُ ظاهرُه، وهي الفرحة بنيل الطبيعةِ الطعامَ؛ لإثبات فرحته عند ربه وتحقيقها عند لقائه [في النفس؛ كما في الفرحة بالأمر الطبيعي] (¬2)، وهذه ثابتة حِسًّا وطبعًا محققة عند النفس. الثانية: في قاعدة تنبني عليها غيرُها، يجب أن يُعلمَ الفرقُ بين دلالة اللفظ على المعنى وبين احتماله له؛ [فاحتمالُهُ له] (¬3): أن يكون بحيث إذا عرض [المعنى] (¬4) على اللفظ لم يَأبَهُ ولم يُنافِرْهُ. ودلالتُهُ عليه: بأن يتناولَه بأحد الدلالات [الثلاث] (¬5)؛ فالمطلق بالنسبة إلى المقيد محتملٌ غير دالٍّ، والعامُّ بالنسبة إلى أفراده دالٌّ. الثالثة: أهل (¬6) البيان [يقولون] (¬7): إن التنكير قد يكون للتعظيم، وقد يكون ذلك في مواضعَ لا تحصى من كلام الزمخشري (¬8)، قيل: ¬

_ (¬1) في الأصل: "قال فأقول". (¬2) في الأصل: "كما في النفس". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "كما ذكر أهل"، والمثبت من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) وذلك في مواضع كثيرة من تفسيره "الكشاف" وغيره.

ولما في الإبهام من التفخيم حذفوا صلة الموصول بعد قولهم (¬1): بعد اللتيا واللتي؛ أي: بعد القضية التي لا يبلغ الخبرُ مداها، ولا يحصر الخبر جلاها، وهذا عندي من قبيل المحتمل، لا من قبيل الدال، فيحتاج إلى أمرٍ من خارج وقرائنَ تقتضي الحملَ عليه، وأما عند التجرد من القرائن فليس إلا الاحتمال. ويُعَدُّ من القرائن في هذا الباب ورودُ النكرة في مقام الوعد والوعيد، والمدح والذم؛ لمناسبة هذه المقامات للتعظيم والتفخيم، وقد يقع ما هو أقوى في الدلالة على هذا كما في قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] أي: - والله أعلم - شفاءٌ وأيُّ شفاء؟! لأن الكلامَ في معرِض المدحِ، وحصول مسمَّى الشفاءِ حاصل في أكثر الموجودات، فإن حملناه على أصل المنفعة ففي كل الموجودات منفعة. وقد يمكن (¬2) تجريدُ (¬3) التنكير عن معنى [التعظيم] (¬4) بأن توجدَ دلالة اللفظ على مجرَّدِ المسمَّى، وعندي أنه يمكن أن يُحمل [على] (¬5) هذا قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] أعني: أن التنكير في الحياة يُحمل على مُجرَّد المسمَّى، لا على معنى ¬

_ (¬1) "ت": "في". (¬2) في الأصل: "يكون"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "تجديد"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

التعظيم؛ لأنه ليس كل أحد يحرص على مسمَّى (¬1) الحياة، حتى الحياة المنغصة بالآلامِ، والذل، والهوان، وفقدِ الأحباب، والبلايا التي يتمنَّى لها كثيرٌ من الناس الموت، وكذلك الحياةُ القصيرةُ المدَّةِ قد لا يرغبُ فيها كل الناس لقلة الفائدة، وقد لمَحَ هذا المعنى مَن قصدَ التزهُّد في طول الحياة بقوله [من الخفيف]: إن عُمرًا (¬2) يكونُ آخرُهُ المو ... تُ سواءٌ كثيرُهُ والقليلُ (¬3) وقال الله العظيم في كتابه المجيد (¬4): {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207] تزهيدًا (¬5) في الحرص على التمتيع (¬6) الذي يُفضي آخرُه إلى العذاب. فعلى هذا: إذا كانوا (¬7) أحرص الناس على ما ينطلق عليه مسمى ¬

_ (¬1) "ت": "معنى". (¬2) "ت": "عيشًا". (¬3) روى ابن أبي الدنيا في "المحتضرين" (ص: 212) عن إسحاق بن السري قال: دخلنا على عبد الله بن يعقوب في اليوم الذي مات فيه، وعنده متطبب ينعت له دواء، فقال عبد الله متمثلًا: إن عيشًا يكون آخره الموت ... لعيش معجل التنغيص (¬4) "ت": "العظيم". (¬5) في الأصل: "تزهيد"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "التمتع". (¬7) "ت": "كان" بدل "إذا كانوا".

الحياة، كان أبلغ (¬1) في ذمهم، بخلاف ما إذا حُمِل على معنى التنكير، أو بعض الصفات الخاصة. فإن قلت: فإذا كان عندك أن دلالةَ التنكير على التعظيم من باب الاحتمال، لا من باب الدلالة، ويحتاج الحمل فيه إلى قرينة دالة، لَزِمَك أن تنكر (¬2) المزايا التي يذكرها أهلُ البيان في كثير من الكلام الذي لا تدل القرينة على الحمل على التعظيم فيه، وقد استعملوا منه كثيرًا. قلت: إن ألزمْتني إنكارَ خصوص الدلالة على التعظيم عند عدم القرينة، فكذلك أقول، وإن ألزمتني إنكارَ أصلِ المزيَّة وسلبَ مطلقِ الحسن، فلا يلزمني ذلك؛ لأن العدولَ عما لا يحتمل [المحاسنَ إلى ما يحتملُ المحاسنَ] (¬3) من المحاسن، ثم [إن] (¬4) القرائن قد تخفى عن بعض الناس، وتظهر لبعضهم، وقد تقوى في نفس بعض الناس، وتضعف في نفس بعض، فيرِدُ كثيرٌ مما ذكروه لتنبيه الأنفس على معنى قد يخفى على الناظر، فإذا انتبهت النفسُ لذلك، حصل النظرُ في رتبتها. فإن قلت: فما الذي جلب لكل هذا الكلام، وما وجهُ تعلقه بهذا الحديث؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "أدخل"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "تذكر". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الوجه السادس: في المباحث والفوائد، وفيه مسائل

قلت: جَلَبَهُ التنكير في قوله - عليه السلام -: "مطهرةٌ للفمِ، مرضاةٌ للربِّ". فإن قلت: فهل يتعلق بالنظر في ذلك فائدة حكمية أو شرعية؟ قلت: نعم، وسيأتي بيان ذلك - إن شاء الله تعالى - في وجه المباحث والفوائد (¬1). * * * * الوجه السادس: في المباحث والفوائد (¬2)، وفيه مسائل: الأولى: اختلف المتكلمون في الرِّضا؛ هل هو بمعنى الإرادة أو أخصُّ منها؟ (¬3) ¬

_ (¬1) "ت": "الفوائد والمباحث". (¬2) "ت": "الفوائد والمباحث". (¬3) قال الإمام أبو الحسن الأشعري في المشهور عنه، وأكثر أصحابه، وطائفة ممن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد: إن المشيئة والإرادة والمحبة والرضا نوع واحد، وجعلوا المحبة والرضا والغضب بمعنى الإرادة. وأما الجمهور من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري وغيرهم: فيفرقون بين الإرادة وبين المحبة والرضا فيقولون: إنه وإن كان يريد المعاصي فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها، وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله وبين محبته، وهذا قول السلف قاطبة. وقد ذكر أبو المعالي الجويني: أن هذا قول القدماء من أهل السنة، وأن الأشعري خالفهم، فجعل الإرادة هي المحبة. وانظر: "المنهاج" لشيخ الإسلام أبي العباس (3/ 14).

الثانية

فإذا قلنا: إنه أخصُّ، فكلُّ مرضيٍّ مرادٌ، وليس كلُّ مرادٍ مرضيًّا، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] على مذهب الأشعرية في إرادة جميع الكائنات؛ لأنه إذا كان أخصَّ لم يلزم من نفيه نفيُ الأعم، ويكون الرضا يعطي معنى القَبول والثواب وما أشبهه، ولا يقتضي ذلك الإرادة. ومن يقول: إن الرضا بمعنى الإرادة، يحتاج أن يؤؤَّل الآية، فيقول: لا يريده مأمورًا به، أو مثابًا عليه، أو ما يشبه هذا. الثانية: قد يستدل به من يقول: إنَّ الرضا أخصُّ؛ لأنه لو كان بمعنى الإرادة لم يكن لتخصيص السواك بكونه مرادًا دون غيره من الواقعات فائدة، والسياق لمعنى الترغيب فيه، ولا يناسبه (¬1) إلا معنى الثواب والقَبول وشبههما. الثالثة: هو دال على كون السواك أمرًا مطلوبًا؛ ليكون أعمَّ من طلبه واجبًا أو ندبًا، فلا يكون فيه دلالة على أحد الوجهين بعينه؛ لأن الدال على القدر المشترك لا يدل على أحد الخاصَّين بعينه. الرابعة: من يقول: إن (¬2) الرضا أخصُّ من الإرادة، فالدلالة على ذلك من الحديث ظاهرةٌ، ومن يقول: إنه بمعنى الإرادة، يُقدِّر فيه مُضْمَرًا بأن يقول مثلًا: مرادًا للرب مثابًا عليه [ومقبولًا] (¬3)، أو ¬

_ (¬1) "ت": "يناسب". (¬2) "ت": "فإن". (¬3) زيادة من "ت".

الخامسة

ما قارب ذلك؛ ليكون له في تخصيص السواك بذلك فائدة الترغيب في السواك. الخامسة: المشهور من المذاهب أن السواكَ ليس بواجب في حال من الأحوال؛ لا في الصلاة، ولا في غيرها. وذكر غيرُ واحد عن داود: أنه واجب؛ ذكره الشيخ أبو حامد الإسفراييني، والماورديّ الشافعيان، والقاضي عبد الوهاب المالكي. وذكر الماورديّ عن داود: أنه عنده واجب، لو تركه لم تبطل صلاته. وحُكي عن إسحاق (¬1) بن راهويه: أنه قال: هو واجب، إن تركه عمدًا بطلت صلاته (¬2). وقد نُقل عدم الوجوب عن داود، وأن مذهبه: أنه سنة كقول الجماعة، والذي يقرب هذا الإنكار أن أبا الحسن بن المُغَلِّس ذكر في "ديوانه" الذي صنفه على مسائل كتاب المزني (¬3). قال الشيخ أبو زكريا النووي: ولو صحَّ إيجابه عن داودَ لم تضرَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الشيخ"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 142). (¬3) لم يذكر المؤلف ما ذكر أبو الحسن، لكنه استطرد فذكر كلام النووي، وعلق عليه، وقد ترك في "ت" بياضًا قليلًا يدل على وجود تتمة لكلام المؤلف، والظاهر أن البياض فيه نقل عدم وجوب السواك في كلام أبي الحسن عن داود الظاهري.

مخالفتُهُ في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه المحققون [و] (¬1) الأكثرون (¬2). قلت: إن أراد بذلك أنَّ مخالفةَ الواحد لا تقدحُ (¬3) في الإجماع، فليس هذا هو المختار في الأصول؛ لا نقلًا ولا دليلًا، وإن أراد - وهو الأقرب - أن يكون مراده: أن داود لا يُعتبر خلافه، فهذا قول قاله بعض الاكابر في الظاهرية، وأنهم لا يعتبرون في الإجماع. والذي أراه أنَّ تلك الشناعاتِ والقبائحَ غيرُ معتدًّ بها، وليس يلزم من عدمِ الاعتداد بالقول المخصوص عدمُ الاعتداد بالقائل مطلقًا، وليس يخلو مذهب من المذاهب عن بعض ما يشنع به مخالفوه على أهله. وقد ذكر الشافعية أحكامًا قالوا: إنه ينقض فيها حكم الحنفي (¬4)؛ إما وفاقًا، أو خلافًا، وذكر غيرهم نقضَ بعض أحكامهم، مع الاتفاق بينَهم على أن القائلين بتلك الأحكام من المجتهدين غيرُ مسلوبين أهليةَ الاجتهاد. وأما إسحاق فلم يصحَّ (¬5) هذا المحكي عنه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 142). (¬3) في الأصل: "يقدح"، والصواب ما أثبت. (¬4) "ت": "الحنفية". (¬5) "ت": "فلعله لا يصح".

السادسة

السادسة: في مقدمة: مراتب الاستحباب متفاوتة في التأكيد بين قوة، وتوسط، ودون ذلك، ولبعض الفقهاء اصطلاحٌ في تلقيب بعض [تلك] (¬1) المراتب بألقاب تبين فيها رتبها: فالمالكية: يُفرِّقون بين السنة، والفضيلة، والمستحبِّ؛ فالسنةُ لقب للمتأكد، والفضيلةُ والمستحب لما دونه. وذكر بعض المتأخرين منهم (¬2) ضابطًا في ذلك فقال: ما واظب عليه الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - مُظهرًا له في جماعة، فهو سنة. وما واظب عليه غيرَ مظهر [له في جماعة] (¬3)، ففيه خلاف (¬4). وهذا إن كان مُجرَّد اصطلاح، فالأمر قريب؛ لأن من قال: لا أسمي سنة إلا ما كان كذا، فقد أخبر عن اصطلاحه وإرادته، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) هو ابن بشير، كما نقله الحطاب في "مواهب الجليل" (1/ 40). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) عبارة ابن بشير كما نقلها الحطاب في "مواهب الجليل" (1/ 40): ما واظب عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مظهرًا له، فهو سنة بلا خلاف. وما نبَّه عليه وأجمله في أفعال، فهو مستحب. وما واظب على فعله في أكثر الأوقات وتركه في بعضها، فهو فضيلة، ويسمى رغيبة. وما واظب على فعله غير مظهر له ففيه قولان: أحدهما: تسميته سنة التفاتًا إلى المواظبة، والثاني: تسميته فضيلة؛ التفاتًا إلى ترك إظهاره كركعتي الفجر.

السابعة

فلا يُنازَعُ، وإن كان راجعًا إلى أمر يرجِعُ إلى الشرع، فالتأكد لا يختص بما حصلت المواظبة عليه مع الإظهار، فإن دلائل التأكد أعمُّ من ذلك، نعم، هذا من جملة دلائل التأكد، أما أنه محصور فيه، فلا (¬1). السابعة: ذكر بعضُ مصنِّفي الحنابلة: أنه اتفق أهل العلم (¬2) على: أنَّهُ - يعني: [أن] (¬3) السواك - سنةٌ مؤكدة؛ لحثِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواظبته عليه، وترغيبه (¬4) فيه، وندبه إليه، وتسميته إياه من الفطرة؛ كما أوردنا من الحديث (¬5). وذكر غيره ذلك من الحديث. والمالكيةُ يذكره (¬6) بعضُ مصنفيهم من فضائل الوضوء، ولم يعدُّوه من سننه (¬7)، ولو كان في درجة السنة لكان عند الوضوء آكدَ استحبابًا (¬8). الثامنة: ذكر بعضهم هذا الحديث في الاستدلال على أن السواك واجب، وقال: في تركه إسخاط الرب، [وإسخاط الرب] (¬9) حرام، فدل على أن تركَه حرامٌ. ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف في "شرح عمدة الأحكام" (1/ 174) نحوًا مما قاله هنا. (¬2) في الأصل: "علم"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل و "ت": "ورغبته". (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 69). (¬6) "ت": "ذكره"، والضمير يعود على السواك. (¬7) "ت": "سنته". (¬8) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 263). (¬9) زيادة من "ت"، وقد ألحقت على هامش الأصل إلا أنها مطموسة.

وأجاب عنه الشيخ أبو حامد الإسفراييني بأنه يقال: ليس كلُّ ما كان فيه مرضاةُ الربِّ (¬1) يكون في تركه مسخطةٌ [للرب] (¬2)، ألا ترى أن الصلاةَ النافلة والصومَ النافلة مرضاةٌ، وليس في تركِهما مسخطةٌ؟! * * * ¬

_ (¬1) "ت": "للرب". (¬2) زيادة من "ت".

الحديث الثاني

الحديث الثاني وأخرجَ مسلمٌ من حديث المِقْدامِ - وهو ابن شُريحِ -، عن أبيه، عن عائشةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا دَخَلَ بيتَهُ يَبْدَأُ (¬1) بالسِّوَاكِ (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في النسختين "م" و "ت": "يبدأ"، وكذا في نسخة ابن عبد الهادي الخطية لكتاب "الإلمام" (ق 4 / ب)، وفي مطبوعة "الإلمام" (1/ 58). والذي في "صحيح مسلم" وكذا "الإمام" (1/ 338): "بدأ" بالماضي. (¬2) * تخريج الحديث: رواه مسلم (253/ 44)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، من طريق سفيان، عن المقدام بن شريح، به، والسياق له. ورواه مسلم (253/ 43)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، وأبو داود (51)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يستاك بسواك غيره، والنسائي (8)، كتاب: الطهارة، باب: السواك في كل حين، من طريق مسعر، عن المقدام بن شريح، به. ورواه ابن ماجه (290)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، من طريق شريك، عن المقدام، به. قال ابن منده بعد إخراجه: "هذا إسناد مجمع على صحته من حديث جماعة، عن مسعر، والثوري، وغيره". كذا نقله المؤلف في "الإمام" (1/ 338).

[الوجه] الأول: في التعريف

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف: قال محمد بن سعد في "الطبقات": شُرَيحُ بن هانئ بن يزيد بن [نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب بن] (¬1) الحارث بن كعب، روى (¬2) عن عمر، وعن سعد (¬3) بن أبي وقاص، وعائشة. قال محمد بن سعد: أنبأ (¬4) أحمد بن عبد الله بن يونس (¬5)، عن زهير، عن الحسن بن الحرِّ، عن القاسم بن مُخَيمرة: حدثني شُرَيْح بن هانئ الحارثيّ (¬6)، وما رأيت حارثيًا أفضلَ منه. قال ابن سعد: قالوا: كان شريح من أصحاب عليِّ بن أبي طالب، وشهد معه المشاهدَ، وكان ثقةً، وكان كبيرًا، وقُتِل بسجستان مع عبيد الله بن أبي بكرة (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من "م" و "ت"، والمثبت من "الطبقات الكبرى" لابن سعد. وقد أثبت في هامش "ت" بياضًا ليدل على وجود سقط. (¬2) في الأصل: "وروى"، والمثبت من "ت". (¬3) في المطبوع من "الطبقات الكبرى": "وعلي". (¬4) "ت": "أخبرنا". (¬5) في الأصل و "ت": "سواس"، والتصويب من مطبوعة "الطبقات الكبرى". (¬6) في الأصل: "الحارث"، والمثبت من "ت". (¬7) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 128)، "الجرح والتعديل" لابن =

الوجه الثاني: في تصحيحه

والمقدام بن شُريح بن هانئ بن يزيد الحارثي الكوفي، سمع أباه، روى عنه عبدُ الملك بن أبي سليمانَ، والأعمشُ، والثوريُّ، ومِسْعَرُ، وشعبةُ، وشَرِيك، وابنُه يزيدُ بن المقدام، وقيسُ بن الربيع. قال أحمد بن حنبل: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صالح الحديث، وروى له الجماعة إلا البخاري (¬1). قلت: وشريح بن هانئ ممن انفرد مسلم بإخراج حديثه عن البخاريّ، وكذا ابنه المقدام. * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: وهو حديث انفرد به مسلم عن البخاري، ورواه من حديث مِسْعَر وسفيان معًا، عن المقدام. وهذه الرواية التي في الأصل هي لفظ رواية سفيان عن المقدام. ¬

_ = أبي حاتم (4/ 333)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (23/ 64)، "تهذيب الكمال" للمزي (12/ 452)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (3/ 382)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (4/ 290). (¬1) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 430)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 302)، "الثقات" لابن حبان (7/ 504)، "تهذيب الكمال" للمزي (28/ 457)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 255).

الوجه الثالث: في شيء من مفرداته

وأما رواية مسعر، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، فلفظها: سألتُ عائشةَ - رضي الله عنها - قلت: بأيِّ شيءٍ كانَ يبدأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -[إذا دخل بيته]؟ قالت: بالسواك (¬1). * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته: قال الجوهري: و (أيُّ): اسم معرب يُستفهم [به] (¬2) ويُجازى فيمن يعقل وفيمن لا يعقل، [تقول] (¬3): أيُّهم أخوك، وأيُّهم يكرمْني أُكرِمْه، وهو معرفة للإضافة، وقد تُترَك الإضافةُ وفيه معناها. وقد يكون بمنزلة (الذي) (¬4) فيحتاج إلى صلة، تقول (¬5): أيُّهم في الدار أخوك. وقد يكون نعتًا، تقول: مررت برجل أيِّ رجل، وأيِّما رجل، ومررت بامرأةٍ [أيَّةِ امرأة]، وبامرأتين أيَّتِما امرأتين، وهذه امرأة أيَّةُ امرأة، وأيَّتُما امرأتين (¬6)، وما زائدة. وتقول [في المعرفة]: هذا زيدٌ أيَّما رجل، فتنصب أيًّا على الحال، وهذه أَمَةُ الله أيَّتَما جاريةٍ. ¬

_ (¬1) تقدم الكلام عن طرقه في تخريج الحديث. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "التي". (¬5) "ت": "فتقول". (¬6) "ت": "امرأة".

الوجه الرابع: في [ذكر] شيء من العربية

وتقول: أيُّ امرأة جاءتك [وجاءك، وأية امرأة جاءتك] (¬1)، ومررت بجارية أيِّ جارية، وجئتك بمُلاَءة أيِّ ملاءة، وأيَّة مُلاءة، كلٌّ جائز، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. و (أيٌّ) قد يُتعجب بها، قال جميل [من الطويل]: بُثَيْنَ الزمِي (لا)، إنَّ [(لا) إنْ] (¬2) لَزِمْتِهِ ... على كَثرةِ الواشينَ أيُّ مُعينِ (¬3) قال: ولا يعمل فيه ما قبله؛ كقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] (¬4). * * * * الوجه الرابع: في [ذكر] (¬5) شيء من العربية: ذكر الجوهري عن الفراء: أن (أيًّا) يعمل (¬6) فيه ما بعده، ولا يعمل فيه ما قبله؛ كقوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] فرفع، وقال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 227]، [فنصبه بما بعده] (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في المطبوع من "الصحاح": "معون". وقد تقدم تخريج البيت. (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2276). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "تعمل"، والصواب ما أثبت. (¬7) زيادة من "ت".

الوجه الخامس: في المباحث والفوائد، وفيه مسائل

وأما قول الشاعر (¬1) [من الوافر]: تَصِيحُ بنا حَنِيفَةُ إذْ رَأتْنَا ... وأيَّ الأرضِ تَذْهَبُ بالصِّيَاح (¬2) فإنما (¬3) نصب لنزع الخافض، يريد: إلى أيِّ الأرض. قال الكسائي: تقول: لأضرِبَنَّ أيَّهم في الدار، ولا يجوز أن تقول: ضربت أيَّهم في الدار، ففرق بين الواقع و [المتوقَّع] المُنتظَر (¬4). * * * * الوجه الخامس: في المباحث والفوائد، وفيه مسائل: الأولى: هذا السؤالُ من الراوي لا بدَّ له من فائدة، وأظهرُها طلبُ العلم؛ ليحصلَ التأسي به - صلى الله عليه وسلم -. الثانية: لما كانت البدايةُ بالشيء دليلَ الاهتمامِ به، فلعله قصدَ بالسؤال عما يبدأُ به ترتيبَه والعنايةَ به. الثالثة: إذا كان الظاهر من السؤال هو طلب العلم للاقتداء، ففيه دليلٌ على أنَّ أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كانت عندهم على العموم له وللأمة، [لا] (¬5) ¬

_ (¬1) "ت": "قوله" بدل "قول الشاعر". (¬2) ذكره ابن السِّكيت في "إصلاح المنطق" (ص: 87)، وابن دريد في "جمهرة اللغة" (3/ 1318)، وابن منظور في "لسان العرب" (14/ 56) دون نسبة. (¬3) في الأصل: "فأيما"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2276). (¬5) زيادة من "ت".

الرابعة

على الخصوص، إذ لو كان احتمالُ العموم مساويًا لاحتمال الخصوص، لما حصل المقصودُ من الاقتداء الذي ذكرنا أنه فائدةُ السؤال. الرابعة: فيه من أدبِ طلب العلم أن يُقصدَ في كل علم مَنْ هو أعرفُ به وأرجحُ في المعرفة من غيره؛ كما رجع الصحابة إلى بعض نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في التقاء الختانين (¬1)، وفي الإصباح جنبًا في الصوم (¬2)؛ لأنهنَّ أعرف بذلك (¬3) وأرجحُ من غيرهن في علمه. وكذا في هذا السؤال، فإن الدخول في البيت مَظِنَّةُ الاجتماع ¬

_ (¬1) روى مسلم (349)، كتاب: الحيض، باب: نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، من حديث أبي موسى الأشعري قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة، فأُذن لي، فقلت لها: يا أماه! أو: يا أم المؤمنين! إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، فقالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلًا عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومسَّ الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل". (¬2) رواه البخاري (1825)، كتاب: الصوم، باب: الصائم يصبح جنبًا، ومسلم (1109)، كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "به".

الخامسة

[بالأهل] (¬1)، والافتراق من غيرهن، فلما تعلق قصدُه بمعرفة ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبدأ به، قصد من هو أحق بمعرفة ذلك. الخامسة: فيه أنَّ السؤالَ إذا كان عامًّا، وفَهِمَ المسؤولُ غرضَ السائل بقرينة (¬2) أو بأمر ما، اقتصر على فهمه مما تعلَّق به غرضه؛ لأن سؤاله عما كان - صلى الله عليه وسلم - يبدأ به [إذا دخل بيته] (¬3) عامٌّ بالنسبة إلى القُربات وغيرها، فأجابته بجنس القربات؛ لفهم المقصود من السؤال. السادسة: في بداءتِهِ - عليه السلام - بالسواك عند دخول بيته وجهان: أحدهما: أن الدخول إلى الأهل مظنة الدنوِّ منهن والاستمتاع بهن، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكره أن يوجد منه ريحٌ كريهة، فابتداؤه (¬4) بالسواك تطيبًا وتنظفًا؛ لما لعله يقع من الدنو للأهل، ومما يدل على هذا المعنى الحديث الصحيح في قصةِ شرب العسل، وقول عائشة - رضي الله عنها - لسودة: فإنه سيدنو منك (¬5)، فإنه يُشعر بأن ذلك كان واقعًا في أوقات حتى دلَّ الماضي منه على المستقبل. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "بالقرينة". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "فابتدأ". (¬5) رواه البخاري (4967)، كتاب: الطلاق، باب: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ومسلم (1474)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق.

السابعة

والثاني: أنهم ذكروا استحبابَ ركعتين عند دخول البيت والخروج منه، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، فيكون السواك للصلاة التي يبدأ بها عند الدخول، لا لأجل الدخول. السابعة: يُؤخذ منه استحبابُ البداءة بالسواك عند دخول البيت على ما دل عليه من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكادُ يوجد في كتب الفقهاء ذكرُ ذلك. الثامنة: قال بعض الشارحين في الكلام على هذا الحديث: فيه بيان فضيلة السواك في جميع الأوقات، وشدة الاهتمام به، وتكراره، والله أعلم (¬1). فإنْ أراد أنَّ استحبابَ السواك لا يختص بأوقات مخصوصة، ولا أحوال معينة؛ كالوضوء مثلًا، والصلاة، والقيام من النوم، فصحيح. وإن أراد به شمول الاستحباب لجميع (¬2) الأوقات، فلا يدل، والله أعلم. التاسعة: قال القاضي أبو الفضل عياض - رحمه الله - في الكلام على هذا الحديث: معناه تكراره لذلك ومثابرته عليه، وأنه كان لا يقتصر في ليله ونهاره على المرة الواحدة، بل على المِرَار ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 144). (¬2) في الأصل: "بجميع"، والمثبت من "ت".

العاشرة

المتكررة (¬1)؛ كما جاء في الحديث الآخر (¬2). قلت: هذا مأخوذ من أنَّ الدخول إلى البيت مما يتكرَّر، فإذا كان السواك معلقًا (¬3) به، كان مما يتكرر، والتكررُ دليلٌ على العناية والتأكد. العاشرة: قال القاضي: وخصَّ بذلك دخوله (¬4) بيتَهُ؛ لأنه مما لا يفعله ذوو المروءات بحضرة [الناس] (¬5)، ولا يجب عملُه في المسجد، ولا مجالس الحَفْل (¬6). قلت: هذا خلافُ اختيار النسائي - رحمه الله - فإنه ترجم على: سواك الإمام بحضرة رعيته (¬7)، ولعلَّه وقعَ له هذا المعنى، وأراد الردَّ على معتقده. والمروءاتُ ومُراعاتها بحسب الزمان والبلاد، وما كان منها يخالف الشرعَ فلا عبرةَ به، والمروءةُ ما وافق الشرع، وما زاد عليه ¬

_ (¬1) "ت": "الكثيرة". (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 60). (¬3) "ت": "متعلقًا". (¬4) "ت": "دخول". (¬5) بياض في الأصل وفي "ت"، والمثبت فن المطبوع من "إكمال المعلم" للقاضي عياض. (¬6) في المطبوع من "إكمال المعلم" (2/ 60): "الجماعات" بدل "الحفل"، وهما بمعنى. (¬7) انظر: "سنن النسائي" (1/ 9)، باب: هل يستاك الإمام بحضرة رعيته.

الحاديه عشرة

فمن باب الرُّعونات التي يقف معها أرباب الدنيا، فأمر المروءة (¬1) يجري على هذا القانون. وأما الاستياك في المسجد فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. الحاديه عشرة (¬2): قد يستدِلُّ به مَن لا يكرهُ السواك للصائم بعد الزوال. ووجهه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان صومه متكررًا كثيرًا، فكان يصوم حتى يقال: لا يفطر، ودخول البيت حالةٌ متكررةٌ لا يقتصر على وقت دون وقت، وإنَّما بحسب الدواعي والحاجات [الظاهرة] (¬3)، فالظاهر [و] (¬4) الغالب على الظنِّ وقوعُها في حالة الصوم في بعض الحالات، وفيما بعد نصف النهار، فيتناول الحديثُ تلك الحالَ التي وقع فيها الدخول بعد الزوال مع الصوم، لا سيَّما مع القول بأنَّ (كان) تدلُّ على التكرار والكثرة. الثانية عشرة: [فيه أن] (¬5) الحكمَ المعلَّق باسم يُكتفى فيه بأقل الدرجات، وهو ما يحصل به المسمى، وذلك لأنه سأل عن فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرنا أن ظاهر معناه طلب الاقتداء، فلم تُجبْهُ عائشة - رضي الله ¬

_ (¬1) "ت": "المروءات". (¬2) "ت": "عشر"، وهو خطأ ظاهر، وكذا جاء في بقية الأرقام التي بعدها. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت".

الثالثة عشرة

عنها - إلا باسم السواك، فلو لم يكن مُجرَّدُ المسمَّى كافيًا، لما كان الجواب مفيدًا للمطلوب من الاقتداء. الثالثة عشرة: هذا الذي ذكرناه من الاكتفاء بالمسمى، [و] (¬1) هو مقتضى تعليق الحكم به من حيث هو هو، وقد يكون هاهنا مطالبُ أُخَر لا يكفي في تحصيلها مُجرَّدُ المُسمَّى، ويكون الاقتصارُ على المُسمَّى للعلم بأنَّ السامعَ عارفٌ بما زاد عليه، لا يحتاج إلى ذكره. * * * ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

الحديث الثالث

الحديث الثالث روى جماعةٌ عن مالكٍ، عن ابنِ شِهَابٍ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -[أنه] قال: "لَوْلا أنْ يَشُقَّ على أمَّتِهِ (¬1) لأَمَرَهُمْ بالسِّوَاكِ معَ كُلِّ وُضُوءٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) "ت": "لولا أن أشق على أمتي" وجاء فوقها: "كذا"، ثم جاء في الهامش: "صوابه كما بيَّن بعد: "لولا أن يشق على أمته". (¬2) * تخريج الحديث: رواه الإمام مالك في"الموطأ" (1/ 66)، ومن طريقه: النسائي في "السنن الكبرى" (3044 - 3045)، والبيهقي في "بيان من أخطأ على الشافعي" (ص: 107). قال ابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 194): هذا الحديث يدخل في المسند؛ لاتصاله من غير ما وجه، ولما يدل عليه اللفظ، وبهذا اللفظ رواه أكثر الرواة، عن مالك، يعني: مرفوعًا. وقال البيهقي في "بيان من أخطأ على الشافعي" (ص: 110): ويشبه أن يكون مالك إذا شك في الشيء انخفض، والناس إذا شكوا ارتفعوا. قال المؤلف في "الإمام" (1/ 354): هو معروف من جهة بشر بن عمر، وروح بن عبادة، صحيح عنهما، عن مالك بسنده مرفوعًا.

الوجه الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

ورواه رَوْح بن عُبادة، عن مالك بسنده إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أنْ أشقَّ على أُمَّتي لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ معَ كُلِّ وُضُوءً". رواه ابن خزيمةَ في "صحيحه" (¬1). * * * الكلام عليه من وجوه: * الوجه الأول: في التعريف بمن ذكر فيه: أما ابن شهاب: فهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي الزُّهري، مدني سكن الشام، أحد أكابر العلماء، وأئمة المحدثين، وجَمَعَة العلم. سمع أنسَ بن مالك، وبلال بن سعد، وأبا الطُّفيل عامر بن وَاثِلة، ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (140)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 460)، و (2/ 517)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 363)، وابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 199)، والبيهقي في "بيان من أخطأ على الشافعي" (ص: 111)، من طريق روح بن عبادة، عن مالك، به. ورواه النسائي في "السنن الكبرى" (3043)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 43)، وابن الجارود في "المنتقى" (63)، وابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 197)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2769)، وفي "بيان من أخطأ على الشافعي" (ص: 111)، من طريق بشر بن عمر، عن مالك، به.

والسائب بن يزيد، وسُنَيْنًا أبا جَميلة، وعبد الرحمن بن [أزهر] (¬1)، وربيعة بن عباد الدّيلي، ومحمود بن الربيع، ورجلًا من بُلَيٍّ له صحبة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورأى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسمع عبد (¬2) الله ابن عامر بن ربيعة، وعبد الله بن ثعلبة بن صُعَيْر، وأبا أمامة بن سهل ابن حُنيف، وسعيد بن المسيِّب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وأخاه حميدًا، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وغيرَهم، وهو واسعُ العلم، منتشرُ الرواية. روى عنه الأكابر والناس: عمرُ بن عبد العزيز، وعطاءُ بن أبي رباح، وعِراك بن مالك، وعمرو بن دينار، وزيد بن أَسْلَم، ويحيى [ابن] (¬3) سعيد، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، وأبو جعفر محمدُ ابن علي بن الحسين، ومالك، وأيوب، وسفيان، ومنصور، وخلقٌ كثير غيرُهم. روى الترمذي: ثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي [قال] (¬4): ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: ما رأيت أنصَّ للحديث من الزُّهري، وما رأيت أحدًا الدينارُ والدرهمُ أهونُ عنده (¬5) منه، إن ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "عن عبد"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في المطبوع من "سنن الترمذي": "عليه" بدل "عنده".

كانت الدراهمُ والدنانيرُ (¬1) عنده بمنزلة البَعر (¬2). وروى دُعْلُج بن أحمد: ثنا أحمد بن إبراهيم بن مِلْحان: ثنا يحيى ابن بُكَير (¬3): حدثني الليث، عن جعفر بن ربيعة قال: قلت لِعراك بن مالك: مَنْ أفقهُ أهلِ المدينة؟ قال: أما (¬4) أعلمهم بقضايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقضايا أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأثبتُهم فقهًا، وأعلمهم بما مضى من [أمر] (¬5) الناس؛ فسعيد بن المسيب، وأما أغزرهم حديثًا فعروةُ بن الزبير، ولا تشاء أن تفجِّر (¬6) من عبيد الله بن عبد الله بحرًا إلا فجرته، قال عِراك: وأعلمهم [جميعًا] (¬7) عندي محمد بن شهاب؛ لأنه جمع علمَهم إلى علمه (¬8). وذكر القاضي أبو بكر محمد بن خلَّاد الرَّامَهُرْمُزِيُّ، عن إسحاق ابن أبي حسان الأَنْماطي، ثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد بن سعيد: أن ¬

_ (¬1) في الأصل: "الدينار"، والمثبت من "ت". (¬2) رواه الترمذي في "سننه" (2/ 401)، وابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 111)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 336). (¬3) في الأصل: "كثير"، والتصويب من "ت". (¬4) "ت": "ما". (¬5) سقط من "ت". (¬6) في الأصل: "يشاء، يفجر"، والتصويب من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) ورواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 347)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 361).

هشام بن عبد الملك سأل الزُّهريَّ أن يمليَ على بعض ولده شيئًا من الحديث، فدعا بكاتبه (¬1)، وأملى عليه أربع مئة حديث، فخرج الزُّهري من عند هشام، فقال: أين أنتم يا أصحاب الحديث؟ فحدثهم (¬2) بتلك الأربع مئة، ثم لقي هشامًا بعد شهر أو نحوه، فقال للزهري: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فقال: لا عليك، فدعا بكاتب، فأملاها عليه، ثم قابل هشام بالكتاب الأول فما غادر حرفًا (¬3). وروى ابنُ خلَّاد أيضًا عن سعد بن إبراهيم: أنه قال في الزُّهري: كان يأتي المجالسَ مِنْ (¬4) صدورها، ولا يأتيها من خلفها، ولا يُبْقي في المجالس شابًّا إلا ساءله، ولا كهلًا إلا ساءله، ولا فتًى إلا ساءله، ثم يأتي الدار من دور الأنصار، فلا يُبْقي فيها شابًا إلا ساءله، ولا كهلًا إلا ساءله، ولا فتى إلا ساءله، ولا عجوزًا إلا ساءلها، حتى يجادلَ ربَّات الحِجَال (¬5). وروى ابن سعد، عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه قال: ما أرى أحدًا جمعَ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جمع ابنُ شهاب (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: "بكتابه"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "فحدثتهم"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص: 397). (¬4) في "م"و "ت": "في". (¬5) رواه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص: 360 - 361). (¬6) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (ص: 167 - من القسم المتمم)، =

وروى أبو نُعيم من حديث أبي صالح، عن الليث قال: ما رأيت عالما قطُّ أجمعَ من ابن شهاب، ولا أكثر علماً منه، ولو سمعتَ ابن شهاب يحدث في الترغيب لقلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه نوعاً جامعا (¬1). وروى أيضاً من حديث سعيد بن أبي مريم: أنبأ الليث قال: قلت لابن شهاب: يا أبا بكر! لو وضعتَ للناس هذه الكتبَ ودوَّنتها فتفرَّغْتَ، فقال: ما نشر أحدٌ من الناس هذا العلمَ نشري، ولا بذله بذلي، قد كان عبد الله بن عمر يُجالَس، ولا يَجترِئ عليه أحدٌ يسأله عن حديث، حتى يأتيَه إنسانٌ فيسألَه، فيهيّجه ذلك على الحديث، أو يبتدئ هو الحديث، وكنا نجالس سعيد بن المسيب لا نسأله عن حديث، حتى يأتيَ إنسان فيسألَه، فيهيِّجه ذلك فيحدث بالحديث، أو يبتدئ هو من عند نفسه، فيحدث به (¬2). قال أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي: ليس فيهم أجودُ مسنداً من الزُّهري، كان عنده ألف حديث مسندة. وقال البخاري، عن علي بن المديني: له نحو ألفي حديث. وقال ابن مَنْجَويه: رأى عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان من ¬

_ = ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 343). (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 361)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 341). (¬2) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 361).

أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقاً لمتون الحديث، وكان فقيهاً فاضلاً، مات ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلةً خلت من شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومئة في ناحية الشام. قال الواقدي: وهو ابن اثنتين (¬1) وسبعين سنة، وأوصى أن يُدفن على قارعة الطريق بضَيْعة يقال لها: شَغْبَ وَبَدَا (¬2). قلت: وشَغْب: بفتح الشين المعجمة، وسكون الغين المعجمة أيضاً، وبَدَا: بفتح الباء الموحدة، وبعدها دال مهملة (¬3). وأما حميد بن عبد الرحمن: فاسْمٌ مشترك بين جماعة سبعة، والذي له الحديث منهم هو [حميد بن] (¬4) عبد الرحمن بن عوف، والده أحدُ العشرة رضوان الله عليهم أجمعين. ¬

_ (¬1) في الأصل: "اثنين"، والتصويب من "ت". (¬2) وتكتب أيضاً: "شَغْبَدا" بالاتصال. (¬3) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (ص: 157 - القسم المتتم"، "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 225)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 71)، "الثقات" لابن حبان (5/ 349)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 360)، "رجال مسلم" لابن منجويه (2/ 205)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (55/ 307)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 77)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 105)، "تهذيب الكمال" للمزي (26/ 419)، "سير أعلام النبلاء" (5/ 326)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 108)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 395). (¬4) زيادة من "ت".

كنيته أبو عثمان، ويقال: أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الرحمن. قرشيٌّ، زهري، مدني، أمه أمُّ كُلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط. سمع أبا هريرة، وأبا سعيد الخدري، ومعاوية بن أبي سفيان، وأمَّه أمَّ كلثوم، وقد روى عن عثمان، وقيل: سمع من أبيه، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل. روى عنه ابنُهُ عبد الرحمن، وابن شهاب الزُّهري، وصفوان بن سليم. أحدُ الثقات المتَّفق على تخريج (¬1) حديثهم، وفي طبقته: حميد بن عبد الرحمن الحميري، بصري، سمعَ أبا هريرة أيضاً، وعبد الله بن عباس، روى عنه محمد بن سيرين، وأبو التَّيَّاح يزيد بن حميد، وداود بن عبد الله الأودي، ومحمد بن المنتشر، وهو من الثقات، وهو المذكور في الحديث الأول من كتاب مسلم في الإيمان، عن يحيى بن يعمر (¬2). قال أبو زرعة في حميد بن عبد الرحمن: ثقة. وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش، وأحمد بن عبد الله: ثقة. قلت: وحسبك باتفاق الشيخين وبقية الجماعة على روايته. وقال ابن سعد: روى مالك، عن الزُّهري، عن حميد بن عبد الرحمن: أنَّ عمر وعثمان كانا يصليان المغرب في رمضان، ثم يفطران؛ ولم يقلْ: رأيتُ. ¬

_ (¬1) "ت": "إخراج". (¬2) حديث رقم (8) من "صحيح مسلم".

ورواه يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن الزُّهري، عن حميد قال: رأيتُ عمر وعثمان يصليان. قال محمد بن عمر: وأشبههما عندنا حديث مالك، وأنَّ حميداً لم يرَ عمرَ - رضي الله عنه -، ولم يسمع منه شيئاً، وسِنُّه وموته يدلان (¬1) على ذلك، ولعله قد سمع من عثمان؛ لأنه كان خاله، وكان يدخل عليه - كما يدخل ولده - صغيراً وكبيراً (¬2). وكان ثقةً، كثيرَ الحديث، توفي بالمدينة سنة خمس وتسعين، وهو ابن ثلاث وسبعين. قال ابن سعد: وقد سمعت من يذكر أنه توفي سنة خمس ومئة، وهذا غلط (¬3) (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "يدل"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 154). (¬3) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 153)، "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 345)، "الطبقات" لخليفة بن خياط (ص: 242)، "معرفة الثقات" للعجلي (1/ 323)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 225)، "الثقات " لابن حبان (4/ 146)، "تهذيب الكمال" للمزي (7/ 378)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 40). (¬4) قلت: لم يترجم المؤلف رحمه الله لروح بن عبادة، وقد جاء في النسخة "ت": "ترجمة روح بن عبادة" كذا، كالتنبيه على سقوط ترجمته عند المؤلف. قلت: وروح بن عبادة هو: ابن العلاء بن حسان أبو محمد القيسي البصري ثقة حافظ، فاضل، صنف الكتب في السنن والأحكام، وجمع تفسيراً، =

الوجه الثاني: في [تصحيحه]

* الوجه الثاني: في [تصحيحه] (¬1): أخرجه مالك - رحمه الله - في "الموطأ"، [و] (¬2) اختلف عليه في لفظه، وفي رفعه ووقفه؛ فرواية يحيى بن يحيى الأندلسي، عن مالك؛ عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: أنه قال: لولا أنْ يشقَّ على أمَّتِهِ لأمرَهُم [بالسِّواكِ] (¬3) مع كل وضوء. هكذا في روايته (¬4) ليس فيه [ذكر] (¬5) رفعِ اللفظِ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو عمر بن عبد البر في "التقصي" (¬6) بعد ذكر هذه الرواية: وهذا يدخل في المسند عند جميعهم. وقال في "التمهيد": هذا الحديث يدخل في المسند؛ لاتصاله ¬

_ = وحديثه في أصول الإسلام كلها، توفي سنة (205 هـ) وقد نيف على الثمانين رحمه الله تعالى. وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 296)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 309)، و"معرفة الثقات" للعجلي (1/ 365)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 498)، و"الثقات" لابن حبان (8/ 243)، و"تهذيب الكمال" للمزي (9/ 238)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (9/ 402)، و"تهذيب التهذيب " لابن حجر (3/ 253). (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقظ من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "رواية". (¬5) سقط من "ت". (¬6) هو كتاب: "التقصي لحديث الموطأ" أو "تجريد التمهيد"، وهو مطبوع.

من غير ما وجه، ولما يدل عليه اللفظ، وبهذا اللفظ رواه أكثر الرواة عن مالك كذلك، ورواه كما رواه (¬1) [يحيى] (¬2) أبو المُصْعب، وابن بُكير، والقَعْنَبي، وابن القاسم، وابن وهب، وابن نافع. ورواه معن بن عيسى، وأيوب بن صالح، وعبد الرحمن بن مهدي، وجويرية (¬3)، وأبو قُرَّة موسى بن طارق، وإسماعيل بن أبي أويس، ومُطَرِّف بن عبد الله، وبِشر بن عمر، وروح بن عبادة، وسعيد ابن عُفَير، عن مالك، وسُحنون، عن ابن القاسم، عن مالك بإسناده إلى أبي هريرة: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْلا أنْ أشقَّ على أمَّتِي لأمَرْتُهُم بالسِّواكِ مع كلِّ وُضُوء"، وبعضهم يقول: "معَ كلِّ صلاةٍ" (¬4). قلت: قد ذكرنا رواية روح بن عبادة في الأصل، ورواه أبو عمر في "التمهيد" من حديث إسماعيل بن أبي أويس بسنده ولفظه. ورواه من طريق أحمد بن صالح، عن مُطرِّف، وإسماعيل بن أبي أويس، عن مالك بسنده ولفظه. ومن طريق بشر بن عمر، عن مالك، وفيه: "مع كلِّ وضوءٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) في المطبوع من "التمهيد": و"بهذا اللفظ رواه أكثر الرواة عن مالك، وممن رواه كذلك كما رواه". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "جويرة"، والمثبت من "ت". (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (7/ 194 - 196). (¬5) المرجع السابق (7/ 196).

الوجه الثالث: في شيء من مفردات ألفاظه، وفيه مسائل

وقد ظهر بما ذكرنا ما ذكرته في الأصل من أن جماعةً رووه عن مالك كما ذكرنا، وأنَّ روحاً رواه مسنداً، وروحُ بن عبادة من الثقات. * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفردات ألفاظه، وفيه مسائل: الأولى: كلمة (لولا) مشتركةُ الدلالة بين التحضيض والشرط، فمِمَّا وردت فيه بمعنى التحضيض قول الشاعر [من الطويل]: تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ (¬1) أفضلَ مجدِكُمْ ... بني ضَوْطَرَى لَوْلا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا (¬2) وورودها بمعنى الشرط كثير جداً (¬3). وفي كلام بعضهم ما يُشعرْ بأنه الأصل، وأن التحضيض خرجت به عن بابها. فإن أرادَ الكثرة في الشرط فقريب، وإن أرادها مجازاً في التحضيض فبعيد. والأقربُ ما قاله غيرُه من الاشتراك، وإن كان المجاز خيراً من الاشتراك، لكنه إذا ترجَّحَ الدليلُ عليه قُدم على الأصل؛ أعني: ترجيح المجاز على الاشتراك. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الذيب"، والمثبت من "ت". (¬2) البيت منسوب لجرير، كما في "ديوانه" (ص: 265)، ونُسب إلى الأشهب ابن رميلة. انظر: "خزانة الأدب" للبغدادي (1/ 461)، (4/ 498). ورواية الديوان: "سعيكم" بدل "مجدكم"، و"هلًا" بدل "لولا". (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2554).

والدليلُ على ترجيح الاشتراك هاهنا: أن المجاز لا بدَّ فيه من العلاقة بين الحقيقة والمجاز، والعلاقةُ بين معنى الشرط المذكور، وهو الامتناع للوجود، وبين معنى التحضيض الذي يشعر بطلب، بعيدة تحتاج (¬1) إلى تكلف بعيد خارج عن نَمَط علاقات الحقيقة والمجاز. وإذا ثبت ورودها للشرط، فمعنى الشرط فيها امتناع الشيء لوجود غيره؛ أي: امتناع الجواب لوجود الشرط. قال بعضُهم بعد ذكر معناها: وكذلك يقتضي تركيبها من (لو) و (لا)، وذلك أنه قد تقدم أن (لو) إذا وقع (¬2) شرطاً لَما انتفى، كان موجباً في المعنى، فكأنَّ (لو) دخلت (¬3) على (لا زيدٌ حاضر)، فصارت (لو) موجباً في المعنى، لا (¬4) أن (لو) من (لولا) حرف نفي، بل (¬5) قد صارت كحرف واحد غير مركب معناه كذا (¬6). هذا معنى كلامه، وإذا لم تكن دالة على النفي، لم يصحَّ أنَّ مقتضى (لولا) ما ذكر؛ لامتناع حصول المعنى من غير دلالة الدليل اللفظي عليه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يحتاج"، والمثبت من "ت". (¬2) عامل (لو) معاملة المذكر على تقدير معنى الحرف. (¬3) عامل (لو) معاملة المؤنث على تقدير معنى الكلمة. (¬4) "ت": "إلا". (¬5) "ت": "بلى". (¬6) انظر: "الكامل في الأدب" للمبرد (1/ 362).

الثانية

الثانية: المَشَقَّةُ: ما يصعب احتماله على النفس، كأنها مشتقة من الشَّق، وهو [الخَرم] الواقع في الشيء، تقول: شقَّه بنصفين، قال الله تعالى: {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 26]، وقال: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44]، وقد تسمى الأرض ذات الشقوق مَشقة (¬1)، فلعله لما كان سلوكُ مثلِها صعباً على البدن شُبِّهَ به ما يصعب على النفس احتماله، فسُمي مَشقة، أو لعلهما معاً مأخوذان (¬2) من أصل واحد، وهو الشق. الثالثة: ذكر الراغب: أنَّ الأمةَ: كلُّ جماعة يجمعهم أمرٌ ما؛ إما دين واحد، أو مكان واحد، أو زمان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيراً، أو اختيارياً، وجمعها: أُمَم، وقوله - عز وجل - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]؛ أيَ: كل نوع منها على طريقةٍ [قد] (¬3) سخَّرها الله عليها بالطبع، فهي من بين ناسِجةٍ كالعنكبوت، وبانيةٍ كالسوس (¬4)، ومدّخرة كالنمل، ومعتمدةٍ على قوت وقتها كالعصفور والحمام. ثم قال: وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213]؛ أي صنفاً ¬

_ (¬1) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 459). (¬2) في الأصل: "واحدة"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في المطبوع من "مفردات القرآن": "كالسُّرْفة". قلت: وهي دويبة صغيرة تثقب الشجر، تتخذه بيتاً يضرب بها المثل فيقال: أصنع من سُرفة. انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 361).

واحداً، وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفرَ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]؛ أي: في الإيمان، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104]؛ أي: جماعة يتحرَّون (¬1) العلمَ والعمل الصالح تكون (¬2) أسوةً لغيرهم، وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]؛ أي: على دين مجتمع عليه. قال الشاعر [من الطويل]: وهل يأثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وهوَ طَائِعُ (¬3) وقوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]؛ أي: حين، وقرئ: (بعد أَمَهٍ) (¬4)؛ أي: بعد نسيان، وحقيقة ذلك بعد انقضاء أهل عصر، أو أهل دين. وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120]؛أي: قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، وروي: أنه: "يُحشرُ زيدُ بنُ عمرِو بن نُفيلٍ أمَّةً وحدَه (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "يتخيرون". (¬2) في المطبوع: "يكونون". (¬3) عجز بيت للنابغة الذبياني، كما في "ديوانه " (ص: 82)، وصدره: حلفتُ فلم أترك لنفسكَ ريبةً (¬4) وهي قراءة الحسن، انظر: "الإتحاف" للدمياطي (ص: 332). (¬5) في الأصل: "واحدة"، والمثبت من "ت". (¬6) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (8187)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/ 75)، من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، =

الرابعة

قلت: يجوز عندي في قوله تعالى: {بَعْدَ أُمَّةٍ} أن يرجعَ على المدة المتراخية من الزمان تشبيهاً لأجزاء (¬1) المدة بآحاد المدة. وإذا أضيف (¬2) الأمة إلى الرسول، أريد بها من هو على دينه وطريقته؛ كما في هذا الحديث: "على أمَّتِي"، وإذا لم يُضفْ احتمل أن يراد به أهل الزمن؛ كقوله - عليه السلام -: "لا يسمع بي أحدٌ منْ هذهِ الأمةِ؛ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثمَّ لم يؤمنْ بي، وبما جئتُ به، إلا كانَ من أهلِ النار" (¬3)؛ أو (¬4) كما قال. الرابعة: الأمر يُطلق ويُراد به الصيغة المخصوصة، ويطلق ويراد به الفعل والشأن، فقيل: مشترك، وقيل: كالمشترك، وقيل: هو حقيقة في القول المخصوص، وهو الأقرب؛ لسبقه إلى الفهم عند الإطلاق (¬5). وقال الراغب: لفظ (الأمر) عامٌّ في الأفعال والأقوال كلها، وعلى ذلك يرجع قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123]، وقال ¬

_ = وإسناده حسن، وانظر: "مجمع الزوائد" (9/ 416). وانظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 86 - 87). (¬1) في الأصل: "لآخر"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل و "ت": "وآحاد صنف"، ولعل الصواب ما أثبت. (¬3) رواه مسلم (153)، كتاب: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) في الأصل: "و"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصبهاني" (2/ 7).

الخامسة

تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 154]، {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275]. ويقال للإبداع: أمر؛ نحو: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، ويختص ذلك بالله دون الخلائق، وقدْ حُمِل على ذلك قولُه تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] (¬1). قلت: الأمر في الحديث راجع إلى الصيغة المخصوصة. الخامسة: قال الراغب: مقتضى (مع) الاجتماعُ؛ إما في المكان؛ نحو: هما معاً في الدار، أو في الزمان؛ نحو: ولدا معاً، أو في المعنى لمتضايفين (¬2)؛ نحو: الأخِ والأبِ، فإن أحدهما صار أخاً للآخر في حالِ ما صار الآخرُ أخاه، وإما في الشرف والرتبة؛ نحو: هما معاً في العُلُوِّ. ويقتضي معنى النصرة، وأن المضافَ إليه لفظُ (مع) هو المنصور؛ نحو قوله - عز وجل -: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقال: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]، وقوله عن موسى: {إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] [ورجل إمَّعة] من شأنه أن يقول لكل واحد: أنا معك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 88). (¬2) في المطبوع من "المفردات": "كالمتضايفين". (¬3) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 771).

الوجه الرابع: في شيء من العربية، وفيه مسائل

قلت: والمعية في هذا الحديث [يجوز أن تكون] (¬1) محمولةً على الاجتماع في الزمان، لكن لا تحمل على المضايفة في ذلك، وأن يكونا معاً في زمن واحد، بل تكفي المقارنة فيه. * * * * الوجه الرابع: في شيء من العربية، وفيه مسائل: الأولى: الغالب بعد (لولا) أن لا يقعَ إلا الاسم (¬2)، وفي هذا الحديث وقع ما يقوم مقامَه، وهو أنْ والفعل، والتقدير - والله أعلم -: لولا المشقة على أمتي، وقد جاء الفعل بعد (لولا) كما أنشد الجموح [من البسيط]: قَالَتْ أمامةُ لمَّا جئتُ زائِرَهَا ... هلَّا رميتَ ببعضِ الأسهمِ السُّودِ لا درَّ دركِ إنِّي قدْ رميتُهُمُ ... لولا حُدِدْتُ، ولا عُذْرَى لمحدودِ (¬3) وقيل: إن وقوعَ الفعل بعدها ضعيفٌ جداً، لم يأتِ إلا في الشعر؛ كذا قال بعض المتأخرين. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "اسم". (¬3) البيتان للجموح الظفري - أحد بني ظفر بن سليم بن منصور -، كما نسبهما إليه ابن السيرافي وابن الشجري وغيرهما، وقيل: إنها منسوبة لراشد بن عبد الله السلمي. انظر: "خزانة الأدب" للبغدادي (1/ 464). وانظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 545).

الثانية

الثانية: الاسمُ الواقع بعدها عند سيبويهِ ومن تبعه مبتدأٌ محذوفُ الخبر، فإذا قلت: لولا زيد لأكرمتك؛ أي: لولا زيد موجود لأكرمتك، أو ما أشبهه، والخبر عندهم ملتزم الحذف كما في ألفاظ القَسَم المرفوعة؛ نحو: يمين الله، وعهد الله، ولعمرك، وايمُنُ الله، وأشباهها (¬1). ورأيت في فصل عن بعض فضلاء المتأخرين - وهو الفاضل ابن بَرِّي - فصلاً يتعلق بـ (لو) و (لولا)، رأيت أن أذكره هاهنا، وإنْ تعلَّق بعضُه ببعض ما تقدم، وهو: [أن] (¬2) (لو) تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره. فإذا وَلِيَها مثبتان امتنع إثباتهما؛ نحو: لو قام زيد لأكرمتك. وإذا وليها منفيان امتنع نفيهما، فانقلب إثباتاً؛ نحو: لو لم يقمْ لم [أقم] (¬3). وإذا كان أحدهما مثبتاً والآخر منفياً امتنع النفي من المنفي فصار إثباتاً، وامتنع الإثبات من المثبت فصار نفياً؛ نحو: لو لم يقم لأكرمتك، وبالعكس. فإذا دخلت (لا) على (لو) انقلب ما يليها إثباتاً [ب (لا)] (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" لسيبويه (3/ 139)، و"الكامل في الأدب " (1/ 363)، و"المقتضب" كلاهما للمبرد (3/ 76). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: بياض، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت".

ووجب أن يليَها الاسم؛ لأنه الذي يدل على مطلق الوجود، وبقي ما بعده منفياً على أصل (لو)، فلذلك قلنا: لولا تدل على [امتناع] (¬1) وقوع ما عُلِّق عليها؛ لوجود ما يليها، وامتناعُهُ إما لمطلق وجود الاسم، فيجب حذف خبره؛ نحو: لولا زيد لأكرمتك. وإما لمقيد (¬2) وُجِد في الاسم، فيجب ذكر الخبر، ويكون الخبر في معنى الصفة القائمة بالاسم؛ نحو: "لولا قومُكِ حديثُو عهدٍ بجاهليةٍ لرددْتُ الكعبةَ إلى قواعدِ إبراهيمَ - عليه السلام - " (¬3)، وكقوله: ولولا بَنُوها حَولَها لخَبَطْتُها (¬4) ثم انظر إلى ما بعدها؛ فإن كان لا قيدَ معه، أو معه قيد خاص؛ نحو: لولا زيد لضربت، ولولا زيد لضربت عمراً، فالامتناع وارد على أصل الفعل، لكنه في الأول خارج عن الوجود بنفسه، وفي الثاني خارج عن الوجود بمتعلَّقه الخاص؛ لأن الامتناع إذا صادف الماهية مطلقة وقع عليها، وإذا صادفها مقيدة بقيد خاص وقع عليها باعتبار ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "لقيد". (¬3) رواه البخاري (1509)، كتاب: الحج، باب: فضل مكة وبنيانها، ومسلم (1333)، كتاب: الحج، باب: نقض الكعبة وبنائها، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) صدر بيت منسوب للزبير بن العوام - رضي الله عنه -، وعجزه: كخبطة فروج ولم أتلعثم كذا في: "معجم الأدباء" لياقوت.

تعلُّقِها بمعيَّن، والفعل يَعُمُّ إذا تعلق بعامّ، ويختص إذا تعلق بمختص، لأنك لو قلت: أيُّ عبيدي ضربتُه فهو حرٌّ، فضرب منهم جماعة على التعاقب، لا يعتق إلا الأول؛ لأن الضرب مقيد بتقييد فاعله، لأنه للمخاطب. وإذا قلت: أيُّ عبيدي ضربَك فهو حرّ، فضرب منهم جماعة عُتِقوا؛ لأن الضرب فيهم (¬1) عام؛ لعموم فاعله، وهو ضمير (أي)، و (أيٌّ) عامةٌ وإن كان جوابها معه قيد (¬2)، فالامتناعُ واقعٌ على الهيئة الاجتماعية من المتعلق (¬3)، لا على أفراد ذلك المتعلق، ويبقى أصل الفعل حاصلاً؛ كقوله (¬4): لولا زيد لضربتُ كلَّ واحد، فالممتنع إنما هو الضرب الواقع على الكل، لا على الأفراد، بدليل صحة قولك: لولا زيد لضربت كل أحد، لكن لأجله ضربت بعض (¬5) الأحدِين، فالامتناع هاهنا (¬6) وارد على أفراد الأحدين، لا على أصل الضرب. ومثله قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]، ليس المراد امتناع أصل التزكية، بل امتناعها [في] (¬7) ¬

_ (¬1) "ت": "فيه". (¬2) "ت": "قيد عام". (¬3) في الأصل: "المتعلقة"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "كقولك". (¬5) غير واضحة في الأصل، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "هنا". (¬7) زيادة من "ت".

عموم كل أحد؛ لأن (أحداً) نكرة في سياق النفي، فكأنه قيل: ما زكى كل أحد منكم، والمعنى: لكن بسبب فضل الله زكَى بعضكم، وهم المؤمنون دون غيرهم، فأصل التزكية حاصلٌ، وعمومها في متعلقها ممتنع. ومن القسم الأول: قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، وهي نكرة في سياق الإثبات، فلا (¬1) عمومَ لها، فانتفى مسُّهم (¬2) هذا العذاب؛ لأنه قُيد بقيد خاص. وكقوله في الحديث: لولا عليٌّ لهلكَ عمرُ (¬3)، فالممتنع الهلاك؛ لأن الامتناع ورد على ماهيَّة مطلقة، ولم يصادف سواها فيمنعه. وعن الفراء: أنه حكى عن "بعض النحويين: أن (لولا) ترفعُ لنيابتها مَنابَ الفعل؛ لأن معنى (لولا زيد): لو لم يمنعني زيد. وردَّه من وجهين: أحدهما: أن أحداً لا يقع بعدها، وهو يقع بعد ذلك المقدر. والآخر: امتناع لولا أخوك، ولولا أبوك كان كذا؛ أي: [لو] (¬4) لم يمنعني أخوك. ¬

_ (¬1) "ت": "ولا". (¬2) غير واضحة في الأصل، والمثبت من "ت". (¬3) رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 1102). (¬4) زيادة من "ت".

وزعم الفراء: أن لولا ترفع ما بعدها لانعقاد الفائدة. قال بعضُهم: ويظهر من هذا القول أنَّ الاسمَ ارتفع بعدها؛ لأنه عمدة لا يُستغنى عنه، ولا يَحتاج إلى حَذْفٍ؛ لاستقلال الكلام به، وهو نحو ما زعم ابن الطَّرَاوَة (¬1): أن الاسم بعدها مبتدأ خبرُه (لكان كذا)؛ لأن الفائدة حصلت بقولهم: لكان كذا. وهذا صحيح؛ أعني: أن الفائدة تصحُّ بالجواب؛ كما تصح في: إنْ قام زيد قام عمرو، ولكنْ ليس كلُّ ما تصح به الفائدة خبراً، فقولُهُ: إن (لكان كذا) خبر (¬2) عن زيد، خطأ، [و] (¬3) كيف يكون خبراً عن زيد، ولا ذكر لزيد فيه؟! فكلام الفراء أشبه من كلام ابن الطَّرَاوَة؛ لأنهم يقولون: تمت الفائدة بالملفوظ به؛ لأن الخبر المحذوف مفهوم منه؛ كما أن الفائدة تتم بقولهم: إياك؛ لأن الفعل المحذوف مراد مفهوم، ثم حمله على ما قد استقر، حتى لا يكون مسنداً إليه؛ كما لم يكن منصوباً إلا بفعل. ¬

_ (¬1) هو الإمام النحوي سليمان بن محمد بن عبد الله السبأي المالقي، أبو الحسين بن الطراوة، تجول كثيراً في بلاد الأندلس، وله عدة مصنفات منها: "الترشيح" في النحو، و"المقدمات على كتاب سيبويه" وله آراء في النحو تفرد بها. توفي سنة (528 هـ). انظر: "تكملة الإكمال" لابن نقطة (4/ 18)، و"بغية الوعاة" للسيوطي (ص: 263)، و"الأعلام" للزركلي (3/ 132). (¬2) "ت": "خبراً"، وهو خطأ. (¬3) زيادة من "ت".

الثالثة

وما روي عن الكسائي: أنه فاعل بفعل مضمر أقربُ؛ لأنه جرى على قانون ما استقر في كلامهم من مسند ومسند إليه، غير أن ما زعم سيبويه أولى، وذلك أن حذف الخبر أولى من حذف الفعل؛ لأن الخبر هو المخبَرُ عنه في المعنى، فَحَذْفُ [ما] (¬1) ذُكر أولى. وأيضاً فحذف الفعل دون فاعله قليلٌ جداً في كلامهم، وقد نصَّ على ذلك سيبويه، وذلك أن الفعل والفاعل كشيء واحد، ولا يجوز أن يحذف بعض الكلمة ويبقى بعضها. قلت: فعلى مذهب سيبويه ومن تبعه الخبرُ في الحديث محذوفٌ، والتقدير: لولا المشقة موجودة، أو كائنة، أو ما أشبهه. الثالثة: الغالبُ دخولُ اللام في الجواب، وكذلك جاء في الحديث: "لأمرْتُهم بالسِّواكِ"، وقد تحذف (¬2)، وعليه بيت الحماسة [من الطويل]: طعنْتُ ابنَ عبدِ القيسِ طعنةَ ثائرٍ ... لها نَفَذٌ لولا الشعاعُ أضاءَهَا (¬3) [أي: لأضاءها] (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "بها"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "يحذف"، والصواب ما أثبت. (¬3) البيت لقيس بن الخطيم الأوسي، كما في "شرح الحماسة" للمرزوقي (1/ 183)، و"المحكم" لابن سيده (1/ 65)، و" الصحاح" للجوهري (3/ 1237)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 181)، (مادة: ش ع ع)، و"تهذيب اللغة" للأزهري (14/ 314)، (مادة: نفذ). (¬4) سقط من "ت".

الرابعة

وقول الآخر [من الطويل]: فلولا رجاءُ النَّصرِ منكَ وخِيفَة ... عِقَابكَ قدْ صارُوا لنا كالموارِدِ (¬1) فـ (قد صاروا) جواب؛ أي: لقد صاروا. الرابعة: الجواب في هذا الحديث مذكور، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأمرتهم"، وقد يحذف في غيره إذا دلَّ عليه السياق؛ كقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10]، الجواب محذوف تقديره: لهلكتم، أو ما يقاربه، وإذا طال الكلام فالحذف يحسُن، وهو كثير في الكلام، قال بعضُهم: وأحسنُهُ مع الطول. الخامسة: الألف واللام في (السواك): الأظهرُ منها أنها لتعريفِ الحقيقة، ولا يجوز أن تكون للعموم الاستغراقي، وأما كونها للعهد فيحتمل؛ لأن السواك كان معهوداً لهم على هيئات وكيفيات، فيحتمل العَودُ إليها، والأقرب الأول. * * * * الوجه الخامس: في الفوائد [والمباحث] (¬2)، وفيه مسائل: الأولى: يدل على استحباب مطلق السواك؛ لأنه دال على استحباب المقيد، والدال على المقيد دال على المطلق، ولا أعني ¬

_ (¬1) ذكره سيبويه في "الكتاب" (1/ 189) ولم ينسبه، وعنده: "ورهبة" بدل و"خيفة". (¬2) زيادة من "ت".

الثانية

بالمطلق: العامَ، فإن الفقهاء قد يستعملونه في ذلك المعنى. الثانية: يدلُّ على الاستحباب مع الوضوء، ووجهُ الدلالة: أنه علَّلَ انتفاء الأمر بوجود المشقة، وهو تعليل بالمانع، والتعليل بالمانع يقتضي قيامَ المقتضي للأمر، وقيامُ المقتضي له يدل على الطلب، و [المنتفي] (¬1) إذا تبيَّن أنه أمرُ الوجوب، فإنما يمنعُ أمرَ الوجوب، ولا يمنع ما اقتضاه المقتضي من الطلب. الثالثة: لما كان الطلب ثابتاً للسواك المطلق، كان طلبه في الحالات المعينة آكدَ، وكان مقتضياً لزيادة الثواب بسبب زيادة رتبة الطلب، والوضوءُ من تلك الحالات. الرابعة: إذا ثبت زيادة التأكيد بالنسبة إلى الحالات المخصوصة، فالمالكية يعدُّون (¬2) السواكَ عند الوضوء من الفضائل، لا من السنن، على أصلهم في الفرق بين السنة والفضيلة (¬3). ولا شكَّ أن رتبَ الفضائل والمستحبات تتفاوت من غير خلاف، إلا أنَّ تخصيصَ بعض الرتب بالسنة، وبعضِها بالفضيلة والمستحب، إن لم يكن ثَمَّ دليلٌ على التأكد، بل على مطلق الاستحباب، فهو جيد، وإن كان ثَمَّ دليلٌ على التأكد، ولم يطلق عليه اسم السنة حتى ينتهيَ إلى رتبة معينة زائدة على ما ثبت، فهذا ليس إلا مجرَّد ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "يدعون"، والمثبت من "ت". (¬3) كما تقدم في الحديث السابق.

الخامسة

اصطلاح، ولا مشاحَّة (¬1)، غير أنه قد يُوهِمُ الامتناعُ من إطلاق السنة عليها عدمَ تأكدها، مع كونه ثابتاً في نفس الأمر، ومثاله: "ركعتَا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها" (¬2)، فقد حصل فيهما التأكد فعلاً وقولاً؛ أما فعلاً ففي المواظبة (¬3)، وأما قولاً فـ "ركعتا الفجرِ خيرٌ من الدنيا وما فيها"، فهذان دليلان على التأكد، فمن امتنعَ من إطلاقِ لفظ السنة عليهما، وجعلهما من المستحبَّات؛ لأنه اشترط في السنة أن يُواظبَ عليها مُظهراً لها، فاعتباره لقيد الإظهار في التسمية بالسنة مع حصول التأكد مُجرَّدُ اصطلاح، وفي إطلاقِ لفظ المستحب عليهما، والامتناعِ من لفظ السنة، ما يوهم قصورَهما عن درجة التأكد، والله أعلم. الخامسة: لما دلَّ على الطلب عند الوضوء، فعند حصول مُسمَّاه يحصل الاستحبابُ، سواء كان المتوضئُ مُريداً للصلاة في الحال، أو لم يكن. السادسة: اختلف أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى - في أن السواك هل يعدُّ من سنن الوضوء؟ ¬

_ (¬1) "ت": "مشاححة". (¬2) رواه مسلم (725)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) روى البخاري (1116)، كتاب: التطوع، باب: تعاهد ركعتي الفجر، ومسلم (724)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد منه تعاهداً على ركعتي الفجر.

فلم يعدَّها كثيرون من سننه، وإن كانت مندوبةً (¬1) في ابتدائه، وعدَّها آخرون من سننه، قال بعضُهم: وهو الوجهُ، ولهذا تقع معتدًّا بها مثاباً عليها إذا نوى مطلق الوضوء، ولو لم تكن معدودة لما اعتدَّ بها بنيَّة الوضوء (¬2). وفائدة هذا الخلاف: أن النية إذا اقترنت بأول سنن الوضوء، وعَزَبَت (¬3) قبل غسل الوجه، ففي صحة الوضوء وجهان (¬4)، فتوقَّفَ وجودُ الخلاف على معرفة ما هو من سنن الوضوء لتنبني عليه الصحةُ على وجه، فإذا قلنا: إن السواك من سننه، فنُوِيَ عنده، ثم عزبت النية، جاء الوجه القائل بالصحة، وإذا قلنا: ليس من سننه، لم يجئ ذلك (¬5) الوجه. ولقائل أن يقول: إما أن يكون لابتداء الوضوء خصوصية في استحباب السواك، أو لا. فإن لم يكن، فكيف يُعَدُّ من مندوباته؛ أعني: بخصوصه، وحالتُه وحالةُ غيره سواء حينئذ، فلا اختصاص؟ وإن كان له خصوصية بالنسبة إليه، فالامتناع من تسميته سنةً مع ¬

_ (¬1) في الأصل: "كان مندوبًا"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 338). (¬3) أي: غابت. (¬4) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 248). (¬5) "ت": "هذا".

السابعة

ثبوت الخصوصية في الندبية، نازعٌ إلى مذهب المالكية في تخصيص التعيين - أعني: السنة والمندوب أو المستحبّ - بالترتيب في الفضيلة، والله أعلم. السابعة: الأصلُ أن يُعتبر في الحكم [كلُّ] (¬1) ما تعلق به من الأوصاف التي رتب الحكم عليها، وقد دل الحديث على تعلق الطلب بالسواك مع الوضوء، فيُعتبر هذا الوصف، ويعتقد أن له خصوصية به بظاهر اللفظ، ويمنع ذلك من القول باستواء حالته وحالة عدمه. وذكر أبو عمر بن عبد البرّ، عن الأوزاعي أنه قال: أدركت أهلَ العلم يحافظون على السواك مع وضوء الصبح والظهر، وكانوا يستحبّونه مع كل وضوء، وكانوا أشدَّ محافظة عليه عند هاتين الصلاتين. وذكر عنه أيضاً أنه قال: السواك شطر الوضوء (¬2). الثامنة: يُستدَلُّ به لمن يرى عمومَ الاستحباب بالنسبة إلى الأوقات، والشافعيُّ وغيره - رحمهم الله - لا يرونه (¬3) للصائم بعد الزوال (¬4) (¬5)، وغيرُه بخلاف ذلك، ووجهُ الدليل منه، وهو: أنَّ صيغة ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (7/ 200). (¬3) في الأصل: "يرو"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "ذلك" والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 13)، و"الوسيط" للغزالي (1/ 279). قال النووي في "شرح المهذب" (1/ 340 - 341): نصَّ عليه الشافعي =

التاسعة

العموم، وهي كلمة (كلّ)، تدلُّ على تناول الاستحباب لكل ما يسمى وضوءاً، ومن جملة الأفراد الوضوءُ الواقع بعد (¬1) الزوال، فيتناوله الاستحباب، وهذا ظاهرُ الدَّلالة، ومن يكره السواك بعد الزوال، فلا بدَّ له من دليل التخصيص، وسنتكلم عليه في الباب بعد هذا - إن شاء الله تعالى - عند الكلام على قوله - عليه الصلاة والسلام -: "لَخُلُوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ من ريحِ المسكِ". التاسعة: هو عامّ بالنسبة إلى الوضوءِ الواجب، والوضوءِ المسنون كالمُجَدِّد (¬2)، فيستحبُّ فيه. العاشرة: وهو عامٌّ بالنسبة إلى كل الأمة، فيدخل فيه جميع أصنافهم، ويخرج عنه مَنْ ليس منهم، وهذا يحرك نظراً في أنَّا [إذا] (¬3) قلنا: إنهم (¬4) مخاطبون بالفروع، هل يدخلُ تحتَ الخطابِ المستحباتُ، أو لا؟ ¬

_ = وأطبق عليه أصحابنا، وحكى أبو عيسى الترمذي في "جامعه" في كتاب الصيام عن الشافعي رحمه الله: أنه لم ير بالسواك للصائم بأسًا أول النهار وآخره، وهذا النقل غريب، وإن كان قوياً من حيث الدليل، وبه قال المزني وأكثر العلماء وهو المختار، والمشهور الكراهة. وسواء فيه صوم الفرض والنفل. (¬1) في الأصل: "بين"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "كالمجرد"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) أي: الكفار.

الحادية عشرة

فإن قلنا: إنها تدخل، فمقتضى مفهوم الحديث أن يخرج من هذا الفرد من ليس من الأمة، وإن (¬1) قلنا: لا يدخل، فالخروج ظاهر. الحادية عشرة (¬2): فيدخل فيه الصبيُّ من حيثُ دَلالةُ اللفظ على وجود المصالح المقتضية للطلب، وإذا دخل فيه حصل له فائدة الأمر، وهو الثواب، فيدل على أهليته لذلك؛ كما دلَّ عليه [قولُه] (¬3) - عز وجل - لما قيل له عن الصبي: ألهذا حجٌّ؟ قال: "نعم" (¬4)، والله أعلم. الثانية عشرة: فيجعل أصلاً في أهلية الصبيِّ لخطاب الاستحباب، وأن الممتنعَ في حقه إنما هو خطابُ الوجوب. الثالثة عشرة: ويدخل فيه من يستحقُّ منافعَه كالعبد والأجير، فيؤخذ منه أنه لا يُضيَّقُ عليهم في مثل هذه القُربة؛ لقصر زمانها، ويتعلق به أداء العبد والأجير للرواتب في الفرائض، وهل يُسامح بها، أو لا؟ فيه نظر. الرابعة عشرة: يظهر في تعليل هذا الحكم زيادة التنظف؛ لأجل التهيؤِ للصلاة التي الوضوءُ من شرائطها المتقدمة عليها، أو لحضور الماء للوضوء، فتتيسرُ الاستعانة في زيادة التنظف. ¬

_ (¬1) "ت": "وإذا". (¬2) الأرقام من "الحادية عشرة" إلى "التاسعة عشرة" وردت في "ت" "عشر"، وهو خطأ. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) رواه مسلم (1336)، كتاب: الحج، باب: صحة حج الصبي، وأجر من حج عنه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

الخامسة عشرة

الخامسة عشرة: فيه من الاستدلال على أن الأمرَ للوجوب ما [في] (¬1) قوله - عليه السلام -: "لولا أنْ أشقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ عندَ كلّ صلاةٍ"، وسنذكر ذلك ثَمَّ؛ لأنَّ الأصوليّين استدلوا بذلك اللفظ. السادسة عشرة: قد تقدم معنى المعيَّة، والفقهاءُ يستحبونه في ابتداء الوضوء، وقد قدمنا أنه لا تضييقَ في ذلك، ونعني به ثَمَّ: أنْ لا تضييقَ في معنى المعية، وهاهنا: أن لا تضييق في استحباب المصاحبة للوضوء حقيقة في جملة زمانه، وهو لا شكَّ فيه قطعاً. السابعة عشرة: وقد ذكرنا أنَّ الألف واللام في السواك لتعريف الحقيقة، وأنه (¬2) يمكن أن تكون للعهد؛ لأن السواك كان عندهم معهوداً بهيئات وصفات، فإذا (¬3) ترجَّح حملُه على العهد، فما عُرِفَ كون السواك عليه من الهيئات والصفات (¬4) في ذلك العهد انصرفَ الاستحبابُ إليه، وما لم يُعْرَفْ ترتَّبَ الحكم فيه على المسمى؛ لعدم العلم بالعهد. الثامنة عشرة: فمِمَّا تقتضي (¬5) العادةُ أنَّ السِّواكَ يُستحب (¬6) ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "وأن"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "فإن". (¬4) "ت": "الصفات والهيئات". (¬5) في الأصل: "يقتضي"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل و "ت": "أن السواك كان عليه"، ولعل المراد ما أثبت، فتأمله.

التاسعة عشرة

استعمالُ الآلات فيه؛ كقضبان (¬1) الأشجار، وعود الأراك؛ لأنه العادة فيه، وقد استحبَّه الشافعية بقضبان الأشجار، [لا على سبيل الاشتراط، ولكنها أولى من غيرها، قيل: وأولاها الأراك] (¬2) (¬3). [التاسعة عشرة: لا يختص عند الشافعية بقضبان الأشجار] (¬4)، وقالوا - أو من قال منهم -: أصلُ السنة يتأدَّى بكل خشن لإزالة القَلَح؛ كالخِرقة الخَشِنة، ونحوهما (¬5). وهذا كانَّه أُخذ من المعنى، فيكون قياساً، ولا يبعد أن يُطلق (¬6) عليه اسم السواك، لكنه خلافُ المعتاد، والله أعلم. العشرون: اختلفوا في الاستياك بالإصبع الخشنة، وللشافعية فيه وجوه ثلاثة: ثالثها: أنه إن قدر على العود ونحوه لا يُجزئ، وإلا فيجزئ؛ لمكان العذر (¬7). وقد علم أنه يحصل المقصود عند حصول المسمى، فإن كان ¬

_ (¬1) في الأصل: "كقضاب"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 277). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "المهذب" للشيرازي (11/ 14). (¬6) "ت": "ينطلق". (¬7) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 347 - 348)، و"روضة الطالبين" له (1/ 56).

الحادية والعشرون

الاستياك بالإصبع يسمى سواكاً، وجب أن يُكتفى به؛ لدخوله تحت اللفظ. وادَّعى بعضُهم: أنه لا يُسمى استياكاً، ووجَّهَ به القول بعدم الإجزاء، فإن صحَّ ذلك خرج عن اللفظ، لكن قد ذكر أبو عمر بن عبد البر: أنَّ طائفة من العلماء قالت: إن الإصبع تغني عن (¬1) السواك، قال: وتأوَّل (¬2) بعضُهم في الحديث المرويّ: "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يشوصُ فاهُ بالسّواكِ" (¬3): أنه كان يَدْلِك أسنانَه بإصبعه، ويستجزئ بذلك من السواك، والله أعلم (¬4). قلت: هذا قد يقتضي المنازعة في أنَّ الاستياك بالإصبع لا يسمى سواكاً كما ادَّعَى من حكينا عنه من الشافعية، وأما تأويله بما ذكر للحديث المروي: "كانَ يشوصُ فاه بالسواك": أنه كان يدلك فاه بإصبعه، فليس عليه دليل أصلاً، ولا يمكن أن يُؤخذَ إلا بنقل، وأما من جهة اللفظ، فلا. الحادية والعشرون: قال أبو عمر بن عبد البر في كلامه على الحديث: وفيه أيضاً دليل على فضل التيسير في أمور الديانة، وأن ما يشقُّ منها مكروه، قال الله - عز وجل -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا ¬

_ (¬1) في الأصل "من"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "تأوله"، والمثبت من "ت". (¬3) سيأتي تخريجه، وهو الحديث الخامس من هذا الباب. (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (7/ 202).

الثانية والعشرون

يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ألا ترى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُخَيَّرْ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، [فإن كان إثماً] (¬1) كان أبعدَ الناس منه (¬2)؟! الثانية والعشرون: أخذ القاضي أبو الوليد الباجي من قوله - عليه السلام -: "لولا أنْ أشقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسِّواكِ": أنَّ للني - صلى الله عليه وسلم - الأمرَ بالأحكام وإيجابَها، وأنَّ ذلك مصروف إلى اجتهاده، ولولا ذلك لم يمنعه الإشفاق على أمَّته من أن يُوجبَ عليها السواك لأجل المشقة، إن كان الباري تعالى قد أمرَه به وأوَجبه، ولو لم يكن الباري أمره وأوجبه لم يكن إيجابُه - وإن لم يكن في ذلك مشقة - على أمته (¬3). الثالثة والعشرون: وقال في حديث أبي هريرة: "لولا أن يشقَّ على أمَّتِه لأمرهُمْ بالسواك مع كلّ وضوءٍ": امتنع لأجل المشقة، فهذا يثبت بهذا الحديث، ويثبت بحديث الأعرج (¬4) الامتناعُ من الأمر على وجه الوجوب في الجملة؛ لأجل المشقَّة (¬5)، والله أعلم، وهو الموفق للصواب. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه البخاري (6404)، كتاب: الحدود، باب: إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، ومسلم (2327)،كتاب: الفضائل، باب: مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) انظر: "المنتقى في شرح الموطأ" للباجي (1/ 130). (¬4) وهو الحديث الرابع من هذا الباب. (¬5) انظر: "المنتقى في شرح الموطأ" للباجي (1/ 130).

الرابعة والعشرون

الرابعة والعشرون: فيه إشفاقُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أمته، ورفقُه بهم، وحرصُه على التخفيف عنهم، والمراعاة لما يشق عليهم. الخامسة والعشرون: قد تقدَّم لنا أن السواك ينطلق على الفعل وعلى الآلة، وهو هاهنا محمول على الفعل. السادسة والعشرون: وتقدم أن المسمى يُكتفى به في تأدية المطلوب، فإن دلَّ [دليل] (¬1) على استحباب أمر زائد؛ كما استحب الشافعية أن يكون عرضاً (¬2)، فذاك بأمر من خارج لا من الحديث، إلا أن تحمل الألف واللام على العهد، ويثبت عها في ذلك، ويبعد ثبوت مثل هذا. وذكر إمامُ الحرمين من الشافعية: يُمِرُّ السواكَ على طول الأسنان وعرضها، فإن اقتصر على إحدى الجهتين فالعرض أولى. وذكر غيرُه: أنه يستاك في عرض الأسنان، ولم يذكر طولها (¬3). وعلى الجملة فالمأخوذ من الحديث اعتبارُ المسمَّى، وما عدا ذلك يؤخذ من أمر خارج، ولا يتأتَّى ردُّه إلى الحديث إلا بتكلف، وليس يتعذَّر على المتكلفين. السابعة والعشرون: ومن هذا القَبيل صفة العود الذي يستاك به، واستحباب الشافعية لأنْ يكونَ بيابس قد لُيِّن (¬4) بالماء دون ما لم يُليَّن، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 13). (¬3) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 346 - 347). (¬4) "ت": "ندي".

الثامنة والعشرون

فإنه يقرِّح اللِّثَة، [و] (¬1) دون الرطب فإنه لا ينقي اللزوجة (¬2). والمالكية يقول بعضهم: الأخضر لغير الصائم أحسن (¬3). وذلك أيضاً خارجٌ عن اللفظ الذي في الحديث، وليس في الحديث ما يدل على طلب الاستحباب في هذه الكيفيات، وإنما تؤخذ من دلائل أخر، وإنما (¬4) الذي يقتضيه اللفظُ الاكتفاءُ (¬5) بالمسمى؛ كما قلنا. الثامنة والعشرون: هذه الدلائل الخارجة عن اللفظ قد تُعارَضُ بها دَلالةُ اللفظ، ويقال بعدم اعتبارها، إلا أنَّ (¬6) ما كان من تلك الأدلة قوياً يرجعُ إلى القواعد الشرعية، ويكون في حيِّز المعارض الراجح، فهو مُقدَّم على الإطلاق؛ لأن الإطلاقَ بالنسبة إلى المعارضات والموانع التي لا تقصد باللفظ أضعفُ في الاعتبار من المعارض القوي، والعمل بأقوى الأدلة متعين. التاسعة والعشرون: فيكون من هذا استياكُ الصائم بما يخاف منه التحلل، والوصول إلى الجوف؛ لأن الاحتياط على الصوم أمرٌ معلوم ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 370). (¬3) انظر: "المدونة الكبرى" (1/ 201)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 265). (¬4) "ت": "وأما". (¬5) "ت": "في الاكتفاء". (¬6) في الأصل: "الألف"، والمثبت من "ت".

الثلاثون

في الشرع، قال - صلى الله عليه وسلم -: "وبالغْ في الاستنشاقِ إلا أن تكونَ صائماً" (¬1). ومنه الاستياك بما يُؤذي؛ لأن الاحتراز من المؤذيات من القواعد المعلومة. الثلاثون: كره بعضُهم الاستياكَ بالريحان والقصب (¬2)، فعلى هذا إذا ثبت ذلك يكون تقييداً لمطلق الحديث. الحادية والثلاثون: قال الحافظ أبو عمر: [وٍ] (¬3) كره جماعةٌ من أهل العلم السواكَ الذي يغير الفم ويصبغه؛ لما فيه من التشبه بزينة النساء. يعني (¬4): والسواكُ المندوبُ إليه هو المعروف عند العرب، وفي عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك (¬5) الأراك، وكل ما يجلو الأسنان، إذا لم يكن فيه صبغ ولون، فهو مثل ذلك، ما خلا الريحانَ والقصبَ فإنهما يُكرهان (¬6). قلت: هذا يُشعر بما قدمته من حمل الألف واللام في السواك على العهد، أعني: قولَ أبي عمر. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه مفصلاً في باب الوضوء، وهو من رواية لقيط بن صبرة - رضي الله عنه -، كما أخرجه النسائي والترمذي وغيرهما. (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (7/ 202). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) كذا في الأصل "ت". (¬5) في الأصل و "ت": "وذلك". (¬6) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (7/ 201 - 202).

الثانية والثلاثون

الثانية والثلاثون: فيه من الاستدلال على عدم وجوب السواك في هذه الحالات ما في قوله - عليه السلام -: "لولا أنْ أشقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ"، وسيأتي الكلام عليه إن شاء اللهُ تعالى. * * *

الحديث الرابع

الحديث الرابع روى مالكٌ، عن أبي الزِّناد، عن الأَعْرجِ، عن أبي هريرةَ: أن (¬1) رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْلا أنْ أشقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) في المطبوع من "الإلمام" (1/ 59)، وكذا النسخة الخطية لكتاب "الإلمام" (ق 4 / بـ) بخط ابن عبد الهادي: "قال" بدل "أن". (¬2) * تخريج الحديث: رواه البخاري (847)، كتاب الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة، والنسائي (7)؛ كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في السواك بالعشي للصائم، من طريق الإمام مالك، به. وقد رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 66) إلا أنه لم يزد عليه قوله: "عند كل صلاة". قال ابن منده: هذا حديث مجمع على صحته من هذا الوجه. ورواه مسلم (252)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، من طريق سفيان، عن أبي الزناد، به. قال ابن منده: هذا الحديث مجمع على صحته، ورواه جماعة عن أبي الزناد. قلت: وللحديث طرق أخرى كثيرة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وله روايات أخرى عن غير واحد من الصحابة - رضي الله عنه -، وسيأتي تخريج بعضها. وانظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 357) وما بعدها.

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف بمن ذكر فيه: أما أبو الزناد: فقال أبو عمر الحافظ: أبو الزناد لقب غَلَب عليه، وكنيته أبو عبد الرحمن، لا يختلفون في ذلك، وهو عبد الله بن ذَكْوان، وذكوان أبوه مولى رَمْلة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وكانت رملةُ هذه تحتَ عثمان بن عفان، وقيل: هو مولى عائشة بنت عثمان، [وقيل: مولى عثمان] (¬1). ويقال: إنَّ ذكوان أبا أبي الزناد كان أخا أبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب بولادة (¬2) [العجم] (¬3)؛ هكذا قال الواقدي، ومصعب الزبيري، والطبري. وذكر أبو عمر بإسناده إلى أبي مسلم صالح بن أحمد بن عبد الله ابن صالح قال: قال أبي (¬4): أبو الزناد من رهط أبي لؤلؤة، وكانت بينهم قرابة، قال: وكان أحدَ مفتي المدينة. وروى أيضاً عن مصعب بن عبد الله قال: كان أبو الزناد فقيهَ أهل المدينة، وكان صاحب كتاب وحساب، وكان كاتباً لعبد الحميد بن ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل و "ت": "ولادة"، والتصويب من "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 5). (¬3) سقط من الأصل. (¬4) "ت": "لي" بدل "أبي".

عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكاتباً أيضاً لخالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بالمدينة. قال: وقدِمَ على هشام بن عبد الملك بحساب ديوان المدينة، فجاء هشاماً مع ابن شهاب، فسأل هشامُ ابنَ شهاب: في أيِّ شهر كان عثمانُ يخرج العطاءَ فيه لأهل المدينة، فقال: لا أدري، قال (¬1) أبو الزناد: [و] (¬2) كنا نرى أن ابن شهاب لا يُسأل عن شيء إلا وُجد عنده [علمُه] (¬3). قال أبو الزناد: فسألني هشامٌ، فقلت: في المحرَّم، فقال هشام لابن شهاب: يا أبا بكر، هذا علمٌ قد أُفِدْتَه اليوم، قال ابن شهاب: مجلسُ أمير المؤمنين أهلٌ أن يُفاد منه العلمُ. قال مصعب: وكان أبو الزناد معادياً لربيعةَ بن أبي عبد الرحمن، وكانا فقيهي أهل المدينة في زمانهما. قال أبو عمر: وذكر الحلواني في كتاب "المعرفة"، عن ابن أبي مريم، عن الليث، عن عبد ربه بن سعيد قال: رأيت أبا الزناد دخل مسجدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه من الأتباع مثلُ ما مع السلطان؛ من بين سائلٍ عن حديث، وبينِ سائل عن فقه، وبين سائل عن فريضة، وبين سائل عن شعر. قال: وثنا علي بن المديني [قال] (¬4): ثنا سفيان بن عيينة قال: ¬

_ (¬1) "ت": "فقال" (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت".

سألت سفيان الثوري، قلت: كيف (¬1) رأيتَ أبا (¬2) الزناد؟ قال: أوَ كان ثَمَّ أمير غيرُه! (¬3) وروى أبو عمر بإسناده عن أبي زرعة - وهو: الدمشقي - قال: سمعتُ أحمدَ بن حنبل يقول: أبو الزناد أعلم من ربيعة، فقلت لأحمد: حديث ربيعةَ كيف هو؟ قال: ثقة، وأبو الزناد أعلم منه. وروى أيضاً بإسناده عن أحمد بن زهير قال: ثنا سليمان بن أبي شيخ قال: ولَّى عمر بن عبد العزيز أبا الزناد بيتَ مَالِ الكُوفة. وذكر أيضاً عن أحمد بن زهير قال: حدثني أبي: ثنا ابن عيينة، عن ابن شُبْرُمة (¬4) قال: كان الشعبي يقول لأبي الزناد: جئت بها زُيوفاً، وتذهبُ بها جياداً. وقال المدائني: كان خالد بن عبد الملك بن الحارث قد ولَّى أبا الزناد المدينة، فقال علي بن الجون (¬5) الغطفاني [من الوافر]: رأيتُ الخيرَ عاشَ لنا فعِشْنَا ... وأحياني مكانُ أبي الزنادِ وسارَ بسيرةِ العُمرينِ فينا ... بعدلٍ في الحكومةِ واقتصادِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "كنت"، والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "أبي"، والتصويب من "ت". (¬3) في الأصل و "ت": "كأن أميراً غيره"، والمثبت من المطبوع من "التمهيد". (¬4) في الأصل: "ابن أبي شبرمة"، والتصويب من "ت". (¬5) في الأصل و "ت": "الجعد"، والصواب ما أثبت.

قال الواقدي: سمعتُ مالك بن أنس يقول: كانت لأبي الزناد حلقة على حِدَةٍ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الواقدي: مات أبو الزناد فجأة في مغتسله، ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، سنة ثلاثين ومئة، وهو ابن ست (¬1) وستين. [وقيل: توفي أبو الزناد سنةَ إحدى وثلاثين ومئة، وهو ابن أربع وستين] (¬2). وقال الطبري: كان أبو الزناد ثقةً، كثيرَ الحديث، فصيحاً، بصيراً بالعربية، كاتباً، حاسباً، فقيهاً، عالماً، عاقلاً، وقد ولي [خراج] (¬3) المدينة. قلت: ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة، وذكر ولاءه لرملة بنت شيبة، وقال: أخبرني ابن عمر قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد: أن عمرَ بن عبد العزيز ولَّى أبا الزناد خراجَ العراق مع عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فقدم الكوفة، وكان حمَّاد بن أبي سليمان صديقاً لأبي الزناد، فكان يأتيه ويحادثه، وشغل أبو الزناد ابنَ أخي حماد بن أبي سليمان في شيء من عمله (¬4)، فأصاب عشرة آلاف درهم، فأتاه حماد يشكر له. ¬

_ (¬1) في الأصل "أربع"، والتصويب من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل و "ت": "علمه"، والتصويب من "الطبقات الكبرى" لابن سعد.

وقال: أنبأ محمد بن عمر قال: أخبرني من رأى عبد الله بن حسن وداود بن حسن يجلسان إلى أبي الزناد [في] (¬1) حلقته. قال: وسألت محمد بن عمر عن السبعة الذين كان أبو الزناد إذا حدث عنهم يقول: حدثني السبعة، فقال: سعيد بن المسيب، وعروة ابن الزبير، وأبو بكر [بن] (¬2) عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة ابن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار (¬3). وأما الأعرج: فهو عبد الرحمن بن هُرْمُز، [أبو داود المدني. قال ابن يونس في "تاريخ الغرباء" (¬4): عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (ص: 318 - القسم المتمم)، "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 5). وانظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 83)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 49)، "الثقات" لابن حبان (7/ 6)، "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 45)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (28/ 44)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 515) "تهذيب الكمال" للمزي (14/ 476)، "سير أعلام النبلاء" (5/ 445)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 134)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 178)، "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 61). (¬4) للمحدث والمؤرخ المصري أبي سعيد عبد الرحمن بن أبي الحسن بن يونس بن عبد الأعلى، المعروف بابن يونس والمتوفى سنة (347 هـ) =

هرمز] (¬1) الأعرج، مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، يكنى أبا داود، مدني، روى عن أبي هريرة، قدم مصر، وخرج إلى الإسكندرية. روى عنه جعفرُ بن ربيعة، [وسعيد] (¬2) بن سويد القتباني (¬3)، وغير هما. توفي بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومئة. وقال محمد بن سعد في "الطبقات": عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ويكنى أبا داود، مولى محمد بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، روى عن عبد الله بن بُحَينة، وأبي هريرة، وعبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ. قال ابن سعد: ثنا محمد بن عمر [قال] (¬4): ثنا أبو بكر بن عبد الله ابن أبي سَبُرة، عن عثمان بن عبيد الله بن [أبي] رافع قال: رأيت مَنْ يَقرأ على الأعرج حديثَهُ عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: هذا حديثك يا أبا داود؟ قال: نعم، قال: فأقول: حدثني عبد الرحمن، ¬

_ = تاريخان لمصر: أحدهما وهو الأكبر يختص بالمصريين، والآخر وهو صغير يشتمل على ذكر الغرباء الواردين على مصر. وقد ذيلهما أبو القاسم يحيى بن علي الحضرمي، وبنى عليهما. انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 137). (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "القتناني"، والتصويب من "ت". (¬4) سقط من "ت".

الوجه الثاني: في تصحيحه

وقد قرأتُ عليك، قال: نعم، قل (¬1): حدثني عبد الرحمن بن هرمز. وقال أيضاً: ثنا محمد بن عمر: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، وعن عبد الله بن الفضل قالا: خرج عبد الرحمن بن هرمز إلى الإسكندرية، فأقام بها حتى توفي بها سنة سبع عشرة ومئة، وكان ثقة كثير الحديث. قلت: وقبره إلى الآن معروف بالإسكندرية. وقد اتفق الأئمة أصحاب التصانيف المشهورة الستة على إخراج حديثه في كتبهم (¬2). * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: اختلف الرواة عن مالك في لفظ حديث أبي الزناد هذا؛ فأما يحيى بن يحيى الأندلسي راوي "الموطأ" عنه فإن لفظ متنه عنده: ¬

_ (¬1) "ت": "قال". (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (ص: 5/ 283)، "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 360)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 297)، "الثقات" لابن حبان (5/ 107)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (36/ 23)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 284) "تهذيب الكمال" للمزي (17/ 476)، "سير أعلام النبلاء" (5/ 69)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 79)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 260)، "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 45).

"لَولا أنْ أشقَّ على أمَّتي لأمرتُهُم بالسواكِ"، ولم يزد على ذلك قولَه: "عندَ كلّ صلاة" (¬1). قال أبو عمر عقب (¬2) إيراده هذا الحديث: هكذا قال يحيى في هذا الحديث: "لولا أن أَشُقَّ على أمتي"، لم يزد، وتابعه جماعة من رواة الموطأ على ذلك. وقال بعضُهم فيه: "لولا أن أشقَّ على أمَّتي، أو على النَّاس"، وقال فيه آخرون عن مالك: "لولا أن أشق على المؤمنين - أو على الناس - لأمرتهم بالسّواك"؛ قاله القَعْنَبِيّ، وعبد الله بن يوسف، وأيوب بن صالح. وقال فيه قتيبة: "عند كل صلاة"، ولم يقل: "على الناس". كلُّ هذا قد رُوي عن مالك في حديث أبي الزناد. ثم أخرج أبو عمر بسنده إلى أيوب بن صالح، ومالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشقَّ على أمتي - أو على الناس (¬3) - لأمرتهم بالسواك". قال: وقال ابن عيينة في هذا الحديث، عن أبي الزناد، [عن الأعرج]، (¬4)، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بتأخيرِ العشاءِ، والسواكِ مع كلِّ صلاةٍ". ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه قريباً. (¬2) في الأصل: "عقيب"، والتصويب من "ت". (¬3) "ت": "المؤمنين" بدل "الناس"، وفي المطبوع من "التمهيد": "لولا أن أشق على الناس أو على المؤمنين". (¬4) زيادة من "ت"

وقال فيه سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشقَّ على أمتي [لأمرتهم] (¬1) بالسواكِ مع كلِّ وضوءٍ" (¬2). قلت: حديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، انفرد به البخاري عن مسلم، فرواه في كتاب الصلاة عن عبد الله بن يوسف: أنبأ مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسواكِ مع كلِّ صلاةٍ" (¬3)، وهذا يخالف ما ذكرناه عن أبي عمر أن رواية عبد الله ابن يوسف: "لولا أن أشقَّ على المؤمنين - أو على الناس - لأمرتُهم بالسواكِ". ورواية قتيبة بن سعيد عن مالك، أخرجها النسائي عنه بالسند المذكور: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أنْ أشقَّ على المؤمنين (¬4) لأمرتهم بالسواكِ [عندَ كلِّ صلاةٍ] (¬5) "؛ [هكذا عندنا في "السنن". ورواها - الغافقي عن حمزة بن محمد الكناني، عن أحمد بن شعيب، وهو النسائي، عن قتيبة، عن مالك بالسند المذكور؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 299 - 300). (¬3) وتقدم تخريجه قريباً. (¬4) "ت": "الناس" بدل "المؤمنين" وفي المطبوع من "سنن النسائي": "على أمتي". (¬5) زيادة من "ت".

قال: "لولا أن أشقَّ على المؤمنينَ لأمرتُهم بالسواكِ" (¬1)] (¬2). قال الغافقي: وفي رواية أبي مصعب، وابن بُكَير: "لولا أنْ أَشُقَّ على أمتي، أو على الناس"، وفي رواية ابن القاسم، وابن عُفير: "على أمتي، أو على الناس"، وفي رواية يحيى بن يحيى الأندلسي: "على أمتي"، وليس [هذا] (¬3) عند القعنبي. قلت: ظاهر قوله: إنَّ هذا الحديث ليس عند القعنبي، وقد ذكر أبو عمر ما قدمنا حكايتَه عن القعنبي فيما رواه عن مالك. وأما رواية سفيان التي ذكرها أبو عمر فإن مسلماً أخرجَها في "صحيحه"، عن قتيبة بن سعيد، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب قالوا (¬4): ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشقَّ على المؤمنين (وفي حديث زهير: على أمتي) لأمرتهم بالسواك عند كلِّ صلاة" (¬5). ورواها أبو داود في "سننه" عن قتيبة بن سعيد، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يرفعه قال: "لولا أن أشقَّ على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء، والسواك عند كل صلاة" (¬6). ¬

_ (¬1) كذا رواه النسائي في "السنن الكبرى" (6). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل و "ت": "قال". (¬5) تقدم تخريجه قريباً برقم (252) عنده. (¬6) رواه أبو داود (46)، كتاب: الطهارة، باب: السواك. ورواه ابن ماجه =

الوجه الثالث: في المفردات

وروى الترمذي من حديث زيد بن خالد الجهني قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسِّواك عند كلّ صلاة ... " الحديث، [وقال] (¬1): هذا حديث حسن [صحيح] (¬2) (¬3). * * * * الوجه الثالث: في المفردات: وقد تقدمت في الحديث قبله. * * * * الوجه الرابع: من روى: "لولا أنْ أشقَّ على المؤمنينَ" فصفةُ الإيمان مناسبة للتخفيف، ومن روى: "على أمتي" فهي (¬4) أَدْخَلُ في هذا الباب، لأن أمته محمولةٌ هاهنا على المؤمنين، ففيها ما في رواية المؤمنين وزيادةٌ تُوجبها الإضافةُ المقتضية للاختصاص به - صلى الله عليه وسلم - المناسبةُ للتخفيف. * * * * الوجه الخامس: في المباحث والفوائد: وقد اشترك هذا الحديث مع الذي قبله في كثير منها، والذي ¬

_ = (690)، كتاب: الصلاة، باب: وقت صلاة العشاء، من طريق هشام بن عمار، عن سفيان، به. (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه الترمذي (23)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في السواك. وكذا أبو داود (47)، كتاب: الطهارة، باب: السواك. (¬4) "ت": "فهو".

الأولى

نذكره في هذا مسائل: الأولى: يدلُّ على استحباب السواك عند كل صلاة، وهي إحدى الأماكن التي يُسْتَحب فيها السواك، ووجهُ الدليل منه كوجه الدليل من الذي قبله، وهو أنه يدل على أنّ المقتضيَ للأمر به عند كل صلاة موجودٌ، وإنما تُرك لأجل المشقة، وذلك كافٍ في الدلالة على الاستحباب. الثانية: [و] (¬1) يدل على استحباب مطلق السواك كما تقدم. الثالثة: علة هذا الأمر بتطييب الأفواه لقراءة القرآن والمناجاة في الصلاة، وقد ورد ما يقتضي أن ذلك لأجل المَلَك (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) روى البزار في "مسنده" (603) من حديث علي - رضي الله عنه - أنه أمر بالسواك، وقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي، قام الملك خلفه فتسمع لقراءته فيدنو منه، أو كلمة نحوها، حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك، فطهروا أفواهكم للقرآن". قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي - رضي الله عنه - بإسناد أحسن من هذا الإسناد، وقد رواه غير واحد عن علي موقوفاً. قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 102): رواه البراز بإسناد لا بأس به. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 99): رجاله ثقات. قلت: رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4184)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 38)، وفي "شعب الإيمان" (2116)، والضياء المقدسي في "المختارة" (2/ 197)، عن علي - رضي الله عنه - موقوفاً. وذكر المنذري في"الترغيب والترهيب" (1/ 102): أن الموقوف أشبه. =

الرابعة

الرابعة: استُدلَّ به في أصول الفقه على أن الأمر للوجوب، ووجه الدليل منه: أن كلمة (لولا) كما ذكرنا تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره، فدلَّ (¬1) على انتفاء الأمر لوجود المشقة، ولو كان الأمر للندب لم ينتفِ لأجل المشقة؛ لأنَّ الاستحباب ثابت، فالأمر الدال عليه ثابت على ذلك التقدير، لكنه منتفٍ لمقتضى لفظة (لولا)، والمنتفي هو الوجوب، فالأمر الدال على الوجوب منتفٍ، فالأمر للوجوب، واعتُرِضَ عليه من وجهين: أحدهما: تقريرُه: أنَّ ذلك إنما يصح على تقدير أن يكون استحباب السواك عند كل صلاة ثابتاً عند تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ، ولا نسلمه؛ لجواز أن يكون الندبُ ثابتاً بعد ذلك، فلا يلزم ما ذكرتموه من انتفاء اللازم الذي ادَّعيتموه، وهو أنه لو كان الأمرُ للندب لما انتفى عند وجود المشقة؛ لثبوت الاستحباب، ولكنه منتف بصيغة (لولا)، فنقول: لا نسلِّم أن الاستحبابَ ثابت حينئذٍ. والوجه الثاني: أن فيه [ما يدل] (¬2) على أنه أراد بالأمر الوجوبَ، ¬

_ = قلت: جاء الحديث عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعاً، كما رواه أبو نعيم في "السواك" بإسناد رجاله موثقون، وروى أيضًاَ بإسناد صحيح عن الزهري مرسلاً، نحو حديث علي - رضي الله عنه -. وانظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 371 - 372). (¬1) "ت": "فتدل". (¬2) سقط من "ت".

بدليل أنه قرر (¬1) به المشقة، والمشقة لا تكون إلا في فعل الواجب؛ لكونه متحتِّماً، بخلاف المندوب؛ لكونه في محل الخِيَرة بين الفعل والترك، ولا يمتنع صرف الأمر للوجوب لقرينة، ودخول حرف (لولا) على مطلق الأمر لا يمنع من هذا التأويل (¬2). والجواب عن السؤال الأول يظهر مما قدمناه من أن اللفظ بنفسه يدل على وجود المقتضي للأمر لولا المشقة حينئذ، ووجود المقتضي للأمر كاف في الاستحباب، فيكون الاستحباب ثابتاً حينئذ، فإنه لو صُرِّح وقيل: لولا وجود المشقة لوجب السواك عند كل صلاة، [لكان ذلك دالاً على طلب السواك عند كل صلاة] (¬3)؛ لِما ذكرناه من دلالته على وجود المقتضي، وانتفاء الوجوب بحصول المشقة لا ينافي هذه الدلالة على وجود المقتضي لولا المشقة، فإن المشقة إنما تعارض الوجوب والتحتم. وعن الثاني: أنَّ المسمى مطلقُ الأمر، أو الأمر المطلق، وكون المشقة دالة على الوجوب لا يمنع من كون المطلق للوجوب، والتقييدُ خلافُ الأصل. ¬

_ (¬1) "ت": "قرن". (¬2) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 210)، و"المحصول" للرازي (2/ 108 - 109)، و"الإحكام" للآمدي (2/ 166)، و"شرح مختصر ابن الحاجب للأصفهاني" (2/ 19)، و"البحر المحيط" للزركشي (1/ 380). (¬3) سقط من "ت".

الخامسة

الخامسة: الذي يقتضي (¬1) نقلُ الماوردي عن داود بن عليّ: [أن] (¬2) السواكَ واجبٌ للصلاة. قال [في صحة الصَّلاة] (¬3): وقال داود بن عليّ: السواك واجب، لكن لا يقدح تركُه في صحة الصَّلاة. قال: وقال إسحاق بن راهويه: السواك واجب، فإن تَرَكَه عامدًا بطلت صلاتُه، وإن تَرَكَه ناسياً لم تبطل (¬4). قال بُعض الشارحين (¬5): فيه دليلٌ على أن السواك ليس بواجب، قال الشافعي رحمه الله: لو كان واجبًا لأمرهم به؛ شقَّ، أو لم يشقَّ. أورده هذا الشارح عقيبَ ذكرِه قولَه - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لولا أنْ أشقَّ على المؤمنينَ - أو على أمتي - لأمرتُهم بالسواكِ عندَ كل صلاةٍ". وأقول: لا يتم هذا الاستدلالُ على ما ذكره من أن السواك ليس بواجب مطلقًا، وإنَّما يدل - إن تمَّ - على أنه ليس بواجب عند كل صلاة، ولا يلزم من انتفاءِ وجوبه عند كلِّ صلاة انتفاءُ وجويه مطلقًا؛ لأنَّ نفيَ الخاص لا يلزم منه نفيُ العام، وإنَّما يمكن الاستدلالُ به على نفي الوجوب مطلقًا على رواية يَحْيَى بن يَحْيَى التي لم يزدْ فيها على قوله: "لأمرتُهم بالسواكِ". ¬

_ (¬1) "ت": "يقتضيه". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 83). (¬5) هو الإمام النووي، كما في "شرح مسلم" له (3/ 143).

السادسة

السادسة: قال هذا الشارح: وقال جماعة أيضاً: فيه دليل على أن المندوب ليس مأموراً به، قال: وهذا فيه خلاف لأصحاب الأصول، ويقال في هذا الاستدلال ما قدمناه في الاستدلال على الوجوب، والله أعلم (¬1). قلت: والذي كان قدَّمه ثَمَّ: أنه يحتاج في تمامه إلى دليل على أن السواك (¬2) كان مسنوناً حالةَ قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لولا أنْ أشقَّ على أمَّتي لأمرتُهم". وقد كان ذكر في الأمر للوجوب: أنه مذهبُ أكثرِ الفقهاء، وجماعاتٍ من المتكلمين، وأصحابِ الأصول (¬3). وأقول: أما من ذهب إلى أن الأمر للندب فلا شكَّ أنه يقول: المندوب مأمور به، وأمَّا من ذهب إلى أن الأمر للوجوب، فعلى مذهبه نقول: المأمور به واجب، فما لا يكون واجباً لا يكون مأموراً به، وعلي هذا هو موافق لقول أصحاب الأصول في اختيار (¬4) كون الأمر للوجوب. السابعة: قال: وفيه دليل على جواز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما لم يردْ فيه نصٌّ من الله تعالى، وهذا مذهب أكثر الفقهاء وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المختار (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 143 - 144). (¬2) في الأصل و "ت": "أن السواك يعني". (¬3) المرجع السابق، (3/ 143). (¬4) في الأصل: "الاختيار"، والمثبت من "ت". (¬5) المرجع السابق، (3/ 144)

قلت: قد ذكر هذا المعنى القاضي أبو الوليد الباجي في "المُنتقَى في شرح الموطَّا" (¬1)، غير أن [هذا] (¬2) الشارح قد قدم عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال: لو كان واجبًا لأمرهم به؛ شقَّ، أو لم يشق (¬3). وهذا الكلام يدلُّ على عدم الاجتهاد، وتعيُّن الحكم بالنص؛ لأنَّ الحديث دل على أن المشقة مانعةٌ (¬4) من الأمر؛ أعني: أمره - صلى الله عليه وسلم -، فعلى تقدير تعيين الحكم بالنص لا تكون المشقة مانعة من أمره - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه لو وجب بالنص لأمرَ؛ شقَّ أو لم يشقَّ؛ [كما] (¬5) قال الشافعي - رحمه الله تعالى -، فيكون المانعُ من أمره - صلى الله عليه وسلم - عدمَ ورود النص بالوجوب، لا المشقة. وعلي تقدير جواز الاجتهاد صحَّ أن تكون المشقةُ مانعة من الأمر؛ [لأن الاجتهاد إذا اقتضى أن تكون المشقة مانعة من الوجوب اقتضى ذلك عدمَ الأمر، فتكون المشقة مانعة من الأمر] (¬6)، فمن لوازم كونِ المشقة مانعةً أن يكون الاجتهاد جائزًا، وهذا الملزوم ثابت بالحديث، فثبت جواز الاجتهاد (¬7). ¬

_ (¬1) انظر "المنتقى" له (1/ 130). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) وهو كذلك في "الأم" (1/ 23). (¬4) "ت": "هي المانعة". (¬5) سقط من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 376): وهو كما قال.

الثامنة

الثامنة: وفيه بيان ما كان النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - عليه من الرفق بأمته - صلى الله عليه وسلم - (¬1). التاسعة: يُستدل به على جواز السواك للصائم بعد الزوال كما تقدم في الذي قبله، وقد ترجم عليه النسائيُّ - رحمه الله - في "سننه": الرخصةُ في السواك بالعشيِّ للصائم، وأدخل هذا الحديث عن قتيبة، عن مالك (¬2)، والاستدلالُ به ظاهرٌ؛ لأنَّه يدل على الاستحباب عند كل صلاة، وصيغة ذلك للعموم، فيدخل تحته صلاتا العشي؛ [أعني] (¬3): الظهرَ والعصرَ. العاشرة: ذكر بعضُ المالكية المصنفين: كراهةَ السواك في المسجد (¬4)، وعلته: إدخاله في باب إزالة المستقذرات، والمسجدُ منزَّهٌ عنها. وهذا الحديث - عندي - يدل على خلافه؛ لأنَّ: (عند) للظرفية حقيقة، فيعمل بذلك بقدر الإمكان، فيقتضي استحباب السواك بحضرة كل صلاة وعندها (¬5)، وحينئذ لا يخلو من أن يقال بتقديم السواك على الدخول في المسجد (¬6)، فلا يُوفى بمقتضى لفظة (¬7) ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 144). (¬2) كما تقدم تخريجه في صدر الحديث. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "التاج والإكليل" لابن الفواق (6/ 14). (¬5) نقله العيني في عمدة القاري (6/ 182) عن المؤلف رحمه الله. (¬6) "ت": "للمسجد". (¬7) "ت": "بلفظة" بدل "بمقتضى لفظة".

(عند)، لاسيما مع ما نُدبَ إليه من انتظار الصَّلاة (¬1)، وما عُرف من استحباب البكور إلى المسجد للصلاة (¬2)، وكما دل عليه حديث الرواح إلى الجمعة (¬3). وأما أن يُحافظ على مقتضى لفظة (عند)، فيقتضي ذلك أن يخرجَ من المسجد عند إقامة الصَّلاة؛ لإقامة سنة السواك عند الصَّلاة، وذلك باطل؛ إذ لم يُنقَلْ عن المسلمين أنهم كانوا إذا أُقيمت الصلاةُ خرجوا بأجمعهم عن المسجد إلى أبوابه والطرقِ المتصلةِ به ليستاكوا، ثم يدخلوا المسجد، وأيضًا فقد ثبت النهيُ عن الخروج من المسجد بعد الأذان (¬4). ¬

_ (¬1) روى مسلم (251)، كتاب: الطهارة باب: فضل إسباغ الوضوء على المكاره، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا، وفيه: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة فذلكم الرباط". (¬2) روى البُخاريّ (569)، كتاب: مواقيت الصَّلاة، باب: التبكير بالصلاة في يوم غيم، من حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: بكروا بالصلاة، فإن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يقال: "من ترك صلاة العصر حبط عمله". ورواه ابن حبان في "صحيحه" (1470) وجعل قوله: "بكروا بالصلاة" من المرفوع. (¬3) رواه البُخاريّ (841)، كتاب: الجمعة، باب: فضل الجمعة، ومسلم (850)، كتاب: الجمعة باب: الطيب والسواك يوم الجمعة، من حديث أبي هريرة لأنَّه بلفظ: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ... " الحديث. (¬4) روى مسلم (655)، كتاب: المساجد ومواضع الصَّلاة، باب: النَّهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه رأى رجلًا يجتاز المسجد خارجًا بعد الأذان فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -.

الحادية عشرة

وأمَّا إدخاله في باب إزالة المستقذرات، فإذا لم يحصل التفل في المسجد، ولا البصاق [فيه] (¬1)، عارضنا ذلك بأنه (¬2) عبادةٌ على ما دل عليه الأحاديث، وثبت من استحبابه، والعباداتُ محلُّها المسجدُ، والله أعلم. الحادية عشرة: من روى: "لأمرتهم بالسواك" فالمشقة على هذه الرواية في الوجوب؛ لأنَّه يقتضي عدمَ المُكْنة من التَّرك، والتعرُّضَ للعقاب على تقديره. ومن روى: "لأمرتهم عند كل صلاة" فالمشقة في التكرار بصفة الوجوب على ما تقدم من الاستدلال به على أنَّ الأمر للوجوب. الثَّانية عشرة: يمكنُ من قال: إنَّ الأمر المطلق للتكرار، [أنْ] (¬3) يستدلَّ برواية من روى: "لأمرتُهم بالسِّواك". وطريقُهُ أن يقال: دلَّ الحديثُ على كونِ المشقَّة مانعةً من الأمر بالسواك، ولا مشقةَ في وجوب مرةٍ واحدة لمسمى السواك مع عدم كُلْفته، أو قلتها، فإنما (¬4) المشقة في تكرار الفعل مع الوجوب، فلو لم يكن الأمر به للتكرار، [لما كانت المشقة مانعة؛ لأنَّه يمتنع كونُ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) أي: السواك. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "وإنَّما".

الثالثة عشرة

المشقة مانعةً، ولا مشقة، لكن المشقة مانعة من الوجوب، فيكون الأمر للتكرار] (¬1) (¬2). وفيه ما قدمنا من لحوق المشقة بنفس الوجوب من جهة تحتُّم الفعل، والتعرض للعقاب على تقدير الترك. الثالثة عشرة: قد قرَّرنا في غير هذا الموضع: أنه إذا ورد نهيٌ عام وخاص، ومُطْلَقٌ ومقيَّدٌ، وكانا في طرفي النَّهي أو النفي، لم يُحملِ العام على الخاص، ولا المطلقُ على المقيد، وهذا كما في رواية من روى النهيَ عن مسِّ الذكر باليمين مطلقًا (¬3)، ومن روى النَّهي عن مسه في الاستنجاء (¬4)، فلا نقول: إن المطلق محمول على المقيد حتَّى يجوزَ مسُّهُ في غير حالة الاستنجاء؛ لأنَّ حملَ العامِّ على الخاص، والمطلقِ على المقيد، يكون عند التعارض، ولا تعارض هاهنا فيترك (¬5) العمل بالعموم ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 376) وفي هذا البحث نظر؛ لأنَّ التكرار لم يؤخذ هنا من مجرد الأمر، وإنما أخذه من تقييده بكل صلاة. (¬3) رواه مسلم (267/ 65)، كتاب: الطهارة، باب النَّهي عن الاستنجاء باليمين، من حديث أبي قتادة - صلى الله عليه وسلم -: أن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أن يتنفس في الإناء، وأن يمسَّ ذكره بيمينه، وأن يستطيب بيمينه. (¬4) رواه البُخاريّ (152)، كتاب: الوضوء، باب: النَّهي عن الاستنجاء باليمين، ومسلم (267/ 63)، كتاب: الطهارة، باب: النَّهي عن الاستنجاء باليمين، من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ... " الحديث. (¬5) في الأصل: "فترك"، والمثبت من "ت".

أو الإطلاق المقتضي لذلك، اللهم إلَّا أن يكون للخاص مفهومٌ عند من يقول بالمفهوم، فيبنوه على أن المفهوم هل يُخصُّ (¬1) به العموم، أم (¬2) لا؟ فهذا نظر أصولي، ثم استدلال من (¬3) صناعة الحديث: أنه يُنظر؛ هل (¬4) الروايتان ترجعان إلى حديث واحد، أو حديثين؟ وُيعرف اتحاد الحديث باتحادِ مخرجِهِ وتقاربِ ألفاظه، فإن كان حديثاً واحدًا نظرنا؛ هل يمكن أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو (¬5) الراوي - جمع بين اللفظين معًا، أو لا؟ ونعني بالإمكان هاهنا: ما تقتضيه غلبةُ الظن، لا الإمكان على طريقة المتكلمين. فإن [أمكن] (¬6) اجتماعُ اللفظين، وكان الحديث واحدًا، حملنا الأمر على النطق باللفظين، وأن بعض الرواة قد ترك شيئًا من اللفظ؛ إما نسياناً، أو لأنَّه لم يسمعه؛ هذا هو الذي تقتضيه غلبةُ الظن. إذا ثبت هذا فنقول: هذا الحديث راجع إلى مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، فهذا مخرجه عند الرواة عن مالك، وهو ¬

_ (¬1) في الأصل: "يختص"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "أو". (¬3) في الأصل: "فن"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "هذا"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "و"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

الرابعة عشرة

مخرج [واحد] (¬1)، ثمَّ إنَّ بعضهم روى: "لأمرتُهم بالسواك"، واقتصر على ذلك، وبعضهم روى: "عند كل صلاة"، ويمكن الجمعُ بين اللفظين، فعلى [مقتضى] (¬2) ما (¬3) ذكرناه يُحمل الأمرُ على الجمع بينهما، وأن من ترك قوله: "عند كل صلاة"؛ إما أن يكون تركُه لعدم سماعِه، أو يكون تركُه نسياناً بعد سماعه، أو لغير ذلك، فيُحمل الحديثُ على رواية الكمال، وهو: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (¬4) "، فعلى هذا إذا أردنا أن نستدِلَّ برواية من روى: "لأمرتهم بالسواك" فقط، كان فيه هذا البحث. وأعلم أنه ربما يقعُ (¬5) تقاربٌ في الظن فيما ذكرناه من القاعدة، وربما يُختلف [أيضاً] (¬6) فيه ويُنازَع، فإنّه لا يمتنع أن تكون الروايتان حديثين، وإن وجد ما ذكرناه من الدليل على الاتحاد، وإنَّما ذكرنا هذا لينظُرَ فيه الناظر، ويعمل بغالب الظن عنده، ففيه فائدةُ التنبيهِ على الطريق، مع تفويض النظر إليه في العمل، والله أعلم بالصواب. الرابعة عشرة: قد يُؤخذُ منه [أنَّ] (¬7) صيغة (كل) للعموم من ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "كما"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "سواك"، والتصويب من "ت". (¬5) في الأصل: "يوقع"، والمثبت من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) زيادة من "ت".

الخامسة عشرة

حيثُ إنَّ حملَها على الخصوص لا يوجب مشقة، وفيه البحث السابق. الخامسة عشرة: فيكون ذلك دليلاً على أن للعموم صيغةً؛ لأنَّ الدالَّ على المقيد دالٌّ على المطلق. السادسة عشرة: قد ذكرنا في رواية البُخاريّ: "مع كلِّ صلاةٍ"، وذلك يقتضي من القرب والخصوص ما تقتضيه (عند) مع زيادة على ذلك؛ لإشعار المعيَّة بالاتحاد في الزمان، وإذا تعذَّر ذلك عادة أو شرعًا حُمل على القرب الممكن، فيدل على قوة اعتبار القرب، فيكون أدلَّ على عدم كراهة السواك في المسجد. السابعة عشرة: إذا تردد اللفظ بين الحقيقة الشرعية واللغوية وجب حملُه على الشرعية، فلا يتناول الحديث إلَّا ما يُسمَّى صلاةً شرعًا، لا لغةً مثلًا. الثامنة عشرة: يتعيَّنُ حملُه على الصَّلاة الكاملة، وإن كان قد زَعم بعضُهم: أنَّ الركعةَ الواحدة تسمى صلاة (¬1)، حتَّى استدل على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بقوله - عليه السَّلام -: "كلُّ صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأمِّ القرآنِ فهي خداجٌ" (¬2). التاسعة عشرة: فإن صحَّ ما قيل من هذا، فقد دخل هذا الحديثَ التخصيصُ. ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 200). (¬2) رواه مسلم (395)، كتاب: الصَّلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

العشرون

العشرون: يمكن أن يُستدلَّ بهذا الحديث على بطلان الاستدلال المذكور في وجوب الفاتحة في كل ركعة، وطريقه أن يقال: لو كانت كلُّ ركعة صلاةً، لاستُحبَّ السواكُ فيها، واللازم منتفٍ بالإجماع، ودليلُ الملازمة عمومُ هذا الحديث. الحادية والعشرون: يدخل في العموم - أعني: عمومَ قوله - عليه السَّلام -: "عند كل صلاة" - صلاةُ الفرض والنفل على اختلاف أصنافه. الثَّانية والعشرون: يدخل تحته أيضًا صلاة الجنازة، وإن خالفت الصلوات المعهودة؛ لانطلاق الاسم شرعًا. الثالثة والعشرون: من اشترط في سجود التلاوة شروطَ الصَّلاة، واستدلَّ على ذلك بأنها صلاةٌ، لزمه أن يُدْرِجَها تحت العموم. الرابعة والعشرون: جاء في الحديث: "الطوافُ بالبيتِ صلاةٌ" (¬1)، فإن حُمل على الحقيقة اندرج، وإن حُمل على المجاز فلا. ¬

_ (¬1) رواه التِّرمذيُّ (960)، كتاب: الحج، باب: ماجاء في الكلام في الطواف، وابن حبان في "صحيحه" (3836)، وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال التِّرمذيُّ: وقد روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره عن طاوس، عن ابن عباس موقوفًا، ولا نعرفه مرفوعًا إلَّا من حديث عطاء بن السَّائب. وقد صححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان. ومداره على عطاء بن السَّائب، عن طاوس، عن ابن عباس، واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الموقوف النَّسائيّ والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي وزاد: إن رواية الرفع ضعيفة. قال الحافظ: وفي إطلاق ذلك نظر، ثم رجح الحافظ الرفع. وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 129).

الخامسة والعشرون

الخامسة والعشرون: وهل يدخل تحته الصَّلاة المكروهة؛ [كالصلاة في الأوقات المكروهة] (¬1) إذا قلنا بانعقادها؟ أما من قال بأنه يقطعها، فلا شكَّ أنه لا يستحبُّ ذلك؛ لأنَّه إنَّما يستحبُّ (¬2) لأجل الصلاة، وما كان مأموراً بقطعه لا يطلب لأجل فعله غيره. وأمَّا من لم [يقل] (¬3) بقطعها (¬4) فيمكن أن يقال: تدخل تحت اللفظ؛ لأنها حينئذٍ صلاةٌ منعقدة. والصواب أن يقال: ما كان مطلوبَ العدم لا يُطلَبُ لأجله تحصيلُ ما يُطلب تحصيلُه لأجل مطلوب الوجود، والاستحبابُ لو ثبت هاهنا لثبت مقيدًا بكونه للصلاة، ولا يلزم أن يطلب وجود الشيء مقيدًا بما هو مطلوب العدم، اللهمَّ إلَّا أن يجعلَ ذلك من قَبيل الشروط وبابِها. السادسة والعشرون: هل يدخل فيه الصَّبي؟ أما إذا أُخذ من مُجرَّد منع المشقة من الأمر فلا يدخل؛ لأنَّ الصبيَّ غيرُ قابل لتعلق (¬5) الوجوب به [من الأمر] (¬6)، فلا تكون المشقة ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل تكرار قوله "ذلك لأنَّه إنَّما يستحب". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "يقطعها". (¬5) في الأصل: "بتعلق"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

السابعة والعشرون

في الإيجاب مانعة [من الأمر] (¬1) في حقه. وأمَّا على طريقتنا في أن اللفظ يقتضي وجودَ ما يقتضي الوجوبُ لولا المشقة من المصالح، وأن ذلك بمجرَّده يكفي دليلاً على الاستحباب، فيدخل فيه الصَّبي؛ لأنَّه من الأمة. السابعة والعشرون: هل تدخل تحته صلاةُ من لم يجد ماءً ولا تراباً؟ أما من قال: إنه يصلِّي ولا يقضي، فظاهر؛ لأنها صلاة وقعت مجزئة، وأمَّا من قال: يصلِّي ويقضي، فيقتضي أن لا يدخلَ؛ لأنها ليست بصلاة حقيقة، وإنَّما هي تُشْبه الصَّلاة. الثامنة والعشرون: ولهذا قال بعضُ الشَّافعية: لا يقرأ فيها القرآنَ إذا كان جنباً، معلِّلاً بأن سائر الأركان يُؤتى بها تشبُّهاً، وقراءة القرآن حقيقة (¬2). التاسعة والعشرون: المراد بالسواك هاهنا الفعل الذي هو المصدر، وقد قدَّمنا أنه يُطلق على الآلة، إلَّا أنه يُحوِج إذا حُمل على ذلك إلى إضمار، مثلَ أن (¬3) يقال: لأمرتهم باستعمال السواك، و (¬4) ما يقرب من ذلك، ولا حاجةَ إلى الإضمار مع إمكان الاستغناء عنه. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (2/ 355). (¬3) في الأصل: "بأن"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "أو".

الثلاثون

الثلاثون: مقتضى اللفظِ الاكتفاءُ بمسمى السواك، فإن طُلب أمرٌ زائد على المسمى فَبِدليل من خارج، أو باعتبار العلة كما جاء: "أن الملكَ يضعُ فاه على فمِ القارئِ" (¬1)، فعلى هذا لا بدَّ من إزالة ما تبقى له رائحةٌ مكروهة بجملته على حسب الإمكان؛ اعتبارًا للمعنى. الحادية والثلاثون: لما كان سببُ عدم الأمر هو المشقة في التكرار، والحالات التي يستحب فيها السواك متعددة متكررة أيضًا، فالمشقّةُ حاصلة في الأمر بالسواك عندها، فتخصيص (¬2) ذكرِ الصلاةِ دون بقية الحالات التي يقتضي الأمرُ بالسواك عندها لحوقَ المشقة، يدل على زيادةٍ في تأكيد الاستحباب عند هذه الحالة على بقية الحالات؛ لأنَّ الاشتراك في مقدار المصلحة يقتضي الاشتراك في الحكم، فلا يبقى في التخصيص فائدة، بخلاف ما إذا حصل التفاوت في ذلك المقدار، فإن الزيادة حينئذٍ إذا اقتضت زيادةَ التأكد اقتضت زيادةَ المشقة، [فلا يلزم الاستواء في الاستحباب، وثبتت الفائدةُ في التخصيص] (¬3) بالذكر. الثانية والثلاثون: يدل على الاستحباب عند الصَّلاة، فيمكن أن يُجعلَ من سننها، ولا يمنع من ذلك تقدُّمه عليها، ويمكن أن لا يُجعلَ من سننها؛ لاحتمال أن يكونَ المطلوبُ تقدُّمَ هذا الفعلِ على الصَّلاة من غيرأن يجعل سنةً من سننها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البزار من حديث عليّ - رضي الله عنه -. (¬2) في الأصل: "تخصص"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

وقد قدَّمنا الخلافَ في الوضوء؛ هل يُعدُّ السواك من سننه، مع الاتفاق على كونه مطلوباً عنده؟ وفي ذلك ما يدلُّ على الفرق بين مُجرَّد المطلب عند الشيء، وبين كونه مع ذلك معدوداً من سننه، والله أعلم. * * *

الحديث الخامس

الحديث الخامس وعن حذيفةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا قامَ مِنَ اللَّيلِ (¬1) يَشُوصُ فَاهُ بالسِّواكِ. أخرجوه إلا التِّرمِذِيِّ (¬2). ويَشُوصُ؛ بمعنى: يدلك، وقيل: يغسل، وقيل: يُنقي. الكلام عليه من وجوه: * الوجه الأول: في التعريف: فنقول: أبو عبد الله حذيفة بن اليمان (¬3)، واسمه الحُسَيل - بضم ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالليل"، والمثبت من "ت"، والنسخة الخطية لكتاب "الإلمام" بخطِّ ابن عبد الهادي (ق 4 / ب)، وكذا مطبوعة "الإلمام" (1/ 59). (¬2) * تخريج الحديث: رواه البُخاريّ (242)، كتاب: الوضوء، باب: السواك، و (849)، كتاب: الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة، و (1085)، كتاب: التهجد، باب: طول القيام في صلاة الليل، ومسلم (255/ 46 - 47)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، وأبو داود (55) كتاب: الطهارة، باب السواك لمن قام من الليل، والنَّسائيُّ (2)، كتاب: الطهارة، باب: السواك إذا قام من الليل، و (1621 - 1622) كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ما يفعل إذا قام من الليل من السواك، وابن ماجه (286)، كتاب الطهارة، باب: السواك، كلهم من حديث أبي وائل، عن حذيفة، به. (¬3) قلت: قد تقدمت ترجمة الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما في =

الحاء، وفتح السين المهملتين، وسكون آخر الحروف، وآخره لام، تصغير حِسْل، [بكسر الحاء، وسكون السين، وهو اسم منقول، ويقال في ابنه اليمان أيضاً: حِسْل] (¬1) على التكبير دون التصغير - ابن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جُروة بن الحارث بن مازن بن قُطَيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عَيلان بن مضر، يجتمع مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في مضر. وكان حليفَ بني عبد الأشهل، شهدَ مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، هو وأبوه أُحداً، وقُتل [أبوه] (¬2) يومئذٍ، قتله المسلمون قَتْلَ خطأ. وقيل: أرادا أن يشهدا بدراً، فاستحلفهما (¬3) المشركون أن لا يشهدا مع النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فحلفا لهم، ثم سألا النبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فقال: "نَفِي لهُمْ بعهدِهِمْ، ونسَتعينُ اللهَ عليهم (¬4) " (¬5). وقيل: جروة هو اليمان، ومن ولده حذيفة، وإنَّما قيل: ابن اليمان؛ لأنَّ جروة أصاب دمًا في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني ¬

_ = الحديث الثَّاني من باب الآنية. وقد زاد المؤلف رحمه الله هنا بعض الأشياء عن ترجمته السابقة. (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "فاستحلفهم"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "بالله تعالى". (¬5) رواه مسلم (1787)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الوفاء بالعهد، من حديث حذيفة رضي الله عنهما.

عبد الأشهل، فسماه قومُه: اليمان؛ لأنَّه حالف اليمانية. وذكر بعضُهم: أن اليمان والد حذيفة، وجروة أيضًا؛ هذا معنى قوله. روى عنه غيرُ واحد من الصحابة، [و] (¬1) ولاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المدائنَ، فنزلها، ومات بها سنة ست وثلاثين بعد قتلِ عثمان بن عفَّان - رضي الله عنهما - بأربعين ليلة فيما قيل، وقد اتفق الأئمةُ على إخراج [حديثه و] (¬2) روايته. قال أبو عمر: كان حذيفة من كبار أصحاب رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وهو الذي بعثه (¬3) رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يوم الخندق ينظر (¬4) إلى قريش، فجاءه بخبر رحيلهم. وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسأله عن المنافقين، وهو معروف في الصحابة بصاحب سرِّ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وكان عمر ينظر إليه عند موت من ماتَ منهم؛ فإن لم يشهد جنازته حذيفةُ لم يشهدها عمر - رضي الله عنه -. وكان حذيفة يقول: خيَّرني رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بين الهجرة أو النُّصرة، فاخترت النصرة (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "بعث". (¬4) "ت": "فنظر". (¬5) تقدم تخريجه.

وهو حليف الأنصار لبني عبد الأشهل، وشهدَ حذيفةُ نهاوند، فلما قُتِلَ النعمانُ بن مُقَرّن أخذ الراية، وكان فَتْحُ همذانَ والريِّ والدِّيْنَوَرِ على يدي حذيفة، وكانت فتوحه كلُّها [سنة] (¬1) اثنتين وعشرين. ومات حذيفة - رضي الله عنه - سنة ست وثلاثين، بعد قتل عثمان في أول خلافة عليّ - رضي الله عنهما -، وقيل: توفي في سنة خمس وثلاثين، والأول أصحُّ، وكان موته بعد أن أتى نعيُ عثمان إلى الكوفة، ولم يُدرِك الجمل. وقُتِلَ صفوان وسعيد ابنا حذيفة بصِفِّين، وكانا قد بايعا [علياً] (¬2) - رضي الله عنه - بوصيَّةِ أبيهما بذلك لهما. وسئل حذيفة: أيُّ الفتن أشدّ؟ [قال] (¬3): أن يُعرض عليك الخير والشرُّ، فلا تدري أيَّهما تركب (¬4) (¬5). وقال حذيفة: لا تقوم الساعة حتَّى يسودَ كلَّ قبيلة منافقوها (¬6). انتهى. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "تركت"، والمثبت من "ت" والمطبوع من "الاستيعاب" (1/ 335). (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (37569)، وعنده: "أيهما تتبع". (¬6) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 335). وقد جاء مرفوعاً من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، كما رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 353)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9771)، وإسناده ضعيف جداً.

الوجه الثاني: [في تصحيحه]

* الوجه الثَّاني: [في تصحيحه]: وقد قلنا في الأصل: أخرجوه إلَّا التِّرمذيُّ، والمرادُ أصحاب الكتب الستة؛ البُخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنَّسائيُّ، وابن ماجه، وقد استُثني الترمذيُّ ممن أخرجه. وهو حديثٌ من روايةِ أبي وائل، عن حذيفة، رواه عن أبي وائل، منصور وحصين والأعمش، [واتفق البخاريُّ [ومسلم] على تخريج رواية منصور وحصين] (¬1)، وأخرج مسلم روايةَ الأعمش (¬2). * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: قد (¬3) ذكر في الأصل تفسير (يشوص)، وحكى فيه ثلاثة أقوال: يدلك، ويغسل، [وينقي، وتفسيره بالغسل] (¬4) هو قول أبي عبيد، قال: والموص مثله (¬5)، وأنشد لامرئ القيس (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) برقم (255/ 47)، عنده. (¬3) في الأصل: "وقد"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 261). (¬6) وضعت إشارة إلحاق في الأصل، وتُرك بياض في "ت" بعد قوله: "وأنشد لامرئ القيس". وليس في المطبوع من "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 261) إنشاد شعر لامرئ القيس في هذا الموضع، وإنَّما الذي استشهد به هو قول عائشة في عثمان رضي الله عنهما: "مُصتُمُوه كما يماص =

الثانية

الثَّانية: إذا فسَّرنا (يشوص) بـ: يدلك، [كان] حملُ السواك على الآلة ظاهراً مع احتماله للدلك بالإصبع، والباء (¬1) للاستعانة. وإن فسرناه بـ: يغسل، فيمكن أن تراد الحقيقة؛ أي: الغسل بالماء، فالباء للمصاحبة، وحينئذ يحتمل أن يكون السواك الآلة، ويحتمل أن يريدَ الفعلَ. ويمكن أن يُراد المجازُ، وأن يكون بتنقية الفم وإخراج ما فيه يُسمَّى غسلًا على مجاز المشابهة (¬2). وإن فسرناه بـ: ينقي، فيحتمل الأمرين أيضًا، وحمله على الآلة أقرب. الثالثة: قوله: "إذا قامَ من الليلِ" يحتمل أن يراد به القيامَ من النوم؛ بمعنى: استيقظ، ويكون فيه حذف؛ أي: استيقظ من نوم الليل. ¬

_ = الثوب، ثم عدوتم عليه فقتلتموه" ثم قال: تعني بقولها مُصْتمُوه: ما كانوا استعتبوه فأعتبهم فيه، ثم فعلوا به ما فعلوا، انتهى. قلت: وقد نقل الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 356) عن "المحكم" لابن سيده: أن الغسل عن كُراع، والتنقية عن أبي عبيد، والدلك عن ابن الأنباري، انتهى. كذا ذكر الحافظ، ولم أقف عليه في المطبوع من "المحكم" (8/ 111)، (مادة: شوص)، وإنَّما ذكر الغسل عن كُراع فقط. (¬1) أي: في قوله: "بالسواك". (¬2) في الأصل: "مجازًا لمشابهة"، والمثبت من "ت".

الرابعة

ويحتمل أن تكون (من) لابتداء الغاية من غير تقدير حذف النوم. ويحتمل أن يريدَ بالقيام: القيامَ إلى الصَّلاة، فإنَّ مثلَ هذا اللفظ قد يُستعمل في مثل هذا المعنى، يقال: فلان يقوم من الليل؛ أي: يصلِّي. الرابعة: إنْ فسَّرنا يشوص بـ: يدلك، فالأقربُ حملُه على الأسنان، فيكون من مجاز التعبير بالكل عن البعض، أو من مجاز الحذف، كأن التقدير: يدلك أسنانَ فِيْه. وإن فسرنا يشوص بـ: يغسل، وحملناه على الحقيقة أو المجاز المذكور، فلا مانع من حمله على جملة الفم، وتكون الباء للمصاحبة. وإن فسرناه بـ: ينقي، فالأقرب حملُه على الأسنان كما في الأول، إذا كان ينقي مستعملاً في إزالة ما عَسَاه يلتصق بالعضو كبعض المأكولات مثلاً، وإن كان ينقي [بمعنى] (¬1): يجعله نقيًّا، فلا يمتنعُ حملُه على جملة الفم. * * * * الوجه الرابع: في الفوائد، وفيه مسائل: الأولى: إحدى الحالات التي يُسْتَحَبُّ فيها السواك حالة القيام من النوم، فإذا حمل القيام من الليل على الاستيقاظ من النوم، استُدِلَّ به على ذلك. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

الثانية

وقد استدلَّ بعضُ الفقهاء على استحباب السواك عند القيام من النوم بحديث حذيفة، لكنه روى فيه: "كانَ إذا قامَ من النومِ"، فلتُتفقَّدْ هذه اللفظة وتُتَتبَّع؛ ليُنظر وجودها أو عدمه (¬1). الثَّانية: هذا الحكمُ يُعلَّلُ بما يُحدثه النومُ من تغيير الفم بالمناسبة. الثالثة: يمكن ترجيحُ حمله على هذا المعنى، فإنَّ اللفظ اقتضى تعليقَ الحكم (¬2) بمسمى القيام من الليل، فيكون الظاهرُ حملَه على المسمى، وحملُه على ما زاد على ذلك خارجٌ عن مُجرَّد ما دلَّ عليه اللفظ، إلَّا أن فيه تجوّزاً في لفظ القيام. الرابعة: وإذا حملناه على القيام للصلاة، فيحتمل أن يكون السواك لأجل الصلاة، فيدل على ما دل عليه الحديث قبله من السواك ¬

_ (¬1) قلت: هذه اللفظة مذكورة في كتب الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم، بل قد ذكرها كثير من المصنفين في الحديث، وعزوها إلى "الصحيحين"، وهو عزو بالمعنى لا باللفظ، فالذي في روايات "الصحيحين": "إذا قام من الليل"، و"إذا قام للتهجد من الليل"، و"إذا قام ليتهجد". وليس في روايات غيرهم من أصحاب المصنفات الحديثية المتوافرة لدي قد رووه بلفظة: "كان إذا قام من الليل". وإن يعذر المحدث بعزو هذا الحديث بهذا اللفظ إلى "الصحيحين" بالمعنى، فلا عذر للفقيه المستدل بها على حكم في عزوها كذلك، بل لابد له من تمام اللفظ وضبطه، كما نبه عليه المؤلف رحمه الله في مواطن كثيرة من هذا الكتاب. (¬2) في الأصل: "الخبر"، والمثبت من "ت".

الخامسة

عند الصَّلاة، أو لأجلها، ويحتمل أن يكون لأجل الاستيقاظ من النوم؛ لما ذكرنا من العلة، ويحتمل أن يكون لهما معاً. الخامسة: إذا حملناه على الاستيقاظ من النوم جُعلت علتُه ما ذكرناه من تأثير النوم في تغيير الفم بالمناسبة، فيُجعل أصلًا في استحباب السواك في كلّ ما توجد فيه هذه الحالة؛ أي (¬1): تغيير الفم، وقد يتغير عند غير هذه الأحوال؛ إما عند كثرة الكلام، وإما لطول السكوت، وإما لشدة الجوع، وإما لأكل ما يغير الفم من الأشياء المُريحة. قال الشَّافعي - رحمه الله -: والاستيقاظ من النوم والأَزْم (¬2). وفي الأَزْم تأويلان: أحدهما: أفه الجوع، ومنه ما روي: أن (¬3) عمرَ [بن] (¬4) الخطاب - رضي الله عنه (¬5) - سألَ الحارث بن كِلْدة، وكيان طبيبَ العرب، فقال: ما الداء؟ قال: الأكل، قال: فما الدواء؟ قال: الأزم (¬6)؛ يعني: ¬

_ (¬1) "ت": "في" بدل "أي". (¬2) انظر: "الأم" للإمام الشَّافعي (1/ 23). (¬3) في الأصل: "ابن"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "عنهما"، والمثبت من "ت". (¬6) قال الحافظ في "الإصابة" (1/ 595): وجدته مروياً في "غريب الحديث" لإبراهيم الحربي من طريق ابن أبي نجيح قال: سأل عمر، فذكره. وفي كتاب "الطب النبوي" لعبد الملك بن حبيب من مرسل عروة بن الزُّبير، عن عمر.

السادسة

الجوع والاحتماء، وقال كعب بن زهير (¬1) [من البسيط]: المُطْعِمُونَ إذا ما أَزْمَةٌ أزَمتْ ... والطَّيبُونَ ثِياباً كُلَّمَا عَرِقُوا والثاني: أنه السكوت (¬2). قال بعضُهم: وهو في اللغة الإمساك (¬3)، فتارة يُعبَّرُ به عن الجوع؛ لأنَّه إمساك عن الأكل، وتارة يُعبَّرُ به عن السكوت؛ لأنَّه إمساك عن الكلام. السادسة: قد عُلم أن الفمَ حقيقةٌ في الجملة، فيقتضي الاستياك [في الجملة] (¬4). قال بعضُ فقهاء الشَّافعية: الاستياك عرضًا في ظاهر الأسنان وباطنها، ويُمِرّ السواك على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه؛ ليجلوَ جميعَها (¬5) من الصُّفرة والتغير، ويُمِرُّه على سقف حلقه إمراراً خفيفاً؛ ليزيل الخُلُوف عنه، فقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يشوص فاه بالسواك (¬6). السابعة: وقد ذكرنا ما يقرب فيه حمل السواك على الآلة، وما يقرب ¬

_ (¬1) كذا نسبه ابن قتيبة في "عيون الأخبار" (1/ 304). (¬2) قال النووي: وكلاهما صحيح. (¬3) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 337). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "جميعًا"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 85 - 86)، وعنه النووي في "المجموع" (1/ 347).

الثامنة

حمله فيه على الفعل، وما يحتمل الأمرين، وذكرنا أنه إذا فسر يشوص بـ: يدلك؛ أنه يُحمل على الآلة ظاهرًا، فإذا كان كذلك دلَّ على استحباب السواك بالآلة، [وأنه سنة. والفقهاء اختلفوا في الاستياك بالإصبع على ثلاثة أوجه، يُفرَّقُ في الثالثة بين العجز على الآلة والقدرة عليها؛ هذا معنى ما نُقل (¬1). وهو اختلاف في الاكتفاء به (¬2)، من غير نزاع في أن الأصل الاستياكُ بالآلة] (¬3). الثامنة: فإذا دل على أنَّ السنة الاستياكُ بالآلة، فالأقرب حملُه على المعتاد في ذلك، والمشهور فيه عُود الأراك. وقول من قال من الفقهاء الشَّافعية: فإن تعذَّر الأراكُ عليه استاك بعراجين النخل، فإن تعذر استاك بما وجد (¬4). ¬

_ (¬1) مذهب الشَّافعية والحنابلة: عدم الإجزاء بالإصبع، ومذهب الحنفية والمالكية: الإجزاء. قال ابن قدامة: والصحيح أنه يصيب السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء. قال: ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها. انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 70)، و"الوسيط" للغزالي (1/ 277)، و"فتح العزيز" للرافعي (1/ 370 - 371)، و"تحفة الفقهاء" للسمرقندي (1/ 13)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 266). (¬2) أي: بالإصبع. (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 86).

[و] (¬1) يظهر أنه اكتفى بما ذكر بطريق النظر إلى المعنى، ويمكن أن يقال: إذا كان الأصل الاستياك بعود الأراك؛ إما حملًا للّفظ على المعتاد في أرض الحجاز والعرب، [أو أخذاً] (¬2) بما روي من حديث أبي خيرة (¬3): أن رسولَ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - كانَ يستاكُ بالأراكِ (¬4)، فعند تعذُّر النوع الأقرب، يُرتقى إلى ما فوقه من الجنس الأقرب فالأقرب؛ لأنَّه أقرب إلى التأسي، والاستنان في الاستنان (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "وجرت"، وفي "ت": "وجرة"، والصواب ما أثبت. (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 426)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 368)، عن أبي خيرة الصباحي قال: قدمنا على النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فلما أردنا أن نرجع أعطانا أراكاً فقال: "استاكوا بهذا". قال ابن الصلاح: وهذا الحديث مسند قول صاحب "الإيضاح"، و"الحاوي"، و"التنبيه" حيث استحبوه. قال: ولم أجد في كتب الحديث فيه سوى هذا الحديث. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 71): قلت: قد استدل صاحب "الحاوي" من حديث أبي خيرة بلفظ آخر، وهو: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يستاك بالأراك، فإن تعذر عليه استاك بعراجين النخل، فإن تعذر استاك بما وجد. وهذا بهذا السياق لم أره. وقد روى الطَّيالسيُّ في "مسنده" (355)، والبزار في "مسنده" (1827)، وأبو يعلى في "مسنده" (5310)، وابن حبان في "صحيحه" (7569) وغيرهم من حديث ابن مسعود لأنَّه: أنه كان يجتني لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - سواكاً من أراك ... " الحديث. (¬5) "ت": "الأسنان". قلت: الاستنان الأولى: "لاقتداء، والثانية: الاستياك.

التاسعة

التاسعة: هذا الذي ذكرناه من الدلالة على استحباب الاستياك بالآلة، وبنيناه على أن تُفسر (¬1) يشوص بـ: يدلك، إذا أردنا أن نَستدلَّ عليه في نفس الأمر، لا على تقدير التفسير بـ: يدلك، فليس لنا أن نبنيَه على أن اللفظ المشترك؛ هل يُحمل على جميع معانيه؛ فإن أجزنا ذلك دخل فيه الدلك، وحصل الغرض. وإنَّما قلنا: ليس لنا ذلك؛ لأنَّ هذه حكايةُ فعل معيَّن من جهة الراوي، لا حكايةُ لفظ من النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - عُلِّق فيه الحكم على لفظ مشترك، وإذا كان حكايةَ فعل معين فصفتُه غيرُ معلومة؛ أعني: الصفةَ التي عبَّر الراوي عنها بـ: يشوص؛ أهي الغسل، أو الدلك، أو التنقية؟ وليس لنا أن نحمل عليه أنه عبر عن الجميع؛ لأنَّ ذلك مشكوك فيه، وفي اعتقاد الراوي جوازُه؛ [أي: جواز حمل المشترك على جميع معانيه] (¬2). العاشرة: وكذلك من أراد أن يستدلَّ على جواز الاستياك بالإصبع بأنه يحصل فيه مسمَّى الدلك فيُكتفى به، لا يتمُّ له ذلك؛ لأنَّه لم يعلَّقِ الحكم في لفظ الرسول - صَلَّى الله عليه وسلم - على مسمى الدلك، وإنَّما حكى الراوي فعلًا معينًا صحَّ حملُه على الدلك، فهو محتمِل للدَّلك بالإصبع وبالآلة، وحمله على الآلة أولى بالغلبة في الاستعمال. الحادية عشرة: ويمكن أن يُسلك في ذلك طريقة؛ وهو أن يقال: ¬

_ (¬1) "ت": "تفسير". (¬2) زيادة من "ت".

الثانية عشرة

دليلُ التأسي والاتباع فيه (¬1) أن يكون فعلُ ما فعله - صَلَّى الله عليه وسلم - أمراً مطلوباً، وورود هذا اللفظ المشترك من الراوي لا يزيل هذا المطلب، وحصول هذا الأمر المطلوب موقوفٌ على فعل هذه الأمور الثلاثة، وهو ممكن، وما لا يتم حصول المطلوب [إلَّا] (¬2) به مع إمكانه فهو مطلوب، فالاستياك بالآلة مطلوب، وذلك يحصِّل الغرض. الثَّانية عشرة: إلَّا أنَّ هذا يقتضي استحبابَ فعل جميع (¬3) [هذه الأمور] (¬4)، وهو بعيد الوجود في نصوص الفقهاء؛ أعني: الجمعَ بين الدلك، والآلة، والغسل بالماء، إن حملنا الغسل على حقيقته. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "منه"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "إلَّا أن هذا فعل يقتضي استحباب جميع هذه". (¬4) زيادة من "ت".

الحديث السادس

الحديث السادس وروى [مسلم] (¬1) من حديث أبي بردة، عن أبي مُوسى قال: دخلْتُ على النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وطَرَفُ السِّواكِ على لِسَانِهِ (¬2). ورواه أبو داودَ بلفظ: أتَيْنا رسولَ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -[نَسْتَحْمِلُهُ]، فرأيْتُهُ يَسْتَاكُ على لِسَانِهِ (¬3). الكلام عليه من وجوه: * الوجه الأول: في التعريف: فنقول: أبو موسى: عبدُ الله بن قيس بن سُلَيم - بضم السِّين، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) * تخريج الحديث: رواه مسلم (254)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، واللفظ له. ورواه البُخاريّ (241)، كتاب: الوضوء، باب: السواك، وقال فيه: أتيت النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يستن بيده يقول: أع أع، والسواك في فيه، كأنه يتهوع، والنَّسائيُّ (3)، كتاب: الطهارة، باب: كيف يستاك؟ من طريق حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى، به. (¬3) رواه أبو داود (3)، كتاب: الطهارة، باب: كيف يستاك، من طريق حماد ابن زيد، به.

وفتح اللام - بن حَضَّار - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الضاد المعجمة، وآخره راء مهملة - ويقال: حِضار - بكسر الحاء، وتخفيف الضاد، والحِضَار بهذه الصيغة الأخيرة: الثورُ الأبيض، فهو اسم منقول - ابن حرب بن عامر الأشعري من ولد الأشعر بن (¬1) أُدَد بن زيد بن كهلان، وقيل: إنه [من] (¬2) ولد الأشعر بن سبأ، أخي حمير بن سبأ، وأمه: ظبية بنت وهب من عُك. قال أبو عمر: ذكر الواقدي: أن أبا موسى قَدِمَ مكةَ، فحالف سعيدَ بن العاص بن أميَّة (¬3) أبا أُحَيْحَة، وكان قدومُه مع إخوته في جماعة من الأشعريِّين، ثم أسلم وهاجر إلى [أرض] (¬4) الحبشة. [وقال ابن (¬5) إسحاق: هو حليف لآل عتبة بن ربيعة، وذكره فيمن هاجر من حلفاء بني عبد شمس إلى أرض الحبشة] (¬6). وقالت طائفة من أهل العلم بالنسب والسير: إن أبا موسى لمَّا قدم مكّة، وحالفَ سعيد بن العاص، انصرف إلى بلاد قومه، ولم يهاجر إلى أرض (¬7) الحبشة، وقدم مع إخوته، وصادف قدومُه قدومَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأشعريين"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "أبيه" والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "أبو"، والصواب ما أثبت. (¬6) زيادة من "ت". (¬7) "ت": "بلاد".

السفينتين من أرض الحبشة. قال أبو عمر: الصحيح أن أبا موسى رجع بعد قدومِه مكةَ ومحالفتِهِ مَنْ حالف من بني عبد شمس إلى بلاد قومه، فأقام بها حتَّى قدم مع الأشعريين نحو خمسين رجلًا في سفينة، فألقتهم الريح إلى النجاشيِّ بأرض الحبشة، فوافقوا خروج جعفر وأصحابِه [منها، فأتوا معهم، وقدمت السفينتان - سفينةُ الأشعريين وسفينةُ جعفر وأصحابه -] (¬1) على النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حين فتح خيبر. وقد قيل: إنَّ الأشعريِّين حين رمتهم الريح إلى النجاشي أقاموا بها مدة، ثم (¬2) خرجوا في حين خروج جعفر، فلهذا (¬3) ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، والله أعلم. ولَّاه (¬4) رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - من مخاليف اليمن زَبيداً وذواتَها إلى الساحل، وولاه عمر - رضي الله عنه - البصرة في حين عزل المغيرة عنها، فلم يزل عليها إلى صدرٍ من خلافة عثمان - رضي الله عنه - فعزله عنها، وولاها عبدَ الله ابن عامر بن كُرَيز (¬5)، فنزل (¬6) أبو موسى حينئذ (¬7) الكوفةَ وسكنها، فلما ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "من ثم"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "ولهذا". (¬4) "ت": "وولَّاه". (¬5) في الأصل: "بدر"، والتصويب من "ت". (¬6) في الأصل: "فتولى"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "حينئذ أبو موسى".

رفع أهلُ الكوفة سعيد بن العاص، ولَّوا أبا موسى، وكتبوا إلى عثمان يسألونه بأن يوليَه، فأقرَّه (¬1) عثمان - رضي الله عنه - على الكوفة إلى أن مات، وعزله عليٌّ عنها. قال أبو عمر: ومات بالكوفة في داره بها، وقيل: إنه مات بمكة سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وهو ابن ثلاث وستين [سنة] (¬2). وكان من أحسن النَّاس صوتاً بالقرآن، قال فيه رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لقدْ أوتيَ أبو مُوسى مِزْماراً من مَزامِيرِ آلِ داودَ" (¬3). [و] (¬4) سئل عليٌّ - رضي الله عنه - عن موضع أبي موسى من العِلْم، فقال: صُبغَ في العلم صبغة، وهُدِي (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: "فأمره"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه البُخاريّ (4761)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ومسلم (793)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن، من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 346)، والبيهقي في "المدخل" (ص: 143)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (21/ 412)، وعندهم: "صبغ في العلم صبغة ثم خرج منه". * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 105)، "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 22)، "الثقات" لابن حبان (3/ 221)، "الاستيعاب" لابن عبد البر =

وأمّا أبو بردة: فهو عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس المقدَّمِ ذكرُه، الأشعريُّ، الكوفيُّ، قاضيها. سمع أباه، وابن عمر، وعبد الله بن سَلاَم، وعائشة - رضي الله عنهم -. روى عنه الشعبي، وعبد الملك (¬1) بن عمير، وأبو إسحاق الهمذاني، وأبو إسحاق الشيباني، وحُميد بن هلال، وغيلان بن جرير، وابنه سعيد، وابن ابنه أبو بردة يزيد (¬2) بن عبد الله. قال البُخاريّ: قال أبو نعيم: مات سنة أربع ومئة. وقال ابن أبي شيبة: وهو ابن نيف وثمانين سنة. وقال ابن سعد: قال الهيثم: توفي سنة ثلاثة ومئة. وقال ابن نمير: مات قبل موسى بن طلحة بأيام، وقال: مات موسى سنة ست ومئة (¬3). ¬

_ = (3/ 979)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (32/ 34)، "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 364)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 545)، "تهذيب الكمال" للمزي (15/ 446)، "سير أعلام النبلاء"، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 23)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 211). (¬1) "ت": "عبد الله". (¬2) في الأصل: "ويزيد"، والمثبت من "ت". (¬3) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 268)، "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 447)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (26/ 43)، "تهذيب الأسماء =

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجه الثَّاني: في تصحيحه: وقد ذكر في الأصل: أن مسلمًا رواه، وهو حديث أخرجه في "صحيحه" عن يَحْيَى بن حبيب الحارثي، عن حماد بن زيد، عن غيلان - وهو ابن جرير المَعْوَلي -، عن أبي بردة، عن أبي موسى، ولفظه ما في الأصل. وهو عند البُخاريّ أيضًا من هذا الوجه؛ أعني: من رواية حماد ابن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، بسنده: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يستنُّ بسِواكٍ، وطرفُ السواكِ على لسانِهِ، وهو يقولُ: عا عا (¬1). وقوله في الأصل: ورواه أبو داود ... إلى آخره، يُشعر بأنه حديث واحد، والذي في كتاب مسلم والبخاري ليس بصريح في الاستياك على اللسان، ودلالة لفظ مسلم على ذلك أقرب. ولما وقع التصريح به في لفظ أبي داود ذكره؛ ليجمع بين الدلالة على صحته، بنسبته إلى رواية مسلم، وبين التصريح بالسواك على اللسان بلفظ (¬2) أبي داود، والدلالة على أنه حديث واحد بقوله: ورواه ¬

_ = واللغات" للنووي (2/ 470)، "تهذيب الكمال" للمزي (33/ 66)، "تذكرة الحفَّاظ" للذهبي (1/ 95)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (12/ 21). (¬1) قلت: تقدم لفظ البُخاريّ عند تخريج الحديث، وهو يغاير اللفظ الذي ذكره المؤلف هنا، فاللفظ الذي ساقه المؤلف هنا هو من رواية النسائي في "السنن الكبرى" (3)، وابن خزيمة في "صحيحه" (141)، وغيرهما. ونسبه المؤلف في "الإمام" (1/ 387) إلى ابن خزيمة فقط. (¬2) في الأصل: "إذ بلفظ"، والمثبت من "ت".

الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

أبو داود بلفظ [كذا] (¬1). وإنَّما جعلَهما حديثاً واحداً لاتحاد مَخْرجه؛ فإن أبا داود رواه عن مُسدَّد وسليمان بن داود العَتَكي قالا: حدّثنا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه. قال مُسدد: أتينا رسولَ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - ليلةً نستحملُهُ، فرأيتُهُ يستاكُ على لسانِهِ. قال أبو داود: وقال سليمان: قال: دخلتُ على النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وهو يستاكُ، وقد وقعَ السواكُ على طرفِ لسانِهِ وهو يقولُ: أهْ أهْ؛ يعني: يَتَهَوَّع (¬2). قال مسدد: كان حديثاً طويلاً اختصرته. * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: الاستحمال: طلب الحمل. الثَّانية: الاستياك: افتعال من السواك، والأصل (¬3): يَسْتَوِكُ؛ تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فانقلبت ألفاً. الثالثة: قد قدمنا أن السواك يطلق على الفعل وعلى الآلة، وهذا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "يتهوه"، والمثبت من "ت". (¬3) أي: أصل الفعل "يستاك" المشتق من "الاستياك".

الرابعة

[مما] (¬1) أُطلقَ فيه على الآلة؛ أعني قولَه: وطرف السواك على لسانه. الرابعة: هذا اللفظ الذي ذكر في حديث البُخاريّ وأبي داود، وقد اختلف في صيغته؛ ففي كتاب أبي داود كما ذكرناه: "أهْ أهْ" - بفتح الهمزة، وسكون الهاء - كذا في الأصل بخطِّ ابن طاهر الحافظ (¬2). وروي: "عَا عَا" - بالعين والألف -، وقد ذكرنا عن البُخاريّ (¬3)، وهو عند النَّسائيّ [أيضًا] (¬4) من طريق حماد عن غيلان (¬5). وروي: "أُعْ أُعْ" - بضم الهمزة، وسكون العين - وهذه رواية أبي النَّعمان، عن حماد بن زيد عند البُخاريّ (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) وضبطه الحافظ في "الفتح" (1/ 356): بهمزة مكسورة ثم هاء؛ أي: "إه إه". (¬3) تقدم أن هذه الرواية ليست عند البُخاريّ، وإنَّما قال فيه: "أعُ أعُ" كما سيذكره المؤلف، وكذا أثبت البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 35) رواية "أُعْ أُعْ" للبخاري، وقال العيني في "عمدة القاري" (3/ 184): وقوله: "أُعْ أُعْ" من أفراد البُخاريّ. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 356): قوله: "أُعْ أُعْ" بضم الهمزة وسكون المهملة، كذا في رواية أبي ذر، وأشار ابن التين إلى أن غيره رواه بفتح الهمزة. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) وكذا رواية ابن خزيمة في "صحيحه" كما تقدم عنهما قريبًا. (¬6) كما تقدم تخريجه. وقد رواه أبو بكر الجوزقي في "صحيحه" من طريق مسلم بن إبراهيم، عن حماد، به، إلَّا أنه قال فيه: "إخ إخ إخ"، كما ذكر المؤلف في "الإمام" (1/ 388). قال الحافظ في "الفتح" (1/ 356): بخاء معجمة. وقال العيني في "عمدة القاري" (3/ 184): بالحاء المهملة. =

الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

* الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: فيه دليل على استحباب السواك على اللسان، وذكرُ ذلك قليل في أكثر كتب الفقهاء، وقد نصَّ عليه بعضُهم فقال: ويستاك على [أسنانه و] (¬1) لسانه، واستدلَّ بحديث أبي موسى (¬2). الثَّانية: العلة في ذلك ظاهرة لما يتركَّبُ على اللسان بسبب الأبخرة المترقية (¬3) من المعدة، بل ربما تكون الحاجة إلى ذلك في زوال ما يكره من الرائحة أقوى من الحاجة إلى الاستياك على الأسنان، وأقلُّه أن يساويَه. الثالثة: فيه الاستياك بحضرة النَّاس، وترجم النَّسائيّ في "سننه": هل يستاك الإمام بحضرة رعيته؟ وأدخل حديثَ أبي موسى من غير الوجه الذي ذكرناه، [ورواه] (¬4) من حديث قُرَّة بن خالد، ثنا حُميد بن هلال [قال] (¬5): حدثني أبو بردة، عن أبي موسى قال: أقبلتُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومعي رجلان من الأشعريين؛ أحدهما عن يميني، والآخر ¬

_ = قال الحافظ: والرواية الأولى؛ أي قوله: "أُع أُع"، أشهر، وإنَّما اختلف الرواة؛ لتقارب مخارج هذه الأحرف، وكلها ترجع إلى حكاية صوته؛ إذ جعل السواك على طرف لسانه، كما عند مسلم. (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 69). (¬3) "ت": "المرتفعة". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت".

عن يساري، [ورسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يستاك]، وكلاهما سأل العمل، فقلت: والذي بعثَكَ بالحقِّ ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرتُ أنَّهما يطلبانِ العملَ، فكأني (¬1) أنظر إلى سواكِهِ تحتَ شفتِهِ قَلَصَت، فقال (¬2): "إنَّا لا - أو لنْ - نستعينَ على العملِ منْ أرادَهُ، ولكن اذهبْ أنتَ"، فبعثَه على اليمن بمرادفةِ (¬3) معاذِ بن جبل رضي الله عنهما (¬4). * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "وكأني"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "فقلت". (¬3) في المطبوع من "المجتبى" للنسائي: "ثم أردفه". (¬4) رواه النَّسائيّ (4)، كتاب: الطهارة، باب: هل يستاك الإمام بحضرة رعيته. وقد رواه البُخاريّ (6525)، كتاب: استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، ومسلم (1733)، كتاب: الإمارة، باب: النَّهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، من حديث قرة بن خالد، به.

الحديث السابع

الحديث السابع وروى مسلمٌ - وهو مُتَّفق عليه من روايةِ أبي هريرةَ - حديثاً (¬1) فيه: "والَّذِي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ، لَخُلُوفُ فم الصائمِ أَطْيَبُ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ (¬2) منْ ريح المِسْكِ" (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "حدثنا"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل و "ت": "عند الله يوم القيامة أطيب"، والمثبت من "صحيح مسلم"، وكذا ما سيذكره المؤلف لاحقاً، والنسخة الخطية لكتاب "الإلمام" (ق 5/ أ) بخطِّ الإمام ابن عبد الهادي. وانظر: "الإلمام" (1/ 60). (¬3) * تخريج الحديث: رواه مسلم (1151/ 163)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، والنَّسائيُّ (2216)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على أبي صالح في هذا الحديث، من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن أبي صالح الزيات، عن أبي هريرة، به. ورواه البُخاريّ (1805)، كتاب: الصوم، باب: هل يقول: إنِّي صائم إذا شتم؟ والنَّسائيُّ (2217)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على أبي صالح في هذا الحديث، من طريق ابن جريج، به، إلَّا أنهما لم يقولا: "يوم القيامة". ورواه البُخاريّ (7054)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: =

[الوجه] الأول: في إيراد الحديث بتمامه على الوجه

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في إيراد الحديث بتمامه على الوجه: روى مسلم من حديث عطاء، عن أبي صالحٍ الزَّيَّات: أنه سمع ¬

_ = {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]، ومسلم (1151/ 164)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، والنَّسائيُّ (2215)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على أبي صالح في هذا الحديث، وابن ماجه (1638)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في فضل الصيام، من طريق الأعمش، عن أبي صالح الزيات، عن أبي هريرة، به. ورواه البُخاريّ (5583)، كتاب: اللباس، باب: ما يذكر في المسك، ومسلم (1151/ 161)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، والنَّسائيُّ (2218)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على أبي صالح في هذا الحديث، من طريق الزُّهريّ، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، به. ورواه التِّرمذيُّ (764)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في فضل الصوم، من طريق عليّ بن زيد، عن سعيد بن المسيب، به. ورواه البُخاريّ (1795)، كتاب: الصوم، باب: فضل الصوم، ومسلم (1151/ 162)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به. ورواه مسلم (1151/ 165)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، والنَّسائيُّ (2213)، كتاب: الصوم، باب: ذكر الاختلاف على أبي صالح في هذا الحديث، من طريق أبي سنان ضرار بن مرَّة، عن أبي صالح، به. ورواه النَّسائيّ (2214)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على أبي صالح في هذا الحديث، من طريق المنذر بن عبيد، عن أبي صالح، به. ورواه البُخاريّ (7100)، كتاب: التوحيد، باب: ذكر النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وروايته عن ربه، من طريق شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، به.

الوجه الثاني: في تصحيحه

أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله - عز وجل -: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلَّا الصِّيامَ فإنَّهُ لي، وأنَا أجْزِي به، [والصيامُ جُنَّة] (¬1)، فإذا كانَ يَومُ صَومِ أحَدِكُمْ فلا يَرفُثْ [يومَئِذٍ] ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّه (¬2) أحدٌ أو قَاتَلَهُ، فليَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ (¬3)، إنِّي امرؤٌ صائمٌ، والَّذِي نفسُ محمدٍ بيدِهِ! لَخُلُوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ يومَ القِيامةِ منْ ريحِ المِسْكِ، وللصَّائمِ فرحَتانِ يفرحُهُما: إذا أفطرَ فَرِحَ بفطرِه، وإذا لَقِيَ ربَّهُ فرِخَ بصَوْمِهِ" (¬4). * * * * الوجه الثَّاني: في تصحيحه: [و] (¬5) قد ذكرنا رواية مسلم له، وأنَّه متَّفقٌ [عليه] (¬6)؛ أي: بين الشيخين؛ كما هو العادة بين المحدثين في [إطلاق هذه العبارة؛ أعني: قولهم: متفق عليه. وقوله: وروى مسلم، إشارة إلى أن اللفظ له. وقوله: وهو متفق عليه؛ أي: أصل الحديث متفق عليه؛ كما هو ¬

_ (¬1) زادة من "ت". (¬2) في الأصل: "شاتمه"، والمثبت من "ت" و "صحيح مسلم". (¬3) قوله: "إنِّي صائم" ليس في المطبوع من "صحيح مسلم". (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1151/ 163). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

الوجه الثالث: [في الاختيار]

العادة عند المحدثين في] (¬1) قولهم (¬2): متفق عليه، أو (¬3) أخرجه الشيخان، أو ما أشبهه، ومرادهم به الاتفاق على أصل الحديث، دون أعيان الألفاظ. وقوله: من رواية أبي هريرة، أراد: أن الاتفاق على حديث أبي هريرة، واحترز عن رواية أبي سعيد في هذا، فإنها غيرُ متَّفقٍ عليها (¬4)، بل انفرد بها مسلم (¬5). * * * * الوجه الثالث: [في الاختيار]: لهذا الحديث طرق تختلف فيها ألفاظ الرواية (¬6) بالزيادة أو النقص ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "قوله"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "و"، والمثبت من "ت". (¬4) قال الحافظ في "النكت على ابن الصلاح" (1/ 364)؛ إذا كان المتن الواحد عند أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه عنه الآخر مع اتفاق لفظ المتن أو معناه، فهل يقال في هذا أنه من المتفق؟ فيه نظر على طريقة المحدثين، والظاهر من تصرفاتهم أنهم لا يعدونه من المتفق، إلَّا أن الجوزقي منهم استعمل ذلك في كتاب "المتفق" له في عدة أحاديث، وقد قدمنا حكاية ذلك عنه، وما يتمشى له ذلك إلَّا على طريقة الفقهاء، انتهى. (¬5) في الرواية المتقدم تخريجها برقم (1151/ 165) حيث رواه من طريق أبي سنان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما. (¬6) "ت": "الرواة".

أو غيرهما؛ فرواية (¬1) سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: قال الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلَّا الصيامَ هوَ لي، وأنَا أجزِي بهِ، فوالَّذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لخُلْفَةُ فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ منْ ريحِ المسكِ" (¬2). ورواية عطاء التي اختيرت في الأصل قد ثبت فيها: "يومَ القيامةِ"، وعلي مقتضاها لا يمتنع حملُه على الحقيقة، ويكون الله تعالى يجعل رائحةَ فمِ الصائم أطيبَ رائحةً (¬3) من ريح المسك تشريفاً وتعظيماً وإظهاراً لمنزلته؛ كما يجعل رائحةَ دمِ الشهيد كرائحة المسك. وإذا لم تَمتنع الحقيقةُ حُمِل اللفظُ عليها، وليس في رواية أخرى: "يوم القيامة"، وإنَّما فيها: "أطيبُ عندَ اللهِ من ريح المسك"، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون هذا المطلق يُرادُ (¬4) به ذلك المقيد، والعِنْدِيَّة عِنْدِيَّة الحشرِ أو الدارِ الآخرة، وهذا قوي إذا كان الحديث واحدًا مُتَّحدَ المَخْرج، فإن الجمع بين اللفظين مُتَأَتٍّ من غير استكراه، فيحمل عليه، ويجعل اللفظ مختلفاً من جهة الرواة، وبعضُهم أَثبتَ ¬

_ (¬1) "ت": "فرواة". (¬2) وتقدم تخريجه قريباً. (¬3) في الأصل: "عند الله" بدل "رائحة". (¬4) في الأصل: مرادُ، والتصويب من "ت".

ما لم يثبت (¬1) الآخر، فنقبل (¬2) زيادته. والوجه الثَّاني: أن يكون المراد بذلك في الدُّنيا، وعلى هذا لا بدَّ من التأويل؛ لأنَّ علم الله تعالى إنَّما يتعلق بالأشياء على ما هي عليه، وإذا كانت متغيرة فلا (¬3) يتعلق علم الله تعالى بها إلَّا متغيرة، ومن أثبت من المتكلمين إدراكاً خارجًا عن العلم، فالأمر فيه كذلك أيضًا، لا يجوز أن تكون إلَّا على وَفْق المُدْرَك، ثم في التأويل وجهان: أحدهما: أنه يحتمل أن يقال: إن الرضا بالشيء من لوازم طيبه، فيكون المعنى إنَّ رضا الله تعالى بهذا، أو عن صاحبه، أعظمُ من رضا مُدْرِك المسك بإدراكه. وإنَّما اخترنا التأويل بالرضا لكونه (¬4) أقربَ إلى قوله عليه السلام: "السِّواك مطهرةٌ للفم (¬5)، مرضاةٌ للرب" (¬6). ثم يرجع (¬7) الأمرُ إلى معنى الرضا، فإذا جُعل بمعنى: إرادة الثواب، كان مجازَ مجازٍ؛ لأنَّ الطيبَ مجاز عن الرضا، والرضا مجاز عن إيصال النفع. ¬

_ (¬1) "ت": "يثبته". (¬2) "ت": "فقبل". (¬3) في الأصل: "ولا"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "ليكون". (¬5) "ت": "الفم". (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) "ت": "رجع".

الثَّاني: أن يكونَ من باب مجاز الحذف على أن يكون عند ملائكة الله تعالى، أو ما أشبهه (¬1)، إلَّا أنه يبعد؛ لأنه روي أن المَلَك يتأذى برائحة الفم (¬2)، وأن السواك يُطْلب لذلك؛ إما مطلقًا، وإما عند الصَّلاة؛ أو كما جاء. وإذا كان المَلَك يتأذى بذلك لم يصحَّ حَملُه عليه إلَّا أن يقال: هذا مخصوصٌ بخُلوفِ الصائم، والتأذي (¬3) يكون بخُلوف غير الصائم (¬4)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 112). (¬2) كما تقدم تخريجه من حديث عليّ - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "والثاني". (¬4) قال أبو العباس القرطبي في "المفهم" (3/ 215): لا يتوهم أن الله تعالى يستطيب الروائح ويستلذها، كما يقع لنا من اللذة والاستطابة، إذ ذاك من صفات افتقارنا، واستكمال نقصنا، وهو الغني بذاته، الكامل بجلاله وتقدُّسه، على أنا نقول: إن الله تعالى يدرك المدركات، ويبصر المبصرات، ويسمع المسموعات على الوجه اللائق بجماله وكماله وتقدسه عن شبه مخلوقاته، وإنَّما معنى الأطيبية عند الله تعالى راجعة إلى أن الله تعالى يثيب على خلوف فم الصائم ثواباً أكثر ممَّا يثيب على استعمال روائح المسك، حيث ندب الشرع إلى استعماله فيها؛ كالجُمع والأعياد وغير ذلك، انتهى. وهذا الذي رجحه الإمام النووي في "شرح مسلم" (8/ 30). قال الحافظ في "الفتح" (4/ 106): وحاصله حمل معنى الطيب على القبول والرضا. قال الإمام المحقق ابن القيِّم رحمه الله في "الوابل الصيب" (ص: 43) وما بعدها: وقد اختلف في وجود هذه الرائحة من الصائم، هل هي في الدُّنيا أو في الآخرة؟ على قولين.

الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

* الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: (كلٌّ) اسم لمجموع أجزاء الشيء (¬1)، ومعناه الإحاطة ¬

_ = ووقع بين الشيخين الفاضلين أبي محمد عز الدين بن عبد السلام وأبي عمرو بن الصلاح في ذلك تنازع. فذكر ابن القيِّم رحمه الله حجة كل واحد من الإماميين الجليلين، ثم قال: ثم ذكر - أي: أبو عمرو - كلام الشراح في معنى طيبه، وتأويلهم إياه بالثناء على الصائم، والرضا بفعله على عادة كثير منهم بالتأويل من غير ضرورة، وأي ضرورة تدعو إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله، والرضا بفعله، وإخراج اللفظ عن حقيقته، وكثير من هؤلاء ينشئ للفظ معنى، ثم يدِّعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النص، من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عينه، أو احتمال اللغة له، ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله بأن مراده من كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلوما بوضع اللفظ لذلك المعنى، أو عرف الشارع وعادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به وإلا كانت شهادة باطلة. ومن المعلوم أن أطيب ما عند النَّاس من الرائحة رائحة المسك، فمثل النَّبيُّ هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم. ونسبة استطابة ذلك إليه - سبحانه وتعالى -، كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه، فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهيته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته - سبحانه وتعالى - لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم، وهو - سبحانه وتعالى - يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه، والعمل الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا. ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال؛ إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله الرضا، فإن قال: رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا: استطابة ليست كاستطابة المخلوقين. وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب، انتهى. قلت: وهكذا كلام في غاية التحقيق والمتابعة للسلف رضوان الله عليهم. (¬1) انظر: "الخصائص" لابن جني (3/ 334).

الثانية

والعموم، وتُستعمل تابعة وغيرَ تابعة، ولذلك كانت مقدمةً في التأكيد على (أجمعين)؛ لأنَّ (أجمعين) لا تستعمل إلَّا تابعة، وهي في لفظ الحديث غيرُ تابعة. الثَّانية: قال أبو محمد بن الخشاب (¬1) في "الشرح العوني"؛ [يعني: شرحهَ لمقدمة عون الدين بن هُبيرة الوزير] (¬2): وأمَّا (كل) فالجيدُ (¬3): أخذت المالَ كلَّه، وجائز أن تقول: أخذت كل المال، وجاءني كلُّ القوم وفي التنزيل: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، ومنه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء: 20]، ومنه: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]. وقرئت الآية على وجهين: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] بالنصب على التأكيد للأمر، وقوله: (لله) خبر إن، و (كلُّه) بالرفع على أنه مبتدأ، و (لله) خبره، والجملة خبر إن. وهذا الكلامُ منه يقتضي ترجيحَ التأكيد في (كل)، وأن يكون ¬

_ (¬1) هو الإمام العلامة إمام النحو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن نصر البغدادي المعروف بابن الخشاب، يضرب به المثل في العربية، حتَّى قيل: إنه بلغ رتبة أبي عليّ الفارسي، له تصانيف كثيرة منها: "شرح مقدمة الوزير ابن هبيرة في النحو"، و"شرح اللمع" لابن جني، و"الرد على مقامات الحريري" وغيرها. توفي سنة (567 هـ). انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 102)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (20/ 93)، و"بغية الوعاة" للسيوطي (2/ 29). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "فالحد"، والمثبت من "ت".

الثالثة

تبعًا، وترجيحَ قراءة النصب في (كله) على الرفع، وأن يكون المذكور في الحديث على الوجه الجائز؛ كما في الآيات العزيزة التي تلاها ممَّا يقتضي عدمَ التبعية في (كل). الثالثة: تعرَّض بعض الأدباء لاشتقاق لفظة (كل) [فقال: ويجوز أن يكون اشتقاق (كل)] (¬1) من: كللَ الشيء: إذا صار له إكليل، ويحتمل أن يكون من قولهم: [ألقَى عليَّ كَلَّهُ؛ أي: ثقله، ويكون قولهم:] (¬2) أخذ كله؛ أي: أخذ ما يكِلُّ [به] (¬3) الحاملُ إذا حمله. الرابعة: العمل يطلق على عمل الجوارح وعلي عمل القلوب، وقد دخل الصوم تحت اسم العمل باستثنائه منه في (¬4) الحديث، ويمكن أن يجعل من أعمال القلوب؛ لأنَّه (¬5) يتمُّ بنيةٍ وكفٍّ، وكلاهما عملٌ قلبي. الخامسة: اشتُهر أن الصوم في اللغة: الإمساك، يقال: خيل صيام وصائمة، وصام (¬6) الفرس على آرِيِّه، إذا لم يَعتلِفْ (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "وفي"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "إلَّا أنه"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "صيام"، والمثبت من "ت". (¬7) انظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 390)، و"أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 365)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 350)، (مادة: صوم).

وصام؛ بمعنى: صمت؛ لأنَّه إمساك عن الكلام، وقوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] يحتمل أن يراد به الصمتُ عن الكلام، وعبَّر عنه بالصوم (¬1)، ويحتمل أن يكون [الصوم] (¬2) أطلق على العرف الشرعي في الشرع السابق على ما قيل، ويكون الصمت لازماً (¬3)، فإذا عُلم أنه صائم، عُلم أنه صامت. وعن أبي عبيدة: يقال لكلِّ مُمسكٍ عن الطعام، والشراب، والكلامِ، أو عن أعراضِ النَّاس وغيبتهم: صائم، وأنشد للنابغة [من البسيط]: خَيْلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحتَ العَجاجِ وأُخرى (¬4) تَعْلُكُ اللُّجُما (¬5) قال: قياماً من غير اعتلاف، ممسكةً عن الجري، وعن تعليك اللحم، وعن الصَّهيل. قال أبو عبيد: وقد جاء في التفسير ما يصدِّق هذا المذهب، وروى بإسناد له عن ابن عباس: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] قال: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (12/ 182)، (مادة: صوم)، و"مفردات القرآن" للراغب (ص: 500). (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "ملازماً"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "وخيل". (¬5) انظر: "ديوانه" (ص: 112)، (ق 13/ 25).

صمتاً (¬1)؛ حكاه السجستاني (¬2) في (¬3) "الزينة" عن أبي عبيد (¬4). ويقال للقائم أيضاً: صائم، وأنشد الأعشى [من المتقارب]: وهنَّ صِيامٌ يَلُكْنَ اللُّجُم (¬5) وفسر صيام بـ: قيام، وكلُّ صائمٍ قائمٌ، وهو الرافع لرأسه لا يرعى ولا يعتلف، والمَصام: المقام. قلت: جعلُ الصوم حقيقةً لغويةً في الإمساك جارٍ على القانون الذي قرَّره المتأخرون من النظَّار، وهو جعلُ المعنى العامِّ في موارد الاستعمال حقيقةً للَّفظ (¬6) (¬7)؛ لأنه يقال: صام عن الطعام، وعن الشراب، والأعراضِ، والجريِ، والصهيلِ (¬8)، والمشيِ، والاعتلافِ، وغيرِ ذلك، والمعنى العام للموارد: الإمساك. ¬

_ (¬1) ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (70/ 91). (¬2) هو الإمام أبو حاتم السجستاني النحوي، المتوفى سنة (250 هـ). (¬3) في الأصل: "عن"، والمثبت من "ت". (¬4) وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 326 - 327). (¬5) وانظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (15/ 286 - 287)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 530)، (مادة: ل أم). وصدر البيت: وقوفاً بما كان من لَأْمَةٍ (¬6) "ت": "اللفظ". (¬7) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (3/ 14). (¬8) "ت": "والصهيل والجري".

السادسة

واعلم أنَّ الذي يَظهر أنَّ الإمساكَ أخصُّ من عدم الفعل، وأنه يقتضي قصداً وكفًّا للنفس عن الفعل بعد كونه بعرضيته. وإذا كان كذلك فقد استعمل الصوم فيما لا إمساكَ (¬1) فيه بهذا الاعتبار الذي ذكرناه، فيقال: صام الماءُ؛ بمعنى: قام ودام، وصام النهار: إذا قام قائمُ الظهيرة، وركدَ الحرُّ. قال الأعشى (¬2) [من الطويل]: ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا فيحتمل أن يكون أطلقوا الإمساك على المعنى الأعمِّ العدمي، فيكون (صام الماء) و (صام النهار) حقيقةً لغويةً، ويحتمل أن يكون (صام الماء والنهار) مجازاً؛ لأن العدمَ يشبه الإمساكَ المقصود. السادسة: اللام للملك والاختصاص؛ العبدُ لزيد، والسَّرْج للدابة، ويمكن أن يجعل حقيقةً في الاختصاص؛ لأنه المعنى الأعم، فإنَّ كلَّ مِلْكٍ اختصاصٌ، وليس كلُّ اختصاصٍ مِلْكًا، وقد قدمنا من ¬

_ (¬1) "ت": "الإمساك". (¬2) كذا في "م" و "ت": "الأعشى"، والمعروف أنه لامرئ القيس، كما في "ديوانه". وكذا نسبه إليه أبو عبيد في "غريب الحديث" (1/ 328)، والأزهري في "تهذيب اللغة" (12/ 182)، والجوهري في "الصحاح" (2/ 851)، والزمخشري في "أساس البلاغة" (ص: 93)، وابن منظور في "لسان العرب" (12/ 350). وصدر البيت: فدعها وسلِّ الهمَّ عنكَ بَحسْرَةٍ

السابعة

طريقة النظَّار المتأخرين: أن المعنى العام يجعل حقيقة للّفظ؛ دفعاً للاشتراك أو المجاز. وإذا كان (¬1) بمعنى (¬2) الاختصاص على كل تقدير، فهو أعمُّ من الاختصاص النافع والاختصاص الضارِّ: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، وقد كَثُر استعمالُه في الاختصاص النافع، ويقابلُ بـ (على) في الاختصاص الضارّ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، "كلامُ ابنِ آدمَ كلُّهُ عليه، لا له" (¬3). ومما يؤكد أن مدلولَها الاختصاصُ قولُه - عليه السلام -: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له"، فإنه لا يمكن حمله على المِلك؛ إذ لا معنى لمِلك ابن آدم لما يعمله من الطاعات. وستأتي وجوهٌ في معنى قوله تعالى: "إلا الصوم فإنه لي"، وأنَّ الاختيارَ فيه عندنا: أن المعنى: كلُّ عمل ابن آدم مُقدَّرٌ له ثوابُه إلا الصومَ، فإنه لا تقدير في ثوابه، على ما سيأتي في تقريره. السابعة: ذكروا وجوهاً في معنى: "فإنه لي"، نذكر ما حضر، ثم ننظر في ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "ت": "كانت". (¬2) في الأصل: "لمعنى"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه الترمذي (2412)، كتاب: الزهد، باب: (62)، وابن ماجه (3974)، كتاب: الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة، من حديث أم حبيبة رضي الله عنها. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن يزيد بن خنيس.

قال الشيخ أبو العباس القرطبي: اختُلف في معنى هذا على أقوال: أحدها: أنَّ أعمالَ بني آدم يمكن الرياءُ فيها، فتكون لهم إلا الصيام، فإنه لا يمكن فيه إلا الإخلاص؛ لأن حال الممسك شبعاً كحال الممسك تقرباً؛ وارتضاه المازِريُّ. وثانيها: أن أعمال بني آدم كلَّها لهم منها حظٌّ إلا الصيام، فإنه لاحظَّ لهم فيه؛ قاله الخطابي. وثالثها: أن أعمالَهم هي أوصافُهم، ومناسبةٌ لأحوالهم (¬1)، إلا الصيام، فإنه استغناءٌ عن الطعام، وذلك من خواصِّ أوصاف الحقِّ سبحانه وتعالى. ورابعها: أن أعمالَهم مضافةٌ إليهم إلا الصيام، فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفاً؛ كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِى} (¬2) [الحجر: 49]. وخامسها: أن أعمالهم يُقتصُّ يوم القيامة منها (¬3) فيما عليهم إلا الصيام، فإنه لله، ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئاً. قال: قاله ابن العربي. ¬

_ (¬1) "ت": "أحوالهم". (¬2) في المطبوع من "المفهم" للقرطبي: "كما قال: (بيتي وعبادي) ". والصواب ما أثبته، ولما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله في الوجه الرابع من الاعترض على كلام القرطبي. (¬3) "ت": "منها يوم القيامة".

قال أبو العباس: وقد كنت أستحسنه (¬1) إلى أن (¬2) فكَّرت في حديث المُقاصَّة، فوجدت فيه ذكرَ الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها (¬3)، فإنه قال فيه: "أتدرُونَ مَن المفلسُ؟ " قالوا: المفلسُ فينا من لا درهم (¬4) له ولا متاعَ، فقال: "المفلسُ هو الذي يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصد قةٍ وصيامٍ، ويأتي وقد شتمَ هذا، وقذفَ هذا، وضربَ هذا، وسَفَكَ دمَ هذا، فيأخذُ هذا من حَسَنَاتِهِ، وهذا من حَسَنَاتِهِ، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليه، أُخِذَ من سيئاتهم وطُرِحَ عليه، ثم طُرِحَ في النَّارِ" (¬5)، وهذا يدل على أن الصيام يؤخذ كسائر الأعمال. وسادسها: أن الأعمال كلَّها ظاهرةٌ للملائكة، فتكتبها إلا الصوم، وإنما هو نيةٌ وإمساك، فالله يعلمه ويتولى جزاءه؛ قاله أبو عبيد. وسابعها: أن الأعمالَ قد كُشفت لبني آدمَ مقاديرُ (¬6) ثوابها وتضعيفها، إلا الصيام، فإن اللهَ يثيبُ عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا (¬7) ¬

_ (¬1) "ت": "استحسنته"، وكذا في المطبوع من "المفهم". (¬2) "ت": "ثم إني" بدل: "إلى أن". (¬3) في الأصل: "فيها"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "لا ضياع". (¬5) رواه مسلم (2581)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬6) "ت": "مقاديرها". (¬7) "ت": "له".

مساقُ الروايةِ الأخرى التي فيها: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضَاعفُ، الحسنةُ عشرُ أمثالِهَا إلى سبعِ مئةِ ضعفٍ، قال الله: إلا الصومَ، فإنَّه لي، وأنا أجزي به" (¬1). [يعني] (¬2) - والله أعلم -: أنه يجازي عليه جزاءً كثيراً من غير أن يُعيِّنَ مقدارَه ولا تضعيفَه، وهذا كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وهم الصائمون في أكثر أقوال المفسرين. وهذا قولٌ ظاهرُ الحُسْنِ (¬3)، غيرَ أنه قد تقدَّم، ويأتي في غيرِ ما حديثٍ: أنَّ صومَ اليوم بعشرة، وأن صيامَ ثلاثةِ أيام من كلِّ شهر، وصيامَ رمضان صيامُ (¬4) الدهر (¬5)، وهذه نصوص في إظهار التضعيف، فبَعُد هذا الوجه، بل بطل. والأَولى حمل الحديث على أحد الأوجه (¬6) الخمسة المتقدمة، فإنها أبعدُ عن الاعتراضات الواقعة، والله أعلم، [انتهى] (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1151/ 164). (¬2) سقط من "ت". (¬3) في المطبوع من "المفهم": "وهذا ظاهرُ قولِ الحسن"، ولعل الصواب ما أثبته. (¬4) "ت": "بصيام". (¬5) سيأتي تخريج هذه الروايات قريباً. (¬6) "ت": "الوجوه". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 211 - 213).

وهذه الوجوه لا (¬1) تكادُ تخلو من إشكالٍ، أو اعتراضٍ، أو عدم تخليص (¬2)، أو تعقيد في المجاز، أو عدم بيان وجه المجاز في اللفظ، ونذكر الآن ما يُيسِّرُ الله تعالى: أما الوجه الأول: فيظهر من قوله: إن أعمال بني آدم يمكن الرياء فيها فتكون لهم: أن معنى كونها لهم [أنها] (¬3) باطلةٌ ليست لله؛ كما جاء: "ولا تقولُوا للهِ والرحمِ (¬4)، فإنَّه للرحمِ، وليسَ للهِ فيه شيءٌ (¬5)؛ أو كما قال. وهذا باطل بالضرورة إن أخذنا الكلام على ظاهره؛ لأن إمكان الرياء لا يكون سبباً لإبطال العمل، إنما يكون سبباً لإمكان إبطال العمل، فيصير التقدير: كلُّ عملِ ابن آدم يمكن أن يكون له - أي: ¬

_ (¬1) في الأصل: "وهذا لوجوه لا" وفي "ت": "فهذه الوجوه فلا"، والصواب ما أثبت، والله أعلم. (¬2) "ت": "تلخيص". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "وللرحم". (¬5) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 51)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6836)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (8/ 90)، من حديث الضحاك بن قيس رضي الله عنه. قال المنذري فى "الترغيب والترهيب" (1/ 23): رواه البزار بإسناد لا بأس به. ورواه ابن قانع في "معجم الصحابة" بإسناد صحيح، عن الضحاك بن قيس، كما في "السلسلة الصحيحة" (6/ 624).

يمكن أن يكون باطلاً بسبب ريائه - إلا الصيام، فإنه لا يمكن أن يكون باطلاً بسبب الرياء؛ لأنه إخلاص مَحْضٌ كما ذكر، وهذا يقتضي أن الرياء لا يدخل الصوم، وليس كذلك، فإنه يمكن أن يُراءى [به] (¬1) كغيره من الأعمال، فإنه يمكن أن يُظهر الصائمُ من الحالات والهيئات ما يُشعر بصومه رياءً [و] (¬2) طلباً للعَرَضِ الدنيويِّ، نعم حصول الإخلاص فيه أيسرُ من حصوله بالأعمال الظاهرة التي تتوقَّفُ على الجوارح، [و] (¬3) لكنْ يشاركُ الصومَ في هذا سائرُ ما يُثاب عليه من النيات والعزوم والأعمال القلبية؛ كالتوكل على الله والتفويض إليه، فإنها (¬4) لا يَظهر فيها عملٌ كما لا يظهر في الصوم المَنْوِيِّ مع الإمساك عمل. وقد صرَّح (¬5) الحديثُ الصحيح بالثواب على الترك مع النية من غير إظهار عمل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "قالَتِ الملائكةُ: ربِّ ذاكَ عبدُك يريدُ أن يعملَ سيئةً، وهو أبصرُ [به] (¬6)، فقال: ارقُبُوه، فإنْ عملَهَا فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جَرَّايَ" (¬7)؛ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "فإنه". (¬5) في الأصل: "يصرح"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) رواه مسلم (129)، الإيمان، باب: إذا همَّ العبد بحسنةٍ كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

أي: من أجلي، فهذا تركٌ اقترنَ به نيةٌ من غير عمل ظاهر، و [قد] (¬1) كتب له حسنة، وهو غير الصوم، ولا يكون علة اختصاص الشيء (¬2) بأمر مشترك بينه وبين غيره. فإن قلت: لم تصنعْ أكثرَ من إبداء صورة - أو صور غير الصوم - تكونُ لابن آدم، وليس فيه أكثر من تخصيصِ عمومِ: " [كلُّ] (¬3) عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلا الصومَ"، ولا إنكارَ في تخصيص العموم. قلت: لا ننكرُ أن يخصَّ (¬4) هذا العموم إذا ثبت أن هاهنا عملاً آخر غير الصوم يكون لابن آدم، وإنما أنكرت تسليمَك اختصاص الصوم بكونه لابن آدم دونَ سائر أعماله معلِّلاً لهذا الاختصاص بعلة لا تختص بالصوم، فليس (¬5) هذا مُجرَّد تخصيص العموم، فإنه لو قام دليل على تخصيص العموم لخصصناه، ولم يلزم منه هذا المنكر الذي أنكرناه، فهذا إنما نشأ من جعلك علةَ الاختصاص ما هو مشتركٌ. وأما الوجه الثاني: وهو أنَّ أعمال بني آدم كلَّها لهم منها حظٌّ إلا الصيام، فإنه لا حظَّ لهم فيه؛ فإما أن يُعنى بالحظِّ الحظَّ الدنيوي، أو الأخروي. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "الصوم". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "يخصص". (¬5) "ت": "وليس".

فإن أراد [به] (¬1) الحظَّ الدنيوي؛ بمعنى: [أن] (¬2) لهم في الأعمال التي هي غير الصوم ما يوافق أغراضَهم ويلائم طباعَهم إلا الصوم، فهذا لا يصح؛ لأن هاهنا أعمالاً كثيرة هي أشقُّ من الصوم، وأصعب على النفس، وأبعد من (¬3) موافقة الطباع (¬4) والغرض الدنيوي؛ كضرب الرقاب في سبيل الله، وقطع الأيدي، والقيام الطويل في الليالي الطوال، وما لا يُحصى من الأعمال المُشِقَّة، التي لا توافق الطبع، ولا فيها حظٌّ للنفس دنيويٌّ. وإن أراد [به] (¬5) الحظَّ (¬6) الأخروي، وهو الثواب، فالصوم مشترك مع غيره في ذلك، لمن يقصد بعمله الثواب والأجر الأخروي، ولا اختصاصَ للصوم بذلك، وكذلك من لا يقصد بعمله الثوابَ والجزاء لا فرقَ عنده بين الصوم وغيره في سقوط حظه من قصد الثواب والجزاء (¬7). وإن أراد بالحظ ما يرجع إلى الرياء فهو الوجه الأول، وقد قدَّمنا ما فيه. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "عن". (¬4) "ت": "الطبع". (¬5) سقط من "ت". (¬6) في الأصل: "حظ"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "الجزاء والثواب".

وأما الوجه الثالث: [وهو] (¬1) أنَّ أعمالَهم هي أوصافهم، مناسبةٌ لأحوالهم، إلا الصيام، فإنه استغناء عن الطعام، وذلك من خواصِّ الحق - سبحانه وتعالى -، فهذا عندي من المجاز، ولكن يحتاج إلى بيان نوعه من أنواع المجاز، ووجه العلاقة. فنقول: هذا يجري مجرى قول الإنسان لمن ذُكر له فعلٌ عن غيره: هذا له؛ بمعنى: أنه مناسب ولائق بأحواله وأفعاله. ووجه المجاز [فيه] (¬2): أن اللام تقتضي الإذن في الفعل، والإذن فيه ميسَّر لفعله؛ كما أن المنع منه مُعسَّر لفعله، وما عليه الإنسان من الأخلاق والطباع إذا اقتضت شيئاً تيسَّر فعله عليه بسبب خُلُقه وطبعه وملائمة الفعل له، فقد يشابهُ تيسُّرُ الفعل بمقتضى الخِلْقة والطبيعة والأحوال تيسِّرُهُ بسبب الإذن [و] (¬3) الإباحة [له] (¬4)، فأطلقَ على تيسره بالخلق والطبيعة الصيغةَ المستعملةَ في الإذن؛ لاشتراكهما في تسبب التيسير. ويلزم على قوله: (وذلك من خصائص الحق - سبحانه وتعالى -): أن يكون الملائكةُ - صلوات الله وسلامه عليهم - يأكلون ويشربون، وهذا أقلُّ ما يلزم هذا القائل عليه أن يقيمَ دليلاً شرعياً يقتضي الخبر عنهم بذلك ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

حتى يصحَّ (¬1) [له] (¬2) أن يجزم الحكم عليهم به، هذا مع ما تقرَّر في نفوس المؤمنين وغيرهم من خلافِ (¬3) ما يقتضيه قولُه، وتنزيهِ (¬4) الملائكة عن الأكل والشرب. وقد ذكر بعضهم في الحديث ما معناه: أنه صفةُ ملائكتي، كما سنذكره، وهذا مخالفٌ لما قال، ومع الاختلاف فلا بدَّ من دليل يدلُّ على ما جزم به. وأما الوجه الرابع: [وهو] (¬5) أن أعمالهم مضافة إليهم إلا الصيام، فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفاً، كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِىَ} [الحجر: 49]. وهذا وجه قريب، فإن إضافةَ التشريف معلومةٌ، غيرَ أنه [ينبغي] (¬6) تتبُّعُ ألفاظِ الكتاب والسنة حتى لا يبقى فيها شيءٌ أضيفَ للهِ تعالى غير الصوم. وقول هذا القائل: كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِىَ} [الحجر: 49]، فليس كما يظن به من قوله تعالى: "فإنه لي"، وهذه الإضافة في "الصوم لي" ليست كذلك، فإنه ليس في: "الصوم لي" من معنى إضافة التشريف ¬

_ (¬1) "ت": "لا يصح". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "خلافه"، والمثبت من "ت". (¬4) اسم معطوف على (ما) في الجملة السابقة. (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

ما في قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِىَ} [الحجر: 49]، و {عَبْدَنَا} [ص: 41]، فإن اللام للملك أو الاختصاص، وذلك لا يقصد به تشريف بنفسه، فإن لله ما في السموات وما في الأرض، [وليس القصدُ تشريفَ كل ما في السموات وما في الأرض] (¬1)، ولا يفهم منه ذلك، بخلاف قوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِىَ} [الحجر: 49]، و {عَبْدَنَا} [ص: 41] (¬2). وأما الوجه الخامس: وهو أن أعمالهم يقتصُّ منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام، فإنه ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذَ منه شيئاً. فهذا الوجه [الحسن] (¬3)، وإن حَسُنَ من حيث انطباقُه على اللفظ من غير تكلفٍ، ولا مجازٍ معقَّد، إلا أنه لا يجوز أن يقالَ به إلا أن يرِدَ توقيفٌ بنصٍّ يقتضيه، وأما مُجرَّد الاحتمال فلا يجوز. فلو (¬4) لم يكن إلا هذا، لكفى في التوقف عن القول به، لا سيَّما مع ما ذكره أبو العباس، وساقه من حديث المُقاصَّة، وقوله: وهذا يدل على أن الصيام يؤخذ كسائر الأعمال. وظاهر (¬5) الحديث كما ذَكر، إلا أنه لو وُجدَ دليل صحيح على أن ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "نبئ عبدنا وعبادي" وفي "ت": "عبدنا وعبادي"، والصواب ما أثبت. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "ولو". (¬5) "ت": "فظاهر".

الصومَ لا يؤخذ في القصاص، أمكنَ الجواب عن العمل بظاهر حديث المُقاصَّة، وإذا لم يَرِد فلا يجوز العدول عن الظاهر لمُجرَّد احتمالٍ لا دليلَ عليه. وقول أبي العباس: قاله ابن العربي، يفهم منه أنه جعله قولاً له مرضياً، وليس الأمر على ذلك فيما هو على ذهني، وإنما حكاه. وأما الوجه السادس: وهو أن الأعمال كلها ظاهرة للملائكة، فتكتبها الملائكة، إلا الصوم، فإنما هو نية وإمساك، فالله يعلمه، ويتولَّى جزاءَه، فهذا، وإن قَرُب في قوله: "لي" بأن يكون معناه: أني منفردٌ بالاطلاع عليه، لكنَّ تنزيلَ قوله: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له" على أنه تَطَّلِعُ (¬1) عليه الملائكة، بعيدٌ لا يتوجَّهُ إلا بمجازِ تعقيد (¬2). وأما الوجه السابع: فلم (¬3) أزل أعتقد أنه المراد بالحديث المطلق؛ لقوة دلالته على أن عملَ ابن آدم مقدَّرٌ بعشرة أمثاله إلا الصوم فإنه غير مقدر، بل أُبهمَ ثوابُه تعظيماً له؛ لتذهب النفس في تعظيم ثوابه كلَّ مذهب، وهذا الحديث قريب (¬4) من النصوصية في التقدير لغير الصوم وعدم التقدير في الصوم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تتطلع"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "لمجاز يعتقد"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "وهو فلم"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "كالقريب"، والمثبت من "ت".

والذي أورده أبو العباس من أن صومَ اليوم بعشرة (¬1)، وأن صيامَ ثلاثة أيام من كل شهر (¬2)، وصومَ (¬3) رمضان صيامُ الدهر (¬4)، وقوله: وهذه نصوص في إظهار التضعيف، فبَعُد هذا الوجه، بل بطل. فنقول: إن الحديث الذي فيه تفسيرُ كونها له بعشرة، واستثناء الصوم عن ذلك، لا شيءَ أقوى منه في تفسير هذا اللفظ وانطباقه عليه، وهو حديث صحيح، فيتعيَّن المصيرُ إليه، وما يَرِدُ عليه إن أمكن عنه جواب فذاك، وإلا قلنا بأنه المراد، ولو وقف علينا الجواب، وكم من لفظ متبيِّن غير خافٍ في الدلالة، يرِدُ عليه ما يَعجزُ عن جوابه بعضُ الناس. والذي تمكن عندي أن يجاب عن هذا: بأنَّ (¬5) التقدير محمول على التقدير في أصل تضعيف الثواب الذي وجب بالوعد ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (762)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام من كل شهر ثلاثة أيام، فذلك صيام الدهر"، فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك في كتابه: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] اليوم بعشرة أيام. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. (¬2) رواه البخاري (1875)، كتاب: الصوم، باب: صوم الدهر، ومسلم (1159)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬3) "ت": "وصيام". (¬4) رواه مسلم (1164)، كتاب: الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان، من حديث أبي أيوب رضي الله عنه. (¬5) في الأصل: "أن"، والمثبت من "ت".

الثامنة

الكريم أن لا يُنقصَ عنه، وما زادَ على العشر إلى السبع مئة فالأمرُ فيه مفوَّضٌ إلى مُجرَّد المشيئة، لا أنه داخل في أصلِ وضعِ الثواب، والوعد به الذي يوجب وقوعه (¬1). وأما الصوم فإنه في أصل وضع الثواب غيرُ مقدَّر بشيء معين يكون الزائد عليه غير موعود [به] (¬2)، بل الموعود عليه في الصوم ثوابٌ غير مقدر بعدد في أصل وضع الثواب، وهذا المعنى لا ينافي أن يحصلَ تحت هذا الأمر العظيم عددٌ يُذكرُ؛ لا على معنى تقييد الوعد به، بل لأنه فردٌ من أفراد ما تعلَّق الوعد به من عدم انحصار الوعد في عدد، فالحاصل أن الأعمالَ غيرُ الصوم، وتقديرَها بالعشر هو الموعود به الذي يجب وقوعُهُ بالوعد، والصومُ لا تقديرَ فيه في أصل وضع الثواب، [وما يذكر من عدد فلأنه فرد؛ أي (¬3): من الموعود به، لا أنه مُتعلَّقُ الوعد في أصل وضع الثواب] (¬4). الثامنة [من المفردات] (¬5): ذكر صاحب "جامع اللغة" (¬6) محمد ابن جعفر: أنَّ الجزاء: المكافأة على ما يفعله الإنسان من خير أو شر، ¬

_ (¬1) في الأصل: "يتوعده"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) جاء في الأصل: "فرد أي أفراد من الموعود به"، وقد وضعت إشارة تدل على الحذف فوق (أي)، ولكن العبارة تستقيم بما أثبت، والله أعلم. (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "الجامع في اللغة".

التاسعة

يقال فيه: جزاه يجزيه جزاءً حسناً وجزاءً سيئاً. قال: والجزاءَ أيضاً الاكتفاءُ بالشيء، يقال: فلان ذو غَناء وجزاء؛ أي: يكتفي به (¬1). التاسعة: مادة (الجنّة) من الاستتار والستر، ومنه: الجِنَّةُ والجُنَّةُ والجِنُّ والمِجَنُّ (¬2)، ومعنى الاستتار شامل للكل، والحقيقة فيه الستر الحسي، وغيره مجاز، والصوم من المعاني فلا يكون الستر حقيقة فيه، ثم للمجاز [فيه] (¬3) وجوه، ستذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى. العاشرة: (الرَّفَثُ) يطلق ويراد به: الجماع، [يقال] (¬4): رفث إلى امرأته؛ [أي] (¬5): أفضى إليها، قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. يقال: رفَث، بفتح الفاء، يرفُث، بضمها وكسرها، ورفِث، بكسرها في الماضي، يرفَث بفتحها في المستقبل، رفْثاً، بسكونها في المصدر، وفتحها في الاسم؛ قاله القرطبي (¬6)، وهو محمول على الجماع. ويطلق على الإفحاش في الكلام؛ رفثَ في كلامه، وأرفثَ، ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 213). وانظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2302)، (مادة: ج ز ى). (¬2) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 203). (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) انظر: "المفهم" له (3/ 214).

الحادية عشرة

وترفَّثَ، قال بعضُهم: إذا أفحش، وأفصح (¬1) بما يجب أن يُكنى عنه من ذكر النكاح. وقال الزَّجَّاج - فيما حكاه عنه الواحدي -: الرفثُ: كلمةٌ جامعة لكلِّ ما يريده الرجل من المرأة، انتهى. وترافثَ الرجلان، ورافثَ صاحبَه مرافثة، ومنه: ما هذ منافثةٌ، إنَّمَا هيَ مُرَافَثَة. قال العجَّاج [من الرجز]: ورُبَّ أَسرابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ عنِ اللَّغا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ وقيل: الرفثُ بالفرج: الجماع، وباللسان: المواعيد بالجماع، وبالعين: الغمز للجماع (¬2). الحادية عشرة: الصَّخَبُ: اختلاط الأصوات يقال: في البيت صخبٌ، وقد صَخِبَ فلان يصخَب، فهو صخِبٌ، وصاخب، وتقول: ما هو صاحب، إنما هو صاخب. وهو صخَّاب في الأسواق، واصطخبوا، وتصاخبوا، وسمعتُ ¬

_ (¬1) "ت": "وفصح". (¬2) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 240)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله.

الثانية عشرة

اصطخابَ (¬1) الطير، وصاخبَهُ مصاخبةً. قال الزمخشري - رحمه الله -: ومن المجاز: وادٍ صخب الآذِيّ، واصطخبت أمواجه، وعود صَخِب الأوتار (¬2). وذكر بعضهم: أن الصَّخَبَ: اختلاطُ الأصوات وكثرتُها ورفعها بغير الصواب (¬3). وهذا تقييدٌ منه، وقد قدمنا أنه مطلق ارتفاع الأصوات، وقد يكون ذلك بنفسه مكروهاً؛ لما فيه من مخالفة الوقار والسَّمْت الحسن والتُّؤَدة. ويقال: السَّخَب، بالسين أيضاً (¬4). الثانية عشرة: قيل: إن في بعض الروايات: "ولا يسخر"، وهو غير المعروف (¬5)، وكأنه عندي تصحيف (¬6)، فإنْ صحَّ، فالسخرية: ¬

_ (¬1) في الأصل: "اصخاب"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 349). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 214). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. وانظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 109). (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 109)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 214). (¬6) وكذا قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (8/ 31) قال: وهذه الرواية تصحيف، وإن كان لها معنى.

الثالثة عشرة

الاستخفاف (¬1) والاستحقار، أو ما يقرب منه (¬2)، يقال: سَخِرَ منه وبه، واستسخر، واتخذه سِخريًّا، وسُخريًّا، وفلان سُخَرَة، وسُخْرَة: يضحك منه الناس، [ويضحك به الناس] (¬3)، وهو: مسخرة من المساخر، ويقال: ربَّ مساخرَ يعدّها الناس مفاخرَ! (¬4) الثالثة عشرة: يقال: سابَّه، وتسابُّوا، واستبُّوا، وهو سِبَّة - بكسر السين -؛ أي: سبوه، وإياكَ والمسبّةَ والمسابَّ، ولا تكنْ سُبَبَةً؛ كضُحَكَة وضُحْكَة. وذكر الزمخشري أنَّ [من] (¬5) المجاز: خيلٌ مسببَّةٌ: يقال لها: قاتلها الله، وأخزاها، إذا استجيدت. قال الشمَّاخ [من الطويل]: مُسَبَّبةٌ قُبُّ البطونِ كأنَّهَا ... رماحٌ نَحاها وجهةَ الريحِ راكِزُ (¬6) وفي هذا بحث؛ لأن المجاز في مسببة؛ إما في الإفراد أو (¬7) التركيب، ولا مجاز في الإفراد؛ لأن السبَّ مستعمل في حقيقته، ¬

_ (¬1) في الأصل: "استخفاف"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 110). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 289). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 281 - 282). (¬7) في الأصل: "و"، والمثبت من "ت".

الرابعة عشرة

ولا في التركيب؛ لأن السبَّ منسوبٌ إلى الخيل نسبة المفعولية؛ أي: المسبوبة (¬1)، ونسبتُها إليه على نسبة المفعولية حقيقةٌ؛ لأنها مسبوبة حقيقة. قال بعض المباحثين: استعملَ لفظ الذم في المدح، وهو مجاز، إلا أنه يلزم عليه مجاز آخر، وهو استعمال اللفظة الواحدة في معنيين مختلفين. الرابعة عشرة: قال ابن سِيدَه: والوَحَدُ (¬2) والأحدُ كالواحد، همزتُه بدلٌ من واو. وقال أيضاً: رجل أَحَدٌ، ووَحَا، ووحيدٌ، ووَحِدٌ، ووَحْدٌ، ومتوحِّدٌ (¬3)، والأنثى: وحدة، حكاه (¬4) أبو علي في "التذكرة"، وأنشد: كالبَيْدَانةِ الوَحَدَه وقال أيضاً: يقال: هذا إحْدَى الإِحَد (¬5)؛ يعني: بكسر الهمزة، ¬

_ (¬1) في الأصل: "المنسوبة"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "الواحد". (¬3) "ت": "ووحُد ووحيد متوحد". (¬4) "ت": "وحكاه". (¬5) تقول: أَتَى بإِحْدَى الإِحَدِ؛ أَي: بالأَمْرِ المُنْكَرِ العظيمِ، ويقال ذلك عند تَعظيم الأَمرِ وتهويلِه، ويقال: فلان إِحْدى الإِحَد؛ أَي: واحدٌ لا نظَير له؛ قاله ابن الأَعرابيّ؛ فلا فَرْقَ في اللّفظ ولا في الضّبط. وانظر: "تاج العروس" للزبيدي (مادة: وح د).

الخامسة عشرة

وأَحَد الأَحَدِين، وواحد الآحاد (¬1). الخامسة عشرة: المقاتلة: مفاعلةٌ تقتضي (¬2) أن تكون من اثنين، وكذلك (قاتلَه). ولا يَحسنُ حملُ الحديث عليه، فإن المراد: إن سبَّه فليقل، وليس المراد (¬3): إن تسابا [فليقل] (¬4)، فإنهما إذا تسابا فقد وقع المحذور من الصائم، فيمكن أن يقال: إن (قاتَلَه) من باب طارَقَ وسافَرَ (¬5) وعاقَبَ (¬6) من ما يكون من واحد، ويمكن أن يكون على الأصل بوجه مجازي، وهو أن يكون من باب إطلاق لفظ الشيء على ما قاربه، فإن المسبوبَ غضبُهُ (¬7) لأجل السبِّ [يَحملُه على المقابلة بمثله، فيقارب أن يسبَّه، فُجعلُ سابًّا بالقربة من السب] (¬8). وقد حملوا قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] على: قاربن أجلهن. ومن دقيق [هذا] (¬9) ما قيل في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (3/ 490 - 491). (¬2) في الأصل: "تقتضي من"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "يراد"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "ساحر"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "عاقد"، والمثبت من "ت". (¬7) في الأصل: "تثور عصبيته"، والمثبت من "ت". (¬8) زيادة من "ت". (¬9) زيادة من "ت"

السادسة عشرة

رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى} [هود: 45] أن المراد: قارب النداء، لا أوقع النداء؛ لدخول الفاء في: (فقال)، فإنه لو وقع النداء لأسقطت (¬1)، وكان ما ذكر تفسيراً للنداء؛ كما في قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ] [آل عمران: 38]، فهو تفسير لندائه، فأسقطت الفاء. السادسة عشرة: المجازُ على كل تقدير لازمٌ، سواء جعلنا (قاتله) من باب المفاعلة، أم على معنى قتله؛ [لأن القتل لازم حقيقة غير مراد، فإذا حملنا الصيغة على معنى (قتله)] (¬2) كان فيه مجازان: أحدهما: استعمال صيغة المبالغة (¬3) في غير موضعها، الذي هو أن تكونَ من اثنين. والثاني: المجاز الذي في لفظ (قتل)، فإنَّ (قتل) حقيقةٌ في إزهاق الروح، أو الفعلِ المُفضي إليه. هذا إن (¬4) حملنا (قاتلَ) على (قتل)، وإن تركناه على معنى المفاعلة على أصله، فلا بدَّ من المجازِ في اللفظ الدال على القتل؛ كما ذكرنا آنفاً، والمجازِ (¬5) في تسمية ما قارب الشيء باسمه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فأسقطت"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) كذا في الأصل و "ت"، والمراد: صيغة المفاعلة. (¬4) "ت": "إذا". (¬5) في الأصل: "اتفاق"، والمثبت من "ت".

السابعة عشرة

السابعة عشرة: إذا تعيَّنَ المجاز في (قاتله)، أو (قتله)، فلا بدَّ من تحرير العبارة في المعنى المجازي المراد بـ (قتله)، أو (قاتله). الثامنة عشرة: الخُلُوف: بضم الخاء المعجمة واللام، قال أبو عبيد: الخلوف: تغيُّر طعم الفم لتأخير الطعام، [يقال] (¬1): خلَف فمْه، يخلُف خُلوفاً؛ قاله الكسائي، والأصمعي، وغيرهما. قال: ومنه حديث علي - رضي الله عنه - حين سئل عن القُبلة، فقال: وما أَرْبُك (¬2) إلى خُلوف فيها (¬3). وقال ابن دُرَيد في "الجمهرة": وخلَف فوه خُلوفة، وخُلافة: إذا تغير من صوم، أو مرض (¬4). وقال ابن فارس في "المُجْمَل": وخلَف فوه: تغيَّرت رائحته (¬5). [وقال الجوهري: وخلف فم الصائم خُلُوفاً: إذا تغيَّرت رائحتُه] (¬6) (¬7). وقال ابن سِيْدَه: وخلف اللبن وغيره، وخلف يخلُف خلوفاً: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل و "ت": "أردت"، والمثبت من المطبوع من "غريب الحديث". (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (7428). وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 327). (¬4) انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 615). (¬5) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (1/ 300). (¬6) سقط من "ت". (¬7) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1356)، (مادة: خلف).

التاسعة عشرة

تغيَّرَ ريحُه وطعمه، وخلف فوه يخلُف خلوفاً: تغير، ومنه: "خُلُوفُ فمِ الصائمِ"، وقد خلف فوه، وأخلف، لغتان (¬1). قال محمد بن جعفر التميمي في كتاب "جامع اللغة": وقال بعضهم: إنما يقال: أخلف فوه؛ أي: حدث له رائحة بعدما عهد منه، وأنشد [من الكامل]: بَانَ الشَّبَابُ وأخْلَفَ العَمْرُ (¬2) والعَمْر هاهنا: اللحم الذي بين (¬3) الأسنان، ويريد بقوله: أخلف: تغيرت رائحته. قلت: العَمْر هاهنا: بفتح العين وسكون (¬4) الميم. التاسعة عشرة: يجوز أن يطلق الخلوف على الجسم الحامل (¬5) للخلوف، الذي هو التغير، وسيأتي بحث متعلِّقٌ بذلك. ويقع في ألسنة [الفقهاء] (¬6): (خَلوف فمِ الصائم) بفتح الخاء، ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 203)، (مادة: خلف). (¬2) صدر بيت لابن الأحمر، كما نسبه إليه ابن سيده في "المحكم" (2/ 151)، والزمخشري في "الفائق في غريب الحديث" (1/ 387)، وابن منظور في لسان العرب (4/ 601). وعجزه: وتبدَّل الإخوانُ والدَّهرُ (¬3) في الأصل: "من الأسنان"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "فسكون". (¬5) "ت": "الحاصل". (¬6) زيادة من "ت".

العشرون

وقد غُلِّط قائله؛ لأنه ينقل المعنى إلى غير المراد به، المستحيل إرادته هاهنا، فإن (الخَلوفَ) الشخصُ الذي يكثر إخلافه لوعده (¬1). العشرون: ذكر الراغب: أنَّ (عند) لفظٌ موضوع للقرب؛ فتارةً يستعمل في المكان، وتارةً للاعتقاد؛ نحو: عندي كذا، وتارة في الزُّلفى والمنزلة، وعلى ذلك قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وعلى هذا النحو قيل: الملائكة المقربون، وقال تعالى: {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرُ وَأَبْقَى} [الشورى: 36]. وقوله: {فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَذِبُونَ} [النور: 13]، [وقوله] (¬2): {وَتَحْسَبُوَنَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وقوله عز وجل: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32]، فمعناه: في حكمه. والعنيد: المعجب بما عنده، [قال تعالى: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24]، وقال: {إِنَّهُ كَانَ لِأَيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر: 16]. والعنود] (¬3): قيل: مثله؛ يعني: أنه هو، وقيل: بينهما فرق (¬4)؛ لأن العنيد: الذي يُعاند ويخالِف، والعَنُود: الذي يَعْنُدُ عن القصد. ¬

_ (¬1) انظر: "إصلاح غلط المحدثين" للخطابي (ص: 101 - 102)، و "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 239)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 215)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 29). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في المطبوع من "مفردات القرآن": "قال: لكن بينهما فرق".

الحادية والعشرون

قال: ويقال: بعير عَنود، [ولا يقال: عنيد (¬1)] (¬2)، وأما العنيد فجمع عاند، وجمع العَنُود: عَنَدَة، [وجمع العنيد: عُنُد] (¬3). وقال بعضهم: العُنُود: هو العدول عن الطريق، لكن خُصَّ العنود بالعادل عن الطريق في الحكم، وعَنَدَ عن الطريق: عَدَل عنه. وقيل: عاندَ: لازَم، وعاند: فارق، وكلاهما مِنْ: عَنَدَ، لكن باعتبارين مختلفين؛ [كقولهم: (البَين) في الوصل والهجر باعتبارين مختلفين] (¬4) (¬5). قلت: قوله: وتارة للاعتقاد؛ نحو: عندي كذا، ينبغي أن يُبدل لفظة الاعتقاد بالعلم، أو يَجمع بينهما معاً؛ لأن ذلك يُستعمل بالنسبة إلى علم الله تعالى، ولا يقال له: اعتقاد. الحادية والعشرون: الفرح: انبساطُ النفس وسرورها بما يَرِد عليها من الملائم، والفرحة: الواحدة منه. وقد تطلق الفرحة على سببها، يقال: لك عندي فرحة؛ أي: بشرى؛ [لأن البشرى] (¬6) سببُ الفرحة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عنيدة"، والصواب ما أثبت. (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 590). (¬6) زيادة من "ت".

والرجل فَرحان، ومِفْراح، ويقال: أفرحه كذا؛ بمعنى: سرَّه، وأفرحه؛ بمعنى: غمَّه، والهمزة للسَّلْب. وأنشد [من البسيط]: ولما تَوَلَّى الجَيْشُ قُلْتُ ولمْ أكنْ ... لأُفْرِحَهُ: أَبْشِرْ بغزوٍ (¬1) ومَغْنمِ (¬2) ولو أراد السرور لكان قد أفرحه، ولم يصح قوله: ولم أكن لأفرحه، ومنه يقال: المرء دائر بين مُفْرِحين، قاعدٌ بين سلامة وحَيْن (¬3). وقال أبو محمد بن قُتيبة: [الفرح] (¬4): المسرَّة، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا كنُتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} [يونس: 22]؛ أي: سُرُّوا. والفرح: الرضا؛ لأنه عن المسرَّة يكون، قال الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32؛] أي: راضون، [و] (¬5) قال: {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83]؛ أي: رضوا. والفرح: الأَشَرُ (¬6)؛ لأن ذلك عن إفراط السرور، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]، [وقال: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10]، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بعز"، والمثبت من "ت". (¬2) البيت لابن الأعرابي، كما نسبه إليه الزمخشري في "أساس البلاغة" (ص: 468). وعنه نقل المؤلف رحمه الله هنا. (¬3) في الأصل: "خير"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "البطر".

الثانية والعشرون

وقال: {ذَلِكمُ بِمَا كنُتُمْ تَفْرَحُونَ] (¬1) فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [غافر: 75]. وقد تبدل الحاء هاءً في هذا المعنى، فيقال: فره؛ أي: بطر، قال الله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 149]؛ أي: أشرين بطرين. والهاء تبدل من الحاء لقرب مخرجيهما، تقول: مدحته، ومدهته؛ بمعنى واحد (¬2). الثانية والعشرون: قد ذكرنا: أن الذوات [قد] (¬3) يُقصد بذكرها صفاتُها الجميلة المناسبة لما يذكر معها؛ كما تقول: أنت تقول كذا؟! ومثلُك يفعل كذا؟! ويراد به مناسبة صفته لذلك الفعل، فقوله تعالى: {وَأَنَا} [طه: 13] قد يَجري هذا المجرى، فكأنه يقال: وأنا المحسنُ المنعمُ الواسعُ العطاءِ أجزي به. الثالثة والعشرون: تأمل إشارة تقديمه الضمير [العلي] (¬4) في صدر الكلام، والفرق بينه وبين (الصوم لي)، و (أجزي به) لو قيل (¬5)، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (ص: 380). (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) أي: لفظ الحديث: "وأنا أجزي به"، و"فإنه؛ أي: الصوم، لي"، وليس: وأجزي به، والصوم لي، وفي لفظي الحديث تقديم للضمير الذي يعود =

الرابعة والعشرون

فإن فيه إشارة عُظمى إلى فضيلة الصوم. الرابعة والعشرون: الْمَحِ المناسبةَ بين "لي" و"أجزي به". الخامسة والعشرون: استبعد بعضهم أن يكون المراد بفرح الصائم [عند فطره: فرحه بما يتناوله من الطعام والشراب] (¬1) (¬2). * * * * الوجه الخامس: في شيء من العربية، وفيه مسائل: الأولى: "سابَّه" قد اجتمع فيه ساكنان، ولا يلتقي ساكنان في الأَعرف من كلام العرب في الوصل إلا بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون الأول حرف مدٍّ ولين: ألفاً، أو واواً مضموماً [ما] (¬3) قبلها، أو مفتوحاً، [أو ياء ساكنةً مكسوراً ما قبلها] (¬4). الثاني: أن يكون الثاني من الساكنين مشدَّداً. الثالث: أن يكون الساكنان من كلمة واحدة؛ نحو: دابَّة (¬5). وهذه الشروط موجودة في "سابَّه"، أما الألف (¬6) فظاهر، وكذلك ¬

_ = على الخالق سبحانه وتعالى. (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 112). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "الكتاب" لسيبويه (4/ 152). (¬6) "ت": "الأولى".

الثانية

كونه من كلمة واحدة. وأما الإدغام فجاء؛ لأن المثلين إذا التقيا في الفعل، وكان الحرف صحيحاً، وكان الثاني منهما متحركاً بحركة لازمة، فالإدغام، نقول (¬1): ردَّ، وشدَّ، وشمَّ، وأردُّ، وأشَمُّ. وهذه الشروط موجودة في "سابَّ"؛ لأن الأصل سابب، فاجتمع المثلان في كلمة واحدة، والثاني متحرك بحركة لازمة، فجاء الإدغام الذي هو أحد الشروط الثلاثة. وقولنا: حركة لازمة، احترازٌ عن الحركة العارضة، كما إذا كان الثاني ساكناً سكوناً تصل إليه الحركة؛ نحو: لم نردد، واردُد (¬2)، فإن الحركة تصل إلى هذا الحرف الثاني الساكن فنقول: لم يرددِ الرجل، واردُدِ (¬3) المتاعَ، فهذا يختلف فيه العرف على ما يتبين (¬4) في موضعه إن شاء الله. الثانية: (أحدٌ) أحدُ المواضع التي أُعلَّت فيها الواو فاءً مع فتحها، وهو شاذٌّ باتفاق، ومثله في الشذوذ (أناة) (¬5). ¬

_ (¬1) "ت": "نحو" بدل "نقول". (¬2) في الأصل: "نزدد وازدد"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "وازداد". (¬4) "ت": "تبين". (¬5) قال في "العين" (مادة: أن ى): ويقال للمرأة المباركة الحليمة المواتية: أناة، والجمع: الأنوات. قال أهل الكوفة: إنّما هي من الوَنىَ، وهو الضّعف، ولكنّهم همزوا الواو.

الثالثة

وإنما اختلفوا إذا كانت مكسورة؛ كإشاح في وشاح؛ هل يُوقَفُ فيه على السماع، أو يكون قياساً؟ والمنقول عن الخِرَقي: أنه ذهب إلى الوقوف على ما سمع. وأنَّ أكثر النحويين ذهبوا إلى القياس؛ لأنه كثير، ومثلُ (أناة) واحد أسماء (¬1). وقد استُضعف هذا الإبدال؛ لأن الهمزة لا تجتمع مع الواو، ألا ترى أن هذه من حروف طرف الفم، والهمزة من أقصى الحلق. واعتُذرَ: أنهم (¬2) [قد] (¬3) أبدلوا الواو من الهمزة كثيراً، فلذلك (¬4) أبدلوا الهمزة من الواو، قال بعضهم: وعلته (¬5) - والله أعلم - أنهما وإن بَعُدا في المخرج، فقد تقاربا في الصفة (¬6). الثالثة: قال ابن سيده في "المحكم": والمَرْءُ: الإنسان، تقول: هذا مَرْءٌ، وكذلك (¬7) في النصب والخفض بفتح الميم، هذا (¬8) هو القياس، ومنهم من يضم الميم في الرفع، ويفتحها في النصب، ¬

_ (¬1) أي: كلمة (اسم)؛ لأنها من مادة (وس م). (¬2) "ت": "بأنهم". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "وكذلك"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "وعليه"، والتصويب من "ت". (¬6) وانظر: "المقتضب" للمبرد (1/ 94). (¬7) في الأصل: "كذلك"، والمثبت من "ت". (¬8) في الأصل: "لهذا"، والمثبت من "ت".

ويكسر [ها] (¬1) في الخفض؛ يتبعها الهمزة (¬2) على حدِّ ما يتبعون الراء إياها إذا أدخلوا ألف الوصل، فقالوا (¬3): امرُؤٌ، وقول أبي خراش [من الطويل]: جَمَعْتَ أُمُوراً يُنْفِذُ المِرْءَ بَعْضُها ... من الحِلمِ والمعروفِ والحَسَبِ الضَّخمِ هكذا رواه السُّكري بكسر الميم، وزعم أن ذلك لغةُ هذيل. ولا يكسَّر هذا الاسم، ولا يُجمع جمعَ السلامة، لا يقال: أمراء، ولا: أَمرُؤ، ولا: مَرؤون، ولا: أمارِئ. وأنَّثوا فقالوا: مَرْأَة، وخفَّفوا التخفيفَ القياسي، فقالوا: مَرَة، وهذا مطرد. قال سيبويه: وقد قالوا: مَرَاة، وذلك قليل، ونظيره (¬4): كماة. قال الفارسي: وليس بمطرد، كأنهم توهموا حركة الهمزة على الراء، فبقي مَرَأْة، ثم خُفِّف على هذا اللفظ. وألحقوا ألف الوصل في المؤنث أيضاً فقالوا: امرأة، فإذا عرَّفوا قالوا: المَرْأة وقد حكى أبو علي: الامْرَأَة. وحكى ابن الأعرابي: أنه يقال للمرأة: إنها لامرُؤ (¬5) صدقٍ، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "الهمز". (¬3) في الأصل: "فقال"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "كقولهم". (¬5) في الأصل: "لامرأة"، والتصويب من "ت".

الرابعة

كالرجل (¬1)، وهذا نادر (¬2). الرابعة: قد ذكرنا أن العِنْدِيَّة قد يراد بها عِنْدِيَّةُ العلم، فإذا حملناها هاهنا على ذلك، فهاهنا معنيان: أحدهما: أن يكون المراد: [أن] (¬3) الخُلوفَ عند الله يوم القيامة أطيبُ من ريح المسك، ولا يكون كذلك في علم الله تعالى حتى يكون كذلك في الخارج؛ لأن علم الله تعالى لا بدَّ وأن يكون على وَفق المعلوم، فإذا غيَّر الله تعالى رائحة الخُلوف إلى أطيب من رائحة المسك، عَلِمَه الله [في] (¬4) يوم القيامة كذلك، فـ"يوم القيامة" ظرف لعِنْدِيَّة العلم بذلك، وليس في هذا ما يوهم عدم العلم قبل ذلك اليوم؛ أعني: يوم القيامة. والمعنى الثاني: أن يكون المراد أن عِنْدِيَّة العلم حاصلةٌ الآن بأنه يكون يوم القيامة أطيب من ريح المسك. فعلى المعنى الأول يتعلق "يوم القيامة" بالظرف الذي [هو] (¬5) "عند الله تعالى"، ويتعلق "عند الله تعالى" بالمصدر الذي هو ¬

_ (¬1) المراد: يشترك المذكر والمؤنث في لفظ (امرئ)؛ فيمكن أن يقال: هذه امرؤ صدق، بدل: امرأة صدق. (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (10/ 293 - 294). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

"الخلوف"؛ بمعنى: التغير. ويجوز أن يتعلق الظرفان معاً، الذي هو "عند الله" و"يوم القيامة" بـ"أطيب"، ولا مانع من ذلك، فإن الظرفين إذا اختلفا؛ فكان أحدهما زمانياً، والآخر مكانياً، جاز تعلقهما بعامل واحد؛ نحو: حضرتُ زيداً يوم الجمعة عند الأمير؛ لأن الفعل يطلبهما معاً، إذ لا يعقل حصوله في الوجود إلا واقعاً منهما. وإن اتفقا؛ أعني: الظرفين، وكانا زمانيين أو مكانيين، فإن عطف أحدهما على الآخر، أو كان بدلاً منه؛ نحو: صليت يوم الجمعة ويوم السبت، وقعدت عند زيد وفوق الدار، وصليت يوم الجمعة وقت الأذان، وقعدت عندك قُدَّامك، جاز تعلُّقهما بعامل واحد؛ لأن حرف العطف ينوب عن العامل، والبدل هو المقصود بالنسبة دون المبدل منه، فإن لم يكونا كذلك لم يتعلقا بعامل واحد، فلا يقال: قعدت عند زيد عند بكر، ولا صليت يوم الجمعة يوم السبت، إلا على الوجه المذكور؛ لأن تعلَّقَ الظرف (¬1) بعامل عبارةٌ عن وقوع ذلك العامل منه بمعنى: اقترانه بجزء من الزمان وحصوله في جهة من المكان، وغير ممكن أن الفعلَ الواحد يصدر حين صدوره من فاعله الواحد مقترناً بجزأين من الزمان، ولا حاصلاً في (¬2) جهتين متغايرتين. ¬

_ (¬1) في الأصل: "اللفظ"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت".

الخامسة

وعلى الثاني يتعلق "يوم القيامة" بـ"أطيب"؛ أي: إن علم الله تعالى الآن متعلق بأنه يوم القيامة أطيب (¬1) من ريح المسك. الخامسة: حيث يتعلق الظرفان المختلفان بعامل واحد، قالوا: ينبغي أن يقدم إلى العامل الظرف الزماني؛ لأن طلبَهُ له أقوى من طلبه للمكاني (¬2) بدليل جواز عمله في المبهم والمعيَّن من الزمان؛ نحو: اعتكفت وقتاً، وصليت يوم الجمعة، وامتناع عمله في المعيَّن من (¬3) المكان؛ نحو: صليت المسجد، وجلست (¬4) البيت، ولا يعمل إلا في المبهم منه؛ نحو: جلست فوق المسجد، وسرت فَرسخاً. وعلى هذا جاء لفظ الحديث، إذ الظرف الزماني - وهو "يوم القيامة" (¬5) - وليَ العامل الذي هو "أطيب"، فهو في معنى التقديمِ الذي ذكروه؛ لأن المقصود من التقديم إذا تقدم العامل أن يكون يليه ويباشره، وهذا البحث على تقدير تعلق الظرفين بـ"أطيب". السادسة: فيما ذكرناه تقديم معمول "أطيب" عليه (¬6)، وقد مُنع أو استبعد. والشيخ أبو عمرو بن الحاجب [أجازه] (¬7)، ولم يستبعدْه (¬8) حيثُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "أطيب يوم القيامة"، والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "المكاني"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "في". (¬4) "ت": "وصليت". (¬5) "ت": "الجمعة". (¬6) "ت": "يستعبد" بدل "عليه". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) في الأصل: "يستعمله"، والمثبت من "ت".

السابعة

تكلَّم [على قولهم:] (¬1) (هذا بسراً أطيبُ منه رطباً)، ورجَّح أنَّ العامل في الحال (أطيب)، وحكى عن أبي عليٍّ الفارسي: أن العامل اسم الإشارة، ولم يرتضه، وذكر أنه - يعني: الفارسي - لم يأتِ بشيء غير ما ذكرته، واستبعد عمل أفعل فيما فعله، وهو غير مستبعد. قلت: وكأنه لم يستبعدْه للاتِّساع (¬2) في الظروف ما لا يُتَّسعُ في غيرها، ألا ترى أن البصريين لا يجيزون في (كان) أو إحدى أخواتها تقديمَ معمول الخبر إلا إذا كان ظرفاً، أو حرف جر؛ نحو: كان يوم الجمعة زيد قائماً، وأصبح فيك أخوك راغباً. ولا يجوز عندهم في نحو: كانت الحمى تأخذ زيداً، أن يقال: كانت، زيداً الحمى تأخذ، والظروف [والجار] (¬3) والمجرور يقعان موقعاً، لا يقع فيه غيرهما. وقال الشيخ أبو عمرو: ولا يلزم من قصوره - يعني: أفعل - عن العمل (¬4) في المفعول به، أن لا يعملَ في الحال (¬5). السابعة: رأيت عن بعض قدماء النحويين كلاماً، أدرجَ تحته شيئاً من الكلام على هذا الحديث، وهو قوله [في قوله] (¬6) تعالى: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "يستبعده الاتساع"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "المعمول". (¬5) وانظر: "شرح الرضي على الكافية لابن الحاجب" (2/ 24) وما بعدها. (¬6) زيادة من "ت".

{وَاللهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبِاتًا} [نوح: 17] وشبهه: أصلُ هذا: والله أنبتكم من الأرض إنباتاً، فنبتُّم نباتاً، فحذف مصدرَ الأول؛ لدلالة فعله عليه، والفعلَ الثاني؛ لدلالة مصدره عليه، وكذلك قوله تعالى: {وَيُرِيد الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَلًا بَعِيدًا} (¬1) [النساء: 60]، ففعل فيه ما ذكرت لك. وهذا كحذف ظرفي الزمان والمكان لدلالة مثلهما عليهما لإرشاد (¬2) المعنى ذلك؛ [نحو] (¬3) قوله صلى الله عليه وسلم: "لخُلوفُ فمِ الصائمِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ أطيبُ من ريحِ المسكِ"؛ المعنى: أطيب من ريح المسك عندكم في الدنيا؛ لأنَّ المعنى تفضيلُ ريح الخلوف في يوم القيامة في الطيب على ريح مسك أهل الدنيا عندهم، لا على مسك الجنة، فالله أعلم (¬4) أيهما أطيب، وليس في الحديث تعرُّضٌ إلى مسك الآخرة؛ لأن أهل الدنيا لا يعهدونه، ولا تصلح (¬5) المشاركة في (أَفْعل) التفضيل إلا بين أمرين معهودين عند المخاطب؛ لئلا يخلوَ من كمال الفائدة أو منها، فإذن الألف واللام في "المسك" للعهد لا للجنس؛ لأن مسك الجنة يطلق عليه اسم مسك، وليس (¬6) مراداً بلفظ الحديث. ¬

_ (¬1) "ت": "فيضلون ضلالاً بعيداً". (¬2) في الأصل: "بإرشاد"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "فاعلم"، والتصويب من "ت". (¬5) "ت": "تصح". (¬6) في الأصل: "فليس"، والمثبت من "ت".

الثامنة

الثامنة: قد ذكرنا في الكلام (¬1): أن الألف واللام للعهد، فتامَّلْه بالنسبة إلى المعنيين الآخرين؛ أعني: الجنس وتعريف الحقيقة. وقد تقدَّم منعُه لكونها للجنس، فيُوقَفُ للنظر في تعريف الحقيقة. * * * * الوجه السادس: في شيء من البيان والمعاني (¬2)، وفيه مسائل: الأولى: قد (¬3) ذكرنا في شرح هذا الحديث: أن الحكم قد يضاف (¬4) إلى الذوات، والمراد صفاتها المناسبة، أو المنافية لما يذكر، فالْمَحْ هذا في قوله تعالى: "وأنا أجزي به"، فكأنه يقال (¬5): وأنا المحسن المنعم الواسع العطاء أجزي به. الثانية: لا تَغْفَلَنَّ عمَّا يقتضيه تقديمُ هذا الضمير العلي في صدر الكلام، والفرق بينه وبين: (لي) و (أجزي به)، فإن فيه إشارة [عظمى] (¬6) إلى فضيلة الصوم. الثالثة: المح المناسبة بين "لي"، و"أجزي به". ¬

_ (¬1) في الأصل: "هذا الكلام"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "المعاني والبيان". (¬3) في الأصل: "وقد"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "يراد" بدل "يضاف". (¬5) "ت": "قال". (¬6) زيادة من "ت".

الرابعة

الرابعة: لفظ (الجُنَّة) دالٌّ على الاستتار، وأنه حقيقة في الأجسام، فهو إذاً مجاز في الصوم، وظاهره الإخبار عن كونه جُنَّة، [ويحتمل أن يكون خبراً بمعنى الأمر؛ أي: ليكن الصوم جُنَّةً] (¬1) مانعةً لكم من الرفث والمعاصي، وأمثال ذلك. فإذا جعلناه خبراً، فتكون دلالتُه على الطلب دلالةً [التزامية، وإذا جعلناه بمعنى الأمر؛ أي: أُريد به الأمر، كانت دلالته على الطلب دلالة] (¬2) مطابقية. الخامسة: إذا حملناه على الخبرية، فيحتمل أن يكونَ خبراً عن كونه جُنَّة من النار، ويُرجِّحه: أنه ورد كذلك في بعض الروايات: "جُنَّة من النار" (¬3)، وفي بعضها: "جُنَّة ما لم يخرقها" (¬4)؛ التقدير: جنة مانعة من النار، ما لم تخرق الجُنَّة (¬5) بارتكاب ما يَمنع منه الصوم، فلا تكون جُنَّة حينئذ بانخراقها، ولا يَحسنُ في هذا اللفظ أن يكونَ بمعنى ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) هي رواية الترمذي المتقدم تخريجها برقم (764). (¬4) رواه النسائي (2233)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على محمد ابن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 196)، من حديث أبي عبيدة رضي الله عنه. وقد حسنه المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 94). (¬5) "ت" زيادة: "لأنه على هذا التقدير يرتفع للأمر بجعله ما جنة"، وهذا الموضع غير مناسب لها، فأثبت ما في الأصل.

السادسة

الأمر بتقدير: ليكنْ الصومُ جنة [ما لم يخرقها؛ لأنه على هذا التقدير يرتفع الأمر بجعله جُنَّة] (¬1) عند انحراقها، وليس كذلك؛ لأنه لو خرقها لاستمرَّ الأمرُ بعد ذلك بأن يُجعل جُنَّة، فلا بدَّ أن يكون خبراً؛ أعني: "جُنَّة ما لم يخرقها". السادسة: يحتمل أن يكون خبراً عن أمر شرعي؛ أي: حكمه في الشرع أن يكون جُنَّة، وهذا غيرُ كونه بمعنى الأمر؛ لِما ذكرنا من الفرق بين الدلالة في أن يكون [بمعنى] (¬2) الأمر، والدلالة الالتزامية في أن يدلَّ على شيء يلزم منه الطلب، ولا شكَّ أن كونَ (¬3) الشيء حكمَ الشرعُ أن يكونَ جُنَّةً يلزمُ (¬4) منه الطلب، لا أنه موضوع للطلب. السابعة: إذا حملناه على أنه جُنَّة من النار، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون المراد به: يَمنع من دخول النار، ويُبعد عنها، وتَجَوَّز عن معنى المنع والإبعاد بالستر، ويقوِّي هذا الحديثُ الصحيح: "منْ صامَ يوماً في سبيلِ اللهِ باعدَ اللهُ وجهَهُ عن النارِ سبعينَ خريفاً" (¬5). وثانيهما: أن يكون كونُه جُنَّة من النار من باب ذبح الموت في ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "يكون"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "وهذا يلزم". (¬5) رواه البخاري (2685)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الصوم في سبيل الله، ومسلم (1153)، وكتاب: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

الثامنة

الآخرة (¬1)، ومن باب: "تجيءُ البقرةُ وآلُ عمرانَ كأنَّهما غمامَتان، أوغيايَتان، أو فرقان من طير صواف" (¬2)، فيكون المعنى: أن اللهَ تعالى يُبرزُ للأبصار ساتراً بين صاحب الصوم والنار؛ إظهاراً للمعاني في الأمثلة الحسية. الثامنة: إذا جعلناه من باب ذبح الموت، فيجوز أن يكونَ إطلاق لفظ (الجُنَّة) عليه (¬3) حقيقة؛ بأن يكون اللفظ لما يبدو للحسِّ ساتراً بين الشيئين، ولا يدخل في الحقيقة خصوصُ الجسمية في الخارج، ولهذا إن من رأى ذلك الساتر، ولم يكن ممن يفهم (¬4) هذا المعنى، أو ممن لم يثبته (¬5)، أطلقَ عليه اللفظَ لا على جهة المجاز؛ لأنه لم يفهمه، فكيف يطلقه عليه ويريده؟! وهذا يسوق (¬6) إلى المسألة الأصولية، وهو: أن اللفظ موضوع ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4453)، كتاب: التفسير، باب: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحسْرَةِ} [مريم: 39]، ومسلم (2849)، كتاب: الجنة وصفه نعيمها وأهلها، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (804)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. (¬3) في الأصل: "علته"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "يعزم"، والمثبت من "ت". (¬5) غير واضحة في الأصل، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "سوق"، والمثبت من "ت".

التاسعة

للمعنى الذهني، أو الخارج؟ وهذا الوجهُ يكون هاهنا (¬1) مجاز حذفٍ (¬2). وإن جعلناه مجازاً عن المباعدة وعدمِ دخول النار، فهذا من مجاز الملازمة؛ لأن الساتر بين الشيئين مانعٌ من المخالطة والملابسة، [فأطلقَ لفظ الستر على المنع من المخالطة والملابسة] (¬3)، فهو من باب إطلاق الاسم (¬4) الملازم على الملزوم؛ لأن المنعَ من المخالطة والملابسة لا يلزمُ منه الستر. التاسعة: يجوز أن يُجعَل الصومُ جُنَّة، بمعنى: كسره للشهوات التي مادتها الطعام والشراب، بالإضعاف، أو (¬5) الإزالة، ويكون وصفه بأنَّه جُنَّة كوصفه بأنه وِجاء؛ أي: يقوم مقام الجُنَّة الساترة بين النفس وبين الشهوات؛ [كما أنه يقوم مقام الوِجاء في دفع عادِيَة شهوة النكاح، وتكون تسميته جُنَّة مجازاً عن المانعية بين النفس وبين الشهوات،] (¬6) وهذا راجع إلى حمله على الخبر، - كما هو ظاهرُ لفظِ (¬7) الحديث. ¬

_ (¬1) في الأصل: "هذا"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "صدق"، والتصويب من "ت"، ومن هامش الأصل أيضاً. (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "اسم"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "و". (¬6) سقط من "ت". (¬7) في الأصل: "الظاهر ولفظ"، والتصويب من "ت".

العاشرة

ولا يقال: إنه إخبار عن الواضحات والمحسوسات، فأي فائدة فيه؟ لأنا نقول: لما كان هذا المنع (¬1) ناشئاً عن فعل هذا المكلف، الذي هو الصوم، ذكر في ترتيب الثواب عليه؛ للتسبيب (¬2) الذي فعله المكلف بالصوم. العاشرة: قد ذكرنا احتمالين في معنى: "الصوم جُنَّة": أحدهما: الخبرية. والثاني: [أن] (¬3) يكون بمعنى الأمر. وإذا تردَّدَ [اللفظ] (¬4) بين احتمالين احتيجَ إلى الترجيح، والترجيحُ له وجوه: منها: الترجيح بالحقيقة على المجاز، وهذا موجود في جعله خبراً؛ لأن اللفظَ موضوعٌ حقيقةً للخبر، ويؤيد (¬5) ذلك: ما (¬6) ذكرناه في (¬7) رواية: "جُنَّة من النار"، و"جُنَّة ما لم يخرقها". ¬

_ (¬1) في الأصل: "الفعل والمنع"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "السبب"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "وتأيّد". (¬6) "ت": "بما". (¬7) "ت": "من".

فإن قلت: من وجوه الترجيح الاستدلالُ بما سبق اللفظ من المعنى، وما تأخَّر عنه، حتى كان ذلك سبباً لترجيح المجاز على الحقيقة في بعض المواضع؛ فمن الأول قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوْا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} [النور: 63]، فإنه يَحتمل - كما ذكر - التبجيلَ والتعظيم في دعائه، فلا (¬1) يُنادى بالاسم، بل بالصفة الجليلة؛ كـ (يا نبي الله)، و (يا رسول الله). ويحتمل أن يراد تأكيد إجابته صلى الله عليه وسلم إلى ما يدعو إليه، بحيث لا يجعل دعاؤه كدعاء غيره في رتبة تأكُّدِ الإجابةِ، بل يكون راجحاً. وقد رجَّح بعضهم هذا الثاني بمناسبته للسابق، وهو: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَءَامَنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ وعَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَئْذنُوهُ} [النور: 62]، وفي ترجيحه نظر. ومن الثاني - وهو الترجيح باللاحق (¬2) - قوله تعالى: {وَالتِّيْنِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1]، فإن حقيقته في الثمرتين، أو الشجرتين المعروفتين، ومجازه في الجبلين اللذين فيهما (¬3) هاتان الشجرتان، فرُجِّح الثاني بقوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2]، [فهو ترجيح بالمتأخر، ويُقوِّي قولَ من قال: إنه أراد بالتين دمشق] (¬4)، والزيتون بيت ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "باللآخر"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "هما". (¬4) زيادة من "ت".

المقدس (¬1)، فأقسم الله بجبل دمشق (¬2) مأوى عيسى، وبجبل [بيت] (¬3) المقدس؛ لأنه مقام الأنبياء كلهم، وبمكة؛ لأنها أثر إبراهيم [ومحمد صلوات الله عليهما] (¬4)، وقد قيل غير دمشق مما ينسب إلى عيسى - عليه السلام -، وتُرجِّحُ هذا الحملَ مناسبةُ هذا القسم لهذه الأماكن المعظمة؛ بما وقع فيها من النبوات وآثارها. فإذا ثبت أن الترجيح قد يكون بسابق ولاحق، فقولُه - عليه السلام -: "الصوم جُنَّة، فإذا كانَ يوم صومِ أحدِكم، فلا يرفثْ ولا يجهلْ" (¬5) يناسبُ أن يكون المراد الأمر؛ [أي] (¬6): ليكن جُنَّة، ولا (¬7) تفعلوا ما يخالفه مما [لا] (¬8) يليقُ به؛ لمناسبة (¬9) الأمرِ بالشيءِ (¬10) عن النهي عن ضده. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في "تفسيره" (24/ 502)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 215)، عن كعب الأحبار. وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 554). ورواه ابن جرير في "تفسيره" (24/ 502)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3447)، عن قتادة. (¬2) في الأصل: "الدمشق"، والمثبت من "ت". (¬3) غير واضحة في الأصل، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) تقدم تخريج هذه الرواية عند البخاري برقم (1795). (¬6) زيادة من "ت". (¬7) "ت": "فلا". (¬8) زيادة من "ت". (¬9) "ت": "بمناسبة". (¬10) في الأصل: "النسبي"، والمثبت من "ت".

الحادية عشرة

قلت: هذا لا يمنع المناسبة بين ما تقدم وبين قوله: إذا جعلنا الخبرَ عن الأمر الشرعي، فإنه يناسبُ (¬1) الامتثال أيضاً، فإن كان الأمر إلى النهي أقرب، فالترجيح بالروايتين الأخريين أقوى، والله أعلم. الحادية عشرة: قد مرَّ (¬2) ترجيحُ الحمل على الخبر (¬3) بالحديث الآخر (¬4): "الصوم جُنَّة من النار"، ["الصوم جنة] (¬5) ما لم يخرقها"، فلقائل أن يقول: إذا رجحت الخبريَّة (¬6)، أو أخرتها، وحملها على كونه جُنَّة من النار بدليل الرواية الأخرى، فما معنى هذا التسبيب الذي في الفاء؟ فإنَّ (¬7) كونَهُ جنةً من النار لا يظهرُ منه كونُهُ سبباً لعدم الرفث والصخب. والجواب: إن في هذا إيماءً وإشارة إلى أن الرفث والصخب فيه يخرجه عن كونه جُنَّة من النار، فكونُه (¬8) جُنَّةً بسبب (¬9) النهي عن الرفث ¬

_ (¬1) "ت": "لا يناسب". (¬2) في الأصل: "مرت"، والتصويب من "ت". (¬3) "ت": "ترجيح الخبر على الأمر" بدل "ترجيح الحمل على الخبر". (¬4) في الأصل: "الأول"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "الحرفية"، والمثبت من "ت". (¬7) في الأصل: "فإنه"، والمثبت من "ت". (¬8) في الأصل: "فلكونه"، والمثبت من "ت". (¬9) "ت": "فسبب".

الثانية عشرة

والصخب فيه بواسطة كون الرفث [والصخب] (¬1) فيه ينفيان كونه جنة. الثانية عشرة: لو قال قائل: إذا جعلتَه جُنَّة من النار، وقررَّتَ أن ذلك بواسطة كون الرفث والصخب يوجبُ (¬2) خروجَه عن كونه جُنَّة، والخروجُ عن كونه جُنَّة لا يقتضي دخول النار. فالجواب: إن في هذا إشارةً لطيفة وإيحاءً خفيفاً (¬3) إلى غلبة الوقوع في الذنوب، أو أكثريته، فإذا كان المقتضي للدخول موجوداً، والمانع مفقوداً، عمل المقتضي عمله، فحصل المقصود من التهديد والتعظيم. [الثالثة عشرة] (¬4): فإن قلت: فما الدليلُ على غلبة الذنوب، أو أكثريتها؟ قلت: اختبار حال الأكثرين من الناس، والنظر إلى أفعالهم، وقد سمعت ما جاء: "كلُّ ابنِ آدمَ خطَاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون" (¬5)، ولو ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "موجب"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "إيماءً خفياً". (¬4) زيادة من "ت"؛ حيث إنها سقطت من الأصل. (¬5) رواه الترمذي (2499)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (49)، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة، وابن ماجه (4251)، كتاب: الزهد، باب: ذكر التوبة، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 198)، والحاكم في "المستدرك " (4/ 272) وقال: صحيح الإسناد، وقال الذهبي: بل فيه لين، وقال في موضع آخر: فيه ضعف، وقال الزين العراقي: فيه علي بن مسعدة ضعفه البخاري. قال =

الرابعة عشرة

ترقَّيت إلى أعلى من هذا لوجدتَ مُرتقى؛ كالأمر بالتوبة والاستغفار عموماً من غير تخصيص وتقييد بتقدير الذنب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3]، علِّمنِي دُعاءً أدعُو بهِ في صلاتي، قالَ: قلْ: "اللهمَّ إنّي ظلمْتُ نفسِي ظُلماً كبيراً" (¬1). ويمكن أن يقال: إن انتفاء المانع، وهو كونه جُنَّة، مما يثير الخوف؛ لتجويز أن تكونَ الجُنَّةُ مقصورةً عليه. الرابعة عشرة: قد يكون الخطابُ في قوله - عليه السلام -: "فإذا كان يوم صوم أحدكم" يُفهَمُ منه خروجُ النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأنه سببُ خروج اللفظ على وجه الخطاب؛ ليُنَزَّهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأنه ليس بعرضيته؛ فلم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

_ = المناوي: وقال جدي في "أماليه": حديث فيه ضعف. لكن انتصر ابن القطان لتصحيح الحاكم، وقال: ابن مسعدة صالح الحديث، وغرابته إنما هي فيما انفرد به عن قتادة. وانظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 17). (¬1) رواه البخاري (799)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (2705)، وكتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. (¬2) رواه الترمذي (2016)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في خلق النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال: حسن صحيح.

الخامسة عشرة

الخامسة عشرة: ["الصوم جُنَّة"] (¬1): ليس فيه حصرُ الجُنَّة فيه، وإنما يقتضي: أنه جُنَّة فقط؛ أي: سبب الستر (¬2) عن النار إذا سلم من الأمور المنهي عنها، وقد يكون غيره سبباً أيضاً وجُنَّة، "فمَن استطاعَ [منكُمْ] (¬3) أنْ يتقيَ النارَ [ولو] (¬4) بشقِّ تمرةٍ فليفعلْ" (¬5)، و {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. ووصفُ أشياءَ كثيرة بالتسبب إلى النجاة، أو غيرها من ثواب الآخرة، يقتضي مصالحَ، منها الحرصُ على جميعها، فإنه قد يقع الشكُّ في قَبول بعضها، أو صحته، فإذا كثرت كان الرجاءُ في تحصيل فائدتها أكثرَ. السادسة عشرة: هذا العموم الذي في قوله - عليه السلام -: "أحد" يفيدُ الأمرَ بهذا القول بالنسبة إلى كل أحد، ويلغي الفرقَ بين أحوال السَّابِّين، فإن فيهم الوضيعَ والرفيعَ، والخسيسَ والشريفَ، فربما يُتوهَّم خروجُ الخسيس عنه؛ كما في عادة الناس: أنه إذا سُبَّ جليلٌ فقابِلوه (¬6)، أن يقال للمقابل (¬7): كان ينبغي أن تحترمه وتسامحه ¬

(¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "للستر". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) جاء على هامش "ت": "لعله: ولو". (¬5) رواه البخاري (6174)، كتاب: الرقاق، باب: من نوقش الحساب عذب، ومسلم (1016)، كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. (¬6) في الأصل: "قاتلوه"، والمثبت من "ت". (¬7) في الأصل: "للمقاتل"، والمثبت من "ت".

السابعة عشرة

لمنصبه، وإذا سبهم الخسيس عذروه في مقابلته (¬1)، فالعموم يلغي هذا الوهم، ويفيد التساوي. السابعة عشرة: "فلا يرفث ولا يصخب": هذا من النوع الذي يُلتفَتُ فيه إلى مراتب الترقي والتنزل، وترتيب ما ينبغي أن يبدأ به، وها هنا (¬2) انتقالٌ من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الرفث أفحش وأقبح من الصخب، فإن الصخب الذي هو اختلاط الأصوات من حيث هو هو، إنما ينافي السكينةَ والسمتَ الحسن، والإتيانُ بالألفاظ الفاحشة من حيث هي هي أفحشُ، وربما كانت محرمة، ولذلك ترى الناس يصطخبون في مباحثهم العلمية ومخاطباتهم، ولا يستقبحونه استقباحَ ذكر الألفاظ الفاحشة التي يُكنى عنها. وإذا كان كذلك، فالمقصود النهيُ عن [هذه] (¬3) المنافيات للصوم، وتعظيمُ أمر الصوم؛ لتقديم كونه جُنَّة. وإذا ابتدِئ (¬4) بالنهي عن الأفحش لم يلزمْ منه النهيُ عن الأدنى، فإذا أتى النهي عن الأدنى بعدَه كان أبلغَ في تعظيم الصوم، وتنزيهه عن المنافيات، فكأنه نهى عن الأقبح، وقيل: ولا يُقتصَرُ ذلك عليه، بل وعلى ما هو دونه في القبح، وجاء هذا [الحديث] (¬5) من حيث النهي ¬

_ (¬1) في الأصل: "مقاتلته"، والمثبت من "ت". (¬2) " ت": " وهذا". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": " ابتدأ". (¬5) زيادة من "ت"، والمراد بالحديث هنا: الكلام.

الداخلُ على الرفث والصخب، الذي هو معنى (¬1) النفي. ولا يشتبهَنَّ عليك قولُنا: إنه انتقال من الأدنى إلى الأعلى، [فإن الذي ادَّعيته من الانتقال من الأعلى إلى الأدنى بالنسبة إلى حقيقة الشيئين، والنهي دخل عليهما، فالانتقال (¬2) من الأدنى إلى الأعلى] (¬3) باعتبار النهي الداخل على الشيئين، لا باعتبار حقيقة الشيئين اللذين دخل عليهما النهي، فالمقصود: أنَّ النهيَ عن الأدنى أبلغُ في مقصود المنع والتعظيم من النهي عن الأعلى. فإن قلت: هلا اكتفى بالنهي عن الأدنى الذي جعلته أبلغ من النهي عن الأعلى، الذي هو الرفث؛ كما اكتفى بالنهي عن التأفيف عن النهي عن الضرب؟! قلت: هذا أولًا خروجٌ إلى سؤال آخر، والجواب عن السؤال المتعلق (¬4) بالتقديم والتأخير قد حصل، وبعد ذلك فنقول: لا يُكتفَى؛ لأن الرفثَ سببٌ داعٍ إلى ما يفسد الصوم، وهو الجماع؛ لأجل ثوران الشهوة، كذكر ما يتعلق بالنساء، لا سيَّما مع الإفحاش في حق بعض الناس، والصخبُ لا يفسد الصوم، والاعتناءُ بذكر ما يفسد العبادة أهمُّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "في معنى"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "والانتقال". (¬3) من قوله: "فإن الذي ادعيته ... " إلى قوله: "من الأدنى إلى الأعلى" مكررة في "ت". (¬4) "ت": "الذي يتعلق" بدل "المتعلق".

الثامنة عشرة

من الاعتناء بذكر ما لا يفسدها، فلم يُترك؛ لشدة الاهتمام بذكره، وانتقل إلى الصخب، الذي هو أخف؛ لأجل تأكيد النهي كما ذكرناه، وحصل الجمعُ بين ذكر الأهم وبين الترقي؛ لتأكيد النهي. الثامنة عشرة: قولُه - عليه السلام -: "فليقلْ: إني صائمٌ، إني امرؤٌ صائمٌ" لا يُحملُ الثاني على التأكيد؛ لأن التأكيدَ اللفظي إعادةُ اللفظ أو مرادفه؛ كقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)} [القيامة: 34، 35]، بخلاف قوله: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} [الحاقة: 1، 2]. وقوله: "إني امرؤٌ صائم" ليس كذلك، وقد ورد في بعض الروايات: "إني صائمٌ، إني صائمٌ (¬1)، وذلك تأكيد جزمًا. فنقول: أما "إني صائم" فقد نُجريه على قاعدة، وهو: أن الحكمَ المضافَ إلى الذوات قد يكون المقصودَ بها (¬2) صفاتُها القائمة بها؛ إما لمناسبة بين تلك الصفات وما يُراد تحصيلُهُ والحثُّ عليه؛ كما تقول لمن أحسن وأجاد في كلامه: أنت تقول هذا؟! والمقصود صفاته المقتضية لذلك الإحسان، ولعل من هذا (¬3) - والله أعلم -: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)} [الأنبياء: 79]، وقول الراجز: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1151/ 160)، كتاب: الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) "ت": "منها". (¬3) في الأصل: "لهذا"، والمثبت من "ت".

أَنْعَتُهَا إنِّيَ (¬1) [مِنْ] (¬2) نُعَّاتِهَا (¬3) أو تكون تلك الصفات منافية لما يصدر عنه؛ كما تقول لمن فعل فعلًا لا يليق به: أنت تفعل هذا؟! تريد: أن وصفَهُ ينافي ذلك الفعل. فإذا تكرر هذا (¬4) فتكون "إني صائم" (¬5) [إشارة] (¬6) إلى منافاة صفته، التي هي الصومُ، للرفث والفحش. وأما قوله: "إني امرؤٌ صائم" ففيه معنى آخر: وهو منافاة الرفث للصوم على سبيل العموم في حق كلِّ امرئ، والإشارة إلى التعليل في امتناعه هو؛ لأنه من جملة أفراد ذلك العام الذي يُعلَّق به الحكم، فالأول (¬7) يرجع إلى أمر يختص به، والثاني (¬8) يرجع إلى عموم يدخل هو تحته. ¬

_ (¬1) "ت": "فإني". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) صدر بيت منسوب لابن لجأ التيمي، كما في "الأصمعيات" (ص: 34)، وقد أنشده ابن الأعرابي في "نوادره"، كما ذكر البغدادي في "خزانة الأدب"، وعجزه: مُنْدَحَّةَ السُّرَاةِ وادِقَاتِها (¬4) أي: إني صائم، إني صائم. (¬5) أي: الثانية. (¬6) سقط من "ت". (¬7) أي: إني صائم. (¬8) أي: إني امرؤٌ صائم.

التاسعة عشرة

فإن قلت: فمن أين تأخذ العموم في: "إني امرؤٌ صائم" (¬1)؟ قلت: لأن المقصود النتيجة، وهو أن هذا الذي يسُبَّ، أو قوتل، [لا] (¬2) يرفث ولا يصخب، وهذا لا بدَّ فيه من مقدمة أخرى، وهو: [أن] (¬3) كل امرئ صائم لا يرفث ولا يصخب، فيكون التقدير هكذا: إني امرؤٌ صائم، وكل امرئ صائم لا يرفث، فأنا لا أرفث. فلا بدَّ أن يكون العمومُ حاصلاً في (كل امرئ صائم لا يرفث) حكمًا وشرعًا، لأنه لو لم يكن عامًّا، وانقسم الحال فيه إلى صائمٍ له الرفثُ، وصائم ليس له الرفث، لم يلزم أن يكون هذا المسبوب (¬4) لا يرفث. التاسعة عشرة: فائدة الأمر بهذا القول: تذكيرُ (¬5) النفس بالحالة التي وُجد ما يُذهِلُ عنها، ويغيبها عن الذهن، وهو المسابَّة المقتضية لثوران الغضبية، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]؛ أي: والله أعلم - تذكروا ما يوجب عدم الإجابة لداعي الشيطان؛ كجلال الله وعظمته، وما يجب أن يكون الإنسان عليه من الحياء منه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "كل امرئ صائم"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "المنسوب"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "تذكر".

العشرون

العشرون: فائدة التكرار لهذا القول: تاكيدُ المعنى في النفس، وتقريبُ النفس إلى الامتناع ممَّا ينافي الصوم. وقد ورد الشرعُ بالتكرار بالأذكار، وفائدته - والله أعلم -: أن الوساوسَ والغفلاتِ كثيرةُ الطروق للقلوب، والمقصودُ بالذكر الحضورُ ومُواطأةُ القلب للسان، فإذا كثرت أعداد الذكر رُجيَ أنه يحصل هذا المقصود، ولو مرةً واحدة، فتحصل الثمرةُ والثواب الموعود؛ "مَن استغفرَ اللهَ غفرَ لهُ " (¬1). الحادية والعشرون: إذا كان المقصودُ تذكارَ النفس بما يُمنع عنه، فلو قال قائل: فلمَ خصَّ قوله: "إني صائم"، مع أنه يمكن أن يقال لفظ آخر يقتضي منعَ النفسِ (¬2) من ذلك المنهيِّ (¬3) عنه؟ قلنا: فيه أمران: أحدهما: الجمع بين المعنى (¬4) الشرعي في الصوم، والإشارة ¬

_ (¬1) رواه النَّسائيُّ في "السنن الكبرى" (9988)، وفي "عمل اليوم والليلة" (ص: 212)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 388)، والطبراني في " المعجم الأوسط" (2921)، وفي "مسند الشاميين" (2418)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6736)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف جدًا. وقال أبو حاتم: هذا خطأ، الصحيح عن ابن عمر موقوف، كما في "علل الحديث" (2/ 183). (¬2) "ت": "ذلك للنفس". (¬3) "ت": "للمنهي". (¬4) في الأصل: "الأمر"، والمثبت من "ت".

الثانية والعشرون

إلى مناسبة المعنى اللغوي له أيضًا؛ لأنه للإمساك، صماذا كان إمساكًا، فليقتضِ (¬1) الإمساكَ عن المسابَّة، وليس كذلك الألفاظ (¬2) التي تَمنع من غير إشعار المناسبة اللغوية. [و] (¬3) الثاني: الدلالة على أنَّ مقتضى الصوم الإمساكُ عن هذه الأمور، ولو ذُكر لفظٌ آخرُ لا يدل على أن ذلك مقتضى الصوم، لم يقمْ مقامَه؛ كما لو قال: إني أخاف الله، أو إن هذا فعل قبيح، فإن هذا لا يدل على [أن] (¬4) مقتضى الصوم بخصوصه تركُ هذه الأمور المنهي عنها؛ لاشتراك جميع المخالفات في ذلك. الثانية والعشرون: أُمرَ بأن يقول: "إني امرؤٌ صائم" مطلقًا، وقد يكون السَّابُّ له صائمًا أيضًا؛ كما في الصوم المفروض، أو المستحب، إذا علم به، فكان يمكن أن يقال [له] (¬5): إنك صائم، فاتركْ ما فعلت، ولم يؤمر بذلك، لكن أمر بقوله: "إني صائم"، ولعل السبب فيه: أنا إن جعلنا هذا القول قولًا نفسانيًا مراعاة لنفي الرياء؛ إما بالصوم، أو بالأمر بالمعروف، اختصَّ به جزمًا. وإن جعلناه قولاً لفظيًا، ففيه وجهان: ¬

_ (¬1) في الأصل: "فليقض"، والمثبت "ت". (¬2) في الأصل: "وليست كذلك الأفعال"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت".

الثالثة والعشرون

أحدهما: أن اهتمامه بنفسه ليردعَها بعد وجود الداعي إلى الفعل أولى، فإنه أقدر على الصبر والانتفاع بموعظة نفسه من اقتداره على انتفاع غيره بوعظِهِ. والثاني: أن فيه تعريضًا لسابِّه بأنه فَعَلَ خلافَ مقتضى عبادتِه، فكأنَّه يقول: أنا صائم فأتركُ ما لا (¬1) ينبغي، لا كما فعلت أنت من ترك ما ينبغي مع كونك صائمًا، وهذا كما تقول لمن تريد عَتَبَه عند محاورته: [و] (¬2) أنا أخاف الله؛ تعريضًا له بأنه لا يخافه بالمعصية، والله أعلم. الثالثة والعشرون: قوله - عليه السلام - في هذا الموضع، وفيما لا يحصى من المواضع: "والَّذِي نفسُ محمدٍ بيدِهِ"، أو "والذي نفسِي بيدِهِ"، مقصودُهُ: تأكيدُ الإخبار بالقسم، وهذه فائدة القسم كله، ولكن يُحتاجُ إلى فائدة تخصيص هذا القسم المخصوص (¬3)، وهو قوله - عليه السلام -: "والذي نفس محمد بيده"، وفائدتُهُ: ضمُّ التأكيد في وقوع المخبر عنه بمطلق القسم، إلى التأكيد بالصدق في الإخبار بذكر كون النفس بيده وقادر عليها، فتأمله. الرابعة والعشرون: لا تغفلَنَّ عن تفضيلِ الخُلوف على أطيب الطيب؛ كما جاء في الحديث: "وهو أطيب الطيب" (¬4)؛ يعني: ¬

_ (¬1) في الأصل: "كما"، والمثبت من "ت". (¬2) ذيادة من "ت". (¬3) "ت": "المخصص". (¬4) رواه مسلم (2252)، كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: استعمال =

الخامسة والعشرون

المسك، وإذا كان يحصل التفضيل مما هو دونه في الدرجة من الروائح الطيبة، فالعدول إلى تفضيله بالنسبة إلى أعلى الدرجات في الطيب تأكيدٌ لتعظيم فضيلة الخلوف. الخامسة والعشرون: التنزيهُ عن الجسمية ولوازمها، توجب استحالةَ الاستلذاذِ بالروائح في حقّ الله تعالى على الوجه الذي هو ثابثٌ فينا. قال أبو العباس القرطبي: لا يُتَوَهَّمْ أنَّ الله تعالى يستطيبُ الروائحَ ويستلذُّها (¬1)؛ كما يقع لنا من اللذة والاستطابة؛ إذ ذاك من صفات افتقارنا واستكمال نقصنا، وهو الغني بذاته، الكامل بجلاله وبقدسه (¬2)، على أنا نقول: إن الله تعالى يدرك المدركات، ويبصر الميصرات، ويسمع المسموعات، على الوجه اللائق بجلاله (¬3) وكماله وتقديسه (¬4) عن شبه مخلوقاته، وإنما معنى هذه الأطيبية عند الله تعالى: [أنها] (¬5) راجعة إلى أن الله (¬6) تعالى يثيبُ على خُلوف فم الصائم ثوابًا أكثر مما يثيب على استعمال روائح المسك، حيثُ ندبَ ¬

_ = المسك، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬1) "ت": "ويلتذها". (¬2) "ت": "وقدسه". (¬3) في المطبوع من "المفهم": "بجماله". (¬4) "ت": "وتقدسه". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "أنه" بدل "أن الله".

الشرع إلى استعماله فيها؛ كالجُمَعِ والأعياد وغير ذلك ويحتمل أن يكونَ ذلك في حقِّ الملائكة، يستطيبون ريحَ الخُلوف أكثر ممَّا يستطيبون ريحَ المسك، انتهى (¬1). وأقول: لما كانت لفظة "أطيب" مذكورة في الحديث، كان من وظائف الشارح أن يعرض (¬2) لمعناها، وينظر هل يمكن إجراؤها على ظاهرها المعلوم في العادة، أو لا؟ فإنْ لم يمكن نظرَ في وجه المجاز، فهذا داعٍ إلى بيان استحالة إرادة المعنى الظاهر منها عرفًا. والذي قاله من استحالة الاستلذاذ على الوجه المعلوم (¬3) في العرف مُتَّفقٌ عليه بين المتكلم والمتفلسف المُشترِكَين في التنزيه، وإنما اختلفا في اللذة العقلية، وليس هذا موضع الكلام على ذلك، وإنما يُجوِّزُ هذا الظاهرَ الحشويُّ المصرِّح المبرح بالجسمية (¬4)، والإلغاء للغيرية (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 215 - 216). (¬2) "ت": "يتعرض". (¬3) "ت": "المعلوم عليه ". (¬4) في الأصل: "أجسمية"، والمثبت من "ت". (¬5) نسبة الاستطابة إليه - سبحانه وتعالى -، كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه، فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه. وغضبه وفرحه وكراهيته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته - سبحانه وتعالى - لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم، انتهى. هذا كان بعض كلام الإمام ابن القيم في رده على من تأول هذا الحديث وأخرجه عن حقيقة لفظه. وانظر: الوجه الثالث من الكلام على هذا الحديث والتعليق عليه.

وأما (¬1) المجاز الذي ذكره أبو العباس، وجَعلُهُ الأطيبيةَ مجازًا عن (¬2) أكثرية الثواب، فهو عندي مجاز بعيد؛ لأنهما إنما يشتركان في معنى الأكثرية، وكونِ كلِّ واحد منهما مطلوبًا مرغوبًا فيه، وهاتان علاقتان عامتان بعيدتان عن محل التجوز (¬3). والعلاقة كما ضعفت بَعُدَ المجاز، وبالعكس، هذا من جهة النظر إلى القرب والبعد من حيث هو هو. وقد يقوم مُعارض يمنع من هذا الضعف ويُحسِّنُ المجاز، ألا ترى إلى قول الشاعر [من الرجز]: صَارَ الثَّرِيدُ في رؤوسِ العِيدَان (¬4) فإنه تراه - وإن بعدت العلاقة فيه - إذا (¬5) نظرت إلى معناه، وهو أن الزرع ينبت، فيُسَنْبِلُ (¬6)، فيبدو صلاحه، فيُعالَجُ إلى أن يصيرَ ثريدًا، ¬

_ (¬1) " ت ": "وفأما". (¬2) في الأصل: "على"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "التحرز"، والمثبت من "ت". (¬4) تقدم ذكره (1/ 320)، وقد قال أبو حيان الأندلسي ناظمًا: اللفظُ إنْ أُريدَ منه الظاهرُ ... حقيقة مجازُه مغايرُ لابد من علاقة تكونُ ... بينهما تقرب أو تبين مثاله مقال بعض العربان ... صار الثريد في رؤوس العيدان أراد بالثريد حبَّ السنبلَة ... سماه بالشيء الذي يؤول لَهْ (¬5) "ت": "إن". (¬6) في الأصل: "فيسبل"، والمثبت من "ت"، ويسنبل: يكون له سنبل.

وجدتَ العلاقة بعيدة، وقد ذكرنا: أنَّ ذلك موجبٌ لضعف المجاز من حيث هو هو؛ لأن البعد يعسر على الذهن الانتقال من محل الحقيقة إلى محل التجوز، وبالعكس في القرب، لكن الذي حسَّن هذا أنه لما قال: صَارَ الثَّرِيدُ في رؤوسِ العِيدَان أخبر بأمر يبطلُه الحسُّ، فتشوَّفت (¬1) النفسُ إلى وجه ما حكم به، فإذا ظفرت به، أدركته إدراك المتكسبِ الظافرِ بمطلوبه، فالتذت به. وإذا نظرت إلى قول الآخر [من الطويل]: وقالَ الوليدُ النَّبْعُ ليسَ بمُثْمرٍ ... وأخطأَ سربُ الوحشِ من ثمرِ النَّبعِ ومعناه: أن (¬2) النبعَ يُعمل منه القَسِي، ويُرمى عنها، فتؤخذ سربُ الوحش، فتكون ثمرًا للنبع بهذا الاعتبار، ونظرت فيه محلاً للقَبول، لكنه ناقصٌ عن درجة: صَارَ الثَّرِيدُ في رؤوسِ العِيدَان والسبب فيه: أن الذاتَ التي (¬3) صارت ثريدًا في رؤوس العيدان ¬

_ (¬1) "ت": "تشوفت". (¬2) "ت": "فإن". (¬3) في الأصل: "الذي"، والتصويب من "ت".

من جنسه، فقَرُبَ من الحقيقة قربًا لا يوجد في (سرب الوحش) بالنسبة إلى (رؤوس النبع). والوليد الذي أراده: هو (¬1) أبو عُبادة البُحتُرِي، والبيت الذي أشار إليه هو قول البحتري [من البسيط]: والنَّبع عُريانُ ما في رأسِهِ ثَمَرُ (¬2) وإنما اشتركا في وصف أعم، وهو التسبب إلى حصول المسبب، فانحط عن رتبة الثريد، فهذا مثالُ البعيدِ (¬3) العلاقة مع الاستحسان؛ لوجود المعارض لذلك الضعف. ووجوهُ الاستحسان والاستقباح في المجازات والاستعارات بعيدٌ أن يتيسرَ الوقوف على كلها، والتعبير عنها، وأبعد منه تحرير الحدود لأنواعها، والذي ذكره أهل علم البيان في هذا لا يفي بذلك. ثم نرجع إلى المقصود، فنقول: نجعل العِنْدِيَّةَ هاهنا - والله أعلم - عِنْدِيَّة القيامة، أو عِنْدِيَّة العلم، ويكون المعنى: أنَّ الخُلُوفَ أطيب في القيامة، أو في علم الله تعالى؛ لأنه في يوم القيامة أطيب من ريح المسك، بمعنى: أن الله تعالى يجعل رائحة الخلوف كرائحة المسك ¬

_ (¬1) "ت": "وهو". (¬2) انظر: "ديوان البحتري" (2/ 954)، (4/ 379)، وصدر البيت: وعيَّرتني سجالَ العُدْمِ جاهلةً (¬3) "ت": "البعد".

يوم القيامة؛ كما في دم الشهيد. وهذا (¬1) الفضلُ (¬2) الذي ذكرناه يُقصَدُ به أمران: أحدهما: بيانُ الحاجة إلى ذكر ما يتعلق بعلم الأصول والكلام؛ تنبيهًا على (¬3) الجواب عن قول من يمنع الخوض في مثل هذا. والثاني: أنه إذا انقسم (¬4) الحال في العلاقة بين القريب والبعيد، وأن البعد سبب للمرجوحية إلا لمعارض، وتبيَّنَ (¬5) كل ذلك، احتاج أبو العباس إلى أن يبيِّن العارضَ المرجّحَ لتقرير حُسنِ ما قال. وأما قول أبي العباس: ويحتمل أن يكون ذلك في حق الملائكة، يستطيبوَن ريحَ الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك. فإن أراد بذلك في الدنيا، فهو خلاف ما جاء: أن الملائكة تتأذَّى مما يتأذى منه بنو آدم، وما جاء: أن السواكَ مطلوبٌ تطييب الفم بسبب الملائكة. وإن أراد أن يكون ذلك (¬6) يوم القيامة، ففيه مجاز حذف المضاف؛ أي: عند ملائكة الله. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وهو"، والمثبت من "ت". (¬2) أي: القدر الزائد الذي يمكن أن يعد استطرادًا. (¬3) في الأصل: "عن"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "أيقنتم". (¬5) "ت": "وبتبين". (¬6) "ت": "ذلك يكون".

وعلى ما قلناه لا حاجةَ إلى هذا الحذف (¬1). ¬

_ (¬1) قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: وقد اختلف في وجود هذه الرائحة من الصائم، هل هي في الدنيا، أو في الآخرة؟ على قولين، ووقع بين الشيخين الفاضلين أبي محمد عز الدين بن عبد السلام وأبي عمرو بن الصلاح في ذلك تنازع، فمال أبو محمد إلى أن تلك الرائحة في الآخرة خاصة، وصنف فيه مصنفًا رد فيه على أبي عمرو، وسلك أبو عمرو في ذلك مسلك أبي حاتم بن حبان، فإنه في "صحيحه" بوَّب عليه كذلك فقال: ذكر البيان بأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، ثم ساق حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ... " الحديث. ثم قال: قال أبو حاتم: شعار المؤمنين يوم القيامة التحجيل بوضوئهم في الدنيا فرقًا بينهم وبين سائر الأمم، وشعارهم في القيامة بصومهم طيب خلوف أفواههم أطيب من ريح المسك، ليعرفوا من بين ذلك الجمع بذلك العمل جعلنا الله تعالى منهم. ثم قال؛ أي: ابن حبان: ذكر البيان بأن خلوف فم الصائم قد يكون أيضًا من ريح المسك في الدنيا. واحتج الشيخ أبو محمد بالحديث الذي فيه تقييد الطيب بيوم القيامة. ثم قال ابن القيم: وفصل النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك الطيب يكون يوم القيامة؛ فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال وموجباتها من الخير والشر، فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك، وكما تظهر فيه السرائر وتبدو على الوجوه وتصير علانية، ويظهر فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم، وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلف وحين يمسون؛ فلأنه وقت ظهور أثر العبادة، وبكون حينئذ طيبها على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته، وإن كانت تلك الرائحة كريهة للعباد، فرب مكروه عند الناس محبوب عند الله تعالى وبالعكس، فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم، والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته أمره =

السادسة والعشرون

السادسة والعشرون: رأيتُ مَنْ يَستبعدُ أنَّ الفرح عند الفطر بنيل المأكول والمشروب، ويستحطُّ هذه الدرجة عن أن تكون مذكورةً معنيةً في هذا الموضع مقرونةً بالفرح عند لقاء الله تعالى. واقتضى ذلك: أن يَحمل الفرح بالفطر على أن المرادَ الفرحُ بكمال عبادته وصومه؛ ليرجعَ ذلك إلى ما يناسب أحوال المتديِّنين، والتعظيمِ المقصود المناسب للاقتران بالفرح بلقاء الله تعالى. وذُكِرَ (¬1) احتمالٌ آخر: وهو أن تكون الفرحةُ عند إفطاره بما يجب له من الثواب الذي لا يعلمه إلا الله جل وعز، وفرحه يوم القيامة بما يصل إليه منه، فإنَّ ما وجبَ له من فضل [الله] (¬2) لن يخلفَهُ الله إياه. ¬

_ = ورضاه ومحبته، فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا، فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد وصار علانية، وهكذا سائر آثار الأعمال من الخير والشر، وإنما يكمل ظهورها ويصير علانية في الآخرة، وقد يقوى العمل ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر كما هو مشاهد بالبصر والبصيرة، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. انظر: "الوابل الصيب" لابن القيم (ص: 43 - 49). وقد ذكر الدميري في "حياة الحيوان" (2/ 676) هذا الخلاف بين الشيخين أبي محمد وأبي عمرو، ثم قال، والذي ينبغي أن يعلم أن جميع ما وقع فيه الخلاف بينهما، فالصواب منه ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام، إلا هذه المسألة، فإن الصواب فيها ما قالة الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمهم الله. (¬1) في الأصل: "ذلك"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

وفيه احتمال آخر: [وهو] (¬1) أن الفرحَ بأن له عند فطره دعوة مستجابة، وله يوم القيامة فرحة بالثواب والجزاء. وذكر آخر: وهو أن للصائم فرحتين، أحدَهما عند الإفطار، وهو أن تصدَّقَ الله بنفسه عليه (¬2) عند انسلاخ النهار، ولم يأذنْ له في وصل الليل بالنهار، فيتعجَّل هلاكُه، لكنه، وإن تعرَّضَ بالصيام للهَلَكة، فقد رضي الله تعالى منه [بما] (¬3) دونَها، أو مثله؛ ليزداد خيرًا وبرًا (¬4) في أيام مُهلتِهِ (¬5)، فله بهذا البر الوارد عليه من الله - تعالى - فرحة، وبما يردُ عليه يوم القيامة من الثواب فرحة؛ ذكره الحليمي (¬6). وهذا كله عندي ليس بالقوي لوجهين: أحدهما: أنه صحَّ في بعض الروايات: "فَرِحَ بفطرِه، وإذا لقيَ ربَّهُ فرحَ بصومِهِ" (¬7)، وظاهر هذا: أن الفرحَ بنفس الفطر. والثاني: أن انبساطَ النفس بسبب نيلِ ما يزيلُ الحاصلَ بسبب الصوم من الجوع والعطش، وهذا الأمر الطبيعي يمكن أن يُعَبَّرَ عنه بالفرح، وتكون الفائدة في اقترانه بالفرح بلقاء الله تعالى تحقيقَ وقوع ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "عليه بنفسه". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "ويرى". (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "المنهاج" للحليمي (2/ 374). (¬7) تقدم تخريجها عند البخاري برقم (1805)، وعند مسلم برقم (1151/ 163).

السابعة والعشرون

الموعود به من الثواب عند لقاء الله تعالى؛ لاقترانه بالمحقَّق حسًا ووجودًا؛ بمعنى: أن الفرح بلقاء الله تعالى محقَّقُ الوقوع في الآخرة؛ كقرينهِ من الفرح عند الفطر في الدنيا حسًا ووجودًا. السابعة والعشرون: هاهنا طريقة أدبية تُمتحن بها الأذهان، وهو أن يُطلبَ الجمعُ بين شيئين يبعد الجمع بينهما في الذهن، فيمكن أن يقال هاهنا على هذه الطريقة: في أي شيء يجتمع قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [القصص: 44، 45] وبين قوله - عليه السلام -: "فإنْ سابَّهُ أحدٌ، أو قاتلَهُ، فليقلْ: إني صائمٌ"؟ فيجاب عنه: بأنهما يشتركان في إقامة السبب مقامَ المسبب. بيانُهُ: أن طولَ العمرِ للقرون سببٌ لعدم علمهم بما كان، وعدمُ علمهم [سببٌ] (¬1) للإيحاء (¬2) إليك بما كان؛ للمصالح المتعلقة بذلك الوحي، وسببُ السببِ سببٌ، فيكون طولُ العمر سببًا للإيحاء، فكان الأصل في هذا الكلام: وما كنت بجانب الغربي، فأوحينا إليك بما كان، فوضع (تطاولَ العمر بالقرون) الذي قررناه أنه سبب الوحي (¬3) موضعَ (أوحينا إليك). وكذلك في الحديث: "فإنْ سابَّهُ أحدٌ، أو قاتلَهُ، فليقلْ: إنِّي ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "الإيحاء". (¬3) "ت": "للوحي".

الوجه السابع: في الفوائد والمباحث سوى ما تقدم، وفيه مسائل

صائمٌ "، تذكارُ النفس بانَّه صائمٌ سببٌ للسكوت وعدم الجواب، فوضع (إني صائم) الذي هو سبب موضعَ (فلا يسب) (¬1). * * * * الوجه السابع: في الفوائد والمباحث سوى ما تقدم، وفيه مسائل: الأولى: فيه إطلاقُ لفظ (الابن) على غير ولد الصلب من ولد الولد، ولا خلافَ في ذلك، وإنما اختلف في كونه حقيقة أو مجازًا، وانبنَى عليه من مسائل الفقه: ما إذا وَقَفَ على ولده؛ هل يدخل فيه ولد ولده؟ ورجَّح الماورديُّ عدم الدخول، وادَّعى: أن الحقيقة في (الولد) ولدُ الصلب، وأن إطلاقه على ولد الولد مجاز؛ هذا معنى كلامه، وإن لم يكن بلفظه. الثانية: فيه الفضيلة الباهرة لعبادة الصوم، وفي ذلك أحاديث غير هذا في الصوم المطلق، والصوم المعين؛ لأنه لا شكَّ أن وصف الفعل بالأوصاف المرغبة فيه دليلٌ على طلبيته. وقد ذكر هاهنا أشياء من ذلك كـ: إضافتِهِ إلى الله تعالى، ووعد الجزاء عليه، وعدم تقدير الثواب له، وكونه جُنَّة، والثناء على فاعله؛ لكونه يدع الشهوة والطعام لأجل الله تعالى، والفرح عند لقاء الله ¬

_ (¬1) "ت": "تسب".

الثالثة

تعالى، [و] (¬1) كلُّ هذه (¬2) دلائلُ على طلبيته وشرفيته. الثالثة: الألف واللام في "الصوم" يجوز أن تكون لتعريف الماهية، فتدلَّ على فضيلته من حيثُ هو هو، ويحتمل أن تكون للعموم بناءً على أن الألف واللام في الاسم المحلى بهما للعموم، ويحتمل أن تكون للعهد، والمعهود هو الصوم الشرعي. الرابعة: الصوم ينقسم بحسما الحكم الشرعي أقسامًا: واجبٌ؛ كرمضان والكفارة. ومحظورٌ؛ كصوم العيدين. ومكروهٌ؛ كصوم يوم الجمعة منفردًا، وكصوم يوم السبت عند بعضهم (¬3). ومندوبٌ؛ كعاشوراء، وعرفة، وغيرهما. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "ذلك هذه"، والمثبت من "ت". (¬3) روى أبو داود (2421)، كتاب: الصوم، باب: النهي أن يخص يوم السبت بصوم، والترمذي (744)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم السبت وَقَال: حسن، وابن ماجه (1726)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في صيام يوم السبت، من حديث عبد الله بن بسر، عن أخته: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ... " الحديث قال فيه أبو داود: منسوخ، ونَقل عن مالك أنه قال: هذا كذب، وقد أعل الحديث بالاضطراب، كما في "التلخيص الحبير" (2/ 216) وانظر: "حاشية ابن القيم على سنن أبي داود" (7/ 48).

الخامسة

وأما المُباح؛ بمعنى: التساوي، فليس في الصوم المترجِّح جانبُهُ. فينبغي أن ينظر في حال الصوم بالنسبة إلى هذه الأحكام، وإلى الألف واللام؛ هل يجبُ أن يكون مخصوصًا، أو مقيدًا، أو مطلقًا؟ الخامسة: أما إذا جعلنا الألف واللام للعموم فهو مخصوص؛ لأنه يَخرج منه (¬1) الصومُ المحرم والمكروه. وإن جعلناهما لتعريف الماهية، وتعليقِ الطلبِ بمطلقهما، فيقيَّدُ بماعدا الصور المنهي عنها. وإن جعلناهما للعهد، والمعهود الصوم الشرعي السالم من النقائص، فلا تخصيص ولا تقييد. وينبغي (¬2) أن يلتفتَ في هذا إلى معنى "لي" الذي تكلمنا فيه. السادسة: سألني بعضُ من ينسب إلى الفضيلة - قديمًا - عن الجمع بين قوله - عليه السلام - عن الله تعالى: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلا الصومَ"، وبين قوله - عليه السلام -: "قسمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدِي نصفَين، ولعبدِي ما سألَ" (¬3)، [و] (¬4) وجهُ الحاجة إلى الجمع: أنَّ ¬

_ (¬1) "ت": "عنه". (¬2) "ت": "فينبغي". (¬3) رواه مسلم (395)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) سقط من "ت".

السابعة

حديثَ الصوم [يقتضي] (¬1) أن لا يخرجَ من أعماله كلِّها عن كونه له إلا الصوم، وحديث الفاتحة يقتضي أن يخرجَ بعض عمله غير الصوم عن كونه له. والجواب عنه: أن المعنى في اللام مختلف، ففي حديث الفاتحة هي محمولةٌ على أن بعض معاني ألفاظ الفاتحة مختصٌّ به، ومتعلق بخصوصيته؛ كالعبادة وسؤال الهداية. واللام في حديث الصوم على غير هذا الوجه، على ما ذكرناه في الوجوه السابقة، وعلى ما اخترناه أنها دالةٌ على التقدير في الثواب بجميعِ أعمالِه (¬2) إلا الصومَ. فلا تجامُعَ، ولا تعارُضَ (¬3)، وهذا الوهمُ الذي وقع للسائل سببُهُ الاشتراكُ في معنى اللام. السابعة: لا شكَّ أنَّ مقصود الكلام الترغيب في الصوم بسبب ترتب الجزاء عليه، فيكون ذلك دافعًا لما يقوله المتأخرون من المتصوفة: إن العبادةَ لطلب الجزاء مرتبةٌ مرغوب عنها، أو مذمومة، حتى يقال: إن العامل للجزاء كالأجير، وإنما الطريق العمل لوجه الله تعالى، وامتثال أمره. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "الأعمال". (¬3) "ت": "فلا تعارض ولا تجامع".

الثامنة

وإنما قلنا: إنه يكون دافعًا لما قالوه، أو معنى ذلك؛ لأن ذلك يُبطل الترغيبَ بذكر الجزاء على الأعمال، مع أن المعنى عليه جزمًا. وهذا في ألفاظ الشرع كثير جدًا، [نعم] (¬1) لو قيل: إن غيرَه أعلى منه، فقد يسلم ذلك، وأما أن يكون هذا في محلّ الذم والاستكراه، فلا. الثامنة: في رواية وكيع، عن الأعمش: "الصومُ لي، وأنا أجزِي بهِ، يدع شهوتَهُ (¬2) وطعامَهُ من أجلِي" (¬3). وهذه الجملة التي هي؛ "يدع شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلِي" تقتضي التعليل بها لما سبقها؛ أي: تقتضي تعليل ترتيب الجزاء على هذا الأمر؛ أعني: ترك الشهوة والطعام لأجل الله تعالى، [والجمل] (¬4) قد تفيدُ معنى التعليل كثيرًا. التاسعة: وصفُ العام بالخاص غيرُ جائز، وبعبارة (¬5) المنطقيين: حملُ الخاص على العام غيرُ سائغ، فلا يقال: الحيوان إنسان، وإطلاق العام لإرادة (¬6) الخاص مجاز، لا [على] (¬7) سبيل الحقيقة (¬8). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "شهواته". (¬3) وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها برقم (1151/ 164) عنده. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "وعبارة". (¬6) في الأصل: "على"، والمثبت من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) انظر: "البرهان في أصول الفقه" للجويني (2/ 773).

العاشرة

وإذا كان كذلك، فيظهر بهذا (¬1)، وبما ذكرناه من التعليل: أن الإمساكَ الذي لا يكون بهذه الحالة - أعني: أن يكونَ [لا] (¬2) لأجل الله تعالى - لا يكون صومًا شرعيًا؛ لأنه لو انقسم الصوم الشرعي إلى ما يكونُ بهذه الصفة، وإلى ما لا يكونُ كذلك (¬3)، كان فيه وصف العام بالخاص، أو إطلاق العام وإرادة الخاص، والأول: غير سائغ، والثاني: ليس بحقيقة، والأصلُ عدمُهُ. العاشرة: فيَحْسُنُ (¬4) هذا في (¬5) أن يقولَ القائل: الحديث يدل على اشتراط النية في الصوم؛ لدلالة ما ذكرناه من لزوم التعليل، وامتناع وصف العام بالخاص، أو لزوم المجاز من إطلاق العام لإرادة الخاص، مع أن الأصل في الإطلاق الحقيقة، على أن ما ليس بهذه الصفة ليس صوما، ولا يمكن أن يقال: إنه ليس صومًا لغويًا، فيتعين أن يكون المنتفي الصوم الشرعي، إلا أن فيه بحثًا ونظرًا، نذكره في المسألة بعدها. الحادية عشرة: إذا قيل: افعلْ كذا لكذا، فله معنيان: أحدهما: أن تكون اللام تعليلًا للأمر بذلك الفعل. ¬

_ (¬1) "ت": "بها" بدل "بهذا". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "كان كذلك"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "فيحل"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "إلى"، والمثبت من "ت".

والثاني: أن يكون أمرًا بتعليل الفعل بذلك الشيء. فإذا قلنا: أكرمْ زيدًا لأنه عالم، وكان ذلك تعليلاً للأمر بالإكرام، فلا يَلزمْ منه الأمر بالتعليل، حتى لو أكرمه - ولم يقصد بإكرامه التعليل بالعلم - كان ممتثلاً. وإذا جعلناه أمرًا بالتعليل، بمعنى: أكرمه؛ معللاً إكرامك له لكونه عالمًا، فلو أكرمه - لا لأجل ذلك - لم يكن ممتثلاً. فظهر الفرق بين التعليل للأمر، و [بين] (¬1) الأمر بالتعليل، وكذلك نقول: في باب مدح الفعل، وتعليل مدحه بعلة بلفظ (أجل)؛ أو ما في معناه. وإذا ثبتَ (¬2) هذا فقولُه تعالى: "يدع شهوتَه وطعامَه من أجلِي"، يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون تعليلاً للأمر؛ أي: أنه فعل ذلك بسبب أمري له بالصوم، فلا يلزم أن يكون فعل ذلك معللًا لَفعله بأنه لأجل الله تعالى. ويحتمل المعنى الآخر (¬3)، وهو أن يكون ممدوحًا على كونه فعل ذلك لأجل الله تعالى؛ أي: مقصود أنه كونه لله تعالى، فعلى هذا الثاني: يمكنُ الاستدلالُ الذي ذكره القائل، وعلى الوجه الأول: لا يصح. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) من هنا بداية المسألة "الثانية عشرة" في "ت". والمسألة الثانية عشرة كما هي في الأصل سقطت من "ت". (¬3) "ت": "معنى آخر".

الثانية عشرة

[الثانية عشرة: الأمر بالإخلاص، الكلام فيه كالكلام في النية سواء] (¬1). الثالثة عشرة: ويتعلَّق بهذا الذي تقدَّمَ: أنَّ إضافةً العبادة إلى الله تعالى بالنية؛ هل تجب، أم (¬2) لا؟ والمراد: النية بالفعل، لا بالقوة، وفي المسألة خلافٌ (¬3) بين الفقهاء مذكورٌ في الصلاة. الرابعة عشرة: قد تقدم من الكلام في معنى كونِ الصوم جُنَّة ما يهدي إلى ما يرشدُ إليه اللفظُ من التعليل لعدم الرفث والصخب، فكونه جُنَّة - على حسب المعاني التي قدمنا في كونه جُنَّة -؛ هل هو راجعٌ إلى أمر شرعي، أو أمر وجودي؟ فتأمله. الخامسة عشرة: في مقدمة لغيرها: اختلف الناس في الكلام؛ هل هو حقيقةٌ في الألفاظ، مجازٌ عن المعنى القائم بالنفس مجازَ إطلاق لفظ الدليل على المدلول، أو هو حقيقةٌ في المعنى القائم بالنفس، مجازٌ في اللفظ مجازَ إطلاق لفظ المدلول على الدليل، أو هو مشترك بينهما؟ ورجَّحَ بعضُ [المتكلمين من] (¬4) المتأخرين المثبتين (¬5) لكلام ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "أو". (¬3) "ت": "اختلاف". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "المنتسبين".

السادسة عشرة

النفس كونَهُ حقيقة في اللفظ (¬1). السادسة عشرة: من يجعله حقيقة في اللفظ يَحملُ عليه قولَه - عليه السلام -: "فليقلْ: إني صائمٌ" عملًا بالحقيقة، ومن يجعله حقيقة في كلام النفس يحمل اللفظ عليه (¬2)، فلا يكون مأمورًا بقوله لفظًا، والمجازُ على كلِّ مذهب سائغٌ في أن يَجعلَ أحدهما مرادًا من الآخر. السابعة عشرة: اختلف الفقهاء في أنه يقول ذلك جهرًا، أو [لا] (¬3)، على أقوال: ثالثها: الفرقُ بين الصوم الواجب والنفل، ففي الواجب يجهر به؛ لعدم الخوف من وقوع الرياء، وفي النفل يُسِرُّ؛ أي: في نفسه؛ للخوف من ذلك (¬4). وهذا التعليل يناسب الصومَ المشتركَ في وجوبه بين الناس، وأما الصوم الذي يختصُّ (¬5) به بعض الناس؛ كالمنذور، فلا تناسبه فائدة (¬6) الجهر به. ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصبهاني" (1/ 183)، و "البحر المحيط" للزركشي (3/ 116). (¬2) أي: على كلام النفس. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 295). وانظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 213)، و "شرح مسلم" للنووي (8/ 28)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 105). (¬5) في الأصل: "يخص"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "فلا بد"، والمثبت من "ت".

الثامنة عشرة

الثامنة عشرة: لا شكَّ أن المقصود بهذا النهيُ عن سبِّ المُسابِّ، وليس اللفظ دالاً على ذلك بنفسه، لكنه معلوم جزمًا، وإلا لكان هذا القول بالنسبة إلى هذا الأمر [أجنبيًا] (¬1) بمثابة أن نقول: قام زيد، وقام عمرو، مما لا يناسب التعليل، ويكون الأمر بعدم المسبِّ مأخوذًا من مطلق تحريمه، فيبقى "فليقلْ: إني صائم" أجنبيًا معدومَ المناسبة، والمعلومُ خلافه. التاسعة عشرة: إذا كان المقصود هو النهي عن السب، فقد (¬2) يُعطي ذلك أحكامَ صيغة السبِّ، حتى يدلَّ ذلك على فساد الصوم بالسبِّ؛ كما لو قالوا: لا تسبَّ في الصوم، بناءً على أنَّ النهي عن الشيء يقتضي الفساد، لا سيَّما في العبادات. وإنما خرج على هذه [القاعدة] (¬3)؛ لأنه وإن كان النهي واقعًا على السبِّ، لكنه مخصوص بالصوم، فيكون الصومُ الموصوف بأنه مسبوب فيه منهيًا عنه، فيخرج على أن النهيَ يقتضي الفساد؛ كما قلناه. أو لا يُعطَى أحكامَ صيغة النهي (¬4)؟ في هذا بحث؛ فيمكن أن يقال: [إنّا] (¬5) إذا جعلناه دالاً على ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "فقد". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "السب"، والمثبت من "ت". (¬5) سقط من "ت".

العشرون

النهي، فيعطى (¬1) أحكام النهي، ويمكن أن يقال: إن تلك الأحكام من لوازم الصيغة المخصوصة؛ أعني: لا تفعلْ، وإنما يدلُّ هذا على مُجرَّد ترجيح الترك، ويكون تَحتُّم الترك من أحكام الصيغة المخصوصة. وكذلك أقول في الخبر إذا كان بمعنى الأمر: هل يعطى حكم صيغة الأمر في الوجوب؛ لأنا نزَّلناه منزلتَهُ، فهو كما [لو] (¬2) لفظ (¬3) به، أو يقال: إن التحتم من أحكام الصيغة المخصوصة التي هي: افعلْ مثلًا؟ العشرون: إذا أعطيناه حكمَ صيغة النهي استدلَّ به من (¬4) يقول: إن ذلك مفسد (¬5) للصوم؛ لأن النهي يدل على الفساد، وقد قيل به؛ نسب إلى الأوزاعي، بل قد قيل بإفساد الصوم (¬6)، ويؤيد هذا قوله (¬7) - صلى الله عليه وسلم -: "منْ لمْ يدع قولَ الزُّورِ والعملَ به، فليسَ للهِ حاجةٌ في أن يدعَ طعامَهُ ¬

_ (¬1) "ت": "فليعطَ". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "لفظه"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "على من"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "يفسد". (¬6) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 110). (¬7) في الأصل: "بقولها، والمثبت من "ت".

الحادية والعشرون

وشرابَه" (¬1)، فإنه يشعر أنه لم يبق معه إلا تركُ الطعام والشراب، وذلك مجرَّدُهُ ليس بعبادة، وإذا انتفت العبادة انتفى الصوم. الحادية والعشرون: في بحث على هذا الاستدلال، وهو أن نقولَ: قولنا: المقصود من هذا الكلام كذا، يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون ذلك الكلام استعمل للدلالة على ذلك [المعنى] (¬2) بالمطابقة حقيقةً، أو مجازًا. ويحتملُ أن يكونَ يدلّ عليه بطريق اللزوم، أو السياق. فعلى الأول: يقرُبُ أن يكونَ اللفظ بمعنى ما دل عليه به، وأن ينزَّل منزلتَهُ، على نظرٍ فيه. وعلى الثاني: لا يلزم ذلك، فتأمَّلْه جيدًا، فَبِهِ تظهر صحةُ هذا الاستدلال، [أو عدمُها] (¬3). الثانية والعشرون: قوله - عليه السلام -: "لخُلوفُ فمِ الصائمِ" تستدلُّ به الشافعيةُ على كراهة السواك للصائم بعد الزوال، قال الشافعي - رحمه الله -: وأكرهُهُ بالعشي؛ لما أحبهُ من خُلوف فم الصائم (¬4). وقد حكينا عن جماعة من أهل اللغة: أن الخُلوف: التغير من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1804)، كتاب: الصوم، باب: من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 101). وقد تقدم أن المختار عند الشافعية عدم الكراهة، كما ذكر النووي في "المجموع" (1/ 341).

غير تخصيص، ومقتضاه لا يوجب تخصيصَ الكراهة بما بعد الزوال، إلا أن يُدَّعى أن التغيير لا يحصل إلا بعد الزوال، والوجود قد لا يساعد على ذلك. أو يقال: إن التغيير قد يحصل قبل الزوال، [و] (¬1) لكنه لا يُسمَّى خلوفًا إلا بعد الزوال، وهو خلاف ما نقلناه عن هؤلاء الجماعة من أهل اللغة، ولا نعلم أحدًا منهم خصَّصَ الخلوف بما بعد الزوال. أو يقال: إن المراد تغيرٌ يحدث عن الصوم، والتغيرُ الحادث عن الصوم إنما هو بعد الزوال. ولما استدل بالحديث بعضُ الشافعية قال: والخُلوف: بضم الخاء واللام، وهو الرائحة، وذلك يحدث من الزوال إلى آخر النهار (¬2). وهذا فيه أمران: أحدهما: النزاع في أن التغير عن الصوم لا يكون إلا بعد الزوال، فإن ذلك غير منضبط، وربما اختلف بحسب أمزجة الناس، وقوة المعدة وضعفها، وطول النهار وقصره. والثاني: أنه - على تقدير التسليم فيه - خروجٌ عن الإطلاق، فإن تغير فم الصائم يحصل قبل الزوال جزمًا، فيندرج تحت اللفظ، فإن كان ذلك مقتضيًا لكراهة الإزالة، فاللفظ يقتضيه. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) وانظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 340)، و "فتح الوهاب" لزكريا الأنصاري (1/ 26).

وتقييدُه (¬1) بـ: تغير يحدث عن الصوم؛ بخصوصه، خلافُ الإطلاق، لكنه قد يؤخذ من جهة أن المقصود: إظهار شرف الصوم [والترغيب فيه، وذلك يناسب اعتبار سببية الصوم] (¬2)، وهذا الاعتبار لا يدفع المنع المذكور. وعلى الجملة: فليس هذا بالظاهر القوة، والعموماتُ التي تدل على استحباب السواك عند كل صلاة، أو عند كل وضوء، تقتضي خلافَهُ، واقتضاؤها له أظهرُ من الاستدلال على الكراهة بهذا الحديث؛ لما يحتاج إليه من المقدمات التي نبَّهنا عليها، ولأن دلالة حديث الخلوف على ما ذكر ليست مقصودة، ودلالةُ استحباب السواك عند كل صلاة وعند كل وضوء مقصودةٌ. والذي يقتضيه الظاهر: [أنه] (¬3) حيثُ حصل مسمَّى الخلوف؛ قبل الزوال، أو بعده، وثبت أن الحديث يقتضي كراهةَ إزالته، أن يثبت الحكمُ بثبوت الخلوف مطلقًا، وذلك بعد استيفاء النظر في الترجيح بين العمومات الدالة على استحباب السواك عند الصلوات الواقعة بعد الزوال، وبين دلالة هذا الحديث، وقد بيَّنا أوجه (¬4) الترجيح آنفًا. قال شيخنا أبو محمد بن عبد السلام: وأمَّا تحملُ الصائم مشقة رائحة الخلوف، فقد فضَّله الشافعي - رحمه الله - على إزالة الخلوف ¬

_ (¬1) في الأصل: "يقيده"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "وجه".

بالسواك، مُستدلاً بأن ثوابَه أطيبُ من ريح المسك، ولم يُوافقْ الشافعيُّ على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر [ثواب العمل أن يكون أفضلَ من غيره؛ لأنه لا يلزم من ذكر] (¬1) الفضيلة حصول الرجحان بالأفضلية، ألا ترى أن الوترَ عند الشافعي - في قوله الجديد - أفضلُ من ركعتي الفجر، مع قوله - عليه السلام -: "ركعتَا الفجرِ خيرٌ منَ الدُّنيا وما فيها" (¬2)؟! وكم من عبادة قد أثنى الشرع عليها، وذكر فضيلتها، مع أن غيرها أفضلُ منها. وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما، فإن السواك نوع من التطهير المشروع لإجلال الرب؛ لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا يُشَكُّ فيه، ولأجله شُرعَ السواك، وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، فكيف يقال: إن فضيلة الخلوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه؟ ويدل على أن مصلحةَ السواك أعظمُ من مصلحة تحمُّلِ مشقةِ الخلوف قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشقَّ على أمَّتي، لأمرتُهُم بالسِّواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ" (¬3)، ولولا أن مصلحته أتمُّ من مصلحة تحمل مشقة الخلوف، لما أسقطَ إيجابَهُ لمشقته، وهذا يدل على أن مصلحتَهُ انتهت إلى رتبِ الإيجاب، وقد نصَّ على اعتباره بقوله: "لولا أنْ أشقَّ على أمَّتي، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

لأمرتُهُم بالسّواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ". والذي ذكره الشافعي - رضي الله عنه - تخصيصُ العام بمُجرَّد (¬1) الاستدلالِ المذكور المعارَضِ بما ذكرناه، ولا يصحُّ قياسُه على دم الشهيد؛ لأن المستاكَ مُناجٍ لربه، فشرع له تطهر فِيْهِ بالسواك، وجسد الميت قد صار جيفةً غيرَ مُناجية، فلا يصح مع ذلك الإلحاق، انتهى (¬2). واعلم أن القولَ بأن إزالة الخلوف مكروهة لا يَلزمُه (¬3) أن عليه تقديم (¬4) مصلحة تحمل مشقة الخلوف على مشقة السواك (¬5). وقد أجاب المالكية - أو من أجاب منهم - عن الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه: بأن الخلوف من المعدة، وأن السواك لا يزيله، فقال بعضهم: بل يزيده (¬6). فيقال عليه: إن أردت بكونه من المعدة: أن سببَهُ ومنشأه منها، ¬

_ (¬1) في الأصل: "لمجرد"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 33 - 34). (¬3) في الأصل: "يلزم"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "ذلك تقديم"، والمثبت من "ت". (¬5) جاء في هامش "ت"، "بياض" إشارة إلى وجود تتمة للكلام بعد قوله: "مشقة السواك". (¬6) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 256)، و "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 62).

الثالثة والعشرون

فهذا صحيح؛ لأن المعدة إذا خلت ارتفعت منها أبخرة تعلقُ (¬1) باللسان والأسنان، فتغير رائحة الفم. فإن أردت بقولك: إن السواك لا يزيله: أنَّ السواك لا يقطع مادته من المعدة، فهذا صحيح، لكنه لا يلزم منه أن لا يُزال ما عَلِقَ باللسان والأسنان، فإن تجدَّد (¬2) من تلك المادة شيء آخر، كان حكمُه حكمُ الأول في الإزالة. وإن أردت: أنَّ السواك لا يزيل ما يَعْلَق باللسان والأسنان، ووجد فيهما، فهذا ليس بصحيح (¬3). وأما دعوى: أن السواك يزيده إذا كان من المعدة، فيحتاج مُدعيه إلى إثباته. الثالثة والعشرون: قد ذكرنا: أن قولَه تعالى: "يدع شهوتَهُ وطعامَهُ من أجلي" يقتضي: أن ما ليس كذلك فليس بصوم، وكذلك أيضًا يقتضي (¬4): أن ما هو كذلك فهو صوم. فلو [قال] (¬5) قائل: أجدُ من الحديث أن علةَ الربا في المطعومات الطعمُ؛ كما يقول الشافعي، وقرر ذلك بأن قال: إن كان الحكم ¬

_ (¬1) "ت": "تتعلق". (¬2) في الأصل: "تجددت"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "فذلك غير صحيح". (¬4) "ت": "يقتضي أيضًا". (¬5) زيادة من "ت".

المعلق بالطعام يتعلق بالمشتق (¬1) منه - وهو الطعم - لزم ما ذكرناه، لكنه كذلك، فيلزم ما ذكرناه. وإنما قلنا: إنه كذلك؛ لأنه إذا ثبت أن وجودَ المذكور يقتضي صحةَ الصوم لم يَجُزْ أن لا يكونَ الحكم المعلق بالطعام يقتضي تعليقه بالمشتق منه، وهو الطعم؛ لأنه لو لم يتعلقْ بالطعم لزم أن يحصل الصومُ عند تركِ الشهوة والطعام، واستعمالِ المشروب؛ كالماء مثلًا، وذلك باطل بالإجماع، ولا كذلك إذا علق بالطعم، فإنه يقتضي حصول الصوم عند ترك الشهوة والطعام والشراب جميعًا، وإذا كان التعليق بالطعام يقتضي التعليق بالطعمية، وأن ذلك موجود في مسألة الربا، فتكون العلة هي الطعم. فيقال له: هذا مبنيٌّ على اعتبار لفظ هذه الرواية، وقد ثبت في رواية أخرى، فيجبُ أن يضمَّ ذلك إلى ما في هذه الرواية؛ لوجوب العمل بالروايتين معًا، فيبطل الاستدلال؛ لأنه مبني على ما اقتضت (¬2) هذه الرواية من الاقتصار على ذكر الشهوة والطعام. واعلم أنَّا في هذا الوجه، وفي كثير من الوجوه التي نذكرها، فنقول: إنه [قد] (¬3) تَدلُّ على كذا، أو قد يُستدلُّ بها على كذا، إنما نريد بذلك النظرَ إليها من حيث هي هي، وهذا لا يناقضه، إلا أنها ¬

_ (¬1) "ت": "بالشهوة". (¬2) "ت": "اقتضته". (¬3) سقط من "ت".

لا تدلُّ من ذلك (¬1) الوجه، وأما أنه يكون هاهنا مانعٌ من خارج من العمل (¬2) بذلك الدليل، فلا يعارض دلالة ذلك من حيث هو هو، ولا نَدَّعي أيضًا انتفاءَ المعارض الراجحِ، والمانعِ من العمل بذلك. والواجبُ على المجتهد الطالب لتحقيق الحق، وإثبات الحكم، النظرُ التام فيما يكون مانعًا ومعارضًا راجحًا، ولا يمتنع أيضًا على المُباحث إيرادُ تلك الموانع والمعارضات الراجحة، ويقطع (¬3) النظر فيها، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) "من ذلك" مكررة في "ت". (¬2) "ت": "ذلك العمل". (¬3) "ت": "يقع".

الحديث الثامن

الحديث الثامن وروى [مسلم] من حديثِ عائشةَ - رضيَ اللهُ عنها - قالَتْ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وإعْفَاءُ اللِّحيَةِ، والسِّواكُ، واستنشاقُ الماءَ، وقصُّ الأظْفَارِ، وغسلُ البَرَاجِمِ، ونتفُ الإبطِ، وحلقُ العَانَةِ، وانتقاصُ الماءَ". قال زكريا: قال مصعب: ونُسِّيتُ العاشرةَ، إلا أن تكونَ المَضْمَضَةُ. وزاد فيه قتيبة: قال وكيع (¬1): انتقاصُ الماء؛ يعني: الاستنجاء (¬2). ¬

_ (¬1) في نسخة "الإلمام" بخط ابن عبد الهادي (ق 5 / أ)، وكذا في المطبوع من "الإلمام" (1/ 61)، و"الإمام" (1/ 401): "وزاد فيه وكيع" بدل قوله: "وزاد فيه قتيبة: قال وكيع"، والمثبت هنا من النسختين "م" و "ب" موافق للمطبوع من "صحيح مسلم". (¬2) * تخريج الحديث: رواه مسلم (261)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة، وأبو داود (53)، كتاب الطهارة، باب: السواك من الفطرة، والنسائي (5040)، كتاب: الزينة، باب: من السنن الفطرة، والترمذي (2757)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في تقليم الأظفار، وابن ماجه (293)، كتاب: الطهارة، باب: الفطرة، من حديث وكيع، عن زكريا بن أبي زائدة، عن =

الوجه الأول: في التعريف بمن ذكر فيه

الكلام عليه من وجوه: * الوجه الأول: في التعريف بمن ذُكر فيه: مُصعب بن شَيبة: بن جُبير بن شيبة بن عثمان بن طلحة القرشي العبدري الحَجَبي المكي. [روى] عن: طَلْق بن حبيب العَنَزي، ومُسَافِع بن عبد الله الحَجَبي، وصفية بنت شيبة بن عثمان العَبْدَرِية. و [روى] عنه: عبد الملك بن عمير اللَّخْمي، وزكريا بن أبي زائدة الهمذاني، وعبد الله بن أبي السفر الثَّوريُّ، وعبد الله بن مسافع الحَجَبي، ومِسْعَر بن كُدَام الهِلالي، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج المكي. [و] (¬1) قال ابن أبي حاتم: ذكره أبي، عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين، أنه قال: مصعبُ بن شيبة [ثقة. ¬

_ = مصعب بن شيبة، عن طلق بن حبيب، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، به. قال المؤلف في "الإمام" (1/ 402): ولما ذكر ابن منده أن مسلم بن الحجاج أخرجه قال: وتركه البخاري ولم يخرجه، وهو حديث معلول؛ رواه سليمان التيمي، عن طلق بن حبيب مرسلًا، ثم رواه كذلك، انتهى. قال المؤلف: ولم يلتفت مسلم لهذا التعليل؛ لأنه قدَّم وصل الثقة عنده على الإرسال، انتهى. وسيأتي كلام المؤلف رحمه الله عن الحديث مفصلًا في الوجه الثاني من الكلام في تصحيح الحديث. (¬1) زيادة من "ت".

وقال ابن صالح: مصعب بن شيبة] (¬1): صاحبُ الكعبة، مكيٌّ، ثقةٌ. قلت: وقد أخرج له مسلم في "صحيحه"، ولم يخلُ من مسٍّ. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمدَ بنَ حنبل يقول: مصعب بن شيبة روى أحاديث مناكير. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن مصعب بن شيبة، فقال: لا يحمدونه، وليس بالقوي. وقال النَّسائيُّ: مصعب بن شيبة في حديثه شيء، وقال في موضع آخر: منكر الحديث. [و] (¬2) قال الدارقطني: مصعب بن شيبة ليس بالقوي، ولا بالحافظ. قلت: أكثرُ هذه الأقوال ليس بالشديد؛ وقول أحمد: روى أحاديث مناكير، لا يقتضي بمُجرَّده تركَ روايته، حتى تكثرَ المناكير في روايته، وينتهيَ إلى أن يقال فيه: منكر الحديث. وقول من قال: ليس بالقوي، ولا بالحافظ (¬3)، يحتمل أن يراد به انحطاطه عن الدرجة العالية في الحفظ. وقول أبي حاتم: لا يحمدونه، يحتمل مثل هذا؛ أي: لا ينزلونه منزلةَ الكبار في الحفظ. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "وليس بالقوي" مكررة في هذا الموضع من الأصل.

وأشدُّ ما ذكروه قولُ النَّسائيُّ: منكر الحديث، [وقد أشرنا إلى الفرق بين (منكر الحديث)] (¬1)، و (في حديثه مناكير)، وقد قال أحمد ابن حنبل - فيمن اتفقَ الناسُ على قبول حديثه (¬2) -: رواه، وأُسندَ إليه أن له مناكيرَ (¬3). زكريا بن [أبي] (¬4) زائدة: وأبو زائدة: قيل: اسمه خالد بن ميمون، وقيل: ميمون بن فيروز، وقيل: اسمه كنيته، وقال بَحشل: اسمه هبيرة أبو يحيى الأعمى الهمذاني الوادعي. قال الكلاباذي: مولى محمد بن المنتشر (¬5) الهمذاني الكوفي، وهو أخو عمر وعلي ابني زائدة. روى عن: أبي عمرو عامر بن شُراحِيل الشعبي، وأبي المغيرة سِمَاك بن حرب الذُّهلي، وأبي إسحاق عمر (¬6) بن عبد الله الهمذاني ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "حديث". (¬3) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 488)، "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 352)، "معرفة الثقات" للعجلي (2/ 280)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 305)، "الضعفاء" للعقيلي (4/ 196)، "رجال مسلم" لابن منجويه (2/ 258)، "تهذيب الكمال" للمزي (28/ 31)، "ميزان الاعتدال" (6/ 437)، "الكاشف" كلاهما للذهبي (2/ 267)، "لسان الميزان" (7/ 388)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن ججر (10/ 147). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "المتيسر"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "عمرو"، والمثبت من "ت".

[السَّبِيعي، وأبي يحيى فراس بن يحيى الهمذاني الحارثي الكوفي، وسعيد بن عمرو بن أشرع الهمذاني] (¬1) الكوفي القاضي، وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الرهري القاضي. [و] (¬2) روى عنه: أبو بِسْطام سعيد بن الحجاج العَتَكي، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثَّوريُّ، ومحمد بن فضل (¬3) بن غزوان الضَّبِّي، ووكيع بن الجراح العبدي، وعبد الله بن المبارك الحَنْظلي، ويحيى بن سعيد القطان، وعيسى بن يونس بن أبي إسحاق (¬4) الهمذاني السَّبِيعي، وأبو أسامة حماد بن أسامة القرشي، وأبو نعيم الفضل بن دكين المُلاَئي، وعبيد الله بن موسى العبسي، وابنه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة. مات سنة ثمانٍ وأربعين في قول أبي نعيم وغيره، وذكر الكلاباذي، عن ابن نمير: أنه مات سنة تسع وأربعين ومئة. وقد أخرج الشيخان، وبقية الجماعة حديثه. قال الأَوْنبِي (¬5): هو ثقة؛ قاله أحمد، ويحيى، وابن صالح، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "فضيل". (¬4) في الأصل: "أبي يوسف"، والمثبت من "ت". (¬5) هو الحافظ المتقن العلامة أبو بكر محمد بن إسماعيل بن خلفون الأزدي الأندلسي الأونبي، نزيل إشبيلية، كان بصيرًا بصناعة الحديث، حافظًا للرجال متقنًا، ألف كتاب: "المفهم في شيوخ البخاري ومسلم"، و"المنتقى في الرجال"، توفي سنة (636 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" =

والنسوي، والبزار، وغيرهم. زاد أحمد في رواية ابنه عبد الله: ما أقربَهُ من إسماعيل بن أبي خالد (¬1)! قلت: وقد أخرجَ الترمذيُّ حديثه، عن الشعبي، عن الحارث بن مالك بن البرصاء قال: سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ فتح مكة يقول: "لا تُغزَى هذهِ بعدَ اليومِ إلى يومِ القيامةِ". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث زكريا ابن أبي زائدة، عن الشعبي، لا نعرفه إلا من حديثه (¬2). وتصحيحُ ما انفردَ به الراوي تعديلٌ له. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: زكريا بن أبي زائدة ليِّنُ الحديث، كان يونس وإسرائيل أحبَّ إليَّ منه، يقال: إن المسائل التي يرويها زكريا لم يسمعها من عامر (¬3)، إنما أخذها عن أبي حُريز. سئل أبو زرعة عن زكريا بن أبي زائدة، فقال: صويلحٌ، يدلِّس كثيرًا عن الشعبي. ¬

_ = للذهبي (23/ 71). والأَوْبَنِي: منسوب إلى أَوْنبَة: بالفتح ثم السكون وفتح النون وجاء موحدة وهاء، قرية في غربي الأندلس على خليج البحر المحيط بها. انظر: "معجم البلدان" لياقوت (1/ 283). (¬1) انظر (العلل). لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 410). (¬2) رواه الترمذي (1611)، كتاب: السير، باب: ما جاء ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: "إن هذه لا تغزى بعد اليوم"، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 343)، وغيرهما من حديث الحارث بن مالك بن برصاء - رضي الله عنه -. (¬3) يعني: الشعبي.

وقال أبو بكر البَرْدِيجي: [و] (¬1) زكريا بن أبي زائدة ليس به بأس، وهو دونَ شعبةَ وسفيان. وقال صالح بن أحمد بن حنبل: يأتي أبي: إذا اختلف زكريا وإسرائيل، كان زكريا أحبَّ إليَّ في أبي إسحاق من إسرائيل (¬2)، ثم قال: ما أقربَهُما! وحديثُهما عن أبي إسحاق ليّنٌ، سمعا (¬3) منه بأَخَرة. وقال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد عن زكريا بن أبي زائدة، فقال؛ ليس به بأس، وليس هو عندي مثل إسماعيل. قلت: يعني: ابن أبي خالد (¬4). قلت: وهذه التضعيفاتُ (¬5) في هذه الأقوال؛ إما أن ترجعَ إلى نسبتِهِ إلى التدليس، وذلك موجودٌ فيمن اتفقوا على قبول روايته، أو ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "أبي إسرائيل". (¬3) في الأصل و "ت": "سمعنا"، والصواب ما أثبت. (¬4) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 355)، "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 421)، "معرفة الثقات" للعجلي (1/ 370)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 593)، "الثقات" لابن حبان (6/ 334)، "رجال صحيح البخاري" للكلاباذي (1/ 267)، "رجال صحيح مسلم" لابن منجويه (1/ 226)، "تهذيب الكمال" للمزي (9/ 359)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (6/ 202)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 284). (¬5) في الأصل: "التصحيفات"، والمثبت من "ت".

لفظٍ يدل على نقصه بالنسبة إلى غيره؛ يقول أبي زرعة: صويلح، وقول البرديجي: هو دون شعبة وسفيان، وقول يحيى بن سعيد: فليس (¬1) هو عندي مثل إسماعيل، وليس من شرط قبول رواية العدل أن لا يكونَ غيرُه أحفظَ منه (¬2)، أو أولى في الرواية، وإنما يُحتاج إلى هذا في باب الترجيح عند اختلاف الرواة، وليس من القدح في الرواية التي لم تُعارض في شيء، وهذا النوع من الحديث ينبغي أن يعقدَ له باب، أو (¬3) يُفردَ له تصنيف، ويعدَّ في علوم الحديث، بل هو من أجلها للحاجة إليه في الترجيح، ولست أذكر الآن أنَّه فُعلَ ذلك. وأشد ما ذكر فيما نقلناه قولُ أحمد فيه وفي إسرائيل: [سمعا] (¬4) منه بأخَرَة؛ يعني: من أبي إسحاق، وهذا يقتضي إن صح سماعُهما منه في حال ضعف روايته -[أنْ تُضعَّفَ روايتُهُ] (¬5) عن أبي إسحاق دونَ غيرها. وكيع بن الجراح: بن مَلِيح بن عدي بن فرس بن جمجمة، وقيل: ابن فارس بن سفيان بن الحارث بن عمرو بن عُبيد بن رُؤَاس - بضم الراء المهملة، وفتح الهمزة - بن كلاب بن عامر بن صعصعة، أبو ¬

_ (¬1) "ت": "وليس". (¬2) "ت": "عنه". (¬3) "ت": "و". (¬4) زيادة من "ت"، وقد جاءت الكلمة فيها خطأ فكتبت "سمعنا"، والصواب ما أثبت. (¬5) زيادة من "ت".

سفيان، الرؤاسي، الكوفي، أحد أكابر الطائفة، وإمام من أئمة المحدثين. سمع إسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وحنظلة بن أبي سفيان، ومالك بن مِغْوَل، والسُّفيانين، وجماعة غيرهم. روى عنه: ابن المبارك، ويحيى بن آدم، ويزيد بن هارون، وقتيبة، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين. قال أحمد بن حنبل: ما رأيت أوعى للعلم، ولا أحفظَ من وكيع، ما رأيته شك في حديثٍ إلا يومًا واحدًا، ولا رأيت معه كتابًا ولا رقعةً قطُّ. وعن أحمد أيضًا: حدثني من لم ترَ عيناك (¬1) مثلَه؛ وكيعُ بن الجراح. وعنه: هو أحبُّ إليَّ من يحيى بن سعيد، فقيل له: كيف فضَّلت وكيعًا؟ فقال: كان وكيعٌ صديقًا لحفص بن غياث، فلما وَلِيَ القضاء هَجَره وكيع، وكان يحيى بن سعيد صديقًا لمعاذ بن معاذ، فولي القضاء معاذ، ولم يهجره يحيى. وعنه أيضًا: ما رأيت رجلًا قطُّ مثلَ وكيع في الحفظ والعلم والإسناد والأبواب، ويحفظ الحديث جدًا، ويذاكر بالفقه، مع ورع ¬

_ (¬1) جاء في حاشية النسخة "ت": "لعله: عيناي"، وهو الأولى، وفي المطبوع من "تهذيب الأسماء" للنووي؛ "عيناك" كما ثبت من "م" و "ت".

واجتهاد، ولا يتكلم في أحد (¬1). وعن يحيى بن معين قال: ما رأيت أحدًا يحدِّثُ لله غيرَ وكيع بن الجراح، وهو أحبُّ إلي في سفيان من ابن مهدي، وأحب إلي من أبي نعيم، وما رأيت رجلًا قط أحفظَ من وكيع، ووكيعٌ في زمانه كالأوزاعي في زمانه (¬2). قال أحمد بن عبد الله: وكيعٌ: كوفيٌّ، ثقةٌ، عابدٌ، صالحٌ، [من] (¬3) حفاظِ الحديث، وكان يفتي. وقال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمن وكيع أفقهُ، ولا أعلمُ بالحديث من وكيع، كان جِهْبِذًا. وقال محمد بن سعد: توفي وكيع بِفَيْد (¬4) مُنصرفًا من الحج سنة سبع وتسعين ومئة، وكذا قال ابن نمير، والترمذي. قال أحمد بن حنبل: ولد وكيع سنة تسع وعشرين ومئة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 504)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (63/ 73). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 371)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 504)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (63/ 76). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) فَيْد: بالفتح ثم السكون وقال مهملة، منزل بطريق مكة. انظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 282). (¬5) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 394)، "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 179)، "معرفة الثقات" للعجلي (2/ 341)، "الجرح والتعديل" =

قتيبة بن سعيد: بن جميل (¬1) بن طريف بن عبد الله الثقفي، مولاهم، البَغْلاني - بفتح الباء الموحدة، وسكون الغين المعجمة، وبعد الألف نون -، أبو رجاء البلخي. قال الكلاباذي (¬2): وكان طريف مولى الحجاج بن يوسف وخبازَه، وهو أخو قُدَيد بن سعيد بن جميل. سمع الليث بن سعد، وبكر بن منصور، ومالكًا، وابن عيينة، وإسماعيل بن جعفر، وعبد العزيز بن أبي حازم، وجَريرًا، وابن عُلَيَّة، وأبا معاوية، والأنصاري. قال البخاري: مات في شعبان سنة أربعين ومئتين. وقيل: توفي ليلة الأربعاء نصف الليل، ودفن يوم الأربعاء مستهلَّ شعبان سنة أربعين ومئتين، وهو ابن ثنتين وتسعين سنة. ¬

_ = لابن أبي حاتم (9/ 37)، "الثقات" لابن حبان (7/ 562)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (8/ 368)، "تاريخ بغداد" للخطيب (13/ 496)، "الإرشاد" للخليلي (2/ 570)، "رجال صحيح البخاري" للكلاباذي (2/ 767)، "رجال صحيح مسلم" لابن منجويه (2/ 309)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (63/ 58)، "صفة الصفوة" لابنْ الجوزي (3/ 170)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 442)، "تهذيب الكمال" للمزي (30/ 462)، "سير أعلام النبلاء" (9/ 140)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي " 1/ 306)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 109)، "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 133). (¬1) في الأصل: "حنبل". (¬2) في الأصل: "كلاباذي"، والمثبت من "ت".

الوجه الثاني: في تصحيحه

قال محمد بن جعفر: وسمعت علي بن محمد السِّمسار يقول: سمعت أبا رجاء يقول: ولدت بِبَلْخ حين تعالى النَّهارُ لِسِت مضَيْنَ من رجب سنة ثمان وأربعين ومئة. قال علي بن محمد: ومات سنة أربعين ومئتين. قلت: وهو [من] (¬1) الرواة (¬2)، اتَّفقَ الجماعة على إخراج حديثه (¬3). * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: [وقد] (¬4) ذكرنا: أن مسلم أخرجه في "صحيحه"، وحسبُكَ بذلك، وتابعه على إخراجه: أبو داود، والترمذي، والنسائي؛ كلهم من حديث وكيع. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "الرواية". (¬3) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 195)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 140)، "الثقات" لابن حبان (9/ 20)، "تاريخ بغداد" للخطيب (12/ 464)، "التعديل والتجريح" للباجي (3/ 1072)، "رجال صحيح البخاري" للكلاباذي (2/ 625)، "رجال صحيح مسلم" لابن منجويه (2/ 151)، "الإرشاد" للخليلي (3/ 935)، "تهذيب الكمال" للمزي (23/ 523)، "سير أعلام النبلاء" (11/ 13)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (2/ 446)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (8/ 321)، "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 198). (¬4) سقط من "ت".

وقال فيه الترمذي (¬1): حسن؛ أعني: الحديث. والنسائي لمَّا أخرجه من رواية وكيع رواه عن محمد بن عبد الأعلى، عن عثمان (¬2)، عن أبيه (¬3)، وعن قتيبة، عن أبي عوانة، عن أبي بشر؛ كلاهما عن طلق قوله. قال: وحديث التيمي أولى، ومصعب بن شيبة منكر الحديث (¬4)؛ يريد: أن حديث التيمي في وقفه أولى من حديث مصعب في رفعه، يريد: لترجيحه حال التيمي على حال مصعب، وهو كذلك، وتقديم الأرجح بالنسبة إلى حال [الروايتين. وقد يقال في تقوية رواية مصعب هذه: إنَّ] (¬5) تَثَبُّتَهُ في الفرق بين ما حفظه، وبين ما شكَّ فيه، جهةٌ مقوية لعدم الغفلة، ومن لا يُتَّهَمُ بالكذب إذا ظهر منه ما يدل على التثبت، قَوِيَت روايتُه (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "الترمذي فيه ". (¬2) "ت": "معتمر". (¬3) رواه النَّسائيُّ (5041)، كتاب: الزينة، باب: من السنن الفطرة. (¬4) رواه النَّسائيُّ (5042)، كتاب: الزينة، باب: من السنن الفطرة، ووقع في المطبوع من "سننه": "وحديث سليمان التيمي وجعفر بن إياس أشبه بالصواب من حديث مصعب بن شيبة، ومصعب منكر الحديث". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) قال الحافظ في "الفتح" (10/ 337) بعد أن ذكر ترجيح النَّسائيُّ الرواية المقطوعة على الموصولة المرفوعة: والذي يظهر في أنها ليست بعلة قادحة؛ فإن راويها مصعب بن شيبة، وثَّقه ابن معين والعجلي وغيرهما، ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما، فحديثه حسن، وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ، وقول سليمان التيمي: سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرًا من الفطرة، يحتمل أن يريد =

الوجه الثالث: [في الاختيار]

وأيضاً فلروايته شاهدٌ صحيحٌ مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من هذا العدد، ففي "الصحيح" من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الفطرَةُ خمسٌ، أو خمسٌ من الفطرةِ: الختانُ، والاستحدادُ، وتقليمُ الأظفارِ، ونتفُ الإبطِ، وقصُّ الشاربِ"؛ هذه رواية سفيان بن عيينة، عن الزُّهري (¬1). وفي رواية يونس، عنه بسنده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الفطرةُ خمسٌ: الختانُ، والاستحدادُ، وقصُّ الشاربِ، وتقليمُ الأظفارِ، ونتفُ الإبط" (¬2). * * * * الوجه الثالث: [في الاختيار]: اختيار (¬3) رواية مصعب هذه على رواية سعيد بن المسيب - وإن كانت تلك أجلُّ - لزيادة الفائدة بذكر ما لم يُذكرْ في تلك الرواية، وهي خمس من الخصال. * * * ¬

_ = أنه سمعه يذكرها من قبل نفسه على ظاهر ما فهمه النسائي، ويحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها وسندها، فحذف سليمان السند. (¬1) رواه البخاري (5550)، كتاب: اللباس، باب: قص الشارب، ومسلم (257/ 49)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬2) رواه مسلم (257/ 50)، كتاب الطهارة:، باب: خصال الفطرة. (¬3) "ت": "اختار".

الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

* الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: قال الراغب: أصل الفَطر (¬1): الشق طُولاً، يقال: فَطَرَ فلانٌ كذا فَطْراً، وفَطَرَ هو (¬2) فُطُوراً، وانْفَطَرَ انفطاراً، قال تعالى: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3]؛ أي: اختلالٍ ووَهْيٍ فيه، وذلك قد يكون على سبيل الفساد، وقد يكون على سبيل الصلاح، قال تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]. وفَطَرْتَ الشاةَ: حلبتَها بإصبعين، وفَطَرْتَ العجينَ: إذا عجنَتهُ فخبزتَهُ من وقته، ومنه الفِطرةُ، وفطرُ الله الخلقَ، وهو (¬3) إيجادُه الشيءَ وإبداعُه على هيئةٍ مترشِّحَةٍ لفعل من الأفعال، فقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] إشارة (¬4) منه تعالى إلى ما فَطَر؛ أي: أبدع ورَكَزَ في الناس من معرفته، وهو المشار بقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ (¬5) مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، وقال: {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56]، {وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]؛ أي: أبدعنا وأوجدنا. ويصح أن يكون الانفطارُ في قوله: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] ¬

_ (¬1) في الأصل: "الفطرة"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "وفطراً" بدل "وفطر هو". (¬3) "ت": "وهي". (¬4) في الأصل: "فإشارة"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل زيادة: "من خلق السماوات".

إشارةً إلى قَبولِ ما أبدعها، وأفاضه عليها (¬1) منه. والفِطْر: ترك الصوم، يقال: فطَّرتُه، وأفطرتُه، وأفطرَ هو. وقيل للكَمْأَة: فُطْرٌ، من حيث إنه يَفطُرُ الأرضَ فيخرُجُ منها (¬2). قال الزمخشري: فَطَرَ الله الخلق، وهو فاطرُ السماوات: مبدعها، وافتطرَ الأمرَ: انتزعه، "وكلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطْرةِ" (¬3)؛ أي: على الجِبِلَّة القابلة لدين الحق. وقد فَطَر هذه البئر، وفَطَر اللهُ الشجر بالورق فانفطرَ به، [وتفطَّر] (¬4). وتفطَّرت الأرضُ بالنبات، وتفطَّرت اليد والثوب: تشققت. وفَطَرَ نابُ البعير: طلع، وهذا كلام يُفْطِرُ الصومَ؛ أي: يفسده، وفَطَرَت المرأةُ العجينَ والأجيرُ الطينَ، وعجين وطين فَطير (¬5)، وهو ما خُبز [به] (¬6)، أو ما طُيِّن به من ساعته قبلَ أن يَختمر. ¬

_ (¬1) في المطبوع من "مفردات القرآن": "علينا". (¬2) في المطبوع من "مفردات القرآن": "من حيث إنها تفطر الأرض فتخرج منها"، وانظر: "المفردات" للراغب (ص: 640). (¬3) رواه البخاري (1319)، كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم (2658)، كتاب: القدر، باب: معنى "كل مولود يولد على الفطرة"، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "فطر"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

الثانية

وجلدٌ فَطيرٌ: لم (¬1) يُلْقَ في الدباغ، وسَوْطٌ فَطير: مُحرَّمٌ لم يُمرَّنْ بالدِّباغ، وسيف فُطار: عُملَ حديثاً لم يُعتَّق، وقيل: فيه تشققٌ، وتقول: قلبٌ مُطار، وسيفٌ (¬2) فُطار. وأفطرَ الصائمُ وأفطرَه غيرُه وفطَّره، وفلان يُفطِّرُ الصوَّامَ بفَطُورٍ حسن، و"إذا غربَتِ الشمسُ فقد أفطرَ الصائمُ" (¬3)؛ أي: دخل في وقت الفِطر. وذبحنا فَطيرة وفَطورة: وهي الشاة التي تذبح يوم الفِطر. ومن المجاز: فلا خيرَ في الرأيِ الفطير، وتقول: رأيُه فطيرٌ، ولبُّه مستطير، انتهى (¬4). قلت: أخذ الراغب في الفطر بمعنى الشق قيدَ الطول، ولم يقيِّده ابن سيده بذلك، بل قال: فَطَرَ الشيءَ يفطُرُه فَطراً، وفَطَره: شقَّه، والفَطر: الشق، وجمعه: فُطُور، وفي التنزيل: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] (¬5) الثانية: قال الراغب: القصُّ: تتبُّع الأثر، يقال: قَصَصْتُ أثرَه، ¬

_ (¬1) "ت": "إذا لم". (¬2) في الأصل: "سقف"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه البخاري (1853)، كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم، ومسلم (1100)، كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء وخروج النهار، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 476). (¬5) انظر: "المحكم" لابن سيده (9/ 152)، (مادة: فطر).

والقَصَصُ (¬1): الأثر، قال تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]، ومنه قيل لِمَا يبقى (¬2) من الكلام (¬3) فيُتَتَبَّعُ (¬4) أثرُه: قصيصٌ (¬5)، وقصصتُ ظفرَه. والقَصَصُ: الأخبار المتتبَّعة، قال - عز وجل -: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62]، وقال - عز وجل -: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} [القصص: 25]، وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وقال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف: 7]، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [النمل: 76]، {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]. والقِصاص: تتبّعُ الدم بالقَوَد، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. ويقال: أقصَّ (¬6) فلان فلاناً، وضربه ضرباً فأقصَّه؛ أي: أدنى (¬7) من الموت. ¬

_ (¬1) "ت": "القص". (¬2) في الأصل: "ينتفي"، والمثبت من "ت". (¬3) في المطبوع من "المفردات": "لما يبقى من الكلأ". (¬4) في الأصل: "فتتبع"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "قصص"، والمثبت من "ت". (¬6) في المطبوع من "المفردات": "قصَّ". (¬7) في المطبوع من "المفردات": "أدناه"

الثالثة

والقَصُّ: الجِصُّ، ونهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن تقصيصِ (¬1) القُبورِ (¬2). قلت: أطلق الراغب القولَ بأن القَصَّ: تتبع الأثر، وقال ابن سيده: وتقصص الخبرَ: تتبعه، وقصَّ آثارهم يقُصُّها قَصاً، و [قَصصاً] (¬3): تتبعها بالليل، وقيل: هو تتبعُ الأثر أيَّ وقت كان (¬4). الثالثة: ذكر ابن سيده: أن الشارِبَيْن: ما سال على الفمِ من الشَّعر، وقال: وقيل: إنما هو الشارب، والتثنية خطأ، والشاربان: ما طال من ناحية السَّبْلَة، وبعضهم يُسمّي السَّبْلَة كلَّها شارباً واحداً، وليس بصواب. قال اللّحياني (¬5): وقالوا: إنه لعظيمُ (¬6) الشوارب، قال: [و] (¬7) هو من الواحد الذي فُرِّق وجُعل (¬8) كلُّ جزءٍ منه شارباً، ثم جُمع على هذا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تجصيص"، والمثبت من "ت". (¬2) رواه مسلم (970)، كتاب: الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه، من حديث جابر - رضي الله عنه -. وانظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 671 - 672). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 101)، (مادة: قصص). (¬5) في الأصل: "الجياني"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "العظيم"، والمثبت من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) "ت": "فجعل".

الرابعة

وقال ابن سيده: وشاربا السيف: ما اكتنف الشفرة، وهو من ذلك. وقال الهُنائي (¬1): وشوارب الفرس: ناحيةُ أَوْدَاجِهِ حيث يُودجُ البيطارُ، واحدُها على التقدير: شارب (¬2). الرابعة: قال الراغب: العَفْو: القصد لتناول الشيء، يقال: عفاه واعْتَفَاه؛ أي: قصده متناوِلاً ما عنده، وعفتِ الريحُ الدارَ: قصدتها متناوِلَةً آثارَها، وبهذا (¬3) النظرِ قال الشاعر [من الكامل]: أخذَ البِلَى أبلادَهَا (¬4) وعَفَتِ الدارُ: كأنَّهَا قَصدَتْ هي البِلى (¬5)، وعفا النبتُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الهياني"، والمثبت من "ت"، وقد سقط قوله "الهنائي" - وهو المعروف بكُراع النمل كما تقدمت ترجمته - من المطبوع من "المحكم". (¬2) انظر "المحكم" لابن سيده (8/ 54 - 55). (¬3) "ت": "ولهذا". (¬4) في الأصل "آثارها"، وفي "ت": "آياتها"، والمثبت من المطبوع من "المفردات"، وهذا عجز بيت لعدي بن الرقاع العاملي، كما في "ديوانه" (ص: 49)، وصدره: عرف الديارَ توهُّماً فاعتادها وانظر: "شرح الحماسة" للمرزوقي (1/ 720). ووقع عندهما: "من بعدما شمل". (¬5) في الأصل و "ت": "وعَفَتْ: كأنَّهَا قصدَت الدار هي البِلى"، والمثبت من المطبوع من "المفرادت".

والشَّعر (¬1): قصد تناول الزيادة؛ كقولك: أخذ النبت في الزيادة، ثم قال: وأعفيتُ (¬2) كذا؛ أي: تركته يعفو ويكثُر (¬3)، [و] (¬4) منه قيل: "أعفُوا اللّحَى" (¬5). والعَفَاء: ما كَثُر من الوبَر والرِّيش (¬6). وقال الهُنائي (¬7) في "المنجد" (¬8): والشعر العافي: الكثير. وقال ابن سيده: وعفا القوم: كثروا، وفي التنزيل: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]؛ أي: كثروا، وعفا النبت والشعر وغيره: كثر وطال (¬9)، وفي الحديث: "أنَّه أمرَ بإعفاءِ اللّحيةِ" (¬10). ¬

_ (¬1) في المطبوع من "المفردات": "والشجر". (¬2) في الأصل: "واعتفت"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت" "تعفو أو تكثر". (¬4) سقط من "ت". (¬5) رواه البخاري (5554)، كتاب: اللباس، باب: إعفاء اللحى، ومسلم (259/ 52)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، بلفظ: "أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى". (¬6) انظر: "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني (ص: 574). (¬7) في الأصل: "الهياني"، والمثبت من "ت". (¬8) "ت": "المنحل"، وكتاب: "المنجد في اللغة" لعلي بن الحسن الهنائي الدوسي المعروف بكراع النمل. (¬9) "ت": "فطال". (¬10) كما تقدم تخريجه قريباً عن ابن عمر رضي الله عنهما. وانظر: "المحكم" لابن سيده (2/ 373).

وقال غيره في معنى إعفاء اللحية: إنه توفيرها، وهو بمعنى: "أوفُوا اللِّحى" في الرواية (¬1)؛ يعني: الأخرى، وكان من عادة الفُرس قص اللحية، فنهى الشرع عن ذلك (¬2). وذكر أبو محمد بن السِّيد البطليوسي في الخلاف العارض من جهة الاشتراك (¬3) [في] (¬4) الألفاظ واحتمالها التأويلات الكثيرة، قال: ومن هذا النوع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قُصُّوا الشواربَ (¬5)، وأعفُوا اللِّحى" (¬6)، قال قوم: معناه: وفِّرُوا وكثروا، وقال آخرون: قصُّوا (¬7) أو أنقصوا، وكلا القولين له شاهد من اللغة؛ أما من ذهب إلى التكثير فحجَّتُه قولُ الله - عز وجل -: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]، وقال جرير (¬8) [من الوافر]: ولكنَّا نُعِضُّ السيفَ منها ... بأسْؤُقِ (¬9) عافيات (¬10) اللحمِ كُومِ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (259/ 54)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬3) في الأصل: "اشتراك"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "الشارب"، والمثبت من "ت". (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ورواه بهذا اللفظ: الإمام أحمد في "المسند" (2/ 229) وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬7) "ت": "قصروا". (¬8) كذا نسبه ابن السيد إلى جرير. ولم أقف عليه - في "ديوانه" بشرح محمد إسماعيل الصاوي، مطبوعة دار الأندلس، والله أعلم. (¬9) في الأصل: "باسق"، وفي "ت": "باساق"، والصواب ما أثبت. (¬10) في الأصل: "عقبات"، والمثبت من "ت".

الخامسة

وأما من ذهب إلى الحذف والتقصير، فحجته قول زهير [من الوافر]: تحمَّلَ أهلُهَا منها فبَانُوا ... على آثارِمن ذهبَ العَفَاءُ (¬1) وقد تقدم الكلام في السواك. الخامسة: قال ابن سيده: اللِّحْيةُ: اسم يجمعُ (¬2) من الشَّعر ما نبتَ على الخدين والذقن، والجمع: لِحىً، قال سيبويه: النسب إليه لَحَوي. ورجل ألْحَى (¬3)، ولَحْياني: طويل اللحية، وهو من نادر معدولِ النسب، فإن سميت رجلاً بـ (لحية)، ثم أضفته، فعلى القياس. والْتَحَى الرجل: صار ذا لحية، وكرهها بعضُهم. واللَّحْي: الذي ينبت عليه (¬4) العارض، والجمع: ألحٍ (¬5)، ولُحِيٍّ، ولِحَاء، انتهى (¬6). وحكى بعضهم في جمع اللحية: لِحى، بكسر اللام، ولُحى، بضمها (¬7). ¬

_ (¬1) انظر ديوان "زهير بن أبي سلمى مع شرحه لأبي العباس ثعلب" (ص: 58). (¬2) في الأصل: "لجمع"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "اللحى"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "على"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "الحى". (¬6) انظر: "المحكم" لابن سيده (3/ 444). (¬7) نقله النووي في "شرح مسلم" (3/ 151)، عن ابن السكيت وغيره، ثم قال: الكسر أفصح. وانظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 163).

السادسة

السادسة: قال أبو حاتم (¬1) [أحمد] (¬2) بن حمدان: الاستنشاق: الاستنثار، وهو أن يَجعل الماء في أنفه، وأصل الاستنشاق: الشم، كأنه إذا جعله في أنفه فقد شفَه، وقال جرير [من الكامل]: قالَتْ فدَتْكَ مُجَاشِعٌ واستنشقَتْ ... منْ مِنخرَيهِ عُصارةَ الكَافورِ (¬3) واستنشقت؛ معناه: شمت، وهو من النَّشوق؛ وهو دونَ السَّعوط (¬4)، وهو أن يَجذبَ الدهنَ (¬5) بالريح والنَّفَس. قال: وأما الاستنثار فإني سألت عنه ثعلباً فقال: أُخذ من النَّثْرَة، وهو الأنف. وهذا الذي قال: إن الاستنشاقَ: الاستنثارُ، هو (¬6) قول قوم. ذكر الأزهري، عن ابن الأعرابي: أن النَّثْرَة: طرف الأنف، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الطهارة: "استنثرْ"، قال: ومعناه: استنشقْ، ¬

_ (¬1) "ت": "أبو حامد". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "ديوان جرير" (ص: 194)، وعنده: "القفُّور" بدل "الكافور" وهما بمعنى واحد، والبيت من قصيدة مطلعها: سقياً لنهي حمامة وحفيرِ ... بسجالِ مُرتجزِ الربابِ مطيرِ (¬4) السَّعوطُ: الدواءُ يُصَبُّ في الأنف. انظر: "الصحاح" للجوهري (مادة: سعط). (¬5) أي: الطيب المُدَّهن به. (¬6) "ت": "وهو".

وحرِّكْ النَّثْرَة (¬1). وروى سلمة، عن الفراء: أنه قال: نثرَ الرجلُ وانتثرَ واستنثرَ: إذا حرَّك النَّثْرَة في الطهارة (¬2). وقال الخطابي: استنثرَ، معناه: استنشقَ الماء ثم أخرجه من أنفه، وأصله مأخوذ من النَّثْرَة، وهي الأنف (¬3). عن ابن قتيبة: الاستنشاق والاستنثار سواء، مأخوذ من النَّثْرَة، وهي الأنف (¬4). وعند بعضهم التفريق بين الاستنشاق والاستنثار، قال صاحب "المطالع" (¬5) (¬6) بعد ما حكى قولَ ابن قتيبة - أن الاستنشاق والاستنثار ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (15/ 55)، (مادة: نثر). (¬2) نقله النووي في "شرح مسلم" (3/ 105)، وفي "تهذيب الأسماء" (3/ 335) عن الأزهري في "تهذيب اللغة"، وقد سقط من المطبوع من الكتاب، وعن النووي نقل المؤلف رحمه الله كلام الأزهري. (¬3) قال الخطابي في "غريب الحديث" (1/ 136): والاستنثار أن يمري الأنف يستخرج ما قد تنشقه من الماء، وزعم بعضهم: أن الاستنثار مأخوذ من النثرة وهي الأنف. (¬4) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 160) وعنده: والاستنثار سمي بذلك؛ لأن النثرة الأنف، فالاستنثار استفعال. (¬5) في الأصل: "الطالع"، والمثبت من "ت". (¬6) لابن قُرقُول - بضم القافين - إبراهيم بن يوسف الوهراني الأندلسي، المتوفى سنة (569 هـ) كتاب: "مطالع الأنوار على صحاح الأثار" فيما استغلق من كتاب: "الموطأ"، و "البخاري"، و"مسلم"، وإيضاح مبهم =

السابعة

سواء، مأخوذ من النَّثْرَة، وهي الأنف -: ولم يقل شيئاً؛ يعني: ابن قتيبة، وقد فَرَّقَ بينهما في الحديث بقوله: "فليجعلْ في أنفِهِ ماءً، ثم ليَنتَثِرْ" (¬1)، فدلَّ على أنَّه: طرحُه بريحِ الأنف. السابعة: الأظافر: جمع ظُفْر، بضم الظاء، وسكون الفاء، وضمها أيضاً. وأما الكسر فإنه قيل أيضاً: إن أبا زيد حكى في "نوادره": ظِفر بالكسر. وأما ابن سيده فلم يعرفه، فإنه قال: الظُّفْر، والظُّفُر معروف، يكون للإنسان وغيره، قال: وأما قراءة من قرأ: {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] بالكسر فشاذٌّ غيرُ مأنوس به (¬2)، إذ لا نَعرف ¬

_ = لغاتها في غريب الحديث، اختصر فيه "مشارق الأنوار" للقاضي عياض، واستدرك عليه، وزاد فيه أشياء. وللقاضي محمود بن أحمد الهمذاني الفيومي، المشهور بابن خطيب الدهشة، المتوفى سنة (834 هـ) اختصار لكتاب ابن قرقول هذا سماه: "تهذيب المطالع لترغيب المُطالع"، وقد أودع فيه غالب كتاب أبيه "المصباح المنير". انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (1/ 372)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1715). (¬1) رواه مسلم (237)، كتاب: الطهارة، باب: الإيثار في الاستنثار والاستجمار، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) وهي قراءة الحسن، انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 277).

ظِفراً (¬1) بالكسر. وقيل: الظُّفر لما لا يصيد من الطير، والمخلب لما يصيد (¬2)، كلُّه مذكر؛ صرَّح بذلك اللّحياني. والجمع: أَظفار، وهو الأُظْفُور، [و] على هذا قولُهم: أَظافير، لا على [أنه] جمع أظفار، الذي هو جمع ظُفْر؛ لأنه ليس كلُّ جمع يُجمَع، ولهذا حمل الأخفش قراءة من قرأ: (فرُهُنٌ مَّقبُوضَةُ) [البقرة: 283] على أنه جمع رهن (¬3)، وتجوز قِلَّتُه؛ لئلا يضطرَّه ذلك إلى أن يكون جمعَ رِهان، الذي هو جمع رهن. وأما من لم يقل: إلاّ ظُفْر، فإن أظافير عنده إنما هو جمع الجمع، فجمع ظُفْراً على أظفار، ثم أظفاراً (¬4) على أظافير. قال بعضهم: همزة (أُظْفور) ملحقة [له] (¬5) بباب (دُمْلُوج) بدليل ما انضاف إليها من زيادة الواو معها؛ هذا مذهب بعضهم (¬6). قلت: ويشتركُ مع الظُفْرِ في الصيغة الظُّفْرُ والظَّفَرَةُ؛ داءٌ يكون ¬

_ (¬1) "ت": "ظفر". (¬2) في الأصل: "لا يصيد"، والتصويب من "ت". (¬3) هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: 214). (¬4) في الأصل: "أظفار"، والتصويب من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر "المحكم" لابن سيده (10/ 17 - 18).

في العين يتجلَّلُها منه غشاوة (¬1) كالظُّفر، وقيل: هي لحمة تنبت عند المآق حتى تبلغ السواد، وربما أخذت منه (¬2). ويشترك أيضاً معه في الصيغة الظُّفْر؛ ضربٌ من العطر أسود، على شكل ظفر الإنسان، يوضع في الدُّخْنَة (¬3). ويشترك معه أيضاً الظُّفْرُ؛ وهو ما وراء معقد الوَتَر إلى طرف القوس، قال ابن سيده: وخصَّ بعضهم به القوسَ العربية، [و] (¬4) قيل: طرف القوس، والجمع: ظِفَرَة (¬5). قلت: القراءةُ التي أنكرها ابن سيده في كسر الظاء من (ظفر) حكاها الثعلبي عن الحسن، قال: وقرأ الحسن: ظِفْر، مكسورةَ الظاء، ساكنةَ الفاء، وقرأ أبو السِّماك بكسر الظاء والفاء، وهي لغة (¬6). وما ذكره من الأظافير، ورغبته عن أن يكون جمع جمع، ذكره الأزهري قال: قال الليث: الظفر: ظفر الإصبع، وظفر الطائر، والجمع: أظفار، وجماعة الأظفار: أظافير. قال: ويقال: ظَفَرَ فلانٌ في وجه فلان، إذا غرَزَ ظُفره في لحمه ¬

_ (¬1) "ت": "غاشية"، وكذا في المطبوع من "المحكم". (¬2) "ت": "فيه"، وكذا في المطبوع من "المحكم". (¬3) في الأصل: "المدخنة"، والتصويب من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "المحكم" لابن سيده (10/ 18 - 19). (¬6) انظر: "تفسير الثعلبي" (4/ 201).

الثامنة

فَعَقره (¬1)، وكذلك (¬2) التَّظفيرُ في القِثَّاء والبِطيخ والأشياء كلِّها. ويقال للظُّفر: أُظْفُور، وجمعه: أظافير (¬3). وقال الجوهري: الظُّفر؛ جمعه: أظفار، وأظْفُور، وأظافير (¬4). الثامنة: البَراجم - بفتح الباء -: جمع بُرجُمة - بضم الباء والجيم -، قال ابن سيده: والبُرجمة: المفصل الظاهر من الأصابع كلها، وقيل: الباطن، وقيل: البراجم: مفاصل الأصابع كلها، وقيل: هي ظهور القصب (¬5) من الأصابع. والبُرْجُمَة: الإصبع الوسطى من كل طائر. والبراجم: أحياء [من] (¬6) بني تميم، وذلك أن أباهم قبض أصابعه، وقال (¬7): كونوا كبراجمِ يدي هذه؛ أي: لا تفرقوا، وذلك أعزُّ لهم، قال ابن الأعرابي: البراجمُ: عمرو، وقيس، وغالب، وكلفة، وظليم بنو حنظلة (¬8). التاسعة: قال ابن سيده: الأبْطُ: باطن المنكب، يذكَّرُ ويؤنَّثُ، والتذكيرُ أعلى. ¬

_ (¬1) "ت": "فعقرة". (¬2) في الأصل: "فذلك"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (14/ 268 - 269) (مادة: ظفر). (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 729)، (مادة: ظفر). (¬5) في الأصل: "العصب"، والمثبت من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) "ت": "وقالوا". (¬8) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 598)، (مادة: برجم).

العاشرة

وقال اللّحياني: هو مذكر، وقد أنَّثه بعضُ العرب، والجمع: آباط. وتأبَّطَ الشيء: وضعه تحت إبطه، وبه سمي تأبَّطَ شَرًّا؛ لأن أمه بَصُرت به، وقد تأبط خفير (¬1) سهام، وأخذ قوساً، فقالت: هذا تأبط شراً، وقيل: بل تأبط سكيناً، وأتى ناديَ قومِه، فوَجَأَ أحدَهم، فسمي به لذلك، واسمه ثابت بن جابر (¬2). [قلت] (¬3): ويشترك معه في الصيغة إبط الرمل، وهو ما رَقَّ منه (¬4). العاشرة: العَانة لفظٌ مشترك، فالعانة: القطيع من حمر الوحش، والعانة: الأتان، والجمع منها: عُونٌ، وقيل: فلان (¬5) على عانة بكر ابن وائل؛ أي: جماعتهم وحرمتهم، قال ابن سيده: [و] (¬6) هذا عن اللحياني. قال: [و] (¬7) العانة: [الحظُّ] (¬8) للأرض (¬9) من الماء بلغة عبد القيس. وعانة: قرية من قرى الجزيرة. ¬

_ (¬1) في المطبوع من "المحكم": "جفير". (¬2) انظر "المحكم" لابن سيده (9/ 209)، (مادة: أب ط). (¬3) سقط من "ت". (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) في الأصل: "إن"، وفي "ت": "أنا"، والمثبت من المطبوع من "المحكم". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) زيادة من "المحكم". (¬9) في الأصل: "الأرض"، والمثبت من "ت".

الحادية عشرة

وعانة الإنسان: الشعر النابت على فرجه، وقيل: هي (¬1) منبتُ الشعر هنالك؛ قاله ابن سيده (¬2). قلت: وهذا هو المراد بالحديث هاهنا (¬3). قال ابن سيده: واستعانَ الرجل: حلق عانته، وقال بعض العرب - وقد عرضه رجل على القتل -: أَجِرْ لي (¬4) سَرَاويلي فإني لم أستعنْ. وتعيَّن: كاستعان، وأصله الواو، فإما أن يكون (تعين) تَفَعْيَل، وإما أن يكون على المعاقبة؛ كالصياغ في الصواغ، وهو أضعف القولين، إذ لو كان ذلك لوجد ما (¬5) تعوَّن، فعدَمُنا إياه يدلُّ على أن (تعين) تفعيل (¬6). الحادية عشرة: المَضْمَضَةُ، قال أبو حاتم أحمد بن حمدان ¬

_ (¬1) "ت": "على" بدل "هي". (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (2/ 369)، (مادة: عون). (¬3) وقال أبو شامة: العانة: الشعر النابت على الرَّكَب، وهو ما انحدر من البطن، فكان تحت السرة وفوق الفرج. وقيل: لكل فخذ: ركب، وقيل: ظاهر الفرج، وقيل: الفرج نفسه، سواء كان من رجل أو امرأة. قال: ويستحب إماطة الشعر عن القبل والدبر، بل من الدبر أولى؛ خوفاً من أن يعلق شيء من الغائط به، فلا يزيله المستنجي إلا بالماء، ولا يتمكن من إزالته بالأحجار. قال الحافظ ابن حجر: والذي استند إليه أبو شامة قوي، بل ربما تصور الوجوب في حق من تعين ذلك في حقه. انظر: "فتح الباري" (10/ 343). (¬4) "ت": "أجرني". (¬5) في المطبوع من "المحكم": "لوجدنا". (¬6) انظر: "المحكم" لابن سيده (2/ 369)، (مادة: عون).

السجستاني: والمضمضة: هو أن يُحرِّك الماء في فيه ويسعُطُه سعطاً، وأصله من المضِّ، وهو السَّعط، يقال: مضَّه هذا الأمرُ ومضمضه: إذا سعطه، وهما ضادان أدغمت إحداهما في الأخرى فشُدِّدت، فإذا أظهروها خفَّفوها، وهو كما تقول (¬1): جَلَّ وجَلجَلَ (¬2)، ورَدَّ ورَدْرَد (¬3)، انتهى. وقال غيره: [أصلُ] (¬4) المضمضة: التحريكُ، قال ابن سيده: ومضمضَ إناءَه: [إذا] (¬5) غسله، والصاد لغة فيه؛ حكاهما يعقوب. ومضمضَ الماءَ في فِيه: حرَّكه، وتمضمض به، ومضمضَ النُّعاسُ في عينه: دبَّ، وتمضمضت به العينُ، وتمضمض الكلبُ في أثره: هَرَّ (¬6) (¬7). ومن الناس من فرق بين المصمصة المهملة، والمضمضة المعجمة (¬8)؛ فجعل المهملة للأقل، والمعجمة للأكثر (¬9). ¬

_ (¬1) "ت": "يقال". (¬2) "ت": "جلل". (¬3) في الأصل و "ت": "ردد"، والصواب ما أثبت. (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "أثر نهر"، والمثبت من "ت". (¬7) انظر "المحكم" لابن سيده (8/ 167)، (مادة: م ض ض). (¬8) في الأصل: "المضمضة المهملة والمصمصة المعجمة"، والتصويب من "ت". (¬9) قال أبو عبيد في "غريب الحديث" (4/ 468): المصمصة: بطرف اللسان، وهو دون المضمضة - والمضمضة: بالفم كله، وفَرْقُ ما بينهما =

الثانية عشرة

الثانية عشرة: قال السجستاني [في الاستنجاء] (¬1): الاستنجاء: أصلُه التمسحُ بالحجارة، ثم سمي غسل الأسافل بالماء: استنجاءً، فهو مشتق من النَّجْوة، والنَّجوةُ: ما ارتفع من الأرض، فكان أحدهم إذا أراد أن يقضي حاجته استتر بنجوة، أي: بموضع مرتفع، فقالوا: ذهب ينجو (¬2)، وفي الحديث: "اللحمُ أقلُّ الطعامِ نَجواً" (¬3). وقيل أيضاً: إنه يتغوط، وقيل للحدث: غائط، [وإنما الغائط] (¬4) ما اطمأنَّ من الأرض؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في الغيطان، وهو على طريق الكناية عن الحدث. فمن مسح موضع الحدث بالحجارة، أو الماء، قيل: قد استنجى. ويقال أيضاً: استجْمَرَ، وهو بالحجارة دون الماء، وأُخذ من الجِمار، والجِمارُ: الحجارة، وهكذا السنة فيه؛ [معناه] (¬5): يمسح ¬

_ = شبيه بفرق ما بين القبصة والقبضة؛ فإن القبضة: بالكف كلها، والقبصة: بأطراف الأصابع. (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت" زيادة: "وقيل للحديث: نجو". (¬3) قلت: هو من أقوال بعض العرب، وليس بحديث كما ذكر أبو حاتم السجستاني اللغوي، ولم ينبه إليه المؤلف رحمه الله. ذكره الجاحظ في "الحيوان" (2/ 206) إلا أنه قال: "نجراً"، والأصفهاني في "محاضرات الأدباء" (1/ 704)، والأزهري في "تهذيب اللغة" (11/ 135)، وابن منظور في "لسان العرب" (15/ 304)، وغيرهم. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

بالحجارة، وفي الحديث: "إذا استجمرْتَ فأوتِرْ" (¬1)؛ أي: خذْ وِتْرَكَ من الحجارة، انتهى. وجعل الراغبُ أصلَ النجاء الانفصالُ من الشيء، ومنه: نجا فلان من فلان، وأنجيته، ونجَّيته، وجعل منه النَّجاةَ (¬2)، والنجوةُ: المرتفع المنفصل بارتفاعه عمَّا حولَه، وقيل: سمي لكونه ناجياً من السَّيل، ونجَّيتُه: تركتُه بنَجْوة، وعلى هذا قوله - عز وجل -: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92]، ونجوتُ قِشرَ الشجرة، وجلدَ الشاةِ؛ لاشتراكهما في ذلك، قال الشاعر [من الطويل]: فقُلتُ انْجُوَا عنها (¬3) نَجَا (¬4) الجِلدِ إنَّهُ ... سيُرضِيكُما منها سَنَامٌ وغارِبُهْ (¬5) (¬6) ¬

_ (¬1) رواه النسائي (43)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في الاستطابة بحجر واحد، والترمذي (27)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المضمضة والاستنشاق، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (406)، كتاب: الطهارة، باب: المبالغة في الاستنشاق والاستتنثار، من حديث سلمة بن قيس - رضي الله عنه -. (¬2) "ت": "النجوة". (¬3) في الأصل و "ت": "منها"، والتصويب من المصادر المشار إليها في عزو البيت. (¬4) في الأصل: "لحى"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "عاريا"، والمثبت من "ت". (¬6) نسبه الفراء في "المقصور والممدود" (ص: 23) لأبي الغمر الكلابي. قال البغدادي في "خزانة الأدب" (4/ 360): ورأيت في "حاشية الصحاح" لابن بَرِّي نسبة هذا البيت لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت - رضي الله عنه -. قلت: وكذا نسبه الزبيدي في "تاج العروس"، (مادة: ن ج ا).

وناجيته: سارَرْتُه، وأصله: أن تخلوَ به في نَجوةٍ من الأرض، وقيل: أصله من النجاة (¬1)، وهو أن تعاوِنَه على ما فيه خلاصُه، أو أن تنجوَ بسرِّك (¬2) من أن يطلع عليه، وتناجى القوم، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة: 9]، وذىَ آياتٍ في هذا المعنى. والنَّجِيُّ: المناجي، يقال للواحد والجمع، قال الله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]، وانتجيتُ (¬3) فلاناً؛ [أي] (¬4): استخلصته لسِرِّي. وأنْجَى فلانٌ: أتى (¬5) نَجْوةً، وهم في أرضِ نجاةٍ؛ أي: في أرض تُستنجَى منها (¬6) العِصِيُّ والقَسِيُّ، والنّجَاء: عيدان قد قُشِرت. وذكر الراغب عن غيره (¬7): نَجوتُ فلاناً: استنكهُته، قال: واحتج بقول الشاعر [من الوافر]: ¬

_ (¬1) في الأصل: "النجوة"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "سرك"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "استنجيت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "إلى"، والمثبت من "ت". (¬6) في المطبوع من "المفردات": "في أرض يُستنجى من شجرها". (¬7) هو ابن فارس، كما في "المجمل" له (3/ 858).

الثالثة عشرة

نَجَوْتُ مُجاهداً وشممْتُ منهُ ... كريحِ الكلبِ ماتَ حديثَ عهدِ (¬1) قال: فإن يكنْ (¬2) حمله (نجوت) على هذا المعنى من أجل هذا البيت، فليس في البيت حجة (¬3) له، وإنما أراد: أنني ساررْتُهُ فوجدت من بَخَرِهِ ريحَ الكلب. قال الراغب: وكُنَّي عما يخرج من الإنسان بالنَّجْوِ. وقيل: شَرِبَ دواءً فما أنجاه؛ أي: ما (¬4) أقامه. ثم قال: والنَّجْاةُ - بالهمز -: الإصابة بالعين، قال: وفي الحديث: "ادفَعُوا نَجْأةَ السَّائلِ باللُّقمةِ" (¬5). الثالثة عشرة: قد فُسِّر انتقاصُ الماء بالاستنجاء، وفي [معنى] (¬6) ¬

_ (¬1) البيت للحكم بن عبدل، كما نسبه الجاحظ في "الحيوان" (1/ 251). والزبيدي في "تاج العروس" (مادة: ن ك هـ). والبيت ورد في المطبوع من "المفردات"، وكذا "المحكم" لابن سيده (7/ 559)، و "الصحاح" للجوهري (6/ 2502)، و "تهذيب اللغة" للأزهري (11/ 137)، والسان العرب، لابن منظور (15/ 304): نجوتُ مجالداً فوجدتُ منه ... كريح الكلب ماتَ حديثَ عهدِ (¬2) في الأصل: "لم يكن"، والتصويب من "ت". (¬3) في الأصل: "الحجة"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "فما". (¬5) كذا ذكره ابن قتيبة في "غريب الحديث" (3/ 734)، وابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (5/ 16)، ولم أقف عليه هكذا، فالله أعلم بحاله. وقوله: نجأة السائل: أي شدة نظره. وانظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 792 - 793). (¬6) سقط من "ت".

الرابعة عشرة

انتقاصِ الماء بالنسبة إلى الاستنجاء وتفسيره به خفاءٌ. الرابعة عشرة: المعروف في هذه اللفظة (¬1) أنها بالقاف والصاد المهملة، وذكر ابن الأثير أنه رُوي: انتفاص - بالفاء والصاد المهملة -، وقال في فصل الفاء: قيل: الصواب أنها بالفاء، قال: والمراد (¬2): نضحه على الذكر، من قولهم: لنضح (¬3) الدم القليل نُفصَةٌ، وجمعها: نُفَص (¬4). ذكر ذلك عن (¬5) ابن الأثير أبو زكريا النووي - رحمه الله -، وقال: وهذا الذي نقله شاذٌّ، والصواب ما سبق (¬6)، انتهى، والله أعلم. الخامسة عشرة: إذا بنينا على المشهور، فقد فسَّره وكيعٌ بالاستنجاء (¬7). وقال أبو عُبيد (¬8): معناه انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره (¬9). ¬

_ (¬1) أي: انتقاص. (¬2) في الأصل: "فالمراد"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "ينضح"، والمثبت من "ت". (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 96). (¬5) في الأصل: "على"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 150). (¬7) كما جاء في متن الحديث. (¬8) "ت": "عبيدة". (¬9) انظر: "الغريبين" لأبي عبيد (6/ 63) وعنده: "انتقاص البول بالماء إذا غسل المذاكير به"، وما ذكره المؤلف رحمه الله فإنما نقله عن النووي في "شرح مسلم" (3/ 150).

الوجه الخامس: في شيء من العربية، وفيه مسائل

وقيل: هو الانتضاح، وقد جاء في رواية: "الانتضاح" (¬1) بدلَ "انتقاص الماء". وذكر بعضهم قال: قال الجمهور: الانتضاحُ: نضحُ الفرجِ بماء قليل بعد الوضوء؛ لينفيَ عنه الوسواس (¬2). وقيل: هو الاستنجاء [بالماء] (¬3)، والله أعلم (¬4). * * * * الوجه الخامس: في شيء من العربية، وفيه مسائل: الأولى: إسقاطُ التاء من "عشر" مُصيَّرٌ إلى معنى الخصلة والخصال، ولو أثبتت لكان مُصيَّراً إلى الفعل والأفعال. الثانية: (من) في: "عشر من الفطرة" (¬5) للتبعيض، وهو يقتضي: أن الفطرةَ لا تنحصر فيها (¬6). وقد ورد في حديث أبي هريرة الذي رواه يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الفطرةُ خمسٌ: الاختتانُ، والاستحدادُ، وقصُّ الشاربِ، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (54)، كتاب: الطهارة، باب: السواك من الفطرة، وابن ماجه (294)، كتاب: الطهارة، باب: الفطرة، من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه -. (¬2) "ت": "الوساوس". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 150). (¬5) "ت": "من قوله" بدل "من الفطرة" في قوله "عشر من الفطرة". (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" للمؤلف (1/ 84).

الثالثة

وتقليمُ الأظفارِ، ونتفُ الإبطِ" (¬1). وفي رواية سفيان، عن الزُّهري بسنده: "الفطرة خمسٌ، أو خمسٌ من الفطرة: الختانُ، والاستحدادُ، وتقليمُ الأظفار، ونتفُ الأبط، وقصُّ الشاربِ" (¬2). فهذه ثلاثُ روايات: إثباتُ (¬3) (من)، وحذفُها، والشكُّ في ذلك. فأما ما وقع من الشك والاختلاف في رواية الزُّهري بين يونس وسفيان، فيُردُّ إلى الرواية الأخرى التي (¬4) أُثبت فيها لفظة (من). وأما الرواية التي فيها: "الفطرة خمس" فظاهرها يخالفُ ما في هذه الرواية من إثبات (من)؛ لما تقتضيه الألف واللام من الحصر، لكن يظهر أن دلالة (من) على التبعيض أقوى من دلالة الألف واللام على الحصر، مع ما وقع من الشك في تلك الرواية، والاتفاق على إثباتها هاهنا (¬5). الثالثة: الاستنجاء ممدود، والهمزة فيه منقلبة عن واو أصلية؛ لما بيَّنا أنه من (النجو)، وانقلابها همزة على (¬6) القاعدة في قلب الواو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (257/ 50). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5550)، وعند مسلم برقم (257/ 49). (¬3) "ت": "بإثبات". (¬4) في الأصل: "الذي"، والتصويب من "ت". (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" للمؤلف (1/ 84 - 85). (¬6) "ت": "عن".

الرابعة

والياء إذا وقعتا طرفاً بعد ألف (¬1) زائدة؛ ككساء، ورداء، وبكاء. الرابعة: الاستنجاءُ مصدر استنجى، واستنجى: استفعل، وهذه الصيغة - أعني: استفعل - تَرِدُ لمعانٍ: أحدها: طلب الفعل واستدعاؤه؛ كاستخبز، واستطعم، واستسقى، واستفهم؛ أي: طلب أن يخبزَ (¬2)، ويُطعَمَ، ويُسقَى، ويُفهَم، واستخرج؛ أي: طلب إليه أن يخرج، واستحقه؛ أي: طلبَ حقه. وثانيها: أن تكون بمعنى: وَجدتُهُ [كذلك؛ كاستجدته واستكرمته؛ أي] (¬3): وجدته جيداً كريماً. وثالثها: أن تكون بمعنى التحوُّلِ من حال إلى حال؛ كاستنوقَ الجملُ. ورابعها: أن تكون بمعنى: تفعَّلَ؛ كتكبَّرَ واستكبر، وتيقَّنَ واستيقن، وتعظَّمَ واستعظم، وتثبَّتَ واستثبت (¬4)، وفي هذا معنى تناولِ الأمر شيئاً بعد شيء. وخامسها: أن يكون بمعنى: فَعَل؛ كاستقرَّ وقرَّ. واستنجى من هذه المعاني تكون من القسم الأول، إلا أنا إذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "الألف"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "الخبز"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "نحو: استكبر واستيقن واستعظم واستثبت؛ بمعنى تكبر وتيقن وتعظم وتثبت".

أخذناه (¬1) من (النجو)؛ بمعنى (¬2): المرتفع من الأرض، فليس المعنى عليه؛ لأنه يكون معناه: طلبت النجوَ؛ كما يقال (¬3): تغوَّط: طلب الغائط، والاستنجاءُ يستعمل بمعنى الإزالة، لا بمعنى طلب المكان لقضاء الحاجة. وذكر الراغب: أن الاستنجاءَ: تحري إزالة النجو، أو طلبُ نجوةٍ لإلقاء الأذى؛ كقولهم: تغوَّطَ إذا طلبَ غائطاً من الأرض، أو طلب نجوة، أو قطعة مَدَرٍ؛ لإزالة الأذى؛ كقولهم: استجمر، إذا طلب جِماراً؛ أي: حجراً (¬4). فإن أراد أنه يصحُّ أن يقال: استنجى؛ بمعنى: طلب النجو؛ لإزالة الحاجة، نظراً إلى الاشتقاق، فهذا خارج عن عُرف الاستعمال الشرعي والعادي. وإن أخذناه من (النجو)، الذي هو الحدث، فيحتمل أن يكون معناه طلب النجو لإزالته، فيوافق الاستعمال عرفاً وشرعاً، [ويطابق المراد بالحديث] (¬5). * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "وجدناه"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "يعني". (¬3) "ت": "تقول". (¬4) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 793). (¬5) سقط من "ت".

الوجه السادس: في شيء من المعاني والبيان سوى ما تقدم، وفيه مسائل

* الوجه السادس: في شيء من المعاني والبيان سوى ما تقدم، وفيه مسائل: الأولى: سيأتي ذكرُ تفسيرِ الفِطرة بالسنة عند من فسَّرَه بذلك، وعلى هذا ففيه حذفُ مضاف تقديره: عشر من خصال السنة، أو المِلة، أو ما أشبه ذلك. الثانية: هذه الخصال؛ بعضُها يتعلَّقُ بما ليس في الإنسان منه إلا شيء واحد، وبعضها بما في الإنسان منه أشياء، أو شيئان، فعُبِّرَ عمَّا في الإنسان منه شيء واحد بلفظ الإفراد، وعبر عن القسم الآخر بلفظ الجمع، فقيل في الأول: قص الشارب، وإعفاء اللحية، وقيل في الثاني: قص أظفار، وغسل البراجم، وأما ما في الإنسان منه اثنان؛ كالإبط، فإنه ذكر بلفظ الإفراد، فقيل: نتف الإبط، ولم يذكر بالتثنية. الثالثة: هذه الخصالُ تتعلق بها مصالحُ دينية ودنيوية؛ أما الدنيوية: فترجع إلى جنس التحسينات، والتزيينات، وحسن الهيئات، والنظافة. وأما الدينية: فكما سنذكر ذلك مُفصَّلًا إن شاء الله تعالى (¬1). الرابعة: فائدة قص الشارب: تحسينُ الهيئة، وتحصيل النظافة مما لعله يتعلَّقُ (¬2) به من الأدهان، [والأضار] (¬3)، وما له التصاق بما ¬

_ (¬1) قال ابن القيم رحمه الله: الفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرة تتعلق بالجسد وعليه، وهي هذه الخصال، فالأُولى: تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية: تطهر البدن، وكل منهما تمد الأخرى وتقويها. انظر: "تحفة المودود" له (ص: 160 - 161). (¬2) في الأصل: "تعلق"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت".

الخامسة

يتصل به؛ كالعسل، والأشربة، ونحوها، ومخالفةُ شعار الأعاجم، ففيه المصلحتان معاً. الخامسة: إعفاءُ اللحية وتوفيرُها قيل: كان من عادة الفرس قصُّ اللحية، فنهى الشرع عن ذلك (¬1). قلت: وهذه مصلحة دينية. وأما من المصالح الدنيوية: فتحسينُ الهيئة لما في اللحية من الأُبَّهةِ والجمال. السادسة: والسواك فيه استعمالُ السنة، وتطييب الفم لمناجاة الله تعالى، ورعاية حق الملائكة، وحق عباد الله الآدميين، في إزالة (¬2) ما يتأذَّون به، وكلُّ هذه مصالح شرعية. وفيه حسن هيئة الإنسان، وزوال ما يُستكرَه من الروائح. السابعة: استنشاق الماء واستنثاره، فيه إزالةُ ما لعلَّه اجتمع فيه من المُخَاط والفضلات المستقذرة، وقد ينعقد بعضها، ويدخل اليُبْس، فيليِّنه الاستنشاق، ويسهل خروجه. وقد يكون فيه ما يُكره ريحه، فيدخل في باب الإحسان إلى المخالطين للإنسان، ممن يتأذى به، ويرجع إلى أمر ديني. وأيضاً فإذا حملنا قوله - عليه السلام -: "فإنَّ الشيطانَ يبيتُ على خَيَاشيمِه" (¬3) [على ظاهرِ] (¬4)، ففيه غسلُ محل الشيطان، وتنزيلُ ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬2) "ت": "إزالته". (¬3) رواه البخاري (3121)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (238)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) سقط من "ت".

الثامنة

منزلةَ الأنجاس والأقذار الحِسية، وذلك مؤثِّرٌ في شدة التنفير عن مثل ذلك. وقد ورد نضحُ بيتٍ عُبدتْ فيه الأوثانُ بالماء، ولعلَّه - والله أعلم - لهذا المعنى؛ تنزيلاً للآَثار المعنوية منزلةَ الأنجاس الحسية في البعد عنها، ومحو آثارها. وإن حملناه على المجاز على طريقة نسبة الأمور المكروهة إلى الشيطان، رجع إلى النوع الأول، وهو التطهيرُ من المستقذرات. الثامنة: قص الأظفار فيه من المصالح الدنيوية: تحسين الهيئة، ومن المصالح الدينية: الاحتياط للطهارة؛ أعني: طهارة الحدثِ والخَبَثِ، مما لعله يحتبسُ تحتها من الأنجاس (¬1) المانعةِ وصولَ الماء إلى ما تحتها، فإن انتهى إلى حالا يُسامح به؛ كالخارج عن المعتاد، فذلك من الواجبات في الطهارة، وإن لم ينتهِ إلى ذلك فهو من باب الاحتياط المندوب إليه، وقد ورد التنبيه على هذا في حديث؛ يعني (¬2): إزالة ما لعله يمنع من الطهارة. وأمّا طهارة الخَبَث فيما لعله يعلقُ تحتها من النجاسة التي يضطر الإنسان إلى مباشرتها بيده. ومن المصالح الدينية أيضاً: إزالة ما لعله يشبه هيئة البهائم ذوات المخالب من الطير، وغيره من السباع، وهذا أيضاً معنى مُعتبرٌ في ¬

_ (¬1) "ت": "الأجسام". (¬2) "ت": "أعني".

التاسعة

الشرع؛ كالنهي أن يبسطَ ذراعيه في السجود كالكلب، وورود التنبيه أيضاً على هذا المعنى في حديث (¬1). التاسعة: غسل البراجم: هي مطاوٍ تَحبِسُ ما لعله يحصل فيها من الأجرام، أو الأدهان السَّهْكة (¬2)، فتحصل النظافةُ والاحتياطُ للعبادة؛ كقص الظفر، ولكنه بالنسبة إلى الاحتياط للعبادة أضعفُ رتبةً من الأظفار. العاشرة: الإبطُ محلُّ اجتماع الرائحة المُستكرهَة (¬3)، وفي نتف ¬

_ (¬1) روى البيهقي في "شعب الإيمان" (2766) عن قيس بن أبي حازم قال: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأوهم فيها، فقالوا: أوهمت؟ فقال: "مالي لا أوهم، ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته" قال الحافظ في "الفتح" (10/ 345): رجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجه آخر. قلت: هو ما رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (10401) من حديث قيس بن أبي حازم، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 168): رجاله ثقات إن شاء الله. والرُّفغ: بضم الراء وبفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة، يجمع على أفارغ وهي مغابن الجسد كالإبط وما بين الأنثيين والفخذين، وكل موضع يجتمع فيه الوسخ، فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير: وسخ رفغ أحدكم، والمعنى: أنكم لا تقلمون أظفاركم ثم تحكون بها أرفاغكم، فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 345). قال أبو عبيد في "غريب الحديث" (1/ 263): وإنما أَنكر من ذلك طول الأظفار وترك قصِّها. (¬2) أي: المنتنة، الكريهة الرائحة. (¬3) "ت": "الكريهة".

الحادية عشرة

الشعر منه إضعافٌ (¬1) له إذا نبت بعد ذلك، [ولذلك] (¬2) فإن الأطباء يأمرون مَنْ قَصَدَ تقوية الشعر له وتغليظه بالحلق، وفي ضعفه تقليلُ الرائحة المكروهة؛ لقلَّةِ الاحتباس في المسامِّ عند ضعف شَعْرَته، ووجودِ الاحتباس المتعفِّن عند غلظ شَعْرته، ففيه نظافةٌ، وإحسانٌ إلى المخالطين، وتركُ سبب الأذى للمقارنين. الحادية عشرة: وحلق العانة فيه التنظيفُ مما يُكرَهُ عادةً، وفيه الإحسانُ لمن يُباشَرُ بالنكاح من المرأة والرجل جميعًا، وهو آكد في المرأة، ولذلك استمرت العوائد به في الإسلام والجاهلية وسائر الأمم السليمة (¬3) الطباع، ولذلك [يقول] (¬4) بعض العرب كما حكيناه لمن عرَّضه غيره للقتل: أَجِرْ لي سَرَاويلي فإني لم أستعنْ (¬5)؛ هرباً من أن يظهر عليه بعد الموت ما يَقبحُ النظرُ إليه ويفحش، وهذا من طباع العرب الفاضلة التي تحافظ عليها بعد الموت. الثانية عشرة: في المضمضة إزالةُ الخلوف المتعلق بالأسنان واللسان، وتطهيرُ الفم للمناجاة، ورعايةُ حقِّ من يتأذَّى بالخلوف. الثالثة عشرة: إذا فسر انتقاص الماء بالاستنجاء، فالمصلحة ¬

_ (¬1) في الأصل: "ضعف"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل و "ت": "السليمى"، والصواب ما أثبت. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) أي: أستحد، كما تقدم.

الرابعة عشرة

الدينية [فيه ظاهرةٌ] (¬1)؛ لإزالة الروائح التي يتأذى بها من يلابسُ غير المزيل لها، ولا سيَّما المجامع؛ لما توجبه [من] (¬2) النفرةِ عن الفَضْلة (¬3) التي بلغت المبلغ العظيم في الاستقذار. الرابعة عشرة: إذا كان الاستنشاق والاستنثار بمعنى واحد؛ كما حكيناه عن بعضهم، فلفظ الاستنشاق دالٌّ عليهما؛ أعني: على الجذب والدفع. وإن كانا (¬4) مختلفي المعنى - على ما نختاره - فيحتمل أن يقال: إن الاستنشاقَ يلزمه الاستنثار، فاكتُفيَ بذكر الاستنشاق، الذي هو الجذبُ، عن الاستنثار، الذي هو الدفع؛ لأنَّ الماءَ لا يمكن مقامُه في الأنف. والأقرب أنَّ الأمرَ بالاستنشاق لا يَستلزمُ (¬5) الأمرَ بالاستنثار؛ لأن في لفظ الاستنثار دلالة على تعمُّلٍ وتفعُّلٍ، وليس هو مُجرَّد نزولِ الماء [فيه] (¬6)، فيؤخذ الأمر بالاستنثار من الحديث الصحيح: "منْ توضَّأَ (¬7) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "الفضيلة"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "كان"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "لا يلزم منه". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) "ت": "فليتوضأ".

الخامسة عشرة

فلْيستنثِر" (¬1)، وفي ذلك ما يدل على طلب تحصيل أمر يقتضي زوالَ ما لعلَّه علق بالأنف مما يُحتاج إلى إزالته، ولا يكفي فيه مُجرَّدُ نزولِ الماء. الخامسة عشرة: هذه التزيينات للخلقة، ونفي ما تنبو الطباعُ عن رؤيته تحسينٌ للظاهر (¬2)، ولعلك أن تفهمَ إشارةً إليه من قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] فإنه يناسب الأمرَ بما يزيد في هذا، والإبعادَ لما ينافيه ويشوهه، وكأنه يقال: قد حسَّنتُ صورَكم فلا تشوِّهوها بما يُقَبِّحُها. ويدخل هذا في جميع التحسينات التي ندب إليها الشرع، ونحن لا نخص قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] بالظاهر فقط، فإن الإحسانَ في التصوير راجعٌ إلى الصورة الظاهرة والباطنة معاً، ولعلك أيضاً أن تفهمَ مثل هذا المعنى من قوله تعالى حكاية عن إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، فإن إبقاء ما يشوِّهُ الخلقة ويقبحها تغييرٌ لها من وجهٍ؛ كونُهُ تغييراً لحُسنها، ونبَّه على هذا ذمُّ المغيِّرات لخلق الله (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (159)، كتاب: الوضوء، باب: الاستنثار في الوضوء، ومسلم (237)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) "ت": "الظاهر". (¬3) كما جاء من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات =

السادسة عشرة

السادسة عشرة: قد قدمنا بعض ما يتعلَّقُ بالخصال المذكورة في الحديث من المصالح الدنيوية والدينية (¬1)، ونتكلم الآن في أعم من هذا، وهو بعض ما يتعلق من المصالح بمطلق الزينة؛ لأنه يتناول هذه الخصال المخصوصة لتناوله الأعم منها، فنقول: حُسْن الظاهر عنوانُ حسن الباطن كثيراً، ومن هاهنا نشأ علم الفِراسة، وهو الاستدلالُ بالخِلْقة (¬2) على الأخلاق، وقد قيل: قَلَّ صورةٌ حسنة تتبعها نفس رديئة، وحُكي أن المأمون استعرض جيشاً فمرَّ به رجل قبيح الوجه، فاستنطقه فرآه ألكنَ، فأمر بإسقاطه، وقال: إنَّ الروحَ إذا كانت طاهرةً كانت صبَّاحةً، وإذا كانت باطنة كانت فضَّاحةً، وأراهُ لا ظاهرَ له، ولا باطنَ. فجميع (¬3) التحسينات الظاهرة وجمال الهيئة دالةٌ على خلق النفس، وعلى الصفة التي يشير إليها حسن الظاهر، فإذا بدا الإنسان في الهيئة الجميلة كان سبباً لقَبول (¬4) رأيه عليه (¬5)، وانبساطِ نفسه إليه، وكان ذلك وسيلةً إلى تحصيل المصالح التي يَحتاج تحصيلُها إلى ¬

_ = خلق الله. رواه البخاري (4604)، كتاب: التفسير، باب: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، ومسلم (2125)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة. (¬1) "ت": "الدينية والدنيوية". (¬2) في الأصل: "بخَلقه"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "وجميع". (¬4) لعله يقصد: الإقبال، والله أعلم. (¬5) في الأصل: "له"، والمثبت من "ت".

السابعة عشرة

التعاونِ، والتضافرِ، والأُلفةِ بين الناس، وقد رأيتَ تعظيمَ الشريعة للألفة، وتنفيرَهَا عن الفرقة؛ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وهذا من المصالح الدنيوية بالذات، وإن كان يؤول من وجهٍ (¬1) إلى المصالح الدينية. السابعة عشرة: حسنُ الهيئة يؤدي إلى قبولِ قول مَنْ حَسُنتْ هيئته، وجَمُلت حالته، وامتثالِ أمره من أرباب الأمر؛ كالسلطان، والحاكم، والمفتي، والخطيب، والواعظ، فيعود ذلك إلى مصالح دينية. وإذا بدا الإنسانُ بالهيئة القبيحة دلَّ على سقاطةِ [نفسه] (¬2)، والصفةِ التي ينشأ عنها ذلك القبح، فربما نشأت عن ذلك نُفرةٌ بالظاهر والباطن جميعاً، ففاتت مصالح القبول، وحصلت مفاسد النفرة، وكان مالك - رحمه الله - مُعتنيا بحسن (¬3) الهيئة، ولا سيَّما عند رواية الحديث، وقد أنتج ذلك حسنَ القبول وقوةَ الرغبة. الثامنة عشرة: اعتنى بعضُ المتأخرين من أكابر صوفية المغرب بالجمعِ بين معنى الحديث ومعنى الكتاب، وانتزاعِ معاني الحديث من القرآن الحكيم، مثل ما قال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "منَ الكبائرِ شتمُ الرجلِ والديه" قالوا: يا رسولَ الله! [هل] (¬4) يشتمُ الرجلُ والديه؟ قال: "نعم، ¬

_ (¬1) "ت": "من وجه يؤول". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "لحسن"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت".

يسبُّ أبا الرجلِ فيسبُّ أباه، ويَسُبُّ أمَّه فيسُبُّ أمَّه" (¬1)، فقال في معنى قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 158]. ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتلَ نفسَهُ بشيءٍ عُذِّبَ به يومَ القيامة" (¬2)، وفي هذا المعنى: "من قتلَ نفسَهُ بحديدةٍ، فحديدتُهُ في يده يتوجَّأُ بها في بطنِهِ في نارِ جهنمَ خالداً مُخلَّداً فيها أبداً" (¬3)، وكذلك: "من شربَ سُماً، ومن تردَّى من جبلٍ" (¬4)، فقال: في قوله - عز وجل -: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 95]، وقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص: 84]. ومثل ما قال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأعطي الرجلَ، وغيرُه أحبُّ إليَّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5628)، كتاب: الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه، ومسلم (90)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (5700)، كتاب: الأدب، باب: ما ينهى من السباب، واللعن، ومسلم (115)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (5442)، كتاب: الطب، باب: شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث، ومسلم (109)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، واللفظ له، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) هو قطعة من الحديث السابق، واللفظ لمسلم، وتمامه: "ومن شرب سماً فقتل نفسه، فهو يتحسَّاه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً".

التاسعة عشرة

منْهُ" (¬1)، فقال: في قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33]؛ إلى آخر المعنى. ومثل ما قال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنُ يأكلُ في معيٍّ واحد، والكافرُ يأكلُ في سبعةِ أمعاء" (¬2)، فقال في ظاهر قوله الحقِّ جل جلاله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد: 12]، وفي مفهوم قوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر: 3]. وذكر (¬3) كلاماً آخر، ولما ذكرَ خصالَ الفطرة وعدَّدها جعله في قوله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]. التاسعة عشرة: للصوفيةِ، ومن نحا نحوَهم، وصفا صفوهم (¬4) نظرٌ في [الأحكام والأفعال بالنسبة إلى ردِّها لمعاني الصفات ¬

_ (¬1) رواه البخاري (27)، كتاب: الإيمان، باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، ومسلم (150)، كتاب: الإيمان، باب: تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه، من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (5079)، كتاب: الأطعمة، باب: المؤمن يأكل في معي واحد، ومسلم (2560)، كتاب: الأشربة، باب: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) في الأصل: "ويذكر"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "صفيهم".

والأسماء؛ كما يقال في] (¬1) مصائب الدنيا وآفاتها، وشديد الموت وآلامه، والبرزخ، وشدائد المحشر (¬2)، وعذاب جهنم؛ وفي الأحكام القتل، والقطع، والضرب، والحبس، والتكاليف الشَّاقَّة، والمنع من ملاذ النفوس: كلُّها راجعٌ إلى صفةِ الجلال والأسماءِ الدّالةِ عليها؛ كالقهار، والغني، والعظيم، والجليل، والمنتقم، والملك، والقوي المتين، والقادر، ومالك الملك، [و] (¬3) ذي الجلال والإكرام. وكما يقال في اللذات الدنيوية؛ البدنية، والعقلية، المبهجة (¬4) للأنفس، والثناء الجميل للمؤمنين، والبشارة لهم، وتخفيف التكليف، ووضع الآصار، ونعيم الجنة، وما أعد الله فيها لأوليائه، وجودة الفراغ والفهم (¬5)؛ وفي الأحكام الشرعية الزكاة، والمواساة للمضطرين، والحث على الصدقات، والعتق، والوفاء بالنذور المصروفة إلى المساكين: كلُّ ذلك يرجع إلى صفة الجود (¬6) والأسماءِ الدالة على ذلك؛ كالجواد، وواسع العطاء، والكريم، والوهاب، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "الحشر". (¬3) الزيادة من "ت". (¬4) "ت": "المهيجة". (¬5) "ت": "الفهوم". (¬6) في الأصل: "الوجود"، والتصويب من "ت".

والرزاق، والفتاح، والباسط، والرافع، والمُعزِّ، واللطيف، والحليم، والبَرِّ. وبهذا الاعتبار يُنظر في هذه الخصال العشر، وإلى ما (¬1) يرجع [إلى] (¬2) شرعيتها وندبيتها من الصفات والأسماء الدالة عليها، فنقول: يرجعُ ذلك إلى صفة الجمال والأسماءِ الدالة على ذلك؛ كالقدوس، والسلام، والمتعال (¬3)، وأخصُّ من ذلك الجميل، وقد ورد به الحديث الصحيح: "إنَّ اللهَ جميل يحبُّ الجمالَ" (¬4). والأغسال المسنونة، واجتناب أواني المشركين، ومن تَكْثُر مُلابَستُهُ للنجاسة، ومن هذا القَبيل في الأحكام: طهارتا (¬5) الحدث والخبث، والتطيّبُ حيثُ يُندبُ إلى ذلك، وتحريم (¬6) وطءِ الحائض، وتناولِ النجاسات والخبائث، والوطءِ في الدبر. وقد يكون في الشيء الواحد جهتان تمكِّنُ ردَّه (¬7) إلى صفتين ¬

_ (¬1) في الأصل: "ماذا"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "المتعال". (¬4) رواه مسلم (91)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬5) في الأصل: "طهارة"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "تحرم"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "ردهم".

العشرون

مختلفتين؛ كالحدود والكفارات؛ يمكن ردُّها إلى اسم المنتقم بحسب ظاهرها، ويمكن ردها إلى العدل؛ لأنها مقابلة الجنايات، ويمكن ردّها إلى معنى التطهير واسم الجمال؛ لأنها كفارات لأهلها، ويمكن ردها إلى معنى الرحمة واسم الرحمن الرحيم؛ لأنها إزالة لما (¬1) يوجب العقوبة. العشرون: قد رددنا هذه الأحكام إلى صفة الجمال التي هي في حق الله تعالى بمعنى: نفي النقائص، وقد اختلفوا في تفسير الجميل في حق الله تعالى سوى ما قدّمناه (¬2). ¬

_ (¬1) "ت": "إلى ما"، وفي الأصل: "إلى"، والتصويب من هامش الأصل. (¬2) قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: وجماله سبحانه على أربع مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء؛ فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة. وأما جمال الذات وما هو عليه: فأمر لا يدركه سواه، ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرَّف بها إلى من أكرمه من عباده، فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار، محجوب بستر الرداء والإزار، كما قال رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري"، ولما كانت الكبرياء أعظم وأوسع كانت أحق باسم الرداء، فإنه سبحانه الكبير المتعال، فهو سبحانه العلي العظيم، قال ابن عباس: حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال، وستر بنعوت العظمة والجلال؟! =

الحادية والعشرون

الحادية والعشرون: نُقل عن بعضهم أنه قال: أرجى آيةٍ في كتاب الله آية الدين، وأخذَ ذلك من حيث عناية الله تعالى بإرشاد العباد إلى مصالحهم حتى انتهت إلى كتابة الدين الصغير والكبير، وبمقتضى ذلك يُرجى العفوُ عنهم؛ لظهور أمر العناية العظيمة حتى بالمصلحة الدنيوية الحقيرة. ¬

_ = ومن هذا المعنى يفهم بعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات، فإذا شاهد شيئاً من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات، ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات، ومن هاهنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله، وأن أحداً من خلقه لا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. ثم ذكر ابن القيم كلامًا، ثم قال: والمقصود: أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين؛ فأوله معرفة وآخره سلوك، فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والخلاق، فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظفار، فيعرفه بصفات الجمال، ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة، فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه، فجمع الحديث قاعدتين: المعرفة والسلوك، انتهى. انظر: "الفوائد" (ص: 182 - 186).

الثانية والعشرون

وبهذا الاعتبار يمكن أن يقالَ في إرشاده تعالى إلى هذه الخصال التي هي في مرتبة التحسين والتزيين للهيئة الظاهرة، وبروزها فيما تَقبله النفوس، وتُقبل عليه القلوب، مثلُ هذا. الثانية والعشرون: في هذا الحديث من أنواع البديع نوعُ المُطابقة وهو اشتمال الكلام على الضِّدين على الاصطلاح المشهور، وذلك [في] (¬1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قصُّ الشارب وإعفاءُ اللحية"، فإن الإعفاءَ ضدُّ القص. وأما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في هذا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أحفُوا الشواربَ، وأعفُوا اللِّحى" (¬2)؛ وسيأتي ذكره عند الكلام على التعارض بين القص والإعفاء، وكذلك روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه أمرَ بإحفاءِ الشواربِ، وإعفاءِ اللحى (¬3)؛ وكذلك الرواية الأخرى في حديثه: "خالفُوا المشركينَ؛ أحفُوا الشواربَ، وأوفُوا اللِّحى" (¬4)؛ فإن في ذلك كلِّه مع المطابقة نوعاً من أنواع المُجانسة، فإنها بالنسبة إلى اتفاق الوزن والتركيب واختلافهما أربعةُ أنواع: اتفاق الوزن واتفاق التركيب؛ كالإنسان يراد به إنسان العين، والإنسان يراد به الآدمي. واتفاق الوزن واختلاف التركيب بحرف واحد، وهو ما نحن فيه من: "أحفوا" و "أعفوا"، وكذلك الخيل والخير في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه مسلم (259/ 53)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬4) تقدم تخريجه.

"الخيلُ معقودٌ في نواصِيها الخيرُ" (¬1). واختلاف الوزن واتفاق التركيب؛ كالخَلْق والخُلُق. واختلاف الوزن واختلاف التركيب بحرف واحد؛ كيَحسبون ويُحسنون. وإنما قلنا: بالنسبة إلى اتفاق الوزن والتركيب؛ لأن لهم نوعين في التجنيس وسمّى بعضهم (¬2) أحدَهما (¬3): العكسَ؛ إما في الكلمات؛ كعادات السادات، وسادات العادات، أو في حروف الكلمة؛ كالبدر والبرد (¬4)، و "اللهمَّ استرْ عَوراتِنا، وآمنْ رَوعَاتِنا" (¬5). وسمى بعضهم الآخرَ (¬6): المجتث (¬7)؛ كالأحجار وجار. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2695)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، ومسلم (1873)، كتاب: الإمارة، باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، من حديث عروة البارقي - رضي الله عنه -. (¬2) "ت": "وبعضهم سمى". (¬3) في الأصل: "أحدهم"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "كالبرد والبرد". (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 3)، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 136): رواه أحمد والبزار، وإسناد البزار متصل، ورجاله ثقات، وكذلك رجال أحمد، إلا أن في نسختي من "المسند" عن ربيح بن أبي سعيد، عن أبيه، وهو في البزار عن أبيه، عن جده. (¬6) "ت": "للآخر". (¬7) في الأصل: "الخس"، والمثبت من "ت".

الوجه السابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

* الوجه السابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: قد تقدم أنَّ (من) للتبعيض وأنه لا يقتضي الحصر، والكلام على رواية: "الفطرة خمس". الثانية: ذكر غير واحد أن الفطرةَ: السنةُ، وعن الخطابي أنه قال: ذهب [أكثرُ] (¬1) العلماء إلى أنها السنة (¬2)، وقال الروياني الشافعي (¬3) في "البحر": وقوله: من الفطرة؛ أي: من السنة؛ يعني: من سنن الأنبياء الذين أُمرنا بأن نقتديَ بهم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وأول من أمر بها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وذلك قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] (¬4). الثالثة: إذا فسَّرنا الفطرة بالسنة، فلا ينبغي أن يُحملَ على السنة بالمعنى الذي يُقابلُ به الفرضُ والواجبُ، بل أعم من ذلك وهي طريقة ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "معالم السنن" له (4/ 211). (¬3) في الأصل: "عن الشافعي"، والمثبت من "ت". (¬4) انظر: "بحر المذهب" للروياني (1/ 82). قال الحافظ في "الفتح" (10/ 339): والمراد بالفطرة في حديث الباب: أن هذه الأشياء إذا فعلت، اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها، وحثهم على فعلها، واستحبها لهم، ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة. قال ابن القيم رحمه الله في "تحفة المودود" (ص: 160): إنما كانت هذه الخصال من الفطرة؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم، وهذه الخصال أمر بها إبراهيم، وهي من الكلمات التي ابتلاه ربُّه بهنَّ.

الرابعة

الأنبياء [مثلاً] (¬1)، أو طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام. الرابعة: مقتضى الإطلاق في قصِّ الشارب أن يحصلَ تأدِّي السنةِ بمُسمَّى القص، ولكنه يُعتبر فيه المعنى الذي شُرع لأجله وهو إمّا مخالفة شعار المجوس والأعاجم، أو زوال المفاسد التي تتعلق ببقائه التي يدلُّ الشرع على اجتنابها. الخامسة: [و] (¬2) قد تقدم في المفردات تفسير الشارب، ومن ذكر أنهما شاربان وبتحصُّلِ المسمَّى يحصل تأدِّي السنة، فإنْ صحَّ أنهما شاربان؛ فإمّا أن يتناولَهما الحكم، وإمّا أن ينزَّلَ (¬3) على المشهور المتبادر إلى الذهن، وإن كان الوضع اللغوي على خلافه. السادسة: قد ذكرنا أن مسمَّى القص يحصل به تأدي السنة، وأن المعنى يقتضي زيادةً على ذلك، وورد في الصحيح: "أحفُوا الشواربَ" (¬4) بهمزه، و "أمرَ بإحفاءِ الشواربِ" (¬5)، وظاهره يقتضي زيادةً على ما ذكرناه من مخالفة شعار المجوس وما تزول به المفاسد في طوله، فإن الإحفاءَ مشعرٌ (¬6) بالاستئصال، وعن الهروي في تفسيرها جُزُّوها. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) أي: الحكم، وفي "ت": "يدل". (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) "ت": "يشعر".

السابعة

قال الخطابيُّ: ويكون (¬1) بمعنى الاستقصاء (¬2). [يقال: أحفَى شاربه ورأسه، قال ابن دُريد] (¬3): يقال: أحفى شاربه يحفوه حفواً: إذا استأصلَ أخْذَ شعرِه، قال: ومنه قوله: "أحفُوا الشواربَ" (¬4). [وقريبٌ من هذا في الدلالة على الزيادة على القص: "انهكوا الشواربَ" (¬5)] (¬6) وهو في الصحيح، وقد قيل به. قال القاضي: وأمّا الشارب فذهب كثيرٌ من السلف إلى استئصاله وحلقه بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - "أحفُوا الشواربَ" و"أنهكوا"؛ وهو قول الكوفيين (¬7). السابعة: لم يقلْ مالك - رحمه الله - بالاستئصال، وأغلظَ القول فيه، ففي (¬8) كتاب "العتبية" (¬9): وسئل مالك عمن أحفى شاربه، قال (¬10): يُوجَعُ ضرباً، وليس حديث النبي بالإحفاء (¬11). ¬

_ (¬1) أي: الإحفاء. (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 211). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 556). وانظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 62). (¬5) رواه البخاري (5554)، كتاب: اللباس، باب: إعفاء اللحى، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬6) سقط من "ت". (¬7) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 64). (¬8) "ت": "وفي". (¬9) في الأصل: "العتبي"، والمثبت من "ت". (¬10) "ت": "فقال". (¬11) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 64)، و"مواهب الجليل" للحطاب (1/ 216).

وذَكَرَ من رواية زيد بن أسلم أثراً عن عمرَ - رضي الله عنه - فيه: وهو يفتل شاربه (¬1)، [قال] (¬2): فلو (¬3) كان مملوصاً ما وجد ما يفتل، هذه بدعٌ ظهرت (¬4) في الناس. قلت: وقد نُقل عن بعض العلماء التخيير بين الأمرين، وقولُ مالك - رحمه الله -: وليس حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحفاء (¬5) [يحتملُ وجهين: أحدهما: أن يكون لم يبلغْهُ الحديث فيه. والثاني: أن يكون المرادُ: ليس معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإحفاء] (¬6) الاستئصالُ، [وهذا] (¬7) مُقتضى (¬8) ما نقله أبو محمد بن أبي ¬

_ (¬1) ورواه عن الإمام مالك: أبو عبيد في "الأموال" (ص: 377)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1/ 100)، والطبراني في "المعجم الكبير" (54). قال ابن عبد البر في "التمهيد" (21/ 66): وما احتج به مالك أن عمر كان يفتل شاربه إذا غضب أو اهتم، فجائز أن يكون كان يتركه حتى يمكن فتله ثم يحلقه، كما ترى كثيراً من الناس يفعله. (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "ولو". (¬4) في الأصل: "فقد ظهرت"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "في الإحفاء"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) في الأصل: "يقتضي"، والمثبت من "ت".

زيد المالكي [قال] (¬1): وسئل مالك عمن أحفى شاربه [فقال] (¬2): يوجع ضرباً، وهذه بدعة، وإنما الإحفاءُ المذكور في الحديث قصُّ الإطار وهو طرف الشعر (¬3)، وكان عمر - رضي الله عنه - يفتلُ شاربَه إذا أكربه أمر، فلو كان مملوصاً ما وجد ما يفتلُ منه. وذكر بعضُ المتأخرين من أتباع الشافعي - رحمه الله -: أن المختارَ أن يُقصَّ حتى يبدوَ طرف (¬4) الشفة، ولا يُحفيه من أصله، وأمَّا روايات: "أحفوا الشوارب"، فمعناها: أحفُوا ما طال على الشفتين والله أعلم (¬5). وهذا موافقٌ لما اختاره مالكٌ وأصحابه (¬6)، ولا أعلم (¬7) هل قاله نقلاً [عن الرافعيّ - رحمه الله - و] (¬8) الشافعيِّ وأصحابِه، أو اختياراً منه (¬9). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) وانظر: "الرسالة" لابن أبي زيد (ص: 156). (¬4) "ت": "أطراف". (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬6) في الأصل: "أو اختياراً"، وسيأتي موضعها المناسب. (¬7) في الأصل: "ولا يعلم"، والمثبت من "ت". (¬8) سقط من "ت". (¬9) قال النووي في "المجموع" (1/ 354): هذا مذهبنا، ثم قال: وهذه الروايات محمولة عندنا على الحف من طرف الشفة لا من أصل الشعر، انتهى. قلت: هذا يدل على أن ما ذكره النووي رحمه الله ليس اختياراً منه. =

الثامنة

الثامنة: هل لا تتأدى السنةُ إلا بالقصِّ، أو تتأدى بما يقوم مقامه في الإزالة؛ كما يفعل بعضُهم من قرض ما طالَ من شاربه بأسنانه، وكان مقصوده نعومته، فإن الحديد يخشّنه؟ يحتمل أن يقال بالأول؛ نظرًا إلى [اللفظ، ويحتمل أن يقال بالثاني؛ نظرًا إلى] (¬1) المعنى، وعلى كلِّ حالٍ فاتِّباعُ لفظ الحديث أولى. التاسعة: الإطلاقُ يقتضي تأدي السنة بالمسمَّى، وذكر بعضُ المتأخرين أنه يبدأ بالجانب الأيمن (¬2)، وكأنه مأخوذ من الحديث الذي يأتي: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يحبُّ التيمُّنَ في طَهوره إذا تطهَّرَ، وفي ترجُّلِهِ إذا ترجَّلَ، وفي انتعالِهِ إذا انتعَلَ (¬3). وليس بهذا بأس؛ لأنه لا تنافيَ في تأدي سنة القص بالمسمَّى أن تكون ها هنا سنةٌ أخرى يُطلب أداؤها وهي التَّيامُنُ. العاشرة: قصُّ الشارب أعمُّ من قص نفسه (¬4) له، أو قص غيره ¬

_ = ثم رأيت قول الحافظ في "الفتح" (10/ 347) قلت: صرح في "شرح المهذب" بأن هذا مذهبنا، وقال الطحاوي: لم أر عن الشافعي في ذلك شيئًا منصوصًا، وأصحابه الذين رأيناهم كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلا منه. (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬3) رواه مسلم (268)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الطهور وغيره، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) "ت": "صاحبه" بدل "نفسه".

الحادية عشرة

له، فينبغي أن يتأدَّى المقصودُ بأيّهما كان. وفي كلام بعضهم التخييرُ، فإنه قال: فهو [مخيَّرٌ] (¬1) بين القص بنفسه وبين أن يوليَ ذلك غيرَهُ؛ لحصول المقصود من غير هَتْك مُروءة ولا حُرمة، بخلافِ الإبطِ والعانة (¬2). والأقرب عندي: أن لا يكونَ هذا التخيير بمعنى التسوية بين الأمرين، وأن يترجَّحَ (¬3) قصُّه بنفسه على قصِّه من الأجانب الذين ليس بين الإنسان وبينهم حُرمة تقتضي العادةُ المسامحةَ [بذلك] (¬4) منهم، ولكنه ترجيحٌ غير قوي. الحادية عشرة: ها هنا تقييدٌ لما يقتضيه الإطلاقُ من استحباب قصِّ الشارب من غير قيد، وهو ما دلَّ عليه الحديث الصحيح عن أمِّ سلمة - رضي الله عنها -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذَا رأيْتُم هلالَ ذي الحجةِ وأرادَ أحدُكمْ أن يضحِّيَ، فليُمْسِكْ عنْ شعرِ، وأظفاره" (¬5). وفي كتاب "العتبية" (¬6) عن مالك: لا بأسَ بذلك. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬3) في الأصل: "ترجح"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) رواه مسلم (1977)، كتاب: الأضاحي، باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئًا. (¬6) في الأصل: "العتبي"، والمثبت من "ت".

ونقل ابن أبي زيد (¬1)، عن ابن المسيِّب أنه [قال] (¬2): لا بأس بالإطلاق في العشر (¬3). قال قاضي الجماعة أبو الوليد بن رُشد - بعد ذكر ما ذكره من الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها -: وإنما لم يرَ مالكٌ بهذا بأسًا؛ لأنه عارضه عنده (¬4) حديثُ عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت رداً لقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: منْ أهدَى هديا حرمَ عليه ما يَحرمُ على الحاجِّ حتى ينحرَ الهدي: ليس كما قال ابنُ عباس، أنا فتلتُ قلائدَ هديِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم قلدها بيده (¬5)، وبعث بها فلم يحرمْ عليه شيء مما أحلَّه الله (¬6)، حتى ينحر الهدي (¬7). فأحرى أن لا يحرمَ على الذي يريد أن يضحي أو عنده ذبح يريد أن يضحي به شيءٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "نقل عن ابن أبي زيد" والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (14784). (¬4) في الأصل: "عند"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "بيدي"، والمثبت من "ت". (¬6) في "ت" زيادة: "لأنه إذا لم يحرم على الذي بعث بالهدي شيء مما أحله الله". (¬7) رواه البخاري (1613)، كتاب: الحج، باب: من قلد القلائد بيده، ومسلم (1321)، كتاب: الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه.

فإن (¬1) قال: معنى حديث عائشةَ أنه لم يحرمْ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ مما أحلَّ الله له من أهله حتى نحر الهدي على ما جاء في بعض الآثار عنها، ويحرمُ عليه ما سوى ذلك من حلق الشعر وقص الأظفار على ما حدَّثتْ (¬2) أم سَلمةَ. قلت: ظاهر قول مالك - رحمه الله - أنه لا يكره ذلك، والتعارض الذي أشار إليه القاضي أبو الوليد مشروطٌ بأن يُحملَ النهيُ في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - على التحريم، مع دلالة حديث عائشة - رضي الله عنها - على الإباحة. وأما إذا حُمل حديثُ أمّ سَلمةَ على الكراهة، وحديثُ عائشةَ على الجواز، فلا تعارضَ في ذلك، وفيه جمع بين الحديثين. هذا على تقدير أن يكون الحديثان يتناولان شيئًا واحداً، وفيه نظر أيضًا؛ لأن حديث أم سلمة - رضي الله عنها - لم يتناول المباشرة للأهل، وإنما تناول الشعر والظفر، فإذا حُمل حديث عائشة - رضي الله عنها - على مباشرة الأهل؛ كما جاء في رواية: "لم يحرمْ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شيء مما أحلَّ اللهُ له من أهلِهِ حتى نحرَ الهديَ" واستدللنا بهذا القيد (¬3) على مرادها من ذلك [الإطلاق] (¬4) لم يجمعا في ¬

_ (¬1) في الأصل: "بأن"، والمثبت من "ت". (¬2) (ت): (في حديث). (¬3) (ت): "التقييد". (¬4) "ت": "ت".

الثانية عشرة

محل واحد، فلا تعارض. ويحتمل أن يكون قولُ مالك: [لا بأسَ] (¬1) بذلك، نفيُ التحريم الذي لا تناقضه الكراهةُ، ولكنه ليس الأظهر. الثانية عشرة: تخصّ منه حالة الإحرام بنص الكتاب العزيز، والله أعلم. الثالثة عشرة: اختلفوا في قص الشارب وتقليم الأظفار، في حق الميت عند غسله (¬2) (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "يريد به غسله في .... "، والمثبت من "ت". (¬3) جاء في الأصل و (ت): "بياض". قلت: والمسألة التي ذكرها المؤلف رحمه الله في قص شارب الميت وتقليم أظفاره، وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (2/ 210): أن شارب الميت إذا كان طويلاً استحب قصُّه، قال: وهذا قول الحسن، وبكر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يؤخذ من الميت شيء، فإنه قطع شيء منه، فلم يستحب كالختان، واختلف أصحاب الشافعي كالقولين. فأما الأظفار إذا طالت: ففيها روايتان: إحداهما: لا تقدم، قال أحمد: لا تقلم أظفاره ويبقى وسخها، وهو ظاهر كلام الخرقي، والثانية: يقص إذا كان فاحشًا، نصَّ عليه؛ لأنه من السنة، ولا مضرة فيه، فيشرع أخذه كالشارب، ويمكن أن تحمل الرواية الأولى على ما إذا لم تكن فاحشة، انتهى. قلت: مذهب الشافعية أن تقدم أظفار الميت، ويؤخذ من شعر شاربه وإبطه وعانته، وهو القول الجديد. انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (5/ 137).

الرابعة عشرة

الرابعة عشرة: ذكر بعض الحنفية: أنه في حق المغازي في دار الحرب: أن توفيرَ (¬1) شاربِهِ مندوبٌ إليه؛ ليكونَ أهيبَ في عين العدو، فيحصل به الإرهاب والإرعاب، قال: ولهذا لا بأسَ بلبس ثوبٍ لُحمتُهُ حريرٌ، وسَداه غير حرير في الحرب؛ للحاجة إلى تهييب (¬2) العدو إلى دفع مَعرَّةِ السيف. وقوله هذا في (¬3) الشارب ضعيف (¬4). الخامسة عشرة: لا أحفظُ عن أحد من العلماء أنه قال بوجوب قصِّ الشارب من حيثُ هو هو (¬5)، وقد ذكرنا عن صاحب "البحر" في تفسير (الفطرة؛ يعني: من السنَّة): يعني: من سنن الأنبياء الذين أُمرنا أن نقتديَ بهم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يوفر"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "تهيب"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "في هذا". (¬4) نقله عن المؤلف: الحافظ في "الفتح" (10/ 348). (¬5) قال ابن مفلح في "الفروع" (1/ 100)، ويحفُّ شاربه؛ خلافًا لمالك، أو يقص طرفه، وحفُّه أولى في المنصوص؛ وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، ولا يمنع منه مالك، وذكر ابن حزم الإجماع: أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض، ثم قال: وأطبق أصحابنا وغيرهم الاستحباب، ثم ذكر حديث زيد بن أرقم: "من لم يأخذ شاربه، فليس منا"، ثم قال: وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم. قلت: وقد نص ابن حزم في "المحلى" (2/ 218) على فرضية قص الشارب.

اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وأول من أُمر بها إبراهيم - صلوات الله عليه -، وذلك قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]. فمقتضى (¬1) هذا الكلام [أن] (¬2) نكونَ مأمورين باتّباعِ إبراهيم - عليه السلام - في هذه الأشياء، والمراد بالابتلاء بالكلمات فعلُ مدلولها، وقوله: {فَأَتَمَّهُنَّ} مفسَّرٌ بأنه أدَّاهن تامَّاتٍ غيرَ ناقصات، فإذا كان إبراهيم - عليه السلام - قد فعلهن وأتمهن، وقد أُمرنا باتباعه كان ذلك مثلَ ما استدلَّ الشافعية - أو من استدل منهم - على وجوب الختان بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] وإبراهيم - عليه السلام - قد اختتن بالقَدُّوم (¬3)، والأمر للوجوب فيجب الختان، وسيأتي الكلام على هذا [فيما] (¬4) بعد في هذا الباب [إن شاء الله تعالى] (¬5). وإذا كان هذا الاستدلال مُساويًا لذلك مع افتراقهما في الحكم؛ حيث وجب أحدهما وهو الختان؛ واستُحبَّ الآخرُ وهو قص الشارب وغيره، فأحد الأمرين لازم؛ إما بطلان هذا أو بطلان ذاك. هذا بالنظر إلى الشيء من حيث هو هو، وأما مع النظر إلى ¬

_ (¬1) في الأصل: "فبمقتضى" والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سيأتي تخريجه في الحديث الأخير من هذا الباب. (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

الموانع والشرائط الزائدة، والجدليات؛ فلا يمنع أن يفرَّقَ بينهما. ويمكن أن يقال: إن الاستدلالَ في أمر الختان أقوى من هذا؛ لأن الاستدل الذي الأمرين ينبني على مقدمتين: إحداهما: الأمر باتباع ملة (¬1) إبراهيم عليه السلام. [و] (¬2) الثانية (¬3): أنه - عليه السلام - فعل ذلك. فأما الأمر بالاتباع فبالقرآن الكريم، وأما أنه فعلَهُ فبالحديث الصحيح. وأما في هذه الخصال فإنه يُحتاج إلى مقدمتين أُخريين: إحداهما: أن المرادَ بالكلمات: هذه الخصالُ، وهو يفتقر إلى دليل نقليٍّ يقوم عليه، فإنَّ الكتاب العزيز ليس بمصرِّح بها، وإنما ذكر الابتلاء بكلمات من غير بيانٍ لهنَّ. والثانية (¬4): أن يكون المراد بـ (أتمهن): فعلهن. وقد تشغب في المقدمتين مُشغِّب، إلا أن الواحديَّ - رحمه الله - ذكر أن [أكثر] (¬5) المفسرين قالوا في تفسير الكلمات: إنها عشر خصال من السنة؛ خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ فالتي في الرأس: الفرق، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، والتي (¬6) ¬

_ (¬1) "ت": "بالاتباع لملة". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل و "ت": "الثاني"، والصواب ما أثبت. (¬4) في الأصل: "والثاني"، والتصويب من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "والذي".

في الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، وقف الإبطين (¬1). [قال الواحدي] (¬2): قال عطاء عن ابن عباس: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم: يا خليلي! أن (¬3) تطهَّرْ، فتمضمضَ، فأوحى الله إليه أنْ تطهَّرْ، فاستنشق فأوحى الله إليه أن تطهر، ففرق شعره فأوحى الله إليه أن تطهر فاستاك، فأوحى الله إليه أن تطهَّر، فاستنجى، فأوحى الله إليه أن تطهَّر، فحلق عانته، فأوحى الله إليه أن تطهَّر، فأخذ من شاربه، فأوحى الله إليه أن تطهَّر، فنتف من إبطه، فأوحى الله إليه أن تطهر، فقلَّم أظفاره، فأوحى الله إليه أن تطهَّر، فأقبل بوجهه على جسده ينظر ماذا يصنع؟ فاختتن بعد عشرين ومئة سنة (¬4)؛ أو كما قال. فكونُ أكثر المفسرين على هذا يضعف التشغيب في المقدمة ¬

_ (¬1) في الأصل: "الرفغين"، والمثبت من "ت"، وانظر: "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" للواحدي (1/ 130)، وما ذكره الواحدي في تفسير الكلمات: رواه الطبري في "تفسيره" (1/ 524) بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) سقط من "ت". (¬3) كذا في الأصل وفي "ت"، ولو كانت: أن يا خليلي تطهر، لكان أحسن، والله أعلم. (¬4) وذكره ابن عطية في "المحرر الوجيز" (1/ 206)، وأبو حيان في "البحر المحيط" (1/ 546).

السادسة عشرة

الأولى، وبعدَ غلبة الظنِّ بها يضعف التشغيبُ أكثر في أن المراد ب (أتمهن) فعلهن. وهذا (¬1) الإلزام الذي ذكرناه في حقِّ من يسلمُ أنَّ الكلماتِ الخصال، ويستدل في مسألة الختان بذلك الدليل أقوى منه في حق من لا يقول بذلك (¬2). السادسة عشرة: قد ذكرنا في معنى الإعفاء التكثير، وهو التوفير لتكثُرَ، وهو معنى (¬3) "أوفوا" في الرواية الأخرى؛ أي: اجعلوها وافية، فالأمر بالإعفاء من باب إقامة المسبب في الأمر مقامَ السبب؛ لأن ترك قصها سببٌ لكثرتها، فوُضِعَ إعفاؤها وهو المسببُ موضعَ تركِ قصها، وهو السبب. وإن صحَّ أن يكون إعفاؤها من باب: أعفيت فلانًا من كذا؛ أي: تركته من طلبه منه، أو ما يقرب منه، فيكون الإعفاءُ بمعنى: ترك قصها، فلا (¬4) يكون من باب إقامة المسبب [مقامَ السبب] (¬5). السابعة عشرة: لم نعلمْ أنَّ أحدًا ذهب إلى أن "أعفوا اللحى" إذا كان بمعنى كثِّروها وأوفوها؛ أنه يدخل تحته معالجتُها بما يُنبت الشعرَ أو يطوِّلُه؛ كما يفعله بعضُ من ينتمي إلى التصوف من المتأخرة، وإن ¬

_ (¬1) في الأصل: "وعلى هذا"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "ذلك". (¬3) في الأصل: (بمعنى)، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "ولا". (¬5) زيادة من "ت".

كان اللفظ يحتمله على هذا التقدير وكان الصارف عنها أحد وجوه: منها: قرينةُ السياق في قوله - عليه السلام -: "قص الشارب [وإعفاء اللحية"، فإنه يُفهَمُ منه مقابلة القص من الشارب] (¬1) بالإعفاء (¬2) في اللحية، ولا مدخلَ للعلاج في هذا، والسياق يُرشد إلى إيضاح المبهمات، وتعيين المحتملات. وثانيها: ما ثبت في "الصحيح" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "جزُّوا الشواربَ، وأرخُوا اللِّحى، خالفُوا المجوسَ" (¬3)، والمنقولُ عن المجوس قصُّ اللّحى. [و] (¬4) ذكر الروياني: أنه كان من زيِّ كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب، فندب - صلى الله عليه وسلم - أمتَهُ إلى مخالفتهم في الزي والهيئة؛ أو كما قال (¬5). والمخالفة (¬6) في القصِّ بترك ذلك، وليس ذلك بسبيل من المعالجة. وثالثها: العملُ المستمر من السلف الصالح والناس، ولم يُنقل أن أحدًا من الناس المتقدمين المُقتدَى بهم كان يعالج هذا الأمر. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "والإعفاء". (¬3) رواه مسلم (260)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "بحر المذهب" للروياني (1/ 82). (¬6) "ت": "فالمخالفة".

الثامنة عشرة

وأمَّا إذا صحَّ حملُ إعفائها على معنى قَصّها؛ كما قال الشاعر [من السريع]: وكَلَّ مِقْرَاضِي فأعفيتُه (¬1) فهذا ظاهر في البعد عن معنى المعالجة. الثامنة عشرة: الأمرُ بإعفائها؛ بمعنى تكثيرها أو تركها، يمنعُ من نتفها وحلقها؛ كما يفعله من يريد بقاءَ المُرُودة، وتحسينَ الصورة بعدم اللحية. وقد استثنى بعضهم إذا نبتت (¬2) للمرأة لحية، وقال: إنه يستحب لها حلقها (¬3)، والله أعلم. التاسعة عشرة: ذكر القاضي عِياض: أنَّ الأخذَ من طولها وعرضها حسن، قال القاضي عياض: ومنهم من كَرِهَ الأخذَ منها إلا في حج أو عمرة (¬4). وذكر غيره من المتأخرين عنه: أنَّ المختارَ تركُ اللحية على ¬

_ (¬1) في الأصل: "فأوفيته"، والمثبت من "ت". وهذا عجز بيت منسوب لأبي دلف، كما ذكر الراغب في "محاضرات الأدباء" (2/ 343)، والقزويني في "التدوين في أخبار قزوين" (4/ 46)، وصدره: اشتعلَ الشيبُ فأخفيتُه (¬2) "ت": "نبت". (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149 - 150). (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 64).

العشرون

حالها، وأن لا يتعرضَ لها بنقص شيء أصلًا (¬1). وهذا يتعلق بالألفاظ التي (¬2) رويت في هذا المعنى، واختلف فيها الرواة على خمسة [أوجه] (¬3): "أعفوا"، و"أوفوا"، و"أرخوا"، و"أرجوا"، و"وفّرُوا"؛ فأما (أعفوا) إذا كان من (كثروا) فيقتضي تركَ الأخذ منها، وكذا إن كان من (اتركوا)، وكذا (¬4) (أوفوا)؛ أي: اتركوها وافية، وأما (أرخوا) فيتناول ترك الأخذ من طولها، ولا تعرض له لعرضها، و (أرجوا) - بالجيم - يقتضي التركَ من كلها؛ لأنه من الإرجاء الذي هو التأخير، وكذلك (وفروا). العشرون: ذكر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد المالكي [قال] (¬5): وسئل - يعني: مالكاً - عن طول اللحية إذا طالت (¬6) جداً، فكرهه، قيل: أفَتَرَى أن يؤخذ منها؟ قال: نعم، انتهى. وهذا يخالف ظاهر الحديث في الأمر بإعفائها وغير ذلك مما يقتضي تركها, ولكنه تخصيص بالمعنى؛ لأن المقصود الأصلي بهذه الخصال تحسينُ الهيئة وتجميلها، ونفيُ ما تُكره رؤيتُه منها، وتَنفِر ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 151). قال النووي رحمه الله في كلام ساقه: " ... . وذهب بعض العلماء إلى التخيير بين الأمرين، هذا آخر كلام القاضي" ثم قال النووي: "والمختار ترك اللحية على حالها ... ". قلت: هذا ظاهر في عدم نسبة الإِمام النووي الكلامَ إلى القاضي عياض. (¬2) في الأصل: "الذي"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "كذلك". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "طال"، والمثبت من "ت".

الحادية والعشرون

الطباعُ منه، فلا يكون ما يقتضي ضدَّ هذا المعنى مما يُستقبحُ في العرف مشروعاً مقصودًا بالأمر الذي عليه ضدُّه، والله أعلم. الحادية والعشرون: ممن أجاز الأخذَ مِن طولها مَنْ حدَّدَ بما زاد على القبضة فيُزال، ومنهم من لم يحدِّدْ شيئًا في ذلك، إلا أنه لا يتركها لحدِّ الشهرة، ويأخذ منها، ذكر ذلك القاضي، قال: وكره مالك طولَها جداً (¬1). الثانية والعشرون: قد ذكرنا في المفردات عن ابن سيده تحديدَ اللحية وتعريفها: بأنه (¬2) الشعر الثابت على الخدين والذقن، فكلُّ ما دخل في حد اللحية فيكون أخذه مخالفًا للحديث؛ كما قيل في أخذ بعض العِذَارِ في حلق الرأس إن كان العِذارُ من اللحية، وكما قيل في نتف جانبي العنفقة. الثالثة والعشرون: قال بعض الشارحين: وقد ذكر العلماءُ في اللحيةِ عشرَ خصال مكروهة بعضُها أشدُّ قبحًا من بعض: إحداها: خضابها بالسواد إلَّا لغرض الجهاد. الثانية: خضابها بالصُّفْرة تشبيهًا بالصالحين لا لاتِّباع السُّنَّة. الثالثة: تبييضها بالكبريت وغيره استعجالاً للشيخوخة؛ لأجل ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 64). (¬2) في الأصل: "بأن"، والمثبت من "ت".

الرياسة والتعظيم، وإيهام لقي المشايخ (¬1). الرابعة: نتفها أوَّلَ طلوعها؛ إيثارًا للمُرودةِ وحسنِ الصورة. الخامسة: نتف الشيب. السادسة: تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنيعا تستحسنُه (¬2) النساء وغيرهن. السابعة: الزيادة فيها، والنقص منها؛ بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين، أو أخذ بعض العِذَار في حلق الرأس، ونتف جانبي العنقفة، وغير ذلك. الثامنة: تسريحها تصنُّعا لأجل الناس. التاسعة: تركها شَعِثَة منتفشة (¬3) إظهاراً للزهادة وقلة المبالاة بنفسه. العاشرة: النظر إلى سوادها أو بياضها إعجابا [وغرة] (¬4) بالشباب، أو (¬5) فخراً بالمشيب وتطاولا على الشباب. الحادية عشرة: عَقدُها وضَفْرُها. الثانية عشرة: حلقها إلا إذا نبتت للمرأة [لحية] (¬6)، فيُستحبُّ ¬

_ (¬1) في المطبوع من "شرح مسلم" للنووي: "وإيهام أنه من المشايخ". (¬2) في الأصل: "لتستحسنه"، والمثبت من "ت". (¬3) في المطبوع: "ملبدة" بدل "منتفشة". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "و" والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

الرابعة والعشرون

حلقها، والله أعلم (¬1). وكثيرٌ من الأمور لا تعلُّقَ لها بالشرح لهذه الأحاديث، وإنما هي إن ثبتت [ثبتت] (¬2) بدلائل خارجة، ويكون ذكرها استطراداً لا شرحًا، و [بعضُها] (¬3) يمكن أن يرجعَ إلى الحديث، وقد ذكرنا منه شيئًا (¬4)، وبعضها في رجوعه إلى الحديث تكلفٌ شديد، فإن أردته فتكلَّفْه. الرابعة والعشرون: الذين يجيزون الأخذ منها؛ إما مطلقًا أو في حال (¬5) الكلام على مذهبهم في التقييد بما عدا عشرِ ذي الحجة، وما ذكرناه مع ذلك كما قلناه في قص الشارب. الخامسة والعشرون: استنشاقُ الماء قد ورد في شرعنا استعمالُهُ في الوضوء، ء واستحبابه عند الاستيقاظ (¬6) من النوم، فيحتمل أن يكون [المرادُ] (¬7) ها هنا استعمالَهُ في الوضوء بخصوصه (¬8) إن ثبتَ أنه (¬9) كان في شريعة إبراهيم - عليه السلام -، وحُملت الفطرةُ على الخصال التي أُمر بها إبراهيمُ - صلوات الله عليه - وإن لم يثبتْ، فشرعُنا دلَّ على ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "أشياء". (¬5) "ت": "حالة". (¬6) "ت": "الاستيقاض". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) في الأصل: "بخصوص"، والمثبت من "ت". (¬9) "إن" مكررة في هذا الموضع من الأصل.

السادسة والعشرون

الاستحباب في الوضوء. ويحتمل أن يكون المرادُ استعمالَهُ حيثُ يُحتاجُ إليه باجتماع ما يكره اجتماعه في الأنف، ويكون ذكره عند الاستيقاظ من النوم من باب التنبيهِ على ما هو في معناه. ويحتمل أن يكونَ الحكمُ معلقاً بمطلق الاستنشاق، ولا شكَّ أن المطلق يحصلُ عند استحباب هذا المقيد؛ لحصول المطلق في المقيد. السادسة والعشرون: بعضُ العلماء يوجب الاستنشاق في الوضوء، وهو مذهب الإِمام أحمد - رحمه الله (¬1)، ودلالةُ الحديث قاصرةٌ عمَّا زاد على مُجرَّدِ الطلبية، فإن أُخذَ الوجوبُ، فَمِن صيغة الأمر به في الوضوء، ويلزم عليه وجوبُه عند الاستيقاظ من النوم؛ لوجود صيغة الأمر فيه، والتفرقةُ بينهما في الحكم - مع اشتراكهما في صيغة الأمر التي هي منشأُ القول بالوجوب - تَحتاجُ إلى دليل يدلُّ على إخراج صيغة الأمر في حالة الاستيقاظ من النوم عن ظاهرها، وإلا فالتحكمُ حاصل إلا أن يبديَ سببَه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الكافي" لابن قدامة (1/ 26). (¬2) قلت: ظاهر الرواية عن الإِمام أحمد: وجوب غسل اليدين إذا قام من نوم الليل قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثًا. وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 70 - 71). ثم إنَّ صيغة الأمر في قواعد مذهب الحنابلة إذا كانت مجردة (عن قرينة) حقيقة في الواجب شرعًا، أو باقتضاء وضع اللغة أو الفعل.

السابعة والعشرون

السابعة والعشرون: استنشاقُ الماء: جذبُه بالخياشم، ومن حيث اللفظ يتأدَّى المطلوب بذلك، وإن أريد تمامُه بالاستنثار فيؤخذ من دليل آخر، وهو الدليل الخاص بلفظ الاستنثار. ولا يُؤخذُ الاستنشاق من الاستنثار على مذهب من يقول: إن الاستنثار من التنزُّه، فيدخل فيه الاستنشاق؛ لأن الاستنثار على ذلك المذهب يدخل تحته الاستنشاق، ولا ينعكس. وكذلك إن أُخذَ زائدٌ على جذب الماء من الفعل الذي يزيل الوسخ المتعلق بالأنف، فذلك يكون بدليل آخر لفظي إن وجد، وإلا فبالنظر إلى المعنى المقصود من التنظيف. الثامنة والعشرون: الفقهاءُ يرَون أنَّ اسم الماء مطلقًا يُحمل على الماء المطهِّرِ الذي لم تتغيَّرْ (¬1) أوصافُه بما يزيل طهورَّيتَه، وقد ورد ها هنا تعليق الحكم باستنشاق الماء، فعلى [مقتضى] (¬2) ما ذكروه: لا تتأدَّى السنة [فيه] (¬3) إلا بالماء المطلق، فأما الاستنشاق في الوضوء فظاهر [أنه] (¬4) كذلك على ما هو المعلوم عند الفقهاء، فيؤخذ أيضًا الاستنشاق عند الاستيقاظِ من النوم، وأنه لا تتأدَّى السنة فيه إلا بالماء المطهر [من] (¬5) مجموع الحديثين: ¬

_ (¬1) في الأصل: "تتعرض"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

التاسعة والعشرون

أحدهما: هذا الحديث المقتضي لتعلق (¬1) الحكم بالماء. والثاني: الحديث الدالُّ على طلب الاستنشاق عند الاستيقاظ من النوم (¬2). هذا إن كان لفظ (استنشاق الماء) متناولاً لحالة الاستيقاظ من النوم بوجه من الوجوه، وفيه نظر، والله أعلم. التاسعة والعشرون: قد تقدم في السواك مسائلُ عديدة، والذي نقوله ها هنا ما قلناه في الاستنشاق، وهو [أنه] (¬3) يُحتملُ أن يكون المراد مطلق السواك، ويتأدَّى ذلك بالأماكن التي يستحبُّ فيها [السواك] (¬4)، لكنه لا يدلُّ بنفسه على الخصوص في تلك المواضع. ويحتمل أن يقيَّدَ بالأماكن التي يستحبُّ فيها السواكُ مثل الصلاة والوضوء، وما ذكره الفقهاء مع ذلك؛ كالقيام من النوم وقراءة القرآن وتغيُّر الفم. والأول هو الأظهر. الثلاثون: قصُّ الأظفار مذكور في الحديث، وهو دليل على تأدِّي السنة بالقص. وورد في "الصحيح" من حديث سعيد (¬5)، عن أبي هريرة: ¬

_ (¬1) في الأصل: "لتعليق"، والمثبت من "ت". (¬2) وقد تقدم تخريجه. (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) يعني: ابن المسيب.

الحادية والثلاثون

"تقليم الأظفار" (¬1)، ومن الناس من يقصد إزالة ما زاد من الأظفار بالقَلْم وجعله غيرَ القصِّ بالمقص، ويعتقده السنة فيه، وهذا الحديث يدل على تحصيل المقصود بالقص. وقد ذكر الراغب أن أصلَ القَلم: القصُّ من الشيء الصلب؛ كالظفر، وكَعب الرُّمحِ، والقصب، ويقال للمقلوم: قلم؛ كما يقال للمنقوضِ: نقضٌ (¬2)، وخُصَّ ذلك بما يكتب به، وبالقدح الذي يضرب به، وجمعه: أقلام (¬3). وليس فيما ذكره الراغب ما يقتضي [أن] (¬4) القلم غير (¬5) القص بل يقتضي عكسه فعلى من ادَّعى تغايره مع القص البيانُ بالنقل عن أهل اللغة. وكذلك قال غير الراغب: إن التقليمَ تفعيلٌ من القلم وهو القطع (¬6)، وهذا أيضا لا يخص اللفظ بهيئة غير القص، والله أعلم. الحادية والثلاثون: الجمعُ في (الأظفار) يدل على العموم في كلِّ فرد منها، ويتناول اليدين والرجلين معًا، فلو اقتصر على بعضها ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5550)، ومسلم برقم (257). (¬2) في الأصل و "ت": "كما يقال للمقضوض المقبوض: قبض"، والمثبت من المطبوع من "المفردات". (¬3) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 683). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "عند"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149).

الثانية والثلاثون

مع استوائها في الحاجة إلى القصِّ، لم يحصلِ المقصودُ على الظاهر، ولا يبعد أن يقاس على المشي في النعل (¬1) الواحدة (¬2) إن كان يشترك معه في وجهِ قُبحٍ أو حاجة. الثانية والثلاثون: ويدخل تحت العموم قصُّ أظفار اليد الزائدة وقصُّ ظفرِ الإِصبع الزائدة، ويرجع ذلك إلى مسألة أصولية في حمل الألفاظ العامة على المعتاد الوجودي، أو يعمل بالعموم. الثالثة والثلاثون: مقتضى الإطلاق أن يحصل تأدي المأمور بمطلق القصّ دونَ اعتبار هيئة مخصوصة، وقد ذُكر في هيئة قصِّها على وجه مخصوص ما لا أصلَ له في الشريعة، ولا دليلَ يدلُّ عليه، وقد نُظم في ذلك أبيات: ابدأْ بيُمناكَ وبالخِنْصرِ ... في قصِّكَ الأظفارَ واستبصرِ وثنِّ بالوُسطى وثلِّثْ كما ... قد قيل (¬3) بالإبهامِ والبِنْصرِ واختمْ بسبَّابتها هكذا ... في اليدِ والرجلِ ولا تمتَرِ وابدأْ بإبهامِكَ من بعدهِ ... بالإصبعِ الوُسطَى وبالخِنْصرِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المستوى في الفعل"، والمثبت من "ت". (¬2) روى البخاري (5518)، كتاب: اللباس، باب: لا يمشي في نعل واحدة، ومسلم (2097)، كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل في اليمنى أولًا، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمشي أحدكم في نعل واحدة، ليحفهما جميعًا، أو لينعلهما جميعًا". (¬3) في الأصل: "قبلها"، والتصويب من "ت".

وأتبعِ (¬1) الخنصرَ سبَّابةً ... بنصرُها خاتِمُها (¬2) الأيسرِ (¬3) وذُكرت هيئةٌ أخرى. وهذا كلُّه لا يجوز أن يُعتقَدَ (¬4) مُستحباً؛ لأن الاستحبابَ حكمٌ ¬

_ (¬1) "ت": "وتبع". (¬2) "ت": "خاتمه". (¬3) قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 362 - 363): لم يثبت في كيفية قص الأظفار، ولا في تعيين يوم له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، وما يعزى من النظم في ذلك لعلي - رضي الله عنه - ثم لشيخنا - يعني: ابن حجر - رحمه الله، فباطل عنهما، وقد أفردت لذلك مع بيان الآثار الواردة فيه جزءًا، انتهى. وقد ألف السيوطي رسالة سماها: "الإسفار عن قلم الأظفار"، وذكر فيها هذه الأبيات، وأنها مما اشتهر على الألسنة ذكرها، ثم ذكر السيوطي كلام المؤلف رحمه الله هنا، والأبيات كما نقلها - عن السيوطي - العجلونيّ في "كشف الخفاء" (2/ 542) جاءت هكذا: ابدأ بيمناك بالخنصر ... في قص أظفارك واستبصر وثن بالوسطى وثلث كما ... قد قيل بالإبهام والبنصر واختتم الكف بسبابة ... في اليد والرجل ولا تمتر وفي اليد اليسرى بإبهامها ... والإصبع الوسطى وبالخنصر وبعد سبابتها بنصر ... فإنها خاتمة الأيسر فذاك أمن خذ به يا فتى ... من رمد العين فلا تزدر هذا حديث قد روي مسنداً ... عن الإِمام المرتضى حيدر (¬4) "ت": "يعقد".

الرابعة والثلاثون

شرعي لا بدَّ أن يستندَ قائله إلى دليل، وليس استسهال ذلك بصواب، بل هذا التقييدُ بما لا دليلَ عليه يجب صونُ الشريعة المطهرة عن قبوله. الرابعة والثلاثون: وذَكَر آخرُ: أنَّ المستحبَ أن يبدأَ باليدين قبل الرجلين (¬1)، وهذا نريد دليلاً عليه، فإن الإطلاق لا يدل عليه. الخامسة والثلاثون: وقال هذا الآخر: فيبدأ بمُسبِّحة (¬2) يده اليمنى، ثم الوسطى، ثم البِنْصِرِ، ثم الخِنْصِرِ، ثم الإبهام، ثم يعود إلى اليسرى فيبدأ بخنصرها، [ثم ببنصرها إلى آخرها، ثم يعود إلى الرجل اليمنى فيبدأ بخنصرها] (¬3)، ويختم بخنصر اليسرى (¬4)، والله أعلم. وهذه هيئة غير الأولى، وتحكُّمٌ بعد تحكم، وإحداث طِلبة (¬5) لا يُعلم لها أصل، وهو عندي قبيح بالعلماء، وإن تَخَيَّلَ (¬6) في الابتداء بمسبحة اليمنى معنى التشريف بالبدأة؛ لأنها محل التسبيح ففي باقي الهيئة [المذكورة] (¬7) ما يُحِيلُه (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬2) في الأصل: (المسبحة)، والتصويب من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬5) في الأصل: "طلبية"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "نتخيل"، والمثبت من "ت". (¬7) سقط من "ت". (¬8) قلت: ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية في "شرح العمدة" (1/ 240): أن =

السادسة والثلاثون

وأما البُدأة بيُمنى اليدين ويُمنى الرجلين فله أصل، وهو الحديث على التيمُّن. السادسة والثلاثون (¬1): تُستثنَى حالة الإحرام عن مطلق قصِّ ¬

_ = أبا عبد الله بن بطة روى بإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قص أظفاره مخالفًا لم ير في عينيه رمدًا"، وفسر أبو عبد الله بن بطة ذلك: بأن يقص الخنصر من اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم البنصر، ثم السباحة، ويقص اليسرى: الإبهام ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السباحة ثم البنصر، وذكر أن عمر بن رجاء فسره كذلك، وجاء فيه أثر آخر ذكره القاضي أبو يعلى، عن وكيع، عن عائشة، فذكر حديثها، ثم قال: ومبنى ذلك على الابتداء بالأيمن فالأيمن من كل يد مع المخالفة، انتهى. قلت: هذا يدل على وجود سلف للإمام النووي رحمه الله فيما ذكر، وعلى قول أنه لم يثبت نص في كيفية القص على هيئة معينة، فقد ورد عن بعض السلف القول بالكيفية، ثم ليتأمل في كلام الإِمام النووي رحمه الله، وإطلاقه الاستحباب، وهل يَقْصِد به الاستحباب عند علماء المذهب، أو لا؟!، والله أعلم بالصواب. * تنبيه: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (10/ 345): لم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث، لكن جزم النووي في "شرح مسلم" بأنه يستحب البداءة ... ، فذكر كلام النووي الذي ساقه المؤلف، ثم قال: ولم يذكر للاستحباب مستنداً، انتهى. أما ما ذكره الشيخ عن ابن بطة وروايته للحديث، فقد قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 497): هو في كلام غير واحد من الأئمة؛ منهم ابن قدامة في "المغني"، والشيخ عبد القادر في "الغنية" ولم أجده، لكن كان الحافظ الشرف الدمياطي يأثر ذلك عن بعض مشايخه، ونص الإِمام أحمد على استحبابه. (¬1) هناك تقديم وتأخير؛ فهذه المسألة في "ت" هي "السابعة والثلاثون"، =

السابعة والثلاثون

الأظفار بالدليل الدال على تحريمه، والله أعلم. السابعة والثلاثون: قصُّ الأظفار من حيثُ هو هو لا نعلم نقلًا في وجوبه عن أحد، ولكنه قد يعرِضُ ما يقتضي الوجوبَ، وقد قالوا: إنها إذا طالت وخرجت عن العادة منعت صحةَ الوضوء إذا كان ما اجتمع تحتها يمنع من وصول الماء، وفي ذلك حديثٌ نشيرُ إليه، أو إلى بعضه، نبهنا عليه فيما تقدم. فإن افتُقِرَ في إزالة ما يمنع الطهارة إلى القصّ، وجبَ [لا لنفسه، بل لأنه لا يتمُّ الواجبُ إلا به، وكذلك إذا افتقرت الطهارةُ (¬1) من الجنب إلى القصِّ وجبَ] (¬2) لا لعينه، وإن لم تفتقرْ إلى القصِّ لم يجب، وكان الواجبُ إيَّاه أو ما يحصل به المقصودُ من إزالة ما يَمنع الطهارة أحدُهما لا بعينه (¬3). الثامنة والثلاثون: يُقيَّدُ بما عدا عشرِ ذي الحجة على الوجه الذي ذكرناه في قص الشارب. التاسعة والثلاثون: قص أظفار الميت مُختلَفٌ فيه. الأربعون: المغازي بالنسبة إلى قص الأظفار قد يَحتاجُ إلى طولها؛ للاستعانةِ على بعض أعمال الجهاد، وضبطِ غريمه عند عدم السلاح، فقد لا يستوي أمره في ذلك مع أمر غيره، وقد أشار إلى هذا ¬

_ = و"السابعة والثلاثون" هي "السادسة والثلاثون". (¬1) في الأصل: "إلى الطهارة" والصواب ما أثبت. (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "لعينه" والمثبت من "ت".

الحادية والأربعون

- أو ذكره - بعضُ المصنفين من الحنفية، وهو صاحب "المحيط" فيما وجدته [عنه] (¬1) فقال: ذُكرَ أنَّ عمرَ ابن الخطاب، (¬2) - رضي الله عنه - كتب: أن وفّرُوا الأظافر في أرض العدو فإنها سلاح (¬3). قال: وهذا مندوب إليه للمجاهدة (¬4) في دار الحرب وإن كان قصُّ الأظافير من الفطرة؛ لأنه إذا سقطَ السلاحُ من يده وقرب العدو منه ربما يتمكن من دفعه بأظافيره. فليُراجَعْ ويحقَّقْ. الحادية والأربعون: غسل البراجمِ، وقد بينا مدلولَ لفظها ومقتضاه تأدي السنة بمجرَّدِ الغسل، غيرَ أنه لما كانت البراجمُ تُغسَلُ في الوضوء، أشعرَ إفرادُها بالذكر بأمر زائد على مُجرَّد الغسل. الثانية والأربعون: ذكر الرويانيُّ: أن غسلَ البراجم تنظيفُ المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ (¬5). وهذا بظاهره غيرُ الغسل، وينبغي أن يُحملَ على الغسل للتنظيف، كما ذكر. وذكر القاضي عياض - رحمه الله - بعد تفسيره البراجم بمفاصل (¬6) ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2/ 366)، من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن أبي الأحوص حكيم بن جبير، به. وإسناده ضعيف. (¬4) "ت": "للمجاهد". (¬5) انظر: "بحر المذهب" للروياني (1/ 82). (¬6) "ت": "بحاصل".

الثالثة والأربعون

الأصابع: وقد تقدم أنه - عليه السلام - أمرَ بغسل ما يجتمعُ على الجلد المُتشنجّ هنالك من الأوساخ لتعفنها (¬1). وهذا الكلام يقتضي تخصيصَ الأمر بحالة اجتماع الوسخ، وقريب منه كلام الروياني، لكنَّ الإطلاقَ لا يدل عليه. الثالثة والأربعون: إذا كان المقصود هو إزالة الوسخ والتنظيف، فلو حصل بغير الغسل يمكن أن يقال: يكفي لحصول المقصود، ويمكن أن يقال: لا تتأدَّى السنة إلا بالغسل، وهو الأولى. الرابعة والأربعون: يجعل غسل (¬2) البراجمُ أصلًا لغيره، وعُدِّيَ (¬3) عن محل النص بالمعنى، فألحقَ به ما يلتحقُ من الوسخ بمعاطف البدن وقعر الصِّماخ فيزيله بالمسح؛ لأنه ربما أضرَّتْ كثرتُه بالسمع، وكذلك ما يجتمع داخل الأنف، وكذلك جميع الوسخ على أيِّ موضع كان من البدن بالغبار والعرق ونحوهما، وكثير من هذا بالقياس، والله أعلم. الخامسة والأربعون: هذا الأمرُ يدل على تعظيم أمر الطهارة والاحتياط لها؛ لأنَّ ما يجتمعُ في البراجم من الأوساخ قدرٌ يسير، وتحريكها وغسلها في الوضوء يزيلُ كثيرًا منه، فإذا أخذنا بالإطلاق، دلَّ ذلك على شدة الاعتناء بالطهارة؛ لأنه (¬4) ربَّما يتوهم أن ذلك داخل ¬

_ (¬1) في الأصل: "لتغضنها" والمثبت من "ت". وانظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 64). (¬2) في الأصل "يحصل" بدلًا يجعل غسل"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "تعدي"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "لأن"، والمثبت من "ت".

السادسة والأربعون

في باب التنطُّعِ والتقزُّزِ، وقد دل الشرعُ على إبطال (¬1) هذا الوهم، هذا إذا حُمل على الإطلاق دونَ التقييد بحالة اجتماع الوسخ، وهو ظاهر إطلاق اللفظ. السادسة والأربعون: الكلام في وجوبِ هذه الخصلة واستحبابِها كالكلام في قص الأظفار؛ لأن اليدين والرجلين (¬2) محلُّ الطهارة، فنقول في اجتماع الوسخ فيهما (¬3) ما نقول في اجتماعه تحت الأظفار: إن منعَ من إيصال المطهِّرَ وجبَ إزالتُه، وإلا كان مندوباً؛ إما قصدًا للاحتياط على الإطلاق، أو تقييدًا لحصول وسخٍ لا يمنع من الطهارة؛ إمالك ونه غيرَ حائل أو لكونه معفواً عنه لقلته، واسم الغسل حاصل معه عرفاً. السابعة والأربعون: الكلام في البدأةِ بغسل براجم اليد اليمنى للحديث الدال على استحباب التيمن، كالكلام فيما تقدم. الثامنة والأربعون: نتف الإبط مطلوب بالحديث المذكور. التاسعة والأربعون: إزالةُ شعر الإبط قد تكون بالحلق والتنوير مثلًا، فيمكن أن يقال فيه كما قلنا في غيره؛ بأنه يُكتفى به نظرًا إلى المعنى، ويمكن أن يقال: إن الأَولى أن يكونَ بالنتف، والسنةُ تتأدى به بخصوصِهِ. وهذا في هذا المحل أولى مما قدمناه في غيره؛ لأجل حصول ¬

_ (¬1) في الأصل: "إبدال"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "والرجل". (¬3) في الأصل: "فيها"، والمثبت من "ت".

الخمسون

الفرق بين اللفظين في الحديث، فخصَّ النتف بالإبط والحلق بالعانة، وفي افتراقهما مع مقاربتهما في الذكر وحصولهما (¬1) في العلم ما يدلُّ على اعتبار الخصوصية في كلِّ واحد منهما، وعلى هذا تدلُّ الحكايةُ عن الشافعي - رضي الله عنه -. الخمسون: فيما ذكر عن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت على الشافعي - رضي الله عنه - وعنده المزيِّنُ يحلق إبطه، فقال الشافعي - رحمه الله -: علمتُ أن السنةَ النتفُ، ولكن لا أقوى على الوجع (¬2). الحادية والخمسون: ما ذكرناه من أولوية النتف وترجُّحِهِ بسبب ظاهرِ اللفظ، وافتراق الحكم مع مقاربتهما (¬3) في الذكر والعلم، يتأيدُ في المعنى (¬4) أيضًا؛ لأن الإبط موضع الرائحة المتغيرة، واحتباس الأبخرة عند المسام يوجب التعفُّن، والشعر المحلوق تقوى أصولُه، ويغلظُ جِرْمُه (¬5)، فيقع (¬6) الاحتباس المعفن، ونتفه يضعف أصولَه، ويرقق جِرْمَه، فيخفُّ الاحتباس، فتحصل المصلحة من تقليل الرائحة المتعفنة، وهذا معنى ظاهر لا ينبغي أن يُهملَ ويلغى، وموردُ النص إذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولحصولهما"، والمثبت من "ت". (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي"، كما ذكر الحافظ في "الفتح" (10/ 344). (¬3) "ت": "تقاربهما". (¬4) "ت": "بالمعنى". (¬5) في الأصل: "حزمه"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "فيخف"، وجاء على الهامش: "لعله: فيكثر".

الثانية والخمسون

احتمل معنىً مناسباً يُحتمل أن يكون المقصود (¬1) في الحكم لا يُترك ويهمل (¬2). الثانية والخمسون: هذا المعنى الذي ذكرناه يخصُّ الترجيحَ بالنتف على الحلق، ولا يجري في التنوير. الثالثة والخمسون: [الحكاية] (¬3) التي ذكرناها عن الشافعي تدلُّ على أن المشقة في النتف (¬4) إذا قويت تكون سببًا مرخِّصاً في تركه، وليس مقتضى الإطلاق، لكنه يُخصُّ بدلائل نفي الضرر، والعُسر، والقاعدة الكلية. الرابعة والخمسون: فيها استنابةُ الغيرِ في إزالته، وهو أقربُ إلى الكراهة من قص الأظفار؛ لقرب ستره عن الأعين من (¬5) حفظ المروءة، والجواز جارٍ على مقتضى الإطلاق في نتف الإبط، وقد تقدم مثل هذا. الخامسة والخمسون: قيل: يُستحب أن يبدأ بالإبط الأيمن، وهذا مُقتضى الحديث الآخر في استحباب التيمن، فيستحبُّ بمقتضى ذلك الحديث، ويزاد على الإطلاق الذي يقتضيه هذا الحديث، وهو حصولُ المقصود بالمسمَّى من النتف. ¬

_ (¬1) "ت": "مقصودًا". (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" للمؤلف (1/ 86). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "بالنتف". (¬5) "ت": "في".

السادسة والخمسون

السادسة والخمسون: ومثل هذا ينبغي أن يقال: إنه ينتف إبطه الأيمن بيسار يده تشريفاً لليمنى، وللحديث الآخر: "كانت يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ... (¬1) "، إلا أنه أيسرُ، وغيرُهُ أعسر. وأما نتف اليسار باليمين مع تشريفها فيُخصّ من ذلك الحديث للتيسير، وعسرِ النتف للإبط الأيسر باليد اليسرى. السابعة والخمسون: الكلام في تقييده بما عدا عشرِ ذي الحجة، كالكلام فيما تقدم. الثامنة والخمسون: استحبابُ حلق العانة من الحديث، كغيره مما ذكرناه. التاسعة والخمسون: الكلام في تأدِّي السنة بغير الحلق؛ كالنتف والتنوير (¬2) كالكلام في نتف الإبط، والترجيح ها هنا باتباع اللفظِ والعادةِ القديمة، قال - عليه الصلاة والسلام -: "وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ" (¬3). وقال في رواية في هذا الحديث: "والاستحداد"، وهو (استفعال) من الحديد؛ أي: استعماله في الإزالة. ¬

_ (¬1) بياض بمقدار سطر في كل من الأصل و "ت"، وتمام الحديث: "كانت يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه، وكانت شماله لما سوى ذلك". رواه أبو داود (32)، كتاب: الطهارة، باب: كراهية مس الذكر باليمين في الاستبراء، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 287) وابن حبان في "صحيحه" (5227)، وغيرهم من حديث حفصة رضي الله عنها. (¬2) في الأصل: "التنور"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه البخاري (4791)، كتاب: النكاح، باب: تزويج الثيبات، ومسلم (715)، كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر، من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما.

قال الهروي: الاستحداد: حلق العانة بالحديد (¬1). وهذا يدلُّ على أن المعتادَ في ذلك الزمان كان الإزالةَ بالحلق في حقّ الرجال والنساء؛ أعني: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ". وكذلك قال العربي يصفُ عضوه [من الكامل]: أُدني لهُ الرَّكَبَ الحَلِيقَ كأنَّمَا ... أُدنِي إليهِ عَقَارِبًا وأفاعِيا (¬2) الرَّكَب: منبت [شعر] (¬3) العانة، مفتوح الراء والكاف معًا. والترجيحُ بما ذكرناه في نتف (¬4) الإبط من تغير الرائحة في ذلك المكان، وكون الحلق ربَّما زادها، مُنتفٍ ها هنا؛ لأن العانةَ ليست موضعَ تغير الرائحة بسبب احتباس الأبخرة، ولعله السبب في افتراق الحكم فيهما (¬5). وأشار بعضُهم إلى ترجيح الحلق في حقِّ المرأة، بأن النتفَ يرخي المحل، أو ربما يرخيه، أو كما قال (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" للهروي (1/ 36). (¬2) البيت لأبي النجم العجلي، كانسبه إليه الجاحظ في "الحيوان" (4/ 258 - 259)، وابن سلام في "طبقات فحول الشعراء" (2/ 746 - 747). (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "من نفي". (¬5) في الأصل: "فيها"، والمثبت من "ت". (¬6) قال الحافظ في "الفتح" (10/ 344): لكن قال ابن العربي: إن كانت شابة فالنتف في حقها أولى؛ لأنه يربو مكان النتف، وإن كانت كهلة، =

الستون

وقال بعضُ الشارحين من الفقهاء: وأما الاستحدادُ فهو حلق العانة، سُمِّي استحدادًا لاستعمال الحديدة (¬1)؛ وهي الموسى، وهو سنة، والمراد [به] (¬2) نظافة ذلك الموضع، والأفضل فيه الحلق، ويجوز بالقص والنتف والنورة (¬3). الستون (¬4): البداية (¬5) بالجهة اليمنى في ذلك كما قيل في حلق الرأس، [و] (¬6) كما جاء في الحديث، والإطلاق ها هنا لا يقتضيه، فيُؤخذ من الحديث الآخر ويُزاد على الإطلاق. الحادية والستون: والكلام في الوجوب والاستحباب، كالكلام فيما تقدَّم في نتفِ الإبط وغيرِه: أنَّه لا يجبُ من حيثُ هو هو، [وقد يعرِضُ ما يوجبه لا من حيث هو هو] (¬7)؛ كما لو التصق بالشعر غراءٌ أو مُصْطَكَى (¬8) أو غيرُ ذلك مما يتعذَّرُ زوالُهُ إلا بالنتف أو الحلق، ¬

_ = فالأولى في حقها الحلق؛ لأن النتف يرخي المحل، ولو قيل: الأولى في حقها التنور مطلقًا لما كان بعيداً. (¬1) "ت": "الحديد". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 148). (¬4) تكرر الرقم "التاسعة والخمسون" في الأصل، بينما في "ت" رقم هذه المسألة "ستون"، وعليه فإن ترقيم المسائل من هنا موافق للنسخة "ت". (¬5) "ت": "البداءة". (¬6) سقط من "ت". (¬7) سقط من "ت". (¬8) في الأصل: "مصتكى"، وفي "ت": "مصطكا"، والمُصْطَكَى: عِلك =

الثانية والستون

فيتعيَّنُ لا لنفسه بل لغيره. الثانية والستون: والكلام في تقييده بما عدا الشعر، كالكلام المتقدم في قص الشارب وقص الأظفار. الثالثة والستون: الكلام في البداية (¬1) بالجانب الأيمن كالكلام في قص الشارب، وقد حكينا ما قيل فيه. الرابعة والستون: أما الاستنابةُ فيه فمحرَّمٌ في حقِّ من لا يجوزُ له النظرُ إلى عورة المستحدِّ؛ كالأجنبي، وأما الزوج والزوجة فالناسُ [مختلفون] (¬2) في نظر الرجل إلى فرج امرأته؛ بالمنع والكراهة والإباحة؛ فمن أباح فلا بأس باستنابته، ومن منع أو كره فينظر في اسم الفرج، هل يدخل تحته الركَب؟ فإن دخل فحكمه المنع أو الكراهة على اختلاف المذهبين، وإن لم يدخل وأمكن أن يحصل المقصود من غير نظرٍ إلى ما هو المرادُ بالفرج (¬3)، جازَ ذلك. الخامسة والستون: قد ذكرنا أن العانة إما اسم الشعر النابت، أو المحل الذي ينبت فيه الشعر، وإذا كان كذلك لم يتناول الحكم ما عداه من حيث اللفظ، ولكن ذُكر عن بعض أكابر الشافعية (¬4): أنه ¬

_ = رومي، وهو دخيل؛ كما قال في "العين" مادة (مصطك)، وهو بفتح الميم وضمها؛ كما في "القاموس المحيط". (¬1) "ت": "البداءة". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "من الفرج"، والمثبت من "ت". (¬4) هو أبو العباس بن سريج، كما ذكره النووي في "شرح مسلم" (2/ 148).

السادسة والستون

ذكر الشعرَ الثابت حول حلقة الدبر، ولعله بطريق القياس (¬1). السادسة والستون: انتقاصُ الماء يدلُّ الحديث على طلبيته كما دل على غيره، وقد فسَّرَه وكيع بـ: الاستنجاء، فيدخلُ تحت الطلبية بالأمر أعمُّ (¬2) من الوجوب والاستحباب. والاستنجاءُ إن كان منطلقاً على استعمال الماء والحجر؛ كما قدمنا حكايته عمَّن قاله، لكنَّ ذكرَ الماء ها هنا يدلُّ على الاستنجاء بالماء. والاستنجاءُ بأحد الأمرين واجبٌ عند الشافعي؛ أعني: بالحجر أو الماء (¬3)، والمنقولُ فيه خلافُ أبي حنيفة. السابعة والستون: وإن كان كما ذكرنا مدلولاً عليه من تفسير وكيع، فقد نُصَّ عليه في الحديث الصحيح من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قالوا: إنه الأفضلُ لإزالة العين والأثر. الثامنة والستون: ذُكر عن بعض السلف - رحمهم الله - ما يقتضي تضعيفَ الاستنجاء بالماء، فروى مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد: أنه سمع سعيد بن المسيب يُسأل عن الوضوء من الغائط بالماء، فقال سعيد: إنَّما ذلك وضوء النساء (¬4). وفي كتاب "العتبية" (¬5): أن مالكاً بلغه: أن ابن شهاب قال لابن ¬

_ (¬1) نقله عن المؤلف: الحافظ في "الفتح" (10/ 344). (¬2) "ت": "الأعم". (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 503). (¬4) رواه الإِمام مالك في "الموطأ" (1/ 33). (¬5) في الأصل: "العتبي" والمثبت من "ت".

التاسعة والستون

هُرْمُزَ: نشدتك الله! أما علمت أن الناسَ كانوا يتوضؤون فيما مضى ولا يستنجون بالماء، فسكت ابنُ هُرْمُزَ ولم يُجبْهُ بشيء. والذي فهمتُهُ من كلامهم في سكوت ابن هرمز: أنه موافقٌ لابن شهاب في عمل الماضين وسكوته لترك العمل به واستعمال الماء. وكلامُ ابن شهاب ومناشدتُهُ (¬1) تُشعِرُ بتضعيف الاستنجاء بالماء، وهذا ينبغي أن يُحملَ على أنه خرج مخرجَ التبكيتِ (¬2) على المتنطعين والمتقززين، ومن لا يرى الاستنجاءَ بالحجر رغبةً ونفرةً عنه بعد ثبوت جوازه شرعًا، فإنه قد يُبالغُ في مثل هذا الغرض. [المسألة] (¬3) التاسعة والستون: هذه القرائنُ التي ذكرت في خصال الفطرة، بعضُها يُتَّفقُ على استحبابه وعدم وجوبه؛ أعني: من حيث هو هو، وبعضها يُختلف فيه، فقد يُستدَلُّ من جانب مَن لا يرى الوجوبَ في محلِّ الخلاف بقرائنها بما لا يجبُ، بدلالة القِرانِ (¬4) وهي ضعيفةٌ عند أكثر الفقهاء والأصوليين، واستشهدوا بقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] , وإيتاء الحق واجب، [والأكل غير واجب] (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: "مشاهدته"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "التنكيت"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) أي: يستدل على عدم وجوب المختلَف في وجوبه منها بالاتفاق على عدم وجوب بعضها بدلالة اقترانها في الذكر. (¬5) سقط من "ت".

وعن أبي يوسفَ القولُ بدلالة الاقتران، وعلى هذا يُستدَلُّ له في مسألة الماء المستعمل بالحديث: "ولا يَبولنَّ أحدُكم في الماءِ الدائمِ ولا يغتسلُ فيهِ منَ الجنابَةِ" (¬1)، والبول فيه يفسده، فكذلك الغسل (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "الإحكام" للآمدي (2/ 230)، و"البحر المحيط" للزركشي (8/ 109). قال الإِمام المحقق ابن القيم رحمه الله: دلالة الاقتران تظهر قوتها في موطن، وضعفها في موطن، وتساوي الأمرين في موطن، فإذا جمع المقترنين لفظٌ اشتركا في إطلاقه، وافترقا في تفصيله، قويت الدلالة؛ كقوله: "الفطرة خمس"، وفي مسلم: "عشر من الفطرة"، ثم فصلها، فإذا جعلت الفطرة بمعنى السنة، والسنة هي المقابلة للواجب، ضعف الاستدلال بالحديث على وجوب الختان، لكن تلك المقدمتان ممنوعتان، فليست الفطرة بمرادفة للسنة، ولا السنة في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - هي المقابلة للواجب، بل ذلك اصطلاح وضعي لا يحمل عليه كلام الشارع. ومن ذلك قوله: "على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة ويستاك ويمس من طيب بيته" فقد اشترك الثلاثة في إطلاق لفظ الحق عليه، إذا كان حقا مستحبا في اثنين منهما، كان في الثالث مستحبا. وأبين من هذا قوله: "وبالغ في الاستنشاق" فإن اللفظ تضمن الاستنشاق والمبالغة، فإذا كان أحدهما مستحبا، فالآخر كذلك. ولقائل أن يقول: اشتراك المستحب والمفروض في لفظ عام لا يقتضي تساويهما لا لغةً ولا عرفاً، فإنهما إذا اشتركا في شيء لم يمتنع افتراقهما في شيء، فإن المختلفات تشترك في لازم واحد، فيشتركان في أمر عام، ويفترقان بخواصهما، فالاقتران كما لا يثبت لأحدهما خاصية، لا ينفيها عنه، فتأمله. وإنما يثبت لهما الاشتراك في أمر عام فقط. =

السبعون

السبعون: ومن هذا ينشأ النظرُ فيمن استدلَّ على عدم وجوب الختان بقِرانِهِ مع ما ليس بواجب، وسيأتي بسط الكلام فيه. الحادية والسبعون: قد تبيَّنَ بهذه الرواية أنَّ مصعباً شكَّ في العاشرة، فظهر (¬1) من لفظه ظنُّهُ أنَّها المضمضة، وقيل: [إن] (¬2) في رواية عمار بن ياسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرَ "المضمضة" من غير شكِّ، وذكرَ "الخِتان" بدلَ "إعفاء اللحية" (¬3). الثانية والسبعون: استدل بعض أكابر الفقهاء القائلين بوجوب الختان بالحديث الذي فيه: "الفطرة خمس ... " وفيه: "الختان". قال: ووجهُ الاستدلال بالخبر: أنَّ الفطرةَ لما كانت الدينَ والملة كان ما قيل: إنه منها، فالظاهر أنه من أركانها لا من زوائدها إلا أن يقومَ الدليل على خلافه، والدليلُ على ذلك أنَّ كلَّ نبيٍّ بُعثَ وشُرعت له شِرعة، فإنما يُبعثُ على أن يكونَ على قومه اتباعُهُ، لا على أن يكونوا مُخيَّرين في طاعته، وأوجبَ هذا أن يكونَ الأصلُ في كلِّ ما شرع له الوجوبَ حتَّى يقومَ الدليل على غيره. ¬

_ = ثم ذكر ابن القيم رحمه الله الموضع الذي يظهر ضعف دلالة الاقتران، ومثله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم"، ثم ذكر موطن التساوي. فلينظر ذلك عنده في كتابه "بدائع الفوائد" (4/ 989 - 990) فإنه أجاد رحمه الله غاية الإجادة والإفادة. (¬1) "ت": "وظهر". (¬2) سقط من "ت". (¬3) وتقدم تخريج حديث عمار - رضي الله عنه -.

قال: وأيضًا فإنَّ اتباعَ الملة في الجملة (¬1) إذا كان واجبًا، فما ثبتَ أنَّه منها فإنما هو جزءٌ من جملةٍ قد ثبتَ لها حكمُ الوجوب، فالظاهر أن حكمَه (¬2) الوجوبُ؛ يعني: ما لم يصرفه عن سائر الأجزاء دليلٌ، وبالله التوفيق. وهذا الذي قاله ليس بقوي عندي، والله أعلم [بالصواب] (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "الحكمة" والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "حكم"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

الحديث التاسع

الحديث التاسع عن أبي عمرانَ الجَوْنيِّ قال (¬1): قال أنسٌ: وُقِّتَ لنا في قَصِّ الشَّارِبِ، وتَقليم الأظْفَارِ، ونتفِ الإبِطِ، وحَلقِ العَانةِ أنْ لا نتَرَك أكثرَ مِنْ أربعينَ ليلةً. أخرجه مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) قوله: "عن أبي عمران الجوني قال" ليس في نسخة "الإلمام" بخط الإِمام ابن عبد الهادي (ق 5/ 2)، وليس في المطبوع منه (1/ 61). (¬2) * تخريج الحديث: رواه مسلم (258)، كتاب الطهارة، باب: خصال الفطرة، وأبو داود (4200)، كتاب: الترجل، باب: في أخذ الشارب، والنسائي (14)، كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في ذلك، والترمذي (2759)، كتاب: الأدب، باب: في التوقيت في تقليم الأظفار وأخذ الشارب، وابن ماجه (295)، كتاب: الطهارة، باب: الفطرة، من طريق جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، به. وقد رواه أبو داود (4200)، كتاب: الترجل، باب: في أخذ الشارب، والترمذي (2758)، كتاب: الأدب، باب: في التوقيت في تقليم الأظفار، من طريق صدقة بن موسى، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه وقت لهم ... ، الحديث قال أبو داود: حديث جعفر ابن سليمان أصح، وقال الترمذي: حديث جعفر بن سليمان أصح من حديث صدقة بن موسى، وصدقة بن موسى ليس عندهم بالحافظ. =

الوجه الأول: في التعريف

الكلام عليه من وجوه: * الوجه الأول: في التعريف: فنقول: أبو عمران الجَونْي - بفتح الجيم وسكون الواو، بعدها نون ثم ياء النسبة -: مشهور بكنيته، والأشهرُ في اسمه: عبد الملك ابن حبيب، وقيل: اسمه عبد الرحمن، قال بعض الحفاظ: الكندي، وقيل: الأزدي البصري. رأى أبا نُجيد عمرانَ بن حُصين الخزاعي، وسمع أبا حمزة أنسَ ابن مالك الأنصاري، وأبا عبد الله جندبَ بن عبد الله بن سفيان البَجَلي العَلَقي، وغيرَهما. وروى عن جماعة من التابعين منهم: أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، وطلحةُ بن عبد الله المزني، وعقبةُ بن وَسَّاج البُرْسَاني (¬1)، وغيرُهم. ¬

_ = قال العقيلي في "الضعفاء" (2/ 208): في حديث جعفر نظر، وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (8/ 336): حديث ليس بالقوي، انفرد به جعفر ابن سليمان الضبعي، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، لا يعرف إلا من هذا الوجه، وليس جعفر بن سليمان بحجة عندهم فيما انفرد به؛ لسوء حفظه وكثرة غلطه، وإن كان رجلًا صالحًا. وتعقب: بأن أبا داود والترمذي أخرجاه من رواية صدقة بن موسى كما تقدم، وصدقة بن موسى وإن كان فيه مقال، لكن تبين أن جعفراً لم ينفرد به، وقد صحَّيح إسناده ابن منده. وقال في حديث جعفر بن سليمان: هذا إسناد صحيح، أخرجه مسلم وتركه البخاري من هذا الوجه. وانظر "الإِمام" للمؤلف (1/ 404)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 346). (¬1) "ت": "البرياسي".

روى عنه: أبو المعتمر سليمان بن طَرْخَان التيمي، وأبو بسطام شعبة بن الحجاج العَتَكي، وأبو عون عبد الله بن عون، وحماد بن سلمة بن دينار، [وأبو إسماعيل بن دينار] (¬1)، وأبو إسماعيل حماد بن زيد بن درهم، وأبو قدامة الحارث بن عبيد الإِيادي البصري. يقال: إنه توفي سنة ثمان وعشرين ومئة. قلت: اتَّفق البخاري ومسلم على إخراج حديثه في "الصحيحين". وروى أبو إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: أبو عمران الجوني ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: صالح الحديث. وقال النسائي في "التمييز": عبد الملك بن حبيب، أبو عمران الجوني: ليس به بأسٌ. وذكر الأَوْنبَي فيما وجدته عنه، عن ابن (¬2) وضَّاح: سمعت ابن مسعود يقول: أبو عمران الجوني ثقة، قال الأَوْنبَي: وهو عندي من الطبقة الثالثة من المحدثين (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "أني"، والمثبت من "ت". (¬3) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 238)، "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 410)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 346)، "الثقات" لابن حبان (5/ 117)، (التعديل والتجريح) للباجي (2/ 92)، "تهذيب الكمال" للمزي (18/ 297)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 255)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 346).

الوجه الثاني: في تصحيحه

قلت: هذه النسبة - أعني: الجوني - مشتركة بين من ينسب إلى الجَوْنِ معاويةِ بن حجر آكلِ المراد بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن عمرو مرتع (¬1) بن معاوية بن ثور كندة، وبين من ينسب إلى الجَوْنِ بن عوف بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، قال الرشاطي: قال أبو عبيد: منهم أبو عمران الجوني (¬2). * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: قد ذكرنا أن مسلمًا أخرجه، وهو مما انفرد به [عن] (¬3) البخاري (¬4). * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته: التوقيتُ: تعليقُ الحكم بالوقت، ولما تكلم (¬5) بعض فضلاء المتأخرين من المالكية على قول ابن القاسم: لم يوقِّتْ مالك في الوضوء ... إلى آخره ذكر (¬6) أنَّ التوقيتَ: ذكر الوقت؛ أي: في ¬

_ (¬1) "ت": "مربع". (¬2) ونقله عن الرشاطي: الحافظ في "فتح الباري" (7/ 475). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) جاء على هامش "ت" بياض، وترك قدر سطرين دلالة على تتمة كلام للمؤلف رحمه الله. (¬5) "ت": "ذكر". (¬6) "ت": "وذكر".

أصل الوضع (¬1) وهذا غير صحيح؛ لأنا لو ذكرنا لفظ (الوقت) أو اسماً من أسماء الزمان؛ كالليل أو النهار أو الصباح أو المساء لم يكن ذلك توقيتاً، وإن كان ذكرَ وقت، والذي ذكرناه أقرب. وقال الراغب: الوقتُ: نهاية الزمان المفروض للعمل، ولهذا لا يكاد يقال إلا مُقيَّدًا؛ نحو قولهم: وقَّتُّ كذا: جعلت له وقتًا، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] , وقوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11]. والمِيقَاتُ: الوقتُ المضروب للشيء، والوعدُ الذي جُعل له وقت، قال عز وجل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان: 40] , {إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 50] وقد يقال: الميقات؛ للمكان الذي يجعل وقتًا للشيء؛ كميقات الحج (¬2). وقال الزمخشري: شيء مَوْقُوتٌ ومُؤَقَّتٌ: محدود، وجاؤوا للميقات، وبَلَغوا الميقات، ومواقيت الحج، والهلال ميقات الشهر، والآخِرة ميقات الخلق، وهو مصير الوقت (¬3). قلت: وقد يطلق التوقيت على التحديد الواجب، ويحسن أن يُحملَ عليه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] , والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 286). (¬2) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 879). (¬3) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 684).

الوجه الرابع: في شيء من العربية، وفيه مسألتان

* الوجه الرابع: في شيء من العربية، وفيه مسألتان: الأولى: التقدير في قوله: "وُقِّتَ لنا" أن لا نتركَ [هذه] (¬1) أكثرَ من أربعين ليلة، فيكون ظرفا. الثانية: المشهور في (¬2) أقسام (من) أربعة: ابتداء الغاية، وبيان الجنس، والتبعيض، والزيادة. فينبغي أن ينظر في (من) المصاحبة لأفعل؛ من أيِّ هذه الأقسام هي؟ والأقرب أنها لابتداء الغاية؛ بمعنى: الأكثريةُ ابتُدِأت من كذا، فإذا قلنا: زيدٌ أفضلُ من عمرو فالتقدير: أنه ابتدأت أفضليتُهُ من عمرو (¬3). * * * * الوجه الخامس: في المباحث والفوائد، وفيه مسائل: الأولى: هذه الصيغة - وهي قوله: (وُقِّت) - تكلَّم الأصوليون في مثلها؛ مثلَ: أُمرنا ونُهينا وأمرَ (¬4) بكذا، وأنه هل يكون مُسنداً [إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما لو صرَّح بقوله: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أعني: في الحكم بالإسناد إليه - صلى الله عليه وسلم - أو لا يكون مسندًا] (¬5)؛ لاحتمال (¬6) غير ذلك، وأن ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "من". (¬3) "ت" زيادة: "الثالثة: ... "، ثم تُرك فراغ نحوًا من سطر ونصف، وكتب في الهامش: بياض. (¬4) "ت": "أمرنا". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "لاحتماله".

الثانية

يكونَ الآمرُ غيرَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ ورجَّحُوا الأول (¬1). [المسألة] (¬2) الثانية: هذا الحديث يقتضي أن لا يُترَكَ ما ذُكرَ فيه أكثرَ من هذه المدة، ولا يقتضي النهيَ عن تركه في أقل منها، وأما أنه هل يقتضي الأمرَ بإزالته إذا احتيجَ إليه في أقلِّ من هذا العدد؟ فدلالةُ هذا الحديث قاصرةٌ عنه. وهل يُؤخَذُ من قوله - عليه السلام -: "الفطرة ... " كذا وكذا؟ فيه (¬3) نظر، والذي يقتضي ذلك هو اتّباعُ المقصود من إزالة هذه الأشياء التي يُستقبَحُ تركها، فإن نزَّلْنا لفظ (الفطرة) [على المقيد بوصف الحاجة إلى الإزالة فيما يُستقبحُ، كان ذلك دليلاً على الطلب فيما دون هذه المدة، وإنما النظر فيما إذا أخذنا لفظ (الفطرة)] (¬4) مطلقًا ونزَّلنا اللفظ فيها على المسمَّى من غير تقييد بوصف المسألة. [المسألة] (¬5) الثالثة: ذكر أبو محمَّد بن أبي زيد قال: قال مالك: وليس لقصِّ الأظفار وأخذ الشارب وحلق العانة حدٌّ إذا انتهى إليه أعاده، ولكن إذا طال ذلك (¬6). وهذا إذا (¬7) كان فيما دون الأربعين فقد ذكرنا مأخذه والنظر فيه، وإن كان يدخل فيه ما زاد على الأربعين فظاهر الحديث يخالفه، ¬

_ (¬1) وقد تقدم عند المؤلف رحمه الله الكلام عن هذه الصيغة. (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "وفيه". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 68). (¬7) "ت": "إن".

الرابعة

ويمكن أن يقال: إنه إنما حُدِّدَ بالأربعين؛ لأن الغالب بمقتضى الطبيعة أن لا يصلَ إلى هذا الحدِّ إلا وقد طال واحتيج إلى إزالته. الرابعة: أحدُ ما عُلّقَت به أحكام في الشريعة هذا الذي نحن فيه منها، وقد جمع الحافظ أبو موسى كتابين في كل واحد منهما أربعون عُلّقت الأمور فيها على أربعين. وبعض الأكابر في الحديث والموصوفين (¬1) بالفقه ذكر أشياء من ذلك في مسألة اشتراط الأربعين في الجمعة، فكأنه (¬2) - والله أعلم - لما شعر بضعف المستند والإسناد إلى الأثر (¬3) المشهور (¬4)، أراد أن يقويَ ¬

_ (¬1) معطوف على قوله: "الأكابر". (¬2) "ت": "وكأنه". (¬3) "ت": "الأمر". (¬4) لعله يشير إلى ما رواه أبو داود (1069)، كتاب: الصلاة، باب: الجمعة في القرى، وابن ماجه (1082)، كتاب، الصلاة، باب: في فرض الجمعة، من حديث كعب بن مالك: أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون. قلت: الحديث صححه ابن خزيمة في "صحيحه" (1724)، وحسنه الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/ 56). نعم الحديث ليس دليلاً إلى ما ذهب إليه بعضهم من اشتراط هذا العدد في الجمعة، والجمعة واجبة بأربعين رجلًا، وبأكثر من أربعين، وبأقل من أربعين. وانظر "المحلى" لابن حزم (5/ 48).

ذلك بذكر أشياء عُلّقَ الحكم فيها بالأربعين، ولا يخفى ضعف هذا، وأنه تمسَّكَ في حكم خاصٍّ يحتاجُ إلى دليل خاصٍّ بأمرٍ عام، قُصَارَاهُ مناسبةُ اعتبار الأربعين في هذا الحكم؛ لاعتباره في غيره، أو قياسٌ من غير جامع قوي (¬1). * * * ¬

_ (¬1) جاء على هامش النسخة "ت": "بياض نحو خمسة عشر سطرًا من الأصل".

الحديث العاشر

الحديث العاشر عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنِ القَزَعِ. مُتَّفقٌ عليه (¬1). ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه البخاري (5576)، كتاب: اللباس، باب: القزع، والنسائي (5229)، كتاب: الزينة، باب: ذكر النهي عن أن يحلق بعض شعر الصبي ويترك بعضه، من حديث ابن جريج، عن عبيد الله بن حفص، عن عمر بن نافع، عن نافع، به. ورواه مسلم (2120/ 113)، كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة القزع، والنسائي (5231)، كتاب: الزينة، باب: ذكر النهي عن أن يحلق بعض شعر الصبي ويترك بعضه، من حديث يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن عمر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر، به. ورواه النسائي (5230)، كتاب: الزينة، باب: ذكر النهي عن أن يحلق بعض شعر الصبي ويترك بعضه، من حديث محمَّد بن بشر، عن عبيد الله، عن عمر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر، به. ورواه ابن ماجه (3637)، كتاب: اللباس، باب: النهي عن القزع، من حديث أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن عمر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر، به. =

[الوجه] الأول: في التعريف

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف: فنقول: أبو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن عمر بن الخَطَّاب بن نُفَيل بن عبد العُزَّى بن رِيَاح بن عبد الله بن قُرْط بن رَزاح بن عدي بن كعب، القرشي، العدوي، المدنِيُّ. ¬

_ = ورواه النَّسائيّ (5051)، كتاب: الزينة، باب: النهي عن القزع، من حديث سفيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، به. ورواه النَّسائيّ (5228)، كتاب: الزينة، باب: ذكر النهي عن أن يحلق بعض شعر الصبي ويترك بعضه، من حديث حماد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، به. ورواه مسلم (2120)، (3/ 1675)، من حديث عثمان بن عثمان الغطفاني، عن عمر بن نافع، عن ابن عمر، به. ورواه أبو داود (4193)، كتاب: الترجل، باب: في الذؤابة، من حديث عثمان بن عثمان، عن عمر بن نافع، عن أَبيه، عن ابن عمر، به. ورواه مسلم (2120)، (3/ 675)، وأبو داود (4194)، من حديث أَيُّوب، عن نافع، عن ابن عمر، به. ورواه مسلم (2120)، (3/ 1675)، من حديث روح، عن عمر بن نافع، به. ومن طريق حماد بن زيد، عن عبد الرَّحْمَن السَّرَّاج، عن نافع، به. ورواه البُخَارِيّ (5577)، كتاب: اللباس، باب: القزع، وابن ماجه (3638)، كتاب: اللباس، باب: النهي عن القزع، من حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، به. وسيأتي الكلام عن طرق الحديث المذكورة آنفًا في الوجه الثاني من هذا الحديث.

الصحابي ابن الصحابي، والإمام ابن الإِمام، أمّه وأمُّ أخته حفصة زينبُ بنت مَظْعون بن حبيب الجُمَحية. أسلم مع أَبيه قبلَ بلوغه ويقال: هاجر قبل أَبيه، واتفقوا أنَّه لم يشهدْ بدرًا لصغره، وأما ما في كتاب ["المهذب"] (¬1) في الفقه: أن ابنَ عمرَ عُرض على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر وهو ابن أربع عشرة (¬2)، فغلطٌ ظاهرٌ مخالف لما ثبت في "الصحيح": أن عرضه عام أُحُد، وهو ابن أربع عشرة سنة. وأما أُحُد ففي شهوده إياها خلاف، وثبت في "الصحيح" أنَّه قال: عُرضْتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عام أُحُد وأنا ابن أربع عشرة [سنة] (¬3)، فلم يُجزني، وعُرضْتُ عليه بعد ذلك يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة [سنة] (¬4) فأجأزني (¬5). وعنه أَيضًا: أولُ يوم شهدته يومُ الخندق (¬6)؛ وقد صُحِّح. وشهد الخندقَ وما بعدها من المشاهد مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وشهد غزوة مؤتة مع من كان بها أميرًا، وشهد اليرموك، وفتح مصر، وفتح إفريقية. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 228). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه البُخَارِيّ (2521)، كتاب: الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، ومسلم (1868)، كتاب: الإمارة، باب: بيان سن البلوغ. (¬6) رواه البُخَارِيّ (3881)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق.

وكان شديدَ الاتباع لآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نزول منازله، والصلاة في مكان صلى فيه، وإبراك ناقته في مَبْرَك ناقته - صلى الله عليه وسلم -، وذُكر أنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نزل تحت شجرة، وأن ابنَ عمر كان يتعاهدُها بالماء (¬1). روى عنه: أولادُهُ: سالمٌ، وحمزةُ، وعبد اللهِ، وبلالٌ، وخَلْقٌ من التابعين. وفي مناقبه - رضي الله عنه - كثرةٌ, ولمنزلته في أئمة المتقين شهرة؛ أما الفقه فعن الزُّهري أنَّه قال: لا يُعدلُ برأي ابن عمر، فإنَّه أقام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستين سنة، فلم يَخْفَ عليه شيء من أمره، ولا من أمر الصَّحَابَة (¬2). وعن مالك - رحمه الله - أنَّه قال: أقام ابن عمر ستين سنة تقدُمُ عليه الوفود (¬3). وذكر أبو عمر، عن ابن وهب، عن مالك قال: بلغ عبد الله بن عمر ستًّا وثمانين سنة، وأفتى في الإِسلام ستين سنة، ونشر نافع عنه علمًا جَمًّا (¬4). وذكر عن ميمون بن مهران أنَّه قال: ما رأيتُ أورعَ من ابن عمر، ولا أعلمَ من ابن عباس. ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (31/ 121). (¬2) ذكره النووي في "تهذيب الأسماء" (1/ 262). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 195).

وفي كتاب "رفع اليدين في الصلاة" للبخاري، عن جابر بن عبد الله: لم يكنْ أحدٌ منهم ألزمَ لطريق النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا أتبعَ من ابن عمر رضي الله عنهما (¬1). وأما العبادةُ فحسبُكَ حديثُه في رؤياه وقولُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الرجلُ عبد اللهِ، لو كانَ يُصَلِّي من الليلِ"، قال سالم: وكان عبد الله لا ينامُ من الليل إلَّا قليلًا (¬2). وكذلك ذُكر عنه: أنَّه كان كثير الحج، وعُدَّ في الصَّحَابَة الساردين للصوم؛ منهم: عمر، وابنه، وأبو طلحة، وحمزة بن عمرو، وعائشة - رضي الله عنهما -. وأما الصدقة والجود فقيل: كان كثيرَ الصدقات، فربَّما تصدَّقَ في المجلس الواحد بثلاثين ألفًا (¬3). وعن نافع: [كان ابن عمر] (¬4) إذا اشتدَّ عجبُهُ بشيء من مالِهِ تقرَّبَ [به] (¬5) إلى الله تعالى، وكان رقيقُهُ قد عرفوا ذلك منه، فربَّما ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في مطبوعة "جلاء العينين بتخريج روايات البُخَارِيّ في جزء رفع اليدين" تصنيف بديع الدين شاه السندي، والله أعلم. (¬2) رواه البُخَارِيّ (1070)، كتاب: التهجد، باب: فضل قيام الليل، ومسلم (2479)، كتاب: "فضائل الصَّحَابَة" باب: من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 295)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (31/ 141). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

لزمَ أحدُهم المسجدَ فإذا رآه ابنُ عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه، فيقول له أصحابه: إنهم يخدعونك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له. قال نافع: وقد رأيتنا ذاتَ ليلة، وراح ابن عمر على نَجيبٍ له قد أخذه بمال، فلمَّا أعجبَهُ سيرُه أناخه بمكانه، ثم نزل عنه فقال (¬1): انزعوا عنه زِمامَهُ ورحلَهُ، وأشعروه، وجلِّلوُه، وأدخلوه في البُدْن (¬2). وعنه: أنَّه كاتبَ عبدًا له على خمسة وثلاثين أَلْف درهم، ثم حطَّ عنه [منها] (¬3) خمسةَ آلاف (¬4). وكذلك ذكر عنه: أنَّه كان كثيرَ الحج. فأما (¬5) الزهادةُ والورعُ فإنَّه لم يقاتلْ في الحروب التي جرت بين المسلمين، وذكر أبو عمر (¬6): أن جابر بن عبد الله قال: ما منا أحدٌ إلَّا مالت به الدنيا ومال بها ما خلا عمرَ وابنهِ عبد الله (¬7). وعن نافع: سمعتُ ابنَ عمر - وهو ساجد في الكعبة - يقول: قد ¬

_ (¬1) "ت": "وقال". (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 166)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 294)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (31/ 133). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 263). (¬5) "ت": "وأما". (¬6) "ت": "عمرو". (¬7) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 294)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (31/ 109) إلَّا أنهما قالا: "إلَّا عبد الله بن عمر".

تعلمُ يَا رب! ما منعني (¬1) من مزاحمةِ قريشٍ [على هذه الدنيا] إلَّا خوفُك (¬2). وأما الخشوع فقال: وكان إذا قرأ هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] بكى حتَّى يغلبَهُ البكاءُ. والمنقبة العُظمى والفضيلة [الكبرى] (¬3) قولُ (¬4) النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في رواية في "الصحيح": "إنَّ أخاكِ رجل صالحٌ"؛ قاله لحفصة (¬5). وتوفي ابن عمر - رضي الله عنهما - بمكة سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابن الزُّبير بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر، وقال يحيى بن بكير: تُوفِّي ابن عمر بمكة ودفن بالمُحَصَّب، وبعض النَّاس يقول: بفَخ، وهو مفتوح الفاء وبعدها خاء معجمة موضعٌ بقرب مكة. قال بعضُ النَّاس (¬6): رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفُ حديث ولست مئة حديث وثلاثون حديثًا، اتفق البُخَارِيّ ومسلم منها على مئة وسبعين، وانفرد البُخَارِيّ بأحدُ وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. ¬

_ (¬1) "ت": "يمنعني". (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (6370)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 292)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (31/ 191). (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "قال"، والمثبت من "ت". (¬5) رواه البُخَارِيّ (6613)، كتاب: التعبير، باب: الإستبرق ودخول الجنة في المنام. (¬6) هو الإِمام النووي كما في "تهذيب الأسماء واللغات" له (1/ 262).

فأما ما اتُّفقَ عليه أو انفرد به أحد الشيخين فمحصور، وأما جملة ما رواه فلا ينبغي أن نطلقَ القولَ فيه إلَّا بالنسبة إلى كتاب معلوم أو محدث معين؛ لعدم الحصر في ذلك (¬1). قال الغلابي: قال ابن حنبل: مات سنة ثلاث وسبعين. قال الذُّهلي: قال يحيى بن بكير: وبعض النَّاس يقول: مات سنة أربع وسبعين، وهذا الذي قاله مذكور عن خليفة، ومحمَّد بن نمير، والواقدي (¬2). * * * ¬

_ (¬1) قلت: قال الذهبي في "السير" (3/ 238): لابن عمر في "مسند بقي" ألفان وست مدّة وثلاثون حديثًا بالمكرر، انتهى. قلت: لعلَّ ما ورد في "التهذيب" للنووي من قوله: "أَلْف حديث" خطأ نسخ، وإنما أراد "ألفًا حديث"، وعليه يكون الإِمام النووي قد اعتمد في ذكره هذا الرقم على "مسند بقي بن مخلد"، والله أعلم. (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 142)، "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 2)، "الثِّقات" لابن حبان (3/ 209)، "المستدرك" للحاكم (3/ 641)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 950)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (31/ 79)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 563)، "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 336)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 261)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله غالب ترجمته هنا، "تهذيب الكمال" للمزي (15/ 180)، "سير أعلام النبلاء" (3/ 203)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (1/ 37)، "الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" (4/ 181)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (5/ 287).

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجه الثاني: في تصحيحه: قد ذكرنا أنَّه متفق عليه، وقد اختلف في إسناده، فرواه حماد بن زيد وابن جريج وسفيان، عن عبيد الله - هو ابن عمر -، عن نافع. ورواه يحيى بن سعيد ومحمَّد بن بشر فزادا: عمر بن نافع بين عبيد الله ونافع (¬1). وقال النَّسائيّ بعد ذكره حديث حماد بن زيد وابن جريج وسفيان: حديث يحيى بن سعيد ومحمَّد بن بشر أولى بالصواب؛ يعني: [أولوية زيادتهما عمر بن نافع بين عبيد الله ونافع] (¬2). وكذلك رواه بزيادة عمر أبو أسامة، وهو عند ابن ماجه. ورواه عن عمر بن نافع: عثمان بن عثمان الغَطَفاني، وهو عند أبي داود وعبد الرَّحْمَن بن محمَّد بن أبي الرِّجال، وهو عند النَّسائيّ (¬3). ويقوّي قولَ النَّسائيّ في [أولوية] (¬4) زيادة عمر على إسقاطها؛ أعني: بين عبيد الله ونافع وجهان (¬5): أحدهما: أن الطريقَ المسلوك والأكثر عبيد الله عن نافع؛ لأنه ¬

_ (¬1) في الأصل: "عمر بن عبيد الله ونافع" والتصويب من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه النَّسائيّ (5050)، كتاب: الزينة، باب: النهي عن القزع. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "ويقوي قول النَّسائيّ في أولوية زيادة عمر بن نافع بين عبيد الله ونافع زيادة عمر على إسقاطها؛ أعني بين عبيد الله ونافع وجهان".

الوجه الثالث: في شيء من مفرداته

من أكابر أصحابه مقدمٌ في روايته عن نافع، والذي زاد عمر أتى بأمر على خلاف المشهور، فالسهوُ إلى الأول أقرب منه؛ لأن الثاني يدل على زيادة علمٍ وتثبيت. والثاني: ما ذكرناه من رواية غيرِ عبيد الله عن عمرَ بن نافع (¬1). * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته: [ذكر أبو محمَّد بن أبي زيد، عن مالك أنَّه قال] (¬2): يُكرهُ القَزَعُ، وهو أن يحلقَ من الرأس أماكن ويتركَ أماكن (¬3). [و] (¬4) قال الجوهري بعد ذكر قَزَعِ السحاب: وإن القَزَع (¬5) صغارُ الإبل، والقَزَعُ أَيضًا: أن يُحلقَ رأسُ الصبي ويتركَ في مواضع منه الشعر متفرقًا، وقد نُهي عنه، وقزَّع رأسه تَقْزِيعًا: إذا حلق شعره [وبقيت منه بقايا في نواحي رأسه] (¬6)، ورجل مُقزَّع: رقيقُ شعرِ الرأس (¬7). وهذا الذي ذكره الجوهري موافق لما فسَّر به مالك القزع، وهو الأقرب. وفي كلام بعضهم تفسيره بما هو أعم من ذلك، قال ¬

_ (¬1) ترك بياض في "ت"، وكتب في الهامش: "بياض نحو من سطر". (¬2) سقط من "ت". (¬3) وانظر: "الذخيرة" للقرافي (13/ 278). (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "القزاع"، والمثبت من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) انظر "الصحاح" للجوهري (3/ 1265).

الزمخشري: ونُهي عن القَزَعِ والقَنَازعِ، وهي بعض الشَّعْر يتركُ غيرَ محلوق، قال زهير (¬1) [من الطَّويل]: وأشعثَ قدْ طارت قَنَازِعُ رأسِهِ ... دعوتُ على طولِ الكَرَى ودَعَاني (¬2) لطول اعتمامه في السفر (¬3). وقال ابن سِيْدَه في "المحكم": القَزَعُ: قطعٌ من السحاب رِقاق، كأنها ظلٌّ إذا مرت من تحت السحابة الكبيرة، قال [من الوافر]: مَقانِبُ بعضُها يُبْرى لبَعْضِ ... كأنَّ زُهاءَهَا قَزَعُ (¬4) الظِّلالِ (¬5) وقيل: القَزَعُ: السحاب المتفرق، واحدتها: قَزَعَةٌ، وما في السماء قزعةٌ، وقِزاع؛ أي: لطيخة غيم. والقَزَعُ من الصوف: ما تناتفَ (¬6) في الرَّبيع فسقط، وكبش أَقْزَعُ، وناقة (¬7) قَزْعَاءُ: سقط بعض صوفها وبقي بعض ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه مع شرحه لأبي العباس ثعلب" (ص: 363). (¬2) في الأصل: "فدعاني" والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 506). (¬4) "ت": "قطع". (¬5) وكذا ذكره في "العين" (1/ 132)، وابن منظور في "لسان العرب" (8/ 271) دون نسبة. (¬6) "ت": "تناثر". (¬7) في المطبوع من "المحكم": "ونعجة" بدل "وناقة" وجاء في "اللسان": =

[صوفها] (¬1)، وقد قَزِع قزعًا. وقزعُ السهم: ما رقَّ من ريشه، والقزعُ أيضًا: أصغر ما يكون من الريش، وسهم مقزَّع: رِيْشَ بريش صغار. والقُزْعة والقُزَّعة: خُصَلٌ من الشعر تترك على رأس الصبي كالذوائب متفرقة في نواحي الرأس. والقزع: بقايا الشعر المتنتف، الواحدة: قَزَعة. ورجل مُقَزَّعٌ ومُتقزِّع: لا يُرى على رأسه إلَّا شعيرات (¬2) متفرقة تَطَايَرُ مع الريح. والقَزَعة: موضع الشعر المتقزِّع من الرأس (¬3). والمُقزَّع (¬4) من الخيل: الذي تنتفُ ناصيته حتَّى ترقَّ، وقيل: هو الرقيق الناصية خِلقةً. وقَزَعَ الشارب؛ قَصَّه. والقَزَع: أخذ بعض الشعر وترك بعضه، وفي الحديث: "نهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن القَزَعِ"؛ يعني: أخذ بعض الشعر وترك بعضه. والمُقزَّع (¬5): السريع الخفيف من كل شيء، وقزَع الفرس، ¬

_ = "وناقة"، كما ذكر المؤلف رحمه الله. (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "شعرات". (¬3) في الأصل و "ت": "الريش"، والتصويب من "المحكم". (¬4) في الأصل: "المتقزع" والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "القزع"، والمثبت من "ت".

يقزَع قزعًا: مرَّ مَرًّا شديدًا أو سهلًا، وقيل: عدا عَدْوًا شديدًا، وكذلك البعير والظبي. وقَوْزَعَ الدِّيك: فرَّ من صاحبه. وقَوْزَعُ: اسم الخزي، والعار، عن ثعلب. وقال ابن الأعرابي: قلَّدْته قلائدَ قوزع؛ يعني: الفضائح (¬1)، وأنشد [من الطَّويل]: أبَتْ أمُّ دِينارٍ فأصبحَ فرْجُها ... حَصانًا وقُلِّدْتُمْ قلائدَ قَوْزَعَا (¬2) وقال القاضي عياض: نُهي عن القزع، وهو أن يُحلقَ من رأس الصبي مواضعُ وتترك مواضع، وأصله من قزعِ السحاب، وهو قطعٌ رقاق ومتفرقة (¬3)، ومنه: وما في السماء قَزَعة (¬4)، وقوله: فجاءت به قزعة (¬5) (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: "من الفضائح" والمثبت من "ت". (¬2) البيت للكميت بن معروف الأسدي، كما في "ديوانه" (2/ 24). وانظر "المحكم" لابن سيده (1/ 157 - 158)، (مادة: قزع). (¬3) في المطبوع من "مشارق الأنوار": "وهي قطعة الرقاق المتفرقة". (¬4) رواه البُخَارِيّ (891)، كتاب: الجمعة، باب: الاستسقاء. في الخطبة يوم الجمعة، ومسلم (897)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬5) رواه البُخَارِيّ (780)، كتاب: صفة الصلاة، باب: السجود على الأنف، والسجود على الطِّين، ومسلم (1167)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، من حديث أبي سعيد الخُدرِيّ - رضي الله عنه -. (¬6) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 182).

الوجه الرابع

* الوجه الرابع: ذَكَر الزمخشريُّ القزعَ المرادَ ها هنا في المجاز وقزعَ السحاب في الأصل، فإذا جُعل مجازًا، كان [من] (¬1) مجاز التشبيه. ويمكن على طريقة [المتأخرين] (¬2) أن يُجعلَ حقيقةً (¬3) في القدر المشترك بين ما نحن فيه وبين قزع السحاب، ويقصدُ المتأخرون [بذلك] (¬4) نفيَ الاشتراك والمجاز اللذين هما على خلاف الأصل (¬5)، وهذا ليس بقوي في بعضٍ، وهو ما [إذا] (¬6) كثُرَ الاستعمالُ، فابتدارُ الذهن إلى أحد المعنيين من اللفظ، وبُعْدُ (¬7) وجود المشترك في بعض مواضع الاستعمال إلَّا بتكلُّفٍ. وفي هذا الموضع نقول: إنه قد ورد القَزَعُ منطلقًا على صغار الإبل كما قدمناه، وفي تناول القدر المشترك لهذا (¬8) تكلفٌ، فليجعلْ مشتركًا. * * * ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "تحقيقه"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصفهاني" (1/ 207). (¬6) زيادة من "ت". (¬7) في الأصل: "أو بعد" والمثبت من "ت". (¬8) "ت": "بهذا".

الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

* الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: مذهب الفقهاء والمختار عند الأصوليين (¬1): أن هذه الصيغة؛ أعني: (نهى) منزَّلةٌ مَنْزلةَ حكايته صيغة لفظ النهي من النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وربما نازع فيه قوم؛ لاحتمال اعتقاد ما ليس بنهيٍ نهيًا، وهو ضعيف؛ لأن معرفةَ الراوي باللغة طبعًا وتحرُّزَهُ عن المجازفة شرعًا وتحسين الظن به يُبعد ذلك، فإن وقع دليلٌ يدل على هذا الاحتمال ورُجّحَ على ما ذكرناه، قُدّم حيث وُجدَ ذلك بخصوصه لا مطلقًا (¬2). الثَّانية: قد ذكرنا عن مالك، وصاحب "الصحاح" ما يدلُّ على أن القَزَعَ في مواضع متفرقة، وذكرنا عن بعضهم ما هو أعم من ذلك وهو تركُ حلق بعض الشعر، فيحتمل أن يقال: إن اللفظ مشترك، وهو الذي يقتضيه كلام ابن سيده، فإنَّه ذكر الأمرين معًا؛ أعني: أن يكون القزعُ أخْذَ بعض الشعر وترْكَ بعضه، وأن يكون القزع في مواضع ¬

_ (¬1) "ت": " أهل الأصول". (¬2) قال ابن العربي في "المحصول في أصول الفقه" (ص: 117 - 118): ألفاظ الشريعة على قسمين: أحدهما: أن يتعلق بها التعبد كألفاظ التشهد، فلا بد من نقلها بلفظها. والثاني: ما وقع التعبد بمعناه، فهذا يجوز تبديل اللفظ بشرطين: أحدهما: أن يكون المبدِّل ممن يستقل بذلك، وقد قال واثلة بن الأسقع: ليس كل ما سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحدثكم فيه باللفظ، حسبكم المعنى. والدليل القاطع في ذلك: قول الصَّحَابَة - رضي الله عنهم - عن بُكرة أبيهم: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا وأمر بكذا, ولم يذكروا صيغة الأمر ولا صيغة النهي، وهذا نقل بالمعنى، انتهى.

الثالثة

متفرقة وهو معنى (¬1) قوله: والقُزْعة والقُزَّعة: خُصَلٌ من الشعر تترك على رأس الصبي كالذوائب متفرقة. ويحتمل أن يقال: إنَّ كلَّ واحد ممن نَقَلَ أحد الأمرين مُفْردًا ذكرَ ما هو مقتضى اللغة عنده [فـ] (¬2) ـكون ذلك تعارضًا في النقل عن اللغة؛ لأن أحدَ الأمرين أعمُّ من الآخر، فإن كان كذلك (¬3)، فينبغي أن يُنظر فيمن زاد على صاحبه فيؤخذ بقوله؛ لأنا إنما نحن ننقل عن المتأخرين الذين يأخذون اللغة عن تتبُّع مواضع استعمال اللفظ، فإذا زاد أحدٌ على غيره دلَّ ذلك على اطلاع منه على استعمالٍ أَزْيَدَ مما اطَّلعَ عليه الآخر، والأخذُ بالزائد متعيِّن. [المسألة] (¬4) الثالثة: إذا جعلناه اختلافًا في النقل عن اللغة، وتعيَّنَ الأخذ بالزائد، فيمكن أن يقال: الذي جعله دالًا على المعنى الأعم هو الزائد، وذلك بأن يكون الذي نقل أنَّه قال على التفرق في أماكنَ لم يطلعْ على استعماله في حلق البعض دون البعض من غير (¬5) كثرة، واطلع هذا على استعماله في مطلق حلق البعض وترك البعض، فيكون زائدًا على الآخر. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يعني"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "ذلك". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "غيره".

الرابعة

ويمكن أن يقال: إن الذي اطلع على المعنى الأعم لم يشعرْ بتخصيصه بالكثرة والتفرق، وشعر بذلك من خصَّصه بالتفرق والكثرة مما دلَّ الاستعمال عليه، فيكون زائدًا. وهذا إنما يتبيَّنُ لمن شاهدَ أحد الأمرين منفردًا عن الآخر؛ أعني: الأعم منفردًا عن الأخصِّ، ورأى الاستعمال فيه، فحينئذ يتعيَّنُ أن يكون قولُهُ هو المأخوذ به. [المسألة] (¬1) الرابعة: هذا الذي ذكرناه هو بالنسبة إلى الوضع ومعرفة مدلول اللفظ، وإنما ذكرناه ها هنا لما ينبني عليه من الحكم فنقول: إذا حلق نصف شعره مثلًا وترك النصف، فهل يكون ذلك مكروهًا ويحمل اللفظ عليه أم لا؟ وقد عُرف في علم الأصول الفرقُ بين الوضع والحمل، ونحن الآن نتكلم على (¬2) العمل فنقول: إنْ جعلناه مشتركًا بين حلق البعض وترك البعض، وبين ذلك بقيدِ (¬3) الكثرة والتفرق، بنينا ذلك على أن اللفظ المشترك يحمل على جميع مسمياته أولا. فإن (¬4) قلنا: يُحمل، تعينَ كراهة كل واحد من الأمرين؛ أعني: الحلق مع الكثرة، والتفرق والحلق من غير كثرة ولا تفرق. وإن قلنا: لا يحمل على جميع مسمياته، فإن لم يقمْ دليلٌ على ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "في". (¬3) في الأصل: "تقييد"، والمثبت من "ت". (¬4) (ت): "وإن".

[تعيين] (¬1) أحد المعنيين للإرادة، كرهنا كل واحد منهما أيضًا؛ لا لأنه مقتضى اللفظ وضعًا، بل لأن اللفظ دلَّ على كراهة أحدهما ولم يتعينْ، ولا يُخرج عن عُهْدةِ هذه الكراهة إلَّا بترك الجميع (¬2). وهكذا ينبغي أن يكون في جميع المشتركات التي لا يقوم دليل على تعيين (¬3) أحد المحامل منها للإرادة (¬4) بعد أن يكون ها هنا حكم أعمُّ من كل واحد منهما متبيِّن (¬5)؛ لأنه لا يخرج عن العهدة إلَّا بالمجموع، ولا فرقَ في ذلك بين أن يكون الحكمُ وجوبًا أو كراهةً. ولو لم يقمْ دليل على تعيين (¬6) القُرْء للطُّهر عند من يراه، ولا على تعيينه للحيض عند من يراه، لوجبَ أن تتربَّصَ المرأة بهما جميعًا؛ لأنه تبينَ تعلق الوجوب بالقرء (¬7)، وإنما المبهمُ (¬8) تعين المراد منهما، ولا يُخرج عن عُهدةِ وجوبِ التربصِ والحِل للأزواج إلَّا بذلك. ولذلك أقول: إن صحَّ أن (الشفقَ) مشترك بين العمرة والبياض، ولم يقم دليل على تعين أحدهما للإرادة، وجب أن لا تصحَّ صلاة العشاء ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "الجمع" والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "تعين" والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "الإرادة". (¬5) في الأصل: "تعين"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "تعين"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "القروء". (¬8) "ت": "أمكنكم".

الخامسة

إلَّا بعد غيبوبة آخرهما وهو البياض، ومن رجَّح العمل على أحدهما فلا بدَّ من دليل يدل على تعينه للإرادة بخصوصه (¬1). [المسألة] (¬2) الخامسة: إن قلتَ: قد ذكرتَ: أنَّه يعمل على تقدير الاشتراك بالأمرين في الكراهة مع عدم تعين المراد، وعدمُ تعين المراد يوجب الإجمال، والإجمال يوجب التوقُّفَ، وذلك خلافُ ما قلتَ؟ قلتُ: هذا صحيحٌ إذا لم يكنْ تعلُّقُ [الخَطَّاب] (¬3) مبيِّنًا من وجه؛ كما لو قال: ائتني بعين. أما إذا كان مبينًا من وجه؛ كالنهي عن القزع مثلًا، وكان الامتثال ممكنًا، فإنَّه يتعين الخروج عن العهدة في التكليف المتبين، وذلك ممكن بالعمل في الأمرين، وصار هذا كما قال بعض الشافعية: إنه يجب في الخُنثى المشكِلِ أن (¬4) يُختَنَ في فرجيه (¬5). والختانُ إنما يجب فيما هو فرج، فأحدُ الفرجين هو الفرجُ حقيقة، والآخر مشتبةٌ [به] (¬6)، فلما كان وجوب الختان أمرًا متبينًا لا إجمالَ فيه، والخروج عن العُهدة ممكن بالختان فيهما (¬7)، أوجبوه (¬8)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لخصوصه" والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4)؛ ت": "أنَّه". (¬5) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 368). (¬6) سقط من "ت". (¬7) "ت": "فما". (¬8) جرى المؤلف - رحمه الله - في هذا البحث على طريقة الإِمام الرَّازيّ في حمل =

السادسة

السادسة: هذا هو الكلام على تقدير الاشتراك، وأما إذا حملنا النقلين على الخلاف في مدلول اللفظ لغةً، فيمكن أن يقال: يحمل عليهما معًا، ويستوي الحكم في الصورة بين هذا الاعتبار وبين اعتبار الاشتراك، إلَّا أنَّ المعنى مختلفٌ، فتأمله؛ لأنَّا في تقرير الاشتراك نعلم أنَّ الوضع لكل واحد منهما، وإنما حملناه على الجميع للجهل بالدليل الدال على إرادة أحد المعنيين، وها هنا عرفنا أنَّ الوضع لواحد منهما دونَ الآخر لا لهما معًا، فحملناه عليهما للشبه في الوضع؛ لاشتباه الموضوع له بغيره. وصار هذا قريبًا مما نقول في اشتباه الزوجة بالأجنبية: إنهما معًا محرمتان على المختار، أما الأجنبية فَلِعِلَّة عدم الزوجية، وأما الزوجة فلعلَّةِ الاشتباهِ بغيرها. وها هنا حملنا النقل على الاختلاف، فأحدهما هو الواقع، فعمَّمنا (¬1) حكمَ الكراهة بين ما هو الواقع وغير الواقع؛ للاشتباه المذكور، ولطلب التعيين في الخروج عن الكراهة والسلامة من ¬

_ = اللفظ المشترك عند الإطلاق على الاحتياط، وقد ذهب إمام الحرمين وابن القشيري، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب: أن اللفظ المشترك يحمل عند الإطلاق على العموم، وأن نسبة المشترك إلى جميع معانيه كنسبة العام إلى أفراده. انظر: "البحر المحيط" للزركشي (2/ 397)، وقد نقل عن المؤلف - رحمه الله - كلامه هنا في الفائدتين الرابعة والخامسة. (¬1) في الأصل: "عممنا"، والمثبت من "ت".

السابعة

الوقوع فيما هو مُحتملٌ للوضع والإرادة. وقد يقال: إن كان الوضع لمطلق حَلْقِ البعض وترك البعض فالكثيرُ المتفرِّق داخل تحته فهو متيقَّن، والمعنى الآخر مشكوك فيه، فيحكم بكراهة المتفق على أنَّه داخل في الموضوع له وهو الكثير المتفرق (¬1)، ونبُيح (¬2) المشكوك فيه وهو حلق البعض وترك البعض؛ لأن الأصلَ في الأشياء الإباحة. [المسألة] (¬3) السابعة: قال أبو العباس القرطبي: لا خلافَ [في] (¬4) أنَّه إذا حُلِقَ من الرأس مواضعُ وأبقيتْ مواضعُ: أنَّه القزعُ المنهيُّ عنه؛ لما عرف من اللغة كما نقلناه، ولتفسير (¬5) نافع له بذلك. واختلف فيما إذا حُلق جميعُ الرأس وتُرك منه موضع؛ كشعر النَّاصية، أو فيما إذا حلق موضعًا وحدَه وبقي أكثر الرأس، فمنع ذلك مالكٌ ورآه من القزع المنهي عنه. وقال ابن نافع: أما القصَّةُ والقفا للغلام، فلا بأسَ به (¬6). [المسألة] (¬7) الثامنة: تكلموا في تعليل هذه الكراهة، قال أبو ¬

_ (¬1) في الأصل: "التفرق"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "بفتح"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "كتفسير"، والمثبت من "ت". (¬6) قول ابن نافع: رواه البُخَارِيّ (5576) كما تقدم عنه في صدر الحديث. وانظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 441). (¬7) سقط من "ت".

العباس: واختلف في [هذا] (¬1) المعنى الذي لأجله كُره؛ فقيل: لأنه من زِيّ (¬2) أهل الزَّعَارَةِ (¬3) والفساد، وفي كتاب أبي داود: [و] (¬4) إنه زيُّ اليهود (¬5)، وقيل: لأنه تشويهٌ. وكانَّ هذه العلة أشبهُ؛ بدليل ما رواه النسائيُّ من حديث ابن عمر: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رأى صبيًا حُلِقَ بعضُ شعره وتُرِك بعضه، فنهى عن ذلك وقال: "اتْرُكُوهُ كُلَّهُ أو احلقُوهُ كُلَّهُ" (¬6). قلت: وهذا الحديث يشهدُ لمن يقول بكراهة حلق البعض وترك البعض من غير اشتراطٍ للكثرة والتفرق، إلَّا أنَّه لا يلزم أن يكون هو القزع المذكور (¬7) فيه (¬8) بذلك اللفظ. ويمكن عندي أن تكون العلةُ في كراهة القزعِ وحلقِ البعض ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "رأي". (¬3) الزَّعَارة: الشراسة، بتخفيف الراء وتشديدها. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه أبو داود (4197)، كتاب: الترجل، باب: ما جاء في الرخصة، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬6) رواه النَّسائيّ (5048)، كتاب: الزينة: باب: الرخصة في حلق الرأس، وكذا أبو داود (4195)، كتاب: الترجل، باب: في الذاؤبة. وانظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 441 - 442). (¬7) "ت": "المدلول". (¬8) "ت": "عليه".

التاسعة

وتركِ البعض دخولَهُ في تغيير خلق الله تعالى الذي دلَّت الآيةُ الكريمة على نسبته للشيطان، والذي يدلُّ عليه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: ["لعنَ اللهُ الواشمةَ والمُستوشمَةَ ... . " إلى أن قال] (¬1): "والمُتَنَمِّصاتِ المغيراتِ خلقَ اللهِ" (¬2) فوصف جميعهن بكونهن مغيراتٍ لخَلقِ الله، ومنهنَّ (¬3) من تحلِقُ بعضَ حاجبها وتترك بعضه، فالنصُّ دالٌّ على أنَّه داخل في تغيير خَلقِ الله، وهذا موجودٌ في القزع. [المسألة] (¬4) التاسعة: ظاهرُ النهيِ التحريمُ، فإن ذهب إليه أحد فقد جرى على الطريق المختار عند أرباب الأصول والفقهاء، ومن أخرجه عن ذلك يحتاج إلى دليل يوجب الخروجَ عما اعترفَ بأنه الأصل، وإن انعقدَ (¬5) الإجماعُ على عدم تحريمه فهو دليل على صرف هذا النهي عن ظاهره. [المسألة] (¬6) العاشرة: [في كلام بعضهم] (¬7) ما يدلُّ على أن ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) تقدم تخريجه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "ومنهم". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "لم يعقد"، والمثبت من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) سقط من "ت".

الحادية عشرة

القَزَعَ راجعٌ إلى النقل، وهو قول (¬1) من يقول: والقزعُ: أخذُ بعضرِ الشعر، وتركُ بعضه. وفي كلام بعضهم ما يدلّ (¬2) على أن القزع: [هو] (¬3) الشعر المتفرق بعضه (¬4)؛ كما حكيناه عن الزمخشري: أنَّه جعله مجازًا، فتكون الحقيقة هي قَزَع السحاب؛ أعني: القطعَ، فالمشبَّهُ به تكونُ أيضًا هي القطع المتفرقة من الشعر. [المسألة] (¬5) الحادية عشرة: النهي عن القزع لا بدَّ فيه من إضمار بتقدير النهي عن فعل القزع، فهل تدخل تحته إزالةُ ما تقزَّع من شعر الرأس من غير فعل فاعل؛ كما لو وُلد كذلك، أو طرأت علةٌ أوجبت ذلك؟ أما على ما قررناه فلا يدخل وقد صحَّ في حديث: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى مَنْ حَلَقَ بعضَ شعره، وتركَ بعضه، فنهاهم عن ذلك وقال: "احْلقُوهُ كُلَّه أو اتركُوهُ كُلَّه" (¬6). وهذا أَيضًا إنما تناول ما فُعل، فإن أريد الحكم فيما لم يفعله ¬

_ (¬1) "ت": "مقول". (¬2) في الأصل: "تجوز"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "نفسه". (¬5) سقط من "ت". (¬6) تقدم تخريجه قريبًا.

الثانية عشرة

فاعل، فليطلب دليله من وجه آخر؛ مثل أن نقولَ بعد أن يصح لنا التعليل بعلة تقتضي العموم: إن الحكم يعمُّ بعموم علته، فيتناول ما فُعل وما لم يُفعل، فيقتضي إزالةَ القزع الذي لم يُفعل بالعلة وعمومها، بتناولِ اللفظ. [المسألة] (¬1) الثَّانية عشرة: إذا قدرنا (¬2): نهى عن فعل القزع، ففيه عمومٌ يتناولُ فعلَ ذلك الإنسان (¬3) بنفسه، وفعلَ غيره [ذلك] (¬4) به، والحديث الذي ذكرناه آنفًا في المسألة التاسعة يتناول نهيَ الغير؛ لقوله: إنه رآه حُلق فقال: "احْلقُوهُ كُلَّه أو اتركُوهُ [كُلَّه] (¬5) "، وهذا أمرٌ متوجِّهٌ إلى الفاعل. [المسألة] (¬6) الثالثة عشرة: إذا نهى عن القزع، فمن لوازمه النهيُ عن التسبب (¬7) إليه بالإذن فيه والتمكين منه بالقاعدة الكلية وهي: إعطاءُ الأسبابِ المتوسَّلِ [بها] (¬8) أحكامَ المسببات؛ إما في الجملة أو من وجه. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "قدر"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "الإنسان ذلك". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) في الأصل: "السبب" والمثبت من "ت". (¬8) زيادة من "ت".

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر وعنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اخْتَتَنَ إبراهيمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ ثمانينَ سنةً بالقَدُومِ"، متفق عليه (¬1). الكلام عليه - بعد ما تقدم من التعريف بأبي هريرة - من وجوه: * الأول: في تصحيحه: وقد ذكرنا: أنَّه متفق عليه؛ أي: بين الشيخين؛ [أي] (¬2): على ما هو الاصطلاح. ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه البُخَارِيّ (3178)، كتاب: الأنبياء، باب: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] ومسلم (2370)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، من حديث المغيرة بن عبد الرَّحْمَن الحِزَامي، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به. وهذا لفظ مسلم. ورواه البُخَارِيّ (3178)، و (5940)، كتاب: الاستئذان، باب: الختان بعد الكبر ونتف الإبط، من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزِّناد، به. قال البُخَارِيّ: تابعه عبد الرَّحْمَن بن إسحاق، عن أبي الزِّناد، وتابعه عجلان، عن أبي هريرة، ورواه محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة. (¬2) زيادة من "ت".

الوجه الثاني: في شيء من مفردات ألفاظه، وفيه مسألتان

* الوجه الثاني: في شيء من مفردات ألفاظه، وفيه مسألتان: الأولى: قال الزمخشري: ختَنَ الصبيُ واختتنَ، وصبي مختون ومختتِن، واختتنَ إبراهيمُ - عليه السلام - بقدوم، وهو خاتن القوم، وحرفته الخِتانة، وكنا في خِتان فلان وفي عذاره، وقد برئ خِتانُهُ، وهو موضع القطع، ومنه: "إذا الْتَقَى الخِتانانِ" (¬1). ثم قال: ومن المجاز: عامٌ مختونٌ: للمُجدِبِ؛ كما قيل: عامٌ أغْرَلُ وأقلفُ: للمخصب (¬2). الثَّانية: قال أبو عُبيد البكري: قَدُوم - بفتح أوله على وزن فَعُول -: ثنيَّةٌ بالسَّرَاةِ وهو بلد دوس. وفي حديث الطُّفيل بن عَمرو الدوسي ذي النور: فلمَّا أوفيت قَدُوم سطعَ من كُداء نور (¬3)، والمحدثون يقولون: قَدُّوم، بتشديد ثانيه. وفي الحديث: عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "واخْتَتَنَ إبراهيمُ - عليه السلام - وهو ابنُ ثمانينَ سنةً بالقَدُومِ" ورواه أبو الزِّناد: "بالقَدُوم" مخففًا (¬4) وهو قول أكثر اللغويين. وقال محمَّد بن جعفر اللغوي: قَدُّوم: موضعُ معرفة (¬5) لا تدخل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 153). (¬3) في الأصل: "بعد"، والمثبت من "ت". (¬4) ذكره البُخَارِيّ في "صحيحه" بعد حديث (3178) المتقدم تخريجه. (¬5) في الأصل: "نعرفه"، والمثبت من "ت".

عليه الألف والسلام، هكذا ذكره بالتشديد. قال: ومن روى في حديث إبراهيم: "اختَتَنَ بالقَدُوم" مخففًا، فإنما يعني: الذي يُنْجَرُ به. وروى البُخَارِيّ في كتاب الجهاد، في باب: الكافر يقتل المسلم ثم يسلم، من طريق عمرو بن يحيى قال: أخبرني جدي: أن أَبان بن سعيد أقبلَ إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بعد ما افتتحوها، فقال: يَا رسول الله! أسهمْ لي، فقال أبو هريرة: لا تسهمْ له يَا رسول الله، هذا قاتلُ ابنِ قَوْقَل، فقال أبانٌ لأبي هريرة: واعجبًا لوبرٍ تدَلَّى علينا من قَدُوم ضأنٍ ينعى عليَّ قتلَ رجل مسلم أكرمه الله على يديَّ، ولم يُهِنِّي على يديه (¬1). وخرَّجه البُخَارِي أَيضًا في عُرْوة خيبر (¬2). هكذا رواه النَّاس عن البُخَارِيّ: "قدوم ضأنٍ" بالنُّون إلَّا الهمذاني، فإنَّه رواه: "من قدوم ضال" باللام (¬3)، وهو الصواب إن شاء الله. والضَّالُ: السدر البري (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (2672)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الكافر يقتل المسلم ثم يسلم. (¬2) رواه البُخَارِيّ (3996، 3997)، كتاب: المغازي، باب: عُرْوة خيبر. (¬3) كذا رواه أبو داود (2724)، كتاب: الجهاد، باب: فيمن جاء بعد الغنيمة لا سهم له. (¬4) قلت: جعل الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 41) كلام أبي عُبيد البكري الذي نقله المؤلف هنا من قوله "هكذا رواه النَّاس" إلى قوله: "السدر البري"، جعله الحافظ من كلام المؤلف ابن دقيق، وهو سهو، وإنما نقله المؤلف عن أبي عبيد كما ترى، والعصمة من الله وحده.

الوجه الثالث: [في شيء من العربية]

وأما إضافة هذه الثنية إلى الضأن، فلا أعلم لها معنى والله أعلم (¬1). * * * * الوجه الثالث: [في شيء من العربية]: قد ذكرنا عن الزمخشريِّ أنَّ من المجاز: عامٌ مَخْتون، وهذا ينبغي أن يكون من مجاز التشبيه؛ أي: تشبيه بالمعنى (¬2) المحسوس؛ كأنه اقتطعَ في ذلك العام من الخِصب المعهود شيء، فشابه اقتطاع شيءٍ من الغُرْلة الوافية، فأطلق اسمه عليه. وقد بقي من مادة اللفظة: الأختان بمعنى: الأصهار، وقالوا: هذا خَتَنُ فلان: لصهره وهو المتزوج بنته أو أخته. وأبوا الصهر: ختناه (¬3) وأقرباؤه: أختانه. وقالوا: الأختانُ من قِبلِ المرأة، والأحماء من قبل الزوج. وخَاتَنَهُ: صَاهَرهُ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (3/ 1053 - 1054). قال السفاريني في "كشف اللثام في شرح عمدة الأحكام" (1/ 345): ولعله - أي: القدوم - البلدة المسماة الآن بكفر قدوم؛ فإن بها مكانًا يزعمون أنَّه الذي اختتن به الخليل. وذكر لي غير واحد من أهلها: أن اليهود كانت تزوره وتعظمه. وقال لي نحو ذلك صاحبنا الشيخ عيسى القدومي الحسيني، ثم قال: منعناهم من ذلك، انتهى. (¬2) "ت": "وأبو الصهر ختناؤه"، والتصويب من "أساس البلاغة". (¬3) "ت": "المعنى"، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 153).

الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

فمَنْ عادتُهُ أن يردَّ الاستعمالاتِ المختلفة إلى معنى واحد؛ إما لقصد أن ينفيَ الاشتراك ويجعل موضوع اللفظ القدر المشترك؛ أو ليردَّ المعنى المجازي إذا جعل أحدَ المعاني مجازًا إلى معنى الأصل، فيحتاج ها هنا إلى ردِّ (الختن)، الذي هو الصهرُ إلى معنى القطع أو الاقتطاع؛ الذي هو الأصل أو الحقيقة، وفيه هنا تكلُّف. * * * * الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: هذا الحديث يدلُّ على مقدمة من مقدِّمات دليلٍ يستدلُّ به قومٌ على وجوب الختان، فنذكر حكمَهُ أولًا، واختلافَ العلماء فيه ثم نذكر وجهَ الدليل المشار إليه ها هنا. الثَّانية: اختلفوا في وجوب الختان، والمنقول فيه ثلاثة مذاهب: الوجوبُ، وهو مذهب الشَّافعيّ (¬1). وعدم الوجوب، وهو مذهب مالك، وعن سحنون من أتباعه ما يقتضي الوجوبَ كمذهب الشَّافعيّ (¬2)، بل في المنقول عنه ما هو ¬

_ (¬1) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 14). قلت: وهو مذهب الحنابلة، كما في "المغني" لابن قدامة (1/ 63). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 65). قال القاضي: هو عند مالك وعامة الفقهاء سنة، وذهب الشَّافعيّ إلى وجوب ذلك، وهو مقتضى قول سحنون. انتهى. قال ابن القيم رحمه الله: لكن السنة عندهنم - أي: المالكية - يأثم بتركها، فهم يطلقونها على مرتبة بين الفرض والندب، وإلا، فقد صرح مالك بعدم =

الثالثة

أشدُّ تغليظًا من المنقول عن الشَّافعيّ (¬1). والفرق بين الرجال والنساء؛ فالوجوب في الرجال، وعدمُه في النساء. والمالكية يقولون - أو من قال منهم -: الختان سنةٌ في الرجال، مَكرمَةٌ في (¬2) النساء (¬3)، وقد رُوي حديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثلُه أو قريب منه ولا يثبت (¬4)، والله أعلم. الثالثة: كون الحديث مقدِّمة من مقدِّمات الدليل على وجوب الختان يُقرَّرُ بوجهين: أحدهما: أن الختان من مِلَّة إبراهيم، واتِّباعُ ملته واجبٌ، فالختان من ملته؛ أما أنَّه فعله، فبهذا الحديث الذي نحن فيه، وبهذا قلنا: إنه يدل على مقدمة من مقدِّمات الدليل على وجوب الختان. والمقدمة الثَّانية: وهو أن اتباع ملته واجب، فدليلها قوله تعالى: ¬

_ = قبول شهادة الأقلف. انظر: "تحفة المودود" (ص: 162 - 163). (¬1) حتَّى قال: من لم يختتن، لم تصح إمامته، ولم تقبل شهادته. كما نقله ابن القيم في "تحفة المودود" (ص: 162). (¬2) "ت": "عن"، وجاء على الهامش: "لعله: في". (¬3) انظر: "الذخيرة" للقرافي (4/ 166 - 167). (¬4) رواه الإِمام أَحْمد في "المسند" (5/ 75)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 325)، من حديث الحجاج بن أرطأة، عن أبي المليح بن أسامة، عن أَبيه، به. وإسناده ضعيف؛ الحجاج مدلس، وقد اضطرب فيه، فتارة رواه كذا، وتارة رواه بزيادة شداد بن أوس بعد والد أبي المليح. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 82).

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] وهذا الدليل فيه نزاع في مواضع: أحدها: أن الملة يُراد به الأحكام الأصولية، والأحكام الفروعية، وقد مُنع ذلك وخُصِّصَ بالأصولية، واستُدلَّ عليها بأمور: أحدها: أن المُختلِفين في الفروع لا يقال: إن أحدهم على غير ملة الآخر، بل يقال: هما على ملة واحدة فنقول الشَّافعيّ ومالك وأبو حنيفة وسائر المختلفين في الفروع على ملة واحدة. الثاني: مناسبةُ (¬1) ما بعد هذا الكلام لكون المراد هو الأصول، وهو قوله: {حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]. الثالث: لو كان المراد الأصول والفروع لكان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - متعبَّدًا بشريعة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أصولها وفروعِها، واللازمُ منتفٍ، والمسألة في الأصول معلومة، والاستدلال على انتفاء هذا اللازم مذكور في كتب الأصول، والمستدلُّون بهذا الدليل يظهر من كلامهم أنَّهم يلتزمون صحة هذا اللازم، وهو تعبُّدُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بشرع إبراهيم، وهو خلافُ المرجَّح في الأصول (¬2). وثانيها: سلَّمنا أن الملةَ تدخل تحتها الأحكام الأصولية والفروعية؛ لأن الفعل من حيث هو فعل ليس بحكم لكنه متعلق الحكم، إذ الحكمُ: خطابُ الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلَّفين، فهو ¬

_ (¬1) "ت": "مناسبته"، والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "المحصول" للرازي (3/ 397)، و"الإحكام" للآمدي (4/ 145).

غير أفعالهم، إذ المتعلِّق غيرُ المتعلَّق. وإذا كان الفعل ليس من الأحكام التي هي داخلةٌ تحتَ الملة، لزم أن يكون المأمورُ به الاتباعَ في حكم الفعل، وحكم الفعل يتردَّدُ بين الوجوب والندب والإباحة، فالاتِّباعُ في الحكم متوقفٌ على معرفة الحكم من وجوب أو ندب أو إباحة، فمتى حكمنا بأحدِهَا [و] كان مخالفًا لذلك الحكم في شريعة إبراهيم، لا يكون ذلك اتباعًا في الحكم، لكنَّ الحكمَ في شريعة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - غيرُ معلوم عندنا، فلا نجزمُ بأن الحكم بالوجوب اتباعٌ لملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - (¬1). الوجه الثاني: تقريرُ كونِ الحديث مقدِّمةً من مقدِّمات الدليل على وجوب الختان، وهو أن يقال: الحديث يدلُّ على جواز هذا الفعل، وجوازُ هذا الفعل يستلزم وجوبَه، فالحديثُ يدل على وجوبِهِ دلالةَ ثبوت الملزوم على ثبوت اللازم. أما المقدمة الأولى، وهو أنَّه يدلُّ على الجواز فظاهر جدًّا، ودليلُهُ دليلُ العِصمة. وأما أنَّه يدل جواز هذا الفعل على وجوبه ويستلزمه؛ فلأن هذا قطعُ عضوِ حيٍّ صحيح، وفيه فتح باب الروح، فالدليلُ على تحريمه قائمٌ، ولا يجوز الإقدامُ على فعلٍ دلَّ الدليل على أنَّه محرم إلَّا لرجحان الدليل على وجوبه، وإلا لكان إلغاءً لدليل تحريمه. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "بياض نحو أربعة أسطر من الأصل".

الرابعة

وقد استدلَّ بعضُ الشافعية بقريب من هذا فقالوا: إنَّه يجوزُ له (¬1) كشفُ العورة، ولو لم يكنْ واجبًا لما جاز (¬2). وهذا لا يمكنُ أن يُجعلَ الحديثُ دالًّا عليه، بل هو أجنبي عنه؛ إذْ إبراهيمُ - صلى الله عليه وسلم - هو الخاتنُ لنفسه، فلا كشفَ عورة محرمٌ حينئذ، وإنما هو دليل مستقل، إن صحَّ فإنَّه قد نُقِضَ عليهم بكشف العورة للتداوي مع أنَّه غيرُ واجب، وأجاب بعضهم عنه (¬3). الرابعة: وجوب الختان على النساء لا يتناوله هذا الدليل الذي قدَّمناه، فإن الواقعَ ختان الرجال، فإن قام دليلٌ على أن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أُمر بختان هاجر أو فعله أو أباحه، فذلك الدليلُ هو الذي يُستدلُّ به على مقدِّمة من مقدِّمات الدليل على وجوب ختان النساء، لا هذا الحديث الذي نحن في شرحه. ولعلَّ هذا هو السببُ في تفرقةِ مَنْ فرَّق بين ختان الرجال وختان النساء في الوجوب، ويكون قد نظر إلى قصور دلالة هذا الحديث عن ¬

_ (¬1) أي: للختان، وبسببه. (¬2) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 14). (¬3) جاء على هامش "ت": "بياض نحو سبعة أسطر من الأصل". قلت: وكلام المؤلف رحمه الله في جواب بعضهم عن استدلال بعض الشافعية بجواز كشف العورة للختان. وقد ذكر النووي رحمه الله في "المجموع" (1/ 366) هذا وقال: وأورد عليه كشفها للمداواة التي لا تجب، ثم قال: والجواب: أن كشفها لا يجوز لكل مداواة، وإنما يجوز في موضع يقول أهل العرف: إن المصلحة في المداواة راجحة على المصلحة في المحافظة على المروءة وصيانة العورة، فلو كان الختان سنة، لما كشفت العورة المحرم كشفها له.

الخامسة

الوجوب في حقِّ النساء، ولم تثبت هذه بطريق صحيح عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -[لا من] فعل ولا أمر ولا ما يوجب أن يكون شرعًا له. وهذا المذهب محكيٌّ وجهًا عند الشافعية، وكذلك المذهبان الأوَّلان (¬1). الخامسة: غالبُ الأحكام مفهوم المعنى، متبينُ العلة ظنًا، مع اختلاف مراتب الظن في ذلك، وهذا على تقدير عدمِ النصِّ على العِلِّية، والتعبُّدُ قليل بالنسبة إلى ما يُفهمُ معناه، وبمقتضى ذلك ينبغي أن يُبحَثَ عن العلة المناسبة لشرعية الختان أو وجوبه. فيمكن أن يُحالَ ذلك على ما ذكر من أمر النجاسة، وأن البول ينزل إلى ما بين القلفة والحشفة، وذلك في حكم الظاهر، فيؤدي إلى بطلان الصلاة (¬2)، ومن هذا نُقل عن بعضهم: أنَّه يختنُ وإن أدى إلى الهلاك؛ لأنه يؤدي إلى بطلان صلاة العمر، وإذا كان [قد] (¬3) يقتلُ بترك صلاة واحدة، فلأن يقتل بترك صلاة العمر أولى. وبمثل هذا عُلِّلَ قولُ الشَّافعيّ - رضي الله عنه - فيمن يَجبرُ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 366). (¬2) قال ابن القيم: المقصود الأعظم بالختان: التحرز من احتباس البول في القُلفة، فتفسد الطهارة والصلاة، ولهذا قال ابن عباس فيما رواه الإِمام أَحْمد وغيره: لا تقبل له صلاة، ولهذا يسقط بالموت، لزوال التكليف بالطهارة والصلاة. انظر: "تحفة المودود" (ص: 167). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "جبر".

عظمه بعظم نجس: أنَّه يُنْزَعُ وإن خاف التلف (¬1). وهذا التعليل - إن صحَّ - فإنما يُعلل به الوجوب، وذلك يقتضي أن يخرجَ عنه جواز ختان الصبي؛ لأنه فتح باب الروح مع عدم معارضة الوجوب، أو يقال ببطلان الملازمة بين الجواز والوجوب التي ادُّعيت أولًا، أو يقال: إنَّه لا تصحُّ صلاة الصبي الأقلف لوجود النجاسة، وصحة الصلاة في حق البالغ والصبي سواء في الشروط. وربما ادُّعي أن الختان شُرعَ لتحصل لذة النكاح التي هي سببٌ للمطلوب شرعًا من كثرة النسل، وهذا يُنازَعُ فيه، وقيل: [إن] (¬2) جماعَ الأقلف ألذُّ، وهذا أمر مشكوك [فيه] (¬3) من الجانبين، أعني: ترجيح اللذة في أحدهما على الآخر. ويمكن أن يعلَّلَ بأمرٍ (¬4) ظني، وهو أن القلفة قد تؤثِّرُ في احتباسِ المني في خروجه، وعدمِ سرعة بروزه، وذلك [مضرّ] (¬5) بعد تهيُّئهِ وبروزه [عن مقرِّه] (¬6). وقريب من هذا ما قيل: إن الحكمةَ تقتضي منعَ اللواط؛ كما اقتضته الشرائع، أو ما هذا معناه، وذلك من حيثُ إن في الرَّحم قوةً ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (3/ 143 - 144). (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "أمر"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت".

السادسة

جاذبة، فتستفرغُ ما برز عن مقره من المني ولا يكاد يتخلف منه شيء في المجاري، وليست هذه القوة للدبر، فربما تخلف منه شيء فأورث عللًا وأمراضًا، ولهذه العلة كان الضعفُ الحادث عن النكاح في الفرج أكبرَ من الضعف الحادث عن خروج المني بالاحتلام (¬1). السادسة: هذا الإخبارُ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن فعل إبراهيمَ - عليه السلام - من فائدتِهِ بعدَ تعظيم قدر إبراهيم - عليه السلام - في الأنفس؛ بسبب احتمال هذه المشقة العظيمة مع كبر السن والمباشرة باليد بالآلة المعينة فيه أَيضًا: تحريكٌ للنفس (¬2)، وبعثٌ لها على الاقتداء في امتثال أوامر الله تعالى وطلب رضاه، وإن شقَّ على الأنفس، وصَعُبَ على الأبدان، وذلك من صلاح المكلفين، وهو علة (¬3) مناسبة لهذا الإخبار. وبهذا يتبين (¬4) لنا أن كثيرًا من الأحكام التي يُدَّعى فيها التعبُّدُ [ليست كذلك، وقد اشتُهرَ أن كثيرًا من أفعال الحجّ من باب التعبُّدِ و] (¬5) ليس كذلك عندي؛ لأنَّا إذا علمنا أسباب تلك الأفعال وفعلناها، تذكرنا (¬6) ما كان السبب أولًا، فحصل لنا بذلك الأمران المذكوران؛ أعني: التعظيم، وتحريك النفس للامتثال. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "بياض نحو ثمانية أسطر في الأصل". (¬2) "ت": "النفس". (¬3) في الأصل: ":"خلة"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "تبين". (¬5) سقط من "ت". (¬6) في الأصل: "تذكرا"، والمثبت من "ت".

ومثاله: إذا تذكرنا سببَ السعي بين الصفا والمروة وهو تركُ إبراهيم - عليه السلام - هاجرَ وابنَها في تلك الأرض الموحشة بلا أنيسٍ ولا سببٍ ظاهر في دوام الحياة، وأن (¬1) سعيَها في ذلك المكان لطلب الماء للطفل أولها أو لهما حَصلَ عندنا من تعظيم إبراهيم - عليه السلام - وامتثالِهِ لأمر الله تعالى فيما يعظُم أمره من المشقات على البشرية حدًا ما لا يُقدر قدره، وكان ذلك صلاحًا لنا وتهوينًا على أنفسنا في المشقات التي لا تنتهي إلى أيسر من هذا [ن الكامل]: يَغْشَونَ حَوْمَاتِ (¬2) المَنُونِ وإنِّها ... في اللهِ عندَ نفوسِهِمْ لصِغارُ (¬3) وكذا إن كان رميُ الجمار مذكِّرًا لنا لرمي إسماعيل - عليه السلام - الشيطانَ عند وسوسته ولسائرِ قصة الذبح، كان ذلك علةً ظاهرة، ومصلحة باعثة للأنفس على احتمال المشقات في ذات الله تعالى، إلى غير ذلك من الأمور (¬4)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "وهو أن". (¬2) في الأصل: "حرمات" والتصويب من "ت". (¬3) رواه ابن قتيبة في "عيون الأخبار" (1/ 124) عن عاصم بن الحدثان. (¬4) قال ابن القيم رحمه الله: ولما أمر الله به - أي: الختان - خليلَه، وعلم أن أمره المطاع، وأنه لا يجوز أن يعطَّل ويضاع، بادر إلى امتثال ما أمر به الحي القيوم، وختن نفسه بالقدوم، مبادرة إلى الامتثال، وطاعة لذي العزة والجلال، وجعله فطرة في عقبة إلى أن يرث الأرض ومن عليها, ولذلك دعا جميع الأنبياء من ذريته إليها، حتَّى عبدُ الله ورسولُه وكلمتُه ابن العذراء البتول اختتن متابعة لإبراهيم الخليل، والنصارى تقر بذلك وتعترف أنَّه من أحكام الإنجيل. انظر: "تحفة المودود" (ص: 174 - 175).

السابعة

السابعة: مواردُ النص قد تشتمل [على] (¬1) ما لا اعتبارَ به في الحكم، فيحذف وعلى ما يظهر اعتباره فيعتبر، وعلى ما يمكن اعتباره فيعتبر أَيضًا؛ لأنَّ الأصل اعتبار الصفات التي عُلق عليها الحكمُ، فلا تُخرج عنه إلَّا حيث يُعلم عدمُ الاعتبار. ومن قبيل ما لا يُعتبرُ بالنسبة إلى الواقع في هذا: الاختتانُ من إبراهيمَ - عليه السلام - (¬2)، فلا يمكنُ أن يدخلَ تحت الاتباعِ المأمور به. الثامنة: ها هنا وجهٌ أعمُّ من هذا: الزمن الذي وقع فيه الاختتان وهو ما بعد البلوغ، [ويمكن اعتباره، فيمكن أن يدخل تحت الأمر بالاتباع، والفقهاء الشافعية قالوا: إنما يجب الختان بعد البلوغ. فيمكنُ - من إمكانِ اعتبار هذا المعنى الأعم، الذي هو ما بعدَ البلوغ] (¬3) - أن يُجعلَ دليلًا على ما قالوه من الوجوب بعد البلوغ (¬4). التاسعة: وحينئذ تنقطع دلالةُ الحديث على الختان قبل البلوغ، فيُحتاج إلى دليل يدلُّ على جوازه، لا سيَّما والمانع قائم وهو قطع ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) أي: يكون إبراهيم - عليه السلام - هو الخاتن. (¬3) سقط من "ت". (¬4) قال الماوردي: للختان وقتان: وقت وجوب، ووقت استحباب؛ فوقت الوجوب: البلوغ، ووقت الاستحباب: قبله. نقله الحافظ في "الفتح" (10/ 342). وانظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 367 - 368).

العاشرة

العضو الحي، فيجبُ أخذُ جوازه من دليل آخر. العاشرة: الفقهاء يقولون: إن الواجبَ في الختان قطعُ ما تنكشف به الحشفة (¬1)، فإذا أُريدَ أخذُ هذا الحكم من هذا الحديث، فيُحتاج أن يتبيَّنَ أنَّ اسم الختان لا ينطلقُ إلَّا على ما فيه كشفُ الحشفة؛ لأن الحكم إنما عُلِّق بالاسم ها هنا، فيُحتاج أن يُعرفَ مدلوله. وهل يمكن أن يؤخذ هذا من استمرار العادة بذلك من غير معرفة لزمن يُعتبر لهذه العادة، ويُجعل ذلك كالأفعال المتواترة التي لا يعلم تغير العادة فيها، حتَّى يكونَ اسمُ الختان يتناول ما جرت به العادة، فيدل على الوجود حين ذلك الفعل المتقدم، فيدخل تحت الأمر بالاتباع؟ في ذلك بحثٌ يمكن أن يقرَّرَ بوجه جدليِّ يستعمله الخلافيون المتأخرون، وطريقه أن يقال: العادةُ قد اقتضت هذا في هذه الأزمنة المتطاولة، فإن كانت هي الموجودة في زمن إبراهيم - عليه السلام - فهو (¬2) المقصود، وإن لم تكنْ هي الموجودةُ يلزم أن يكونَ قد تغيَّرَ الواقع في زمن إبراهيم - عليه السلام - إلى غيره، والأصل عدم التغيير، فالواقعُ هو ما استمرت به العادة وهو المقصود، وفيه بعدَ هذا بحث. ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 367). (¬2) "ت": "فهي".

باب صفة الوضوء وفرائضه وسننه

بَابُ صِفَةِ الوُضُوْءِ وَفَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ البابُ: هو المدخلُ إلى الشيء المتوسَّل إليه، وحقيقَتُه في باب الدار وما أشبهها، واستُعمل مجازًا في اصطلاحِ العلماءِ على ما يُتَوسَّلُ به إلى ما تحت الباب من الأحكام، والمسائل، والفوائد، وما أشبه ذلك. وأقدمُ من رأيتُ (¬1) عنه استعملَ (¬2) هذه اللفظةَ المصطلحَ عليها عند العلماء عامرُ بن شُرَاحيل، وكان من كبار فضلاء التابعين، فذى القاضي أبو محمَّد الحسن بن خَلَّاد الرَّامَهُرْمُزِيُّ في كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" ذلك فقال: باب: إذا طلقت ورثت (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "روايته"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "استعمال". (¬3) "ت": "إذا أطلق ورتب". روى الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص: 609) عن الحسين بن حميد بن الرَّبيع قال: قيل لوكيع: أَنْتَ تطلب الآخرة، تصنف الأبواب فتقول: باب كذا وباب كذا؟ فقال: حَدَّثني إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: باب من الطلاق جسيم: إذا اعتدت المرأة ورثت. ومن طريق الرامهرمزي: رواه الخَطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 285). ثم روى الخَطيب عن أبي العالية وابن سيرين وغيرهما استعمال لفظة "باب" في كلامهم.

الحديث الأول

الحديث الأول منه عن حُمْرَانَ مولى [عُثمانَ: أنَّ] (¬1) عثمانَ بن عفَّانَ: دَعَا بوَضُوءٍ، فتوضَّأَ، فغسلَ كفَّيهِ ثلاثَ مراتٍ، ثم تمضمضَ (¬2) واستنثرَ، ثم غسلَ وجهَهَ ثلاثَ مراتٍ، ثم غسلَ يدَهُ اليُمنى إلى المِرْفَقِ ثلاثَ مراتٍ، ثم غسلَ يدَه اليُسرى مثلَ ذلك، [ثم مسحَ رأسه (¬3)، ثم غسلَ رِجلَهُ اليُمنى إلى الكعبين ثلاثَ مراتٍ، ثم غسلَ اليُسرى (¬4) مثلَ ذلك] (¬5)، ثم قال: رأيتُ رسولَ اللِه - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ نحوَ وُضُوئِي هذا، ثم قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأَ نحوَ وُضوئي هذا، ثم قامَ فركعَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في المطبوع من "صحيح مسلم": "مضمض"، وكذا في نسخة "الإلمام" الخطية لابن عبد الهادي (ق 5/ ب). (¬3) في نسخة "الإلمام": "برأسه"، وكذا ذكر المؤلف في "الإِمام" (1/ 419)، والمثبت هنا موافق للمطبوع من"صحيح مسلم". (¬4) في نسخة "الإلمام": (ق 5/ ب) وكذا "الإمام" (1/ 419): "رجله اليسرى"، والمثبت هنا موافق للمطبوع من"صحيح مسلم". (¬5) سقط من "ت".

[الوجه] الأول: في التعريف بمن ذكر فيه، فنقول

ركعتيِن لا يُحدِّثُ فيهما نفسَهُ، غُفِرَ لهُ ما تقدَّم مِنْ ذَنْبِهِ". قال ابنُ شهابٍ: وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوءُ أسبغُ ما يتوضَّأُ به أحدٌ للصلاةِ. لفظ مسلم (¬1) (¬2). الكلام عليه من وجوه: * [الوجه] (¬3) الأول: في التعريف بمن ذُكِرَ فيه، فنقول: عثمانُ بن عفانَ: بن أبي العاص بن أُمية بن عبد شمس بن عبد ¬

_ (¬1) في نسخة "الإلمام" (ق 5 / ب)، وكذا المطبوع من "الإلمام" (1/ 64): "متفق عليه، واللفظ لمسلم". (¬2) تخريج الحديث: رواه البُخَارِيّ (158)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، و (162)، باب: المضمضة في الوضوء، و (1832)، كتاب: الصوم، باب: السواك الرطب واليابس للصائم، ومسلم (226/ 3 - 4)، كتاب الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله، وأبو داود (106)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، والنَّسائيّ (84)، كتاب: الطهارة، باب: المضمضة والاستنشاق، و (85)، باب: بأي اليدين يتمضمض، و (116)، باب: حد الغسل، من حديث الزُّهْرِيّ، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن حمران، به. ورواه أبو داود (107)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، من حديث عبد الرَّحْمَن بن وردان، عن أبي سلمة بن عبد الرَّحْمَن، عن حمران، به. ورواه ابن ماجه (285)، كتاب: الطهارة، باب: ثواب الطهور، من حديث محمَّد بن إبراهيم، عن شَقِيق بن سلمة، ومن طريق محمَّد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، كلاهما عن حمران، به. (¬3) سقط من "ت".

مناف بن قُصي بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك، يلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف، وهو أقربُ العشرة بعد عليِّ بن أبي طالب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. كنيتُهُ المشهورةُ أبو عمرو، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو ليلى. أمه: أَرْوى بنتُ كُرَيز - بضم الكاف، وفتح الراء المهملة، وبعد آخر الحروف زاي معجمة - بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، تلتقي أَيضًا [مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف. فالتقى عثمانُ] (¬1) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قرابتين؛ قرابةِ الأب، وقرابةِ الأم، وتعدُّدُهُ من جهةِ الأبِ أقربُ، ولعثمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابةٌ أخرى أقربُ منهما [معًا] (¬2)، فإن أمَّ أمّهِ هي أمُّ حكيم البيضاء بنت عبد المطَّلب عمةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولقبُ عثمان: ذو النُّورين. أسلمَ - رضي الله عنه - قديمًا، وهاجر الهجرتين، وتزَّوجَ ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ رقية أولًا، فماتت عنده، فتزوج أمَّ كلثوم ثانيًا، فماتت عنده أَيضًا. يقال: وُلِدَ في السنة السادسة بعد الفيل، وقُتل (¬3) يومَ الجمعة لثمان عشرة خلونَ من ذي الحجة سنةَ خمس وثلاثين من الهجرة، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "قيل"، والمثبت من "ت".

وهو ابن تسعين سنة، وقيل: ثمان وثمانين، وقيل: اثنتين وثمانين، وصلَّى عليه جُبيُر بن مُطعم، وولي الخلافةَ ثنتي عشرة سنة. وحديثُهُ مخرَّجٌ في كتب الأئمة، له في "الصحيحين" ستةَ عشرَ حديثًا؛ اتفقا منها على ثلاثة، وانفرد البخاريّ بثمانية، ومسلم بخمسة. وروى عنه الحديثَ الصحابةُ والتابعون، وفضائلُهُ مسطورةٌ في كتب الأئمة، وفي [كتب] (¬1) "الصحيح" من رواية الصَّحَابَة روايةُ زيدِ بن أرقم في المُجامعة من غير إنزال، وعبدِ الله بن الزُّبير في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] , وأنسِ بن مالك في جمع القرآن (¬2). وأما حُمران فقال ابن أبي حاتم: حُمران بن أَبان: مولى عثمان ابن عفان، روى عن عثمان (¬3)، روى عنه عروة، وعطاء بن يزيد، وأبو سلمة، ومسلم بن يَسار، والحسن، ومحمَّد بن المُنْكدر، والوليد بن بِشْر، سمعتُ أبي يقول ذلك. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 53)، "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 208)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 37)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (39/ 3)، "المنتظم" لابن الجوزي (4/ 334)، "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 578)، "تهذيب الكمال" للمزي (19/ 445)، "تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 8)، "البداية والنهاية" لابن كثير " 7/ 199 "، "الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" (4/ 456)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (7/ 127). (¬3) "ت": زيادة "ابن عفان".

وقال ابن الحذَّاء في "رجال الموطأ" (¬1): حُمران مولى عثمان، يُكنى: أَبا يزيد، كان من سَبي عين التمر حين فتحها خالد بن الوليد في أول خلافةِ عمرَ - رضي الله عنه -، وقيل: في أول خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، وهو رجلٌ من النَّمر بن قاسط. وقال ابن مَعين: هو حمُران بن أُبيّ. وقال غيرُهُ من أهل النسب: إنما هو شيءٌ يُسَبُّونَ به، وهو من النمر ابن قاسط، لا يشكُّ في ذلك أهل العلم بالنسب، إلَّا أن عثمانَ - رضي الله عنه - اشتراه، فأعتقَهُ. وقال البُخَارِيّ: حُمران بن أَبان، مولى عُثْمان، قرشيٌّ، أموي، مدني. سمع منه عروةُ بن الزُّبير، وعطاء بن يزيد، وابنه عن عثمان، [و] (¬2) سمع منه أبو سلمة، وجامِع بن شداد، ومعاذ بن عبد الرَّحْمَن، والحسن، والوليد بن بشر، ومَعْبَد الجُهني. وممن روى عنه، ولم يذكرْ سماعًا: مسلم بن يسار، وابن المُنْكدر، وزيد بن أسلم، ويُكير، ومُطَّلب بن حنطب، وابن أبي المُخَارق، وعبد الملك بن [أبي] (¬3) عتبة، وعثمان بن موهب، هاهنا انتهى قول البُخَارِيّ. ¬

_ (¬1) لابن الحذَّاء محمَّد بن يحيى بن أَحْمد أبي عبد الله التَّمِيمِيّ القرطبي المالكي، المتوفى سنة (416 هـ) كتاب: "التعريف بمن ذكر في الموطأ من الرجال والنساء". انظر: "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 273). (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

وقيل: وُجِدَ مختونًا إذ سُبي، وكان يهوديًا اسمه طويد، وقيل: [طويل] (¬1)، فاشتُرِيَ لعثمان ثم أعتقه، وكان يكتب بين يديه، ثم غضِبَ عليه، فأخرجه إلى البصرة، فكان عينًا له بها, ولما قُتِلَ مصعب وثبَ حُمران فأخذ البصرة، ولم يزلْ كذلك حتَّى قدمَ خالدُ بن عبد الله القَسري [فعزله] (¬2)، فلما قدم الحجَّاجُ البصرةَ، آذاه، وأخذ منه مئةَ أَلْف درهم، [فكتب] (¬3) إلى عبد الملك بن مروان يشكوه، فكتب عبد الملك: إن حُمْرانً أخو من مَضَىَ، وعمُّ من بقي، فأحسنْ مجاورتَهُ، ورُدَّ عليه مالَهُ، فأحسنَ مجاورتَهُ ورَدَّ عليه مالَه (¬4). وتزوجَ حُمران امرأةً من بني سعد، وتزوج ولده في العرب. روى مالك، عن هشام بن عروة، عن أَبيه، عن حمران مولى عثمان: أن عثمان بن عفان جلس على المقاعد، فجاءه المؤذّنُ فآذنَهُ بصلاة العصر، فدعا بماءٍ فتوضَّأَ، فذكر الحديث (¬5). وقال بعض المحدثين في هذا الحديث: قال: حَدَّثني أبو أنس: أن عثمان، وكأنها كنيةُ حمران، ويقال: إن أَبا أنس هو جدُّ مالك بن أنس (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "طويل، وقيل: طويد". (¬2) في الأصل: "بعزله"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "وكتب". (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (15/ 177). (¬5) رواه الإِمام مالك في "الموطأ" (1/ 30). (¬6) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 283)، "التاريخ الكبير" للبخاري =

وأما ابن شهاب (¬1): فهو أبو بكر محمَّد بن مسلم بن عُبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهرة بن كِلاب بن كعب ابن لؤي، القُرشيّ، الزُّهْرِيّ (¬2)، يجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في والد زُهرة، ونسبتُهُ ها هنا إلى جدّ جده، مدنيّ، سكن الشَّام. وكان تابعيًّا في طبقة أصاغر التابعين زمنًا. سمع أنسَ بن مالك، وسهل بن سعد، والسائب بن يزيد، وسُنينًا أَبا جميلة، وعبد الرَّحْمَن [بن] (¬3) أزهر، وربيعةَ بن عِبَاد - مكسور العين، مخفف ثاني (¬4) الحروف -، ومحمود بن الرَّبيع، وابن صُعَير - بضم الصاد المهملة وفتح العين المهملة -، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وأبا أُمامة أسعد بن سهل (¬5) بن حُنيف، وأبا الطُّفيل عامر بن واثلة، ورجلًا من بَليٍّ ¬

_ = (3/ 80)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 256)، "الثِّقات" لابن حبان (4/ 179)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 172)، "تهذيب الكمال" للمزي (3/ 21) "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 182)، "الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" (2/ 180)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (3/ 21). (¬1) قلت: قد تقدم عند المؤلف رحمه الله ترجمة الإِمام ابن شهاب الزُّهْرِيّ في الحديث الثالث من باب: السواك. وقد زاد المؤلف هنا بعض الأشياء عن ترجمته السابقة. (¬2) "ت": "قرشي، زهري". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "الثاني"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "سهيل".

صحبه (¬1)، ورأى ابن عمر، وسمع جَمعاً من أكابر التابعين. وروى عنه جمعٌ من التابعين، وأتباعهم، وبعضُهم من شيوخه. عن عمرو بن دينار: وما رأيتُ أنصَّ للحديث من الزُّهري، وما رأيتُ أحداً الدينارُ والدرهمُ عنده أهونُ [عليه] منه، إن كانت (¬2) الدراهمُ والدنانيرُ عنده بمنزلة البَعَر (¬3). وعن إبراهيمَ بن سعد بن إبراهيم قال: قلت لأبي: بمَ فاقكم الزهريّ؟ قال: كان يأتي المجالسَ من صدورها, ولا يَأتيها من خلفها, ولا يَبقى في المجلس شابٌّ إلا ساءله، ولا كهلٌ إلا ساءله، ولا فتًى إلا ساءله، ثم يأتي الدارَ من دور الأنصار، فلا يبقى فيها شابٌّ إلا ساءله، ولا كهل إلا ساءله، ولا فتًى إلا ساءله، ولا عجوزٌ إلا ساءلها، [ولا كهلةٌ إلا ساءلها] (¬4)، حتى يحاولَ (¬5) ربّاتِ الحِجَال (¬6). وعن الليث بن سعد قال: ما رأيت عالمًا قطُّ أعلمَ من ابن شهاب، ولا أكثر علماً منه (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "له صحبة". (¬2) في الأصل: "كان"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه الترمذي في "سننه" (2/ 401)، وابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 111)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 336). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": زيادة "من". (¬6) رواه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص: 360). (¬7) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 342).

وقال البخاري: قال علي المديني: للزهري نحو ألفي حديث (¬1). وقال أحمد بن الفرات: ليس فيهم أجودُ حديثاً من الزهريّ (¬2). وعن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه: أصحُّ الأسانيد: الزهريّ، عن سالم، عن أبيه (¬3). وعن ابن أبي شيبة أبي بكر: أن أصحَّها: الزهريّ، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي (¬4). وعن الشافعي: لولا الزهريُّ لذهبت (¬5) السننُ من المدينة (¬6). والزهري في (¬7) الحفظ طبقةٌ رفيعةُ البناء واسعةُ الفناء، وذكر البخاري في "التاريخ": قال لي إبراهيم بن المنذر، عن ابن أخي الزهريّ: أنه أخذ القرآن في ثمانين ليلة (¬8)، وهذا إسناد صحيح. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (26/ 431). (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 106)، و"تهذيب الكمال" للمزي (26/ 431). (¬3) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 54)، والخطيب في "الكفاية" (ص: 397)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (20/ 58 - 59). (¬4) رواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 53)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (41/ 375 - 376). (¬5) في الأصل: "ذهبت"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 106). (¬7) في الأصل: "من". (¬8) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 220)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 313).

وذكر البخاري عن عبد الله: ثنا الليث، عن الزُّهري [قال] (¬1): ما استودعت حفظي شيئًا فخانني (¬2). وقال مالك: حدثني الزُّهري بحديث فيه طول، قلت: ما كنت تحبُّ أن يعادَ عليك؟ قال: لا، قلت: أكنتَ تكتبُ؟ قال: لا (¬3). وروى أيضا عن أيوب (¬4) السَّختِيَاني، قال: ما رأيتُ أعلمَ من الزهريّ، [فقيل له: ولا الحسن؟ قال: ما رأيتُ أعلمَ من الزهريّ] (¬5) (¬6). وروى أيضًا عن [إبراهيمَ بن سعد] (¬7) قال: ما أرى أحدًا بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع ما جمعَ الزهريّ (¬8). وكانت وفاته فيما أُرِّخَ ليلة الثلاثاء لستَّ عشرةَ خلت من شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومئة، [وهو] (¬9) ابن اثنتين وسبعين سنة، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 220). (¬3) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 220). (¬4) "ت": "وروى أيوب". (¬5) سقط من "ت". (¬6) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 220). (¬7) في "الأصل": "سعد بن إبراهيم"، والمثبت من "ت". (¬8) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 220). (¬9) زيادة من "ت".

الوجه الثاني: في تصحيحه

ودُفِنَ بقرية له في أطراف (¬1) الشام يقال لها: شَغْب وبَدَا، بالشين المعجمة المفتوحة، والغين المعجمة الساكنة، وبعدها ثاني الحروف، وبدا: أوله ثاني الحروف مفتوحاً، ثم قال مهملة مخففة (¬2). * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: وقد ذكرنا تخريجَ مسلم له، وهو حديث يذكر في الأطراف من رواية البخاري، ومسلم، وأبي داود، والنسائي، في مسند عثمان - رضي الله عنه -، وفي الألفاظ (¬3) اختلاف. * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: الكفُّ: كفُّ الإنسان، وهي ما بها يَقْبِضُ، ويبسُطُ، [وكَفَفْتُهُ: أصبتُ كفَّه] (¬4)، وكففته: أصبته [بالكف، ودفعته بها. وتُعُورِفَ الكفُّ بالدفع على أيِّ وجهٍ كان] (¬5)؛ بالكفِّ كان، أو غيرِها، حتى قيل: رجلٌ مكفوفٌ: لمن قُبِض بصرُهُ، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]؛ أي: كافاً لهم عن ¬

_ (¬1) "ت": "بأطراف". (¬2) انظر: مصادر ترجمته في الحديث الثالث من باب السواك. (¬3) "ت": "ألفاظه". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) ساقطة من "ت".

المعاصي، والهاء للمبالغة كقولهم: راوية، [وعلاّمة] (¬1). وقوله - عز وجل -: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] قيل: معناه كافين لهم. [ثم ذكر الراغب أن الجماعة، يقال لهم: الكافة] (¬2)؛ كما يقال؛ لهم الوَزَعَة؛ لقوتهم واجتماعهم (¬3)، وعلى هذا قوله - عز وجل -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]. وقولهُ: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42] , إشارة (¬4) إلى حال النادم وما يتعاطاهُ في حال ندمه. وتَكفَّفَ الرجلُ: إذا مدَّ يده سائلاً، و [يقال] (¬5): استكفَّ الشمسَ: إذا دفعها بكفِّهِ، وهو أن يضع كفيه على حاجبه مُسْتظلاً من الشمس ليرى ما يطلُبُه (¬6)، وكِفّةُ الميزان تشبيها بالكف في قبضها (¬7) ما يُوزن بها، وكذلك كفة الحِبَالة، وكفَّفْتُ الثوبَ؛ إذا خِطْتُ (¬8) نواحيه بعد الخياطة الأولى (¬9). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في المطبوع من "المفردات": "باجتماعهم". (¬4) في الأصل: "فأشار"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "يظله". (¬7) في المطبوع من "المفردات": "كلها". (¬8) في الأصل: "جعلت"، والتصويب من "ت". (¬9) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 713).

الثانية

قلت: الأقرب أن تكونَ الكفُّ حقيقةً في العضو المخصوص، ويكون الكفُّ؛ بمعنى: الدفع، من جهة أخرى، حقيقةً، ويحتمل أن يرجعا إلى أصل واحد، ويكون حقيقة في القَدْر المشترك؛ لأن الكفَّ يُدْفَعُ بها ما يُراد دفعُه، ثم لا يخلو الحال من أن يجعل الأصل الدفع، والعضو مأخوذ منه، أو بالعكس، فإن جُعِلَ الأصل هو الدفعُ، فتكون تسميةُ العضو به [من] (¬1) بابِ الوصفِ بالمصدر، وإنْ جعلنا العضوَ هو الأصلُ، فإطلاقُهُ بمعنى الدفعِ من مجاز الملازمة، إلا أن الأول يقتضي أن يكونَ [إطلاقُ] (¬2) العضو مجازًا، وهو بعيد جداً. الثانية: قال ابن سِيدَه: المَرَّةُ: الفَعْلة الواحدة، والجمع: مَرٌّ، ومِرَار، ومُرور، عن أبي علي، ويصدّقه (¬3) قولُ الهُذلي [من الطويل]: تَنَكَّرْتَ (¬4) بعدِي أمْ أصابَكَ حادِث ... مِنَ الدَّهْرِ أمْ مَرَّتْ عليكَ (¬5) مُرُورُ وذهب السُّكريُّ إلى أن مُرورًا مصدر، قال ابن جنّي: ولا أُبْعِدُ أن يكون كما ذكر، وإن كان قد أنَّثَ المصدر (¬6)، وذلك أنه (¬7) يفيد ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "وعليه". (¬4) "ت": "سكرت". (¬5) في الأصل: "عليه"، والمثبت من "ت". (¬6) في المطبوع من "المحكم": "الفعل". (¬7) "ت": "أن المصدر".

الثالثة

الكثرة والجنسية (¬1). وقال الراغبُ في قوله تعالى: {مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] (¬2) كفَعْلة أو فَعْلتين، وذلك بجزءٍ من الزمان (¬3). الثالثة: أصلها (¬4) التحريكُ فيما قيلِ، قال الجوهري: والمَضْمَضَةُ: تحريكُ الماء في الفم، ويقال ما مَضْمَضتُ عيني بنومٍ؛ أي: ما نمت، وتمضمضَ في وُضوئه، وتمضمضَ النعاسُ في عينه، قال الراجز: [وصاحبٍ] (¬5) نبَّهْتهُ لِيَنْهَضَا ... إذا الكَرَى في عِينهِ تمَضَمَضَا (¬6) الرابعة: قال الجوهري: قال ابن السِّكيت: النَّشُوق: سعوطٌ يُجعل في المنخرين، وقد أنشقته إنشاقًا (¬7). واستنشقت الماءَ وغيره: أدخلته في الأنف، واستنشقت الريحَ: شممتها، ونَشِقْتُ منه ريحاً طَيِّبة - بالكسر -؛ أي: شممت، وهذه ريح ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (10/ 348)، (مادة: م ر ر). (¬2) في المطبوع من "المفردات": "وقولهم: مرة أو مرتين". (¬3) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 764). (¬4) جاء في هامش "ت": "لعلها: المضمضة". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) البيت لأبي زيد كما في "النوادر" (ص: 168)، و"الكامل" للمبرد (1/ 192)، وبعده: فقامَ عجلانَ وما تأَرَّضَا ... يمسحُ بالكفَّينِ وجهًا أبيضَا وانظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1106)، (مادة: م ض ض). (¬7) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 333).

الخامسة

مكروهةُ النَّشْقِ، يعني (¬1) الشم (¬2). قلت: فهذه مادة واحدة ترجع إلى معنى واحد. وأما نشَقَ الصبيّ في الحِبَالة؛ أي: علق فيها، ورجل نشَق: إذا [كان] (¬3) يدخل في أمور لا يكاد يتخلصُ منها (¬4)، فيرجعان إلى معنى واحد، وأحدهما مجاز، وهو رجل نشَق، تشبيهًا للارتباك في الرأي وعدمِ توجُّهِ الخلاص منه بالارتباك في الحِبالة، والآخر وهو نشق الصبي، فيظهر أنه معنى غيرُ الأول؛ لبعدٍ في العلاقة بينهما، وكذلك النّشْقَة - بالضم -: الرِّبقة التي في أعناق البُهْمِ، فهي قريبة (¬5) من معنى ارتباك الصبي، وارتباك الرجل في الرأي؛ لعلاقة ليست بالظاهرة (¬6). الخامسة: قال الجوهري: الوَجْهُ: معروف، والجمعُ: الوجوه. وحكى الفَرَّاء: حيِّ الوُجُوهَ، وحيِّ الأُجُوهَ. قال ابن السّكيت: ويفعلونَ ذلك كثيرًا في الواو إذا انضمت (¬7). والوَجْهُ والجِهَةُ بمعنى، والهاءُ عوضٌ من الواو، ويقال: هذا وجهُ الرأي، أي: نفسه، والاسم الوِجْهَةُ، والوُجْهَةُ - بكسر الواو ¬

_ (¬1) في الأصل: "في"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1558 - 1559)، (مادة: نشق). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1559)، (مادة: نشق). (¬5) في الأصل: "قريب"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "بعلاقة ليست بالظاهر". (¬7) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 160).

وضمها - (¬1)، والواو تثبت في الأسماء؛ كما قالوا: لِدَة (¬2)، وإنما لا تجتمعُ مع الهاء في المصادر، والمواجهة: المقابلة، ويقال: قعدتُ وِجاهك، ووُجاهك؛ أي: قِبالتك، واتجه له رأيٌ: سَنَح (¬3)، وهو افتعل، صارت الواو [ياءً] (¬4) لكسرةِ ما قبلها، وأُبدلت منها التاء، [وأدغمت، ثم بُني عليه قولك: قعدتُ تِجاهَكَ وتُجاهَك] (¬5)؛ أي: تلقاءك، واتجَّهتُ إليه أَتَّجِهُ، أي: تَوَجَّهتُ؛ لأن أصل التاء فيها واوٌ، ووجَّهته في حاجة، ووجَّهت وجهي لله، وتوجَّهت نحوك، وإليك. وتوجَّه الشيخُ: إذا ولَّى وكَبِر، وفي المثل: أحمقُ ما يتوجَّهُ، أي: ما يحسنُ أن يأتيَ [الغائط] (¬6). قال الراغب: أصل الوجه: الجارحةُ، قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] , {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50] ولما كان الوجهُ أولَ ما يستقبلك (¬7)، وأشرفَ ما في البدن (¬8)، استعملَ في مستقبلِ كل شيء، وأشرفِهِ، [ومَبدئِهِ] (¬9)، ¬

_ (¬1) "ت": "بضم الواو وكسرها". (¬2) في المطبوع من "الصحاح": "وِلْدَة". (¬3) في الأصل: "راسخ"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2254 - 2255)، (مادة: وجه). (¬7) "ت": "يستقبل". (¬8) "ت": زيادة "ظاهر". (¬9) زيادة من "ت".

السادسة

فقيل: وجه كذا، ووجه النهار، وربمّا عُبّر عن الذات بالوجه في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] , فقيل: ذاته، وقيل: أراد بالوجه ها هنا: التوجهَ إلى الله بالأعمال الصالحة: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وقال تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] [وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]] (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] (¬2). انتهى ما أردت نقله (¬3). السادسة: قد ذكرنا عن الجوهري أن الوجهَ معروفٌ، ولم يَحُدَّه، والفقهاء تعرضوا لحدِّهِ. فالشافعيةُ قال بعضُهم: من مبدأ (¬4) تسطيحِ الجبهة إلى مُنتهى الذَّقن، ومن الأُذن إلى الأذن، ومعناه: أن ميل الرأس إلى التدوير ومن مبتدأ الجبهة يبتدي التسطيح (¬5). وبنى على هذا ما يخرج من حدّ الوجه، وما يدخلُ فيه. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 855 - 856). (¬3) جاء في الأصل زيادة كلمة: "قلت"، ولا شيء بعدها، بينما ترك بياض في "ت"، بمقدار سطرين ونصف. (¬4) في الأصل: "بدء"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 337) وفيه: ومعنى ذلك: أن ميل الرأس إلى التدوير، ومن أول الجبهة يأخذ الوضع في التسطيح وتقع به المحاذاة والمواجهة، فحد الوجه في الطول من حيث يبتدأ التسطيح، وما فوق ذلك من الرأس.

السابعة

وأما المالكية، والقاضي عبد الوهاب - رحمه الله - منهم، قال: وحدُّه ما انحدرَ من منابتِ الشعر إلى آخر الذقن للأمرد، واللحيةِ للمُلتحي طولاً، وما زاد عليه من العِذارين عرضًا، واعتُرِضَ عليه بالأغم (¬1) والأصلع (¬2)، فاحْتُرِزَ عن ذلك بأن قيل: من منابت الشعر المعتاد. وذكر بعض المتأخرين منهم ثلاثة أقوال: أحدها: من الأذن إلى الأذن. وقيل: من العِذار إلى العِذار. وقيل: بالأول: في نقيّ الخد، وبالثاني: في ذي الشعر (¬3). السابعة: قد ذكرنا من قول الجوهري: الوجه معروف، ولم يحده، ولم نر حدَّهُ لغيره من أهل اللغة إلى الآن، والقاعدة في مثل هذا مما (¬4) عُلِّقَ الحكمُ فيه على مُسمَّى أن يثبتَ الحكم فيما ينطلق الاسمُ عليه؛ وضعاً، أو عرفاً، أو شرعًا (¬5)، على الطريق المعروف في تقديم إحدى الدلالات على الأخرى إذا وقع التعارض. ¬

_ (¬1) من "الغَمَم": سيلان الشعر حتى تضيق الجبهة والقفا، يقال: هو أغمّ الجبهة والقفا. "القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 1031)، (مادة: غ م م). (¬2) في الأصل: "الأصلح"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 253). (¬4) في الأصل: "بما"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "شرعًا أو عرفاً".

فعلى هذا: ما انطلق عليه اسم الوجه يقينًا هو متعلَّق الوجوب، وما شُكَّ فيه فلا وجوبَ يتعلق به إلا بدليل منفصل، وليس يكفي في انطلاق الاسم عليه أن يثبت حكم وجوب الغسل فيه، بل لا بد من انطلاق اسم الوجه عليه إذا أردنا أخذ الحكم من الاسم، فلو وجب غسلُ اللحية بدليل شرعي لم يلزمْ انطلاقُ اسم الوجه عليه شرعًا، وذكر بعض فقهاء الشافعية حديثاً استدلَّ به على وجوب إفاضة الماء على اللحية: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا غطَّى لحيتَهُ فقال: "اكشفْ عن لحيتكَ، فإنَّها من الوجهِ"، وعلى ذهني نقل عن بعض المتأخرين من حُفَّاظ الحديث: أنه قال: إنَّ إسنادَهُ مظلم، أو معنى ذلك، وأمَّا أنا فلم أقفْ له على إسناد، لا مظلم، ولا مضيء (¬1)، فلو صحَّ لدل على انطلاق اسم الوجه عليه؛ إما وضعاً، أو شرعًا، وإذا لم يصح، فلا يتجهُ ما قاله القاضي عبد الوهاب المالكي في حدّ الوجه إلى آخر الذقن [للأمرد] (¬2)، واللحية للملتحي طولًا؛ لأنه إما أن يحد الوجه بحسب انطلاق الشرع، أو بحسب الوضع، أو العرف. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 56): لم أجده هكذا، نعم ذكره الحازمي في "تخريج أحاديث المهذب" فقال: هذا الحديث ضعيف وله إسناد مظلم، ولا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء، وتبعه المنذري وابن الصلاح والنووي، وزاد: وهو منقول عن ابن عمر يعني: قوله. ثم ذكر الحافظ كلام المؤلف رحمه الله هنا. ثم قال: وقد أخرجه صاحب "مسند الفردوس" من حديث ابن عمر بلفظ: "لا يغطين أحدكم لحيته في الصلاة، فإن اللحية من الوجه"، وإسناده مظلم كما قال الحازمي. (¬2) سقط من "ت".

الثامنة

ولا يصحّ الأول؛ لتوقف صحة الإطلاق شرعًا على دليل يدلُّ عليه، والحديثُ الذي ذكرناه دالٌّ عليه، ولكنه لم يصحَّ، ومن ادعى صحتَهُ فعليه إثباتها. وإن ادَّعاه بحسب اللغة أو العُرف فلا يتجه؛ لأن أهل اللغة أو العُرف لا يرون الأمردَ ناقصَ الوجه، ولا الملتحيَ زائدَ الوجه. وإن كان أطلق عليه الوجه باعتبار قيام الدليل الشرعي عنده على وجوب الغسل، فقد ذكرنا أنه لا يلزمُ منه انطلاقُ اسم الوجه عليه شرعًا، وإن أطلقه بهذا الاعتبار كان مجازًا. الثامنة: الفقهاء يقولون: الوجهُ من المواجهة، ويجعلون ذلك دليلاً على مسائلَ يريدون الاستدلالَ فيها على الوجوب، فإن أُريدَ بأن الوجه من المواجهة ما يُراد بمثل هذا اللفظِ بالنسبة إلى الاشتقاق، فليس هذا بجيد، بل العكسُ أولى، وهو أن تكونَ المواجهةُ مشتقةً من الوجه؛ لأنَّ المواجهةَ: مقابلةُ الوجه بالوجه (¬1). التاسعة: اليدُ: حقيقةٌ في الجارحة المخصوصة، وهي من أطراف الأنامل إلى الإبْط، والحنبلية، أو بعضهم يرى: أنها عند الإطلاق تُحملُ على الكفِّ؛ كما في قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (¬2). العاشرة: ذكرنا أن اليدَ حقيقةٌ في الجارحة، ثم تُستعمل مجازًا ¬

_ (¬1) قال المؤلف رحمه الله في "شرح عمدة الأحكام" (1/ 34): والوجه مشتق من المواجهة، وقد اعتبر الفقهاء هذا الاشتقاق، وبنوا عليه أحكامًا. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 71 - 72).

في مواضع منها: استعمالها في معنى النعمة والإحسان: يقال يَدَيْتُ إليه، أي: أسديتُ لفلان يدًا في الخير، ولفلان عندي يد؛ أي: إحسان، وقد فُسر به قوله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] إلا أنَّ ثمَّ فيه وجهان: أحدهما: أن تكونَ بمعنى: النجمةِ من الله عليهم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [مريم: 58]. ثانيهما: أن تكون أيديهم بمعنى: نعمِهِمْ وإحسانهم إلى الخلق، بأنْ دَعَوهم إلى الدين والهدى، قال بعضهم: ويجوز أن يكون المعنى: أولي الأعمال الصالحة. والمعروف في العادة: أنها إذا كانت بمعنى: الجارحة، أن تُجمعَ على أيدٍ، وإذا كانت بمعنى: النعمة، أن تجمع على الأيادي (¬1)، وقد استُعملت الأيدي في الجمع بمعنى: النعمة، ومنه قولُ المتنبي [من الكامل]: أقبلتُها غُرَرَ الجيادِ كأنَّما ... أَيْدِي بني عِمرانَ في جَبَهاتِها (¬2) ومنها: الحَوْزُ والمِلك، تقول: الدارُ يزيد فلان؛ أي: ملكه وحوزه، {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. ومنها: القوةُ والقدرة: ما لي بكذا يدٌ، وما لي به يدان، وهو أحدُ الوجهين في تفسير قوله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]،؛ ¬

_ (¬1) "ت": " أيادي". (¬2) انظر: "ديوانه بشرح البرقوقي" (ص: 219)، (ق 46/ 12).

الحادية عشرة

أي: القوة في طاعة الله، والأبصار في الحق؛ عن مجاهد (¬1). ومنها: الشروعُ في شيء، يقال: وضع يده في كذا؛ أي: شرع فيه. ومنها: الولايةُ والنصرة، فلان يد فلان؛ أي: وليّه [وناصره] (¬2)، وذكر بعضهم: أنه يقال لأولياء الله: هم أيدي الله. ومنها: الاهتمامُ بالشيء وفعله بغير واسطة: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فإول خُلِقَ باختراع الله تعالى الذي ليس إلالله تعالى. قال بعضهم: وخُصَّ (¬3) لفظَ (اليد) إذْ صوَّرَ لنا المعنى، [إذ هي أجلُّ الجوارح التي يُتَوَلَّى بها الفعلُ فيما بيننا، ليتصوَّرَ لنا [اختصاص] (¬4) المعنى] (¬5)، لا لنتَصَوَّرَ [منه] تشبيهًا (¬6). الحادية عشرة: اليمينُ: حقيقةٌ في العضو المخصوص، وأما اليمينُ بمعنى: الحَلْفِ، فجعله بعضُهم مستعاراً من اليد اعتبارًا بما يفعله المُعاهِدُ والمُحالف؛ أي: عند العهد أو الحلف، ولما كان من صفات اليمينِ الشرفُ بالنسبة إلى اليسار، جُعِلَ علاقةً لاستعمال اليمين في غيرِ الجارحة. {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27] فُسِّرَ بأصحاب ¬

_ (¬1) روى ابن جرير في "تفسيره" (21/ 215 - 216) عن مجاهد قال: {أُولِي الْأَيْدِي} قال: الأيدي: القوة في أمر، و {وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]: العقول. (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "فَخَصَّ"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من المطبوع من "المفردات" للراغب. (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 889 - 891).

السعادات والميامن، على حسب تعارُفِ الناس في العبارة عن الميامن [باليمين] (¬1)، وعن الأشائم (¬2) بالشمال. وأمّا {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] , ففسر اليمينُ بالناحية التي كان منها الحقُّ، والإتيانُ بالصرف، فقيل: أي: الناحيةُ التي كان منها الحقُّ فتصرفوننا عنها (¬3). وهذا عندي يرجعُ إلى علاقة الشرف بين الحق واليمين. وقد حُمِلَ قولُ الشاعر [من الوافر]: إذا ما رَايةٌ رُفِعَتْ لمجدٍ ... تَلَقّاهَا عَرابةُ باليَمِينِ (¬4) أي؛ على معنى التيمن للشرف والسعادة. وأما قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] فقال بعضهم: أي: منعناه ودفعناه، يُعبَّرُ عن ذلك بالأخذ (¬5) باليمين؛ كقولك: خذ بيدِ فلان. وما شاعَ من: "الحجرُ الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرضِ" (¬6)، ففُسِّرَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في المطبوع من "المفردات": "المشائم". (¬3) في المطبوع من "المفردات" للراغب: "وقوله: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ ...} أي: عن الناحية التي كان منها الحق، فتصرفوننا عنها". (¬4) البيت للشماخ الذبياني، كما في "ديوانه" (ص: 336). (¬5) في المطبوع من "المفردات": "الأخذ". (¬6) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (1/ 342)، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/ 365)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 328)، =

الثانية عشرة

بأنه يُتوصلُ به إلى السعادةِ المقرِّبة [إليه] (¬1) (¬2). الثانية عشرة: المِرْفَقُ ينطلق على أشياء: منها - وهو المراد في هذا الحديث -: عضو مخصوص من الإنسان والدابّة، وعرَّفه ابن سِيدَه بأنه: أعلى الذراع، وأسفل العضد (¬3). وعرَّفه غيُره بأنه: مُوْصِل الذراع في العضد، ذكره الجوهريّ في "الصحاح"، وغيره من بعده، ويقال فيه بهذا الاعتبار: مَرْفِق - بفتح الميم، وكسر الفاء -، ومِرْفَق - بكسر الميم، وفتح الفاء -، وقد قُرِئَ بهما معًا في الآية الكريمة (¬4). ومنها: ما هو من مادة (الرفق)، قال الصَّغَاني في "العُباب الزاخر": وقال أبو زيد: يقال: رَفَقَ الله بك، ورَفَقَ عليك رِفْقَا ومِرْفقاً ومَرفَقاً، قال: وزاد غيره مَرْفِقاً، بفتح الميم، وكسر الفاء. وقُرئ قوله تعالى: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16] بالوجهين؛ أي: ما يرفقون به؛ [قرأ] (¬5) بفتح الميم وكسر الفاء: أبو جعفر، ونافع، وابن عامر، والأعشى، والبرجمي، عن أبي بكر، عن عاصم، ¬

_ = والديلمي في "مسند الفردوس" (2808)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 217)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وإسناده ضعيف. وفي الباب عن غير واحد من الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين. (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 893 - 894). (¬3) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 382)، (مادة: رفق). (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1482)، (مادة: رفق). (¬5) سقط من "ت".

والباقون بكسر الميم وفتح الفاء، ولم يقرأْ بفتح الميم والفاء أحد (¬1). وكذلك ذكر ابن سِيدَه ثلاثَ لغات (¬2) فقال: الرفق، والمِرْفَق، والمَرْفِق، والمَرْفَق: ما استُعينَ به، وقد تَرفَّقَ (¬3) به وارْتَفَقَ. ومنها: المرفق: المغتسل؛ ذكره ابن سِيدَه (¬4)، وقال صاحب "العُباب": [و] (¬5) مَرَافِقُ الدار: مَصابُّ الماء ونحوها، [وقال] (¬6): كان ابن سيرين إذا دخل المِرْفَقَ لفَّ (¬7) كمَّهُ على كَفِّهِ (¬8). [وفي] (¬9) حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبلَ القِبلَة ببولٍ أو غائطٍ، فلما قدمنا الشام، وجدنا مرافقهم - ويُروى: مراحيضهم (¬10) - قد اسُتقبلَ بها القبلة، فكنا ننحرف ونستغفرُ الله (¬11). ¬

_ (¬1) نظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 130). (¬2) "ت": "الثلاث لغات". (¬3) "ت": "يرتفق". (¬4) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 382). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) في الأصل: "كف"، والمثبت من "ت". (¬8) رواه الحربي في "غريب الحديث" (2/ 353). (¬9) زيادة من "ت". (¬10) رواه ابن شاهين في "ناسخ الحديث ومنسوخه" (ص: 82). (¬11) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (3921). والحديث رواه البخاري =

الثالثة عشرة

وقال عقب ذلك: المِرْحَاضُ: موضعُ الرحضِ، كنى بها عن مَطرَح العَذِرَة، وجميعُ أسمائِهِ كذلك، نحو: الغائط، والبراز، والكنيف، والحُشّ، والخَلاء، والمخرج، والمُسْتراح، والمتوضَّأ، كلما شاع استعمال واحد وشُهِرَ انتُقِلَ إلى آخر. ومنها: مرفق: اسمُ رجل من العرب من بني بكر بن وائل، قتلته بنو فقعس. ومنها: المتَّكَأ، قال ابن سِيدَه: وقد ترفَّقَ عليه، وارتفق: توكّأ (¬1). الثالثة عشرة: اليُسْرَى: أختُ اليُمنى، يقال: يَسار، وِيسار - بفتح الياء، وكسرها -، واللفظةُ مشتركة في أصول حروفها مع اليُسْرِ، الذي هو ضد العُسر: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] , {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 88] , ومع السهل: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] , {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30] , {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] ومع الشيء القليل: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 14] (¬2) (¬3). ¬

_ = (386)، كتاب: القبلة، باب: قبلة أهل المدينة، ومسلم (264)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، من حديث أبي أيوب - رضي الله عنه - بلفظ نحوه. (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 382). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 892).

الرابعة عشرة

فأما معنى اليُسر، الذي هو ضد العُسر، ومعنى السهل، فمتقاربان، وقد يُردُّ إليهما معنى القلة بملاحظة، وأما رَدُّ اليَسار إلى معنى السهل والقليل، فيحتاج إلى تأملٍ. الرابعة عشرة: الرأس: حقيقةٌ في العضو المخصوص من الحيوان بجملته، وكذلك ما يرجع إليه، كرجلٍ أَرْأَسُ ورَأْسيّ: عظيم الرأس، وشاة رَأْسَاء: سوداء الرأس، ورئسَ الرجل فهو مرؤوس، ورَأَسَهُ بالعصا: ضرب رأسه، وغير ذلك. ويستعمَلُ مجازًا في قولك: عندي رَأسٌ من الغنم، ورؤوس؛ من مجاز التعبير بالبعض عن الكل. وفي قولك: فلان رَأْسُ القوم (¬1)، وعلاقته الرفعةُ والعلو، وكذلك ما يرجع إليه كَرَأَسْتُ القومَ. قال النَّمِر [من المتقارب]: وَيوْمَ الكلاَبِ رَأَسْنَا الجُموع (¬2) وترأَّسَ، ورَأَّسَهُ القومُ: [كتأمَّر وأمَّروه] (¬3). وفي قولك: حدُّهُ من رأس، وعلاقتُهُ الأوَّلية (¬4). وقولهم: القومُ رأسٌ عظيمٌ؛ أي جيشٌ على خيالة، لا يحتاجون إلى أحلاف، قال عمرو [من الوافر]: ¬

_ (¬1) "ت": "العلم ". (¬2) انظر: "ديوانه" (ص: 67). وعجز البيت: ضرارًا وجمعَ بني منقرٍ (¬3) في الأصل: "كأمراء وأمراة"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "الأولوية".

الخامسة عشرة

بِرأْسٍ (¬1) مِن بَني جُشَمَ بنِ بكرٍ ... نَدُقُّ بِهِ السُّهُولَةَ والحُزُونَا (¬2) يحتمل أن تكون علاقتُهُ الرفعةَ والعلو، ويعتقد ذلك بالنسبة إلى غيرهم، ولو وُجِدَ أخصّ من هذا من العلاقة كان (¬3) أولى. ورَأَسَ: يحتمل أن تكون علاقتُهُ الارتفاع (¬4)، فيرجع إلى العلاقة الحِسِّية (¬5). الخامسة عشرة: الرِّجْل: بكسر الراء، وسكون الجيم (¬6)، وقول الشاعر [من المتقارب]: أرتنيَ حِجْلاً على سَاقِهَا ... فهشَّ الفؤادُ لذاكَ الحِجِلْ فقلتُ ولم أُخفِ عَنْ صاحبي ... ألا بأبي حُسْنُ تلكَ الرِّجِلْ (¬7) فليس بناء أصلياً، ولكنه من النقل؛ أعني: نقل الحركة. ¬

_ (¬1) "ت": "ترأس". (¬2) انظر: "ديوان عمرو بن كلثوم" (ص: 88). وانظر: "المحكم" لابن سيده (8/ 543)، و"الصحاح" للجوهري (3/ 932). (¬3) في الأصل: "فكان"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "الإيقاع" والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "الجنسية"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت" زيادة: "وأما قول الشاعر: اصطفافًا بالرجل" كذا. (¬7) أنشدهما أبو العباس ثعلب، كما في "مجالسه" (1/ 97 - 98). وعنده: "أصل" بدل "حسن". وفي "اللسان" (11/ 265): "ألا بي أنا" وفي "المحكم" (7/ 379): "أَلائي".

السادسة عشرة

السادسة عشرة: جُمعَ الرجلُ على أَرْجُل، وعن سيبويه أنه قال: [لا] (¬1) نعلمه كُسِّرَ على غير ذلك. وعن ابن جني: استغنوا فيه بجمع القِلة عن جمع الكثرة (¬2). السابعة عشرة: [الرّجل] (¬3): تطلق في اللغة على وجوه: منها: العضو المخصوص، وهو حقيقةٌ فيه، قال ابن سِيدَه: والرِّجْل: قدم الإنسان وغَيره، قال أبو إسحاق: الرِّجْل: من أصل الفخذ إلى القدم أُنثى (¬4). ومنها: الطامةُ من الجراد يقال لها: رِجْل، والأقربُ أن يكون حقيقةً فيه؛ كما في العضو المخصوص؛ لخفاء العلاقة على تقدير جعله مجازًا. ومنها: إطلاقُ الرّجْل على السراويل، يقال: بزَّ عنه رِجله؛ أي: سراويله، وقال عمرو بن قمئة [من الطويل]: وقد بُزَّ عنهُ الرّجْلُ ظُلمَا ورَمَّلُوا ... علاوتَهُ يومَ العَروبةِ بالدَّمِ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 379)، (مادة: رجل). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

ولا شكَّ في أن هذا مجازٌ، [ويشبهُ أن يكون للمجاورة] (¬1)، ويجوز (¬2) أن يكون للتشبيه. ومنها: قولهم: صرَّ ناقته رجْلَ الغُراب، وهو ضربٌ من الصرِّ شديدٌ، قال الكُمَيتُ [من الخفيف]: صرَّ رجلَ الغُرابِ مُلكَكَ في النّاسِ ... على مَنْ أَرَادَ فِيْهِ الفُجُورَا (¬3) أي: منعهم من الفجور؛ كما يمنع هذا الصَرُّ الفصيلَ من الرضاع. وهذا مجاز؛ لأن رجلَ الغراب حقيقةٌ في عضوه المخصوص (¬4)، ثم استُعمِلَ في هذا الصرِّ مجازًا، ولعله من مجاز المشابهةِ؛ بأن تكون هيئةُ هذا الصر تشبهُ رجلَ الغراب، أو غيرِ ذلك من العلاقات، ثم تجوَّزَ بهذا الصرِّ عن المنعِ من الفُجور بعلاقة (¬5) المنع. ومنها: قولهم: فلان لا يعرِفُ يدَ الفرس من رِجْلِهَا؛ أي: شفتها العليا من السفلى. وهذا مجاز، إذا عرف أعلاها من أسفلها فهو من مجاز التشبيه. ومنها: قولهم: كان ذلك على رِجْلِ فلان؛ أي: عهده، وهذا معدودٌ في المجاز؛ ذكره الزمخشري، ولم يذكر العلاقة. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "يمكن". (¬3) انظر: "ديوانه" (1/ 180). (¬4) "ت": "عضو مخصوص". (¬5) "ت": "لعلاقة".

الثامنة عشرة

ومنها: قولهم: قام على (¬1) رِجْلٍ، إذا جدَّ في أمر حَزَبَه (¬2)، وذلك مجاز. الثامنة عشرة: قال ابن سِيدَه: الكَعْبُ: كل مفصل للعظام، وكعبُ الإنسان [العظمُ] (¬3) الناشزُ فوق قدمه، وقيل: الكعبان من الإنسان: العظمان الناشزان (¬4) من جانبي (¬5) القدم، ومن الفَرَس: ما بين الوَظِيفَين والسَّاقين، وقيل: ما بين عظم الوظيف (¬6) وعظم الساق، وهو الناتئُ من خلفه، والجمع: أكعُب، وكُعُوب، وكِعَاب (¬7). وقال الجوهري: الكَعْبُ: العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، وأنكر الأصمعي قول الناس: إنه في ظهر القدم. وكُعُوب الرُّمح - بالضم -: النواشز في أطراف الأنابيب. والكَعاب - بالفتح -، والكَاعِبُ: وهي الجارية حين يبدو ثديها للنهود، وقد كعُبَتْ تكعُب - بالضم - كُعوباً، وكعَّبت - بالتشديد - مثله. وبُرْدٌ مكعَّبٌ: فيه وشْيٌ (¬8) مربَعٌّ، وثوب مكعَّبٌ؛ أي: مطويٌّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "إذا"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 223). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "الناتئان". (¬5) في الأصل: "جانب"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل "الوظيفين"، والمثبت من "ت". (¬7) انظر: "المحكم" لابن سيده (1/ 285)، (مادة: كعب). (¬8) في الأصل و "ت": "شيء"، والمثبت من المطبوع من "الصحاح".

التاسعة عشرة

شديدُ الإدراج، والكَعْبُ: القطعةُ من السمن. ثم قال: والكَعْبَةُ: البيت الحرام، وذو الكِعَاب: بيتٌ كان لربيعة، وكانوا يطوفون به (¬1). قال الراغب: كَعْبُ الرجل: العظم الناتئ عند ملتقى القدم والساق. قال: وكلُّ ما بين العقدتين من القصب والرمح يقال له: كعب، تشبيهًا بكعب، يعني: في الفصل بين العقدتين؛ كفصل الكعب بين الساق والقدم (¬2). وقال بعضُ الفُضلاء: إن أصلَ الكتب الارتفاعُ والظهور، ومنه الكعبة، وامرأةٌ كَاعبٌ: إذا برز ثديها. قلتُ: ومن المجاز رجل عليُّ الكعب، قال ابن سيده: يوصَفُ بالشرف والظفر، قال (¬3) [من الرجز]: لمَّا عَلاَ كَعْبُكَ لي عَلِيْتُ أراد: لما أعلاني كعبك (¬4). التاسعة عشرة: [قال ابن سِيدَه] (¬5): سَبَغَ الشيءُ يَسبُغُ سُبوغاً: طال إلى الأرض، واتسع، وأَسْبَغَهُ هو، وإِسْبَاغُ الوضوء: المبالغةُ ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 213) (مادة: كعب). (¬2) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 712 - 713). (¬3) هو رؤبة بن العجاج، كما في "ديوانه" (ص: 25). (¬4) انظر: "المحكم" لابن سيده (1/ 285). (¬5) سقط من "ت".

فيه، وأَسْبَغَ الله عليه النعمة: أكملها ووسَّعها، وإنه لفي سَبْغَةٍ [من العيش] (¬1)؛ أي: سَعَة، ودلْوٌ سابغة: طويلة، قال [من الرجز]: دلْوُكَ دَلْوٌ يا دُلَيحُ سَابِغَهْ ... في كُلِّ أرجاءِ القَلِيبِ والِغَهْ وسَبَغَ المطرُ: دنا إلى الأرض، وامتدَّ (¬2). وقولُ ابن سِيدَه: طال إلى الأرض] (¬3)، في دخول الطول إلى الأرض في حقيقة السُّبوغ [نظر] (¬4)، وكذا أيضًا ما حكاه ابن سِيدَه: إنه لفي سَبْغَةٍ من العيش؛ أي: سعة، وإسباغ النعمة، مجاز، وظاهر (¬5) ما ذكره الزمخشريّ: أن أسبغَ الوضوء، وقد سَبُغَ شعرُهُ، وله شعر سابغ، وعجيزة سابغة، وهو سابغ، ومطر سابغ: مجاز؛ لأنها اندرجت تحت ترجمة المجاز. ومما اشتُقَّ من السُّبوغ: كَمِيُّ مُسْبغٌ: عليه سَابِغَة. وهي الدرع، والجمع: السوابغ، وسالت [تسبيغتُهُ] (¬6) على سابغتِهِ، وهي رفرف البيضة، قال [من الطويل]: وتَسْبِغَةٌ يَغْشَى المناكِبَ ريْعُهَا (¬7) ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 436). (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "فظاهر". (¬6) "ت": "سبيغته". (¬7) صدر بيت لأبي وجزة السعدي، كما نسبه الأزهري في "تهذيب اللغة" =

الوجه الرابع: شيء مما يذكر في علم العربية، وما يتعلق به من المفردات سوى ما تقدم، وفيه مسائل

ورَيْعُ الدِّرع - أول مفتوح، وبعده ياء ساكنة، وآخره عين مهملة -: فضولُ أكمامها (¬1). * * * * الوجه الرابع: شيء مما يذكر في علم العربية، وما يتعلق به من المفردات سوى ما تقدم، وفيه مسائل: الأولى: في (ثم) لغتان؛ الثاءُ والفاءُ، ومعلوم أن الفاءَ تُبدَلُ من الثاء في غير ما موضعٍ، وليس بقياس، فيستفاد النقلُ بذلك في بعض المفردات. الثانية: ذكر بعضُ المتأخرين ما يدلُّ على أن بعضهم قال: إن (ثم) مركبة، فإنه قال: إن المعوَّلَ عليه أن (ثم) ليست مركبة كما ذكر بعضهم، وإنما هي حرفٌ موضوع للمعنى الذي تختص به؛ كسائر الحروف، فلم يذكر كيفيةَ تركيبها. الثالثة: ليس يخفى [اشتهارُ] (¬2) نصوصِ أهل العربية في (ثم)، [و] (¬3) أنها للترتيب والتراخي، وأصلُها التراخي في الزمان، قال الله ¬

_ = (8/ 71)، وابن منظور في "اللسان" (8/ 432)، وعجزه: لدوادَ كانت نسجُها لم يُهَلْهَلِ وانظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 283). (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1223)، (مادة: ريع). (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت".

الرابعة

تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] , {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فاطر: 26] , {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] , فلأجلِ هذا المعنى؛ أعني: التراخي، امتنعَ أن تقعَ في جواب الشرط، فلا تقول: إن تعطني، ثم أنا أشكرك، كما تقول: فأنا أشكرك؛ لأن الجزاءَ لا يتراخى عن الشرط، فالمعنيان مُتنافيان، وكذلك أيضًا لا تقعُ في باب الافتعالِ والتفاعل؛ لمنافاة معناها معنى الافتعالِ والتفاعل، وتُفارِقُ في هذا الفاء، وتفارقها أيضًا في أن لا يعطفَ بها ما لا يصلحُ كونه صلةً على ما هو صلة، كقولك: الذي يطير، ثم يَغْضبُ زيد، الذباب (¬1)، بخلاف فيغضب زيد؛ لأن (يغضب) جملة لا عائدَ فيها على (الذي)، فلا يصحُّ أن تعطف [بـ (ثم)] (¬2) على الصلة؛ لأن [من] (¬3) شرط ما عُطِفَ على الصلة أن يَصلُحَ وقوعُهُ صلةً، والعطفُ بالفاء لا يشترط فيه ذلك؛ لأنها تجَعل ما بعدها مع ما قبلها في حكم جملة واحدة؛ لإشعارها بالسببية. الرابعة: [ذُكِرَ لتعليلِ الفرق] (¬4) بين (ثم) و (الفاء) في التراخي وعدمه: أنه لما تراخى لفظُها بكثرة حروفها تراخى معناها؛ لأن قوةَ اللفظ مؤذنةٌ بقوة المعنى؛ ذكره ابن يعيش (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: "والذباب"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "شرح المفصل" لابن يعيش (8/ 96).

الخامسة

وهذا يقتضي أن تراخيَ معناها تبع لتراخي لفظها، ومعلولٌ له، وهو عكسُ ما وجدته عن أبي الحسن بن عصفور أنه لما تعرض لبيان قول أبي علي: إن (ثم) مثل الفاء إلا أن فيها مُهلة، قال: فإنما يعني: أنها مثلها في الترتيب، إلا أنه ترتيبٌ فيه مُهلة وتراخٍ، وكأنه لمّا اختصت بمعنى يزيد على معنى الفاء، خُصَّ لفظُها بلفظ أَزيدَ من لفظ الفاء، فكانت على أكثر من حرف، والفاء على حرف واحد (¬1). وهذا يقتضي أن تكونَ زيادةُ اللفظ تبعًا لزيادة المعنى، وتوافقُ (¬2) ما ذُكِرَ عن ابن درستويه: أنَّ الواوَ هي الأصلُ؛ أي: من هذه الثلاثة (الواو) [و {الفاء)، و (ثم)] (¬3)، [و (الفاء) و (ثم) فرعان على (الواو)؛ لأن (الواو) و (الفاء) و (الميم)، (¬4) متقاربات من جهة المخرج، إذ (الفاء) من باطن الشفة، و (الواو) و (الميم) من نفس الشفة، فلذلك هذه الحروف الثلاثة تجمع ما بين الشفتين في اللفظ والمعنى، وخصت بالاستعمال دون غيرها, ولما اختصت (ثم) بمعنى زائد على (الفاء)، خُصَّت بالثاء المقاربة لمخرج الفاء؛ لتدلَّ على معنى ثالث. الخامسة: قد يأتي في الاستعمال ما (¬5) يَبْعُدُ حملُ ظاهرِهُ على ¬

_ (¬1) انظر: "شرح الجمل" لابن عصفور (1/ 234). (¬2) "ت": "ويكون اللفظ موافقًا". (¬3) زيادة يقتضيها السِّياق. (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "قبل".

التراخي الزماني مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11] , وأمرُ الملائكةِ بالسجود لآدمَ إنما كان قبل خلقنا. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] وجَعلُ زوجها [قُبَيلَ] (¬1) خَلقِها. ومنه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] وبعده: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] [والسماءُ] (¬2) مخلوقة قبل الأرض بدليل قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] , ثم قال تعالى] (¬3): {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. ومنه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، والاهتداء هو ما تقدم ذكره، فلا يتصوَّرُ تراخيه عنه. ومنه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93] ولم ينقطعْ الاتقاءُ والإيمان, ثم حدثَ بعد ذلك اتقاءٌ وإيمان آخر، ثم حدث اتقاءٌ وإحسان. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "ما لا". (¬3) زيادة من "ت".

ومنه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] والتوبةُ لا تتراخى عن الاستغفار. ومنه: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7 - 9] والتسويةُ والنفخُ لآدمَ المتقدم ذكره في قوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ}، وقد قدّم عليهما: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}، وهو متأخر عنهما. ومنه: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] وإنكارُهُم غيرُ متراخٍ عن معرفته. ومن الشعر [من المتقارب]: سَأَلْتُ رَبِيْعَةَ مَنْ خَيْرُهَا ... أَباً ثُمَّ أُمًّا فقَالوُا لِمَهْ (¬1) لأنَّ كونَ الشخصِ خيراً أُمًّا [من غيره] (¬2)، لا يتأخرُ عن كونه خيراً أباً من غيره. ومنه: [من الخفيف]: إنَّ مَنْ سَادَ ثمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قدْ سَادَ قبلَ (¬3) ذلك جَدُّهْ (¬4) ¬

_ (¬1) البيت للأقيشر الأسدي، كما في "الأغاني" (11/ 268). (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل و "ت": "بعد"، والمثبت من "ديوان أبي نواس". (¬4) البيت لأبي نواس، كما في "ديوانه" (ص: 493)، وورد عنده: قل لمن ساد ثم ساد أبوه قبله ... ثم قبل ذلك جدُّه والبيت - كما أتى به المؤلف - شاهد على أن "ثم" لمجرد الترتيب في =

السادسة

فإن المدحَ إنما هو بتوارثِ السؤدد، وقد عطف بالمتقدم على المتأخر. السادسة: هذه ظواهرُ قويةٌ في أنَّ (ثم) قد تكونُ بمعنى (الواو)، وفيها كثرة، وقد قال بذلك بعضهم (¬1) (¬2). ¬

_ = الذكر، وهذا أحد أجوبة ثلاثة عن إشكال، وهو أن "ثم" هنا قد عطفت المتقدم على المتأخر، وهو عكس وضعها، فأجاب الفراء: بأن "ثم" فيه للترتيب الذكري، ويقال له: الترتيب الإخباري، وترتيب اللفظ أيضًا، وذلك أن "الفاء" و"ثم" يكونان لترتيب الأفعال، و"ثم" هنا لترتيب القول بحسب الذكر والإخبار والتلفظ، وإليه ذهب ابن مالك في "التسهيل" فقال: وقد تقع "ثم" في عطف المتقدم بالزمان، اكتفاء بترتيب اللفظ. وفي هذا الجواب اعتراف بأن "ثم" هنا للترتيب بدون تراخٍ ومهلة، وهو خلاف وضعها. وأجاب ابن عصفور - وهو الجواب الثاني -: بأن "ثم" هنا على بابها، بتقدير: أن الممدوح ساد أولًا، ثم ساد أبوه بسيادته، ثم جده. وقد رد المرادي والدماميني وغيرهما على قول ابن عصفور هذا. وأجاب الأخفش - وهو الجواب الثالث -: بأن "ثم" هنا بمعنى الواو، لمطلق الجمع. ورد بعضهم مقالة الأخفش هذه. وانظر: "خزانة الأدب" للبغدادي (11/ 37). (¬1) "ت": "بعضهم بذلك". (¬2) منهم الأخفش، كما تقدم، وقد رد عليه بعضهم: بأنه لو صح جريانها مجرى الواو, لجاز وقوعها حيث ما يصلح إلا معنى الواو، فكان يقال: اختصم زيد ثم عمرو، كما يقال: اختصم زيد وعمرو، ولكن ذلك غير مقول باتفاق. قال الشاطبي في "شرح الألفية": قال الماوردي: الدليل على أن "ثم" =

[و] (¬1) المتأخرون من نحاة الأندلس - أو من شاء الله منهم - لا يختارون مثل هذا، من إبدال معنى حرف بغيره، ويرون أن كلَّ موضع يوجدُ في القرآن، وفي الكلام الفصيح من الكلام، قد عُدِلَ به في القياس عن ظاهره أوحقيقته إلى معنى آخرَ لا تقتضيه حقيقةُ الظاهر] (¬2) في تلك الكلمة، فإنه ينبغي أن يتأوّلَ الكلامُ تأولاً يُبقي تلك الكلمةَ على حقيقتها، كما فعلوا في {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] بأن أخذوا معنى الكلام وقدروه تقديرًا يصح أن يتعدى بـ (إلى) حتى كأنه قيل: مَنْ يُضيفُ نصري إلى الله؛ أي: إلى نصرة الله، [و] (¬3) كما فعل في: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] نظرًا إلى أن المصلوب لازم للجذع، ثابت فيه، فصحَّ أن يتعدى بـ (في). ¬

_ = لا تكون بمعنى الواو، إجماع الفقهاء على أنه لا يجوز أن يقال: هذا بيمن الله وبيمنك، ولكن أجازوا أن يقال: هذا بيمن الله ثم بيمنك. قال: ولو كانت الواو ما فروا إليها، انتهى. قال البغدادي: وهذا لا يرد على الأخفش، فإنه لم يدع أن "ثم" بمعنى الواو دائما، وإنما يريد: قد تكون بمعناها في بعض المواد، وذلك على سبيل المجاز. قال الدماميني: لا خفاء في كمون القائل بأن "ثم" تستعمل بدون ترتيب كالواو يقول: بأن ذلك استعمال مجازي، ولا يشترط في آحاد المجاز أن تنقل بأعيانها عن أهل اللغة، بل يكتفى بالعلاقة على المذهب المختار. وانظر: "خزانة الأدب" للبغدادي (11/ 39 - 40). (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

وقال بعضهم: وهذا أولى من قولِ مَنْ أخرجها إلى معنى (على). وكذلك يُضمّنون الأفعالَ معنى الأفعالَ التي تتعدى بذلك الحرف، وهو كثيرٌ في تصرفهم؛ كما فعلوا في تأويلِ ما استُدِلَّ به على أن (على) توضع مكانَ (عن)، كقولِ (¬1) قحيف [من الوافر]: إذا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَني رِضَاهَا (¬2) فضمَّنوا (رضيت) معنى (عطفت) لتتعدى بـ (على). وكما تأولوا ما استدلَّ به من قال: إن (على) توضع موضعَ الباء من قول أبي ذؤيب [من الكامل]: وكأنَّهنَّ رِبابَةٌ وكَأنَّهُ ... يَسَرٌ يُفيضُ على القِداحِ وَيصْدَع (¬3) يصف ابنًا وحماراً فضمنوا (تفيض) معنى (يدفع) لتتعدى بـ (على). وكما تأولوا قوله تعالى: المُستَدَلُّ به على أن (على) يوضع موضع [(من)] (¬4): {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2]؛ أي: من الناس، وضمنوا (اكتالوا) معنى (حكموا)؛ أي: إذا حكموا على الناس في الكيل استوفوا. وهذا كثير في تصرفهم (¬5)؛ كما قدمناه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يقول"، والمثبت من "ت". (¬2) تقدم ذكر البيت وتخريجه. (¬3) تقدم ذكر بيت أبي ذؤيب وتخريجه. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) أفرد ابن جني في "الخصائص" (2/ 306) وما بعدها، بابا في استعمال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحروف بعضها مكان بعض فقال: هذا باب يتلقاه الناس منسولاً ساذجاً من الصنعة، وما أبعد الصواب عنه، وأوقفه دونه؛ وذلك أنهم يقولون: إن "إلى" تكون بمعنى "مع"، ويحتجون لذلك بقوله سبحانه {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي: مع الله، ويقولون: إن "في" تكون بمعنى "على"، ويحتجون بقوله عزَّ اسمُه {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: عليها، ويقولون: تكون الباء بمعنى "عن"، و"على"، ويحتجون بقولهم، رميت بالقوس؛ أي: عنها وعليها. ثم قال: ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لكنا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع على حسب الأحوال الداعية إليه المسوغة له، فأما في كل موضع وعلى كل حال، فلا. ألا ترى أنك إن أخذت بظاهر هذا القول غفلاً هكذا لا مقيدًا لزمك عليه أن تقول: سرت إلى زيد، وأنت تريد معه، وأن تقول: زيد في الفرس، وأنت تريد: عليه. ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش ثم قال: ولكن سنضع في ذلك رسماً يعمل عليه، ويؤمن التزام الشفاعة لمكانه: اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر، فإن العرب قد تتسع، فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه؛ إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه، وذلك كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي: مع الله، وأنت لا تقول: سرت إلى زيد؛ أي: معه، لكنه إنما جاء {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} لمَّا كان معناه: من ينضاف في نصرتي إلى الله، فجاز لذلك أن تأتي هنا "إلى"، وكذلك قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] وأنت إنما تقول: هل لك في كذا، لكنه لما كان على هذا دعاء منه - صلى الله عليه وسلم - صار تقديره: أدعوك وأرشدك إلى أن تزكى. ثم قال: ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئًا كثيرًا لا يكاد يحاط به، ولعله لو جمع أكثره لجاء كتاباً ضخمًا، وقد عرفت طريقه، فإذا مرَّ بك شيء منه فتقبله وأنس به، فإنه فصل من العربية لطيف حسن يدعو إلى الإنس بها والفقاهة فيها، انتهى. =

وأقول: إن كان مخالفوهم يدَّعون أن اللفظَ حقيقةٌ فيما يذكرونه لظهور المعنى فيه، وكون الأصل في الإطلاق الحقيقةَ، فقد يجاب عن ذلك على طريقة الأصوليين، بأنَّ الأصلَ عدمُ الاشتراك، وأنَّ المجازَ أولى منه، لكن التصريحَ بهذا الترجيح عزيزٌ في كلام النحاة، أو معدومٌ. وإن كان مخالفوهم يدعون الاستعمالَ المجازيَّ بهذا المعنى، وليس في ألفاظهم - فيما عَلمتُ - تصريحٌ بدعوى الحقيقة والاشتراك، بل يقولون: يجيء كذا لمعنى كذا، أو يوضع كذا موضعَ كذا، وما أشبه ذلك، وهذا ليس بتصريح بكونه (¬1) حقيقةً فيه، والتأويلاتُ التي يبدونها مجازٌ أيضا، فيلزمهم إقامةُ دليلٍ على ترجيح المجاز الذي التزموه على المجاز الذي يدعيه خصومُهم، [وأن يحيل في ترجيح التضمين بكونه في الأفعال أو الأسماء على المجاز في الحروف، فلهم تأويلات يلزم منها المجازُ في الحروف، وتأويلاتٌ تقتضي تعدُّدَ المجاز بالنسبة إلى المجاز الذي يدعيه خصومهم] (¬2)، وتوجبُ احتياجاً إلى زائد على مُجرَّدِ التضمين؛ ليصحَّ المعنى، ويطابق اللفظ. فمما يلزم فيه المجازُ في الحرف ما قيل في {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} [طه: 71]، وصرفُهُمْ لـ (في) عن معنى (على)، فإن (في) للظرفية حقيقةً، وليست حقيقةُ الظرفية موجودةً في الجذع للمصلوب، فهو مجازٌ في (في)، ¬

_ = قلت: وقد تقدم عند المؤلف رحمه الله كلام ابن السِّيْد في "شرح أدب الكاتب " بتفصيل أكثر في هذا الموضع. (¬1) "ت": "في كونه". (¬2) سقط من "ت".

لكنه غيرُ المجاز الأول. ومن هذا النوع أنهم سلَّمُوا، [أو مَنْ سلَّم] (¬1) منهم، حملَ التراخي [في] (¬2) (ثم) على التراخي بين الرُّتبتين، أو البُعدِ المعنوي؛ كما سيأتي تأويلُهم في: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] وأن (ثم) فيه للبعد المعنوي الذي بين المعطوف والمعطوف عليه، وتأويلهم في: سَألْتُ رَبِيْعَةَ ... البيت، أنه للبُعد المعنوي، فقد جعلوا (ثم) - وهو حرف - مستعمل (¬3) مجازًا، وهو يجوز في الحرف؛ لأن الحقيقةَ هو التراخي في الزمان. ومما يحتاجون إلى تعدُّدِ المجاز، لينطبقَ (¬4) اللفظُ على المعنى قولُ الراعي [من الوافر]: رَعَتْهُ أَشْهُرًا وخَلاَ عَلَيهَا ... فطَارَ النِّيُّ فِيهَا واسْتَعَارَا (¬5) والنِّي: الشحمُ، ومعنى فطار النِّي: أنها سمنت بسرعة، وقوله: فاستعارا: من السعر (¬6)، كما قالوا: ناقة مِشْيَاطٌ، وهو من: شَاطَ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "مستعملاً"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "ليطلق"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "شعر الراعي النميري وأخباره" (ص: 79). (¬6) "ت": "السعير".

يَشِيطُ، ووزنه: افتعل (¬1)، وكان أصلُه: استعر، ثم أشبعَ الفتحةَ فصارت ألفًا، فتُؤوِّلَ ذلك بأنْ ضُمّنَ الكلام فعلًا يتعدى بـ (على) ليخرجَ عن أن يكونَ بمعنى [اللام] (¬2)، فإن الظاهرَ أن المرادَ: خلا لها، فقيل: لأنَّ المكانَ إذا خلا لها فرَعَتْهُ وحدَها، فقد صار النِّي عليها لكثرتها, وليس هناك ما يرعاه غيرُها، وهذا انتقال من كون الشرعي (¬3) خلا لها إلى كون النِّي صار عليها؛ لأن الرعي (¬4) الخاليَ لها لما كان سببا لعلوِّ النَّي عليها صار كأنه على عليها، وهذا مجاز، ليس بمجازِ التضمين، الذي ادُّعي أنه كذلك، وأنه ضَمَّنَ الكلامَ فعلًا، يتعدى بـ (على). ومن ذلك ما قالوه في قول ذي الإِصبع [من البسيط]: لاهِ ابنُ عَمِّكَ لا أَفضَلْتَ في حَسَبِ ... عَنّي ولا أَنْتَ دَيَّاني فتَخْزُوني (¬5) أنه من التضمين؛ لأنه إذا كان أفضلَ فكانَ فوقَهُ في الحَسَب، فقد زال عنه، وصار عنه في حَيِّزٍ، فكأنَّهُ قال: لاهِ ابنُ عمِّكَ ما زال قدرُك عن قدري، ولا ارتفع شأنك عن شأني. ¬

_ (¬1) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 343). (¬2) في الأصل: "الكلام"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "الراعي"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "الراعي"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "المفضليات" (ص: 160). والبيت منسوب إلى خفاف بن ندبة كما في "ديوانه" (ص: 119).

السابعة

السابعة: في ذكر تأويلاتِ من أبي أن تكون (ثم) بمعنى الواو في الاستعمالات التي ذكرناها، أما قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] فيقول: على [تقدير:] (¬1) خلقنا أباكم، ثم جعلناه صورةً ناطقة حية، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا، إلا أنه حُذِفَ المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مقامَهُ، فيكون إذ ذاك مثلَ قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] ألا ترى أن التقديرَ: خَلَقَ أباكم من طين، وهذا أولًا قد يُنازَعُ في أن التقدير: خلق أباكم من طين؛ لأن ابتداءَ الغاية الذي تشرَّبَ معنى التسبب (¬2) لا يوجبُ أن لا يكونَ ثَمَّ واسطةٌ. ثم نقول: الذي ذكر من التأويل لا يكفي في الخروج عن السؤال؛ لأن التراخي الذي بين التصوير والخلق، وبين السجود، إن صحَّ بهذا التأويل أنْ [يكونَ] (¬3) المرادَ، فيحتاج إلى تأويل آخر في التراخي بين الخلق والتصوير، إذا (¬4) جعل التصوير لآدمَ - عليه السلام - كما قيل؛ لأن الخلقَ بمعنى: الإيجاد للجملة، لا يتراخى عنه التصوير، بل هو معه، فإن أُوِّلَ بمجاز (¬5) زاد المجاز، وإن كان المرادُ تصويرَ بنيه، فهو متراخٍ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "التسبيب". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل "إذا"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "فإن الأول مجاز".

عن سجود الملائكة لآدم، فالسؤالُ المهروبُ [منه] (¬1) في (ثم) بالنسبة إلى تَأخُّرِ خلق البنين (¬2) عن السجود عائدٌ فيها بالنسبة إلى تراخي التصوير عن الخلق. وأما {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] [فقيل فيه بأن معناه: خلقكم من نفس واحدة، ثم جعل منها زوجها] (¬3) بعد التوحدِ، فعطف الجملة التي هي: {جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} على {وَاحِدَةٍ}؛ لأنها صفة، والجملةُ إذا كانت صفةً في تأويل المفرد، فشاع عطفُهَا على المفرد [لذلك] (¬4)، وعبَّر بعضهم عن هذا (¬5): بأن الفعلَ، الذي هو (جعل)، معطوف على ما في (واحدة) من معنى الفعل، وكأنه قال من نفسٍ وُحِّدَتْ، أي: أفردت، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، ومعلوم أن جعل زوجها منها إنما كان بعد إفرادها. وأما قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] الآية، واقتضاؤها؛ لأن خلقَ الأرضَ متقدّمٌ على خلق السماء، وهو متأخر بدليل: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] , فأُجيب عنه بوجهين: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "البني"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "ذلك".

أحدهما: أن الدَّحوَ غيرُ الخلق، فإنه البَسطُ، والمعنى: بعد خلق السماء بَسَطَها، وإذا كان غيرَهُ، لم يلزمْ تأخرُ خلقِ الأرض عن خلق السماء، بل جازَ أن يتقدمَ خلقُها خلقَ السماء، و [يتأخرَ] (¬1) بسطُها عن ذلك. والثاني: أن تكون (بعد) بمعنى (مع)، فيكون التقدير: والأرضَ مع ذلك دحاها، واستُشْهِدَ [على] (¬2) أنَّ (بعد) بمعنى (مع) بقوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] وبقولِ الشاعر [من الطويل]: فَقُلْتُ لها فيئِي إِليكِ فإِنّنَي ... حَرامٌ وإنّي بَعْدَ ذاكِ لَبِيبُ (¬3) وفُسِّرَ اللبيبُ بالملبي، والتلبيةُ مع الإحرام، وعن قراءة مجاهد: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} (¬4) [النازعات: 30]. والوجه الأول ينبني على أنَّ خلقَ الأرض قبل خلق السماء، وقد رُوي ذلك عن غير واحد من المفسرين (¬5). ¬

_ (¬1) الأصل: "بتأخرها"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) البيت للمُضَرِّب بن كعب، كما في "الأمالي" للقالي (2/ 171)، و"الصحاح" للجوهري (1/ 217)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 729)، (مادة: ل ب ب)، وانظر: "خزانة الأدب" (2/ 96). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "تفسير الطبري" (1/ 193).

وأما قولُهُ تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] فَأُوِّلَ بأن المرادَ دائمٌ على الاهتداء، وكذلك: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 90]؛ أي: دوموا، وكذلك: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93]: ثم داموا على الانتقاء والإيمان, ثم داموا على الانتقاء والإحسان. ولقائل أن يقول: ليس في هذا بيانٌ واضحٌ يُتخلَّصُ به عن سؤال التراخي، فإن الدوامَ هو الاستمرارُ في الزمان، فإذا أُخذَ فيه الزمن الأول بعد انقضاء زمن المعطوف عليه، فالذي هُرِبَ منه في أمر التراخي بالنسبة إلى الاهتداء عائدٌ بالنسبة إلى الدوام. وأما قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7 - 9] , فقد أُوِّل بأن معناه: وبدأ خلق آدمَ من طين، ثم [جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، فيكون النفخُ والتسوية متأخرين عن] (¬1) حكم الله (¬2) بجعل نسله من سلالة من ماء مهين، وذكر هذا [المؤوِّلُ أنه بيّنٌ] (¬3) أنَّ العربَ تقول: فعل، بمعنى: حكم بالفعل، قال: إن جعلت النفخ والتسوية لآدم - عليه السلام -؛ كما أنهما له في قوله سبحانه وتعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) لفظ الجلالة (الله) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت".

فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71 - 72] وإن جعلتهما لنسله (¬1) لم نحتج في الآية إلى تأويلٍ. ولا يخفى عليك أن (¬2) هذا ليسَ من باب تضمين الفعل معنى فعلٍ آخرَ ليُعدَّى تعديتَهُ؛ لأنَّ تعدي {جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ} [السجدة: 8] لا يحتاج في التعدي إلى تضمين، وإنما هذا تَجَوُّزٌ بجعل فَعْل موضعَ فِعْل، ثم لا بيانَ فيما ذكر يَخلُصُ به من معنى التراخي، فإن (¬3) الحكمَ بجعلِ منسله من سلالة يسأل عنه، وهل حملُهُ [على (¬4) العلم، أو] (¬5) على ما يلازمُ العلمَ على مذهب المتكلمين المثبتين لكلام النفس، أو على غير هذين؟ والأولان يستحيلُ فيهما التراخي عن شيء من الأشياء، وغيرُهُما يحتاج إلى ذكره وبيانه. وأما قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] , فقد أُوِّل على أن (ثم) فيه للبُعدِ المعنوي الذي بين المعطوف والمعطوف عليه، لا للبُعدِ الزماني؛ لأن من عرف شيئًا ينبغي أن يكونَ أبعدَ الناس من إنكاره، واستعمالُها حيثُ زاد (¬6) البعدُ بين الشيئين من ¬

_ (¬1) في الأصل: "نسله"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "بأن". (¬3) "ت": "لأن". (¬4) في الأصل: "إلى" والصواب ما أثبت. (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "يزاد".

غير جهة الزمان سائغٌ في الكلام نحو قول القائل: أشعرُ الناسِ فلانٌ، ثم فلان (¬1)، إذا تباعدَ ما بينهما في جودة الشعر. وهذا أيضًا ليس إلا مجازًا في استعمال التراخي، الذي هو حقيقة في الزمان، في البعد المعنوي، فلابد فن ترجيحه على المجاز الذي ادعاه خصومهم. وأما قول الشاعر: سألتُ ربيعةَ ... البيت. فقد حمله على البعدِ المعنوي، وَوُجِّهَ: بأن الشرَّ الذي يلحق الشخصَ في الانتساب من قبل أبيه أشدُّ من الشر الذي يلحقه من قبل أمِّهِ من جهة: أن الاعتمادَ في الانتساب إنما هو على الآباء، فتفاوتُ ما بين الشرين كذلك، وهذا كالذي قبله في أنه مجاز يقابَلُ بمجاز (¬2)، ويحتاج إلى الترجيح. وأما [قوله] (¬3): إنَّ منْ سَادَ ثمَّ سادَ أبوه ... البيت. فقال أبو الحسن الأُبَّدِي (¬4)، فيما وجدتُهُ عنه: وأما البيتُ فيتخرجُ ¬

_ (¬1) "ت": "قال". (¬2) "ت": "مقابل لمجاز". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) هو الحسن علي بن محمَّد بن محمَّد بن عبد الرحمن الخشني الأُبَّدي بضم الهمزة وتشديد الباء الموحدة، وبعدها قال مهملة، نسبة إلى أبدة مدينة بالأندلس من كورة جيان، بناها عبد الرحمن بن الحكم وجددها ابنه محمَّد. انظر: "اللباب في تهذيب الأنساب" لابن طاهر (1/ 23)، و"معجم البلدان" لياقوت (1/ 64)، و"نفح الطيب" للتلمساني (2/ 551).

على ظاهره من سؤدَدِ الممدوحِ أولًا، ثم سؤدَد أبيه بعده، ثم سؤددِ الجدِّ بعده، فيكون مثل قول الآخر [من البسيط]: وكمْ أبٍ قدْ عَلاَ [بابْنٍ] (¬1)، ذُرَى حَسَبٍ ... كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ عَدْنَانُ (¬2) لِتَبقَى (ثم) على بابها، ومما يبينُ أن (ثم) على بابها قولُهُ بعد ذلك: (جده). وهذا الذي ذكره من العمل والاستشهاد بالبيت، فقد وجدناه عن أبي الحسن بن عُصفُور أيضًا، وأنشدَ في البيت: ذُرَى شَرَفٍ (¬3). ولقائل أن يقول: لا نسُلِّمُ أنه تبقَى (ثم) (¬4) على بابها على تقديرِ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) البيت لابن الرومي، كما في "ديوانه" (6/ 424). (¬3) لم أقف عليه عند ابن عصفور في "شرح الجمل". قال المرادي في "الجنى الداني": ما ذكره ابن عصفور في تأويل البيت لا يساعد عليه قوله: "قبل ذلك"، يعني قوله في البيت الذي مضى: ثم ساد قبل ذلك جده. قال الدماميني في "الحاشية الهندية": وذلك لأن مضمون الكلام على ما أجاب به ابن عصفور أن سؤدد الابن سابق لسؤدد الأب، وسؤدد الأب سابق لسؤدد الجد، والسابق للسابق لشيء سابق لذلك الشيء، فتكون سيادة الابن سابقة لكل من سيادة أبيه، وسيادة جده، وسيادة الأب سابقة لسيادة الجد، وقول الشاعر: "قبل ذلك" منافٍ لهما بلا شك، انتهى. وانظر: "خزانة الأدب" للبغدادي (11/ 39). (¬4) "ت": " (ثم) تبقى".

الحملِ على هذا المعنى الذي استشهدَ بالبيت عليه، وذلك لأنَّ المعطوفَ هو سؤددُ الأب على سؤدَدِ الابن، ثم سؤدَدُ الجدِّ على سؤدد الأب، أو على سؤدد الابن. وإذا اعتبرتم هذا المعنى الذي ذكرتموه، فلا يتراخى سؤدَدُ الأب، ولا سؤددُ الجدِّ الممدوح، بل يحصلان معًا، نعم يتراخى سؤددُ الأب والجد عن وجود الممدوح، ولم يقعِ العطفُ بـ (ثم) بين سؤدد الأب والجد، وبين وجود الممدوح، وإنما وقعَ بين السؤددين. فإن قال: ها هنا ترتُّب بين السؤددين، وهو الترتبُ (¬1) بين العلة والمعلول. قلنا: وهذا قد يمكنُ في الترتيب، فأين التراخي بين العلة والمعلول؟ فيحتاج إلى أن يَرُدَّ الأمرَ إلى الترتيب، لا إلى التراخي، إلا على استكراهٍ وتعقيدٍ. وأيضًا فذُروةُ الشيء أعلاه، ولا تَتساوى دلالةُ هذا اللفظ مع دلالة لفظِ (ساد)؛ لأن ظاهرَ لفظ (ساد) حصولُ أصل السيادة، [والعلوُّ إلى الذروة، لا يقتضي ظاهرُه عدمَ حصولِ أصل الشرف؛ لأن العلوَّ إلى الذروة أخصُّ من مطلق العلو، فإذا قيل: إن المفهومَ يقتضي عدمَ الحصول في أعلى الذروة، فلم يقتضِ حصولَ أصل العلو؛ لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الترتيب"، والمثبت من "ت"

إذا كان الأمرُ كذلك، وأن ظاهرَ (ساد) يقتضي حصولَ أصل السيادة] (¬1)، واعتبرتم هذا المعنى الذي ذكرتموه، لزم أن لا تكونَ لأبي هذا الممدوحِ وجدِّهِ سيادةٌ قبلَ وجود سيادة هذا الممدوح، وهذا رديءٌ في المدح، بل هو ذمٌّ، أو قريبٌ من الذم؛ لاقتضائه أن هذا الممدوح ليس له أصلٌ في السيادة بسؤدد أبيه وجده، وأيضًا فإذا جَعلتَ سؤددَ الجدِّ متراخياً عن سؤدد الأب لم يستقمْ مع اعتبارك هذا المعنى الذي استشهدْتَ على البيت [به] (¬2)، فإنه على هذا التقدير يكونان معًا ناشئين عن سؤدد الممدوح. وأما قوله: ومما يبينُ أنَّ (ثم) على بابها قولُه بعد ذلك: (جده)، فهذا قد يكفي في نفي كون (ثم) بمعنى الواو, لكنه لا يعين المعنى الذي ذكره للإرادة. ولئن قال (¬3): ما ذكرتموه من الفرق بين علوِّ ذروة الشرف، وبين (ساد) مغالطةٌ؛ لأنا إنما نظرنا بين (على) و (ساد) الذي ذكر في الشعر، وهما سواء بالنسبة إلى الدلالة على أصل السيادة والعلو، [وعلى الريادة] (¬4). قلنا: لابدَّ أن يكونَ المرادُ علوَّ عدنان في ذُروة الشرف، وعلى ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "وقال لأن". (¬4) سقط من "ت".

الثامنة

هذا (¬1) يتأتَّى ما ذكرناه من الفرق، وإنما يتعينُ حملُ (على) على ذروة الشرف؛ لأنه لو لم يكنْ كذلك لما حصل الاستشهادُ الذي قصدَهُ الشاعرُ، ونظرَ به. قال الأُبَّدي، فيما وجدناه عنه: أو يكون الترتيب بالنسبة إلى النظر في السيادة، فكأنه يقول: إن من نظر في سيادته، فوجده سيداً، ثم نظر في سيادة أبيه، فوجده كذلك، ثم نظر في سيادة جدِّهِ (¬2) فوجده كذلك، وهذا ممكنٌ - أيضًا -. الثامنة: في ذكر طريق أُخرى يَخرجُ بها بعضُ الألفاظ التي تنفي الترتيب أو التراخي، والفرقُ بين هذه الطريقة، وبين الطريقةِ السابقةِ من جَعْلِ [(ثم)] (¬3) بمعنى الواو: أن (¬4) هذه الطريقةَ تُخصِّصُ جعلَها بمعنى الواو ببعض المواضع، وهذه الطريقة وجدناها في كلامٍ منسوبٍ إلى العلامة أبي محمَّد بن بري النحوي المصري (¬5)، فأردتُ أن أذكرَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "هل يتأتى"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "هذه"، والتصويب من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "وأن"، والصواب ما أثبت. (¬5) هو الإِمام العلامة، نحوي وقته أبو محمَّد عبد الله بن بري بن عبد الجبار ابن بري المقدسي ثم المصري الشافعي، كان عالمًا بكتاب سيبويه وعلله، قيما باللغة وشواهدها, له حواشي على "الصحاح" للجوهري، وصل فيها إلى أثناء حرف الشين، وقيل: سماها: "التنبيه والإفصاح عما وقع من الوهم في كتاب الصحاح" وهو أجود تآليفه، وكان أستاذه ابن القطاع قد ابتدأها، وبنى ابن البري على ما كتب أستاذه، وله حاشية أخرى على "درة =

كلامه بكماله (¬1)، وإن كانَ المقصودُ [الآن] (¬2) بعضَهُ لغرابته، وحصولِ (¬3) فوائدَ أخرى منه. والذي وجدناه: أنه سُئِلَ أبو محمَّد بن بري - رحمه الله - عن قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] إلى قوله - عز وجل -: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]؛ ما معنى (ثم) (¬4) هنا؟ فقال: الجواب: اعلمْ أنَّ الأصلَ السابعَ في (ثم) أن تكونَ لترتيب الثاني على الأول في الوجود لمُهلَةٍ بينهما في الزمان؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون: 31] وكقولك: جاء زيد، ثم جاء عمرو، قال سيبويه: هما مَجيئان، ويجيءُ كثيرًا لتفاوتِ ما بين رتبتين (¬5) في قصد المتكلم، وهذا على أقسام: فمنه: تفاوتٌ بين رتبتي الفعلِ مع السكوت عن تفاوتِ رتبتي الفاعل؛ نحو قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] فـ (ثم) ¬

_ = الغواص" للحريري، توفي سنة (582 هـ). انظر: "إنباه الرواة" للقفطي (2/ 110)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (21/ 136)، و"كشف الظنون" للحاجي (1/ 741)، (2/ 1073)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 237). (¬1) "ت": "بكلامه". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "وبحصول". (¬4) "ت": "ها هنا". (¬5) "ت": "الرتبتين".

ها هنا (¬1) لِتفاوتِ روتبة الخلق والجعل من روتبة العدل، مع السكوت عن وصف العادلين، ومثل ذلك الآية المسؤولُ عنها؛ لأن (ثم) فيها [تُثبت تفاوتَ رتبةِ الفَكِّ والإطعام من مرتبة الإيمان, إلا أنَّ فيها] (¬2) زيادةَ تعرضٍ لوصف المؤمنين بقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 17، 18]. ومنه: تفاوتٌ بين رُتبتي الفاعل بالنسبة إلى فعله، نحو قولك: قارئُ القرآن في الصلاة له بكلّ حرفٍ [مئةُ حسنة، ثم قارئ القرآن في غيرِ صلاةٍ له بكلِّ حرفٍ] (¬3) عشرُ حسنات، والمُصلِّي بالمسجد الحرام أفضلُ من المصلي بغيره (¬4)، ثم المصلي بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ من المصلى بغير المسجد الحرام، ثم المصلي بالمسجد الأقصى أفضلُ من المصلي بغير المسجدِ الحرام والمسجد النبوي، فـ (ثم) ها هنا لتفاوتِ رتبة مُصَل من مصلٍّ بالنسبة إلى صلاته، وقارئٍ من قارئٍ بالنسبة إلى قراءته. ويجيءُ هذا المعنى أيضًا مقصودًا بالفاء العاطفة؛ نحو: خذِ الأفضلَ فالأكملَ، واعملْ الأحسنَ فالأجمل، ونحو: "رحم الله المحلقين فالمقصرين" (¬5)، فالفاء في المثال الأول لتفاوتِ رتبة الفضلِ ¬

_ (¬1) "ت": "هنا". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل "من". والمثبت من "ت". (¬5) كذا ذكره الزمخشري في "الكشاف" (4/ 37) وعنه أخذ ابن بري كلامه =

من (¬1) الكمال، والحسنِ من الجمال، وفي المثال الثاني لتفاوت رُتبة المحلِّقين من المقصِّرين، بالنسبة إلى تحليقهم وتقصيرهم. وقولُهُ تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} [الصافات: 1 - 3] تحتمل الفاء فيه المعنيين معًا، فيجوزُ [أن يُرَادَ بها تفاوتُ رُتبةِ الصفِّ من الزجر، ورتبة الزجر من التلاوة] (¬2)، ويجوزُ أن يُرادَ بها تفاوتُ رُتبةِ الجنسِ الصافِّ من رتبة الجنس الزاجر، بالنسبة إلى صفِّهم وزجرهم، ورُتبة الجنس الزاجر من التالي، بالنسبة إلى زجره وتلاوته. ومنه: تفاوتٌ بين رُتبتي الفاعل، لا بالنسبة إلى فعله؛ [نحو] (¬3): مات الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الصالحون، و (ثم) هاهنا لتفاوت رُتبَةِ المذكورين بخصائصهم في صفاتهم، لا بالنسبة إلى الموت؛ لأنه لا يقبل التفاوت بدليل امتناع: زيدٌ أَمْوَتُ من عمرو، ولو ¬

_ = في الفاء العاطفة. قال المناوي في "الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي" (3/ 954): لم أقف عليه، انتهى. والحديث رواه البخاري (1640)، كتاب: الحج، باب: الحلق والتقصير عند الإحلال، ومسلم (1301)، كتاب: الحج، باب: تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: "رحم الله المحلقين" مرة أو مرتين، وقال في الرابعة: "والمقصرين". (¬1) في الأصل: "على"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "ثم"، والمثبت من "ت".

جيءَ بالواو موضعَ (ثم) في هذه الأقسام لم تُفدْ تفاوتًا، ولم تُفهمْ منها رُتب، وهذا أولى من قول من يقول: هي لترتيب الجمل في الأخبار، لا لترتيب المخبَرِ به في الوجود؛ لأنه ضعيفٌ في المعنى لبعدِ المهلة (¬1) حقيقة فيه، - واستدلَّ القائلون به بقول: إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبوه وأجيب: إنها (¬2) لتفاوت رُتبةِ الابن من أبيه، أو لتفاوتِ رُتبةِ سيادته من سيادة أبيه، ومجازُ استعمالها للتفاوتِ أنها موضوعة للمُهلة، والتفاوتُ مهلةٌ في المعنى، ولأنَّ بينهما قَدْرًا مُشتَركًا، وهو الانفصالُ. وتستعمل [ثم] (¬3) أيضًا في التفصيل في أفعالٍ مُبِيْنَةٍ لمبهَمٍ مُتقدم، نحو قولك: زيدٌ كريمٌ يعطي المال، ثم يحمِلُ الكَلَّ، ثم يفكُّ العاني، وزيد ليس بظالم، لا يَغصِبُ المال، ثم لا يقتل الجار، ثم لا يسبي الحريمَ، فـ (ثم) في هذا ونحوه لا يُقصَدُ بها (¬4) ترتيبٌ (¬5) ولا مُهلةٌ زمانية، وإنما يُراد تبيينُ الوصف المتقدم بما بعده، وتفصيلُهُ به، وفيها ¬

_ (¬1) "ت": "المماثلة". (¬2) "ت": "بأنها". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "فيها". (¬5) في الأصل "الترتيب"، والمثبت من "ت".

تراخٍ معنوي، وهو أنَّ كل فعل ذكر يفيد (¬1) في إثبات الوصف المذكور أولًا إن كان مثبتًا، وفي نفيِهِ إن كانَ منفيًا، ألا ترى أن قولَك: يعطي المالَ، مثبتٌ لصفة الكرم (¬2)، وقولك: لا يغصبُ المال، نافٍ لصفة الظلم، فكأن المتكلمَ قصد بالفعل الأول الاستقلال بالبيان، ثم لما فرغ منه قصد بيانًا ثانيًا مستقلًا بالبيان (¬3)، فتركُ الانتقالِ عن قصد الاستقلال بالأول إلى قصد إنشاء بيان ثانٍ [نزَّله] (¬4) منزلة تراخٍ في الوجود، كما عطف (الآخِرَ) على (الأول) في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]، لما قُصد الاستقلالُ بكل منهما، وامتنع العطف في قولك: الرمانُ حلوٌ حامضٌ، لما قُصِدَ عدمُ استقلال كلٍّ (¬5) منهما. وهذا المعنى بعينهِ يستعملُ في الفاء؛ نحوَ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227]، فالفاء دخلت لتبيينِ حكمِ المُولي في زمن التربّصِ بجملتي الشرط بعدها، لا لتعقيبهما زمنَ التربص؛ هكذا قال أبو حنيفةَ - رحمهُ الله - (¬6)، ومثلُهُ قولُ العرب: ¬

_ (¬1) "ت": "مقيدًا". (¬2) في الأصل: "الكريم"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "بالمال"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل "الاستقلال بكل"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "شرح فتح القدير" (4/ 191).

أقيم عندَكُمْ (¬1) شَهْرًا فإنْ أحمدتُ مقامي وإلا تحوَّلت. ولا يُقصَدُ بـ (ثمَّ) والفاء في هذا المعنى ترتيبٌ وجودي، بل تفصيل معنوي، ألا ترى أن قولك: اغتسلَ وأفاضَ الماءَ على شقِّهِ الأيمن، ثم على الشق (¬2) الأيسر، [ثم على رأسه]، (¬3) ثم على بطنه، ثم على ظهره، لم يكنْ قصدُك إلا البيانَ، لا الترتيبَ، ولو قَدَّمتَ وأَخَّرتَ جاز. وكذلك لو أتت (الفاء) (¬4) موضعَ (ثم)، فإن كان الموضعُ يحتمل ترتيبًا جاز أن يُقصَدَ الترتيبُ، وجاز أن يُقصَدَ التفصيلُ؛ نحو: توضأَ فغسلَ وجهه، ثم يديه، فإن أردتَ الترتيبَ لا يجوز لك التقديمُ والتأخير، [أوإن أردت التفصيلَ، جاز التقديمُ والتأخير] (¬5). وإنما استُعْملَت (ثم) و (الفاء) للتفصيل حَمْلًا على (أو) في نحو قولك: الجسمُ ساكنٌ أو متحرك، الإنسان ذكر أو أنثى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية، (أو) منها عندَ الشافعيِّ - رحمه الله - للتفصيل، وهي عند مالك - رحمهُ الله - للتخيير (¬6). وهذا الذي ذكرناه عن الشيخ أبي محمد بن بَري في أن التفصيلَ ¬

_ (¬1) "ت": "عندك". (¬2) "ت": "شقه". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "لو أتيت (بالفاء"). (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 153).

للمبهم لا يُوجبُ (¬1) الترتيبَ ولا بدَّ، قد (¬2) وجدناه عن بعض من أدركناه، وتأخَّرَ عن زمن أبي محمد، فلا أدري أذكره تقليدًا له، أو من وجه آخر؟ ونسوق ما وجدناه عنه، وإن كان فيه زيادة عما ذكرناه من أمر التفصيل. قال: الفاءُ للترتيبِ، وهو على ضربين (¬3): ترتيب في المعنى، وترتيب في الذِّكْر. والمرادُ بالترتيب في المعنى أن يكونَ المعطوفُ بها لاحقًا متصلًا بلا مُهْلةٍ، كقوله تعالى: {خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]، والأكثرُ على كون المعطوف [سببًا] (¬4) عمّا قبله، كقولك: أملته فمال، وأقمته فقام، وعطفته فانعطف. وأما الترتيبُ في الذكر فنوعان: أحدهما: عطفُ مُفصَّلٍ على مُجمل هو هو في المعنى؛ كقولك: توضَّأَ فغسلَ وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه، ومنه قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] الآية. الثاني: عطفٌ لمجرد المشاركة في الحكم بحيث يَحسنُ بالواو، كقول امرئ القيس [من الطويل]: ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا يجب"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "وهذا لابد وقد". (¬3) "ت": "وهي ضربين". (¬4) "ت": "بها"، وبعدها بياض بمقدار كلمة.

التاسعة

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ (¬1) ثم قال: وأما (ثم) فللترتيب في المعنى بانفصال؛ أي: يكون المعطوفُ بها لاحقًا للمعطوف عليه في حكمه، متراخيًا عنه بالزمان؛ كقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 121 - 122]. وقد تأتي للترتيب في الذِّكر كقوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154]. وقد تقعُ موقعَ (الفاء) كقول الشاعر [من المتقارب]: كَهَزِّ الرُّدَيْنيِّ تَحْتَ العَجَاجِ ... جَرَى في الأَنابِيبِ ثمَّ اضْطَرَبْ (¬2) وفي التفصيل المذكور؛ كقولك: توضأ فغسل وجهه، ثم يديه، ثم مسح رأسه، ثم رجليه. وقد تعطف بـ (الفاء) متراخٍ؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 4 - 5] (¬3). التاسعة: في طريق أخرى لتخريج (¬4) الألفاظ المنافية للتعقيب في ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان امرئ القيس"، وصدر البيت: قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ (¬2) البيت لحميد بن ثور الهلالي، كما في "ديوانه" (ص: 43) وعنده: "بين الأكف" بدل "تحت العجاج". (¬3) انظر: "شرح الكافية" لابن مالك (ص: 1206) وما بعدها، وهو الذي قصده المؤلف بكلامه ونقل عنه. (¬4) في الأصل: "لتخرج"، والمثبت من "ت".

(الفاء)، والترتيب والتراخي في (ثم)، وهو حَملُ الترتيبِ على الترتيب في الإخبار، وقد ذكرنا آنفًا عن هذا الذي أدركناه من المتأخرين الترتيبَ في الذكر. وقال أبو الحسن بن أبي الربيع النحويُّ الأندلسيُّ لما تكلَّمَ على الفاء: اعلم أن (الفاء) تقتضي أن الثاني بعد الأول بغير مُهلة، فإذا قلت: قام زيد فعمرو، فمعناه أن عَمْرًا قام بعد زيد مُتصلًا [به] (¬1)، وقد يكون الترتيبُ للإخبار، تقول: مُطرنا مكانَ كذا فمكانَ كذا، إذا أردتَ أن تستوعبَ جميعَ الأماكن التي أخذها المطرُ، [فأخذتَ جهةً، ثم فَرَوَتْ شيئًا بعد شيء إلى أن تنتهيَ إلى آخرها، وربما أصابها المطرُ] (¬2) كلَّها في وقت واحد، [ولم تدرِ كيفَ نزل المطرُ فيها؟. وكذلك تقول: شتمني زيد، فعمرو، فخالد، فلا تزال تتخبطُ من واحد] (¬3) إلى آخرَ حتى تنتهي إلى أقلِّهم منزلةً، وربما الذي شتمك أولاً ذكرتَهُ (¬4) آخرًا، لكنك قصدتَ أن تخبر بالأمر على هذا التدريج، وعلى حسب مراتبهم، ولو جئت بالواو لم يكنْ فيه إلا الجمع، وأنَّ الفعلَ وقع بالجميع، ولم تقصدْ إلى هذا التدريج، ولم يكنْ ذكرك الأولَ، والثاني بعده، والثالث بعده، بالقصد، وإنما كان باتفاقٍ، إذ لابدَّ من تقديم واحد على آخر، إذا أخبرتَ أنَّ الفعلَ وقع بالجميع. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "ذكرك".

[ثم] (¬1) لما تكلَّمَ على ذكر أنَّ (ثم) يكون الترتيبُ فيها على وجهين: ترتيب الإخبار، وترتيب الوجود، قال: ويجوز أن [يكون] (¬2) على هذا (¬3) قولُهُ سبحانه: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154]. قال: وقد يكون الترتيب بالنظر إلى شخصٍ [دونَ شخص] (¬4)، تقول: ساد زيد عندي، ثم عمرو، ثم خالد؛ أي: علمتُ سيادةَ زيد أولاً، ثم سيادة عمرو، ثم سيادة خالد، وإن كان خالد قد ساد قبلهما، ومثلُ هذا موجودٌ في كلام العرب، إذا اعتبرته وجدته (¬5). فهذا مع كلامِ مَنْ قدَّمنا رضًى بكونِ الترتيبِ يكونُ في الذكر، وقد وردَ هذا، وذكرنا تضعيفَهُ عن أبي محمد بن بري فيما سبق. ووجدتُ عن أبي الحسن بن عُصفور أنه لما تكلَّمَ على قوله: بلغني ما صنعتَ اليومَ، ثم ما صنعتَ أمسِ أعجبُ، وهو (¬6) أحدُ ما ذُكِرَ في الاستدلال لمن يقول: إن (ثم) [تكونُ] (¬7) بمعنى الواو، وخرَّجه على أن (ثم) لتفاوت ما بين الصُّنعين. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": زيادة "في". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "البسيط في شرح جمل الزجاجي" لابن أبي الربيع (1/ 336 - 338). (¬6) "ت": "وهذا". (¬7) زيادة من "ت".

العاشرة

قال: وما ذكره الفرَّاءُ من أن المقصودَ بـ (ثم) ترتيبُ الإخبار، لا ترتيبُ الشيء في نفسه، وكأنه قال: اسمعْ مني هذا الخبرَ الذي هو: بلغني ما صنعتَ اليوم، ثم اسمعْ مني هذا الخبرَ الآخرَ الذي هو (¬1): ما صنعتَ أمسِ أعجبُ، ليس بشيء؛ لأن (ثم) تقتضي تأخيرَ الثاني عن الأول بمُهلة، ولا مُهلة بين الإخبارين (¬2). فأقول: أما إبطالُ حملِ التراخي، والمُهلةِ على التراخي بين الإخبارين، فصحيحٌ لاشكَّ فيه، وأما على الترتيب فلا، وأبو الحسن لم يذكرْ عن الفراء أن المقصودَ بـ (ثم) تراخي الإخبار، وإنما ذكر أن المقصودَ فيها (¬3) ترتيبُ الإخبار، والترتيبُ في الإخبار أعمُّ من التراخي (¬4)، فلا يلزمُ من إبطال التراخي في الإخبار إبطالُهُ في الترتيب. ولئن قال: إن (ثم) مُقتضيةٌ للتراخي في نفس الأمر، فإذا جعلها للترتيب في الإخبار لزمَهُ الترتيبُ في التراخي، قيل له: إذا كان مدلولها الشيئين؛ الترتيب، والتراخي، وتعذَّرَ التراخي، جرَّدناها عن دلالتها عليه، وأثبتنا دلالتها على الترتيب، الذي هو أحدُ مدلوليها، وهو أقربُ من تجريدها عنهما معًا. العاشرة: في ذكر طريق أُخرى في تخريج ما ظاهرُهُ المخالفةُ ¬

_ (¬1) "ت": "وهو". (¬2) وانظر: "شرح الجمل" لابن عصفور (1/ 234 - 235). (¬3) "ت": "بها". (¬4) "ت": زيادة "فيه".

الحادية عشرة

[لقاعدتي (الفاء) و (ثم)، وهو احتمالُ المخالفة] (¬1) اليسيرة: فذكر (¬2) عن عبد القاهر في (الفاء): أنَّ أصلَها الإتباعُ، ولذلك لا تَعْرى عنهُ (¬3) مع تَعَرِّيها عن العطفِ في جواب الشرط، ولكنها مع ذلك لا تُنافي التراخيَ اليسير. وقال ابن أبي الربيع: الاتصالُ يكون حقيقة، ويكون مجازًا؛ فإذا كان حقيقةً فلا تراخيَ فيه، وإذا كان مجازًا ففيه تراخٍ بلا شكٍّ، ألا ترى أنَّ قولك: دخلتُ البصرة، فالكوفة، فيه تراخٍ، فإنما جاءت (الفاء)؛ لأن سببَ دخول الكوفة اتصلَ بدخول البصرة، لم [يكنْ] (¬4) بينهما مُهلة، فلذلك جاءت (الفاء)، وقد يكون التراخي قليلًا، فيكون كالمُستهلَكِ لكونه غيرَ معتبر لقلته، فتَدخلُ الفاء كذلك (¬5). الحادية عشرة: [في] (¬6) طريق أُخرى للتخريج في المخالف لظاهر (ثم) أو (الفاء) أو هما، وهو حملُ الترتيب أو التراخي، [على ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "وقد ذكر". (¬3) في الأصل: "منه"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "البسيط في شرح الجمل" لابن أبي الربيع (1/ 336 - 337). (¬6) زيادة من "ت".

الثانية عشرة

الترتيب أو التراخي في الرُّتبة] (¬1)، وقد ذكرنا عن أبي الحسن بن عصفور من النحاة تسليمَ ذلك، وهو مجاز (¬2) في (ثم)، وأما أهلُ صناعة البيان فهو مشهورٌ بينهم، مُتَداوَلُ (¬3) الذكر، يُبدونَ [فيه] (¬4) معانيَ حسنة، ويستخرجون بلطف (¬5) الذهن محاسنَ الكلام، ويأتي بعضُهم فيه بأشياءَ مهمة، فمنه قولُه تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]؛ لبعد ما بين الكفرِ، وبين خَلْقِ السموات والأرض وجَعْلِ الظلمات والنور. ومن لطيف هذا ما قاله الزمخشريُّ في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]؛ فإنه قال: وفي (ثم) ما فيها من تعظيمِ منزلةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - وإجلال محله، والإيذانِ (¬6) بأنه أولى وأشرفُ ما أُوتَي خليلُ الله من الكرامة، وأجلُّ ما أوتي من النعمة اتِّباعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له في ملته (¬7). وأمثالُ هذا كثيرٌ في كلام أهل البيان. الثانية عشرة: الذي أوجب لنا أن نتكلمَ في (ثم) [ومدلولها ما جاءَ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "مجوز". (¬3) في الأصل: "متناول"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "بلطيف". (¬6) في الأصل: "إيذان"، والمثبت من "ت". (¬7) انظر: "الكشاف" للزمخشري (2/ 600).

في الحديث الذي نحن في شرحه من قوله: "ثم تمضمضَ،] (¬1) ثم غسلَ وجهَهُ ثلاثَ مراتٍ"، وكذلك [كل] (¬2) ما ورد فيه (ثم) في هذا الحديث، فإن (¬3) التراخيَ غيرُ مراد من هذه اللفظة في هذه الأماكن، إذ الموالاةُ هي المطلوبةُ؛ إما وجوبًا، أو ندبًا، ولا نَظُنُّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - راخى بين غسل هذه الأعضاء عن بعض، فيحتاج إلى تخريج ذلك، والذي نذكرُ فيه وجوهٌ: أحدها: أنْ تُجعل (ثم) بمعنى الواو بناءً على جواز ذلك مطلقًا. وثانيها: (¬4) أن تُجعلَ بمعناها في التفصيل، للمُجمَل الذي تقدمها؛ كما حكينا عن كلام ابن بري، والمتأخر عنه. وثالثها: الترتيبُ في الإخبار، أو التراخي، وهو باطلٌ في التراخي كما قدمناه. ورابعها: التراخي في الرُّتبة (¬5)، ويحتاج إلى تأمُّلٍ في تراخي ترتيب (¬6) غسل هذه الأعضاء بعضها عن بعض، وقد يظهر ذلك في بعضها، فإنه لما ناسبَ أن يكون الوضوءُ لأجل الوَضاءة، وهي ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "كان". (¬4) في الأصل: "وثانيها بمعنى"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "المرتبة". (¬6) "ت": "رتب".

النظافة، ولا يكون الدخول في العبادة على الوجه المستحسن في العادة، كان هذا معنى يُلحَظُ في سببِ الترتيب، والتقديمِ والتأخيرِ في هذه الأعضاء. ومن (¬1) أسباب ما ذكرنا أيضًا الشرفُ، ومنه مطابقةُ الترتيب اللفظي للوضع الخارجي، فإذا ثبت هذا، فقد جَمَعَ الوجهُ [أشياء] (¬2) لم تجتمع في غيره؛ منها: الشرفُ، ومنه: التعبيرُ به عن الجملة، [{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، (¬3)، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، ومنها: بروزُهُ غالبًا، ومنها: علوُّهُ في وضع الخِلقة، ومنها: أنه المقصودُ بالرؤية والمباشرة بها عند التخاطب؛ قصدًا، أو عادة وملكة، وذلك يرجِّح طلبَ الوَضاءة فيه، فباجتماع هذه الوجوه فيه، ناسبَ تقديمُهُ على جميع هذه الأعضاء الأربعة، وتراخت عنه رُتبة اليدين لعدم مُساواتها له في البروزِ [للمعتبرات، وتأخرِها عنه في الشرف والرؤية، ولها حظٌّ من التقديم بسبب المطابقة للخِلْقة، وتقدمت على الرأس؛ لأنها (¬4) مستورةٌ غالبًا، فلا يحصلُ فيها معنى البروز للمعتبرات] (¬5)، ولا هي أيضًا مما تقع عليها الرؤيةُ عند التخاطب غالبًا، وإنما لها الشرف والعلو بحسب الخِلقة، وهاتان المناسبتان متأخرتان عن ¬

_ (¬1) "ت": "وما". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) أي: الرأس. (¬5) سقط من "ت".

معنى الوَضاءة والنظافة الذي جُعِلَ سببَ الوضوء وعُمدته، فتقدمت (¬1) اليد على الرأس ترجيحًا لأظهرِ المناسبتين. وأما تقديمُ الرأس على الرجل فيمكنُ أن يكونَ باعتبار مناسبةِ الشرف [والرفعة، واعتبار الوضع الخَلْقي، فإنها لو تأخرت لتُرِكَ اعتبارُ مناسبة الشرف] (¬2)، والمطابقة للوضع الخَلْقي من كل وجه، بخلاف ما إذا تقدمت على الرجلين، فإن في ذلك اعتبارَها بين المناسبتين من [كل] (¬3) وجه، وتُؤَخَّرُ الرِّجلُ لاعتبار الوضع الخَلقي إذ (¬4) لم يبقَ غيرُهما. وقد بلغني أنه تناظرَ شافعيٌّ وحنفيٌّ في مجلس الشيخ أبي الحسن علي بن عيسى الربعي - رحمه الله (¬5) - في ترتيب الأعضاء في الوضوء، واستدلَّ الشافعي بالحديث: "توضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثمَّ يَدَيْهِ، ثم مَسَحَ برأسِهِ، ثم غَسَلَ رِجْلَيه" أو كما قال. قال: و (ثم) للترتيب، فقال أبو الحسن: مُحتملٌ أن يُراد بالترتيب ¬

_ (¬1) "ت". "فقدمت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "إذا". (¬5) هو إمام النحو أبو الحسن علي بن عيسى بن الفرج الربعي البغدادي صاحب التصانيف، قال أبو علي: قولوا لعلي البغدادي: لو سرت من الشرق إلى الغرب، لم تجد أحدًا أنحى منك، من تصانيفه: "شرح الإيضاح"، و"شرح مختصر الجرمي"، توفى سنة (420 هـ). انظر: "إنباه الرواة" للقفطي (2/ 297)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (17/ 392).

في هذا الحديث: ترتيبُ الأعضاء في شرفها لا في غسلها، وبيان ترتيب شرفها من وجهين: الأول: أن أعاليَ الإنسان [خيرٌ و] (¬1) أشرفُ من أسافله، بدليل أن المشروعَ للمصلي أن يكونَ أعاليه في السجود أخفضَ من أسافله، قالوا: لأن أشرفَ [الإنسان] (¬2) إذا كان منخفضًا كان أبلغَ في التذلل، فقدم في الحديث ذكرَ الوجه على اليدين؛ لأنه أعلى، واليدين على الرجلين؛ لأنهما أعلى، وقد تبين أن العلوَّ في الخِلْقة شرف. الثاني: أنَّ شرفَ الوجه على اليدين: أنه جمعَ السمع والبصر والنُّطق، وهي من أجل الأدوات المستعملة في العبادات؛ ولأن به يكونُ الاستقبال والاستدبار، فكان لذلك أعزَّ الأعضاء، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أقربُ ما يكونُ العبدُ مِنَ اللهِ وَهُوَ سَاجِدٌ" (¬3). قالوا: لأنه وضعَ أعزَّ الأعضاء في الأرض، وهو غايةُ التذلل، فكان سببًا لزيادة القُرب. واليدان بهما يكون البطش، وهو أَعْوَنُ شيء على العبادة، وأَدْخَلُه فيها؛ لاستيعابه كثيرًا منها، والرجلان يكون بهما السعي، وهو دونَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه مسلم (482)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

البطش في ذلك، بدليل أن أقطعَ الرجلين [أقدرُ] (¬1) على العبادات من أقطع اليدين، ويؤيدُه قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] الآية، وبُدِئَ (¬2) فيها بالأدنى لغرض الترقي؛ لأنَّ منفعةَ الوصف الرابع أعمُّ من منفعة الثالث؛ فهو أشرفُ منه، ومنفعة الثالث أعمُّ من منفعة الثاني؛ فهو أشرفُ منه، ومنفعة الثاني أعمُّ من منفعة الأول، فهو أشرفُ منه، وقد قُرِنَ السمع بالعقل، ولم يُقرنْ به البصرُ في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} [يونس: 42]، وما قُرِنَ بالأشرف كانَ أشرفَ. قال: فإن قيل: كان الأَولى أن يُقدَّمَ في الآية المذكورة الوصفُ الأعلى، ثم ما دونه حتى يُنتهى إلى أضعفِها؛ لأنه إذا بُدِئَ (¬3) بسلب الوصف الأعلى، ثم سُلِبَ ما دونه، كان ذلك أبلغَ في الذم؛ لأنه لا يلزمُ من سلب الأعلى سلبُ ما دونه، كما تقول: ليس زيدٌ بسلطانٍ، ولا وزيرٍ، ولا أمير، ولا والٍ، والغرضُ من الآية المبالغة في الذم. قلت: ما ذكرتَهُ طريقة حسنة في علم المعاني، والمقصودُ من الآية طريقةٌ أخرى، وهي أنه - تعالى - أثبت أن الأصنامَ التي يعبدها ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "بدأ". (¬3) في الأصل: "بدأ"، والمثبت من "ت".

الكفار -[أمثالُ الكفار] (¬1) في أنها مقهورةٌ مربوبةٌ، ثم حطَّها عن درجة المثلية بنفي (¬2) هذه الصفات الثابتة للكفار عنها، وقد علمتَ أنَّ المماثلةَ بين الذوات المتباينة إنما تكون باعتبار الصفات الجامعة بينها، إذْ هي أسبابٌ في ثبوت المماثلة بينها، وتقوى المماثلةُ بقوة أسبابها، وتضعُفُ بضعفها، فإذا سُلِبَ وصفٌ ثابت لإحدى الذاتين عن الأخرى، انتفى وجهٌ من المماثلة بينهما، ثم إذا سُلِبَ وصفٌ أقوى من الأول، انتفى وجهٌ من المماثلة أقوى من الأول، ثم لا تزالُ تُسلَبُ أسبابُ المماثلة أقواها فأقواها، حتى تنتفيَ [المماثلةُ كلُّها بهذا التدريجِ، وهذه الطريقةُ ألطفُ من] (¬3) سلبِ أسباب المماثلة أقواها، ثم أضعفها، فأضعفها، فُقدِّمَ الوجهُ على اليدين، واليدان على الرجلين كذلك. وكان ينبغي على الوجهِ الأولِ أن يُبدأَ بذكر الرأس؛ لأنه أعلى الأعضاء، إلا أن الوجهَ هو معظمُهُ، وقد قُدِّمَ، ولم يَبْقَ منه إلا منبتُ الشعر، وأُخِّرَ ذكرُهُ بعد ذكر الأعالي تتمةً لها. وعلى الوجه الثاني لا ينبغي أن يُبدأَ منه (¬4) إلا بالوجهِ لخلوِّ ما عداه منه من الأدواتِ المُعِيْنَةِ ظاهرًا على العبادات (¬5)، بل ينبغي أن ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "نفي". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) أي: من الرأس. (¬5) "ت": "العبادة".

يؤخَّرَ ما عدا الوجهِ منه بعد الرجلين؛ لأن منهما بطشًا دونه، وهو مُعتَبر في الوجه، لكنه ذُكِرَ قبلهما؛ ليكون الافتتاحُ بذكر عضو فيه أداةٌ من أدوات العبادات، والاختتامُ بذكر عضوٍ كذلك، ليتشاكلَ الطرفان، وإنه أنسبُ، وأَدْخَلُ في الفصاحة. ومَنْ قال باستفادة ترتيب الأعضاء في الغسل في هذا الحديث من (ثم)، أمكنَهُ أن يستنبطَ من (ثم) تكرارَ الغسل؛ لأنها حينئذٍ تفيدُ تراخيًا ومُهلة في الزمان، فإذا لم يحصلْ تكرارٌ، لم يكنْ بين غسل العضو الأول والثاني مُهلة زمانية، فإذا حصل التكرار، كان بين الشروع في الغسلة الأولى من العضو الأول، وبين الشروع في الغسلة الأولى من العضو [الثاني] (¬1) مُهلة زمانية؛ لأن ذلك التكرارَ يتخللُ بين الشروعين، فيتحقَّقُ به التراخي، والله أعلم، انتهى. وقد ذكرنا ما وجدناه على الوجه، مع ما فيه من الاستطراد بما لا يتعلَّقُ بغرضنا. وخامسها: ما ذكره بعضُ المتأخرين في اعتبار معنى المُهلة في (ثم)، ومعناه: أن يجعل (غسل) [بمعنى: شرع، وبين الشروعِ في غسل الوجه، والشروعِ في] (¬2) غسل اليدين مُهلة. وسادسها: ما ذكرَهُ غيرُهُ من المُتأخرين (¬3)، ومعناه: أن حقيقةَ ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق، وقد أشير في "ت" إلى وجود كلمة ناقصة. (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "الباحثين"، والمثبت من "ت".

الثالثة عشرة

غسل وجهه في تمام غسله، وحقيقةُ غسل يديه [بتمام غسلهما] (¬1)، وبين التمامين تراخٍ ومُهلة. وهذان الوجهان معًا مردودان، فإنه يكون حينئذ إخبارُ الراوي بما أخبرنا به من بيان الواضحات، ومما لا فائدةَ فيه؛ لأنه معلومٌ جزمًا أن بين الشروعين وبين التمامين مُهلة قطعًا، وقد ذكرنا فيما بلغنا عن الربعيِّ قريبًا من هذا حيثُ يقول: إنه يمكن أن يُستنبطَ من (ثم) تكرارُ الغسل، ولا يُرَدُّ على الربعي ما رددنا به على المباحثين؛ لأن التكرارَ، إذا كان فائدةً، لم يكنِ الإخبارُ بما يفيد عَرِيًّا عن الفائدة. الثالثة عشرة: قد ذكرنا الكلامَ في الوَضوء، والوَضوء على المشهور يدل على (¬2) اللفظ، وهو أن الوَضوء - بفتح الواو - هو الماء؛ لأنَّ الفعلَ لا يُدْعَى به. الرابعة عشرة: لابدَّ من الحذف في قوله: دَعَا بوَضُوءٍ فتوضَّأَ، تقديره: فحضرَ فتوضأَ. الخامسة عشرة: يقال: فعل بمعنى: شرع، وفعل بمعنى: فرغ، وقوله: فتوضأ، محمولٌ على الأول؛ أي: شرع في الوضوء؛ لتفصيله ذلك بقوله: فغسل كفيه ... إلى آخره. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "هذا".

الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

* الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: قيل: الوضوءُ تعبُّدٌ، وأُخذَ منه تعيُّنُ الماء له. وقيل: معقولُ المعنى معلَّلٌ، ومقصوده النظافة، ولذلك خص الأعضاء البارزة، [و] (¬1) الرأسُ لما استترَ بالعمامة غالبًا كفاه المسحُ، قيل: ويؤيده {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. واعتُرِضَ عليه: بأنه لا يطَّرِدُ؛ فإن المتوضِّئَ المنطلي بالأوساخ لا يتوضَّأ. وأجيب بأنها نادرة، وفي النفس وازع [عنها] (¬2) فأغنى، بخلاف العِبرات الخفية، ونُظِّرَ ذلك بإيجاب الإجابة على المرأة للواطئ لا العكس؛ أي: عدم الإجابة على الرجل، وإن كانا في مقصود التحصين سواءً، لكن أغنى عن الإيجاب عليه باعثُهُ على الوطءِ ليعتاضَ عما يختصُّ (¬3) به من الكلف، ولا سيَّما إذا انحصر مطلَبُهُ في الحلال. ومُثِّلَ أيضًا بالبيع على معنى أنه شُرِعَ للحاجة، فلو عكس فباع المُحتاج إليه بالمُستغني عنه لصحَّ، وأغنى النُّدور والوازع عن المنع. واعتُرِضَ أيضًا بالإجماعِ على اختصاص الوجوب بالحَدَثِ وليس مُلطخًا، وعلى سقوط الوضوء بالملطخ؛ أي: من غير الأحداث، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "يخص"، والمثبت من "ت".

الثانية

وجوابه: أن ظهورَ المعنى في الأصل (¬1) لا يمنعُ [من] (¬2) التعبُّدِ في التفصيل، فرُبَّ أصلٍ [معنوي] (¬3) تعبدي من وجهين؛ كالنُّصُبِ المُزكَّاة والمسروقة، أصلُها معنويٌّ، وتحديداتها تعبدية (¬4)، وقيل في هذا: إنه قام الوضوءُ مقامَ الزاجر عن الحَدَث لغير حاجة لفحشه حينئذٍ. الثانية: في قوله: دعا بوَضُوء، دليلٌ على جواز الاستعانةِ في أسباب الطهارة؛ لدلالةِ لفظ (دعا) على عدمِ حضوره عنده، وعدمِ ذهابه لتحصيله، وعند الشافعية في كراهة الاستعانة في الوضوء وجهان (¬5)، وهذا الذي ذكرناه من فعل عثمان - رضي الله عنه -، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستعانةُ في الوضوء في حديث المغيرةِ ابن شُعبةَ لما ضاق كُمُّ الجُبَّةِ (¬6)، وحديث أسامة بن زيد (¬7)، وكلا ¬

_ (¬1) "ت": "أصل". (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "أنها تعبدية"، والمثبت من "ت". (¬5) الأصح أنه لا يكره، لكنه خلاف الأولى، انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 402). (¬6) رواه البخاري (356)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الجبة الشامية، ومسلم (274)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين. (¬7) رواه البخاري (139)، كتاب: الوضوء، باب: إسباغ الوضوء، ومسلم (1280)، كتاب: الحج، باب: استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر، عن أسامة قال: "ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفات، فلما بلغ رسول الله الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة، أناخ فبال، ثم جاء فصببت عليه الوضوء ... " الحديث، لفظ مسلم.

الحديثين صحيحُ السند، وحديث الرُّبيع بنت معوِّذ [بن عفراء] (¬1) (¬2)، والذين كرهوا أوردوا حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا لا أَسْتَعِينُ على وُضُوئي بِأَحَدٍ" (¬3)، وليس سندُهُ في الصحةِ كسندِ حديث الاستعانة التي دلَّ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه أبو داود (126)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والترمذي (33)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس، وابن ماجه (390)، كتاب: الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، عن الربيع بنت معوذ قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بميضأة، فقال: "اسكبي" فسكبت، فغسل وجهه وذراعيه ... ، الحديث، لفظ ابن ماجه. قال النووي في "شرح المهذب" (1/ 401): في إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل، واختلفوا في الاحتجاج به، واحتج به الأكثرون، وحسن الترمذي أحاديث من روايته، فحديثه حسن. (¬3) قال النووي في "المجموع في شرح المهذب" (1/ 401): باطل لا أصل له. قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 97): وذكره الماوردي في "الحاوي" بسياق آخر فقال: روي أن أبا بكر الصديق همَّ بصب الماء على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد" قال الحافظ: ولم أجدهما. ثم قال الحافظ: لكن تعيين أبي بكر وهمٌ، وإنما هو عمر، أخرجه البزار وأبو يعلى من طريق النضر بن منصور عن أبي الجنوب قال: رأيت عليًا يستقي الماء الطهور، فبادرت أستقي له، فقال: مه يا أبا الجنوب! فإني رأيت عمر بن الخطاب يستقي الماء لوضوئه فبادرت أستقي له فقال: مه يا أبا الحسن! فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقي الماء لوضوئه فبادرت أستقي له فقال: "مه يا عمر! فإني لا أريد أن يعينني على وضوئي أحد" قال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: النضر بن منصور، عن أبي الجنوب، وعنه: ابن أبي معشر تعرفه؟ قال: هؤلاء حمالة حطب، انتهى. وانظر: "المجروحين" لابن حبان (3/ 53).

الثالثة

عليها هذا الحديثُ، وهذا أُخِذَ من فِعلِ الصحابي، لا من (¬1) اللفظ المرفوعِ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث. الثالثة: فيه دليلٌ على أنَّ غسل اليدين في ابتداء الوضوء من الأمور المطلوبة شرعًا؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفقهاءُ أطلقوا القول بذلك، ولم يخصُّوه بحال القيام من النوم؛ لما جاء في الحديث الآخر، لدلالة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه. قال القاضي أبو محمد المالكي في غسل اليدين في ابتداء الوضوء: وذلك من سنن الوضوء لكلِّ طاهرِ اليدين، يريد الوضوءَ بأيِّ نوعٍ كان انتقاض وضوئه به من الأحداث وأسبابها، وقوله: طاهر اليد، يحترزُ به عن النَّجِس اليد. قال المازري: إنما قَيَّدَ بقوله: طاهر اليد؛ لأنَّ مَنْ كان نَجِسَ اليد فغسلُ يده (¬2) واجبٌ، إذا كان الماء الذي أعده (¬3) لوضوئه قليلًا. قال: هذا على طريقةِ مَنْ قال من أصحابنا: إنَّ الماءَ القليل تنجِّسه النجاسة القليلة، ومَنعَ الاعتدادَ بالوضوء. قال: فعلى هذه الطريقةِ يكون غسلُ اليد واجبًا؛ لأنَّ بغسلِ يده يُتَوَصَّلُ إلى صحة وضوئه. قال الرافعي: قال الشافعيُّ - رحمه الله -: ولا فرقَ في استحبابه ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "إلى"، وقد جاء في هامش "ت": "لعله: من"، وهو الصواب فأثبته. (¬2) "ت": "يديه". (¬3) في الأصل: "يعده"، والمثبت من "ت".

الرابعة

بين القائم من النوم وغيرِهِ، ولا بينَ أن يتردَّدَ في طهارة يديه، أو يتيقنهما، ولا بينَ مَنْ يُدخِلُ يديه في الإناء [في] (¬1) توضُّئِهِ، و [بين] (¬2) من لا يفعلُ ذلك (¬3). الرابعة: هذا الذي ذكرناه من الاستحباب مُطلقًا، ولو مع تيقُّنِ الطهارة، يقتضي أن يكونَ غسلُهما من طهارة الحَدَث، ومن يعلِّلُ الاستحبابَ عند ابتداء الوضوء؛ بأنَّ علةَ الطواف، وجَوَلانِ اليد موجودٌ مع اليقظة كما في النوم تقتضي أنَّه من طهارة الخَبَث. وذكر بعضهم: أنَّ كلَّ من وصفَ وضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا الغسل (¬4)؛ يعني: غسلَ اليدين؛ وليسَ كما قال الحافظُ (¬5) أبو عمر أحمد بن هارون بن أحمد المعروف بابن عَاتٍ (¬6)، فيما وجدته عنه ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 394). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 83 - 84). (¬5) "ت": "القاضي". (¬6) هو الإمام الحافظ البارع القدوة الزاهد أبو عمر أحمد بن هارون بن أحمد ابن عات النَّفْزِي الشاطبي، كان أحد الحفاظ، يسرد المتون، ويحفظ الأسانيد عن ظهر قلب، موصوفًا بالدراية والرواية، له تصانيف دالة على سعة حفظه، توفي غازيًا سنة (609 هـ). انظر: "التكملة" لابن الأبار (1/ 101)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (22/ 13).

الخامسة

منسوبًا إلى شرحه "للتهذيب" المالكي: وفي أكثر الأحاديث: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غَسَلَ يديه قبلَ إدخالهما في الإناءِ، وأخرجَ البخاريُّ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - حديثًا واحدًا: أنه وصفَ وُضوءَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فابتدأَ بالمَضْمَضَةِ (¬1). الخامسة: اختلف الشافعيةُ في أن غسلَ اليدين في ابتداء الوضوء من سنن الوضوء، أم لا؟ مع الاتفاقِ على نَدبيَّتِهِ (¬2) في ابتداءِ الوضوء، وأجرَوا هذا الخلافَ في التسمية والسواك. قيل: فلمْ يعدَّها كثيرون من سننه، وإن كانت مندوبةً في ابتدائِهِ، وعدَّها آخرون من سننه، وهو الوجهُ، ولهذا يقعُ معتدًا به مُثابًا عليها، إذا نوى (¬3) مُطلَقَ الوُضوء، ولو لم تكنْ معدودةً من أفعاله لما اعْتُدَّ بنيَّةِ الوضوء، وبنوا على هذا الخلافِ ما إذا اقترنت النيةُ بغسل اليدين، وعَزَبت قبلَ غسلِ الوجه؛ هل يصحُّ الوضوء على أحد الوجهين، وهو الذي صحح؟ (¬4) قلت: الفرقُ بين كونها معدودةً من سنن الوضوء، وكونها مندوبةً ¬

_ (¬1) رواه البخاري (140)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة. (¬2) في الأصل: "ندبتها"، وفي "ت": "ندبتهما"، والمثبت جاء على هامش "ت". (¬3) في الأصل "قوي"، والمثبت من "ت". (¬4) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 317 - 318).

السادسة

[في ابتدائه، يَحتاجُ إلى تأمل، فإنه يقتضي أن تكونَ مندوبةً] (¬1) في ابتداءِ الوضوء، ولا تكونَ من سننه وقد تُشُغِّبَ في ذلك. السادسة: لا خفاءَ بأن مراتبَ السنن متفاوتةٌ في التأكد، وانقسامَ ذلك إلى درجة عاليةٍ، ومتوسطةٍ، ونازلةٍ، وذلك بحسب الدلائل الدَّالةِ على الطلب، فمِن الناس [مَنْ] (¬2) لا يُفرِّق، ويَتَسامح (¬3) في إطلاق لفظ واحد على الجميع؛ كما فعله (¬4) من عدَّ سننَ [الوضوء] (¬5) ثماني عشرة، ونسقَها نسقًا واحدًا، وهذه الطريقةُ لا تُعدَمُ في كلام أصحاب الشافعي، ولم تظهرْ قوةُ اعتنائهم بالتفريق بين المراتب باختلاف اللفظ الدالِّ على مرتبةٍ مرتبةٍ، وربما فرقوا بلفظ (الهيئاتِ). وأما التفرقة بين السنن والفضائل، كما يفعلُ المالكيةُ، فلم أرَهُ إلا في كلام صاحب "الذخائر" (¬6)، فإنه ذكر الوجهين: في أن غسلَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "تسامح"، والمثبت من "ت". (¬4) هو الإمام الرافعي في "فتح العزيز في شرح الوجيز" (1/ 365). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) للإمام شيخ الشافعية بمصر القاضي أبي المعالي مُجَلِّي بن جميع القرشي المخزومي الأُرسوفي المتوفى سنة (550 هـ)، كتاب "الذخائر" وهو من كتب المذهب المعتبرة، وهو كثير الفروع والغرائب، إلا أن ترتيبه ترتيب غير معهود، ويصعب لمن يريد استخراج المسائل منه. انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 154)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (20/ 325)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 822).

اليدين (¬1) من سنن الوضوء، أو فضائله. وأما المالكيةُ فإنه كَثُرَ تفريقُهم بين المراتب، ووضعُ الألفاظ المخصوصة بإزاء هذا الاختلاف، فوضعوا لفظ (السنة) للمتأكَّدِ، ولفظ (الفضيلة) و (¬2) (المستحب) لما دون ذلك، واستعملوا ذلك في الوضوء والصلاة؛ أعني: تقسيمَهم إلى السنن، وإلى الفضائل، وتفريقَهم بين كل واحد منهما، وذكروا خلافًا في هذا الغسل للكفين؛ هل هو سنة، أو مستحب؟ وذكر أبو الطاهر بن بشير (¬3) (¬4) منهم ضابطًا فقال: [ما واظب - صلى الله عليه وسلم -، مظهرًا له في جماعة، فهو سنة، وما لم يواظب عليه، وعدَّه في نوافل الخير، فهو فضيلة، وما واظب عليه ولم يظهره ففيه قولان: أحدهما: ¬

_ (¬1) "ت": "الكفين". (¬2) "ت": "أو". (¬3) في الأصل: "بشر"، والمثبت من "ت". (¬4) هو الشيخ الإمام إبراهيم بن عبد الصمد أبو الطاهر بشير التنوخي، كان إمامًا عالمًا جليلًا، حافظًا للمذهب، ومن العلماء المبرزين في المذهب المترفعين عن درجة التقليد إلى رتبة الاختيار والترجيح، له من المصنفات: "الأنوار البديعة إلى أسرار الشريعة"، و "التنبيه" وقد مشى في هذا الكتاب على استنباط أحكام الفروع من قواعد أصول الفقه، وهي طريقة نبه الشيخ ابن دقيق العيد أنها غير مخلصة، وأن الفروع لا يطرد تخريجها على القواعد الأصولية، توفي بعد سنة (526 هـ). وانظر: "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 87).

السابعة

أنه سنة، والثاني: أنه فضيلة، انتهى] (¬1). وهذا إن كان راجعًا إلى اصطلاح مُجرَّدٍ من غير اعتبار لما به يقعُ التأكدُ، فهذا قريبٌ لا مشاحَّةَ (¬2) فيه، لكن لابدَّ من بيان انحطاط الرتبة فيما عدُّوه منحطًا، وإن كان مع اعتبار الأسباب التي يُعلَمُ بها التأكُّدُ، فمنِ ادَّعى انحصارَ ذلك في شيء معين، ونفى غيره، فلا بدَّ له من دليل. السابعة: فيه دليلٌ على استحبابِ التكرار في غسل الكفين ثلاثًا؛ ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "فقال". وبعده بياض نبَّه عليه في "ت" وتَرَكَ له قدر سطرين، وما بُيِّض له هو ما أثبت بين المعكوفتين، وقد نقلته من "شرح عمدة الأحكام" للمؤلف (1/ 174)، فإنه ذكر هناك قريبًا مما ذكره هنا، فإنه تكلم على تأكد ركعتي الفجر، ثم قال: وقد اختلف أصحاب مالك في أنهما سنة أو فضيلة بعد اصطلاحهم على الفرق بين السنة والفضيلة، وذكر بعض متأخريهم قانونًا في ذلك، ثم ذكر الشيخ ما أثبته بين معكوفتين، ثم قال: واعلم أن هذا إن كان راجعًا إلى الاصطلاح فالأمر فيه قريب، فإن لكل أحد أن يصطلح في التسميات على وضع يراه، وإن كان راجعًا إلى اختلاف في معنى، فقد ثبت في هذا الحديث تأكد أمر ركعتي الفجر بالمواظبة عليها، ومقتضاه تأكد استحبابهما، فليقل به، ولا حرج على من يسميهما سنة، وإن أريد أنهما مع تأكدهما أخفض رتبة مما واظب عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مظهرًا له في الجماعة، فلا شك أن رتب الفضائل تختلف، فإن قال قائل: إنما سمى بالسنة أعلاها رتبة، رجع ذلك إلى الاصطلاح، انتهى. فهذا - كما ترى - مراد المؤلف في هذا الموطن، والله أعلم، وقد كان سبق للمؤلف رحمه الله في هذا الكتاب ذكر ما نقله هنا عن أبي الطاهر بن بشير رحمه الله تعالى. (¬2) "ت": "لا نشاححه".

الثامنة

كما في لفظ الحديث. قال القاضي عياض: واختلفت عبارة شيوخنا في الزائد على واحدة، هل هو سنة، أو فضيلة، أو الثانية سنة، والثالثة فضيلة؟ (¬1) ذكرَه في مطلقِ تكرار الغسل، ولم يقيِّدْه بغسل الكفين، وهو على اصطلاح المالكية في الفرق بين السنة والفضيلة؛ كما قدمناه، وليس في الحديثِ وغيرِ؛ ممَّا هو مثلُهُ من الأفعال النبويَّة ما يُشعِرُ بهذه الرتبة التي تُدَّعَى، فمن ادَّعى دليلًا على ذلك، فعليه بيانُهُ. وقد يمكنُ أن يقالَ من جانب من يرى الثانيةَ سنةً، والثالثةَ فضيلةً: إن احتمالَ النقصان من الواجب عندَ الاقتصار على واحدة أقوى من احتماله بالنسبة إلى الثالثة، فالحاجةُ إلى الثانية أمسُّ بالنسبة إلى تحصيل الواجب منها إلى الثالثة؛ لأنَّ الظاهرَ الاستكمالُ في الغسل مرتين، فتأخرت رتبة الثالثة عن الثانية في هذا المعنى، وإلى هذا يشيرُ قولُ مالكٍ: لا أُحِبُّ المرَّةَ إلا مِنْ العالمِ (¬2)، يعني: لاحتمال نقص غير العالم، عن الغسل الواجب. الثامنة: اختلف أصحابُ الشافعيِّ فيمن على محلِّ الطهارة من بدنه نجاسة؛ هل يكتفي بغَسْلةٍ عن طهارة الحَدَث والخَبَث فيه، أم لابدَّ [من] (¬3) غسلتين؟ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 14). (¬2) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 261). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "فتح العزيز" للرافعي (2/ 171).

التاسعة

ويمكن أن يُؤخَذَ من الحديث أنه [يكتفي] (¬1) بغسلة واحدة، وذلك [لأن] (¬2) التعليلَ في حديث المستيقظ من نومه؛ لأنه لا يدري أين باتت يده؟ يومِئُ إلى احتمال النجاسة، وأنه العلةُ في الأمر بغسل اليد ثلاثًا، فلا بدَّ من اعتبار هذا المعنى بالنسبة إلى طهارة الخَبَث، فلو لم يُجْزِ غسلٌ واحدٌ عن الحَدَث والخَبَث؛ لكان استحبابُ التثليثِ في الغسل عن الخبث لا يقتضي الاكتفاءَ به عن الغسل في الحديث، وإلا لتُطلبْ دلالةُ الحديث على استحباب التثليث في الطهارة عن الخبث التي دلَّ عليها حديثُ المستيقظ، وإذا لم يُكتفَ به وجبَ أن يُزادَ (¬3) عليه لأجل الطهارة عن الحديث، [فيغسلَ] (¬4) ستًّا أو أربعًا؛ لأنه إذا دلَّ الدليلُ على استحباب التثليث [في طهارة الحَدَث كانت ستًّا، وإن لم يكُ كانت أربعًا؛ وفاءً بالدليل الدالِّ على استحباب التثليث] (¬5) في الطهارة عن الخَبَث. التاسعة: قد ذكرنا أنَّ اسمَ اليد عند الإطلاق؛ هل ينصرِفُ إلى الكفين فقط، أو إلى جملةِ العضو إلى المنكب؟ ونسبنا إلى الحنابلة الأوَّلَ، ثم رأيتُ في تصنيف لبعض المتأخرين من الشافعية في شرح "المُهذَّبِ" ذَكَرَ عن أبي عُبيد بن حربويه (¬6) أنه قال: ينصرفُ - يعني: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل "أن لا يزاد"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) هو قاضي القضاة العلامة المحدث علي بن الحسين بن حرب بن عيسى البغدادي أبو عبيد بن حَرْبَوَيْه، ويقال: ابن حرب، والأول أشهر، كان =

العاشرة

اسمَ اليد - إلى جميعها. قال: واستدلَّ بأنَّهُ لما نزلت آيةُ التيممِ باليدِ مطلقًا مسحت الصحابةُ إلَى المناكبِ، قال: ونحن نقول: إنما قصدوا به الإسباغَ؛ أو كما قال (¬1). العاشرة: إنْ لمْ يُقصَرِ اسمُ اليد علَى الكفينِ عندَ الإطلاق؛ كما هو الصوابُ، فحقيقةُ قوله: (غسل يديه) يدلُّ علَى المجموعِ لا علَى البعضِ، فإذن يقتضي ذلك أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ غسل اليدين بعد الوجه ¬

_ = عالمًا بالاختلاف والمعاني والقياس، عارفًا بعلم القرآن والحديث، عاقلًا عفيفًا، وله اختيارات غريبة في المذهب، وتفرد بأشياء ضعيفة عند الأصحاب، ومع ذلك فقد كان من فحول العلماء. توفي سنة (319 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (11/ 398)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 536)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (14/ 536). (¬1) لكتاب "المهذب" لأبي إسحاق الشيرازي أربعة شروح؛ الأول منها: لأبي إسحاق إبراهيم بن منصور العراقي. المتوفى سنة (596 هـ) في عشرة أجزاء متوسطة. والثاني منها: لأبي عمرو عثمان بن عيسى المتوفى سنة (642 هـ) في عشرين مجلدًا، لكنه لم يكمله ووصل فيه إلى باب الشهادات. والثالث: لأبي الذبيح إسماعيل بن محمد الحضرمي، إلا أنه لم يكمله. والرابع - وهو أشهرها -: للإمام النووي، إلا أنه لم يكمله أيضًا ووصل فيه إلى باب الربا، فلم يكمل من هذه الشروح إلا شرح العراقي والحضرمي. ولعل المؤلف رحمه الله نقل هذا الكلام عن أحدهما، فإن صاحب الأصل، أعني الشيرازي، قد ذكر كلام أبي عبيد في "المهذب" (2/ 206) في الجنايات، فصل: وتجب في اليدين الدية، ثم قال: وقال أبو عبيد بن حرب: الذي تجب فيه الدية هو اليد من المنكب، لأن اليد اسم للجميع، والله أعلم.

غَسَلَ جميعَ ما يُراد باليدِ عندَ ذلك، وهو المُغَيَّى بالمرافقِ كما في الآيةِ الكريمة. إذا تبيَّنَ هذا، فقد اختُلِفَ فيما إذا غسل يديه قبلَ إدخالهما في الإناءِ، ثم يعيدُ (¬1) غسلَهما مع ذراعيه؛ هل يجزئُهُ ذلك، أم لا؟ فذكر الحافظُ أبو عمرو بن كتاب عنْ محمدِ بن عمر بن لُبابة أنَّهُ قال: لا يُجزئه، قال: قالَ محمد بن يحيىَ: لأنه بمنزلة من صلَّى نافلةً، فلا (¬2) تجزئُهُ من فريضة. قال: وفي "مصنف عبد الرزاق" عن عطاء: أنَّهُ تُجزئُهُ. وقال ابن عبد الحكم: إنْ كَان قصدَ (¬3) بذلك السنةَ، فلا يُجزئه، ويعيدُ من صلَّى بذلك، وإن قصدَ بذلك الفرضَ، فلم يعدْها، فتجزئه صلاتُهُ، إلا أنَّهُ يصير (¬4) كمَن نكس وضوءَهُ؛ لأنَّهُ غسل يديه قبلَ وجهِهِ، وإلَى هذا رجع أبو محمد (¬5) بعد أن قال: تجزئه. انتهَى ما وجدته في هذا. فلقائل أنْ يقول: هل يدلُّ هذا الحديث علَى أنَّهُ لا يُجزِئ، أم لا يدلُّ؟ فيُقَال علَى هذا: أمَّا مَنْ قالَ بأنَّ أفعالَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - علَى الوجوبِ فالدلالة ظاهرةٌ، وأما من لمْ يقلْ بذلك - علَى ما هو المختار في ¬

_ (¬1) "ت". "لم يعد". (¬2) في الأصل: "لا"، والتصويب من "ت". (¬3) "ت": "إنما قصد". (¬4) "ت": "يكون". (¬5) يعني: عطاء بن أبي رباح.

الحادية عشرة

الأصولِ (¬1) - فظاهرُهُ أنَّهُ لا يدلُّ. ويمكن أنْ يقالَ: بل يدلُّ، ووجهُ الدليل منه أنْ يقولَ: عدمُ وجوبِ غسل الكفين مع الذراعين مع دلالة الحديث علَى غسلهما ثانيًا عندَ غسل اليدين، يلزمُ منه أمر ممتنع، فيمتنعُ عدمُ الوجوب مع ما ذكرناه. [وإنما قلنا: إنَّهُ يلزم منه أمرٌ ممتنعٌ علَى هذا التقدير؛ لأنه يلزمُ منه] (¬2) الزيادةُ علَى الثلاثِ (¬3) في غسلِ الكفين، وهو مكروهٌ؛ أعني: الزيادة علَى الثلاثِ في غسل أعضاء الوضوء؛ كما دلَّ عليه الحديثُ الآتي: "فمَنْ زَادَ علَى هذَا أو نَقَصَ فقدْ أسَاءَ وظَلَمَ"، أو "ظَلَمَ وأَسَاءَ" (¬4). الحادية عشرة: للمالكيةِ طريقٌ في الاستدلالِ بالعددِ علَى التعبُّدِ، حيثُ يكون أصلُ الفعل محصلاً للمقصود علَى تقدير فهمِ المعنَى. مثالُهُ: أنَّهم لمَّا قالوا: إنَّ غسلَ الإناء من ولوغ الكلب تعبدٌ، ¬

_ (¬1) انظر: "المحصول" للرازي (3/ 345)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 247). (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "التثليث". (¬4) رواه أبو داود (135)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، والنسائي (140)، كتاب: الطهارة، باب: الاعتداء في الوضوء، وابن ماجه (422)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وإسناده صحيح، انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 83).

لا للنَّجاسةِ، استدلُّوا عليه بالأمرِ بالغسل سبعًا، وسلكوا هذه المادةَ حيثُ رأوا المعنَى معقولًا كغسل الرجلين، وهو كثيرٌ مباشرتُهما للأوساخ، واقتضَى ذلك أنْ يكونَ المقصودُ النظافة، فلم يستحبُّوا التثليث في غسلها (¬1)، وإنْ كَان صحيحًا في الحديثِ، فقد استعملوا هذه المادةَ طردًا وعكسًا؛ أي: حيثُ فُهِمَ المعنَى لمْ يروا بالعددِ، وحيث تعيَّنَ العدد لمْ يروا بكونِ المعنَى مفهومًا. وسلك هذه الطريقةَ في حديث عثمان - رضي الله عنه - أبو محمد عبد الواحد بن عمر السَّفاقسيُّ فيما وجدناه [عنه] (¬2)، فقال: وقوله في حديث عثمان: غسل يديه ثلاثًا، فيه حجة لابن القاسم، أنها عبادةٌ لتوفيتِهِ العددَ؛ هذا أو معناه. وهذه الطريقةُ عندنا ضعيفةٌ؛ لأنه لا منافاةَ بين فهمِ أصل المعنَى، وطلبِ التأكيدِ فيه والاستظهار بالزيادةِ في تحصيل المقصود [منه] (¬3). وأيضًا فلو سلَّمنا أنَّ العددَ دليلُ التعبُّد، لمْ يقدحْ ذلك في فهم أصل المعنَى، فقد يكون الأصلُ معقولًا، والتعبُّد في التفصيلِ، هذا يُفهمُ إذا لمْ يتوجهِ (¬4) المعنَى في التفصيلِ، فكيف إذا احتمل أنْ يكونَ مؤكدًا للأصل، أو غير ذلك من المعاني؟! ¬

_ (¬1) انظر:، "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 262). (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "إذا لم يتوجه يفهم"، والمثبت من "ت".

الثانية عشرة

الثانية عشرة: فيه دليلٌ علَى استحباب تقديم غسل الكفين علَى المضمضةِ، والاستنشاق؛ كما تقدم، وعلَى الوجهِ. الثالثة عشرة: ودليلٌ علَى استحباب تقديم المضمضة والاستنثارِ علَى الوجه. الرابعة عشرة: ودليل علَى الترتيبِ بين المسنوناتِ والمفروضات؛ كما بين المفروضات بعضها مع بعض، حتَّى لو أخَّرَ غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق عن غسل الوجه، لمْ يتأدَّ هذا الاستحبابُ. الخامسة عشرة: قد ورد في هذا الحديث التثليث في الغسلِ في الوجه واليدين والرجلين، وقد وقعَ اختلافٌ في بعض الرواياتِ والأحاديثِ بالنِّسبَةِ إلَى عموم التثليث في الأعضاءِ كلها، أو عدمه، وغسلِ بعضها ثلاثًا، وبعضها اثنين. قال القاضي عِياض - رحمه الله -: قالَ علماؤنا: فإنما الاختلافُ في فعل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الوضوءِ مرةً أو مرتين أو ثلاثًا؛ ليُرِيَ الرخصةَ لأمته، والتسهيلَ، وبيانَ الفرض من الزيادة عليه. [قال:] (¬1) وأمَّا ما جاء من الاختلافِ في حديث عثمان، وعبد الله ابن زيد - رضي الله عنهما -، في (¬2) ذكرِ الثلاث (¬3) في بعضها (¬4)، وتركها (¬5) في ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "و" بدل "في"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "التثليث". (¬4) في الأصل: "بعض"، والمثبت من "ت". (¬5) جاء في هامش "ت": "صوابه: وتركه".

السادسة عشرة

بعض (¬1)، فإنَّ ذلك من الرواةِ، [فمرةً ذكر بعضُهم العددَ، ومرةً تركه، ومنهم من نسي ذلك في بعضه، إذ قد وجدنا هذا الخلاف في الحديثِ الواحد، وفي القضيةِ المعينة التي إنما فُعِلت مرَّة، فدلَّ أنَّ الاختلافَ من الرواة] (¬2). ويصحُّ التأويلُ المتقدم فيما جاء منها في غير الحديث الواحد؛ كحديث ابن عباس، مع حديث عثمان وعبد الله بن زيد، فأمَّا (¬3) إذا وجدنا الخلاف في حديث عثمان بعينه، وحديث عبد الله بن زيد، [و] (¬4) لم يكونا إلا في مرة واحدة، [وصفة واحدة]، علمنا أنَّهُ من الرواةِ، وأثبتنا ما زادَ ثقاتُهُم (¬5). السادسة عشرة: قالَ القاضي: والأظهر (¬6) فيما فعله - صلى الله عليه وسلم - وما حُكِيَ عنه في ذلك من قولهم: (فغسلَ وجهَهُ ثلاثًا)، ومثلِهِ: أنَّها أعدادُ الغسلات، لا أعدادُ الغَرَفات؛ كما ذهب إليه بعضُهم، وأنه أتَى بما بعد الأولى (¬7) للكمال والتمام. وهذا احتمالٌ بعيد؛ لقولهم: غسل، ولم يقولوا: غرف، ولعدم ¬

_ (¬1) في المطبوع من "الإكمال": "في ذكر ترك الثلاث في بعض، واستيعابها في بعض". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "أما". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 14). (¬6) "ت": "الأفضل". (¬7) في الأصل: "الأول"، والمثبت من "ت".

الزيادة علَى الثلاثِ، ولو كان؛ يعني: للتمام، لمْ يقفْ علَى حدٍّ، ولأنه موضعُ بيانٍ وتعليم لا يمكن إغفالُهُ بتَّةً (¬1). وهذا الذي حكاه (¬2) عن بعضهم قد وجدته في كتاب "عارضة الأحوذي" للقاضي أبي بكر بن العربي مُختارًا له، قال: قالَ الرواةُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّهُ توضأ مرة، ومرتين، [وثلاثًا]، وذلك من قولهم لا يخلوا أنْ يخبروا به عن الغَرفاتِ، أو عن استيعابِ العضو (¬3) كلَّ مرة، ولا يجوز أنْ يكونَ اختيارًا عن استيعاب العضو، فإن ذلك أمرٌ مغيَّبٌ لا يصحُّ لأحد أنْ يعلمه، فعاد القولُ إلَى أعداد الغرفات، فلأجل ذلك قالَ ابن القاسم: لمْ يكنْ مالكٌ يوقتُ في الوضوءِ مرة ولا مرتين ولا ثلاثًا، إلا ما أسبغ، وقد اختلفت الآثار في التوقيتِ، إشارةً إلَى أنَّ المعوَّلَ علَى الإسباغِ، وذلك يختلف بحسب اختلافِ قدر الغرفة، وحال البدن في الشعثِ والسلاسة (¬4)، وحال العضو في الاعتدالِ أو الاختلاف (¬5). وقال أبو العباس القُرطبي: قوله: ثلاث مرات، هو تعديدُ الغسلات، لا تعديدُ الغرفات؛ كما ذهب إليه بعضهم، وليس بشيء، إذا لمْ يجرِ للغرفات في هذا الحديث ذكر، وإنما قال: غسل يديه ثلاثَ مرات، ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 14). (¬2) "ت": "حكي". (¬3) "ت": "الوضوء"، وعلى الهامش استدراك قوله: "لعله: العضو". (¬4) في المطبوع من "العارضة": "والسلامة". (¬5) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 64).

السابعة عشرة

و (ثلاث) منصوب بنصب المصدر؛ لإضافته إليه، فكأنَّهُ قال: غسلات ثلاثًا، ومن ضرورة ذلك تعديدُ الغَرَفات (¬1). قلت: الذي قاله القاضي أبو بكر في تعذُّرِ الحمل علَى الغسلاتِ (¬2)، وهو: أنَّهُ أمر مغيَّبٌ لا يصح لأحد أنْ يعلمَهُ، لمْ يتعرضِ القاضي عِياضٌ ولا أبو العباس القرطبي لردِّه، ولم يظهر لي وجهُهُ، فإن غسلَ الوجه أمر محسوسٌ يدركه البصرُ استيعابًا وتقصيرًا، فما المانعُ من الإحاطةِ به؟ السابعة عشرة: قد عُرف الكلام في المضمضةِ، وما قيل: إنَّ أصلَها التحريكُ، ومنه قولُ بعضهم: المضمضةُ: وضعُ الماء في الفمِ، ومضمضَتُهُ فيه، وهذا يقتضي أنَّ السنةَ لا تتأدَّى إلا بالتحريكِ للماء في الفم، وفيه نظر. الثامنة عشرة: ذكرُ الاستنثارِ في هذا الحديث دونَ الاستنشاق، هو الروايةُ التي أوردناها (¬3) عن مسلم، وهو عندَ أبي داود أيضًا من رواية مَعْمر، عن الزُّهريّ، عن عطاء بن يزيد، كذلك ليس فيه ذكر الاستنشاق (¬4)، ومَن جعل الاستنثارَ مأخوذًا من النَّثْرةِ جعله مُنطلقًا علَى استنشاق الماء ودفعه. قالَ بعضُهم: والاستنثارُ: إيصالُ الماء إلَى الأنفِ ونثرُه منه بنَفَسٍ ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 480). (¬2) في الأصل "الغرفات"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "أوردها". (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (106).

التاسعة عشرة

أو بإصبعه، وسُمِّيَ استنثارًا بآخر الفعل، و [قد] (¬1) سُمِّي استنشاقًا بأوله، وهو استدعاءُ الماء بنَفَس الأنف (¬2). وقال غيره: وأما الاستنثارُ؛ فتارةً يُراد به الاستنشاقُ، وهو اجتذابُ الماء بالنَّفَسِ إلَى باطن الأنف، وتارةً يراد به رمي ما في الأنفِ من الأذَى، والنَّثْرَةُ الأنف. والقاضي عِياض خالفَ في هذا وحكَى عن ابن قُتيبة أنَّهُ قال: الاستنشاقُ والاستنثار سواء، مأخوذٌ من النَّثرة، وهو طرف الأنف، قال: ولم يقلْ شيئاً، بل الاستنشاقُ من النَّشْق، وهو جذبُ الماء إلَى الأنفِ بالنَّفَسِ، والنشوقُ الدواءُ الذي يصبُّ في الأنفِ، والاستنثارُ من النَّثرة، وهو الطرح، وهو هنا طرحُ الماء الذي نشُقَ قبلُ ليُخرِجَ ما تعلق به من قذر الأنف، وقد فرَّقَ بينهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهِ: "فَلْيَسْتَنْشِقْ بمنخَرَيْهِ من الماءِ، ثمَّ لِيَنْتَثِرْ (¬3) " (¬4). التاسعة عشرة: إفرادُ الاستنثار بالذكرِ كما في هذه الرواية يدلُّ علَى أنَّها سنةٌ مُستقلةٌ، إذا حملناه علَى الدفعِ، هكذا ظاهره، ويكون الدليلُ علَى أن الاستنشاقَ سنةٌ من وجه آخر. وإن جعلنا الاستنثارَ يتناولُ الأمرين معًا؛ أعني: الجذب ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 84). (¬3) في الأصل: "ليستنثر". (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 30 - 31).

العشرون إلى الخامسة والعشرين

والدفعَ، فيُحتملَ أنْ يقال: إنهما سنتان، ويحتمل أنْ يُقَال: إنها سنةٌ واحدة. والقاضي عِياض - رحمه الله - قال: وهما عندنا سنَّتان؛ يعني: الاستنشاق والاستنثار، قال: وقد (¬1) عدَّها بعضُ شيوخنا سنةً واحدة (¬2). والأمرُ في هذا قريبٌ بعد ثبوت استحباب فعل كل واحد منهما. العشرون إلَى الخامسة والعشرين: فيه دليلٌ علَى أصل المضمضة، وعددها، وأصل الاستنثار، وعدده، فهي أربعُ مسائلَ، وإن دخلَ (¬3) فيه الاستنشاقُ، وعدده، كانت ستًّا. السادسة والعشرون: تقديمُ المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه يعلَّلُ بأنَّ الصفاتِ المعتبرةَ في طهورية الماء وعدم طهوريته وجودًا وعدمًا ثلاثٌ: اللونُ، والطعمُ، والرائحةُ؛ فاللونُ يُدرَكُ بالبصرِ، والطعمُ بالذوقِ، والرائحةُ بالشمِ، فقُدِّمَتْ علَى الفرض؛ ليُعلَمَ اجتماعُ صفاتِ الطهورية في الماءِ قبل الشروع في أداء الفرض به، ولو لم تسنَّ هاتان السنَّتانِ لأمكنَ أنْ يكونَ الماءُ علَى صفة لا يُدفَعُ بها الحَدَث، ولو سُنَّتا متأخرتين لاحتيج إلَى الإعادةِ للفرض، وفي ذلك عسرٌ، فمشروعيتهما مُتقدّمتين محصِّلٌ لمقصود اعتبار صفة الماء ¬

_ (¬1) في الأصل: "فقد"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 30). (¬3) "ت": "أدخل".

السابعة والعشرون

المعتبرة في التطهيرِ، نافٍ للعسر الناشئِ من (¬1) الإعادة. السابعة والعشرون: [قوله] (¬2): (إلَى المرفقين) في اليدينِ، ليس فيه بيانٌ لدخولهما أو عدم دخولهما؛ كما في الآيةِ الكريمة، غير أنَّهُ يدل علَى أنَّ المرفقَ معلوم عندَ الراوي، غيرُ مُشتبِهٍ؛ لأنه ذكره مُعْلِمًا ومُخْبرًا عن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي المقصودُ منه القدوة، وذلك ينافي اشتباهه عنده، وذكر عن أبي إسحاق الزجَّاج أنَّهُ قال (¬3). الثامنة والعشرون: قوله: (ثم مسح رأسه)، يستدِلُّ به مَن لا يرَى تكرارَ مسح الرأس، وهو مذهبُ أبي حنيفة، ومالكِ، والشافعيُّ يستحبُّه ثلاثًا، وعن الإمام أحمد روايتان (¬4). وليس وجهُ الدليل من هذا الحديث مجرَّدَ عدمِ الذكر، بل معه قرينةٌ زائدة علَى ذلك، وهو ذكرُ التكرار في جميع الأعداد، وإفرادُ الرأس عمَّا تقتضيه قرائنُهُ في الذكر. وقد [تنبَّهَ، و] (¬5) نبَّهَ علَى ذلك أبو داود السِّجستاني - رحمه الله - فقال: أحاديثُ عثمان - رضي الله عنه - الصّحاح، كلُّها تدلُّ علَى مسح الرأس ¬

_ (¬1) في الأصل: "إلى"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) إلى هنا قيدت الفائدة السابعة والعشرون في كل من نسختي "م " و "ت"، وجاء على هامش "ت": "بياضٌ نحو السطرين من الأصل". (¬4) الصحيح منهما: أنه لا يمسح، انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 88)، و"المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 495). (¬5) سقط من "ت".

أنَّهُ مرةٌ؛ فإنهم (¬1) ذكروا الوضوءَ ثلاثًا، وقالوا فيها (¬2): (مسح رأسه)، ولمْ يذكروا عددًا (¬3)؛ كما ذكروا في غيره (¬4). ورجَّحَ بعضُ الحنابلة (¬5) (¬6) التكرارَ بأنَّهُ قد روَى مسلم من حديث عثمانَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ ثلاثًا ثلاثًا، قالَ: ورواه أبو داود من حديث حُمران، وشقيق، عن عثمان: أنَّهُ وصفَ وُضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمسح برأسه (¬7) ثلاثًا (¬8). ورواه الدارقُطني من حديث حُمران، وشقيق، وعبد الله بن جعفر، وابن دارهَ مولَى عثمان، وابن البيلماني، عن أبيه؛ كلهم عن عثمان: أنَّهُ حكَى وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسح برأسه ثلاثًا (¬9). ¬

_ (¬1) في الأصل "فإنه"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "منها"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "أعدادًا". (¬4) انظر: "سنن أبي داود" (1/ 26)، عقب حديث (108). (¬5) "ت": "الحنبلية". (¬6) نَصَرَ أبو الخطاب وابن الجوزي الرواية المنقولة عن الإمام أحمد بتثليث مسح الرأس، كما ذكر ابن مفلح في "الفروع" (1/ 120). (¬7) "ت": "رأسه". (¬8) رواه أبو داود (107)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث حمران، به. ورواه (110)، من حديث شقيق بن سلمة، به. (¬9) انظر: "سنن الدارقطني" (1/ 91 - 92). قلت: وأسانيدها ضعيفة، كما ذكر الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 31).

قال: والأخذُ بهذه الزيادةِ وهذا البيانِ أولَى من الأخذِ بأمر مُحتمل؛ لأنَّ من لمْ يذكرْ في المسحِ عددًا يُحتملُ أنَّهُ لمْ يحفظِ العدد، ويُحتمل أنْ يكونَ أحالَ به علَى العددِ المتقدم. قلت: الأحاديثُ التي لمْ يذكرْ فيها التكرارُ في مسح الرأس علَى وجهين: أحدهما: سُكِتَ عن العددِ فيه، وذكر في غيره. والثاني: نُصَّ فيه علَى المرة. والأحاديثُ التي تدلُّ علَى التكرارِ أيضًا علَى وجهين: أحدهما: ما يدلُّ بطريق العموم؛ كالذي ذكره عن مسلم، فإنه ليس بنصٍّ في التكرارِ في مسح الرأس بخصوصه. والثاني: ما نُصَّ فيه علَى التكرارِ في مسح الرأس. وإنما نتكلم الآنَ علَى حديث عثمان - رضي الله عنه - خاصَّة، فإنه [الذي] (¬1) تكلَّم (¬2) عليه هذا الحنبلي، فنقول: ترجيحُهُ الأخذَ بهذه الزيادة وهذا البيان علَى الأخذِ بأمرٍ مُحتمل، فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ يحتاج إلَى ثبوت بعضِ هذه الروايات المقتضية للتكرار، وقد ذكرنا قول أبي داود: أحاديث عثمان الصحاح ... إلَى آخره، وفيه تعريضٌ بالتمريضِ في غيرها، والذي صُرِّحَ فيه بالمسحِ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "يتكلم"، والمثبت من "ت".

التاسعة والعشرون

ثلاثًا في رواية حُمران هو من رواية عبد الرحمن بن وَرْدَان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن (¬1) حمران. وأما رواية شقيق التي أشارَ إليها، فمن طريق عامر بن شقيق بن جمرة، عن شقيق بن سَلمة قال: رأيتُ عثمانَ بن عفان - رضي الله عنه - غسل ذراعيه ثلاثًا، ومسح رأسه ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا، قالَ أبو داود عقيبَ هذه الرواية: رواه وكيع، عن إسرائيل قال: [توضَّأَ ثلاثًا فقط (¬2). وأمَّا [ما] (¬3) ذَكَرَهُ من روايات الدارقُطني، وروايات حُمران، فهذا ما يتعلق بالتصحيحِ، أو عدمه. والوجه الثاني: إن قوله: بأمر مُحتمِل، متوجهٌ أيضًا في الحديثِ الذي نسبه إلَى مسلم، فإنه مُحتمِلٌ للتخصيص بإخراج الرأس عن جملة الأعضاء، فيحتاج إلَى ترجيح أحد المُحتمِلين علَى الآخرِ بالنِّسبَةِ إلَى هذه الرواية العامة الصحيحة] (¬4). التاسعة والعشرون: هكذا في هذه الرواية عندنا في كتاب مسلم: ثم مسح رأسَهُ بغيرِ ماء، وكذلك من رواية أبي داود، من رواية معمر، عن الزُّهريِّ: مسح رأسه، وظاهرُهُ يقتضي مسحَ الجميع، إذْ هو ¬

_ (¬1) "ت": زيادة "راويه". (¬2) في الأصل: "قط"، والعبارة سقطت من "ت"، والتصويب من سنن أبي داود (98). (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) سقط من "ت"، وعلى الهامش: "بياضٌ نحو صفحة من الأصل".

الثلاثون

الحقيقةُ في مُسمَّى الرأس مع سلامته عن معارضة دخول الباء، فمَن زعم من الأصوليين (¬1): أنَّ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] مُجمَلٌ، فمُقتضَى ظاهر هذا الحديث: أنَّ المرادَ مسحُ الجميع، قد يُدَّعَى أنَّهُ بيان للمُجمَلِ؛ كما زعموا في قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]: أنَّهُ مُجْملٌ بالنِّسبَةِ إلَى دخول المرفقين وعدم دخولهما، يبيِّنُهُ: أنه - صلى الله عليه وسلم - أدارَ الماءَ علَى مرفقيهِ، لكنا لا نرغبُ في هذا لوجهين: أحدهما: أنَّ المختارَ في علم الأصول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ليس بمُجمل (¬2)؛ لأنه لا يخلو أنْ يثبتَ عُرْفٌ في ظهور استعماله في بعضٍ؛ أي: بعضٍ كان، أو لا، فإن ثبتَ فلا إجمالَ؛ لأنَّ المرادَ حينئذ البعضُ؛ أي: بعضٌ كان، وإنْ لمْ يثبتْ فلا إجمالَ أيضًا؛ لأنَّ الباءَ [فيه] (¬3) للإلصاق، والرأسُ حقيقةٌ في كله، فيكون المرادُ كلَّه. والثاني: المطالبةُ بكون هذا الفعل وقع بيانًا، فإنه ليس كلُّ فعل كذلك. الثلاثون: اختلف الناسُ في وظيفة الرِّجل، والمنقولُ فيه (¬4) أربعةُ مذاهبَ: ¬

_ (¬1) وهم بعض الحنفية. (¬2) انظر: "المحصول" للرازي (3/ 245)، و"الإحكام" للآمدي (3/ 17)، و"البحر المحيط" للزركشي (5/ 71). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "فيها".

الحادية والثلاثون

أحدها: الغسلُ عينًا، وهو مذهب فقهاء الأمصار، وجمهور علماء الأمة. والثاني: المسحُ عينًا، وهو مذهب المبتدعة الإمامية. والثالث: التخييرُ بينهما، وهو مشهور عن أبي جعفر محمد بن جرير الطبري. والرابع: الجمعُ بينهما، ويُعزَى لبعض أهل الظاهر، وهو أغربُ الأقوال (¬1). والحديثُ يدل علَى الغسلِ؛ كما هو المذهب المشهور، ويبطل مذهب الإمامية في تعيينِ المسح للفرضية، ومنعِ إجزاء الغسل. الحادية والثلاثون: المتحققُ من الحديثِ هو إجزاءُ الغسل، وإبطالُ مذهب من نفى الإجزاءَ به؛ كما ذكرناه، ولا يلزم من ذلك الإيجابُ لأحد الأمرين عينًا؛ أعني: المسح أو الغسل؛ لأنَّ الواجبَ المخيَّرَ فيه تجزِئُ كل خصلة منه مِن غيرِ إيجاب لعينها، فلا يكون مُبطلًا لمذهب ابن جرير. وأما المذهب الرابع، وهو وجوب الأمرين، ففي كون الحديث مبطلاً له نظرٌ، إلا أنْ يريدَ أنَّهُ لا بدَّ من وقوع الأمرين، بمعنَى: أنْ يُقيِّدَ المسحَ بقيد يُنافي الغسلَ، فحينئذٍ يكون مُبطلًا لقوله. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 29) وقال: وقد أوضحت دلائل المسألة من الكتاب والسنة وشواهدها، وجواب ما تعلق به المخالفون بأبسط العبارات المنقحات في "شرح المذهب"؛ يعني: "المجموع" (1/ 476)، بحيث لم يبق للمخالف شبهة أصلًا إلَّا وضح جوابها.

الثانية والثلاثون

وبالجملة فظاهرُ قراءة: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]- بالجرِ - تعارضُ هذا الحديثَ، وسنتكلمُ علَى ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالَى. الثانية والثلاثون: فيه دليلٌ علَى استحباب التكرار في غسل الرجلين، وهو مذهبُ الشافعيِّ (¬1) وغيره. والمالكيةُ لا يرَون (¬2) بذلك، ويقولون: المقصودُ فيهما الإنقاءُ، فيتبعُ، ولا يُتقيَّدُ بعدد (¬3)، ومعلوم أنَّ هذا المقصود لا يُنافيه الاستظهارُ بزيادة العدد، وما لا ينافي الشيءَ لا يمتنع اجتماعُهُ معه، وقد يكون الأمران مقصودَين. الثالثة والثلاثون: الكلام في (إلَى) بالنِّسبَةِ إلَى الكعبينِ كالكلامِ فيه بالنِّسبَةِ إلَى المرفقينِ؛ أعني: في اقتضائها دخولهما، وفي وجوب كون الراوي عالمًا بمدلول لفظ الكعبين (¬4)، غير مشتبه عنده؛ لتعيّنِ مقصودِه في الإخبارِ بما يُقتدَى به من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنافاةِ ذلك للاشتباه. الرابعة والثلاثون: قد تكلمنا في لفظ (الكعب)، والذين يقولون: إنَّهُ الناتِئ، عندَ مَفصِلِ الساق والقدم، فيستدلون بحديث النُّعمان بن بَشير، وهو ما رُوِيَ عنه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقبلَ علينا بوجهه، وقال: ¬

_ (¬1) انظر: "التنبيه" للشيرازي (ص: 15)، و"التمهيد" لابن عبد البر (20/ 129). (¬2) في الأصل: "يريدون"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 262). (¬4) "ت": "اللفظ للكعبين".

الخامسة والثلاثون

"أَقيمُوا صُفُوفَكُمْ"، فلقد رأيتُ الرجلَ منا [يُلزِقُ] (¬1) كعبَهُ بكعبِ صاحبه، ومَنكِبَهُ بمنكبه (¬2). وقد يقال: إنَّ هذا إنما يدلُّ علَى أن اسمَ الكعب ينطلقُ عليهما، وهذا قد لا يُنازعُ فيه، وهو (¬3) كلامٌ في الوضعِ، والخلافُ إنما هو في الحملِ، وهو لا يدلُّ عليه بنفسه، وفي هذا نظر. وقد يُستدلُّ عليه من خارج بقوله - عليه السلام -: "ويلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ" (¬4)؛ فإنه لو كان الكعبُ هو الناتئُ عندَ مَعقِدِ الشِّراك، واقتصر الوجوبُ عليه، لمْ يلزمْ غسلُ العقب، واللازمُ منتفٍ بالحديثِ، ولكنه لا يدل علَى الفعلِ إلا بضميمةِ مقدمةٍ أُخرَى. الخامسة والثلاثون: لفظ (المثل) و (النحو) ليسا مُترادفين، فلفظ (المثل) دالٌّ علَى المساواةِ بين الشيئين، إلا فيما لا يقعُ التعددُ إلا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه أبو داود (662)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 276)، وابن حبان في "صحيحه" (2176)، وغيرهم. قال ابن كثير في "تفسيره" (2/ 30): فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه إلا والمراد به العظيم الناتئ في الساق حتى يحاذي كعب الآخر، فدل ذلك على. ما ذكرناه من أنهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، كما هو مذهب أهل السنة. (¬3) "ت": "وهذا". (¬4) رواه البخاري (60)، كتاب: العلم، باب: من رفع صوته بالعلم، ومسلم (241)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

السادسة والثلاثون

به، هذا حقيقته، ويستعملُ مجازًا فيما دونَ ذلك من المقاربةِ للفعل. ولفظ (النحو) يدل علَى المقاربةِ في الفعلِ، لا علَى المماثلةِ، وإن استعملَ في المثلِ بملاحظةِ معنى آخر يصحُّ استعمالُهُ فيه. السادسة والثلاثون: قد عُلِّقَ الثوابُ المذكور في الحديثِ علَى (النحو)، وقد بيَّنا أنَّهُ لا يدل علَى المماثلةِ، فيحتمل أنْ يكونَ ذلك من باب التسهيل والتيسير؛ أي: تعلق الثواب علَى المقاربةِ، لا علَى المماثلةِ، وإن فاتَ بعضُ ما يمكنُ أنْ يكونَ مقصودًا من الفعلِ الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - تسهيلًا وتيسيرًا. ويحتمل أنْ يكونَ ذَكَرَ النحوَ هاهنا لإخراجِ ما لا يُعتبرُ في معنَى المماثلة بالنِّسبَةِ إلَى هذا المقصود؛ أعني: الثواب المذكور، فإنه لو أُطلقتِ المماثلةُ لتناولت جميع الصفات التي تفتقر المماثلة إليها، مع أن بعضَهَا غيرُ معتبر في المقصودِ، فذَكَرَ (¬1) النحوَ لإخراج ما لا يُعتبر (¬2). ¬

_ (¬1) "ت": "وقد ذكر". (¬2) وانظر: "شرح عمدة الأحكام" للمؤلف (1/ 37 - 38)، فإنه ذكر قريبًا مما قاله هنا. قال النووي في "شرح مسلم" (3/ 108) في شرح هذا الحديث: إنما لم يقل "مثل"؛ لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 260): لكن ثبت التعبير بها في رواية البخاري في "الرقاق" من طريق معاذ بن عبد الرحمن، عن حمران، ولفظه: "من توضأ مثل هذا الوضوء". وله في "الصيام" من رواية معمر: "من توضأ بوضوئي هذا". =

السابعة والثلاثون

السابعة والثلاثون: الحديثُ يدل علَى أنَّ الثوابَ المذكور مرتَّبٌ علَى الوضوءِ بالصفةِ المذكورة، والصلاةِ الموصوفة معه، فمن ذكره في فضائل الوضوء بمجرَّدِهِ، يُعترَضُ عليه بأنَّ الثوابَ مرتبٌ علَى المجموعِ لا علَى الوضوءِ بمفرده. وقد يجاب عنه بأنَّ ذِكْرَه في سِياق الفضيلة يدلُّ علَى أنَّ له فضلَهُ، لكنه لا يدلُّ علَى هذه الفضيلة المخصوصة؛ أعني: تحصيلَه للثواب المذكور، ومطلقُ الفضيلة أعمُّ من الفضيلةِ المخصوصة، فيحصل المقصودُ من الاستدلالِ به على مطلقها، ولكن ليتنبَّهْ لِما ذكرناه من الفرقِ بين مطلق الفضيلة والفضيلة المخصوصة بالنِّسبَةِ إلَى الاستدلالِ بهذا الحديث. الثامنة والثلاثون: لا شكَّ أنَّ حقيقةَ التراخي التي يدلُّ عليها لفظ (ثم) غيرُ مُعتبَرة، ولا مقصودة، فيعود الكلام المذكور في (ثم) إلَى هذا الموضع. التاسعة والثلاثون: يتعلَّقُ الثوابُ بمسمَّى ركعتين، وهو يَنفي (¬1) اشتراطَ الزائد في تحصيل هذا الثواب، واعتبارَ الناقص في ذلك أيضًا، ¬

_ = ولمسلم من طريق زيد بن أسلم، عن حمران: "من توضأ مثل وضوئي هذا". وعلى هذا؛ فالتعبير بـ: "نحو"، من تصرف الرواة؛ لأنها تطلق على المثلية مجازًا، ولأن "مثل" وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرًا، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود. (¬1) في الأصل: "وهي تنفي"، والمثبت من "ت".

الأربعون

والمُسمَّى لا يدلُّ علَى الفرضية (¬1) ولا علَى النَّفليةِ، لكن قد يسبق إلَى الذهنِ أنَّ المرادَ النفليةُ. الأربعون: ويسبق أيضًا أنَّ المرادَ به صلاتُهما بهذا الوضوء، حتَّى لو توضَّأَ هذا الوضوءَ، ثم أحدثَ، وتوضأ وضوءًا آخر بغيرِ هذه الصفة، لمْ يحصلِ المقصودُ وإنْ كَان اللفظُ يقتضيه، لكنَّ مقاصدَ الكلام، وما يُفهم منه ومن القرائنِ، قد تَدلُّ علَى ما لا يُشعرُ به وضعُ اللفظ، ولتُعتبرْ في مثل ذلك القرائنُ وقوةُ دلالتها، وضعفُه (¬2). الحادية والأربعون: المقصودُ باشتراط نفيِ حديث النفس حضورُ القلب والخشوعُ، الذي ظهر الاعتناءُ به، وأنه مقصودٌ أعظم في الصلاة، [وإنما يُكتبُ ما حضرَ منها، ورُبَّما نُقِلَ عن بعضهم اشتراطُهُ في الصلاة] (¬3)، وبعضهم يقول: إنَّهُ مُشترَطٌ في تكبيرة الإحرام لا غير، يعني به: النية. الثانية والأربعون: حديثُ النفس: هي الوساوسُ الطارقةُ للقلب، وهو لها بمنزلة النهر، وهي بمنزلة السيل المتوجِّهِ إليه، ويتعذَّرُ خلوُّ النفس عنها تعذرًا شديدًا، لكنه غيرُ مُمتنعٍ في حقِّ من أكثرَ ذكرَ الله تعالَى [كثيرًا] (¬4)، حتَّى غمرَ قلبَهُ، وغلب عليه، وليس البابُ بابَ ¬

_ (¬1) " ت ": "الفريضة". (¬2) أي: ضعف ما يشعر به الوضع. (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الثالثة والأربعون

تكليف حتَّى تقول: هو عَسِرٌ (¬1)، فلا يعلَّقُ الحكم به، وإنما هو ترتيبٌ لثواب مخصوص علَى فعلٍ مخصوصٍ ممكنٍ في نفسه، فمَن حصل له ذلك حصل ثوابُهُ، ومَن لا فلا. الثالثة والأربعون: ويمكن أنْ يقال: إنَّ الثوابَ متَرَتِّبٌ علَى عدم تحديث النفس لا علَى عدم حديثها، وبينهما فرقٌ؛ لما يقتضيه التحديثُ من التَّفعّلِ، وعدمِ الاجتهاد في دفع ما يرِدُ علَى النفسِ من تلك الوساوس، وعدم الإصغاءِ إليها بالاستمرارِ فيها، وتشهد له لفظة (¬2): "يُحَدّثُ فيهِمَا نَفْسَهُ ". الرابعة والأربعون: السابقُ إلَى الفهمِ من الحديث، أنَّ المُعتبَرَ والمشترطَ نفيُ الحديث في جميع الركعتين، ودخول النفي علَى الفعلِ المقتضي للعموم، يقتضي العموم في الحديثِ، والنظرُ إنما هو في الظرفِ، و [هو] (¬3) الركعتان، هل يقتضي ذلك العمومُ في الحديثِ العمومَ في الركعتين، حتَّى يكونَ المشترطُ أن لا يقعَ حديثٌ ما في شيءٍ من الركعتينِ؛ كما سبق إلَى الفهمِ، أو يكون العمومُ في الحديث لا يقتضي العمومَ في الركعتين، ويكون المُعتبَرُ المرتَّبُ [عليه] (¬4) الثوابُ أن لا يقعَ حديثٌ ما في بعض الركعتين؟ فيه نظر، فعليك بتأمّلِهِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عزيز"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "لفظ ". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الخامسة والأربعون

فرُبَّما يقال: إنِّهُ لا يقتضي عدمَ الحديث في جميع الركعتين؛ لأنَّ الركعتينَ ظرف ومظروفهما (¬1) عدمُ كلِّ حديث، وليس من شرط الظرفِ أنْ يستوعبَ المظروف، فيمكن أنْ يكونَ هذا المظروفُ، الذي هو عدم [كلِّ حديث] (¬2)، لا يعمُّ الظرفَ، الذي هو كل الركعتين، ويكون مُقتضَى اللفظ أنْ يكونَ الشرطُ عدمَ كل حديث، لكن لا في كلِّ الركعتين، بل (¬3) في بعضها، والذي يناقضُ هذا هو وجودُ الحديث في كلِّ الركعتين، لا في بعضهما؛ أعني: في بعض أجزاء الركعتين. الخامسة والأربعون: قد تقدَّم الكلامُ [فيما يقتضي] (¬4) الترتيبَ بين المفروضات وبين المسنونات، وبين المسنونات والمفروضات، والحديثُ يدلّ علَى جميع ذلك، ومما يدلّ [عليه] (¬5) الترتيبُ بين اليُمنَى واليُسرَى في اليدينِ والرجلين، ومَن يشترطُ الترتيبَ في المفروضاتِ لا يشترطه (¬6) فيهما، وعُلّلَ ذلك بجمعهما في الآيةِ الكريمة، لكن الحديثَ دالٌّ علَى ترجيح الترتيب فيهما. السادسة والأربعون: الغَفْرُ: هو السَّترُ في الأصلِ، ثم يستعملُ ¬

_ (¬1) في الأصل "مظرف فهُما"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "لا"، لكن جاء على الهامش: "لعله: بل". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "لا يشترط"، والمثبت من "ت".

السابعة والأربعون

في المحوِ والإزالة كثيرًا، [حتَّى] (¬1) غلب ذلك في الاستعمالِ، غير أنَّهُ إذا جُمعَ معه في اللفظِ المتقارب دلَّ علَى التغايرِ في المعنَى احترازًا عن التكرارِ مِن غيرِ فائدة زائدة. وأما عندَ الإطلاق فهل يُحملُ علَى الوضعِ الأصلي، أو علَى ما غلبَ في الاستعمال؟ فيه احتمالٌ يَنبنِي عليه أنَّهُ هل يحتاج إلَى نبة تَصْرِفُه إلَى معنَى المحو؟ ولنا في هذا المعنَى كلامٌ في غير هذا الموضع. السابعة والأربعون: ظاهرُ الحديث يقتضي غفرانَ جميع الذنوب؛ صغيرِها وكبيرِها، مرتبًا علَى ما ذُكِرَ، ولكنهم يحملونه علَى الصغائرِ، وقد ورد مقيدًا بذلك في مواضعَ؛ كرمضان إلَى رمضان (¬2)، فطُرِدَ ذلك القيدُ فيما لمْ يقيَّدْ، وحُمِلَ عليه فيما هو مثلُ ذلك، وفي هذا نظر. لكنَّهُ ادُّعيَ أنَّ الكبائرَ لا يمحوها إلا التوبةُ، ورُبَّما أشير إلَى أنَّهُ متفقٌ عليه، نعم هاهنا حديثٌ خاصٌّ مقيد بعدم إتيان الكبائر، قريب من المشترطِ في هذا الحديث، وهو قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوؤَهَا، وخُشُوعَهَا، ورُكُوعَهَا، إلا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا منَ الذُّنُوبِ، ما لمْ يُؤْتِ كبيرةً، وذلك الدَّهْرَ كلَّهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) تقدم تخريجه في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (228)، كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة =

الثامنة والأربعون

الثامنة والأربعون: قولُ ابن شهاب: قالَ علماؤنا: هذا أسبغُ ما يتوضَّاُ به أحدٌ للصلاة، يمكن أنْ يُرادَ به من حيثُ العددُ في المراتِ [إشارًة] (¬1) إلَى كراهة ما زاد علَى ذلك، وسيأتي ما يدلُّ علَى الكراهةِ في الزيادة. ويمكن أنْ يُرادَ به ما ذُكِرَ فيه من الزيادةِ علَى الواجبات؛ كغسل الكفين، والمضمضة، والاستنشاق، علَى مذهب من لا يرَى وجوب ذلك، ويكون معنَى الإسباغ: الإتمامَ والإكمالَ لوظائف الوضوء، سننِها (¬2) ومفروضِها، لا إلَى ما يرجع إلَى عدد مرات الغسل. التاسعة والأربعون: لا شكَّ أنَّ ترتيبَ الثواب علَى الفعلِ يلزمه صحةُ الفعل، فعلَى هذا كلُّ ما اختُلِفَ [فيهِ] (¬3) من وظائف الوضوء، هل هو واجب، أم لا؟ وليس مذكورًا في الحديثِ يمكن أنْ يُستدلَّ بالحديث علَى عدمِ وجوبه، ومن ادَّعَى وجوبَ شيء زائد فعليه الدليلُ. الخمسون: تكلَّمَ بعضُ الفضلاء في حكمة غسل أعضاء الوضوء، وذكر وجوها: منها اثنان يأتيانك في شرح حديث عمرو بن عبسة. ومنها: أنَّ الصلاةَ وجبت شكرًا لنعمةِ البدن لنوع خاص، وهو أنَّهُ رُزِقَ من الأعضاءِ اللينة المفاصلَ التي بها يقدر علَى الأحوالِ ¬

_ = عقبه، من حديث عثمان - رضي الله عنه -. (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "وسننها"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

المختلفة من القيام، والقعود، والركوع، والسجود، ونحو ذلك، أُمِرَ بصرف هذه الأعضاء، واستعمالِها في خدمة الربِّ - جل جلاله - في هذه الأحوال شكرًا، إذِ الشكرُ استعمالُ النِّعَمِ في خدمته وطاعته. ولله تعالَى علَى المرءِ نِعَمٌ أخرَى في البدنِ، لمْ تُجعلِ الصلاةُ شكرًا لَها، وهي كونُ هذه الأعضاء وسائلَ إلَى استيفاء نعمٍ عظيمةٍ، بل بها يُنال جُلُّ نِعَمِ الله تعالَى. أما اليدُ فبها يَتناولُ ويقبض، وأما الرِّجلُ فبها يمشي، وبها يصل إلَى مقاصده، وأما الوجهُ والرأسُ فهما محلُّ الحواس ومَجمعها، التي تُعرَفُ بها (¬1) عظيمُ نعم الله تعالَى من نحو: العين، والأنف، والفم، والشمِّ، والذوق، والسمع، [التي] (¬2) بها يكون التلذُّذُ، والتشهي، والوصولُ إلَى جميع النعم، فأمرَ بغسل هذه الأعضاء شكرًا؛ لما يتوسَّلُ بها إلَى (¬3) هذه النعم. ومنها: أنَّ الأمرَ بغسل هذه الأعضاء [ليطهرَها من الدرنِ والأوساخ التي تتصل بهذه الأعضاء] (¬4)، فإنها هي البادية من الأعضاءِ فيتحقَّقُ التزيينُ والنظافة لها، والصلاةُ خدمةُ الله تعالَى والقيامُ بين يديه، فكأنَّ [القيامَ] (¬5) ¬

_ (¬1) في الأصل: "بها تعرف"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "على"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

بين يديه متطهرًا من الأوساخِ أقربُ إلَى التعظيمِ والحرمة، فيكون ذلك سببَ كمال الخدمة، ولهذا في الشاهد: من أرادَ أنْ يقومَ بين يدي الملك للخدمة يتكلَّفُ مثل هذا التنظيفِ (¬1) والتزيُّن، ويلبسُ أحسنَ ثيابه ثم يدخل عليه تعظيمًا له (¬2)، فهذا مثله، ولذلك قيل: الأولَى أنْ يصليَ الرجلُ في أحسن ثيابه التي أعدَّها لزيارة العظماء، ولمحافل الناس، وإنَّ الصلاةَ متعمَّما أفضل من الصلاةِ مكشوفَ الرأس، لما أنَّ ذلك أبلغُ في الاحترامِ، والله أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "يتكلف التنظيف للمتنظف"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "للملك له"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "بدائع الصنائع" (1/ 114 - 115)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله.

الحديث الثاني

الحديث الثاني وعنْ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي لَيلَى قالَ: رأيتُ عليًّا - رضي الله عنه - توضَّأَ فَغَسَلَ وجهَهُ ثلاثًا، وغسلَ ذراعيهِ ثلاثًا، ومسحَ برأسِهِ واحدةً، ثم قالَ: هكذا توضَّأَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه أبو داود (¬1). الكلامُ عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) في بعض نسخ "الإلمام" زيادة: "ورجال احتج بهم البخاري". انظر: النسخة الخطية لكتاب "الإلمام" (ق 5 / ب) لابن عبد الهادي، حيث أشار في الهامش على هذه الزيادة، وكذا في المطبوع من "الإلمام" (1/ 64). * تخريج الحديث: رواه أبو داود (115)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث زياد بن أيوب الطوسي، عن عبيد الله بن موسى، عن فطر، عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي يعلى، به. ومن طريق أبي داود: رواه الضياء في "المختارة" (2/ 264). وإسناده صحيح كما سيذكر المؤلف رحمه الله في الوجه الثاني من هذا الحديث، وكما ذكر الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 80).

[الوجه] الأول: في التعريف

* [الوجه] (¬1) الأول: في التعريف: فنقول: أما عليُّ بن أبي طالبٍ: فهو أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مُناف القُرَشي، المُنَافي، القُرَشي، الهاشمي، المكي، ثم المدني، ثم الكوفي، واسمُ أبيه أبي طالب عبدُ مناف، وقيل: اسمُهُ كنيتُهُ، وكنيةُ علي أبو الحسن، وخَاطَبهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بأبي تُراب، فكان (¬2) أحبَّ ما يُنادَى به إليه (¬3). ومرتبتُهُ في هذه الملة عليَّةٌ، وفضائلُهُ وخواصُّهُ جليةٌ، كتب التواريخ والأحاديث بذكرِ مناقبِهِ مليَّة، فمنها: تقدُّمُهُ في الإسلامِ وهذا لا خلافَ فيه، وإنما اختُلِفَ في الأولِ مُطلقاً؛ فقيل: إنَّهُ أولُ من أسلم؛ رُوي ذلك عن ابن عباس، وأنس، وزيد بن أرقم، رواه التِّرمذي عنه (¬4)، ورواه الطبراني عن سلمان الفارسي (¬5)، وذُكر عنْ محمدِ بن كعب القرظِيّ أيضًا، وقيل: خديجة، وقيل: أبو بكر، وقيل: خديجةُ ثم علي، ويروَى عن بُريدة، وعن أبي ذر، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "وكانت". (¬3) رواه البخاري (5851)، كتاب: الأدب، باب: التكني بأبي تراب، من حديث سهل بن سعد قال: إن كانت أحد أسماء علي - رضي الله عنه - إليه لأبو تراب، وإن كان ليفرح أن يدعى بها، وما سماه أبو تراب إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) رواه الترمذي (3735)، كتاب: المناقب، باب: (21). وقال: حسن صحيح. (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (6174)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 102) رجاله ثقات.

والمقداد (¬1)، وخباب، وجابر، والحسن البَصْري، وغيرهم. ونقل بعضُهُم إجماعَ العلماء علَى أن أولَ من أسلم [خديجة، وإنما الخلافُ في الأولِ بعدها، وقيل: الأورع أنْ يقال: أولُ منْ أسلمَ] (¬2) من الرجالِ الأحرار أبو بكر، ومن الصبيانِ علي، ومن النساءِ خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيدِ بلال (¬3). وقال قوم: أوَّلُهم إسلامًا أبو بكر - رضي الله عنه -. ومنها: حداثةُ سنِّه عندَ الإسلام، وهو داخل في باب الفضائل، واختلفوا في مقدار سنه حينئذ، فقيل: عشر، وقيل: خمس عشرة، حكي ذلك عن الحسنِ البَصْري، وعن أبي الأسود يتيم عروة أنَّهُ قال: أسلم عليٌّ والزبير، وهما ابنا ثمان سنين (¬4). ومنها: سعة العلم، ونُقِلَ عن ابن مسعود أنَّهُ قال: كنا نتحدث أنَّ أقضَى أهل المدينة عليٌّ - رضي الله عنه - (¬5). وعن ابن المسيب قال: ما كان أحدٌ يقول: سلوني غيرَ علي - رضي الله عنه - (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "والمقدام". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 316). (¬4) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (20/ 481). (¬5) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 338)، والحاكم في "المستدرك". (¬6) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/ 399).

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أُعطيَ عليٌّ تسعةَ أعشار العلم، ووالله لقد شاركهم في العُشْرِ الباقي (¬1)! وعنه أنَّهُ قال: [و] (¬2) إذا ثبت لنا الشيء عن علىٍّ، لمْ نعدلْ إلَى غيره (¬3). وروي له عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة حديث وستة وثمانون حديثًا (¬4)، اتفق البخاري ومسلم منها علَى عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر. قالَ بعضُهم: روَى عنه بنوه الثلاثة؛ الحسن، والحسين، ومحمد ابن الحَنَفِيَّة، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسَى، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وأبو سعيد، وزيد بن أرقم، وجابر بن عبد الله، وأبو أُمامة، وصُهيب، وابن رافع، وأبو هُريرة، وجابر بن سَمُرة، وحُذيفة بن أُسيد، وسفينة، وعمرو بن حُريث، وأبو ليلَى، والبراء بن عازب، وطارق بن شهاب، وطارق بن هُشَيم، وجرير ابن عبد الله، وعمارة بن رؤيبة، وأبو الطُّفيل، وعبد الرحمن بن أبزَى، ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 1104). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/ 407). (¬3) ذكر المؤلف رحمه الله هذا عن الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 316)، وكان المؤلف نقد النووي في إطلاقاته لعدد مرويات صحابي بالجملة، وأنه ينبغي الاعتماد في ذلك على إمام متقدم، أو كتاب معين، وتراه هنا قد نقل كلام النووي، بل وغالب الترجمة عنه أيضًا. (¬4) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 316).

وبِشر بن سُحَيم، وأبو جُحيفة، الصحابيون - رضي الله عنه - إلا ابن الحنفية، فإنه تابعي، وروَى عنه من التابعين خلائقُ مشهورون (¬1). ومنها: قِدَمُ الهجرة، والمشاهدُ الإسلامية، وقد شهدَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا، وأحدًا، والخندق، وبيعة الرضوان، وخيبر، والفتح، وحنينًا، والطائف، وكل المشاهد إلا تبوك، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استخلفه علَى المدينةِ. قالَ بعضهم: وله في جميع المشاهد آثارٌ مشهورة، وأجمعَ أهل التواريخ علَى شهوده بدرًا، وسائرَ المشاهد غيرَ تبوك. قالوا: وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - اللواء في مواطنَ كثيرة. وقال سعيد بن المسيب: أصابت عليًا - رضي الله عنه - يومَ أُحدٍ ست عشرة ضربة. وثبت في "الصحيحينِ": أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطاه الرايةَ يوم خيبر، وأخبر أنَّ الفتحَ يكون علَى يديه (¬2)، انتهَى. ومنها: استخلافُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إيَّاه حين هاجر من مكة إلَى المدينةِ، قالَ بعضهم: أنْ يقيمَ بعده بمكة أيامًا، حتَّى يؤديَ عنه أمانتَهُ، والودائعَ والوصايا التي كانت عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يلحقه بأهله، ففعل ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) "ت": "ستة عشر". (¬2) رواه البخاري (2812)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما قيل في لواء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2407)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (42/ 68).

ومنها: ما تواترَ من شجاعته المضروبِ بها المثلُ، وآثارُهُ المشهورة في الحروب. ومنها: ما اشتُهر من [زهدِهِ، و] (¬1) طلاقِهِ للدنيا، ورُبَّما اعتُرِضَ علَى هذا بما روي عنه أنَّهُ قال: لقد رأيتُنِي وإني لأرْبِطُ الحجرَ علَى بطني من الجوعِ، وإنَّ صدقتي لتبلغُ اليومَ أربعة آلاف دينار (¬2)، وفي رواية: أربعين ألف دينار (¬3). وقيل في جوابه: إنَّهُ لمْ يردْ به زكاةَ مالٍ يملِكُهُ، وإنما أراد الوقوفَ التي تصدَّقَ بها، وجعلها صدقةً جارية، وكان الحاصل من غلتها يبلغ هذا القدر. قالوا: ولم يدخر قطُّ ما لا يقاربُ هذا المبلغ، ولم يتركْ حين تُوُفِّيَ إلا ست مئة درهم (¬4). وعن سفيان بن عُيَينَة: ما بنَى [عليٌّ] [لبنةً] (¬5) علَى لبنة، ولا وضع قصبةً علَى قصبة (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/ 375)، من حديث محمد بن كعب القرظي. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 159)، من حديث محمد بن كعب القرظي. (¬4) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 317). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/ 482).

ورُوي أنَّهُ كان عليه إزارٌ غليظٌ اشتراه بخمسة دراهم (¬1). ومنها: مصاهرتُهُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - علَى فاطمة سيدة نساء العالمين. ومنها: ما جاء في حديث المؤاخاة، فروَى الترمذي عن ابن عمرَ قال: آخَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، فجاء عليٌّ - رضي الله عنه - تدمع عيناه، وقال يا رسول الله! آخيت بين أصحابِكَ [ولم] (¬2) تؤاخِ بيني وبين أحد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتَ أَخِي في الدُّنْيَا والآخِرَةِ"، واستحسنه (¬3). ومنها: الأحاديثُ الواردة في فضائله؛ فمن صحيحها الحديثُ المعروف بحديث المَنْزِلة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا تَرْضَى أنْ تكونَ مِنِّي بمنزلةِ هارونَ من مُوسَى، غيرَ أنَّهُ لا نبيَّ بعدي" (¬4). وحديث سهل بن سعد أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ يوم خيبر: "لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا [رجلاً] (¬5) يفتحُ اللهُ على يديْهِ، يُحِبُّ اللهَ ¬

(¬1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "فضائل"الصحابة" (1/ 532)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 330)، عن أبي بحر، عن شيخ لهم. (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه الترمذي (3720)، كتاب: المناقب، باب: (21)، وقال: حسن غريب. (¬4) رواه البخاري (3503)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ومسلم (2404)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬5) سقط من "ت".

ورسولَهُ، ويحبُّهُ اللهُ ورسولُهُ"، وكان الذي أعطاه الرايةَ عليًّا - رضي الله عنه - فهو في "الصحيحِ" بتمامه (¬1). ومنها: حديث المُباهلة؛ لما نزلتْ {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا، وفاطمة، وحسنًا، وحُسينًا، فقال: "اللهُمَّ هؤلاءِ أَهْلِي"، وهو في "الصحيحِ" أيضًا (¬2). ومنها: في مسلم قوله - صلى الله عليه وسلم -: والذي فلقَ الحبةَ وبرأَ النَّسَمَةَ، إنَّهُ لعهدُ النبيِّ الأميِّ إليَّ، أنْ لا يحبَّني إلا مؤمنٌ، ولا يبغضَني إلا منافقٌ (¬3). ومن المشهور: "مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ، فعليٌّ مَولاه"؛ ذكره الترمذيُّ، واستحسنه [أيضًا] (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2847)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل من أسلم على يديه رجل، ومسلم (2406)، كتاب: فضائل الصحابة، باب؛ من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وتقدم تخريجه من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (2404)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (78)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي - رضي الله عنه - من الإيمان وعلاماته. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه الترمذي (3713)، كتاب: المناقب، باب: مناقب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقال: حسن صحيح من حديث أبي سريحة أو زيد بن أرقم.

وذكر أيضًا - واستحسنه - من رواية بُريدة قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ أمرَني بحبِّ أربعةٍ، وأخبرني أنَّهُ يحبُّهُم"، قيل: يا رسولَ الله! سمِّهم لنا، قال: "عليٌّ منهم" يقول ذلك ثلاثًا، "أبو ذرّ، والمقداد، وسلمان، أمرَني بحبِّهم، وأخبرني أنَّهُ يحبُّهم" (¬1). ومما استحسنَ أيضًا [من] (¬2) حديث أمِّ عطية قالت: بعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشًا فيهم عليٌّ (¬3)، فسمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو رافع يديه، يقول: "اللهُمَّ لا تُمِتْنِي حتَّى تُرِيَنِي عَليًا" (¬4). ومما استحسن أيضًا حديثَ حُبْشي بن جُنادة قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليٌّ مِنِّي، وأنَا منْ عليٍّ، ولا يؤدِّي عنِّي إلا أنا، أو عليٌّ"، [و] (¬5) رواه النَّسائيُّ وابن ماجه (¬6). وللنسائي كتاب "الخصائص" في هذا المعنَى (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3718)، كتاب: المناقب، باب: (21)، وابن ماجه (149) في المقدمة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 356). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "علي بن أبي طالب". (¬4) رواه الترمذي (3737)، كتاب: المناقب، باب: (21). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) رواه الترمذي (3719)، كتاب: المناقب، باب: (21)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8147)، وابن ماجه (119) في المقدمة. (¬7) قال محمد بن موسى المأموني صاحب النَّسائيُّ: سمعت قومًا ينكرون على أبي عبد الرحمن كتاب "الخصائص" لعلي - رضي الله عنه -، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمتحرف عن =

وأما ما اشتُهِرَ بين الناس من: "أنَا دارُ الحكمةِ وعليٌّ بابُها" (¬1)، روفي رواية: "أنا مدينةُ العلمِ [وعليٌّ بابها] (¬2) " (¬3)، فلم يثبتوه، وقيل [فيه] (¬4): إنَّهُ حديثٌ باطل، وقال الترمذي: حديثٌ منكَرٌ (¬5). ¬

_ = علي بها كثير، فصنفت كتاب "الخصائص" رجوت أن يهديهم الله، ثم إنه صنف بعد ذلك فضائل الصحابة. انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (1/ 337 - 338)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (14/ 129). (¬1) رواه الترمذي (3723)، كتاب: المناقب، باب: (21)، عن الصحابي، عن علي - رضي الله عنه -، به. قال الترمذي: هذا حديث منكر، وروى بعضهم هذا الحديث عن شريك، ولم يذكروا فيه عن الصنابحي، ولا نعرف هذا الحديث عن شريك، ولا نعرف هذا الحديث عن واحد من الثقات عن شريك، قال: وفي الباب عن ابن عباس. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 341)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11061)، والحاكم في "المستدرك" (4637)، وغيرهم، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) سقط من "ت". (¬5) هذا الكلام نقله المؤلف رحمه الله عن النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 319) من قوله. ونقل السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 124) عن المؤلف أنه قال: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل، وهو مشعر بتوقفه فيما ذهبوا إليه من الحكم بكذبه، بل صرح العلائي بالتوقف في الحكم عليه بذلك، فقال: وعندي فيه نظر، ثم بين ما يشهد لكون أبي معاوية راوي حديث ابن عباس حدث به، فزال المحذور ممن هو دونه، قال: وأبو معاوية ثقة حافظ محتج بأفراده كابن عيينة وغيره؛ فمن حكم على الحديث مع ذلك بالكذب، فقد أخطأ قال: وليس هو من الألفاظ المنكرة التي تأباها العقول، بل هو كحديث: "أرحم أمتي بأمتي" يعني: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الماضي، وهو صنيع معتمد، فليس هذا الحديث بكذب، انتهى. قلت: لكن ذكر شيخ الإسلام أن الكذب يعرف من نفس متنه، لا يحتاج إلى النظر في إسناده؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مدينة العلم، لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد، ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحدًا، بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل المتواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، ورواية الواحد لا تفيد العلم إلا مع قرائن، وتلك القرائن إما أن تكون منتفية، وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس أو أكثرهم، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة، بخلاف النقل المتواتر الذي يحصل به العلم للخاص والعام. وهذا الحديث إنما افتراه زنديق أو جاهل ظنه مدحًا، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين إذا لم يبلغه إلا واحد من الصحابة، ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول الله من غير طريق - رضي الله عنه - ,ثم ذكر كلامًا طويلًا في هذا المعنى. انظر: "مجموع الفتاوى" (4/ 410) وما بعدها. ونرجع إلى ما قاله الأئمة في إسناد هذا الحديث: وقد سبق كلام الترمذي في حديث الصنابحي وأنه منكر، ونقل في "العلل" (ص: 375) قال: سألت محمدًا؛ يعني: البخاري، عنه، فلم يعرفه، وأنكر هذا الحديث. وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 94): هذا خبر لا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا شريك حدث به، ولا سلمة بن كهيل رواه، ولا الصنابحي أسنده. وقال الدارقطني في "العلل" (3/ 247): الحديث مضطرب غير ثابت. وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 349) وقد وافقه الذهبي وغيره على ذلك. قال السخاوي في "المقاصد" (ص: 124): وبالجملة فكلها ضعيفة، وألفاظ أكثرها ركيكة، وأحسنها حديث ابن عباس، بل هو حسن، انتهى. كذا قال. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال الحافظ في "لسان الميزان" (2/ 122) بعد أن ذكره عن ابن عباس: وهذا الحديث له طرق كثيرة في "مستدرك الحاكم" أقل أصولها أن يكون للحديث أصل، فلا ينبغي أن يطلق القول عليه بالوضع. ونقل المناوي في "فيض القدير" (3/ 46) عن الحافظ ابن حجر أنه سئل عنه في "فتاويه" فقال: هذا حديث صححه الحاكم، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال: إنه كذب، والصواب خلاف قولهما معًا، وإنه من قسم الحسن لا يرتقي إلى الصحة، ولا ينحط إلى الكذب، قال: وبيانه يستدعي طولًا لكن هذا هو المعتمد. قلت: حديث ابن عباس: رواه الحاكم في "المستدرك" (4637) من طريق محمد بن عبد الرحيم الهروي، عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس، به. ورواه في "مستدركه" (4638)، من طريق الحسين بن فهم، عن محمد ابن يحيى بن الضريس، عن محمد بن جعفر الفيدي، عن أبي معاوية، به، وقد صححهما الحاكم. قال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 152): وهذا شيء لا أصل له، ليس من حديث ابن عباس، ولا مجاهد، ولا الأعمش، ولا أبو معاوية حدث به، وكل من حدث بهذا المتن فإنما سرقه من أبي الصلت هذا، وإن قلب إسناده. وقال أبو جعفر الحضرمي - كما نقله الخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 172) -: لم يرو هذا الحديث عن أبي معاوية من الثقات أحد، رواه أبو الصلت فكذبوه. ونقل الخطيب في "تاريخه" أيضًا (11/ 48 - 49): عن الإمام أحمد وابن معين إنكارهم حديث ابن عباس هذا، انتهى. وبالجملة فكل أسانيد هذا الحديث ضعيفة، ولا يصلح شيء منها للاحتجاج أو الاعتضاد؛ إذ المعوّل في هذا الباب على أئمة هذا الشأن من =

ووليَ عليٌّ - رضي الله عنه - الخلافةَ في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وأقامَ خمس سنين، وقيل: خمسًا إلا أشهرًا. وتوفي - رضي الله عنه - بالكوفةِ شهيدًا في التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين، وسنُّه فيما قيل: ابن ثلاث وستين (¬1) سنة، وقيل: هو قول الأكثرين، وقيل: ابن تسع وستين، وقيل: خمس وستين، وقيل: ثمان وخمسين، وقيل: سبع وستين (¬2). قيل: وكان آدمَ اللون، أصلعَ، رَبْعةً، أبيضَ الرأس واللحية، ورُبَّما خَضَبَ لحيتَه، وكانت كثةً طويلة، حسنَ الوجه، ضَحوكَ السن (¬3). ¬

_ = المتقدمين من أمثال الإمام أحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، والترمذي، وأبي زرعة، وابن عدي، وابن حبان، والدارقطني، وغيرهم، وليس أحد من هؤلاء الجهابذة قد ألمح إلى تصحيحه أو حُسْنه، وكلام المتأخرين كالعلائي ثم ابن حجر ثم السخاوي في ثبوت الحديث، فيه نظر، وقد جاء عمن هو في طبقتهم؛ أعني: في المتأخر، الطعن في أسانيد هذا الحديث؛ كابن الجوزي، والنووي، وابن تيمية، والذهبي. فانظر، في هذا الجمع المتكلم في الحديث من المتقدمين والمتأخرين، وانظر إلى آحاد المتأخرين المثبتين لهذا الحديث، واختر لنفسك طريقًا تسلكه في هذا الحديث، وأمثاله، ثم احفظ للجميع حرمتهم ومكانتهم، والله ولي التوفيق. (¬1) "ت": "فيما قيل: ثلاث وستون". (¬2) "ت": "سبع وخمسين". (¬3) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 19)، "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 259)، "الثقات" لابن حبان (2/ 302)، "حلية الأولياء" لأبي =

وأما ابن أبي ليلَى (¬1): فهو أبو عيسَى عبد الرحمن بن أبي ليلَى يَسَار، وقيل: بلال، وقيل: نبيل، وقيل: داود، الأنصاري، الأوسي، الكوفي، وأبوه أبو ليلَى مذكور في الصحابةِ، وأنه شهد أُحدًا وما بعدها من المشاهدِ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم انتقل إلَى الكوفةِ فسكنها، وحضر [مع] (¬2) علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -[مشاهدَه] (¬3)، وقُتل معه بصفين فيما قيل. وعبدُ الرحمن ولدُه تابعيٌّ جليل كبير، قيل: ولد لست سنين بقيت من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأنه روَى عن عمر، وعلي، وعثمان، وسعد، وأُبيّ بن كعب، وابن مسعود، وأبي ذر، وحُذيفة، وابن عمر، والمقداد، وأبي أيوب، وأبي الدرداء، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وكعب بن عُجْرة، وصُهيب، وخَوَّات بن ¬

_ = نعيم (1/ 61)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1089)، "تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 133)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (72/ 7)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 308)، "أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 87)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 315)، وعنه أخذ المؤلف رحمه الله أكثر الترجمة، "تهذيب الكمال" للمزي (20/ 472)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 564)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (7/ 294). (¬1) قلت: قد تقدم للمؤلف رحمه الله ترجمة ابن أبي ليلى في الحديث الثاني من باب الآنية، وانظر هناك مصادر ترجمته. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت".

جُبير، وأبي موسَى، والبراء بن عازب، وسهل بن حُنيف، وأبي سعيد الخُدري، وسَمُرة بن جُندب، وأبي جُحيفة، وعبد الله بن زيد، وقيس ابن سعد، وأبيه أبي ليلَى، وأم هانئ - رضي الله عنهم -. وأنه روَى عنه ابنُهُ عيسَى، ومجاهد، وثابت، والحكم، والشعبي، وابن سيرين، وعمرو بن ميمون، وعمرو بن مُرَّة، وآخرون من التابعين. واتفقوا علَى توثيقِهِ وجلالته، قالَ يحيَى بن معين: لمْ يسمعْ عبدُ الرحمن بن أبي ليلَى عمرَ بن الخطاب، ولم يره، فقيل له: الحديث المروي: كنا مع عمرَ نتراءَى الهلالَ؟! فقال: ليس بشيء (¬1). وعن الشافعيِّ أنَّهُ قال: لمْ يدركِ ابن أبي ليلَى بلالاً؛ لأنَّ بلالًا توفي سنة عشرين بالشامِ، ووُلد ابن أبي ليلَى قبلَ ذلك بنحو سنة بالكوفة (¬2). قال عطاء بن السائب: قالَ عبد الرحمن بن أبي ليلَى أدركتُ عشرين ومئة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كلُّهم من الأنصار (¬3). وقال عبد الملك بن عُمير: رأيتُ عبد الرحمن بن أبي ليلَى في ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ ابن معين - رواية الدوري " (3/ 97)، و"المراسيل" لابن أبي حاتم (1/ 125). (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 283). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 110)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 351)، والخطيب في تاريخ "تاريخ بغداد" (13/ 412).

الوجه الثاني: في تصحيحه

حَلْقة فيها نفرٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمعون لحديثه، ويُنصتون له، منهم البراء بن عازب (¬1). وقال عبد الله (¬2) بن الحارث: ما شعرتُ أنَّ النساءَ ولدت (¬3) مثلَ عبد الرمحن بن أبي ليلَى (¬4). قيل: توفي سنة [ثلاث] (¬5) ثمانين رحمه الله تعالَى. * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: وهو حديثٌ انفرد به أبو داود عن الجماعةِ، فرواه في "سننه" عن زياد بن أيوب الطُّوسي، عن عُبيد الله بن موسَى، عن فِطْرٍ، عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلَى، الحديث. فأما عبد الرحمن، وأبو فروة، وعبيد الله بن موسَى، فمُخرَّج لهم في "الصحيحين". وأما فِطْرٌ، وهو ابن خليفة: أبو بكر، القُرَشي، المخزومي ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (36/ 89). (¬2) في الأصل و "ت": " عبد الرحمن"، والصواب ما أثبت من المرجعين الآتيين. (¬3) "ت": "يلدن". (¬4) رواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/ 334)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (36/ 90). (¬5) زيادة من "ت".

الوجه الثالث: من مفرداته

مولاهم، الكوفي، الخياط، فقد أخرج له البخاري، وذُكر توثيقُهُ عن يحيَى القطَّان، وابن حنبل، وابن معين، وابن صالح، والسَّاجي (¬1). وأبو فَرْوَة هذا، اسمُهُ مسلم بن سالم، يُعرف بالجُهني، يقال: لنزوله فيهم، وأنه نهدي (¬2). وأما زيادُ بن أيوب: فهو أبو هاشم زياد بن أيوب، يُعرَفُ بدَلْوَيه، فقد روَى له البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وقال: ثقة. وقال أحمد بن حنبل (¬3): اكتبوا عن زياد بن أيوب؛ فإنه شعبةُ الصغير. مات سنة اثنتين وخمسين ومئتين (¬4). * * * * الوجه الثالث: من مفرداته: قوله "ثلاثًا": وقد ذكرنا ما قيل فيه من رجوعه إلَى الغَرفاتِ، أو إلَى الغَسلاتِ، ويؤكِّدُ أنَّهُ الغسلات قوله في هذا الحديث: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (23/ 312). (¬2) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 185)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 395)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 515). (¬3) "ت": "وعن أحمد بن حنبل أنه قال". (¬4) انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (8/ 479)، و"تهذيب الكمال" للمزي (9/ 432)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (2/ 508).

الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

"ومَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً". * * * * الوجه الرابع: في الفوائدِ والمباحث، وفيه مسائل: الأولَى: فيه دليلٌ علَى استحبابِ الغسل ثلاثًا، وعدمِ الزيادة عليها. الثانية: وفيه التفريقُ بين مسح الرأس وغسل الأعضاء، و (¬1) التكرار والإفراد؛ تصريحًا بالتفريق (¬2) بقولهِ: "واحدة". وقد عرفت (¬3) أنَّ الأحاديثَ في هذا [علَى] (¬4) ثلاثة أقسام: تصريح بالإفرادِ، وتصريح بالتكرارِ، ودخول تحت العموم. وهذا من الأحاديثِ المصرّحة بالفرقِ، والنظرُ إليه من حيثُ هو هو يقتضي عدمَ التكرار في مسح الرأس، وهو ظاهر فيه، إلا أنْ يقوم دليلٌ من حديث آخر مصرِّح بالتكرارِ في مسح الرأس يساوي هذه الأحاديث الصحيحة، أويقاربها، فيمكن أنْ يحمل هذا علَى الجوازِ، وذلك الحديث علَى الاستحباب؛ لأنه لا يمكن حمله علَى الكراهةِ، ولا علَى الجوازِ بمعنَى: التساوي بين الطرفين، إنْ كَان المرادُ الردَّ علَى من يكره التكرارَ في مسح الرأس؛ لأنه لا يقول بالجوازِ بمعنَى: ¬

_ (¬1) "ت": "في". (¬2) "ت": "بالفرق". (¬3) "ت": "عرف". (¬4) سقط من "ت".

الثالثة

التساوي، ويمكن ذلك إذا لمْ يقصد الردَّ علَى هذا القائل، بل النظرَ في الحكمِ من حيثُ هو هو. الثالثة: هذا الحديثُ من رواية علي - رضي الله عنه - يؤكِّدُ ما تقدم في رواية عثمان - رضي الله عنه - من المسحِ مرة، مع زيادة التصريحِ بالوحدةِ، وذلك يقتضي إيراده معه؛ تأكيدًا للظاهر بالتصريح. وقد ورد في حديث علي - رضي الله عنه - من رواية أبي حيَّةَ قال: رأيت عليًا توضَّأَ؛ ذكره أبو داود وقال: فذكر وضوءه كلَّه ثلاثًا، وقال: ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه إلَى الكعبينِ، ثم قال: إنما أحببت أن أُريَكم طُهُور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وهذا في ظهور الوحدة كحديث عثمان - رضي الله عنه -، وفيه زيادةٌ علَى ما في حديث عثمان - رضي الله عنه - وروايةِ ابن أبي ليلَى عن علي - رضي الله عنه -؛ وهو ما يستفاد من قوله: طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يُشعرُ به من كونه عادتَهُ؛ مُداومةً، أو كثرة، بخلاف ما تقدم من قوله: رأيت، أو توضأ، فإنه لا إشعارَ فيه (¬2) بذلك. ومثلُ هذا ما عندَ أبي داود من رواية المنهال بن عمرو، عن زِر ابن حُبَيش: أنَّهُ سمع عليًا - وسئل عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - قال، فذكر الحديث؛ قال: مسح علَى رأسه حتَّى الماء يقطر، وغسل رجليه ثلاثًا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (116)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنسائي (96)، كتاب: الطهارة، باب: عدد غسل اليدين. (¬2) في الأصل: "منه"، والمثبت من "ت".

الرابعة

ثلاثًا، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، مع ما فيه من الزيادةِ علَى ما قبله، وهو ما تشعر به (كان) علَى ما اختاره بعضهم من دلالتها علَى الأكثريةِ أو الكثرة. الرابعة: لمْ يُذكرْ في هذا الحديث تمامُ أفعال الوضوء، وهكذا (¬2) هو في كتاب أبي داود، ولعله اختصر لأجل تعلُّقِ غرض الراوي بالفرقِ بين الإفراد والتكرار في الغسلِ والمسح. الخامسة: وقد ورد مُستوفًى (¬3) من رواية علي - رضي الله عنه -، ثم من رواية ابن عباس قال: دخل عليٌّ؛ يعني: ابن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقدْ أهراقَ [الماءَ] (¬4)، فدعا بوَضوءٍ، فأتيناه بتَورٍ فيه ماء حتَّى وضعناه بين يديه، فقال: يا ابنَ عبَّاس! ألا أريكَ كيف كان يتوضأُ رسولُ الله؟ قلت: بلَى، فأصغَى الإناءَ علَى يده فغسلها، ثم أدخل يده اليُمنَى، فأفرغَ بها علَى الأُخرَى، ثم غسل كفيه، ثم تمضمضَ واستنثرَ، ثم أدخلَ يديه في الإناءِ جميعًا، فأخذ بهما حفْنَةً من ماءٍ فضربَ علَى وجهِهِ، ثم ألقمَ إبهاميه ما أَقْبَلَ من أُذُنيه، ثمَّ الثانيةَ ثم الثالثةَ مثلَ ذلك، ثم أخذَ بكفِّهِ اليُمنَى قبضةً من ماء، فصبَّها علَى ناصييهِ فتركَها تستنُّ (¬5) علَى وجهِهِ، ثم غسلَ ذراعيه إلَى المرفقينِ ثلاثًا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (114)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) في الأصل: "هذا"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "مسبوقًا". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "تسيل".

ثلاثًا، ثم مسحَ رأسَهُ وظهورَ أُذنيه، ثم أدخلَ يديهِ (¬1) جميعًا، فأخذَ حفنةً من ماء فضربَ بها [علَى] (¬2) رِجله، وفيها النعلُ، ففتلَهَا بها، ثم الأُخرَى مثلَ ذلك، قال: قلت: وفي النعلين؟ قالَ: وفي النعلين، قال: قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين، قال: قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين (¬3). وكذلك أيضًا حديثُ عبد خير، عن علي في صفة الوضوء مُطولاً (¬4). وذكر أبو داود اختلافًا في حديث ابن جُريج في مسح الرأس، وأنَّ حجَّاجَ بن محمد قالَ فيه عن ابن جريج: ومسح برأسه مرة واحدة، وقال ابن وهب فيه: ومسح برأسه ثلاثًا (¬5)، ولم يوصلِ الإسناد فيهما، والله أعلم (¬6). * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "يده"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه أبو داود (117)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) رواه أبو داود (111)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) انظر: "سنن أبي داود" (1/ 29). (¬6) جاء على هامش "ت": بياض نحو خمسة أسطر من الأصل.

الحديث الثالث

الحديث الثالث حديثُ عبد الله بنِ زبدٍ في صفةِ الوضوء، وقد ذَكَرَ فيه طُرُقاً بحسبِ روايةِ عمن (¬1) يرجعُ إليه الحديثُ، وهو عمرو بنُ يحيىَ المازني، وسنذكرُ تلك الطرقَ - إن شاء الله تعالَى - علَى الوجه (¬2). ¬

_ (¬1) "ت": "عثمان". (¬2) قلت: لم يذكر المؤلف رحمه الله هنا متون الأحاديث؛ لذكرها له مع مخرجيها في الوجه الثاني من هذا الحديث، ولا بأس بإيرادها هنا، كما في نسخة "الإلمام" الخطية بيد ابن عبد الهادي (ق 5/ ب، 6/ أ): وروى مالك من حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه" أخرجوه من حديث مالك. وفي رواية خالد الواسطي في هذا الحديث: "ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثًا". وهي في "الصحيح". وفي رواية وهيب في هذا الحديث: "فمضمض، واستنشق، واستنثر من ثلاث غرفات". (وقد ذكر في الهامش: متفق عليه، وكتب فوقها حرف الخاء؛ إشارة إلى أنها في نسخة). وفي رواية سليمان بن بلال في هذا الحديث: "تمضمض، واستنشق ثلاث =

[الوجه] الأول: في التعريف

والكلام علَى الحديثِ من وجوه: * [الوجه] (¬1) الأول: في التعريف: فنقول: عبد الله بن زيد، الراوي لهذا الحديث، هو عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن منذر بن غنم [ابن عمرو] (¬2) بن مازن بن النجار، الأنصاري، المازني، يُعرَفُ بابن أمّ عَمارة، واسمُها نُسَيْبةُ، بفتح النون، وضمها، مذكورٌ فيمن شهد أُحداً وما بعدها من المشاهدِ، واختلفوا في شهودِه بدرًا، فذكر ذلك ابن مَندَه، وأبو نعيم الأصبهاني، وذكر ابن عبد البر: أنَّهُ لمْ يشهدْها، وكذلك مُقتضَى ما ذكر محمد بن سعد. قالَ خليفة بن خيَّاط، والواقدي، وغيرهما، فيما وجدته: وهو قاتلُ مُسيلمةَ الكذابَّ، شارك وحشيًّا في قتله، فرماه (¬3) وحشي بالحربةِ، وقتله عبد الله بن زيد بسيفِه. روَى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديثَ. ¬

_ = مرات من غرفة واحدة". أخرجها البخاري. وفي رواية واسع بن حبان: "ومسح برأسه بماء غير فضل يديه, وغسل رجليه حتى أنقاهما" أخرجه مسلم، انتهى. قلت: وسيأتي الكلام عن تخريج هذه الطرق في الوجه الثاني من هذا الحديث مفصلاً. (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "رماه".

روَى عنه ابنُ أخته عبَّادُ بن تميم، ويحيَى بن عَمارة، وواسع بن حَبَّان، وغيرهم. قُتل يومَ الحَرَّة بالمدينةِ سنةَ ثلاث وستين، وهو ابن سبعين سنة، وكان أبوه زيدٌ صحابيًا رضي الله عنهما (¬1). وها هنا تنبيهان: أحدهما: أنَّ النسبَ المقدم (¬2) في صدر الترجمة، [و] (¬3) الموصل إلَى النَّجارِ، هو مَا ذَكرَهُ الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "استيعابه" في ترجمة عبد الله، وفيه ذِكْرُ كعبٍ، وكذلك ذكره في ترجمة أخيه حبيب بزيادة [كعب أيضًا (¬4)، وذكر في ترجمة أبيهم زيد: زيد بن عاصم بن كعب بن] (¬5) منذربن عمرو (¬6). ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 295)، "الثقات" لابن حبان " 3/ 223)، "رجال صحيح البخاري" للكلاباذي (1/ 389)، "رجال مسلم" لابن منجويه (1/ 344)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 913)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 252)، "تهذيب الكمال" للمزي (31/ 474)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 377)، "الإصابة في تمييز "الصحابة" (4/ 98)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (11/ 227). (¬2) "ت": "المتقدم". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 319 - 320). (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 557).

ووهَّمَه الرَّشاطي في ذكر كعب ومنذر في هذا النسب لمَّا ذَكَرَ نسبَ حبيب بن زيد فقال: حبيب بن زيد بن عاصم بن عمرو بن عوف ابن مبذول بن غنم بن مازن، قال: كذا نسبه ابن الكلبي، قال: ووافقه أبو عمر علَى ذلك في نسب تميم بن زيد. واستدلَّ الرشاطي علَى التوهيمِ الذي ذكره بعدَ أن ذكرَ: أنَّ أبا عمر نسب أمَّهم أمَّ عمارة [فقال: هي أمُّ عمارة] (¬1) نسُيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف، فقال، أعني: الرشاطي: فلو كان النسب الذي ذكره أولًا في باب حبيب وعبد الله، صحيحًا، لكان أبوهما زيد قد تزوَّجَ عمَّتَه، وهذا ما لمْ نسمعْه عن (¬2) العرب، ثم قال: ونسبُ أمِّ عمارة صحيح، لأنَّ كعبًا فَيه هو أخو عاصم، فيكون زيد بن عاصم (¬3) قد تزوج ابنة عمّه. التنبيه الثاني: أنَّ ما تقدم من كون ابن أخي عبد الله عبَّاد بن تميم روَى عن عمه يوهِمُ أنَّ عبادًا هَو عبادُ بن تميم بن زيد بن عاصم، [وكذا قالَ الكلاباذيُّ في ترجمته: عبَّاد بن تميم بن زيد بن عاصم] (¬4)، الأنصاري، المازني، المدني، حدَّث عن عمِّه عبد الله بن زيد (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "من". (¬3) "ت": "عامر". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "رجال صحيح البخاري" للكلاباذي (2/ 500).

قال أبو عمر في ترجمة تميمٍ أبيه: تميمُ المازني الأنصاري، والد عباد بن تميم، قيل فيه: تميم بن عبد عمرو، وقيل: تميم بن زيد بن عاصم، أخو عبد الله وحبيب ابني زيد بن عاصم بن [عمرو بن مازن بن النجار (¬1). والذي يقتضيه كلام ابن سعد: أن تميمًا ليس ابنَ زيد بن عاصم] (¬2)، وإنما هو تميم بن غَزِيَّة بن عمرو بن عطية بن خنساء بن مبذول (¬3)، فإن مقتضاه: أن نُسيبةَ أمَّ عمارة تزوجها رجلان؛ أحدهما: زيد بن عاصم، فولدت حبيبًا، وعبدَ الله، والثاني: غزية بن عمرو بن عطية بن خنساء بن مبذول، فولدت له أبا حيَّة وتميمًا، فعلَى هذا يكون عبدُ الله بن زيد عمَّ عباد بن تميم لأمه؛ لأنَّ عبد الله وتميمًا أخوان لأم. تنبيه آخر: عبد الله بن زيد هذا، ليس عبد الله بن زيد صاحب [حديث] (¬4) الأذان، فإن ذلك عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه، ووقع في رواية سفيان بن عُيَينة: عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهو غلط عندهم، لاشكَّ فيه. وعبد الله بن زيد هذا - الراوي لهذا الحديث في الوضوءِ - له أحاديثُ متعددةٌ في الاستسقاءِ وغيره، وعبد الله بن زيد بن عبد ربِّه هو الذي أُرِيَ النداء، وحديثُهُ مشهور فيه. ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 195). (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 81). (¬4) سقط من "ت".

وقد اضطربَ كلامُ الحافظ أبي عمر فيمن يُنسَبُ إليه هذا الوهمُ، فقال في موضع: ورواه ابن عُيَينة عن عمرو بن يحيَى، فأخطأ فيه في موضعين: أحدهما: أنَّهُ قالَ فيه: عن عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه، [وهذا خطأ، وإنما هو عبد الله بن زيد بن عاصم. ثم قال: وأما عبد الله بن زيد بن عبد ربه] (¬1)، فهو الذي أُرِي الأذان في النومِ، وليس هو الذي يروي عنه يحيىَ بن عمارة هذا الحديث في الوضوءِ وغيره، وعبد الله بن زيد بن عاصم هو عمُّ عباد بن تميم، وهو أكثرُ روايةً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وقد كان أحمد [ابن] (¬2) زهير يزعم أن إسماعيل بن إسحاق وَهِمَ فيهما فجعلهما واحدًا، فيما حكَى قاسم بن أصبغ عنه، والغلطُ لا يسلم منه أحدٌ، وإذا كان ابن عُيَينة مع جلالته يغلط في ذلك، فإسماعيل بن إسحاق أين يقع من ابن عُيَينة؟ إلا أن المتأخرين أوسعُ علمًا وأقلُّ عذرًا! وأما الموضع الثاني الذي وَهِمَ ابن عُيَينة فيه في هذا الحديث: فإنه ذكر فيه: مسحَ الرأس (¬3) مرتين، ولم يذكرْ فيه أحدٌ: مرتين، غيرُ ابن عُيَينة، وأظنه - والله أعلم - تأوَّلَ الحديث، قوله فيه: فمسح رأسَهُ بيديه؛ أقبلَ بهما وأدبرَ، وما ذكرناه عن ابن عُيَينة فمن ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "فإنه ذكر مسح الرأس فيه".

رواية (¬1) مُسَدَّد، ومحمد بن منصور، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلهم ذكر فيه عن ابن عُيَينة ما حكيناه عنه. أما الحميدي فإنه متردّدٌ في ذلك فلم يذكرْه، أو (¬2) حفظَ عن ابن عيينةَ أنَّهُ رجعَ عنه، فذكرَ فيه عن ابن عُيَينة: ومسحَ رأسَهُ وغسلَ رجليه؛ فلم يصفِ المسحَ، ولا قالَ: مرتين، وقال في الإسنادِ: عن عبد الله بن زيد؛ لمْ يزدْ، لمْ يقلْ: ابن عاصم، ولا ابن عبد ربه، فتخلَّص؛ هذا مَا ذَكرَهُ أبو عمر في ترجمته (¬3). ونسبةُ (¬4) [الوهمِ فيه] (¬5) إلَى ابن عُيَينة قد ذكرها البخاريُّ في "التاريخِ الأوسط" فقال: ثنا علي قالَ: عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري من بلحارث من الخزرجِ صاحب الأذان، وهو [المدني] (¬6)، روَى عنه عبد الله بن محمد بن عقيل، والآخرُ عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، قتل يوم الحرة، روَى عنه عبَّادُ بن تميم بن أخته، ويحيَى بن عمارة، وقال ابن عُيَينة: هذا صاحب الأذان، ولم يصنعْ شيئًا (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل "ممن رواه"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "و". (¬3) "ت": "فتخلص هذا ما ذكر أبو عمر في ترجمة"، ثم ترك بياضًا، وجاء في الهامش: "بياض" وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 115 - 116). (¬4) "ت": "ونسب"، وكتب فوق "ونسب": "كذا". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) انظر: "التاريخ الأوسط" للبخاري (1/ 139). وقد قال في "صحيحه" =

وأما عمرو بنُ يحيَى: فهو عمرو بن يحيَى بن عمارة بن أبي حسن، الأنصاري، [المازني، مدني، تابعي. روَى عن أبيه، وعباد بن تميم، ومحمد بن يحيَى، وعباس بن سهل، وغيرهم. روَى عنه يحيَى الأنصاري] (¬1)، وأيوب، ويحيَى بن أبي كثير، وابن جُريج، ومالك، والثوري، وشعبة، وابن عُيَينة، وغيرهم. قال أبو حاتم: هو ثقة. وقد روَى له البخاري ومسلم (¬2). [وأبوه يحيَى بن عمارة بن أبي حسن: مدنيٌّ، سمع أبا سعيد الخدري، وعبد الله بن زيد. روَى عنه ابنه عمرو، والزُّهريّ، وعمارة بن عمير، ومحمد بن يحيَى بن حبان. وروَى له البخاري ومسلم] (¬3). ¬

_ = (1/ 343): كان ابن عيينة يقول: هو صاحب الأذان، ولكنه وهم؛ لأن هذا عبد الله بن زيد بن عاصم المازني مازن الأنصار. (¬1) زيادة من "ت". (¬2) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 382)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 269)، "الثقات" لابن حبان (7/ 215)، "تهذيب الكمال" للمزي (22/ 295)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (8/ 104). (¬3) سقط من "ت".

قالَ بعضهم: وهو ثقة باتِّفاقهم (¬1). وجدُّه (¬2) صحابيٌّ، شهد (¬3) العقبة وبدرًا، واسمه تميم بن عبد عمرو، وقيل: اسمُهُ كنيتُهُ (¬4). وأما وُهَيبُ (¬5): فهو ابنُ خالد بن (¬6) عجلان، أبو بكر البَصْري، أحدُ الأكابر من أئمة الحديث، سمعَ أيوبَ، وعبيد الله بن عمر، وموسَى بن عقبة، وعبد الله بن طاوس، ومنصور بن صفية. روَى عنه (¬7) موسَى بن إسماعيل، ومسلم بن إبراهيم الأزدي، ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 295)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 175)، "الثقات" لابن حبان (5/ 522)، "تهذيب الأسماء واللغات " للنووي (2/ 451)، "تهذيب الكمال" للمزي (31/ 474)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 227). (¬2) أي: جد عمرو بن يحيى. (¬3) في الأصل: "وشهد"، والمثبت من "ت". (¬4) * مصادر الترجمة: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1141)، "أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 130)، "تهذيب الكمال" للمزي (21/ 237)، "الإصابة في تمييز "الصحابة" (4/ 580)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (7/ 362). (¬5) في الأصل: "وهب"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) أدخل الناسخ في النسخة الأصل "م" الكلام في حديث عمرو بن عنبسة، وهو السابع عشر هاهنا فذكر منه المسألة السابعة حتى الثامنة والثلاثين، وعليه اقتضى التنويه.

ومعلَّى بن أسد، وسهل بن بكَّار، وعبد الأعلَى بن حماد. قالَ الكلَابَاذِيُّ: قالَ البخاريُّ: قال أحمدُ بن أبي رجاء الهَرَوي: مات سنة خصس وستين ومئة. قال: قالَ أحمدُ بن حنبل: ماتَ وهو ابن ثمان وخمسين، وقال العلائي عن ابن حنبل نحوه. قلت: وقد اتَّفقَ الشيخان علَى الإخراجِ لحديثه. وقال علي بن المديني: سمعت عبد الرحمن بن مَهدي يقول: أخبرني وُهَيبٌ، وكان من أبصرِ أصحابه بالرجالِ والحديث. وعن ابن مهدي أيضًا أنَّهُ قال: كان وُهيبٌ أبصرَهم بالرجال. وقال عمرو بن علي: سمعت يحيَى بن سعيد - يعني: القطان - ذكرَ وُهيبَ بن خالد فأحسن الثناء عليه. وذكر ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن معاوية بن صالح قال: قلت ليحيَى بن معين: من أثبت شيوخ البَصْريين؟ قال: وُهيب بن خالد، مع جماعة سمَّاهم. وقال محمد بن إسماعيل الأندلسي: كان وُهيبٌ هذا من أئمة المحدثين بالبصرةِ، وكان بصيرًا بالرجالِ، قلَّما كان يروي عن ضعيف، ويقال: إنَّهُ لمْ [يكنْ] (¬1) بعدَ شعبةَ أعلمُ بالرجالِ منه. أخرج له البخاري ومسلم، وهو ثقة؛ قاله أبو داود الطيالسي، وابن معين، وابن صالح، وأبو حاتم الرازي، وأبو عبد الرحمن ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

النَّسوي، وغيرهم. زاد النسوي في "مصنفه": حافظ. وزاد أبو حاتم: ما أنقَى حديثَ وُهيب! لا تكاد تجده يحدثُ عن الضعفاء (¬1). وأما خالد الواسطي: فهو خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد، أبو الهيثم، ويقال: أبو محمد، قالَ بحشل مولَى النعمان بن مقرن: سمع أبا إسحاق الشيباني، وإسماعيل بن أبي خالد، وعمرو بن يحيَى، وجماعة. روَى عنه عمرو بن عون، ومسدَّد، وحفص بن عمرو، وإسحاق ابن شاهين، وغيرهم. قال الكلَابَاذِيُّ: مات سنة تسع وسبعين، [قال:] (¬2) قاله البخاري عن أحمد غيرَ منسوب، قيل: وهو (¬3) ابن حنبل، [و] (¬4) قالَ الغلابي عن ابن حنبل مثله، وقال عمرو بن علي مثله، وقال أبو عيسَى مثله. ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 287)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 34)، "الثقات" لابن حبان (7/ 560)، "رجال صحيح البخاري" للكلاباذي (2/ 765)، "التعديل والتجريح" للباجي (3/ 1197)، "تهذيب الكمال" للمزي (31/ 164)، "تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 235)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 149). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "وتسعين".

وقال ابن سعد: توفي سنة ثنتين وثمانين ومئة. وقال بحشل: حدثني وهب بن بقية قال: ولد خالد سنة سبع ومئة، ومات في جُمادَى الأولَى سنة تسع وسبعين (¬1) ومئة، انتهَى. وقد أخرج روايةَ خالدٍ الجماعةُ كلُّهم. وقال أحمد بن حنبل: كان ثقةً صالحًا في نفسه، بلغني أنَّهُ اشترَى نفسَهُ من اللهِ ثلاث مرات. وقال: خالد أحبُّ إلينا من هشام. وقال أبو زرعة فيه: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة، صحيحُ الحديث. وفي رواية الأخرَى عن أبي داود السِّجستاني، قالَ إسحاق الأزرق (¬2): ما أدركتُ أفضلَ من خالد [الطحان] (¬3)، قيل: قد رأيت سفيان؟ قالَ: سفيانُ رجلُ نفسه، وكان خالدٌ رجلَ عامَّةٍ (¬4) (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "للأزرق". (¬3) سقط من "ت". (¬4) جاء على هامش "ت": "بياض نحو سطرين من الأصل". (¬5) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 160)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 340)، "الثقات" لابن حبان (6/ 267)، "تاريخ بغداد" للخطيب (8/ 294)، "تهذيب الكمال" للمزي (8/ 99)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (8/ 277)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 87).

وأما سليمان بن بلال: فهو أبو أيوب، وقيل: أبو محمد، القُرَشي، التيمي، مولاهم، [المدني] (¬1)، [يقال: هو مولَى] (¬2) القاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق، [وقيل: مولَى عبد الله بن أبي عتيق بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق] (¬3)، يقال: إنَّهُ كان بربريَّ الأصل، وكان علَى سوق المدينة، وكان يفتي بها، وكان جميلاً حسنَ الهيئة. روَى عن [أبي] (¬4) أُسامة زيدِ بن أسلم، وأبي عبد الرحمن عبد الله ابن دينار العَدَوِيين، وأبي المنذر هشامِ بن عروة بن الزبير الأسدي، وأبي سعيد يحيَى بن سعيد بن قيس الأنصاري، وأبي عثمان ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن التيمي مولاهم، وأبي عبد الله شريك بن عبد الله بن أبي نُمير الليثي، وغيرهم. روَى عنه [أبو محمد عبد الله بن المبارك المروزي، وأبو الهيثم خالد بن مخلد القطواني] (¬5)، [وأبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم المصري] (¬6)، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة القَعْنَبِي، وأبو بكر عبدُ الحميد، وأبو عبد الله إسماعيلُ ابنا أبي أويس الأصبحي، وغيرهم. يقال: إنَّهُ مات سنة ثنتين وسبعين، وقيل: سنة سبع وسبعين ومئة. ¬

(¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

قال الأَوْنبَي: أخرجَ له البخاريُّ ومسلمٌ، وهو ثقة؛ قاله أحمد، ويحيَى، وابن صالح، والنسوي، وغيرهم. زاد أحمد: لا بأس به. [و] (¬1) قالَ ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: سليمان بن بلال أحبُّ إليَّ من هشام بن سعد. وذكر عثمان الدَّارميُّ أنَّهُ سأل يحيَى بن معين قال (¬2): سليمان بن بلال أحبُّ إليك أو الدَّرَاوَرْدِي؟ فقال: سليمان، وكلاهما ثقة. وقال أبو عبد الله محمد بن يحيَى الذهلي: سليمانُ عندنا أحفظُ من الدَّرَاوَرْدِي، انتهَى (¬3) (¬4). وأما واسعُ بن حَبَّان - بفتح الحاء، وتشديد ثاني الحروف -: ابن مُنقذ بن عمرو بن مالك، الأنصاري، المازني، المدني، فهو أخو يحيىَ بن حَبَّان. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "قلت". (¬3) جاء على هامش "ت": بياض نحو سطرين من الأصل. (¬4) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 420)، "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 4)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 103)، "الثقات" لابن حبان (6/ 388)، "رجال البخاري" للكلاباذي (1/ 312)، "الأرشاد" للخليلي (1/ 296)، "رجال مسلم" لابن منجويه (1/ 266)، "تهذيب الكمال" للمزي (11/ 372)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (7/ 425)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 154).

روَى عن أبي عبد الرحمن العَدَوي، وأبي سعيد الخُدْري، وأبي عبد الله بن عبد الله السلمي، وعبد الله المازني، وغيرهم. روَى عنه ابنه حَبَّانُ بن واسع، وابن أخيه محمدُ بن يحيَى بن حبان. أخرج له الشيخان، ووثَّقَهُ ابن صالح، وأبو زرعة الرازي، قيل: وغيرهما (¬1) (¬2). ومما يدخل في التعريفِ ما سيأتي في رواية مالك من جهة يحيى [من] (¬3) قوله: مالكٌ عن عمرو بن يحيَى المازني، عن أبيه: أنَّهُ قالَ لعبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جدُّ عمرو بن يحيَى. [فوجدت عن القاضي الحافظ أبي بكر بن العربي قالَ: وهم، ونفسُهُ وقعَ في "الموطأ" عن عمرو بن يحيَى المازني، عن أبيه: أنَّهُ قالَ لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جدُّ عمرو بن يحيَى] (¬4). ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": بياض نحو سطر من الأصل. (¬2) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 190)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 48)، "الثقات" لابن حبان (5/ 498)، "رجال البخاري" للكلاباذي (2/ 763)، "رجال مسلم" لابن منجويه (2/ 311)، "تهذيب الكمال" للمزي (30/ 396)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 90). (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". وقد جاء على هامش "ت": "هذا كلام القاضي أبي بكر ابن العربي بحروفه في كتاب "القبس"، وآخره: "وهو جد عمرو بن يحيى"، وانظر: "القبس" لابن العربي (1/ 118).

[قال: وهو] (¬1) وهمٌ قبيحٌ من يحيَى بن يحيَى أو من غيره، وأعجبُ منه: أنَّهُ سُئِلَ عنه ابنُ وضَّاح، وكان من الأئمةِ في الحديثِ والفقه، فقال: هو جده لأمه. ورحم الله من انتهَى إلَى [ما سمعَ، و] (¬2) وقفَ دونَ ما لم يعلمْ، وكيف جاز هذا عن ابن وضَّاح؟! والصواب في "المدونة" التي كان يُقرِئها ويرويها عن سُحنون، وهي بين يديه ينظر فيها كلَّ حين؛ قال: وصواب (¬3) الحديث: مالك عن عمرو بن يحيىَ عن أبيه: أن رجلًا قالَ لعبد الله بن زيد، وهذا الرجل هو عمارة بن أبي حسن المازني، [وهو جدّ عمرو بن يحيىَ المازني] (¬4). وظاهرُ ما في "الموطأ" في الروايةِ التي ذكرناها أنَّ يحيَى والد عمرو هو السائل لعبد الله بن زيد، و [أن] (¬5) عبد الله بن زيد هو جدُّ عمرو بن يحيَى، وقد تبيَّنَ في رواية البخاري من رواية عبد بن يوسف عن مالك: أنَّ السائلَ لعبد الله بن زيد غيرُ يحيَى والد عمرو؛ فإنه قال: ثنا عبد الله بن يوسف قال: أنبأ مالك عن عمرو بن يحيَى المازني، عن أبيه: أن رجلًا قالَ لعبد الله بن زيد، وهو جد عمرو بن يحيَى، فهذا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت"، وجاء في الأصل بدلها "وهم ". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": " قال: وصواب". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

يقتضي ما ذكرناه: أنَّ السائلَ غيرُ يحيَى، ويمكن أنْ يعود قوله: وهو جدُّ عمرو بن يحيَى، علَى هذا الرجل المبهم في هذه الرواية، إلا أن جد عمرو بن يحيَى هو عمارة بن أبي حسن، فيقتضي هذا أنَّ جده عمارة هو السائل، وهذا هو الذي ذكره أبو بكر بن العربي، لكنْ وقع في رواية البخاري من حديث سليمان بن بلال: أنَّ السائلَ لعبد الله بن زيد هو عمُّ يحيَى والد عمرو، وليس بجده، فإنه قال: حدثنا خالد، عن سليمان، عن عمرو بن يحيَى، عن أبيه قال: كان عَمِّي يكثرُ الوضوءَ، فقال (¬1) لعبد الله: أخبرني ... الحديث؛ هكذا في رواية سليمان، وكذلك في رواية وهيب، عن عمرو، عن أبيه قال: شهدت عمرو بن أبي حسن ... الحديث. فبمُقتضَى (¬2) هاتين الروايتين المتظافرتين يكون السائلُ عمَّ يحيىَ ابن عمارة، واسمُهُ عمرو بن أبي حسن، لا عَمارة، فإن عَمارة وعَمرًا هما ابنا أبي حسن علَى مُقتضَى مَا ذَكرَهُ محمد بن سعد؛ فإنه ذكر أنَّ أبا حسن اسمُهُ تميمُ بن عبد عمرو بن قيس، وأن أبا حسن هذا وَلَدَ عمارةَ، وعَمْرًا، وميمونةَ، وأنَّ عمارة ولدَ يحيَى، وأنْ يحيَى ولد عمرًا، الذي روَى عنه الثَّوريُّ، ومالك بن أنس، وغيرهما (¬3). فبمُقتضَى الروايتين اللتين عندَ البخاري - أعني: رواية سليمان بن ¬

_ (¬1) في الأصل: "قال"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "فمقتضى". (¬3) "ت": "وغيرهم".

الوجه الثاني: في إيراد الطرق المذكورة في الأصل على الوجه

بلال [ووهيب] (¬1) - لا يكونُ السائل عَمارة، ولا جدَّ عمرو بن يحيَى لأمه. * * * * الوجه الثاني: في إيراد الطرق المذكورة في الأصلِ علَى الوجه: أما روايةُ مالكٍ فأخرجها الأئمَّةُ كلُّهم في كتبهم الستة من حديثه، وقال أبو عمر: لمْ يُختلَفْ علَى مالك في إسناد هذا الحديث ولا في لفظه، رواه عن عمر بن يحيَى جماعةٌ كما رواه سواء (¬2). قلت: البخاريُّ أخرجه عن عبد الله بن يوسف (¬3)، ومسلم من حديث معن (¬4)، وأبو داود عن القَعنبِي (¬5)، وابن ماجه من حديث الشافعي (¬6)، والنسائي من حديث ابن القاسم (¬7)، والترمذي من حديث معن (¬8)، والرواية التي يوردها من جهة يحيَى بن يحيَى الأندلسي، عن ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": بياض، ثم كتب في الهامش أيضًا: لعله "ووهيب"، قلت: وهوَ كذلك، فأثبته. (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 114)، إلا أنه لم يذكر قوله: "رواه عن عمر بن يحيى جماعة ... ". (¬3) برقم (183)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين إلى الكعبين. (¬4) برقم (235)، (1/ 211) كتاب: الوضوء، باب: وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) برقم (118)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) برقم (434)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في مسح الرأس. (¬7) برقم (97)، كتاب: المياه، باب: حد الغسل. (¬8) برقم (32)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في مسح الرأس أنه يبدأ بمقدم الرأس إلى مؤخره.

مالك (¬1)، عن عمرو بن يحيَى المازني، عن أبيه: أنَّهُ قالَ لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جدُّ عمرو بن يحيَى -، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تستطيعُ أن تريَني كيف كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ؛ قالَ عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بوَضوء، فأفرغَ علَى يده فغسَلَ يديه مرَّتين مرَّتين، [ثم مضمضَ واستنثرَ ثلاثًا، [ثم غسل وجهه ثلاثًا] (¬2)، ثم غسَلَ يديه مرتين مرتين] (¬3) إلَى المِرفقينِ، ثم مسحَ رأسَهُ بيديه فأقبلَ بهما وأدبرَ، بدأَ بمُقدَّمِ [رأسِهِ] (¬4)، ثم ذهبَ بهما إلَى قفاه، ثم ردهما حتَّى رجعَ [إلى] (¬5) المكانِ الذي بدأَ منه، ثم غسَلَ رِجليه. قلت: [ومسلمٌ] (¬6) في روايته هذا الحديثَ من طريق مالكٍ لمْ يسقْهُ بتمام لفظه. وأما روايةُ سليمانَ بنِ بلال: فأخرجها الشيخان أيضًا، ولم يسقْ مسلمٌ تمامَ ألفاظها، وساقها البخاريُّ فرواها عن خالد بن مخلد، عن سليمان قال: حدثني عمرو بن يحيَى، عن أبيه قال: كان عمِّي يكثرُ من الوضوءِ، قالَ لعبد الله بن زيد: أخبرني كيفَ رأيتَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في "الموطأ" برقم (1/ 18). (¬2) سقط من الأصل و "ت"، والاستدراك من المصادر المشار إليها سابقًا. (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

يتوضَّأُ؟ فدَعَا بتَوْرٍ من ماء، فكَفَأَ علَى يديه فَغَسلهما ثلاثَ مرَّات، ثم أدخلَ يدَهُ في التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ واستنثرَ ثلاثَ مراتٍ من غَرْفة واحدة، ثم أدخلَ يديه فاغترفَ بهما فغسل وجهَهُ ثلاثَ مرات، ثم غسل يديه إلَى المرفقينِ مرتين مرتين، ثم أخذ بيديه ماءً فمسحَ رأسَه (¬1)، فأدْبَرَ بيديه وأقبَلَ، ثم غسل رِجليه، وقال: هكذا (¬2) رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ (¬3). وأما رواية خالد الواسطي فاتفق الشيخان عليها وبقيةُ الجماعة إلا النَّسائيُّ (¬4)، فعند البخاري من روايته عن مسدد قال: ثنا خالد بن عبد الله قال: ثنا عمرو بن يحيَى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد: أنَّهُ أفرغ من الإناءِ علَى يديه فغسَلَهُما، ثم غسل أو مَضْمَضَ واستنشقَ من كفَّةٍ (¬5) واحدةٍ، ففعل ذلك ثلاثًا، فغسل يديه إلَى المرفقينِ مرتين ¬

_ (¬1) "ت": "برأسه". (¬2) "ت": "كذا". (¬3) رواه البخاري (196)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء من التور، ومسلم (235)، (1/ 211)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) رواه البخاري (188)، كتاب: الوضوء، باب: من مضمض واستنشق من غرفة واحدة، ومسلم (235/ 18)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو داود (119)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: ولم يروه النَّسائيُّ من رواية خالد كما ذكر المؤلف، ولا رواه الترمذي وابن ماجه كما ذكر في "الإمام" (1/ 431)، والله أعلم. (¬5) قال المؤلف في "الإمام" (1/ 431): وقع في بعض الروايات: "من كف واحد"، والمشهور في الكف التأنيث.

مرَّتين، ومسح برأسه ما أقبلَ وما أدبر، وغسل رجليه إلَى الكعبينِ، ثم قال: هكذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعند مسلم من روايته عنْ محمدِ بن الصَّبَّاح قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن عمرو بن يحيَى بن عمارة، عن أبيه عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري، وكانت له صحبة، قال: قيل له: توضَّأْ لنا وُضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بإناء، فأكفأَ منه علَى يديه فغسلهما ثلاثًا، ثم أدخلَ يدَهُ فاستخرجَهَا، [فمضمضَ واستنشقَ (¬1) من كفٍّ واحدة، ففعل ذلك ثلاثًا، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهَهُ ثلاثًا، ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلَى المرفقينِ مرَّتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسهِ، فأقبلَ بيديه وأدبرَ، ثم غسل رجليه إلَى الكعبينِ، ثم قال: هكذا كانَ وُضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما رواية وُهيب فأخرجوها إلا النَّسائيُّ (¬2)، ومسلمٌ لمْ يسقْها بتمام لفظها، وأحال علَى [ما] سبقها قال: واقتصَّ الحديث وقال فيه: فمضمضَ واستنشقَ واستنثرَ من ثلاثِ غرفات، وقال أيضًا:] (¬3) فمسَحَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "واستنثر"، والتصويب من المطبوع من "صحيح مسلم"، و"الإمام" للمؤلف (1/ 431). (¬2) رواه البخاري (184)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين إلى الكعبين، ومسلم (235)، (1/ 211)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت: ولم أقف على رواية وهيب عند النَّسائيُّ كما نبه المؤلف، ولا عند أبي داود والترمذي وابن ماجه كما قال المؤلف أنها عندهم، والله أعلم. (¬3) سقط من "ت".

برأسِهِ، فأقبلَ به وأدبرَ مرةً واحدة. قالَ بَهْزٌ: أملَى عليَّ وُهيب هذا الحديث، [وقال وُهيب: أملَى عليَّ عمرو بن يحيَى هذا الحديث] (¬1) مرتين. والبخاريُّ أخرجها بتمامها، فقال: ثنا موسَى، ثنا وهيب، عن عمرو، عن أبيه قال: شهدتُ عمرو بن أبي حسن سألَ عبد الله بن زيد عن وُضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأكفأَ علَى يدهِ من التَّوْرِ فغسلَ يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده في التورِ، فمضمضَ واستنشقَ واستنثرَ ثلاثَ غرفات، ثم أدخلَ يده فغسَلَ وجهَهُ ثلاثاً، ثم أدخل فغسل يديه مرَّتين إلَى المرفقينِ، ثم أدخل يده فمسح رأسَهُ، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسَلَ رجليه إلَى الكعبين. ورواه البخاري عن سليمان بن حرب، عن وهيب، عن عمرو بن يحيَى، عن أبيه: شهدتُ عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فدَعَا بتَوْرٍ من ماء فتوضَّأَ لهم، فكفأه علَى يديه فغسَلَهُما ثلاثاً، ثم أدخلَ يده في الإناءِ، فمضمضَ واستنشقَ واستنثرَ بثلاثِ غرفات من ماء، ثم أدخل يده فغسلَ وجهَهُ ثلاثاً، ثم أدخل يدَهُ في الإناءِ [فغسل يديه إلَى المرفقينِ مرتين مرتين، ثم أدخل يده في الإناءِ] (¬2) فمسح برأسه، فأقبل بيديه (¬3) وأدبر ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "بيده"، والمثبت من "ت".

الوجه الثالث: في تصحيحه

[بهما] (¬1)، ثم أدخل يده في الإناءِ فغسَلَ رجليه (¬2). وأما رواية واسع بن حَبَّان فأخرجها مسلم في "صحيحه" من حديث ابن وَهْبٍ قال: أخبرني عمرو بن الحارث: أن حبان بن واسع حدثه: أن أباه حدثه: أنَّهُ سمع (¬3) عبد الله بن زيد بن عاصم، المازني، [ثم الأنصاري] (¬4)، يذكر أنَّهُ رأَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ، فمضمضَ، ثم (¬5) استنثر (¬6)، ثم غسلَ وجهه ثلاثاً، ويدَهُ اليُمنَى ثلاثاً، والأخرَى ثلاثاً، ومسحَ برأسِهِ بماءٍ غيرِ فضلِ يديه، وغسلَ رجليه حتَّى أنقاهما (¬7). * * * * الوجه الثالث: في تصحيحه: وقد أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، وبقيةُ الجماعة في كتبهم. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه البخاري (189)، كتاب: الوضوء، باب: مسح الرأس مرة. (¬3) في الأصل: "رأى"، والمثبت من "ت"، و"صحيح مسلم". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "و". (¬6) في الأصل و "ت": "استنشق"، والمثبت من "صحيح مسلم". (¬7) رواه مسلم (236)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو داود (120)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الوجه الرابع: في قاعدة تتعلق بهذا الحديث وغيره

* الوجه الرابع: في قاعدة تتعلق بهذا الحديث وغيره: لما كانت روايةُ مالك وخالد ووهيب وسليمان راجعةً إلَى عمرو ابن يحيَى، وكان في الألفاظِ اختلاف أفاد بقولِه: في (¬1) رواية خالد الواسطي في هذا الحديث، وفي رواية وُهيب في هذا الحديث، وفي رواية سليمان بن بلال في هذا الحديث: أنَّ الاختلافَ الذي وقع في الألفاظِ اختلافٌ في حديث واحد؛ لأنَّ هذه الروايات كلَّها عن يحيَى ابن يحيَى (¬2)، عن أبيه، وهذا يتعلقُ بقاعدة صناعية لا يكادُ أهل الفقه يعتبرونها، ولا تكاد توجدُ في تصرفاتهم، وكذلك في تصرف بعض أهل الحديث ممَّن يتكلَّم في الفقهِ. والذي يُعْهَدُ من تصرُّفِ أهل الفقه غالباً أنهم يجعلون اختلاف الألفاظ في الرواياتِ كاختلاف الأحاديث، ويستدلون بكل لفظة علَى الحكمِ الذي يُستفاد منها. ولأهل الحديث نظرٌ في اتحاد الحديث واختلافه يتصرَّفون بسببه فيما يتعلق بصناعتهم عندَ اختلاف الروايات، ويوجدُ في كلام بعضهم فيما يتعلَّقُ بالأحكامِ، وليس ذلك بالكثيرِ جداً، فلنتكلمْ فيما يتعلق بهذه القاعدة لتكرُّرِها في الأحاديثِ والحاجةِ إليها في الصناعتينِ جميعاً؛ أعني: في الإسنادِ وفي الاستدلال، والله الموفق للصواب (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأفاد"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "عمرو بن يحيى". (¬3) على هامش "ت": "بياض".

فنقول: إن اختلف مخارجُ الحديث، أو (¬1) تباعدت ألفاظُهُ، فينبغي أنْ يُجعلا حديثين مُستقلين، وإن اتحد مخرجُهُ، وتقاربت ألفاظُهُ، فالغالبُ علَى الظنِّ أنَّهُ حديثٌ واحدٌ وقعَ الاختلافُ فيه علَى شيخ واحد، لا سيَّما إذا كان ذلك في سياقةِ واقعةٍ [واحدةٍ] (¬2) يَبعُد أنْ يتعدَّدَ مثلُها في الوقوعِ. وإذا تبيَّنَ أنَّهُ حديثٌ واحدٌ اختلفَ (¬3) الرواةُ في لفظِهِ فيُنظر؛ إن (¬4) أمكنَ الجمعُ في اللفظِ بأنْ تزيدَ أحَدُ الروايتين لفظاً في روايةٍ لا يبعُدُ أنْ يُجمع (¬5) مع اللفظ الآخر قبل الزائد، وجعل بعض الرواة تاركاً لبعض اللفظ؛ إما لعدم سماعه، أو لنسيانه، أو لسببٍ [آخر] (¬6). وإن تعذَّرَ الجمعُ في اللفظِ ظاهراً نظرنا في أحد اللفظين، وهل يمكن أنْ يعبَّر بأحدهما عن معنَى الآخر، أو لا؟ فإنْ كَان الأولُ جمعنا، وردَدْنا إحدَى الروايتين إلَى الأخرَى. وإنْ كَان الثاني فحينئذ نرجع إلَى الترجيحِ بزيادة الحفظ، أو الكثرة، أو غير ذلك من أسباب الترجيح. هذا فيما إذا اتَّحدَ الحديث ظناً برجوعِهِ إلَى مخرج واحد، ¬

_ (¬1) "ت": "و". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "اختلفت". (¬4) "ت": "فإن". (¬5) "ت": "يجتمع". (¬6) زيادة من "ت".

وتقارُبِ ألفاظه، أو اتحادِ واقعته. وأما إنْ لمْ يكنْ كذلك فهما حديثان يُؤخَذُ من كلِّ واحد منهما ما يقتضيه، وهذا الذي نقوله بناءً علَى غالب الظنِّ لا علَى الجزمِ، فإنه يجوزُ في أكثر هذه الاختلافاتِ أنْ تكونَ كرواياتٍ متعددة، وإن بَعُدَ (¬1) ذلك. مثال ما يتَّحدُ مخرجُهُ ويظهر أنَّهُ حديثٌ واحد مع إمكان اجتماع اللفظين: حديث يحيَى بن [أبي] (¬2) كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه في النهي عن مسِّ الذَّكَرِ باليمينِ (¬3)، فإنَّ الرواياتِ ترجعُ إلَى يحيَى هذا، فإذا رواه بعضهم بالنهي عن مسِّ الذكر باليمينِ مُطلقاً (¬4)، ورواه بعضهم بالنهي عن مسِّهِ باليمينِ في الاستنجاء، أو في البولِ، فهذا يمكن أنْ يكونَ جميعاً ملفوظاً بهما، فتُحمل روايةُ من تركه علَى رواية من ذكره، ونجعله (¬5) [دليلاً على] (¬6) تقييد النهي بالاستنجاءِ أو البول (¬7). ولو جعلناهما كالحديثينِ لمْ نَحكمْ بتقييد النهي بحالة الاستنجاء أو البول؛ لأنَّ الحديثَ الذي فيه النهي مُطلقاً لا يُعارِضُ الذي فيه ¬

_ (¬1) في الأصل: "تعدد"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) "ت": "مطلقاً باليمين". (¬5) في الأصل: "يجعل"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) "ت": "فتحمل رواية من تركه على رواية من ذكر، ونجعله دليلاً على تقييد النهي بالاستنجاء أو البول".

النهي مُقيداً بالاستنجاءِ أو البول، وإنما يُرَدُّ أحدُ اللفظين إلَى الآخرِ في العموم [إلَى] (¬1) الخصوص، أو الإطلاق إلَى التقييدِ، عندَ التعارض والتنافي في بعض المدلولات، اللهمَّ إلا أنْ يكونَ التقييد يقتضي مفهومُهُ مخالفةً للمُطلقِ أو العامِّ عندَ من يقول بالمفهومِ، ويرَى أنَّهُ يُخصِّصُ العمومَ. ومثالُ ما لا يتأتَى فيه الجمعُ من الألفاظِ: ذكر حديث الواهبةِ نفسَها وما اختلفت الرواة فيه عن علي بن أبي حازم (¬2)، عن أبيه، عن سهل بن سعد؛ فإنها قصة واحدة، يقول بعضهم: "أنكحتُكَهَا (¬3) " (¬4)، وبعضهم: "زوَّجتُكَهَا" (¬5)، وبعضهم: "مَلَّكْتُكها (¬6) " (¬7)، إلَى غير ذلك من الاختلافات (¬8)، فهذا لا يتأتَّى أن تكون هذه الألفاظُ كلُّها قالها ¬

_ (¬1) في الأصل: "أو"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "علي ابن أبي حاتم". (¬3) في الأصل: "أنكحتها"، والمثبت من "ت". (¬4) رواه البخاري (4854)، كتاب: النكاح، باب: التزويج على القرآن وبغير صداق. (¬5) رواه البخاري (4741)، كتاب: فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ومسلم (1425)، (2/ 1041)، كتاب: النكاح، باب: الصداق. (¬6) "ت": "ملكتها". (¬7) رواه البخاري (4742)، كتاب: فضائل القرآن، باب: القراءة عن ظهر القلب، ومسلم (1425)، (2/ 1040)، كتاب: النكاح، باب: الصداق. (¬8) "ت": "الاختلاف".

الرسول (¬1) - صلى الله عليه وسلم - في تلك الواقعة وتلك الساعة، إلا علَى سبيل التجويز العقلي المخالف للظنِّ القوي جداً، فينبغي علَى هذا أنْ يُنظرَ إلَى الترجيحِ الذي أشرنا إليه؛ لأنه ليست دلالة كل واحدٍ من هذه الألفاظ كدلالة الأخرَى في الحكمِ الذي يُؤخَذُ منها، فتقفُ الدلالةُ بلفظ: "ملَّكتُكَها" علَى انعقاد النكاح بلفظ التمليك علَى هذا التقدير إذا لمْ يتبينِ الترجيح. وما ذهب إليه بعضُهُم - أو من (¬2) يذهب إليه - من أنَّ النكاحَ انعقد في القصةِ بلفظ النكاح أو التزويج، وأن لفظَ التمليك تعبيرٌ عن معنَى ما وقع، لا لفظِهِ (¬3)، ينعكسُ (¬4) عليه، ويقلبُهُ خصمُهُ عليه، وإنما الطريق في سبيل هذا الترجيح. ولو ذهب ذاهبٌ إلَى ما يفعله الفقهاءُ من جعل الروايات المتعددة في الطرقِ للحديث الواحد كالأحاديثِ المتعددة، لزمَهُ أنْ يجيزَ النكاحَ بكل لفظةٍ من هذه الأحاديث المذكورة في الحديثِ لرواية (¬5) كلِّ لفظةٍ من جهة العدلِ الثقة (¬6). قد نبَّهْنا علَى اختلاف الروايات في هذا الحديث، ولا تغفلَنَّ ¬

_ (¬1) "ت": "قول الرسول". (¬2) زيادة من "ت"، وقد ألحقت في الأصل، إلا أنها مطموسة. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 214). (¬4) "ت": "يعكسه". (¬5) "ت": "كرواية". (¬6) على هامش "ت" قوله: "بياض".

الوجه الخامس: في [شيء من] مفرداته؛ أعني: مفردات حديث عبد الله بن زيد في الجملة، وفيه مسائل

فيه، وفي غيره، عن أن تنظرَ إلَى الاختلافِ، وأنه علَى من يرجعُ إليه الحديث، فإنه قد يقع [فيه] (¬1) الاختلافُ (¬2) فيما بعد ذلك من المُتأخِّرينِ الذين يَروونه (¬3) بوسائط إلَى من يرجعُ إليه الحديث، فإنَّ رواةَ "الموطأ" قد يختلفون في بعض الألفاظ، فلا يلزم أنْ يكونَ ذلك اختلافاً علَى مالك، وقد يكون ذلك اختلافاً عمَّنْ دونه (¬4)، فإذا نسبتَ الاختلافَ إلَى مُخرجِ الحديث كان خطأً. مثالُهُ في هذا الحديث: قوله: "فغسَلَ يدَيهِ مرَّتين مرَّتين": نُسِبَ إلَى كتاب أحمد بن مطرف: "يده"، فإذا حملتَ هذا الاختلافَ علَى من يرجعُ إليه الحديثُ، وهو عمرو بن يحيَى، كان ذلك خطأً، فتحرَّزْ من أمثاله. * * * * الوجه الخامس: في [شيء من] (¬5) مفرداته؛ أعني: مفردات حديث عبد الله بن زيد في الجملة، وفيه مسائل: الأولَى: قوله في رواية وُهيب: "فدَعَا بتَوْرٍ منْ ماءٍ"؛ التَّوْرُ: بالتاءِ المثناة، والواو الساكنة، آخرُهُ راءٌ مهملة، قالَ ابن سِيدَه: هو ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "الخلاف". (¬3) في الأصل: "يريدونه"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "يرويه". (¬5) سقط من "ت".

الثانية

الرسولُ بين القوم، عربيٌّ صحيح، قال [من السريع]: والتَّوْرُ فيما بَيْنَنَا مُعْمَلُ ... يَرضَى بِهِ المَأتِيُّ والمُرْسِلُ (¬1) والتَّورُ: من الأواني مذكَّرٌ، قيل: هو عربي، وقيل: هو دخيل (¬2). الثانية: قالَ صاحب "ديوان الأدب" (¬3): وكفأت القَدْرَ؛ أي: قلبتها. قلتُ: ويقال: كَفَأْتُ القومَ؛ [أي:] (¬4) إذا أرادوا وَجْهاً وصرفْتُهُم إلَى غيرِهِ، وكفأت العودَ: إذا (¬5) قشرته، وكفأ [ت] (¬6) اللحمَ عن العظمِ؛ أي: نزعتهُ عنه. ذَكَرَ ذلك الفارابيُّ، ويمكن أنْ يُرجعَ كلُّه إلَى أصل واحد، فإن [في] (¬7) صرفِ وجههم إلَى غيره قُرباً من (كفأت الإناء)، وأبعد منه ¬

_ (¬1) البيت مذكور دون نسبة في "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 396)، و "تهذيب اللغة" للأزهري (14/ 221)، و"الصحاح" للجوهري (2/ 602)، و"أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 65)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 96). (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (9/ 530). (¬3) للإمام اللغوي إسحاق بن إبراهيم الفارابي، المتوفى سنة (350 هـ) تقريباً، وهو خال الجوهري صاحب "الصحاح"، كتاب: "ديوان الأدب" في اللغة، انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 774). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "أي" بدل "إذا". (¬6) سقط من "ت". (¬7) زيادة من "ت".

الثالثة

الوجهان الآخران، وليس يمتنعُ تحيُّلُ أن يُردَّ إليه. الثالثة: قوله: "فأكْفَأَ منه علَى يديه" فيه إشكالٌ؛ لأنَّ الإكفاءَ للإناءِ لا للماءِ، والمُفْرَغُ الذي تقتضيه (من) علَى اليدِ هو الماءُ، وهو لا يُكفأ. الرابعة: وقال ابن سِيدَه: وفَرَغَ عليه الماءَ، وأَفْرَغَهُ (¬1): صبَّه؛ حكَى الأولَى ثعلب، وأنشد [من الطويل]: فَرَغْنَ الهوَى في القلبِ ثمَّ صَببْنَهُ ... صباباتِ ماءِ الحُزْنِ بالأعينِ النُّجْلِ (¬2) وفي التنزيل: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة: 250]؛ أي: أنزلْ علينا صبراً [يشتمل علينا] (¬3)، وهو علَى المثل. وافْتَرَغَ: أفرغَ علَى نفسه [الماء] (¬4). وأَفْرَغَ عندَ الجِماع: إذا صبَّ ماءَه (¬5)، وأَفْرَغَ الذهبَ والفضةَ ونحوهما من الجواهرِ الذائبة: صبَّها في قالب. وحَلْقَةٌ مُفْرَغَةٌ: مُصْمَتَةُ الجوانب (¬6) غير مقطوعة. ¬

_ (¬1) "ت": "أفرغتُه". (¬2) البيت للمجنون، كما في "ديوانه" (ص: 231). وعنده: زرعْنَ الهوى في القلب ثم سقيْنَهُ ... صُبابات ماءِ الشوق بالأعين النُّجلِ (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "الجماعة صب ماؤه" والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "مضمنه أو خلفه والجواب"، والمثبت من "ت".

الخامسة

ومَفْرَغ الدَّلوِ: ما يلي مُقدمَ الحوض، والمَفْرَغُ والفرَغُ: مَخرجُ الماء من بين عَرَاقي (¬1) الدَّلوِ، والجمع: فُرُوغ، وفِرَاغ الدَّلوِ: ناحيتُها التي يصبُّ منها الماء. والفِرَاغُ: الإناءُ بعينه؛ عن ابن الأعرابي (¬2). الخامسة: قالَ ابن سِيدَه: (القَفَا) وراء العنق، [ثم] (¬3) قال: فما المَوْلَى وإِن عَرُضَتْ قَفَاهُ ... بأَحْمَلَ للمَلاوِمِ من حِمَارِ (¬4) ويروَى: للمحامد. وقال اللحياني: (القَفا) يذكر ويؤنث، [و] (¬5) حكي عن عكل: هذه قفا، بالتأنيثِ، وحكَى ابن جِنِّي المدَّ في القفا، وليست بالفاشية (¬6). فأما قوله [من الرجز]: يا ابنَ الزُّبَير طَالَما عَصَيْكا ... وطَالَما عَنَّيْتَنا إلَيْكا لَنَضْرِبَنْ بسَيْفِنا (¬7) قَفَيْكا (¬8) ¬

_ (¬1) "ت": "عزالي". (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 504 - 505)، (مادة: فرغ). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) ذكره ابن السكيت في "إصلاح المنطق" (ص: 362)، والأزهري في "تهذيب اللغة" (9/ 246)، وابن منظور في "لسان العرب" (15/ 192)، دون نسبة. (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل "بالفارسية"، والتصويب من "ت". (¬7) "ت": "بسيفينا". (¬8) البيت لرجل من حمير، كما ذكر أبو زيد في "نوادره" (ص: 105)، والبغدادي في "خزانة الأدب" (4/ 430)، وابن منظور في "لسان العرب" (15/ 192).

السادسة

أَراد: قَفَاكَ، فأَبدل الأَلفَ ياءً للقافية، وكذلك أَراد: عَصَيْت، فأَبدل من التاءِ كافاً؛ لأَنها أُختها في الهمسِ. والجمع: أَقْفٍ وأَقْفِيةٌ؛ الأَخيرة عن ابن الأعرابي، وأَقْفَاء، والكثير: قِفَا (¬1)، وقِفِيٌّ، وقِفِين، الأخيرةُ نادرةٌ لا يوجبها القياس (¬2). السادسة: قال ابن طريف (¬3): بَدَأَ اللهُ الخَلْقَ، وأَبْدَأَهمْ: خَلَقَهم، وفي القرآن: {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20]، وفيه: {يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 4]، في موضع آخر: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27]، وبَدَأَ بالأمرِ وأَبْدَأَ: قدَّمه، وعاد. وأَبْدَأَ وأَعَادَ، وما أَبْدَأ فلانٌ وما أَعَاد: إذا لمْ يأتِ بشيءٍ، ولم يقدرْ عليه. السابعة: قالَ ابن سِيدَه: و (أَخْرَجَه) و (استَخْرَجَهُ): طلبَ إليه، أو منه، أنْ يخرجَ (¬4). وقالَ الجَوهَرِيٌّ: والاستخراجُ كالاستنباطِ (¬5)، انتهَى. ¬

_ (¬1) في الأصل: "قِفيّ" والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 571 - 572). (¬3) للمحدث اللغوي ابن طريف عبد الملك بن طريف القرطبي، المتوفى سنة (400 هـ) كتاب: "الأفعال في رواة الحديث". انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1394). (¬4) انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 3)، (مادة: خرج). (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 309)، (مادة: خرج).

ولبُنْيَةِ (¬1) (اسْتَفْعَلَ) معانٍ في لسان العرب: تكون بمعنَى الإصابة؛ كقولك (¬2): استجَدْتُهُ (¬3)؛ أي: أصبته جيداً، واستكرمته، واستعظمته: أصبته كريماً، وعظيماً. وتكون بمعنَى الطلب؛ كقولك: استعطيتُ العطيةَ، واستعتبْتُهُ؛ أي: طلبتُ له العُتبَى، واستفهمْتُهُ؛ أي: طلبتُ أنْ يُفهمَنِي. قال الشيخ أبو عمرو: و (اسْتَفْعَلَ) للسؤال غالباً؛ إما صريحاً نحو: استكتبته، أو تقديراً نحو: استخرجته (¬4)، وذكرنا في الكلامِ، وقال في شرحه: لأنَّ معنَى (استكتبته): طلبت منه أنْ يكتب، فهو صريحٌ في طلب الكتابة، وإذا قلت: استخرجته، فقد لا يكون (¬5) طلبٌ، بل مُجرَّدُ تخيُّلٍ في قصد [الخروج] (¬6)، ولكن يُنزَّلُ التخيلُ منزلةَ الطلب؛ كقولك: استخرجت الوتِدَ من الحائطِ (¬7)، [انتهَى] (¬8). وتكون (اسْتَفْعَلَ) بمعنَى التحولِ من حال إلَى حال؛ نحو: استنوق الجملُ، واستَتْيَستِ الشاةُ. ¬

_ (¬1) "ت": "في" بدل "لبنية". (¬2) في الأصل: "كقوله"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "استجده"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "الشافية في علم التصريف" لابن الحاجب (ص: 21). (¬5) (يكون) هنا تامة بمعنى: يوجد، وما بعدها فاعل لها. (¬6) زيادة من "ت". (¬7) انظر: "شرح الشافية" للرضي (1/ 110). (¬8) سقط من "ت".

الوجه السادس: في شيء من العربية

وتكون بمعنَى تَفَعَّلَ؛ كقولهِم: تعلَّم واستعلم، وتكبَّر واستكبر. وتكون بمعنَى فَعَلَ؛ كقولك قَرَّ واستقَرَّ، ومرَّ واستمرَّ (¬1). وينبغي أنْ تكونَ هاهنا بمعنَى: أخرج؛ كـ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] بمعنَى: أجاب، {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14]؛ أي: أجابوا. [وقول الشاعر] (¬2): فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (¬3) أي: لمْ يجبه. ولو حملناها علَى طلبِ الفعل، لقيلَ: إنَّهُ من باب التعبير عن الفعلِ بإرادته، وهو مجازٌ. * * * * الوجه السادس: في شيء من العربية: قد ورد في الحديث: "فغَسَلَ يدَيه مَرَّتَين مرتين"، فلا بدَّ من النظرِ في مُقتضَى هذا اللفظِ، وهل يقتضي غَسْلَ كلِّ واحد منهما مرتين بسبب تكريرِ اللفظ، أم يجوز أنْ يكونَ غَسَلَهُما معاً مرتين، فيكون ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت" قوله: "بياض نحو سبعة أسطر من الأصل". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) عجز بيت منسوب إلى كعب بن سعد الغنوي، كما تقدم، وصدره: وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى

تكرار (مرتين) تأكيداً لفظيًّا؟ فنقول: المنقولُ عن بعض أكابر الفضلاء من المتأخرينِ - وهو أبو محمد بن بري -: أنَّهُ إذا كُرِّرَت الأجناس، أو المصادر، أو أسماء العدد، كان المرادُ حصولَهَا مكررةً؛ نحو: جاء القوم رجلاً رجلاً، وجماعةً جماعةً، وزُمرةً زمرةً؛ أي: رجلاً بعد رجلٍ، وجماعةً بعد جماعةٍ. وكذلك: ضربت زيداً ضرباً ضرباً، وضربتين، وجاؤوا رجلين رجلين، واثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة؛ أي: ضرباً بعد ضربٍ، واثنين بعد اثنين، ومنه قوله تعالَى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21 - 22]؛ أي: دكًّا بعد دكٍّ، وصفًّا بعد صفٍّ. وعن الشيخ أبي محمد وابن الحاجب: ولا يحسنُ التوكيدُ اللفظيُّ إلا حيثُ لا يكونُ للكلام مَحْملٌ غيرُهُ. ومن ثَمَّ لمْ يَحملْ أبو عليٍّ التكرير في المصادرِ والأعداد وأسماء الأجناس عليه في قولك: جاؤوا رجلاً رَجلاً، وحَسَبْتُهُ (¬1) باباً باباً، وضربته ضرباً ضرباً (¬2)، وأنفقت الدراهمَ ثلاثةً ثلاثةً؛ لأنَّ المقصودَ في هذه الأمثلة وشبهها حصولُ الفعل علَى هيئة التكرير الواقعِ بعضُهُ بعدَ بعض؛ لأنَّ المعنَى: رجلاً بعد رجلٍ، وباباً بعد باب، وضرباً بعد ¬

_ (¬1) "ت": "ضرابَا ضراباً". (¬2) "ت": "خشبته".

ضرب، وثلاثةً بعد ثلاثةٍ، وهو معنى مُستقلّ (¬1). والتأكيد اللفظي قليل الفائدة (¬2)؛ لأنَّ الغرضَ إبلاغُ المخاطَب ما لَعَّله لمْ يسمعْهُ، ومثلُ ذلك عندي قوله تعالَى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21 - 22]، لا يُحمل اللفظ المكرر فيها علَى التأكيدِ اللفظي؛ لأنَّ المقصودَ تكرير وقوع الدَّكِّ والصَّفِّ؛ أي: دكًّا بعد دكٍّ، وصفًّا بعد صفٍّ، وهو معنى مستقلٌّ ينافيه التأكيدُ اللفظي؛ لأنَّ حمله عليه يبطلُ قصدَ التكرير لفظاً، وإبطالُه مُبطلٌ قصدَ التكرير معنى، وهو المقصود من الأمثلةِ المذكورة. وعن أبي عبد الله ابن مالك: يعدُّ ذكرُ المعطوفِ في حكم التكرير (¬3)، وقد يُغني في هذا النوع التكريرُ عن العطفِ، ومنه قوله تعالَى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21، 22]؛ أي: دكاً بعد دكٍّ، وصفاً بعد صفٍّ (¬4)، ويجري هذا المجرَى أسماءُ الأجناس، وأسماء العدد؛ نحو: جاء القوم رجلاً رجلاً، وجماعةً جماعةً، وأقبلوا اثنينِ اثنينِ، وثلاثةً ثلاثةً، ولا يُحمل الاسم الثاني في هذه الأمثلة علَى التأكيدِ اللفظي؛ لأنَّهُ لا معنى للتأكيد اللفظيِّ سوَى إبلاغ المخاطب ما لعله لمْ يسمعْه، ¬

_ (¬1) وانظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 392). (¬2) في الأصل: "قليل والفائدة"، والتصويب من "ت". (¬3) قال ابن مالك في "ألفيته": وما مِنَ التوكيدِ لفظي يجي ... مكرراً كقولكَ: ادْرُجِي ادْرُجِي (¬4) "ت": "صفاً بعد صف ودكًّا بعد دكٍّ".

الوجه السابع: [في شيء من علم المعاني والبديع]

وهذا النوع له معنى مُستقلٌّ غير ذلك. * * * * الوجه السابع: [في شيء من علم المعاني والبديع]: المتكلمون علَى علم البديع يَجعلون منه نوعاً يُسمَّى التفسير، ورُبَّما رسَمَهَ بعضهم بأنْ يستوفيَ الشاعرُ شرحَ ما ابتدأ به مُجملاً، وهذا من نوع تساهلهم في الرسومِ لفظاً ومعنى، فإنه لا خصوص للشاعر بهذا النوع، بل هو كذلك في النثرِ والنظم معاً، وقد قالَ تعالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، ثم فسره تعالَى بما أتَى بعده. وذكروا منه قولَ المُتنبِّي [من الطويل]: فتًى كالسَّحَابِ الجَوْنِ يُرْجَى ويُتَّقَى ... يُرَجَّى الحيا منهُ وتُخْشَى الصَّوَاعقُ (¬1) ولم يُحسنْ من ذكر في هذا الباب قولَ المتنبي [من البسيط]: إنْ كُوتِبُوا أو لُقُوا أو حُورِبُوا وُجِدُوا ... في الخَطِّ واللَّفْظِ والهَيْجَاءِ فُرْسَانَا (¬2) ولا مَن أدخلَ فيه قولَهُ تعالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان المتنبي" (2/ 35)، (ق 152/ 12). (¬2) انظر: "ديوانه" (2/ 463)، (ق 268/ 27).

الوجه الثامن: في المباحث والفوائد، وفيه مسائل

وَطَمَعًا} [الرعد: 12]. (¬1) * * * * الوجه الثامن: في المباحثِ والفوائد، وفيه مسائل: الأولَى: قالَ قائلٌ: لفظُ (هل يستطيع) يقتضي في العُرفِ تعذُّراً أو تعسُّراً فيما يُسأل عنه، أو كون الشيء بعرضية ذلك، ألا ترَى أنَّهُ لا يصلحُ في العُرفِ أنْ يُقَال للصحيح البِنيَة الذي لمْ تقمْ قرينةٌ علَى عجزه: هل تستطيع أن تقوم؟ هل تستطيع أن تتكلم؟ هل تستطيع أن تُحرِّك يدَك؟ إلَى غير ذلك من الأمثلةِ، والمسؤول هاهنا راجعٌ إلَى رؤية الوضوء، وإلَى حكاية ما رأى (¬2)، ولا عسرَ، ولا تَعَذُّرَ (¬3)، في واحدٍ [منهما] (¬4). وأجيب من وجوه: أحدها: أنْ يكونَ المرادُ: هل رأيتَ الفعلَ فتستطيعُ أن تحكيَهُ، أم لمْ ترَه فلا تستطيع ذاك (¬5)؟ ولا شكَّ أنَّ حكايةَ ما لمْ يرَ (¬6) محالٌ في إخبار من لمْ يرَهُ (¬7) عمَّا ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "بياض نحو عشرة أسطر من الأصل". (¬2) في الأصل: "رؤي"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "ولا يسر بعذر" والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت" "ذلك". (¬6) في الأصل: "يره"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "يسأل".

رأَى، فالسؤال حقيقة عن وقوع الرؤية التي ينشأ عنها إمكانُ الاستطاعة في الحكايةِ، ولو قيل: هل رأيت كذا، فتستطيع أن تحكيه؟ لمْ يكنْ ذلك خارجاً عن استعمال أهل العرف، ولا مُستكرهاً عندهم. ولو قالَ قائل: كيف [يمكن أن] (¬1) يكونَ الصحابيُّ المصاحبُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدةً لا يرَى وضوءَهُ - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقال: إنما يمتنعُ ذلك إذا لمْ يكنْ حكمُ الوضوء متبيناً مِن غيرِ الفعل، لكنه متبَيِّنٌ بالآيةِ الكريمة، فلا يمتنعُ مع البيان أن لا يرَى اكتفاءً بالمتبين (¬2) من الآيةِ، أو من قولٍ آخرَ من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -. وثانيها: أنْ يكونَ السؤالُ عن دوام الذكرِ لفعله - صلى الله عليه وسلم - إلَى حين السؤال، فكأنَّهُ يقول: هل أنت مُستحضِرٌ (¬3) لما رأيت؟ أو طرَأَ عليك نسيانٌ يمنع من الاستطاعةِ لحكايته؟ وثالثها: أنْ يُحملَ علَى أنَّ السؤالَ عن تأمله لأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[في الوضوء] (¬4)؛ كُلِّيِّها وجزئيِّها (¬5)؛ ظاهرِها وخفيِّها، حتَّى يأتيَ بذلك علَى الوجهِ الذي وقع بكماله وتمامه، وذلك أنَّ الأفعالَ قد يقعُ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "الاكتفاء بالمبين". (¬3) "ت": "مستحقر". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "كلها وجزئها" والمثبت من "ت".

الثانية

منها ما لمْ يعلمْ أنَّهُ مقصودٌ إلا بتأمل، فيحتمل أنْ يكونَ السؤال لأجل ذلك. ورابعها: أنْ يكونَ السؤال عن ذكرها مجموعةً مسرودةً، [أو فعلها كذلك علَى معنَى الجمع] (¬1)، فقد (¬2) يكون الإنسان عالماً بأجزاء الشيء، ولو سُئِلَ عن ذكره مجموعاً لتوقفَ، وإنْ كَان لو سئل عن كل فردٍ لأجاب. وخامسها: إذا قلنا: إنَّ (كَان) تقتضي المداومةَ أو الأكثريةَ، فيكون السؤال عن ذلك، ولا شكَّ أنَّ الفعلَ قد يختلف بالدوامِ وعدمِه، فيمكن أنْ يكونَ السؤال: هل وقع (¬3) دوامٌ علَى فعلٍ فتستطيعُ أنْ تُخبِرَ به، أو لمْ يقعْ فلا تستطيع؟ الثانية: هذا وضوءُ التعليم، وقد تكلموا في أنَّهُ هل تُستباحُ به [الصلاةُ] (¬4)، أم لا؟ وكذلك [صلاةُ] (¬5) التعليم. والمنقولُ عن سفيان الثوري - رحمه الله -: أنَّ من علَّمَ غيرَهُ الوضوءَ [أجزأه] (¬6)، ومن علَّم غيرَهُ التيممَ [لم يُجزِئْ] (¬7). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل "قد" والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "يقع". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) سقط من "ت".

قالَ بعض المالكية: إن نوَى الطُّهرَ استباحَ به الصلاة، وإنْ لمْ يُرِدْ إلا التعليمَ لمْ يستبحْ به الصلاة (¬1)، وكذلك مَن نوَى بوضوئِهِ تعلُّمَ (¬2) الوضوءِ، قال: قاله ابن القاسم في "العتبية" (¬3). والمسألة تتعلَّقُ بأصلين: أحدهما: اشتراطُ النية في الطهارةِ، أو عدم ذلك. والثاني: التشريكُ فيها، هل يَضير، أم لا؟ وقد حُملَ قولُ سفيان - رحمه الله - علَى أنَّهُ كقول أبي حنيفة: أنَّ التيممَ لا بدَّ فيه من نيَّة، وأما الوضوء فلا (¬4)، وفي هذا نظرٌ. وأما التشريكُ فظاهر ما نُقِلَ عن ابن القاسم أنَّهُ لا يضرُّ؛ لأنه علَّقَ الاستباحة بمُجرَّدِ نيةِ الطهر، ولم يعرضْ؛ لأنَّ التشريكَ مانعٌ، وظاهر هذا: أنَّهُ لا يضر. والصحيحُ عندَ الشافعية: أنَّ نيةَ التَّبَرُّدِ (¬5) مع نيةِ الاستباحة لا تضر، وعُلِّلَ ذلك بأنَّ ما يَحصلُ، وإنْ لمْ يُنوَ، [لا تضرُّ نيَّتُهُ، والتبردُ حاصلٌ، وإنْ لمْ ينوَ] (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "صلاة" بدل "به الصلاة". (¬2) "ت": "تعليم". (¬3) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 237). (¬4) انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 52). (¬5) في الأصل: "التردد"، والمثبت من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 327).

الثالثة

وليس في الحديثِ دليلٌ علَى أن وضوءَ التعليم يُجزئ أو لا يجزئ، لكنَّه فيه دليلٌ علَى أنَّهُ يجوز فعل ذلك؛ أي: التعليم، وقد يمكن أنْ تُضمَّ إليه مقدمةٌ أخرَى، ويُستدلَّ بذلك علَى الجوازِ؛ أي: جواز الصلاة به، أو عدم إفساد التشريك، لكنه (¬1) نذكره في مسألة تلي هذه. الثالثة: صرَّحوا بأنَّ الوضوءَ عبادة، وأقاموا خلاف الحنفية في ذلك؛ أعني: الخِلافيِّين، فإذا كان عبادةً، وشرطُهَا أحدُ النياتِ المذكورة، ففعلُ (¬2) العبادة بغيرِ شرطها ممتنعٌ، وقد جعلوا كونَهُ عبادةً دليلاً علَى اشتراط النية، واللازمُ أحدُ أمرين؛ إما بطلان هذا الاستدلال، أو مخالفة تلك القاعدة التي قلناها، وهو أنَّ فعلَ العبادة بغيرِ شرطها ممتنعٌ؛ لأنه إنِ اشترطنا النيةَ وجب أن لا يكون الوضوءُ عبادةً إلا بها، ولو ثبت ذلك، وكان هذا التشريكُ في النيةِ [مُبطلاً] (¬3)، لكانت العبادةُ قد فُعلت بدون شرطها، وهو الأمر الثاني الممتنع. وهذا بناء علَى أنَّهُ قصد الوضوءَ بهذا الفعل، ولعله الأظهر. الرابعة: الخلافُ مشهورٌ في دلالة (كان) علَى الدوامِ أو الأكثرية، أو عدم دلالتها علَى سوى (¬4) اقترانِ مضمون الجملة بالزمنِ الماضي، ومعرفةُ ما وقع عنه السؤالُ ينبني علَى ذلك. ¬

_ (¬1) "ت": "للنية". (¬2) "ت": "وفعل". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "سواء"، والمثبت من "ت"، وتعبير المؤلف خلاف المعتاد.

الخامسة

الخامسة: فيه البيانُ بالفعلِ عما سئل عنه، وقد تكلم الأصوليون في بيان المُجمل بالفعلِ؛ هل يحصل؟ وقسموا القول في الدليلِ الدالِّ علَى البيانِ إلَى: ما يحصل بالمواضعةِ؛ كالكتابةِ، وعقد الأصابع، وإلَى شيء تتبعه المواضعة (¬1)، وفُسِّرَ بالإشارة؛ لأنَّ المواضعةَ مُفتقِرَةٌ إليها، وهي غيرُ مفتقرةٍ إلَى المواضعةِ، وإلا لافتقرت إلَى مواضعة أخرَى، ولزم التسلسلُ، وهو محال، وإلَى ما يكون تابعاً للمواضعة؛ كما في قوله (¬2) - عليه السلام -: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلِّي" (¬3)، ولو قالَ - عليه السلام -: هذا الفعلُ بيانٌ لكذا (¬4). وقد نُقِلَ عن قوم أنَّ الفعلَ لا يكون بياناً، والمختارُ عند الأصوليين خلافُهُ (¬5). فإن قلت: كلام الأصوليين في بيان المُجمل بالفعلِ، وليس كذلك ما في الحديث! قلت: هو في معناه؛ لأنَّ السؤالَ مُقتضٍ لإبهام الأمر عندَ السائل، ومُحوجٌ إلَى بيان ما هو الواقعُ، وما هو مُحتملٌ مع غيره في السؤال. السادسة: لقائل أنْ يقول: البيانُ بالقولِ أظهرُ من البيانِ بالفعلِ، فِلمَ عُدِلَ عنه إلَى البيانِ بالفعل؟ ¬

_ (¬1) "ت": "المواضع". (¬2) "ت": "كقوله". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "المحصول" للرازي (3/ 262 - 265)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله. (¬5) انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصبهاني" (2/ 386).

السابعة

والجواب: أنَّهُ لو عدل عنه إلَى البيانِ بالقولِ لمْ يكنْ جواباً للسؤال؛ لأنه سأله عن الرؤيةِ، والقولُ لا يرَى، وقد يتعلقُ للسائل غرضٌ في البيانِ [بالفعل] (¬1)، فإنَّ البيان (¬2) بالقولِ قد يكونُ أطولَ ومحتاجاً في الزمانِ إلَى مُدَّةٍ أكثرَ من زمان مدة الفعل، فيكون غرضُ السائلِ (¬3) متعلقاً بالأخصرِ في البيانِ. وقد حُكيَ في الاحتجاجِ لمن منعَ البيانَ بالفعل بأنَّهُ يكون أطولَ، فيتأخرُ (¬4) عن وقت الحاجة، وأجيب بالمنعِ، وأنه قد يكون القولُ أطولَ (¬5). وقد أورد بعضهم السؤال فقال: فإن قيل: البيانُ يحصل بالقولِ، فالجواب: أنَّهُ بالفعلِ أوقعُ في النفوسِ، وأبعدُ من التأويلِ، والله أعلم (¬6). وما ذكرناه أولَى. السابعة: قد ذكرنا تفسير (التَّورِ)، والحديثُ الذي جاء فيه: "من صُفْرٍ" (¬7) يدلُّ علَى جواز الوضوء من آنية الصفر؛ كما يجوزُ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "للبيان". (¬3) "ت": "للفعل". (¬4) "ت": "فتأخر البيان". (¬5) انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصبهاني" (2/ 387). (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 123). (¬7) رواه البخاري (194)، كتاب: الوضوء، باب: الغسل والوضوء في =

الثامنة

الوضوء بسائر الأواني الطاهرةِ سوَى الذهب والفضة، والظاهريةُ لا تستثنيهما (¬1) أيضاً. الثامنة: قوله: (فأفرغ) يقتضي عدمَ إدخالِ اليد في الإناءِ عندَ ابتداء الوضوء قبلَ غسلهما، وقد ذكرنا أنَّ ذلك مستحبٌّ، وأنه لا يتوَقَّف علَى الاستيقاظِ من النومِ، و [قد] (¬2) ذُكِرَ فيه أنَّ العلةَ في المستيقظِ جاريةٌ في غيره، فيعمُّ الحكمُ بعموم علته. التاسعة: ذكر الشيخ أبو زكريا النواوي في شرحه لكتاب "مسلم" قال: قوله: (فدَعَا بإناءٍ فأَكْفَأَ منها)؛ هكذا هو في الأصولِ: (منها)، وهو صحيح؛ أي: من المِطْهَرَةِ، أو الإداوة (¬3). ولم نقفْ علَى هذا، بل عندنا في حديث خالد الواسطي في كتاب "مسلم": (فدَعَا بإناءٍ فأكفَأَ منه)، ولعلَّه وقع له في أصوله، وأراد ذلك بقولِه: الأصول. العاشرة: غسلُ الصحابيِّ لهما في ابتداء الوضوء، وإدراجُهُ تحتَ فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ علَى ما ذكرناه من عموم الاستحباب في ابتداء الوضوء؛ لأنه إما أنْ يكونَ رأَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غسلهما مِن غيرِ استيقاظ من النومِ، أو بعد الاستيقاظ من النومِ، فإنْ كَان الأول فهو ¬

_ = المخضب والقدح والخشب والحجارة، من حديث عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، به. (¬1) "ت": "لا تشبههما". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 122).

الحادية عشرة

المقصود، وإنْ كَان بعد الاستيقاظ من النومِ كان المتعيِّنُ أنْ يحكيَ ذلك؛ لأنه سئل عن كيفية الوضوء الذي تدخل تحته (¬1) هذه الهيئة؛ أعني: الغسلَ بعد الاستيقاظ من النومِ، فلو كان [ذلك] (¬2) كذلك تعيَّنَ ذكرُه لبيان الكيفية؛ لا سيَّما وهو [صفة] (¬3) يمكنُ أن تُعتبرَ في الحكم، [وعدمُ] (¬4) اعتبارها إنما يكون بطريق نظريٍّ، ولا يدخل في الحكايةِ عدمُ ذكرها. [ذلك] (¬5) كذلك تعيَّنَ ذكرُه لبيان الكيفية؛ لا سيَّما وهو [صفة] (¬6) يمكنُ أن تُعتبرَ في الحكم، [وعدمُ] (¬7) اعتبارها إنما يكون بطريق نظريٍّ، ولا يدخل في الحكايةِ عدمُ ذكرها. الحادية عشرة: اختلف المالكيةُ في غسلهما؛ هل يكون علَى الاجتماعِ، أو الانفراد؟ ورُبَّما بُنِي [علَى] (¬8) أنَّ غسلَهُما للنظافة، أو للعبادة، وأنَّ الأول: يقتضي الجمع؛ لأنَّه أبلغ في النظافةِ، والثاني: يقتضي الإفراد (¬9). ¬

_ (¬1) "ت": "يدخل تحت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) زيادة من "ت". (¬9) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 274).

الثانية عشرة

والكلامُ الآنَ فيما يقتضيه لفظ الحديثِ من الجمعِ والإفراد. الثانية عشرة: الرواية التي فيها: "علَى يده" تقتضي الإفراد في الإفراغِ، وحصول مُسمَّى الغسل لليد، لكنَّه لا ينافي الاجتماعَ في الغسلِ بعد الإفراغ علَى إحدَى اليدين، وحصولُ مُسمَّى الغسل [بالصبِّ علَى إحدَى اليدين عندَ من يرَى أنَّهُ يكفي في مُسمَّى الغسل] (¬1) بذلك، يقتضي الإفراد ظاهراً. والمحكيُّ من رواية أشهب، عن مالك: يستحبُّ أنْ يفرغ علَى يده اليمنَى فيغسلها، ثم يدخلها في إنائِهِ ثم يصبُّ علَى اليسرَى (¬2)، وهذا (¬3) مطابقٌ لرواية: "أفرَغَ علَى يده". وأما الرواية التي فيها: "علَى يديه"، وهي رواية خالد الواسطي عندَ البخاري ومسلم، فقد يفهم منها الاجتماعُ، لكنْ في الحملِ عليه تكلُّفٌ في تصوير الإفراغ عليهما معاً، مع احتمال أنَّهُ يكون من باب الجمع في الإخبارِ، لا في المُخبَرِ عنه، فإنه يصحُّ أنْ يقال: أفرغ علَى يديه، إذا أفردَ كلَّ واحد منهما في الفعلِ. والمحكيُّ عن رواية عيسَى، عن ابن القاسم: أحبُّ إليَّ أنْ يُفرغَ علَى يديه فيغسلهما؛ كما جاء في الحديث (¬4). الثالثة عشرة: قوله: "مرتين مرتين" يقتضي الإفرادَ في غسل كل ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) في الأصل: "وهذه"، والمثبت من "ت". (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الرابعة عشرة

واحد منهما ظاهراً؛ لأنه لو غسلهما مرتين، [وهما] (¬1) مَجموعتان، لمْ يبقَ لقوله: (مرتين) ثانياً فائدةٌ، لأنه لو زادهما (¬2) علَى المرتين (¬3) الأوليين مجموعتين لكان قد غسلهما أربعاً، ومُقتضَى اللفظ خلافُهُ، والله أعلم. الرابعة عشرة: فيه غسلُ الكفَّين مرتين، وفي حديث آخر: ثلاثاً، وهو المستحبُّ عندَ الجمهور، وعن بعض المالكية أنَّهُ أشارَ إلَى غسلهما مرتين أخذاً بحديث (¬4) ابن زيد (¬5)، والأخذ بالزائدِ أولَى، [و] (¬6) يؤيده من حيثُ المعنَى القياسُ علَى سائر الأعضاء. الخامسة عشرة: قد ورد غسلُهُما ثلاثاً في حديث آخر، وهو المستحبُّ عندَ الفقهاء، فيحتمل أنْ يكونَ غَسَلَهُما مرتين لبيانِ الجواز. السادسة عشرة: فيه دليلٌ علَى [جواز] (¬7) اختلافِ عدد المرات في غسلات الأعضاء، وسيأتي مثله. السابعة عشرة: فيه دليلٌ علَى أنَّ اسمَ اليد ينطلقُ علَى الكفين؛ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل "أرادهما"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل "مرتين"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل "لحِديث"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "الكافي" لابن عبد البر (ص: 20). (¬6) سقط من "ت". (¬7) زيادة من "ت".

الثامنة عشرة

لأنه المرادُ بهذا اللفظ، فإنه ذكر غسل اليدين إلَى المرفقينِ بعد غسل الوجه، لكنْ [هل] (¬1) هو منطلقٌ علَى الكفينِ عندَ الإطلاق علَى سبيل الحقيقة، أو لا؟ فيه كلام تقدم. الثامنة عشرة: قد ذكرنا في حديثِ عثمانَ - رضي الله عنه -: أنَّ فيه دليلاً علَى جواز الاستعانة في أسباب الطهارة، وهو جارٍ في هذا الحديث، إلا أنَّهُ فعل صحابيٍّ في الحديثينِ معاً، والله أعلم. التاسعة عشرة: فيه تقديمُ غسل اليدين قبلَ إدخالهما في الإناءِ، وهو مُقتضَى المعنَى الذي لأجله شُرِعَ الحكم أيضاً، وهو صيانةُ [الماء] (¬2) عن احتمال النجاسة. العشرون: فيه دليلٌ علَى ترتيب المضمضةِ علَى غسل الكفين مِن غيرِ توسُّطٍ بينهما (¬3). الحادية والعشرون: قوله: "ثم تمضمضَ، واستنثرَ"، فقد يُتمسَّكُ به فيما [قيل:] (¬4) إنَّ الاستنثارَ يدخلُ تحته الاستنشاقُ أخذاً من النَّثرةِ، التي هي (¬5) طرفُ الأنف، ويُقَال عليه: إنَّ الاستنثارَ يلزمُهُ الاستنشاقُ، فاكتفَى بذكره عن ذكر الاستنشاق. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "متوسطٍ عنهما"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "الذي هو"، والتصويب من "ت".

الثانية والعشرون

ولا (¬1) يلزمُ ما ادُّعيَ من إطلاق الاستنثارِ علَى الاستنشاق؛ لأنَّ لازمَ الشيء وجوداً لا يلزمُ أنْ يكونَ مدلولاً عليه باسم الملزوم لفظاً. الثانية والعشرون: قد يُفهمُ من قوله: "مضمضَ، واستنثرَ ثلاثاً": أنَّ ذلك علَى سبيل الجمع بين المضمضة والاستنثار من حيثُ إيرادُ العدد المذكور علَى مجموع الأمرين، ولو افترقا لكان الأشبه أنْ يقول: ثلاثاً ثلاثاً؛ كما ادعي في قوله: "غَسَلَ يديه مرَّتين مرتين": أنَّهُ يقتضي الإفرادَ بكل واحدة منهما، ولأنه لو كان الواقعُ تفريقَهما لمْ يكنْ في لفظِهِ ما يدلُّ علَى ذلك، فيكون مُخِلًّا في حكاية (¬2) الفعل الذي سُئِلَ عنه [بتقصيره في الدلالةِ علَى هذا التقدير عما سئل عنه] (¬3). وهذا الذي ذكرناه من الحكايةِ عمن ادَّعَى أنَّ قوله: "مرتين مرتين" يقتضي الإفرادَ لكل (¬4) واحدة من اليدينِ، [وقد ذكرنا فيما مرَّ: أنَّ هذا التكرارَ في المصدرِ وأسماء الأجناس والأعداد يدلُّ علَى ما ذكر، ويبقَى التأكيدُ اللفظيُّ] (¬5). الثالثة والعشرون: قالَ أبو زكريا النووي: قوله: "ثمَّ أَدخلَ يدَهُ فاستخرجَهَا، فغَسَلَ وجهَهُ ثلاثاً"؛ هكذا وقع في "صحيح مسلم": "أدخلَ يدَهُ" بلفظ الإفراد، وكذا في أكثر روايات البخاري. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ما"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "حكايته". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "فكل". (¬5) سقط من "ت".

[ووقع في رواية البخاري] (¬1) في حديث عبد الله (¬2) بن زيد هذا: "ثم أدخلَ يدَيهِ فاغترفَ بهما، [ثم] (¬3) غَسَلَ وجهَهُ ثلاثاً" (¬4). وفي "صحيح البخاري" أيضاً من رواية ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ثمَّ أخذَ غَرفةً، فجعلَ بها هكذا؛ أضافَهَا إلَى يده الأخرَى، فغسل بها وجهَهُ، ثم قال: هكذا رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ" (¬5). قال: وفي "سنن أبي داود" و"البَيهَقِيِّ" من رواية عليٍّ - رضي الله عنه - في صفة وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثمَّ أدخلَ يديه في الإناءِ جميعاً، فأخذَ بهما حفنةً من ماء، فضربَ بها علَى وجهِهِ" (¬6). قالَ: فهذه أحاديث في بعضها: (يده)، وفي بعضها: (يديه) (¬7)، ¬

_ (¬1) "ت": "وفي حديث رواية البخاري"، والصواب ما أثبت، وقد سقط ما بين المعكوفتين من الأصل. (¬2) في الأصل: "عبد"، والتصويب من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (196). (¬5) رواه البخاري (140)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة. (¬6) رواه أبو داود (117)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 53). (¬7) في الأصل: "يده"، والمثبت من "ت".

الرابعة والعشرون

(وضمَّ إليها الأخرَى)، فهي دالةٌ علَى جواز الأمور الثلاثة، وأنَّ الجميعَ سُنَّةٌ، ويُجمعُ بين الأحاديث بأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فعلَ ذلك في مرات، وهي ثلاثهُ أوجه لأصحابنا، ولكن الصحيحَ منها، والمشهورَ الذي قطع به الجمهورُ، ونصَّ عليه الشافعيُّ في "البويطي" و"المُزَنِيِّ": أنَّ المستحبَّ أخذُ الماء للوجه باليدينِ جميعاً؛ لكونه [أسهلَ، وأبلغَ] (¬1)، وأقربَ إلَى الإسباغِ، والله أعلم (¬2). الرابعة والعشرون: قد ذكرنا الكلامَ علَى (الوجهِ) في المفردات، واختلافَ الفقهاء في حدِّه، ولفظُ الحديثِ يقتضي أنَّ اسمَ الوجه معلومُ الدلالة عندهم، وإلا لمْ يكنْ قولُه: "وغَسَلَ وجهَهُ" بياناً؛ لاحتماله للأقوالِ المقولةِ فيه، فيجبُ حملُهُ علَى المتعارفِ الأشهر في العرفِ، وإلا لزم النقلُ، وهو خلاف الأصل. الخامسة والعشرون: فيه دليلٌ علَى الترتيبِ بين غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق. السادسة والعشرون: وفيه دليلٌ علَى تكرار الغسل للوجه ثلاثاً، ولا خلافَ في استحباب تكرار المغسول، فيشتركُ فيه الوجهُ وسائرُ المغسولات؛ أعني: في التكرارِ. السابعة والعشرون: فيه دليلٌ علَى ترتيب غسل اليدين علَى الوجهِ كما تقدم. ¬

_ (¬1) سقط من "ت"، وفي المطبوع من "شرح مسلم": "لكونه أشرف، ولأنه أقرب إلى الاستيعاب". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 122).

الثامنة والعشرون

الثامنة والعشرون: فيه دليلٌ علَى تفاوت مراتِ الغسل في الوضوءِ الواحد؛ بكونِ الوجهِ مغسولا ثلاثاً، واليدين مرتين مرتين، في حكاية هذا الوضوء. وقال القُرطبي: وقوله: "فغَسَلَ يدَيه إلَى المِرفَقينِ مرَّتين [مرَّتين] (¬1) " دليلٌ علَى عدم كراهة الشفعِ في الغسلاتِ، قال: ولا خلافَ أنَّهُ يجوز الاقتصارُ علَى الواحدةِ إذا أسبغَ (¬2)، وأنَّ الاثنتينَ أفضلُ من الاقتصارِ علَى الواحدةِ، وأنَّ الثلاثَ أفضلُ من الاثنتين (¬3). التاسعة والعشرون: هذا معلَّلٌ بأنَّ الوجهَ لما فيه من الاختلافِ في آحاد أجزائه بالنِّسبَةِ إلَى [....] (¬4) والبروز، وتيسيرِ وصول الماء إلَى بعضها دونَ بعض؛ كما في الوبر (¬5)، والشعور التي عليه، وما عساه يحدثُ في العينينِ من حائل (¬6)، يقتضي زيادةَ الاعتناء بغسله، ليحصلَ الاستيعابُ، وذلك معدومٌ في اليدين. الثلاثون: أصلُ التكرار فيما (¬7) ذكر فيه دليلٌ علَى استحباب عدم ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "سبغ"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 487). (¬4) كلمة لم يتضح لي رسمها في الأصل و "ت"، ويشبه أن تكون بمعنى البروز. (¬5) "ت": "الوبرة". (¬6) "ت": "حادث". (¬7) "ت": "على ما".

الحادية والثلاثون

تركه، وقد قالَ بعض المالكية: لا يجبُ النقصانُ عن (¬1) اثنتين. واختلف في تعليله؛ فقيل: لأنَّ التكرارَ محبوب، وترك المحبوب غير محبوب، وقيل: لأنه يُخشَى من الاقتصارِ علَى المرةِ عدمُ الاستيعاب؛ هذا، أو معناه، أو قريب منه. ويؤيدُ هذا التعليلَ الثاني قولُ مالك - رحمه الله -: لا أحبُّ المرةَ إلا من العالمِ، ولو كانت العلةُ هو الأول، لمْ يحبَّ لا من العالمِ، ولا مِن غيرِ العالم. ويَرِدُ علَى هذا أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ مرةً مرة، فيُحملُ علَى بيان الجواز علَى مُقتضَى التعليل الأول، ولا يردُ علَى مُقتضَى التعليل الثاني، والله أعلم. الحادية والثلاثون: قوله: "إلَى المرفقين" فيه من الكلامِ ما في الكلامِ علَى الآيةِ الكريمة، واقتضَى ذلك دخولَ المرفقين [في الغسل] (¬2)، أو عدم اقتضائه من حيثُ إنَّ (إلَى) لانتهاء الغاية، أو تُحملُ علَى معنَى (مع). ولا بيانَ في لفظ الرواة (¬3) لشيء من ذلك، ويجب أنْ يكونَ مُتبيناً عندَ إطلاقه، وليس وجوبُ إدخال المرفقين، أو عدمُ إدخالِهما، مأخوذاً من لفظ الراوي، فيُحتاج إلَى ذكر المباحث المتعلقة بلفظ الآية الكريمة؛ لأنَّ تلك مقتضيةٌ للوجوب، اللهمَّ إلا أنْ يسلك طريقة من ¬

_ (¬1) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "الراوي".

الثانية والثلاثون

يقول: إنَّ الآيةَ مُجملةٌ تتبيَّنُ بالفعلِ، فيمكن أنْ يكونَ ما وقع من الفعلِ دالاً علَى الوجوبِ إنْ كَان ثابتاً (¬1)، وكان المرفقان داخلين في الغسلِ، لكن الراوي لمْ يبينْ ذلك؛ أعني: دخول المرفقين في الغسلِ، فيرجع (¬2) البحثُ إلَى مُقتضَى (إلَى) في لسان العرب. الثانية والثلاثون: [قوله: "ثمَّ مَسَحَ رأسَهُ بيدَيهِ" يدلُّ علَى ترتيب مسح الرأس علَى غسل اليدين] (¬3). الثالثة والثلاثون: قوله: "مسح" يقتضي الفعلَ منه، ولم يشترطُوه في الإجزاءِ؛ أعني: الشافعية، حتَّى لو قطرَ علَى رأسه الماءُ من مطر أو ميزابٍ أجزأه (¬4). قالَ في "الاستقصاء" (¬5) من كتب الشافعية: وسواءٌ أجَرَى الماءُ علَى رأسه، أو لمْ يُجْرِ. وقيل: لا يُجزئه حتَّى يمسحَ بيده (¬6) علَى رأسه، ويجريَ (¬7) الماء بطبعه عليه. ¬

_ (¬1) "ت": "بيانا". (¬2) "ت": "فرجع". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 356). (¬5) هو كتاب: "الاستقصاء لمذاهب العلماء الفقهاء" في شرح "المهذب" لأبي عمرو عثمان بن عيسى المتوفى سنة (642)، وقد تقدم التعريف به. (¬6) "ت": "بيديه". (¬7) "ت": "أو يجري".

الرابعة والثلاثون

ورأيتُ في كتاب "الأنوار" (¬1) لأبي الحسين بن زرْقُون المالكي: أنَّهُ لا يُجزئُهُ أنْ يُمرَّ يدَه جافةً علَى بلل رأسه؛ حكاه ابن حبيب عن ابن الماجشون، والذي يتوضأُ بالمطرِ يَنصِبُ يده (¬2) للمطر، فيمسح بالبللِ رأسه، وأما الغَسلُ فيجزئُه فيه أنْ يمرَّ يده علَى جسده بماء صار فيه من ماء المطر أو غيره؛ لأنَّ ماءَ الغسل كثيرٌ يتعلق باليدِ، ويتصرف معه علَى العضوِ، وليس كذلك ماءُ المسح ليَسارته (¬3). وإذا لمْ يُشترطِ الفعلُ في الإجزاءِ، فهل يقال: هل هو (¬4) مُعتبَر في الكمالِ حتَّى إنه (¬5) من فعل هذه الصورةَ لمْ يأتِ بالسنة؟ هذا محتمل، ولو قيل به لمْ يَبعدْ، والله أعلم. الرابعة والثلاثون: قوله: "بيده" لمْ يشترطُوه في الإجزاءِ، حتَّى لو مسح بعُودٍ أو آلةٍ غيرِهِ أجزأه، وهذا ظاهرٌ في الإجزاءِ لانطباقه تحت مُقتضَى الأمر، وظاهرٌ في الكمالِ أيضاً، حتَّى يُقَال في مَن مسحَ رأسَهُ ¬

_ (¬1) كتاب "الأنوار" للإمام القاضي محمد بن سعيد بن أحمد المعروف بابن زِرقون، المتوفى سنة (586 هـ) جمع فيه بين "المنتقى" و"الاستذكار"، وجمع أيضاً بين سنن الترمذي وسنن أبي داود السجستاني، وكان الناس يرحلون إليه للأخذ عنه والسماع منه لعلو روايته. انظر: "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 285). (¬2) "ت": "يديه". (¬3) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 221). (¬4) في الأصل "إنه"، والتصويب من "ت". (¬5) في الأصل: "إن"، والمثبت من "ت".

الخامسة والثلاثون

بعود أو خشبة: إنَّهُ لمْ يأتِ بالسنَّة. الخامسة والثلاثون: في الحديثِ إدخالُ اليد في الإناءِ بعد غسل الوجه، وإخراجُها، وتكميلُ الطهارة، وعند الشافعية [في المسألة] (¬1) تفصيلٌ وتقسيمٌ إلَى ثلاثة أحوال: أحدها: أنْ ينويَ رفعَ الحدث، فيصيرُ الماء مُستعمَلاً إذا انفصلت اليدُ من الماء. والثاني: أنْ يقصدَ الاغترافَ، فلا يصيرُ الماء مستعملاً. والثالث: أنْ يَغفُلَ عن نيَّةِ رفع الحدث، و [عن] (¬2) قصد الاغتراف، فالمشهورُ أنَّهُ يصير مستعملاً (¬3). إذا ثبت هذا فيمكنُ من يرَى أنَّ الماءَ المستعملَ طهورٌ لا يفسدُه الاستعمالُ أنْ يقولَ: لو كان الاستعمالُ مُفسداً للماء، لكان بعضُ صور الاغتراف مفسداً للطهارة، [ولو كان بعضُ صور الاغتراف مفسداً للطهارة، لوجب البيانُ وتمييزُ تلك الصورة، فلو كان الاستعمالُ مفسداً لوجب البيان، ولم يجبْ، فلا يكونُ الاستعمالُ مفسداً للماء. وإنما قلنا: إنَّهُ لو كان الاستعمال مفسداً للماء، لكان بعضُ صور الاغتراف مفسداً للطهارة] (¬4)؛ لأنَّ من جملة صور الاغتراف ما إذا نوَى ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 127 - 128). (¬4) سقط من "ت".

رفعَ الحدث عن اليدِ (¬1)، أو غفلَ عن التبيينِ علَى المشهورِ، وذلك مفسد للماء، فتفسدُ الطهارةُ إذا وقع غسلُ بقية الأعضاء بذلك [الماء] (¬2)؛ كما وقع (¬3) في الحديثِ، فثبت أنَّهُ لو كان الاستعمالُ مفسداً لكان بعضُ صور الاغتراف مفسداً للطهارة. وإنما قلنا: إنَّهُ لو كان بعضُ صور الاغتراف مُفسداً للطهارة، لوجب البيان؛ لأنَّ من لوازم فعلِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - جوازَ الاتِّباع، لا سيَّما في الفعلِ الذي قُصِدَ بوصفه الاتِّباع، وفعلُهُ - صلى الله عليه وسلم - في (¬4) هذا متردِّدٌ بين صور عديدة، فلو حصل الاتباع في صورة الفعل المتردِّدِ، لأمكنَ وقوعُ المكلَّفِ في الصورِ الممنوعة (¬5) علَى تقدير أنْ يكونَ بعضُ صور الاغتراف مفسداً، فوجب البيان علَى ذلك التقدير. وأيضاً فلو فرضنا نيَّةَ الاغتراف حتَّى لا يصيرَ [الماءُ مُستعملاً] (¬6)، لوجب تجديدُ النية بعد إخراج اليد؛ أعني: وجوب نية الاغتراف، والتجديدُ بعد إخراج اليد من الأحكامِ الخفية التي لا يدلُّ عليها مُطلقُ الفعل، فلا يمكن إهمالُ بيانها. وإنما قلنا: إنَّهُ لمْ يجبِ البيانُ؛ لأنه لو وجبَ لوقع، ولم ¬

_ (¬1) في الأصل: "ما إذا نوى عن اليد رفع الحدث"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "لو وقع"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "وفي"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "الصورة المنهي عنه"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

يقعْ لانتفاء نقل البيان في شيء من الرواياتِ. وأيضاً: فإنَّ الوضوءَ من الأمورِ المتكرِّرةِ التي لا تُحصَى مرَّاتُ (¬1) تكررِها، فتقتضي العادةُ بأن تكون أحكامُها منتشرةً، فلو كان الحكمُ وجوبَ قصد الاغتراف، وقصدُ نيةِ [رفع] (¬2) الحدث أو استصحابُها مفسداً للطهارة، ووقع (¬3) بيانُ ذلك، لاقتضت العادةُ أنْ يُشتَهَر، وحيث لمْ يشتهرْ [دلَّ] (¬4) علَى عدم البيان، وهذا استدلالٌ جيد متبين، وليس من الجَدَلياتِ التي لا تفيد في النظرِ قوة يُعتمَدُ عليها، والذي يُعترَضُ [عليه] (¬5) به وجهان: أحدهما: أنَّهُ مبنيٌّ علَى [أنَّ] (¬6) هذا الفعل وقع (¬7) من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أعني: إدخال اليد بعد غسل الوجه وإخراجها، ويكون قوله: "هكذا كانَ وضوءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " لا يدخلُ تحته هذا الفعل، وإنما هو من فعل الراوي. والثاني: [أنَّا] (¬8) لا نسلمُ عدم البيان، وما ذكرتمُوه من عدم النقل ¬

_ (¬1) في الأصل "مراتب"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "ووقوع"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) في الأصل: "ووقع"، والتصويب من "ت". (¬8) زيادة من "ت".

نجيب عنه: بأنَّهُ لا يلزمُ من عدم العلمِ العلمُ بالعدم. والجواب عن الأول: أنَّ الظاهرَ من الإشارةِ في قوله: "هكذا" عَودُها إلَى جميع ما فعله الراوي، إلا ما يعلم أنَّهُ غيرُ مقصود. وعن الثاني من وجهين: أحدهما: أنَّ الفقهاءَ قد استعملوا مثلَ ذلك فيما لا يُحصَى؛ أعني (¬1): أنَّهم يقولون: [لو كان] (¬2) لنُقِلَ، وأيضاً: فالأصلُ في العدمِ يعضدُهُ، والمقصود الظنُّ، فقد (¬3) زدنا زيادةً علَى ذلك، وهو أنَّهُ مُقتضَى العادة: أنَّهُ لو كان وقعَ البيانُ أنْ يُشتَهَرَ (¬4). واعلم أنَّهُ لمْ يتحررْ لي دليلٌ متبيِّنٌ يقتضي عدمَ طهورية الماء المستعمل، والعللُ التي تذكر في ذلك من تأدِّي العبادة، وانتقال المانع؛ وبيانُ مناسبة تأدِّي العبادة لعدم الطهورية به؛ لأنَّ الآلةَ الحسية إذا استعملت في مقصودها أثَّرَ ذلك ضعفاً؛ كالسكينِ إذا استعملت في مقصودها، فكذلك [في] (¬5) الآلة الشرعية، وأنَّ الأعضاءَ يقوم بها مانع تقديري، وبالوضوءِ ينتقل المانع إلَى الماء (¬6) عينها، فزادها، [و] (¬7) ¬

_ (¬1) "ت": "يعني". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "أنه لو كان البيان وقع البيان أنه لا يشتهر"، والتصويب من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "المادة". (¬7) سقط من "ت".

لا سيَّما الأولَى، ونحن نعلمُ بالضرورةِ أنَّهُ لمْ يقمْ بالأعضاءِ شيء، وليس إلا منع شرعي من أمور مَدَّه الشرع إلَى استعمال المطهر، ولو قدرنا شيئاً من هذا قائماً بالأعضاءِ، لمْ يتصورْ فيه الانتقال، بل لو نصَّ الشارعُ علَى فساد الماء المُستعمل لمْ يلزمْ شيءٌ من هاتين العلتين. وأقوَى ما قيل علَى فساد الماء المستعمل: إنَّ الأولينَ لمْ يجمعوا المياهَ المستعملة مع مبالغتهم في الاحتياطِ للعبادة (¬1)، ولو كان طهوراً لجمعوه، ولم ينتقلوا إلَى التيمم. فيُقَال علَى هذا: أنَّهُ استدلالٌ بفعل الأولين لعدم الجمع والتيمم، فالمشار إليهم بذلك؛ إما أنْ يكونوا كل الأمة أو بعضهم؛ فإنْ كَانوا كلَّ الأمة فالملازمةُ بين كونهم لمْ يجمعوا وبين فساد الماء إنْ كَانت ثابتةً يلزم أنْ يكونوا أجمعوا علَى أنَّ الماءَ المستعمل فاسد، وذلك باطلٌ لنقل الخلاف في المسألةِ؛ أعني: عن المتقدمين، ولا يلزم (¬2) أنْ يكونَ من رأَى طهوريتَهُ بعدهم خارقاً للإجماع، ويجب تنزيهُ أئمة الفُتيا (¬3) عنه، وإنْ لمْ تكنْ هذه الملازمة ثابتةً جاز أنْ يكونوا أجمعوا علَى عدم الجمع، وأنهم - أو بعضهم - لمْ يروا (¬4) ثبوتَ هذه ¬

_ (¬1) "ت": "للاحتياط في العبادات". (¬2) "ت": "ولأنه" بدل "ولا". (¬3) "ت": "التقوى". (¬4) "ت": "لم ير".

السادسة والثلاثون

الملازمة، وأنه لا يلزم الجمع، فيبطلُ الدليلُ. [و] (¬1) إن كان المشارُ إليهم بعضَ الأمة، فلا حُجَّةَ في ذلك (¬2) في محلِّ الخلاف. السادسة والثلاثون: قولنا: (فعل) يُحتملُ أنْ يُرادَ به شَرَعَ، ويحتمل أنْ يُرادَ به فَرَغَ، [ويحتمل أنْ يُرادَ أَرَادَ، وهذا مجازٌ لا شكَّ فيه، وكونه بمعنَى (فرغ)] (¬3) حقيقةٌ؛ لأنَّ الفعلَ الماضي: ما تقدم زمنُ وجوده علَى زمن الإخبار عنه، فإذا انتهَى الفعل، كان إطلاقُ الفعل الماضي عليه حقيقةً، إلا أنَّ الحقيقةَ هاهنا لا يمكن أن تراد؛ لأنا (¬4) إذا اعتبرنا التعقيبَ في الفاءِ في قوله: "فأقْبَلَ بهِمَا، وأَدْبَرَ" لا يجوزُ أنْ يكونَ معه تقُّدمُ المسحِ عليه حتَّى يكونَ الإقبالُ والإدبار تعذَّرَ من المسحِ. وإذا تعذَّرت الحقيقةُ فلا ضرورةَ تدعو إلَى أنْ يُحمل علَى (أراد)؛ لإمكان أنْ يحمل علَى (شَرَعَ)، فيكون أقربَ إلَى الحقيقةِ لوجود المسح فيه، إلا أنَّهُ يعارضه أنَّا إذا حملناه علَى (أراد) تحصَّلَ (¬5) الوفاءُ بأنَّ الإقبالَ والإدبار فيما يُسمَّى مسحَ الرأس حقيقةٌ، [بخلاف ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "بذلك". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "إنا" بدل "لأنا". (¬5) "ت": "حصل".

السابعة والثلاثون

ما إذا حملناه علَى (شرع)، فإنه لا يكون الإقبالُ والإدبار معاً فيما يُسمَّى مسحَ الرأس حقيقةً] (¬1)، لا سيَّما مع مراعاة تعقيب الفاء. السابعة والثلاثون: فيه دليلٌ علَى [أن] (¬2) وظيفةَ الرأس المسحُ دون الغسل، كما دلَّ عليه القرآن المجيد، وعند المالكية والشافعية اختلافٌ في أنَّ الغسلَ [فيه] (¬3)؛ هل يجزِئُهُ، أو لا؟ ورُجِّحَ عندَ الشافعية الإجزاءُ، ووُجِّهَ بأنَّ الغسلَ مسحٌ وزيادة، فإنه (¬4) أبلغ؛ أي: من المسحِ، فكان مُجزئاً بطريق الأوْلَى (¬5). وهذا عندنا ضعيف؛ أما أنَّ الغسلَ مسح وزيادة فممنوع، وإنما (¬6) يكونُ كذلك، لو كانَ المسحُ [هو] (¬7) مُجرَّدُ إمساس (¬8) العضو ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "ولأنه". (¬5) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 355). وقال القرافي في "الذخيرة" (1/ 262): يجزئ الغسل عن المسح فيه عند ابن شعبان؛ لأن الغسل إنما سقط لطفاً بالمكلف، فإذا عدل إليه أجزأه؛ كالصوم في السفر، وقال غيره: لا يصح؛ لأن الله تعالى أوجب عليه المسح، وحقيقته مباينة للغسل، ولم يأت به، وكرهه آخرون لتعارض المآخذ. (¬6) "ت": "أما أن". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) "ت": "إحساس".

الثامنة والثلاثون

بالماءِ، الذي هو أعمُّ من الغسلِ، فيمكنُ حينئذٍ أنْ يدَّعيَ أنَّ الغسلَ الأخصَّ هو الأعمُّ وزيادة، ونحن نمنعُ ذلك، بأنْ (¬1) نأخذ في المسحِ قيد الاقتصار علَى ما دون الإسالة والصبّ، وهو مع هذا القيد مقابلٌ للغسل المأخوذ فيه [قيد الإسالةِ والصَّبِّ، لا داخلٌ فيه] (¬2)، ويدلُّ علَى ذلك أنَّ الغسلَ لا يُسمَّى مسحاً عُرفاً، ولو حلف: لا يمسح رأسه، فغسله، لمْ يحنَثْ. الثامنة والثلاثون: فيه دليلٌ علَى المدِّ في المسحِ، وللشافعيةِ وجهٌ في اشتراطه (¬3)، وهذا الخلافُ في المدِّ مذكورٌ (¬4) عندَ الحنفية، وأنَّ في بعض الروايات عن أصحابهم: لا يجوز إلا أنْ يكونَ ممدوداً ليَبلُغَ ربعَ الرأس، وفي بعض الروايات: يجوز وإنْ كَان موضوعاً غيرَ ممدود، مأخوذٌ (¬5) من أنَّهُ لا يُسمَّى مسحاً، والحديثُ لا يدلُّ علَى ذلك إلا علَى طريقةٍ سنذكرها. التاسعة والثلاثون: فيه دليلٌ علَى مسح الرأس باليدينِ معاً دونَ أحدهما. ¬

_ (¬1) "ت": "بل"، بدل "بأن". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 356). (¬4) في الأصل: "المذكور"، والمثبت من "ت"، وهو خبر لـ هذا الخلاف. (¬5) هو خبر ثان لـ هذا الخلاف؛ أي: هذا الخلاف مذكور ... مأخوذ من ...

الأربعون

الأربعون: مُقتضَى الحديثِ مسحُ جميع الرأس، ومالكٌ - رحمه الله - يوجبه، واختاره المُزَنِيُّ من أصحاب الشافعي، وهو رواية عن أحمد. ومذهب الشافعي: أنَّ الواجبَ المُسمَّى. وعن أبي حنيفة - رحمه الله -: أنَّ الواجبَ ربعُ الرأس، ورُبَّما عُبِّر عنه بالناصية. ولأتباعِ مالكٍ - رحمه الله - اختلافٌ فيما يُجزِئ عندَ الاقتصار علَى البعضِ، فمنهم من يقول: الثلثان، ومنهم من يقول: الثلث، ومنهم من يقول: الناصية (¬1)، ولا يلزم من هذا أن تكون هذه المقادير هي القَدْرُ الواجب علَى أصولهم، والله أعلم. الحادية والأربعون: من أراد الاستدلالَ بالحديثِ علَى وجوب التعميم فله مسلكان: المسلك الأول: أنْ يذهبَ إلَى أنَّ الفعلَ للوجوب، والقاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي يفعل ذلك، إلا أنَّ المرجَّح في الأصولِ خلافُهُ؛ أعني: عدم دلالة الفعل علَى الوجوبِ. المسلك الثاني: أنْ يذهبَ إلَى الإجمالِ في قوله تعالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، وقد نُقِلَ ذلك عن بعض الحنفية، ووُجِّهَ بأنَّهُ مُحتملٌ لأنْ يكونَ المرادُ منه مسحَ جميع الرأس، وأنْ يكونَ ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 12)، و"الذخيرة" للقرافي (1/ 259)، و"المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 458)، و"المحرر" للمجد ابن تيمية (1/ 12).

المرادُ مسحَ بعضه، وليس أحدُهما أولَى من الآخرِ، فكان مُجملاً، وإذا كان مُجملاً جُعِلَ الفعلُ بياناً. ثم يقول: الاستيعابُ بيانٌ للإجمال الواجب، وبيانُ المُجمل الواجب واجبٌ، فالاستيعابُ واجبٌ. وقد سَلَك هذا المسلكَ بعضُ المالكية، فقال بعدما تكلم علَى كون (الباء) للتبعيض؛ ثم يقول: نحن وإن تنزلنا أنَّ الباءَ تكون مبعِّضَةً وغيرَ مبعِّضةٍ فذلك يوجبُ فيها إجمالاً أزالَهُ (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله، فكان فعلُهُ بياناً لمُجمل واجب، فكان مسحُهُ كلِّه واجباً. والاعتراض عليه في مقامين: المقام الأول: منعُ الإجمال، وهو المختارُ في علم الأصول (¬2)، واستدلوا عليه بأنَّهُ إنْ لمْ يثبتْ عرفٌ في استعمال مثل ذلك في البعضِ لزم الاستيعابُ، وإن ثبت اكتُفِي بالبعضِ، فلا إجمالَ علَى كلا التقديرين. وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأنَّ محلَّ الترديد؛ إما عُرْفُ الاستعمال العامِّ الذي (¬3) يتبادرُ الذهن إليه، أو مُجرَّد ثبوت عُرف الاستعمال مطلقاً، مِن غيرِ هذا القيد - أعني: العمومَ - في عرف الاستعمال. ¬

_ (¬1) "ت": "أن" بدل: "أزالة". (¬2) كما تقدم. (¬3) "ت": "التي".

فإنْ كَان محلُّ الترديد هو الأولُ، فلا يلزمُ من انتفائه عدمُ الإجمال؛ لجواز تعارض عرف الاستعمال في وجهين مُتكافئين علَى تقدير انتفاء العرف العام، أو تكافئ دليلين في الدلالةِ علَى الوضعِ اللغوي، فيحصلُ الإجمالُ علَى تقدير انتفاء العرف العام، وتبطل الملازمةُ بين انتفائه وعدم الإجمال. وإنْ كَان محلُّ الترديد ثبوتَ عُرْفِ الاستعمالِ لا يفيدُ العمومِ، فلا يلزمُ من ثبوت ذلك في البعضِ عدمُ الإجمال؛ لجواز أنْ يعارضهُ عرفٌ آخرُ في الاستعمالِ علَى سبيل التكافؤ، ويحصل الإجمال. والذي يوضِّحُ هذا أنَّ الذينَ قالوا: إن (الباء) للتبعيض، وإنَّ عرفَ الاستعمال وُجِدَ في ذلك، لا يدَّعون أنَّ ذلك من العرفِ العام؛ كلفظ (الغائط) و (الدَّابة) (¬1)، ومع ذلك فلم يقولوا بالتعميم (¬2). المقام الثاني: أنَّا لو سلَّمنا الإجمالَ، فلا يَسلمُ أنَّ ما ذكرَ من الفعلِ يكون بياناً، ومستندُ (¬3) المنع وجهان: أحدهما: أنَّ الفعلَ إنما يكون بياناً إذا اقترنت به دلالةٌ علَى قصد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[البيانَ به؛ إما بقولٍ منه - صلى الله عليه وسلم -،] (¬4) أو بقرائنَ دلت علَى ذلك، أو بقولٍ يتوَقَّف علَى أنَّهُ الفعل الأول بعد الإجمال، وشيءٌ من ذلك لمْ يثبتْ. ¬

_ (¬1) "ت": "أو الدابة". (¬2) على هامش "ت" قوله: "بياض"، ولم يشر إليه في الأصل. (¬3) في الأصل: "لسند"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت".

الثانية والأربعون

وثانيهما: تُخصُّ هذه الصورةُ، وما هو في معناها، وهو أنَّهُ وردَ فعلان كلُّ واحد منهما يصلحُ للبيان؛ مسحُ النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعَ الرأس، ومسحُهُ للناصية، وجُهِلَ المتقدمُ منهما، واتَّفقا في جهة البيان، والتَّساوي في الدلالة (¬1)، فيكون أحدُهُما بياناً مِن غيرِ تعيين، وذلك بتوقف (¬2) الدلالة. واعلم أنَّ هذا المحكيَّ عن الحنفيِّ في الإجمال والبيان بالمسحِ علَى الناصية، قد فعله غيرُ الحنفية في إدخال المرفقين في الغسلِ، وجعلَ لفظَ الآية الكريمة مُجملاً مبيَّناً بالفعلِ، وعلَّتُهُ في ذلك جميعاً ما ذكرناه، إلا الوجهَ الأخير، وهو تعارضُ الفعلين (¬3). الثانية والأربعون: يدلُّ علَى استحباب هذا الإقبالِ والإدبار في مسح الرأس، والمالكية - أو بعضهم - يرون أنَّ الردَّ من المؤخرِ إلَى المقدمِ من السننِ، لا من الفضائلِ (¬4)، علَى اصطلاحٍ في الفرقِ بينهما، وأصلُ الفعل إنما يدلُّ علَى أصل الطلب، وما زاد عليه مشكوكٌ فيه يحتاج إلَى دليل. [أبو حفص بن الوكيل (¬5) من الشافعيةِ المنقول عنه: أنَّ السعيَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "والدلالة"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "يوقف". (¬3) انظر: "المحصول" للرازي (3/ 245)، و"الأحكام" للآمدي (3/ 17). (¬4) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 277). (¬5) هو الفقيه الجليل عمر بن عبد الله بن موسى أبو حفص بن الوكيل الباب شامي، من أصحاب الوجوه المتقدمين، ومن أعيان النقلة، مات بعد =

الثالثة والأربعون

بين الصفا والمروة يكونُ فيه السعيُّ من الصفا إلَى الصفا مرةً واحدة، فيكون أربعَ عشرةَ مرة، وقد جعل هذا الحديث أصلاً لهذا المذهب من حيثُ إنَّ المعنَى يُدِلي به هو الذي ختم به؛ أعني: في مسح الرأس، وهو مرة واحدة، فكذلك يكون في السعي، وهذا المذهبُ غيرُ صحيح؛ لأنه قد ثبت في السعي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالصفا، وختم بالمروة؛ كما ورد في "الصحيح" (¬1). وهذا مضادٌّ لِما قاله هذا القائل، وليس القياس علَى مسح الرأس مع هذا النصِّ بشيء] (¬2). الثالثة والأربعون: قولُهُ في روايةِ وُهيب: "فَمَسَحَ برأسِهِ فأقْبَلَ بِهِ وأَدْبَرَ"، فيه ضميرُ تذكير وإفراد، وهو خلافُ رواية: "وأقبَلَ (¬3) بهما وأدبَرَ"، فإنَّ تلك عائدةٌ علَى اليدينِ، وأمَّا هذه فقد حُملت علَى المسحِ؛ أي: أقبل بالمسح (¬4) وأدبر، وبعد ذلك فيَحْتمل وجهين: أحدهما: أنْ يعود إلَى المصدرِ الذي دلَّ عليه الفعل. ¬

_ = سنة (310 هـ). انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 500)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (1/ 97). وانظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 460). (¬1) رواه مسلم (1218)، كتاب: الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "فأقبل". (¬4) في الأصل: "المسح"، والمثبت من "ت".

الرابعة والأربعون

والثاني: أنْ يكونَ الضميرُ للرأس، وفي الكلامِ حذفٌ؛ أي: أقبل بمسح رأسه وأدبر. الرابعة والأربعون: هذا الإقبالُ والإدبار المذكورُ علَى مسح الرأس حكايةٌ (¬1) بحالٍ مخصوصة علَى هيئة مخصوصة، وهي حالةُ وجود الشعر؛ لأنها الحالةُ الغالبةُ في حقِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا شكَّ في دلالته علَى الاستحبابِ في مثل هذه الحالة. وأما إذا انتفت؛ كما في محلوق الرأس والأصلع، فالمنقول عندَ الشافعية (¬2): أنَّهُ لا يُستحبُّ الردُّ من المؤخرِ إلَى المقدمِ (¬3)؛ بناءً علَى معنًى مناسبٍ جُعِل علةً، وهو أنَّ المقصودَ من الإقبالِ والإدبار مسحُ وجهي الشعر، وهو معنى مناسب، فيكون علةً، والأصلُ انتفاءُ الحكم عندَ انتفاء علَّتِهِ. ولقائل أنْ يقولَ: الأصلُ [اعتبارُ الأوصاف التي في محلِّ النص، إلا ما قام دليلٌ علَى عدم] (¬4) اعتباره، وفي محلِّ النص وصفان؛ أحدُهما خاصٌّ، والآخرُ عامٌّ، والخاصُّ قيامُ الشعر بالرأسِ، فإذا ألغينا العام، ونفينا الاستحبابَ عندَ انتفاء الشعر، كنا ألغينا في الحكمِ معنى لمْ يقمْ دليلٌ علَى إلغائِهِ، ويؤيدُ هذا استحبابُهم إمرارَ الموسَى علَى رأس الأصلع (¬5)، وإنْ كَان المعنى الأخصُّ الذي هو حلقُ الشعر ¬

_ (¬1) في الأصل: "المذكوران مستحبّ حكاية"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "فالمقول عنه". (¬3) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 460). (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 348).

الخامسة والأربعون [والسادسة والأربعون، والسابعة والأربعون]

مُنتفيًا، وإنَّ المعنى المذكور في الإقبالِ والإدبار ليس فيه إلا مُجرَّدُ مناسبةٍ تقتضي التخصيص. الخامسة والأربعون [والسادسة والأربعون، والسابعة والأربعون]: فيه دليلٌ علَى استحباب البُداءة بمقدم الرأس، واستحباب ما انتهَى إليه فيه، واستحباب ما انتهَى إليه في الردِّ أيضًا، فهذه ثلاثُ مسائل. الثامنة والأربعون: لا شكَّ في أنَّ المرادَ باليدينِ هاهُنا الكفَّان، وقد تقدم أنَّ اليدَ حقيقةٌ في جملة العضو من أطراف [الأنامل إلَى] (¬1) المناكب، وبعضُ الناس يحمله عندَ الإطلاق علَى الكفَّينِ، وظاهرُ هذا يقتضي أنَّه حقيقة فيهما؛ لأنَّ المحمولَ عندَ الإطلاق وعدم القرينة حقيقةٌ، فإنْ كَان لا يرَى أنَّهُ حقيقةٌ في جملة العضو فبعيا أو باطل، وإن رآه فهو مُشترَكٌ بين الكلِّ والجزء، وهو جائزٌ؛ كما في لفظ (الإنسان) (¬2). إذا ثبت هذا فحمْلُهُ علَى الحقيقةِ الأولَى متعذِّرٌ جزمًا، وإذا تعذَّرَ، وقلنا بالاشتراكِ، فقد تعيَّنَ حمْلُهُ علَى الحقيقةِ الأخرَى؛ [و] (¬3) لأنَّ المشتركَ إذا انحصر في معنيين وتعذَّرَ الحملُ علَى أحدهما وجبَ الحملُ علَى الآخرِ. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) فهو يطلق على إنسان العين، وهو جزءٌ من الإنسان المعروف. (¬3) زيادة من "ت".

التاسعة والأربعون

وإن قلنا بأنَّ اللفظَ حقيقةٌ في الجملةِ مجازٌ في البعضِ، فلا يتعيَّنُ حمله [على] (¬1) البعضِ المعيَّنِ؛ الذي هو الكفَّان، إلا بدليل، ودليلُهُ العُرْفُ في استعمال مثل هذه اللفظة في [مثل] (¬2) هذا المحل، واللفظُ مُنَزَّلٌ (¬3) عليه، فلا تتأدَّى السنَّةُ إلا به، فلو مسح ببعضِ ذراعيه لمْ يكنْ مُؤدِّيًا لها. التاسعة والأربعون: وبمثل (¬4) هذا العُرْفِ يُحملُ [علَى] (¬5) المسح بباطن الكفين، ويُنزَّلُ اللفظ عليه، ولا تتأدَّى السنةُ بالمسحِ بظاهرهما، وإنْ كَان إطلاقُ اللفظ يتناوله. الخمسون: الشيخ أبو القاسم [بن] (¬6) الجلاب البَصْري المالكي - رحمه الله - اختارَ في صفة مسح الرأس أنْ يلصقَ طرفي اليدين بمقدمِ رأسِهِ، ثم يذهبُ بهما إلَى مؤخره، ويرفع راحتيه [عن فَوْدَيه - والفَودان: جانبا الرأس -، ثم يردهما إلَى مقدمه، ويلصق راحتيه] (¬7) بفَوديه، ويفرِّقُ أصابعَ يديه. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "مشترك"، والتصويب من "ت". (¬4) في الأصل: "ومثل". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) سقط من "ت".

وعبَّر بعضُ المتأخرين عن زمنِهِ عن هذه الصفة بأنْ يمضيَ بأصابعِ يديه علَى وسط رأسه رافعًا أصابعه عن وسط رأسه. وهذه الصفةُ تنحو نحوًا من وجهٍ إلَى الصفةِ التي اختارها الشافعيةُ في مسح اليدين في التيمم. وقد عُلِّلَ ما قاله الشيخُ أبو القاسم بأنَّهُ إنَّما اختيرَ لئلا يتكررَ المسحُ، واعتُرِضَ عليه بأنَّ التكرارَ المكروهَ إنما يكون بماءٍ جديد (¬1). ولقائل أنْ يقول: في الحديثِ ما يدلّ علَى خلافِ ما اختاره من هذه الصفة، بيانُهُ: أنَّ العضوَ حقيقة في جملته، فيكون قوله: "فأقْبَلَ بهما وأدْبَرَ" راجعًا إلَى جملة اليدين، وعلَى مَا ذَكرَهُ في الصفةِ لا يكون مُقبلًا ومُدبرًا [بجملة اليدين، بل مُقبلًا ببعضِهما، وغيرَ مقبل ببعضٍ آخر، مع أنَّ الظاهرَ أنَّ الإقبالَ والإدبار بكليهما؛ لأنه الحقيقةُ في لفظ اليدين. فإن قيل: المسحُ وإنْ كَان ببعضِهما في الإقبالِ وبعضِهما في الإدبارِ، ولكنَّهُ صدَّقَ الأخبار في الإقبالِ بهما والإدبار بهما؛ لملازمة ذلك للمسح ببعضِهما في الإقبالِ، وببعضِهما في الإدبار. قلنا: اللفظُ يقتضي مقبلًا ومدبرًا] (¬2) في المسحِ بهما؛ لوقوع قوله: "أقْبَلَ بهما وأدْبَرَ" كالتفسيرِ لقوله: "مَسَحَ رأسَهُ بيدَيهِ"، فيقتضي ¬

_ (¬1) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 278). (¬2) سقط من "ت".

الحادية والخمسون

أنْ يكونَ مُقِبلًا ماسحًا بيديه، وكذلك مقابلُهُ، فيتلازمُ حينئذٍ الإقبالُ والمسح، ويضافان إلَى اليدِ؛ الذي هو حقيقةٌ في الجملة. الحادية والخمسون: هذه الهيئة المذكورة في الحديثِ لا تقتضي أكثرَ من الإقبالِ والإدبار. وذكر بعضُ الشافعية زيادةً في كيفية استيعاب مسح الرأس، [و] (¬1) قال: والأحبُّ [في كيفيَّتِهِ أنْ يضعَ يديه علَى مقدم رأسه، وكلُّ واحد من سبَّابتيه] (¬2) مُلصقةٌ (¬3) بالأخرَى، وإبهاماه علَى صُدْغيه، ثم يذهب بهما إلَى قفاه، ثم يردُّهما إلَى المكانِ الذي بدأ منه (¬4). وفي هذا زيادةُ إلصاقِ إحدَى السبابتين بالأخرَى، ووضعِ الإبهامين علَى الصُّدغينِ، وليس في الحديثِ ما يدلُّ علَى ذلك، ولعلَّ ذلك إرشادٌ إلَى تحقيق الاستيعاب، والهيئة الميسَّرة (¬5) لذلك، وإلا فإنِ ادَّعَى أن ذلك مستحبٌّ شرعًا، فلا بدَّ له من دليل؛ لأنَّ الاستحبابَ حكمٌ شرعي يتوَقَّفُ علَى دليل شرعي. الثانية والخمسون: الحديثُ يقتضي مسحَ الرأس مرةً واحدة، كما تقدم في حديث عثمان - رضي الله عنه -، وليس ذلك مأخوذًا من حيثُ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "ملصق"، والمثبت من "ت". (¬4) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 424). (¬5) "ت": "المتيسّرة".

إنَّ الدلالةَ قاصرةٌ علَى المرةِ، وإنَّ الأصلَ عدمُ الزيادة، بل لقرينَةٍ أخرَى، وهي التفريقُ بين الممسوح والمغسول في ذكر العدد، ولو كانا مسنونين فيه لمْ يكنْ للاقتصارِ (¬1) عليه في المغسولِ دونَ الممسوح حينئذٍ موجبٌ أصلًا، وقد روَى سُفيان بن عُيَينة هذا الحديث عن عمرو بن يحيَى - شيخ مالك فيه -، فذكر فيه: مسحَ الرأس مرتين. قال أبو عمر الحافظ: [و] (¬2) لم يذكرْ فيه أحدٌ (مرتين) غيرُ ابن عُيَينة، قال: وأظنُّهُ - والله أعلم - تأوَّلَ الحديثَ قولَه فيه: "فمَسَحَ رأسَهُ بيدَيه؛ أقبَلَ بهما وأدبَرَ". وذكر أبو عمر هذا أن ابن عُيَينة أخطأ فيه - يعني: في هذا الحديث - في موضعين، وجعل أحدَهُما هذا (¬3) الذي ذكرناه من ذِكْرِ المسح مرتين (¬4). والظاهرُ أنَّ هذا التأويلَ (¬5) الذي ذكره صحيحٌ؛ لأنه محتمل، فيحمل عليه [ليوافق] (¬6) روايةَ الناس. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاقتصار"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "هو" بدل "هذا". (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 115). (¬5) في الأصل: "أن تأويل"، والمثبت من "ت". (¬6) سقط من "ت".

الثالثة والخمسون

والشافعيةُ لما استحبُّوا التكرارَ في مسح الرأس تكلموا في أنَّ الذهابَ والردَّ مسحة واحدة، [أو] (¬1) الذهابُ وحدَهُ مسحةٌ. فقيل: إنْ لمْ يكنْ علَى رأسه شعر، أو كان عليه شعر لا ينقلب بذهابه باليدِ ورده لكونه ظفيرة معقوصة، أو لطوله، فإمرارُهُ من المقدمِ إلَى المؤخرِ [مسحةٌ] (¬2) واحدة. قال الرافعي - رحمه الله -: قالَ في "التهذيب": ولا يُحسبُ الردّ -[و] (¬3) الحالةُ هذه - مسحةً أخرَى؛ لصيرورةِ البلل مستعملًا بحصول مسح جميع الرأس. وإنْ كَان علَى رأسه شعرٌ ينقلب بالذهابِ باليدِ وردِّها فهما جميعًا مسحةٌ واحدة، يستوعبُ البللُ جميع الرأس، فإنَّ منابتَ الشعر مختلفةٌ؛ فمنها (¬4) ما يكون وجهُهُ [إلَى المقدم، ومنها ما يكون وجهُهُ] (¬5) إلَى المؤخر (¬6)، فبالذهابِ تبتلُّ بواطنُ القسم الأول وظواهرُ الثاني، وبالردِّ تبتل ظواهرُ الأول وبواطنُ الثاني (¬7). الثالثة والخمسون: الاتفاقُ علَى أنَّهُ إذا حصل القدرُ الواجب في ¬

_ (¬1) جاء في الأصل و "ت": "إذ"، والمثبت من هامش "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "منها". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "مؤخره". (¬7) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 424 - 426).

المسحِ علَى اختلاف المذاهب فيه (¬1) كفَى مِن غيرِ اشتراط هيئةٍ مخصوصة في ذلك، وإنما الاختلافُ في الهيئةِ المستحبَّهِ، وقد اختلفوا في ذلك بعد اعتبار الاستيعاب علَى مذاهبَ: المذهب الأول: أنْ يبتدئَ الماسحُ من مبدأ الشعر مما يلي الوجهَ، ويذهبَ بيديه إلَى قفاه، ثم يردهما إلَى المكانِ الذي بدأ منه، وهو مبتدأُ الشعر مما يلي الوجه، ويُستدلُّ له بهذا الحديث (¬2). إلا أنَّهُ عُورضَ بقولهِ في الحديث: "فأقبَلَ بهما [وأدبَرَ] (¬3) "، فإنَّ الإقبالَ المرورُ [إلَى جهة القُبُل، والإدبارَ المرورُ إلَى جهة الدُّبُر] (¬4)، وعلَى هذهِ الهيئة المذكورة، يكون الإقبالُ المرورَ إلَى جهة الدبر، والإدبارُ المرورَ إلَى جهة القبل، فكان مُقتضَى الصفة المذكورة أنْ يقال: فأدبر بهما وأقبل، وأجيب عن هذا الاعتراض بوجوه: الأول: أنَّ (الواو) لا تقتضي ترتيبًا فلا فرقَ بين أقبل وأدبر (¬5)، وأدبر وأقبل، فحُمِلَ علَى الثاني؛ لظهورِ الدلالة علَى ذلك من قوله: "بدأ بمقدم رأسه ... " إلَى آخره، وقصورِ دلالة المعارض الذي ذكره عنها، وتؤيدُ ذلك روايةُ البخاري في حديث سليمان بن بلال: "ثمَّ أَخَذَ بيَدَيهِ مَاءً فمَسَحَ رأسَه، فأدبَرَ بيديه وأقبَلَ". ¬

_ (¬1) في الأصل: "به"، والمثبت من "ت". (¬2) وهذا مذهب مالك والشافعي رحمهما الله. (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "فأدبر"، والمثبت من "ت".

وفي كلام بعضهم إشارةٌ إلَى أن سببَ التقديم في الإقبالِ معنى التفاؤل، وهذا إبقاءٌ للفظِ الإقبال والإدبار علَى معناه الإفرادي الذي اعتقده، وهو أنَّ الإقبالَ المرورُ إلَى جهة القبل، والإدبار المرور إلَى جهة الدُّبر، ولكنه تصرَّف في اللفظِ بالتقديم (¬1) والتأخير. الوجه الثاني: أنَّ الإقبالَ والإدبار من الأمورِ الإضافية؛ تختلف بالنِّسبَةِ إلَى ما إليه يُقبَلُ، وعنه يُدبَرُ، فما كان إقبالًا إلَى شيء فمقابلُهُ الإدبارُ عنه، فيمكن أنْ يكونَ الإقبالُ منسوبًا إلَى مؤخر الرأس والإدبار منسوبًا إليه أيضًا؛ أي: يكون إليه الإقبالُ، وعنه الإدبار. وهذا تصرفٌ في المعنى الإفرادي بالنِّسبَةِ إلَى اللفظينِ؛ أعني: الإقبال والإدبار؛ لأنه لمْ يجعلِ الإقبالَ هو المرور إلَى جهة القبل، بل أعمَّ من هذا، وهو المرورُ إلَى الجهة (¬2) المقصود إليها، والإدبار عن الجهةِ التي أقبل عليها كيفَ ما كانت الجهةُ، وفيه مع ذلك إبقاءُ الهيئة علَى ما هي عليه [من] (¬3) الابتداءِ بمنابت الشعر التي تلي الوجهَ إلَى القفا، ثم الرجوعِ إلَى حيثُ بدأ. الوجه الثالث: أنَّ الفعلَ يُطلَقُ باعتبار مُبتَدَئِهِ [تارةً] (¬4) ومُنتهاه أخرَى، فيُقَال لمن ابتدأ بمقدم رأسه: أدبر؛ لأنه فعلٌ إلَى الدبرِ، فسمَّاه بما يؤول إليه، وبهذا المعنى تُؤُوِّلت روايةُ من روَى: "فأدبَرَ ¬

_ (¬1) "ت": "في التقديم". (¬2) في الأصل: "جهة"، والتصويب من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت".

وأقبَلَ": علَى أنَّهُ بدأ بمقدم رأسه، وسماه إدبارًا؛ لأنه فعلٌ إلَى الدبرِ، فسماه بما يؤول إليه. قالَ بعضُ المصنفين: وهي مسألةُ خلافٍ في أصول الفقه، هل يُسمَّى الفعل بمبتدئه، أو بمنتهاه؟ (¬1) قلت: فعلَى هذا يُقَال أيضًا لمن بدأ بمؤخر رأسِهِ: أقبل؛ باعتبار المُنتهَى (¬2)، فيتساوَى الاصطلاحان، ولكنَّهما يفترقان فيمن بدأ بمقدم رأسه ذاهبًا إلَى مؤخره (¬3)، فصاحب الاصطلاح الأول [لا] (¬4) يقول: أقبل؛ لأنه لمْ يمرَّ إلَى جهة القبل، وصاحب الثاني يقول: أقبل؛ باعتبار الابتداء. الوجه الرابع: نُقِلَ عن العابدِ المشهور الموصوف بالولايةِ مُحرِزُ ابن خلف المغربي (¬5): أنَّ (أقبل) هاهُنا مأخوذ من (القَبَلِ) في العينِ، وهو ميل الناظر (¬6)، وكثيرًا ما يكون في الخيلِ، يقال: فرسٌ أقبلُ، فمعنى: "أقبل بهما"؛ [أي:] (¬7) أمالهما. ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 52). (¬2) "ت": "اعتبارًا بالمنتهى". (¬3) "ت": "آخره". (¬4) سقط من "ت". (¬5) هو الإمام العابد الزاهد أبو محفوظ محرز بن خلف بن زرين، من نسل أي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وقد تهافتَ عليه الناس لسماع كلامه، توفي سنة (413 هـ). انظر: "شجرة النور الزكية في طبقات المالكية" لابن مخلوف (2/ 202). (¬6) في الأصل: "وهو مثل الناظر". (¬7) زيادة من "ت".

الوجه الخامس: أنْ يكونَ (أقبل) من باب (أفعل) الذي يأتي (¬1) علَى أن غيره أدخله في الفعلِ؛ نحو: أدخله، وأخرجه (¬2)، فيكون معنى "أقبل بيديه": أدخلهما في القبلِ، وقد قالوا: إنَّ هذا مطَّردٌ في غير المتعدي، سماعٌ في المتعدي، و (أقبل) مِن غيرِ المتعدي، وإنما عُدِّيَ بالباء. الوجه السادس: إن معنى (أقبل) دخل في قُبُل الرأس؛ كما يقال: أَنْجَدَ، وأَتْهَمَ، إذا دخل نَجدًا، وتِهامةَ. المذهب الثاني: أنْ يبدأَ الماسحُ من مؤخر رأسه إلَى مبتدأ الشعر، ثم يردَّ إلَى المؤخر، وهذا يحافظ علَى أن (أقبل) ذهب إلَى القبلِ، و (أدبر) ذهب إلَى الدبر، وقد جاءت البُدأة بالمؤخرِ في حديث الرُّبيِّع بنت معوِّذ، وحديثُهَا عندَ أبي داود والترمذي وابن ماجه مختصرًا ومطوَّلًا (¬3). وهذا وإن حافظَ علَى ما ذكرناه، إلا أنَّهُ يصادمُهُ قوله: "بَدَأَ بمقدّمِ رأسِهِ" مُصادمة يتعذَّرُ عليه دفعها، والأوْلَى أنْ يحمل حديثُ الرُّبيع علَى بيان الجواز، ولا تعارضَ بين الفعلين إذا اختلف وقتاهما. ¬

_ (¬1) "ت": "التي تأتي". (¬2) في الأصل: "فأخرجه"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه أبو داود (126)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والترمذي (33)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس، وابن ماجه (438)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في مسح الرأس. قال الترمذي، هذا حديث حسن، وحديث عبد الله بن زيد أصح من هذا أو أجود إسنادًا، وقد ذهب بعض أهل الكوفة إلى هذا الحديث منهم وكيع بن الجراح.

وذكر الحافظ أبو بكر بن العربي قال: ولا أعلم أحدًا قال: إنَّهُ يبدأُ بمؤخر رأسه، إلا وكيعُ بن الجرَّاح؛ كمَا ذَكرَهُ أبو عيسَى عنه، والصحيحُ البُداءة بالمقدمِ، وهي رواية الحفاظ كلِّهم (¬1). ورأيت في كتاب "الأنوار" أنَّ الحسنَ بن حيًّ قال: يُبدأ بمؤخر الرأس (¬2). المذهب الثالث: أنَّهُ يَبدأ بناصيته، ثم يقبِلُ بيده إلَى مقدم رأسه، ثم يُدبِرُ بهما إلَى قفاه، ثم يردُّهما إلَى ناصيته، وهو الذي بدأ منه، ومعنى هذه الصفة مرويٌّ عن أحمد بن داود المنسوب إلَى المالكيةِ، وهذه الصفةُ كانَّهُ قَصَدَ بها الجمعَ (¬3) بين قوله: "فأقبل وأدبر"؛ [بتفسير (أقبل): مرَّ إلَى جهة الإقبال، (وأدبر):] (¬4) مرَّ إلَى جهة الإدبار، وبين قوله: "بدأ بمقدّم رأسه"؛ أما أقبل فلأنَّه مر في هذه الصفة إلَى جهة القبل، وأما كونه بدأ بمقدّم رأسه، فإنَّ الناصيةَ تسمَّى مقدّم الرأس (¬5)، فيصدق عليه أنَّهُ بدأ بمقدّم رأسه. لكني لمْ أقفْ في روايةٍ من الرواياتِ علَى فعل هذه الصفة من الراوي، ولا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما كانَّها أُخِذَت إلا لمجرَّدِ قصد الجمع بين اللفظين؛ أعني: البداءة بمقدم الرأس، وقوله: "أقبل وأدبر"، فإنْ لمْ تردْ ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 51). (¬2) وكذا نقله ابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 124). (¬3) "ت": "جامعة" بدل "كأنه قصد بها الجمع". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "رأسٍ"، والمثبت من "ت".

الرابعة والخمسون

بذلك (¬1) روايةٌ، فالتأويلاتُ المتقدمة، أو بعضها، مع تقرير ظاهر اللفظ يكونُ العمل بها أولَى من هذه الكيفية. الرابعة والخمسون: قد ذكرنا فيما مضَى اقتضاءَ الحديث للمسِح باليدينِ، والمراد به الجمعُ بينهما في المسحِ، لا الاقتصارُ على أحدهما، وفيه معنى آخر يقتضيه ظاهرُ الحديث، وهو أنَّ المسحَ بجملة أصابعِ كلِّ واحدة منهما؛ لما في دلالة لفظ (اليد) عليه. والحنفية يرون أنَّهُ لا يجوز مسح الرأس بإصبع أو إصبعين، وتجزئُهُ ثلاثة (¬2) أصابع، ونقلوا عن زُفَرٍ: أنَّهُ إذا مسح بإصبع (¬3)، أو إصبعين، وبلغ ذلك ربعَ الرأس يجوز (¬4). ولا اعتبارَ بالأصابعِ في الإجزاء عندَ مالكٍ والشافعي - رحمهما الله -، ولا يمنعنا ذلك من أن نأخذَ من الحديثِ استحبابَ المسح بالجميع؛ لدلالة لفظ (اليد) عليه. ونقول: إنَّ الاقتصارَ علَى بعض الأصابع خلافُ السنة، والحنفيَّهُ وجَّهوا الإجزاء بثلاثة أصابع بأنَّ الأكثرَ يقومُ مقامَ الكلّ، وهذه قاعدة غيرُ مطَّرِدة، وكم من حكم لا يقوم فيه الأكثرُ مقامَ الكل، ومع الاضطراب لا يحصل دليل، وكأنَّ الاكتفاءَ بذلك من قاعدة الاستحسان، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أنْ يُكتفَى في إقامة السنّة ¬

_ (¬1) في الأصل: "فإن يرد بذلك"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "ويجزئه بثلاثة". (¬3) في الأصل: "أنه إذا أصبع"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 12).

الخامسة والخمسون

بالأكثرِ من الأصابع إلا بدليل يَخصُّه ويرجحُهُ. الخامسة والخمسون: يدلُّ علَى تجديد الماء لمسح الرأس من قوله: "ثمَّ أَخَذَ بيديه ماءً، فمسَحَ رأسَهُ"، ولا خلافَ في جواز ذلك بين من يُعتَدُّ بخلافه، وذكر بعض الإمامية: أنَّهُ لا يجوز أنْ يستأنفَ لمسح الرأس والرِّجل. قال: ورُوَيت روايةٌ شاذة: أنَّهُ يستأنف؛ يعني: بماء جديد. قال: وهو محمولٌ علَى البقيةِ. وليس قوله: إنَّهُ لا يعتدُّ بخلافهم من جهة بِدعتهم، إذا لمْ يأتوا بما يُكَفَّرُون به؛ لأنَّ لفظ الأفة حينئذٍ يشمُلُهُم، ودلائلُ الإجماع (¬1) لا تنهض في حقِّ بعض الأمة، وإنما قلت: لا يُعتدُّ بخلافهم لعدم حصول أهلية الاجتهاد لهم، وعدمُ حصول الأهلية بسبب نفيِهِم (¬2) لبعض الحجج الشرعية المقطوعِ بها التي لا بدَّ في الاجتهادِ منها، وهو خبرَ الواحد، ولا فرقَ في عدم الأهلية، وعدم حصول ما يحتاج إليه، بين أنْ يكونَ بسبب نفي ما هو حجةٌ، وبين أنْ يكونَ بسبب فقدانِهِ بعد كونه حجةً، والله تعالَى أعلم. السادسة والخمسون: وكما يثبت (¬3) الجوازُ، فكذلك يثبتُ الرُّجْحان، ولكن هل هو رُجْحان صفةِ الوجوب، أو صفةِ الاستحباب؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الإجمال" والتصويب من "ت". (¬2) "ت": "لسبب تفهم"، بدل "بسبب نفيهم". (¬3) "ت": "ثبت".

السابعة والخمسون

يُرجعُ [في] (¬1) هذا إلَى مسألة الماء المُستعمل في رفع الحدث، ومسح الرأس ببللِ اليدِ الذي ارتفع به الحدثُ، فمن يرَى أنَّ الماءَ المستعمل غيرُ طهور يمنع مسحَ الرأس ببلل اليد، ومن يراه طهورًا فمسحها ببلل اليد لا يمنعُ الإجزاء، ولكنَّ مالكًا - وهو قائل بطهوريته - قالَ أتباعه: ولا يمسح رأسَهُ ببلل لحيته، بل بماء جديد، وهذا لأنه يكرَهُ الماءَ المستعمل (¬2). السابعة والخمسون: اختلفوا في المضمضةِ والاستنشاق؛ هل الأفضلُ فيهما الجمع، أو الفصل؟ وعند الشافعية قولان: أحدهما: أنَّ الأفضلَ الفصلُ لحديث [طلحةَ] (¬3) بن مُصَرِّفٍ، عن أبيه، عن جده: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يفصلُ بين المضمضةِ والاستنشاقِ، وهو حديثٌ عندَ أبي داود (¬4)، وليس في "الصحيحين". والثاني: أنَّ الجمعَ أفضل (¬5)، وهو مُقتضَى هذه الأحاديث الصحيحة التي ذُكِرَت في "الصحيح". ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 262). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) رواه أبو داود (139)، كتاب: الطهارة، باب: في الفرق بين المضمضمة والاستنشاق، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 181)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 51)، وإسناده ضعيف؛ فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف عند الجمهور. (¬5) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 397).

الثامنة والخمسون

قال السَّفاقسي شارح "البخاري": واختلف أصحابُ مالك في تأويل قول مالك: إن تفريقَ ذلك أولَى، علَى وجهين: أحدهما: أنَّ الأفضلَ عنده أنْ يأتيَ بمضمضةٍ واستنثار في غَرفة واحدة، ثم يأتي بهما في ثانيةٍ، ثم في (¬1) ثالثةٍ، يفعلُ ذلك في ثلاث غرفات. والثاني: أنْ يأتيَ بالمضمضةِ علَى النسقِ في ثلاث غرفات، ثم يأتي بالاستنثارِ علَى نسق في ثلاث غرفات، فيأتي بهما في ست غرفات. وذكر مالك في "موطَّئِهِ": - أنَّهُ لا باسَ به من غرفة واحدة (¬2)؛ يعني: التمضمض والاستنثار. قالَ السفاقسي: وهو يحتمل أنْ يريدَ أنْ يفعلَ المضمضةَ [كلَّها] (¬3)، والاستنثارَ كلَّهُ من غرفة واحدة، [ويأتي بالمضمضةِ والاستنشاق في غرفة واحدة] (¬4)، فيأتي بهما في ثلاث غرفات. الثامنة والخمسون: المرجَّحُ عندَ الشافعية - أو بعضِ مصنفيهم -: أنَّ الفصلَ أفضل (¬5)، وقد ذكرنا أنَّ أحاديثَ "الصحيح" تقتضي الجمعَ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "في في" بدل "ثم في"، والتصويب من "ت". (¬2) انظر: "الموطأ" (1/ 19). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "فتح العزير" للرافعي (1/ 398)، و"روضة الطالبين" للنووي (1/ 328).

التاسعة والخمسون

وأن حديث الفصل خارجٌ عنه، وهذا أحدُ وجوه الترجيح المذكورة في فنِّه، فينبغي ترجيحُ الجمع. التاسعة والخمسون: حديث طلحةَ بن مُصرِّفٍ متردِّدُ الدلالة بين كيفيَّتين: أحدهما: أنَّهُ يأخذُ غرفة يتمضمضُ بها ثلاثًا، وغرفةً أخرَى يستنثرُ منها ثلاثًا. والثاني: أنْ يأخذَ ثلاثَ غرفات يتمضمضُ بها، وثلاث غرفات للاستنشاق. و [قد] (¬1) قيل بهاتين الكيفيتين [عند الشافعية] (¬2)، ورُجِّحَت الكيفيةُ الأولَى علَى هذا القول (¬3). ويحتمل حديث طلحةَ بن مُصرِّفٍ أنْ يكونَ الفصلُ بينهما عبارةً عن عدمِ خلطهما في الفعلِ؛ أي: لا يكونُ بعضُ الاستنشاق مُقدَّمًا علَى [شيء] (¬4) من [المضمضة، فلا يمتنعُ علَى هذا الجمعُ في غرفة بين] (¬5) المضمضة والاستنشاق، وبين الفصل بهذا التفسير، ولا يكون مُخالفًا لبعض رواية الجمع، أو لِما تحتمله بعضُ رواية الجمع. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "فتح العزيز" للرافعي (1/ 398). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت".

الستون

الستون: إذا كان الفصلُ علَى إحدَى الكفيتين، وهو أن تُفردَ (¬1) المضمضةُ بغرفة، أو بثلاث غرفات قبل الاستنشاق، فلينظرْ في ألفاظ الأحاديث، فإن اقتضَى بعضُها هذا التقديمَ للمضمضة علَى الاستنشاقِ؛ أعني: مراتها علَى مرات الاستنشاق، كان دالًّا علَى طلبيَّةِ هذا التقديم. وللشافعيةِ اختلافٌ علَى قول (¬2) الفصل في أنَّ هذا التقديمَ - أعني: تقديم المضمضة علَى الاستنشاقِ - مستحقٌّ، أو لا؟ ورُجِّحَ الاستحقاقُ بأنَّهُما عضوان، فيتعين الترتيبُ [بينهما] (¬3) كسائر الأعضاء، ووُجِّه الاستحبابُ بأنَّهُما لتقاربهما بمنزلة العضو الواحد (¬4) وهذا ضعيفٌ، والأول قياس شبهٍ، والأوْلَى النظرُ في مقتضيات الألفاظ وترجيحُهَا علَى مثل هذه التعاليل من الأقيسةِ الشبهيَّة والاستحسانات (¬5). الحادية والستون: الذي ذكرَهُ في الأصلِ من رواية خالدٍ الواسطي: "ثمَّ أدخَلَ يدَهُ فاستخرَجَها، فمَضمَضَ واستنشقَ من كفٍّ واحدةٍ؛ فَعَلَ ذلك ثلاثًا" يقتضي الجمعَ، والوصلَ، وهو يحتمل وجهين: ¬

_ (¬1) في الأصل: "ينفرد"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: زيادة "الاستنشاق". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "فتح العزيز" للرافعي (1/ 398). (¬5) "ت": "الاستحبابات"، وعلى هامش "ت" قوله: "لعله: والاستحسانات".

الثانية والستون

أحدهما: أنَّهُ أوقع المضمضةَ والاستنشاق من كفٍّ واحد، فيتمضمض ثلاثًا من غرفة واحدة، ويستنشق ثلاثًا منها. والثاني: أنَّهُ يأخذُ غرفة يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم أخرَى كذلك، ثم أخرَى كذلك، والكيفيَّتان عندَ الشافعية مُختَلَفٌ فيهِما علَى وجهين، واختلفوا علَى الكيفيَّةِ الأُولَى هل يخلط المضمضةَ بالاستنشاقِ، أم يقدم المضمضة؟ علَى وجهين (¬1). الثانية والستون: تترجَّحُ الكيفيةُ القائلة بأنَّهُ تتعدَّدُ الغرفات، ولا يكون من غرفةٍ واحدة بالبيانِ الذي في رواية وُهيب لهذا الحديث بعينه، وهو قوله؛ "فمَضْمَضَ، واستنشقَ، واستنثرَ، من ثلاثِ غرفات"، فقد صرَّح (¬2) بتعدُّدِ الغرفات، ولا ينافيه الجمعُ بين المضمضةِ والاستنشاق من كفٍّ واحدة من كل غرفة، وهو خلافُ الكيفية القائلة بأنَّهُ يتمضمض ثلاثًا، ويستنشق ثلاثًا، من غرفة واحدة، لكنْ ترجِّحُهُ روايةُ سليمان بن بلال المذكورة في الأصلِ، وهو قوله: "تمضمضَ واستنثرَ ثلاثَ مراتٍ، من غرفة واحدة". الثالثة والستون: في ترجيحِ بعضِها؛ وقد حكينا التوجيهَ بكونهما (¬3) كالعضوِ الواحدة، والتوجيهَ بقياس الشَّبَهِ علَى سائر ¬

_ (¬1) "فتح العزيز" للرافعي (1/ 398 - 399). (¬2) في الأصل: "صح"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "بكونها"، والمثبت من "ت"، والمراد الأنف والفم.

الرابعة والستون

الأعضاء، وذكر بعضُهُم بسبب هذا التوجيه التعليلَ بالكيفيَّةِ المرجَّحة المذكورة في رواية خالد بأنَّهُما كالعضوِ الواحد، ولكنْ من حكمِ العضو الواحد أنْ يتكررَ فيه أخذُ الماء. الرابعة والستون: الفقهاء يعللون هذه الكيفياتِ تارةً بالأقيسةِ الشبهية، وتارةً بنوع من الاستحسانِ، وتارةً بزيادة النظافة، وينسبون (¬1) أيضًا - أو من نسَبَ منهم - روايةَ الفصل إلَى عثمانَ وعليٍّ - رضي الله عنهما - (¬2)، [والروايةَ التي ترجَّحت برواية وُهيب لوصف (¬3) عبد الله بن زيد] (¬4)، والروايةَ الأخرَى: "أنَّهُ يأخذُ غرفةً واحدةً يتمضمضُ منها ثلاثًا، ويستنشقُ ثلاثًا" إلَى بعض الروايات؛ أي: رواية عبد الله بن زيد فيما يُظَنُّ، وقد ذكرناها مبيَّنَةً في الأصلِ من رواية سليمان في هذا الحديث، فهذان تصرفان: أحدهما: ما لا يتعلقُ بلفظ الأحاديث؛ كالاستحسانِ وغيره، والتعلقُ بمدلول الألفاظ أوْلَى كما أشرنا إليه. والثاني: النظرُ إلَى مُقتضَى الألفاظ ومدلولها؛ لتصحَّ النسبة التي يذكرونها إلَى الرواةِ، وفي بعض ذلك اشتباهٌ وعُسْرٌ يَحتاج إلَى تأمُّل. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ويقيسون"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "فتح العزيز" للرافعي (1/ 397). قال ابن الملقن: رواه ابن السكن في سننه "الصحاح المأثورة" ثم قال: روي عنهما من وجوه انظر: "خلاصة البدر المنير" (1/ 32). (¬3) في الأصل: "إلى وصف"، والصواب ما أثبت. (¬4) سقط من "ت".

الخامسة والستون

الخامسة والستون: روايةُ خالد التي ذكرنا احتمالها لوجهين، ورجَّحنا أحدَهما بالبيانِ الذي في رواية وهيب، إذا أردنا أن ننظرَ إلَى اللفظِ الذي في رواية خالد من حيثُ هو هو، وما هو الأرجحُ بالنِّسبَةِ إلَى مدلوله، كان في ذلك [ما] يَسبقُ إلَى الذهنِ أنَّ اللفظَ أقربُ في الدلالةِ علَى الجمعِ بين المضمضةِ والاستنشاق في كلِّ غرفة من ثلاثٍ، لكنْ يتوجَّهُ الطلبُ في وجه هذا الرُّجحان بالنِّسبَةِ إلَى مدلول اللفظ، وذلك أنَّ قوله: "فعل ذلك ثلاثًا" فيه اسمُ الإشارة، فيمكن أنْ يكونَ راجعًا إلَى مجموعِ المضمضة والاستنشاق، وكونِهما من كفٍّ واحدة، [فتجيء الهيئةُ المرجَّحة، ويحتمل أن تكونَ الإشارةُ راجعةً إلَى المضمضةِ والاستنشاق دونَ اعتبار كونِهما من كفٍّ واحدة] (¬1)، فتجيء الكيفيةُ الأخرَى، فلا بدَّ من طلب دليل يقتضي ترجيحَ عَود الإشارة إلَى المجموعِ من المضمضةِ والاستنشاق، وكونِهما من كفٍّ واحدةٍ، [دونَ عَودِهِ إلَى المضمضةِ والاستنشاق مخرجًا؛ كونَهما من كفٍّ واحدة] (¬2) في الإشارةِ. وقد يُقَال في هذا: إنَّا إذا أخذنا المجموعَ من المضمضة والاستنشاق والوحدة أمكننا أن نجعلَ ذلك هيئةً واحدةً اجتماعيةً متوحِّدةً، فتعود الإشارة المتوحدة إلَى متوحِّدٍ. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت".

السادسة والستون

وإذا رددنا (¬1) الإشارةَ إلَى المضمضة والاستنشاق مُخرَجًا عنهما صفةُ التوحُّد (¬2) في الكفِّ، عادت الإشارة المتوحِّدةُ إلَى متعدد، فيكون الأول أوْلَى. ولئن قيل: الآخرُ جائزٌ في لسان العرب؛ كما في قوله تعالَى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68]، وكما في قول رؤبة [من الرجز]: كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْليعُ البَهَق (¬3) فعلَى الأولِ الترجيحُ. فانظرْ في مثل هذه المباحِثِ في ألفاظ الروايات التي ترِدُ عليك، وتأَمَّلْ ذلك. السادسة والستون: يمكن أنْ يُجمع بين الروايات التي لا تعود إلَى خرج واحد؛ لأنَّ ذلك في أفعال متعددة، ولا تعارضَ بين الأفعال حينئذ، وأما ما يرجع إلَى مخرج واحد، فيطلب فيه الترجيح وقوة الدلالة بالنِّسبَةِ إلَى أحد اللفظين، مع أنَّ الكلَّ جائز. السابعة والستون: قولُهُ في رواية واسع بن حَبَّان: "ومسَحَ برأسِهِ ¬

_ (¬1) "ت": "أردنا". (¬2) "ت": "التوحَّد". (¬3) وصدر البيت، كما تقدم: فيها خطوط من سوادٍ وبَلَق

الثامنة والستون

بماءٍ غيرِ فضلِ يدِهِ (¬1) " تصريحٌ منه بعدم المسح ببللِ اليد، وهو يدلُّ علَى ترجيح ذلك. وأما دلالتُهُ علَى الوجوبِ، أو عدمه، فتنبني علَى مسألة الماء المُستعمل، والمالكيةُ وإن اعتقدوا أنَّ الماءَ المستعملَ طهورٌ، لكنه قيل من جهتهم: ولا يمسحُ رأسَهُ ببلل لحيتِهِ، بل بماء جديد، وهذا النَّهيُ نهيُ كراهة؛ لأنَّهُم يعتقدون كراهةَ الماء المُستعمل. وقد تقدم مثل هذا في الاستدلالِ بلفظ آخر، فلا يمتنع ذكره أيضًا في مدلول هذا اللفظ (¬2). الثامنة والستون: قوله: "ثم غَسَلَ رِجلَيهِ" يدلُّ علَى أن وظيفةَ الرجلين الغسلُ، وسيأتي الكلام في المسألةِ مُطوَّلًا. التاسعة والستون: قوله في رواية واسمع بن حَبَّان: "حتَى أنقاهما" قد يتمسكُ به المالكية في (¬3) اعتبار الإنقاء في وظيفتهما، والرغبة عن غسلِهما ثلاثًا، فإنه عُلِّقَ الحكمُ فيه بالإنقاءِ دونَ ذكر العدد، ويرون أنَّهُ إذا كان المقصودُ الإنقاءَ؛ هل يكون هو المعتمدُ دون التكرار؟ (¬4) وهذا المعنى الذي ذكروه يقتضي أنْ يكونَ الإنقاء مقصودًا، ¬

_ (¬1) "ت": "يديه". (¬2) على هامش "ت": "بياض نحو صفحة من الأصل"، ولم يشر إليه في "م". (¬3) في الأصل: "وفي"، والمثبت من "ت". (¬4) انظر: " الذخيرة" للقرافي (2/ 449).

السبعون

ولا ينافيه أنْ يكونَ العددُ أيضًا مقصودًا مع ذلك، وقد وردَ التكرارُ في غسلهما في حديث آخر، فيدلُّ علَى اعتبار ذلك. السبعون: الحديثُ يقتضي ترتيبَ بعض الأعضاء علَى بعضٍ كما صرَّح به، وقد قدَّمنا كلاما في حكمة الترتيب علَى هذا الوجه. وقالَ بعضُ فضلاء المالكية في ذكر الرأس بعد اليدين مع أنَّهُ أقرب إلَى الوجه: إنَّ ذلك لمجانسةِ حكمِ اليدين - يعني: للوجه - في أنهما مغسولان، قال: ولأنَّ الرأسَ يشاركُ الرجلين في بعض الأحكام، وهو سقوطه [مع] (¬1) الرجلين في التيمُّم، فحسُنَ تأخيرُ ذكره لذلك. وهذه مناسبةٌ في بعض الترتيب دون كله، ولم يقصدِ المناسبةَ التامة؛ لأنه لما قصدَ الجواب عن (¬2) استدلال الشافعية - رحمهم الله - علَى وجوب الترتيب؛ لتفريقه - سبحانه - بين المغسولين بذكر الممسوح، فأجاب: لأنَّ المسحَ في معنى الغسل، وكالمجانسِ له. وذكر أنَّ بعضَ أهل اللغة [سمَّى] (¬3) الغسلَ مسحًا، وذكر عن بعضهم: أنَّ المسحَ خفيفُ الغسل. قال: وهذا يَحسُنُ معه الفصلُ بين المغسولَيْن بذكر الممسوح. قال: وأمَّا ذِكرُهُ الرأسَ بعد اليدين، وهو أقربُ إلَى الوجه، فلأنَّ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) على هامش "ت": "في الأصل: عند". (¬3) زيادة من "ت".

الحادية والسبعون

ذلك لمجانسةِ حكم اليدين ... إلَى آخر ما ذكرناه عنه (¬1). الحادية والسبعون: هذا الحديثُ وحديث عثمان وغيرهما، فيها ترتيبُ الأعضاءِ بعضِها علَى بعض، ولا خلافَ في طلبيَّة ذلك، وإنما الخلافُ في الوجوبِ، فالمحقَّقُ من الحديثِ هو الطلبُ المشتركُ بين الوجوب والاستحباب، وخصوصُ الوجوب يحتاج إلَى دليل، وفي تحريره مُرتَّبا (¬2) إشكالٌ؛ لأنَّ بعضَهم يستندُ [فيه] (¬3) إلَى ترتيب الواو، وقد ثبت من لسان العرب خلافُ ذلك علَى ما تقرر في فنِّ الأصول [و] (¬4) العربية. والخلافيُّون يذكرون حديثًا فيه كلمة (ثم) المقتضيةِ للترتيب، ولا اعتدادَ به؛ لأنه يتوَقَّفُ علَى وجوده، ثم علَى صحته، ولم تتحققْ. ورُبَّما يُستدلُّ بقوله - السِلام عَليه -: "ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأ اللهُ بِهِ"، وهي لفظَةٌ من الحديثِ الطويل في الحجِّ الذي أخرجه مسلم (¬5)، ورُبَّما يُتوهَّمُ أنها كذلك في رواية مسلم، وإنما الذي فيه: "نبدأ"، أو "أبدأ" علَى صيغة الخبر، لا الأمر، ولا يدلُّ ذلك علَى الوجوب، وأما صيغةُ الأمر فمروَّية من جهة بعض الرواة، والأشهرُ خلافُها، ثمَّ إنَّهُ لفظٌ لمْ يُقصَدْ به العمومُ وتأسيس القواعد، والسياقُ يقتضي التخصيصَ. ¬

_ (¬1) وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 212). (¬2) في الأصل: "متبينًا"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) برقم (1218) كما تقدم.

وأقوَى ما قيل فيه (¬1): [إنَّه - تعالَى -] (¬2) أدخلَ المسحَ بين الغسلين، وقطع (¬3) النظيرَ -[وهو الغسل] (¬4) - عن النظيرِ، وإنَّ العربَ لا تفعلُ ذلك إلا للترتيب، لا يقول القائل منهم: ضرب فلانٌ زيدًا، وخلع علَى بكرٍ، وعمرًا، فيُدخلُ الإكرامَ بين الضربين، إلا لقصد الترتيب. والذي أجاب [به] (¬5) بعضُ الفضلاء من المالكيَّةِ المتأخرين عن هذا بأنَّهُ يُسلَّمُ أنَّ الترتيبَ مطلوبٌ؛ كما يقتضيه التفريق المذكور، وأما أنَّهُ واجبٌ، فلا. [وهذا] (¬6) فاسدٌ؛ لأنه إذا سَلَّمَ أنَّ هذا النظمَ يقتضي الترتيبَ في لغة العرب كان [ذلك] (¬7) داخلًا تحت الأمر، فيكون واجبًا، [لكن] (¬8) لعلَّهُ أنْ يُطالِبَ مطالبٌ بإثبات ذلك من لغة العرب، وهم يستدلُّون بالمثالِ المذكور، وشبهه. وقد قدمنا عن بعض الفضلاء المالكية محاولةَ الجواب عن ذلك ¬

_ (¬1) "ت": "وأقوى ما فيه أن يقال" بدل "وأقوى ما قيل فيه". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "فقطع". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) سقط من "ت". (¬8) زيادة من "ت".

بأنَّ الغسلَ والمسحَ من جنس واحد، وأنه قد يُسمَّى الغسلُ مسحًا، و [كان] (¬1) حاصلُ هذا منعَ [قطع] (¬2) النظير عن النظيرِ في اللفظِ، أو إبداءَ قيدٍ في هذا اللفظ المذكور في الآيةِ يمنعُ إلحاقَها بالقاعدةِ المذكورة، وهو أنَّ الغسلَ والمسح من جنس واحد، والحكمُ لفظيٌّ، لا معنوي. وليُتنبَّهْ؛ لأنَّ هذا الدليلَ لا يفيدُ المطلوبَ بنفسه، بل لا بدَّ من ضميمة مقدِّمةٍ إليه علَى طريقٍ جدلي، والطرقُ الجدلية تُستمدُّ من سعة الخيال، ودقة الوهم، ودُرْبة الاستعمال، والسيف فيها بضاربه لا بحدِّة مَضَارِبِه (¬3)، وهي بمعزل عن الطريقِ التي تجبُ علَى المجتهدِ المحقِّقِ أنْ يسلكَهَا في إثبات الأحكام الشرعيَّة، ولذلك لا تجد شيئًا من هذه الجدليَّاتِ المتأخرة في شيء من كلام المتقدِّمين الذين رجعَ الناسُ إليهم في الأحكام. وبعد تقرير هذه المقدِّمة على (¬4) الطريق الجدلي، [و] (¬5) قد يُعارَض بأمر جدلي، والمقدمة المذكورة هي: أنَّهُ لا قائل بالفرق؛ لأنَّ دلالةَ الدليل المذكورة قاصرةٌ علَى الترتيبِ بين غسل اليدين ومسح الرأس، وبين مسح الرأس وغسل الرجلين، ولا تدلُّ علَى الترتيبِ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "والسيف فيها بضاربه لا بحده بضاربه"، ثم كتب فوقها: "كذا". (¬4) "ت": "على". (¬5) سقط من "ت".

مُطلقًا كما هو المُدَّعَى، فيتبيَّنُ أنَّهُ يحتاج إلَى هذه المقدمة، وأنَّ الدليلَ المذكور لا يفي بالمطلوبِ بنفسه (¬1). ومستندُ المجتهد يجبُ أنْ يكونَ منشأَ الحكم والموجبَ لفتواه، ولا يجوزُ أنْ يكونَ الدليلُ الخاصُّ مشأً للحكم العام، ولا موجبًا للفتوَى به. والواجبُ علَى المجتهدِ أن لا يعلمَ مخالفةَ حكمِهِ للإجماع، [لا أنْ يعلمَ عدمَ مخالفتِهِ للإجماعِ] (¬2)، وبينهما فرقٌ؛ لأنَّ المعنى الثاني يقتضي أنْ يعلمَ موافقةَ حكمه للإجماع، أو وقوعَ الخلاف، ولو كان هو الواجبُ لكانت الواقعةُ الحادثة للمجتهدين إذا لمْ يُعلمْ فيها تقدمُ إجماعٍ، ولا خلاف، أنْ يمتنعَ الحكمُ فيها عليهم مع وجود الدلائل الشرعية غيرِ الإجماع علَى الحكمِ، وهذا باطلٌ، فتعيَّنَ أنَّ المجتهدَ ينظر إلَى المستندِ الذي يبني (¬3) عليه الحكم، ويعتبرُ شرائطَهَ، ومنها أن لا يخالف الإجماع في نفس الأمر. وأما المعارضةُ الجدليَّةُ فهي أنْ يقال: لو ثبتَ ما ذكرتموه من دلالة التفريق بين النظير والنظير علَى وجوب الترتيب، لثبتَ عدمُ الدلالة علَى وجوب الترتيب في حق بعض الأعضاء؛ لعدم المُوجب فيه، ولو ثبت عدمُ الوجوب في بعض الأعضاء، لثبت في كلِّ الأعضاء بعينِ الإجماع الذي ذكرتموه؛ من أنَّهُ لا قائلَ بالفرقِ. ¬

_ (¬1) "ت": "نفسه". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "ينبني".

ولئنْ (¬1) قالَ: ما ذكرتموه من الأصلِ السالمِ عن المعارضِ، وإن دلَّ علَى عدم الوجوب، لكنِ الإجماعُ علَى أنَّهُ لا يفترقُ (¬2) حكمُ الأعضاء في الترتيبِ، يعارضُهُ، وينفي العملَ به. قلنا: الإجماعُ قائمٌ في نفس [الأمر] (¬3)، أو علَى تقدير ثبوت ما ذكرتموه من الدلالةِ؛ الأول (¬4) مُسلَّم، ولا يفيدكم ثبوتُه علَى تقدير ما ذكرتموه، والثاني ممنوع؛ أعني: ثبوتَ ذلك الإجماع علَى تقدير ما ذكرتموه. ثم (¬5) لمْ ينقضِ الحديثُ، بل بتنازع الجدليات (¬6) ملأه الحصرُ في الجدلِ، وَيحوزُ السبقَ أقواهما منه، وأشدُّهما محكًّا. وقد استدلَّ بعضُ الناس علَى المسألةِ بما [جاء] (¬7) في حديث عمرو بن عَبَسَةَ: "مَا مِنْكُمْ من أَحَدٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ" إلَى أنْ قال (¬8): "ثمَّ يغسِلُ وجهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ" (¬9)، و (ثم): للترتيب. ¬

_ (¬1) "ت": "قال لأن". (¬2) في الأصل: "يفرق"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "الأولى". (¬5) "ت": "بل "بدل "ثم". (¬6) "ت": "الحديثان". (¬7) سقط من "ت". (¬8) "ت": "قال". (¬9) سيأتي تخريجه مفصلًا.

والاعتراضُ عليه أنْ يُقَال له: [أتدَّعي] (¬1) أنَّ (ثم) هاهُنا دالةٌ علَى الترتيبِ في الغسلِ بين الرِّجلين والرأس، لا أنها تدلُّ علَى أنَّ اللهَ أمرنا بالترتيبِ، أو تدلُّ علَى الترتيبِ في الغسلِ، وعلَى أمرِ اللهِ به بصيغة (ثم) هذه، أو تدعي أنَّهُ أمرَ به لا من جهةِ صيغة (ثم) هذه، إما بالإشارةِ إلَى القرآنِ في قوله - عليه السلام -: "كما أمره الله"، أو حكمٍ ثابت بالسنةِ غيرِ مأخوذ من (ثم) هذه؟ فهذه ثلاث احتمالات؛ فإنْ كَان المدَّعَى هو الأولُ لمْ يلزمْ وجوبُ الترتيب؛ لأنَّ الحديثَ إنما دلَّ علَى ترتيب ثوابٍ مخصوص علَى فعل مخصوص مرتَّبٍ، فلا يلزم من ذلك وجوبُ الترتيب؛ لأنَّ انتفاءَ الثواب المخصوص، الذي [هو] (¬2) خرورُ الخطايا، علَى تقدير عدم الترتيب، لا يلزمُ منه انتفاءُ أصل الإجزاء. وإنْ كَان المدَّعَى دلالةَ (ثم) هذه علَى [أنَّ] (¬3) اللهَ أمر بالترتيبِ بها، وحرف العطف يقتضي التشريكَ بين المعطوف والمعطوف عليه، والمعطوفُ هاهُنا هو غسل الرجلين مقيَّدًا؛ إما بالصفةِ، أو الحاليَّة؛ [أعني قوله: "كما أمره اللهُ تعالَى"] (¬4)، فصار ذلك داخلًا في المعطوفِ، فيكون في دلالة (ثم) هذه عليه تفاوتًا في الرتبةِ بالنسبة (¬5) ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "في النسبة"، والمثبت من "ت".

الثانية والسبعون

إلَى التقديمِ والتأخير تفاوتَ ما بين الدليلِ والمدلولِ، والمتقدِّمُ والمتأخرُ لا يكونان معًا. الثانية والسبعون: الحديثُ كما يقتضي الترتيبَ بين الأعضاء، فكذلك يقتضي الموالاةَ في فعلها، وطلبيةَ ذلك وترجيحَهُ علَى التفريقِ، ولا يُختلفُ فيه، وإنما الخلافُ في الوجوب؛ فجديدُ قولي الشافعي - رحمه الله -: عدمه، وقديمُهُما: إثباته (¬1). وعند المالكية ثلاثة أقوال: الوجوب، والاستحباب، والوجوب مع الذِّكر والقُدْرة دونَ النسيانِ والعجز. قالَ أبو العباس القُرطبي: والأوْلَى القول بالسنَّةِ فيهما، إذ لمْ يصحَّ قطُّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ توضأ مُنكِّسًا، ولا مُفرِّقًا تفريقًا فاحشًا، وليس في آية الوضوء ما يدلُّ علَى وجوبهما (¬2). قلت: أمَّا أنَّها لا تدل علَى وجوبِ الترتيب من جهة (الواو) فصحيح، وأمَّا من جهة التفريقِ بين المغسول والممسوح فقد بحثنا فيه فيما تقدم. وأمَّا أنَّ الآيةَ لا تدلُّ علَى وجوبِ الموالاةِ، ففيه نظر. وقد أبدى بعضُ فضلاء المتأخرين من المالكيةِ الذين أدركنا زمانَهُم دلالةَ الآية علَى وجوب الموالاة بوجهٍ وجيهٍ، حاصلُه: أنَّ (إذا) ظرف زمان، والعاملُ فيها جوابُها، أو ما قام مقامَ جوابِها، وهو قوله: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز" للرافعي (1/ 360). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 490).

الثالثة والسبعون

{فَاغْسِلُوا}، والواو جامعةٌ بين جملةِ الأعضاء في الحكمِ، وقد توجَّهَ إليها الأمرُ بقوله: {فَاغْسِلُوا}، فيقتضي ذلك وجوبَ الأمرِ بغسل جملةِ الأعضاء في زمن القيام إلَى الصلاةِ الذي تقتضيه ظرفيةُ (إذا)، فمن غسل حينئذٍ بعضَ الأعضاء لمْ يأتِ بالمأمورِ به، وهو غسلُ (¬1) جميعِها في ذلك الظرف الزماني، فلا يخرج عن العُهْدَةِ. وإنما قلنا: العاملُ فيها جوابُها، ولم نقلْ: العاملُ فيها الفعلُ الواقعُ بعدها؛ كما نُسِبَ ذلك إلَى بعض المتأخِّرين ممن يتعاطَى علمَ إعراب القرآن، ورُدَّ عليه بانَّ الفعلَ الذي هو بعدَ (إذا) في موضع جرٍّ بإضافتها إليه، فكيف يعمل المُضاف إليه في المُضافِ، وهو من تمامه؟! الثالثة والسبعون: قوله: "ثمَّ غَسَلَ رِجلَيه حتَّى أنْقَاهما" قد يستدِّلُ به المالكيةُ في اعتبار الإنقاص دونَ اعتبار العدد، وهذا أولَى من الاستدلالِ بقوله: "ثمَّ غَسَلَ رِجليه" مِن غيرِ ذكر الإنقاء كما تقدم؛ لإفادة ذكرِ الإنقاءِ للإشارةِ إلَى المقصودِ، والله أعلم بالصواب. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "على" بدل "غسل"، والتصويب من "ت".

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ الأَلْمَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى مِن إِصْدَارَاتِ وَزَارَة الشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالأَوْقَافِ وَالدَّعْوَةَ وَالإِرْشَادِ المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ 1429 هـ - 2008 م الطَّبْعَةُ الثَّانِيَة مِنْ إِصْدَارَاتِ دَارُ النَّوَادِرِ 1430 هـ - 2009 م دَارُ النَّوَادِرِ لصاحبها ومديرها العام نُورِ الدِّين طَالِب سوريا - دمَشق - ص. ب: 24306 لبنان - بيروت - ص. ب: 5180/ 14 هاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

الحديث الرابع

الحديث الرابع وروَى (¬1) عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كيْفَ الطُّهُورُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فِى إِنَاءٍ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاثًا، ثمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاثًا، ثمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنيهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنيهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنيهِ، ثمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثًا [ثَلاثًا] (¬2)، ثمَّ قَالَ: "هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا - أَوْ نَقَصَ - فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ" أَوْ: "ظَلَمَ وَأَسَاءَ". أخرجه أبو داودَ، وإسنادُه صحيحٌ إلَى عَمرو، فمن يحتجُّ بنسخة عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّه، فهو عنده صحيح (¬3). ¬

_ (¬1) "ت": "وروي عن" بدل "وروى". (¬2) زيادة من "سنن أبي داود"، وكذا "الإلمام" للمؤلف (ق 6/ أ) بخط الإمام ابن عبد الهادي. (¬3) * تخريج الحديث: رواه أبو داود (135)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، والنسائي (140)، كتاب: الطهارة، باب: الاعتداء في الطهور، وابن ماجه (422)، =

الوجه الأول: في التعريف

الكلام عليه من وجوه: * الوجه الأول: في التعريف: فنقول: عبدالله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد - بضم السين، وفتح [العين] (¬1) - بن سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي. أبو محمد، وهو الأشهر، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو نصير، القُرَشي، السهمي. قال أبو عمر: أمُّهُ رَيْطةُ بنت مُنبِّه بن الحجاج السهميَّة، ولم يَعْلُه أبوه في السنِّ إلا باثنتي عشرة سنة. وُلدِ لعمرٍو عبدُ الله، وهو ابن اثنتي عشرة سنة. أسلمَ قبل أبيه. [قال:] (¬2) كان فاضلًا، حافظًا، عالمًا، قرأ الكتب، واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنْ يكتب حديثه فأذن له، قال: يا رسول الله! أكتبُ كلَّ ¬

_ = كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه، ثلاثتهم من حديث موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وإسناده صحيح، كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله مفصَّلًا، وكما ذكر غير واحد من الأئمة؛ فأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (174)، وصححه النووي في "شرح مسلم" (3/ 129)، والحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 83) وجوَّده في "الفتح" (1/ 233). (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت".

ما أسمع منك في الرِّضَا والغضب (¬1)؟ قال: "نَعَمْ، فإنِّي لا أقولُ إلا حقًّا" (¬2). وقال أبو هريرة: ما كانَ أحدٌ أحفظَ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني إلا عبد الله (¬3) بن عمرو؛ فإنه كان يعي بقلبه، وأعي بقلبي، وكان يكتبُ، وأنا لا أكتب، استأذنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فأَذِنَ له (¬4). وروَى شَفِي الأصبحي (¬5) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حفظتُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ألفَ مَثَلٍ (¬6). وكان يَسْرُدُ الصوم، ولا ينامُ الليل، فشكاه أبوه إلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لِعَينكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لأهلكَ عليكَ ¬

_ (¬1) "ت": "والسخط". (¬2) رواه أبو داود (3646)، كتاب: العلم، باب: في كتابة العلم، والحاكم في "المستدرك" (358)، وغيرهما. (¬3) "ت": "لعبد الله". (¬4) رواه الطحاوي في "شرح معاني الأثار" (4/ 318) بهذا اللفظ. ورواه البخاري (113)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، بلفظ: ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب. (¬5) "ت": "للأصبحي". (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 203). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 264): إسناده حسن.

حقًّا، وإنَّ لزَوْرِكَ (¬1) عليكَ حقًا، قُمْ، ونَمْ، وصُمْ، وأفطرْ، صُمْ ثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ، فذلك صيامُ الدهرِ"، فقال: إني أطيقُ أكثرَ من ذلك، فلم يزل يراجعه في الصيامِ حتَّى قالَ له: "لا صومَ أفضلُ من صومٍ داودَ، [و] (¬2) كانَ يصومُ يوما ويفطِرُ يومًا" (¬3). فوقف عبد الله عندَ ذلك، وتمادَى عليه، ونازلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ختم القرآن، فقال: "اخْتِمْهُ في شَهْرٍ"، فقال: إني أطيقُ أفضلَ من ذلك، فلم [يزل] (¬4) يراجعه حتَّى [قال:] "لا تَقْرَأْهُ في أقلَّ من سبعٍ"، وبعضهم يقول في حديثه هذا: "أقلَّ من خمسٍ"، والأكثر علَى أنَّهُ لمْ ينزلْ من سبع، فوقفَ عندَ ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) "ت": "لزوجك". (¬2) سقط من "ت". (¬3) رواه البخاري (1876)، كتاب: الصوم، باب: حق الأهل في الصوم، ومسلم (1159)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به. (¬4) سقط من "ت". (¬5) رواه الترمذي (2946)، كتاب: القراءات، باب: (13)، وقال: حسن صحيح، عن عبد الله بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله! في كم أقرأ القرآن؟ قال: "اختمه في شهر"، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "اختمه في عشرين" قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "اختمه في خمسة عشر"، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "اختمه في عشر"، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "اختمه في خمس"، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فما رخص لي.

قلت: وقد وصل محمد بن سعد نسب رَيْطة هذه المتقدمة (¬1)، فقال: بنت منبه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد بن سهم. قال: و [كان] (¬2) لعبد الله بن عمرو من الولدِ محمدٌ، وبه [كان] (¬3) يُكنَى، وأمُّه بنت محمية بن جزء الزبيدي، وهشامٌ، وهاشمٌ، وعمرانُ، وأمُّ إياس، وأمُّ عبد الله، وأمُّهم أم هاشم الكندية من بني وهب بن الحارث. وذكر ابن سعد أيضًا من رواية صفوان بن سليم، عن عبد الله بن عمرو قال: استأذنتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في كتابة (¬4) ما سمعتُ منه قال: فأذنَ لي، فكتبته، فكان عبدُ الله يُسمِّي صحيفتَهُ تلك "الصادقة". وذكر من رواية إسحاق بن يحيَى، عن مجاهد قال: رأيت عندَ عبد الله بن عمرو صحيفةً، فسألته عنها فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليس بيني وبينه منها أحدٌ. ومن رواية خيثمة قال: انتهيتُ إلَى عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يقرأُ في المصحفِ قال: فقلت: أي شيءٍ تقرأ؟ قالَ: جُزئي الذي أقوم به الليلةَ. ¬

_ (¬1) "ت": "المقدمة". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "كتاب"، والتصويب من "ت".

ومن رواية العُريان بن الهيثم قال: وفدت مع أبي إلَى يزيد بن معاوية، فجاء رجل طُوالٌ، أحمرُ، عظيم البطن، فسلَّم، ثم جلس، فقال أبي: من هذا؟ فقيل: عبد الله بن عمرو. ومن رواية الحسن، عن شريك بن خليفة قال: رأيت عبد الله بن عمرو يقرأ بالسريانية. ومن رواية زياد بن علاقة قال: قالَ عبد الله بن عمرو: لوددتُ أنِّي هذه الساريةُ. ومن رواية قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن سليمان بن الربيع قال: انطلقت في رهطٍ من نُسَّاك أهل البصرة إلَى مكة، فقلنا: لو نظرنا رجلًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحدثنا إليه، فدُلِلْنا علَى عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتينا منزلَهُ، فإذا قريبٌ من ثلاث مئة راحلة، فقلنا: علَى كلِّ هؤلاء حجَّ عبد الله بن عمرو؟ قالوا: نعم، هو، ومواليه، وأحبَّاؤه، وذكر بقية الحديث (¬1). ومن رواية عبدِ الكريم، عن مجاهد: أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص كان يضربُ فُسطاطَهُ في الحِلِّ، ويجعل مُصلَّاه في الحرمِ، فقيل له: لمَ تفعلُ ذلك؟ قال: لأنَّ الإحداث في الحرمِ أشدُّ منها في الحلِّ. ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "وذكرنا في الحديث"، ولعل الصواب ما أثبت.

ومن طريق عبد الرحمن بن البيلماني قال: التقَى كعب الأحبار وعبد الله بن عمرو، فقال كعب: أتطيَّرُ يا عبد الله؟ قال: نعم، قال: فما تقول؟ قال: أقول: اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُكَ، ولا خيرَ إلا خيرُكَ، ولا ربَّ غيرُكَ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بك، فقال: أنت أفقهُ العرب، إنها لمكتوبةٌ في التوراةِ كما قلتَ. قال أبو عمر (¬1): [و] (¬2) اختُلِفَ في وقت وفاتِهِ، فقال أحمد بن حنبل: ماتَ عبد الله بن عمرو بن العاص لياليَ الحَرَّة في ولاية يزيد بن معاوية، وكانت الحرةُ يوم (¬3) الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاثٍ وستين. وقال غيره: مات سنة ثلاث وسبعين. وقال يحيَى بن عبد الله بن بُكير: مات بأرضه بالسَّبُعِ من فلسطين سنة خمس وستين. وقال غيره: مات بمكةَ سنة سبع وستين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وقيل: إنَّ عبدَالله بن عمرو بن العاص تُوُفِّيَ سنة خمس وخمسين بالطائفِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أبو عمرو"، والتصويب من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "ليلة" بدل "يوم".

وقيل: إنَّهُ مات بمصرَ سنة خمس وستين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة (¬1) (¬2). وأما محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص (¬3). ¬

_ (¬1) "ت": زيادة: "وقيل: إن عبد الله ... "، ثم جاء على هامش "ت": "بياض نحو سطر من الأصل"، ولم يشر إليه في "م". (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 261)، "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 5)، "الثقات" لابن حبان (3/ 210)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 956)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (31/ 238)، "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 345)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 264)، "تهذيب الكمال" للمزي (15/ 357)، "سير أعلام النبلاء" (3/ 79)، "تذكرة الحفاظ " كلاهما للذهبي (1/ 41)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 192)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (5/ 294). (¬3) جاء على هامش "ت": بياض نحو خمسة أسطر من الأصل. ولم يشر إلى هذا البياض في "م". قلت: قال المزي في "تهذيب الكمال" (25/ 514): محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، جد عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال الزبير بن بكار، أمه بنت محمئة بن جزء الزبيدي، وذكره أبو سعيد بن يونس في "تاريخ المصريين" وقال: روى عن أبيه، روى عنه حكيم بن الحارث الفهمي في أخبار سعيد بن عضير، وابنه شعيب بن محمد. وقد روي له شيء يسير من الحديث، انتهى. وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 353) فقال: محمد بن عبد الله بن عمرو ابن العاص، يروي عن أبيه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن =

وأما شُعَيبُ بن محمد: فإن (¬1) البخاريَّ ذكره في "تاريخه الكبير" فقال: شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، السهمي، القُرَشي، سمع عبد الله بن عمرو، و [قد] (¬2) روَى عنه ابنه عمرو. [و] (¬3) قال [لنا] (¬4) أبو عاصم، عن حيوة، عن زياد بن عمرو: سمعتُ شعيب بن محمد، سَمعَ عبدَ الله بن عمرو (¬5). وهذه الرواية تدلُّ علَى سماع شُعيب من جده عبد الله بن عمرو (¬6). وأما عَمرو بنُ شُعَيب: فقال البخاري: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، أبو إبراهيم السهمي (¬7)، سمع أباه، وسعيدَ بن المسيب، وطاوسًا. ¬

_ = محمد بن عبد الله بن عمرو، ولا أعلم بهذا الإسناد إلا حديثًا واحدًا من حديث ابن الهاد، عن عمرو بن شعيب. (¬1) "ت": "قال" بدل "فإن"، وهو خطأ. (¬2) سقط من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 218). (¬6) جاء على هامش "ت": "بياض نحو خمسة أسطر من الأصل". ولم يشر إليه في "م". (¬7) "ت": "الهاشمي".

روَى عنه أيوبُ، وابن جريج، وعطاء بن أبي رباح، والزُّهريُّ، [و] (¬1) الحكم، ويحيَى بن سعيد، وعمرو بن دينار. وقال أحمد بن سليمان: سمعت مُعتمرًا قال: قالَ أبو عمرو بن العلاء: كان قتادةُ وعمرو بن شُعيب لا يُعابُ عليهما [شيءٌ] (¬2)، إلا أنهما كانا لا يسمعان شيئًا إلا حدَّثا به. قال أبو عبد الله البخاري - رحمه الله -: ورأيتُ أحمدَ بن حنبل، وعليَّ بن عبد الله، وإسحاق بن إبراهيم، والحميديَّ يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه (¬3). قالَ أبو عبد الله: فمَنِ الناسُ بعدهم؟ انتهَى. وقد خرَّجَ الحافظُ أبو محمد عبد الغني بن سعيد (¬4) مِصْرِيُّنا الجليلُ ما روَى عن التابعين وروايتهم [عن] عمرو بن شعيب في جزءٍ سمعته من شيخنا الإمام الحافظ أبي محمد عبد العظيم بن عبد القوي المُنذري بقراءتي عليه، هذا مع أنَّ عمرَو بن شعيب ليس من التابعينِ، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) جاء على هامش "ت" قوله: "لعله عن جدِّه". (¬4) هو الإمام الحافظ الحجة أبو محمد عبد الغني بن سعيد بن علي الأزدي المصري، المتوفى سنة (409 هـ)، صاحب كتاب "المؤتلف والمختلف" وغيره.

وهذه جلالةٌ لا خفاءَ بها (¬1). والحديث في الأصلِ من روايته عن أبيه، عن جده، [و] (¬2) الكلامُ عليه من طريقين (¬3): أحدهما فيما يتعلق بحالة نفسِهِ: والثناءُ عليه كثير؛ روَى السَّاجي بإسناده إلَى الأوزاعي قال: ما رأيتُ قُرشيًا أكملَ من عمرو بن شعيب (¬4). وقال النسائي في "التمييز": عمرو بن شعيب ليس به بأسٌ، روَى عنه الزُّهريّ، وعمرو بن دينار، ويحيَى بن سعيد، وأيوب. وقال محمدُ بن إسماعيلَ الأَوْنبَي: أخرج عن عمرو بن شُعيب أبو داود وغيره، وهو ثقةٌ في نفسه، روَى عنه جماعة من الأئمةِ من التابعين وغيرهم، وإنما تُكلِّم في روايته عن أبيه، عن جده، وقد احتَجَّ به جماعةٌ من أئمة الحديث وحفاظه، وثَّقَهُ يحيَى، وابن صالح، وأبو زرعة، وغيرهم. ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 342)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 238)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (46/ 75)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 344)، "تهذيب الكمال" للمزي (22/ 64)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 165). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "طرفين". (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 84).

ذكر عباس الدُّوريُّ عن ابن مَعين أنَّهُ قال: عمرو بن شعيب، أبو إبراهيم، ثقةٌ. ثم قال: عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، وهو كتابٌ، وهو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص فيقول: أبي عن جدي، فمن هاهُنا جاء ضعفُهُ، فإذا حدَّثَ عن سعيد بن المسيب، أو عن سليمان بن يسار، أو عن عروة، فهو ثقة عن هؤلاء؛ أو قريبًا من هذا الكلام قاله يحيَى (¬1). وقال ابن أبي حاتم: سُئِلَ أبو زرعةَ عن عمرو بن شعيب فقال: مكيٌّ كأنَّهُ في نفسه ثقة، إنما تُكُلِّم فيه بسبب كتابٍ عندَهُ. وقال أيضًا: سئل أبي: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أحبُّ إليك، أو بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده؛ فقال: عمرو بن شعيب، [عن أبيه، عن جده] (¬2) أحبُّ إلي (¬3). قلت: وقد روَى الترمذي حديثَ عمرو بن شعيب، عن طاوس، عن ابن عمر: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلُ الذي يُعطِي العَطِيةَ ثم يرجعُ فيها؛ كالكلبِ أكَلَ، حتَّى [إذا] (¬4) شَبعَ قَاءَ، ثم عَادَ فرَجَعَ في قَيئِهِ". ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ ابن معين - رواية الدوري" (4/ 462). (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 238). (¬4) زيادة من "ت".

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬1). ثم قال: قالَ الشَّافعي: لا يحلُّ لمن وَهَبَ هِبةً أنْ يرجعَ فيها إلا الوالد؛ فإنه يرجعُ [فيما] (¬2) أعطَى لولده، واحتَجَّ بهذا الحديث. فهذا الترمذي قد صحَّحَ الحديثَ من روايته؛ أعني: من رواية عمرو بن شعيب، وحكَى عن الشافعي أنَّهُ احتَجَّ بهذا الحديث، وكلاهما اعتمادٌ (¬3) عليه. وقال ابن أبي حاتم: سئل يحيَى بن مَعين عنه، فغضب؛ فقال: ما شأنه؟ روَى عنه الأئمةُ (¬4). وروَى مالك، عن رجل، عنه. وعن يحيَى القطَّان قال: هو ثقةٌ يُحتجُّ به (¬5). وقال الدَّارميُّ: هو ثقةٌ، روَى عنه الذين نظرُوا في أحوال الرجال؛ كأيوبَ، والزُّهريِّ والحكم، قال: واحتَجَّ أصحابُنا بحديثه (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2131)، كتاب: الولاء والهبة، باب: ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة. وكذا رواه أبو داود (3539)، كتاب: الإجارة، باب: الرجوع في الهبة، وابن ماجه (2377)، كتاب: الهبات، باب: من أعطى ولده ثم رجع فيه. (¬2) سقط من "ت". (¬3) جاء فوقها في "ت": كذا. (¬4) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 238). (¬5) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 345). (¬6) المرجع السابق، الموضع نفسه.

وأما [بعد] (¬1) ما ذُكِرَ من تصحيح القول فيه؛ فقد رُوِيَ عن يحيىَ القظان في روايةٍ قال: هو واهي الحديث (¬2). وفي رواية عن علي بن المَدِيني، عن يحييَ: حديثُ عمرو بن شعيب عندنا واهٍ (¬3). وفي رواية ابن أبي خيثمة، عن يحيىَ بن مَعين: سئل يحيَى بن معين عن حديث عمرو بن شعيب فقال: ليسَ بذاك (¬4). وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن عمرو بن شُعيب فقال: ليس بقويٍّ، يُكتَبُ حديثُه، وما روَى عنه [الثقاتُ] (¬5) فيُذاكَرُ به (¬6). وعن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: عمرو بن شعيب له أشياءُ مناكير، وإنما يُكتب حديثه ليُعتبَرَ به، فأما أنْ يكونَ حجةَ فلا (¬7). ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 94). (¬3) رواه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 273)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 114). (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 238). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 238). (¬7) رواه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 273)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 91).

وعن أبي بكر بن الأثرم: سمعتُ أبا عبد الله أحمد بن حنبل سُئِلَ عن عمرو بن شعيب فقال: أنا كتبُ حديثَهُ، ورُبَّما احتججنا به، ورُبَّما وَجَس في القلبِ منه، ومالكٌ يروي عن رجلٍ، عنه (¬1). الطرف الثاني: في روايته عن أبيه، عن جده، وقد اختلفَتْ طرقُ الناس في ذلك؛ منهم من يَحتجُّ بها، وقد ذكرنا ما حكَى البخاريُّ في الاحتجاجِ براويته عن أبيه، عن جده، وأعلَى ما قيل في هذا ما رُوي عن إسحاقِ بن راهَوَيهِ: أئهُ إذا كان الراوي عن عمرٍو ثقةً فهو كمالك، عن نافع، عن ابن عمر. وروَى بعضُهم هذا اللفظ فقال: وقال إسحاق بن راهَوَيهِ: عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، كأيوب، عن نافع، عن ابن عمر (¬2). وقد أكثر الفقهاءُ من الاحتجاجِ براويته عن أبيه، عن جده، ومنهم أبو إسحاق الشِّيرازي في "مُهذَّبه" (¬3). ومنهم من يأبَى الاحتجاج بها، فعن جرير قال: كان مغيرة (¬4) لا يعبأُ بصحيفةِ عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 238)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 91). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (1/ 186)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 86). (¬3) وذلك في أكثر من عشرة مواضع من كتابه. (¬4) "ت": "المغيرة". (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 238).

[وعن سفيان بن عُيَينة: حديثه عن أبيه، عن جده،] (¬1) عندَ الناس فيه شيءٌ (¬2). وقال ابن عَدي: روَى عنه أئمةُ الناس وثقاتُهم، ولكنَّ أحاديثَه عن أبيه عن جده مع احتمالهم إياه، لَمْ يدخلوها في الصِّحاح (¬3). واستمرَّ عملُ ابن حزم علَى عدم الاحتجاج بهذه الصحيفة (¬4). والذين أنَّكروا الاحتجاج بها في مذهبهم طريقان: أحدهما: إنكارُ سماع شُعيب بن عبد الله بن عمرو، و [أنه] (¬5) إنما سَمِعَ أبَاه محمد بن عبد الله بن عمرو، فتكون روايةُ عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[علَى هذا التقدير مرسلةً] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 238). (¬3) انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (5/ 115). (¬4) وذلك في مواضع كثيرة من "المحلى" فذكر مرة (5/ 232): أنها صحيفة لا تصح، ومرة (6/ 71): صحيفة مرسلة، ومرة (9/ 131): صحيفة منقطعة ولا حجة فيها، وغير ذلك. (¬5) سقط من "ت". (¬6) سقط من "ت"، وقد أشير إلى وجود هذا السقط، وقد أقحمت هذه العبارة في الفقرة التالية في الأصل، ولا موضع لها هناك، وإنما الصواب ما أثبت، والله أعلم.

والثاني: أنها صحيفةٌ، لا سماعٌ، فعن أبي زرعة: روَى عنه الثِّقات، وإنما أنْكروا عليه كثرةَ روايتِهِ عن أبيه، عن جده (¬1)، وإنما سمع أحاديث كثيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده، فرَواها (¬2). فأما الطريق الأول، وهو الإرسالُ، فقد ذكرنا ما رواه البخاريُّ مما يقتضي سماعَ شُعيب بن عبد الله بن عمرو. [وعن الدارقُطني وغيره من الأئمةِ: أنَّهُ أثبت سماعَ شعيب بن عبد الله] (¬3) (¬4). وقال أبو بكر النَّيسابُوري: صحَّ سماعُ شُعيب من جدِّه عبدِ الله (¬5). وأما الطريق الثاني، وهو كونه صحيفةً، فيطرقُهُ ما يُقَال في كتاب عمرو بن حزم من: أنَّ هذه الأمورَ المأخوذةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الأصلِ مما يَعتني به أهلُ البيت الذين يُنسبون إلَى الصحابيِّ؛ لأنَّهُ من مفاخرهم، وتقتضي العادةُ تداولهم له، فتكون بمثابة السماع، وقد عُلم أنَّ عبد الله بن عمرو يَكتب، وتقدَّم أنَّهُ سمَّى صحيفتَهُ: ¬

_ (¬1) هنا الموضع الذي أقحمت فيه العبارة السابقة. (¬2) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 238). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "سنن الدارقطني" (3/ 50). (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 50)، ومن طريقه: الحاكم في "المستدرك" (2/ 54).

"الصادقة"، والظاهرُ في مثل هذا أنَّ [أهلَ] (¬1) بيتِهِ يتداولون نقلَهَا، ويحتفظون (¬2) بها. ومنهم من يقول: قولُهُ: عن جده، يُحتمَلُ أنْ يُرادَ به جدُّه الأعلَى، وهو عبد الله بن عمرو، فيكون مسندًا، ويحتمل أنْ يُرادَ جده الأدنَى وهو محمد، فيكون مُرسلًا (¬3)؛ لأنَّ محمدًا تابعي، فقسموا القول بين أنْ يُقال: [عن] (¬4) أبيه عن جدِّه عبد الله بن عمرو، وبين أن يَقتصرَ علَى قوله: عن جدِّه، فإنْ ذكرَ عبدَ الله بن عمرو احتُجَّ [به] (¬5)؛ لسلامته من الإرسالِ، وإنْ لَمْ يذكرْ لَمْ يحتجَّ به؛ لاحتمال الإرسال. واعلمْ أنَّهُ قد يُتَقَلَّبُ (¬6) في الاحتجاجِ بهذه الصحيفةِ، فتارةً يَحتجُّ بها بعضُهم إذا وافقَ رأيَهُ، ويتركها إذا لَمْ توافقْ؛ إما بالإهمالِ لذكرها، أو بالطعنِ فيها علَى مذهب مَن يرَى ذلك، وهذا تصرفٌ رديءٌ شَنَّعَ به ابنُ حزم علَى الفاعلِ إذ يقول: إنَّهُ يستحيلُ أنْ يكونَ الشيءُ حجةً في ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "يحفظون"، والمثبت من "ت". (¬3) ذكره ابن طاهر المقدسي في "إيضاح الإشكال" (ص: 30 - 31) عن الدارقطني. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "يتثعلب"، والمثبت من "ت".

موضع، غيرَ حجة في موضع آخر؛ هذا، أو معناه، أو قريب منه (¬1)؛ وهو معذورٌ في أصل التشنيع. وقد أكثر الشيخ أبو إسحاق في "المهذَّب" من الاستدلالِ برواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وقال في "اللمع في الأصول": لا يجوزُ الاحتجاجُ بعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ لاحتمال [أنَّ المرادَ] (¬2) جدُّه الأدنىَ، وهو محمد؛ فيكون مرسلًا (¬3). ونُقِلَ عن غيره من الشافعيةِ أيضًا: أنَّهُ لا يجوزُ الاحتجاجُ به، وقد أُنْكِرَ علَى الشيخِ أبي إسحاقَ ما ذكرناه من التقلب (¬4). وقالَ بعضُ المتأخرين: إنَّ الصحيحَ المختارَ صحةُ الاحتجاج به، عن أبيه، عن جده؛ كما قاله الأكثرون، فاختارَ في "المهذَّب" هذا المذهب المختار (¬5)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قال ابن حزم في "المحلى" (6/ 79) في تشنيعه على المالكية في إيجاب الزكاة في الحلي، وعدم احتجاجهم بحديث عمرو بن شعيب في الباب، فقال: والمالكيون يحتجون برواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إذا وافق أهواءهم، ولم يروه هاهنا حجة. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "اللمع في أصول الفقه" للشيرازي (ص: 75). (¬4) في الأصل: "التثعلب"، والمثبت من "ت". (¬5) قاله النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 346).

وهذا الذي ذكره المتأخرون لا يستمرُّ؛ فإن في هذه الرواية، عن أبيه، عن جده، ما لا يقوله أبو إسحاق ولا الشافعيُّ، ومُقتضَى كونه حجةً عندهم أنْ يُقَال به، فيحتاجون إلَى التقلب (¬1)، وقد يجيبون عن هذا (¬2) بطريق جدلي، وهو أنْ يكونَ تركُ العمل به في بعضِ المواضع لقيام مُعارِضٍ منعَ من ذلك، ولا يلزمُ من ترك العمل لمُعارِض تركُ العمل لا لمُعارضٍ. وقد يجيبون ابنَ حزم عن كلامه بهذا لكنَّه أمرٌ جدلي، ورُبَّما يعسر إثباتُ المعارض فيما يدَّعونه؛ فإنَّ في بعض تلك الرويات نصٌّ علَى بعض الأحكام لا يَحتمِلُ التأويلَ، أو يُستكرَهُ جدًا تأويلُه (¬3) بحيث يمتنعُ المصيرُ إليه. وفيه وجهٌ آخرُ جدليٌّ قد يُعتَذَرُ به عن التقلب (¬4)، تُرِكَ ذكرُهُ لأنْ لا يُتنبَّهَ به علَى إبطالِ حقٍّ، أو إثباتِ باطل، علَى أنَّ هذا التقلُّبَ (¬5) قد ذُكِرَ قديمًا، فذكر ابنُ عدي عن أبي داود: قالَ أحمدُ بن حنبل: أصحابُ الحديث إذا شاؤوا احتجُّوا بحديثه عن أبيه عن جده، وإذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "التثعلب"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "بهذا"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "يعسُر تأويلُه جدًّا". (¬4) في الأصل: "التثعلب"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "المتثعلب"؛ والمثبت من "ت".

الوجه الثاني: في تصحيحه

شاؤوا تركوه (¬1). قلت: ليس هذا راجعًا إلَى مشيئة أحد؛ وإنما يُرجَعُ في ذلك إلَى التوثيقِ و (¬2) التضعيف، وإلَّا جاء الاضطرابُ، وتطرَّقت القالةُ (¬3) إلَى الفاعل (¬4) (¬5). * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: قد أشبعنا القولَ في رواية عمرو بن شعيب من جهةِ حالِهِ وصحيفتِهِ، وقد ذكرنا في الأصلِ: أنَّ إسنادَه صحيحٌ إلَى عمرو، فمنْ يحتجُّ بنسخة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، فهو عنده صحيح. وهذا القولُ بناءً علَى الظاهرِ والأصل، وإلا فقد (¬6) يقومُ في المحلِّ الخاصِّ عندَ من يحتج بالنسخةِ مانعٌ يمنعُهُ من الحكم (¬7) ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 114). (¬2) "ت": "أو". (¬3) "ت": "المقالة". (¬4) جاء على هامش "ت": "بياض نحو صفحة من الأصل". (¬5) وقال الذهبي في "السير" (5/ 168): هذا محمول على أنهم يترددون في الاحتجاج به، لا أنهم يفعلون ذلك على سبيل التشهي. (¬6) في الأصل: "قد"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "بالحكم".

الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

بالتصحيحِ في المحلِّ الخاص، لكنَّ ذلك باعتبارِ أمرٍ زائد علَى الاحتجاجِ بالنسخة، وقيام المانع لو كان، والموانعُ لا تلزمُ [إلا] (¬1) التعرضُ لها في الإطلاقات. * * * * الوجه الثالث: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولَى: (الطُّهُور)؛ بضم الطاء: [الفِعل] (¬2)، وبالفتح: الماء، وقد تقدَّم هذا في حديث آخر. وقال الأستاذ أبو محمد بن السِّيْد الأندلسي فيما ظننته عنه: الطَّهور بفتح الطاء سواءً أردتَ به المصدرَ أو الماءَ. وكان قدَّم في الوضوء: أنَّهُ بضم الواوِ الفعلُ، وبفتحها الماءُ. قال: وهو قولٌ مشهورٌ عن الكوفيين، وأما سِيبَوَيْهِ وأصحابُهُ فقالوا بالفتحِ في المصدر والماء جميعًا، وذكروا أنَّ المصادرَ حُكمُهَا أن تجيءَ علَى فُعوُل - بضم الفاء -؛ كالقُعُودِ، ونحوه، والأسماء بالفتحِ، إلا أشياء شذَّت من المصادرِ وهي الوَضوء، والطَّهور، والوَلوع، والوَقود، والوَزوع (¬3)، كما شذَّت أشياء من الأسماءِ فجاءت بالضمِّ؛ كالسُّدوس (¬4)، والكُعوب. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت"، وجاء فوقها: "كذا". إشارة إلى غموض يكتنف هذا الكلام. (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "الزروع"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "السُّدود".

الثانية

وقال الأصمعي: الوُضوء - بالضمِّ - ليس من كلام العرب، وإنما هو قياس قاسَهُ النحويون. فهذا الذي ذكره في الطهورِ جرى فيه علَى مَا ذَكرَهُ في الوضوء. الثانية: السَّبَّاحَةُ، والمُسَبِّحَةُ، والدَّعَّاءَةُ، والسَّبَّابَةُ: الإصبع التي تلي الإبهام، سُمِّيت مُسَبِّحَةً؛ لرفعها في التسبيحِ، وبالسَّبَّابةِ للإشارة بها عندَ السَّبِّ إلَى المسبوب (¬1) (¬2). الثالثة: قالَ ابن سِيدَه: الظلم: وضعُ الشيءِ في غير موضعِهِ (¬3). قال ابن الأنباري: قالَ أهلُ اللغة؛ الأصمعيُّ، وأبو عُبَيدة، وغيرهما: الظالمُ معناه في كلامهم (¬4) الذي يضعُ الأشياءَ في غير مواضعها. ثم قال: ومن الظلمِ قولهم: (مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ)؛ معناه: فما وضعَ الشبيهَ (¬5) في غير موضعه. ثم قال: وقد ظلمَ الرجلُ سِقَاءَهُ: إذا سقاه قبل أنْ يَخرجَ زُبْدُهُ. ويقال: قد ظلمَ المطرُ أرضَ بني فلان: إذا أصابها في غير ¬

_ (¬1) "ت": "للمسبوب". (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (2/ 325)، (مادة: د ع و). (¬3) المرجع السابق، (10/ 23)، (مادة: ظلم). (¬4) "ت": "كلام العرب". (¬5) "ت": "التشبُّه".

الرابعة

وقته. ويقال: قد ظلمَ الماءُ أرضَ بني فلان: إذا بلغ منها مَوضعًا لَمْ يكنْ يبلغُهُ. ويكون الظلم النقصان؛ كما قالَ الله عز وجل: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]؛ ما نقصونا من ملكنا شيئًا إنما نقصوا أنفسهم، وقال - جل ذكره -: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]. [قال:] (¬1) ويكون الظلم الشرك: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]؛ معناه: بشرك (¬2). والأصلُ في الظلمِ ما قاله أهلُ اللغة. الرابعة: الإساءَةُ: ضدُّ الاحسان، قالَ الجَوهَرِيُّ: [و] (¬3) أساءَ إليه: نقيضُ أحسنَ إليه، والسُّوْأَى نقيضُ الحُسْنَى، وفي القرآن: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10]؛ يعني: النار (¬4)، والله أعلم. * الوجه الرابع: في شيء من العربيةِ، وفيه مسائل: الأولَى: هاهنا مباحثُ تتعلق بقوله: "هَكَذَا (¬5) الوُضُوءُ"، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس" لابن الأنباري (1/ 216 - 217). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 56)، (مادة: س وأ). (¬5) في الأصل "تتعلق بهكذا الوضوء"، والمثبت من "ت".

[و] (¬1) ترجعُ إلَى هذا العلم؛ أعني: العربية. منها: أنَّ المبتدأَ والخبرَ إذا اجتمعَ التعريفُ والتنكير، فالمبتدأُ هو المعرفةُ، والخبرُ هو النَّكرةُ، وكذلك إذا وُجِدَ جارٌّ ومجرور (¬2) [فيه] (¬3)، فهو الخبر. ومنها: أنَّ الكافَ الجارةَ قد تكون اسمًا بمعنى: مثل، ولا تتعيَّنُ للحرفية، وقد استدلَّ علَى اسميَّتِها بأمورٍ مسموعةٍ [كقولِهِ] (¬4): يَضْحَكْنَ عَنْ كَالْبَرَدِ (¬5) فإنها عُيِّنت للاسميةِ لدخول حرف الجر عليها. ومثله [من الطويل]: ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "وجدنا جارًّا ومجرورًا". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) لرؤبة بن العجاج؛ انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 255)، و "المحكم" لابن سيده (4/ 111)، و "المفصل" للزمخشري (ص: 385)، و "لسان العرب" لابن منظور (12/ 619). وتمامه، مع الذي قبله، كما في "خزانة الأدب" للبغدادي (10/ 168). ولا تلمني اليومَ يا ابن عمِّي ... عند أبي الصَّهباء أقصى همِّي بِيضٌ ثلاثٌ كنعاجٍ حُمِّ ... يضحكْنَ عن كالَبَرد المنهمِّ تحت عرانينِ أنوفٍ شُمِّ

بِكَاللِقْوةِ الشَّغْواءِ جَلَّتْ فَلَمْ أَكُنْ ... لأِوْلَعَ إلا بِالكَمِيِّ المُقَنَّعِ (¬1) فقد دخل حرفُ الجر عليها (¬2). [و] (¬3) كقول الشاعر يصفُ سَحابًا ذا بَرْقٍ [من الخفيف]: وَسْطَهُ كاليَراعِ أَوْ سُرُجِ المَجْ ... ـدَلِ طَوْرًا يَخْبُو وطَوْرًا يُنِيرُ (¬4) فيمن روَى (وسطَه) بالنصبِ علَى الظرفية والخبرية، فتكون (¬5) الكافُ اسمًا في موضع رفع بالابتداء (¬6). وقول الأعشَى [من البسيط]: ¬

_ (¬1) البيت ذكره المرادي في "الجنى الداني في حروف المعاني" (ص: 82) ولم ينسبه. واللِّقوة - بالكسر -: العُقاب؛ سميت بذلك لسعة أشداقها، وتسمى: الشغواء: لاعوجاج منقارها. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 93) و (14/ 436). (¬2) "ت": "دخل عليها حرف الجر". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) البيت لعدي بن زيد، كما نسبه ابن منظور في "اللسان" (7/ 426). (¬5) "ت": "وتكون". (¬6) "ت": "على الابتداء".

أتَنْتَهُونَ ولنْ يَنْهَى ذَوي شَطَطٍ ... كالطَّعْنِ يَذْهبُ فيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ (¬1) وقول امرئ القيس [من الطويل]: وإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عليكَ كفَاخِرٍ ... ضَعِيفٍ ولم يغْلِبكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ (¬2) وقول الآخر [من الطويل]: [يَمِينًا] (¬3) لَعَمْرُ اللهِ مَا ظلَّ مُسْلِمًا ... كَغُرِّ الثَّنَايَا وَاضحاتِ المَلاغِمِ (¬4) (¬5) الكاف في (كفاخر) فاعل يفخر، وفي (كغر) فاعل ظل (¬6). وقول الشاعر [من الخفيف]: أبدًا، كَالْفَرَاء فَوْقَ ذُرَاهَا ... حينَ يَطْوِي المَسَامِعَ الصَّرَّارُ (¬7) فإنه حُكِمَ ها هُنا بوقوعها مبتدأً. ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان الأعشى" (ص: 63). (¬2) انظر: "ديوان" (ص: 44). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "البلاغم"، والمثبت من "ت". (¬5) البيت لأبي حية النميري، كما في "الأمالي" لأبي علي القالي (2/ 281)، و "الكامل" للمبرد (1/ 99 - 100). (¬6) في الأصل: "والكاف في ذلك فاعل يفخر، وفي كغر فاعل ظل"، والمثبت من "ت". (¬7) ذكره المرادي في "الجنى الداني في حروف المعاني" (ص: 83) دون نسبة.

الوجه الخامس: في شي من علم البيان والمعاني، وفيه مسائل

فهذه مواضعُ عُيِّنت الكافُ فيها للاسمية (¬1)، وقد عُيِّنت للحرفية في نحو قولك: جاءني الذي كزيد، وعُلِّلَ بأنَّك لو جعلتها اسمًا لوصلت (الذي) بالمفردِ. ووردتْ (¬2) بين الحرفية والاسمية في نحو قولك: زيدٌ كعمرٍو (¬3). والذي يجرُّ إلَى هذا الكاف في قوله: "هَكَذَا الوُضُوء"، المشهورُ في (مثل) أنها لا تتعرَّفُ بالإضافةِ، وذكر أبو عبد الله بن مالك الجَيَّاني: أنَّ (مثل) إذا أُضيفَ إلَى معرفةٍ دونَ قرينة تُشعرُ بمماثلةٍ خاصَّة فإنَّ الإضافةَ لا تعرِّفُه، ولا تزيلُ إبهامه، قال: فإن أُضيفَ إلَى معرفةٍ، وقارنه ما يُشعرُ بمماثلةٍ خاصَّة تعرَّفَ. * * * * الوجه الخامس: في شي من علم البيان والمعاني، وفيه مسائل: الأولَى: لقد ذكرنا في اسمِ هذه (¬4) الإصْبَعِ: السَّبَّابَةَ، والسَّبَّاحَة، والمُسَبِّحَة، والدَّعَّاءَة، واختيارُ السبَّاحةِ في الحديثِ اختيارٌ لأحسن ¬

_ (¬1) "ت": "الاسمية". (¬2) في الأصل: "ورددت"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "الجنى الداني في حروف المعاني" للمرادي (ص: 78) وما بعدها، ففيه ما ذكره المؤلف رحمه الله هنا. (¬4) "ت": "هذا".

الثانية

اللفظين في التعبيرِ، وقد لمح الزمخشريُّ هذا فقال في قوله تعالَى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح: 7]: وإنما توضعُ في الأذنِ السبَّابة، فذكر الإصبع، وهو الاسمُ العامُّ أدبًا؛ لاشتقاقها من السبِّ، ألا تراهم كَنُّوا عنها بالمسحبِّةِ والدعَّاءة والسبَّاحة، وإنما لَمْ تذكرِ المُسبحةُ والدعَّاءة؛ لأنها ألفاظٌ مُستحدَثةٌ لَمْ تكنْ في ذلك العهد (¬1). قلت: ويمكن أنْ يقال: إن ذكرَ الإصبع هاهنا جامعٌ لأمرين: أحدهما: التَّنَزُّهُ عن اللفظِ المكروه. والثاني: حطُّ منزلة الكفار عن التعبيرِ باللفظِ المحمود. والأعمُّ يُفيدُ المقصودين معًا، فأُتيَ به، وهو لفظُ الإصبع، وبهذا يَتبينُ حسنُ التعبير بالسبَّاحتينِ في الحديثِ؛ لنسبتِهِما إلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُؤتِ بالأدنىَ؛ الذي هو (¬2) السبَّابةُ، ولا بالإصبعِ الذي لا يدلُّ علَى معنى التعظيم، فوجب اختيارُ السبَّاحتين، والله أعلم. الثانية: اختلفوا في مفهوم الحصر، ويمثِّلون ذلك بقولهم: العالمُ زيدٌ، أو (¬3) زيدٌ العالم، والقائلون به يحصِرون المبتدأَ في الخبرِ، ومثالُهم المشهورُ: صديقي زيد، وزيد صديقي؛ فـ (صديقي زيد) يقتضي الحصرَ عندَ هؤلاء، واستدلوا علَى ذلك بأنَّهُ لو لَمْ يقتضِ ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 117). (¬2) "ت": "هي" بدلًا "هو". (¬3) "ت": "و".

الحصرَ لزمَ أنْ يكونَ المبتدأُ أعمَّ من الخبرِ، وهو غير جائزٍ (¬1). بيانه: أنَّا إذا قلنا: العالم زيد، فالألف واللام ليست للجنس قطعًا، ولا للعهد [لعدمه] (¬2)، فتعيَّنَ أن تكونَ لماهيةِ العالم، فتلك الماهيةُ؛ إما أن تكونَ موجودةً في غير زيد، أو لا، فإنْ لَمْ تكنْ، انحصرت العالِمِيَّةُ في زيد، وهو المطلوب، وإنْ كَان موجودةً في غيره فتكون أعمَّ من زيد، وزيدٌ أخصُّ منها، وقد أخبرَ عنها، فلزم الإخبارُ بالأعمِّ عن الأخصِّ؛ كما ادعينا. واعترضَ بعضُ المتأخرين بأنَّ هذا الدليلَ إنما يتمُّ بجعل (العالِم) مُخبرًا عنه، و (زيد) مخبرًا به، أما لو جعل (العالم) خبرًا متقدِّمًا علَى المخبرِ عنه، فحينئذ لا فرقَ بين (العالم زيد) و (زيد العالم)، فمن يقول: (العالم زيد) يفيد الحصر. وقال أيضًا: ولو جُعِلَ الألفُ واللام في العالمِ لمعهودٍ ذهني بمعنى: الكامل (¬3) والمُنتهَى في العالميةِ، فحينئذٍ تفيدُ المبالغةَ، ولا تفيدُ الحصرَ، انتهَى (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 271)، و "البرهان في أصول الفقه" للجويني (1/ 317)، و "الإحكام" للآمدي (3/ 108). (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "في العالم المعهود، وهي بمعنى الكامل". (¬4) نقله الزركشي في "البحر المحيط" (5/ 185) ووقع في المطبوع منه: "والمشتهر في العالمية".

الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

* الوجه السادس: في الفوائدِ والمباحث، وفيه مسائل: الأولَى: فيه السؤالُ عمَّا يجبُ تعلُّمُهُ من أمور الدين، والأقربُ أنْ يكونَ هذا السائلُ حديثَ عهد بالإسلامِ، إنْ كَان سؤالُهُ عن أصل فعلِ الطهور، وما يجبُ من كيفيَّتِهِ، وهو ظاهرُ اللفظ، ويحتمل أنْ يكونَ السؤالُ عمَّا زاد علَى الواجبِ؛ إما قصدًا، أو تبعًا. [و] (¬1) الثانية: الجوابُ الخاصُّ عن السؤالِ العامِّ يكون لقرينة تدلُّ علَى أنَّ المقصودَ بالسؤالِ الخاصُّ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أجابَ بكيفية الوضوء، وهو خاصٌّ بالنِّسبَةِ إلَى الطهورِ، وهو عامٌّ؛ لتناوله الوضوء والغسل، فيحتملُ أنْ يكونَ لقيام قرينة دلَّت علَى أنَّ السؤالَ عن الوضوء، ويحتمل أنْ يكونَ لأنَّه الأعمُّ الأغلب؛ والموجباتُ له متكررة، والغسلُ في محلِّ العارض عندَ وجود مُوجبِهِ العارض، فالبيانُ الأولُ ضروريٌّ، ويتأخَّرُ بيانُ الثاني إلَى حين وجودِ ما يوجبُهُ، ووقوعِ السؤال عنه. الثالثة: قوله: "فَدَعَا بمَاءٍ" إذا (¬2) ضممته إلَى روايةِ من روَى: "فدعا بوَضُوء"، استُدِلَّ بالمجموعِ علَى أنَّ الوَضوءَ اسمٌ للماء. الرابعة: فيه ما قدمناه من الاستعانةِ في أسباب الوضوء بإحضار الماء، وبعضُ المتأخرين من الشافعيةِ حكَى عن أصحابِهم أنَّ الاستعانةَ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "وإذا".

ثلاثةُ أقسام: أحدها: أنْ يستعينَ بغيرِه في إحضار الماء، فلا كراهةَ فيه، ولا نقصَ. والثاني: أنْ يستعينَ به في غسل الأعضاء، ويباشرُ [الأجنبيُّ] (¬1) بنفسه غسلَ الأعضاء، [فهو مكروهٌ إلا لحاجة. والثالث: أنْ يصبَّ عليه] (¬2)، فهذا الأولَى تركه، وهل يُسمَّى مكروهًا؟ فيه وجهان (¬3). قلت: وقد ثبتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ صُبَّ عليه الماء لوُضوئه، من رواية المغيرة [بن شُعبة] (¬4)، وأسامة (¬5)، فالأَوْلَى أنْ يُؤخَذَ ذلك في الجواز (¬6)، ولا يُضعَّفَ إلا لمعارض. والأحاديثُ التي جاءت في ترك الاستعانة لا تكادُ تثبتُ، [أو لعلَّها لا تثبتُ. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) قاله النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (3/ 68 - 169) وذكر أنه نقله عن الأصحاب. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) تقدم تخريجهما. (¬6) في الأصل: "بالجواز"، والمثبت من "ت".

الخامسة

هذا علَى أنَّ في بعض الآثار التي تقتضي ترجيحَ عدمِ الاستعانة، ما يتناولُ الاستعانةَ] (¬1) في أسباب الطهارة. الخامسة: قوله: "فغَسَلَ كَفَّيهِ ثَلاثًا" يدلُّ علَى استحبابِ التكرار في المغسولِ، والمالكيةُ يعدُّونه في الفضائلِ، لا في السننِ علَى اصطلاحهم (¬2). السادسة: ويدلُّ علَى استحباب هذا العدد، وقد ورد غسلُهُما مرَّتين في حديث عبد الله بن زيد. قال الفاضلُ أبو عبد الله المازري: أما مقدارُ عددِ غسلِهما فقد أشارَ بعضُ أصحابنا إلَى غسلهما مرَّتين؛ أخذًا بحديث ابن زيد المتقدِّم، وذكر أنَّ المختارَ ثلاثًا؛ [لقوله: "فلْيغسلْهُمَا"] (¬3)، ولأنَّه القَدرُ الذي تتعلق به الفضيلةُ في سائر أعضاء الوضوء المغسولة (¬4). قلت: الأولَى أنْ يستندَ في استحباب الثلاث إلَى هذا الحديث، وما هو مثله، الذي ليس فيه دلالةٌ علَى الغسلِ عندَ القيام من النومِ؛ كالحديث الذي استدلَّ به؛ فإنَّهُ لا يتناول صورةَ عدم القيام من النومِ بلفظِهِ، وفي تناولِهِ إيَّاه بمعناه نظرٌ أيضًا؛ إذ قد يناسب ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) كما تقدم عنهم. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازري (1/ 233).

السابعة

القيامَ من النومِ زيادةُ العدد في التنظيفِ بالنِّسبَةِ إلَى مُطلَقِ غسلِ اليدين في ابتداءِ الوضوء. السابعة: فيه دليلٌ علَى أنَّ [أولَ] (¬1) الأعضاء غسلًا في الوضوءِ الكفَّان، مأخوذٌ من تعقيب الفاءِ الذي في قوله: "فَدَعَا بمَاءٍ في إنَاءٍ، فَغَسَلَ كَفَّيهِ"، وقد وردَ في بعض الحديث ما يقتضي المنعَ من البُداءةِ بالفم. الثامنة: لَمْ تذكرِ المضمضةُ والاستنشاقُ في هذا الوضوء، وليست يُعدمُ (¬2) في تصرفِ الفقهاء الاستدلالُ بعدم الذكر علَى عدمِ الوقوع، فإذا سلكتَ هذه الطريقةَ أمكنَ أنْ تستدلَّ بذلك علَى عدمِ وجوبِ المضمضة والاستنشاق، ويُؤخَذُ الاستحبابُ من أحاديثَ أُخرَ. التاسعة والعاشرة والحادية عشرة: غسلُ الوجه، وترتيبُهُ، وعددُ مرَّاته (¬3). وكذلك نقولُ في غسل اليدين، فهي ثلاثٌ، مع زيادةِ ما يتعلَّقُ بالذِّراعِ، فإنَّ أهلَ العُرفِ لا يُطلقون لفظ الذِّراعِ علَى ما دون إبرة المِرْفَقِ؛ [لا قولًا ولا فعلًا، فأذرع أحدهم فعلًا من إبرة المرفق] (¬4)، وإذا أخبرَ عن فعلِهِ وقال: بذراعي، أراد ذلك، فيكون هذا اللفظُ أدلَّ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "يقدم"، والتصويب من "ت". (¬3) في الأصل: "عدم مراته"، والتصويب من "ت". (¬4) سقط من "ت".

السادسة عشرة والسابعة عشرة

عرفًا علَى دخول المرفق في (¬1) الغسل من "إلَى المرفقِ"، فهي خمسٌ (¬2). السادسة عشرة والسابعة عشرة: مسحُ الرأس، وترتيبُهُ. الثامنة عشرة: [قولُهُ] (¬3): "ثمَّ مَسَحَ برأسِهِ؛ فأدخَلَ إصبَعيهِ السَّبَّاحَتينِ في أُذُنيهِ" كالتفسيرِ لقولهِ: "مَسَحَ رأسَهُ"، كما جعل ذلك في قوله: "مَسَحَ رأسَهُ بيدَيهِ؛ فأقبلَ بهِما وأدْبَرَ". وُيحتمَلُ أنْ يكونَ قولُهُ: "فأدخلَ إصبَعيهِ السَّبَّاحَتينِ في أُذُنيهِ" من باب عطفِ الجُملِ بعضِها علَى بعضٍ بالفاءِ، ولا يكون تفسيرًا لمسحِ رأسِهِ؛ كما تقول: قامَ زيدٌ، فمشَى إلَى المسجد. التاسعة عشرة: [علَى] (¬4) التأويلِ الأول يكونُ مُشعرًا بمسحِهما (¬5) ¬

_ (¬1) في الأصل "و" بدل "في" والمثبت من "ت". (¬2) أي: مسائل اليدين، والذي ظهر لي أربع مسائل، وهي: غسل اليدين، وترتيبه، وعدده، ودخول المرفقين في الغسل، وقد تابع المؤلف ترقيم المسائل من السادسة عشرة، فدلَّ ذلك أن مسائل اليدين أربع لا خمس، والله أعلم. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) أي: الأذنين.

العشرون

معَ الرأسِ مِن غيرِ تجديدِ ماءٍ؛ كما (¬1) يذهبُ إليه بعضُ الفقهاء. العشرون: فيه دليلٌ علَى مسح الأُذُنين في طهارة الوضوء، وكثيرٌ من الألفاظِ الصحيحةِ ليس له فيها ذكر [هـ] (¬2)، فيُؤخَذُ استحبابُهُ من هذا الحديث وغيره. الحادية والعشرون: ودليلٌ علَى مسحِ ظاهرِهما، وباطنِهما، وعلَى أنَّ ظاهرَهما يُمسَحُ بالإبهامينِ، وباطنَهما بالسبَّاحتينِ، فهن (¬3) أربع. الخامسة والعشرون: ليس دلالتُهُ علَى [استحبابِ] (¬4) مسحِ الظاهر بالإبهامينِ، والباطنِ بالسبَّاحتينِ [بالقوية] (¬5)؛ لاحتمال أنْ يكونَ ذلك ليُسرِ (¬6) هذه الهيئة، ولا يظهرُ قصدُ القُربة (¬7) في ذلك، فلا يقوَى مقصودُ التأسِّي، وليس يخلو عن الترجيحِ بالجُملة، وإنَّما الكلامُ في دلالته علَى السنةِ المُتأكدة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تحديد ما يذهب"، وسقطت كلمة "ماء" من "ت"، ولكنها استُدركت في الهامش. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) "ت": "فهي". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) في الأصل: "لتفسير"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "ليسر هذه الهيئة فعلًا، فلا يكون يظهر قصد القربة".

السادسة والعشرون إلى الثامنة والعشرون

وهكذا نقول فيما قدمناه [من طلبية نقل الماء] (¬1) إلَى مسح الرأس: إنَّهُ ضعيف؛ لاحتمال أنْ يكونَ ذلك لتعيُّنِ (¬2) الفعل علَى هذا الوجهِ بحسبِ الواقعةِ إذْ (¬3) لَمْ يكنْ علَى الرأسِ ماءٌ، فيتعيَّنُ النقلُ، لا لأنَّه مقصودٌ. السادسة والعشرون: قوله: "ثمَّ غَسَلَ رِجلَيهِ ثلاثًا"، فيه غسلُ الرِّجلين، وترتيبُهما علَى ما قبلها، وعددُ غسلِهما، وقد قدمنا ما للمالكيةِ في اعتبار إنقائِهما دونَ العدد، وهذا الحديثُ ممَّا (¬4) يدلُّ علَى اعتبارِ العدد، فتلك ثلاثٌ (¬5). وقد جاء في حديثِ معاويةَ - رضي الله عنه - من رواية عبد الله بن العلاء: أنَّهُ سمع يزيد بن أبي مالك وأبا الأزهر (¬6) يحدثان عن وُضوء معاوية قال: يُريهم وضوءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فتوضَّأَ ثلاثًا ثلاثًا، وغسلَ رِجليه بغيرِ عدد (¬7) (¬8). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "لبعض"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "إذا"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "ما"، والمثبت من "ت". (¬5) أي: ثلاث مسائل. (¬6) في الأصل: "وأبا الأزهري"، والتصويب من "ت". (¬7) في الأصل "عوض"، والمثبت من "ت". (¬8) رواه أبو داود (124)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 94)، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 378)، وإسناده صحيح.

التاسعة والعشرون

التاسعة والعشرون (¬1): قوله: "ثمَّ قالَ: هَكَذَا الوُضُوءُ" فيه البيانُ بالفعلِ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه، وهو هاهنا أقوَى من "ثمَّ"؛ لأنَّ الحَوَالةَ هاهنا علَى الفعلِ من لفظِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، و"ثمَّ" من لفظ الراوي. [الثلاثون] (¬2): قوله: "هَكَذَا الوُضُوءُ"، يمكنُ أنْ يَستدِلَّ به مَن يرَى الترتيبَ واجبًا؛ فإنَّ الإشارةَ إلَى ما وقعَ من الفعل (¬3) وهيئاتِهِ، ومنها الترتيبُ، ثم يأخذُ الحصرَ في اللفظِ، ويحملُ لفظ (الوضوء) علَى الشرعيِّ، وهو كذلك. [الحادية والثلاثون]: ويَستدلُّ به أيضًا مَن يرَى وجوبَ الموالاةِ بغيرِ (¬4) ما ذكرنا في الترتيب؛ لأنَ الموالاةَ [من] (¬5) جملة هيئاتِهِ. ومَنْ أرادَ إخراجَ أحدِهما [يحتاجُ] (¬6) إلَى دليلٍ آخرَ راجحٍ علَى ¬

_ (¬1) "ت": "السابعة والعشرون"، وعلى الهامش قوله: "لعله: التاسعة". (¬2) سقط ذكر هذا الرقم "الثلاثون" والذي بعده: "الحادية والثلاثون" من "ت"؛ لأنهما مدمجتان في الفائدة التاسعة والثلاثين، وجاءت هذه الفوائد مفصّلات بالأرقام في الأصل "م". (¬3) في الأصل: "اللفظ"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "تعيّن"، والمثبت من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

الثانية والثلاثون

ما دلَّ [عليه] (¬1) هذا الحديثُ. وقد استدلوا علَى وجوب الترتيب بما جاء في الحديث: "هَذَا وُضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاةَ إلا بِهِ". وقالوا: لا يجوزُ أنْ يكونَ غيرَ مُرتَّبٍ، وإلا لانتفَى القَبولُ عندَ العضوِ المُرتب، وهو مُحال، فيتعيَّنُ أنْ يكونَ مرتبًا. وهذا الاستدلالُ الذي ذكرناه في المسألتينِ؛ أعني: الترتيب والموالاة، أوْلَى بالنِّسبَةِ إليهما؛ لدلالةِ الحديث علَى وجودِهما، ولكنه أقصر (¬2) في الدلالةِ علَى الوجوبِ من ذلك الحديث؛ لأنه هاهنا مأخوذٌ من الحصرِ، وقد يُنازَعُ فيه، ويحتاج إلَى نظر، وثمَّ مأخوذٌ من قوله: "لا يَقبلُ اللهُ الصَّلاةَ إلا بِهِ"، ودلالتُهُ علَى الوجوبِ أظهرُ من دلالة الحصر. الثانية والثلاثون: ظاهرُهُ يقتضي أنَّ النقصانَ داخلٌ في حدِّ الإساءة، وأقلُّ درجاتها الكراهةُ، لكنْ يُشكِلُ عليه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ مرَّتين مرتين، وتوضَّأَ مرَّةً مرة. وقد ذكر بعضُهم: أنَّ الشفعَ ليس بمكروه؛ أي: الشفع في الغسلاتِ، ودليلُهُ فعلُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فيمكنُ أنْ يُقَالَ بظاهرِ [هذا] (¬3) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "اقتصر"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت".

الثالثة والثلاثون

الحديث، ويُجعَلَ (¬1) [فعلُ] (¬2) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الغسلِ مرتين، أو مرة لبيان الجواز، ويمكن أنْ يقال: إنَّ "أساءَ" يُحملُ علَى ترك الأَوْلَى. ورُبَّما قالَ بعض المباحثين: إنَّ النقصَ [هاهنا، هو النقصُ] (¬3) عن مقدار الواجب، فإنْ كان يقول بأنَّ الزيادةَ مُحرَّمةٌ علَى ما ذُكِرَ أنَّهُ وجهٌ سيأتي ذكرُهُ، فلا بأسَ إن صحَّ أنَّ اللفظَ ظاهرٌ في التحريمِ، وإنْ كَان يقول بالكراهةِ أو تركِ [الأولَى] (¬4) في الزيادةِ، فهو بعدَ استنادِهِ إلَى هذا اللفظِ في التحريمِ جاعلٌ اللفظَ الواحدَ مُستعملًا في حقيقتِهِ ومَجازِهِ، إذا اعتقد أنَّهُ حقيقةٌ في التحريمِ، حتَّى يتمَّ له الحَملُ علَى النقصانِ عن الواجبِ [ورتبِهِ] (¬5). الثالثة والثلاثون: قولُهُ: "أو نَقَصَ" يدخلُ تحتَهُ النقصانُ بمرة، فتبقَى مرتان، والنقصانُ بمرتين، فتبقَى واحدة. وقد نُقلَ عن مالك أنَّهُ قال: الوضوءُ مرتان مرتان، قيل له: فواحدة؟ قال: لا (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "وجعل". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 287).

وهذا لا ينبغي أنْ يُقَال بظاهرِهِ في إيجاب المرتين، والمنعِ من الاقتصارِ علَى واحدة، فقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الاقتصارُ علَى الواحدةِ، وقد حُملَ هذا علَى المبالغةِ منه في التشديدِ في أن لا يقتصرَ علَى الواجبِ، والتحضيضِ علَى أنْ يؤتَى بالفضيلةِ. [ورُوي عن مالك روايةٌ أخرى: لا أحبُّ الواحدةَ إلا من عالِمٍ] (¬1) (¬2)؛ وهذا يقتضي إباحةَ المرة للعالم، وتخصيصَ الكراهةِ لغيرِه؛ فإنَّ العامةَ لا تكادُ تستوعبُ بمرة واحدة، فاحتاطَ لهم في أنْ (¬3) أمرَهُم بالزيادةِ عليها، وأخرج (¬4) العالِمَ من ذلك لمعرفتِهِ بما يأتي ويذرُ من ذلك. فمنْ أرادَ أنْ يستدلَّ للراوية التي ظاهرُها كراهةُ الاقتصار علَى المرةِ، فله أنْ يستدلَّ بهذا الحديث؛ لأنَّهُ يدخلُ [تحت] (¬5) النقصانِ الموصوف بالإساءةِ، لكن (¬6) يخرجُ عن مُقتضَى هذه الدلالة في المرتين. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) كما تقدم. (¬3) في الأصل: "فإن" بدل "في أن"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "إخراج". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "لكنه".

الرابعة والثلاثون

الرابعة والثلاثون: [و] (¬1) الناس أخذوا الزيادةَ باعتبار الزيادة في العددِ [علَى الثلاث] (¬2)، فكرهُوها، وذكرَ بعضُ المتأخرين من الشافعيةِ ثلاثةَ أوجه: التحريمَ، والكراهةَ، وتركَ الأولَى (¬3). قلت: والمشهورُ الكراهةُ، وهو المتحققُ. وقال إمام الحرمين في "النهاية": وقولُهُ: "أساء" (¬4) بمعنى تركِ الأوْلَى، وتَعدِّي حدِّ السُّنة، ووضعِ الشيء في غير موضعِهِ (¬5)؛ وهذا دليلٌ منه علَى أنَّهُ لا يرَى التحريمَ، ولا الكراهة. والقولُ بالتحريمِ غريبٌ يحتاج من يريدُ إثباتَهُ إلَى أنْ يبينَ أنَّ لفظةَ (¬6) "أساء، وظلم" تدلان علَى التحريمِ، وليس ذلك بالظاهرِ ظهورًا قويًّا، ولكنه ظاهرٌ في الكراهةِ، فيجيءُ من هذا أنَّ المشهورَ -[و] (¬7) هو الكراهة - هو الصوابُ. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 503) وقال: الصحيح، بل الصواب: تكره كراهة تنزيه. (¬4) في الأصل: "أما" بدل "أساء"، والتصويب من "ت". (¬5) المرجع السابق، (1/ 502). (¬6) "ت": "لفظ". (¬7) زيادة من "ت".

الخامسة والثلاثون

الخامسة والثلاثون: قالَ بعضُ الفقهاء المتأخِّرين من مصنفي الشافعية: ومعنى قوله: "أساء" في النقصانِ؛ أي: في مخالفة السنة؛ ومعنى قوله: "وظلم" في الزيادةِ علَى الثلاثِ؛ أي: جاوزَ الحدَّ؛ لأنَّ الظلمَ في اللغةِ مجاوزةُ الحدِّ، ووضعُ الشيء في غير موضعه، لا أنه (¬1) يأثمُ بذلك (¬2). السادسة والثلاثون: هذا الذي ذكره هذا المصنفُ ينحو إلَى [أنَّ] (¬3) هذا من باب اللفِّ والنَّشر، فنقول عليه: إنَّ (أو) تقتضي أحدَ الشيئين في الشيءِ الذي يُحكَمُ به، والمحكومُ به في هذا الحديث هو الإساءةُ والظلم (¬4)، فيثبتان معًا لمن فعلَ أحدَ الشيئين. السابعة والثلاثون: هذه الزيادةُ المذكورة علَى الثلاثِ لا يقتضي الحكمُ بكونها (¬5) ظلمًا وإساءةً أنْ يَبطُلَ بها الوضوءُ؛ لأنَّ الفرضَ والسنةَ قد تأدَّيا، والإساءةُ بالزيادةِ، والحكمُ علَى الزيادةِ بالإساءةِ والظلم (¬6) لا يقتضي تعدِّي ذلك إلَى ما مضَى من الفرضِ والسنة ¬

_ (¬1) في الأصل: "إلا أنه"، والمثبت من "ت". (¬2) المرجع السابق، (1/ 502 - 503). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": زيادة "معًا". (¬5) "ت": "بها". (¬6) في الأصل و "ت": "والحكمُ علَى الإساءةِ بالزيادةِ والظلم"، والصواب ما أثبت.

الثامنة والثلاثون

ولابدَّ، وصارَ هذا كمَن سلَّمَ من الصلاةِ، ثم قام إلَى خامسةٍ، فإنَّه لا يبطلُها. الثامنة والثلاثون: هذه الزيادةُ المكروهةُ مخصوصةٌ عندَهم بأنْ تُلحقَ بالوضوءِ نِيةً، فلو فُعِلتْ تبرُّدًا، أو مع قطع نية الوضوء عنها، لَمْ تُكرهْ. وقد قيل: ومنْ زادَ علَى الثلاثِ؛ فإنْ كَان قاصدًا للقُربةِ بالزيادةِ علَى الثلاثِ فقد أساء لتقرُّبِهِ إلَى الرَّبِّ بما ليس بقُربَةٍ (¬1) إليه، وإن قصد تبردًا، أو تنظفًا، أو تنطُّلًا بالماءِ الحار، أو تداويًا، فانْ لَمْ يفرِّقْ بين أعضاء الوضوء فلا بأسَ، وإن فرَّقَ بينها فقد أساء بتفريق الوضوء، لا بمجرَّدِ (¬2) الزيادة (¬3). قلت: يريدُ التفريقَ القاطعَ للمُوالاة المنافي لسنَّتها، علَى هذا القول لا (¬4) يَبعُدُ أنْ يُؤخَذَ قصدُ القُربةِ في الحكمِ من (¬5) الحديثِ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هَكَذَا الوُضوءُ، فمَنْ زادَ علَى هَذَا"؛ فإنَّ فَهْمَ كونِهِ في الوضوءِ قريبٌ من دلالة اللفظ عليه، ويكون التقدير: فمن زاد علَى هذا في الوضوءِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "يتقرب"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "لمجرد" بدل "لا بمجرد". (¬3) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (2/ 175 - 176). (¬4) في الأصل: "ولا"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "بين"، والمثبت من "ت".

التاسعة والثلاثون

إلا أنَّ ظاهرَ الإطلاق علَى خلافه. التاسعة والثلاثون: الشافعيةُ ذكروا: أنَّهُ لا يُستحبُّ تجديدُ الوضوء إلا بعدَ أنْ يؤديَ به شيئًا ممَّا يُشرَعُ له الوضوءُ؛ فرضًا كان المؤدَّى أو نفلًا، وقيل: لا (¬1) يستحبُّ إلا ما أُدِّي به فريضةٌ، والأول أصح؛ قالَ ذلك صاحب "الاستقصاء" (¬2). وعلَى ذهني أنَّ بعضَ المالكية (¬3) ذكر كراهةَ التجديد (¬4) قبل الإتيانِ بالعبادةِ به، وذكرَ الخلافَ المذكور. وهذا منهم إلحاقٌ لهذا التجديدِ الذي لَمْ تؤدَّ بالوضوءِ قبلَهُ عبادةٌ بالزيادةِ المتصلةِ بالوضوء، وفيه بحث؛ فإنَّه لَمْ يَقصدْ بهذا التجديد إلحاقَهُ بالوضوءِ الأول، يأتي ذلك اشتراط كونِ الزيادة علَى الثلاثِ في الكراهة منويًا بها الوضوء، وإنِ اشتُرطَ في هذا الوضوء المجدَّدِ إلحاقه بالوضوءِ الأول مع تطاول الزمان بعيد، ثمَّ هو مخالفٌ لإطلاق الحديث الدالِّ علَى استحبابِ تجديد الوضوء الذي رووه (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا"، والمثبت من "ت". (¬2) كتاب: "الاستقصاء لمذاهب الفقهاء في شرح المهذب" لعثمان بن عيسى الماراني، تقدم ذكره مرارًا. وانظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 531). (¬3) "ت": زيادة "قال". (¬4) "ت": "تجديد الوضوء". (¬5) في الأصل: "رواه"، والمثبت من "ت".

الأربعون

الأربعون: قد ذكرنا أنَّهم حملُوا الزيادةَ علَى زيادةِ العدد (¬1)، وهو المعروفُ المشهور، وَيحتمِلُ وجهًا آخرَ أعمَّ من هذا، وهو أنْ يُرادَ إلحاقُ ما ليس من الوضوءِ به تنطُّعًا وتكلُّفًا، أو النقصان منه، ورُبَّما يُفهَمُ [هذا] (¬2) من قوله عليه السلام -: "هَكَذَا الوُضوءُ، فمَنْ زَادَ علَى هَذَا"؛ أي: علَى الوضوءِ، ويترجَّحُ بأنَّ الإشارةَ إلَى الوضوءِ ظاهرةٌ في جُملته. الحادية والأربعون: يدخلُ في هذا المعنى الذي ذكرناه كلُّ ما استحبَّهُ بعضُ الفقهاء في الوضوءِ وألحقوه بسننه، فما (¬3) لَمْ يقمْ عليه دليلٌ شرعيٌّ يقتضي إلحاقه بالوضوءِ؛ كمسح العنق إذا لَمْ يصحَّ فيه الحديث (¬4)، [ولا شكَّ أنَّ إلحاقَهُ بسنن الوضوء ممتنعٌ إذا لَمْ يصحَّ فيه الحديث] (¬5)، وأمَّا فعلُهُ مِن غيرِ اعتقاد إلحاقٍ له بالوضوءِ الشرعي ففيه نظرٌ، والأقربُ كراهةُ المداومة عليه، والذي جعله من السننِ أبو ¬

_ (¬1) "ت": "على الزيادة في العدد". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "فلما". (¬4) قال النووي في "روضة الطالبين" (1/ 61): وذهب كثيرون من أصحابنا إلى أنها لا تمسح؛ لأنه لم يثبت فيها شيء أصلًا، ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدمو الأصحاب، وهذا هو الصواب. (¬5) سقط من "ت".

الثانية والأربعون

العباس بنُ القاصِّ (¬1) من الشافعيةِ علَى ما حُكي عنه (¬2). الثانية والأربعون: ذكر بعضُ الشافعية في سنن الوضوء أنْ يدعوَ في وضوئِهِ فيقول عندَ غسل الوجه: اللهمَّ بيِّضْ وجهي يومَ تسودُّ الوجوه، وعلَى غسل اليدين (¬3): اللهمَّ أعطني كتابي بيميني ولا تعطني بشِمالي، وعلَى مسح الرأس: اللهمَّ حرِّمْ شعري وبشري علَى النارِ، وعلَى مسح الأذن: اللهمَّ اجعلني من الذينِ يستمعون القولَ فيتَّبعون ¬

_ (¬1) هو أحمد بن أبي أحمد القاصّ أبو العباس الطبري، الإمام الفقيه، صاحب التصانيف المشهورة، تفقه بأبي العباس بن سريج، وهو من كبار الأصحاب المتقدمين أصحاب الوجوه، ومن أنفس مصنفاته: "التلخيص"، و "المفتاح"، و"أدب القاضي"، توفي سنة (335 هـ). انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 532). (¬2) في كتابه "المفتاح"، كما ذكر النووي في "المجموع" (1/ 525) قال: ولم يذكره كثير المصنفين، وإنما ذكره هؤلاء المذكورون - يعني: المتولي والبغوي والفوراني والغزالي والرافعي والروياني - متابعة لابن القاص، ولم يثبت فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: وأما الحديث المروي عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده: أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح رأسه حتى يبلغ القذال، وما يليه من مقدم العنق، فهو حديث ضعيف بالاتفاق. وأما قول الغزالي: إن مسح الرقبة سنة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مسح الرقبة أمان من الغل". فغلط؛ لأن هذا موضوع ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وعجب قوله: "لقوله" بصيغة الجزم، والله أعلم. (¬3) "ت": "اليد".

أحسنَهُ، وعلَى غسل الرجلين: اللهمَّ ثبتْ قدميَّ علَى الصراطِ (¬1). وقد ذكرنا في كتاب "الإمام (¬2) في معرفة أحاديث الأحكام" حديثًا في الأدعيةِ علَى الأعضاءِ لَمْ تتحققْ صحتُهُ ولا حُسنُهُ من جهة الإسناد (¬3)، والأمر في هذا الدعاء علَى ما ذكرناه في مسح العنق، وأن إلحاقه بالوضوءِ اعتقادًا حكمٌ شرعي يحتاج إلَى دليل شرعي، فيمتنع عندَ عدم صحة [ذلك] (¬4) الدليل، وأما فعلُهُ مِن غيرِ إلحاق، فهذه المرتبةُ يجبُ (¬5) أن تكونَ دونَ تلك المرتبة في الكراهة؛ لأنه يمكنُ إدراجُ هذه الأدعية تحت العُمومات المقتضية لاستحباب ذكر الله تعالَى، فمنْ لا يتوَقَّفُ في استحباب الشيء المخصوص في المحلِّ المخصوص علَى دليلٍ مخصوصٍ، فلا يَبعُدُ منه أنْ يَستحبَّ مثلَ هذا الفعل عملًا بالعموماتِ، ومن يرَى أنَّهُ لا بدَّ من دليل مخصوص علَى الحكمِ المخصوص، لا يستحبُّ ذلك. ¬

_ (¬1) ذكره الغزالي في "الوسيط" (1/ 291)، والرافعي في "شرح الوجيز" (1/ 449) وقال: ورد به الأثر عن السلف الصالحين. قال النووي في "المجموع" (1/ 526): لا أصل له، وذكره كثيرون من الأصحاب. (¬2) في الأصل: "الإلمام"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "الإمام" للمؤلف (2/ 55 - 56)، وقد ذكره من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن علي - رضي الله عنه -، مرفوعًا. ثم قال: أبو إسحاق، عن علي - رضي الله عنه - منقطع، وفي إسناده غير واحد يحتاج إلى معرفته والكشف عن حاله. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "يجوز".

الثالثة والأربعون

الثالثة والأربعون: ذكر بعضُ المصنفين (¬1) عن الفقيهِ أبي الفتح نصر صاحب "التهذيب" أنَّهُ قالَ في "التهذيب": والمستحبُّ أنْ يقولَ في ابتداء وضوئِهِ بعدَ التسمية: أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ (¬2). وهذا من هذا القبيل الذي ذكرناه في المسألةِ قبلَها؛ لأنَّ ذلك مُندرِجٌ تحت العمومات، لكنَّ تخصيصَهُ بهذا المحلِّ المخصوص، واحتياجَهُ إلَى دليل يخصُّهُ يخرجُ عن (¬3) البحث الذي ذكرناه، ورُبَّما تُوُهِّمَ أنَّ هذه المرتبة أقربُ من التي قبلها من الأدعيةِ علَى الأعضاء؛ لأنه ورد التشهدُ بعد الفراغ من الوضوءِ صحيحًا (¬4)، فيَقربُ أنْ يُلحَقَ ابتداؤُهُ بانتهائِهِ، وهذا المعنى ليس في المسألةِ قبلها، إلا أنَّهُ ضعيف. الرابعة والأربعون: يمكنُ أنْ يُستدلَّ بالحديثِ علَى النيَّةِ في ¬

_ (¬1) "ت": "مصنفي الشافعية". (¬2) قال الإمام النووي في "المجموع" (1/ 407): قال الشيخ نصر المقدسي في آخر صفة الوضوء من كتابيه "التهذيب"، و"الانتخاب": يستحب أن يقول في أول وضوئه ... فذكره. ثم قال: وهذا الذي ذكره غريب لا نعلمه لغيره، ولا أصل له، وإن كان لا بأس به. (¬3) "ت": "على". (¬4) رواه مسلم (234)، كتاب: الطهارة، باب: الذكر المستحب عقب الوضوء، من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -.

الخامسة والأربعون

الوضوء من حيثُ الإشارةُ في قوله عليه السلام: "هَكَذَا الوُضُوءُ"؛ ظاهرُهَا العَودُ إلَى كلِّ ما مضَى من الأفعالِ والهيئات، وإنْ كَان بعضُهم قد حملَ الإشارةَ في حديث آخرَ علَى الأفعالِ دونَ الهيئات، لمَّا استدلَّ بما رُوي عنه عليه السلام: أنَّهُ توضَّأ مرَّةً مرَّةً، وقال: "هَذَا وُضوءٌ لا يَقبَلُ اللهُ الصلاةَ إلا بِهِ" علَى وجوب الترتيب؛ فحملَهُ علَى الأفعالِ دونَ الهيئة. وإذا كانت (¬1) الإشارةُ إلَى جُملةِ ما مضَى، فلا شكَّ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قصدَ إلَى فعلِ الوضوء؛ لأنه المسؤولُ عنه أولًا، ثم المُعقَّبُ [بفعله] (¬2) - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا؛ لقصد البيان، ثم الإخبارُ آخِرًاعنه بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: ["هَكَذَا الوُضوءُ"، فهذه أمورٌ توجب الجزمَ بقصدِهِ - صلى الله عليه وسلم -] (¬3) إلَى الوضوءِ، فتكونُ هذه النيةُ من جُملة الوضوء الذي قَصَدَ بيانَهُ بالفعل. الخامسة والأربعون: فيدلُّ ذلك علَى الصحةِ في الوضوء بنيَّةِ الوضوء فقط؛ لأنَّه المُتيقَّنُ. وعن بعض الشافعية حكايةُ وجهين في أنَّ نيَّةَ الوضوء هل تكفي؟ (¬4) وما ذكرناه يدلُّ علَى الكفايةِ بها؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ غيرِها، أو ¬

_ (¬1) في الأصل: "كان"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 390).

السادسة والأربعون

بطريق أخرَى سنذكرها الآنَ إن شاء الله تعالَى. السادسة والأربعون: هاهنا مباحثةٌ نعرضُها عليك لتتأملَ (¬1) مقدماتِها، واستنتاجَ الأحكامِ منها، وهو أنْ يقال: الفعلُ المقصودُ به البيانُ والتعليمُ لا (¬2) بدَّ وأنْ يتبينَ لمن يُقصَدُ البيانُ له، وإلا لَمْ يكنْ بيانًا، فما كانَ من الأفعالِ الظاهرةِ وهيئاتِها [فهو] (¬3) مدرك بالبصرِ، وما كان من النيَّاتِ التي وقع الفعلُ عليها، إذا اختلفت صفاتُها؛ فما كان واجبًا وشرطًا في الفعلِ فلا بدَّ من الإعلامِ بوقوع الفعلِ [عليه، وإلا تأخَّرَ البيانُ عن وقت الحاجة، وإذا وجبَ الأعلامُ بما وقع الفعلُ عليه، فما لا يقعُ الإعلامُ به لا يكونُ واجبًا. فإن قيل: لا يجبُ الإعلامُ بوقوع الفعل] (¬4) علَى تلك الصفة؛ فإنَّهُ قد يقعُ البيانُ بقولٍ سابقٍ أو لاحق، فلا يتعينُ الإعلامُ بوقوع الفعل علَى تلك الصفة. قلنا: الفرضُ فيما يقع البيانُ فيه بالفعلِ، وإذا وقع البيان بقولٍ سابق أو لاحق، فليس البيانُ فيه بالفعلِ، بل بالقول. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لتأمل"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "ولا". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت".

السابعة والأربعون

السابعة والأربعون: ويلزمُ من هذا: أنَّ ما اختُلِفَ في وجوبِهِ ممَّا لا يُطَّلَعُ عليه بالرؤيةِ إذا لَمْ يقعِ البيان بوقوع الفعل عليه، لا يكون واجبًا. وقد بينا أنَّ الحديثَ دلَّ علَى قصدِ النية إلَى الفعلِ، أو فعل الوضوء بخصوصه، فتستفادُ من هذه القاعدة مسألةٌ اختلف فيها الفقهاءُ الشافعية، وهو أنَّ نيةَ الإضافة إلَى اللهِ تعالَى هل هي واجبة، أم لا (¬1)؟ فإذا لَمْ يقعِ الإخبارُ عن كونِها وقعت دلَّ علَى عدم الوجوب، وإلا تأخَّرَ البيان. ويمكنُ أنْ يُقَالَ فيه: إنَّهُ إذا وقع القصدُ إلَى الفعلِ في العبادات فالقصدُ إلَى كونِها لله تعالَى واقعٌ من باب المَلَكةِ الحاصلةِ للنفس لكثرة التكرار، ويُنزَّلُ ذلك منزلةَ الواقع قصدًا وذكرًا، وهذا فيه غَورٌ يتعلَّقُ بالبيانِ في باب الأيمان، ولعلَّه سنذكره، إن شاء الله تعالَى. الثامنة والأربعون: لقائلٍ أنْ يقولَ: مُقتضَى ما ذكرتَ من القاعدةِ أنْ لا تُشترطَ النيَّاتُ التي ذكر الفقهاء اشتراطَها في الوضوءِ؛ كنيَّة رفعِ الحدث، أو استباحةِ الصلاة، أو استباحةِ ما لا يُستباحُ إلا بالوضوءِ، أو أداءِ فرض الوضوء؛ لأنَّ شيئًا منها لَمْ يقعِ البيان عن وقوعه بالفعلِ، فلا يكون واجبًا؛ لما ذكرتموه من لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة. ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 62).

التاسعة والأربعون

والجواب: أنَّا قد ذكرنا أنَّ الحديثَ دلَّ علَى وجودِ القصد (¬1) إلَى الوضوءِ، وأن ذلك كافٍ في الإجزاءِ، وذلك دافعٌ لمفسدة تأخير البيان عن وقت الحاجة، أو نقولُ بأخذِ الوجوبِ لإحدَى النيَّاتِ المعنيَّة من دليل آخر، ويتمُّ البحث إلَى آخره. التاسعة والأربعون: البيانُ في هذا الحديث بالفعلِ؛ كما في حديث عثمان، وعبد الله بن زيد رضي الله عنهما، إلا أنَّهُ هاهُنا أقوَى؛ لأنَّ الفعلَ هاهنا فعلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وبه وقع البيان، وفي ذَينك الحديثين البيانُ بفعل الراوي؛ فما (¬2) يتعلَّقُ بمباحث الفعل التي ذكرنا بعضها ثَمَّ أقوَى هاهنا؛ لأنَّهُ حجَّةٌ جزمًا، لا يمكنُ (¬3) النزاعُ فيه، وفي فعل (¬4) الراوي يمكن أنْ يُنازَعَ في الاحتجاجِ به - إذا استُدلَّ به علَى مسألة مُتنازَعٍ فيها - بالنزاعِ في أنَّ فعلَ الصحابي حجةٌ. الخمسون: قد يُتوهَّمُ أنَّ البيانَ هاهُنا بالقولِ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هَكَذَا الوُضُوءُ"، وليس الأمرُ كما يُتوهَّمُ، بل هذا اللفظُ بيانٌ؛ لأنَّ الفعلَ بيانٌ، فالبيانُ بالفعلِ الذي دلَّ هذا (¬5) اللفظُ علَى أنَّهُ بيان؛ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الفعل"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "فيما"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "يكون"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "الفعل"، والتصويب من "ت". (¬5) في الأصل "على"، والمثبت من "ت".

الحادية والخمسون

أي: المقصود به البيان، لا لأنَّ هذا اللفظ بنفسه مِن غيرِ واسطة بيانٌ. الحادية والخمسون: المباحثُ الأصوليةُ التي تتعلَّقُ بجواز البيان بالفعلِ، وأنه هل هو أقوَى من البيانِ بالقولِ، أو لا (¬1)؟ تأتي (¬2) هاهُنا، والاستدلال بهذا الحديث كما بيَّنا أقوَى من الاستدلالِ بذينك الحديثين؛ أعني: حديث عثمان وعبد الله بن زيد، رضي الله عنهما. [الثانية والخمسون: لا شكَّ أنَّ الحديثَ يقتضي انحصارَ الوضوءِ فيما وقعَ] (¬3) من الفعلِ المشارِ إليه بيانًا؛ لأنه لو لَمْ ينحصرِ الوضوء في الفعلِ المشار إليه؛ إمَّا بزيادة أو نقصان، لَمْ يحصلِ البيانُ؛ لأنَّهُ إذا كان الوضوءُ فيه أمرٌ زائدٌ، لَمْ يكنْ هذا الفعلُ بيانًا للوضوء؛ لنقصانه عن بعض ما يَنطلِقُ عليه اسمُ الوضوء، وكذلك إنْ كَان هذا الفعلُ فيه زيادةٌ عن الوضوءِ، فلا بيانَ للوضوء؛ لاشتباهِ الشيء بما ليس منه (¬4). الثالثة والخمسون: هذا الحصرُ الذي ذكرناه مأخوذٌ من ضرورةِ كونِ الفعل بيانًا، فلو أردنا (¬5) أنْ نأخذَهُ من جهة حصرِ المبتدأ في الخبرِ ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 274)، و"الإحكام" للآمدي (1/ 247). (¬2) الفاعل ضمير يعود على (المباحث). (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل في "عنه"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "حاولنا".

الرابعة والخمسون

كما اشتُهِرَ، احتجنا إلَى تعيين المبتدأ أو الخبر، فيقال (¬1): المبتدأ هو (الوضوء)، و (هكذا) هو الخبر؛ لأنَّ الكافَ؛ إمَّا حرفٌ للجر، والجارُّ (¬2) والمجرور هو الخبر، وإمَّا اسمٌ بمعنى (مِثْل) علَى مذهب من يراه، فالمشهورُ أنَّ (مِثلًا) لا تتعرَّفُ بالإضافةِ، فتكون نكرةً، وقد حكينا ما يُشعِرُ بقَبولها [للتعريف] (¬3) إذا أُضيفَتْ إلَى معرفةٍ بشرطٍ تقدَّمَ، وقد أُضيفت هاهنا إلَى اسم الإشارة، وهو معرفة، فإنْ وُجِدَ الشرطُ في تعريفها فقد اجتمعَ معرفتان؛ أعني: المبتدأ والخبر، والمشهورُ أنَّهُ لك أنْ تجعلَ أيَّ المعرفتين المبتدأَ، والآخر الخبر، فتأمَّلْ حكمَ الحصر حينئذٍ. وأما إذا كان المبتدأُ معرفةً، والخبر نكرة، فلا إشكالَ في عدم الحصر؛ كما إذا قلنا: زيد قائم، فإنه لا ينحصرُ زيدٌ في القيامِ قطعًا. الرابعة والخمسون: إذا كان (الوضوء) هو المبتدأ، وقوله (¬4) - صلى الله عليه وسلم -: "هكذا" هو الخبر، فيقتضي ذلك انحصارَ الوضوء في الفعلِ المشار إليه، ويلزمُ منه أنَّ ما لا يكونُ منه لا يكونُ وضوءًا، أو ليس من الوضوءِ، فيمكنُ أنْ يستدلَّ به في المسائلِ التي يقعُ الخلافُ ¬

_ (¬1) "ت": "يقال". (¬2) "ت": "فالجار". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "وهو"، والمثبت من "ت".

فيها (¬1)؛ [إمَّا] (¬2) في الوجوبِ، وإما في الاستحبابِ. ويُستدلُّ بذلك من جانب من ينفي أحدَهما بأنْ يقول مثلًا: مسحُ الرقبة ليس بسنة؛ لأنَّ الحصرَ يقتضي خروجَهَ عن مُسمَّى الوضوء، ولو كان سنةً لدخلَ في مُسمَّاه. ولو استُدلَّ به علَى أنَّ المضمضةَ والاستنشاقَ ليسا بواجبين تعيَّنَ ما ذكرناه، وهو أنَّ الحصرَ يقتضي خروجَ ما لَمْ يقعْ في الفعلِ عن الوضوء، ولم تقعِ المضمضةُ والاستنشاقُ فيه لكان مُشكلًا؛ فإنه إمَّا أنْ يُحمَلَ "هَكَذَا الوُضوءُ" علَى الوضوءِ المشروع، أو الوضوءِ الواجب، لا سبيلَ إلَى الأول؛ لأنَّ المضمضةَ والاستنشاق مشروعان إجماعًا، ولا سبيل إلَى الثاني؛ لأنه قد وقعَ في الفعلِ ما ليس بواجبٍ؛ كتكرار المغسول، وذلك يمنعُ (¬3) من حملِ الوضوء المذكور علَى الوضوءِ الواجب. ويمكنُ أنْ يجابَ عنه بوجوهٍ: منها: أن تكونَ الإشارةُ راجعةً إلَى عدد المرَّات، ويُحمَلُ الوضوءُ حينئذٍ علَى المشروعِ، [وما زاد علَى ذلك فليس بمشروعٍ] (¬4)، ويشهدُ لذلك السياقُ، وهو قولُهُ عقبَ ذلك: "فمَنْ زادَ علَى هذا، أو ¬

_ (¬1) "ت": "فيها الخلاف". (¬2) زيادة تقتضيها صحة السياق. (¬3) في الأصل: "منع"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الخامسة والخمسون

نَقَصَ"، فلم يتعرَّضْ - صلى الله عليه وسلم - لغيرِ الزيادة والنقص بعد التعريف للوضوء، ولو كان المرادُ غيرَ ذلك، لأشبهَ أن لا يقتصرَ في السياقِ علَى الزيادة والنقص، إذا حملناه علَى الزيادةِ في العددِ والنقصان (¬1) منه. ورُبَّما يُدَّعى أنَّ القرينةَ شاهدةٌ بهذا الحَمل، ولا يُشكِلُ علَى هذا إلا نقصانُ العدد عن الثلاثِ؛ فإنه إذا حُمِلَ لفظُ (الوضوء) علَى المشروعِ يلزمُ منه أن لا تكونَ المرتان من المشروعِ، ولا المرةُ كذلك، وسيأتي الكلام علَى معنى النقصان إن شاء الله تعالَى. [ومنها] (¬2) - وهو جدليٌّ - أنْ يُقَال: نختارُ أنَّ المرادَ الوضوءُ المشروع، وقوله: لا سبيل إلَى ذلك؛ لأنَ المضمضةَ والاستنشاق مشروعان بالإجماع. قلنا: لا نُسلِّم حينئذ (¬3)؛ أي: عندَ فعل هذا الوضوء، ولا بدَّ من دليل يدلُّ علَى ذلك، وإلا لَمْ يلزمِ امتناعُ هذا التفسير؛ أعني: تفسير الوضوء بالمشروعِ. الخامسة والخمسون: لقائلٍ أنْ يعترِضَ علَى هذا، و (¬4) يقول: إمَّا أنْ يحملَ الوضوءُ المذكور في الحديثِ علَى الوضوء المشروع، أو ¬

_ (¬1) "ت": "أو النقصان". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) وضعت في "ت" إشارة تدل على وجود كلمة ناقصة. (¬4) في الأصل: "أو"، والمثبت من "ت".

السادسة والخمسون

علَى الوضوءِ الواجب. والأولُ باطلٌ؛ لأنَّ المضمضةَ والاستنشاق مستحبَّان في الوضوءِ بالإجماع، فيكونان مشروعين بالضرورةِ، وما ذكرتَهُ يقتضي عدمَ المشروعية، وهو باطلٌ بالإجماعِ. والثاني أيضًا باطل؛ لأنه قد فُعلَ في ذلك الوضوء ما ليس بواجب؛ كغسلِ اليدين في ابتداء الوضوء، وتكرارِ أعداد الغسلات. وعند الانتهاء إلَى هذا فيمكن أنْ يقال: عدمُ المشروعيةِ أعمُّ من عدمها وجوبًا، أو عدمها استحبابًا، فإذا امتنعَ حملُها علَى المشروعيةِ بجهة الاستحبابِ، حُملَتْ علَى عدم المشروعية بجهة الوجوب، وهو المطلوب. السادسة والخمسون: قولُهُ في الحديث: "فَقَدَ أَسَاءَ وظَلَمَ، أو ظَلَمَ وأَسَاءَ" داخلٌ في الشكِّ من (¬1) الراوي، لا أنَّهُ في لفظِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ الواوَ لمَّا لَمْ تقتضِ الرُّتبةَ، فلا فرقَ بين ظلم وأساء، وأساء وظلم، ولا اختلافَ في المعنى، ولو كانَ من لفظِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاقتضَى ذلك اختلافًا في المعنى. السابعة والخمسون: يجبُ النظرُ في مدلول الإساءةِ والظلم، هلْ هُما بمعنى واحد، أم لا؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "بين"، والتصويب من "ت".

وإذا اختلفَ معناهما، فهل بينَهما عمومٌ وخصوصٌ، أم لا؟ فإنْ كَان معناهما واحدًا، فعطفُ أحدِهما علَى الآخرِ من باب العطفِ عندَ اختلافِ اللفظ واتحادِ المعنى؛ كـ: أقوَى (¬1) وأقفرَ، والنأيِ والبعدِ، والكذب والمَيْن، فيما ورد من ذلك في أشعارهم (¬2)، وإنْ كَان بينهما اختلافٌ (¬3) * * * ¬

_ (¬1) أقوى: فَنيَ زادُه. (¬2) من ذلك قول عَنترة: حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم وقول الحُطيئة: ألا حبذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ ... وهندٌ أتى من دونها النأيُ والبعدُ وقول عَبيد بن الأبرص: أزَعَمتَ أنكَ قد قتلـ ... ـتَ سَراتنَا كذِبًا ومَيْنا (¬3) جاء في النسختين بياض، وعلى هامش "ت": "بياضٌ نحو الصفحة من الأصل".

الحديث الخامس

الحديث الخامس وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ (¬1) فَلْيُفْرِغْ عَلَى يَدِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي إنَائِهِ؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي فيمَ (¬2) بَاتَتْ يَدُهُ". أخرجه مسلم (¬3). ¬

_ (¬1) "ت" زيادة: "من نومه"، وليست في الأصل، ولا "صحيح مسلم"، و "الإمام" للمؤلف (1/ 461). (¬2) في الأصل و "ت": "أين"، والمثبت من "صحيح مسلم"، و "الإلمام" للمؤلف (6/ أ) بخط ابن عبد الهادي، وكذا في المطبوع منه (1/ 67). وهكذا ذكره المؤلف في "الإمام" (1/ 461). (¬3) * تخريج الحديث: رواه مسلم (278/ 88)، كتاب: الطهارة، باب: كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، به. ورواه مسلم (278/ 87)، من حديث عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، به. =

[وقد تقدَّم ذِكر أبي هُريرةَ] (¬1). ¬

_ = ورواه مسلم (278)، (1/ 233)، وأبو داود (103)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، من حديث الأعمش، عن أبي رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة، به. ثم رواه أبو داود (104)، من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، به قال: مرتين أو ثلاثًا، ولم يذكر أبا رزين. ورواه مسلم (278)، (1/ 233)، والترمذي (24)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، وابن ماجه (393)، كتاب: الطهارة، باب: الرجل يستيقظ من منامه، هل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، من حديث الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، به. ورواه النسائي (1)، كتاب: الطهارة، باب: تأويل قوله عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]، و (161)، باب: الوضوء من النوم، من حديث الأزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به. ورواه النسائي (441)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: الأمر بالوضوء من النوم، من حديث الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، به. قلت: وكلهم يقول "ثلاثًا"، وعند بعضهم تردد "مرتين أو ثلاثًا". وقد رواه البخاري (160)، كتاب: الوضوء، باب: الاستجمار وترًا، من حديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به، إلا أنه لم يذكر العدد. وكذا ذكر مسلم في "صحيحه" (1/ 233) عن ابن سيرين، والأعرج، وعبد الرحمن والد العلاء، وهمام بن منبه، وثابت مولى عبد الرحمن. (¬1) زيادة من "ت".

[الوجه] الأول: في تصحيحه

ثُمَّ الكلامُ عليهِ من وجوه: * الأول: في تصحيحه: وقد ذكرنا أنَّ مُسلمًا أخرجَهُ، والحديثُ لأبي هُريرةَ، رواهُ جماعةٌ: جابرُ بن عبدِ الله، وعبدُ اللهِ بن شقيق، وأبو رَزِين، وأبو صالح، وأبو سلمةَ، والأعرجَ، ومحمدُ بن سيرين، وعبدُ الرحمن والدُ العلاءِ، وهَمَّامُ بن مُنبِّه، وثابتٌ مولَى عبد الرحمن، وكلُّ هذه عندَ مسلم، ولم تُسقْ ألفاظُها كاملةً إلا لفظُ روايةِ جابرٍ، وروايةِ عبدِ اللهِ بنِ شقيقٍ. فأمَّا روايةُ جابرٍ فهيَ التي ذكرناها في الأصلِ، وأما روايةُ عبد الله ابن شقيق فلفظُها عندَهُ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُم مِنَ نومِهِ فلا يَغْمِسْ يدَهَ في الإناءِ حتَّى يغسلَهَا ثلاثًا؛ فإنَّهُ لا يَدْرِي أينَ باتَتْ يدُهُ" (¬1). وصدَّر مسلمٌ بروايةِ عبد اللهِ بن شقيقٍ، وأحالَ بالمثلِ في روايةِ أبي رَزِين، وأبي صالحٍ، وأبي سلمةَ، وابنِ المُسيِّبِ، ثمَّ ذكرَ روايةَ جابرٍ، وتابعَ بروايةِ الأعرجِ، ومحمدٍ، ووالدِ العلاءِ، وهَمَّامٍ، وثابتٍ مولَى عبدِ الرحمنِ، مِن غيرِ سياقةِ اللفظِ، وقالَ في روايتهِم جميعًا: عن (¬2) النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديثِ؛ كُلُّهُم يقولُ: "حتَّى يغسِلَها" (¬3)، ولمْ ¬

_ (¬1) وهي المتقدم تخريجها عنده برقم (278/ 87). (¬2) في الأصل و "ت": "إن"، والتصويب من "صحيح مسلم". (¬3) في الأصل: "غسلها"، والمثبت من "ت".

الوجه الثاني: في شيء من العربية، وفيه مسائل

يَقُلْ واحدٌ منهم: "ثلاثًا"، إلا ما قدَّمنا من روايةِ جابرٍ، وابنِ المُسيِّبِ، وأبي سلمةَ، وعبدِ اللهِ بنِ شقيقٍ، وأبي صالحٍ، وأبي رَزين، فإنَّ في حديثِهِم ذِكرَ الثلاث (¬1). * * * * الوجهُ الثاني: في شيءٍ من العربيةِ، وفيه مسائل: الأولَى: استيقظَ: (استفعلَ) من اليَقَظةِ (¬2). الثانية: (ظلَّ) و (باتَ) يكونانِ تامَّينِ وناقصينِ، قالَ أبو الحسنِ ابنُ عُصفور: إنْ كَانا تامَّين كانتْ (ظلَّ) تدُلُّ علَى إقامةِ الفاعلِ (¬3) نهَارَهُ، و (باتَ) علَى إقامةِ الفاعلِ ليلَهُ. وإنْ كَانا ناقصينِ جازَ أنْ يكونَ فيهِما [ضميرُ] (¬4) أمرٍ وشأن، وأنْ لا، وتكونُ (ظلَّ) للدلالةِ علَى وقوعِ مضمونِ الجملةِ في النهارِ، و (باتَ) علَى وقوعِ مضمونِ الجملةِ في الليلِ، فيكونُ (ظلَّ زيدٌ قائمًا)؛ أي: وقعَ قيامُهُ في نهارٍ، و (باتَ زيدٌ ضاحكًا)؛ أي: وقَعَ ضَحِكُهُ في الليلِ. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "بياض نحو سطرين من الأصل"، ولم يشر إليه في "م". (¬2) جاء على هامش "ت": "بياض نحو سطرين من الأصل"، ولم يشر إليه في "م". (¬3) "ت": "القائل". (¬4) زيادة من "ت".

وقدْ يكونانِ بمعنَى صارَ، ومنهُ قولُهُ تعالَى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58]، وقد حُمِلَ [قولُهُ] (¬1) - صلى الله عليه وسلم -: "فإنَّ أحدَكُم لا يَدْرِي أينَ باتَتْ يدُهُ" علَى ذلكَ؛ أي: صارتْ (¬2). وقالَ أبو موسَى الجُزُوليُّ (¬3): و (ظلَّ) لمصاحبةِ الصفةِ الموصوفَ نهارَهُ و (باتَ) ليلَهُ. قالَ الأُبَّدِيُّ الشارحُ: يعني: أنَّ (ظلَّ) و (باتَ) ناقصين يدُلان علَى وقوعِ مضمونِ الجملةِ في النهارِ والليلِ، وتكونُ بمعنَى صارَ؛ كقولهِ تعالَى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58]؛ أي: صار، وقوله تعالَى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65]، وقوله عليه السلام: "فإنَّ أحدَكُم لا يدري أينَ باتَتْ يدُهُ"؛ أي: صارتْ، ومعناهُما تامَّتين: أقامَ نهارًا أو ليلًا. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "شرح الجمل" لابن عصفور (1/ 424). (¬3) هو الإمام أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي البربري النحوي، كان إمامًا في علم النحو، كثير الاطلاع على دقائقه وغريبه وشاذه، صنف المقدمة المسماة بـ"القانون"، أتى فيها بالعجائب، وهي غاية في الإيجاز مع الاشتمال على شيء كثير من النحو، ولم يسبق إلى مثلها، واعتنى بها جماعة من الفضلاء فشرحوها؛ كابن مالك، توفي سنة (610 هـ) بمراكش. انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 488)، و "كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1800).

الثالثة

الثالثة: إنْ كَانَتْ (باتَ) تامةً (¬1). الرابعة: أفعالُ القُلوبِ، [ومنها] (¬2) درَى، تُعلَّقُ عن العملِ في اللفظِ إذا حالَ بينها وبينَ معمُولهِا ما من شأنِهِ أنْ يكونَ لهُ صدرُ الكلامِ، وأنْ يقطَعَ ما بعدَهُ عمَّا قبلَهُ، فيكونَ [ذلِكَ] (¬3) الحائلُ مانعاً من العملِ في لفظِ ما بعدَها من المبتدأِ والخبرِ اللذينِ لولا المانعُ الداخلُ لأفضَى الفعلُ إليهِما، فنصَبَهُما علَى أنَّهُما مفعولان لهٌ. الخامسة: هذه الموانعُ المشارُ إليها، مِنها: أنْ يكونَ المعمولُ اسمَ استفهامِ: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ} [طه: 71]. أو مضافاً إليه: علِمتُ صاحِبَ أيِّهُم [أنتَ] (¬4). أو همزةُ (¬5) الاستفهامِ: علِمتُ أزيدٌ قائمٌ أو عمرو؟ أو لامُ الابتداءِ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102]. ¬

_ (¬1) بياض في النسختين، وجاء على هامش "ت": "بياضٌ نحو خمسة أسطر من الأصل". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) معطوف على المصدر المؤول من أن ويكون، وهو مبتدأ خبره متعلق بـ (منها).

السادسة

أو (¬1) دخولُ (إنَّ) وفي خبرها اللامُ: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. أو دخولُ ما النافية: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65]، {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت: 48]. و (إنْ) بمعنَى النفي (¬2). السادسة: إنما منعَتْ هذهِ الموانعُ عندهُم؛ لأنَّ العرَبَ جَعَلَتْ لها صدرَ الكلامِ؛ أي: لمْ يستعمِلوها إلا في صدرِ جملةٍ، وإعمالُ الفعلِ الذي قبلَها في المبتدأِ و (¬3) الخبر يُخرجُها عمَّا وضِعَتْ له منَ الصدريَّة (¬4). وقالَ بعضُ المتأخرينَ في لامِ الابتداءِ: إنَّ من خصائصها أنْ تقطعَ ما بعدها عمَّا قبلها، وإلا لمَ (¬5) دُعيَتْ لامُ الابتداء؟ قالَ: إنما سُمِّيتَ هانئاً (¬6) لتَهنأ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "و" بدل "أو"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "شرح الجمل" لابن عصفور (1/ 326). وانظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 543). (¬3) في الأصل: "أو"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "المصدرية"، والتصويب من "ت". (¬5) "ت": "فلم". (¬6) في الأصل: "تهانئاً"، والمثبت من "ت".

السابعة

وهذا استدلالٌ طريفٌ منْ حيثُ اللفظُ إلا أنَّهُ غير عامٍّ في جميعِ الموانعِ، ولم يَقصِد العمومَ. السابعة: هذا التعليقُ إنما هوَ بالنِّسبَةِ إلَى العملِ في اللفظِ، وأمَّا الموضعُ فإنَّ الفعلَ يعملُ فيه، واستدَلَّ علَى ذلكَ بقولِ كُثيِّرٍ [من الطويل]: وما [كُنْتُ] (¬1) أَدْرِي قَبْلَ عَزَّةَ ما الهَوَى ... ولا مُوجِعاتِ القَلبِ حتَّى تَوَلَّتِ (¬2) فعَطْفُ (موجعاتِ)، وهو منصوبٌ، علَى الجملةِ التي هِيَ (ما الهوَى)، دليلٌ علَى أنَّ الجملةَ في موضعِ النصبِ، وهذا الفرقُ بين التعليقِ والإلغاءِ؛ لأنَّ الإلغاءَ لا يعملُ في لفظٍ ولا موضعٍ؛ كقولِكَ: (زيدٌ قائمٌ ظَنَنتُ)، ويفترقانِ أيضاً في الوجوبِ والجوازِ، فالتعليقُ في مَحلِّهِ واجبٌ، والإلغاءُ إبطالُ العملِ علَى سبيلِ الجوازِ. الثامنة: التعليقُ بالعشرة لازمٌ لمعاني هذهِ الألفاظِ، فالعلمُ لا بدَّ لهُ من مُتَعلقٍ، وهو المعلومُ، والظنُّ لا بدَّ لهُ من مُتَعلقٍ، وهو المظنونُ، وكذلكَ سائِرُها، وإذا كانَ كذلِكَ ونَظَرْنا إلَى المعنَى فلا بُدَّ وأن نعلمَ مُتَعلقَ هذهِ الأفعال فيما تدخُلُ عليهِ، وقد يظهرُ ذلكَ في بعضِها، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "ديوانه" (ص: 95)، (ق 3/ 4).

وُيشكِلُ في بعضها؛ فأمَّا في (علِمت أزيدٌ قائمٌ)، و (ما زيدٌ قائمٌ)، و (إنَّ زيداً لقائمٌ)، فلكَ أن تجعلَ المعنَى مدلولَ تلكَ الألفاظ، فـ (علمت لزيدٌ قائمٌ)، و (علمتُ أنَّ زيداً لقائمٌ) معناه: (علمتُ قيامَ زيد)، وكذلِكَ (علمتُ ما زيدٌ قائمٌ) معناهُ: عَدَمَ قيامِ زيدٍ، أمَّا الاستفهامُ فمُشكِلٌ، ولفظُ الحديثِ الذي نحن فيهِ، وهوَ: "لا يدري فيمَ باتَتْ يدُه"، أو "أينَ باتتْ يدُه"، منْ هذا النوعِ. ووجهُ الإشكالِ: أنَّا إذا نظرنا إلَى هذا التعليقِ لمْ يمكنْ أنْ يكونَ المتعلقُ (¬1) لا اللفظَ ولا مدلولَ اللفظِ؛ أما اللفظُ فإنِّما هو صيغةُ (أزيدٌ أم عمرو)، وليسَ المرادُ تعلقَ العلمِ بذلكَ، وكذلكَ المدلولُ، هو الاستفهامُ، وليس الاستفهامُ متعلقَ العلمِ؛ لأنَّهُ ليسَ المرادُ (علِمتُ الاستفهامَ)، فهو مشكلٌ. قالَ الشيخُ العلامةُ أبو عَمرو بنُ الحاجبِ - رحمَهُ الله - في قولكَ: (علِمتُ أزيدٌ عندَكَ أم عَمرو) مُعلِّلاً لامتناعِ الإِعمالِ: لأنَّ ما قبلَ الاستفهامِ لا يعملُ فيما بعدَهُ، قالَ: وإنْ كَان في المعنَى مُراداً، ومعناهُ علِمتَ أحَدَهُما بعينهِ عندَكَ منهُما؛ لأنَّ المعنَى علِمتُ جوابَ ذلكَ؛ وجوابُ ذلك إنما هو بالمتعيِّنِ (¬2)؛ [أو قالَ: بالتعيُّن] (¬3). ¬

_ (¬1) "ت": "بالتعلّق". (¬2) في الأصل: "بالتعيين"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

الوجه الثالث: في المباحث والفوائد

وكذلكَ قالَ في (علِمتُ لزيدٌ مُنطلقٌ): إنَّ المعنَى: (علِمتُ زيداً مُنطلقاً) (¬1). وهذا الذي ذَكَرَهُ في الاستفهامِ، وأنَّ المعنَى علِمتُ جوابَ ذلك، يقتضي أنْ يكونَ هاهُنا حذفُ مضاف. * * * * الوجهُ الثالث: في المباحثِ والفوائد (¬2): نقدم (¬3) في ابتدائِها قواعدَ أُصُوليَّة، ونبينُ في المسائلِ وجهَ الحاجةِ إليها. الأولَى: من القواعدِ الأصوليةِ أخذُ التعليلِ منَ (الفاءِ)؛ إمَّا بأنْ يتقدمَ الحكمُ علَى ما دَخَلَتْ عليهِ، وتكونُ داخلةً علَى العِلَّةِ: "لا تُخمرُوا رأسَهُ؛ فإنَّهُ يُبعَثُ يومَ القِيامةِ مُلَبِّياً" (¬4)، "زَمِّلُوهُم بكُلُومِهِم؛ فإنَّهُم يُحشَرونَ يومَ القيامةِ، وأوداجُهُم تَشخُبُ دَماً" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الأمالي النحوية" لابن الحاجب (2/ 749). (¬2) "ت": "في الفوائد والمباحث". (¬3) "ت": "ونقّدم". (¬4) رواه البخاري (1206)، كتاب: الجنائز، باب: الكفن في ثوبين، ومسلم (1206)، كتاب: الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬5) رواه النسائي (2002)، كتاب: الجنائز، باب: مواراة الشهيد في دمه، من =

الثانية

وإمَّا بأن تدخل (الفاءُ) علَى الحُكمِ، فتكونُ العلةُ متقدمةً: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة:38]، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]. الثانية: قد اشتركَ الأمرانِ في التعليلِ؛ أعني: تقديمَ الحكمِ علَى ما دخلتْ عليهِ الفاءُ [ودُخولَ الفاءِ] (¬1) علَى الحكمِ، لكنَّ الذي تَتقدَّمُ العِلةُ فيهِ علَى الحكمِ مُرجِّحٌ بالإشعارِ بالعلَّيةِ علَى التي تَدخُلُ الفاءُ فيه علَى الحكمِ، وعُلِّلَ بأنَّ إشعارَ العلةِ بالمعلولِ أقوَى [من إشعارِ] (¬2) المعلولِ بالعلةِ؛ لأنَّ الطردَ واجبٌ في العللِ، والعكسُ غيرُ واجبٍ فيها (¬3). الثالثة: (إن) المكسورةُ المشدَّدة (¬4) المصدَّرُ بها الجملةُ تدُلُّ علَى التعليلِ: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الاسراء: 26 - 27]، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسرا: 34] {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ ¬

_ = حديث عبد الله بن ثعلبة - رضي الله عنه -، بلفظ: "زملوهم بدمائهم، فإنه ليس كلم يكلم في الله، إلا يأتي يوم القيامة يدمى، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك". (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "الإحكام" للآمدي (3/ 279)، و "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصفهاني" (3/ 91). (¬4) "ت": "المشدودة".

الرابعة

عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91]، "إنِّهَا ليسَتْ بنَجَسٍ؛ إنَّهَا من الطَّوَّافينِ عليكُمْ" (¬1). الرابعة: اللفظُ العامُّ إذا عادَ إليهِ ضميرٌ يتأخرُ (¬2) عنهُ يقتضي تخصيصَ الحكمِ ببعضِ أفرادِهِ، فهل يُوجِبُ أنْ يكونَ ذلِكَ العامُّ خاصاً؛ لأجلِ عَودِ الضميرِ علَى بعضِ أفرادِهِ فقط، أو لا، ويبقَى (¬3) علَى عمومِهِ؟ اختلفوا فيه (¬4). الخامسة: ينبغي أنْ يُنظَرَ أنَّ مناسبَةَ الوصفِ للحكمِ هل تُوجِبُ مناسبةَ نقيضِهِ لنقيضِه، أو لا توجبُ إلا عدمَ مناسبةِ النقيضِ لذلكَ الحكمِ (¬5)؟ ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 308)، و"البحر المحيط" للزركشي (7/ 244). (¬2) "ت": "متأخر". (¬3) "ت": "فيبقى". (¬4) انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصفهاني" (2/ 338)، و"شرح تنقيح الفصول" للقرافي (ص: 222)، و"الإحكام" للآمدي (3/ 205)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 307). قلت: ومذهب الجمهور عدم العَوْد. (¬5) انظر: "البحر المحيط" للزركشي (7/ 401).

السادسة

السادسة: [النظرُ] (¬1) في حكمِ مفهومِ الصفةِ (¬2) وغيرِها. السابعة: لنا نظرٌ [في] (¬3) أنَّ [لفظَ] (¬4) الوَضوءِ - بالفتحِ -[هل] (¬5) هو دالٌّ علَى مُطلَقِ الماءِ حتَّى يكونَ مُرادفاً لهُ، إذْ (¬6) هو دالٌّ علَى الماءِ بقيدِ نسبتِهِ إلَى الوضوءِ، وموجودٌ في كلامِهِم: أنَّ الوَضوءَ - بالفتحِ - عبارةٌ عن الماءِ، والوُضوءُ - بالضمِّ - المصدرُ، مثلَ: الوَقود والوُقود. ورأيتُ في كتابِ "المسالكِ" المنسوب للقاضي أبي بكر بن العربي حكايَتَهُ عن الفراءِ أنَّهُ قال: الوَضوءُ - بالفتح -: اسمُ الماء الذي يُتَوَضأُ به، وبالضم: هو الفعلُ، مصدرُ وضأَ وضاءَةً ووضُوَءاً. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) مفهوم الصفة: تعليق الحكم على الذات بأحد الأوصاف، والمراد بالصفة عند الأصوليين: تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر مختص ليس بشرط ولا غاية. انظر: "البحر المحيط" للزركشي (5/ 155). وقد قال بمفهوم الصفة: الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما كثير، ونفاه الإمام أبو حنيفة وغيره. انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصفهاني" (2/ 447). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "أو" بدل "إذ".

الثامنة

فإنْ كَان قوله: اسمُ الماءِ الذي يُتَوضَّأُ بهِ، أرادَ به هذا المعنَى الذي أشرنا إليه، وأنَّ تسميتَهُ (¬1) بذلك مفيدةٌ بالنِّسبَةِ إلَى الوضوءِ، فقد حصَلَ النقلُ عن أهلِ اللغةِ علَى هذا التقديرِ. وإنْ أُريدَ بهِ: الذي من شأنِهِ ومن صِفَتِهِ أنْ يُستعملُ في الوضوءِ، فلا يفيدُ بهذا (¬2) الذي ذكرناه، وقد كانَ وقعَ لي أنْ يستدلَّ في هذا بما وقَعَ في حديثِ ميمونةَ - رضيَ اللهُ عنها - في صفةِ الغُسل (¬3). الثامنة: اللفظُ يقتضي تعليقَ الحكمِ بمُسمَّى النوم، فما يُسمَّى (¬4) نوماً يتَرَتّب عليه الحكمُ؛ طويلاً كانَ، أو قصيراً، والحنابلةُ اختلفوا: قالَ صاحبُ "المُغني": والنومُ الذي يتعلقُ به الأمرُ بغسلِ اليدِ ما نقَضَ الوضوءَ؛ ذكَرَهُ القاضي؛ لعمومِ الخبرِ في النومِ. وقالَ ابنُ عَقيل: هو ما زادَ علَى نصفِ الليلِ؛ لأنَّه لا يكونُ بائتاً إلا بذلكَ، واستشهدَ بالدفعِ منَ المزدلفةِ (¬5). والاعتراضُ علَى الأوَّلِ: أنَّ انتقاضَ الوضوءِ (¬6) لا يدورُ علَى ¬

_ (¬1) في الأصل: "سميته"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "هذا"، والمثبت من "ت". (¬3) وهو ما رواه البخاري (246)، كتاب: الغسل، باب: الوضوء قبل الغسل، ومسلم (317)، كتاب: الحيض، باب: صفة غسل الجنابة. (¬4) "ت": "سمّي". (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 72). (¬6) "ت": "أن ما نقض الوضوء".

مُسمَّى النومِ وجوداً أو عدَماً؛ فإنَّ القاعِدَ إذا نامَ يُحكَمُ بعدمِ انتقاضِ طهارتهِ، ولا ينتفي عنهُ اسمُ النومِ، وفي حديثِ أنسٍ [الصحيح] (¬1): كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ينامونَ، ثم يُصلُّونَ، ولا يَتَوضَّؤون (¬2)، فأثبَتَ النومَ، ونفَى الانتقاضَ. ويقولُ الفُقهاءُ: نومُ القاعدِ لا يَنقُضُ الطهارةَ. والحكمُ هاهُنا مُعَلقٌ بنفسِ المُسمَّى، فَمَن عَلَّقَهُ بما ينقُضُ فقد زادَ قيداً فيما يتَرَتَّبُ عليهِ الحكمُ، وعليه فيه الدليلُ، ولا يصِحُّ القولُ بإدخالِهِ في عمومِ الخبرِ؛ فإنَّهُ لمْ يقلْ بالعمومِ حينئذٍ؛ أي: علَى تقديرِ اعتبارِ النومِ الناقضِ، بل بالخصوصِ؛ فإنَّ النومَ الناقضَ أخصُّ من مُطلقِ النومِ. والاعتراض علَى الثاني من وجهين: أحدهما: أنَّهُ سَنُبينُ أنَّ العِلَّةَ في هذا الحُكمِ احتمالُ النجاسةِ، أو التلبُّس بالمُستقذراتِ؛ صيانةً للماءِ، وهذا مجزومٌ بهِ لا يتَطرَّقُ إليهِ شَكٌّ، وفي التقيِّيدِ بنصفِ الليلِ فما فوقَهُ إبطالٌ لهذا التعليلِ؛ فإنَّ إمكانَ الاتصالِ بالنجاسةِ أو المستقذرِ لا يختَصُّ بنصفِ الليلِ قطعاً. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه مسلم (376)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء.

[و] (¬1) الثاني: إذا كانَ الأمرُ كما ذكرنا (¬2)، فـ (أينَ) سؤالٌ عن المكانِ، فإنَّ (¬3) تقديرَ الكلامِ: فإنَّهُ لا يدري المكانَ الذي أقامَتْ يدُهُ فيهِ نصفَ الليلِ، [وهذا لا يصِحُّ؛ لأنَّ مثلَ هذا الكلامِ، يقتضي حصولَ الإقامةِ نصفَ الليلِ] (¬4)، كما إذا قيلَ: لا أدري أيُّ بلدٍ أقامَ فيهِ فلانٌ شهراً؟ فإنَّه يقتضي أنْ يكونَ قد أقامَ ببلدٍ شهراً، إلا أنَّ المتكلمَ لا يدري عينَ (¬5) ذلكَ المكانِ. وكذا لو قالَ: لا أدري أيُّ الدارينِ دخَلَها فلانٌ؟ فإنَّه يقتضي أنَّهُ قد عَلِمَ دُخولَ إحداهُما، ولم يجهل إلا التعيينَ. وكذلكَ في هذا النظيرِ يقتضي (¬6) أنْ تكونَ اليدُ أقامَتْ في مكانٍ من بدنِهِ نصفَ الليلِ، إلا أنَّهُ لمْ يَدْرِ عينَهُ، والحكمُ عامٌّ - كما دلَّ الحديثُ عليهِ - في كلِّ مُستيقظٍ من النومِ، فيلزَمُ علَى هذا التقديرِ أنْ يكونَ إقامةَ اليدِ في مكانٍ نصفَ الليلِ حاصلٌ لكلِّ مستيقظٍ، وهذا باطلٌ جَزماً. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "ذكر". (¬3) "ت": "فيكون" بدل "فإن". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "غير"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "فيقتضي".

التاسعة

التاسعة: تعليقُ الحكمِ بالاستيقاظِ تعليقٌ لهُ بالصِّفةِ، فمَن يقولُ بدلالتِهِ علَى نفي الحُكمِ عما عَدَاهُ (¬1) يحتاجُ إلَى اعتذارٍ عن هذا؛ لأنَّ استحبابَ الغسلِ لا يَختَصُّ بالاستيقاظِ من النومِ عندَ الفقهاءِ، بل هو مُستحَبٌ في [ابتداءِ] (¬2) كلِّ وضوءٍ، وكلامُ الشافعيةِ مُختلفٌ [فيه] (¬3)، فمنهُم من يُطلقُ الاستحبابَ في ألفاظِهِ عندَ الكلامِ علَى هذا الحكمِ، والشيخُ أبو إسحاق لمَّا قالَ في "تنبيهِهِ": ثمَّ يغسِلُ يديهِ ثلاثاً، فإنْ كَان قد قامَ من النومِ، كُرِهَ له أنْ يَغمسَ كفَّيهِ في الإناءِ قبلَ أنْ يغسلَهُما ثلاثاً (¬4). اقتضَى كلامُه أنَّ الغسلَ مُستحَبٌّ في صفةِ الوضوءِ؛ وأنَّ [كراهةَ] (¬5) الغَمسِ فيما إذا قامَ منَ النومِ. ومعلومٌ أنَّ استحبابَ الفعلِ لا يلزَمُ منهُ كراهةُ التركِ، فعلَى هذا (¬6) يمكنُ أنْ يقالَ: إنَّهُ وَفَّينا بدلالةِ المفهومِ؛ لأنَّ الثابتَ عندَ الاستيقاظِ من النومِ هو الكراهةُ، وأنها مُنتَفيةٌ عندَ غيرِ هذهِ الحالةِ؛ ¬

_ (¬1) "ت": "عدا الصفة". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "التنبيه" للشيرازي (ص: 15). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت" زيادة: "حينئذ".

العاشرة

أعني: في ابتداءِ الوضوءِ؛ لما بيَّنا أنَّ استحبابَ الفعلِ لا تُلازمُهُ كراهةُ [التركِ، ولا استحبابُ تركِ الفعلِ مُلازِمةٌ كراهةَ] (¬1) الفعل. العاشرة: لمْ يخُصُّوا الحكمَ بحالةِ الاستيقاظِ؛ كما أشرنا إليهِ؛ أعني: طلبيةَ الغسلِ قبلَ الإدخالِ في الإناءِ. قالَ إمامُ الحرمينِ في "النهايةِ" بعد أنْ ذكرَ الاستحبابَ المذكورَ، ثمَّ قالَ: [قال] (¬2) الأئمةُ: هذهِ السُّنَّةُ قائمةٌ وإنْ استيقنَ المرءُ طهارةَ يدِهِ، ولا فرقَ بين أنْ يستيقظَ منْ [نومِهِ] (¬3)، وبينَ أنْ يُقدمَ علَى الوضوءِ عن دوامِ اليقظةِ (¬4). وقالَ الشيخُ أبو القاسمِ البصريُّ المالكي بعد أنْ ذكرَ الاستحبابَ عندَ الاستيقاظِ من النومِ: وكذلكَ كلُّ مُنتقضِ الطهارةِ من متغوطٍ وبائلٍ وجُنُبٍ وحائضٍ وماسٍّ لذَكَرِهِ ومُلامِسٍ لزوجَتِهِ. وإنما حَمَلهُم علَى [هذا] (¬5) النظرُ إلَى العلَّةِ المذكورةِ في الحديثِ، وأنها موجودةٌ في غيرِ حالةِ النوم، وهي إمكانُ تَطوافُ (¬6) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) وانظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 411). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "طواف".

الحادية عشرة

اليدِ علَى البدنِ، وقد يوجَدُ ذلكَ منَ المستيقِظِ (¬1) في حالِ غفلاتِه، ولعلَّ ذلكَ أكثرُ وُقوعاً منَ المستيقِظِ (¬2) في تصرفاتِهِ وتحركاتِهِ، وإنما جرَى ذكرُ النومِ؛ لأنهُ مظنَّةُ الغفلَةِ غالباً، وفي ذكرِ السببِ المرتبِ علَى النومِ ما يُشعِرُ بتعميم المعنَى، والحُكمُ [يَعمُّ] (¬3) بعمومِ علَّتِهِ. الحادية عشرة: في مطاوي هذا الكلامِ الذي حَكيناهُ ما يُشعِرُ بأنَّ العلَّةَ في حالِ اليقَظَةِ؛ [أعني:] (¬4) التطوافَ، أكثرُ منها في حالِ النومِ، ورُبَّما ادُّعي ذلك، فإن صحَّ فيكونُ هذا من بابِ مفهومِ الموافقةِ، ولا يحتاجُ إلَى الجوابِ عن اقتضاءِ المفهومِ مخالفةَ الحكمِ. الثانية عشرة: قد نقلنا نصَّ إمامِ الحرمينِ علَى: أن هذه السنَّةَ قائمةٌ، وإنْ استيقنَ طهارةَ يديهِ (¬5)، وقالَ أيضاً: [و] (¬6) لو استيقنَ المتوضِّئُ طهارةَ يديهِ، فغَسلُ اليدين في حَقِّهِ سنةٌ أيضاً. وبعضُ المتأخرينَ عن زمانِهِ يَذكُرُ فيما إذا لمْ يكنْ قد قامَ منَ النومِ؛ أي: وهو يتحقَّقُ طهارةَ [يديه] (¬7): أنَّهُ بالخيارِ؛ إنْ شاءَ غمَسَ ¬

_ (¬1) في الأصل "في المتيقظ"، والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "المتيقظ"، والتصويب من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "يده". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) زيادة من "ت".

يديهِ (¬1) في الإناءِ، وغرَفَ منهُ الماءَ، ثمَّ يَغسِلُ كفَّيهِ، وإنْ شاءَ أفرغَ الماءَ علَى يديهِ فغسلَهُما، ثمَّ غَمَسَ؛ أي: يديهِ (¬2) في الإناءِ (¬3). [و] (¬4) ظاهرُ هذا الكلامِ إنَّما هو التخييرُ مِن غيرِ [ترجيحِ] (¬5) الاستحبابِ. وقالَ: فإنْ (¬6) لمْ يدرِ [حالهما] (¬7)، أو كان قد قامَ منَ النومِ، ولم يدرِ حالهما، فالمُستحَبُّ أنْ لا يَغمِسَ يدَهُ في الإناءِ حتَّى يغسِلَهُما (¬8) ثلاثاً. قالَ: ومِن أصحابِنا مَنْ قالَ: غَسلُ اليدينِ (¬9) قبلَ إدخالهِما [في الإناءِ] (¬10) مُستَحَبٌّ، وإنْ تيقَّنَ طهارةَ يدهِ، والمذهبُ الأولُ (¬11). ¬

_ (¬1) "ت": "يده". (¬2) "ت": "يده". (¬3) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 411). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "إن"، والمثبت من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) "ت": "يغسلها". (¬9) "ت": "الكفين". (¬10) زيادة من "ت". (¬11) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 411).

الثالثة عشرة

وهذا ممَّن أطلَقَ لفظَ الاستحبابِ علَى حالةِ القيامِ من النومِ. الثالثة عشرة: المالكيةُ يذكُرونَ خِلافاً في أنَّ هذهِ (¬1) عِبادةٌ، أو للنظافةِ؟ ويريدونَ بالعبادةِ التَّعبُّدَ، وبُنِيَ عليهِ ما إذا تيقَّنَ طهارةَ يدِهِ، وأنَّهُ هل يغسلهُما مجموعتينِ أو مُتفرقتين، وأنَّهُ هل تُشتَرطُ النيةُ (¬2)؟ فعلَى التعبُّدِ تثبُتُ هذهِ الأحكامُ؛ أعني: الغَسلَ مع تَيقُّن الطهارةِ، وغَسلَهُما مفردتينِ، واشتراطَ النيةِ، ومع التعليلِ بالنظافةِ تنتفي هذهِ الأحكامُ. وفي كلامِ بعضِ الحنابلةِ [أيضاً] (¬3) ما يقتضي أنَّهُ تعبد، ذَكرَ ذلك في تعليلٍ ومُباحثةٍ أورَدَهُما (¬4). فنقولُ: إنْ كَان مَحَلُّ هذا الخلافِ استحبابَ غسلِ اليدينِ في ابتداء الوضوءِ - وإنْ لمْ يكنْ نومٌ - فهذا قريبٌ، وإنْ كَان مَحَلُّهُ ما إذا قامَ من النومِ فهو بعيدٌ [جدًّا] (¬5)؛ لما يَدُلُّ عليهِ اللفظُ من التعليلِ، وتقتَضيهُ مناسبةُ الوصفِ للحكمِ، فلا وجهَ لقولِ من يقولُ بالتَّعبُّدِ هاهُنا. ¬

_ (¬1) "ت": "هذا". (¬2) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 243). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 71). (¬5) زيادة من "ت".

الرابعة عشرة

الرابعة عشرة: يستدلُّ المالكيةُ علَى التعبُّدِ - أو مَنْ قالَ منهم - بطلبِ العددِ، ويقولونَ: لو كان للنظافةِ [لم يُعتَدَّ بالعدد] (¬1)، وكذا قالوا في تعدادِ المراتِ في غسلِ الإناءِ من ولوغِ الكلبِ. وهو ضعيفٌ؛ لأنَّهُ لا يلزمُ من كونِ الشيءِ مَقصوداً انحصارُ المقصودِ فيهِ، وقد يكونُ معهُ شيءٌ آخرُ مقصودٌ، وهو زيادةُ الاستظهارِ في التطهيرِ بالعددِ. الخامسة عشرة: قد ذكرنا أن المُعَمِّمين (¬2) للحكمِ يُعَلِّلُونهُ بعُمومِ العِلةِ، وهاهُنا طريقٌ (¬3) أخرَى تُخيَّلُ من خيالِ الفقهاءِ، وهو أنَّ أسبابَ النجاسةِ، قد يخفَى دَرْكُها علَى مُعظَمِ الناسِ، فيَعتقدُ انتفاءَ السببِ يقيناً، وليس الأمرُ علَى ما يَعتقدُهُ، فاطَّردَتِ السُّنَّةُ علَى الناسِ كافةً. وشُبِّهَ هذا بالعِدَّةِ المنوطَةِ بالوطءِ؛ فإنها تَجِبُ لتبرِئَةِ الرحِمِ، وقد تجِبُ مع القَطعِ ببراءةِ الرحمِ تعميماً للبابِ. قال: وقالَ بعضُ المُصَنفين: إذا استيقَنَ المرءُ طهارةَ يدَيهِ فلا عليهِ أنْ يَغمِسَ يديهِ، ولكِنَّا نستحبُ غَسلَ اليدينِ مع هذا (¬4). قالَ: وهذا عندي خطأٌ، فليُقَدِّم غَسلَ اليدينِ علَى غَمسِهما، إذ الغرضُ تعميمُ رعايةِ الاحتياطِ في حقُوقِ الناسِ، وذلك يتعلقُ بالماءِ. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "المعلل". (¬3) "ت": "طريقة". (¬4) "ت": "ذلك".

السادسة عشرة

وهذا الذي قالَهُ (¬1) فيهِ نظرٌ؛ لأنَّهُ يقتضي ثبوتَ هذا الحُكمِ في حالةِ التَّيَقُّنِ، والحكمةُ (¬2) إذا تُيُقِّنَ انتفاؤُها لا نثُبِتُ الحكمَ بالمظنةِ علَى قاعدةِ مذهبِ الشافعي - رضي الله عنه - بدليلِ مسألةِ المشرقي والمغربية. وأما العِدَّةُ والاستبراءُ فقد عُلِمَ أنَّ المقصودَ بهما براءةُ الرحِمِ جَزماً، وصيانةُ المياهِ عن الاختلاطِ، فمهما احتملَ وقوعُ هذ المفسدةِ وجَبَ الحُكمُ بالتحريمِ جَرياً علَى ظواهِرِ (¬3) العموماتِ والألفاظِ الدالةِ علَى الحكمِ؛ أعني: الوجودب، وإنْ انتفَى الاحتمالُ وحصلَ القطعُ بانتفاءِ المفسدةِ؛ فإِمَّا أنْ يقومَ الإجماعُ علَى الوجوبِ، أو لا، فإنْ قامَ وجَبَ اتباعُهُ، ويكونُ الدليلُ علَى الحكمِ هاهُنا هو الإجماعُ، وإنْ لمْ يقُمْ إجماعٌ علَى ذلِكَ الحُكمِ فالقياسُ الإباحةُ، وعلَى من يوجِبُ التحريمَ مع انتفاءِ العلةِ قطعاً الدليلُ (¬4). السادسة عشرة: ما تقدمَ في القواعدِ من اقتضاءِ (الفاء) و (إنّ) للتعليلِ، ومقتضَى ذلك تعليلُ الأمرِ أو النهي السابقِ علَى دخولِ الفاءِ بعدمِ الدرايةِ المذكورةِ، أعني: دراية "أينَ باتَتْ يدُهُ"، ومناسبةُ هذا ¬

_ (¬1) "ت": "ذكره". (¬2) جاء على هامش "ت": "لعله: والعِلَّة". (¬3) "ت": "ظاهر". (¬4) "ت": "للدليل".

السابعة عشرة

تحتاجُ إلَى أمرٍ آخرَ، وهو أنَّ الغَمسَ قبلَ الغَسلِ يُفضِي إلَى مَفسَدَةٍ، أو قد يُفضِي إليها، فبهذا تتِمُّ المناسبةُ. فَمِنَ الناسِ من يقولُ: إنَّ التطوافَ قد يُفضِي إلَى مُمَاسةِ مَحَلِّ النجاسةِ؛ أي: محلِّ الاستنجاءِ بالأحجارِ؛ لأنَّهُ كانَ عادَتَهُم. ومنهُم من يُحيلُ ذلِكَ علَى أَعَم مِنَ النجاسةِ، وهوَ مُماسةُ ما يُستَقذَر. والأول: مُقتَضَى مذهبِ [مَنْ يرَى أنَّ النجاسةَ تُفسِدُ قليلَ الماءِ. والثاني: مُقتَضَى مذهبِ] (¬1) من يرى أنَّهُ لا يَفسُدُ الماءُ إلا بالتغيرِ. السابعة عشرة: فإذا كانَ كلُّ واحدٍ مِنَ الأمرينِ مُحتَمَلاً، فلا بُدَّ لِكُلِّ واحدٍ ممَّنْ قالَ بقولٍ [من] (¬2) ترجيحِ مَذهَبِهِ (¬3)، فَيُمكِنُ أنْ يُرَجَّحَ الأولُ بأنَّ عنايةَ الشرعِ بالتحرُّزِ عنِ النجَاسَةِ أقوَى مِنْ عنايتِهِ بالتحرُّزِ عن المستقذراتِ، فالظاهرُ انصرافُ الحكمِ إليهِ. ويُمكِنُ الثاني أنْ يُرَجَّحَ (¬4) بأنَّ مُلامسةَ النائمِ المستقذراتِ أكثرُ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "مذهب"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "ويمكن أن يرجّح الثاني".

وأقربُ (¬1) من ملامَسَتِهِ لِمَحَلِّ الاستنجاءِ، وإذا كانَ أكثرَ و (¬2) أقربَ وُقوعاً، فَحَمْلُ اللفظِ عليهِ أولَى؛ لأنَّ المناسَبَةَ فيهِ أكثرَ. وقد قالَ بعضُهُم: إنَّ موضِعَ الاستجمارِ لا تنالُهُ يدُ النائمِ إلَّا معَ القصدِ لذلِكَ. وقالَ أيضًا: ولو كانَ غَسلُ اليدينِ بتجويزِ (¬3) ذلكَ، لأَمَر بغسلِ الثيابِ؛ لجوازِ ذلِكَ عليها. قالَ: والأظهرُ ما ذَهَبَ إليهِ العراقيونَ مِنَ المالكيةِ وغيرهِم: أنَّ النائِمَ لا يكَادُ يَسلَمُ مِن حَكِّ (¬4) مغابِنِه (¬5)، أو بَثْرةٍ في بَدَنِهِ، وموضعِ عَرَقِهِ، وغير ذلكَ، فاستُحِبَّ لهُ غَسلُ يدِهِ تَنَظُّفاً (¬6). وفي كلامِهِم ما يشعر بأنَّ العلَّةَ احتمالُ مَسِّ نجاسةٍ خَرَجَتْ مِنهُ لمْ يَعلمْ بها (¬7)، أو غيرِ نجاسةٍ ممَّا يُتَقَذَّرُ، وكانَ هذا تَعليلاً يَعُمُّ النائمَ ¬

_ (¬1) "ت": "أقرب وأكثر". (¬2) "ت": "أو" بدل "و". (¬3) في الأصل "بجواز"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل "حد"، والتصويب من "ت". (¬5) المَغبِن: الإبط، وجمعه: مغابن. (¬6) انظر: "المنتقى في شرح الموطأ" للباجي (1/ 48)، حيث نقل ما ساقه الشارح هنا عن ابن حبيب في "الواضحة". (¬7) "ت": "احتمال نجاسةٍ خرجتْ منه فمسَّها، ولم يعلم بها".

الثامنة عشرة

والمستيقظَ [وغيرَهُ] (¬1). واعتُرضَ عليهِ: بأنَّ النجاساتِ لا تخرجُ في الغالبِ إلا بِعلمٍ مِنهُ، وما لمْ يعلمْ به، فلا (¬2) حُكمَ لهُ. الثامنة عشرة: صريحُ الأمرِ [بغسلِ اليدِ يقتضي] (¬3) طلبِيَّةَ (¬4) ذلك، وصريحُ النهيِ يقتضي تركَ ذلكَ، لكنْ في حقِّ المستيقظِ من النومِ. ورأيتُ في كتابِ "الأنوارِ" لأبي الحُسينِ بن زرقونَ: أنَّ ابنَ شَعبانَ حكَى عن مالكٍ: أنَّهُ لا بأسَ أنْ يُدخِلَ المستيقِظُ يَدَهُ في الإناءِ قَبلَ غَسلِها. وفي سماعِ ابنِ القاسمِ في "العتبية" ما ظاهِرُهُ مثلُ ما حَكَى ابنُ شَعبانَ من إجازةِ ذلكَ ابتداءً. وهذا الكلامُ المحكيُّ عنِ ابنِ شعبانَ يحتملُ أمرين: أحدَهُما: أنْ يُريدَ بالمستيقِظِ منْ لمْ يقمْ من النومِ، فعلَى (¬5) هذا يوافقُ دلالةَ مفهومِ المخالفةِ الذي قَدَّمنا الكلام [فيه] (¬6). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "لا" بدل "فلا". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "طلبه"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "فغسل" بدل "فعلى". (¬6) سقط من "ت".

التاسعة عشرة

ويحتملُ أنْ [يُريد] (¬1) المستيقظَ منَ النومِ، فعلَى هذا يكونُ مُخالفاً للحديثِ، إنْ لمْ يُردْ بقولهِ: (لا بأسَ) نفيَ التحريمِ فقط. التاسعة عشرة: ظاهرُ الأمرِ الوجوبُ، وظاهرُ النهي التحريمُ، وأكثرُ الفقهاءِ أخرجوا كلَّ واحدٍ منهُما عنْ ظاهِرِهِ، وبعضُهُم يقولُ بظاهِرِهِ في الوجوبِ والتحريمِ، و [الإمامُ] (¬2) أحمدُ فَرَّقَ بينَ نومِ الليلِ ونومِ النهارِ، فأوجَبَ ذلِكَ في نومِ الليلِ دونَ نومِ النهارِ؛ لأجلِ لفظةِ المبيتِ (¬3). وعن إسحاقَ بن راهَوَيْهِ أنَّهُ قال: القياسُ في نومِ النهارِ مثلُ نومِ الليلِ، وإنما خَرَجَ ذِكرُ المبيتِ علَى الأغلبِ؛ لأنَّهُ نومٌ كُلُّه (¬4). وقد ذكرنا [ما] (¬5) في لفظِ (المبيتِ) في [وجهِ] (¬6) العربيةِ. العشرون: أرادَ بعضُ أتباعِ أحمدَ ذِكرَ الفرقِ بينَ نومِ الليلِ ونومِ النهارِ، وامتناعِ قياسِ نومِ النهارِ على نومِ الليلِ، فذكرَ وجهين: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 71). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 255). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

أحدهما: أنَّ الحُكمَ ثبتَ تعبُّداً فلا تَصِحُّ تعديتُه (¬1). الثاني: أنَّ الليلَ مَظِنَّةُ النومِ والاستغراقِ فيهِ، وطولِ مُدَّتِهِ، واحتمالُ إصابةِ يدِهِ لِنجاسةٍ لا يشعرُ بها آكدُ منَ احتمالِ ذلكَ في (¬2) نومِ النهارِ (¬3). قلت: أما القَولُ في هذا بالتَّعبُّدِ، ففيهِ عن الصوابِ تَبَعُّدٌ، وكيفَ يذهبُ إليهِ معَ ظُهورِ التعليلِ منَ (الفاءِ) و (إنَّ)، ومناسبةِ ما دلَّ اللفظُ عليهِ من العلةِ للحكمِ [المعلَّل] (¬4). وفي المنقولِ عن بعضِ فضلاءِ المالكيةِ: أنَّهُ اختلفَ العلماءُ في غسلِ اليدِ قبلَ إدخالها في الإناءِ عندَ الوضوءِ هل ذلكَ للعبادةِ، أو معللٌ بالنظافةِ (¬5)؟ (¬6). وهذا أقربُ قليلاً ممَّا ذَكرَهُ الحنبليُّ؛ لأنَّه لمْ يفرِضِ المسألةَ عندَ القيامِ من النومِ، وإنَّما فرضَها عندَ الوضوءِ، فلا يقعُ الحكمُ بالتَّعبُّدِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "تعديه"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 71). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) "ت": "للنظافة". (¬6) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 41).

الحادية والعشرون

مُصادِماً لما دلَّ عليهِ التعليلُ في حديثِ المستيقظِ من النومِ (¬1). الحادية والعشرون: الذينَ أخرجوا الأَمرَ عن ظاهرِهِ في الوجوبِ، والنَّهيَ عن ظاهِرِهِ في التحريمِ، يستَدِلون - أو بعْضُهُم - علَى عَدَمِ الوجوبِ بأنَّ الحُكمَ مُعَللٌ بالشكِّ؛ لقولهِ - عليه السلام -: "فإنَّهُ لا يدري أينَ باتَتْ يَدُهُ"، والشَّكُّ لا يوجِبُ حُكماً في الشرعِ. واعتُرضَ عليهِ بوجهينِ: أحَدهما: منعُ كونِ الشَّكِ لا يُوجِبُ حُكماً في الشرعِ؛ فإنَّ النائمَ يجبُ عليهِ الوُضوءُ، والأصلُ عدمُ خروجِ الخارجِ منهُ، وليسَ الظاهرُ خروجَ الحدثِ، ولا الغالبُ، حتَّى يُحكمَ بهِ علَى الأصلِ، فليسَ إلا مُجرَّدَ الاحتمالِ المخالفِ للأصلِ، فليكُنْ كذلِكَ في غسلِ اليدينِ قبلَ إدخالِهِما الإناءَ؛ لتساويهِما في أنَّ الأصلَ عَدمُ الموجِبِ، وأنَّ المخالفةَ له غيرُ متيَقَّنةٍ (¬2)، بل رُبُّما يُدَّعَى تَرَجُّحُ هذه المسألةِ علَى مسألةِ النومِ؛ لأنَّ جولانَ اليدِ أغلبُ من خروجِ الحَدَثِ عندَ النومِ. ولقد شجعَ القاضي أبو بَكر بنُ العربي - وذلكَ من شأنِهِ رحِمَهُ اللهُ - مع مالكيَّتِهِ حيثُ قالَ - فيما وجدتُهُ عنهُ في "عارضةِ الأحوَذِيّ في شرحِ كتابِ الترمذي" -: والصحيحُ وجوبُ الغَسلِ من ¬

_ (¬1) "ت": "نومه". (¬2) في الأصل: "ليس منتفية"، والمثبت من "ت".

طريقِ الأثرِ والنظرِ، وذلكَ أنَّهُ قالَ في الحديثِ: "فإنَّ أحَدَكُم لا يدرِي أَينَ بَاتَتْ يَدُهُ"، فعَلَّلَ بذلك؛ كما علَّلَ في وجوبِ الوُضوءِ من النومِ: "فإذا نَامَتِ العينانِ استطلَقَ الوِكَاءُ" (¬1)، وكما يوجِبُ النومُ الوضوءَ، كذلكَ يُوجِبُ غسلَ اليدِ، هذا إذا لمْ يكنِ استنجَى بالماءِ، وفي المذهبِ أنَّ منْ شكَّ هل أصابَتهُ نجاسةٌ، أمْ لا؟ وَجَبَ عليهِ غَسلُ اليدِ في مشهورِ المذهبِ، والصحيحُ أنَّهُ لا يَجِبُ (¬2)، انتهَى. الوجهُ الثاني مِنَ الاعتراضِ: أنَّ مُرسِلَ السَّهمِ والكلبِ علَى الصيدِ، إذا وُجِدَ مع ذلِكَ أمرٌ يُمكنُ أنْ يَكُونَ له مدخَلٌ في الموتِ حَرُمَ الصيدُ (¬3)، وإرسالُ السهمِ والكلبِ سببٌ ظاهِرٌ في الموتِ، وقد أُزِيل باحتمالِ إحالةِ الموتِ علَى ما طَرَأَ، مع مخالفَتِهِ للظاهِرِ. فأمَّا الاعتراضُ الأولُ: فأجابَ الجُوريُّ الشافِعيُّ (¬4) - وهو بضَمِّ الجيمِ، والراءِ المُهمَلَةِ - في شرحِهِ لكلامِ الشافعيِّ - رضي الله عنه - بأنَّ النائِمَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 42). (¬3) "ت": "المصيد". (¬4) للإمام علي بن الحسين القاضي أبي الحسين الجوري الفارسي، كتاب: "المرشد" في عشرة أجزاء، و"الموجز على ترتيب المختصر"، كان من أجلاء الشافعية، لقي أبا بكر النيسابوري. انظر: "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 129 - 130).

يخرجُ مِنهُ الريحُ فلا يشعرُ بِهِ، والأغلبُ من الناسِ كذلك، وإذا انتبَهَ لمْ يَكُنْ لهُ سبيلٌ إلَى معرفةِ حدثٍ إنْ كَان تقدَّمَ [في النومِ] (¬1)، فَمِن أجلِ ذلِكَ وَجَبَ عليهِ الوضوءُ؛ وإنْ لمْ يتيقَّنِ الحدث، وليسَ كذلكَ إدخالُ اليدِ في الإناءٍ؛ لأنَّ الذيَ يتَخَوَّفُ عليهِ أنْ يكونَ [مَسَّ] (¬2) موضِعَ الاستنجاءِ في نومِهِ، فتعلَّقَ بيدِهِ من بقايا الاستنجاءِ، وإذا (¬3) انتبهَ كانَ لهُ سبيلٌ إلَى معرفةِ ذلِكَ إنْ كَانَ أصابَهُ ريحٌ تَعلقُ بيدِهِ أو لون، فإذا لمْ يجدْه كانَ علَى يقينِهِ الأول، فلذلكَ لمْ يجبْ عليهِ الوضوءُ هاهنا فرضًا، واللهُ أعلمُ. وهذا الذي ادَّعاهُ من الأغلبيةِ بخروجِ الريحِ في النومِ من الناسِ غيرُ مُسَلَّم. وأما الاعتراضُ الثاني: فُيجابُ عنهُ بأنَّ الأصلَ تحريمُ الميتةِ إذا لمْ تقَعْ في الحيوانِ ذكاةٌ، وحِلُّها في حالةِ الصَّيد رُخصةٌ؛ إحالةَ علَى الظاهرِ، فإذا وقعَ ما يُوجِبُ الشَّكَّ رَجَعنا إلَى الأصلِ، وهو تحريمُ الميتة. وهاهنا يرجعُ إلَى الأصلِ، وهو طهارةُ اليدِ، [فلا يثبتُ الوجوبُ؛ وفيه نظرٌ] (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "فإذا". (¬4) سقط من "ت".

الثانية والعشرون

الثانية والعشرون: اختلفَ الفُقهاءُ في تعارضِ الأصلِ والظاهرِ؛ أيُّهُما يُرَجَّح؟ فلقائِل أنْ يقولَ: الحديثُ يقتَضي ترجيحَ الظاهرِ لمخالفةِ الحُكمِ للأَصلِ، ورأيتُ الإشارةَ إلَى هذه المسألةِ في هذا الحديثِ في كتابِ "المسالكِ" المنسوبِ للقاضي أبي بكرٍ بنِ العربيِّ، وأنَّهُ قالَ: سمعت أبا بكرٍ الطَّرطوشي (¬1) يقولُ بالمسجدِ (¬2) الأقصَى - طهَّرهُ الله -: خَرَجتُ مِنَ الأندلسِ، وقد تفقَّهتُ (¬3) علَى الباجِيِّ ولَزِمتُهُ مُدَّةً؛ ودَخَلتُ بغدادَ فأَتَيتُ (¬4) المدرسةَ، وكانَ النائبُ في إقامةِ التدريسِ بِها أبا سعيدٍ المُتُوَلِّي، فَسَمِعتُهُ يَقُولُ: خُذوا مسألة: إذا تعارضَ الأصلُ والظاهرُ بأيِّهِما يُحكَم؟ فما علِمتُ ما يقولُ، ولا دَرَيتُ إلَى ماذا يُشيرُ (¬5). ¬

_ (¬1) هو الإمام العلامة، القدوة الزاهد، أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف الفهري الأندلسي الطرطوشي، شيخ المالكية وعالم الاسكندرية، لازم الباجي بسرقسطة، ثم حج ودخل العراق وسمع بها، له عدة مصنفات منها: "سراج الملوك"، توفي سنة (520 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (19/ 490)، و"نفح الطيب" للمقري (2/ 85). (¬2) "ت": "بالجامع". (¬3) في الأصل: "سمعت"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "فدخلت". (¬5) في الأصل: "يشعر"، والمثبت من "ت".

الثالثة والعشرون

قالَ: ثمَّ لزِمتهُ حتَّى فَتَحَ اللهُ، وبلغْتُ ما بلغتُ مِنَ العلمِ. وفيما رأيتُهُ مِنِ النُّسخةِ تصحيفٌ لاسمِ أبي سعيدٍ المُتولي فَكَتَبتُهُ علَى الصوابِ. وذكَرَ القاضي هذه الحكايةَ بعدَ ألفاظٍ أوردَها لقصدِ تعظيمِ المسألةِ، وأنَّها تفتقرُ إلَى مزيدِ بيانٍ، واحتفالٍ في الاهتبالِ (¬1)، هذا معَ ادِّعاءِ أنَّ الظاهرَ يُخالفُ الأصلَ، وفيهِ نظرٌ؛ لاسيما إذا عُلِّلَ بإصابةِ مَحَلِّ الاستنجاءِ، فإنَّ كونَ الظاهرِ ذلكَ فيهِ بعدٌ، وقد قدَّمنا قولَ مَنْ قالَ: إنَّ موضِعَ الاستجمارِ لا تنالُهُ يدُ النائِمِ إلَّا معَ القصدِ لذلكَ، وما قالَهُ ظاهِرٌ أو قريبٌ من الظهورِ، وأمَّا إذا عُلّلَ بملامَسةِ المُستقذراتِ فدعوَى الظهورِ في ذلكَ أقرب. الثالثة والعشرون: جرَى الظاهريُّ علَى سبيلهِ المعروفةِ وطريقِهِ المألوفَةِ، وقالَ: زعَمَ قومٌ أنَّ هذا الغَسلَ خوفَ نجاسةٍ تكونُ في اليدِ، وهذا باطلٌ لا شكَّ فيهِ؛ لأنَّهُ - عليه السلام - لو أرادَ ذلكَ لمَا عَجَزَ عن أنْ يُبَيِّنَهُ، ولما (¬2) كَتَمَهُ عن أُمَّتِهِ، وأيضاً فلو كانَ ذلِكَ خوفَ نجاسةٍ لكانَت الرِّجلُ كاليدِ في ذلِكَ، ولَكانَ باطنُ الفَخِذَينِ، وما بينَ الأليَتَينِ، أولَى بذلكَ. ¬

_ (¬1) الاهْتِبال: الاغْتِنام. (¬2) في الأصل: "وما"، والمثبت من "ت".

قالَ: ومِنَ العجبِ علَى أصُولهِم أنْ يكونَ ظَنُّ كونِ النجاسةِ في اليدينِ يوجِبُ غَسلَهُما ثلاثاً، فإذا تَيَقَّنَ كونَ النجاسَةِ فيهِ أجزأَ إزالتُهَا (¬1) بِغَسلَةٍ واحدةٍ. وإنَّما السببُ الذي من أجلِهِ وَجَبَ غَسلُ اليَدِ هو ما نصَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من مَغيبِ النائِمِ عن دِرايَةِ أينَ باتَتْ يدُهُ فقط، ويجعلُ اللهُ تعالَى ما شاءَ سبباً لما شاء؛ (¬2) كما جعلَ بُعدَ الريحِ الخارجِةِ من أسفَل سبَباً (¬3) يوجِبُ الوضوءَ، وغَسلَ الوجهِ، ومسحَ الرأسِ؛ وغسلَ الذراعين؛ والرِّجلينِ (¬4). فنقولُ: أمَّا قولُكَ: إنَّهُ باطِلٌ لا شَكَّ فيه؛ لأنه - عليه السلام - لو أرادَ ذلكَ لما عَجَزَ عن أنْ يُبَيِّنَهُ، ولما كَتَمَهُ عن أُمَّتِهِ. فإنْ أرَدْتَ بِهِ وجوبَ البيانِ بالنصِّ الصريحِ الذي لا يحتملُ التأويلَ فهذا باطلٌ، وكَم من نُصوصٍ في الكتابِ والسنةِ تحتاجُ في تعيينِ المرادِ مِنها إلَى نَظَرٍ دقيقٍ، ولو وَجَبَ البيانُ الصريحُ الذي لا يقبلُ الاحتمالَ لارتفعَ الخلافُ. ¬

_ (¬1) "ت": "إزالتهما". (¬2) زيادة من "ت". قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: موضع هذا الهامش في المتن غير مثبت بالمطبوعة (¬3) "ت": "سببها". (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 207).

وإنْ أردتَ ببيانِهِ ما هوَ أعَمُّ مِنْ ذلِكَ، فقدْ بيَّنَهُ - صلى الله عليه وسلم - علَى حسبِ ما يَفهَمُهُ الناسُ، ويتخاطَبُونَهُ (¬1) بينهم؛ فأمَّا أصلُ التعليلِ فَقَد تَبَيَّنَ بـ (الفاءِ) و (ثمَّ)، وأمَّا كونُهُ لأَجلِ احتمالِ النجاسةِ، أو القذارةِ، فذلكَ لفَهمِ السياقِ في مثلِ هذا الكلامِ للعلةِ؛ لأنَّ مَنْ عَلِمَ من قواعِدِ الشرعِ التحرُّزَ (¬2) مِنَ النجاسةِ، وتأثرَ الماءِ بوقوعِ النجاسةِ فيهِ، وطَلَبَ الشرعِ النظافةَ، وسَمعَ هذا اللفظ المُقتضي للتعليلِ، لمْ يَشكَّ بأنَّ المقصودَ التَّحرُّزُ؛ إمَّا عن النجاسةِ، أو القذارةِ. ومنْ زَعَمَ أنَّهُ لا فَرقَ بينَ أنْ يُؤمَرَ قاصدُ وضْعِ يدهِ في الماءِ للوضوءِ بِغَسلِهَا قبلَ ذلك؛ ويُعلَّلُ ذلِكَ بأنَّهُ لا يدري مبيتَ اليدِ أيَّ مكانٍ من الجسدِ، وبينَ أنْ يؤمَرَ بهذا الغسلِ في مثلِ هذه الحالةِ، ويعلَّلَ بهبوبِ الرياحِ، و (¬3) نَعيقِ الغرابِ، بالنِّسبَةِ إلَى عدمِ (¬4) المناسبةِ، فما بهِ في العقلِ من طباخٍ. وأما قولُهُ: فلو كانَ ذلِكَ خوفَ نجاسَةٍ لكانَتِ الرِّجلُ كاليدِ في ذلكَ، ولكانَ باطنُ الفخذينِ، وما بينَ الأَليتينِ، أولَى بذلكَ، فكأنَّهُ فهمَ أنَّ المقصودَ من قولِ مَنْ قالَ: إنَّ ذلِكَ للنجاسةِ، ¬

_ (¬1) "ت": "ويتخاطبوه"، وكتب فوقها "كذا". (¬2) في الأصل: "على التحرز"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "أي" بدل "و"، وكتب فوقها "كذا". (¬4) "ت": "هذا" بدل "عدم".

مُجرَّدُ إزالة النجاسة، وليسَ الأمرُ كذلِكَ، وإنما المقصودُ إزالةُ احتمالِ النجاسةِ؛ حَذَراً مِنْ أنْ تَصِلَ إلَى ماءِ الوضوءِ فتُفسِدَهُ، وهذا المعنَى مُحَالٌ في الفَخِذَينِ؛ لأنَّهُما لا تَعَلُّقَ للوضوءِ بِهِما، وإنَّما المقصودُ ما يتعلقُ بأعضاءِ الوضوءِ وغَسلِهِما، وتنزيهُ ماءِ الوضوءِ المستعملِ في أعضائِهِ عن احتمالِ التَّنجِيسِ. وأمَّا قَولُهُ: ومِنَ العَجَبِ علَى أُصُولهِم أنْ يكونَ ظَنُّ كونِ النجاسةِ في اليدينِ يوجِبُ غَسلَهُما ثلاثاً، فإذا تيقَّنَ كونَ النجاسةِ فيهِ أجزأَ إزالتُهَا بغسلةٍ واحدةٍ. فإمَّا أنْ يكونَ كلامُهُ معَ منْ يقولُ: إنَّ هذا الأمرَ للاستحبابِ أو الندبِ، أو مع منْ يقولُ بأنَّهُ للوجوبِ، فإنْ كَانَ الأولُ فقدْ [التزمَ] (¬1) ذلكَ، وقيلَ بأنَّه (¬2) يُستَحَبُّ في غسلِ النجاسةِ التثليثُ، فإنَّهُ إذا استُحبَّ مع الشكِّ فلَأَنْ يُستَحَبَّ مع اليقينِ أولَى. وإنْ كَان مع منْ يقولُ بالوجوبِ فلأحمدَ بنِ حنبلٍ - وهوَ منَ القائلينَ بهِ - قولٌ: إنَّ النجاسةَ تُغسَلُ سبعاً؛ كما في الكلبِ، واختلفَ أصحابُهُ في وجوبِ التتريبِ علَى وجهينِ (¬3)، فلا عجَبَ من ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "أنه". (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 74)، و "الإنصاف" للمرداوي (1/ 91 - 92)

الأؤلين، ولا منَ الآخِرين. وإنْ كَان [أحدٌ] (¬1) يقولُ بالوجوبِ (¬2) عندَ الشكِّ والتردُّدِ، ولا يقولُ بهِ عندَ التيقنِ (¬3)، فهو مخطئٌ. [بلْ منَ العجَبِ أنَّ الظاهريَّ نسِيَ ظاهِريَّتَهُ، وقالَ: إنَّهُ فرضٌ علَى كلِّ مستيقظٍ من النومِ؛ قلَّ أو كثُرَ، نهاراً كانَ أو ليلاً، قاعداً أو مضطَجِعاً أو نائِماً، في الصلاةِ أو في غيرِ الصلاةِ، كيفَ ما نامَ أنْ لا يُدخِلَ يدَهُ في وَضوئِهِ؟ في إناءٍ كان وُضوءهُ، أو منْ نهرٍ، أو مِن غيرِ ذلكَ، إلا حتَّى يغسِلَهَا ثلاثَ مراتٍ، وَيستنشِقَ، ويستنثِرَ ثلاثَ مراتٍ، فإنْ لمْ يفعلْ ذلِكَ لمْ يَجُزِ الوضوءُ ولا الصلاةُ؛ ناسياً في تركِ ذلكَ أو عامداً، وعليهِ أنْ يغسِلَهُما ثلاثَ مراتٍ، ويستنشِقَ كذلكَ، ثمَّ يبدأَ الوضوءَ والصلاةَ. والماءُ طاهرٌ بحسبِهِ إلا أنْ يُصَبَّ علَى يدِهِ ويَتَوضَّأُ دونَ أنْ يغمسَ يدَهُ، فوضُوءُهُ تامٌ، وصلاتُهُ تامةٌ، قالَ: برهانُ ذلكَ، ثمَّ أسنَدَ حديثاً من روايةِ أبي سلمةَ بن عبدِ الرحمنِ بن عوفِ، عن أبي هريرةَ، ولفظُهُ: "إذا استيقَظَ أحدُكُم منْ نومِهِ فلا يغمِسْ يدَهُ حتَّى يغسِلَها ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "الوجوب"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "اليقين".

ثلاثاً؛ فإنَّهُ لا يَدرِي أينَ باتَتْ يدُهُ" (¬1). ففي أوَّلِ كلامِهِ تخصيصُ هذا الحكمِ بالوضوءِ، والذي استدلَّ بِهِ لا تخصيصَ فيهِ، فالواجبُ أنْ يَعُمَّ الحُكمُ، وإنْ أخذَ ذلكَ منَ الحديثِ الذي فيهِ: "في إنائِهِ"، فذلكَ [بعيدٌ]، عن الصوابِ؛ لأنَّه يَتبعُ الأسماءَ، ويُجري الأحكامَ عليها، واسمُ الإناءِ لا ينطلقُ علَى النهرِ، وقد عدَّى الحكم إليه. وأمَّا أمرُ المضمَضَةِ والاستنشاقِ فإنَّهُ أورَدَ حديثَ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا استيقَظَ أحدُكُم منْ منامِهِ، فتوضَّأَ، فليَستنثِرْ ثلاثَ مراتٍ، فإنَّ الشيطانَ يَبيتُ علَى خَيشومِهِ"، وأتبعَهُ بإسنادٍ آخرَ لفظُهُ: "إذا استيقَظَ أحدُكُم منْ منامِهِ فليستنثِرْ ثلاثَ مراتٍ؛ فإنَّ الشيطانَ يبيتُ علَى خَيشومِهِ"، وإسنادٍ آخرَ لفظُهُ: "إذا استيقظَ أحدُكُم منْ منامِهِ فتوضَّأَ"؛ كما في الأولِ (¬2)، فليسَ في شيءٍ منْ هذا ما يدُلُّ علَى كونِهِ يجبُ أنْ يغسلَها ثلاثَ مراتٍ، ويستنشقَ ويستنثرَ ثلاثَ مراتٍ، قبلَ أنْ يُدخِلَها في الإناءِ، وإنَّما الأمرُ فيهِ الأمرُ بالاستنشاقِ والاستنثارِ في الوضوءِ لا غير. هذا إنْ أوجَبَ الاستنشاقَ والاستنثارَ قبلَ إدخالِ اليدينِ في الإناءِ، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم وغيره. وانظر: "المحلى" لابن حزم (1/ 206 - 207). (¬2) المرجع السابق، (1/ 208 - 209).

الرابعة والعشرون

وإنْ كَان مقصودُهُ مُجرَّدَ وجوِبِهِما، فهو مُجرَّدٌ (¬1) عن المسألةِ] (¬2). الرابعة والعشرون (¬3): إذا آلَ الأمرُ إلَى النظرِ في التعبُّدِ، فيمكنُ علَى طريقةِ من يرَى الأمرَ للاستحبابِ، والنَّهيَ للكراهةِ أنْ يُقالَ: [لو كانَ الأمرُ للوجوبِ لكانَ تعبُّداً، ولا يكونُ تعبُّداً، فلا يكونُ الأمرُ للوجوبِ. بيانُ الملازمةِ: أنَّه] (¬4) لو كانَ الأمرُ للوجوبِ لامتنعَ التعليلُ بالعلةِ التي دلَّ الحديثُ علَى اعتبارها، وهو عدمُ درايةِ مكانِ مبيتِ اليدِ؛ لأنَّ ذلكَ لا يوجِبُ الحكمَ؛ لأنَّ مخالفةَ الأصلِ بمجردِ الاحتمالِ والشكِّ غيرُ سائغٍ، وإذا امتنعَ كونُ العلةِ المذكورةِ التي دلَّ اللفظُ علَى اعتبارِها عِلَّةً (¬5) للوجوبِ، فينبغي التعليلُ بها علَى تقديرِ (¬6) الوجوب، فيَثبتُ التعبُّدُ علَى ذلكَ التقديرِ (¬7)؛ لأنَّه لو ثبتَ [كونُهُ] (¬8) ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل، ولعل الصواب ما أثبت. (¬2) من قوله: "بل العجب أن الظاهري" إلى هنا سقط من "ت". (¬3) سقط من الأصل ترقيم المسائل بدءاً من هذه الفائدة، وأثبتها من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "عليَّة". (¬6) "ت": "تقرير". (¬7) "ت": "التقرير". (¬8) سقط من "ت".

الخامسة والعشرون

مُعللاً؛ فإمَّا بها؛ وهو ممتَنعٌ لما ذكرناه، وإمِّا بغيرِها؛ وفيه إلغاءُ ما دلَّ اللفظُ علَى اعتبارِ عليَّتِهِ. وأمَّا انتفاءُ اللازمِ: وهو أنَّهُ لا يثبتُ تعبُّداً، فلأنَّ اليدَ يجبُ غسلُ كُلِّها، فلو وجبَ غسلُ الكفَّين منها لتعدَّدَ غسلُ الواجبِ مرتين، وهذا اللازمُ مُنتَفٍ بالقياسِ علَى سائرِ أعضاءِ الوضوءِ، فإنَّه لا شيءَ، ولا واحدَ منها، يجِبُ غسلُهُ مرَّتين. الخامسة والعشرون: قَولُهُ: "فليُفرِغ" يقتضي وجوبَ الصبِّ الذي يحصلُ بهِ مُسمَّى الغسلِ، ولأنَّهُ لا اكتفاءَ (¬1) إلا بهِ. السادسة والعشرون: قولُهُ في هذهِ الرِّوايةِ: "علَى يديهِ" يقتضي الإفراغَ عليهِما معاً ظاهراً، وهو قولُ ابنِ القاسمِ صاحبِ مالكٍ، قالَ: أُحِبُّ أن (¬2) يُفرِغَ عليهما، والمنقولُ عن مالكٍ من روايةِ أشهبَ: أنَّهُ يُفرغُ علَى يدهِ اليمنَى فيغسِلها، ويُدخِلُها في إنائِهِ، فيغسلُ يدَهُ اليُسرَى (¬3). وظاهرُ هذهِ الروايةِ ما ذكرناهُ؛ لأنَّه لو كانَ المرادُ الإفراغَ علَى إحدَى اليدينِ، ثمَّ علَى الأُخرَى، لناسبَ ذلكَ أنْ يُقالَ: ثلاثاً ثلاثاً. ¬

_ (¬1) "ت": "وأنه لا يحصل الاكتفاء". (¬2) "ت": "أحب إلي أن". (¬3) وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 243).

السابعة والعشرون

وفي روايةٍ عن عبدِ اللهِ بن زيدٍ: "فأفرغَ علَى يدهِ" (¬1)، وظاهرُهُ ما (¬2) يقولُ مالكٌ، وأنَّه يُؤخَذُ الإفرادُ بالغسلِ من الإفرادِ بالذكرِ. السابعة والعشرون: الحنابلةُ - أو بعضُهم - يدَّعونَ أنَّ إطلاقَ لفظِ اليدِ ينصرِفُ إلَى الكفينِ، ويستدِلُّ بقولهِ تعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وإنَّما تُقطعُ يدُ السارقِ من مفصَلِ الكوعِ، والدِّيةُ الواجبةُ في اليدِ تجِبُ علَى من قطعَها من الكوعِ (¬3). واسمُ اليدِ عندَ غيرهِم حقيقةٌ في جميعِ العضوِ، وما خرجَ عن هذ الحقيقةِ يُؤخَذُ من خارجٍ؛ كبيانِ الشارعِ بالفعلِ، أو قيامِ الأجماعِ علَى الحكمِ. الثامنة والعشرون: لا شكَّ أنَّ المُرادَ باليدِ أو اليدينِ هاهُنا [الكفُّ أو] (¬4) الكفان؛ فعلَى طريقةِ الحنابلةِ، وهو ادَّعاءُ الظاهرِ فيهِ، لا حاجةَ إلَى أمرٍ زائدٍ، وعلَى طريقةِ غيرهِم يُؤخَذُ بالبيانِ الشرعي، وهو غسلُ الكفَّينِ علَى مُقتضَى رواية (¬5). ¬

_ (¬1) رواه النسائي (98)، كتاب: الطهارة، باب: صفة مسح الرأس. (¬2) "ت": "وظاهرهما". (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 72). (¬4) سقط من "ت". (¬5) في هامش "ت": بياض. قلت: لعله يشير إلى رواية عبد الله بن زيد المتقدمة.

التاسعة والعشرون

التاسعة والعشرون: الحكمُ المُعلَّقُ باسمِ العضوِ، يتعلقُ بجملةِ ما دلَّ عليهِ الاسمُ لا ببعضِهِ؛ لأنَّ الاسمَ حقيقةٌ في جملتهِ، وإطلاقُهُ علَى البعضِ خلافُ الحقيقةِ، فعلَى هذا: النهيُ المذكورُ في الحديثِ يتعلقُ بغمسِ جُملةِ الكفِّ حقيقةً، لا علَى البعضِ؛ فلو غَمَسَ بعضَ الكفِّ كظُفرٍ أو إصبَعٍ مثلاً، فهل يكونُ كغمسِ جميعِها؟ مُقتضَى ما ذكرناهُ أنَّهُ لا يتعلقُ النهيُ بهِ؛ ولكنَّ النظرَ إلَى العلةِ، وهيَ احتمالُ إصابةِ اليدِ النجاسةَ، أو المستقذرَ، يقتضي المساواةَ بينَ الكلِّ والبعضِ في الحكمِ؛ لعمومِ العلةِ، والاعتمادُ علَى هذا أولَى من الاعتمادِ علَى مُجرَّدِ الاسم؛ فإنَّه قد يحملُ [علَى] (¬1) أنَّ المُعتادَ أو الغالبَ في الاغترافِ للوضوءِ جملةُ الكفِّ، والحنابلةُ اختلفوا في هذا الفرعِ علَى الوجهينِ، والمرجَّحُ عِندنا ما ذكرناهُ منَ التساوي، والعجبُ ممن عَدلَ عن الاستدلالِ [بما ذكرناهُ] (¬2) من العلةِ إلَى قياسٍ شبهيٍ ضعيفٍ، وهو قياسُهُ علَى النجاسةِ بجامعِ استواءِ الكلِّ والبعضِ فيما عُلِّق الحكمُ بجميعِهِ. الثلاثون: فيه دليلٌ علَى أنَّ للنَّجاسةِ (¬3) إذا وردَتْ علَى الماءِ تأثيراً ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "النجاسة"، والمثبت من "ت".

الحادية والثلاثون

في المنعِ؛ لأنَّه لو لمْ يكُنْ لها عندَ التحقيقِ (¬1) أثرٌ، لما كانَ للنهي عندَ احتمالِ النجاسَةِ معنًى. الحادية والثلاثون: وفيهِ دليلٌ علَى الفرقِ بينَ مُرورِ النجاسةِ علَى الماءِ، وورودِهِ عليها؛ للنهيِ عن ورودِها، والأمرُ بورودِهِ. الثانية والثلاثون: يُستَدَلُّ (¬2) بهِ علَى أنَّ الماءَ القليلَ ينجُسُ بوقوعِ النجاسةِ فيهِ بنحوِ ما قدَّمنا أنَّهُ لو لمْ ينجُسْ بتحقيقِ (¬3) الوقُوعِ لما نُهِيَ عن الغمسِ باحتمالِ الوقوعِ، وأُورِدَ عليهِ أنَّهُ لا يثبتُ بذلِكَ إلا مُجرَّدُ التأثيرِ؛ وهو أعمُّ من التأثيرِ بالتنجيسِ، والتأثيرِ بالكراهةِ، والدالُّ علَى الأعمِّ غيرُ دالٍّ علَى الأخصِّ بعينهِ. واعترضَ علَى هذا بأنّهُ وإن (¬4) كانَ التأثيرُ مُجرَّدَ الكراهةِ، وأنها ثابتةٌ قبلَ الغسلِ، لمْ يحصلْ فرقٌ بين التحقيقِ والتوهُّمِ. وأُجيبَ عنهُ بأنَّ مراتبَ الكراهةِ مُختلفَةٌ، فالثابتُ منها بعدَ التحقيقِ (¬5) أغلظُ منَ الثابتِ قبلَهُ، وبهِ يثبتُ الفرقُ. ¬

_ (¬1) "ت": "التحقق". (¬2) "ت": "استدلّ". (¬3) "ت": "بتحقق". (¬4) "ت": "ولو" بدل "وإن". (¬5) "ت": "التحقق".

الثالثة والثلاثون

ومع هذا ففي الدليلِ متانةٌ. الثالثة والثلاثون: الحكمُ يعُمُّ الوضوءَ والغَسلَ معاً؛ إمَّا بِلفظِ [ما] (¬1) يدُلُّ علَى العمومِ، أو (¬2) ممَّا وردَ في بعضَ الرواياتِ: "في إنائِهِ" أو "في وضوئِةِ"، وفيهِ عمومٌ إذا قُلنا: إنَّ الوضوءَ اسمٌ لمطلقِ الماءِ، وإمَّا لعمومِ العلَّةِ إنْ لمْ يكنْ لفظٌ عام. الرابعة والثلاثون: في اللفظِ إيماءٌ (¬3)؛ لأنَّ النهيَ مُختصٌّ بالماءِ القليلِ؛ لما يقتضيهِ لفظُ (الإناءِ) غالبًا، معَ الدلائلِ الدالةِ علَى اعتبارِ الكثرةِ في (¬4) نفيِ التأثيرِ بالنجاسةِ، وعادة الاستعمالِ كذلك. الخامسة والثلاثون: الحديثُ يقتضي تعليقَ الحُكمِ بما يُسمَّى إناءً، فيقضي مذهبُ الظاهرِ والبعيدِ أنْ لا يتعدَّى إلَى النهرِ، وما لا يُسمَّى إناءً، والظاهريُّ عدَّاهُ إلَى [النهرِ] (¬5)، والأحاديثُ التي أوردها في المسألةِ ليسَ فيها لفظُ عمومٍ بالنِّسبَةِ إلَى هذا اللفظِ يقتضي ما فعَلَ إلا في قولهِ في ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "إما"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "إما" بدل "إيماء" وجاء فوق قوله "اللفظ" علامة تدلُّ على وجود خلَلٍ في السياق. (¬4) في الأصل: "و" بدل "في". (¬5) زيادة من "ت".

السادسة والثلاثون

حديثِ أبي سلمةَ: "فلا يَغمِسْ يَدَهُ حتَّى يغسلَها ثلاثاً". وقد ذكرنا عن بعضِ الشافعيةِ فيما إذا توضَّأَ من بحرٍ أو نهرٍ: أنَّهُ لا يُستحَبُّ فيهِ [ذلِكَ] (¬1)، وهو جارٍ علَى ما ذكرناهُ من اعتبارِ لفظِ الإناءِ، واقتضائِهِ عدمَ دخولِ النهرِ (¬2) في الحكمِ، مع سبقِ الذِّهن إلَى أنَّ المرادَ بلفظِ: "لا يغمسْ في الإناءِ" إمَّا لتبيُّن ذلكَ في الرواياتِ الأُخرِ (¬3)، لاسيَّما إذا كانَ المخرجُ واحداً، وإمَّا للحملِ (¬4) علَى العلِّيةِ، مع ما في الثاني من نظرٍ يُشغَّب به. السادسة والثلاثون: ذكَرَ بعضُ المصنفينَ: أنَّ في الحديثِ من الفقهِ إيجابَ الوضوءِ من النومِ لقولهِ: "فليغسِلْ يدَهُ قبلَ أنْ يُدخلَهَا في وَضُوئِهِ"، قالَ: وهو أمرٌ مُجمعٌ (¬5) عليهِ في (¬6) النائمِ المضطَجعِ إذا استثقلَ (¬7) نوماً (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "النهي"، وعلى الهامش: "لعله: النهر". (¬3) "ت": "الأخرى". (¬4) "ت": "في الحمل". (¬5) في الأصل: "مجتمع"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "في أن". (¬7) في الأصل: "استقلَّ"، والمثبت من "ت". (¬8) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 237).

السابعة والثلاثون

ولم يبيِّن هذا وجهَ الدليلِ من الحديثِ علَى وجوبِ الوضوءِ من النومِ، ولا هو بالواضحِ البيِّن بحيث يُستغنَى عن ذِكرِهِ، وهذا ممَّا يُعجَبُ منهُ، ويُمكنُ أنْ يُقَالَ فيهِ: إنَّ الحديثَ دليلٌ (¬1) علَى الأمرِ بالغسلِ في هذهِ الحالةِ عيناً؛ أعني: غيرَ مُعلَّقٍ بشرط، فلو كان الوضوءُ من النومِ غيرَ واجبٍ لما تعيَّنَ الأمرُ [بالغسلِ] (¬2)، ولتعلَّقَ بذلكَ بتقديرِ (¬3) إرادةِ الوضوءِ. السابعة والثلاثون: يَلزَمُ بمقتضَى هذا الحديثِ وهذا اللفظِ الظاهريِّ [الجانب] (¬4) أنْ يُوجبَ غسلَ اليدينِ ثلاثاً قبلَ إدخالِهما في الإناءِ الفارغِ؛ لقولهِ: "قبلَ أنْ يُدخلَهُما في إنائِهِ"، وإدخالُهما في الإناءِ الفارغِ ينطلقُ عليهِ [هذا] (¬5) الاسمُ فليجب. وذلكَ (¬6) باطلٌ قطعاً؛ واللفظُ مفهومُ المعنَى في إدخالِها في الماءِ أو [في] (¬7) غيره ممَّا في الإناءِ إنْ عَمَّمنا الحكمَ، ولعلَّهُ يأخُذُ ¬

_ (¬1) "ت": "دلَّ". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "تقدير"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "واللفظ" بدل "وذلك". (¬7) زيادة من "ت".

الثامنة والثلاثون

ذلك من قولهِ: "فلا يغمس"؛ فإنَّهُ لا ينطلِقُ علَى إدخالِ اليدِ في الإناءِ الفارغِ غمساً ظاهراً، فإنْ كَانَ تَوهَّمَ ذلكَ وبنَى عليهِ، فيُقَالُ لهُ: دلَّ أحدُ الحديثينِ علَى النهيِ عن الغمسِ، ودلَّ الآخرُ علَى النهيِ عن الإدخالِ في الإناءِ، الذي هو أعَمُّ، ولا تعارُضَ بينهُما حتَّى يُحمَلَ النهيُ العامُّ علَى الغمسِ، وصارَ هذا كما وردَ من النهيِ عن مسِّ الذَّكرِ باليمينِ في الاستنجاءِ، [و] (¬1) منَ النهيِ عن مسِّ الذَّكرِ مُطلقاً؛ فلَم يحملْ أحدُهُما علَى الآخَرِ، ومَنَعَ من مسِّ الذَّكرِ مُطلقاً لعدمِ التعارضِ بينَ الحُكمينِ، فكذلكَ هاهُنا. [الثامنة والثلاثون] (¬2): من لوازمِ الظاهريِّةِ الجامدةِ أنْ يُخصَّ الحُكمُ بالإناءِ المملوكِ؛ لأنَّ الإضافةَ، وإنْ جازَتْ بأدنىَ مُلابسةٍ، إلا أنَّهُ قد قيلَ: إنها حقيقةٌ في المِلْك. وقد اعتمَدَهُ الشافعيُّ - رحمهُ اللهُ - وهو من العالمينَ باللغةِ حيثُ قالَ: إنَّهُ إذا حلَفَ لا يدخلُ دارَ فلان اختصَّت اليمينُ بملكِهِ؛ حتَّى لا يحنَثَ بدارٍ لا يملِكُها، بل يسكُنُها بإجارةٍ أو إعارةٍ (¬3)، إلا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط ترقيم الفوائد من "الأصل" حتى آخر شرح الحديث، وأثبت الترقيم من النسخة "ت". (¬3) "ت": "إعارة أو إجارة".

التاسعة والثلاثون

بنيَّةٍ تقتضي ذلكَ (¬1). وهذهِ الإلزاماتُ التي نذكُرُها يُعلَمُ قطعاً انتفاءُ (¬2) لوازِمِها، وإنما نذكُرُها علَى سبيلِ الإلزامِ لمن يحْمِلُ (¬3) علَى اللفظِ؛ ولا يَعتبرُ المعنَى، ولا ما يشهدُ عرفُ الاستعمالِ بحَمْلِ اللفظِ عليهِ، وقد يُدَّعَى عندَ الجزمِ بانتفاءِ اللازمِ في هذهِ المسائلِ أنَّهُ صرفَ عنها الإجماعَ، وهذا ضعيفٌ (¬4) علَى مذهبِ من يرَى أنْ لا إجماعَ إلا علَى ما نَصَّ عليهِ المجتهدونَ، وفيهِ جوابٌ آخَرُ دقيقٌ. [التاسعة والثلاثون]: قد ورَدَ العددُ في هذهِ الروايةِ بالثلاثِ، والرواياتُ مختلفةٌ في ذلكَ فلَم يذكر في "الموطإِ" عدداً؛ لا مرّةً، ولا مرتينِ، ولا ثلاثاً. وفي [هذا] (¬5) الحديثِ تعيينُ الثلاثِ، وعندَ الترمِذيِّ في روايةٍ: "مرتينِ، أو ثلاث"، والأخذُ بالزائدِ مُتعينٌ، وكذلِكَ الأخذُ باليقينِ [في الروايةِ] (¬6) مُقدَّمٌ علَى الشكِّ فيها. ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 73). (¬2) في الأصل: "انتقاد"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "لم يحتمل". (¬4) "ت": "يضعف". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

الأربعون

الأربعون: تعليقُ الأمرِ بالثلاثِ يقتضي عدمَ الاكتفاءِ بما دونَها؛ وأنْ يكونَ غمسُها (¬1) قبلَ الغسلِ ثلاثاً كغمسِها قبلَ أصلِ الغسلِ؛ لأنَّ النهيَ باقٍ لا يزولُ حتَّى يغسِلَها ثلاثاً، وهو ظاهرُ هذا اللفظِ، وبمعناهُ حَكمَ بعضُ الحنابلةِ (¬2)، إلا أنَّ الروايةَ التي ذكرها الترمِذيُّ: "مرتينِ، أو ثلاثاً" [تقتضي الاكتفاءَ بمرتينِ] (¬3)؛ لما دلَّ عليهِ ظاهرُ التخييرِ. الحادية والأربعون: استُدلَّ بهِ علَى أنَّ التثليثَ في الغَسلِ مُستحَبٌّ عندَ تحقُّقِ النجاسةِ؛ لأنَّهُ إذا استُحِبَّ عندَ الاحتمالِ، فعندَ التحقيقِ أولَى، واللهُ أعلمُ. الثانية والأربعون: النهيُ عن الشيءِ يقتضي إمكانَ فعلِ المنهيِّ عنهُ؛ فلمَّا نهَى عن الغمسِ قبلَ إدخالِ اليدِ في الإناءِ، وأنَّهُ محلُّ الحكمِ فيخرجُ عنهُ الوضوءُ من إناءٍ لا يُمكنُ إدخالُ اليدِ فيهِ؛ لضيقِ فمِهِ، أو لتشبيكٍ في رأسهِ، فإنْ قيلَ بخلافِ ذلكَ، فليكُنْ بدليلٍ آخرَ. وقد نصَّ بعضُ أكابرِ الشافعيةِ علَى أنَّهُ يُستحَبُّ غسلُ اليدينِ لو كانَ يتوضَّأُ من قُمقُمة (¬4)، وعلَّلَ ذلكَ بالاحتياطِ للماءِ الذي يَصبُّهُ علَى ¬

_ (¬1) في الأصل "غمساً"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 72). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) القُمقُم: إناء ضيق الرأس، يسخن فيه الماء، يكون من نحاس وغيره، فارسي، ويقال: رومي، وهو معرب، وقد يؤنث فيقال: قمقمة. انظر: =

الثالثة والأربعون

يديهِ، وينقلُهُ علَى أعضاءِ وضوئِهِ. وعندي: أنَّهُ لو أُخِذَ هذا الاستحبابُ من فعلِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ [وآلهِ] (¬1) وسلَّمَ لذلكَ في ابتداءِ الوضوءِ لكانَ أقوَى؛ لأنه (¬2) في مثلِ هذا الإناءِ يكونُ الماءُ وارداً علَى النجاسةِ غاسِلاً لها؛ فلا تؤثِّرُ النجاسةُ فيهِ التنجيسَ علَى مُقتضَى قولِ منْ يفرِّقُ بينَ الواردِ والمورودِ (¬3)، هذا علَى مُقتضَى ما يُفهمُ من أنَّ المرادَ الاحتياطُ عن التنجيسِ، ويمكنُ أنْ يُلحَقَ (¬4) بمسألةِ الغُسالةِ، ويكونُ الاحتياطُ إمَّا بسببِ خوفِ التنجيسِ، أو بسببِ عدمِ الطَّهوريةِ، أو يُقَالُ بالطريقةِ المتقدمةِ في إجراءِ الحُكمِ حيثُ تتَحقَّقُ الطهارةُ علَى ما تقدَّمَ، ومنهُ ما قدمناهُ. الثالثة والأربعون: الناسُ أخذوا هذا الحديثَ محمولاً علَى إناءِ الوضوءِ، واللفظُ أعمُّ من ذلكَ، وكذلِكَ التعليلُ يقتضي العمومَ؛ فإنَّ العلةَ التي هي احتمالُ النجاسةِ، أو القذارةِ، تعمُّ إناءَ (¬5) ¬

_ = "المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 299)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 431). (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "فإنه". (¬3) في الأصل: "المورد"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "نلحقه". (¬5) في الأصل "أعضاء"، والمثبت من "ت".

الرابعة والأربعون

الوضوءِ، وإناءَ الشربِ والأكلِ؛ لأنَّهُ كما حَرُمَ الوضوءُ بالماءِ (¬1) النجسِ، فكذلِكَ يحرُمُ أكلُ النجِسِ منَ المأكولاتِ والمشروباتِ، والاحتمالُ إذا اقتضَى الاستحبابَ فيما يتأثرُ بالتنجيسِ علَى تقديرِ التحققِ (¬2) عمَّ كلَّ ما يتأثرُ بذلكَ، فاللفظُ لا خُصوصَ فيهِ، والعِلَّةُ تقتضي التعميمَ، واللهُ أعلمُ. الرابعة والأربعون: إذا خالفَ وغمَسَ يدَهُ قبلَ الغَسلِ المأمورِ بهِ، فهل يُفسِدُ الماءَ؟ نُقلَ عن بعضِ أصحابِ داودَ: أنَّهُ لا يجوزُ الوضوءُ مِنهُ؛ وأنَّ مذهبَ داودَ عندَ أكثرِ أصحابهِ: أنَّهُ يَعصِي فاعِلُهُ إذا كانَ عالماً بذلك (¬3)، والماءُ طاهِرٌ يجوزُ الوضوءُ بهِ ما لمْ تُرَ (¬4) فيهِ نجاسةٌ (¬5). وفي كتابِ "الأنوارِ": تقسيمُ المستيقظِ علَى ثلاثةِ أحوالٍ: طاهرٌ، ونجِسٌ، وجُنُبٌ، فالطاهرُ لا يُفسِدُ الماءَ، قالَ: وحكَى ابنُ حارثٍ عنِ ابنِ غافقٍ التونِسيِّ من أصحابِنا: أنَّهُ يُفسِدُهُ. وأمَّا المُوقِنُ بالنجاسةِ فيجري علَى اختلافِهِم في النجاسةِ ¬

_ (¬1) "ت": "بالإناء". (¬2) "يتأثر بالتنجيس على تقدير التحقق"، مكررة في الأصل. (¬3) في الأصل "أن فاعله عاملاً بذلك عاص"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "تظهر". (¬5) وانظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 412).

تحُلُّ في قليلِ الماءِ. وأمَّا الجُنبُ أو المُحتلِمُ الذي لا يدري ما أصابَ يدَهُ فقالَ ابنُ حبيبٍ: إنَّهُ يُفسِدُ الماءَ، قالَ: وهو معنَى الحديثِ. ولمالكٍ في "المجموعةِ" (¬1) نحوُهُ. وقالَ صاحِبُ "المُغني" من الحنابلةِ: فإنْ غمَسَ يدَهُ في الإناءِ قبلَ غسلِها، فعلَى قولِ من لمْ يُوجبْ غسلَها لا يُؤثِّرُ غمسُها شيئاً، ومنْ أوجبَهُ قالَ: إنْ كَانَ الماءُ كثيراً يدفعُ النجاسةَ عن نفسهِ لمْ يؤثرْ شيئاً؛ لأنَّهُ يدفعُ الخبثَ عن نفسهِ، وإنْ [كَان] (¬2) يسيراً فقالَ [الإمامُ] (¬3) أحمدُ: أعجَبُ إلَيَّ أنْ يُهريقَ الماء. ¬

_ (¬1) للإمام محمد بن إبراهيم بن عبدوس المالكي، من كبار أصحاب سحنون وأئمة وقته، المتوفى سنة (260 هـ) كتاب: "المجموعة على مذهب مالك وأصحابه"، وله أيضاً كتاب: "التفسير" وهي كتب فسر فيها أصولاً من العلم كتفسير كتاب المرابحة والمواضعة والشفعة، وله أربعة أجزاء في شرح مسائل من كتب المدونة، وقد يضاف بعض هذه الكتب إلى المجموعة. انظر: "الديباج المذهب" لابن فرحون (ص: 237). قال: وهو رابع المحمديين الذين اجتمعوا في عصر واحد من أئمة مذهب مالك، لم يجتمع في زمان مثلهم؛ اثنان مصريان: ابن عبد الحكم وابن المواز، واثنان قرويان؛ ابن عبدوس وابن سحنون. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". .

قالَ: فيحتملُ أن تجبَ إراقتُهُ، وهوَ قولُ الحسنِ؛ لأنَّ النهيَ عن غمسِ اليدِ فيهِ يدُلُّ علَى تأثيرِهِ، وقد روَى أبو حفصٍ عُمرُ بنُ مَسلمٍ العُكبَريُّ (¬1) في الخبرِ زيادةً (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ أدخلَها قبلَ الغسلِ أرَاقَ المَاءَ". قالَ: ويحتملُ أن لا تَزولَ طَهورَّيتُهُ، ولا تجبَ إراقتُهُ؛ لأنَّ طهوريَّةَ الماءِ كانت ثابتةً بيقينٍ، والغمسُ المُحرمُ لا يقتضي إبطالَ طهوريتِهِ؛ لأنَّه إنْ كَان لوهمِ النجاسةِ، فالوهمُ لا يزولُ بهِ يقينُ الطهوريةِ؛ لأنَّهُ لمْ يُزِلْ يقينَ الطهارةِ، فكذلكَ لا يُزيلُ يقينَ الطَّهوريةِ؛ فإنِّنَا (¬3) لمْ نحكمْ بنجاسةِ اليدِ؛ ولا الماءِ، ولأنَّ اليقينَ لا يزولُ بالشكِّ، فبالوهمِ (¬4) أولَى، وإنْ كَانَ بعيداً فيقتَصِرُ علَى مقتضَى الأمرِ والنهيِ، وهو وجوبُ الغسلِ، وتحريمُ الغمسِ، ولا يتَعدَّى (¬5) إلَى غيرِ ذلِكَ؛ ولا يصِحُّ قياسُهُ علَى رفعِ الحدثِ، ولا فرقَ هاهُنا بينَ أنْ ينويَ أو لا ينوي. ¬

_ (¬1) هو أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان العكبري، شيخ الحنابلة، وأحد المسندين، روى عنه الخطيب وغيره، توفي سنة (317 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (17/ 360). (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "فإنا". (¬4) في الأصل: "بالوهم"، والمثبت من "ت". (¬5) "ت": "يعدى".

الخامسة والأربعون

قالَ: وقالَ أبو الخطابِ: إنَّ من غَمَسَ يدَهُ في الماءِ قبلَ غسلِها، فهل يُبطِلُ طهورَّيتَهُ؟ علَى روايتينِ (¬1)، [انتهَى] (¬2). الخامسة والأربعون: في مطاوي كلامِهِ ما يُشعِرُ بأنَّ الخلافَ في زوالِ الطهوريةِ لا الطهارةِ، وهو بعيدٌ لوجهينِ: أحدهُما: أنَّهُ قالَ عن أحمدَ: أعجَبُ إلَيَّ أنْ يُهريقَ الماءَ؛ وهذا لا يُناسبُ إلا النجاسةَ؛ فإنَّ الظاهرَ أن لا يؤمَرَ بإراقتِها، وإنَّما يُؤمَرُ بإراقةِ النجسِ إنْ تحققَ، و (¬3) يُندبُ إنْ لمْ يتَحققْ (¬4). الثاني: أنَّ التعليلَ الذي علَّلوهُ باحتمالِ النجاسةِ، يقتضي اعتبارَ معنَى الطهارةِ، لا معنَى الطهوريةِ (¬5). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 71). (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "أو". (¬4) في الأصل: "يتحقق به"، والمثبت من "ت". (¬5) جاء على هامش "ت": "بياض نحو صفحة من الأصل".

الحديث السادس

الحديث السادس وعنهُ من روايةِ هَمَّامٍ بنُ مُنَبِّهٍ، وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا تَوَضَّأَ أحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بمَنْخِرَيهِ مِنَ الماءَ، ثمَّ لِيَنْتَثِرْ (¬1) ". أخرجَهُما مُسلم (¬2). الكلامُ عليهِ من وُجوهٍ: * [الوجهُ] (¬3) الأوَّلُ: في التعريفِ: فنقولُ: هَمَّامُ بنُ مُنبِّهِ بن كاملٍ بن سِيْجٍ -[بالسينِ المهملةِ] (¬4)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "ليستنثر"، والمثبت من "ت". (¬2) * تخريج الحديث: رواه مسلم (237/ 21)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، به. وذكره البخاري في "صحيحه" (2/ 683) معلقاً بصيغة الجزم. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (18/ 225): هذا أبين حديث في الاستنشاق والاستنثار، وأصحها إسناداً. (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت".

وبعدَ آخرِ الحروفِ الساكنةِ جيمٌ -: أبو عُقبةَ اليمانيُّ، الصنعانيُّ، الذِّماريُّ، مَنسوبٌ إلَى ذِمار - بالذالِ المعجمةِ المفتوحةِ والمكسورةِ معاً - وهي قريةٌ من قُرَى صنعاءَ، يُقالُ: علَى مرحلتينِ منها، وهو منَ الأبناءِ؛ أي: أبناءِ القريتينِ الذينَ دخلوا اليمنَ، وهو أخو وهبٍ بن منبِّه، ولهما إخوةٌ: مَعقل (¬1)، وغَيلان، وعبدُ الله، وعُمرُ بنو مُنبِّه. سمعَ هَمَّامٌ أبا هريرةَ الدَّوسي، وابنَ عباسِ الهاشميَّ، ومعاويةَ الأمويَّ - رضي الله عنه -. روَى عنهُ أخوهُ أبو عبدِ الله وهبُ بنُ مُنبهٍ اليمانيُّ، وأبو عُروةَ معمرُ بن راشد البصري، وابن أخيه عقيلُ بن معقل بن منبه. يقالُ: ماتَ سنةَ إحدَى - وقيلَ: اثنتينِ - وثلاثينَ ومِئة. أخرجَ لهُ الشيخانِ في "الصحيحَينِ"، ووَثَّقَهُ يحيَى (¬2). ¬

_ (¬1) في "الأصل": "عقيل"، والتصويب من "ت". (¬2) * مصادر الترجمة: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 107)، "الثقات" لابن حبان (5/ 510)، "رجال البخاري" للكلاباذي (2/ 776)، "رجال مسلم" لابن منجويه (2/ 321)، "التعديل والتجريح" للباجي (3/ 1178)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 438)، "تهذيب الكمال" للمزي (30/ 298)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 311)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 59).

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجهُ الثاني: في تصحيحِهِ: وقد ذكرنا أنَّ مُسلماً أخرجَهُ. * * * * الوجهُ الثالثُ: [مفردات ألفاظ الحديث]: [الأولى]: قد تقدَّمَ [لنا] (¬1) أنَّ الاستنثارَ هل يدخلُ [تحتَهُ] (¬2) الاستنشاقُ أخذاً من النَّثرةِ، أو لا؟ وعلَى كلِّ حالٍ ففي اللفظينِ؛ أعني: الاستنشاقَ والانتثارَ، ما يقتضي تعَمُّلاً (¬3) وفِعلاً، وفي الاستنشاقِ دلالةٌ علَى ذلكَ من وجهينِ: أحدَهُما: صيغةُ الاستفعالِ. الثاني: [تاءُ] (¬4) الاستعانةِ. [الثانية]: و (مِنْ) في "مِنَ الماءِ" يمكنُ أنْ تُحمَلُ علَى ابتداءِ الغايةِ؛ أي: ليكُنِ ابتداءُ استنشاقِهِ منِ الماءِ، ويمكِنُ أنْ تُحمَلَ علَى البيانِ إذا كانَ الاستنشاقُ دالاً علَى مُجرَّدِ الجذبِ للمائعِ (¬5)، فيُخَصَّصُ بالبيانِ أنَّهُ من الماءِ. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "تعمداً". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل "المائع"، والتصويب من "ت".

الثالثة

[الثالثة]: ثمَّ [في] (¬1) "بِمَنخِرَيهِ" حذفٌ لعلَّه يقدَّرُ بـ: نَفَسِ مَنخِرَيهِ، وإنْ كَانَ يُلازِمُ الجذبَ بالنَّفَسِ تحرُّكُ المِنخرَينِ [إلَى جهةِ العُلوِّ] (¬2) فقد يُقالُ: إنَّهُ لا يحتاجُ إلَى حذفٍ، وأنَّ الجذبَ بالمِنخرينِ، لكنَّ الحملَ علَى الجذبِ بالنَّفَسِ أولَى؛ لأنَّهُ الموجِبُ بالذاتِ، وأمَّا بالمنخرينِ إنْ صحَّ أنْ يكونَ جَذباً بهِما فبالعَرَضِ. [الرابعة]: و (¬3) الانتثارُ - بالثاءِ المثَلَّثَةِ -: منَ النَّثرِ، ولم يُسمَعْ في هذهِ اللفظةِ ونحوها إلا بهذهِ الثاءِ، وأمَّا النَّتْرُ - بالتاءِ المُثنَّاةِ - فغيرُهُ (¬4). * * * * الوجهُ الرابعُ: الفعلُ يُطلَقُ علَى إرادتِهِ، وعلَى الشروعِ [فيه] (¬5)، وعلَى تمامِهِ، وعلَى مُدَّةِ فعلِهِ، والأولَى أنْ يُحمَلُ هَاهُنا علَى الشروعِ، أو [علَى] (¬6) العملِ، ويمكنُ أنْ يُحملَ علَى الإرادةِ، ولا يمكنُ أنْ يُحملَ علَى التمامِ. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "أو". (¬4) قال صاحب "المحكم" (9/ 476): النتر: الجذب بجفاء، واستنتر الرجل من بوله: استجذبه واستخرج بقيته من الذكر عند الاستنجاء. (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

والكلامُ في "ثمَّ لِيَنْتَثِرْ"، واقتضاءِ (ثُمَّ) للتراخي والترتيبِ قد قدَّمنا إشباعَ القولِ فيهِ، ولا إشكالَ في الترتيبِ، وإنما النظرُ في التراخي. * * * * الوجهُ الخامِسُ: في الفوائدِ والمباحثِ، وفيهِ مسائلُ: الأولَى: قد ذكرنا اقتضاءَ الاستنشاقِ والانتثارِ للتَّعَمُّلِ (¬1)، ففيهِ (¬2) دليلٌ علَى أنَّ الانتثارَ ليسَ مُجرَّدَ خروجِ الماءِ منَ الأنْفِ بعدَ دخولهِ فيهِ، إذْ لا فِعلَ في ذلكَ، فلا تتأدَّى السنةُ بمجرَّدِ خروجِهِ، بل لا بدَّ من فعلٍ. الثانيةُ: اختلفوا في المضمَضَةِ والاستنشاقِ علَى مذاهبَ: أحدُها: أنَّهما (¬3) سُنَّتانِ في [الطهارتينِ؛ أعني:] (¬4) الوضوء والغُسل؛ وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ (¬5). والثاني: أنَّهُما واجبتانِ فيهِما؛ ويُروَى عن إسحاق (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "للتعمد". (¬2) في الأصل "فيه". (¬3) في الأصل "أنها". (¬4) سقط من "ت". (¬5) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 274)، و"المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 419). (¬6) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 34).

الثالثة

والثالثُ: أنَّهُما سُنَّتانِ في الوضوءِ، واجبتانِ في الغُسلِ منَ الجنابةِ؛ وهو مذهبُ أبي حنيفةَ - رضي الله عنه - (¬1). والرابعُ: أنَّ الاستنشاقَ واجبٌ دونَ المضمَضَةِ؛ وذهبَ إليهِ [الإمامُ] (¬2) أحمدُ (¬3). [الثالثةُ] (¬4): [والطائفة الذينَ] (¬5) قالوا: إنَّهما سُنَتَّانِ، في مذهبِهِم مُخالفَةٌ لظاهرِ (¬6) هذا الأمرِ. وقد كَثُرَ الاعتذارُ عن ذلِكَ بما جاءَ في الحديثِ من الحوالةِ في الوضوءِ علَى ما أمرَ الله بهِ؛ كالقولِ للأعرابيِّ: "توضَّأَ كَمَا أَمَرَكَ الله" (¬7)، فحَمَلوهُ علَى الحوالةِ [علَى] (¬8) ما في القرآنِ، وليسَ فيهِ ذكرُ المضمَضَةِ والاستنشاقِ، والموضعُ موضعُ بيانٍ لا يجوزُ تأخيرُ ذكرِ شيءٍ منَ الواجباتِ عنهُ، وقد يُنازعونَ في أنَّ المرادَ الحوالةُ علَى ما في القرآنِ، ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 16). (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 83). (¬4) سقط من "ت"، وهي المسألة الثالثة كما في الأصل، وعليه فقد اختلف ترتيب المسألتين الثالثة والرابعة، وأما الخامسة فقد سقط ترقيمها من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل "الظاهر"، والمثبت من "ت". (¬7) تقدم تخريجه. (¬8) زيادة من "ت".

فإنَّ أمرَ الله أعمُّ من ذلكَ، وبهذا الدليلِ حملوا الأمرَ علَى الاستحبابِ، ورُبَّما أُخرِجَ عن ظاهرهِ بأقيسَةٍ شَبهيةٍ تدُلُّ علَى عدَمِ الوجوبِ، ولسنا ننَشطُ لذكرِ مثلَ ذلكَ. وأمَّا مَنْ ذهبَ إلَى وجوبِهِما معاً، فلهُ حُجَّتُه في صيغةِ الأمرِ الواردةِ في هذا الحديثِ مع صيغةِ الأمرِ (¬1) بالمضمَضَةِ في حديثٍ آخرَ (¬2). وأمَّا مَنْ قالَ بوجوبِهِما في غسلِ الجنابةِ دونَ الوضوءِ، فلهُم في وجهِ التفرقَةِ طريقةٌ تَرجِعُ إلَى مراعاةِ الظاهرِ والباطنِ بالنِّسبَةِ إلَى الفمِ والأنفِ، أو إلَى مراعاةِ لفظِ البشرةِ (¬3) مع ما وردَ من تعليقِ الحُكمِ بها، والتحقيقُ بعدَ النظرِ إلَى هذا أنْ يُطلَبَ لفظٌ يدلُّ علَى تعليقِ الحكمِ بما علَّقهُ بهِ المجتهدُ؛ فإنْ كَان من الإخبارِ فيُطلَبُ تصحيحُهُ أيضاً، وهذا الحديثُ يُعارضُ مذهبَهُم بالنِّسبَةِ إلَى الاستنشاقِ في الوضوءِ، فيحتاجونَ إلَى ما يُوجِبُ صَرفَ الأمرِ عن ظاهرِهِ. وأمَّا مَنْ ذهبَ إلَى وجوبِ الاستنشاقِ دونَ المضمَضَةِ فقَد ذُكِرَ فيهِ أنَّ الأمرَ واردٌ بهِ دونَ المضمَضَةِ، فإنْ كَان أُريدَ بهِ نفيُ الأمرِ بالمضمضَةِ مُطلقاً؛ فأولاً: في إثباتِ ذلكَ عُسرٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أمر"، والمثبت من "ت". (¬2) سيأتي تخريجه من حديث لقيط بن صبرة. (¬3) "ت": "النثرة".

الرابعة

وثانياً: قد ورَدَ [الأمرُ] (¬1) بالمضمَضَةِ في حديثِ أبي داودَ في روايةٍ لهُ من حديثِ ابنِ جُريجٍ، عن إسماعيلَ بنِ كثيرٍ (¬2). الرابعةُ (¬3): الأمرُ كما توجَّهَ للاستنشاقِ، فكذلِكَ تَوجهَ للانتثارِ، فظاهرُ (¬4) الأمرِ الوجوبُ، فإن تُمُسِّكَ بهِ في وجوبِ الاستنشاقِ، فليُتمسَّكْ بهِ في وجوبِ الانتثارِ، وقد بيَّنا أنَّ الانتثارَ ليسَ هو مُجرَّدَ خروجِ الماءِ من الأنفِ بعدَ دخولهِ فيهِ بالاستنشاقِ، فعلَى هذا يقتضي وجوبَ أمرٍ زائدٍ علَى مُجرَّدِ خروجِ الماءِ. الخامسةُ (¬5): فيهِ دليلٌ علَى الترتيبِ بينَ سُنَّةِ الانتثارِ، وسنَّةِ الاستنشاقِ؛ بمقتضَى لفظةِ "ثُمَّ"، ولا يُقَالُ: هذا ترتيبٌ متعينٌ في الوجودِ، ولا (¬6) يحسُنُ الحكمُ بالاستحبابِ إلا حيثُ يمكنُ أنْ يكونَ الترتيبَ، ويمكنُ أن لا يكونَ؛ لأنَّا نقولُ: لمَّا تبَّينَ (¬7) أنَّ الاستنشاقَ والاستنثارَ يقتضيانِ التَّعَمُّلَ (¬8)، لا يتعينُ الترتيبُ؛ لإمكانِ أنْ يحصُلَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سيأتي تخريجه في الحديث السابع من رواية لقيط بن صبرة - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "الثالثة". (¬4) "ت": "وظاهر". (¬5) "ت": "الرابعة". (¬6) "ت": "فلا". (¬7) في الأصل "بينا"، والمثبت من "ت". (¬8) "ت": "التعمد".

السادسة

دخولُ الماءِ في الأنفِ مِن غيرِ تَعَّمُلٍ (¬1) وقَصدٍ؛ كالانغماسِ مثلاً، فإذا اعتبرْنا الترتيبَ، لمْ يُكتفَ بالانتثارِ عندَ (¬2) دخولِ الماءِ بهذهِ الصفةِ في تأديةِ السنةِ، وتعيَّنَ أنْ يستنشقَ علَى ما يقتضيهِ اللفظُ، ثمَّ يُتبعُهُ بالانتثارِ (¬3). السادسة: في اللفظِ ما يقتضي تعليقَ هذا الأمرِ بالوضوءِ، [وهو قاصرُ الدلالةِ عن تعليقِهِ بالغُسلِ، ففيهِ اختصاصُ هذا الأمرِ بالوضوءِ] (¬4) ذكراً، وهل يختصُّ فيهِ اختصاصَهُ بهِ حُكماً من جِهةِ مفهومِ الشرطِ (¬5)؟ يُنظرُ فيهِ. السابعة (¬6). * * * ¬

_ (¬1) "ت": "التعمد". (¬2) في الأصل "عن"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل "الانتثار" والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": تُرك بياض موضع كلمة "الشرط". (¬6) جاء على هامش "ت": "بياض نحو صفحة من الأصل".

الحديث السابع

الحديث السابع [و] (¬1) عن عَاصِم بنِ لَقيطِ بنِ صَبِرَةَ، عن أبيهِ، قالَ: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ! أَخبرني عنِ الوُضوءِ قالَ: "أَسْبغِ الوُضُوءَ، وبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ، إلَّا أنْ تَكُونَ صَائِماً". أخرجَهُ النَّسائِي، والتِّرمِذي، وصَحَّحَهُ، وابنُ (¬2) خُزيمةَ في "صحيحِه"، ورواهُ أبو داودَ مُطوَّلاً، وفيهِ: "أسبغِ الوُضُوءَ" وخَلِّلْ بَينَ الأصَابِعِ" (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "وصححه ابن خزيمة"، "والتصويب من "ت". (¬3) * تخريج الحديث: رواه أبو داود (142)، كتاب: الطهارة، باب: في الاستثار، والنسائي (87)، كتاب: الطهارة، باب: المبالغة في الاستنشاق، والترمذي (788)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (407)، كتاب: الطهارة، باب: المبالغة في الاستنشاق والاستنثار، وابن خزيمة في "صحيحه" (150)، كلهم من حديث يحيى ابن سليم الطائفي، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط، عن أبيه، به.

[الوجه] الأول: في التعريف

وله في روايةٍ: "إذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ" (¬1). الكلامُ عليهِ من وجوهٍ: * [الوجهُ] (¬2) الأوَّلُ: في التعريفِ: أمَّا لَقيطُ بنُ صَبِرةَ: فقال الحافظُ أبو عُمر: لَقيطُ بن عامر العُقَيلي، أبو رَزين، هذا أيضاً ممَّن غَلَبَتْ عليهِ كُنيَتُهُ، ويُقالُ: لقيط بن صبرة، ويُقالُ: لقيط بن المُنتَفِق، فمَنْ قالَ: لقيط بن صَبِرةَ، نسبَهُ إلَى جدِّهِ. وهو لقيط بن عامر بن صَبِرةَ بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عُقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وهو وافدُ بني المنتفقِ إلَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قالَ: وقد قيلَ: إنَّ لَقيطَ بن عامر غيرُ لقيط بن صَبِرةَ، وليسَ بشيءٍ. روَى عنهُ وكيعُ بن عُدُس، وابنُهُ عاصم بن لقيط. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (144)، كتاب: الطهارة، باب: في الاستنثار، من حديث ابن جريج، عن إسماعيل بن كثير، به. * تنبيه: قوله: "وله في رواية: إذا توضأت فمضمض" لم يقع في كتاب "الإلمام" للمؤلف، وقد أتى المؤلف على ذكره في الوجه الثاني من الكلام على هذا الحديث، مما يدل على صواب إثباته في متن "الإلمام"، والله أعلم. (¬2) سقط من "ت".

قُلتُ: صَبِرة: بفتحِ الصادِ المُهمَلةِ، وكسرِ الباءِ الموحدَةِ، قالَ بعضُ المتأخرينَ: ويجوزُ إسكانُ الباءِ مع فتحِها وكسرِها (¬1)؛ فإنْ أرادَ الجواز في اللغةِ بناء علَى قياس فَعِلَة فصحيح (¬2)؛ لكنْ ما يغلِبُ علَى ألفاظِ الرواةِ ينبغي أنْ يُقتَصَرَ في الروايةِ عليهِ، وإنْ قيلَ غيرُهُ فيكونُ بالروايةِ أيضاً. قال هذا المتأخِّرُ: وهو أبو رَزين، وقيلَ (¬3): أبو عاصِمٍ، وساقَ نسبَهُ إلَى عُقيلٍ، وقالَ: الحِجازي، الطائِفي. [و] (¬4) نقلَ عن عبدِ الغني بنِ سعيدٍ المصري أنَّهُ قالَ: أبو رَزين العُقيلي [لقيط بن عامر] (¬5): [وهو] (¬6) لقيطُ بن صَبِرَة، وقيلَ: هو غيرُهُ، وليسَ بصحيحٍ. ونقلَ أيضاً عن التِّرمذي في كتابِ "العِلَلِ": سمِعتُ البخاري يقولُ: أبو رَزين العُقيلي: [لقيطُ بنُ عامرٍ، وهو عندي لقيطُ بنُ صَبرةَ، قالَ التِّرمِذي: قُلتُ لهُ: أبو رَزين العُقيلي] (¬7) هو لقيطُ ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 380). (¬2) "ت": "فلعله بصحيح". (¬3) "ت": "ويقال". (¬4) سقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) زيادة من "تهذيب الكمال" للمزي. (¬7) زيادة من "ت".

ابنِ صَبرةَ؟ قالَ: نَعمْ، قُلتُ: فحديثُ أبي هاشمٍ، عن عاصمِ بنِ لقيطِ ابنِ صَبرةَ، عن أبيهِ، هو عن أبي رَزين (¬1) العُقيلي؟ قالَ: نَعمْ، قالَ التِّرمِذي: قالَ [أكثرُ] (¬2) أهلِ الحديثِ: لقيطُ بنِ صَبرةَ هو لقيطُ بنِ عامر (¬3). قُلتُ: وقالَ البُخاري - رحِمهُ اللهُ - في "تاريخِهِ": لقيطُ بن عامرٍ، وهو ابنُ صَبِرةَ بنِ المُنتفِقِ: أبو رزين العقيلي، لهُ صُحبَةٌ. قالَ البُخاري: قالَ بُندارُ: ثنا ابنُ أبي عَديٍّ، ثنا شُعبةُ، عن يعلَى ابنِ عطاءٍ، عن وكيعِ بنِ عُدُسٍ، عن عمَّهِ أبي رَزين، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ المُؤْمِنِ كالنَّخْلَةِ، تَأكُلُ طَيِّباً، وتَضَعُ طَيِّباً" (¬4). وممَّنْ يقتضي فعلُهُ التفريقَ بينَ لقيطِ بنِ صَبرةَ، ولقيطِ بنِ عامرٍ أبي رزين: أبو نعيم الحافظ؛ فإنهُ ذكرَ لقيطَ بنَ صبرةَ وقالَ: أبو عاصمٍ، [روَى عنهُ ابنهُ عاصمٌ] (¬5)، سكنَ مكَّةَ، وقيلَ: إنَّهُ كانَ من بني المنتفِقِ؛ يعني: من بني عُقيلٍ. ¬

_ (¬1) "ت": "هو أبو رزين". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "علل الترمذي" (ص: 384). (¬4) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 248). (¬5) سقط من "ت".

وذكرَ في الكُنَى: أبو رَزين العُقيلي قالَ: واسمُهُ لقيطُ بنُ عامرٍ، وأخرجَ لهُ روايةَ وكيعِ بنِ عُدُسٍ، عن أبي رزين، في الروايةِ من طريقِ حَمَّادٍ. قلتُ: أمَّا مُسلمٌ (¬1). [انتهَى] (¬2) (¬3). والمُنْتَفِق: بضمِّ الميمِ، وسكونِ النونِ، وفتحِ التاءِ المثناةِ، وكسرِ الفاءِ، وآخرُهُ قافٌ. عُدُس: بضمَّ العينِ والدَّالِ المُهملتينِ معاً، ويقالُ: حُدُس، روَى شُعبةُ، عن يعلَى، عن وكيعِ بنِ عُدُسٍ - بالعينِ -، وقد ذكرنا في رواية حمادٍ: حُدُس. وأما عاصمُ بنُ لَقيطِ بنِ صَبِرةِ: فقالَ الأندلُسيُّ الأَوْنبَي فيما وجدتُهُ في كتابه: عاصمُ بن لَقيط بن صَبِرة العُقيلي حديثُهُ في المكيِّينِ، سَمعَ أباهُ، روَى عنهُ أبو هاشم إسماعيل بن كثير المكي، أخرَجَ لهُ أبو دوادَ ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت" بعد قوله "مسلم": "بياض". (¬2) سقط من "ت". (¬3) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 248)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 177)، "الثقات" لابن حبان (3/ 359)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1340)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 380)، "تهذيب الكمال" للمزي (24/ 248)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (5/ 685)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (8/ 409).

الوجه الثاني: في إيراد الحديث المطول الذي أشار إليه في الأصل من عند أبي داود على الوجه

وغيرُهُ، وهو ثِقةٌ؛ قالهُ [ابنُ] (¬1) صالحٍ، وابنُ عبدِ الرَّحيمِ، والنَّسائيُّ، وغيرُهُم (¬2). * * * * الوجهُ الثاني: في إيرادِ الحديثِ المطَوَّلِ الذي أشارَ إليهِ في الأصلِ من عندِ أبي داودَ علَى الوجهِ: قالَ أبو داود: ثنا قتيبةُ بنُ سعيدٍ في آخرين، قالوا: ثنا يحيىَ بنُ سليمٍ، عن إسماعيلَ بنِ كثيرٍ، عن (¬3) عاصم بن لَقيط بن صَبِرة، عن أبيهِ لقيطِ [بن صَبِرة] (¬4)، قالَ: كنتُ وافدَ بني المُنتَفِقِ، أو [في] (¬5) وفدِ بني المُنتفقِ إلَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: فلمَّا قدِمْنا علَى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلم نصادِفْهُ في منزِلهِ، وصادفنا عائشةَ أمَّ المؤمنينَ رضيَ اللهُ عنها، قالَ: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 493)، "معرفة الثقات" للعجلي (2/ 9)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 350)، "الثقات" لابن حبان (5/ 234)، "تهذيب الكمال" للمزي (13/ 539)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 49). (¬3) "ت": "بن". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت".

فأمرَتْ لنا بخَزِيرَةِ فصُنعَتْ لنا، [قالَ] (¬1): وأُتِينا بقِناعٍ - ولمْ يقُلْ (¬2) قُتيبةُ: [القِناعَ] (¬3)، والقناعُ: الطبقُ فيهِ تمرٌ، ثمَّ جاءَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "هل أصبْتُم شيئًا، أو أُمِرَ لكُم بشَيء؟ " قُلنا: نَعَم، يا رسولَ اللهِ! قالَ: فبيْنَا (¬4) نحنُ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جلوسٌ إذ دفعَ الراعي غنمَهُ إلَى المُراحِ، ومعَهُ سَخلَةٌ تَيْعَرُ، قالَ: "ما وَلَّدْتَ يا فُلانُ؟ " قالَ: بَهْمَةً (¬5)، قال (¬6): "فاذبَحْ لنا مكانها شاةً"، ثمَّ قالَ: "لا تَحْسِبَنَّ - ولمْ يَقُلْ: [لا] (¬7) تَحْسبَنَّ - أنَّا مِن أجلِكَ ذَبَحناها، لنا غنمٌ مئةٌ، لا نُريدُ أن تزيدَ، فإذا وَلَّدَ الراعي بَهْمةً، ذبحْنَا مكانها شاةً". قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ! إنِّي لي امرأةٌ وإنَّ في لسانِها شيئاً؛ يعني: البَذاءَ، قالَ: "فطلِّقْها إذاً"، قالَ: قُلتُ يا رسولَ اللهِ! إنَّ لها صُحبةً، [ولي مِنها ولدٌ] (¬8)، قالَ: " [فَمُرْها] (¬9) - يقولُ: عِظْها - فإنْ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) في الأصل: "يقم"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) البهمة: أولاد الضأن. (¬6) "ت": "فقال". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) سقط من "ت". (¬9) زيادة من "ت".

الوجه الثالث: في تصحيحه

يَكُ فيها خيرٌ فَسَتفعل، ولا تضرِبْ ظَعينَتَكَ كضربِكَ أُمَيَّتَكَ (¬1) "، فقُلتُ: يا رسولَ اللهِ! أخبرني عن الوضوءِ، قالَ: "أسْبغِ الوُضُوءَ، وخَلِّلْ بينِ الأصَابِعِ، وبَالِغْ في الاسْتنشَاقِ إلا أنْ تكونَ صَائِماً". وأخرجَهُ أيضاً عن عُقبةَ بنِ مُكْرَم، وهوَ بضمِّ الميمِ، وإسكانِ الكافِ، وفتحِ الراءِ، عن يحيىَ بنِ سعيدٍ، عن ابنِ جريجٍ، عن إسماعيلِ بنِ كثيرٍ، عن عاصم بنِ لقيطٍ بن صَبرةَ، عن أبيهِ وافدِ بني المُنتفِقِ: أنَّه [أتى] (¬2) عائِشةَ - رضِيَ اللهُ عنها -، قالَ: فذكَرَ معناهُ، [قالَ:] (¬3) فلَمْ ينْشَبْ أنْ جاءَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَلَّعُ يتكفَّأُ، وقالَ: "عَصَيدةٌ (¬4) " مكانَ "خَزيرة". ورواهُ عنْ مُحمدِ بنِ يحيَى بنِ فارسٍ، عن أبي عاصمٍ، عن ابنِ جريجٍ، وقالَ: بهذا الحديثِ قالَ فيهِ: "إذا توضَّأْتَ فَمَضْمِضْ (¬5) ". * * * * الوجهُ الثالثُ: في تصحيحِهِ: قد ذكرنا أمرَ عاصمِ بنِ لقيطٍ، وحَكينا ما ذَكرَ الأَوْنبَي، وليسَ من ¬

_ (¬1) "ت": "أمتك". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) العَصِيدة: الشَّمْنُ يُطْبَخ بالتمر. (¬5) في الأصل: "توضأ تمضمض"، والمثبت من "ت".

الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

طريقِ يحيى، عن ابنِ جريحٍ، عن إسماعيلَ بنِ كثيرٍ مَن يُحتاجُ إلَى الكَشفِ عنهُ سِواهُ، فإنَّ يحيى، وابنَ جريجٍ منَ الأعلامِ، وإسماعيلَ ابنَ كثيرٍ. * * * * الوجهُ الرابعُ: في شيءٍ من مُفرداتِهِ، وفيهِ مسائلُ: الأولَى: قالَ الجَوهَرِيُّ: وفد فلانٌ علَى الأميرِ؛ أي: وردَ رسولاً، فهو وافدٌ، والجمعُ: وَفْد، مِثل: صاحِب وصَحْب، وجمعُ الوَ فد: أوفادٌ، ووفودٌ، والاسمُ: الوِفادةُ، وأوفَدْتُهُ أنا إلَى الأميرِ؛ أي: أرسلتُهُ (¬1). وقالَ الزَّمخشري: وفَدتُ عليهِ وإليهِ وُفوداً ووِفادَةً، وهوَ كثيرُ الوِفاداتِ علَى الملوكِ، وأوفدتُ عليهِ (¬2) فُلاناً، وما أوفدَكَ علينا؟ واستوفَدَني، وتوافَدنا عليهِ، ورأيتُ عندَهُ الوَفْدَ، والوُفُودَ (¬3)، والوُفَّادَ. قالَ: ومنَ المجازِ: الحاجُّ وَفْدُ الله. وقالَ رؤبةُ [من الرجز]: ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 553)، (مادة: وفد). (¬2) "ت": "إليهِ". (¬3) "ت": "الوفُودُ والوَفدُ".

يَكِلُّ وفدُ الرِّيحِ من حيثُ انْخَرَقْ (¬1) أي: اتَّسَعَ. وبينَما أنا في المضيقِ إذ وفدَ الله عليَّ برَجُلٍ فأخرجَني مِنهُ، بمعنى: جاءَني بِهِ، ورأيتُ وافدَ الإبلِ، ووافدَ الطيرِ، وهو الذي يتقدمُ سائرَها في السيرِ والورودِ. ويُقَالُ للهَرِمِ: غابَ وافداهُ، وهُما الناشِزانِ من الخدَّينِ عندَ المضغِ، وإذا هَرِمَ الإنسانُ غارا. قالَ الأعشَى [من المتقارب]: رأتُ رجُلاً غائِبَ الوافِدَيـ ... ـن مُخْتَلِفَ الخَلْقِ أَعْشَى ضريراً (¬2) وأوفدَ الشيءُ: إذا ارتفَعَ وأشرفَ، وسنامٌ مُوفِدٌ، وما أحسنَ ما أوفدَ حَارِكُه (¬3)! قالَ [من الرجز]: تَرَى العُلافيَّ عَليْها مُوفِدَا كأنَّ (¬4) بُرجاً فوقَها مُشيَّدَا (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (ص: 104)، وعجز البيت: شَأْزِ بمَنْ عَوَّهَ جَدْبِ المُنْطَلقْ (¬2) انظر: "ديوان الأعشى" (ص: 95). وقد جاء في "ت": "رأيت رجلاً غائر ... ". (¬3) "ت": "جارَكمْ". (¬4) في الأصل: "قد كان". (¬5) البيت أورده الزمخشري هنا، والأزهري في "تهذيب اللغة" (14/ 140)، =

الثانية

وقالَ [من الرجز]: ذو وَرِكٍ عظيمةٍ كالتُّرسِ وذُو سَنَامٍ مُوفِدِ المجَسِّ وأوفدَهُ غيرُهُ، قالَ ابنُ أَحمرَ [من السريع]: كأنما المُكَّاءُ في بيدِها ... سُرادِقٌ قد أَوْفدَتْهُ الأُصُرُ رفعتهُ. واستوفدَ في قِعدَتِهِ: ارتفعَ وانتصَبَ، ورأيتُهُ مُستوفِداً. وتوفَّدتِ الأوعالُ فوقَ الجبلِ: تشرَّفَت (¬1). الثانية: المنازل، والمُصادفةُ: المُوافاةُ تقولُ: صادفتُ فُلاناً في منزلِهِ؛ أي: وجدتُهُ فيهِ (¬2). قلتُ: يظهَرُ أنَّ في المُصادفةِ زيادةَ قيدٍ ليسَ في الوِجدانِ. الثالثة: الخَزِيرة: بِفتحِ الخَاءِ، وبعدها زايٌ، بعدها آخِرُ الحُروفِ، بعدها راءٌ مُهمَلةٌ، ثُمَّ هاءُ تأنيثٍ. قالَ ابنُ فارسٍ في "مُجمَلِ اللغةِ": والخزيرةُ: دقِيق يُلبَكُ بِشحيمٍ، كانتِ العربُ تُعيِّر [به] (¬3) (¬4). ¬

_ = وابن منظور في "لسان العرب" (3/ 464) دون نسبة. (¬1) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 683). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (12/ 104)، (مادة: صدف). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (1/ 288).

الرابعة

وقالَ الجَوهَرِيُّ: والخَزيرُ والخَزيرةُ (¬1): أنْ تُنصَبَ القِدرُ بِلحمٍ يُقطَّعُ صِغاراً في (¬2) ماءِ كثيرٍ، فإِذا نَضجَ ذُرَّ عليهِ الدَّقيقُ، وإنْ لمْ يكُنْ لحمٌ فهيَ عصِيدَةٌ، قالَ جريرُ (¬3) [من الكامل]: وُضِعَ الخَزِيرُ فقِيلَ أَينَ مُجاشِعٌ ... فَشَحَا جَحَافِلَهُ جُرَافٌ هِبْلَعُ (¬4) وقالَ الخَطَّابيُّ في "مَعالِمهِ": قَولُهُ: "فأمَرتْ لنا بِخزِيرةٍ": هي ما يُتَّخَذُ بِدقيقٍ ولحمٍ مِنَ الأطعِمةِ. والخَزيرةُ: حَساءٌ منْ دقيقٍ ودَسمٍ (¬5). الرابعة: القِناعُ: بِكسرِ القَافِ، بعدها نونٌ، وآخِرُهُ عَينٌ مُهمَلةٌ، فسَّرَهُ الخَطابيُّ بالطَّبَقِ، وسُمِّي قِناعاً بأنَّ أطرافهُ قدْ أُقنِعَتْ إلَى الدَّاخلِ؛ أي: عُطِفتْ (¬6). وقالَ ابنُ فارسٍ: والقِنْعُ والقِناعُ: شِبهُ الطَّبَقِ يُهدَى عليهِ (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "والخَزيرةُ والخَزيرُ". (¬2) "ت": "على". (¬3) انظر: "ديوانه" (ص: 270). (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 644). (¬5) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 53). (¬6) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬7) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (3/ 734).

الخامسة

وخَصَّهُ بعضُهمْ بما إذا كانَ معمُولاً منْ عَسَبِ النَّخلِ. قُلتُ: القِنْعُ: بِكسرِ القَافِ وسُكونُ النُّون. الخامسة: [قال] (¬1) الهُنَائيُّ: والمُراحُ: حَيثُ تأوِي الماشِيةُ بِالليلِ. وقالَ ابنُ سِيدَه: والإِراحَةُ: ردُّ الإبِلِ والغَنَمِ منَ العَشِي، والمُراحُ: مَأواهُما ذلكَ الأوان، وقدْ غَلبَ في (¬2) مَوضِعِ الإبِلِ، والتَّروِيحُ كالإِراحةِ. وقالَ اللَّحيَانِي: أرَاحَ الرَّجُلُ إرِاحَةً وإِرَاحاً: إذا راحَتْ عليهِ إِبلُهُ، [وغنَمُهُ] (¬3)، ومالُهُ، انتهَى (¬4). السادسة: السَّخْلةُ: ولَدُ الشَّاةِ، يُقَالُ لأِوْلادِ الغَنَمِ ساعةَ تُوْضَعُ مِنَ الضَّأنِ والمَعزِ جميعاً؛ ذَكَراً كانَ أو أُنثَى: سَخْلَةٌ، وجَمْعُهُ: سَخْلٌ وسِخَالٌ (¬5). وزادَ (¬6) ابنُ سِيدَه: وسِخَلَةٌ، وقالَ: نادِرةٌ، وذَكرَ أيضاً (سُخْلان) في الجَمعِ، وقالَ الطِّرمَّاحُ [من المتقارب]: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "على". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "المحكم" لابن سيده (3/ 512)، (مادة: روح). (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1728)، (مادة: سخل). (¬6) "ت": "وقالَ" بدَل "وزادَ".

السابعة

تُراقِبُهُ مُسْتَشِبَّاتُها ... وسُخْلانُهاحولَهُ سارِحَه (¬1) قالَ: ورِجالٌ سُخَّلٌ وسُخَّالٌ: ضُعَفَاء أرْذال (¬2). وقالَ الهُنائِي: يُقَالُ لِولَدِ الضَّأنِ ساعةَ تضَعُهُ أُمُّهُ ذَكَراً كانَ أو أُنثَى: سَخْلةٌ، ثمَّ بَهمةٌ، [ثمَّ] (¬3) قرارٌ، ثمَّ جَفْرٌ، ثمَّ جَذَعَةٌ (¬4)، ثمَّ ثَنِيَّةٌ، ثمَّ سَديسٌ، ثمَّ صَالِغٌ، وهو (¬5) أقصَى أسنَانِهِ. السابعة: تَيْعَرُ: بِفتحِ التَّاءِ المُثنَّاةِ، وبعدها آخِرُ الحُروفِ ساكِناً، ثمَّ عَينٌ مُهمَلةٌ، قالَ ابنُ فارسٍ: [و] (¬6) اليُعَارُ: صوتُ الشَّاةِ، يَعَرَتْ تَيْعَرُ يُعَاراً (¬7). وقالَ الخَطَّابِي: وقُولهُ تَيعَرُ: منَ اليُعَارِ، وهوَ صَوتُ الشَّاةِ (¬8)، انتهَى. وذَكرَ بعضُهُم كَسرَ العَينِ في المُستَقبَلِ. ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (ص: 77)، (ق 5/ 25). (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 77)، (مادة: سخل). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "صُدْغُهُ"، والمُثبت من "ت". (¬5) "ت": "وهي". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (4/ 942). (¬8) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 53).

الثامنة

قلتُ: اليُعَارُ مَضمومُ (¬1) اليَاءِ، وأمَّا اليَعْرُ - بفتحِ الياءِ، وسكونِ العين - فهوَ الجديُ يُشَدُّ عندَ الزُّبْيَةِ، وإنَّما جاءَ الفتحُ في الماضِي والمُستَقبَلِ لأجلِ حرفِ الحَلقِ؛ الَّذي هوَ العينُ. الثامنة: قالَ الخَطَّابِي: وقُولُهُ: "ما وَلَّدتَ" هوَ مُشدَّدُ اللَّامِ علَى معنى خِطابِ الشَّاهِدِ. قالَ: [و] (¬2) أصحابُ الحَديثِ يَروونَهُ علَى معنى الخَبرِ، يقولُ: (ما وَلَدَتْ) خَفيفَةَ اللَّامِ، ساكنةَ التَّاءِ؛ أي: ما ولدَتِ الشَّاةُ؛ وهوَ غَلَط، يُقالُ: ولَّدْتَ الشَّاةَ: إذا حضَرْتَ وِلادَتها (¬3) فعالجْتَها حتَّى يتبَيَّنَ [مِنها] (¬4) الوَلدُ، أنشَدَنِي أبو عَمْرو في ذِكرِ قومٍ [من الوافر]: إذا ما وَلَّدُوا يَوماً تَنَادَوا ... أَجَدْيٌ (¬5) تحتَ شَاتِكِ أمْ غُلامُ (¬6) وقالَ الجَوهَرِيُّ: ويُقَالُ: ولَّدَ الرجلُ إبلَهُ توليداً (¬7)؛ كما يُقالُ: ¬

_ (¬1) "ت": "بِضم". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "وِلادَها"، وكذا في المطبوع من "المعالم". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "جدي"، والمثبت من "ت". (¬6) البيت لحسان بن ثابت، كما في "ديوانه" (1/ 358). وانظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 53 - 54). (¬7) في الأصل: "وليداً"، والمثبت من "ت".

التاسعة

نَتَجَ إبِلهُ نتجاً (¬1). التاسعة: فلانٌ: كنايةٌ عن الذَّكَرِ منَ [الإنسانِ، والأُنثَى فلانةٌ، فإذا أطلقوهُ علَى غيرِ] (¬2) الأناسِيِّ، قالوا: الفلانُ والفُلانةُ؛ بالألفِ واللامِ (¬3). العاشرة: البَهْمةُ: بفتحِ الباءِ الموحَّدَةِ، وسكونِ الهاءِ، قالَ الخطَّابيُّ: والبَهمةُ: ولدُ الشاةِ أوَّلَ ما تُولدُ؛ يُقَالُ للذكرِ والأنثَى: بَهمَةٌ (¬4). [قُلتُ:] (¬5) وهذا الذي قالَهُ الخطَّابيُّ أقربُ إلَى ظاهرِ الحديثِ ممَّا قالَهُ الهنائِي؛ أعني: (¬6) تَسميتَها أوَّل ما توضعُ بهمةً. والجمعُ: البَهْمُ، بفتحِ الباءِ، وسكونِ الهاءِ. قالَ ابنُ فارسٍ: والبَهْمُ: صِغارُ الغَنَمِ. وقالَ بعضُهم: والبَهْمَةُ - بفتحِ الباءِ، وسكونِ الهاءِ -: ولَدُ ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 554). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "المحكم" لابن سيده (10/ 381)، (مادة: ف ل ن). (¬4) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 54). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "يعني".

الحادية عشرة

الضَّأنِ؛ ذَكراً كانَ أو أُنثَى، والجمعُ: بَهْم، قالَ: ولا يُقالُ لولدِ المعزِ: بَهمَةٌ، إلا إذا اجتمعَتْ أولادُ المعزِ وأولادُ الضأنِ قُلتَ لهُما جميعاً: بِهامٌ، وبَهْمٌ (¬1) (¬2). الحاديةَ عشرةِ: الوعظُ (¬3) (¬4). الثانيةَ عشرةَ: حَسِبَ - مكسورُ السينِ - بمعنى: ظنَّ، وهو أحدُ أخواتِ ظنَّ. وأمَّا المفتوحُ السينِ فمِنَ الحسابِ، حَسَبْتُ (¬5) الشيءَ حُسباناً، وحِساباً: عدَدتُهُ، والحَسبةُ - بفتحِ الحاءِ -: المرةُ [الواحدةُ] (¬6) من الحسابِ، وبكسرِ [الحاءِ] (¬7): الهيئةُ منهُ، وبضمِّها: مصدرُ الأحسبِ (¬8). ¬

_ (¬1) "ت": قوله "وقال بعضهم: والبهم ... " جاء قبل قوله: "وهذا الذي قاله الخطابي". (¬2) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (1/ 138). (¬3) في الأصل: "الموعظ"، والمثبت من "ت". (¬4) جاء على هامش "ت": "بياض". (¬5) "ت": "حسبت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) "ت": "لأحسب"، والأَحْسَبُ: بَعِيرٌ فيه بَياضٌ وحُمْرَةٌ"، ورجلٌ في شَعرِ رَأْسِه شُقْرَةٌ. انظر: "القاموس المحيط" للفيروز أبادي (مادة: حسب).

الثالثة عشرة

وأمَّا المضمومُ السينِ علَى وزنِ (¬1) ظَرُفَ وكَرُمَ، فمنَ الحَسَبِ، والمصدرُ منهُ حَسَابَةٌ [- بفتح الحاء -؛ كخَطُبَ يخطُبُ خَطابةً - بفتحِ الخاءِ -] (¬2)؛ [فالكلمةُ منَ المُثلَّثِ] (¬3) (¬4). الثالثة عشرة: البَذَاءُ - بفتحِ الباءِ والذالِ المُعجَمةِ ممدوداً -: الفُحشُ، ومادةُ اللفظَةِ حيثُ تصرَّفَتْ تُشعِرُ بالكراهَةِ وما بنحوِها منَ الذَّمِّ. قالَ الهنائي: يُقَالُ: بَذَأْتَ الأرضَ: إذا كرِهْتَ مَرعاها، وهي أرضٌ بذيئةٌ: لا مرعَى بها، ويقالُ: بذأْتُ الرجُلَ أبذؤهُ بَذءاً: ذممتُهُ، وبذأتْ عيني فُلاناً بَذءاً وبَذأةً، وعيناي تبذآنِهِ: إذا لمْ يُعجبْكَ مَرآهُ ولا حالُهُ، ورجلٌ بَذِيءُ اللسانِ - علَى مثالِ (فَعِيلٍ) بيِّنُ البَذَاء: إذا كانَ فاحِشاً (¬5). الرابعة عشرة: (إذاً) حرفٌ مُفردٌ يدُلُّ علَى الجوابِ والجزاءِ. قالَ الشيخُ أبو عَمرو بنِ الحاجِبِ - رحمَهُ اللهُ -: لسنا نعني بالجوابِ جوابَ مُتكلِّمٍ علَى التحقيقِ، بل قد يكونُ جواباً لمتكلمٍ، ¬

_ (¬1) "ت": "صيغة". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة. من "ت". (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 109). (¬5) وانظر: المرجع السابق (1/ 35 - 36).

الخامسة عشرة

وقد يكونُ جواباً لتقديرِ ثبوتِ أمرٍ. ومُثِّلَ الثاني بقولكَ: لو أكرمتَني [إذاً] (¬1) أكرمتُكَ، وأشباهِهِ؛ لأنَّهُ في تقديرِ جوابِ مُتكلِّمٍ (¬2) سألَ: ماذا يكونُ مُرتبِطاً بالإكرامِ؟ فأجابَهُ بارتباطِ إكرامِهِ. قالَ: وأمَّا معنى الجزاءِ فيها فواضحٌ. وقالَ الزجَّاجُ: تأويلُهَا: إنْ كَانَ الأمرُ كما ذكرتَ فإني أُكرمُكَ؛ تنبيهاً علَى أنَّ فيها معنى الجزاءِ حتَّى صَحَّ تقديرُهُ مُصَرَّحاً بِهِ. وزعمَ بعضهم: أنَّ (إذاً) مركَّبةٌ مِنْ (إذْ) و (أنَّ)، ونقُلتْ حركةُ الهمزةِ، والنَّصبُ بـ (أنَّ)، وهو مردودُ عندَهُم، واللهُ أعلم. الخامسة عشرة: الظَّعِينةُ: بالظاءِ قالَ الجَوهَرِيُّ: والظَّعِينةُ: الهودجُ؛ كانت فيه امرأةٌ، أو لمْ تكُنْ، والجمعُ: ظُعُنٌ، وظُعْنٌ، وظَعائِنٌ، وأظعانٌ. أبو زيدٍ: لا يُقالُ: حمولٌ، ولا ظُعنٌ، إلا للإبلِ التي عليها الهوادجُ؛ كانَ فيها نساءٌ أو لمْ يكنَّ. وهذا بعيرٌ تُظَعِّنُهُ المرأةُ؛ أي: تركبُهُ، وهي تفتعِلُهُ. والظعينةُ: المرأةُ ما دامَتْ في الهودَجِ، فإذا لمْ تَكنْ فيهِ فليسَتْ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "المتكلم".

بظعينةٍ (¬1)، وقالَ عَمرو بنِ كُلثومٍ [من الوافر]: قِفِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يا ظَعِينَا ... نُخَبِّرْكِ اليَقِينَ وتُخْبِرِينَا (¬2) كذا قالَ، وقيَّدَ الظعينةَ بالمرأةِ مادامَتْ في الهودجِ، وصَرَّحَ بأنَّها إذا لمْ تكُنْ فيهِ فليسَتْ بظعينةٍ، وغيرُهُ خالفَهُ في هذا التقييدِ، وهو الصوابُ إنْ شاءَ اللهُ، وعليهِ يدُلُّ الحديثُ؛ فإنَّهُ لا يُمكنُ أنْ يُقالَ: إنَّ النهيَ عن الضربِ مخصوصٌ بما (¬3) إذا كانَتْ في الهودجِ. قالَ الخطَّابيُّ: الظعينةُ: المرأةُ، سُمِّيت (¬4) ظعينةً؛ لأنها تظعنُ مع الزوجِ، وتنتقلُ بانتقالِهِ (¬5). وهذا ليسَ فيهِ تقييدٌ كما في كلامِ الجوهري. وقالَ ابنُ فارسٍ: ظعنَ يظعَنُ ظَعْناً وظَعَناً: إذا شخَصَ، والظعينةُ: المرأةُ، وهذا من بابِ الاستعارةِ، ويُقالُ: الظعائِنُ: الهوادجُ؛ كان فيها نساءٌ، أو لمْ يكنْ (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "الظغينة". (¬2) انظر: "ديوانه" (ص: 78). وانظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2159)، (مادة: ظعن). (¬3) في الأصل: "ما"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "سمي". (¬5) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 54). (¬6) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (2/ 600).

السادسة عشرة

وهذا أيضا يدلُّ علَى إطلاقِ [لفظِ] (¬1) الظعينةِ علَى المرأةِ مِن غيرِ تقييدٍ. السادسةَ عشرة: الإسباغُ قد تكلمنا عليهِ فيما مضَى، وسيأتي ما يتعلقُ منهُ بالفوائدِ في وجهِها. * * * * الوجهُ الخامِسُ: في شيءٍ من العربيةِ، وفيهِ مسائل: الأولَى: قالَ أبو عبدِاللهِ بنُ مالكٍ: (لمَّا) في كلامِ العربِ علَى ثلاثةِ أقسامٍ: الأول: أن تكونَ نافيةً جازمةً، [و] (¬2) قالَ: وقد تقدَّمَ ذكرُها، وأنَّ الذي يليها من الأفعالِ مُضارعُ اللفظِ ماضِي المعنى. والثاني: أن تكونَ حَرفاً يدُلُّ (¬3) علَى وجودِ شيءٍ لوجودِ غيرِهِ، ولا يليها إلا فعلٌ خالصُ المُضيِّ؛ أي: ماضٍ لفظاً ومعنىً؛ كقولهِ تعالَى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59]. وهي حَرفٌ عندَ سِيبَوَيْهِ، وظرفٌ بمعنى (حين) عندَ أبي عليٍّ. قالَ: والصحيحُ قولُ سِيبَويْهِ؛ لأنَّ المرادَ أنهم أُهلكوا بسببِ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "يدخل"، والمثبت من "ت".

ظُلمهِم، [لا أنَّهم أهَلكوا حينَ ظلمِهم] (¬1)؛ لأنَّ ظُلمَهُم مُتَقَدِّمٌ علَى إنذارِهِم، وإنذارُهُم مُتَقَدِّمٌ علَى إهلاكِهِم. قالَ: ولأنها تُقابلُ (لو)؛ لأنَّ (لو) في الغالبِ تدُلُّ علَى امتناعٍ [لامتناع] (¬2)، و (لمَّا) تدُّلُ علَى وجوبٍ لوجوبٍ، ويُحقِّقُ تقابُلَهُما أنَّكَ تقولُ: لو قامَ زيدٌ لقامَ عمرو، ولكنَّهُ لمَّا لمْ يقمْ لمْ يقمْ، ويُقوِّي قولَ أبي عليٍّ أنها قد جاءَتْ لمجرَّدِ الوقتِ في قولِ الراجِزِ: إنِّي لأَرْجُو مُحْرِزاً أنْ يَنْفَعَا إيَّايَّ لمَّا صِرْتُ شَيْخاً قَلِعَا (¬3) والثالث: أن تكونَ بمعنى (إلا) في قَسَمٍ، كقولهِ (¬4): عزَمتُ عليكَ لمَّا ضَربتَ كاتبَكَ سَوطاً. وكقولِ الآخَر [من الرجز]: قَالَتْ لَهُ بِاللهِ يَا ذَا البُرْدَينْ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) أورده ابن سيده في "المحكم" (1/ 218)، وابن منظور في "لسان العرب" (8/ 290)، (مادة: قلع) دون نسبة. وقوله: شيخ قلع: يتقلع إذا قام، ويمشي كأنه ينحدر. (¬4) "ت": "تقول".

لمَّا غَنِثْتَ نَفَساً أوِ اثْنَينْ (¬1) قُلتُ: غَنِثَ - مفتوحُ الغينِ المُعجَمةِ، مكسورُ النونِ، آخِرُهُ ثاءٌ مُثلثةٌ - قالَ ابنُ سِيدَه: غنِثَ غَنثاً: شَرِبَ، ثمَّ تَنَفَّسَ، وأنشدَ البيتَ المذكورَ. وقالَ الشيبانيُّ: الغَنَثُ هاهُنا كنايةٌ عنِ الجماعِ. وقالَ أبو حنيفةَ: إنَّما هو غَنِثَ يَغنَثُ غَنَثاً، وأنشَدَ البيتَ المذكورَ (¬2). قالَ ابنُ مالكٍ: وقد يكونُ بمعنى (إلا) بعد نفى دونَ (¬3) قَسَمٍ، ومنهُ قراءةُ عاصمٍ وحمزة: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32]، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 35]؛ [ما كلٌّ إلا جميعٌ، وما كلُّ ذلكَ إلا متاعُ الحياةِ الدنيا] (¬4)، انتهَى (¬5). وقالَ أبو البقاءِ في "شرحِ اللُّمعِ": وأمَّا (لمَّا) فأصلُها (لم) زِيدَتْ عليها (ما)، وصارَتْ بزيادَتِها اسماً تارةً، وحَرفاً أُخرَى، فإذا وَقَعَ بعدها الفعلُ الماضي كانتْ اسماً للزمانِ واقتضَتْ جواباً؛ ¬

_ (¬1) "ت": "اثنتين". (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 488)، (مادة: غنث). (¬3) "ت": "ذو". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "شرح الكافية" لابن مالك (3/ 1645).

الثانية

كقولكَ: لمَّا قُمتَ قُمتُ، وإنْ وقعَ بعدَها المُستَقبَلُ كانتْ حرفاً جازِماً، واختَصَّت بنفي ما قد فُعِل، وجازَ الوقوفُ عليها دونَ الفعلِ إذا تقدَّمَ ما يدُلُّ عليهِ؛ كقولِكَ: قد قامَ؟ فيقولُ المجيبُ: لمَّا؛ أي: هو مُتَهيِّئٌ لذلكَ، ولم يفعلْ بعدُ. قلتُ: الذي استدلَّ بهِ ابنُ مالكٍ لمذهبِ سِيبَوَيْهِ لا يقوَى؛ فإنَّهُ وإنْ كَانَ الظُلمُ مُتقدِّماً علَى إهلاكِهِم؛ والإنذارُ متقدِماً (¬1) أيضاً، لكِنْ لا يُنافي ذلكَ (¬2) الظرفيةَ؛ لجوازِ (¬3) أنْ يستمِرَّ الظُّلمُ إلَى حينِ الإهلاكِ، فيَصِحَّ معنى الظرفيةِ، اللهُمَّ إلا أنْ يلزمَ حملُ (ظلموا) علَى ابتداءِ ظُلمهِم، فيصِحُّ ما قالَ حينئذٍ (¬4)؛ لأنَّ الابتداءَ لا يكونُ عندَ الإهلاكِ، وقول الراجِز: شيخاً قَلِعَا (¬5). [الثانيةُ] (¬6): لا بُدَّ لـ (لمَّا) من جوابٍ، وقد يكونُ جملةً ابتدائيةً؛ {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان: 32]، و [قد] (¬7) يكونُ مقروناً بـ (إذا) المفاجَأةِ؛ {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا ¬

_ (¬1) "ت": "متقدم". (¬2) "ت": "لكنَّ ذلك لا ينافي". (¬3) في الأصل: "بجواز"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "فحينئذ يصح ما قال". (¬5) كذا في الأصل و "ت"، وكان للكلام تتمة لم يشر إليه في النسختين، والله أعلم. (¬6) زيادة من "ت". (¬7) سقط من "ت".

الثالثة

{يَرْكُضُونَ} [الأنبياء: 12]، وقد يكونُ جملةً فِعليةً؛ [نحو] (¬1): لمَّا قامَ زيدٌ [قامَ] (¬2) عمرو. الثالثةُ: في مقدمةٍ لغيرِها: المحكيُّ عنِ الأخفَشِ: أنَّهُ يرَى زيادَةَ الواوِ، والفاءِ، وثمَّ. قالَ ابنُ مالكٍ: قالَ ابنُ برهانٍ: اعلمْ أنَّ الفاءَ تكونُ [فاءً] (¬3) زائدةً عندَ أصحابنا جميعاً؛ نحو [من الكامل]: لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِساً أهلَكْتُهُ ... وإذا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلكَ فَاجْزَعِي (¬4) وكذلكَ قالَ أبو عُثمانَ وأبو الحسنِ في: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]. [و] (¬5) من زيادةِ الفاءِ قولُ الشاعرِ [من الطويل]: يَموتُ (¬6) أُنَاسٌ أو يَشبُّ فَتَاهُمُ ... ويحدثُ ناسٌ والصَّغيرُ فَيكبَرُ (¬7) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) البيت للنَّمِر بن تَولَب، كما نسبه سيبويه في "الكتاب" (1/ 134)، والمبرد في "الكامل" (3/ 1229)، وابن منظور في "لسان العرب" (6/ 233). وانظر: "ديوانه" (ص: 84). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "تموت". (¬7) أنشده ابن عصفور في كتاب: "الضرائر" له، كما ذكر البغدادي في "خزانة الأدب" (11/ 61).

[و] (¬1) منهُ قولُ الآخرِ [من الطويل]: [و] (¬2) حتَّى تَرَكْنَ العَائِدَاتِ يَعُدْننَي ... وقُلنَ فلا تَبْعَدْ فقُلْتُ ألا ابْعدِي وقالَ أبو الحسنِ: وقد زادوا (ثمَّ)، وأنشدَ [من الطويل]: أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ علَى هوًى ... فثُمَّ إذَا أصْبَحتُ أصْبَحتُ غَادِيَا (¬3) وعليهِ تأوَّلَ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]. وهذا قولُ الكوفيينَ، وهم يرونَ (¬4) زيادةَ الواوِ مع ذلكَ، ويُنشدونَ [من الكامل]: حتَّى إذا قمِلَتْ بُطونُكُمُ ... ورأيتُمُ أبناءكُمْ شَبُّوا وقَلبتُمُ ظَهْرَ المِجَنِّ لنَا ... إنَّ الضَّنينَ الفاخرُ الخِبُّ (¬5) [أرادَ: قلبتُم] (¬6)، فزادَ الواو. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) البيت لزهير بن أبي سلمى. (¬4) "ت": "وهو يرى". (¬5) البيتان أنشدهما ثعلب في "مجالسه" (1/ 59)، وعنه أبو هلال العسكري في "جمهرة الأمثال" (2/ 125). (¬6) زيادة من "ت".

وقالَ بعضُ متأخري النُّحاةِ: (لمَّا) تقَع رابطةً بينَ فعلينِ واجبينِ، يكونُ وجوبُ الثاني مُسبَّباً (¬1) عن وجوبِ الأوَّلِ؛ كقولكَ: لما قدِمَ (¬2) زيدٌ سُرِرنا بهِ؛ لأنها حرفٌ عندَ سِيبَوَيْهِ من بابِ حرفِ الشرطِ. قالَ: ولا تَدخلُ الفاءُ في الثاني؛ لأنَّه لا بُدَّ أنْ يكونَ ماضياً لفظاً ومعنىً؛ كقولِكَ (¬3): لمَّا قدِمَ زيدٌ سُرِرنا، أو معنىً دونَ لفظٍ؛ نحو: لما غِبتَ لمْ نُسرَّ، [وذلك] (¬4) حُكمُ الشرطِ (¬5) الصريحِ في قولكَ: إنْ قامَ زيدٌ لمْ يقمْ عمرو، أو (¬6) قامَ عمرو، إلا علَى مذهبِ الأخفشِ؛ فإنَّه يرَى زيادتَها في نحوِ قولكَ: زيدٌ فقائمٌ، وفي قولهِ: وقَائِلةٍ: خَوْلانَ! فَانْكِحْ فَتَاتَهُم (¬7) ¬

_ (¬1) "ت": "سبباً". (¬2) "ت": "قام". (¬3) "ت": "نحو" بدل "كقولك". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "شرط"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "و"، والمثبت من "ت". (¬7) صدر بيت أنشده سيبويه في "الكتاب" (1/ 139)، وعجزه: وأكُرومة الحيين خِلوٌ كما هيا وانظر: "المحكم" لابن سيده (5/ 297)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 237).

وقالَ الكسائيُّ، وهشامٌ (¬1)، وخَلفٌ من أصحابهِ: وزيادتُها وزيادةُ الواوِ في الأجوبةِ في بابِ الشروطِ - إذا كانتْ جُملاً - أحسنُ؛ كقولِهِ تعالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]. قالَ: وزعمَ بعضُ الكوفيينَ أنَّ (ثمَّ) في قولهِ تعالَى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] زائدةٌ (¬2)، والجوابُ: تابَ عليهِم. [قالوا] (¬3): لأنَّ دُخولَ حُروفِ المعاني علَى الجُملِ أحسنُ من دخولهِا علَى المفرداتِ، فعندَهُ لا تمتنِعُ: لمَّا جاءَ زيدٌ فسُررنا، وهيَ في (لمْ نُسرَّ) أحسنُ زيادةً من (سُرِرنا)؛ لأنَّ لفظَهُ مُضارعٌ، وصريحُ الشرطِ إذا كانَ فعلُهُ ماضياً، وجوابُهُ مُضارِعاً، جازَ دُخولُ الفاءِ فيهِ؛ كقولهِ تعالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]. [قالَ] (¬4): فإنْ كَانَ بينَ الفعلِ الثاني والأولِ في السببِ واسطةٌ محذوفة، كانتْ تلكَ الواسطةُ هيَ الجوابُ، والأحسنُ حينئذٍ أنْ يُؤتَى في الفعلِ الثاني بالفاءِ؛ ليكونَ معطوفاً علَى وجهِ التسبُّبِ علَى الجوابِ ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "وهاشم"، وجاء فوقها في "ت": كذا، قلت: والصواب ما أثبت. (¬2) في الأصل: "زيادة"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت".

المحذوفِ؛ [نحو] (¬1) قولك (¬2): لما عصَى زيدٌ فتابَ الله عليهِ؛ لأنَّ العِصيانَ ليسَ سبباً مُباشراً لتوبةِ اللهِ عليهِ، [وإنما توبتُهُ هي السببُ المباشرُ لذلكُ، فالتقديرُ: لما عصَى تابَ، فتابَ الله عليهِ] (¬3)، فيحسُنُ حينئذٍ دخولُ الفاءِ؛ ليؤذَنَ (¬4) بالعطفِ علَى الفعلِ المُقدَّرِ (¬5)، والتسببِ (¬6) عليهِ، ولا يحسُنُ أن تقولَ: لمَّا عصَى تابَ اللهُ عليهِ، إلا بهذا التأويلِ. وكذلكَ في قولهِ تعالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، التقديرُ: إذا جاؤوها أُذِنَ لهُم في دخولها، وفُتِحتْ أبوابُها؛ لأنَّ المجيءَ ليسَ سبباً [مباشراً] (¬7) للفتحِ، بل الإذنُ في الدخولِ هو السببُ في ذلكَ، وكذلكَ قولُهُ تعالَى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118]، رحِمَهُم، ثمَّ تابَ عليهِم. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "كقولك"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "يؤذن"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "المقدور"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "السبب"، والمثبت من "ت". (¬7) زيادة من "ت".

الرابعة

وهذا التأويلُ أحسنُ من القولِ بزيادةِ هذهِ الحروفِ، وحذفُ المعطوفِ عليهِ وإبقاءُ المعطوفِ سائغٌ؛ نحو قولهِ تعالَى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: 36]، التقديرُ - والله أعلمُ -: فذهبا، فبلَّغا، فكُذِّبا، [فقتلناهُم] (¬1)، فدمرناهُم؛ لأنَّ المعنى يُرشدُ إليهِ. وكذلكَ قولُهُ تعالَى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 54]؛ أي: فعلتُم، فامتثلتُم (¬2)، فتابَ عليكُم، وكذلِكَ: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184]؛ أي: فأفطر، فعليه (¬3) عِدَّةٌ، انتهَى (¬4). الرابعة: الذي جلبَ لنا هذا قولُهُ في الحديثِ: "فلمَّا قدِمنا علَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم نصادفْهُ في منزلِهِ، وصادفنا عائشةَ أمَّ المؤمنين - رضي اللهُ عنها -، فأمرَتْ لنا بخزيرةٍ، فصُنِعَتْ لنا"؛ فإنَّ ذلِكَ ليسَ فيهِ جوابٌ ظاهرٌ لـ (لمَّا)، والذي يُقالُ فيهِ وجوهٌ: الأولُ: زيادةُ الفاءِ علَى حسبِ ما قدَّمنا من مذهبِ من حكيناه (¬5) ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "فامتثلتم أو فعلتم". (¬3) "ت": "عليه". (¬4) وانظر: "شرح الكافية" لابن مالك (3/ 1261). (¬5) في الأصل: "حكينا"، والمثبت من "ت".

عنهُ، فعلَى [هذا] (¬1) [يمكنُ] (¬2) أنْ يكونَ [قولهُ] (¬3): "لمْ نصادفهُ" هو (¬4) الجوابُ، والفاءُ زائدةٌ في قولهِ: فلَم نصادفهُ، والفاءُ [أتَتْ] (¬5) بعدَ ذلكَ للعطفِ، ويمكنُ أن [يكونَ] (¬6) الجوابُ "صادفنا عائشةَ" علَى مذهبِ زيادةِ الواوِ علَى ما تقدَّمَ، والفاءُ بعدَ ذلكَ للعطفِ. الوجهُ الثاني: أنْ يكونَ الجوابُ محذوفاً، والفاءُ للعطفِ، وقد حَكينا (¬7) فيما حَكينا في سياقِ كلامِ المتأخرينَ [منَ] (¬8) النُّحاةِ وتابِعه (¬9) ما معناهُ: الفرقُ بينَ أنْ يكونَ الأولُ سبباً مُباشرًا [للثاني] (¬10)، وبينَ أن لا يكونَ مُباشراً وبينهما واسطةٌ، وأنهُ إذا كان بينَ الفعلِ الأوَّلِ والثاني في التَّسبُّبِ واسطةٌ محذوفةٌ كانتْ تلكَ الواسطةُ هي (¬11) الجوابَ، وأنَّ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "هذا"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت". (¬7) "ت": "قدمنا" بدل "حكينا". (¬8) زيادة من "ت". (¬9) "ت": "توابعه". (¬10) زيادة من "ت". (¬11) في الأصل: "في"، والمثبت من "ت".

الأحسنَ حينئذٍ أنْ يُؤتَى في الفعلِ الثاني بالفاءِ، والذي (¬1) في الحديثِ يكونُ أحسنَ علَى هذا التقديرِ؛ لأنَّ القُدومَ ليسَ سَبباً [مُباشَراً] (¬2) لِعدَمِ المصادفَةِ، ويكونُ التقديرُ: فلمَّا قدِمنا، وأتينا منزلهُ - صلى الله عليه وسلم -، فلم نصادفهُ؛ أو ما هذا معناهُ من التقديراتِ. الوجهُ الثالثُ: أن لا يكونَ شيءٌ ممَّا [دخلَتْ] (¬3) عليهِ الفاءُ هو الجوابُ، ويكونُ الجوابُ محذوفاً بعد ذلكَ، وقد أجازَ بعضُ المُعْرِبينَ لألفاظِ الكتابِ العزيزِ في قولهِ تعالَى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أنْ يكونَ الجوابُ محذوفاً بتقديرِ: رُحماً أو سُعداً، ونحوهُ. فمثلُ هذا يأتي هاهُنا، والقاضي أبو مُحمدٍ بنُ عطيةَ المُفسِّرُ يقولُ في أمثالِ هذا: [إنَّ] (¬4) التقديرَ: فلمَّا أسلما، [أسلما] (¬5) (¬6)، وهو علَى هذا الظاهرِ مُشكِلٌ (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "فالذي". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 225)، (4/ 481). (¬7) في الأصل: "يشكل"، والمثبت من "ت".

الخامسة

الخامسةُ: قد اشتُهِرَ أنَّ جوابَ السؤالِ ب (أو) هو بـ (نعم)، أو (لا)، وجوابُ السؤالِ ب [أم] (¬1) بذكرِ الشيئينِ، أو الأشياءِ، فإذا قُلتَ: أقامَ زيدٌ أو عمرو؟ فمعناهُ [أقامَ] (¬2) أحدُهُما، فيجابُ بما يجابُ بهِ: نعم، أو لا، وإذا قُلتَ: أقامَ زيدٌ أم عمرو؟ فيجابُ بما يجابُ بهِ: أيُّهما قامَ. وأيضاً فمرتَبةُ السؤالِ ب (أم) بعدِ السؤالِ: بـ (أو)؛ فإنَّ (¬3) السؤالَ ب (أم) يكونُ بعدَ العلمِ بثبوتِ أحدِ الشيئينِ عندَ السائلِ، فيسألُهُ بعدَ ذلكَ عنِ التعيينِ. وعلَى مُقتضَى هذينِ الأصلينِ وقعَ السؤالُ ب (أو) في مرتبتِهِ، والجوابُ في محلِّهِ علَى الأصلِ فيهِما. وأشكلَ علَى هذه (¬4) القاعدةِ قولُ (¬5) ذي الرُّمةِ [من الطويل]: تقولُ عجوزٌ مَدْرَجِي مُتَرَوِّحا ... علَى بابِها منْ عندِ أهْلِي وغَادِيَا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "وفي أن"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "هذا"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "في قول"، والمثبت من "ت".

السادسة

أذو زَوجةٍ بالمِصْرِ أمْ ذُو خُصُومةٍ ... أَرَاكَ لها بالبَصرةِ العامَ (¬1) ثاوِيا فقلتُ لها: لا إنَّ أهْلِيَ جِيرةٌ (¬2) فأجابَ (أم) بـ (لا)، وجوابُها بتعيين (¬3) أحدِ الشيئينِ، فاحتاجوا إلَى تخريجِهِ وتأويلِهِ. السادسةُ: قالَ الجَوهَرِيُّ: و (بَيْنَا) فَعْلَ (¬4) أُشبِعَتْ الفتحةُ فصارتْ ألِفاً، و (بينَما) زِيدتْ عليهِ (ما)، والمعنى واحدٌ، تقولُ: بينما نحنُ نرقُبُهُ [أتانا؛ أي: أتانا] (¬5) بينَ أوقاتِ رُقبَتِنا [إيَّاهُ] (¬6)، والجُملُ مما يُضافُ إليها أسماءُ الزمانِ؛ كقولكَ: أتيتُكَ زمنَ الحجَّاج (¬7) أميرٌ، ثمَّ حذفتَ المُضافَ الذي هو (أوقاتُ)، ووليَ الظرفُ الذي هو (بينَ) الجملةَ التي أُقيمَتْ مَقامَ المُضافِ إليها؛ كقولهِ تعالَى: {وَاسْأَلِ ¬

_ (¬1) "ت": "اليوم". (¬2) انظر: "ديوانه" (2/ 112). (¬3) "ت": "بتعين". (¬4) في "الصحاح": "فَعْلَى". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) "ت": "زمن الحاج أمير".

الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. وكانَ الأصمعي يخفِضُ بعدَ (بينا) إذا صلحَ في موضِعِها (بين)، ويُنشِدُ قولَ أبي ذُؤيبٍ بالكسرِ [من الكامل]: بينا تَعَنُّقِهِ الكُماةَ ورَوْغِهِ ... يوماً أُتيحَ له جَرِيءٌ سَلْفَعُ (¬1) وغيرُهُ يَرفعُ ما بعدَ (بينا) و (بينما) علَى الابتداءِ والخبرِ (¬2) (¬3). قلتُ: (تَعَنُّقِهِ) مفتوحُ التاءِ والعينِ، مضمومُ النونِ مشددةً، مكسورُ القاف (¬4) علَى هذا المذهبِ، [و (الكُماةَ) منصوب، و (رَوغِهِ) بالغينِ المُعجَمةِ المكسورةِ علَى هذا المذهبِ] (¬5). وقالَ أبو محمدٍ القاسمُ بنُ عليٍّ الحريري في "دُرَّة الغوَّاصِ في أوهامِ الخواصِ": ويقولونَ: بينا زيدٌ قائمٌ إذ جاءَ عَمرو، فيتلقونَ (بينا) بـ (إذ)، والمسموعُ عن (¬6) العربِ: بينا زيدٌ قائمٌ جاءَ عَمرو، بلا (إذ)؛ لأنَّ المعنى يُخبرُ فيهِ: بينَ أثناءِ الزمانِ جاءَ عَمرو، وعليهِ قولُ أبي ذؤيبٍ: ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان الهذليين" (1/ 18). (¬2) في الأصل: "الجر"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2084 - 2085)، (مادة: ب ي ن). (¬4) في الأصل: "الفاء"، والمثبت من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) "ت": "من".

بينا تَعَنُّقِه الكماةَ وروغِهِ ... يوماً أُتيحَ لهُ جريءٌ سَلْفَعُ فقالَ (¬1): أُتيحَ، ولم يقُل: إذ أُتيحَ. وهذا البيتُ يُنشَدُ بجرِّ (تعنقه) و [رفعه] (¬2)، فمن جرَّ جعلَ الألِفَ في (بينا) مُلحقةً لإشباعِ الفتحةِ؛ لأنَّ الأصلَ فيها (بينَ)، وجرَّ (تعنقه) علَى الإضافةِ، ومن رفعَ رفعهُ علَى الابتداءِ وجعلَ الألِفَ زيادةً لحقَتْ (بين) (¬3)؛ ليوقِعَ بعدها الجُملةَ؛ كما زيدَتْ (ما) في (بينما) لهذهِ العلةِ. وذكرَ أبو محمدِ بنُ قُتيبةَ: قالَ: سألتُ الريَّاشيَّ عن هذهِ المسألةِ فقالَ: إذا وَليَ لفظُ (¬4) (بين) الاسمَ العَلَمَ رُفِعتْ، فقُلتَ: بينا زيدٌ قائمٌ جاءَ عَمرو، وإنْ وليها المصدرُ قالَ: فالأجودُ الجرُّ؛ كهذهِ (¬5) المسألةِ. وحكَى أبو القاسمِ الآمدِيُّ (¬6) في "أمالِيهِ" عن أبي عُثمانَ المازني، قالَ: حضَرتُ أنا ويعقوبُ بنُ السِّكِّيتِ مجلسَ محمدِ بنِ ¬

_ (¬1) "ت": "وقال". (¬2) سقط من "ت"، وفي الأصل: "وروغه"، والصواب ما أثبت، كما في "درة الغواص". (¬3) "ت": "ألحقت ببين". (¬4) "ت": "لفظة". (¬5) في الأصل: "هذه"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "الآبذي".

عبدِ الملكِ الزيَّاتِ فأفضَى في شُجونِ الحديثِ إلَى أن قُلتُ: كان الأصمَعي يقولُ: بينا أنا جالسٌ إذ جاءَ عَمرو مُحال (¬1)، فقالَ ابنُ السِّكيتِ: هذا كلامُ الناسِ، قالَ: فأخذتُ في مُناظَرتِهِ عليهِ، وإيضاحِ المعنى لهُ، فقالَ لي مُحمدُ بنُ عبدِ الملكِ: دعني حتَّى أبينَ له ما اشتبهَ عليهِ، ثم التفتَ إليهِ وقالَ [لهُ] (¬2): ما معنى بينا؟ فقالَ: حينَ، فقالَ: أفيجوزُ أنْ يُقَالَ: حينَ جلسَ زيدٌ إذ (¬3) جاءَ عمرو، فسكَتَ. فهذا (¬4) حُكمُ بينا. وأما (بينما) فأصلُها أيضاً (بينَ) فزيدَتْ عليها (ما)؛ لتؤذِنَ بأنَّها [قد] (¬5) خرجَتْ عن بابِها بإضافةِ (ما) إليها، وقد جاءتْ في الكلامِ تارةً غيرَ مُتلقَّاةٍ بـ (إذ) مثل بينا، واستُعمِلَتْ تارةً مُتلقاةً بـ (إذ) و (إذا) اللذينِ للمُفاجأة؛ كما قالَ [الشاعرُ] (¬6) [من البسيط]: فبينما العسرُ إذْ دارَتْ مَيَاسِيرُ ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "وأخاك"، والتصويب من "درة الغواص". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "أو"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "هذا"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) سقط من "ت".

وكقولهِ (¬1) في هذهِ القطعةِ: وبَيْنَمَا المرءُ في الأحياءِ مُغتَبِطاً إذ صار في (¬2) الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأعاصيرُ (¬3) فتلقَى هذا الشاعرُ (بينما) في البيتِ الأولِ بـ (إذ)، وفي الثاني بـ (إذا). وليس بِبِدْعٍ أنْ يتغيَّرَ حُكمُ (بين) بضمِّ (ما) إليهِ (¬4)؛ لأن التركيبَ يُزيلُ الأشياءَ عن أُصولها، ويُحيلُها عن أوضاعِها ورسومِها، ألا ترَى أنَّ (رُبَّ) لا يليها إلا الاسمُ؟ (¬5) فإذا اتصَلَتْ بها (ما) غيَّرتْ حُكمَها وولِيَها الفعلُ؛ كما جاءَ في القرآنِ: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]. ¬

_ (¬1) "ت": "قوله". (¬2) في الأصل و "ت": "إذا هو"، والتصويب من "درة الغواص". (¬3) الأبيات لحريث بن جبلة العذري، كما ذكر ابن عبد ربه في "العقد الفريد" (3/ 192). وتمام البيت الأول: فاستقدر الله خيراً وارضينَّ به ... فبينما العسرُ إذ دارت مياسيرُ (¬4) "ت": "إليها". (¬5) في "درة الغواص": "لا تدخل إلا على الاسم".

وكذلِكَ (لم) حرفٌ، فإذا زيدَتْ عليها (ما)، وهي أيضاً حرفٌ، صارَتْ (لمَّا) اسماً في بعضِ المواطنِ بمعنى حينَ؛ نحو قولهِ تعالَى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} [العنكبوت: 33]. وهكذا (قلَّ) و (طالَ) لا يجوزُ أنْ يليَهَما الفعلُ، فإنْ وُصِلَتَا بـ (ما) (¬1) وليهما الفعلُ؛ كقولكَ: طالما زُرتُكَ، وقلَّما هَجَرتُكَ، انتهَى (¬2). قالَ ابنُ الضَّائِع في "شرحِ الجُملِ" (¬3): الأكثرُ في الكلامِ أن لا تُذكرَ (إذ) مع الفعلِ بعدها؛ يعني: بعدَ (بينما)، بل زَعَمَ الأستاذُ أبو علي عن أهلِ اللغةِ: أنهم يمنعونهُ، وسِيبَوَيْهِ قد مثَّلَ المسألةَ بـ (إذ) كما فعلَ المؤلفُ - يعني: أبا القاسمِ الزجاجيَّ - في قولهِ: بينما (¬4) زيدٌ قائمٌ إذ جاءَ عمرو. وقالَ ابنُ الضائع: فهو من كلامِ العربِ، وأنشدَ [من المنسرح]: ¬

_ (¬1) في الأصل: "وليا بما". (¬2) انظر: "درة الغواص في أوهام الخواص" للحريري (ص: 76 - 78). (¬3) لأبي الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف الإشبيلي، المعروف بابن الضائع، والمتوفى سنة (680 هـ) شرح على "الجمل في النحو" لأبي القاسم الزجاجي. وله شرح على "الكتاب" لسيبويه، وغيرهما. انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 604)، و"الأعلام" للزركلي (4/ 333). (¬4) "ت": "بينا".

بَيْنَمَا نَحنُ بالأراكِ مَعاً ... إذْ أتَى رَاكِبٌ [علَى] (¬1) جَمَلِه (¬2) ثمَّ قالَ: وقد تجيءُ (إذا) في موضِعِ (إذ)، أنشدَ السّيرافي [من الطويل]: استَقْدِرِ اللهَ خيراً وارْضَيَنَّ بهِ ... فبينما العُسرُ إذْ دارتْ مَيَاسيرُ وبَيْنَمَا المرءُ في الأحياءِ مُغتبِطاً ... إذا هوَ الرَّمسُ تَعْفُوهُ الأعاصيرُ وهذ (إذا) التي للمفاجأةِ، وكأنها (¬3) دخَلَتْ لما في الكلامِ من معنى السببيَّةِ؛ لأنَّ المعنى: إن يكُنِ المرءُ في الأحياءِ مُغتبِطاً إذا الموتُ نازلٌ بهِ. قُلتُ: الضائعُ: بالضادِ المُعجَمة، والعين المُهمَلة. ومِنْ تلقِّي (¬4) (بينما) بالفعلِ [في] (¬5) الشعرِ [قولُ] (¬6) الحماسِيِّ [من الخفيف]: بَيْنَما نَحْنُ بالبَلاَكث (¬7) بالقَا ... عِ سِرَاعاً والعِيسُ تَهْوِي هُوِيَّا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) البيت لجميل بن معمر العذري، جميل بثينة، كما في "ديوانه" (ص: 196). وانظر "الخزانة" للبغدادي (7/ 73). (¬3) في الأصل: "كأنما"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "يتلقى"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من هامش "ت". (¬7) في الأصل: "من بلاكث"، والمثبت من "ت".

السابعة

خَطَرَتْ خَطْرَةٌ علَى القَلْبِ من ذِكـ ... ـرَاكِ وَهْناً فَمَا استَطَعْتُ مُضِيَّا (¬1) والذي في الحديثِ الذي نحنُ في شرحِهِ تلقَّى (بينما) بـ (إذ) في قولهِ: بينما نحنُ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جُلوسٌ إذ دفعَ الراعي غنَمَهُ. السابعة: قولُهُ: "ما وَلَّدْت؟ " قالَ: بَهْمةً، إذا كانَ (ولَّدت) مَعناهُ مَا ذَكرَهُ الخطابيُّ من حُضورِ الولادةِ والمعالجَةِ حتَّى يتبينَ الولدُ (¬2)، فالبَهمةُ غيرُ مولَّدَةٍ بهذا التفسير (¬3)، فلا بُدَّ من إضمارٍ، أو مجازٍ، يصِحُّ بهِ اللفظُ علَى هذا التقديرِ، فيمكِنُ أن تُنصبَ بهمةٌ بفعلٍ مُضمرٍ؛ كأنَّهُ قالَ: وَلَّدْتُ بهمةً؛ لدلالةِ (وَلَّدْتَ) علَى الولادةِ؛ ولأنَّ المقصودَ إنما هو معرفةُ المولودِ، لا معرفةُ المولَّدِ؛ الذي هو الشاةُ، ويمكنُ أنْ يُحذفَ مُضافٌ في الكلامِ. العاشرة (¬4): أصلُ الشاة: شَوْهَةٌ علَى (فَعْلَة)، مفتوح الفاء، ساكن العين، واللامُ هاء، [وهذا يحتاج إلَى أمرين: أحدهما: الدلالة علَى أنَّ اللامَ هاء] (¬5)، ودليلُهُ قولُهم في الجمعِ: شِيَاه، وفي التصغيرِ: شُوَيْهَة، ثم حذفت اللام، وهي الهاء ¬

_ (¬1) البيتان لأبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، كما نسبهما ابن قتيبة في "الشعر والشعراء" (2/ 564). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 54). (¬3) "ت": "التسفير". (¬4) جاء على هامش "ت": "كذا وجد". يعني: لم تذكر الفائدة الثامنة والتاسعة. (¬5) زيادة من "ت".

الحادية عشرة

علَى غير قياس، كما حُذِفَ (يد) و (دم)، فبقيت التاء تطلب بفتح ما قبلها، مكان (¬1) شَوَة، فتحرَّكت الواو وانفتحَ ما قبلها (¬2)، فانقلبت ألفاً، فقالوا: شاة. والثاني: [الدليلُ] (¬3) علَى أنَّ عينَ الكلمةِ ساكِنٌ، ودليلُهُ: أنَّهُ الأصلُ؛ لأنَّ الحرفَ لا تُدَّعَى فيهِ الحركةُ إلا بدليل عارضٍ. الحادية عشرة: أَمَةٌ: أصلُها أَمَوَةٌ علَى (فَعَلةٌ)، مفتوح الفاءِ والعينِ معاً، واللامُ واوٌ، والدليلُ علَى كونها واواً قولُهُ في الجمعِ: أمَواتٌ، والدليلُ علَى تحريكِ العينِ (¬4). الثانية عشرة: [قالَ الخطابيّ] (¬5): لا تحسِبَنَّ - مَكسُورةُ (¬6) السينِ - إنما هي لغةُ عُليا مُضرَ، وتحسَبنَّ - بفتحِها - لغةُ سُفلاها، وهو القياسُ عندَ النحويينَ؛ لأنَّ المُستَقبَلَ من (فعِل) - مكسورةَ العينِ - (يفعَلُ) - مفتوحَها - كعلِمَ يعلَمُ، وعجِلَ يعجَلُ، إلا أنَّ حروفاً شاذة قد جاءَتْ نحو: نعِم ينعِمُ، وبئِسَ يبئِسُ، وحسِبَ يحسِبُ، وهذا في ¬

_ (¬1) "ت": "وكان". (¬2) في الأصل: "وقبلها فتحة"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) كذا في الأصل و "ت"، وجاء على هامش إشارة تدل على وجود تتمة للكلام. (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "مكسور"، والمثبت من "ت".

الثالثة عشرة

الصحيحِ، وأمَّا المعتلُ فقد جاءَ فيهِ: ورِم يرِمُ، ووثقَ يثيقُ، وورع يرِعُ، وورِي يرِي (¬1). الثالثة عشرة: الغنمُ لفظٌ يدلُّ علَى الكثرةِ، ولا واحدَ لهُ في لفظِهِ، وهو اسمُ جمعِ. الرابعة عشرة: قولهُ: "مئةٌ" صفَةٌ للغنمِ، ولا يمنعُ من ذلكَ كونها غيرَ مُشتقَّةٍ في ظاهرِ لفظِها؛ لأنَّهُم قد يصِفونَ بما ليسَ بمشتقِ بتأويلِهِ علَى ما لزِمَهُ من معنىَ مُشتقِّ، تقولُ: مررت بحبلِ ذراعِ، وبحبل سبعة أذرع، بتأويل: حبل قصير، وحبل طويل، وكذا (¬2) أسماءُ الأعدادِ يُوصفُ بها؛ كـ: مرَرتُ بنسوةِ أربعِ، وكذلكَ قالوا [في] (¬3): مررتُ بقاعٍ عرفَجٍ، [و] (¬4) العرفَجُ اسم غيرُ مشتقٍّ، تأويلُهُ حسَنٌ (¬5). قالَ أبو سعيدِ السِّيرافي - رحمهُ الله - (¬6): ما كانَ من المقاديرِ، إذا ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 54). (¬2) "ت": "كذلك". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "يحسن"، والمثبت من "ت". (¬6) هو إمام النحو، العلامة، صاحب التصانيف الفائقة، الحسن بن عبد الله بن المرزبان أبو سعيد السيرافي البغدادي، شرح "الكتاب" لسيبويه، فأجاد فيه، وكان من أعيان الحنفية، رأساً في نحو البصريين، وقد أخذ اللغة عن ابن دريد وغيره، توفي سنة (368 هـ). =

تفرَّدَ كانَ نعتًا لما قبلَهُ بما يتضمَّنُ لفظُهُ من الطُّولِ والقِصَرِ، والقِلةِ والكثرةِ، فنابَ ذلكَ عن طويلٍ وقصيرٍ، وقليل وكثير، وإذا قال: مررتُ بإبلٍ مئةٍ، فكأنَّهُ قالَ: بإبل كثيرة، وإذا قالَ: بإبل خمسٍ، كأنَّهُ قالَ: بإبلٍ قليلةٍ. ويمكنُ أنْ يقالَ: يمكنُ أن تُعرَبَ مئةٌ بالبدليَّةِ. الخامسة عشرة: "أُميِّتكَ" تصغيرُ أمةٍ، والأصلُ في أمةٍ: أَمَوةٌ؛ لقولهم في الجمعِ: أمَوَاتٌ، وآم، فأمَّا أخذُهُ من أمواتٍ فظاهرٌ؛ لظهورِ الواوِ في الجمعِ، وأمّا آم فإنما هو بعدَ اعتبارِ الواوِ أيضاً؛ كما تكلَّموا فيهِ في التصريفِ، وأنَّ أصلَهُ (أأْمُو) علَى (أَفْعُل)، قُلبَتْ الهمزةُ الثانيةُ ألِفاً وجوبًا كآدمَ، فوجَبَ قلبُ الواوِ المتطرفَةِ ياءً؛ لوقوعِها طَرفاً بعد ضمَّةٍ، وهو مرفوضٌ في الأسماءِ المتمكِنةِ، فوجَبَ كسرُ ما قبلها، فصارَ آمي، ثم أُعلَّ إعلالَ قاضي؛ أي: دخلَ التنوينُ، فحُذِفتْ الياء لالتقاء الساكنين، فصار (آم) تقول في الرفع: هذه آمٍ، وفي الجرِّ مررت بآمٍ، وفي النصب: رأيتُ آمياً (¬1)، فإذا صَغَّرْتَ ردَدتَ اللامَ المحذوفةَ، فصارَتْ (أميوة)، اجتمعتْ الواو والياءُ وسُبقَتْ إحداهُما (¬2) بالسكونِ ¬

_ = انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (7/ 341)، و"بغية الوعاة" للسيوطي (1/ 507)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (16/ 247). (¬1) في الأصل: "آمًا"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "أحدهما"، والتصويب من "ت".

الوجه السادس: في شيء مما يتعلق بالألفاظ غير ما تقدم، وفيه مسائل

فقُلبَتْ الواو ياءً، وأُدغِمَت علَى القاعدةِ. * الوجهُ السادسُ: في شيءٍ مما يتعلقُ بالألفاظِ غيرِ ما تقدَّمَ، وفيهِ مسائلُ: الأولَى: التجنيسُ عندَ أهلِ البديعِ أنواعٌ: منها التجنيسُ الخطِّي، ووقعَ في الحديثِ، منهُ قوله - عليه السلام -: "ما نُريدُ أنْ تزيدَ"، وهو من نوعِ البديعِ الذي لا تَكَلُّفَ فيهِ. الثانية: الجوابُ عن (أم) و (أو) بالنِّسبَةِ إلَى الاحتياجِ إلَى السؤالِ بـ (أم) بعدَ السؤالِ بـ (أو) يختلفُ باختلافِ مقصودِ السائلِ، ومتعلَّقِ غرضِهِ، فإنْ لم يتعلقْ غرضُهُ بالتعيينِ اكتفَى بالسؤالِ بـ (أو)، وإنْ تعلَّقَ احتاجَ بعد السؤالِ بـ (أو) إلَى السؤالِ بـ (أم)، وقد يكونُ الجوابُ عن (أو) مُستلزِماً لحصولِ الغرضِ للتعيينِ (¬1)، فلا يحتاجُ إلَى سؤالِ (أم)، وإنْ كَانَ مُتعلِّقَ [الغرضِ] (¬2). وقد وقعَ في الحديثِ السؤالُ بـ (أو)، [و] (¬3) لم يقعْ بعدهُ السؤال بـ (أم)، ولعلَّ سببَهُ حصولُ الغرضِ منَ الصيانة (¬4) بالإصَابةِ أو بالأمرِ؛ ¬

_ (¬1) "ت": "إلى التعيين". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "الضيافة".

الثالثة

لاستلزامِ الأمرِ الإصابةَ إذْ هي المقصودُ بالأمرِ. الثالثة: السؤالُ (¬1) بـ (هل) يقتضي احتمالَ عدمِ وقوعِ الشيءٍ، و [احتمالَ] (¬2) عدمِ وقوعِ أحدِ [هذينِ] (¬3) الشيئينِ، يمكنُ أنْ يكونَ لعدمِ ما تقعُ بهِ الإصابةُ أو الأمرُ بالفعلِ، ويمكن أنْ يكونَ للتأخيرِ مع الإمكانِ، ولا ينبغي أنْ يُحمَلَ علَى هذا لمخالفتهِ (¬4) لعادةِ كرامِ العربِ، لا سيَّما أهلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا حملناهُ علَى الأول، كان دليلاً علَى أمرينِ: أحدهُما: ما كانت معيشةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأهلِهِ عليهِ من التقلُّلِ من الدنيا، كما وقعَ التصريحُ بهِ في أحاديثَ أُخَرَ، واستلزامُ ذلكَ للزُّهدِ في الدنيا والتمتُّعِ بها مع (¬5) القُدرَةِ. والثاني: ما يَدُلُّ عليهِ من كريمِ الأخلاقِ من عدمِ السؤالِ عمَّا (¬6) يكونُ في البيتِ من المطعوماتِ وما يشبهُها، كما وقعَ المدحُ [به] (¬7) ¬

_ (¬1) في الأصل: "هذين السؤال"، والمثبت "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "هذه المخالفة"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "على"، والمثبت من "ت". (¬6) في الأصل: "كما"، والمثبت من "ت". (¬7) سقط من "ت".

الرابعة

[بقولهِ: و] (¬1) لا يسألُ عمَّا عَهِدَ. الرابعة: قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: "فاذبح لنا" يُحتمَلُ أنْ يكونَ الضميرُ في "لنا" للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأضيافِهِ، وإذا حُمِلَ عليهِ كان فيهِ معنىً لطيف؛ وهو العُدولُ عن اللفظِ الذي يُشعِرُ بأنَّ الذبحَ (¬2) لأجلِ الضيفِ، ويُحتملُ أنَّه (¬3) لهم ولهم (¬4). ولا شكَّ أنَّ اللفظَ المعينَ لأنَّهُ لأجلِ الضيفِ قد يوقعُ عِندهُ التكلُّفَ لأجلِهِ (¬5)، ولهذا ترى الضِّيفانَ إذا فهموا من المُضيفِ مثلَ هذا بادروا إلَى منعهِ من التكلُّفِ، فيكونُ العدولُ إلَى [اللفظِ] (¬6) الذي لا يُعيِّنُ أنَّ الذبحَ لهُم أَدخَلَ في بابِ الكرمِ وإيناسِ الضيفِ، مما إذا عَيَّنَ [أنه] (¬7) للضيفِ. الخامسة: قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: "مكانَها" تأكيدٌ للمعنى الذي أَخبرَ عنهُ - صلى الله عليه وسلم - من أنَّهُ لا يريدُ أن تزيدَ. السادسة: "مكانها" بمعنى: عوضِها وبدَلِها، واستعمالُ المكانِ في ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "اللفظ"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "أن"، والمثبت من "ت". (¬4) أي: للنبي - عليه السلام -، وأهل بيته، وللأضياف. (¬5) "ت": "عنده". (¬6) سقط من "ت". (¬7) زيادة من "ت".

السابعة

ذلكَ مجازٌ، وكأن سبَبَهُ أنَّ الجالسَ في مكانٍ كَان غيرُهُ جالِساً فيه، لمَّا امتنعَ اجتماعُهُما في وقتٍ (¬1) واحِد، دلَّ علَى زوالِ الأولِّ عن المكانِ (¬2)، وقيامِ الثاني فيهِ بدلَهُ، وكذلكَ ما كان عوضاً عن الشيءِ (¬3) يقومُ مقامَهُ مع عدمِهِ في نفسِهِ. السابعة: قولهُ: "أُمئتَكَ" تصغيرُ تحقيرٍ، فقد حصلَ التنبيهُ علَى هذا المعنى من وجهينِ: أحدهُما: ما دلَّ عليهِ مدلولُ الأمَّةِ من الرقِّ. والثاني: ما دلَّ عليه التصغيرُ، وقد روِي في غيرِ هذه الرواية: "أَمَتَك" مِن غيرِ تصغيرٍ (¬4)، والله أعلمُ. * الوجهُ السابع: في الفوائدِ والمباحثِ، وفيهِ مسائلُ: [الأولَى] (¬5): الوِفادةُ إلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من القبائلِ، إحدَى ¬

_ (¬1) في الأصل: "معنى"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "القيام". (¬3) "ت": "النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهو خطأ. (¬4) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (166)، والحاكم في "المستدرك" (7094)، وغيرهما. (¬5) زيادة من "ت".

الثانية

الوظائفِ علَى من كان في زمنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحدُ أنواعِ ما ينطلِقُ [عليه] (¬1) اسمُ الهجرةِ. الثانية: فائدتُها المبايعةُ علَى الإسلامِ، وتعلُّمُ شرائعِهِ، والتفقُهُ في الدينِ، قالَ الله تعالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122]. والحمل علَى هذهِ الوِفادةِ وهذهِ الطائفةِ مذهبٌ لبعضِ المفسرينَ، ويكونُ المعنى علَى هذا التقديرِ: أنَّ الطوائفَ لا تنفُرُ من أماكنِها (¬2) وبوادِيها جملةً، بل بعضهم؛ ليحصلَ التفقُّه بوفودِهِم علَى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وإذا رجعوا إلَى قومهِم أعلموهُم بما حصلَ لهُم. والفائدةِ (¬3) في كونهِم لا ينفرونَ جميعاً عن بلادِهِم حصولُ المصلحَةِ في حفظِ من يتخَلَّفُ من بعضهِم ممَّن لا يمكنُ نفيرُه (¬4) أو يتَعَسَّرُ. وأما (¬5) علَى مذهبِ بعضِ المفسرينَ: فلا يتناولُ هذهِ الوفادةَ (¬6) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "إمكانها"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "من الفائدة"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "تفسيره"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "فأما"، والمثبت من "ت". (¬6) "ت": "الفائدة".

ولا الطائفة؛ فإنَّ بعضهُم يقولُ: إنَّ الفئةَ النافرَةَ هي من يسيرُ [مع] (¬1) رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في مغازيهِ وسراياهُ، والمعنى حينئذٍ: أنَّهُ ما كانَ لهُم أنْ ينفروا أجمعينَ مع الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في مغازيهِ لتحصُلَ الفائدةُ (¬2) المتعلقةُ ببقاءِ من يبقَى في المدينة (¬3)، والفئةُ النافرةُ مع الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - تتفَقَّهُ في الدينِ بسببِ ما يرونَ (¬4) ويسمعونَ منهُ، فإذا رَجعوا إلَى من بقي بالمدينةِ أعلموهُم بما حصلَ لهم في صحبةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - من العلمِ (¬5). والأقربُ الآنَ عندي: هو الأوَّلُ، والأولَى من هذا التأويلِ؛ لأنَّا إذا حمَلناهُ علَى هذا الثاني فقد يخالفُهُ ظاهرُ قولِي تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]، وقولُهُ تعالَى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]؛ فإن ذلكَ يقتضي؛ إمَّا طلبَ الجميعِ بالنفيرِ (¬6)، أو إباحتَه، وذلكَ في ظاهرِ؛ يخالِف النَّهي عن نفيرِ الجميعِ، وإذا (¬7) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "المصالح". (¬3) في الأصل: "بالمدينة"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "ما يؤمرون". (¬5) انظر: "تفسير الطبري" (14/ 573). (¬6) في الأصل: "بالتنفير"، والمثبت من "ت". (¬7) "ت": "فإذا".

تعارضَ مُجمَلانِ يَلزَمُ من أحدِهِما تعارضٌ، ولا يلزمُ منَ الآخَرِ، والثاني أولَى، ولا نعني بلزومِ التعارضِ لزومًا لا يُجابُ عنهُ، ولا يتخرَّجُ علَى وجهٍ مقبولٍ، بل [ما] (¬1) هوَ أعمُّ من ذلكَ؛ فإنَّ ما أشرنا إليهِ من الاثنينِ يجابُ عنهُ بأن تُحمَلَ (أو) في قولهِ تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] علَى التفصيلِ دونَ التخييرِ، كما رضيَهُ بعضُ المتأخرينَ من النُّحاةِ، فيكونُ نفيرُهُم (¬2) ثُباتٍ فيما (¬3) لا تدعو الحاجةُ إلَى نفيرهِم فيهِ جميعاً، ونفيرهُم جميعاً فيما تدعو الحاجةُ إليهِ. ويحملُ قولُهُ تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] علَى ما إذا كان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - هو النافِرُ للجهادِ، ولم تحصُل الكفايةُ إلا بنفيرِ (¬4) الجميعِ ممَّن يصلُحُ للجهادِ. وهذا أولَى من قولِ من يقولُ بالنسخِ، وأن تكونَ هذهِ الآيةُ ناسخَةً لما اقتضَى النفير (¬5) جميعاً. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "نفرهم". (¬3) "ت": "مما". (¬4) في الأصل: "بتنفير"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "التنفير"، والمثبت من "ت".

الثالثة

ومن المفسرينَ من يقولُ: إنَّ منعَ النفيرِ (¬1) جميعاً حيثُ يكونُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ؛ فليس لهم أنْ ينفروا جميعاً ويتركوه وحدهُ (¬2). والحملُ أيضًا علَى النفيرِ (¬3) الذي ذكرناهُ أولَى من هذا؛ لأن اللفظَ يقتضي أن نفيرَهُم للتفقُّهِ في الدينِ (¬4) والإنذارِ، ونفيرُهُم مع بقاء الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -[بعدَهُم] (¬5) لا يناسِبُهُ التعليلُ بالتفقُهِ في الدينِ؛ [إذ التفقهُ منهُ - صلى الله عليه وسلم -، وتعليمُ الشرائعِ من جهتِهِ، فكيفَ يكونُ خروجُهُم عنهُ فِعلاً للتفَقُّهِ في الدينِ] (¬6)؟! الثالثة: الوِفادةُ المذكورةُ التي ذكرنا أنها أحدُ الوظائفِ لا تتعيَّنُ، ولا بدَّ أن تكونَ هذهِ الوِفادةُ، قالَ المباركُ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الكريمِ في كتابِهِ "الشافي" (¬7): والذي جاءَ في رواية الشافعيِّ: "كنتُ وفدَ بني ¬

_ (¬1) في الأصل: "التنفير"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (14/ 568). (¬3) في الأصل: "التنفير"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "للدين"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) لأبي السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم، المعروف بابن الأثير الجزري، المتوفى سنة (606 هـ) شرح مسند الإمام الشافعي في خمس مجلدات، سماه: "شفاء العِي في شرح مسند الشافعي". انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1683).

المنتَفِقِ" (¬1) بغيرِ ألفٍ، قالَ: ووجهُهُ أنَّهُ جَعلَ نفسهُ بمنزلةِ الوفدِ الذين هُم الجماعةُ؛ لأنَّ العادةَ في مثل هذا الأمرِ العظيم أِن لا ينفرَ (¬2) فيهِ إلا جماعة منَ الرُّسُلِ، لاسيَّما مثل القدومِ علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وما كان قد ظهرَ من أمرِه العظيمِ وشأنِهِ الجليلِ، الذي غيَّر الأديانَ ونسَخَ (¬3) الشرائِعَ، فانثالَ (¬4) الناسُ إليهِ بالوقوفِ علَى حقيقةِ أمره، وكنهِ شأنِهِ، فكانَ (¬5) كلُّ قومٍ يُنفِذونَ إليهِ جماعةً من أعيانهِم وأشرافِهِم، يكشِفونَ لهم ذلِكَ، وما كانوا يقنعونَ بالواحدِ والاثنينِ، إنما كانوا يَندبونَ إليهِ جماعةً، فلمَّا كانَ هذا الرجُلُ عظيماً في قومِهِ، نزلوهُ مَنزِلَ الجماعةِ في الوثوقِ والاكتفاء بهِ في الإصدارِ والإيرادِ، فندبوه وحدَهُ، فقالَ: كنتُ وفدَهُم؛ أي: الذي سدَّ مَسدَّ وفدِهِم، وقامَ مقامَهُ، وجائزٌ في العربيةِ أنْ يَردَ لفظُ الجماعةِ ويرادَ بهِ الواحِدُ؛ كقولهِ تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، أرادَ بالناسِ الأؤلِ: نُعَيمَ بنَ مَسعودٍ، وبالثاني: أبا سفيانَ بنَ حربٍ؛ كذا جاءَ في التفسيرِ. ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 15)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 303). (¬2) "ت": "لا ينفد". (¬3) في الأصل: "عبر الآذان وفتح"، والمثبت من "ت". (¬4) انثال الناس: انصبوا وتوافدوا إليه. (¬5) "ت": "وكان".

الرابعة

قُلتُ (¬1): هذ وفادَةٌ غيرُ الأولَى ليسَتْ مُتعينةً، ولا أُبعِّدُ أنْ يكونَ (وفدُ) الذي شرحَهُ من تغييرِ بعضِ الرواةِ، فينْ كَانَ مُخفَّفًا فالذي ذَكَرَهُ في توجيهِهِ وجهٌ. الرابعة: قولُهُ: "كنتُ وافِدَ بني المُنتَفقِ"، أو "في وفدِ بنيِ المُنتفقِ"، معناهُما مُتغايرٌ، ليسَ مدلولُ أحدِهِما ما يدلُّ عليهِ الآخرُ؛ لأنَّ قولَهُ: "كنتُ وافدَ بني المنتفِقِ" يُشعرُ إمَّا بتفردِهِ، أو (¬2) بترأسُه علَى من مَعَهُ، وقولُهُ: "في وفدِ بنيِ المُنتفقِ" ينافي أحدَ هذينِ المعنيينِ، ولا يُشعرُ بالآخَرِ. الخامسة: إذا تبيَّنَ التفاوتُ؛ ففيهِ التيَقُّظُ لمدلولاتِ الألفاظِ، وتَرادُفِها وتَباينها، والتحرُّزُ عمَّا يقَعُ منَ الغلطِ فيهِ، وإنْ لم يتعلَّقْ به الغرضُ المقصود بالذاتِ [فيما يُخبرُ بهِ؛ تحرِّياً للصدقِ، وإقاعةً لواجدِ الحق في الكلامِ؛ لأن الغرضَ المقصودَ بالذاتِ] (¬3) ما وَقعَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سُؤالاً وجواباً وحالاً. السادسة: [الظاهِر] (¬4) أنَّ هذا التردُّدَ في قولهِ: "وافد يني المُنتفقِ"، أو"في وفد بني المنتفقِ"، من الراوي عن الصحابيِّ، أو من دونَهُ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "وقلت"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "وإما". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

السابعة

لا منَ الصحابِيِّ؛ لأنَّ انفرادَهُ بالوفادَةِ، أو رياستَهُ علَى الوافدينِ إلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَبعدُ في العادةِ نسيانُ مِثلِها. السابعة: [قولهُ] (¬1): "فأمرتْ لنا بخزيرةٍ، فصُنِعتْ لنا"، عادةٌ كريمة من الكرامِ، والاهتمامِ بالضَّيفِ في المبادرةِ إلَى نزلهِ؛ لما في ذلكَ من المبادرةِ إلَى حق الضيفِ، وتعجيلِ سرورِه بالاهتمامِ بإكرامِهِ. الثامنة: [يجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ بإذنٍ عامٍّ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، و] (¬2) يجوزُ أنْ يكونَ بشهادةِ العادةِ بمثلِهِ؛ اكتفاءً بالدلالةِ علَى الرضَا عن التصريحِ، وهذا أقربُ إلَى عادةِ كرامِ العربِ، لاسيَّما (¬3) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أيضًا بناء علَى الظاهرِ في أنَّ المصنوعَ مِلكُهُ - صلى الله عليه وسلم -. التاسعة: يُؤخَذُ منهُ إكرامُ الضيفِ بما الحاجةُ داعيةٌ إليهِ، ورُبَّما زادَ علَى الحاجةِ ما (¬4) يُتفَكَّهُ بهِ زيادةً في الإكرامِ. ووجهُهُ من الحديثِ: أنَّ الحاجَةَ داعيةٌ إلَى القُوتِ، وسدّ ضرورةِ الجوعِ، والتمرُ المتَفَكَّهُ بهِ، وقصدُ الحلاوةِ منهُ، زائدٌ علَى ذلكَ، وقد يكونُ لأنَّ الخزيرةَ غيرُ كافيةٍ، والتمرُ قوتٌ فتكمُلُ بهِ الحاجةُ، لكنَّهُ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت" زيادة: "سيدنا". (¬4) "ت": "بما".

العاشرة

شيءٌ لا دليلَ عليهِ، وقصدُ التحلي بالتمرِ ظاهرٌ فيهِ، مُعتادٌ مقصودٌ في التفكُهِ، فلا يُترَكُ اعتبارُهُ (¬1) لأمرٍ محتمَلٍ لا دليلَ عليهِ. العاشرة: قولهُ - عليه السلام -: "هل أصبتُم شيئًا، أو أُمِرَ لكُم بشيءٍ" يدُلُّ علَى أن الكلامَ محمولٌ علَى ما يُعلمُ من المقصودِ بهِ، لا علَى ظاهرِه، إذ ليسَ المقصودُ مُجرَّدَ إصابةِ شيءٍ ما، ولا الأمرَ بشيءٍ ما، وفَهمُ المقصودِ؛ إما أنْ نَجعلَهُ مأخوذاً من مُجرَدِ العُرفِ، وإمَّا أنْ نجعلَهُ من حذفِ الصفةِ، فيدخلُ في فنِّ (¬2) العربية، والأوَّلُ عندي أولَى؛ لأنَّ الفَهمَ يحصُلُ مِن غيرِ شعورٍ بحذفٍ أصلاً، وأمثالُ هذا كثيرٌ. الحادية عشرة: مخاطبةُ الصحابةِ - رضوانُ الله عليهِم - بـ (يا رسولَ الله)، و (يا نبيَّ الله) في المحاوراتِ سُؤالاً وجوابًا، والتزامُ ذلكَ في أكثرِ الأوقاتِ، يُؤخَذُ منهُ مخاطبةُ الأكابِرِ والعُلماء بما هو تعظيمٌ لهم، لكن استحبابَهُ في حقِّ غيرِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - لكونهِ تسبُّبًا إلَى سرورِ المؤمنِ أو المعظَّمِ، وأما مخاطبةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فامتثالاً لقولِ الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] علَى أحدِ التأوبلينِ. الثانية عشرة: قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "فاذْبَحْ لنا مَكَانهَا شاةً" فيهِ التقديمُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "اعتبار"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "قول"، والمثبت من "ت".

الثالثة عشرة

لأعظمِ (¬1) المصلحتينِ، والفعلُ لأفضلِ الإكرامينِ، فإنَّ الشاةَ أنفعُ في الضيافةِ، وأكملُ من البَهمةِ. الثالثة عشرة: فيهِ دليلٌ علَى [صِحَّةِ] (¬2) استنابةِ الإنسانِ فيما له مباشرتُهُ بنفسِهِ، وقد يُؤخَذُ منهُ جوازُ الوكالةِ. الرابعة عشرة: فيه دليلٌ علَى التفويضِ والتخييرِ في مثلِ هذا، وإنِ اختلفَ الغرضُ في آحادِهِ، ويَنشأُ من هذا نظرٌ في الوكالةِ إذا قالَ: بعْ عبداً من عبيدي، أو شاةَ من غنَمي، [وهي المسألةُ] (¬3). الخامسة عشرة: قالَ الرافعيُّ الشافعيُّ (¬4). السادسة عشرة (¬5): قولُهُ - عليه السلام -: "لا تَحسِبَنَّ أنَّا من أجلِكَ ذَبَحْنَاها" فيهِ مَا ذَكرَهُ الخطابيُّ - رحمهُ الله -: أنَّ معناهُ تركُ الاعتدادِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "لأجل عظم"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) ورد على هامش الأصل "بياض"، وفي "ت": "بياض نحو أربعة أسطر في الأصل". (¬5) جاء في الأصل: "السادسة عشرة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاذبح لنا مكانها شاة"، فيه تقديم لأعظم المصلحتين والفعل لأفضل الإكرامين، فإن الشاة أنفع في الضيافة، وأكمل من البهمة". كذا وقع في الأصل، وهو تكرار للفائدة الثانية عشرة المتقدمة، ولم يقع هذا الخطأ في النسخة "ت"، وعليه فإن ترقيم المسائل بدءاً من هذه الفائدة أثبته موافقًا للنسخة "ت" حتى الفائدة العشرين.

السابعة عشرة

[به] (¬1) علَى الضيفِ، والتبرؤُ من الرياءِ (¬2). قُلتُ: أمَّا ترك الاعتدادِ فقد تقدَّمَ لنا في "لنا" ما يُشيرُ إليهِ بألطف في الدلالةِ من هذا، وأمَّا التبرؤ من الرياءِ فينبَغي أنْ يجعلَ وجهاً آخرَ. ووجا ثالِثٌ: أنْ يكونَ المرادُ التنبيه (¬3) علَى الزيادةِ من الاستكثارِ في الذُنيا، والرغبةِ فيما زادَ علَى ما تقتضيهِ الحاجةُ أو المصلحةُ، ويدُلُّ عليهِ ويُشعِرُ بهِ قولُه - عليه السلام -: "لا نُرِيدُ أن تَزِيدَ" إلَى آخرِه. وليسَ بينَ هذهِ المعاني المحتملةِ تنافٍ، فيُمكنُ أن تُرَادَ كُلها؛ أعني: عدمَ الاعتدادِ علَى الضيفِ، والتبرؤَ، والزهادةَ. السابعة عشرة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نُريدُ أنْ تَزيدَ" فيه الزهادةُ في الدنيا، وعدمُ الرغبة في الاستكثارِ منها. وأما الانتهاءُ إلَى هذا العدد، فلعلَّ السببَ فيه أنَّ الحاجةَ داعيةٌ إليه. الثامنة عشرة: قد يُؤخَذُ [منهُ] (¬4) ترجيحُ اتخاذِ الغنَمِ علَى غيرها منَ الحيوانِ، وقد وردَ في بعضِ الأحاديثِ ما يدُلُّ أو يُشعرُ بذلكَ، وهو ما جاءَ مما يدُلُّ علَى الأمرِ باتخاذِ الأغنياءِ الغنمَ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 54). (¬3) "ت": "للتنبيه". (¬4) زيادة من "ت".

التاسعة عشرة

والفقيرِ (¬1) الدجاجَ (¬2)، وما جاءَ: أنَّ الشاةَ من دوابِّ الجنَّةِ (¬3)، وفِعلُهُ - صلى الله عليه وسلم -، واتخاذُهُ لها مما قد يُشعرُ بذلِكَ. التاسعة عشرة: [فيه دليلٌ] (¬4) علَى جوازِ ذكرِ الصفاتِ المكروهةِ أو الممنوعةِ من الغيرِ بحاجةِ الاستفتاءِ ومعرفَةِ الحُكمِ، أو بحاجةِ (¬5) الاستشارةِ؛ لقولهِ: "إنَّ في امرأةً، وإنَ في لسانِها شيئًا"، ولم يُنكرْ عليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. الحاديةُ والعشرون (¬6): وفيهِ التورُّعُ عن التصريحِ بمثلِ هذا إذا حصلَ فهمُ المعنى، مِنِ [قوله] (¬7): "شيئاً"، ولم يَقُل: بذاءةً (¬8)، وقد ¬

_ (¬1) "ت": "والفقراء". (¬2) رواه ابن ماجه (2307)، كتاب: التجارات، باب: اتخاذ الماشية، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وإسناده ضعيف؛ فيه علي بن عروة منكر الحديث كما قال ابن عدي في "الكامل" (5/ 208)، وغيره. (¬3) رواه ابن ماجه (2306)، كتاب: التجارات، باب: اتخاذ الماشية، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وإسناده ضعيف، كما ذكر ابن عدي في "الكامل" (3/ 239). (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": الحاجة". (¬6) "ت": "الحادية والعشرون" وجاء في الهامش: كذا وجد، وقد اتفقت النسختان بدءاً من هنا في الترقيم. (¬7) زيادة من "ت". (¬8) "ت": "بذاء".

الثانية والعشرون

يكونُ هذا التعريضُ واجِبًا إذا كان التصريحُ مُحرَّمًا، وحصلَ الاهتداءُ إلَى الكنايةِ عنهُ. الثانية والعشرون: قد وَرَدَ في الحديثِ ما يدلُّ علَى كراهةِ الطلاقِ (¬1): "أبْغَضُ المُبَاحَاتِ إلَى اللهِ الطَّلاقُ" (¬2)، ففي هذا الحديثِ دليل (¬3) علَى جوازِهِ لمثل هذا العذرِ؛ أعني: البذاءةَ في اللسانِ. الثالثةُ والعشرون: ويدُلُّ علَى جوازِ؛ أيضًا بما هو أضرُّ من البذاءَةِ بطريقِ الأولَى، وقد تقدمَّ لنا أنَّ ما هو في معنى الأصلِ نذكُرُهُ في فوائدِ الحديثِ. الرابعةُ والعشرون: قولُهُ: "إنَّ لها صُحبةً، ولي مِنها ولدٌ" ذكرٌ لقيامِ المانعِ من طلاقِها بعدَ وجودِ المُقتضي لهُ من البذاءِ؛ وتقريرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذِهِ المانِعيةِ دليل علَى أنَّ مِثلها يعارِضُ تلكَ المفسدةَ ويُرجَّحُ عليها. وهذا إنَّما نأخُذُهُ من الترجِيحِ، إنما هو بالنِّسبَةِ إلَى مُسمَّى البذاءِ، ¬

_ (¬1) "ت": "للطلاق". (¬2) رواه أبو داود (2178)، كتاب: الطلاق، باب: في كراهية الطلاق، وابن ماجه (2018)، كتاب: الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد، من حديث محارب بن دثار، عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال الخطايي في "معالم السنن" (3/ 231): المشهور في هذا عن محارب ابن دثار مرسل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليس فيه ابن عمر. (¬3) "ت": "دلالة".

الخامسة والعشرون

وأما أفرادُهُ وأشخاصُهُ فقد لا تكونُ هذهِ المصلحةُ راجِحةً عليهِ؛ ولكنَّهُ من الأمورِ العارضةِ، وإنما يُعتبرُ عندَ الإطلاقِ ما يدلُّ عليهِ اللفظُ والمُسمَّى. الخامسةُ والعشرون: لمَّا ذكرَ المعارضَ لطلاقِها، وهو الصُّحبةُ والولدُ، أمرَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمرِها ولم يُرخص لهُ في تركِ الأمرِ بالمعروفِ، ففيهِ أن الميسورَ لا يُتركُ بالمعسورِ؛ لأنَّه لم يترُكْ وظيفةَ الأمرِ لتعذُرِ الطلاقِ. السادسةُ والعشرون: يتعلَّقُ بهذا مسألة من مسائلِ الأصولِ، وهي أنَّ الأمرَ بالأمرِ بالشيءِ، هل هو أمرٌ بذلكَ الشيءِ (¬1)؟ فإذا قُلنا بذلكَ، فقد توجَّه عليها الأمرُ بالكَفِّ عمَّا هي فيهِ من البذاءِ من هذا اللفظِ، فهو من فوائد (¬2)، ولا يمنعُ منهُ كونَهُ معلوماً من غيرِه. السابعةُ والعشرون: لا شَكَّ أنَّ الأمرَ قد يوجَّهُ إلَى هذا المخاطَبِ الذي هو الزوجُ، فإذا حملنا الأمرَ علَى الوجوبِ علَى ما هو ظاهرُهُ، ففيهِ ¬

_ (¬1) ذهب القاضي والغزالي والآمدي وغيرهم: أن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء ما لم يدل عليه دليل، ونقل عن بعضهم أنه أمر. انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 216)، و"المحصول" للرازي (2/ 426)، و"الإحكام" للآمدي (2/ 202)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 345). (¬2) أي: من فوائد الحديث.

الثامنة والعشرون

وجوبُ أمرِ الزوجِ أهلَهُ بالمعروفِ؛ للعِلمِ (¬1) بأنهُ ذو خصوصيةٍ بهذا المعَيَّنِ للوجوبِ جَزماً، أو يُدعَى المُطلَقُ، ولا يحتاجُ إلَى هذا. الثامنةُ والعشرون: القاعدةُ (¬2) المشهورةُ في أنَّ ترَكَ الاستفصالِ عن قضايا الأحوالِ يتَنزلُ (¬3) منزِلةَ العمومِ (¬4)، قد بيَّنا أنَّ المرادَ تركُ الاستفصالِ في القولِ الذي وردَ علَى قاعدة (¬5) تحتملُ أموراً مُختلفة، وإذا كان كذلكَ، فقد أخبرَ هذا الزوجُ عن هذهِ المرأةِ بالبَذاءِ، ولها في ذلكَ حالانِ، أو أحوالٌ؛ منها أن تكونَ قابلةً للموعِظةِ منزجرةً بالزجرِ، ومنها أن لا تكونَ كذلكَ، ولا يفيدُ فيها الوعظُ والزجرُ، وقد أمرَ بأمرِها مُطلقًا مِن غيرِ استفصالٍ، فعلَى القاعدةِ المذكورةِ، يتوجَّهُ الأمرُ سواء كانت قابلة أو لا، بل قد نزيدُ علَى هذا ونقولُ: إنَّ الغالبَ علَى من اعتادَ هذا الأمرَ أنَّهُ يَعسُرُ عليهِ الانكفافُ عنهُ، فهو إلَى التناولِ أقربُ، لكنَّا إذا فعلنا هذا، وجَعلنا الأمرَ للوجوبِ، اقتضَى (¬6) ذلكَ أنَّهُ يجبُ الأمرُ في حالةِ العلمِ بعدمِ الفائدةِ فيهِ، ولكنَّهم أسقطوا ¬

_ (¬1) في الأصل: "للعين"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "القواعد". (¬3) "ت": "يبين". (¬4) "ت": "عموم المقال" بدل "العموم". (¬5) "ت": "واقعة". (¬6) في الأصل: "أفضى"، والمثبت من "ت".

التاسعة والعشرون

الوجوبَ في مثلِ هذهِ الحالةِ، وجعلوهُ في بابِ الجوازِ و (¬1) الاستحبابِ، لا الوجوبِ، فيحتاجُ إلَى دليل معارضٍ لظاهرِ الأمرِ، لكِن بناء [علَى] (¬2) هذهِ القاعدةِ. وقد يُقَالُ في بيانِ عدمِ الوجوبِ: إنَّ اللفظَ مُطلقٌ، لا عامٌّ، يتأدَّى بأمرِها في صورةِ، أو حالةٍ، فلا يقتضي الوجوبَ في حال عدمِ الفائدةِ، ونأخذُ الاستحبابَ من دليلِ آخَر. التاسعةُ والعشرون: قد فسَّرَ الراوي" مُرها" بِـ (عِظها) (¬3). الثلاثون: (¬4). الحاديةُ والثلاثون: [قولهُ - عليه السلام -] (¬5): "ولا تَضرِبْ ظَعينَتَكَ" فيهِ النهيُ عن ضربِ المرأةِ. قالَ الخطابيُّ: وليسَ في هذا ما يمنعُ [من] (¬6) ضربِهِنَّ، أو تحريمُهُ علَى الأزواجِ عندَ الحاجةِ إليهِ، فقد أباحَ الله تعالَى ذلكَ في قولهِ: ¬

_ (¬1) "ت": "أو". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) ورد على هامش الأصل: "بياض"، وعلى هامش "ت": "بياض نحو خمسة أسطر من الأصل". (¬4) بياض في الأصل، وسقط من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]، وإنما فيهِ النهي عن تبريحِ [الضربِ] (¬1) كما تُضربُ المماليكُ (¬2). قُلتُ: اللفظُ يحتملُ النهيَ عن أصلِ الضربِ، و (¬3) عدمَ تشبيهِهِ بأصلِ ضربِ المماليكِ، ويحتملُ النهيَ عن الضربِ الموصوفِ بمشابهتِهِ لضربِ المماليكِ. وإنما (¬4) يقتضي [النهيَ] (¬5) عن أصلِ الضربِ بالمعنى الأوَّلِ، فإذا دلَّ الدليلُ علَى جوازِ أصلِ الضربِ، كان مُعارِضاً لهذا (¬6)، [و] (¬7) الأصلُ عدَمُ (¬8) التعارضِ، فيُعدَلُ إلَى الثاني. ولا يمتنِعُ أنْ يُقَالَ بظاهرِ هذا؛ لأنَّ الضربَ الذي أُبيحَ هو ضربُ التأديبِ في الجانبينِ، فيكونُ قد أَمَرَ بانْ يكونَ الضربُ الذي لتأديبِ المرأة دونَ الضرب الذي لتأديب الخادم؛ جرياً علَى العادةِ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 54). (¬3) "ت": "في" بدل "و". (¬4) في الأصل: "فإنما"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "بهذا"، والمثبت من "ت". (¬7) زيادة من "ت". (¬8) في الأصل: "على عدم"، والمثبت من "ت".

الثانية والثلاثون

المُستحسَنةِ بين الناسِ. وقد اعتبرَ الفقهاءُ مثلَ هذا في بابِ النفقاتِ؛ فلم يجعلوا نفقةَ المرأةِ كنفقةِ خادمِها، ومنهُم من يخالِفُ في النفقاتِ بين أحوالِ الزوجاتِ أيضاً، ففي بابِ الإيذاءِ أولَى. الثانيةُ والثلاثون: قد يُتوهَّمُ من: "كَمَا تَضرِبُ أُمَيَّتَكَ (¬1) " والتفرِقَةِ بينَهُ وبين ضربِ الظعينةِ في النهي، جوازُ ضربِ الإماء. قالَ الخطابي في هذا المعنى: لا يوجبُ إباحةَ ضربِهِم، وإنما جرَى ذِكرُ هذا علَى طريقِ الذمُّ لأفعالهِم، ونهاهُ عن الاقتداءٍ بها، وقد نهى - عليه السلام - عن ضربِ المماليكِ إلا في الحدودِ، وأمرَ بالإحسانِ إليهِم، وقالَ: "مَنْ لم يوافِقْكُم منهُم فبيعوهُ، ولا تُعذِّبُوا خَلقَ الله" (¬2). قال (¬3): وأمَّا ضربُ الدوابَّ فمباحٌ؛ لأنها [لا] (¬4) تتأدَّبُ بالكلامِ، ولا تعقلُ معنى الخطابِ كما يعقلُ الإنسانُ، وإنما يكونُ تقويمُها ¬

_ (¬1) في الأصل: "أمتك"، والمثبت من "ت". (¬2) رواه أبو داود (5157)، كتاب: الأدب، باب: في حق المملوك، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 168)، من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - بلفظ: " .. ومن لا يلائمكم فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله". وأصل الحديث في "الصحيحين" بغير هذا اللفظ. (¬3) في الأصل بياض، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت".

الثالثة والثلاثون

غالباً بالضربِ، وقد ضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، أو حَرَّكَ بعيرَهُ بمحجَنِهِ، ونخَسَ جملَ جابر حينَ أبطأَ عليهِ، فسبقَ الركبَ حتَّى ما (¬1) يملكَ رأسَه (¬2). قُلتُ: لا ينبغي إطلاقُ القول في الإباحةِ في ضربِ الدوابِّ، بل يُقيَّدُ بالحاجَةِ؛ كما يُقيَّدُ ضَربُ المماليكِ بها، ولا يبعُدُ الفرقُ بينَهُما في مقدارِ الضربِ وصفَتِهِ. الثالثةُ والثلاثون: قولُهُ: "يا رسولَ الله! أخبرني عن الوضوءِ"، [قالَ الخطابيّ: وقولُهُ: "أخبرنِي عن الوضوءِ"، (¬3)، فإنَّ ظاهرَ هذا السؤالِ يقتضي الجوابَ عن جملةِ الوضوءِ، إلا أنَّه - عليه السلام -[لمَّا] اقتصرَ في الجوابِ علَى تخليلِ الأصابعِ والاستنشاقِ، عَلِمَ أنَّ السائلَ لم يسألْهُ عن حُكمِ ظاهرِ (¬4) الوضوءِ، وإنما سألَهُ عمَّا يخَفَى من حُكمِ باطنهِ (¬5)؛ لأنَّ الماءَ قد يأخُذُهُ بجميعِ الكفِّ، وضمِّ الأصابعِ [بعضِها ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا"، والمثبت من "ت". (¬2) رواه البخاري (1991)، كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير، ومسلم (715)، كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر، من حديث جابر - رضي الله عنه -. وانظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 54 - 55). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) في الأصل: "ظاهره"، والمثبت من "ت".

الرابعة والثلاثون

إلَى بعضٍ]، (¬1)، فيسُدُّ خَصَاصَ (¬2) ما بينهِما، فرُبَّما لم يصلِ الماءُ إلَى باطنِ الأصابعِ، وكذلكَ هذا في باطنِ أصابعِ الرِّجلِ، فرُبما (¬3) ركِبَ بعضُها بعضًا حتَّى تكاد تلتحِمُ، فقدَّمَ لهُ الوصاة (¬4) بتخليلِها، ووكَّد (¬5) القولَ فيها لئلا يُغفِلها (¬6). الرابعةُ والثلاثون: قد قدَّمنا الكلامَ علَى الإسباغِ، وأنهُ الإتمامُ والإكمالُ (¬7)، قالَ بعض الفقهاءِ: المبالغةُ مُستحبة في سائرِ أعضاءِ الوضوءِ؛ لقولهِ - عليه السلام -: "أسبغِ الوضوءَ" (¬8). فاستدَلَ بهِ علَى المبالغةِ، وأدرَجَها (¬9) تحتَ اللفظِ. قالَ: والمبالغةُ في المضمضَةِ إدارةُ الماءِ وفي أعماقِ الفمِ وأقاصيهِ وأشداقِهِ، ولا يجعلهُ وَجوراً (¬10)، ثمَ يمُجُّهُ. قالَ: وإن ابتَلعَهُ جازَ؛ لأنَّ الغَسلَ قد حَصَلَ. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) أي: الفرجات. (¬3) "ت": "ربما". (¬4) في الأصل: "الوضوء"، وفي "ت": "الوضاءة لأنه"، والصواب ما أثبت. (¬5) "ت": "وكذا". (¬6) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 55). (¬7) "ت": "والكمال". (¬8) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 74). (¬9) "ت": "وإدراجها". (¬10) الوَجور: الدواء الذي يوضع في وسط الفم.

الخامسة والثلاثون

قالَ: والمبالغَةُ في سائرِ الأعضاءِ بالتخليلِ، وتَتَبُّعُ المواضِعِ التي ينبو عنها بالدلكِ والعركِ، ومجاوزةِ مواضعِ الوضوءِ بالغسلِ (¬1). الخامسةُ والثلاثون: قد أدرجَ في المبالغةِ مجاوزةَ مواضعِ الوضوءِ بالغسلِ، وهو الذي يُسمِّيهِ الفُقهاءُ الشافعيةُ: تطويلَ الغُرةِ (¬2)، وفيهِ نظرٌ؛ لأنَّ الأمرَ متوجِّهٌ لصِفَةِ (¬3) الوضوءِ، فينبغي أن تكونَ معرفةُ الوضوءِ مُتقدمَةَ علَى الأمرِ بصفتِهِ، ومن معرفتِهِ معرفةُ مواضِعِهِ، فما لم يثبُتْ أنَّ هذهِ المواضعَ التي فيها التطويلُ من مواضِعِ الوضوء، لم يتوجهِ الأمرُ إلَى تلكَ الصفةِ، ولا يكونُ الأمرُ بذلكَ مأخوذاً من الأمرِ بتلك الصفةِ. نعم ثَمَّ ما يدُلُّ من الحديثِ علَى تطويلِ [الغُرةِ] (¬4): "أنتُم الغُرُّ المُحَجَّلونَ يومَ القيامةِ، فمن استطاعَ منكُم فليُطِلْ غُرَّتَهُ وتَحجِيلَهُ" (¬5). السادسةُ والثلاثون: قالَ بعضُهُم: معنى المبالغةِ في الاستنشاقِ اجتذابُ الماءِ إلَى أقصى (¬6) الأنفِ، ولا يجعلُهُ سَعوطاً. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 74). (¬2) انظر: "الوسيط" للغزالي (1/ 287)، و "روضة الطالبين" للنووي (1/ 60). (¬3) "ت": "بصفة". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) في الأصل، "أعلى"، والمثبت من "ت".

السابعة والثلاثون

وقالَ: وذلكَ سُنَّةٌ مُستحبَّةٌ في الوضوءِ، إلا أنْ يكونَ صائماً فلا يُستحَبُّ، قالَ: لا نعلمُ في ذلكَ خِلافاً (¬1). السابعةُ والثلاثون: قد تقدَّمَ في مطاوي الكلامِ ما يقتضي الاقتصادَ في مُسمَّى المبالغَةِ، وعدمَ مجاوزةِ الحدِّ، وهو صحيحٌ مأخوذٌ من القواعدِ في النهي عن التنطُّعِ، والجري علَى غالبِ عادةِ أهلِ الشرعِ في استعمالاتِهِم، ويمكنُ أنْ يُجعلَ ذلكَ تخصيصاً للأمرِ بالمبالغَةِ في الاستنشاقِ. الثامنةُ والثلاثون: لا شَكَّ أنَّ الإسباغَ يتناولُ إكمالَ أعضاءِ الوضوءِ بالمُطهرِ، وتأديةَ الواجِبِ، قالَ - صلى الله عليه وسلم - لمَا رأَى الأعقابَ تلوحُ: "ويلٌ لِلأعقَابِ مِنَ النَّار"، [و] (¬2) "أسْبِغُوا الوُضُوءَ" (¬3)، فإذا حُمِلَ علَى المُستحَبَّاتِ؛ كما حكينا عن بعضهِم، كان فيهِ استعمالُ اللفظُ في حقِيقَتِهِ ومجازِهِ. التاسعةُ والثلاثون (¬4): قالَ الخطابيُّ: وفي الحديثِ دليل علَى أنَّ ما وصَلَ إلَى الدماغِ من سَعوطٍ ونحوِهُ، فإنه يُفطرُ الصائمَ؛ كما ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 74). (¬2) سقط من "ت". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) هذه هي المسألة التاسعة والثلاثون في "ت"، وجاء الكلام في الأصل متصلاً بالذي قبله، وعليه فإن أرقام المسائل سوف تزيد مسألة على ما في الأصل.

الأربعون

يفُطِّرُهُ ما يصِلُ إلَى مَعِدَتِهِ، وإذا (¬1) كان ذلكَ من فِعلِهِ، أو بإذنه (¬2) (¬3). قُلتُ: منصُوصُهُ في شيءٍ مخصوصٍ، والتعميمُ الذي ذكرَهُ الخطابيُّ إنما يُؤخَذُ من طريقِ القياسِ في معنى الأصلِ. الأربعون: قالَ الخطابيُّ: وفيهِ دليلٌ علَى أنَّهُ إذا بالغ في الاستنشاقِ ذاكِراً لصومِهِ، فوصَلَ الماءُ إلَى دماغِهِ، فقد أفسدَ صومَه (¬4). وهذ المسألةُ قد اختُلِفَ فيها، ولأصحابِ الشافعيِّ - رحمهُمُ الله - طريقانِ فيما إذا استنشَقَ فوصلَ الماءُ إلَى جوفهِ: أحدهُما (¬5): إنْ بالغَ فَسَدَ صومُهُ جزماً، وإلا فقولانِ. والثاني (¬6): إذا لم يبالغْ لم يَفسدْ، وإلا فقولانِ (¬7). وقولُ الخطابيِّ: (فوصلَ الماءُ إلَى دماغِهِ) فيهِ تخصيصٌ لا يقتضيهِ اللفظُ. الحادية والأربعون: استدلَّ بهِ الخطابيُّ علَى أنَّ الاستنشاقَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "أو"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": " تعدية"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 55). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) "ت": "إحداهما". (¬6) في الأصل: "الثانية"، والمثبت من "ت". (¬7) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (6/ 393).

الثانية والأربعون

ليسَ بواجبٍ، فقالَ في الكلامِ علَى الحديثِ: وفيهِ من الفقهِ: أنَّ الاستنشاقَ في الوضوص غيرُ واجبٍ، ولو كان فرضا فيهِ، لكان علَى الصائمِ كهُوَ علَى المُفطرِ (¬1). والاعتراضُ: أنَّ الحديثَ إنما يتعلقُ بالمبالغةِ (¬2)، وفيها وقعُ التفريقِ بينَ الصومِ وغيرِه، لا في أصلِ الاستنشاقِ، فإنْ وجبَ الاستواءُ بين الصائمِ وغيرِ؛، فليكُنْ في المبالغةِ التي تعلَّقَ بها الأمرُ (¬3)، لا في أصلِ الاستنشاقِ، ولم يقُلْ أحدٌ بوجوبِ المبالغةِ، فيقام عليهِ الدليلُ المذكورُ في الاستواء، ولو قيلَ بِهِ لكانَ الفارقُ ظاهِراً، وهو التقريرُ بالصومِ. الثانية والأربعون: قالَ الخطابيُّ - رحمهُ الله -: ونَرَى أنَّ مُعظَمَ ما جاءَ من الحَثّ والتحريضِ (¬4) علَى الاستنشاقِ في الوضوء، إنَّما جاءَ لما فيهِ من المعونَةِ علَى القراءَةِ، وتنقيَةِ مجاري النَّفَسِ، والذي تكونُ بهِ التلاوَةُ، وبإزالةِ ما فيهِ منَ الثّفلِ (¬5) تَصِحُّ (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 55). (¬2) "ت": "على المبالغة". (¬3) "ت": "لا في الاستنشاق، فإن وجب الإستواء بين الصائم وغيره قليل في المبالغة التي تعلق بها الأمر ولا في أصل الاستنشاق". (¬4) في الأصل: "والتعريض"، والمثبت من "ت". (¬5) الثُّفْل: بالضم، والثافل: ما استقر تحت الشيء من كدره. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1256)، (مادة: ثفل). (¬6) في الأصل: "تصح فيه"، والمثبت من "ت".

الثالثة والأربعون

مخارجُ الحروفِ، انتهى (¬1). وهذا إظهارُ عِلَةٍ مُناسبَةٍ لهذا الحُكمِ. الثالثةُ والأربعون: فيه الأمرُ بتخليلِ الأصابعِ؛ أي: في الوضوءِ، وهذا فيما يُعلمُ منَ (¬2) السياقِ، ولا يتردَّدُ فيهِ، وهو ممَّا يُدفَعُ في صدرِ الظاهريةِ الجامدةِ، فلم يزَلِ (¬3) الناسُ يحمِلونَهُ علَى هذا. الرابعةُ والأربعون: لا شك في خروجِ الأصابعِ الملتصقَةِ خِلقَةً، قالَ الشافعي - رحمَهُ الله -: وإنْ كَان في أصابِعِهِ شيءٌ خُلِقَ مُلتصِقًا أوصَلَ (¬4) الماءَ علَى عُضويهِ حتَّى يصلَ الماءُ ما ظَهرَ من جِلدهِ، وليسَ عليهِ أنْ يفتُقَ ما خُلقَ مُرتَتِقاً (¬5)، انتهى (¬6). فإمَّا أنْ يجعلَهُ من قبيلِ التخصيصِ، وإمَّا أنْ يُخرجَهُ عن دلالةِ اللفظِ؛ لأنَّ المُلتصِقَ خِلقَةً لا (بينَ) فيهِ، واللفظُ يقتضي تعليقَ الحُكمِ بـ (البَيِّنِ). الخامسةُ والأربعون: وعامٌّ في أصابعِ اليدينِ والرجلينِ، ولم ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 55). (¬2) "ت": "وهو مما يعلم في". (¬3) "ت": "تزل". (¬4) في الأصل: "أواصل"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "مرتقاً"، والمثبت من "ت"، والمرتتق: الملتئم. (¬6) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 27).

السادسة والأربعون

نجِدْ مَنْ خَصَّصَهُ بأصابعِ الرِّجلينِ، وقالَ الرافعيُّ - رحمهُ الله -: هذا التخليلُ من خاصيَّةِ أصابعِ الرجلينِ، أم هو مُستحَبٌّ في أصابعِ اليدينِ أيضاً؟ مُعظَمُ أئمةِ المذهبِ ذَكروهُ في أصابعِ الرِّجلينِ، وسكتوا عنهُ في اليدينِ، ولكنَّ القاضي أبا القاسمِ بنِ كجٍّ قالَ: إنَّهُ مُستحَبٌّ فيهِما، واستدلَّ بحديثِ لقيطِ بنِ صَبرةٍ (¬1). قُلتُ: الذي ذَكَرهُ هذا القاضي هو الجاري علَى مُقتضَى العمومِ، بل وردَ ما هو أصرحُ من العمومِ من حديثِ ابنِ عباسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا توضَّأتَ فخَلل [بين] أصابع يَدَيكَ ورِجْلَيكَ"، أخرجَهُ الترمِذيُّ (¬2). السادسةُ والأربعون: استدلَّ الشيخُ أبو حامدٍ بقولهِ - عليه السلام -: "وخَللْ بينَ الأصابعِ" علَى إبطالِ قولِ مَنْ قالَ: إنَّ الفرضَ المسحُ؛ [يعني: في الرجلينِ، قالَ: فأمَرَهُ بتخليلِ الأصابعِ، ومَنْ قالَ: إنَّ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 437). (¬2) رواه الترمذي (39)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في تخليل الأصابع، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (447)، كتاب: الطهارة، باب: تخليل الأصابع. قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 94): فيه صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف، لكن حسنه البخاري؛ لأنه من رواية موسى بن عقبة، عن صالح، وسماع موسى منه قبل أن يختلط.

السابعة والأربعون

الفرضَ المسحُ] (¬1) أسقطَ هذا الخبرَ؛ لأنَّهُ لا يُوجِبُ تخليلَ الأصابعِ، وإنما يوجِبُ المسحَ علَى ظاهِرِ الرِجلينِ. السابعةُ والأربعون: فيهِ إطلاقٌ بالنِّسبَةِ إلَى أحوالِ الأصابعِ، ونحنُ قد قررنا: أنَّ المُطلَقَ إن عادَ علَى صيغةِ العمومِ بالتخصيصِ حَكَمنا بالعُمومِ وفاءَ بمُقتضَى صيغتِهِ، وإلا فلا. فلو قالَ قائل: هو مُطلق في الأحوالِ، فأخُصُّهُ بما إذا كانت علَى حالِ (¬2) كذا، قُلنا: هذا يقتضي التخصيصَ في صيغةِ العُمومِ التي تَعلَّقَ الأمرُ منها بالأصابعِ، فإذا خَرجَتْ عنها الأصابعُ في بعضِ أحوالهِا، فلم تُوفِ بصيغةِ العمومِ، أمَّا إذا لم يخرجْ عنها شيءٌ من الأصابعِ؛ بأنْ يقَعَ التخليلُ في جميعها، لكِن يُنظرُ في حالِ من الأحوالِ بعدَ حصولِ العمومِ في الأصابعِ في غيرِ ذلكَ الحالِ، فهذا لا يعودُ علَى صيغةِ العمومِ بالتخصيصِ، فلا يَلزمُ القولُ بدخولِ تلكَ الصورةِ في لفظِ العُمومِ. ومثالُهُ: لو قالَ قائِلٌ: يُستحبُّ تخليلُ الأصابعِ عندَ غسلِ الكفَّينِ في ابتداءِ الوضوءِ عمَلاً باللفظِ، لقيل لهُ: ما ذكرناهُ من أنَّ إخراجَ هذهِ الحالةِ، لا يُوجِبُ تخصيصًا فيهِ فيما دلَّ عليهِ العمومُ من الأصابعِ، ولم نقِفْ علَى هذهِ المسألةِ منصوصةً. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "حالة".

الثامنة والأربعون

الثامنةُ والأربعون: لم يزلِ الناسُ يحملونَ ذلكَ علَى التخليلِ في حالةِ غسلِ اليدينِ والرِّجلينِ المفروضِ، وهو دليل علَى اتباعِ المعنى وما يُفهمُ من اللفظِ والسياقِ والقرائنِ؛ لطلبِ (¬1) الإسباغِ في الوضوءِ، والقيامِ بالواجبِ من تعميمِ المطهِّرِ، وهو كما قُلنا في أنهُم فهموا من تخليلِ الأصابعِ تخليلَها في الوضوءِ. التاسعةُ والأربعون: يمكنُ أنْ يَستدلَّ بهِ المالكيةُ علَى وجوبِ الدَّلكِ؛ لأنَّ من جُمله الصورِ التي يتناوَلها اللفظُ ما إذا تيقَّنَ وصولَ الماءِ إلَى ما بينَ الأصابعِ، فحينئذِ يتعينُ الدلكُ فائدةً لعدمِ فَهمِ غيرِ؛ حينئذٍ، وحصولِ المقصودِ المتوهمِ منَ الأمرِ بالتخليلِ، وهو وصولُ الماءِ إلَى ما بينَ الأصابعِ (¬2). وينبغي إذا قيلَ بهذا أنْ يُقَالَ: الدَّلكُ، أو ما يقومُ مقامَهُ؛ كتحريكِ الأصابعِ بعضِها مع بعضِ، وقد رأيتُ في أثناءِ كلامِ بعضِ المالكية ما يُشعرُ بأنَّهُ أدرَكَ معنى الدَّلكِ في هذا، [ومعَ هذا]، (¬3) فليسَ بالشديد القوَّةِ. الخمسون: ظاهرُ الأمرِ الوجوبُ، وهو مُتَّفَقٌ عليهِ فيما إذا لم ¬

_ (¬1) "ت": "كطلب". (¬2) في الأصل زيادة: "لا ما فرضنا أنه تيقن وصول الماء إلى ما بين الأصابع" وهي جملة مكررة عن السطر قبله. (¬3) زيادة من "ت".

الحادية والخمسون

يصلِ الماءُ إلَى ما بينَ الأصابعِ إلا بهِ، وإنْ وَصَلَ، فعندَ المالكيّة بوجوبِ تخليلِ أصابعِ اليدينِ اختلافٌ؛ قيلَ: بالوجوبِ، وقيلَ: بالنَّدبيةِ (¬1). ومَن يريدُ إخراجَ الأمرِ عن ظاهرِ؛ فعليهِ الدليلُ. الحاديةُ والخمسون: عندَ المالكيةِ في تخليلِ أصابعِ الرجلينِ ثلاثةُ أقوالِ: الوجوبُ، والندبُ، والإنكارُ، وهو مرويّ عن مالِكِ - رحمَهُ الله (¬2)، ولا يظَةرُ توجَّههُ؛ أعني: الإنكارَ، إلا بأنْ تُجعلَ لالتفافِها بمنزلةِ الباطنِ، ويُدخَلَ التخليلُ في بابِ التكلُّفِ والتَّنَطُعِ. وقد نُقِلَ عن مالكِ - رحمهُ اللهُ - ما يدُلُّ علَى أنَّ عليهِ عندَهُ هذا المعنى، وما يقارِبُهُ، فإنَّهُ قالَ: فلا (¬3) خيرَ في الغُلوِّ ولا الجفاء؛ قالهُ في مسألةِ التخليلِ هذهِ. وهذا يحتاجُ إلَى دليلِ، فإنَّ ظاهرَ الأمرِ يوجبُ الغسلَ للعُضو الذي هو حَقيقة في الجميعِ، ولا يخرجُ عن عُهدَةِ الأمرِ إلا بالامتثالِ، والفرقُ بين الوسواسِ والوَرعَ دقيق عَسرٌ، فالمُتساهِلُ يجعلُ بعضَ الورَعِ وسواسًا، والمُشدِّدُ يجعلُ بعضَ الوسواسِ ورَعاً، والصِراطُ المستقيمُ ¬

_ (¬1) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 258). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) "ت": "ولا".

دَحضٌ مَزِلةٌ، ومما ينبغي أنْ يُفرَّقَ بهِ بينهُما: أنَّ كُلَّ ما رَجَعَ إلى (¬1) الأصولِ الشرعيةِ فليسَ بوسواسٍ، ولا أُريدُ الأدلةَ الشرعيةَ البعيدةَ العمومِ. وقد روي أنَّ مالِكاً - رحمهُ اللهُ - رجَعَ إلَى الأمرِ بالتخليلِ في الأصابعِ من جِهةِ أحمدَ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ وهبٍ قالَ: سمعتُ عمِّي يقولُ: سُئِلَ مالكُ بنُ أنسٍ عن تخليلِ أصابعِ الرجلينِ في الوضوءِ فقالَ: ليسَ ذلكَ علَى الناسِ، فأمهلتُهُ حتَّى خَفَّ الناسُ، ثمَّ قُلتُ لهُ: يا أبا عبدِ الله! سمعتُكَ تُفتي في مسألةٍ عندنا فيها سُنَّةٌ، قالَ: وما هي؟ قُلتُ: ثنا ابنُ لهيعةَ وليثُ بنُ سعدٍ، عن يزيدَ بنِ عمرو المعافِريِّ، عن أبي عبدِ الرحمنِ الحُبُليِّ، عن المُستوْرِد (¬2) بنِ شدادٍ القُرَشِيِّ قالَ: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ، فيُخلِّلُ بخِنْصِرِه ما بينَ أصابعِ رِجليهِ"، قالَ: فقالَ [مالك]، (¬3): إنَّ هذا الحديثَ حسن، وما سمعتُ بهِ قطُّ إلا الساعةَ، قالَ عَمي: ثمَّ سمعتُهُ بعدُ يسألُ عن تخليلِ الأصابعِ في الوضوءِ فيأمرُ بهِ (¬4). وابنُ القطَّانِ قد صحَّحَ الإسنادَ، وذكرَ أنَّ أبا محمدٍ بنَ أبي حاتمٍ ¬

_ (¬1) في الأصل: "في"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "المسور"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/ 31)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 76). وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (24/ 259).

الثانية والخمسون

رواهُ عن أحمدَ بنِ عبدِ الرحمنِ، وأن فيهِ زيادةَ عمرو بنِ الحارثِ مع ابنِ لهيعةَ، وليث بن سعدٍ، وذكرَ أنَّهُ ينبغي أنْ يُتَفقَّدَ في هذا الحديثِ قولُ أبي محمدٍ بنِ أبي حاتمٍ: (أنَّ أحمدَ بنِ عبدِ الرحمنِ، قالَ) فإني أظُنَّهُ؛ يعني: في الإجازةِ؛ يعني: بسببِ أنَّهُ لم يذكُرْ في بابهِ: أنَّهُ سمعَ منهُ، وذكرَ أنَّ أباهُ سمعَ منهُ، وأن لهُ عادةً في ذلكَ. قلتُ: الحديثُ لهُ وجهٌ آخرُ من روايةِ أبي بشرٍ - هو الدولابيُّ -، عن أحمدَ بنِ عبدِ الرحمنِ؛ ذكرهُ الدارَقطني في "غرائبِ حديثِ مالكٍ" (¬1). الثانيةُ والخمسون: مُسمَّى التخليلِ إذا حصلَ يتأدَّى بهِ امتثالُ الأمرِ، وتعيينُ صفةٍ مخصوصَةٍ فيهِ للاستحبابِ يحتاجُ إلَى دليلٍ شرعى، إذ الاستحبابُ أحدُ الأحكامِ (¬2) الشرعيَّةِ. [قال] (¬3) بعضُ مُصنفي الشافعية: والأحَب في التخليلِ أن يُخَلِّلَ [بخِنصِر] (¬4) اليدِ اليُسرَى من أسفلِ الأصابعِ مُبتدِئًا بخِنصِرِ الرِّجلِ اليُمنَى مُختَتِماً بخِنْصِرِ اليُسرَى، وزعَمَ أنَّ الخبرَ وردَ بذلكَ عن ¬

_ (¬1) قلت: وقد رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 36)، من طريق ابن أبي عقيل، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، به. ولم يذكر القصة. (¬2) في الأصل: "أحكام"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الثالثة والخمسون

رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، [و] (¬1) قالَ: كذا ذكرَهُ الأئمَّةُ (¬2). قُلتُ: وهذا خبرٌ يُحتاجُ إلَى أنْ يُعلمَ مَثواهُ، ويُحقَقَ حالُ من رواه (¬3)؛ لتثبيتِ الدليلِ الشرعي علَى الاستحبابِ، نَعم التخليلُ بالخِنصِرِ قد (¬4) وَرَدَ بإسنادٍ مِصرِيٍّ من جهةِ ابن لهيعةَ (¬5). وذُكرَ عن أبي طاهِرٍ الزيَّادي (¬6) من الشافعيَّةِ هيئةٌ (¬7) أُخرَى، وهوَ أنْ يُخلِّلَ ما بين كلِّ إِصبَعين من أصابعِ رجلِهِ (¬8) بإصبَعٍ من أصابعِ يدهِ، ويفصلَ الأبهامينِ، ولا يُخلِّلَ بِهِما؛ لما فيهِ منَ العُسرِ (¬9). الثالثةُ والخمسون: إذا أدخَلَ (¬10) [أصابِعَ] (¬11) اليدينِ في التخليلِ، فقد تُكلِّمَ في الهيئةِ، وقيلَ: الذي يَقرُبُ من الفَهمِ هاهُنا أنْ يُشبِّكَ بين ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 436). (¬3) قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 93): هذه الكيفية لا أصل لها. (¬4) "ت": "وقد". (¬5) كما تقدم تقريبًا. (¬6) هو محمد بن محمد بن محمش أبو طاهر الزيادي، الفقيه الأديب، من أصحاب الوجوه، روى عنه الحاكم والبيهقي وغيرهما، وله غرائب. توفي بعد سنة (400 هـ). انظر: " تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 525). (¬7) في الأصل: "بهيئة"، والمثبت من "ت". (¬8) "ت": "رجليه". (¬9) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 436). (¬10) "ت": "دخل". (¬11) زيادة من "ت".

الرابعة والخمسون

الأصابعِ، ولا تعودُ فيه الكيفيةُ المذكورةُ في الرجلينِ (¬1). الرابعةُ والخمسون: فيه الأمرُ بالمضمضَةِ، وظاهِرُهُ الوجوبُ، فلِمَنْ يقولُ بذلكَ الاستدلالُ، وعلَى من يُخرجُهُ عن ظاهِرِه الدليلُ، وكثيراً ما يخرجونَهُ عن الظاهرِ بما في الحديثِ: "توضأ كَمَا أمَرَكَ الله" (¬2)، فجعلوه (¬3) إحالةً علَى ما في الكتابِ العزيزِ، وليسَ فيهِ ذِكرُ المضمَضَةِ والاستنشاقِ، وعليهِم فيهِ تشغيبٌ من وجوه: أحدها: منعُ الحوالةِ علَى ما في الكتابِ العزيزِ، فإنَّ أمرَ اللهِ أعمُّ من ذلِكَ. وثانيها: أنَّ الأمرَ بالمضمضَةِ والاستنشاقِ زائدٌ في الدلالةِ علَى ما دلَّ عليهِ الكتابُ العزيزُ، والأخذُ بالزائدِ مُتعيِّنٌ. وثالثها: مُنازعةُ مَن نازعَ في أنهما لا يدخُلانِ في اسمِ الوجهِ، وادعاءُ أنَّهما منهُ، والاتكالُ علَى الأخذِ من المواجهةِ ضعيفٌ. ويتبينُ من هذهِ الروايةِ بُطلانُ قولِ من فرَّقَ بينَ الاستنشاقِ والمضمضَةِ، حيثُ أوجَبَ الاستنشاقَ دونها مُعَلِّلاً بورودِ الأمرِ بالاستنشاقِ، فقد وردَ هاهُنا الأمرُ بالمضمضةِ أيضاً، ولعلَّهُ لم يبلغْ مَن فَعَلَ ذلكَ، والله أعلمُ. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (1/ 437). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) "ت": "وجعلوه".

الحديث الثامن

الحديث الثامن عن ابنِ عبَّاسٍ - رضي اللهُ عنهُما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً. أخرجَهُ البُخاريُّ (¬1). أما ابنُ عباسٍ، فقد تقدَّمَ ذكرُهُ. ثمَّ الكلامُ علَى الحديثِ من وجوه: * [الوجهُ] (¬2) الأوَّلُ: [في مَخْرَجِهِ ومُخَرِّجِهِ: مَخْرجُهُ من روايةِ زيدِ بنِ أسلَمَ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، عن ابنِ ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه البخاري (156)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء مرة مرة، وأبو داود (138)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء مرة مرة، والنسائي (80)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء مرة مرة، والترمذي (42)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء مرة مرة، وابن ماجه (411)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء مرة مرة، من حديث سفيان، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، به. (¬2) سقط من "ت".

الوجه الثاني: في تصحيحه

عباسٍ؛ فتارةً يطولُ، وتارةً يختصِرُ. وقد رواهُ عن زيدِ بنِ أسلمَ غيرُ واحدٍ من الأكابرِ؛ مِنهُم سُفيانُ] (¬1). * الوجهُ الثاني (¬2): في تصحيحِهِ: وقد ذكرنا (¬3) أنَّ البخاريَّ أخرجَهُ (¬4). * الوجهُ الثالِثُ: في شيءٍ من العربيةِ، وفيهِ مسائِلُ: الأولَى: (تَفَعَّل) في لسانِ العربِ تأتي علَى معنى المطاوعَةِ: علَّمتُهُ فتَعَلَّمَ، وعلَى معنى التثبيتِ: تيقَّنتُ كذا، وعلَى معنى الأخذِ شيئاً بعدَ شيءٍ: [تنفصَهُ الإمامُ] (¬5)، {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت"، وقد اختلف الترقيم في النسخة "ت" حيث زاد وجهاً على ما في الأصل. (¬3) "ت": "ذكر". (¬4) ورد على هامش "ت": "بياض نحو ثلاثة أسطر من الأصل". (¬5) سقط من "ت".

تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]، وعلَى معنى توقَّعِ [أمر لا يؤمنُ] (¬1): تخوَّفتُ كذا، وعلَى معنى: التكثيرِ، وعلَى معنى فَعَلَ [نحو:] (¬2) تظلَّمني [حَقي] (¬3)؛ أي: ظَلَمني. وقال سِيبَوَيْهِ: وإذا أرادَ الرجلُ [أن] (¬4) يُدخِلَ نفسَهُ في أمرٍ حتَّى يُضافَ إليهِ، ويكونَ من أهلِهِ، فإنَّكَ تقولُ: تَفَعَّلَ؛ [نحو] (¬5): تشَّجَّع، وتبصَّر، وتحلَّم، وتجلَّد، وتمرَّأ، وتقديرُ تمرَّأ؛ أي: صارَ ذا مُروءة، قالَ حاتمُ طيٍّ [من الطويل]: تحلَّف عَنِ الأَدْنَيْنَ واسْتَبْقِ وُدَّهُمْ ... ولنْ تَسْتَطِيعَ (¬6) الحِلْمَ حتَّى تَحلَّمَا (¬7) قالَ سِيبَوَيْهِ: وليسَ هذا بمنزلةِ (تجاهلْ)؛ لأنَّ هذا يَطلبُ أنْ يصيرَ حليماً، انتهى (¬8). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل: "لم يستطع"، والمثبت من "ت". (¬7) انظر: "ديوانه" (ص: 82). (¬8) انظر: "الكتاب" لسيبويه (4/ 71).

قُلتُ: وقد عبَّرَ بعضُهُم عن هذا بالتكَلُّفِ؛ يعني: أنَّ فاعِلَهُ تَكَلَّفَ حُصولَ أصلِهِ، ليَتمرَّنَ فيحصُل، وهذا هو الذي أشارَ إليهِ سِيبَوَيْهِ من الفرقِ بينَهُ وبينَ (تجاهلَ)؛ لأنَّ بابَ تجاهلَ ليسَ موضوعاً؛ لأنَّ الفاعِلَ يطلبُ أنْ يكونَ جاهلاً (¬1)، وهذا يطلبُ أنْ يكونَ كذلكَ (¬2). وذكرَ بعضُهُم في معنى الصيغةِ: الاتخاذَ؛ أي: اتخاذَ أصلِ ما يُسبَقُ منهُ ذلكَ الفعلُ، فإذا قُلتَ: توسَّدتُ التراب (¬3)، فمعناهُ: اتخذتُهُ وِسادَةً. وذكرَ أيضا معنى التجَنُّبِ (¬4)؛ بمعنى: أنَّ الفاعِلَ جانَبَ ما اشتُقَّ منهُ ذلكَ الفعلُ، فـ (تأثَّمَ) بمعنى: جانبَ الإثمَ، وتحرَّجَ، وتهجَّدَ: جانبَ الحرَجَ والهُجُودَ. وبمعنى (استفعلَ) نحوَ: تكثَّرَ، بمعنى طلَبَ أصلَ الفعلِ؛ لأنَّ (استفعَلَ) لهُ غالِبا. والذي جَلَبَ هذا قَولُهُ في الحديثِ: "توضَّأَ" ليُلحَقَ بما يليقُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "كذلك"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "وهذا يطلب أن يكون فاعلاً له أن يكون كذلك". (¬3) في الأصل: "بالتراب"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل: "المتجنب"، والمثبت من "ت".

الثانية

بهِ من هذهِ المعاني. الثانية: قد تكلمنا علَى معنى المرَّةِ (¬1) فيما مضَى. الثالثة: وتكلمنا علَى مثلِ هذهِ الضيغةِ التي يتكرَّرُ فيها اللفظُ، وحكينا: أنَّهُ لا تكونُ المرةُ الثانيةُ تأكيداً لفظيًّا، وأنَّ الصيغةَ تقتضي الفعلَ مرةً بعدَ مرة، كـ: {صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]؛ أي: صفاً بعد صفٍّ، {دَكًّا دَكًّا} [الفجر: 21]؛ أي: دكًّا بعد دَكٍّ. والرواية ها هنا (¬2): مرةً بعدَ مرة. * الوجهُ الرابع: في الفوائدِ، وفيهِ مسائلُ: الأولَى: لم يزلِ الناسُ يفهمونَ من هذا اللفظِ الاقتصارَ علَى مرة واحدةٍ في غسلِ كلِّ عُضوٍ، وهو المعلومُ منهُ. و [قد] (¬3) يُشغِّبُ [مُشغِّبٌ] (¬4) فيقولُ: الوضوءُ حقيقةٌ في جملةِ أفعالِهِ، فتكونُ الجملةُ قد وقعَتْ مرة بعد مرةِ، ولا يلزَمُ أنْ يكونَ ذلكَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المراة"، والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "ورواية هنا"، وفي "ت": "ورواية ها هنا"، ولعل الصواب ما أثبت. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الثانية

راجِعاً إلَى عددِ الغَسلِ في كلِّ عُضوٍ علَى انفرادِهِ، فيُقَالُ لهُ: النظائرُ تدُلُّ علَى أنَّ الفِعلَ الذي استُعمِلَ فيه هذا اللفظُ، يدلُّ علَى أنَّ الفعلَ مرةً بعد مرةٍ في أجزائِهِ، لا في جُملتِهِ، من حيثُ هي جملةٌ؛ كـ (جاءَ القومُ مثنَى مثنَى)؛ أي: أنَّ مجيءَ أفرادِهِم كان اثنينِ اثنينِ، لا أنَّ جُملةَ القومِ من حيثُ هي جملةٌ جاءتْ مرَّةً [بعد] (¬1) أُخرَى؛ وكذلِكَ (¬2): قرأتُ الكتابَ سطراً سطراً، إلَى غيرِ ذلِكَ، ولو حُمِلَ علَى جُملةِ الوضوءِ (¬3) من حيثُ هي، لاقتضَى ذلكَ أنَّ الوضوءَ [وقع في] (¬4) مرة بعدَ مرةٍ، وذلكَ إخبارٌ بالواضحاتِ التي لا فائدةَ في الإخبارِ بها. الثانيةُ: ولو قالَ قائِلٌ: أجعلُ المعنى أنَّ الاقتصارَ في كل عضوٍ علَى غسلِهِ وقعَ مرةً واحدة، لا مِراراً، لقُلنا لهُ: إذا حافَظْنا علَى ما تَقَدَّمَ في معنى "مرةً مرةً"، وجبَ علَى ما تزعمُ أنْ تقولَ: توضَّأَ مرةً مرةً ثلاثاً؛ لأنَّه لا يسوغُ أنْ يقالَ: جاءَ القومُ رجُلاً، وأنت تريدُ: رجلاً رجلاً. الثالثة: يَدلُّ علَى الاكتفاءِ بالمرةِ الواحدةِ في غسلِ الأعضاءِ؛ لأنَّ الامتثالَ يحصُلُ بها، ولا يحصُلُ بما دونها، والحُكمُ مُتعلّقٌ (¬5) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "كقولك"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "العضو". (¬4) سقط من "ت". (¬5) "ت": "معلق".

الرابعة

بالمُسمَّى، لا بالمَرَّةِ بخصوصِها، لكِنْ أقلُّ ما يحصلُ المُسمَّى بها. الرابعة: قد تقدَّمَ الكلامُ في الاقتصارِ علَى المَرَّةِ، وحكينا عن مذهبِ مالكٍ - رحمهُ الله - ما تقدَّمَ من قولهِ: لا أُحِبُّ المرةَ إلا من العالمِ، وقولِ مَنْ قالَ: لا يجبُ النقصانُ من اثنينِ؛ فعلَى الأولِ: لا إشكالَ، وعلَى الثاني: يمكِنُ أنْ يقالَ: إنَّهُ فعلَ لبيانِ الجوازِ؛ أعني: الجوازَ الأعمَّ من الكراهةِ. الخامسة: تكلَّموا في الشعورِ النابِتَةِ علَى الوجهِ، وقُسِّمَتْ إلَى خفيفٍ، وكثيفٍ، علَى اختلافٍ في معنى الخفيفِ، والأظهرُ: أنَّهُ ما تظهر منهُ البشرةُ عندَ التخاطُبِ، والحكمُ فيهِ: وجوبُ غسلِ ما تحتَهُ. وأمَّا الكثيفُ: فالمالكيَّةُ أطلقوا قولينِ، وذكرَ بعضهُم: أنَّ المشهورَ [انتقال] (¬1) الفرضِ إلَى ظاهرِ الشعرِ (¬2). والشافعيةُ فرَّقوا بين ما تغلِبُ خِفَّتُهُ؛ كالحاجِبِ، والشارِبِ، والعنفَقَةِ، والعِذَارينَ، ولحيةِ المرأةِ، فأوجبوا غسلَهُ وإن كثُفَ، هذا هو المشهورُ، وحُكِي فيهِ وجهٌ، وعلَّلوا الأوَّلَ بوجهينِ: أحدهُما: أنَّ بياضَ الوجهِ محيطٌ بها، فتتبَعُ له (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 254). (¬3) "ت": "به".

السادسة

والثاني: أنَّ كثافتَها نادرَةٌ، فتُلحَقُ بالغالِبِ. وبيَّنَ ما لا يكونُ كذلِكَ؛ كالعارضَينِ، فالمذهبُ أنَّهُ لا يجِبُ غسلُ ما تحتَ ذلكَ، وحُكِيَ عن قديمِ قولِ الشافعيِّ - رحمَهُ الله - الوجوبُ، ورُبَّما حُكِيَ وجهاً، وهو مذهبُ المُزَنِيِّ (¬1). السادسة: استُدِلَّ بالحديثِ علَى عدمِ وجوبِ إيصالِ الماءِ إلَى ما تحتَ الشعرِ الكثيفِ، ووجهُهُ [علَى] (¬2) ما استدلَّ بهِ بعضُهُم: أنَّهُ روِيَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثَّ اللحيَةِ (¬3)، ولا تبلغُ الغَرفَةُ الواحدةُ أصولَ الشعرِ مع الكثافةِ (¬4). ولِقائلٍ أنْ يقولَ: الاعتراضُ علَى هذا من وجهينِ: أحدهُما: أنَّ المرةَ مع الغرفةِ ليستا بلفظينِ مترادفينِ علَى معنىً واحدٍ، ولفظُ الحديثِ إنما هو في المرةِ لا الغرفةِ، ولا يمتنِعُ أن تحصُلَ المرَّةُ بغرفاتِ، بأنْ تختصَّ كلُّ غَرفَةٍ بجزءٍ من الوجهِ، أو اليدِ، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 341 - 343). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه النسائي (5232)، كتاب: الزينة، باب: اتخاذ الجمة، من حديث البراء - رضي الله عنه -. وروى مسلم (2344)، كتاب: الفضائل، باب: شيبه - صلى الله عليه وسلم -، من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، وفيه: " ... وكان كثير شعر اللحية". (¬4) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 342).

السابعة

والحاجةُ إلَى ذلكَ في الوجهِ أكثرُ من غيرِه (¬1)، وقد تقدَّمَ في حديثِ عبدِ الله بنِ زيدٍ، وكونِ غسلِ الوجهِ فيهِ وقعَ ثلاثاً، واليدِ مرتينِ، من التعليلِ ما يشُدّ هذا، أو يُقَرّبُهُ، وقد استدَلَّ بنحوِ هذا الاستدلالِ بعضُ المالكيةِ، وذكرَ بلفظِ المرةِ، وفيهِ المنعُ الذي ذكرناهُ. الثاني: لو سلَّمنا الترادُفَ، فالغَرفَةُ مختلفةٌ؛ تارةً يكثُرُ الماءُ بها، وتارةَ يَقِلّ، فالماءُ في الاغترافِ بالراحتينِ أكثرُ منهُ في الاغترافِ بواحدةٍ، إلا أنْ يدَّعيَ مُدَّعٍ أنَّ لفظَ الغرفةِ يختصّ بالكفّ الواحدةِ لغةً، فعليهِ البيانُ. السابعة: الحكمُ إنما وردَ بغسلِ مُسمَّى الوجهِ، فليحَقَّقْ مدلولُ اللفظِ، ويُعلَّقِ الحكمُ بهِ، وقد يُقالُ: إنَّ الوجهَ لا يدخلُ في مُسمَّاهُ سِوَى البشرةِ لوجهينِ: أحدهُما - وقد تقدم معناهُ -: أنَّهُ لا يقَال لمَن لا شعرَ علَى وجهِهِ: إنَّهُ ناقصُ الوجهِ، ولا لمِنْ نبتَ علَى وجهِهِ الشَّعرُ: إنَّهُ كمُلَ وجهُهُ. الثاني: أنهم يقولونَ: الشعورُ النابتةُ علَى الوجهِ، وهذا يدلّ علَى أنَّ مُسمَّاهُ خارجٌ عنها. الثامنة: فيقوَى بهذا (¬2) التقريرِ قولُ من يقولُ: إنَّهُ يجبُ إيصالُ ¬

_ (¬1) "ت": "منها في غيره" بدل "من غيره". (¬2) "ت": "هذا".

التاسعة

الماءِ إلَى ما تحتَ الشعورِ وإنْ كثُفَتْ، فيدخُلُ تحتَهُ ما أوجَبَ الشافعيةُ غسلَ ما تحتَهُ وإن كثُفَ (¬1)، ولا حاجةَ إلَى التعليلِ بالتبعيَّةِ؛ لأجلِ إحاطةِ بياضِ الوجهِ [بها] (¬2)، ولا إلَى القولِ بأنَّ النادِرَ يلحَقُ بالغالبِ، مع أنَّ هذا الإلحاقَ ليسَ قاعدَةً [مطَّرِدَةً] (¬3) لا تختلِفُ، وإذا اختلفَتْ، فعلَى من أرادَ إلحاقَ فردٍ مُعيَّنٍ بمحلِّ الإلحاقِ الدليلُ؛ لأنَّه قد تردَّدَ الحالُ في الإلحاقِ، وعدَمِ الإلحاقِ، وإنما أحوجَهُم إلَى التعليلِ بالتبعيَّةِ والنُّدرةِ الفرقُ بينَ الكثيفِ والخفيفِ. التاسعةُ: أجرى بعضُهُم هذا الحديثَ في مَغرِضِ توهينِ الحديثِ الذي جاءَ: "هذَا وُضُوئِي، وَوُضُوءُ الأنبياء [مِنْ] (¬4) قَبْلِي" (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) سقط من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) تقدم تخريجه.

الحديث التاسع

الحديث التاسع وعن عُثمانَ: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُخَلِّلُ لِحيتهُ. أخرجه الترمذيُّ وصحَّحه، وغيرُهُ يخالِفُه (¬1) في التصحيح (¬2). أما عثمان - رضي الله عنه - فقد تقدم. [ثم] (¬3) الكلام عليه من وجوه: * [الوجه] (¬4) الأول: في التصحيح: تخليلُ اللحية مرويٌّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث جماعة من الصحابةِ، ¬

_ (¬1) "ت": "يخالف". (¬2) * تخريج الحديث: رواه الترمذي (31)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في تخليل اللحية، وابن ماجه (430)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في تخليل اللحية، وابن خزيمة في "صحيحه" (151)، وابن حبان في "صحيحه" (1081)، والحاكم في "المستدرك" (527)، من حديث إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان، به، وسيأتي الكلام عن تصحيحه في الوجه الأول من هذا الحديث. (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت".

ذكرتُ ما بلغني من ذلك في كتاب "الإمام في معرفة (¬1) أحاديث الأحكام" (¬2)، وأمثلُهَا حديثان: أحدهما: حديثُ عثمان هذا؛ فإنه مرويّ من جهات ثقاتٍ مخرَّجٍ لهم في "الصحيحِ"، ليس فيهم من يَحتاجُ إلَى الكشفِ عنه إلا عامرَ بنَ شقيق، وهو جَمرَة - بفتح الجيم والراء -، وهو يرويه عن أبي وائل، عن عثمان، وأخرجه ابنُ ماجه في "سننه"، وابن خزيمة في "صحيحه"، وأخرجه الحاكم في "مستدركه"؛ أعني: تخليلَ اللحية من حديث عثمان؛ إما في حديث مطوَّل، أو مختصر، وقال: هذا إسناد صحيح، وقد احتجَّا بجميع رواته غير عامر بن شقيق (¬3). وفي لفظه ما يدلُّ علَى أنَّهُ اعتمدَ فيه علَى عدمِ العلم بطعنٍ فيه بوجهٍ من الوجوه، وهذا قد لا يَكتفي به غيرُهُ، وابنُ أبي خيثمةَ روَى عن يحيَى بن مَعين أنَّهُ قالَ [في] (¬4) عامر: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالقوي، ليس من أبي وائل بسبيل (¬5). ¬

_ (¬1) "ت": "أمثلة". (¬2) انظر: (1/ 483) منه. (¬3) وقال أيضاً: ولا أعلم في عامر بن شقيق طعناً بوجه من الوجوه، وله في تخليل اللحية شاهد صحيح عن عمار بن ياسر، وأنس بن مالك، وعائشة - رضي الله عنه -، ثم ذكرها. انظر: "المستدرك" (527). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 322).

قلت: أبو حاتم مُشددٌ في الروايةِ (¬1)، وليس لفظُهُ هذا بالقوي في الطعن، وقد قالَ النسائي وابنُ عبد الرحيم في عامر: لا بأسَ به، وقال موسَى بن هارون الحمَّال: عامرُ بن شقيق صالحُ الحديث، وفي رواية عن يحيى بن معين: أنَّهُ وثقه، وقد روَى عنه الأكابرُ؛ السُّفيانان، ومِسعَرُ بنُ كِدام، والقاضي شريكٌ، وإسرائيلُ بنُ يونسَ (¬2). وتصحيحُ الترمذي له تزكية، وقد قالَ الترمذي: قالَ محمد بن إسماعيل: أصحُّ شيء في هذا الباب حديثُ عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن عثمان (¬3). وثانيهما: عن أنسِ بنِ مالك: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ، وأدخَلَ أصَابِعَهُ تَحتَ لِحْيَتِهِ، فخَلَّلَهَا بأصَابِعِهِ، ثم قال: "هَكَذَا أمَرني رَبي - عز وجل - ". وهذا الحديث مسندٌ (¬4) إلَى رواية محمد بن يحيىَ الذُّهلي في كتابه في "علل حديث الزُّهري" وأنه رواه عنْ محمدِ بن عبد الله بن خالد الصفَّار، وذكر أنَّهُ حدَّثهم من أصله، قال: وكان صدوقاً، قال: ثنا محمد ابن حرب، حدثني الزُّبَيدِيُّ، عن الزهري، عن أنس بن مالك، الحديث. ¬

_ (¬1) "ت": "الرواة". (¬2) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (14/ 41). (¬3) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 45). وقال في "العلل" (ص: 33): قال: محمد - يعني: البخاري -: أصح شيء عندي في التخليل حديث عثمان، قلت: إنهم يتكلمون في هذا الحديث؟ فقال: هو حسن. (¬4) "ت": "مستند".

قال أبو الحسن بن القطَّان المغربي: هذا الإسناد عندي صحيح، ولا تضرُّه روايةُ من رواه عنْ محمدِ بن حرب، عن الزُّبَيدِي، [و] (¬1) قال: بلغني عن أنس: فإنه ليسَ من لمْ يحفظْ حجةً علَى مَنْ حفظ، فالصفَّار قد عيَّنَ شيخَ الزُّبيدي فيه، وبين أنه الزُّهريُّ. قال: [حتَّى] (¬2) لو قلنا: إنَّ محمدَ بن حرب ثقةٌ حدَّث به تارة، فقال فيه: عن الزبيدي، بلغني عن أنس، لمْ يضرَّه ذلك، فقد يراجِعُ كتابَهُ فيعرف منه أن (¬3) الذي حدَّثه به هو الزُّهريُّ، فيحدث به، فيأخذه عنه الصَّفَّار. قال: وهذا الذي أشرتُ إليه هو الذي أعلَّ (¬4) به محمدُ بن يحيىَ الذُّهلي حين ذكره، ونصُّ كلامه هو أن قال: وحدثنا يزيد بن عبد ربِّهِ، ثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، أنَّهُ بَلَغَهُ عن أنس بن مالك: أنَّ رسولَ اللهِ توضَّأَ، فَأدْخَلَ أصَابِعَهُ تحتَ لِحْيَتِهِ. قالَ محمد بن يحيىَ: المحفوظُ عندنا حديثُ يزيدَ بنِ عبد ربِّه، وحديثُ الصفَّار واهٍ (¬5) (¬6). قلت: هذا الذي فعله ابن القطَّان فعل فقهيٌّ جارٍ علَى طريقة ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "أنه". (¬4) "ت": "اعتل". (¬5) في الأصل "رواه"، والمثبت من "ت". (¬6) انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 486) وما بعدها.

الفقهاء والأصوليين، والذي قاله محمد بن يحيي طريق حديثيّ. والحاكمُ في "مستدركه" ذكر حديثَ عثمان، وذكر أن له شاهداً صحيحاً عن أنس، ولعلَّه أراد هذا الحديثَ (¬1). وحديثُ أنسٍ هذا للصفَّارِ في روايته عنْ محمدِ بن حرب متابعةٌ من [حديث] (¬2) سليمان بن سلمة بالرفعِ، إلا أنَّهُ قالَ: عن أنس أو غيره. ووجدت في كتاب "العِلل" لابن أبي حاتم، عن أبيه: لا يثبتُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في تخليل اللحية حديث (¬3). وعن كتاب "الخلال"، عن عبد الله بن أحمد، قالَ أبي: ليس يصحُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء في تخليل اللحية. وعن أبي داود قال: قالَ أحمد: تخليلُ اللحيةِ قد رُوي فيه أحاديثُ، ليس يثبتُ فيه حديث، وأحسنُ شيءٍ فيه حديثُ عامر بن ¬

_ (¬1) قلت: رواه الحاكم في "المستدرك" (529)، من حديث محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن أنس، به. ثم رواه (530)، من طريق موسى بن أبي عائشة، عن أنس، به. قال الحافظ: في "التلخيص الحبير" (1/ 86) رجاله ثقات، لكنه معلول، فإنما رواه موسى بن أبي عائشة، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. أخرجه ابن عدي في ترجمة جعفر بن الحارث أبي الأشهب. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "علل الحديث" لابن أبي حاتم (1/ 45).

الوجه الثاني

شقيق، وذكر كلاماً آخر - يعني - كحديث عامر بن شقيق هذا الذي أخرجناه، وبهذا (¬1) يتبين قوله في الأصلِ: وغيرُهُ يُخالفُهُ في التَّصحيح. ووجدت عن كتاب "الخلال" إسناداً وصله إلَى نافع، عن ابن عمر: أنَّهُ كانَ إذا توضَّأ خلَّلَ لحيتَهُ. قالَ جعفر بن محمد؛ أي: المخرمي (¬2): قالَ أحمد: ليس في التخليلِ أصلحُ من هذا (¬3). وهذا موقوفٌ، وقد رُوي مرفوعاً بإسناد فيه لينٌ مَا، رواه الطبراني (¬4)، والله تعالَى أعلم. * * * * الوجهُ الثاني: قالَ القاضي أبو بكر بن العربي - رحمه الله -: قوله: "يُخلِّل"؛ أي: يدخل يده (¬5) في خُلَلِها (¬6)، وهي الفُرُوج التي بين الشعر، ومنه: ¬

_ (¬1) في الأصل: "لهذا"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "المخدمي"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 487 - 488). وقد نقل هذه النقول عن كتاب "العلل" للخلال: ابنُ القيم في "حاشية السنن" (1/ 170). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1363). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 235): فيه أحمد بن محمد بن أبي بزة، ولم أر من ترجمه. (¬5) "ت": "يديه". (¬6) في الأصل: "جملتها"، والمثبت من "ت".

الوجه الثالث: في الفوائد، وفيه مسائل

فلانٌ خليل [فلان] (¬1)؛ أي: يخالِلُ حُبُّه فروجَ جسمه حتَّى يبلغَ إلَى قلبه، ومنه الخِلال، وبناء ذلك كله يرجع إلَى هذا [الوجه] (¬2)، والله أعلم (¬3). * * * * الوجهُ الثالث: في الفوائدِ، وفيه مسائلُ: الأولَى: قالَ القاضي أبو بكر بن العربي - رحمه الله -: اختلفَ العلماءُ في تخليلها علَى أربعة أقوال: أحدها: أنَّهُ لا يستحبُّ؛ قاله (¬4) مالك في "العتبية". والثاني: أنَّهُ يستحبُّ؛ قاله ابن حبيب. والثالث: أنها إنْ كَانت خفيفةً وجبَ إيصالُ الماء إليها، وإنْ كَانت كثيفة لمْ يجبْ ذلك؛ قاله عن مالكٍ عبدُ الوهاب (¬5). والرابع: من علمائنا [مَنْ قالَ] (¬6): يغسلُ ما قابلَ الذقنَ إيجاباً، وما وراءَ استحباباً (¬7) ¬________ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 48). (¬4) في الأصل: "وقاله"، والمثبت من "ت". (¬5) في المطبوع من "العارضة": "قاله مالك عن عبد الوهاب" وهو خطأ. (¬6) زيادة من "ت". (¬7) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 49).

الثانية

قلت: خلط القاضي - رحمه الله - حكمَ إيصال الماء إلَى منابتها وما وارَتْهُ (¬1) من الذقنِ بحكم تخليلها، وليس أحدُهما الآخرَ، ولا يلازمه، ولو قال: اختلف العلماءُ فيها، أو في حكمها، لكان أقربَ. الثانية: الذي يُتيقَّنُ من الحديثِ إنما هو الرُّجحان والطلبيَّةُ لتخليلِهَا، وأما الوجوبُ فمشكوكٌ فيه، أو مُفصَّل فيه. قالَ الخطابي - رحمه الله -: قد أوجبَ بعضُ العلماء تخليلَ اللحية، وقال: إذا تركَهُ عامداً أعاد الصلاة؛ قاله أبو ثور وإسحاق. قال: وذهب عامةُ العلماء إلَى أنَّ الأمرَ به استحبابٌ، وليس بإيجاب، قال: ويُشْبِهُ أنْ يكونَ المأمورُ بتخليله من اللِّحَى علَى سبيل الوجوب ما رَقَّ في الشعرِ منها لما يتراءَى [ما تحتها] (¬2) من البشرة (¬3). الثالثة: مَن أوجب إيصالَ الماء إلَى منابتها من الذقنِ، يوجبُ التخليلَ، إذا لمْ يحصلِ الواجبُ إلا به؛ كما قيل في الأصابعِ، ومَن لا يرَى الوجوبَ حين حيلولتها بين الرائي وبين البشرة، فذلك عنده مستحبٌّ. الرابعة: إنْ كَان هذا التخليلُ فيما يسترُ البشرة من الذقنِ، فقد ¬

_ (¬1) في الأصل: "وراءه"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 56).

الخامسة

ذكرنا حكمَهُ آنفًا وفائدتَهُ، فإن (¬1) كان فيما طالَ من اللحيةِ، فيُحتمَلُ أنْ يكونَ علَى وجه الاستحباب، بناءً علَى أنهُ لا يجبُ إفاضة الماء علَى ظاهرِهَا، ويحتمل أنْ يكونَ لطلبِ إفاضة الماء علَى جميعِ ظاهرِ الشعر، فقد ينبوا الماء عن نفسه (¬2). (¬3) الخامسة: يمكن أنْ يُجعَلَ أصلاَ لتخليل غيرِ اللحية، التي لا يجب إيصالُ الماء إليها من شعور الوجهِ؛ كالعارضينِ، وكذلك فعلَ الشافعيةُ، استحبّوا تخليلَ ما لا يجبُ إيصالُ الماء إلَى باطنِهِ ومنابتِهِ من شعر الوجه (¬4). السادسة: يمكن أنْ يُجعلَ أصلاً للورع والاحتياطِ فيما يطلب أصلُهُ؛ وجوباً أو استحباباً. السابعة: هو مطلقٌ في التخليلِ؛ فيتأدَّى المطلوبُ بالمرةِ الواحدة، وقد ورد في حديث: "التخليلُ ثلاثاً"؛ أخرجه الدارقطني، من طريق (¬5) إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة، عن عثمان - رضي الله عنه - في صفة الوضوء، وفيه: "وخلَّلَ لحيتَهُ ثلاثاً"، وفي ¬

_ (¬1) "ت": "وإن". (¬2) "ت": "بعضه". (¬3) ورد على هامش "ت": "بياض نحو سطرين من الأصل". (¬4) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 412). (¬5) "ت": "حديث".

الثامنة

آخره: "ثم قال: رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فعلَ هذا" (¬1). وهذا هو الإسناد، الذي حكمَ مَنْ حكمَ بصحتِهِ فيما مضَى، ففيه إذاً استحباب التكرار ثلاثاً في هذا التخليل. الثامنة: هو أيضاً مطلقٌ في كيفية التخليل، وفي حديث أنس بن مالك - الذي قدَّمنا أنَّهُ صحيح (¬2) علَى طريقة الفقهاء -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ، فأدخلَ أصابِعَهُ تحتَ لحيتِهِ، وهذه كيفيةٌ أخرَى، تُؤخَذ من هذا الحديث. التاسعة: روَى الطبرانيُّ من حديث أبي حفص العبدي، عن ثابت البُنَاني، عن أنس بن مالك قال: رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ، قال: فخلَّلَ لحيتَهُ من تحتِ حَنَكِهِ، وقال: "بهذا أَمَرَني رَبي" (¬3)، وهذا فيه أمرٌ زائد علَى الإطلاقِ. وعمرُ هذا، عن أحمدَ أنَّهُ قال: ثقة، لا أعلمُ إلا خيراً، وقال يحيَى بن معين: ثقة، وقال عبد الصمد بن عبد الوارث: ثقة، وفوق الثقة، وقال أبو حاتم: يُكتَبُ حديثُهُ، ولا يحتجُّ به؛ ذكر ذلك في حالِهِ [صاحب] (¬4) "الكمال" (¬5)، والواسطةُ (¬6) التي بين الطبراني وبينه، إنْ لمْ ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 86). (¬2) "ت": "صحح". (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (4465)، وإسناده ضعيف. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) وانظر: "تهذيب الكمال" للمزي (21/ 269). (¬6) "ت": "الناسطة".

العاشرة

يكنْ فيها ما يوجبُ التوقُّفَ، فهذا أيضاً حديث جيدٌ في تخليل اللحية. العاشرة: التخليلُ مطلقٌ علَى ما إذا بلَّ أصابعه، ثم أدخلَهَا في الشعرِ مِن غيرِ نقلِ ماء، وعلَى ما إذا نَقَلَ الماء، فخلَّلَ به، والإطلاقُ الذي في هذا الحديث، لا يعرضُ له بإحدَى (¬1) الكيفيتين. وقد خرج أبو داود من حديث الوليد بن زَرْوَان (¬2)، وهو بفتح الواو، وسكون الراء، عن أنس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضَّأَ أخذَ كفًّا من ماءٍ فأدخلَهُ تحت حَنَكِهِ، وقال: "هكذا أَمَرني رَبِّي" (¬3)، وهذا التعيينُ لأحدِ الكيفيَّتين ينضافُ إلَى ما دلَّ عليه المطلق. والوليدُ بن زروان قالَ أحمد: لا أعرفه، وزعم ابن القطَّان المغربي: أنَّهُ مجهول، ومذهبه أنَّهُ لا يُكتفَى في زوال الجَهالة برواية أكثر من ¬

_ (¬1) في الأصل "بأحد"، والتصويب من "ت". (¬2) ورد على هامش "ت": "ضبطه ابن ماكولا: زوران بفتح الزاي وسكون الواو وبعدها راء مهملة". قلت: وما ذكره في الهامش خطأ؛ إذ الذي ذكره الأمير ابن ماكولا في "الإكمال" (4/ 193) قوله: وأما زوران - بعد الواو راء - فهو أبو يعقوب إسحاق بن زوران السيرافي. ثم قال: وأما زروان: أوله زاي مفتوحة بعدها راء ساكنة وواء مفتوحة، ثم ذكر: الوليد بن زروان. (¬3) رواه أبو داود (145)، كتاب: الطهارة، باب: تخليل اللحية. وإسناده ضعيف؛ لما يأتي.

الحادية عشرة

واحدٍ عن الراوي، بل لا بدَّ من معرفةِ حالِهِ (¬1). الحادية عشرة: روَى ابنُ ماجه من جهةِ يحيَى بن كَثيرٍ أبي النضر صاحب البَصْري، عن يزيدَ الرَّقاشي، عن أنس قال: كانَ رسولُ اللهُ - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأَ خلَّلَ لحيتَهُ، وفرَّجَ أصابعَهُ مرَّتَين (¬2). وهذا أيضاً يدلُّ علَى أمر زائد علَى المطلقِ. ويزيد الرَّقاشي مُتكلَّم (¬3) فيه (¬4)، وقد تقدم في حديث محمد بن ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "فائدة: ذكره ابن حبان في الثقات". قلت: قال ابن حبان في "الثقات" (7/ 550) ": الوليد بن زروان، وهو الذي يقال له: الوليد بن أبي الوليد، انتهى. قال الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 23): قال في "الإمام": روى عنه جماعة، وقول ابن القطان: إنه مجهول، هو على طريقته في طلب زيادة التعديل، مع رواية جماعة عن الراوي، انتهى. قلت: ولم أقف على كلامه هذا فيما طبع من "الإمام". قلت: وقد تابع الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 86) ابن القطان فيما ذهب إليه، فقال: وفي إسناده الوليد بن زروان، وهو مجهول الحال، انتهى. وانظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 144)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 4)، و"تهذيب الكمال" للمزي (31/ 12)، و"نصب الراية" للزيلعي (1/ 23). (¬2) رواه ابن ماجه (431)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في تخليل اللحية، وإسناده ضعيف؛ يحيى بن كثير وشيخه الرقاشي ضعيفان. (¬3) "ت": "تكلم". (¬4) قلت: الجمهور على تضعيفه، انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 251)، و"الضعفاء" للعقيلي (4/ 373)، و "المجروحين" لابن حبان =

الثانية عشرة

حرب، عن الزبيدي ما ذكرناه، وهو أجودُ إسناداً من هذا. الثانية عشرة: ذكر أبو أحمد بن عَدَي من حديث هاشم بن سعيد (¬1)، عنْ محمدِ بن زياد، عن أنس قال: كانَ رسولُ اللهِ إذا توضَّأَ خلَّلَ لحيتَهُ بأصابعِ كفَّيهِ، وقال: "بهذا أَمَرنِي رَبي - عز وجل - ". وقال أبو أحمد في هاشم هذا: ومقدارُ ما يرويه، لا (¬2) يتابَعُ عليه (¬3). وهذا أيضاً فيه أمرٌ زائد، إن صحَّ أضيفَ إلَى المطلق. الثالثة عشرة: من رواية أبي خالد (¬4)، عن أنس قال: وضَّأتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فخلَّلَ لحيتَهُ وعنفقته بالأصابعِ، وقال: "بهذا أمَرني [ربي]، (¬5) ". أخرجه البَيهَقِيُّ (¬6). ¬

_ = (3/ 98)، و "تهذيب الكمال" للمزي (32/ 64)، و "ميزان الاعتدال" للذهبي (7/ 233). (¬1) في الأصل: "سعد"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل "ولا"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "الكامل" لابن عدي (7/ 115). ورواه من طريق هاشم بن سعيد الخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (2/ 524 - 525). (¬4) في الأصل: "حاتم"، والمثبت من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 54).

الرابعة عشرة

وهذا من القبيل (¬1) الذي تقدم. الرابعة عشرة: [قد] (¬2) تقدَّمت إشارةٌ خفيةٌ في قول البراء: "أَمَرنَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ" أنَّ هذا، هل هو استعمال لهذه اللفظة للوجوب؟ وحاصلُهُ: أنَّ الوجوبَ المُختَلَف فيهِ بالنسبَةِ إلَى الأمرِ، هل هو راجعٌ إلَى صيغةِ (افعلْ)، أو هو راجعٌ إلَى الأمرِ الذي هو أعمّ من صيغة (افعل)؟ وهذا جارٍ هاهنا، وعليه يُبتنَى أنَّ مثلَ هذه الصيغة، هل تدلّ علَى الوجوب (¬3)؟ * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "الفعل"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) ورد على هامش "ت": "بياض نحو صفحة من الأصل". قلت: قد تقدم كلام المؤلف رحمه الله في حديث البراء - رضي الله عنه - (2/ 36) من هذا الكتاب، وذكر هناك: أن إخبار الصحابي في الأمر والنهي على ثلاث مراتب، ثم فصَّل كل واحدة من المراتب.

الحديث العاشر

الحديث العاشر [و] (¬1) عنْ سِنَانِ بنِ رَبيعةَ، عنْ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، عنْ أبِي أُمَامَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الأُذُنَانِ مِنَ الرأْسِ"، [وكانَ يمسحُ رأسَهُ مرَّةً] (¬2)، وكانَ يمسحُ المَأقَين. أخرجه ابن ماجه، وسنانُ بن ربيعة أخرج له البُخاريُّ (¬3)، وشَهْرُ ابن حَوْشَبٍ وثَّقَهُ أحمد ويحيىَ، وتكلَّم فيه غيرُهما (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) ما بين معكوفتين زيادة من "الإلمام" للمؤلف، وكذا في "سنن ابن ماجه". (¬3) قال الإمام ابن عبد الهادي في هامش "الإلمام" للمؤلف (ق 6/ بـ): إنما أخرج له مقروناً بغيره، وكذلك روى مسلم لشهر مقروناً، ووثقه غير أحمد ويحيى. (¬4) * تخريج الحديث: رواه ابن ماجه (444)، كتاب: الطهارة، باب: الأذنان من الرأس، والسياق له. ورواه أبو داود (134)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والترمذي (37)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن الأذنين من الرأس، من حديث حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، به.

[الوجه] الأول: في التعريف

الكلامُ عليه من وجوه: * الأول: في التعريفِ: فنقول: [أبو أمامة] (¬1) صُدَي بنَ عَجْلانَ بن وَالِبَةَ بنِ رِيَاحِ بن الحارث بن معنِ بن مالك بن أَعْصُر بن قيس بن عَيلان -[بالعين المُهمَلة] (¬2) - بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. ويُقَال فيه: الصُّدَيُّ بالتعريفِ. وصُدَيٌّ: بضم الصاد وفتح الدال المُهملتين، وتشديد آخر الحروف، ورِيَاح: بكسر الراء، وبعدها آخر الحروف، [و] (¬3) وَالبة: بالباءِ الموحدة، وأعصر: بفتح الهمزة، وسكون العين وضم الصاد المهملتين، ويقال (¬4) في أثناءِ (¬5) نسبه غير ذلك (¬6). والباهليُّ: منسوب إلَى باهلة. وأبو أُمامةَ أحدُ المشهورين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل: إنَّهُ رُوي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مئتا حديث وخمسون حديثاً، وهو من الصحابةِ ¬

_ (¬1) زيادة من هامش "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل "يقول"، والمثبت من "ت". (¬5) في المطبوع من "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي - والمؤلف ينقل عنه هنا -: "ويقال في إملاء نسبه ... ". (¬6) ورد على هامش "ت": "بياض نحو ثلاثة أسطر في الأصل".

الذين اتَّفقَ الشيخان علَى إخراج حديثهم. روَى (¬1) عنه رجاء بن حَيْوَة، وخالد بن معدان (¬2)، ومحمد بن زياد، وسليمان بن حبيب، وسليم بن عامر، وشُرَحْبِيل بن مسلم، وشدَّاد أبو عمار، وأبو سلام ممطور الحبشي، والقاسم أبو (¬3) عبد الرحمن الدمشقي، وسالم بن أبي الجعد، وأبو إدريس الخولاني، وغيرهم. سكن مصر، وحمص، وبها توفي سنة إحدَى وثمانين، وقيل: سنة ست وثمانين. قيل: هو (¬4) آخر من تُوفي من الصحابةِ بالشامِ، وعامةُ حديثه عند الشاميين (¬5). وأما شَهْرُ: فهو أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سعيد، أشعريُّ ¬

_ (¬1) "ت": "وروى". (¬2) في الأصل: "معاذ"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "وأبو". (¬4) "ت": "وهو". (¬5) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 411)، "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 326)، "المستدرك" للحاكم (3/ 743)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 736)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (24/ 50)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 733)، "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 15)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 468)، "تهذيب الكمال" للمزي (13/ 158)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 359)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 420).

النسبِ، كوفيٌّ كان يكون بالشامِ. روَى عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، وأبي العباس عبد الله بن العباس الهاشمي، وأبي محمد عبد الله بن عمرو ابن العاص السهمي، وعبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، وأبي رَيحانة، وأسماء بنت يزيد بن السكَن الأَشْهَلية، وأم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. روَى عنه قَتَادةُ بن دِعامة السدوسي، ومعاوية بن قرة المُزَني، وشَمْر بن عَطية الأسدي، وداود بن أبي هند القُشيري مولاهم، وأبو ربيعة سنان بن ربيعة الباهلي البَصْري، وعاصم بن [أبي] (¬1) النُّجود، وأشعثُ بن جابر الحُدانِي (¬2)، وعوف بن أبي جميلة الأعرابي، وأبو صالح عبد الجليل بن عطية البَصْري، وعبد الحميد بن بَهْرام، وعبدالله ابن عثمان بن خُثَيم، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وأبان بن صالح، وغيرهم. سئل أبو زرعة عن شهر بن حوشب، فقال: لا بأس به، ولم يلقَ عمرو بن عبسة (¬3). وقال محمد بن إسماعيل الأوْنبِي: أخرج لشهر هذا أبو داود، وغيره، وهو ثقة؛ قاله أحمد، ويحيَى، وابن نُمير، وابن صالح، وغيرهم. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل "الحمداني"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 382).

وقال يحيىَ - في رواية عباس الدوري عنه - فيه: ثَبْت (¬1). وأما تصحيحُ القول فيه فإنَّ مُسلماً ذكر في مقدمةِ كتابِهِ: [أن شَهْراً نزَكوه - بالنون والزاي (¬2) -؛ أي: طعنوا فيه] (¬3). وقال النسائي: شهر بن حوشب ليس بالقوي. وقال الساجي: شهر بن حوشب سكن الشام، فيه ضعف، ليس بالحافظِ، تركه ابن (¬4) عون، وشعبة. وقال عمرو بن علي: ثنا [ابن] (¬5) مهدي، عن شهر بن حوشب: وكان يحيَى بن سعيد لا يحدث عنه (¬6). وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: شهر بن حوشب أحبُّ إليَّ من أبي هارون العبدي، وشهر بن حوشب ليس بدون أبي الزبير، لا يُحتجُّ بحديثه (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ ابن معين - رواية الدوري" (4/ 434). (¬2) قال النووي: في "شرح مسلم" (1/ 92): معناه: طعنوا فيه، وتكلموا فيه، وتكلموا بجرحه، فكأنه يقول: طعنوه بالنيزك، وهو رمح قصير، وهذا هو الرواية الصحيحة المشهورة، وكذا ذكرها. أهل الأدب واللغة والغريب. وحكى القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (1/ 121)، عن كثيرين من رواة مسلم أنهم رووه "تركوه" بالتاء والراء، وضعفه القاضي. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "أبو"، والمثبت من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 382). (¬7) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 382).

قلتُ: إذا لمْ يكنْ بدون أبي الزبير، فقد احتَجَّ مسلم في "الصحيح" بأبي الزبير. وأما سِنَانُ بنُ رَبيعةَ: فقال البُخاري في "التاريخ": سنان بن ربيعة: أبو ربيعة، سمع أنساً، وشهرَ بن حوشب، روَى عنه حماد بن زيد، وعبد الوارث، بصري، قالَ ابن مَعين: سمع السهمي من سنان ابن ربيعة بعدما خَرِفَ. قلت: السهمي هو عبد الله بن بكر (¬1)، وممن ذكر أنَّ سناناً روَى [عنه] (¬2): ثابت بن أسلم البُناني، وممن ذكر أنَّهُ روَى عن سنان حماد ابن سلمة بن دينار. وقد ذكرَ في الأصلِ: أنَّ البخاريَّ أخرجَ له، وناهيكَ بها منزلة (¬3). ¬

_ = * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 449)، "معرفة الثقات" للعجلي (1/ 461)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 382)، "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (4/ 36)، "الضعفاء" للعقيلي (2/ 119)، "المجروحين" لابن حبان (1/ 361)، "رجال مسلم" لابن منجويه (1/ 312)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (23/ 217)، "تهذيب الكمال" للمزي (12/ 578)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 372)؛ "تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 324). (¬1) في الأصل: "بكير"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) تقدم أن البخاري روى له مقروناً قال المزي في "تهذيب الكمال" (12/ 148): روى له البخاري في "الجامع" حديثاً وحداً مقروناً بغيره. =

وذكر ابن أبي حاتم: أنَّهُ سأل أباه عن سنان بن ربيعة، فقال: شيخ مضطربُ الحديث. وذكر عباس الدوري، عن يحيىَ بن معين قال: سنان بن ربيعة يحدثُ عنه حماد بن زيد، ليس هو بالقوي، قد روَى عنه السهمي (¬1). * * * ¬

_ = قلت: وهو ما رواه البخاري (5135)، كتاب: الأطعمة، باب: من أدخل الضيفان عشرة عشرة، قال: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس، وعن هشام، عن محمد، عن أنس، وعن سنان أبي ربيعة، عن أنس: أن أم سليم أمه عمدت إلى مد من شعير جشته .... الحديث. قال الحافظ في "الفتح" (9/ 574): قال عياض: وقع في رواية ابن السكن: سنان بن أبي ربيعة، وهو خطأ، وإنما هو سنان أبو ربيعة، وأبو ربيعة كنيته. قال الحافظ: قلت: الخطأ فيه ممن دون ابن السكن، وسنان هو ابن ربيعة، وهو أبو ربيعة وافقت كنيته اسم أبيه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وهو مقرون بغيره، وقد تكلم فيه ابن معين وأبو حاتم، وقال ابن عدي: له أحاديث قليلة، وأرجو أنه لا بأس به. (¬1) * مصادر الترجمة: "تاريخ ابن معين - رواية الدوري" (4/ 165)، "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 164)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 251)، "الضعفاء" للعقيلي (2/ 170)، "الثقات" لابن حبان (4/ 337)، "تهذيب الكمال" للمزي (12/ 147)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 211).

الوجه الثاني: في تصحيحه، وفيه مسائل

* الوجهُ الثاني: في تصحيحه، وفيه مسائل: الأولَى: قد تقدم التعريفُ بحال رُواتِهِ، وأنه ليس فيهم إلا من وُثِّقَ، فحصل شرطُنَا. وبعض الناس يقول: إنَّهُ لا يصحُّ في هذا الباب شيء. وقد روى أبو عيسَى هذا الحديثَ عن قُتيبةَ، عن حماد بن زيد، وقال: أهذا، (¬1) حديث ليس إسناده بذلك القائم. والذي يعتدُّ (¬2) به فيه وجهان: أحدهما: حالُ شهر بن حوشب، أو سنان (¬3)، وقد مرَّا (¬4). الثاني: الشكُّ في رفعه؛ فإنَّ في رواية سليمان بن حرب، عن حماد ابن زيد، ما صيغته: وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح المأقين، قال: وقال: "الأذنان من الرأس". قالَ سليمان بن حرب: يقولها أبو أمامة، قالَ حمَّاد: ولا أدري هو من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو (¬5) أبي أمامة (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "يعتذر"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "بسنان". (¬4) في الأصل "مر"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل "و"، والمثبت من "ت". (¬6) كذا ذكره أبو داود في "سننه"، عقب حديث (134) المتقدم تخريجه.

الثانية

الثانية: هذا الذي اعتُلَّ به من الشكِّ في الرفع يحتمل أمرين: أحدهما: أن شكَّه (¬1) في رفع اللفظين جميعاً أعني: "الأذنان من الرأسِ"و (كان يمسح المَأقَين)، ويكون كلاهما دخلَ (¬2) الشكُّ عليه. [و] (¬3) الثاني: أنْ يكونَ الشك إنما هو في "الأذنان من الرأس" فقط. فعلَى مُقتضَى هذه الرواية التي ذكرناها آنفاً [عن سليمان بن حرب] (¬4)، يكون من باب المُدرج في النقل؛ لتأخر "الأذنان من الرأس" عن أول الحديث، فيكون مُدرجاً. ولكنه قد وردت رواياتٌ مِن غيرِ ما وجه التصدير بـ "الأذنان من الرأس" مضافاً إلَى النبي - صلى الله عليه وسلم - والحديث الذي أخرجه في الأصلِ كذلك، وكذلك رواه الكَشِّي، [عن أبي عمر] (¬5)، عن حماد بن زيد في (¬6) حديث فيه: ومسحَ برأسِهِ وأذنيه، وقال: "الأذنان من الرأسِ"، وغَسَلَ مَآقِيَه (¬7). ¬

_ (¬1) "ت": "يشك". (¬2) "ت": "داخل". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) زيادة من "ت"، وجاء في مطبوعة "الإمام": "ابن عمر". (¬6) "ت": "عن". (¬7) انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 504).

وإنْ كَان التعليل بالشكِّ في رفع الحديث كله، فقد ذُكِرَ التصديرُ بـ"الأذنان من الرأس"، وهو يقتضي أنْ يكونَ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنعود إلَى المسألةِ المشهورة في تقديم الرفع علَى الوقفِ، أو عكسه. قال الدَّارَقُطني في الكلامِ علَى هذا الحديث: شهر بن حوشب ليس بالقوي، وقد وقَفَهُ سليمان بن حرب، عن حماد، وهو ثقة ثبت (¬1). وقال الدَّارَقُطني أيضاً: [قال] (¬2) سليمان بن حرب: "الأذنان من الرأس" إنما هو من قول أبي أمامة، فمَنْ قالَ غير هذا، فقد بدَّل؛ أو كلمة قالها سليمان؛ أي: أخطأ (¬3). قلت: قول الدَّارَقُطني رحمه الله: [و] (¬4) قد وَقَفَهُ سليمان بن حرب، عن حماد، [لا ينبغي أنْ يكونَ أرادَ بِهِ ما حكيناهُ من رواية سليمان ابن حرب، عن حماد] (¬5)؛ فإن ذلك ليس جزماً بالوقفِ، وإنما هو تردُّد، والفرق بينهما ظاهر جداً، وإن كَان مُرَادُهُ هذا، فليس بجيد، نعم الذي حكاه [عن] (¬6) سليمان بن حرب هو جزم بالوقفِ، لكن لا عن حماد، فإذا أريد تحقيق هذا وتصحيحه، فلتطلبْ روايةٌ يُجزَمُ فيها بالوقف. ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الدارقطني" (1/ 103). (¬2) سقط من "ت". (¬3) المرجع السابق (1/ 104). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) سقط من "ت". (¬6) سقط من "ت".

الثالثة

الثالثة: قد رواه غيرُ سليمان، عن حماد، فجزم بالرفعِ، فتنشأ هاهنا مسألةٌ حسنة، وهي أنَّ الراويَ إذا اختلفَ حالُهُ؛ فتارةً جزم، وتارةً شكَّ، فهل يكون ذلك قادحاً في الروايةِ، أم لا؟ لقائلٍ أنْ يقول: لا؛ لأنَّهُ إنْ كَان [المتقدمُ] (¬1) منه هو الشكُّ (¬2)، فجزمه بعد ذلك محمولٌ علَى التذكرِ؛ لأنَّه لا يجوز له أنْ يجزمَ وعندَه شد، وإن [كان] (¬3) المتقدمُ هو الجزم، فيجب أنْ يكونَ الجزم عن يقين، وإلا لمْ يجزْ له، فشكُّةُ بعد ذلك لا يضرُّ (¬4) بعد ما تقدَّم منه مما تقوم به الحجةُ، [فيُنظَرُ في ذلك] (¬5). الرابعة: قالَ البَيهَقِيُّ: وأما الذي يُروَى (¬6) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأُذُنَانِ منَ الرَّأْسِ" فأشهرُ إسنادٍ فيه حديثُ حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، ثم تكلم علَى ذلك (¬7). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل "هو منه الشك"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 66). (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "روي". (¬7) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 66).

وهذا القولُ رُبَّما دل (¬1) علَى تضعيف الحديث بالكليةِ، وقد أخرجَ (¬2) ابن ماجه في "سننه" هذا الحديث، فرواه عن سويد بن سعيد [قال] (¬3): ثنا يحيىَ بن زكريا بن أبي زائدة، عن شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد، وهو ابن عاصم الأنصاري. قالَ شيخنا المنذري - رحمه الله -: وهذا إسناد متصل، ورواته يحتجُّ بهم، وإنَّ البخاريَّ ومسلماً قد اتفقا علَى الاحتجاجِ بابن أبي زائدة، وشعبة، وعباد، وحبيبُ بن زيد: هو الأنصاري، وهو ثقة، وسويدُ بن سعيد، وإن نُسِبَ إلَى ضعفٍ وتدليس، فقد احتَجَّ به مسلم في "صحيحه"، و [قد] (¬4) قالَ في هذا الحديث: ثنا يحيى بن زكريا، فهذا أمثل إسناد في هذا الباب، والله - عز وجل - أعلم (¬5). قلت: ابنُ مَعين، والنَّسائي، تكلّما في سُويد بن سعيد، وأنكر عليه أبو زكريا يحيَى بن معين حديثاً، ظهرت (¬6) براءته من (¬7) عهدته برواية غيره من الثقاتِ كما رواه، وللدارقطني في ذلك كلام وحكاية تُثبتُ براءةَ سويد من العُهْدَةِ، برواية إسحاق بن إبراهيم المَنْجَنيقِي التي ¬

_ (¬1) "تا: "يدل". (¬2) في الأصل "أدرج"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) سقط من "ت". (¬5) وانظر: "حاشية المنذري على سنن أبي داود" (1/ 99). (¬6) في الأصل: "ظهرت به"، والمثبت من "ت". (¬7) في الأصل: "عن"، والمثبت من "ت".

الخامسة

اطلع عليها الدرقطني لما دخل مصر (¬1). الخامسة: هاهنا إسنادٌ آخر مبين، ولعلَّهُ أمثلُ من هذا الذي ذكر أئهُ أمثلُ، أو مساو، وهو إسنادٌ رواه الدارقطني، عنْ محمدِ بن عبد لله ابن زكريا النيسابوري، عن أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار - وهو بالراء -، عن أبي كامل الجَحْدَري، عن غندر محمد (¬2) بن جعفر، [عن] (¬3) ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأُذُنَانِ منَ الرَّأْسِ". قال الدارقطني: حدثني به أبي قال: ثنا محمد بن محمد بن سليمان ¬

_ (¬1) قال حمزة بن يوسف السهمي في "سؤالاته للدارقطني" (ص: 216): سألت الدارقطني عن سويد بن سعيد فقال: تكلم فيه يحيى بن معين وقال: حدث عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". قال يحيى بن معين: وهذا باطل عن أبي معاوية لم يروه غير سويد، وجرح سويد لروايته لهذا الحديث، قال الدارقطني رحمه الله: فلم نزل نظن أن هذا كما قاله يحيى، وأن سويداً أتى أمراً عظيماً في روايته لهذا الحديث حتى دخلت مصر في سنة سبع وخمسين، فوجدت هذا الحديث في "مسند أبي يعقوب إسحاق ابن إبراهيم بن يونس البغدادي" المعروف بالمنجنيقي، وكان ثقة، روى عن أبي كريب، عن أبي معاوية كما قال سويد سواء، وتخلص سويد. وصح الحديث عن أبي معاوية. وقد حدث أبو عبد الرحمن النسائي عن إسحاق ابن إبراهيم هذا، ومات أبو عبد الرحمن قبله، انتهى. وقد روى الخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 231) عن حمزة السهمي ما ذكره عن الدارقطني. (¬2) في الأصل: "بن محمد"، والمثبت موافق للنسخة "ت". (¬3) زيادة من "ت".

السادسة

الباغندي قال: حدثنا أبو كامل الجَحْدَري؛ بهذا مثله (¬1). قال الحافظ أبو الحسن ابن القطَّان بعدَ ذكرِ هذا الحديث من هذه الجهة: هذا الإسناد صحيح بثقةِ رواتِهِ، واتصالِهِ، وإنما أعلَّه الدارقطني بالاضطرابِ في إسناده، فتبعه أبو محمد - يعني عبد الحق - علَى ذلك، وليس بعيب فيه، والذي قاله (¬2) فيه الدارقطني هو: إنَّ أبا كامل تفرَّد (¬3) به عن غندر ووهم فيه عليه؛ هذا ما قاله (¬4)، ولم يؤيدْه بشيء، ولا عَضَدَه بحجة، غير أنَّهُ ذكر أن ابن جريج الذي دار الحديثُ عليه يُروى عنه، عن سليمان بن موسَى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُرسلاً. قال الحافظ أبو الحسن بن القطَّان: وما أدري ما الذي يمنع أنْ يكونَ عنده في ذلك حديثان؛ مسند، ومرسل، والله أعلم (¬5). السادسة: هذا الحديثُ مما تُجمَعُ طرقه؛ لأنَّه يأتي من وجوه، قالَ شيخنا المُنذريّ - رحمه الله -: وقد وقع لنا هذا الحديث من رواية عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن قيس أبي موسَى الأشعري، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وعائشة، - رضي الله عنها -، وليس شيء منها يثبت مرفوعاً، ووقع لنا أيضاً عن عثمان بن ¬

_ (¬1) انظر: "السنن" (1/ 98 - 99). (¬2) "ت": "قال". (¬3) فى الأصل "يقرن"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "قال". (¬5) انظر: "بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (5/ 263).

عفان - رضي الله عنه - من قوله، ولا يثبت أيضاً، وأشهرُهَا حديثُ أبي أمامة؛ كما قالَ البَيهَقِيُّ. قلت: قد عُلمَ أنَّ تضافرَ الرواةِ علَى شيء، ومتابعةَ بعضهم لبعض في حديث ممّا يشده ويقويه، ورُبَّما أُلحِقَ بالحَسَنِ، وما يحتج به. وقد أورد الحافظ الفقيه أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - كلاماً يفهم منه أنهُ لا يرَى هذا الحديث من هذا القَبيل، مع كونه روي بأسانيد ووجوه، فقال: لعلّ الباحثَ الفَهِمَ يقول: إنا نجدُ أحاديثَ محكوماً بضعفها، مع كونها قد رويت بأسانيدَ كثيرةٍ من وجوه عديدة، مثل حديث: "الأذنان من الرأس"، ونحوه، فهلا جعلتم ذلك ونحوَه من نوعِ الحسنِ؛ [لأن بعض ذلك عَضَدَ بعضاً كما قلتم في نوع الحسن] (¬1) علَى ما سبق آنفاً؟! قال: وجوابُ ذلك: أنهُ ليس كل ضعيفٍ في الحديثِ يزولُ بمجيئهِ من وجوه، بل ذلك يتفاوت؛ فمنه ضعيف (¬2) يُزيلُهُ ذلك؛ كأنْ (¬3) يكونَ ضعفه ناشئاً من ضعفِ راوٍ (¬4) مع كونه من أهل الصدق ¬

(¬1) زيادة من المطبوع من "علوم الحديث" لابن الصلاح. (¬2) في "علوم الحديث": "ضعف". (¬3) في "علوم الحديث": "بأن". (¬4) في "علوم الحديث": "من ضعف حفظ راويه".

والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاءَ من وجه آخر عرفنا أنَّهُ ممَّا قد حفظه، ولم يختلَّ فيه ضبطُهُ [له]، وكذلك إذا جاءنا ضعفُه من حيثُ الإرسالُ، وأتَى بنحو ذلك، كما في المرسلِ، الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعفٌ قليلٌ يزول بروايته من وجه. ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك؛ لقوةِ الضعف، وتقاعدِ هذا الجابر عن جبره ومقاومتِه، وذلك كالضعفِ الذي ينشأ من كون الراوي مُتَّهماً بالكذبِ، أو كونِ الحديث شاذاً. وهذه جملةٌ تفاصيلُهَا تُدرَكُ بالمباشرةِ والبحث، فاعلم ذلك؛ فإنه من النفائسِ العزيزة (¬1). قلت: هذا الذي ذكره، وجعلُهُ هذا الحديثَ من النوعِ الذي [لا] (¬2) يقويه مجيئُهُ من طرق، أو وجوه، قد لا يُوافَقُ علَى ذلك، فقد ذكرنا في الأصلِ روايةَ ابن ماجه، وعرفنا أنَّهُ ليس من رواتها إلا من وُثّقَ، وذكرنا كلامَ الشيخ في رواية سُويد بن سعيد، وأنَّ رواتَهُ محتجّ بهم، وذكرنا روايةَ الدارقطني، وحُكمَ أبي الحسن بن القطَّان بأن إسنادَها صحيحٌ، وتعليله بما عُلِّلَ به، وهي منه شجاعةٌ ظاهريةٌ، [شنشنةٌ] (¬3) أعرفُهَا من أخزمِ. وعلَى الجملة: فإنْ توقَّفَ تصحيحُهُ عندَ أحد علَى ذكر طريق ¬

_ (¬1) انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 33 - 34). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

لا علةَ فيها، ولا كلامَ في أحدٍ من رواتها، فقد يتوَقفُ في ذلك، لكنَّ اعتبارَ ذلك صعب ينتقضُ عليهم في كثير مما استحسنوه وصحّحُوه من هذا الوجه، فإنَّ السلامةَ من الكلامِ في الناسِ قليل، ولو شُرِطَ ذلك لما كان لهم حاجة إلَى تعليل الحسن بالتضافر (¬1)، والمتابعة، والمجيء من طرق أو وجوه، فيتقلَّب (¬2) النظر، وتتناقضُ العِبرَ، ويقعُ الترتيب، أو يُخافُ التعذيبُ. [من الطويل]: فإنْ يَكُنِ المَهدِيُّ مَنْ بَانَ هَدْيُهُ ... فهذا، وإلا فالهُدَى ذَا فما المَهْدِيُّ (¬3) وما ذكرته عُرِضَ عليك، لا التزامٌ أتقلَّدُ عهدتَهُ، وفي كلامي ما يشير إلَى المقصود. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "التظافر"، وجاء على هامش "ت": "صوابه: بالتضافر"، والمثبت من هامش "ت". (¬2) "ت": "فيتثعلب". (¬3) البيت للمتنبي، كما في "ديوانه" (1/ 353) (ق 86/ 32). وقد وقع في الأصل و "ت" ذكر صدر البيت: فإن يك المهدي من نَابَ هديه وما أثبت هو من المطبوع من "ديوانه".

الوجه الثالث

* الوجهُ الثالث: [الأولى]: قالَ الجَوهَرِيُّ: و (الأُذُنُ) تخفَّفُ وتثقَّلُ، وهي مؤنثةٌ، وتصغيرُها أُذَينة. ولو سَمَّيتَ بها رجلاً، ثم صغَّرتَه، قلت: أُذَيْن، فلم تؤنثْ؛ لزوال هاء التأنيث عنه بالنقلِ إلَى المذكر، فأما قولهم: (أُذَيْنَة) في الاسمِ العلم، فإنما سُمِّي به مصغراً. والجمع: آذان، وتقول: أَذَنْتُهُ: إذا ضربتَ أُذُنه، ورجل أُذُنٌ: إذا كان يسمع مقالَ كل أحد، يستوي فيه الواحدُ والجمع. [و] (¬1) أذَانِيٌّ: عظيمُ الأذنين، ونعجة أَذْناء، وكبشٌ آذَنُ. وأذَّنْتُ النعلَ وغيرها تأذيناً: إذا جعلتَ لها أذناً، وأذَّنْتُ الصبيَّ: عركتُ أُذَنَه. وآذَنتُك بالشيء: أعلمتك به، والآذِنُ: الحاجب، وقال [من المتقارب]: تبدَّلْ بآذنِكَ المُرْتَضَى (¬2) وقد آذَنَ وتَأَذَّنَ بمعنى؛ كما يقال: أيقنَ وتيقنَ، وتقول: تأذَّنَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) كذا أنشده الجوهري في "الصحاح"، ولم ينسبه، وقد ذكر صاحب "العين" (1/ 165)، (مادة: قلع) قول خلف بن خليفة: تبدَّلْ بآذِنِك المُرتشي ... وأهون تعزيزه القُلقة

الثانية

الأميرُ في الناسِ: إذا نادَى فيهم، يكون في التهديدِ والنهي؛ أي: تَقدَّمَ وأعلَمَ، وقوله تعالَى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} [إبراهيم: 7]؛ أي: أعلم (¬1). [الثانية]: المُؤْقُ: قال ابن سِيدَه في "المحكم": ومُؤْقُ العين، ومُوقُها، ومَأْقُها، ومُؤْقيها، ومَأْقِيها: مؤخَّرُها، وقيل: مقدَّمُها، وجمع المُؤق، والمُوق، والمَأْق: آماق، وجمع المُؤْقي، والمَأْقي: مآق علَى القياسِ (¬2). وقد ذكر ابن سِيدَه هذا في كتابه "المُخصص" عبارة تضبطُ هذه الألفاظ، أو أكثرها؛ قال: وفي العين: المُوْقُ؛ وهو طرفُ العين الذي يلي الأنف، وهو مخرجُ الدمع من العينِ، ولكل عيني مُوْقان، وفي الموقِ أربعُ لغات؛ مُؤْق مثل مُعْق، والجمع: أَمْآق مثل أَمْعَاق. وزيدت همزة ثانية؛ كما زيدت في شأمل، وهو من قولهم: شَمَلت الريحُ، وقلبت الهمزة التي هي عين إلَى موضع اللام؛ لأنَّ هذه الكلمة قد قلبت الهمزة التي هي عين منها، إلَى موضع اللام، في قولهم: مَآق، فلما قُلِبت الهمزةُ التي هي عينٌ إلَى موضع اللام، أُبْدِلت إبدالاً؛ كما أبدلت في قولهم: أمْآق، علَى حدِّ إبدالها في (أخطيت) وشبهه، فلما أبدلت هذا الأبدال انقلبت واواً؛ لانضمام ما قبلها، ثم ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2069)، (مادة: أذن). (¬2) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 481)، (مادة: م أق).

أبدلت من الضمةِ الكسرة، ومن الواوِ الياء، كما فعل ذلك في أَدْلٍ، وقَلَنْسٍ، وما أشبهه، ووزن (مآقٍ) علَى هذا من الفعلِ علَى التخفيف فَآلع، ويحتمل أنْ يكونَ مُؤقٍ مُلحقاً بقولهم: بُرثُن، لا علَى أنَّ الهمزةَ زائدة كزيادتها في شأمل، ولكن الهمزة عين الفعل، وزيدت الواو آخر الكلمة للإلحاق بـ (بُرثُن)؛ كما زيدت في قولهم: عُنْصُوَة، إلا أنَّ الواوَ في مُؤقٍ انقلبت ياءً، لمّا كانت الكلمة مبنيةً علَى التذكيرِ، ولم تصح كما صحت في عُنْصُوَة المبنية علَى التأنيثِ، ف (مُؤْقٍ) علَى هذا الأصل وزنه (فُعْلُو)، فقلبت إلَى (فُعْلٍ)، ووزن جمعه (¬1) علَى هذا القول الثاني (فَعَال)، ولولا ما جاءَ من القلبِ في هذه الكلمة، لجزم علَى وزنها بهذا القول الثاني. فأما قولهم: مَاقٍ، فبناؤه بناء فاعل، إلا أنَّ الهمزةَ التي هي عين في ماق، قلبت إلَى موضع اللام، فصار وزن الكلمة (فَالِع)، ثم أبدلت الهمزة إبدالاً؛ كما أبدلت في الخَطِيّة، والنبيِّ، والبريّة، والذُّريَّة، فيمن جعلها من ذرأ الله الخلق، ومَواقٍ علَى هذا وزنه علَى التخفيفِ (¬2) (فوالع)، والدليل علَى ذلك: أن قوماً يخفِّفون هذه الهمزة فيما حُكي عن أبي زيد، فيقولون: ماقِئ، ويقولون في جمعه: مَوَاقِئُ. وحكَى ابن السّكّيت: أنهُ ليس في الكلامِ مَفْعِل - بكسر العين - ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "جميعه". (¬2) في المطبوع من "المخصص": "التحقيق".

من المعتلِ اللام إلا حرفين: مَأقِي العين، ومَأوِي الإبل (¬1)، ووزن مَأقي مَفعِل، والحكمُ بزيادة الميم فيها غلطٌ بيّن، وذلك أنَّ هذه الميم هي فاء الفعل من قولهم: مُؤْق، الهمزة عين والقاف لام، فإذا حكمَ بزيادة الهمزة جعل أصلَ الكلمة: همزة وقافاً وياء، أو همزة وقافاً وواواً، ولا نعلم (أقو) ولا (أقي) محفوظاً لهذا المعنى المُسمّى مُؤقاً. فمَاقٍ وزنه فالع؛ كما قلنا، والألف فيه زائدة زيادتها في فاعل، فأما ما حكاه يعقوب من قوله (¬2): مَأقي، فالقول في وزنه عندي: أنّهُ (فَعْل [ي])، الياءُ فيه زائدة. فإن قلت: كيف يجوزُ هذا، وليستِ الكلمة بالزيادةِ علَى بناءٍ أصليٍّ من أبنية الرباعي؛ لأنّه ليس في الكلامِ مثل (جَعْفَر)؟ فالجواب: أنَّ الزيادةَ قد تجيءُ لغير الإلحاق، كالألفِ في (قَبَعْثَر [ى])، ألا ترَى أنّهُ لا تكون للإلحاق، إذْ ليس بعد الخمسة بناءٌ يُلحَقُ به، وكالنونِ في (كَنَهْبَل) و (قَرَنْفُل)، ألا ترى أنّهُ ليس مثل (سَفَرْجَل)، فيكونُ هذا مُلحقاً به، ومثلُ ذلك الواوُ في (تَرْقُوَة)، وإنما قلنا في مُؤْق: إنَّهُ مثل عُنْصُوَة، وأنه مُلحق علَى التذكيرِ؛ لأنّ الإلحاقَ أوجَهُ، ونظيرُ مَاق في أنهُ اسم وزنُه فاعل، وليس بصفة كضارب، ¬

_ (¬1) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (1/ 121). (¬2) في الأصل: "قولهم"، والمثبت من "ت".

الوجه الرابع: في شيء من، العربية، وفيه مسائل

قولُهم: الكَاهِل، والغَارِب. اللحياني، جمع الآمق (¬1): آماق، وقالوا: أمواق، فإما أنْ يكونَ علَى قلب الهمزة في مُؤْق ومَأْق واواً يذهبُ إلَى التخفيفِ البدلي، وإما أنْ يكونَ وضعه الواو فيكون ك (بابٍ) و (أبواب) (¬2). * الوجه الرابع: في شيء من، العربية، وفيه مسائل: الأولَى: (من) في "من الرأس" محمولة علَى أحد أقسامها، وهو التبعيض. الثانية: قد ذكرنا في ما مضَى أن الأذنَ تنطلقُ علَى الاسمِ والصفة، فالاسمُ للعضو المخصوص، والصفة للرجل الذي يسمع مقالَ [كلِّ] (¬3) أَحَد، وأكثرُ تصاريف الكلمة التي ذكرناها تعود إلَى العضوِ؛ كما تراه فيما نقلناه عن الجوهري. وأما آذَنَ؛ بمعنى: أَعْلَمَ، فيحتملُ أنْ يعودَ أيضاً إلَى الأذن. الثالثة: ذكر ابن سِيدَه، عن الفارسي أنَّهُ قال: أما قولهم: مُؤْقٍ، فإنَّهُ يحتملُ ضربين من الوزن؛ يجوز أنْ يكونَ وزنه من الفعلِ فُؤعُل، أُلحق هو بِبُرْثُن، وزيدت الهمزة [فيه ثانية]، والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) في المطبوع من "المخصص": "المُوق". (¬2) انظر: "المخصص" لابن سيده (1/ 1/ 96 - 97). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "المخصص" لابن سيده (1/ 1/ 96).

الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

* الوجهُ الخامس: في الفوائدِ والمباحث، وفيه مسائل: الأولَى: "الأذُنَانِ منَ الرأْسِ" جملة خبرية، وقد أبوا أنْ يكونَ خبراً عن أمر وجوديٍّ لوجهين: أحدهما: أن إخبارَ الشارع منزَّلٌ علَى الشرعيّات؛ لأنه الأمرُ الذي بُعِثَ لبيانه، لا الوجوديات؛ لمعرفتها بغيرِ الطريقِ الشرعي. الثاني: أن الرأسَ جارحةٌ مخصوصةٌ علَى شكلٍ معلوم، والأذنان ليسا من ذلك الشكل، ولا فيما تنطلقُ عليه التسميةُ، وهذا الكلامُ يوجب أن لا يُحملَ الكلامُ علَى أنهما منه حقيقةً؛ كما ذكرنا، ويقتضي إبطالَ قول من يقول: إنهما منه حقيقة. الثانية: إذا تعذرَ حملُهُ علَى الإخبارِ عن الأمورِ الوجودية، حُمِلَ علَى الأمورِ الشرعية، أو علَى ما تلزمه الأمورُ الشرعية؛ أي: حُكمُهَا حكمُ الرأس، أو هما بعضُ الرأس حُكماً، فما تعلَّقَ من الحكمِ بالرأسِ تعلَّقَ بهما. الثالثة: ينبغي أنْ نتأملَ بعد الحمل علَى الحكمِ الشرعي، هل يلزمُ العمومُ في الأحكامِ فيه، أو لا؟ الرابعة: فإنْ كَان اللفظُ عامًّا بالنّسبَةِ إلَى الدلالةِ، فلا بدَّ من تخصيصٍ بالنسبَةِ إلَى وقوع مدلولِ العمومِ في بعض الأحكام؛ كما لو كان عليهما شعرٌ فحلقَهُ أو قصَّرَهُ في الحج؛ فإنه لا يُكتفَى به، فكما

الخامسة

يأتي في الاقتصارِ علَى مسحها (¬1). الخامسة: قالَ القاضي أبو بكر بن العربي - رحمه الله -: اختلفَ العلماءُ في الأذنينِ علَى أربعة أقوال: الأول: أنهما من الرأسِ يُمسحانِ بمائِهِ؛ قاله ابنُ عباس، وعطاء، والحسن، وأبو حنيفة. الثاني: أنهما من الوجهِ يغسلان معه؛ قاله ابن شهاب. الثالث: يغسلُ ما أقبلَ منهما مع الوجه، ويمسح ما أدبرَ مع الرأس؛ قاله الشَّعبي، والحسن بن صالح. الرابع: هما من الرأسِ، ويُمسحان بماء جديد، زاد ابن الجلاب (¬2): ظاهرُهُما وجوباً، وباطنُهُما استحباباً، انتهَى (¬3). وهاهنا قولٌ خامس من العجبِ تركه؛ إنّهُ المنقول عن الشافعي، وهو: أنهما ليسا من الرأسِ، ولا من الوجهِ، وإنما هما علَى حيالهما. ذكر أقضَى القضاة المَاوَردِي في "حاويه": أنهُ حُكي عن أبي العباس بن سُريج في الأذنينِ: أنهُ كان يغسلهما ثلاثاً مع وجهه؛ كما قالَ ابن سيرين، والزهري، ويمسحهما مع رأسه؛ كما قالَ أبو حنيفة، ويمسحهما ثلاثاً مفردة؛ كما قالَ الشافعي. ¬

_ (¬1) "ت": "فمسحهما". (¬2) في المطبوع من "العارضة": "ابن الخلال"، وهو خطأ. (¬3) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 54 - 55).

السادسة

قال: ولم يكن أبو العباس يفعل ذلك واجباً، وإنما كان يفعله احتياطاً واستحباباً، وليكون من الخلافِ خارجاً (¬1). السادسة: القائلون بأنهُما يمسحان، فحكمُهُما المسح، يستدلُّون بالحديثِ، وتوجيهُهُ: أنهما من الرأسِ؛ أي: حكمُهُما حكمُ الرأس، وحكمُ الرأس المسحُ. السابعة: لهذا الحديث معارِض يَستدلُّ به من يقول: إنهما من الوجهِ: "سَجَدَ وَجْهِي للذِي خَلَقَهُ وصَوّرَهُ، وشَقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ" (¬2)، فقد أضافهما إلَى الوجهِ، وهو ظاهر؛ كما أنَّ الأولَ ظاهر في أنهما من الرأسِ؛ أعني: حكمَهما. الثامنة: بينَ الحديثين فرقٌ في دلالتهما؛ لأنَّ "الأذنانَ من الرأسِ" يحتاجُ إلَى التأويلِ بسبب تعذُّرِ الحمل علَى الإخبارِ عن الأمرِ الحقيقي، وهذا المعنى معدوم في الحديثِ الآخر، ولإضافة خلقِهِما من الوجهِ إلَى اللهِ، وهذا من أعظم الفوائد المُقتبسة من الشرعِ، وإنما نظيرُ ذلك لو قيل: الأذنان من الوجهِ، وليس كذلك. التاسعة: ومن توابعِ كونهما من الرأسِ في الحكم وجوبُ مسحِهِما لعينِ ما قلناه في مسحهما؛ وهو أنهما بعضُ الرأس في الحكمِ؛ وحكمُ ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 123). (¬2) رواه مسلم (771)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

العاشرة

[الرأس] (¬1) وجوبُ المسح، فيجبُ المسحُ. العاشرة: ومن لوازمِ القولِ بوجوبِ مسحِهِما بناءً علَى التمسُّكِ بالحديث: أن تركَ مسحهما (¬2) يوجبُ الإعادةَ. والمالكيةُ لا يتبعون هذا القانونَ مطلقاً؛ أعني: ترتُّبَ الإعادة، وعدمَ الإجزاء علَى الوجوبِ، وذلك لتعارض القواعدِ التي اعتمدَهَا مالك - رحمه الله - في بعض الصور؛ كقاعدتَي الاستحسان، ومراعاة الخلاف مع القياس، وقد صرحَ بذلك الشيخُ الفاضل أبو عبد الله المازَري، فذكر: أنهُ لو ترك مسحَهُما علَى القولِ بأنَّهُ فرض، أنَّ الجمهورَ علَى أنهُ لا يمنعه الإجزاء؛ ليسارتِهِما، وكثرةِ الخلاف فيها. قال: ومن أصحابنا مَنْ يأمرُ متعمّدَ تركِهِما بإعادة (¬3) الصلاة. قلت: هذا قياسُ القول بالوجوب؛ لأنه لا يقعُ الامتثالُ في الواجبِ إلا بفعله، وقد ظهرَ لك من هذا الكلام أنهُ تركَ القياسَ؛ للاستحسان ومراعاةِ الخلافِ معا، [و] (¬4) وجَّه الاستحسانَ بيسارتِهما، ومراعاةِ الخلاف من القياسِ، فيحتملُ أنْ يُرادَ مراعاةُ الخلاف في وجوبِ ¬________ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "مسحها"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "إعادة"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الحادية عشرة

مسحهما، ويحتملُ أنْ يُرادَ مراعاتُهُ في وجوب الاستيعابِ بالمسح. الحادية عشرة: مُقتضَى إضافة الحكم إلَى الأذنينِ في الحديثِ شمولُ الظاهرِ والباطن منهما، فإن قيل: بالوجوبِ، فليقل به فيهما معاً؛ أعني: الظاهر والباطن، فهذا مُقتضى ما ذكرَ الشيخُ المازري؛ حيثُ اقتضَى لفظُهُ المساواةَ بين الباطنِ والظاهرِ في الخلافِ في الباطن والظاهر؛ فإنه قال: ولم يختلفِ المذهبُ عندنا أنَّ الصِّماخَينِ مسحُهُما سنة، وإنما الخلافُ فيما برزَ من الأذنينِ. وما برز من الأذنينِ يشمَلُ الظاهرَ والباطنَ، فيقتضي كلامُهُ أنْ يجريَ الخلافُ فيهما. والشيخُ أبو القاسم بن الجَلَّاب فرَّق بين الظاهرِ والباطن حيثُ قال: فإنْ تركَ مسحَ باطنِ أذنيه فلا شيءَ عليه. صهانْ تَرَكَ مسحَ ظاهرِهما، فإنه قال: لا يعيدُ، والقياسُ يوجبُ الإعادةَ عليه. وهذا التفريق لا حظَّ له من دلالةِ لفظ الحديثِ، ويَحتاج مَنْ ذهبَ إليه إلَى دليل يُخرجُ الباطنَ عن ظاهر اللفظ، وذكرَ بعضُ مَن رامَ ذلك - أعني: التفريقَ - في علتِهِ بأن الباطنَ لا يجبُ غسلُهُ في الجنابةِ، [فلا يجبُ] (¬1) مسحُهُ في الوضوءِ. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

الثانية عشرة

وهذا خَلْفٌ من القول؛ لأنَّ باطنَ الأذنين قد يرادُ به الصِّماخُ وما بعده، وهذا لا يجبُ في الجنابةِ ولا في الوضوءِ اتفاقاً؛ كما ذكر الشيخ أبو عبد الله المازري من عدم الخلاف فيه في الوضوءِ، والباطنُ ينطلقُ علَى ما برز عن ذلك وظهر، وهذا واجبٌ غسلُه في الجنابةِ، وهذا هو المُختَلَفُ فيهِ، فحصل الاشتراكُ في لفظ الباطن، ووقع بسببه الخللُ فيما ذكر. الثانية عشرة: يقتضي كونُ حكمِهِما حكمَ الرأس: أنْ يُمسحا مع الرأس بمائِهِ؛ كما قالَ أبو حنيفة - رضي الله عنه - وغيره (¬1). والمالكية - وإنْ قالوا بكونهما من الرأسِ - قالوا بتجديدِ الماءِ لهما، لكنْ بدليل من خارج؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالَى، فإذا قامَ الدليلُ علَى ذلك كان موجباً لإخراج بعض الرأس عن المسحِ بمائِهِ. الثالثة عشرة: يقتضي القولُ بأنهُما من الرأسِ مع القول بوجوب استيعابِ الرأسِ بالمسحِ: أنْ يجبَ استيعابُهما بالمسح؛ لأنَّ تركَ ما هو مُسمَّى ببعض (¬2) الرأسِ ترك لجميع (¬3) الرأس، وهو ظاهرُ الحديث أيضاً؛ أعني: مسحَ جميعِ ظاهرِهِما وباطنهما علَى الحقيقةِ. ¬

_ (¬1) نظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 13). (¬2) في الأصل: "بعض"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "ترك لمسح جميع".

الرابعة عشرة

وقد قالَ بعض المالكية: إئهُ لا يُسبغُ الغضونَ بالماءِ اعتبارًا بالوجهِ في التيمم (¬1). وأيضًا هذا (¬2) لا يلزمُ منه أنْ يكونَ استيعابُهما بالمسحِ ليس بواجب؛ لأنَّه يمكنُ أنْ يكونَ ذلك مع القول بالوجوبِ إدخالاً لذلك في باب التنطُّع والتكلف والغلو، أو لأنَّ الاسمَ قد يحصلُ في عُرفِ الإطلاقِ لما يجبُ استيعابُهُ إجماعاً، فيحصلُ الامتثالُ بحصول المُسمَّى، وذلك كغسل اليدين؛ فإنه يحصل المُسمَّى مع الوَسَخِ اليسير في رأس الأصابع؛ الذي يُعتادُ مثلُه غالبًا، مع وجوب استيعاب اليدين بالغسل (¬3) إجماعًا، ولست أحفظُ الآن عن أحدٍ من العلماءِ القولَ بوجوبِ الاستيعابِ بمسحهما. الرابعة عشرة: إذا جعلنا حكمَهُمَا حكمَ الرأس عمومًا، فيتَرَتَّبُ عليه استحبابُ التكرارِ في المسحِ فيهما أو عدمه؛ إتباعًا لحكمهما حكمَ الرأس في ذلك. الخامسة عشرة: الذين أبَوا (¬4) أنْ يكونا من الرأسِ يحتاجونَ إلَى ¬

_ (¬1) وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 322). (¬2) في الأصل و "ت": "وهذا"، ولعل الصواب حذف الواو كما أثبت. (¬3) في الأصل و "ت": "بالمسح" بدل "بالغسل"، وكتب فوقها في "ت": كذا، وعلى الهامش: "كأنه: بالغسل"، قلت: ولعله الصواب فأثبته. (¬4) جاء في "ت": بياض بمقدار كلمة، وعلى الهامش "لعله: أبوا"، وهو المثبت، وسقط من الأصل.

الجوابِ عن ظاهر الحديث، ولهم فيه طرقٌ: الأولَى: القَدْحُ في إسناده، وقد تقدم بما فيه. الثانية: ما قدَّمناه (¬1) من أمرِ الرفع والوقف. الثالثة: التأويلُ، قالَ الخطابيُّ بعد ذِكْرِ؛ ما ذُكرَ من مذهب الشافعي: وتأوَّلَ أصحابُهُ الحديثَ علَى وجهين: أحدهما: أنهما يُمسحان مع الرأس تبعًا له. والآخر: أنهما يُمسحان كما يمسحُ الرأس، ولا يُغسلان كالوجهِ، وإضافتهما (¬2) إلَى الرأسِ إضافةُ نسبةٍ وتقرب، لا إضافةُ تحقيق، وإنما هو في معنى دونَ معنى؛ كقولهِ: "مَولَى القَومِ مِنْهُم" (¬3)؛ أي: في حكم النصرة والموالاة دونَ حكم النسب واستحقاق الإرث، ولو أوصَى رجل لبني هاشم، لمْ يُعطَ مواليهم، وموالي اليهود لا تؤخذُ بالجزية، وفائدة الكلام في معناه (¬4): إبانةُ الأذنِ عن الوجهِ في حكم الغَسْلِ، وقطعُ ¬

_ (¬1) "ت": "قدمنا". (¬2) في الأصل: "إضافتها"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه أبو داود (1650)، كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على بني هاشم، والنسائي (2612)، كتاب: الزكاة، باب: مولى القوم منهم، واللفظ له، والترمذي (657)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في كراهية الصدقة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأهل بيته ومواليه، وقال: حسن صحيح، من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -. (¬4) في "معالم السنن": "وفائدة الكلام ومعناه عندهم".

السادسة عشرة

الشبهيَّة بينهما لما بينهما من الشبهِ في الصورةِ، وذلك (¬1) أنهما وُجدا في أصل الخِلقةِ بلا شعر، وجُعلتا محلاً لحاشَة من الحواسِ، ومعظمُ الحواس محلُّه الوجهُ، فقيل: "الأذنانَ من الرأسِ"؛ ليُعلمَ أنهما ليستا من الوجه (¬2). والوجهُ الأول الذي ذكره الخطابي عن أصحاب الشافعي؛ إن أراد به أنهما يمسحان بماء الرأس، فليسَ مذهباً لهم، وإن أراد أنهما يُمسحان كما يمسح الرأس، وأن فسحَهما علَى سبيل التبعيَّة، فله وجهٌ، لكنْ كونُهما علَى سبيل التبعيَّة فيه نظرٌ؛ لأنَّ قولهم هو: إنهما عضوان علَى حيالهما، لا من الرأسِ، ولا من الوجه. السادسة عشرة: الذين قالوا: إنهما من الرأسِ؛ أي: حكمُهما حكمُ الرأس في المسحِ، يحتاجون إلَى الجوابِ عن الحديث المعارِضِ له الدالّ علَى أنهما من الوجهِ، وهو: "سَجَدَ وَجْهِي" إلَى آخره (¬3). وقد أجاب عنه أقضَى القضاةِ المَاوَردِيُّ بأن قال: إنما هو عبارةٌ عن الجملةِ والذات؛ كما قالَ تعالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "لذلك"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 52). (¬3) تقدم تخريجه قريبًا.

السابعة عشرة

وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27] (¬1). وفي هذا نظر؛ لأنَّ لفظَ الوجه عندَ الإطلاق ينصرفُ إلَى العضوِ المخصوص؛ إمَّا وَضْعاً لغوياً، وإما استعمالاً عُرفياً غالباً، وإطلاقُهُ علَى الجملةِ من باب إطلاقِ اسمِ الجُزء علَى الكلِّ، وقد دلَّت الآيةُ الكريمة علَى الذاتِ؛ لاستحالةِ الحملِ علَى الظاهرِ بالصورة، وليس كذلك فيما نحن فيه، نعم هو مُحتمِل، والاحتمالُ لا يُنافي رُجحانَ غيره. السابعة عشرة: لسائلِ أنْ يسألَ ويقولَ: إذا أخرجتمْ (¬2) لفظَ الوجه عن الحقيقةِ الوضعئة والعرفية، وخَرَجَ أيضاً "الأذنان من الرأسِ" عن الحقيقة الوضعئة، فأيُّهما أقربُ وأرجحُ في الحمل؟ فيُقَال عليه: إنَّ أمرَ الرأس فيه ما أوجب الخروجَ عن الحقيقةِ، فالمصيرُ إلَى المجازِ متعيِّنٌ، وأما الأمرُ الآخر فليس فيه ما يُوجِبُ الحملَ علَى الذاتِ، فكان الأولُ أرجحَ من هذا الوجه، أو يقال: إن دلالةَ (من) علَى الجزئيةِ أقوَى عن دلالة الإضافة عليها؛ إما لأنها دلالةٌ لفظية، ودلالةُ الإضافة علَى المعنى تقديرية، أو لأن دلالةَ الإضافة مترددةٌ بين معنى (مِن) وغيرها بخلاف دلالة (من)، وهذا يُحوجُ إلَى بيان التردُّدِ في هذا المحلِّ؛ أعني: "شقَّ سمعَهُ" إلَى آخره. ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 122). (¬2) في الأصل: "خرجتم"، والمثبت من "ت".

الثامنة عشرة

الثامنة عشرة: قد يُتمسَّكُ بالحديثِ في أن مُسمَّى المسح للرأس غيرُ كافٍ. وطريقه أنْ يقال: لو اكتُفِيَ بالمُسمَّى في بعض مسح البعض لاكتُفِيَ بمسح الأذنين؛ لأنه بعضُ الرأس بالحديثِ، واللازمُ منتفٍ بالإجماعِ. ومما يجيبُ به من يخالفُ ذلك بالطعنِ في السَّند، وقد مرَّ بما فيه، وإنما هذا تفريعٌ بالقولِ بالصحة. التاسعة عشرة: وقد يمكنُ أنْ يُستدلَّ به علَى عكسِ هذا، وهو عدمُ وجوب الاستيعابِ في مسح الرأس بوجهٍ آخرَ يُجعلُ الحديثُ فيه مقدمةً في الدليلِ، وهو أنْ يقال: لو وجب استيعابُ الرأس بالمسحِ لوجبَ مسحُ الأذنين، واللازمُ منتفٍ بالدلائلِ الدالةِ علَى عدم وجوب مسحِهِما، فآلَ الأمرُ إلَى النظرِ في الموازنة بين الظاهرين؛ أعني: ظاهرَ "الأذنان من الرأس"، والظاهرَ الدالَّ علَى عدم وجوب مسحهما، فأيُّهما رَجَحَ تقدم. العشرون: النُّكتةُ الأولَى التي تتعلَّقُ بعدم الاكتفاءِ بمُسمَّى (¬1) المسحِ أقوَى من الثانية؛ لأنهما يشتركان في إثبات الملازمة بالحديثِ، وتنفردُ الأولى بانَّ انتفاءَ اللازمِ فيها بالإجماعِ، وانتفاءُ اللازم في الثانيةِ بدلائلَ ظنيّهٍ يُعترَضُ عليها بما يُعترَضُ به علَى الدلائلِ الظنيَّة، فكانتِ (¬2) ¬

_ (¬1) في الأصل: "لمسمى"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "وكانت"، والمثبت من "ت".

الحادية والعشرون

الأولَى أقوَى من هذا الوجه. الحادية والعشرون: هذه النكتةُ الأولَى - إذا تمَّت - إنما تَصلُحُ للاعتراضِ علَى مَنْ يكتفي بمُسمَّى مسحِ البعض، أمَّا من يقول بأنَّ الوجوبَ متعلِّق ببعضِ معيَّنٍ، فلا تصلحُ للاعتراض عليه؛ لأنَّ الملازمةَ حينئذٍ تكونُ فاسدة؛ لأنه لا يلزمُ من الاكتفاءِ ببعضٍ متعيَّنِ، الاكتفاءُ بمُسمَّى البعض. الثانية والعشرون: اعتُرِضَ علَى من فسَّرَ "الأذنان من الرأس" بأن [حكمَهما] (¬1) حكمُ الرأس في المسحِ، باعتراضِ؛ حاصلُه: أنَّ الاستواءَ في الحكمِ بين العضوين لا يقتضي أنْ يقال: إن أحدَهما من الآخر؛ لأنَّ الوجهَ واليدين والرجلين يستويان في الحكمِ؛ الذي هو الغسل، ولا يقال: إنَّ الوجهَ من اليدينِ، ولا من الرجلينِ. ويجاب عنه بأنْ يقال: إمَّا يُدَّعَى المجازُ في إطلاق كونهما من الرأسِ بسبب استوائهما في الحكمِ، والمجازُ لا يلزمُ اطِّرادُه، ولا اطرادُ الإطلاقِ عندَ وجودِ علاقته، بل قد ذُكر: أن من علاماتِ الحقيقةِ الاطرادُ، ومن علاماتِ المجازِ عدمُ الاطراد (¬2)، فعلَى هذا: امتناع استعمالِ كونِ الوجهِ من اليدِ أو الرجلِ دليلُ المجازِ فيما ذكرناه، ونحن ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "المحصول" للرازي (1/ 482)، و "المعتمد" لأي الحسين البصري (1/ 26).

الثالثة والعشرون

لا نمتنعُ من كونه مجازاً. وإنْ كَان هذا الاعتراضُ لقصد إبطال العلاقة المجوِّزة، فالعلاقةُ موجودةٌ، إذ كونُ الشيء من الشيءِ بسبيل يسوِّغُ مثلَ هذا الإطلاق، ألا تراه يقال: أنا منك، وأنت مني، ولست منك، ولست مني؛ لإرادة الإثبات، ولإرادة التباين، وأنه ليس بسبيل منه. الثالثة والعشرون: احتَجَّ المُزنيُّ علَى أنهما ليستا من الرأسِ بما قدمنا من لزوم التخصيص في الحلقِ أو التقصير في الحج، وأنَّه لو كانا من الرأسِ أجزأَ مَن حجَّ حلقُهما من تقصير الرأس (¬1). واحتَجَّ الشافعيّ بما معناه: أنهما لو كانا من الرأسِ لأجزأَ مسحُهُما عن مسح الرأس؛ فإنه قال: وليستِ الأذنان من الوجهِ فيُغسلان، ولا من الرأسِ فيُجزِئُ المسحُ عليهما، فهما سنةٌ علَى حيالهما (¬2). ورجَّحَ بعضُ المصنفين من أصحاب الشافعي دليلَ الشافعي علَى دليل المُزَييِّ بعد أن ذكرَه وشرحَه، فقال: وهذا احتجاجٌ صحيح، ورُبَّما يمنعُ بعضُ المتأخرين منهم، فيعتمد، أو يعتمدُ علَى ما اعتمدَ عليه الشافعي أولًا، وهو: أنَّهُ لا يُجزئُ مسحُهُ عن مسحِ الرأس، قال: وهذا لا شكَّ فيه؛ أو كما قال (¬3). قلت: كلا الاحتجاجَيْن استدلالٌ بنفي اللازمِ علَى نفي الملزومِ، ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر المزني" (ص: 3). (¬2) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 27)، و"مختصر المزني" (ص: 3). (¬3) وانظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 474).

وإلزامٌ للعمومِ في أحكامهما؛ أعني: حكمَ الرأس والأذنين، والتخصيص، فإنْ كَان المقصودُ الردَّ علَى من يقول بالحكمِ بالتعميم، فليس يقوله أحد، وإنْ كَان المقصودُ الردُّ علَى من يستدلُّ بلفظ الحديثِ علَى أنهما من الرأسِ، وإلزامَهُ التعميمَ في الأحكامِ من هذا اللفظ، فقد يقول: هذا غايةُ ما يلزمُ منه التخصيصُ، وإذا صحَّ الحديثُ فلا بدَّ له من مَحملٍ صحيح، وإذا تعذَّرتِ الحقيقةُ حُملَ علَى المجازِ، فإذاً يؤول ذلك إلَى مسألةٍ من مسائلِ تعارضِ أحوال اللفظ، وهي تعارضُ المجاز والتخصيص، وقد قالوا: إنَّ التخصيصَ أولَى (¬1)، فيُعترَضُ عليه بأنهُ يُلزمُكَ المجازُ بإخراج اللفظ عن حقيقته، ¬

_ (¬1) وذلك لوجهين: أحدهما: أن في صورة التخصيص، إذا لم يقف على القرينة، يجريه على عمومه، فيحصل مراد المتكلم وغير مراده. وفي صورة المجاز إذا لم يقف على القرينة، يجريه على الحقيقة، فلا يحصل مراد المتكلم، ويحصل غير مراده. الثاني: أن في صورة التخصيص انعقد اللفظ دليلًا على كل الأفراد، فإذا خرج البعض بدليل، بقي معتبراً في الباقي، فلا يحتاج فيه إلى تأهل واستدلال واجتهاد. وفي صورة المجاز انعقد اللفظ دليلاً على الحقيقة، فإذا خرجت الحقيقة بقرينة احتيج في صرف اللفظ إلى المجاز إلى نوع تأمل واستدلال، فكان التخصيص أبعد عن الاشتباه، فكان أولى. انظر: "المحصول" للرازي (1/ 501).

الرابعة والعشرون

وهذا مُشتركٌ بيننا، وتنفردُ أنت بالتخصيصِ، وهو خلافُ الأصل؛ كما أن المجازَ خلافُ الأصل، فتَلزمُكَ مخالفةُ الأصل من وجهين بخلاف ما قلناه؛ فإنه إنما يَلزمُ المجاز فقط. واعلمْ أن مَنْ ذهبَ إلَى عدم العموم في كون أحكامهما حكمَ الرأس، لا يلزمُهُ شي: من الاعتراضينِ، وإنما يلزمان علَى تقدير التزام العموم في الأحكام. واعلمْ أيضاً أنَّ الاستدلالَ بعدم الاكتفاءِ بمسحهما لا يصلحُ للإلزامِ لمالكٍ؛ لأنه لا يقول بالاكتفاءِ بمسح البعض، وقد تقدم. الرابعة والعشرون: قوله في الحديثِ: "وكان يمسحُ المَأْقَين" يدلُّ علَى طلبيةِ هذا القدر؛ أعني: القدرَ المشترك بين الوجوب والندب، وإنما يجبُ ذلك إذا تعيَّنَ المسحُ طريقًا إلَى إقامة الواجب من الغسلِ، أما إذا حصل مسمَّاه كان المسح مُستحباً؛ لتأَدِّي الواجب بما يحصل به المُسمَّى. الخامسة والعشرون: هذا المسحُ يُعلَّلُ باحتمال اجتماع القذَى في المآقي، فيكون حائلاً عن الغسلِ الواجب. السادسة والعشرون: فيه دليلٌ علَى المبالغةِ في الغسلِ بالنِّسبةِ إلَى أجزاء ما أُمِرَ فيه به (¬1)، وعدمِ المسامحةِ بهذا القدْر (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أي: المبالغة بغسل الأعضاء المأمور بغسلها من مثل الوجه واليدين، وعدم التساهل في غسل أي جزء منها. (¬2) "ت": "المقدار".

السابعة والعشرون

السابعة والعشرون: ومَا ذكرنَاهُ من المعنى، وهو: أنَّ إزالةَ ما عساه يجتمعُ من القَذَى في المآقي، يقتضي أنْ يكونَ هذا المسحُ قبلَ الغَسل؛ ليَرِدَ الغسلُ علَى محل التطهيرِ الواجب خليًا عن احتمال المُعارِض، ولو تأخَّرَ لمْ يحصلِ الفرضُ علَى تقدير وقوع المعارِض، وهو احتمالُ القذَى؛ لأنَّ المسحَ لا ينوبُ عن الغسل. الثامنة والعشرون: ويقتضي التورُّعَ والاحتياطَ في الطهارةِ، وعدمَ خروجِ بعضها اليسيرِ عن باب التنطع والتكلف؛ لأنّ ما دل علَى المُقَيَّدِ، دلَّ على المُطلق. التاسعة والعشرون: إذا أخذنا دلالةَ لفظةِ (كان) علَى المداومةِ أو الأكثرية، فهو دليلٌ علَى استحباب ذلك، والاعتناءُ بتفقدِ (¬1) هذا المحلِّ دلَّت عليه لفظةُ (كان) حينئذٍ. الثلاثون: هذا المعنى المناسبُ الذي ذكرناه يُجعَلُ أصلاً لما هو في معناه؛ كاحتمال اجتماع الرَّمَص (¬2) في الأهدابِ، ويقتضي تفقُّدَهُ، كما [يقتضي] (¬3) تفقُّدَ المَأقين، ولعل سببَ اختصاص المَأقين بالذكر أنَّ عُلوقَ القذَى بالأهدابِ، إنَّما يكون لحالةٍ عارضة من ضعف ¬

_ (¬1) في الأصل: "بنقل"، والمثبت من "ت". (¬2) الرمَص: القَذَى يجِفُّ في هُدب العين ومآقيها. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (7/ 43)، مادة (ر م ص). (¬3) زيادة من "ت".

الحادية والثلاثون

العين، أو رَمَدِها غالباً، ووجوبُها في المأقينِ أكثر؛ لوجودها كثيراً عندَ الاثتباه من النومِ فيهما. الحادية والثلاثون: وردَ في بعض الروايات: "وكانَ يَغسِلُ المَأقين"، وقد ذكرتُهُ في "الإمامِ" (¬1)، وهذا غيرُ الأول؛ لأنَّ المسحَ لا يُعبَّرُ عنه بالغسلِ، ويحتمل أنْ يكونَ إشارةً إلَى ما يؤدي الفرضَ، ويكون المقصودُ أنَّهُ لا يُكتفَى بالمسحِ عن الغسل الواجب، وهذا علَى إن لا تكون الروايتان في حديث واحد اختُلِفَ في لفظه، فإن كَانتا كذلك فالترجيحُ، والظاهرُ أنَّ الترجيحَ لرواية المسح؛ فإنَّها أكثرُ. الثَّانية والثلاثون: وقد يُقَال علَى رواية الغسل: إنها تدلُّ علَى إيصالِ الماء إلَى باطن العين؛ لأنَّ عدمَ حصولهِ في باطنِهَا غالبًا، إذا غسلَ الماء في العينينِ، ولا أبلغ به تأكيدُ المضمضة والاستنشاق (¬2). ومن أصحابه مَنْ قالَ: لا يُستحبُّ، ولا يغسلُهُ؛ لأنَّه لمْ يُنقلْ ذلك عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قولًا ولا فعلًا، ويؤدي إلَى الضررِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 503). (¬2) جاء على هامش "ت" إشارة تدل على وجود خلل في سياق الكلام، وكان في النسختين سقطاً، والله أعلم. قلت: والمسألة التي ذكرها المؤلف رحمه الله هي في غسل العين عند الشَّافعية. (¬3) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 16).

قالَ بعض المصنفين: وهذا اختيارُ أكثرِ أصحابِنا. وحَكَى عن "الحاوي": أنَّهُ لا يجبُ، ولا يُسَنُّ، وهل يُستحبُّ؟ قالَ أبو حامد: يُستحبُّ للنص في "الأم"، وقال غيره: لا يستحبُّ (¬1)، وهذا أصح؛ لأنَّ ما لا يسنُّ لا يستحبُّ، والله أعلم بالصواب. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع في شرح المهذب" للنووي (1/ 429 - 430) وقال: وليس نصه في "الأم" ظاهراً فيما نقله، فإنَّه قال في "الأم" (1/ 25): إنَّما أكدت المضمضة والاستنشاق دون غسل العينين للسنة، ولأن الفم والأنف يتغيران، وأن الماء يقطع من تغيرهما، وليست كذلك العينان.

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر وروَى حَبيبُ بنُ زيدٍ، عن عبَّادِ بن تميم، عن عَمّهِ قال: رَأَيْت النَّبيَّ (¬1) - صَلَّى الله عليه وسلم - يتوَضَّأُ، فَجَعَلَ يَدْلِكُ ذِرَاعَيْهِ. أخرجه أبو حاتم ابنُ حبَّان في "صحيحه" (¬2)، وذكر حبيباً في كتاب "الثقات"، وقال أبو حاتم الرازي: هو صالح. الكلامُ عليه من وجوه: * الأول: في التعريف: فنقول: حبيبُ بنُ زيدٍ الأنصاريُّ: ينسبُ من البلادِ إلَى أصبهان. ¬

_ (¬1) في الأصل: "رسول الله"، والمثبت من "ت"، وكذا "الإلمام" للمؤلف (ق 6/ ب). (¬2) * تخريج الحديث: رواه ابن حبان في "صحيحه" (1082)، واللفظ له، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 39) إلَّا أنه لم يذكر الذراعين، وابن خزيمة في "صحيحه" (118) وزاد أنه أتي بثلثي مد، وكذا الحاكم في "المستدرك" (509)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 196)، كلهم من حديث شعبة، عن حبيب بن زيد، عن عباد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد، به.

قالَ البُخاريّ في "تاريخه": حبيب بن زيد الأنصاري، روَى عنه شريك، وقال شُعيب بن حرب: جدُّهُ الذي أُرِي الأَذان المدني. قلت: هذا مُشكِلٌ؛ لأنَّا قد بيَّنا فيما مضَى أنَّ الذيَ أُرِي الأذانَ هو عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه، وأنَّ الذيَ روَى الوضوءَ عمُّ عباد بن تميم، هو عبد الله بن زيد بن عاصم، وذكرنا تغليطَهم لسفيانَ بن عُيَينة في أنَّ الذيَ وَصَفَ الوضوءَ هو الذي أُرِي الأذان. وذكر محمدُ بن إسماعيلَ الأندلسي في حبيب هذا: أنَّهُ روى (¬1) عن مولاةٍ لهم يُقَال لها: ليلَى، عن جدَّتِهِ أمِّ عَمارة بنت كعب الأنصارية. روَى عنه شعبةُ بن الحجَّاج، وشريك بن عبد الله النَّخعيُّ. وذكر ابن أبي حاتم: أنَّهُ سمع أباه يقول: هو صالح. وقال محمدُ بن إسماعيل في حبيب هذا: هو ثقةٌ؛ قاله يحيَى، والنَّسوي، وغيرهما (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "رواه"، والمثبت من "ت". (¬2) * مصادر الترجمة: "تاريخ ابن معين - رواية الدَّارميُّ" (1/ 94)، "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 318)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 101)، "الثقات" لابن حبان (6/ 181)، "تهذيب الكمال" للمزي (5/ 373)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (2/ 160).

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجهُ الثَّاني: في تصحيحه: إسنادُهُ إلَى حبيب بن زيد، وقد ذكرنا حالَهُ، وذكرنا أيضاً: أنَّ ابنَ حِبَّان أخرجه في "صحيحه"، وأنه ذكر حبيباً في كتاب "الثقات"، وبهذا صحَّ شرطُنا فيه، والله أعلم. * * * * الوجهُ الثالث: في المباحثِ والفوائد، وفيه مسائل: الأولَى: ظاهرُ المذهب عندَ المالكية، أنَّ مُجرَّدَ إيصالِ الماء إلَى العضوِ لا يَكفي، ولا بُدَّ من أمرِ زائد عليه، فمنهم من يعبِّرُ عنه بالدَّلكِ، ومنهم من يعبر عنه بإمرارِ اليدِ في الغسلِ (¬1)، وليس أحدُ اللفظين بمرادفِ للآخر، فلا بدَّ من التسامحِ في إحدَى العبارتين. الثانية: الاستدلالُ بمجرَّدِ تفرقةِ العَرَب بين الغَسْل والغَمْس علَى افتراقهما؛ فانَّ الأصلَ عندَ اختلاف اللفظين اختلافُ المعنيين، لا يكفي (¬2)؛ لأنَّ اختلافَ المعنيين قد يكون اختلافاً من جهةِ العمومِ والخصوص، فقد يدَّعي المخالفُ أنَّ الغَسْلَ أعمُّ من الغمسِ، فيحصل الفرقُ بينهما، ولا يجوز نفيُ الأعم، وهو الغسل، عندَ ثبوت الأخص، وهو الغمس، إذ يقول: كلُّ غمسٍ غسلٌ، ولا ينعكس. ¬

_ (¬1) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 309). (¬2) أي: مجرد التفرقة.

الثالثة

نعم الذي يقوله بعضهم: من أنَّهُ يقال: غمسْتُ ثوبي وما غسلتُهُ، فيه دليلٌ لو ثبت، لكنَّه يُنازَعُ في ذلك. وأقوَى شيءٍ استُدلَّ به في هذا ما جاء في "الصحيحِ" في حديث غسل بول الصَّبي: "فَدَعَا بمَاءٍ فَأَتبْعَهُ إيَّاهُ، ولمْ يَغْسِلْهُ" (¬1)، فنفَى الغسلَ مع وجود إتباع الماء، وقد استدلَّ به بعضُ المالكية. ولقائل أنْ يقولَ عليه: أحدُ الأمرين لازمٌ عن هذا الحديث؛ إمَّا بُطلانُ الاستدلال، أو بطلان المذهب؛ لأنَّ هذا الإتباعَ بالماء؛ إمَّا أنْ يُسمَّى غسلًا، أو لا، فإن سُمِّي غَسْلاً لمْ يصحُّ الاستدلال؛ لأنَّ إثباتَ كونِهِ غَسلاً مع نفيِ كونِهِ غسلًا مُحالٌ، وإنْ لمْ يكنْ غسلًا بطلَ المذهب؛ لأنَّه حصل الاكتفاءُ به، ولا يُكتفَى عنده إلَّا بالغسلِ، ولا يرد علَى هذا إلَّا شيءٌ من الجدلياتِ، هو بمعزلٍ عن التحقيق. الثالثة: من الظاهرِ القويِّ جداً أن هذا الدَّلكَ لأجل طهارة الوضوء، ويحتمل أنْ يكونَ لأجل غيرِهِ، لكنَّه باطلٌ، أو بعيدٌ جداً، فيدلُّ علَى طلبيةِ الدَّلك في طهارة الغسل، إذا لمْ يتبينْ أنَّ حقيقةَ الغسل تقتضي أمراً زائدًا علَى وصول الماء. الرابعة: منطوقُهُ الدَّلكُ في الذراعينِ، وبقيةُ الأعضاء تجري مجراه؛ لعدم الافتراق في المُقتضَى، فيمكنُ أنْ يكونَ التخصيصُ ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (5994)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء للصبيان بالبركة ومسح رؤوسهم، ومسلم (286)، كتاب: الطهارة، باب: حكم بول الطفل، وكيفية غسله، من حديث عائشة رضي الله عنها.

الخامسة

بالذكر؛ لأنَّه لمْ تقعِ الرؤيةُ لغيره، ويمكن أنْ يكونَ التخصيصُ من باب التنبيهِ بذكر الشيء علَى ما سواه؛ لأنَّه أولَى منه بالحكمِ، وتكون الأولوَيَّةُ من جهة أن بروزَ الوجه والرِّجلين أولَى بالدَّلك؛ لبروزِهما غالباً، وكثرةِ ملاقاتِهِما للغبار، وما يُحتاجُ بسببه إلَى الدَّلك. الخامسة: الذي يتحقَّقُ جزماً استواءُ بقيةِ الأعضاء مع اليدين في مُقتضي الدَّلك؛ أي: أنَّ المُقتضِي لا يقتضي التخصيصَ بالبعضِ دونَ البعض مع وجوده في الكلِّ من جهة الظاهر القوي استوائهما في حكم الدلك بالنسبَةِ إلَى الطهارةِ، والله أعلم. * * *

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر وروَى مسلمٌ من حديث نُعيم بن عبد الله المُجْمِر قال: رأيتُ أبا هريرةَ يتوضَّأ، فغسلَ وجهَهُ، فأسبغَ الوضوءَ، ثم غسلَ يدَهُ اليُمنَى حتَّى أشرعَ في العَضُدِ، ثم غسلَ يدَهُ اليُسرَى حتَّى أشرعَ في العَضُدِ، ثم مسحَ رأسَهُ، ثم غسلَ رِجلَهُ اليُمنَى حتَّى أشرع في السَّاقِ، ثم غسل رجلَهُ اليُسرَى حتَّى أشرعَ في الساقِ، ثم [قال] (¬1): هَكَذَا رأيتُ رسولَ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ، وقال: قالَ رسولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أَنْتُمُ الغُرُّ المُحَجَّلُونَ يومَ القِيامَةِ من إسباغِ الوُضُوء، فمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ (¬2) غرّتهُ وَتَحْجيلَهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل و "ت": "أن يطيل"، والمثبت من "الإلمام" للمؤلف (ق 6/ ب)، وكذا "صحيح مسلم". (¬3) * تخريج الحديث: رواه مسلم (246/ 34)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، من حديث عُمارة بن غَزية، عن نعيم بن عبد الله المجمر، به.

[الوجه] الأول: في التعريف

وفي رواية: فغسلَ وجهَهُ، ويديهِ حتَّى كادَ يبلُغَ المَنكبين، ثم غسل رِجليه (¬1)، حتَّى رفع إلَى السَّاقين (¬2). وفي رواية أبي حازم قال: كنتُ خلفَ أبي هريرة، وهو يتوضَّأ للصلاة، فكان يمد يدَه حتَّى تبلغَ إِبِطَه، الحديث (¬3). الكلامُ عليه من وجوه: * الأول: في التعريفِ، وفيه مسائل: الأولَى: نعيمُ بن عبد الله: كنيتُهُ أبو عبد الله، ينسبُ في الولاء إلَى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. قالَ البُخاريّ: نعيم بن عبد الله، أبو عبد الله، المُجْمِرُ، مولَى عمر ابن الخطاب القُرَشيِّ العدوي، سمع أبا هريرة، روَى عنه مالك بن أنس. ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "رجله"، والمثبت من "الإلمام" للمؤلف (ق 7/ أ)، و "صحيح مسلم". (¬2) رواه مسلم (246/ 35)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، واللفظ له، والبخاري (136)، كتاب: الوضوء باب: فضل الوضوء، والغر المحجلون من آثار الوضوء، من حديث سعيد ابن أبي هلال، عن نعيم المجمر، به. (¬3) رواه مسلم (250/ 40)، كتاب: الطهارة، باب: تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، والنَّسائيُّ (149)، كتاب: الطهارة، باب: حلية الوضوء، وابن ماجه (4282)، كتاب: الزهد، باب: صفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، به.

وذكر غيرُ البُخاريّ: أن نعيماً هذا روَى عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، وأبي هريرة الدوسي، وأبي حمزة أنسِ بنِ مالكٍ الأنصاري، وأنه روَى عن جماعة من التابعينِ؛ منهم محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاريّ، وعلي بن يحيىَ ابن خَلَّاد الأنصاري، وأنه روى عنه أبو جعفر محمد بن عليّ بن حسين ابن عليّ بن أبي طالب الهاشمي، وبُكَير بن عبد الله بن الأشجّ المدني، وزيد بن أبي أُنيَسة الجَزَرِي، وعُمارة بن غَزِية الأنصاري، ومحمد بن عَجلان المدني، وسعيد بن أبي هلال اللَّيثي، ومالك بن أنس الأَصْبَحِي، وغيرهم. الثَّانية: المُجْمِر: بضم الميم، وسكون الجيم، وكسر الميم الثَّانية؛ قيل، ويقال: المُجَمر: بفتح الجيم، وتشديد الميم الثَّانية المكسورة (¬1). قلت: والأول هو الأشهرُ. الثالثة: هذه الصفةُ معناها تجميرُ المسجدِ؛ أي: تبخيرُهُ، والتجميرُ لفظٌ مشترَك بين هذا المعنى وغيرِه، إلَّا أنَّ هذا المعنى هو المرادُ هاهنا. الرابعة: كلامُ البُخاريّ - رحمه الله - يدلُّ علَى أنَّ المجمرَ صفةٌ ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 395)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 134).

لنعيم، والبرقي يذكر: أنَّهُ كانَ أبوه يُجمِرُ المسجدَ إذا قعد عمر علَى المنبرِ، قال: فيما أنبأ ابن بكير (¬1). وهذا يقتضي أنَّ المُجمِرَ في الوصفِ المذكور أبوه ظاهراً، وزعمَ بعضُ المتأخرين: أنَّ المجمرَ صفةٌ لعبد الله، ويطلقُ علَى ابنه نعيم مجازاً (¬2). قلت: لا يتعيَّنُ المجازُ حتَّى يتبيَّنَ انتفاءُ الحقيقة، وهو أنَّهُ لمْ يكنْ يجمرُ المسجدَ، وهذا يحتاجُ إلَى نقلِ مَنْ عاصره. الخامسة: قالَ أبو عمر بن عبد البر: ونعيمٌ أحدُ ثقاتِ أهل المدينة، وأحدُ خيار التابعين بها. قال: وكان نعيم (¬3) يوقف كثيرًا من حديث أبي هريرة ممَّا يرفعه غيرُهُ من الثقات. قلت: هذا دليل علَى تورُّعِه وتحرُّزه. وقال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأندلسيُّ؛ يعني نُعيماً: كان رجلًا صالحًا خِياراً، أخرج له الشيخان؛ البخاريُّ، ومسلم، وهو عندهم ثقة؛ قاله يحيىَ، وأبو حاتم، والنَّسوي وغيرهم (¬4). ¬

_ (¬1) وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 177). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 134). (¬3) في الأصل "أبو نعيم"، والتصويب من "ت". (¬4) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 309)، "التاريخ الكبير" للبخاري =

وأمَّا أبو حازمٍ هذا - فهو بالحاء المُهمَلة، وبعد الألفِ زايٌ - قالَ أبو عليّ الجياني (¬1) في "تقييدِ المُهمَلِ": ومنهم حازمٌ، وأبو حازمٍ: تابعيَّان، يرويان عن الصحابة. فالأول منهما: أبو حازم الأشجعي، واسمُه سلمان مولَى عزةَ الأشجعية، كوفيٌّ، يروي عن أبي هريرة، روَى عنه منصور، وسيَّار أبو الحكم، وفضيل بن غزوان. والثاني: هو أبو حازم سَلَمَة بن دينار الأعرج، ويُقَال له: الأفْزَر، الزَّاهد، مولَى الأسود بن سفيان، يروي عن سهل بن سعد السَّاعِديّ، روَى عنه مالك، والثوري، وابن عُيَينة، وسليمان بن بلال، وأبو غسان محمد بن مطرف، واسمه عبد العزيز. ونسبه أبو نصر الكلاباذِيُّ في "كتابه" فقال: سلمة بن دينار، أبو حازم، الأعرج، التمار، الزاهد. وذكرهُ التمارِ في نسبةِ سلمةَ بن دينار وهمٌ. وأبو حازم التمار المدني: رجل ثالث، واسمه دينار مولَى أبي ¬

_ = (8/ 96)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 460)، "الثقات" لابن حبان (5/ 476)، "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 177)، "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (1/ 216)، "تهذيب الكمال" للمزي (29/ 487)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 227)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 414). (¬1) في الأصل و "ت": "الجبائي"، والصواب ما أثبت.

رهم الغفاري، يروي عن الشَّافعي، وغيره، روَى عنه محمد بن إبراهيم ابن الحارث التَّيميُّ، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وحديثُهُ في "الموطأ"، انتهَى. قالَ البُخاريّ في "التاريخ": سلمة بن دينار، أبو حازم، الأعرج، مدني، مولَى الأسود بن سفيان المخزومي، هو القاصُّ. قلت: الأفْزَرُ: بإسكان الفاء بعدها زاي ثم راء. وأبو حازم هذا: مدنيٌّ يُنسبُ ولاءً (¬1) إلَى بني مخزوم من قريش، وقيل: هو مولًى لبني أشجعَ من بني ليث، وأنه كان يقصُّ بعد الفجر وبعد العصر، وأن أمَّهُ كانت رومية. روَى عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي، وعن جملة من التابعين منهم أبو إدريس عائذُ الله بن عبد الله الخولاني، وأبو محمد سعيد بن المسيب المخزومي، وأبو يحيىَ عبد الله بن أبي قتادة الحارث ابن رِبْعي الأنصاري السُّلمي، وأبو رَوْح يزيد بن رُوْمان القُرَشيِّ الأسدي مولاهم المدني. روَى عنه مالك بن أنس الأصبحي، وعبيد الله بن عمر بن حفص العمري، وسفيان بن سعيد الثوري، وسفيان بن عُيَينة الهِلالي، وفُلَيح ابن سليمان الخُزاعي، وحماد بن سلمة بن دينار الربعي، وحماد بن ¬

_ (¬1) "ت": "ولاءه".

زيدِ بن درهم الأزدي، وسلمان بن بلال القُرَشيِّ، وابنُه عبد العزيز بن أبي حازم، وغيرهم. اختُلِفَ في وقتِ وفاته، فقيل: توفي سنة ثلاثين، وقيل: أو ثلاثِ وثلاثين ومئة، وقيل: توفي في خلافة أبي جعفر المنصور بعد سنة أربعين ومئة. وقال محمد بن إسماعيل الأندلسي - بعد ذكر من ذكرناه ممن روَى عنه، وروَى هو عنه -: وهو من الفضلاءِ الزهاد الأخيار، أخرج له البُخاريّ ومسلم، [و] (¬1) هو ثقة؛ قاله (¬2) أبو حاتم، وأحمد، والنَّسوي، وغيرهم. وذكره أبو عمر النمري فقال: وكان أبو حازم هذا أحدَ الفضلاءِ الحكماءِ العلماءِ الثقاتِ الأثباتِ من التابعينِ، وله حِكَم وزهديَّاتٌ ومواعظُ ورقائقُ ومقطعات. وروي عنه أنَّهُ قال: كل نعمةِ لا تقرَّبُ من اللهِ بليَّةٌ (¬3). وقال أيضاً: نعمةُ الله عليَّ فيما زَوَى عني من الدُّنيا أعظمُ ممَّا أعطاني منها؛ لأني رأيت أقواماً أعطُوا من الدُّنيا فهلكوا (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "قال هو"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 230)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4537)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 56). (¬4) رواه ابن أبي الدُّنيا في "الشكر" (120)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" =

الوجه الثاني: في إيراد الروايتين المختصرتين على الوجه

وقال: انظرْ كلَّ عملٍ كرهْتَ الموتَ من أجله فاتركْهُ، ثم لا يضرك متَى متَّ (¬1). * * * * الوجهُ الثَّاني: في إيراد الروايتين المختصرتين علَى الوجه: أما الروايةُ الأولَى من حديث نعيم بن عبد الله، فهي عندَ مسلم من طريق سعيد بن أبي هلال، عن نعيم بن عبد الله: أنَّهُ رأَى أبا هريرة يتوضَّأَ، فغسل وجهَهُ ويديه حتَّى [كاد] (¬2) يبلغُ المنكبين، ثم غسل ¬

_ = (3/ 223)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 49). (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35266)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 46 - 47). * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 78)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 159)، "الثقات" لابن حبان (4/ 316)، "رجال البُخاريّ" للكلاباذي (1/ 321)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 229)، "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 95)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (22/ 16)، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 156)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 494)، "تهذيب الكمال" للمزي (11/ 272)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (6/ 96)، "تهذيب التهذيبب" لابن حجر (4/ 126). * تنبيه: جاء على هامش "ت": "بياض من الأصل نحو ثلثي الصفحة"، ولم يشر إليه في "م". (¬2) زيادة من "ت".

الوجه الرابع: في تصحيحه

رجليه حتَّى رفع إلَى الساقينِ، ثم قال: سمعتُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ أمَّتي يأتونَ (¬1) يومَ القيامةِ غُراً مُحجَّلينَ من أثر الوضوء، فمن استطاعَ منكم أنْ يطيلَ غُرَّتَهُ، فليفعلْ". وأمَّا روايةُ أبي حازم، فهي عندَ مسلمٍ من حديث أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم قال: كنتَ خلفَ أبي هريرة، وهو يتوضَّأ للصلاة، فكان يمدُّ يدَه حتَّى تبلغ إبطه، فقلت له: يا أبا هريرة! ما هذا الوضوء؟ قال: يا بني فرُّوخَ! أنتم هاهنا؟ لو علمت أنَّكم هاهنا ما توضَّأتُ هذا الوضوءَ، سمعتُ خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تَبْلُغُ الحِليةُ من المُؤمِنِ حيثُ يبلُغُ الوُضُوءُ". رواه مسلم عن قُتيبة بن سعيد، عن خلف بن خليفة، عن أبي مالك (¬2). * * * * الوجهُ الرابع: في تصحيحه: الطرق الثلاث عندَ مسلم؛ أعني: طريقَ عُمارة، وسعيد، وأبي حازم، وقد أخرج البُخاريّ معه طريقَ سعيد بن أبي هلال، وأخرج ¬

_ (¬1) "ت": "يدعون". (¬2) جاء على هامش "ت": "وجدت في الأصل ما مثاله: وجدت في الأصل يرجع إلى الوريقة التي أولها، الوجه الثالث: في إيراد أحاديث، قال: ولم أجد الورقة. ثم بيض نحو من نصف صفحة". ولم يشر إلى سقط الوجه الثالث في "م".

الوجه الخامس: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل

النَّسائيّ معه حديثَ قُتيبة بن سعيد، عن خلف بن خليفة، عن أبي مالك، وحديثُهُ يروَى مطوَّلاً ومختصراً، وأخرجه مسلم بالوجهينِ، وهو عندَ ابن ماجه من طريق أبي مالك أيضاً، وانفردَ مسلم بطريق عمارة، والله أعلم. * * * * الوجهُ الخامس: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولَى: قالَ القُرطبي أبو العباس: قوله: (ثم غسلَ يدَهُ اليُمنَى حتَّى أشرعَ في العَضُدِ) رباعي؛ أي: مدَّ يده بالغسلِ إلَى العضد، وكذلك (حتَّى أشرع في السَّاقِ)؛ أي: مد يده إليه، من قولهم: أشرعْتُ الرمح قِبَلَه؛ أي: مددتُهُ إليه، وشددته (¬1) نحوه، وأشرع باباً إلَى الطريقِ؛ أي: فتحه، وليس هذا من: (شرعْت في هذا الأمر)، ولا من: (شرعْتُ الدواب في الماء) شيء؛ لأنَّ هذا ثلاثي، وذلك رباعي (¬2). الثَّانية: فَرُّوخ - بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وآخرُهُ خاء معجمة - يقال: إنَّ فروخ من ولد إبراهيم الخليل بعد إسماعيل وإسحاق، ¬

_ (¬1) في المطبوع من "المفهم": "وسددته". (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 498 - 499). * تنبيه: جاء على هامش "ت": "بياض نحو أربعة أسطر من الأصل"، ولم يشر إليه في "م".

الثالثة

صلَّى الله عليهم وعلَى المصطفَين من ذريتهم، كَثُرَ نسلُهُ بالعجم (¬1). الثالثة: الغُرة - بالضمِّ -: بياض في جبهة الفرس فوق الدِّرْهَم، يقال: فرس أغر، والأغر: الأبيض، وقوم غُرَّان، قالَ امرؤٌ القيس [من الطَّويل]: ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيةٌ ... وَأَوْجُهُهُمْ عَنْدَ المَسَافِر غُرَّانُ (¬2) قالَ الجَوهَرِيُ: وأمَّا الغِرَّة - بكسر الغين - فتطلق بمعنى: الغفلة، وأمَّا الغَرة - بالفتح - فقياسه أنْ يكونَ الفَعْلة من الغَرورِ؛ غره يغره غَرة، ويجوز أن تكون الغفلة من قولهم: غره يغره غَراً بالمعنى الذي رُوِي عن معاوية في مدح علي - رضي الله عنهما -: كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يغره العلم غراً (¬3)، فهو من المثلثِ علَى هذا (¬4). الرابعة: الغُرةُ حقيقةٌ فيما ذكرناه من البياضِ في جبهة الفرس، ويستعملُ مجازاً في اليومِ، فيُقَال: يومٌ أغر محجل، قالَ ذو الرُّمة [من الطَّويل]: ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 53). (¬2) تقدم ذكره (1/ 31)، ويروى: "عند المشاهد" بدل "عند المسافر". (¬3) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (2/ 675). (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 767)، (مادة: غرر).

كَيَومِ ابْنِ هِنْد والجفَارِ وقَرْقَرى ... ويومٍ بذي قَارٍ أغَرَّ مُحَجَّلِ (¬1) وكأن العلاقةَ لهذا المجاز هو الشُّهرة والظهور؛ فإنَّ الفرسَ الأغر المُحَجَّل يُشتَهَرُ بشيته هذه، قال [من الطَّويل]: وأيامُنَا مشهورة في عَدُوِّنَا ... لها غررٌ مَعلومة وحُجُولُ (¬2) ومن المجاز: يومٌ أغرُّ شديدُ الحرِّ، وهاجرةٌ غرَّاءُ، قال [من الطَّويل]: وهَاجِرَةٍ غَرَّاءَ سامَيتُ حَرَّهَا ... إليكِ وجَفْنُ العَينِ في المَاءِ سَابحُ (¬3) وعلاقة الشهرة هنا ليست هنا (¬4) بالشديدةِ الظهور. ومن المجازِ: غُرَّةُ المالِ: الخيلُ والعبيدُ؛ أي: خياره، وهذا يمكنُ أن تكونَ العلاقةُ فيه بمعنى: الخيريَّة والتفضيل؛ لأنَّ غرةَ الفرس متصلةٌ في الأنفسِ بهيئته في الأعينِ. ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (2/ 181). (¬2) البيت لعمرو بن شأس، كما قاله أبو عليّ القالي في "الأمالي" (1/ 270). (¬3) البيت لذي الرُّمة، كما في "ديوانه" (1/ 409). (¬4) "ت": "هاهنا".

الخامسة

وغرةُ القومِ فلان؛ أي: سيِّدُهم، وهم غُرَرُ قومهم، فيرجع إلَى معنى الخيرية، وقد حملَ قومٌ من الفقهاء قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "غُرَّةُ عبدٍ أو أمةٍ" (¬1) علَى معنى الخيرية، حتَّى أخرجوا بعضَ الأسنان عن الإجزاء في هذا الحكم، فقال بعضهم: سنُّهُ فوق سبع سنين، ودون خمسة عشر إنْ كَان غلاماً، ودون العشرين إنْ كَان أنثَى. واستدلَّ للتقدير بأنَّ الغرةَ الخيارُ، ومن (¬2) لمْ يبلغْ سبع سنين ليس من الخيارِ؛ لحاجتِهِ إلَى من يتعهَّدُهُ، وعدمِ الاستقلال، وهذا حملٌ للغرة علَى الخيارِ، وهو مجاز، والغرّة تنطلق علَى الذاتِ، وهو، وإنْ كَان مجازًا، لكن لعلَّهُ أقرب. ومن هذه المادة ألفاظٌ في ردِّها إلَى حقيقة الغرة، بالنِّسبَةِ إلَى المعنى المذكور؛ أعني: بياض جبهة الفرس، فيها تكلُّف، فأعرضتُ عنه (¬3). الخامسة: التحجيلُ: بياضٌ في اليدينِ والرجلين من الفرسِ، وأصلُهُ من الحجلِ، وهو الخلخال والقيد، ولا بدَّ وأنْ يجاوزَ التحجيلُ الأرساغَ، ولا يجاوزُ الرُّكبتين والعُرقوبين (¬4). السادسة: كون المؤمنين يأتون غُراً محجَّلين يومَ القيامة، يحتملُ ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (5426)، كتاب: الطب، باب: الكهانة، ومسلم (1681)، كتاب: القسامة، باب: دية الجنين، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) في الأصل: "إن"، والمثبت من "ت". (¬3) وانظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 767)، و"أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 447). (¬4) قاله القرطبي في "المفهم" (1/ 500).

أنْ يُحملَ علَى حقيقته، وهو قيام البياض بأعضاء الوضوءِ كقيامِ البياضِ بجبهة (¬1) الفرس، ويحتمل أنْ يكونَ مجازًا؛ تشبيهاً للنور الذي يعلو أعضاءَ الوضوء بالغرةِ (¬2)، ولعل المجازَ هنا أقربُ لوجوه: أحدها: أنَّ المقصودَ الترغيبُ، وقد دلَّ الكتابُ العزيز بسعي النور بين الأيدي والأيمان، فهو كالشاهدِ لرُجحان المعنى؛ لحصول اليقين به، وكونِ المعنى الآخر ليس له موجبٌ، إلَّا مُجرَّدَ الجريِ علَى الوضع. الوجهُ الثَّاني: أن المقصودَ الترغيبُ؛ كما ذكرنا، وفي الحملِ علَى الحقيقة معارضةُ النفرةِ العادية في مخالفتها، بخلاف النور؛ فإنَّه لا معارضَ للترغيب بسببه من حيثُ العُرفُ ولا العادةُ. الوجهُ الثالث: أنَّهُ قد صحَّ: "من آثار الوضوء"، فإذا حملناه علَى النّورِ - والنورُ من آثار الوضوء - كان ذلك حقيقةً في الأثرِ، بخلاف ما إذا جُعِلَ الغرةُ والتحجيل في قيام البياض بالأعضاءِ؛ فإنَّه نفسَهُ غرةٌ وتحجيل. وذكر بعض الشارحين قال: قالَ العلماء: سمِّيَ النورُ الذي يكون علَى مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلاً؛ شبهاً (¬3) بغرة الفرس، والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "من جبهة"، والمثبت من "ت". (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) في "شرح مسلم" للنووي: "تشبيهاً". (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 135).

السابعة

وَحَمَلَه غيره أيضاً علَى هذا لمَّا ذكرَ معنى التحجيل فقال: وهو في هذا الحديث مُستعارٌ، عبارة عن النورِ الذي يعلو أعضاءَ الوضوء يوم القيامة؛ أو كما قال (¬1). السابعة: التحجيلُ: البياضُ في قوائم الفرس كلِّها أو بعضِها. وقد غلَّب الفقهاءُ اسم الغُرةِ علَى ما في الوجهِ واليدين والرجلين، فيقولون: تطويلُ الغرةِ مستحبٌّ، ويريدون به البياضَ في الجميع. * * * * الوجهُ السادس: فيما يتعلق بشيء من الألفاظِ غير ما تقدم، وفيه مسائل: الأولَى: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغُرُّ المُحَجَّلُون" ظاهرٌ في اختصاصِهم بذلك دونَ سائر الأمم بالقاعدةِ البيانية، وقد وردَ مصرَّحاً به من رواية سعدِ بن طارق، عن أبي حازم، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ حوضي أبعدُ من أيلةَ مِنْ عَدَن، لهو أشدُّ بياضاً من الثلجِ، وأحلَى من العسلِ باللبنِ، ولآنِيَتُهُ أكثرُ من عددِ النُّجومِ، وإنِّي لأصدُّ النَّاسَ عنه؛ كما يصدُّ الرجلُ إبلَ النَّاسِ عن حوضِهِ". قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا يومئذٍ؟ قال: "نعم، لكم سِيْمَا ليسَتْ لأحَدٍ من الأممِ، تَرِدُونَ عليَّ غُراً ¬

_ (¬1) قاله القاضي عياض في "إكمال المعلم" (2/ 43)، وكذا القرطبي في "المفهم" (1/ 500).

مُحَجَّلِينَ من أثرِ الوُضُوء". أخرجه مسلم (¬1). وفي رواية: قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا؟ قالَ: "نعم، لكم سيما ليست لأحدٍ غيرِكم، تَرِدُون عليَّ غُراً محجَّلين من آثارِ الوُضوءِ" (¬2). وفي رواية: قالوا: يا رسول الله! وتعرفنا؟ قال: "نعم، تَرِدُون عليَّ غُراً محجَّلين من آثارِ الوُضوءِ؛ ليسَتْ لأحدِ غيرِكم (¬3) " (¬4). وفي حديث آخر: قالوا: فكيف تعرف من يأتيْ بعدَك من أمتك يا رسول الله؟ فقال: "أرَأيتَ [لو] (¬5) أنَّ رجلاً لَهُ خيلٌ غُرٌّ محجَّلةٌ (¬6)، بين ظَهْري خيلِ [دُهْمِ] بُهْمِ، ألا يَعرِفُ خيلَهُ؟ " قالوا: بلَى، يا رسول الله! قال: "فإنَّهُم يَأتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ من الوُضوءِ" (¬7). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (247/ 36)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء. (¬2) رواه مسلم (247/ 37). (¬3) جاء على هامش "ت" زيادة: "من الأمم"، وليست هذه الزيادة في "صحيح مسلم"، والله أعلم. (¬4) رواه مسلم (248/ 38)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء. (¬5) زيادة من "ت". (¬6) في الأصل "محجلين"، والتصويب من "ت". (¬7) رواه مسلم (249/ 39)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.

الثانية

وهذه رواياتٌ متكثرةٌ متظاهرة علَى الاختصاصِ بالأمَّةِ. والسِّيْمَا: العلامةُ، تُقصَرُ، وتمدُّ، وتزاد فيها ياءٌ بعد الميم مع المد (¬1). وقيل (¬2): استُدِلَّ بالحديثِ علَى أنَّ الوضوءَ من خصائصِ هذه الأمة، وقيل غيره، وأنَّ الوضوءَ ليس مُختصاً، وإنَّما الذي اختصَّت به هذه الأمَّة الغرةُ والتحجيلُ، واحتُجَّ علَى هذا بالحديثِ المشتهر: "هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأنْبيَاءِ قَبْلِي" (¬3). وأجيبَ عن ذلك بوجهين: أحدهما: أنَّهُ حديثٌ ضعيفٌ معروفُ الضَّعف. والثاني: أنَّهُ يحتملُ أنْ تكونَ الأنبياءُ اختصَّت بالوضوءِ دونَ أممهم، إلَّا هذه الأمَّة (¬4). الثَّانية: هذا الذي ادَّعَى أنَّ الوضوءَ مختصٌّ بهذه الأمة، إنْ كَان سببُهُ ما دلَّ عليه هذا الحديثُ من اختصاص الأمة بالغرةِ والتحجيل فليس بجيد؛ لأنَّه يكون استدلالاً بانتِفاءِ الأثر علَى انتِفَاء المؤثِّر (¬5)، وإنَّما يصحُّ إذا تعيَّنَ المؤثر، وليس متعيناً؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قد يخصُّ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 135). (¬2) "ت": "وقد" بدل "وقيل". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 135 - 136). (¬5) في الأصل: "بإبقاء الأثر على إبقاء المؤثر"، والمثبت من "ت".

الثالثة

هذه الأمة بهذا الأثر عن الوضوءِ، ويكون المؤثرُ عاماً. الثالثة: قد تقدم لنا كلامٌ في الاستطاعةِ في حديث عبد الله بن زيد حيثُ قيل له: هل تستطيعُ أنْ تُريَني؟ وأنَّ ذلك يقتضي قيامَ مانع، أو تعذر، فنقول هاهنا في هذا الحديث: إنَّ استطاعةَ تطويلِ الغُرةِ والتحجيلِ ثابتةٌ للعموم، ومثلُ هذا اللفظ يُستعملُ للحثِّ علَى الفعلِ والترغيب فيه؛ لتعرُّضِهِ للقوات، وليس في استطاعة تطويل الغُرة هذا المعنى. وُيجاب عنه: بأنَّ الأحوالَ تختلفُ في تيسُّرِ هذا الأمر وتعسُّرِه، فيكون المعنى - والله أعلم -: منِ استطاعَ أن لا يتركَهُ بحالِ تيسُّرٍ أو تعسُّرٍ فليفعلْ، فينحُو ذلك إلَى معنى الحثِّ علَى إسباغ الوضوء علَى المكارِه، فقد يتعسرُ التطويلُ؛ لشدة البرد أو لقلة الماء، فيندبُ إليه مع كل حال. ويمكن أنْ يُقَال جوابٌ آخرُ، وهو: أن تكون الفائدةُ في هذا الكلام إثباتَ العموم للحكم بالنِّسبَةِ إلَى المخاطبينِ؛ أي: ليفعل ذلك كلُّ مستطيعٍ، ولا يخرج منه بعض المستطيعين. الرابعة: في اللفظِ نسبةُ الفعل إلَى مباشرِ السَّببِ؛ كما في قوله تعالَى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] علَى أحد التأويلين. الخامسة: تطويلُ الغُرة وصفٌ فيها، فيكون قائماً بها، فما لمْ يكنْ كذلك فهو مجاز. السادسة: تطويلُ التحجيل حقيقة، أو أقرب إلَى الحقيقةِ من تطويل

الوجه السابع: في شيء من العربية، وفيه مسائل

الغرة؛ لأنَّ التحجيلَ في اليدينِ والرجلين، وقد قدمنا أنَّهُ لا بدَّ أنْ يجاوزَ التحجيلُ الأرساغَ، ولا يجاوزُ الرُّكبتين والعُرقوبين، فالاسمُ منطلِقٌ علَى الجميعِ بخلاف تطويل الغرة؛ فإنَّه لا ينطلقُ علَى الجميعِ عندَ الخروج عن حدِّ الوجه إلَّا مجازًا أبعدَ من الأولِّ، إنْ كَان (¬1) مجازًا، وليس ذلك من باب إطلاقِ الجُزء علَى الكلِّ حينئذ؛ أي: علَى تقدير انطلاق الغرة علَى بياضِ الوجه، وبياضِ بعض الرأس. * * * * الوجهُ السابع: في شيء من العربيةِ، وفيه مسائل: الأولَى: قولُهُ في الحديث: "مِنْ إسباغِ الوُضوءِ، أو مِنْ أَثَرِ الوُضُوء" يحتملُ أنْ تكونَ (¬2) للسببية علَى مذهب مَن يرى ذلك، أو يحتملُ أنْ تكونَ لابتداء الغاية، فإن كَانت حقيقة في ابتداء غايةِ المكان فقط، كان استعمالُها هاهنا مجازًا، فيتعارضُ مع استعمالها في مجاز السببيّة، فيحتاج إلَى الترجيحِ، وإنْ كَانت حقيقة فيما هو أعمُّ من هذا، وهو غيرُ الزمان؛ كما دل عليه صيغة بعضهم: أنها لابتداءِ الغايةِ في غير الزمان؛ فإن أراد به العمومَ فيما هو غيرُ الزمان، فلا مجازَ ولا تعارضَ. الثَّانية: ما تقتضيه (ثم) من التراخي والترتيب موجودٌ في هذا الحديث؛ كما هو موجود في الحديثِ الذي قدمنا فيه الكلام علَى ¬

_ (¬1) أي: الأول. (¬2) أي: (من).

الثالثة

ذلك، وقد مرَّ مُستقصى، فليُطلَبْ من موضعِهِ. الثالثة: [كاد] (¬1) فيها ثلاثة مذاهب: أشهرها: أنَّ نفيَها إثباتٌ، وإثباتها نفي، فـ (كاد زيدٌ يقوم) يقتضي أنَّهُ ما قام، و (ما كاد يقوم) يقتضي أنَّهُ قام، قالَ الله تعالَى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وقد نُظِمَ هذا المعنى فقيل [من الطَّويل]: أنحويَّ هذا العَصْرِ ما هيَ لفظةٌ ... أتَتْ في لسانيَ جُرهُمِ وثَمودِ ذا نُفِيَتْ واللهُ أعلمُ أثبَتَتْ ... وَإِنْ أُثبِتَت قَامَت مَقامَ جُحودِ (¬2) وثانيها: أنها كسائرِ الأفعالِ؛ إثباتُها إثباتٌ، ونفيُها [نفيٌ] (¬3). وثالثها: أنها مع الماضي مخالفةٌ للأفعال، وفي المُستَقبَل موافقةٌ؛ أي: تدلُّ علَى النفي مع الماضي في جانب الإثبات: (كاد زيد يقوم)، أو في المُستَقبَل تدلُّ علَى الإثباتِ {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. فأمَّا المذهبُ الأول فإن أُريدَ به أن مدلولَها النفيُ، [فليس بصحيح؛ لأنَّ مدلولَها المقاربةُ، وَإِنْ أُريدَ به أنَّ لازمَ مدلولها النفيُ] (¬4)، فصحيحٌ في جانب الإثبات؛ لأنَّ هذا المدلولَ؛ أعني: المقاريةَ، يلزمُهُ عدمُ الفعل ¬

_ (¬1) في الأصل "كان"، والتصويب من "ت". (¬2) قالهما أبو العلاء المعري ملغزاً، كما في "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 868). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الوجه الثامن: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

وضعاً، ولا يلزمُ ذلك في جانب النفي؛ لأنَّ مدلولَها؛ الذي هو المقاربة، إذا انتفَى، فانتفاؤُهُ أعمُّ من انتفائِهِ مع وجود الفعل ومن انتفائه مع عدمه؛ فإن المستحيلَ لا يقعُ ولا يقاربُ الوقوعَ، والممكنُ قد يقعُ مع عدمِ المُقاربة؛ كالأشياء الممتنعةِ عادةً مع إمكانها عقلاً. وأعلم أنَّهُ لا بُدَّ أن لا يرادَ بالمقاربةِ في قولنا: (كاد زيد يفعل)، و (ما كاد زيدٌ يفعل) المقاربةُ الزمانية، وقال تعالَى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] فيحتملُ مارآها وما قارَبَها، وهذا هو الذي يقتضي تعدادُ الظلمات، ويحتمل أنْ يكونَ رآها علَى عُسْرٍ وبعدٍ * * * * الوجهُ الثامن: في الفوائدِ والمباحث، وفيه مسائل: الأولَى: صرَّحَ الشافعيةُ باستحباب تطويلِ الغُرة في الوضوءِ (¬1)، ولم يذكرْهُ المالكيةُ، [و] (¬2) الذين يتكلَّمُون علَى الحديثِ منهم يقتضي كلامُهُم المخالفةَ للشَّافعيةِ فيما يستحبُّونه، أو في بعضه، قالَ أبو العباس القُرطبي: وكان أبو هريرة يَبلغُ بالوضوءِ إبْطَيه وساقيه، وهذا الفعلُ مذهبٌ له، وانفردَ به، ولم يحكِهِ عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فعلًا، وإنَّما استنبطَهُ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتمْ الغُرُّ المُحجَّلُونَ"، ومن قوله: "تَبْلُغُ الحِليةُ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 346)، (1/ 422). (¬2) زيادة من "ت".

الثانية

من المؤمنِ حيثُ يبلغُ الوُضُوءُ". وقال أبو الفضل عِياضٌ - رحمه الله (¬1): والناسُ مجتمعون علَى خلافِ هذا، وأن لا يتعدَّى بالوضوءِ حدودَهُ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمَنْ زادَ فقدْ تَعَدَّى وظَلَمَ" (¬2)، والإشراعُ المرويُّ عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة هو محمولٌ علَى استيعابِ المرفقين والكعبين بالغسلِ، وعبَّرَ عن ذلك بالإشراعِ في العَضُدِ والساق؛ لأنهما مباديهما، وتطويلُ الغرة والتحجيل بالمواظبةِ علَى الوضوءِ، لكل صلاةٍ، وإدامتِهِ، فتطولُ غرتُهُ بتقويةِ نور وجهه، وتحجيلُهُ بتضاعُفِ نورِ أعضائه، انتهَى (¬3). الثَّانية: ذكر بعضُ الشارحين من الشافعيةِ في باب استحباب إطالةِ الغُرة والتحجيل: أنَّ هذه الأحاديث مصرِّحَةٌ باستحباب تطويل الغرة والتحجيل، قال: وأمَّا دعوَى الإمام أبي الحسن ابن بطَّال المالكي والقاضي عِياضٍ اتفاقَ العلماء علَى أنَّهُ لا تستحبُّ الزيادةُ فوق المرفق والكعب، فباطلةٌ، فكيف تصحُّ دعواهما، وقد ثبتَ فعلُ ذلك عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وأبي هريرة - رضي الله عنه -، وهو مذهبُنا لا خلافَ عندنا فيه؛ كما ذكرناه؟ ولو خالفَ فيه مَنْ خالفَ كان محجُوجاً بهذه السننِ الصحيحة الصريحة، وأمَّا احتجاجُهُما بقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "مَنْ زادَ علَى هذا، ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" له (2/ 44). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 499).

أو نَقَصَ، فقد أساءَ وظلمَ" (¬1) لا يصحُّ؛ لأنَّ (¬2) المراد: مَن زادَ في عدد المرات (¬3). قلت: وأمّا أصلُ الزيادةِ علَى المرفقينِ والكعبين فثبتَ بالحديثِ عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - لظاهرِ قولِ أبي هريرة وقد فعل ذلك: "هكذا رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأ". وأمَّا ما زادَ علَى ذلك ممَّا وقع إلَى المنكبينِ، أو ما يقاربهما، فلم يثبتْ بهذا عن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وتأويلُ القاضي عِياض الإشراعَ المرويَ عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بأنَّهُ محمولٌ علَى استيعابِ المرفقين والكعبين بالغسلِ، فعَبَّرَ عن ذلك بالاشراعِ في العضدِ والساق؛ لأنها مباديهما؛ فإن أرادَ بذلك نفيَ أصلِ الشروع في العَضُدِ والساق، وعدم الزيادة علَى المرفقِ والكعبين، فبعيدٌ مخالفٌ لحقيقةِ اللفظ وظاهرِه، إنْ كان المراد بـ (أشرع) معنى الشروع؛ إما بواسطة، أو بغيرِ واسطة، وإن أرادَ ما زادَ علَى ابتداءِ الشروع؛ كفعل أبي هريرة - رضي الله عنه -، فلا يثبتُ عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فعلاً. واستحبابُ أصلِ الشروع في العضدِ والساق دونَ ما رُوي من التطويلِ الكثير، هو ظاهرُ الحديثِ بعدَ النظر في الإشراعِ ومدلولهِ؛ كما تقدم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في الأصل: "أن"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 134).

الثالثة

الثالثة: التأويل الذي ذكره القاضي في تطويل الغرة، يحمله علَى المواظبةِ علَى الوضوءِ، لكلِّ صلاة وإدامته، قال: فتطويل غرته بتقوية نور وجهه، محتملٌ قريب بعد حمل الغرة علَى النورِ، كما أشارَ إليه لفظُه، بعيدٌ علَى تقدير أنْ يحمل الغرة والتحجيل علَى الحقيقةِ، لبعد هذا المعنى عن لفظ الإطالة. الرابعة: ذكر أبو القاسم الرافعي الشَّافعي: - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأصحابَ اختلفوا، ففرَّق بعضهم بين تطويل الغرة وتطويل التحجيل، قالوا: تطويل الغرة غسل مقدمات الرأس مع الوجه، وكذلك غسل صفحة العنق. والتحجيل غسلُ بعض العضد عندَ غسل اليد، وغسل بعض الساق عندَ غشل الرجل، وغايةُ ذلك استيعابُ العضد والساق، وفسَّرَ كثيرون تطويلَ الغرة بغسل شيء من العضدِ والساق، وأعرضوا عن ذكر ما حوالي الوجه، والأوَّل أولَى وأوفق لظاهر الخبر (¬1). وقال غيره من الشَّافعية: أما تطويل الغرة فقال أصحابنا: هو غسلُ شيءٍ من مقدم الرأس، وما يجاوز [الوجه] زائدٍ علَى الجزءِ الذي غَسَلَه لاستيقان كمال الوجه، قال: وأمَّا تطويل التحجيل فهو غسل ما فوق (¬2) المرفقين والكعبين، قال: وهذا مستحبٌّ بلا خلاف بين أصحابنا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 423). (¬2) "ت": "بين". (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 134).

الخامسة

الخامسة: ذكر هذا الغيرُ الشَّافعيُّ أنهم اختلفوا في قدر المستحب علَى أوجه: أحدها: أنَّه تستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين مِن غيرِ توقيت. والثاني: مستحبٌّ إلَى نفس العضد والساق. والثالث: يستحبُّ إلَى المنكبِ والركبتين، قال: وأحاديث الباب تقتضي هذا كله (¬1). قلت: لعله يريد القولَ الأخير، وإلا فلا يدلُّ علَى قول النصف، ودلالتها علَى القولِ الأول فيه نظر؛ لأنَّ قولنا: مِن غيرِ توقيت، يمكن أنْ يُرادَ مِن غيرِ تحديد بجزء معين؛ كالنصفِ والثُّلُث مثلًا، بل يعُم؛ [لاستحباب] (¬2) الجملة، ويحتمل أنْ يُرادَ به أنَّ المستحبَ المُسمَّى إنْ أخذ علَى إطلاقه في كلِّ صورة. السادسة: ما قدمناه من أنَّ الطولَ صفةٌ للغرة، تكون صفةً قائمةً بها تقتضي أنَّ ما لا ينطلق عليه غرة (¬3) لا يستحبُّ فيه التطويل؛ لأنَّه لا يُسمَّى غرة (¬4) حينئذٍ إلَّا علَى وجه مجازي، ويلزم منه أنْ يخرج ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل و "ت": "غيره"، وجاء على هامش "ت" "لعله: غرة". قلت: ولعله الصواب. (¬4) في الأصل: "غيره"، والمثبت من "ت".

السابعة

الرأس عن ذلك، فيما أنْ يلتزم أحدَ الأمرين، وهو المجاز في تسميته غرةً أو تطويلاً، ويدل بدليل عليه، وإما أنْ يخرج الوجه عن هذا الاستحباب، ويُخَصُّ ذلك باليدينِ والرجلين، وقد تقدمت الحكاية عن بعض الشَّافعية: أنهم فسروا تطويل الغرة بغسل شيء من العضدِ والساق، وأعرضوا عن ذكر ما حوالي الوجه، ولعل ذلك أنهم لمْ يروه في الوجهِ مستحباً؛ لما ذكرناه أو لغيره. السابعة: من أخذَ بظاهرِ الإطلاقِ أو العمومٍ، فتحديدُهُ تطويلُ الغرة في الوجهِ بمقدمات الرأس دونَ ما زاد على ذلك تقييدٌ، أو تخصيصٌ، يحتاج إلَى دليلٍ خاصٍّ، إذا اعتبرت الدلالة مِن غيرِ تقييد، وإلا فيلزم أنْ يستحبّ تطويل الغرة إلَى آخر الرأس، فيكون من مُستحبَّات الوضوء غسل الرأس، وهذا لا يقوله أحدٌ. الثامنة: وهذا قد يستدِل به من لا يرَى التطويل في غسل الوجه؛ لأنَّه إذا حمل علَى الإطلاقِ أو العموم بحيث لا يقدر ولا يُحد، لزم منه هذا الغسل الذي أشرنا إليه بالنِّسبَةِ إلَى جميع الرأس، واللازمُ منتفٍ. التاسعة: وقد يستدِلُّ به المالكيُّ الذي لا يرَى التطويلَ لخروج الغرة عن حدِّ الوجه حينئذٍ، وفي كلام بعض المتكلمين علَى الحديثِ ما يشير إلَى ذلك، فإنَّه لما أشارَ إلَى تأويل التطويل أشارَ إلَى هذا المعنى؛ أي: عدم ذلك في الوجهِ (¬1)، فإن أراد أنَّهُ يخصُّ النفي ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 44).

العاشرة

بالوجهِ، فهو الذي تقدم، لكنَّهُ لا يدلُّ علَى مقصوده، فإنَّ هذا المعنى (¬1) لا يتأتَّى في التحجيلِ، لأنَّه يمكن فيه التطويل مع بقاء مُسمَّى التحجيلِ؛ إما حقيقة، أو أقرب إلَى الحقيقةِ؛ كما تقدم، وانتفاء الحكم لمانع في محلٍّ، لا يلزم انتفاؤه في غيره مِن غيرِ مانع. العاشرة: الصوابُ أنْ يَخرجَ عن الإطلاقِ أو العموم المستدلّ بهما علَى تطويل الغرة، ما يخرج إلَى حدِّ البدعة والتنطُّع والخروج عن عمل السلفِ والخلفِ، حتَّى يخرج عنه ما قدمناه في مسح الرأس، وكذلك ما زاد علَى الركبتينِ، حتَّى يبلغ به إلَى أصول الفخذين. فإن قلت: ذلك يخرج بخروجه عن مُسمَّى التحجيل. قلت: وكذلك يخرجُ الجُزءُ من الرأسِ عن مُسمَّى الغُرةِ التي هي في الوجهِ دونَ الرأس. الحادية عشرة: فيه أنَّ العالمَ إذا رأَى أمراً مخالفًا للمشهور أو المعروف، وكان أمرُه ممَّا يوجب شناعةً أو تشنيعاً أو مفسدةً أنْ يكتمَ ذلك ولا يظهره؛ لقول أبي هريرة - رضي الله عنه -: "يا بني فرُّوخَ! لو علمتُ أنَكم ها هُنا ما توضَّأتُ هذا الوضوءَ". ولا يخلو مثلُ هذا من إشكال. الثَّانية عشرة: فيه أنَّ المقتدَى به من مفتي أو حاكم أو غيرهما إذا فعل فعلًا يُشكِلُ وجهُه علَى رائيه أو سامعه يذكرُ وجهَ الحكم؛ ليزيلَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المانع"، والمثبت من "ت".

الثالثة عشرة

الإشكال، وقد نصوا علَى ذلك في الحاكمِ إذا حكم بما لا يظهر وجهُه للمحكوم عليه أنْ يذكر مُستندَه، وهذا من باب نفي التهمة الذي هو أمرٌ مطلوب مطلقاً، لا سيما ممن يُقتدَى به؛ فإنَّه إذا بقي الفعل علَى ظاهره من الامتناعِ أسقط مصلحة المقتدَى به ظاهراً، أو فوّت فائدة حكمِه وعلمِه علَى النَّاسِ، وقد ينتهي بعضُ هذا إلَى الوجوب. الثالثة عشرة: في قولِ أبي هريرة هذا القول ما يشعرُ أنَّ هذا ليس أمراً معمولًا به عندَ الجمهور من النَّاسِ في ذلك الزمان، وقد أخذوا من مثل هذا عدمَ استحباب الفعل، أو كراهته؛ كما فعله المالكية في الصلاةِ علَى الميِّتِ في المسجد؛ استدلالاً بما جاء في الحديثِ من إنكار النَّاس ذلك (¬1)، وهو أضعفُ من هذا الذي نحن فيه؛ لأنَّ النَّاسَ المنكرين ثمّ، لمْ يتعينوا لأنْ يكونَ قولهم أو فعلهم حجةً، وحمل النَّاس علَى جميعهم ليس بالقوي، وظاهرُ اختفاءِ أبي هريرة بهذا الفعل مع عدم نقلِهِ عن غيره يقتضي أنَّهُ قصدَ الإخفاءَ مُطلقاً، إلَّا أنْ يُقَال: المراد إخفاؤُهُ عن بني فروخ المعجم؛ لقُربِ جهلهم ببعضِ الأحكام، ¬

_ (¬1) روى الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 229)، ومسلم (973)، كتاب: الجنائز، باب: الصَّلاة على الجنازة في المسجد، عن عائشة رضي الله عنها: أنها أمرت أن يمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له، فأنكر ذلك النَّاس. عليها، فقالت عائشة: ما أسرع ما نسي النَّاس، ما صَلَّى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلَّا في المسجد.

الرابعة عشرة

فيحتملُ ذلك، وفيه مع ذلك بعدٌ؛ لعدم شُهرة هذا الفعل عن أحدٍ غيرِ أبي هريرة. الرابعة عشرة: قد ذكرنا فيما تقدَّم عن بعضهم: أنَّهُ أدخل هذا النوع تحت لفظ الإسباغ، وهذا اللفظ - أعني: من إسباغ الوضوء - ممَّا يقتضي تَرَتُّبَ هذه الفضيلة علَى الإسباغ. الخامسة عشرة: قوله في الروايةِ الأخرَى: "فغسل وجهه ويديه حتَّى كاد يبلغُ المنكبين" يقتضي عدم بلوغِ المنكبين، وهو خلاف الرواية الأخرى التي تقتضي بلوغَه لهما، وليسا عن راوٍ واحد، فيحكم (¬1) بالتعارضِ، وإذا كانا عن اثنين، فيحكم علَى فعلين مختلفين، وإن جازَ أنْ يكونَ فعلًا واحدًا، خفي بعضُه عن أحد الرائيين الراوَيين، وإذا كانا فعلين في وقتيين هو دليل علَى تقريب حصول المقصود من التطويلِ، وتسهيلِ الأمر فيه؛ لأنَّ الاستطاعةَ موجودةٌ في حال قصور التطويل عن المنكبِ ظاهرًا. السادسة عشرة: في رواية نُعيم ذِكْرُ غسلِ الرجلين، وفيه دليلٌ علَى ثبوت حكم الغسل فيهما؛ كما تقدم في غير هذا الحديث، وكما سيأتي بعدُ مستقصًى إن شاء الله تعالَى، وفائدة ذكره ها هنا تكثيرُ (¬2) الأدلة علَى هذا الحكم الذي يخالف فيه الروافض، وكثرة الأدلة مقتضية للترجيح، فالتنبيهُ علَى ذلك مفيدٌ. ¬

_ (¬1) "ت": "فيحمل". (¬2) في الأصل: "تكثيره"، والمثبت من "ت".

السابعة عشرة

السابعة عشرة: قوله: "حتَّى رفع إلَى الساقين" دليلٌ ظاهرٌ علَى أنَّهُ غسل بعضهما بتبادر الفهم إليه، فهو أظهر في الدلالةِ علَى هذا المقصود من قوله في تلك الرواية: "أشرع في العضد" و "أشرع في الساق" علَى مُقتضَى الوجه الذي ذكره القرطبي من أنَّهُ من باب أشرعتُ الرُّمح (¬1)، لإمكان أنْ يشغِّبَ مشغبٌ، ويمنعَ الدلالة من (أشرع) علَى غسل بعض الساق والعضد. فإن قلت: فالتشغيب وارد عليكم (¬2) أيضًا؛ لأنَّه يمكن أنْ يقال: إنَّ المرادَ بالرفعِ رفعُ الغسل، ويجعله مغيًّى بالساقِ منتهياً إليه، فلا يدلّ علَى وقوع الغسل في العضد. قلت: الحديثُ مستوفٍ لذكر الفعل الغريب من أبي هريرة، المخالف لأفعال الجمهور، وكذلك استدلال أبي هريرة علَى ما فعله، إنَّما هو علَى ما أغرب به من الفعلِ، ولو كان المراد ما ذكرتم من أنَّهُ رفع الغسل إلَى أن انتهَى إلَى العضدِ أو الساق؛ لانتفَى المقصود من الإخبارِ بالغرابةِ والاستدلال عليها بما دلّ علَى استحباب الفعل الغريب؛ فإنَّه قد تبيّن وجوب الانتهاء، واستمر فعلُ المسلمين عليه. الثامنة عشرة: يمكن من وجه آخر أنْ يجعل "أشرع" دالاً على غسل بعض العضد أو بعض الساق؛ لأنَّ "أشرع" قد علقت (في) به، ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 499). (¬2) "ت": "عليك".

التاسعة عشرة

و (في) للظرفية، فيقتضي أنْ يكونَ العضد أو الساق ظرفاً للإشراع، فيكفي وجودُ الغسل فيهما، ويكون متعلق الإشراع محذوفًا معدًّا الإشراع فيه بـ (ال) كأنَّهُ يقال: أشرع في غسل العضد أو الساق إلَى أمر زائد علَى ما حصل من الغسلِ فيهما أولاً. التاسعة عشرة: قد تقدم لنا كلام في "الأمَّة"، والذي نقوله هاهنا: أنَّ الأمَّةَ قد تطلق ويراد بها أهل الزمن مِن غيرِ تخصيص بالإيمانِ، وهذا غير مراد في الحديثِ الذي جاء فيه "إن أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا محجَّلين من أثرِ الوضوءِ" بالضرورةِ، وقد تطلق ويراد بها أَتْباع الرسل؛ كما يقال: أمّة محمد، وأمّة موسَى، وأمة عيسَى صلوات الله عليهم أجمعين، وهذا هو المراد. ثم هذا علَى وجهين: أحدهما: أنْ يُرادَ ظاهر التبعية، لا التبعية الباطنة بالإيمانِ القلبي. والثاني: أنْ يُرادَ به التبعية الحقيقية الباطنة. ثم هذا علَى وجهين: أحدهما: أن تعتبر الموافاة في ذلك إلَى الموتِ. والثاني: أن لا تعتبر. وبحسب ما ذكرناه يحتاج إلَى النظرِ في المراد من الحديثِ الذي فيه: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا محجَّلين من أثرِ الوضوءِ".

العشرون

العشرون: يتلخصُ من هذا بعد الحمل للأمة علَى الأتباعِ ثلاثة أقسام: أحدها: أنْ يكونَ لأصحاب الإيمان الحقيقي الموافين عليه. والثاني: أنْ يكونَ لهم وإنْ لمْ تقعِ الموافاة. والثالث: أنْ يكونَ لِمَنْ ظاهرُه الإيمانُ. فأما القسم الأول: فلا شك في حصول هذه العلامة لهم، بسبب الوضوء. وأمَّا الثَّاني والثالث: فقد أجاز بعضهم أن تكون لهم هذه العلامة، فقال: يحتمل أن المنافقين والمرتدين وكل من توضأ منهم مسلماً يُحشر بالغرةِ والتحجيل، ولذلك يدعوهم النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، ولو لمْ يكونوا بِسِيْمَا المسلمين لمَّا دعاهم، فإذا علم أنهم بدلوا قالَ: "فسحقاً"، انتهَى (¬1). وهذا الدعاء الذي أشارَ إليه موجودٌ في حديث مالك وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليُذَادَنَّ رجالٌ عن حَوضي، أُناديهِم أَلاَ هَلُمَّ" (¬2)، وحاصل ما قالَ: أنَّهُ لو لمْ تكنْ لهم هذه العلامة لما نودوا؛ لأنَّهُم حينئذٍ يكون انتفاؤها دليلاً علَى الخروجِ عن الملةِ فلا ينادون، لأنَّه لا ينادَى إلَّا من هو من ¬

_ (¬1) انظر: "المنتقى في شرح الموطأ" للباجي (1/ 70). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 28). وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (249/ 39).

الملةِ ظاهرًا، لكنهم نودوا فتكون لهم هذه العلامة. وقد يقوَى هذا بقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنَّ أمتي يأتون يومَ القيامةِ غُرًّا مُحجَّلين من أثر الوضوء" وهو ظاهر في العمومِ في الأَتْباع، فإذا أضيف إليه رجال يُذَادون ويُطْرَدون؛ لأنَّهُم بدلوا بعده - صلى الله عليه وسلم -، جاء منه هذا المذهب، وكذلك ظاهر قولهم: "كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك"، وقوله - صَلَّى الله عليه وسلم - في الجواب: "أرأيت لو أن رجلًا له خيلٌ غُرٌّ محجَّلةٌ بين ظهري [خيلٍ] (¬1) بُهمٍ، ألا يعرف خيلَه؟ "قالوا: بلَى، يا رسول الله! قالَ: "فإنهم يأتون غراً محجَّلين من الوضوء"، وإذا أضيف إليه ما ذكرناه من الذِّيادِ، قَرُبَ ما قالَ. ويعُترض علَى هذا: بأنَّهُ جعل انتفاء العلامة دليلاً علَى عدم النداء، فيمنع ذلك المذهب أنْ يكونَ النداء لتقدم معرفة في دار الدُّنيا. الثَّاني: إذا انتهَى الأمرُ إلَى هذا، قلنا: أنْ يقول: لِمَ لا يجوزُ أن تكونَ هذه العلامة من حيثُ هي هي؟ ولا يلزم من ذلك أنْ يكونَ انتفاؤها في بعض الأفراد دليلاً علَى الخروجِ علَى الملةِ. بيانه: أن تتميز الأمة بمعنى التابعين مطلقاً تميزاً كالمكانِ مثلاً، ويدخل فيه من ليس بمؤمن حقيقي، فلا يكون انتفاء هذه العلامة الخاصَّة في الفردِ دليلاً علَى خروجه عن الملةِ؛ لأنَّ (¬2) هذه العلامة موجودة في ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "لا" بدل "لأن".

حقِّ كل مؤمن حقيقي توضأ، فيدل وجودُها في الجمعِ المتميز علَى أنَّهُ الأمة، ولا يدلُّ انتفاؤها في الفردِ علَى الخروج عن الملةِ؛ لأنَّ انتفاءها في الفردِ جاز أنْ يكونَ للخروج عن الملةِ، وجاز أنْ يكونَ لانتفاء الوضوء في بعض الأفراد مع كونه من الملةِ؛ كالصحابي الذي أسلم يوم أحد وخرج فقُتِل، ولم يصلِّ صلاة، فإنَّ العلامةَ عن الوضوءِ هاهنا منتفيةٌ مع الإيمان، ومما يقرب هذا - أعني: أنَّ الأممَ تتميز بالمكان - ما في الصحيحِ من حديث ابن عباس من قول النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عرضت عليَّ الأممُ فرأيتُ النبيَّ، ومعه الرُّهَيطُ، والنبيَّ ومعه الرجلُ والرجلانِ، والنبيَّ ليس معه أحدٌ، إذ رُفِع لي سوادٌ عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسَى وقومُه، ولكن انظرْ إلَى الأفقِ، فنظرتُ فإذا سوادٌ عظيم، فقيل لي: انظرْ إلَى الأفقِ الآخَرِ، فنظرتُ فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل: هذه أمَّتُك. . " الحديث (¬1)، فهذا يدلُّ علَى التمايزِ بالأماكنِ، ويصرح به الحديث الصحيح: "وتبقَى هذه الأمة فيها منافقوها" (¬2). فإن قيل علَى الوجهِ الأول من وجهي سدِّ المنع: لا تأثير للمعرفة ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (5378)، كتاب: الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، ومسلم (220)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب. (¬2) رواه البُخاريّ (773)، كتاب: صفة الصَّلاة، باب: فضل السجود، ومسلم (182)، كتاب: الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

المتقدمة في النداءِ؛ لأنَّهُم إذا (¬1) لمْ يكونوا فيهم العلامةُ تميزوا عن الأمةِ، فلا ينادون، ولا يبقَى لتقدم المعرفة أثر في النداءِ. قلنا: إنَّما لا يكون له أثر إذا ثبتت عموم العلامة في كلِّ فرد، بحيثُ يدلُّ انتفاؤها علَى الخروجِ عن الملةِ، فلا يبقَى للمعرفة تأثيرٌ حينئذٍ، وعلَى هذا، فلا يمكن إثبات عدم تأثير المعرفة بعموم العلامة ودلالة انتفائها في الفردِ علَى الخروج عن الملةِ، وإيضاحه: أنَّهُ إذا كانت العلامة مخصوصةً بالمؤمنينِ حقًا؛ أي: ظاهراً وباطناً، لمْ يمتنعْ أنْ يكونَ من لمْ يُوجدْ فيه شرطُهما داخلًا في الأمةِ، فحينئذٍ يكون للمعرفة المتقدمة تأثير في النداء. فإن قيل: فهذا الذي ذكرته من النداءِ بسبب تقدُّم المعرفة لا يعمُّ جميعَ المنافقين والمرتدين الذين حَدَثوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا تتعلق بهم المعرفة المتقدمة في دار الدُّنيا، فلزمه (¬2) أن تكون فيهم العلامة التي اقتضت النداء. قلنا: ظاهر "ما أحدثوا بعدك" يقتضي: أنَّ هذا المُحدَث لمْ يكنْ قبله؛ أي: قبل ذلك البعد، ولو كان النفاق والارتداد لمن لمْ يكنْ في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، لكان التعبير بغيرِ "أحدثوا" أقربَ، كما لو قيل: لا تدري فعلهم بعدك، وما (¬3) أشبهه، فظهر بهذا أنَّ المرادَ بهذا الأمر ¬

_ (¬1) في الأصل: "إذ"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "فيلزمه". (¬3) "ت": "أو ما" بدل "وما".

- أعني: النداء - وما تَرتّب عليه من القولِ في قوم كانوا في حال زمن الرسول - صَلَّى الله عليه وسلم -، ثم بعدوا (¬1) عنها، لا في حال كلِّ منافقٍ ومرتد بعد زمن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، ويؤيدك في هذا "ليُذادَنَّ رجال" بالتنكيرِ الذي لا عموم فيه. فإن قيل: فهؤلاء المنافقون والمرتدون بعد زمنه - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ هل فيهم علامة، أو لا؟ فإن كانت، فهو الذي ادَّعاه ذلك القائلُ من وجود العلامة في حق كل تابع ظاهراً، فيحصل مرادُه، وإنْ لمْ يكنْ، كان انتفاؤُها دليلاً علَى الخروجِ عن الأمةِ، وهذا الدليل موجودٌ في حقِّ [كل] (¬2) من تقدمت معرفته فيتميز، ولا يبقَى لتقدم المعرفة أثرٌ، كما ذكر في السؤالِ. قلنا: إذا جعلنا العلامةَ مختصةً بالمؤمنينِ المحقين المراقبين الذين وجد فيهم الشرط، وهو الوضوء، لمْ يلزمْ من انتفاء هذا الخروجُ عن الملة؛ كما بيَّناه فيما قبل، ومثَّلناه في الصحابي الذي أسلم فقُتل قبل أنْ يصليَ، فإنَّ الظاهرَ أنَّهُ لمْ يتوضأ أيضًا، فيصير عدمُ العلامةِ أعمَّ من الخروجِ عن الملةِ وعدم الخروج، فيكون للمعرفة المتقدمة أثر في النداءِ من القواعد الكلامية السنية: أن كل ما صحَّ في الحديثِ من ألفاظ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، أو وَرَدَ في الكتابِ العزيز من ذلك إخباراً ¬

_ (¬1) "ت": "تغيروا". (¬2) زيادة من "ت".

الحادية والعشرون

عن المغيَّباتِ، ولم يمنعِ العقلُ من إجرائه علَى ظاهرِ لفظه، وَجَبَ إجراؤُه علَى ظاهره في الإيمانِ به؛ لثبوت الجواز العقلي الذي ينفي المانع، وهو استحالة الوقوع، والإخبار الشرعي الذي يقتضي وقوعَ أحدِ الجائزين، ووجوب تصديق المعصوم فيما أُمِر به، وتدخل تحت هذا أمورٌ كثيرةٌ من أحوال الآخرة؛ كالمُسَاءَلةِ في القبر، ومُنْكَرٍ ونَكِيرٍ، ونَصْبِ الموازين، إلَى غير ذلك. الحادية والعشرون: قد ذكرنا من حديث مالك: "فليُذَادنَّ رجالٌ عن حوضي"، ففيه إثباتُ الحوض للنبي - صَلَّى الله عليه وسلم -، وذلك ممَّا يدخل تحت القاعدة السابقة؛ للإمكان والإخبار عن الوقوعِ، ووجوب التصديق. الثَّانية والعشرون: هذا الوجوب وإن ثبت بما قررناه من القاعدة؛ أعني: وجوبَ الإيمان بالظاهرِ من الألفاظ، لكن لدلالة الألفاظ علَى تلك الأمور المعنوية تفاوتٌ في الرتب؛ فمنها ما ينتهي إلَى [القطع بأنَّ المرادَ الظاهرُ وما دلَّ عليه اللفظ، وذلك لكثرة ورود] (¬1) الأمثال، وقيام القرائن، وما تلقته الأمةُ خلفاً عن سلف، بحيث يحصل لهم العلمُ القطعي بإرادة الظاهر. ومنها ما يقابل ذلك، وهو ما لمْ تكثرِ الألفاظُ الدالةُ علَى المعنى، بحيث ينتفي احتمالُ المجاز؛ إما بسبب العلة، أو لانتفاءِ القرائنِ المفيدةِ للقطع. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

الثالثة والعشرون

ومنها ما هو متوسط، وهو أن تكثَر تلك الألفاظُ كثرةً لا تنتهي إلَى الدرجةِ الأولَى، ولا تنحطُّ إلَى السفلَى. الثالثة والعشرون: وبحسب اختلاف هذه المراتب، وقعت طامَّةٌ أوجبت افتراقَ الأمةِ ورميَ بعضِهم بعضاً بالتكفيرِ أو التبديع، وتساهلِ آخرين فيما يجب فيه التشديدُ، والقانون الصحيح هو الذي ذكرناه، والرجوع فيه إلَى ما ثبت في النفسِ عن التأمل في مصادر الشريعة ومواردها، وإلَى هذا يجب أنْ يرجعَ المرءُ في المرتبةِ الأولَى، وهي ما انتهَى إلَى القطعِ؛ الإخبار عن حدث العالم فيما مضَى، وحشر الأجساد، ودارَيْ الجزاء، الجنة أو النار، وكل من خالف في ذلك فهو كافر خارج عن الملةِ، وما يبديه من التأويلاتِ، كما يفعله الفلاسفةُ المنسوبون إلَى الإسلامِ، فهو مردود عليه؛ للقطع الذي ذكرناه في مثل هذه المسائل، ولما كفَّر الغزالي - رحمه الله - الفلاسفةَ بالقولِ بقِدَم العالم، وإنكار حشر الأجساد، وإنكار العلم بالجزئياتِ، أراد بعضُ المتأخرين ممن يتكلم في الفلسفةِ من الأندلسيين أنْ يشوشَ فيما قالَ، وزعم أن في تكفير من خالف الإجماع خلافًا، وهذه سَقْطة راسبة، وعثرة لا لَعًا (¬1) لها، فإن ما يقوم عليه الإجماعُ علَى قسمين: أحدهما: ما صحبه المتواتر في الإخبارِ عن صاحب الشرع بما انعقد عليه الإجماع. ¬

_ (¬1) يقال للعاثر: لعاً له: إذا دعوا له. ولا لَعًا له: إذا دعوا عليه وشمتوا به، أي: لا أقامه الله من سقطته.

والثاني: ما لا يصحبه ذلك. فأمَّا القسمُ الأول: فلا شكَّ في تكفيره (¬1) من جهة المخالفة فيما يثبت بالتواترِ عن صاحب الشرع، لا لأجل مخالفة الإجماع. وأمَّا الثَّاني: فهو الذي يقع فيه الخلاف، وليس وقوع الإجماع ممَّا يلازمه التواترُ، ومخالفةُ المتواتر عن صاحب الشرع، فإنَّ الإجماعَ قد يقع علَى مُقتضَى خبر الواحد (¬2)، وليس ممَّا تواتر عن الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا المرتبةُ الثَّانية: وهي ممَّا تَقِلُّ فيه الألفاظُ، ولا تقوم فيه الألفاظُ المفيدةُ للقطع، فلا يليقُ بها التشديدُ، وينبغي أنْ يُتحَرَّزَ فيها عن التكفيرِ والتبديع، ومن (¬3) أراد الاحتراز علَى نفسه. ولقد أكثر الخَيَّاطُ من الحنابلةِ في تكفير النَّاس وجَسَرَ عليهم في ذلك جَسارة، لعلها أن تُعْقِبَهُ خسارة. وأمَّا المرتبة المتوسطة: فهي محل الإشكال، وفيها يقع الاختلاف؛ ومِن (¬4) النَّاس مَن يُلحقها بالمرتبةِ الأولَى، فيُكفِّرُ أو يُبدِّع، ومنهم من يلحقها بالمرتبةِ الأخرَى، فيتأوَّل. والقانون ما ذكرناه، فارجعْ إليه في نفسك وإلَى علمك، وَزِنْ بالقسطاسِ المستقيم، والله الموفق للصواب. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تكفير"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "الواقع". (¬3) في الأصل: "فمن"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "فمن".

الرابعة والعشرون

الرابعة والعشرون: ومن هذا القبيل؛ أي: ممَّا يجب الإيمان به (¬1)، وإجراؤه علَى ظاهره، الحليةُ المذكورة في الحديثِ في الرواية المختصرة في الأصل. الخامسة والعشرون: قد ذكرنا في رواية سعد بن طارق قوله - عليه السَّلام -: "إن حوضي أبعدُ من أيلة من عَدَن"، وقد اختلفت الآثار في تقدير (¬2) مدِّ الحوض اختلافاً يعسُر الجمعُ فيه، وإنْ كَان فُيتكلَّف، والصواب عندي في أمثال هذا: أنْ يُنظر إلَى الترجيحِ بين الرواة بحسب حالهم في الحفظِ والإتقان، وطريقةُ الجمع وإنْ كَانت متقدمةً في الرتبةِ علَى طريق الترجيح، إلَّا أن (¬3) الذي أراه في مثل هذا حيثُ يكون التأويلُ غيرَ مقبول عندَ النفس، ولا مطمئنةٌ هي به، وهو الأشبه المقدم في هذا المحل رتبة الترجيح علَى رتبة الجمع؛ لأنَّ الأصلَ هو سكون النفس وطمأنينتها، والظن بعصمة الرواة عن الخطإِ، ولو كانوا ثقات، وسكون النفس إلَى احتمال الغلط في بعضهم أقوَى من سكونها إلَى التأويلاتِ المُستبعَدَة المُستنكرةِ عندها، لا سيَّما مع من كانت روايته حفظاً، لا يرجع فيها إلَى الكتابِ، فهذا هو الذي أراه، واستقرّ عليه رأي ونظري، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ممَّا يوجب الإيمان"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "تقدر"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "لأن"، والمثبت من "ت".

السادسة والعشرون

ولا أقول هذا في كلِّ تأويل ضعيف مرجوح بالنِّسبَةِ إلَى الظاهرِ، وإنَّما ذلك حيثُ يشتدُّ (¬1) استكراهه، ولقد سمعت الشَّيخ أبا محمد عبد العزيز بن عبد السلام يقول قولًا أوجبَتْه شجاعةُ نفسه - رحمه الله - لا أرَى ذكره، وإنْ كَان صحيحاً، والله أعلم. السادسة والعشرون: قد تقدَّم في رواية نُعيم: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غُراً محجلين من أثر الوضوء"، ظاهرُه العموم في الأمةِ وحصر العلامة فيهم كلِّهم، وقد حكينا عن بعض النَّاس: أنَّ العلامةَ تكون عامَّةً في حق المؤمنين المخلصين الموافين وغيرهم من المنافقينِ والمرتدين، وقد بسط هذا القولَ بعضُهم قال: - وهو الأشبه بمساق الأحاديث - إن هؤلاء الذين يُقَال لهم هذا القول؛ يعني: أنهم قد بدلوا بعدك ناسٌ نافقوا، وارتدوا من الصحابةِ وغيرهم، فيحشرون في أمة النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وعليهم سِيما هذه الأمة من الغرةِ والتحجيل، فإذا رآهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عرفهم بالسِّيما من كان من أصحابه بأعيانهم فيناديهم: "ألا هلم"، فإذا انطلقوا نحوه حِيْل (¬2) بينهم وبينه، وأُخذ بهم ذات الشمال، فيقول النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا ربِّ أمتي ومن أمتي"، وفي لفظ آخر: "أُصَيْحابي"، فيقال (¬3) له إذ ذاك: "إنه (¬4) لا تدري ما أحدثوا بعدك، ¬

_ (¬1) في الأصل: "يشد"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "فحيل"، والمثبت من "ت". (¬3) في الأصل: "فقال"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "إنك" بدل "إذ ذاك إنه".

السابعة والعشرون

وإنهم لمْ يزالواْ مرتدين منذُ فارقتَهم"، فإذ ذاك تذهب عنهم الغرة والتحجيل، ويُطفأ نورهم، فيبقون في الظلماتِ، فيُقْطع بهم عن الورودِ، وعن جواز الصراط المستقيم، فحينئذ يقولون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، فيُقَال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13] مكراً وتنكيلًا؛ ليتحققوا مقدارَ ما فاتهم، فيعظُم أسفُهم وحسرتهم، أعاذنا الله من أحوال المنافقين، وألحقنا بعباده المُخلَصين، وجعلنا من الفائزين (¬1). السابعة والعشرون: الحديث الذي فيه ذَوْد (¬2) رجال، ليس فيه ما يقتضي وجود السيما فيهم أو عدمها، لأنه يكره في الإثبات، وقد يُعارَضُ بالعموم الذي في "أمتي" بعد تقرير دخولهم في اسم الأمة، واختلاطهم، وقد اختلف الناس فيهم، وذكر بعضُهم فيه أقوالًا؛ منها معنى ما ذكرناه من عموم السِّيْما إلى آخر ما تقدم من شرحه. ومنها: أن المراد مَنْ كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ارتدَّ بعدَه، فيناديهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يكن عليهم سِيما الوضوء؛ لما كان يعرفه - صلى الله عليه وسلم - في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدُّوا بعدك، وهذا آخر ما ذكرناه من المباحث فيما مضى. ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 504 - 505). (¬2) في الأصل: "ليس ذود"، وكذلك في "ت"، ولكن ضرب على كلمة "ليس".

ومنها: أن المراد أصحابُ المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، و (¬1) أصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام. قال الحاكي للأقوال: وعلى هذا القول لا يُقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار، بل يجوز أَنْ يُذَادوا عقوبةً لهم، ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى، فيدخلهم الجنة من غير عذاب. قال أصحاب هذا القول: لا يمتنع أن تكون لهم غرة وتحجيلٌ، ويحتمل أن يكونوا (¬2) كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، لكن عرفهم بالسِّيما. قال: وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر (¬3): كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض؛ كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء. قال: وكذلك الظَّلَمَةُ المسرفون المترفون في الجَوْر، وطَمْسِ الحق، والمعلنون بالكبائر. قال: وكل هؤلاء يُخافُ عليهم أن يكونوا ممن عُنوا بهذا الخبر، والله أعلم (¬4). قلت: أما الخوف عليهم فظاهر (¬5)، وأما ما حُكي من أن كلَّ مَنْ أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض؛ كالخوارج وأصحاب ¬

_ (¬1) "ت": "أو". (¬2) في "شرح مسلم": "يكون". (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 262). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 137). (¬5) في الأصل: "وظاهر"، والمثبت من "ت".

الثامنة والعشرون

البدع، ففي هذا الجزم نظرٌ، وليس في قوله: "لا تدري ما أحدثوا بعدك" ما يقتضي العمومَ في المُحْدِثين والأَحْداثِ، وقد يُطلَق هذا اللفظ ويُراد به بيانُ [وجودِ أصلِ السبب في الفعل؛ كالذَّوْدِ في هذه الموضع مثلًا، وقد يُراد به] (¬1) الإخبارُ عن كثرة الموانع والأسباب المُوْجِبة للفعل؛ كما لو جنى إنسانٌ جِنَايةً، وقُصِدت عقوبتُه، فشُفِع فيه، فقال القاصد للعقوبة: لا تدري ما فعل؛ يعني: أنَّ جناياتِه كثيرةٌ لا تحتمل العفوَ، وقد يقال أيضًا لأجل تعظيم الجناية؛ كما لو فَعلَ فعلًا واحدًا أُريدت عقوبتُه، فشُفع فيه، فقيل: لا تدري ما فعل، تعظيمًا للجناية. إذا ثبت هذا فنقول: لا شكَّ أنَّ رُتَبَ البدع والمعاصي والكبائر متفاوتةٌ، فجاز أن يكونَ هؤلاء المذادونَ قيل فيهم هذا القولُ لكثرة أحداثهم أو عِظَمِها، فإذا لم يلزم [العمومُ] (¬2) لمَ يَنبغِ الجزمُ به؛ والله أعلم. الثامنة والعشرون: الذي أوجب الكلام على "لَيُذَادَنَّ"، ومَنْ همُ المُذَادون، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في الحديث في الأصل، ولا في الروايتين المختصرتين في الأصل أيضًا؛ لما أشرنا إليه مِنْ أنَّه قد تكون بعضُ الألفاظِ التي في الأحاديث التي ذكرناها، ويُحتاج إلى النَّظر فيه؛ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

التاسعة والعشرون

تفسيرًا، أو تعميمًا، أو تخصيصًا، وقد ذكرنا أن لفظَ "أُمَّتِي" فيه عمومٌ. التاسعة والعشرون: لو قال قائل: هذا الحديث يدل على أن تاركَ الصلاة ليس من الأمة، وطريقُه أن يقال: كلُّ مَنْ تركَ الوضوء مع القدرة والعَمْد، فلا غُرَّةَ له ولا تحجيلَ، وكل مَنْ لا غُرَّةَ له ولا تحجيلَ فليس من الأمة، وكل من ترك الوضوء مع القدرة والعمد ليس من الأمة، ثم يقول: كل من ترك الصلاة والوضوء مع القدرة والعمدِ فقد ترك الوضوءَ مع القدرة والعمد، وكل من ترك الوضوء مع القدرة والعمد فليس من الأمة، وكل (¬1) من ترك الصلاة والوضوء مع القدرة والعمد فليس من الأمة، وإذا ثبت ذلك فيمن ترك الصلاةَ والوضوء مع القدرة ثبت في كل من ترك الصلاة وإن لم يترك الوضوء ضرورةً، إذ لا قائلَ من الأمة بالفرق في التكفير بين تركها مع ترك الوضوء، أو مع فعلِهِ. أما بيانُ المقدمة الأولى: وهو أن كل من ترك الوضوء مع القدرة فلا غرة له، فإنها السِّيْما التي جُعلت علامةً مُميِّزة للأمة عن غيرهم، لاسيَّما مع العموم الذي في قوله: "إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ مِنْ أَثَرِ الوُضُوءِ"، فإنه يقتضي أن كلَّ من هو من الأمة آتٍ بالغرة والتحجيل من أثر الوضوء، وأما أَنَّ من لا غرةَ له ولا تحجيلَ فليس من الأمة؛ لأنه إذا عمَّتْ هذه العلامةُ كلَّ الأمة والتمييزُ يحصل على ما جاء في الحديث: "كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ ¬

_ (¬1) "ت": "فكل".

يا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ: أَرَأيْتَ لَوْ أَنْ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ ... " الحديث، يقتضي أن لا يجعل لغيرهم، وأما أَنَّ كُلَّ من ترك الصلاةَ والوضوءَ مع القدرة والعمد فقد ترك الوضوء مع القدرة والعمد فقطعيٌّ، ضرورةَ تحققِ وجود الجزء عند وجود الكل، وأما أَنَّ كُلَّ من ترك الوضوء مع القدرة فليس من الأمة؛ فَلِما تقدَّم، وأما أَنَّ كُلَّ من قال: بأن تارك الصلاة مع الوضوء كافر؛ فهو قائل بأن تاركَ الصلاة لا مع ترك الوضوء كافرٌ، فظاهر. وطريقُ الاعتراض على هذا هو ما تقدَّم من عموم هذه العلامة في كل مؤمن، أو لكل من يُنْسَبُ إلى الأمة ظاهرًا، فعليك بالنظر فيه، واعلم أنه لا بدَّ على كل تقدير من الاستناد إلى إجماع لا قائل؛ لأنه إنما يلزم مِنْ أن كل مَنْ ترك الوضوء مع القدرة والعمد فلا غرة له ولا تحجيل، إذا كان هذا الترك عاما في الأزمنة كُلِّها، فلا ينتج الدليلُ على تقدير صحة مقدماتهِ إلا كفرَ من ترك الوضوء مع القدرة والعمد عمومًا في كل أزمنة العمر، [فمتى] (¬1) أُريد الاستدلالُ به على كفر من تركه في بعض الأوقات، لم تصحَّ المقدمةُ القائلة: إن كلَّ مَنْ ترك الوضوء مع القدرة والعمد فلا غُرَّةَ له، فيَحتاج إلى أن يقول: وكلُّ مَنْ قال بكفر تاركه عمومًا، قال: يكفر تاركه في بعض الأوقات؛ أي: الذي لم يأت فيها بالصلاة والوضوء. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

الثلاثون

الثلاثون: قولُه في الحديث الأول الذي جلبناه لما يتعلق ببعض ألفاظه تفسيرٌ لهذا الحديث الذي هو في الأصل قوله: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَتَى المَقْبُرَةَ، فيه دليلٌ على طِلْبَتِهِ زيارةَ القبور، وفي ذلك أحاديثُ تدل على غير هذا، وليس فيه عمومٌ من هذه الجهة يقتضي الاستحبابَ بالنسبة إلى كل الزائرين، حتى يحتاجَ إلى تخصيص بعض الزائرين منه أو المزورين؛ كالنساء مثلًا في الزائرين، وإنما هو دليلٌ على استحباب مُطْلَقِ الزيارة لِمُطْلَقِ المزورين، وعلى أخصَّ منه، وهو مَنْ اشترك مع الواقعِ (¬1) في صفة الزائرين والمزورين كالرجولية، والمؤمنين، إلا أن يُؤخذ من دليل التأسي المقتضي للعموم. الحادية والثلاثون: الزيارةُ للميت، ومخاطبتُهُ مخاطبةَ الحي، والدعاء له بما يقتضي (¬2) الحياةَ والإدراكَ؛ كلُّه دليلٌ على بقاء الأرواح بعد موت الأجساد، والشريعةُ طافحةٌ [به] (¬3) في مواضعَ عديدةٍ. الثانية والثلاثون: فيه استحبابُ السلام على الأموات عند زيارتهم. الثالثة والثلاثون: وفيه استحبابُ السلام على هذه الصيغةِ التي هي الصيغةُ على الأحياء، وقد وردَ في لفظ آخر: "عَلَيكَ السَّلامُ تَحِيَّةُ المَوْتَى" (¬4)، وليس يلزمُ منه أن تكونَ تحيةُ الموتى بهذا اللفظ هو ¬

_ (¬1) في الأصل: "الرافعي"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "تقتضيه". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) تقدم تخريجه.

الرابعة والثلاثون

الشرعَ والمطلوبَ؛ لأنه يحتملُ أن يكونَ إخبارًا عن الواقع من العرب في تأبين الموتى [من الطويل]: عليكَ سلامُ الله قيسَ بنَ عاصمٍ (¬1) فجعَلَ ذلك سببًا لأنْ تجتنبَ في حق الأحياء، دفعًا لما لَعَلَّهُ يعرِضُ للنفس من الكراهة لمخاطبتها بما اعْتِيد خطابًا للأموات، وليس يلزمُ من ذلك أن يكونَ الحكمُ الشرعي مخاطبةَ الموتى بتلك الصيغة. الرابعة والثلاثون: إتيانه - عليه الصلاة والسلام - يجوزُ أن يكون للاعتبار، ويجوزُ أن يكون للدعاء والاستغفار؛ كما جاء (¬2) في زيارة بَقيع الغَرْقد. الخامسة والثلاثون: قيل: إن بعضَ العلماء احتجَّ بهذا الحديث على أن الأرواح على أفنية القبور، وقال قومٌ: كانت الأرواح في وقت سلامِهِ في قبورها، أو على أفنية قبورها، وقال بعض العلماء: يحتمل أن يسمعوه حيثما كانوا (¬3). قلت: وهذا محتمل؛ لأنه يكفي في هذا السماع أو العلم تعلقُ الأرواحِ بالأجساد من وجه، فلا يلزم منه أن تكون في القبور، ولا في أفنيتها. ¬

_ (¬1) تقدم ذكره وتخريجه. (¬2) في الأصل و "ت": "جاز"، والمثبت من هامش "ت". (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 240)، وكذا "الاستذكار" (3/ 89).

السادسة والثلاثون

وقيل: هذا خصوصٌ للنبي (¬1) - صلى الله عليه وسلم -، واستُدِلَّ على هذا بحديث القليب يوم بدر وقال: "يَا فُلانُ وَيا فُلانُ وَيَا فُلانُ! هَلْ وَجَدْتُم ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ " فَقَالَ عُمَرُ: يا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لا أَرْوَاحَ فِيْهَا؟ فَقَالَ: "ما أنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيْعُونَ أَنْ يَردُّوهَا" (¬2). قلت: ليس في هذا دليلٌ على الخصوص، وعلى ذهني: أن شيخنا اختار الأرواح في القبور. السادسة والثلاثون: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين"، لا بدَّ فيه من حذف مضاف؛ كأهل، وما أشبَهه، ويتصدَّى النظرُ في أنه لو صرَّح بهذا المحذوف؛ هل يكون أولى، أو مساويًا، أو مرجوحًا؟ فإن ورد في بعض الروايات التصريحُ به انتفت المرجوحيَّة، وإن لم تردْ فيمكن أن يقال: إن ترك التصريح أولى؛ كما في لفظ الحديث؛ أما أولًا: فللاتِّباع، وأما ثانيًا: فلأن في إطلاق السلام على الديار والحذف ما ليس في التصريح؛ لإشعار ذلك بالتعظيم؛ لما اقتضته عادة الناس في مخاطباتهم وأشعارهم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالنبي" والمثبت من "ت". (¬2) رواه البخاري (3757)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل، ومسلم (2875)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، من حديث أبي طلحة - رضي الله عنه -.

السابعة والثلاثون

السابعة والثلاثون: الأقربُ أن يكون قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "مؤمنين" شهادةً بالإيمان الحقيقي، لا بناءً على الظاهر، فإن كانت هذه المقبرةُ هي المقبرةَ التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهلها: "أَنَا شَهِيْدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ" (¬1) فلا شكَّ في ذلك، إذا حُمِلت الشهادة على الشهادة بالإيمان؛ كما هو الظاهر، وإن لم تكن هي تلك المقبرة، فالأقرب ما ذكرناه، ويحتمل أن يكونَ بناءً عَلى الظاهر، والله أعلم. الثامنة والثلاثون: لا يشكُّ في طلب التأسي بقول هذا القول، والتأسي حقيقةً فعلُ مثلِ الفعل المتأسَّى به، فإذا حملناه على الشهادة الحقيقية بالإيمان لم يمكن في حقِّنا مثلُ ذلك، فيكون هذا من باب الاكتفاء بالمَيْسورِ عند تعذُّر (¬2) المعسور بقدر الإمكان. التاسعة والثلاثون: قوله: "وَإِنّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُون" يُورد فيه سؤالٌ بسبب اقتضاء "إن" لدخولها (¬3) على الجائز دونَ الواجب، واستلزام ذلك لجواز النقيض مع القطع باللحوق بهم في الموت أو غيره مما وجب وقوعُه، والكلام عليه في مقامات: الأول: في اقتضاء (إن) للجواز والتردُّدِ، فيه وجهان: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1278)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬2) في الأصل: "من تعذر"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "ودخولها".

الوجه الأول: أن (¬1) ذكر هذا ليس على سبيل ما دلَّ عليه ظاهرُ (إن) من التردُّد، لكنه على سبيل التأَدُّب [اللفظي] (¬2) في إضافة الأمور إلى الله تعالى وامتثال {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24] وإن كان ليس من ذلك بعينه ولكن قد يشير إليه، ويكون ذلك كقوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] مع العلم بدخولهم. الوجه الثاني: ما نُقِل عن بعضهم: أن (إنْ) تكون بمعنى (إذْ)، وهو ضعيف على مذهب هؤلاء المتأخرين الناصرين لمذهب البصريين من النُّحاة، وقد حكى كَونَها بمعنى (إذ) مهلبُ بن الحسن النحوي [من الطويل]: إذا كُسِرت (إنْ) فالمواضعُ ستةٌ ... تكون بها (¬3) شرطًا ونفيًا وزائدهْ وقالوا: بمعنى (إذ) و (إذ ما) وحكمُها ... إذا خُفّفت فاللامُ فيها لفائِدَهْ وقال في تفسيرها: وأما كونها بمعنى (إذ)، فقد قيل في قوله ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنه"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل و "ت": "منها"، والصواب ما أثبت؛ لاستقامة الوزن به.

تعالى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]؛ لأن الخطاب للمؤمنين، ولو كانت للجزاء لوجب أن يكون الخطاب لغير المؤمني؛ لأن الفعل الماضي في الجزاء بمعنى المستقبل، وقد جاء في القرآن الكريم مواضع منها هكذا. وقد قيل: إنَّ الصحيح فيها أن تكون للجزاء، وذكرها القائل عن الشيخ أبي محمد - هو ابن بري - أنه قال: (إِنْ) تكون (¬1) بمعنى (إذ) مذهبُ الكوفيين. قلت: يمكن أن يكون من هذه المواضع التي أشار إليها {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] , {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] , {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]. المقام الثاني: [إِنَّ] (¬2) اللحاق يقتضي شيئًا يلحق (¬3) به، وذلك أمرٌ منسوبٌ إلى المسلَّم والمسلَّم عليه، وللمسلَّم عليه أوصافٌ متعددةٌ لا تنحصر في الموت، وعلى هذا ففيه وجوه: أحدها: أن يكون اللَحاقُ في وصف الإيمان المحقَّق المتَّصِفِ بالموافاة لقوله المشهود به - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا شَهِيْدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ"، ¬

_ (¬1) في الأصل: "أن تكون أن"، والمثبت من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "ملحقًا".

وإن كانت هذه المقبرةُ هي مقبرةَ هؤلاء القوم، وعلى هذا الوجه يجب أن يكون التجويزُ أو التردُّدُ خارجًا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فإما أن يراد به مَنْ عداه من الحاضرين، وإما أن يرادَ المجموعُ من حيثُ هو مجموعٌ. الثاني: أن لا يختصَّ باليوم المشهود بالموافاة، بل بناءً على ظاهر الحال، ويكونُ كما ذكرنا في الوجه قبلَه من تخصيص ذلك بِمَنْ عدا الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: إن المنافقين كانوا بالمدينة، فيُحتملُ أن يكونَ بعضُهم كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون المطلوبُ اتصافَهم بالإيمان؛ أي: بأصل الإيمان، فيكون بالنسبة إلى هؤلاء التردُّدُ واقعًا من طريقين: أحدهما: تَبَدُّل ما هم فيه من النفاق بالإيمان. والثاني: الموافاة عليه. المقام الثالث: ما يرجع إلى المسلم، على أن يكون المرادُ اللحاقَ بالدفن في المكان إظهارًا لشرفه أو لشرف مَنْ به، ويكون مطلوبًا لأجل المجاورة، قال عمر - رضي الله عنه -: اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك، ووفاةً في بلد رسولك - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، طلبًا للفضيلة التي أشرنا إليها، وهذا الوجه يتعلق أيضًا بالمسلَّم عليهم؛ لأنَّ من ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1791).

الأربعون

صفاتهم كونَهم بالمكان المشرف. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوانَنَا" فيه دليل على جواز التَّلَفُّظِ بالوَدَادَةِ، فيما لا يقع بسبب ما يتعلق بذلك من الفائدة بإظهار التعظيم والشرف أو غير ذلك، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ في سَبِيْلِ اللهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلَ" (¬1) إظهارًا لشرف الجهاد والقتل في سبيل الله، وكذلك يكون تمني النبي - صلى الله عليه وسلم - لرؤية مَنْ يأتي بعدَه، فيه من الشرف وإظهار المنزلة أمرٌ عظيم. الأربعون: الظاهر أن هذا التمنِّي لرؤيتهم في حال الحياة، ونَقَلَ قومٌ أن المرادَ تمني لقائهم بعد الموت (¬2). وهذا عندي (¬3) ليس بالمتين. الحادية والأربعون: قال بعضهم: في هذا الحديث جوازُ التمنِّي، لاسيَّما في الخير، ولقاء الفضلاء، وأهل الصلاح، والله أعلم (¬4). الثانية والأربعون: "وَدِدْتُ لَوْ أَنَّا رَأَيْنَا" يحتمل أن تكون النون ¬

_ (¬1) رواه البخاري (36)، كتاب: الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان، ومسلم (1876)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، من حديث أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 48). (¬3) في الأصل: "تمني"، والمثبت من "ت". (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الثالثة والأربعون

التي فيه هي التي يُقْصَد بها التعبيرُ عن النفس فقط، فتصير كما لو قيل: وَدِدْت أني رأيت. ويمكن أن يدخل تحتها الصحابةُ أيضًا، ويُقوَّى ذلك بما في رؤية الصحابة لبقية الأمة من المصالح الدينية لهم، وانتقال كثير من الغيبيات إلى المشاهداتِ المحسوساتِ، فتكون هذه الوَدَادَة من النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب صفته التي وصفه الله {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. ويحتمل [عندي] (¬1) أن يرجعَ هذا المعنى بعينه إلى مصلحة المؤمنين الآتين بعد الصحابة؛ لما فيه من المصالح الدينية ومشاهدة الرسول. الثالثة والأربعون: ذَكَرَ بعضهم: أن فيه شرفَ هذه الأمة؛ لتمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراها، قال: فنحن أولى أن نكون لرؤيته أشدَّ تمنيًا وأكثر قطعًا. الرابعة [والأربعون] (*): قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إخواننَا" صيغة جمع، فتقتضي أنَّ المراد كل الأمة، والله أعلم. الخامسة والأربعون: هذه الأخوَّةُ إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] (¬2). السادسة والأربعون: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وإِخْوَانُنَا الذيْنَ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 48). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بالمطبوع [والثلاثون]

السابعة والأربعون

لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ" ليس [فيه] (¬1) نفيُ الأخوَّةِ عنهم، وإنما هو إثبات فضيلة لهم زائدة على الأُخوَّة، والسبب فيه - والله أعلم - أن الموضعَ موضعُ تشريفٍ وتكريمٍ وتنويهٍ، ولا يليق بمثله الاقتصارُ على وصفٍ أدنى مع وجود ما هو أعلى منه إذا أمكن الوصف به، وللصحابة - رضي الله عنهم - فضيلةُ الصحبة وهي زائدةٌ على أخوَّة الإسلام، موجودة فيهم، معدومة فيمن بعدهم. السابعة والأربعون: قوله عقيب: "وَإِخْوَانُنَا الذينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ". قَالَ: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ فيه تقديمٌ عن تأخير؛ لأن ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - "وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا". قَالُوا: أَوَ لَسْنَا إِخْوانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَنْتُم أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الذينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ" لا يقتضي السؤال عن كيفية معرفة من يأتي بعده؛ لأنه ليس فيه إلا وَدادَةُ رؤيتهِم، ولا يقتضي ذلك معرفتَهم حتى يُسألَ عن كيفيتها. وإنما هذا السؤالُ بعد معرفةِ كونِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَرَطًا، ومعرفة مَنْ يَرِد على الحوض ممن يأتي بعده، فيتوجَّه السؤالُ حينئذ عن كيفية المعرفة التي وقع الإخبارُ بها، كما ورد في حديث آخر بعد ذكر الحوض: "وَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: نَعَمْ" (¬2)، فإنه إذا حصل الإخبار بالمعرفة ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيهم"، والمثبت من "ت". (¬2) رواه مسلم (248)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل =

الثامنة والأربعون

حَسُنَ السؤالُ عن كيفيتها، وهذا مما يوضِحُ لك صوابَ رأي المحدِّثين في طلب كثرة الروايات بشهادة بعضها لبعض، وبيان بعضها من بعض. الثامنة والأربعون: قال القاضي أبو بكر فيما وجدته عنه: فيه تشبيهُ الرجل الكريم بالخيل، كما يُشَبَّهُ الرجلُ اللئيم بالحمار، ثم قال: إن الأغرَّ من الخيل أشرفُ من البهيم. قلت: وهذا ذكر لأمر وجودي لا يتعلق بالأحكام الشرعية بنفسه. التاسعة والأربعون: قوله: "أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَه؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: "فَإِنَّهُمُ يأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ مِنْ الوُضُوء"، فهذه الإضافة في قوله: "خيله"، والضمير في قوله: "فإنهم يأتون" مما يتعلق بالعموم والخصوص بالنسبة إلى هذه العلامة. الخمسون: ذكر القاضي أبو بكر فيما وجدته عنه: أن الفرَط والفارِط هو متقدِّمُ القوم إلى أيِّ شيء أرادوا، والفَرَطُ أيضًا: ما أصيب به الرجل من ولده، فكأنه يتقدمهم على الحوض، فالفرط المُتقدِّم على أي حال كان، فكأنه عند حوضه ينتظرهم حتى يَرِدُوا عليه. وقال بعضهم: قال الهَرَويُّ وغيره: معناه: أنا أتقدمهم إلى ¬

_ = في الوضوء، من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.

الحادية والخمسون

الحوض، يقال: فَرَطْتُ القومَ: إذا تقدمْتُهم؛ ليرتاد (¬1) لهم الماء، ويُهيئَ لهم الدِّلاء والرِّشاء (¬2). الحادية والخمسون: قال: وفي هذا الحديث بِشَارةُ هذه الأمة (¬3) زادها الله شرفًا، فهنيئًا لمن كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَطَه (¬4). قلت: وفيه أيضًا تعظيمٌ لها، وهو معنى حسن. الثانية والخمسون: "لَيُذَادَنَّ" هكذا الرواية هاهنا، وفي "الموطأ" رواية أخرى: "فَلا يُذَادَنَّ" (¬5)، فالأولى (¬6): على الإخبار، والثانية: على النهي، وهو من قبيل: فلا أَرينَّك هاهنا (¬7). "فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ" على صيغة الجمع، هو المشهور، وهو يدل على وقوع هذا في حق جماعة، وروي: "رَجُلٌ" (¬8)، وهو لا يدل على العموم بنفسه، بل إما بقرينة، أو بتأويل هذا على رواية الإخبار، وأما على رواية النهي، فالإفراد والجمع سواءٌ في اقتضاء العموم. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل و "ت"، وعلى هامش "ت": "لعله: ليرتاد". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 139). (¬3) في الأصل: "الأمور"، والمثبت من "ت". (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) في الأصل: "بالأول" والمثبت من "ت". (¬7) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 504). (¬8) رواه أبو عوانة في "مسنده" (1/ 137 - 138) بلفظ: "فليذادن الرجل".

الثالثة والخمسون

الثالثة والخمسون: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُنَادِيْهِم أَلاَ هَلُمَّ" في هلم لغتان: أفصحهما (هلمَّ) للرجل، والرجلين، والمرأة، والجماعة من الصنفين، بصيغة واحدة، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]. واللغة الثانية: هلمَّ يا رجل، وهلمَّا يا رجلان، وهلموا يا رجال، وللمرأة هلمي، وللمرأتين هلما، وللنسوة هلمْنَ (¬1) (¬2). الرابعة والخمسون: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سُحْقًا سُحْقًا" معناه: بُعْدًا بعْدًا، والمكان السحيق: هو البعيد، وفي اللفظة لغتان قرئ بهما في القرآن؛ إسكانُ الحاء وضمُّها، وقرأه الكِسائي بالضم (¬3). الخامسة والخمسون: النصب، في "سحقًا" بفعل مصدر، ورواية سعد بن طارق قد تقدم من الكلام ما يُسْتَدَلُّ به على ألفاظها، وأما رواية مروان - هو الفزاري - وما فيها: منْ: " [أحلى] (¬4) من العسل باللبن" (¬5)؛ ففيه سؤال، وهو أن الأشياء الصِّرْفَة إذا خالطها غيرُها، ¬

_ (¬1) في الأصل: "هلمي"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 139)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله هذه المسألة. (¬3) المرجع السابق، (3/ 139 - 1140). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) تقدم تخريجها عند مسلم برقم (247/ 46)

السادسة والخمسون

لا سيما مما يُخالف طبعها، فإنه يكسر من صِرَافتها، فيكون اللبن كاسرًا من حلاوة العسل، والأقرب أن يضمن (أحلى) غير معنى الحلاوة كأطيب، أو ما أشبه ذلك، وقد يمكن أن يكون من حَلِيَ (¬1)، لا [من حلا] (¬2)، يقال: حلا كذا بقلبي. السادسة والخمسون: وقوله - صلى الله عليه وسلم - "ولآنِيَتُه أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ" لا مانعَ من حمله على حقيقته، ويجوز أن يكون عبارة عن الكثرة، لا العدد المخصوص، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "حلا"، والمثبت من هامش "ت". (¬2) زيادة من "ت".

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر وعن عائشةَ - رضي الله عنها، - قالت: إِنْ كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُحِبُّ التيَمُّنَ في طُهُورِهِ إِذَا تَطَهَّر، وفي تَرَجُّلِهِ إِذَا تَرَجَّلَ، وفِي انْتِعَالِه إِذَا انْتَعَلَ. متفق عليه (¬1). ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه البخاري (166)، كتاب: الوضوء، باب: التيمن في الوضوء والغسل، و (416)، كتاب: أبواب المساجد، باب التيمن في دخول المسجد وغيره، و (5065)، كتاب: الأطعمة، باب: التيمن في الأكل وغيره، و (5516)، كتاب: اللباس، باب: يبدأ بالنعل اليمنى، و (5582)، باب: الترجيل والتيمن فيه، ومسلم (268/ 67)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الطهور وغيره، وأبو داود (4140)، كتاب: اللباس، باب: في الانتعال، والنسائي (112)، كتاب: الطهارة، باب: بأي الرجلين يبدأ بالغسل، و (421)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: التيمن في الطهور، من حديث شعبة، عن أشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة، به. ورواه مسلم (268/ 68)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الطهور وغيره، والترمذي (608)، كتاب: الصلاة، باب: ما يستحب من التيمن في الطهور، وابن ماجه (401)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الوضوء، من حديث أبي الأحوص، عن أشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروق، به. =

[الوجه] الأول: في تصحيحه

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في تصحيحه: وقد ذكرنا أنه متفق عليه، وقد أخرجه بقية الجماعة؛ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ومرجعه إلى رواية أشعث بن سليم، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها. ورواه عن أبي الأحوص، وهو عند مسلم والترمذي وابن ماجه. ورواه عن شعبة، وهي عند مسلم والأربعة، وفي الألفاظ عن أشعث اختلاف؛ فعند مسلم من رواية أبي الأحوص "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ لَيُحِبُّ التيَامُنَ في طُهُورِهِ إِذا تَطَهَّرَ، وفي تَرَجُّلِهِ إذا تَرَجَّلَ، وفي انْتِعَالِهِ إِذَا انتعَلَ". وعند أبي داود من رواية شعبة: "كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ التيَامُنَ ما اسْتَطَاعَ في شَأْنِهِ كُلِّه". وعند النسائي من رواية خالد عن شعبة: "أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحِبُّ التيَامُنَ ما اسْتَطَاعَ في طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ" قال شعبة: وسمعت الأشعث بواسطَ يقول: "يُحِبُّ التيَامُنَ" وذكر: "شَأْنِهِ كُلِّهِ"، ¬

_ = * تنبيه: اللفظ الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو للإمام مسلم من رواية أبي الأحوص. ووقع في "الإلمام" للمؤلف (ق 7/ أ) بخط الإمام ابن عبد الهادي، وكذا في المطبوع (1/ 71) زيادة بعد قوله: "متفق عليه": "واللفظ للبخاري". قلت: لعل الذي ذكر في "الإلمام" كان خطأ أو سهوًا، والله أعلم.

الوجه الثاني: في مفردات ألفاظه، وفيه مسائل

وسمعته بالكوفة يقول: "يُحِبُّ التيامُنَ مَا اسْتَطَاعَ في طُهُوره، وَتنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ". وعند ابن ماجه من حديث عمر بن عبيد الطنافسي، عن أشعث بسنده: "أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحبُّ التيَمُّنَ في طهُورِه (¬1) إذا تَطَهَّر، وفي تَرَجُّلِهِ إِذَا تَرَجَّلَ، وفي انْتِعَاله إِذَا انْتَعَلَ" (¬2) وقيل: إنه وقع في بعض الأصول: "في نعله" على إفراد النعل، وفي بعضها الأكثر "نعليه" بزيادة ياءٍ على التثنية، ووقع أيضًا في "تنعله" كما ذكرناه عن رواية النسائي، ونسب أيضًا إلى "الجمع بين الصحيحين" للحافظ الحميدي وعبد الحق (¬3)؛ أعني: لفظه. * * * * الوجه الثاني: في مفردات ألفاظه، وفيه مسائل: الأولى: مادة الياء والميم والنون على هذا الترتيب يرجع (¬4) إليها اليمن بمعنى البركة، واليمين ضد اليسار، واليَمن: الإقليم المعروف، ويقال: تيمَّن. ¬

_ (¬1) "ت": "الطهور". (¬2) رواه ابن ماجه (451)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الوضوء. (¬3) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للحميدي (4/ 167). (¬4) في الأصل: "رجع"، والمثبت من "ت".

الثانية

الثانية: تقدم الكلام في الطَّهور والطُّهور، ومقتضى المشهور فيه أن يكون بضم الطاء هاهنا، فإن المراد التيمُّن في الفعل لا الماء، ويحتمل أن يُحمَل على الماء بحذف مضاف. الثالثة: التَّرَجُّلُ: تسريح الشعر. * * * * الوجه الثالث: في شيء من العربية، وفيه مسائل: الأولى (¬1). الثانية: [إِنْ] (¬2) في قوله: "إِنْ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليُحِبُّ" هي (¬3) المخففة من الثقيلة التي يجوز إلغاؤها وإعمالها، والإعمال أقل، وقد تقدم مواضع (إن) فيما مضى. الثالثة: إنَّ اللام الداخلة في "لَيُحِبُّ" هي الفارقة بين النافية والمخففة من الثقيلة عند إلغائها، فإنا إذا قلنا: إنْ زيدٌ قائم على أن تكون هي المخففة أشبهت النافية، فجُعلت اللامُ فارقةً. الرابعة: في كلام بعضهم ما يقتضي لزومَها للفرق، وفي كلام بعض المتأخرين: أنه إذا كان المعنى يقتضي الفرق لم يلزم، وذكر ¬

_ (¬1) بياض في الأصل وفي "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "على" بدل "هي"، والمثبت من "ت".

الخامسة

أنها (¬1) في هذا الحديث بإسقاط اللام في "لَيُحِبُّ" (¬2)، ونسبه إلى كتاب مسلم، ولعلها رواية عنده. ومثال ما يحصل الفرق فيه بين النافية والمخفَّفة في المعنى من غير دخول اللام: (إنْ كان الله يغفر لك إذا أطعته)، وكذلك هذا الحديث الذي رواه هذا النحوي من قوله: "إِنْ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ"؛ لأنه لا يمكن أن تكون نافية في مثل هذا. الخامسة: إذا خُفِّفَتْ فبابها أن تدخل على الأفعال الناسخة للابتداء وغيره قليل؛ كقوله [من البسيط]: شَلَّتْ يمينُكَ إن قتْلتَ لَمُسلِمًا (¬3) وقد وردت في هذا الحديث على الأصل والباب. السادسة: قوله: "في شَأْنِهِ كلِّه؛ وطُهوره، وتنعُّله، وترجُّلِه" يجوز أن يكون "في طهوره" إلى آخره بدلًا بإعادة العامل؛ كما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] ويجوز أن ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "وذكرنا"، والمثبت من هامش "ت". (¬2) "ت": "يحب". (¬3) صدر بيت لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنها، كما رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 112)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (18/ 426) وغيرهما، وعجزه: حلَّتْ عليك عقوبةُ المتعمِّدِ

السابعة

يكون من باب حذف العطف بين الجمل، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} [الرعد: 2]، وقوله [من الخفيف]: كيفَ أصبحْتَ كيفَ أمسيْتَ مِمّا ... يَزْرَعُ الودَّ في فؤادِ الصَّديقِ (¬1) وهو في التقاول كثير {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23، 24] إلى آخر ما في الآيات. السابعة: [قوله] (¬2) "ما اسْتَطَاع" في بعض الروايات يُعرَبُ بما يعرب به قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وذكر فيه: أنه ظرف زمان بتقدير: مدة استطاعتكم، وأن (ما) مصدرية؛ أي: اتقوا الله جهدكم. الثامنة: هذا اللفظ؛ أعني: {مَا اسْتَطَعْتُمْ}، يحتملُ أن يكون من باب التسهيلِ والتخفيفِ، ويحتمل أن يكون من باب التشديد؛ يعني: أنه (¬3) ما وجدت الاستطاعة فاتقوا؛ أي: لا يبقى من الاستطاعة شيء، وبمعنى التخفيف يرجع إلى أن المعنى: فاتقوا الله ما تيسر عليكم، أو ما أمكنكم من غير عسر، ويملِّحُ معنى التخفيف قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا ¬

_ (¬1) تقدم ذكر البيت، وأنه منسوب إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "بمعنى".

التاسعة

نَهَيْتكُمُ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنبِوُه، وإذَا أَمَرتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْه ما اسْتَطَعْتُم" (¬1)، وهذا ننقله إلى قولها (¬2): "ما اسْتَطَاع". التاسعة: لا بدَّ من حذف مضاف تقديره: في لبس نعله، أو نعليه (¬3). * * * * الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: فيه طلبية البُداءة باليمين على اليسار في الوضوء، وذلك في اليدين والرجلين، قال بعض الشارحين: وأجمع العلماء على أن تقديمَ اليمين على اليسار من اليدين والرجلين من الوضوء سنة، لو خالفه فاته الفضل، وصحَّ وضوؤه. وقالت الشيعة: هو واجب، ولا اعتدادَ بخلاف الشيعة (¬4). قلت: هذا الذي ذكره هو مذهب الإمامية منهم، وأما كونه لا يعتدّ بخلاف الشيعة، فلا ينب في أن تكون علَّتُه بدعتَهُم؛ لأن الأصحَّ اعتبارُ خلاف المبتدع الذي لا يكفَّر ببدعته؛ لاندراجه في اسم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6858)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1337)، كتاب: الفضائل، باب: توقيره - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أي: عائشة رضي الله عنها. (¬3) جاء في "ت": "العاشرة: ... " وعلى الهامش: "بياض". (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 160).

الأمة، وتناولِ دليل العصمة لجملتهم، وإنما ينبغي أن تكون علَّتُه فقدَهم لما لابد منه في الاجتهاد، وهو خبر الواحد المقطوع بقبوله، وبسبب ورود جزئيات لا تحصى، واستمرار عمل الأمة عليه، وقد استدل صاحب "الغُنية" (¬1) منهم بما لا دليلَ فيه، وبدعواه الكاذبة في غير ما مكان، وعلى تقدير صحتها فلا اعتبار بها، ولو وفقه الله لقبول (¬2) خبر الواحد، واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَوَضَّأْتُم فابْدَؤوا بِمَيَامِنِكُم"؛ ذكره أبو داود وابن ماجه برواية زهير بن معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وهؤلاء ثقات (¬3)، لكان (¬4) استدلالًا صحيحًا، ويحتاج مخالفُهُ إلى دليل يُخرج الأمر عن ظاهره، ولا يُعارَضُ بالدليل الذي استَدَل به (¬5) من أوجب الترتيبَ، وهو أن الله تعالى جمعهم في الذكر؛ أي: اليدين والرجلين، من غير ما يقتضي الترتيب كغيرها من الأعضاء؛ لأن الإجزاء من هذا الوجه إنما هو عند ¬

_ (¬1) لأبي القاسم عبد الله بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي، الإمامي، المتوفى سنة (580 هـ) تقريبًا، كتاب: "الغنية عن الحجج والأدلة". انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 237). (¬2) "ت": "بقبول". (¬3) رواه أبو داود (4141)، كتاب: اللباس، باب: في الانتعال، وابن ماجه (402)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الوضوء، وصححه ابن خزيمة (178)، وابن حبان (1090). (¬4) جواب "لو وفقه". (¬5) في الأصل زيادة: "وجب".

الثانية

التحقق من باب الاكتفاء بالمسمى عند حصوله، وذلك لا ينافي اشتراط أمر آخر بدليل آخر، وهو هذا الحديث الذي ذكرنا فيه صيغةَ الأمر، فإن ادَّعى أنه يدل على الإجزاء من غير هذا الوجه، فليُبَيِّن. الثانية: قد عرف أنه لا يلزم من استحباب الشيء كراهةُ ضده، والمذكور في المسألة السابقة سُنيَّة التقديم، وقد نقل عن نصِّ الشافعي رحمه الله في "الأم": أن الابتداء باليسار مكروه (¬1)، قال بعض الشارحين: وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما، بأسانيد جيدة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا لَبِسْتُم وَإِذَا تَوَضَّأْتُم فَابْدَؤُوا بِأَيامِنِكُمْ" فإن هذا نصٌّ في الأمر بتقديم اليمين، فمخالفته (¬2) مكروهة أو محرَّمة، وقد انعقد إجماع العلماء على أنها ليست محرمةً، فوجب أن تكون مكروهةً، والله أعلم (¬3). الثالثة: الذي ذكرناه من الاستحباب في تقديم اليمنى (¬4) على اليسار في الوضوء، لا يختص به، فإنه قد ثبت البَداءة بالشق الأيمن على الشق الأيسر في الغسل، والعموم الذي في "طهوره" يدل عليه. ¬

_ (¬1) قال الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 30): أحب أن يبدأ باليمنى قبل اليسرى، وإن بدأ باليسرى قبل اليمنى فقد أساء، ولا إعادة عليه. (¬2) "ت": "لمخالفته". (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 160). (¬4) "ت": "اليمين".

الرابعة

الرابعة: الشافعية أو بعضهم، لم يقل (¬1) بالتعميم للاستحباب في كل أعضاء الوضوء، وجعل من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن، وهو الأذنان، والكفان، والخَدَّان، بل يطهران دفعة واحدة، فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع ونحوه، قدَّم اليمين (¬2). قلت: كأنه يجعل عدم إمكان الجمع شرطًا في الاستحباب، وليس بالواضح، فإنه يمكن الجمع مع ورود ما يدل على استحباب البَداءة باليمين، كما حكينا من البداءة بالشق الأيمن في غسل الجنابة، ليس لأجل استحباب تقديم اليمين، بل لمعنى غيره، وفيه إلغاء ما يمكن أن يكون معتبرًا، وقد نُقِل وجه عن الشافعية. وأيضًا فقد يمكن غسل اليدين والرجلين دفعةً واحدةً مع استحباب تقديم اليمين. وأما الوجه؛ ففي الحديث ما يدل على عدم تقديم الشق الأيمن على الأيسر فيه؛ إما بطريق الظاهر والدلالة، وإما بطريق ما نقل، مع أن الأصل عدم غيره، فهذا (¬3) ينبغي أن يستثنى عن الاستحباب، بل ربما نزيد فنقول: إنه يستحب عدم التقديم أو يكره التقديم؛ للحاجة إلى دليل يدل على هذا الخصوص، وهو مقدم على الدليل العام في استحباب البَداءة باليمين، وهذا (¬4) الذي ذكرناه في ¬

_ (¬1) "ت": "يقم". (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 420 - 421). (¬3) "ت": "وهذا". (¬4) في الأصل و "ت": "وهو"، والمثبت من هامش "ت".

الخامسة

الوجه يجري مثله في الرأس، بل الدلالة عليه فيه أقوى؛ للنص على كيفية المسح باليدين معًا؛ إقبالًا وإدبارًا دفعة واحدة. الخامسة: ذكر غيرُ واحد في معنى هذا الحكم دخولَه في باب التفاؤل، فذكر بعضهم في قول: "كَانَ يُحِبُّ التيامُنَ في شَأْنِهِ كُلِّهِ"، وقيل: إنه كان ذلك منه تبرُّكًا باسم اليمين؛ كإضافة (¬1) الخير إليها، كما قال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم: 52] ولما فيه من اليُمن والبركة، وهو من باب التفاؤل، ونقيضُه الشِّمال (¬2). السادسة: قال بعضهم: ويؤخذ من هذا الحديث احترامُ اليمين وإكرامها، فلا تستعمل في إزالة شيء من الأقذار، ولا في شيء من خسيس الأعمال، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الاستنجاء، ومسِّ الذكر باليمين (¬3). وقال غيره من الشارحين: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب التيمُّن في طهوره إذا تطهَّر، وفي ترجُّله إذا ترجَّل، وفي انتعاله إذا انتعل، هذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهو أن ما كان من باب التكريم والتشريف؛ ¬

_ (¬1) في المطبوع من "المفهم" للقرطبي، وعنه نقل المؤلف هذه الفائدة: "لإضافة". (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 511). ونحوه في "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 75). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 511).

كلُبس الثوب، والسراويل، والخف، ودخول المسجد، والسواك، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، وترجيل الشعر، وهو مشطه، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، وغسل أعضاء الطهارة، والخروج من الخلاء، والأكل، والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك مما هو في معناه، يستحب التيامن فيه. وأما ما كان بضدِّه؛ كدخول الخلاء، والخروجِ من المسجد، والامتخاطِ، والاستنجاءِ، وخلعِ الثوب، والسراويلِ، والخفِّ، وما أشبه ذلك، يستحب التياسر فيه، وذلك كله لكرامة اليمين ولشرفها (¬1). قلث: وقد ورد في الاستنثار في الوضوء، استعمال اليسار، ذكره النسائي، وترجم عليه (¬2)، وهذه الأشياء التي ذكرها هذا الذي حكينا عنه متقاربة (¬3) الرتبة عندي في الاستحباب، بل وفي استحباب بعض ما ذكره في الخَلْع نظر، وقد ورد في النعل استحباب الخلع لليسار أولًا (¬4)، فهو دليل صحيح فيه. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 160). (¬2) روى النسائي (91)، كتاب: الطهارة، باب: بأي اليدين يستنثر؟ من حديث علي - رضي الله عنه -: أنه دعا بوضوء، فتمضمض واستنشق، ونثر بيده اليسرى، ففعل هذا ثلاثًا، ثم قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) في الأصل و "ت": "متقارب"، ولعل الصواب ما أثبت. (¬4) روى البخاري (5517)، كتاب: اللباس، باب: ينزع نعله اليسرى، ومسلم (2097)، كتاب: اللباس والزينة، باب: استحباب لبس النعل في اليمنى =

السابعة إلى الرابعة والثلاثين

السابعة: قد حكينا عن غيرنا صورًا مما يُسْتحب فيها (¬1) التيمن، وهي ثماني عشرة صورة، وكلها مسائلُ جزئية تدخل في العدد، ومن ذلك: مناولة الشراب للأيمنِ فالأيمن، وفي خصوصه حديث صحيح ثابت: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - شَرِبَ لَبَنًا، ثُمَّ أعْطَى الأَعْرابِيَّ وقَال: "الأيمن فَالأَيْمَنَ" بعدَ أَنْ قَالَ له عُمَرُ وأبو بكْرٍ رضي الله عنهما: يا رسولَ الله! (¬2)، ومنه المعاطاة، والمناولة، ومنه المبايعة والمعاهدة، والأيمن في الصفوف، والتيمُّم في أعضاء الوضوء، والبداءة باليمين في الالتفات عند الحَيْعَلتين، والبَداءة بالشّق الأيمن في غسل الميت، وتوجيهه إلى القبلة على قولٍ، ووضعه في لحده على الأيمن، وإشعار البُدْن على قول بعض العلماء، فهذه المسائل تكمل أربعة وثلاثين. الخامسة والثلاثون: هذه الأماكن المكروهُ فيها تقديم اليسار تخصُّ العموم الذي في قولها: "في شَأْنِه كلِّه" مما ورد من الدلائل الخاصة المقتضية لتقديم اليسار في شيء مخصوص، فهو دليل تخصيص فيه، فإن أجري غيرُه مجراه فبالقياس. ¬

_ = أولًا، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع". (¬1) "ت": "فيه". (¬2) رواه البخاري (2225)، كتاب المساقاة والشرب، باب: في الشرب، ومسلم (2029)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

السادسة والثلاثون

السادسة والثلاثون: قد ذكرنا عن بعض الشافعية: أنه لا يستحبُّ البَداءة باليمنى في الأذنين؛ لإمكان مسحهما دفعة، ورأيت في تراجم بعض حفاظ الحديث ما يدل على نقيضِ ذلك فيما هو أبعدُ من مسألة الأذنين، وذلك أنه قال: الترغيب [في التيمن] (¬1) في الطهور، والترجُّل، والانتعال، والدليل على الابتداء بغسل الكف الأيمن، والمنخر الأيمن في الاستنشاق (¬2)، وهذا بُعْدٌ لا يقتضيه المفهوم من إطلاق الأحاديث، ثم إنه بعيد عن الاستعمال، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله لاقتضى غرابتَه ذكره. والاستدلالُ بالعموم هاهنا ضعيفٌ، تتقدم عليه غلبة الظن الناشئة عن العرف والعادة، وغلبة الظن بذكره عند المخالفة لو كانت. وأما الكف: فإن أراد به البَداءة باليمين في صَبِّ الماء فهو جيد، قد يدل عليه بعض ألفاظ الأحاديث. وإن أراد البَداءة بها في الغسل، فبعيد، لا يدل عليه لفظ حديثٍ فيما أعلم. السابعة والثلاثون: قد يتوَهَّمُ أن الطواف على اليسار مخالف لهذه القاعدة، وليس الأمر كذلك؛ لأن من استقبلك فيمينه قُبَالة يسارك، ويساره قبالة يمينك، فاعتُبرتِ اليمين هاهنا بالنسبة إلى البيت، لا بالنسبة إلى الطائف. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) كذا ترجم أبو عوانة في "مسنده" (1/ 222) لحديث الباب.

الثامنة والثلاثون

الثامنة والثلاثون: ولا يخرج عن هذا أيضًا استعمالُ الشمال في الصبِّ على اليمين؛ لأن المقصودَ التطهُّر والتنظُّف، وتقديمُ (¬1) الأشرف أولى بهذا المقصود، والشمال خادمة فيه. التاسعة والثلاثون: إذا بدأ باليسرى ثم غسل اليمنى، ثم غسل اليسرى، فهل يتأدَّى بذلك الأمر؟ أما إذا قيل: بالوجوب، فنعم؛ لأنَّ غسل اليسرى أولًا لم يقع مُجزيًا، ولا مُعتدًّا به؛ لفوات الشرط الذي هو الترتيب فيها، فغسلُها المعتدُّ به قد وقع بعد اليمنى، فيحصل بها الإجزاء والاكتفاء. وأما إذا قيل بالاستحباب: ففيه نظر؛ لأنَّ غسلَها أولًا يقع معتدًّا به في الوضوء، فغسلها بعد اليمنى يكون بعد تمام الوضوء، فلا يتأدَّى به الأمر بالغسل في الوضوء، ولا شك أنه المأمور به؛ لقوله (¬2) - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَوَضَّأْتُم فَابْدَأُوا بِمَيَامِنِكُمْ"، فبتمام غسل اليمنى تمَّ الوضوء، فلا يكون غسل اليسرى بعدها من الوضوء. الأربعون: هذا الذي ذكرناه بالنسبة إلى مجرّد غسل اليسرى أولًا، فلو قدرنا أنها غسلت ثلاثًا أولًا، ثم غسلت اليمنى، فهل يستحب أن تغسل اليسرى ليحصل الترتيب في الوضوء؟ الأقرب لا؛ لأنه دار الأمرُ بين فعل المستحب والوقوع في المكروه ¬

_ (¬1) في الأصل "تقدم"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "كقوله".

الحادية والأربعون

أو الممنوع، ودرءُ مفسدةِ المكروه أهمُّ من تحصيل مصلحة المستحب. ويؤيد هذا كراهتُهم الوضوءَ المجدَّد (¬1) قبل الصلاة بالوضوء الأول، أو أداء عبادة تتوقف على الوضوء. الحادية والأربعون: وضع الإناء الواسع على اليمين في الوضوء، مذكور عند المالكية (¬2)، فإن كان المقصودُ به التيسيرَ في الفعل والتمكنَ فيه، فهذا إرشاد إلى أمر دنيويٍّ، وإن كان المقصودُ أنه مندوبٌ يتعلق (¬3) به الاستحباب الشرعي، فهذا يحتاج إلى دليل، ولا يكاد يتأتَّى منه إلا العموماتُ البعيدةُ (¬4) التناول، ومثلها لا يقوى، والله أعلم. الثانية والأربعون: قد حكينا عن غيرنا في شرف اليمين: أنه ¬

_ (¬1) في الأصل "المجرَّد"، والمثبت من "ت". (¬2) نص ابن يونس وابن رشد على أن جعل الإناء على اليمين من فضائل الوضوء. قال القرافي: لفعله عليه الصلاة والسلام، ولأنه أمكن. قال: واعلم أن هذه الأمكنية إنما تتصور في الأقداح وما تدخل الأيدي فيه، وأما الأباريق فالتمكن إنما يحصل بجعله على اليسار؛ ليسكب بيساره على يمينه، انتهى. قال عياض: الاختيار فيما ضاق عند إدخال اليد فيه وضعه على اليسار، ونقله ابن عرفة وغيره. ونبه الحطاب أن قول ابن بشير أن الصحيح أن وضع الإناء على اليمين لا يلحق بدرجة الفضائل؛ لأنه لم يرد أمر بذلك، وقد لا يتيسر ذلك في كل الأواني، انتهى. قال: وهذا والله أعلم على سبيل البحث منه، وإلا فقد عده هو في فضائل الوضوء ومستحباته في كتاب "التنبيه" و"التحرير" له، والله أعلم. انظر: "مواهب الجليل" (1/ 259). وانظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 288 - 289). (¬3) في الأصل "معلق"، والمثبت من "ت". (¬4) في الأصل "المتعدة"، والتصويب من "ت".

الثالثة والأربعون

أورد فيه قوله تعالى {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27] {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم: 52] ومن هذا القبيل: إعطاء أهل السعادة كتبهم بأيمانهم؛ [و] (¬1) منه: "المقْسِطُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَلَى يَمِيْنِ الرَّحْمَنِ، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِيْنٌ" (¬2)، وهذا عندي في باب شرف اليمينِ أقوى مما تقدم؛ لامتناع الحقيقة (¬3)، فيقوى القصدُ بالكلام إلى شرف اليمين، فتأمله. الثالثة والأربعون: قد قدمنا في الإعراب احتمالَ أن يكون قولنا: "يُحِبَّ التيمُّنَ ما اسْتَطَاعَ في طُهُورِه وَتَنَعُّلهِ وتَرَجُّلهِ" من البدل بإعادة العامل، وأن يكونَ من حذف حرف العطف من الجمل. وعلى مقتضى الإعراب الأول، لا يقتضي اللفظ العموم في الجميع، بل في الطهور، والتنعل، والترجل، وعلى الإعراب الثاني تكون إعادة هذه الأمور مع اقتضاء اللفظ السابق للعموم من باب التخصيص بالذكر بعد تناول العموم لمعنى فيه من تعظيم أو تحقير، ولا تنتفي الدلالة على العموم على هذا التقديرِ، وتظهرُ الفائدة في إعادة التنعل والترجل؛ ليكون من باب الترقِّي، والله أعلم. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه مسلم (1827)، كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬3) قال الخطابي: وليس اليد عندنا الجارحة، إنما هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت، ولا نكيفها، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، انتهى. نقله الحافظ في "الفتح" (13/ 417).

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر وعن المغيرةِ بنِ شعبةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى العِمَامَةِ، والخُفَّيْنِ. رواه مسلم من جهة ابن المغيرة، عن أبيه (¬1). الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف: فنقول: قال أبو عمر: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود ابن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس، ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه مسلم (274/ 83)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة، وأبو داود (150)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، والنسائي (107)، كتاب: الطهارة، باب المسح على الخفين مع الناصية، والترمذي (100)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المسح على العمامة، من حديث بكر بن عبد الله المزني، عن الحسن، عن ابن المغيرة ابن شعبة، عن أبيه. وسيأتي تخريج طرقه الأخرى في الوجه الثاني من هذا الحديث.

وهو ثقيف الثقفي، يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا عيسى. أمُّه امرأة من بني نصر بن معاوية. أسلم عامَ الخندق، وقدِم مهاجرًا، وقيل: أول مَشَاهِدِه الحديبية. روى زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه قال لابنه عبد الرحمن - وكان قد اكتنى أبا عيسى -: وما أبو عيسى فقال: اكتنى بها المغيرة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر - رضي الله عنه - للمغيرة: أما يكفيك أن تكنى بأبي عبد الله، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنَّاني، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غُفِرَ ما تقدمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّر، فلم يزل يكنى بأبي عبد الله حتى هَلَك (¬1). وكان المغيرة رجلًا طُوالًا، داهية، أعورَ، أصيبت عينه يوم اليرموك. وتوفي سنة خمسين من الهجرة بالكوفة، ووقف على قبره مسقلة ابن هبيرة الشيباني فقال [من الخفيف]: إنَّ تحتَ الأحجارِ حَزْمًا وجُودًا ... وخَصِيمًا ألدَّ ذا مِغْلاقِ حيةً في الوِجار أربدَ لا يَنْـ ... ـفعُ السليمَ منه نَفْثُ الرَّاقي ثم قال: أما والله لقد كنتَ شديدَ العداوة لمن عاديتَ، شديدَ الأخوة لمن آخيتَ. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4963)، كتاب: الأدب، باب: فيمن يتكنى بأبي عيسى.

وروى مجالد، عن الشعبي قال: دُهاةُ العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد؛ فأما معاوية فللأناة والحِلم، وأما عمرو بن العاص فللمُعْضِلات، وأما المغيرة فللمبادَهة، وأما زيادٌ فللصغير والكبير (¬1). وحكى الرِّياشي عن الأصمعي قال: كان معاوية يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم. قال أبو عمر: يقولون: إنَّ قيسَ بن سعد بن عبادة لم يكن في الدهاء بدون هؤلاء، مع كرمٍ كان فيه وفضل. قال: حدثنا سعيد بن مسور (¬2)، ثنا عبد الله بن محمد بن علي، ثنا محمد بن قاسم، ثنا ابن وضاح، ثنا سحنون، عن ابن نافع قال: أحصن المغيرة بن شعبة ثلاث مئة امرأة في الإسلام. قال ابن وضاح: غير ابن نافع يقول: ألف امرأة. قال أبو عمر: ولما شُهِدَ على المغيرة عند عمر، عزله عن البصرة وولَّاه الكوفة، فلم يزل عليها حتى قُتِلَ عمر، فأقرَّه عثمان، ثم عزله عثمان، فلم يزل كذلك إلى أن قُتل. واعتزل صِفِّين، فلما كان حين الحكمين لَحِقَ بمعاوية، فلمَّا قُتِلَ علي وصالَحَ معاويةُ الحسنَ ودخل الكوفة ولَّاه عليها. ¬

_ (¬1) رواه ابن عسكر في "تاريخ دمشق" (19/ 182) من طريق ابن أبي خيثمة، به. (¬2) في الأصل و "ت": "سعيد"، والمثبت من "الاستيعاب".

وتوفي سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين بالكوفة أميرًا عليها لمعاوية. واستخلَف عليها عند موته ابنه عروة، وقيل: بل استخلَف جريرًا، فولّى معاوية حينئذ الكوفة زيادًا [مع] البصرة، وجمع له العراقَين، وتوفي المغيرة بن شعبة في الكوفة في داره بها، في التاريخ المذكور (¬1). وأما ابن المغيرة فإنه مُبْهم في هذه الرواية، وللمغيرة ولد اسمه عروة وآخر اسمه حمزة، كلاهما يروي عنه المسح على الخفين، وهذا الجمع بين المسح بالناصية (¬2)، وعلى العمامة، وعلى الخفين مرويٌّ من طريق حمزة بن المغيرة، عن أبيه مطولًا ومختصرًا. رواه عنه بكر بن عبد الله المزني مطولًا من رواية حميد، عن بكر (¬3). ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 285)، "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 216)، "الثقات" لابن حبان (3/ 372)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1445)، "تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 191)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (60/ 13)، "أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 238)، "تهذيب الكمال" للمزي (28/ 369)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 21)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (6/ 197)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (10/ 234). (¬2) في الأصل: "والناصية"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه مسلم (274/ 81)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة.

الوجه الثاني: في تصحيحه

ورواه سليمان التيمي، عن بكر بن عبد الله، عن ابن المغيرة هكذا مبهما نحوه (¬1). * * * * الوجه الثاني: في تصحيحه: وقد ذكرنا أن مسلمًا أخرجه، وروايته له من طريق ابن شهاب، عن حمزة (¬2)، ومن طريق التيمي، عن بكر بن عبد الله، وذكر الطرْطيُّ في "اللوامع" حديث حمزة عن أبيه، أنه أخرجه أبو عبد الرحمن عن عمرو بن علي، وحُميد بن مَسْعدة، عن يزيد بن زُرَيع، عن حُميد، عن بكر المزني، عن حمزة، قال: وأظنه وهِم فيه؛ فإن مسلمًا أخرج بهذا الإسناد عن عروة بن المغيرة. قال: وقد تقدم في ترجمة عروة. قلت: الظن قد يُخطِئ ويُصيب، وقد خرَّج أبو عوانة في "مسنده" من حديث مسدَّد، عن يزيد بن زُريع، عن حُميد، عن بكر بن عبد الله المزني، عن حمزة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه مطوَّلًا، وفيه: "وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ، وَعَلَى العِمَامَة مِنْهُمَا" هكذا مختصرًا أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين ومسح مقدَّم رأسه، ووضع يده على العمامة، أو مسح على العمامة (¬3). ¬

_ (¬1) كما تقدم في تخريج الحديث. وقد جاء على هامش "ت": هنا في الأصل بياض نحو ثلاثة أسطر بعد قوله: "نحوه"، فلينظر. (¬2) رواه مسلم (274)، (1/ 318)، كتاب: الصلاة، باب: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام. (¬3) انظر: "مسند أبي عوانة" (1/ 259).

الوجه الثالث

وأما رواية مسلم بهذا الإسناد من جهة عروةَ بن المغيرةِ، فهذا لا يقتضي الوهم على الطريقة الفقهية؛ لإمكان أن الولدين معًا روياه عن أبيهما. وأخرجه أيضًا النسائي، من حديث سفيان بن عيينة، عن إسماعيل ابن محمد بن سعد، عن حمزة بن المغيرة (¬1). وأخرجه أيضًا الترمذي، وأبو داود (¬2). * * * * الوجه الثالث: (الناصية): مقدَّم الرأس، الناصيةُ واحدة النواصي، ونَصَوتهُ: قَبَضْتُ على ناصيته. قالت عائشة رضي الله عنها: ما لكم تَنْصُوْن ميِّتَكم (¬3)، أي: تمدُّون ناصيتَه، كأنها كرِهَت تسريحَ الميت، والناصاة: ¬

_ (¬1) رواه النسائي (125)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين في السفر. (¬2) أما رواية أبي داود، فقد تقدم تخريجها عنده برقم (150) من طريق بكر بن عبد الله المزني، عن الحسن، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، به. ورواه (149)، من طريق يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عباد بن زياد، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه، به. ورواه (151)، من طريق الشعبي، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه. وأما رواية الترمذي، فقد تقدم تخريجها عنده برقم (100) من طريق بكر ابن عبد الله المزني، به. * تنبيه: جاء على هامش "ت": "بياض نحو خمسة أسطر من الأصل". ولم يشر إليه في "م". (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (6232).

الوجه الرابع: في شيء من العربية، وفيه مسألتان

الناصية بلغة (¬1) طيء. وقال (¬2) [من الطويل]: لقد آذَنَتْ أهلَ اليمامة طيِّئٌ ... بحربٍ كَناصاةِ الحصانِ المُشَهَّرِ (¬3) قلتُ: ومن مجاز هذا نواصي القوم بمعنى أشرافهم (¬4). * * * * الوجه الرابع: في شيء من العربية، وفيه مسألتان: الأولى: [قد] (¬5) قدمنا في حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في قوله: "فَتَوَضأَ، فَغَسَلَ كَفيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ" إلى آخره، وما قيل فيه من جعل "الفاء" في معنى التفسير، وما يتبع ذلك، ومثلُه يعود هاهنا. الثانية: (الواو) تقتضي الجمعَ لا الاجتماعَ، وقد نُقِلَ عن بعضهم: أنها تقتضيه أيضًا، وقد غُلِّط ونسُبَ إلى الزَّلل، وقد قدمنا أيضًا: أن الجمع ينطلق عليه في الأخبار، وعليه في المُخْبَرِ عنه، وستأتي فائدةُ ذلك إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لغة"، والمثبت من "ت". (¬2) هو حُريث بن عتاب الطائي، كما ذكر ابن منظور في "لسان العرب" (15/ 327). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2510)، (مادة: ن ص ا). (¬4) جاء على هامش "ت": "بياض نحو سطر من الأصل". (¬5) زيادة من "ت".

الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

* الوجه الخامس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: اختلف الفقهاء في القدر الكافي في مسح الرأس، وفيه مذاهب: الأول: أنه لا يكفي فيه إلا مسحُ جميعهِ، وهو مذهبُ مالك رحمه الله (¬1). والثاني: أنه يكفي مسحُ الناصية، وهو مذهب أشهب من المالكية، ورواية عن أبي حنيفة، وروي عنه: قدر ثلاثة أصابع (¬2). والثالث: أنه يكفي مسحُ الثلثين، وهو قول ابن مسلمة من المالكية. والرابع: إن اقتَصَر على مسح الثلث أجزأه، وهو قول أبي الفرج من المالكي، قال بعض أكابرهم: وهذا ليس بشيء. والخامس: أنه يُجزِئ ما انطلق عليه اسمُ المسح، وهو مذهب الشافعي رحمه الله. والسادس (¬3): أنه لا يكفي أقلُّ من ثلاث شعرات، وهو قول بعض الشافعية (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 259). (¬2) انظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 13). (¬3) "ت": "والثالث". (¬4) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 17). قلت: ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (2/ 60) في مسح الرأس أحد عشر قولًا، فقال: =

وإنما ترجمنا المسألةَ بالاختلاف في القدر الكافي، ولم نترجمها بالاختلاف في المقدار (¬1) الواجب؛ لأنهما غيرُ متلازِمَين على طريقة المالكية، أعني: أنه لا يلزم من القول بوجوب مقدار المسح، أو مقداره عدم الاكتفاء بما دونه، وإن كان هو القياس؛ لمعارضة قاعدة ¬

_ = الأول: أنه إن مسح منه شعرة واحدة أجزأه. الثاني: ثلاث شعرات. الثالث: ما يقع عليه الاسم. ذكر هذه الأقوال الثلاثة فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس عن الشافعي. الرابع: قال أبو حنيفة: يمسح الناصية. الخامس: قال أبو حنيفة: إن الفرض أن يمسح الربع. السادس: قال أيضًا في روايته الثالثة: لا يجزيه إلا أن يمسح الناصية بثلاث أصابع أو أربع. السابع: يمسح الجميع، قاله مالك. الثامن: إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه، أملاه عليَّ الفهري. التاسع: قال محمد بن مسلمة: إن ترك الثلث أجزأه. العاشر: قال أبو الفرج: إن مسح ثلثه أجزأه. الحادي عشر: قال أشهب: إن مسح مقدمه أجزأه. قال: فهذه أحد عشر قولًا، ومنزلة الرأس في الأحكام منزلته في الأبدان، وهو عظيم الخطر فيهما جميعًا، ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسنة. وقال القاضي في "العارضة" (1/ 51): وجملتها ترجع إلى قولين؛ أحدهما: هل يلزم جميعه أو بعضه. (¬1) "ت": "القدر".

الثانية

الاستحسان ومراعاة الخلاف، والمسامحة في ترك بعض ما وقع وتَمَّ، وهذا الآخر ضعيفٌ، وقد تشتبه هذه المسامحةُ بعدم نقض حكم القاضي بعد وقوعه، وهو تشبيه ضعيف أيضًا. الثانية: أما من قال بوجوب الاستيعاب وعدم الاكتفاء بما دونه؛ فهو ظاهر الكتاب العزيز، واستدل على ذلك بوجوه: أحدها: أن الحكم المعلَّق باسمٍ يقتضي تعليقَه بجملته؛ كأكلْتُ الرغيف، وغسلتُ اليد، وكأن هذا الذي اعتمده مالك رحمه الله، فإنه روي: أنه سئل عمَّن مسح مقدَّم رأسه هل يُجزِئه؟ فقال: لا، أرأيت لو غسل بعض وجهه؟! (¬1) وثانيها: صحة الاستثناء بأن يقال: امسح برأسك، أو امسح رأسك إلا بعضه، والاستثناء يُخرِج من الكلام ما لولاه لدخل. وثالثها: التأكيد بما يدل على الجملة؛ كامسحْ برأسك كلِّه أو بجملته (¬2). والذي يُعتَرَضُ به على هذا ما ادُّعي من كون (¬3) الباء للتبعيض، وقد أنكره ابن جِنِّي وقال: كون الباء للتبعيض شيء لا يعرفه أهل اللغة. وربما اسْتُدِل ببعض ما ذكرناه على أن الباء ليست للتبعيض، للتأكيد بـ "كل"، للزوم التناقض على هذا التقدير. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير في "تفسيره" (6/ 125) من طريق أشهب، عن مالك. (¬2) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 259). (¬3) "ت": "أن" بدل "من كون".

وأما القائلون بإجزاء الناصية، فمُعتَمَدُهم هذا الحديث، وهو ظاهر فيه، وَيعتَذِر من أوجب الجميع عن الاستدلال به، بحَمْلِهِ على الضرورة الداعية إليه. والقضية قضية حال لا عموم فيها، ولا تقع إلا على وجه واحد، قال بعضُهم: فيجوز أن يكون عن تحديد أو عذر، وإذا احتمل ذلك لم يكفِ في الاحتجاج مجرَّدُ الفعل دون نقل الوجه الذي عليه وقع، وربما يقال: لو كان هناك عذر لنقل. فأجاب بعض الأولين عنه بأمرين: أحدهما: أنه لا يلزم الراوي نقلُ كلِّ أمر يعلمه بما يتعلق (¬1) بالفعل، كما لا يلزمه نقلُ صفات الآنية التي توضأ فيها، والمجلس الذي كان فيه، والوقت والصلاة التي توضأ لها وغير ذلك. وهذا ضعيف؛ لأن ما ذكره في عدده لا يتعلق به شيء من الحكم الذي يحتاج إليه في حقيقة الطهارة الرافعة للحدث، بخلاف هذا (¬2)؛ فإنه يتعلق به الاكتفاء بالبعض ظاهرًا. قال من حكينا عنه: والثاني: أنَّ الراويَ قد لا يعلم العلَّة، فلا يلزمه نقلُ ما لا يعلمه، وعدمُ علمِه به لا يُخْرِجُه عن الاحتمال. فيقول له الخصم: واحتماله أيضًا لا يُزِيلُ عدمَ الظهور، ولا الأصلَ، ولا شك أن الأصلَ عدمُ الضرورة. ¬

_ (¬1) "ت": "بما لا يتعلق". (¬2) "ت": "بخلافٍ لهذا".

وأما من قال بإجزاء الثلثين، فإن كان من طريق سَحْبِ الحكم (¬1) في الأكثر على الأقل، فلا شك أنه مخالفٌ للقياس، وظاهرِ النص، لا سيما إذا سُلِّم أن الأصلَ هو وجوبُ الكل، فلا يبقى لهذا القول إلا التمسكُ بالاستحسان، أو بقاعدة مضطربة، فإنه لا يقوم الأكثرُ مقامَ الأقل في كل مكان، ونظائر ذلك كثيرة لا تحصى، فإن ادَّعى أن هذا من قبيل ما يُكْتَفَى به بالأكثر، فعليه البيان، فالمذهب ضعيف. وكذلك من قال: يُكتفى بالثلث، والذي سمع في تعليله: أنه كثير بالحديث الذي فيه "والثلث كثير" (¬2) وهذا أولًا: يخرجه سياقُ الحديث عن العموم في هذا المحل، والعمومُ يتخصَّص بالقرائن، وأقواها السياقُ، ثم يَضْعُف بكثرة التخصيصات في كثرةِ الثلث، وبناءُ الحكم على ذلك بما لا يُحصَى من الصور، ثم يضعف ثالثًا بأنه يحتاج إلى مقدمتين: إحداهما: أنَّ الثلث كثير. والثانية: أنَّ الكثير يُكْتَفَى به في مسح الرأس، فينتج أن الثلث يُكْتَفَى به في مسح الرأس، والثانيةُ ممنوعةٌ لا دليلَ عليها، فيطالب بإثباتها، فإنه لا نصَّ يدلُّ عليها، ولا لفظَ يرشد إليها، فالمذهب واهٍ، لا سيما وقد اضطرب مذهب مالك وأصحابه في آحاد الصور، ففي بعضها منع الثلث إلحاقًا له بالكثير، وفي بعضها لا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يجب الحكم"، والمثبت من "ت". (¬2) تقدم تخريجه.

وأما من قال بالاكتفاء بأقلَّ ما ينطلق عليه المسح، فالمذكور في تقديره وجهان: أحدهما: ما يتعلق بالباء، وكونِها للتبعيض وهو شيء غير معروف عند المتقدِّمين من أهل العربية واللغة، وقد حكينا حكاية قول ابن جني، وعن أبي بكر عبد العزيز الفقيه أنه قال: سألت ابن دُرَيدٍ وابنَ عرفةَ وابن دَرَسْتويه عن "الباء" هل تبعَّض؟ فقالوا: لا نعرف ذلك في اللغة. قال الحافظ الفقيه أبو عمرو ابن الصلاح - رحمه الله - فيما نسب إليه، فنقول: هو لا عاضَد، نكير ابن جِنيِّ على من ينحِّلها التبعيض، وموهنٌ قولَ من قال من أصحابنا في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] إن الباء للتبعيض فيه. وقاله بعض رؤساء النحويين في عصرنا (¬1). والثاني: أن الاسم ينطلق عليه، وانطلاقُ الاسم، وحصولُ المسمى المأمورِ به، يكفي في الخروج عن العهدة، وقد تورَّعوا في هذا، وادُّعي أن إطلاقَ المسح بالرأس لا يُفْهَم منه إلا المسحُ لجميعِهِ دون الاقتصار على بعضه. ولقائل أن يقول في تقدير هذا: مُجرَّدُ حصولِ المسمى، واللفظ الدال على المطلق يكفي في الاكتفاء والإجزاء، إلا إذا كان الحكم معلقًا بالمسمى، أما إذا كان معلَّقًا بمقيَّد، فإنه يحصل فيه المسمى ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "بياض نحو أربعة أسطر من الأصل".

واللفظ الدال على المطلق، أعني: بفعله؛ لأنَّ المطلق في ضمن المقيد، ولا يُكْتَفَى في حصول الإجزاء به؛ لأنه يبطل ما تعلق به الأمر من القيد. بيانه: أنه إذا تعلق الأمر والخبر بمقيد، فإنه بفعل ذلك المقيد يحصل المسمّى، ولا يحصل الامتثال به ولا المقصود من الإخبار، فإنَّه إذا قيل: أعتق رقبة مؤمنة، فإذا أعتقها صدق المطلق، وهو أنَّه أعتق رقبة، وصِدقُ هذا المطلق لا يكفي في حصول الامتثالِ، وكذلك إذا قيل: فلان سارق المئة، فالمسمّى حاصلٌ، وهو كونه سارقاً، ولا يحصل المقصود من الخبر بكونه سرق المئة. إذا ثبت هذا، فيقال لمن قال: إن المسمَّى حاصلٌ فيحصل الاكتفاء به؛ إما أن يُدَّعى أن الحكم متعلقٌ بالمسمَّى حتى يلزم الاكتفاء بمجرد حصول المسمَّى من المسح، أو يدعي أنه معلق بمقيد، فيحصل الاكتفاء بالمسمَّى؛ فإن ادَّعيتَ الأول فهو ممنوع؛ لأن المأمور به المسح المضاف إلى الرأس، وإن ادَّعيتَ الثاني فلا يلزم حصولُ الاكتفاء والإجزاء بحصول المسمَّى، كما ذكرناه. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن تكون الباءُ ظرفية، ويبقى الأمرُ بالمسح مطلقاً، فيُكْتَفَى بحصول المسمَّى؟ قلنا: لو كان كذلك لكان المأمورُ بمسحه محذوفاً، والظرفية لِذلك المسح لا تقتضي تعلُّقَ المسح بالرأس، فلا يكون في الآية حينئذ دليل على الأمر بمسح الرأس؛ لأنَّ الظرفية لا تقتضي المباشرة

المطلوبة في المسح التي (¬1) يتوقَّف الإجْزاء عليها، كما إذا قلنا: زيد بالبصرة وأمثاله، وذلك باطل بالاتفاقِ، وخلاف ما أجمع الناس من دلالة الآية وتعلُّق الأمر فيها بمسح الرأس (¬2). وأما من قال بتوقُّف (¬3) الإجزاء على ثلاث شعرات، فإنَّه عوَّل على صيغة الجمع في {رؤوسكم}، ويخرج ذلك من قول من قال: لا يُجزِئ في حلق الرأس في الحج أقل من ثلاث شعرات لأجل الجمع، فإن كان معوَّلُه على صيغة الجمع في موضعين، فهو ضعيف جدًا، فإن الخطاب للجمع معلَّق بصيغة الجمع في الرأس، و [في] (¬4) مثل هذا لا تُعتبر صيغة الجمع في المتعلق، كما لو قيل: ركب الناس دوابهم، ونظائره، وأقل ما في هذا أنه يجعل اسم الرؤوس انطلق على الشعور، وهو مجاز بعيد. كمان أراد به [أن] يقيسَ هذا الحكمَ على ذلك بما يحكم بقياس شبهي، فإن أخذ الأصل مسلَّمًا، فقد يمكن ذلك، بشرط أن لا يكون معتمدًا لأصل صيغة الجمع المتعلقة بحلقِ الرأس، فإنَّه إن كان هو المعتمدُ في الأصل - وهو فاسد -، فهو قياس على فاسد، على أنه يكون في الأصل أقربَ من هذا النوع؛ لإشعار لفظ الحَلْقِ بالشعر ¬

_ (¬1) "ت": "الذي". (¬2) جاء على هامش "ت": "بياض نحو سبعة أسطر من الأصل". (¬3) في الأصل: "بتوقيف"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت".

الثالثة

بخلاف المسح، وإن لم يكن هو المعتمد في الأصل، فهو قياس شَبَهِيٌّ ضعيف دون ضعفِ الاستناد إلى صيغة الجمع، والتعلق المنصوصُ أولى. الثالثة: الذين قالوا: إن الباء للتبعيض؛ من قولهم الفرق بين الفعل المتعدي بنفسه أو (¬1) المتعدي بحرف الجر، وقالوا: إن المتعدي بنفسه تكون الباء فيه للتبعيض؛ لأنها لو لم تكن كذلك لكانت زائدة، والأصل عدم الزيادة في الكلام. ويُعتَرض عليهم بوجهين: أحدهما: منع الملازمة بين عدم كونها للتبعيض وكونها زائدة، وهذا فيه أمران: أحدهما: ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي وهو: كونها تفيد فائدة الدلالة على ممسوح به، وجَعل الأصل فيه امسحوا برؤوسكم الماء، فيكون من باب المقلوب، أي: امسحوا بالماء رؤوسكم؛ وأنشد - الاستشهاد للقلب -[من الكامل]: كَنَواحِ رِيشِ حَمامةٍ نَجديَّةٍ ... ومَسَحت باللِثْتينِ عَصفَ الإِثْمِدِ (¬2) هذا معنى ما ذكر (¬3). ¬

_ (¬1) "ت": "و". (¬2) البيت لخفاف بن ندبة، كما في "ديوانه" (ص: 106). (¬3) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 64).

الرابعة

الأمر الثاني: ما ذكره بعض المتأخرين من المالكية (¬1). وثانيهما: أن يقال: إذا سلَّمنا أن الأصلَ عدمُ الزيادة فنقول: الأصلُ متروكٌ إذا دلَّ الدليل على تركه، وقد دلَّ، وهو عدمُ ثبوت كون الباء للتبعيض في لغة العرب ثبوتاً يرجع إليه من قول مَنْ يجبُ الرجوع إلى قوله من أهل هذا الشأن، والاعتمادُ في مثل هذا إنما هو على أقوال المتقدمين المبالغين في الاستقصاء مبالغةً توجب الرجوعَ إلى قولهم. وأيضًا فالزيادةُ في الحروف قد كثرت كثرةً في لسان العرب لا تُحصى، فالمنع من حملها عليها اعتمادًا على الأصل لا يقوى. وأيضًا فطريقُ إثباتِ اللغة النقلُ (¬2). الرابعة: أجاز أحمدُ المسحَ على العمامة، وذكر أصحابه خلافاً في أن المسح عليها مؤقت؛ كالمسح على الخفين، أو لا؟ وفي أنَّه هل يشترط أن تكون محنَّكة؟ (¬3) ووافق الظاهري على جواز المسح عليها أيضًا. فظاهر الكتاب العزيز يأبى الجوازَ بتعلُّق المسح بالرأس، فلا يخرج عن العُهدة بالمسح على غيره، وهم يستدلون بالأحاديث الدالة على مسح النبي - صلى الله عليه وسلم - على العمامة، وهذه الأحاديث على قسمين: ¬

_ (¬1) كذا في النسختين الأصل و "ت"، وكأن فيه سقطاً. لم ينبه إليه في كلا النسختين. (¬2) جاء على هامش "ت": "بياض نحو خمسة أسطر في الأصل". (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 185).

أحدهما: ما قُرن به المسح على الناصية. والثاني: ما لم يقرنْ به ذلك؛ كالذي روي: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ والخِمارِ (¬1)، وهو صحيح، وكالذي روي من أَمرِه - صلى الله عليه وسلم - في المسح على العصائب والتساخين (¬2)، وفُسِّرت العصائبُ بالعمائم، وهذا الحديث الذي نحن فيه مما قرِنَ فيه المسح على العمائم بالمسح على الناصية ذكرًا، فإذا استُدِلَّ به على جواز المسح على العمامة، اعتُرِضَ عليه من جهة من يرى عدم وجوب تعميم الرأس بالمسح، بأنّه قد تأدَّى الفرض فلا يبقى دليلًا على جواز المسح على العمامة، حيث لم يتأدَّ الفرض، وهذا يعود إلى ما قلناه في غير هذا الموضع من الفرق بين الجمع في الخبر، والخبر عن الجمع، وهذا الاعتراض يتَّجه إذا كان إخبارًا عن الجمع، وهو الظاهر من الحديث، وأقلُّ درجات هذا أن يكون جائزًا، أعني: كونه إخبارًا عن الجمع، الدليل المجيزُ المسحَ على العمامة مطلقاً إذا كان جمعاً في الخبر، وهو ممنوع، فلا يتَّجه الاستدلال بهذا الحديث على مَنْ يرى عدم وجوب التعميم. وأما من يرى وجوب التعميم فطريقُهم فيه احتمالُ حملِهِ على ¬

_ (¬1) رواه مسلم (275)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الناصية والعمامة، من حديث بلال - رضي الله عنه -. (¬2) رواه أبو داود (146)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على العمامة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 277)، وغيرهما من حديث ثوبان - رضي الله عنه -، وإسناده ضعيف؛ لانقطاعه، كما ذكر الحافظ في "الدراية" (1/ 72).

العُذر، وقد قدمنا ما فيه وأن الأصلَ عدمُه. وأما الأحاديث المطلقة فيمكن أن تُخصَّ بحالة الضرورة، أو يُحمل إطلاق الإخبار على الفعل على صورة الجمع في المخبَرِ عنه، وقد بيَّنا أنَّه لا يقوم على جواز المسح على العِمامة مطلقاً من الحديث الذي جمع فيه بين المسح على الناصية وبين المسح على العمامة، فإذا حُملت الرواية المطلقة على [صورة] (¬1) الجمع في المخبر عنه لم يبقَ دليل على جواز المسح مطلقاً، إلا أنه خلاف ظاهر الإطلاق، ويتطرق أيضًا في الأحاديث المطلقة احتمالُ العذر والضرورةِ، وهذه الاحتمالات وإن كانت على خلاف ظاهر الإطلاق فقد يرجح التأويل بها (¬2)، بالتمسُّك بظاهر القرآن، وهو تمسُّك بلفظ يقتضي وجوبَ مباشرةِ الرأس بالمسح، وليس من باب الفعل الذي يتطرَّق إليه الاحتمالُ لعدم عمومه، نعم الحديث الذي فيه: فأَمَرَهُمْ بِالمَسْحِ عَلَى العَصائِبِ والتساخِيْن (¬3)، أقوى؛ لأنه قولٌ، لا حكايةُ حالٍ، واحتمالُ التخصيص أيضًا متطرقٌ إليه؛ لأنه حكم تعلَّق بمخصوصَيْن، مطلقٌ في أحوالهم، فجا [ز] (¬4) أن يكونوا من أولي الضرورة (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "بهما"، والمثبت من "ت". (¬3) تقدم تخريجه قريباً. (¬4) سقط من "ت". (¬5) في الأصل: "الصورة"، والتصويب من "ت"، وجاء على هامش "ت": "بياض نحو سبعة أسطر من الأصل".

الخامسة

الخامسة: الشافعية يكتفون بمسح بعض الرأس، قال بعض مصنفيهم: ولو عَسُر عليه تَنْحِيَةُ ما على رأسه من عمامة، وغيرها ومسح من الرأس قَدرَ ما يجب، كمل ما يمسح على العمامة بدلًا من [الاستيعاب، و] (¬1) تشبهاً به، قال: والأَوْلى أن يمسح من الرأس الناصية، مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناصيته وعلى عمامته (¬2). ولقائل أن يقول: إذا تعلَّق الحكمُ بالاستيعاب، فهو بالنسبة إلى الوجوب والاستحباب على حدّ سواء، فلا يتأدَّى الاستحبابُ إلا بما يتأدَّى به الوجوبُ؛ لأنَّ الذي عُلِّق عليه الحكمُ منتفٍ في الاستحباب والوجوب معاً، وهو مسح كل الرأس، فإن خُصَّ هذا الحكم - أعني: المسح على العمامة - بحال العسر، فهو تخصيصٌ لا دليل عليه من إطلاق الخبر، ولا يتمُّ التخصيص به بالعسر إلا بدليل، وإن أُخذ مطلقُ الاحتمال فقد قيل مثلُه فيْ رُتبَةِ الوجوب، إذ الاحتمالُ موجود فيه. السادسة: وإذا احتيج إلى التكميل بالمسح على العمامة، فهل يترجَّح استيعابُ المسح على الناصية على مطلق الاكتفاء بمسح بعض الرأس؟ الذي نقلناه آنفًا عن هذا المصنِّف الشافعيّ ربما (¬3) يُفهم منه ¬

_ (¬1) زيادة من "فتح العزيز" للرافعي، وقد أشير في النسختين "م" و "ت" إلى نقص بمقدار ما أثبت. (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 426). (¬3) في الأصل و "ت": "وبما"، ولعل الصواب ما أثبت.

السابعة

ذلك، والاستدلالُ عليه بالحديث ظاهر إذا قيل به، والله أعلم. السابعة: إذا لم يَرَوا استيعابَ مسح الرأس، ولا المسحَ على العمامة لعدم العسر في نزعها، فهل يُقال باستحباب المسح على الناصية دون الاقتصار على أقلَّ منها؟ لا يبعد ذلك، والدليل من الحديث عليه ظاهر، لكن بعد أن يُجرد عدم إرادة [المسح] (¬1) على العمامة وعسرها عن الاعتبار، وأما إذا لم يُجرد؛ ففيه نظر، وربما يقال: إنه أقرب إلى كمال الاستحباب، فيكون بعضَ المطلوب، لكنه لا يدل على تعليق الحكم بخصوص الناصية؛ لاشتراك ما فوقَها معها في هذا المعنى. الثامنة: إنْ رجح الدليل على جواز المسح على العمامة، فاشتراطُ التوقيت لا يقوى؛ لدلالة الإطلاق على الجواز، ولاحتياج التوقيت إلى دليلِ القياس على المسح على الخفين، وهو ضعيف، وعند الطبراني من حديث مروانَ أبي سلمة، عن شَهْر بن حَوْشب، عن أبي أمامة: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَمْسَحُ عَلَى الخُفَّيْنِ والعِمامَةِ ثلاثًا في السَّفَرِ، وَيوماً وَلَيْلَةً في الحَضَرِ (¬2). وعن مهنَّا: أنَّه سأل أحمد عن حديث مروان أبي سلمة، عن ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (7558). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 260): فيه مروان أبو سلمة، قال الذهبي: مجهول. وغمزه ابن قدامة في "المغني" (1/ 186) من جهة شهر بن حوشب.

التاسعة

شهرَ بن حوشب، عن أبي أمامةَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَمْسَحُ المسافِرُ عَلَى الخُفَّيْنِ والخِمارِ ثَلاثَةَ أَيّامِ وَلَيالِيَهُنَّ، والمقِيْمُ يَوماً وَلَيْلَة". قال أحمد: ليس بصحيح. فإذا لم يكن صحيحاً لم يُستند إليه، ويمكن أن يكون القائل به إن لم يستند إلى هذا الحديث استندَ إلى القياس. التاسعة: اشتراط تحنيكها لا دليلَ [عليه] في الظاهر، والإطلاق عليه، ويمكن أن يحال على أمرين: - أحدهما: اعتبار المشقة المرخِّصة للخروج عن الأصل الذي هو مسح الرأس؛ إما باعتبار المصلحة المرسلة، أو تقريباً من المسح على الخفين. وثانيهما: اعتبار الفعل العادي في التقييد والتخصيص، فإن عادةَ العرب التحنيكُ، وقد جاء في حديثِ النهيُ عن الاقتعاط، وهو عدم تحنيك العمامة، على ما رُوي وفُسِّر (¬1). العاشرة: فيه جواز المسح على الخفين، وسيأتي في بابه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" (3/ 120). والاقتعاط: أن لا يكون تحت الحنك منها شيء.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر وعندَ الطحاوي من حديث شَهْرِ بن حَوْشَبٍ، عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ أُذُنَيهِ مَعَ الرأْسِ، وَقالَ: "الأُذُنانِ مِنَ الرَّأْسِ" (¬1). وشَهْر قد تقدم. الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف: فنقول: قد تقدم حالُ أبي أمامة، وحال شَهرِ بن حَوْشَب. وإنما ذكرتُ هذه الرواية؛ لتصريحها بمسح الأذنين مع الرأس، وصريحِ دَلالتها على المسح مع الرأس، بخلاف الحديث المتقدم الذي ليس فيه إلا "الأُذُنانِ مِنَ الرأْسِ"، فإنَّه محتملُ: الدلالة لأنْ يكونَ المرادُ بكونهما منه: اشتراكَهما في حكمِ مجرَّدِ المسح، وأنْ يكون المرادُ اشتراكَهما في وجوب المسح، وأن يكون المرادُ مسحَهما مرةً واحدةً، ولما كانت الدلالة محتملةً أُتي بهذا التصريحِ في هذا الحكم. ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 33).

الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

والمالكية - رحمهم الله - قد فرقوا بين كونهما من الرأس، وبين كونهما يُمسحان بماء الرأس، فقالوا: بالأول، ونَفَوا الثاني، فقالوا: إنهما من الرأس، ويُجَدَّدُ الماءُ لهما (¬1)، فإثبات كونهما من الرأس للحديث، وإخراج تجديد الماء لهما عن حكم كونهما من الرأس بالدليل الذي دلَّهم على التجديد، وسيأتي عن قريب (¬2) إن شاء الله تعالى. * * * * الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: أبو حنيفة - رضي الله عنه - يرى مسحهما بماء الرأس على مقتضى هذا الحديث، وله اعتضادٌ بأحاديث أُخَر، منها ما يُصرح بالاجتماع، ومنها ما يظهر منه ذلك، فمن المصرِّح ما ذكره الحافظ أبو عبد الله محمَّد بن إسحاق بن مَنده في كتابه في حديث ابن عباس فيه: "غَرفَةً فَمَسَحَ بِها رَأَسَهُ وأُذُنَيْهِ" (¬3)، ومن المحتمل حديث الرُّبيع بنت معوِّذ قالت: رَأَيْتُ رَسُولَ الله يتَوَضَّأُ، قالَتْ: فَمَسَحَ رَأْسَه ومَسَحَ ما أَقْبَلَ مِنْه وَما أَدبَرَ، وصُدغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً واحِدَةً (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 265). (¬2) في الأصل: "قرب"، والمثبت من "ت". (¬3) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (64)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 55). (¬4) رواه أبو داود (129)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، =

الثانية

وهو عند أبي داود من رواية عبّاد بن منصور وفيها: "وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنيَهِ مَسْحَةً واحِدَةً" (¬1). وهو عند أبي داود أيضًا، وإسنادُهما حسن أو صحيح، فإن يحيى بن معين يوثق عباد بن منصور، وغير واحد يحتجُّ بعبد الله بن محمَّد بن عقيل، وإلى الرجلين يرجع الحديثان (¬2). الثانية: (¬3) ¬

_ = والترمذي (34)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن مسح الرأس مرة، وقال: حسن صحيح. (¬1) رواه أبو داود (133)، كتاب: الطهارة، باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من رواية ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) انظر: "الإمام" للمؤلف (1/ 32). قلت: نَقْلُ المؤلفِ - رحمه الله - توثيقَ ابن معين لعبَّادٍ فيه نظر؛ إذ المنقول عن ابن معين من "رواية الدوري" (4/ 142) عن عباد: إنه ليس بشيء، وكذا نقله ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 86) عن الدوري، وعن أبي بكر بن أبي خثيمة. وروى عن يحيى بن سعيد أنه قال: عباد بن منصور ثقة، ليس ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه، قلت: يعني: القدر، والله أعلم. (¬3) على هامش الأصل: "بياض"، وكذا تُرك بياض قدر ثلث صفحة في "ت".

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر روى البَيْهقي - رحمه الله - من حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -: أَنَّه رأى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ، فأَخَذَ [لأُذُنَيْهِ] (¬1) ماءً خِلافَ الماءِ الذِيْ أَخَذَ لِرَأسِهِ. وقال بعد إخراجه: وهذا إسناد صحيح (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "فأخذ لأحد أذنيه"، والمثبت من "ت"، وكذا "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 65). وجاء في "الإلمام" للمؤلف (ق 7/ أ)، وكذا في المطبوع منه (1/ 72): "فأخذ لصماخيه ماء"، وليست هذه اللفظة موجودة في رواية الحديث، والله أعلم. (¬2) * تخريج الحديث: رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 65)، من حديث الهيثم بن خارجة، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن حبَّان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، به. قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح، وكذلك روى عبد العزيز بن عمران بن مقلاص، وحرملة بن يحيى، عن ابن وهب. ورواه مسلم في "الصحيح" عن هارون بن معروف وهارون بن سعيد الأيلي وأبي الطاهر عن ابن وهب بإسناد صحيح: أنَّه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فذكر وضوءه. قال: ومسح =

[الوجه] الأول: في التعريف

الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف: فنقول: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسرَوجِرْوي، أبو بكر البيهقي، الحافظ، الفقيه، الأصولي، ذو التصانيف العديدة المفيدة؛ ككتاب "السنن الكبرى"، وكتاب "معرفة النبوة" (¬1)، وكتاب "الأدب والأدعية"، وغير ذلك، سمع (¬2). ¬

_ = رأسه بماء غير فضل يديه، ولم يذكر الأذنين، ثم قال البيهقي: وهذا أصح من الذي قبله. ورواه الحاكم في "المستدرك" (538)، وصححه من حديث عبد العزيز ابن عمران بن مقلاص وحرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن حبان بن واسع، عن أبيه، به. قلت: وقد أشار إليه البيهقي في "سننه" (1/ 65) عقب روايته من طريق الهيثم بن خارجة. ورواه الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص: 97 - 98) من حديث أبي الطاهر محمَّد بن أحمد بن أبي عبد الله المديني، عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، به، ثم قال: هذه سنة غريبة تفرد بها أهل مصر ولم يشركهم فيها أحد. (¬1) جاء على هامش "ت": "لعله معرفة السنن" أو دلائل النبوة". (¬2) جاء على هامش "م": "بياض في الأصل"، وفي "ت": "بياض نحو خمسة أسطر من الأصل". قلت: ما بُيِّض له هو في ترجمة الإمام البيهقي، فأقول متمماً كلام المؤلف رحمه لله؛ معتمدًا على مصادر ترجمته: "سمع من أبي الحسن محمَّد بن الحسين العلوي، وهو أقدم شيخ له، ومن الحاكم أبي عبد الله، فأكثر عنه جدًا، وتخرج به، وأبي عبد الرحمن السلمي، وأبي بكر بن فورك المتكلم، وخلق سواهم. =

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجه الثاني: في تصحيحه: وقد ذكرنا أن البيهقي قال: إنه إسنادٌ صحيحٌ، فحصل شرطُنا في ذكره في الكتاب. والبيهقيُّ أخرجه عن أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله الحافظ، عن أبي الحسن أحمد بن محمَّد بن عَبْدوس، عن عثمان بن سعيد الدَّارِمي، عن الهيثم بن خارِجَة، عن عبد الله بن وَهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن حَبّان بن واسع الأنصاري: أن أباه حدَّثه: أنَّه سمع عبد الله بن زيد يذكر: أنَّه رَأَىَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ، فأَخَذَ لأُذُنَيْهِ ماءً خِلافَ الماءِ الذيْ أَخَذَ لِرَأْسِهِ. قال البيهقي: وكذلك يُروَى عن عبد العزيز بن عمران بن مِقْلاص، وحَرمَلة بن يحيى، عن ابن وَهْب. ¬

_ = وحدث عنه ابن إسماعيل، وأبو عبد الله الفراوي، وزاهر بن طاهر الشحامي في آخرين، بورك له في علمه، وصنف التصانيف النافعة، وهي تقارب ألف جزء مما لم يسبقه إليه أحد. قال إمام الحرمين الجويني: ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي عليه منة، إلا أبا بكر البيهقي؛ فإن المنة له على الشافعي؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه. توفي سنة (458 هـ)، ودفن ببيهق من ناحية خسرو جرد، رحمه الله تعالى. انظر: "التقييد" لابن نقطة (ص: 137)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 75)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (18/ 163)، وكذا "تذكرة الحفاظ" (3/ 1132)، و"طبقات الشافعية" للسبكي (4/ 8)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 432).

الوجه الثالث: [في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل]

* الوجه الثالث: [في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل] [الأولى]: استَدَل به الشافعي والمالكي على تجديد الماء للأذنين، وتُجْعَلُ مسالةَ خلافٍ بينهم وبين الحنفية، وينبغي أن يُنظر في مَجرى الخلاف، فإن كان في أن السنةَ مسحُهما مع الرأس، أو تجديدُ الماء لهما، فلا يستمرُّ الدليل على ذلك لأحد الفريقين بالحديثين اللذين تمسك بهما؛ لأنَّ الأفعال لا تَعارُضَ فيها، وليس في المحكي [في] أحد الحديثين ما يقتضي الترجيحَ لأحد الأمرين على الآخر لفظاً من حيث هو هو؛ لأنه ليس فيه إلا الفعل، وقد بيَّنا أنَّه لا تعارض فيه، ولا مُقتضي للترجيح، وأما الترجيح بأمور خارجة عن لفظ الحديثين، فلسْنا له ولا هو من وظيفتنا، ولابدَّ وأن يكون (¬1) الخلاف في أن ضدَّ ما اختاره أحدُ الفريقين مكروهٌ أو مخالفٌ للسنة، فالفعلُ الذي تمسَّك به خصمُه ينفي ذلك، ولا يمكن أن يكونَ الخلافُ في الجواز جزماً. الثانية: الشافعية يستنُّون مسحَ الصِّماخَيْن بماء جديد، وحكي عن نصِّهِ رحمه الله (¬2). وليس لفظُ الحديثِ يدلُّ عليه، سواء قلنا إن الصِّماخَ يدخل تحت مدلولِ الأذن، أو لم نقلْ؛ لأنه إن لم نقلْ، فالدَّلالةُ قاصرةٌ عن الصّماخَيْنِ، فيحتاج إلى دليلِ خُصوصهما، وإن قُلْنا، فظاهرُ اللفظ يقتضي تعليقَ الحكمِ بالأذنين، فيدخل تحته مسحُ الصِّماخَيْنِ، ويقصر اللفظُ عن حكمهما في التجديد. ¬

_ (¬1) في الأصل: "كان"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 430).

الثالثة

فعلى التقدير الأول: يقصر عن الذكر، وعلى الثاني: يقصر عن الحكم، فلا بدّ من دليل. قال بعض الشافعية: وحُكِي فول: إنه يكفي مسحُه ببقيَّة بَلَلِ الأذن؛ لأنَّ الصِّماخَ من الأذن (¬1). ولعله نحا إلى ما ذكرناه من أن الحكم معلقٌ بالأذن إذا كان منه، فلا دليلَ في اللفظ على تجديد الماء للصِّماخَيْنِ. الثالثة: ظاهرُ الحديث يقتضي تجديدَ الماء، وذكر بعض الشافعية في مسح الأذنين بماء جديد: أنه ليس من الشرائط أن يأخذه جديدًا حينئذٍ، بل لو أمسك بعضَ أصابعه من البلل المأخوذ بمسح الرأس ومسح به الأذنين، تأدَّت هذه السنَّةُ (¬2). وظاهرُ الحديثِ الذي ذكرناه يقتضي خلافَهُ؛ لقوله: "فَأَخَذَ لأُذُنِهِ ماءً خِلافَ الماءِ الذي أَخَذَ لِرَأْسِهِ"، وهذه الصفة التي ذكرها، تقتضي أن الماء الذي يمسح به الأذنين هو الماء الذي أخذه لرأسه. الرابعة: مقتضى الحديث لا يزيدُ على مسحِ الأذنين بماء جديد، ويقتضي أن يُكتفى بالمسمَّى فيه، وما زاد على ذلك من كيفية (¬3) تُذْكَرُ، ليس من مقتضى الحديث، فإن أُريد الاستحبابُ الشرعي لهيئةٍ مخصوصةٍ فيحتاج إلى دليل، وعند الدارقطني - رحمه الله - من طريق مسلم بن خالد، عن ابن عقيل في حديث الرُّبيِّع - رضي الله عنها -: أنَّ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) المرجع السابق، (1/ 431). (¬3) "ت": "كيفيته".

الخامسة

النَبي - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ؛ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَمُؤَخرَه، وَصُدغَيْهِ، ثمَّ أَدخَلَ أصبُعَيْهِ السبَّابَتَيْنِ فَمَسَحَ أُذُنَيْهِ؛ ظاهِرَهُما وباطِنَهُما (¬1). وهذا يقتضي زيادة على مطلق المسح في الكيفية، وظاهره تعليقه بالأذن. الخامسة: إذا دلَّ على كيفيةٍ في مسح الأذنين، فقد دلَّ على أصلٍ في مسح الأذنين، والأحاديث التي في "الصحيحين" في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -[لم] يُتعرَّض فيها لذكر الأذنين، وإنما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مصرَّحاً به، وهو مدلول عليه بهذا الحديث على غير الدلالة التي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. السادسة: كما يدلُّ على مسحهما، فهو يدلُّ على مسح الظاهر والباطن؛ لأنَّ الاسمَ حقيقةٌ للعضو، وقد ورد مصرحًا به. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 106). وإسناده ضعيف؛ لضعف مسلم ابن خالد.

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر وفي حديث عَمْرو بنِ عَبَسَةَ - الطويل - عند الدارقطني: "ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ، فَيُمَضْمِضُ وَيْسَتنْشِقُ فَينتِثرُ، إِلاّ خَرَجَتْ خَطايا وَجْهِهِ وَفِيْهِ وَخَياشِيْمِهِ". وفي الحديث: "ثُمَّ يَغْسِلُ قَدمَيْهِ إِلىَ الكَعْبَيْنِ كَما أَمَرَهُ الله". [وهذه اللفظة أخرجها ابنُ خزيمةَ في "صحيحه" أيضًا، أعني: قولَه: "كَما أَمَرَهُ الله"] (¬1)، وأصل الحديث عند مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) الزيادة من "ت". (¬2) * تخريج الحديث: رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 107) بالألفاظ التي ذكرها المؤلف رحمه الله. ورواه مسلم في "صحيحه" (832)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة، مطولًا بألفاظ نحوها سيذكرها المؤلف في الوجه الثاني من هذا الحديث. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (165) مختصرًا، ومقتصرًا على قوله منه: "ثمَّ يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرجت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء". كلهم من حديث عكرمة بن عمار، عن شداد بن عبد الله أبي عمار، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، به.

[الوجه] الأول: في التعريف

الكلام عليه من وجوه: * الأول في التعريف: فنقول: عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد بن غاضرة بن عتاب - ويقال غثَّار - بن امرئ القيس بن بهُثْةَ بن سُلَيم بن منصور بن عكرمة بن خَضفة بن قيس عَيْلان بن مضر بن نزار السلمي أبو نَجِيح، وقيل: أبو شعيب. وأبوه عَبَسَة: بفتح العين المهملة تليها باء موحدة مفتوحة، ثمَّ سين مهملة مفتوحتين، ثمَّ هاء مفتوحة أيضًا، لا اختلاف فيه بين أرباب الحديث والأسماء والتواريخ والسير والمؤتلف، ومِنْ ضَعَفَةِ الفقهاءِ أو الطلبةِ مَنْ يُدخل نوناً بين العين والباء وهو خطأ كبير، وتصحيف شديد، لا يُعوَّل عليه، ولولا التنبيه عليه لم يذكر (¬1). وغاضرة في نسبه: بالغين المعجمة وبعد الألف ضاد معجمة، ثمَّ راء مهملة. وبُهثَة: بضم الموحدة وسكون الهاء ثمَّ المثلثة على وزن غُرْفة. وسُليَم: بضم السين وفتح اللام. ¬

_ (¬1) وكذا ذكر الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 347) فقال: وهذا الضبط لا خلاف فيه بين أهل الحديث والأسماء والتواريخ والسير والمؤتلف وغيرهم من أهل الفنون، ورأيت جماعة ممن صنف في ألفاظ "المهذب" يزيدون فيه نوناً، وهذا غلط فاحش، ومنكر ظاهر، وإنما ذكرته تنبيهاً عليه؛ لئلا يغتر به، انتهى. قلت: ولعل المؤلف رحمه الله قد نقل هذا التنبيه عن النووي رحمهما الله.

وخصفة: بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة. وعيلان: بالعين المهملة. ونجيح في كنيته: بفتح النون وكسر الجيم، وآخره حاء. ويقال: إن عَمْراً كان أخاً لأبي ذر لأمه، قال أبو نعيم الحافظ: عمرو بن عبسة السلمي أبو نجيح، قدم مكةَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقيه بُعكاظ، ورآه مستخفياً من قريش في أول الدعوة وهو يقول: أنا ربع الإِسلام، ثم رجع إلى أرضه وقومه بني سُلَيم مقيمًا حتى مضى بدر وأحد والخندق، ثمَّ قدم المدينة فنزلها، وكان قبل أن يسلم يعتزل عبادة الأصنام ويراها باطلًا وضلالة. حدّث عنه من الصحابة: أبو أُمامة الباهلي، وعبد الله بن مسعود، وسَهْل بن سعد. ومن التابعين: أبو إدريس الخَوْلاَني، وسليمان بن عامر، وأبو ظَبْية، وكثير بن مرة، وعدي بن أرطاة، وجبير بن نُفَير، ومَعْدان بن أبي طلحة (¬1). وأما الدارقطني: فهو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 214)، "الثقات" لابن حبان (3/ 269)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1192)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (46/ 249)، "أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 239)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 347)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 456)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 658).

ابن مسعود بن النعمان بن دينار بن عبد الله البغدادي، ثم الدارقطني نسبة إلى دار قطن ببغداد، عالم بالصناعة كبير (¬1)، وعَلَمٌ من الحفاظ شهير، وفرد في زمنه عزيز أو عدم النظير، لله درُّه في هذا العلم فارساً، ونفعه بما أبقاه منه مفيدًا وقابساً. قال الحافظ أبو بكر بن أحمد بن علي الخطيب في ترجمته: كان فريدَ دهره، وقريعَ عصره (¬2)، ونسيجَ وحدِهِ، وإمامَ وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلم الحديث وأسماء الرجال وأحوال الرواة، مع الصدق والأمانة والثقة والعدالة وصحة الاعتقاد وسلامة المذهب والاضطلاع بعلومِ سوى علم الحديث. وقال الخطيب أيضًا: ثنا أبو الوليد سليمان بن خلف الأندلسي قال: سمعت أبا ذرّ الهروي يقول: سمعت الحاكم أبا عبد الله محمَّد ابن عبد الله الحافظ، وسئل عن الدارقطني فقال: ما رأى مثل نفسه. قال الخطيبُ: سمعتُ القاضي أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري يقول: كان الدارقطني أميرَ المؤمنين في الحديث، وما رأيت حافظًا وردَ بغداد إلا مضى إليه وسلَّم عليه، يعني سلَّم له المتقدم في الحفظ وعلوِّ المنزلة في العلم. وقال الخطيب أيضًا: ثنا الصُّوري قال: سمعت عبد الغني بن سعيد الحافظ بمصر يقول: أحسنُ الناس كلاماً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "ت": "كبار". (¬2) في "تاريخ بغداد": "فريد عصره وقريع دهره".

ثلاثة: علي بن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، وعلي ابن عمر الدارقطني في وقته. وقال الخطيب أيضًا: ثنا البَرقاني قال: كنت أسمع عبد الغني الحافظَ كثيرًا إذا حكى عن أبي الحسن الدارقطني شيئًا يقول: قال أستاذي. فقلت له في ذلك، فقال: وهل تعلَّمْنا هذين الحرفين من العلم إلا من أبي الحسن الدارقطني؟! قال: قال لنا البرقاني: وما رأيت بعد الدارقطني أحفظَ من عبد الغني بن سعيد. وقال الخطيب أيضًا: ثنا الأزهري: أن أبا الحسن - يعني الدارقطني - لما دخل مصر، كان بها شيخ علويٌّ من أهل مدينةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له: مسلم بن عبيد الله، وكان عنده كتاب النسب عن الخضر بن داود عن الزبير بن بكّار، وكان مسلم أحدَ الموصوفين بالفصاحة، المطبوعين على العربية، فسأل الناس أبا الحسن أن يقرأ عليه كتاب النسب، ورغبوا في سماعه بقراءته، فأجابهم إلى ذلك، واجتمع في المجلس من كان [بمصر] (¬1) من أهل العلم والأدب والفضل، فحرصوا على أن يحفظوا على أبي الحسن لحنة، أو يظفروا منه بسقطة، فلم يقدروا على ذلك، حتى جعل مسلم يتعجب ويقول: وعربيَّةَ أيضًا؟! وقال الخطيب أيضًا: وثنا الأزهري قال: بلغني أن الدارقطني حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصَّفار، فجلس ينسخ جزءًا كان ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

معه وإسماعيل يُملي، فقال له بعض الحاضرين: لا يصح سماعُك وأنت تنسخ، فقال الدارقطني: فهمي للإملاء خلافُ فهمك، ثمَّ قال: تحفظ كم أملى الشيخ مِنْ حديثٍ إلى الآن؟ فقال: لا، فقال الدارقطني: أملى ثمانية عشر حديثاً، فعددتُ (¬1) الأحاديث فوجدته كما قال أبو الحسن، الحديث الأول منها عن فلان، ومتنه [كذا] والحديث الثاني عن فلان [عن فلان] (¬2)، ومتنه [كذا] (¬3)، ولم يزل يذكر أسانيدَ الأحاديث ومتونَها (¬4) على ترتيبها في الإملاء حتى أتى على آخرها، فعجِب الناس منه، أو كما قال. وقال الخطيب: سمعتُ عبد الملك بن محمَّد بن عبد الله بن بشران يقول: ولد الدارقطني في سنة ست وثلاث مئة. وقال: حدثني عبد العزيز الأَزْجي قال: توفي الدارقطني يوم الأربعاء لثمان خَلَوْن من ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاث مئة وقال: قرأت بخط حمزةَ بن محمَّد بن طاهر الدقاق في أبي الحسن الدارقطني رحمه الله [من الطويل]: جَعَلْناكَ فيما بَيْنَنا وَنبِيِّنا ... وَسِيطًا فَلَمْ تَكْذِبْ ولم تَتَحَوَّبِ ¬

_ (¬1) "ت": "فعُدت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "متنها".

الوجه الثاني: في إيراد الحديث على الوجه

وَأَنْتَ الذي لَوْلاكَ لم يَعْلَمِ الوَرَى ... وَلَوْ جَهَدُوا ما صادِقٌ مِن مُكذَّبِ (¬1) * * * * الوجه الثاني: في إيراد الحديث على الوجه، وقد رواه الدارقطني من حديث أبي الوليد قال: حدثنا عكرمة بن عمار، ثنا شداد أبو عمار - وقد أدرك نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال أبو أمامة: بأيِّ شيء تدَّعي أنك ربع الإِسلام؟ قال: فذكر الحديث بطوله. قال عمرو بن عَبَسة قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء؟ قال: "ما مِنْكُمْ مِنْ رَجُلٍ يُقَربُ وَضُوءَه، ثُمَّ يُمَضْمِض وَيستَنْشِقُ وَينْتَثِرُ إلا خَرَجَتْ خَطايا فِيْهِ وَخَياشِيْمِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَما أَمَرَهُ اللهُ - عز وجل - إلَّا خَرَجَتْ (¬2) خَطايا وَجْهِهِ مَعَ (¬3) أَطْراَفِ لِحيتهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى مِرفَقَيْهِ إِلا خَرَّتْ خَطايَا يَدَيْهِ مِن أَنامِلهِ مَعَ الماءِ، ثَم يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ إِلَّا خَرَّتْ ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "تاريخ بغداد" للخطيب (12/ 34)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (43/ 93)، "التقييد" لابن نقطة (ص: 410)، "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 297)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (16/ 449)، "طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 426). (¬2) "ت": "خرت"، وكذا في المطبوع من "سنن الدارقطني". (¬3) "ت": "من".

خَطايا رَأْسِهِ مِن أَطْرافِ شَعْرِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلى الكَعْبَيْنِ كَما أَمَرَهُ اللهُ، إِلاّ خَرَّتْ خَطايا رِجْلَيْهِ مِن أَطْرافِ أَصابعِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يقومُ فَيَحمَدُ الله ويُثْنِي عَلَيْهِ بِما هَوَ أَهْلُه، ثُمَ يَركَعُ رَكْعتين، إلا انْصَرَفَ مِن ذُنُوبِهِ كَهَيْئَتِه يَومَ وَلَدَتْهُ أُمُّه". ورواه الدارقطني أيضًا عقيب إسناد ذكره عن دعلج، عن موسى بن هارون، عن يزيد بن عبد الله بن يزيد بن ميمون بن مهران أبي محمَّد، عن عكرمة بن عمار قال: بهذا الإسناد مثله، وقال: هذا إسناد ثابت (¬1). هذا الإسناد الذي ذكره الدارقطني، في متنه اختصارٌ كما [ترى، وقد] (¬2) ذكرنا في الأصل أن أصل الحديث عند مسلم، فلنذكر رواية مسلم على الوجه. فنقول: روى مسلم عن أحمد بن جعفر المَعْقري، ثنا النَّضْر بن محمَّد، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا شداد بن عبد الله أبو عمار، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة - قال عكرمة ولقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنسًا إلى الشام وأثنى عليه فضلًا وخيراً - عن أبي أمامة قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية، أظنُّ أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يُخبر أخباراً، فقعَدتُ على راحلتي، وقدِمتُ ¬

_ (¬1) في "سنن الدارقطني": "هذا إسناد ثابت صحيح". (¬2) زيادة من "ت".

عليه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفياً، جِراءٌ عليه قومُه، فتلطَّفتُ حتى دخلتُ عليه [بمكة] وقلت له: ما أنت؟ قال: "أنا نبيٌّ"، قال: فقلت: وما نبيٌّ؟ قال: "أرسلني الله"، فقلت: بأيِّ شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلةِ الأَرْحام، وكسر الأوثان، وأنْ يُوحَّدَ اللهُ لا يُشَرك به شيء"، قلت [له]: فمن معك على هذا الأمر؟ قال: "حرٌّ وعَبْدٌ" - قال: ومعه يومئذ أبو بكرٍ وبلالٌ ممن آمن به - فقلت: إني مُتَّبِعُك. قال: "إنك لا تستطيعُ ذلك يومَك هذا، ألا ترى حالي وحالَ الناس؟ ولكن ارجعْ إلى أَهْلِكَ، فإذا سَمِعْتَ بي قد ظهرتُ فأتني". قال: فذهبت إلى أهلي، وقدِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبَّر الأخبارَ، وأسأل الناسَ حين قَدِمَ المدينةَ، حتى قدِمَ عليّ نفرٌ من أهلِ يثربَ من أهلِ المدينة، فقلت: ما فَعلَ هذا الرجلُ [الذي قدم المدينة]؟ فقالوا: الناسُ إليه سِراعٌ، وقد أراد قومُه قَتْلَه، فلم يستطيعوا ذلك، فقدِمْتُ المدينةَ، [فدخَلْتُ] عليه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: "نعم أنتَ الذي لَقِيتَني بمكَّةَ؟ " فقلت: بلى، فقلت: يا نبيَّ الله! أخبرني عما علَّمك الله وأجهلُه؛ أخبِرني عن الصلاة؟ قال: "صَلِّ صلاهً الصبحِ، ثمَّ أَقصرْ عن الصلاةِ حتىَّ تَطْلُعَ الشمسُ، حتى تَرتَفعَ، فإنَّها تَطْلُعُ حينَ تَطْلُعُ بين قَرنْي شَيْطانٍ، وحينَئِذٍ يَسْجُدُ لها الكفارُ، ثُمَّ صَلِّ فإِنَّ الصلاةَ مَشْهودَةٌ مَحضُورَةٌ حتَّى يَسْتَقِلَّ الظلُّ بالرمْحِ، ثمَّ أَقصِر عن الصلاةِ، فإنَّ حينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فإذا أَقْبَلَ الفَيْءُ فَصَلِّ، فإِنَّ الصَّلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحضُورَةٌ، حتَّى تُصَلِّي العَصرَ، ثُمَّ أقصِرْ عن الصلاةِ حتى تَغْربُ الشمسُ، فإِنَّها تَغْرُبُ بين قَرنْي شَيْطانٍ،

وحينئذٍ يَسْجُدُ لها الكفارُ". قال: فقلت: يا نبيَّ الله فالوضوء؟ حدِّثني عنه، قال: "ما مِنْكُم رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَه فَيتَمْضْمَضُ وَيستَنْشِقُ وَينْتَثِرُ، إلا خَرَّتْ خَطايا وَجْهِهِ وَفِيْهِ وَخَياشِيْمِهِ، ثُمَّ إِذا غَسَلَ وَجْهَهُ كَما أَمَرَهُ اللهُ إلا خَرَّتْ خَطايا وَجْهِهِ مِن أَطْرافِ لِحيتَهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إلى المرفقَيْنِ إلا خَرَتْ خَطايا يَدَيْهِ مِن أَنَاملِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسهُ إلا خَرَّتْ خَطايا رَأْسِهِ مِن أَطْرافِ شَعْرِه مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إلى الكَعْبَيْنِ إلا خَرَّتْ خَطايا رِجْلَيْهِ مِن أَنامِلِهِ مَعَ الماءِ، فإنْ هُو قامَ فَصلَّى، فحَمِدَ اللهَ وأثنىَ عليه وَمجَّدَه بالذي هُو لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَه للهِ، إلا انْصَرَفَ من خَطِيْئَتِه كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّه". فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبَسَةَ! انظر ما تقول، في مقام واحد يعطى هذا الرجل؟ فقال عمرو: يا أبا أمامَة! لقد كَبِرَتْ سني، ورَقّ عظمي، واقترب أَجَلِي، وما بي حاجةٌ أن أكذبَ على الله، و [لا] (¬1) على رسوله، لو لم أسمعه من رسول [الله - صلى الله عليه وسلم -] إلا مرةً أو مرتين أو ثلاثًا، حتى عدَّ سبعَ مرات، ما حدثت به أبدًا، ولكني سمعتُه أكثرَ من ذلك. وهذا الحديث بهذا السياق وهذا الطول انفرد بإخراجه مسلمٌ عن الجماعة. ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

الوجه الثالث: في شيء من مفرداته

* الوجه الثالث: في شيء من مفرداته: وقد يختلف الرواة في بعض الألفاظ فيه، وفيه مسائل: الأولى: قوله: "كُنْتُ وَأَنا في الجاهِلِيةِ أظنُ أن الناسَ على ضَلالَةٍ" (¬1) يحتمل أن يحمل على حقيقة الظنّ، وأنه لم يبلغ إلى القطع، ويحتمل أن يكون الظن بمعنى العلم، وعليه حمله بعضهم، قال: وقول عمرو بن عبسة: كنت في الجاهلية أظن الناس على ضلالة، فإن الظن قد يطلق على اليقين كما قال تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] (¬2). قلت: ومما يقوي هذا: أن الدليل الذي استدَلَّ به من أنها لا تضرُّ ولا تنفعُ، دليل قاطع على بطلان إلاهيَّتِها وعبادتَها، وإنما أجزنا أن تكون ظنًا؛ لأنَّ جمهور عبّادها كانوا على الجَزْم، فجاز أن لا يكون انتهى حينئذ إلى الجَزْم بسبب الغلبة في الناس، واستمرارِ زمانهم على عبادتها، وبعض العلماء يفترق في وقوع الظن بمعنى العلم، بين مواضع الاستعمال فيه، قال أبو محمَّد بن عطية في قوله تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53]: وأطلق الناس أن الظن هنا بمعنى اليقين، ولو قال بدل ظنوا: أيقنوا، لكان الكلام متَّسِقاً، على مبالغةٍ فيه، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبدًا في موضع يقين تامّ قد ناله الحسُّ، بل أعظمُ درجاتِه أن يجيءَ موضع علم مُتَحَقِّق، لكنه لم ¬

_ (¬1) في الأصل: "كنت أظن أن"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 459).

الثانية

يقع ذلك المظنون، وإلا فقد يقع، ولا يكاد يوجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن، وتأمّل هذه الآية، وتأمّل قول دريد (¬1): فقلتُ لهم ظنُوا بألفي مُدَجَّجِ (¬2) الثانية: يراد بالتلطُّف (¬3) ها هنا، طلب الطريق الموصلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خفاء وتحرُّزِ من مفسدةِ الإظهار، ومنه: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19] وقد يستعمل اللطفُ في تهيئَةِ الأسباب الخفية لوقوع الشيء وتيسيره {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100]، وبهذا يظهر لك معنى التعدية باللام، والفرقُ بينها وبين التعدية بالباء. الثالثة: قوله: "جراءٌ عليه قومُه"، قد روي في هذه اللفظة غير ذلك، فذكر بعض الشارحين فقال: قوله "جُرَاء عليه قومُه" هكذا هو في جميع الأصول - جُراء بالجيم المضمومة جمع جَريْء بالهمزة (¬4) - من الجُرأَةِ، وهي الإقدام والتسلُّط، قال وذكره الحميدي في "الجمع بين الصحيحين": حِراء بالحاء المهملة المكسورة، قال: ومعناه ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "ابن دريد"، والصواب ما أثبت، وهذا صدر بيت لدريد بن الصمة، كما في "ديوانه" (ص: 60) وعجزه: سراتُهم في الفارِسيِّ المُسرَّد (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 524). (¬3) في الأصل: "التلطف"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "بالهمز".

الرابعة

غِضاب ذَوُو غَمٍّ، عِيلَ صبرُهم حتى أثَّر في أجسامهم، من قولهم: حَرَى جسمُه، يحري، كَضَرب يَضْرِب، إذا نقص من أمله (¬1) أو غيره، والصحيح أنَّه بالجيم (¬2). قلت: قال الجوهري: حَرَى الشيءُ، حَرياً، أي نَقَصَ، يقال: يَحرِي كما يَحرِي القمرُ، وأحراه الزمانُ، والحارِيةُ: الأَفْعى التي نَقَص جسمها من الكِبَر، وذلك أخبث ما يكون، يقال: رماك الله بأفعى حارِيةٍ، انتهى (¬3). قوله: وحَري: مفتوح الحاء ساكن الراء، يحري كما يحري القمر: مكسورًا الراء، والحارية: بالحاء المهملة في هذا المعنى. الرابعة: حصل الجواب من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه رسول عن السؤال عن النبي، وكلُّ رسول نبيٌّ وليس كلُّ نبيٍّ رسولًا، فالجواب بالرسالة جوابٌ عن النبوة، ولعل السببَ في ذلك تقريبُ الأمر على السائل مع حصول المقصود، فإن معنى الرسالة معلومٌ مفهومٌ عند العرب وغيرهم، لاستعمال الناس له فيما بينهم، ومعنى النبوة الشرعية غامضٌ. [الخامسة: صلة الأرحام] (¬4). ¬

_ (¬1) في "شرح مسلم": "من ألم". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 115). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2312)، (مادة: حرى). (¬4) كذا جاءت هذه الزيادة في "ت"، ولم يكتب المؤلف عنها شيئًا، والله أعلم.

السادسة

السادسة: "كسر الأوثان" يُحتمل أن يراد [به] (¬1) الحقيقة إذا كانت الأوثانُ هي الأصنام، بمعنى تفريق أجزائها، ويحتمل أن يراد به المجاز؛ بمعنى إبطال عبادتها وإذهاب حرمتها. السابعة: "مع" ها هنا متحركة وهي متعينة للظرفية، [وأما الساكنة فقد قيل قبلُ بحرفيَّتها. الثامنة: إذا تعينت للظرفية]؛ (¬2) فحقيقتها ظرف المكان والزمان، واستعمالها (¬3) فيما يقع فيه الاجتماع من الأحوال كالمذاهب والأديان وغيرهما مجاز، والعلاقة ظاهرة، وهي الاجتماع في الأحوال الشَّبِيْهة بالاجتماع في المكان، ولا شك أن المراد هو المعنى الثاني، أي: مَنْ يُوافِقُك على هذا الدين ويجتمعُ معك عليه. التاسعة: قوله: "قال: حرٌّ وعبد" يمكن أن تكون لفظة (¬4) العبودية ها هنا حقيقة؛ لأنَّ بلالًا كان مملوكاً حتى اشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه، فإذا كان [هذا] (¬5) السؤال قبل شرائه، كان اللفظُ حقيقة في العبودية، وإن كان بعد العتق كان مجازًا باعتبار ما كان عليه (¬6)، وربما دلّ على هذا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "المكان أو الزمان أو استعمالها". (¬4) "ت": "لفظ". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "ما دل عليه".

العاشرة

قوله - عليه السلام -: "أَلا تَرَى حالي وَحالَ الناسِ" إن كان المراد بالناس المؤمنين على ما سيأتي. العاشرة: المراد بالاتِّباع ها هنا إظهار الموافقة والصحبة، لا الاتباع في نفس الأمر في الدين والإيمان، فإن ذلك مُستطاعٌ. الحادية عشرة: نفيُ الاستطاعة قد يراد به الامتناعُ وعدمُ إمكان وقوع الفعل مع إمكانه، نحو: هل تستطيع أن تُكلِّمَني؟ بمعنى هل تفعل ذلك، وأنت تعلم أنه قادر على الفعل، وقد حُمِلَ قوله تعالى حكايةً عن الحواريين {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة: 112] على المعنى الأول، أي: هل يجيبنا إليه، أو هل يفعل ربُّك، وقد علموا أن الله تعالى قادرٌ على الإنزال، وأن عيسى قادرٌ على السؤال، وإنما استفهموا، هل ها هنا صارف أو مانع {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50]، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الأنبياء: 40]، {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا} [يس: 67]، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97]. وقد يراد به الوقوع بمشقة وكُلْفة، قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67]، وقال الشاعر [من الطويل]: فإنْ تكنِ الأيامُ فينا تَبَدَّلَتْ ... بِبُؤْسَى وَنُعْمَى والحوادِثُ تَفْعَل فَما لَيَّنَتْ مِنَّا قَنَاةً صَليِبةً ... ولا ذَلَّلتْنا للتي ليسَ تَجْمُلُ

الثانية عشرة

ولكنْ رحَلْناها نُفُوساً كريمةً ... تُحَمَّلُ ما لا يُستَطاعُ فتَحمِلُ (¬1) أي: ما شق (¬2)، فإنه لو امتنع، لم يمكن (¬3) حمله، والمراد في هذا الحديث هذا الثاني. الثانية عشرة: (اليوم) يستعمل بمعنى الوقت مطلقاً لا مقيداً بما بين الطلوع والغروب، وقد استعمل ها هنا بالمعنى الأول. الثالثة عشرة: استعمل (الأهل) ها هنا بمعنى القوم والقَبِيل، وقد يستعمل فيما هو أخصُّ من ذلك كالزوجة والولد، وقد يراد به ها هنا هذا الأخصُّ الذي يستلزم الأعمَّ في العادة الغالبة، والله أعلم. الرابعة عشرة: (إذا) يستعمل في المحقَّقِ الوقوعِ، وستأتي فائدة ذلك. الخامسة عشرة: (الظهور) ها هنا بمعنى الغَلَبة والقهر، كما في قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28]، لا بالمعنى الذي يقابله الخفاء، إلا على وجهِ مجازي. ¬

_ (¬1) الأبيات لإبراهيم بن كنيف النبهاني، كما في "الحماسة بشرح المرزوقي" (1/ 260). (¬2) "ت": "ما يشق". (¬3) في الأصل: "يكن"، والمثبت من "ت".

السادسة عشرة

السادسة عشرة: اختلفوا في (يثرب) هل هو اسم يرادف المدينة، أو هو اسم لقطْرٍ محدودٍ، والمدينةُ في ناحيةٍ منه، عن أبي عبيد: يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها، وقال الماورديّ: في يثرب وجهان: أحدهما: المدينة، حكاه ابن عيسى، والثاني: أن المدينة في ناحية من يثرب، قاله أبو عبيد. وفي "الكشاف": ويثرب: اسم المدينة، وقيل: أرض وقعت المدينة في ناحية منها (¬1). وكذا قال ابن عطية: يثرب قُطْرٌ محدودٌ، المدينةُ في الطرف منه (¬2). السابعة عشرة: ينبغي أن ينظر في الفرق بين (أخبرني عن كذا)، [و (أخبرني بكذا)] (¬3)، و (أخبرني من كذا)؛ فأما (أخبرني عن كذا): فإنها قد تدل على أن المراد الإخبار مستندًا إلى ما علم الله، مجاوزًا به عما يعلم (¬4) الله إلى السائل، ثمَّ قد يكون الفعلُ منويًّا به التعدية، وقد لا يكون، كما في رميتُ عن القوس، أي: وقع هذا المسمى عن القوس، ويكون المعنى ها هنا: أن يكون إخبارُك بما تخبرني به عمَّا علَّمك الله، ولا يكون على هذا اللفظ دلالة على عموم ولا خصوص، فيما يجيب به، فإن كان المرادُ أحدَهما، فَبِدليل من خارج. ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (3/ 535). (¬2) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (4/ 373). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "علم".

الثامنة عشرة

وأما (أخبرني بكذا): فظاهرُه الإخبارُ بكل ما طلب، فإن وقع غيره، فَبِالقرينة. وأما (أخبرني من كذا): فللتبعيض ظاهرًا، ويكون في هذا الموضع (¬1) على حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامَه. الثامنة عشرة: قوله: "أَقْصِر عَنِ الصلاةِ" أي: أَمسِكْ. التاسعة عشرة: قوله - عليه السلام -: "بَيْنَ قَرني شَيْطانٍ" القرن: يطلق في اللغة على معان منها: قرن الدابة، يقال منه: ثور أَقْرَن، وبقرةٌ قَرناءُ، وعلى الأمّة ومنه: {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص: 43] {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون: 31]، ولا شك في كونه حقيقة في قرن الدابة، وأما في الأمة؛ فإن الزمخشري ذكره في المجاز، ومثّله بقوله: وكان ذلك في القرن الأول، وفي القرون الخالية، وهي "الأمة المتقدمة على التي بعدها (¬2)، ويمكن عندي أن يكون حقيقة فيها، ويكون (¬3) اللفظ مشتركاً بينه وبين قرن الدابة، وذلك لأجل بُعْدِ العلاقة وعدم مبادرة الذهن إليها، وتبادره إلى الأمة عند وجود القرينة المقتضية للحمل عليها، وأما ما ذكره الزمخشري في المجاز، وطلع (¬4) قرن الشيطان، اضرب على قرني رأسه، ولها قرونٌ ¬

_ (¬1) "ت": "هذه المواضع". (¬2) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 505). (¬3) "ت": "بين". (¬4) "ت": "يطلع".

طوال ذوائب، ومنه قولك: خرج إلى بلاد ذات القرون، وهم الروم لطول ذوائبهم، وأنشد المُرقِّش [من الخفيف]: وأهلي بالشأم ذات القرون (¬1) قال: لأن الروم كانوا ينزلون الشام، وما جعلت في عيني قرناً من كُحل: [ميلًا واحداً]، ونازعه فتركه قرناً لا يتكلم، أي: قائماً ماثلًا مبهوتاً، وبالجارية قَرنٌ عَفَلةٌ، وهي قرناء. وذكر قرن الفَلاة، وفسره بطرفها، وبلغ في العلم قرن الكلأ: غايته وحدَّه، ولتَجِدَنَّي بقرن الكلأ، أي: في الغاية مما يُطلب مني، وتركته على مثل مقصِّ القرن ومستأصله، وفيمن استؤصل (¬2). فأكثرُها مجازٌ كما ذكر، لكنه ليست عادتُه دِكرَ العلاقة، وهي في بعض ما ذكر أظهرُ من بعض، فالقرن بمعنى الذؤابة: علاقته المشابهة في الزيادة في الرأس. وقرن الشمس: المشابهة في أنه أول ما يظهر. وكذلك المشابهة في قرن من كحل، أي: ميلًا في انتصاب المقدار. وتركه قرناً، أي: قائما ماثلًا مبهوتاً، المشابهة في الثبوت والاستقرار وعدم الحركة؛ تشبيهاً لعدم الحركة المعنوية بعدم الحركة الحسية. ¬

_ (¬1) عجز بيت للمرقش الأصغر، كما في "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 217)، وصدره: لات هنَّا وليتني طرَفَ الزُّج (¬2) في "أساس البلاغة" (ص: 505): "وهو مقطعه ومستأصله، يضرب فيمن استؤصل".

العشرون

وقرن الفَلاة: طرفها؛ تشبيهاً بالانقطاع في القرن عند الطرف. وكذلك ما قال في العلم؛ تشبيهًا بالغاية والحدِّ المعنوي بالحسي. وأما تركته على مثل مِقصِّ القرن، فإنما استعمل القرن في موضوعه، والمجاز في غير لفظه، وهو لفظة (¬1) المثل؛ تشبيهاً بحاله التي زعم أنه أوصله إليها بحال من هو على مقطع القرن، وذكر بعضهم مجازًا آخر سيأتي في الفوائد. العشرون: قوله عليه الصلاة والسلام: "فإِنَّ الصلاةَ مَشْهُوَدَةٌ مَحضُورَةٌ" مُفَسَّر بأنها محضورة من الملائكة. الحادية والعشرون: قوله - عليه السلام -: "حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظلُّ بالرمْحِ" فسره القرطبي بأن يكون ظلّه قليلًا؛ كأنه قال: حتى يقلَّ ظلُّ الرمح، قال: والباء زائدة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25]. قال: وقد رواه أبو داود فقال: "حَتَّى يَعْدِلَ الرمحُ ظلَّه" (¬2)، قال الخطابي: هذا إذا قامت الشمس وتناهى قِصَر الظلِّ (¬3)، قال: وقد روى الخشني لفظ كتاب مسلم: "حَتَّى يَسْتَقِلَّ ظِلُّ الرمْحِ" أي: يقوم ولا تظهر زيادته (¬4). وقال النووي: حتى يستقل الظل بالرمح، أي: يقوم مقامه في ¬

_ (¬1) "ت": "لفظ". (¬2) رواه أبو داود (1277)، كتاب: الصلاة، باب: من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة. (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 276). (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 462).

الثانية والعشرون

وجهة الشمال، ليس مائلاً إلى المشرق ولا [إلى] (¬1) المغرب (¬2). الثانية والعشرون: اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] على وجهين: أحدهما: المملوء، والثاني: الموقد، وعن أبي عبيد: البحر المسجور: الساكن، وقد فسر في هذا الحديث قوله - عليه السلام -: "تُسْجَر" بالوجهين، فقيل: تملأ، وقيل: توقد عليها إيقادًا بليغاً، والمادة تقتضي الوجهين جميعًا، سجَرتُ التنور أَسْجُره سَجْرًا: إذا أحميتُه، وسجَرتُ النهر: [ملأته]، وسجَرَتِ الثمار (¬3): إذا مُلِئَت من المطر، والظاهر أن اللفظ مشتركٌ. وأما سَجَرَتِ النَّاقةُ تَسْجُرُ - بضم الجيم -[سجراً] (¬4) وسُجورًا: إذا مَدَّتْ حنينها، قال [من الكامل]: حَنَّتْ إِلى بَرقٍ فَقُلْتُ لها قِرِي ... بَعْضَ الحَنِينِ فإِنَّ سَجْرَكِ شائقي (¬5) فالظاهر أنَّه مجاز من معنى الملء، ويحتمل أن يكون حقيقة منه. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 116). (¬3) في "الصحاح" للجوهري: "الثماد" بالدال. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) البيت لأبي زبيد الطائي، كما في "المحكم" لابن سيده (7/ 266)، و "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 305)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 345). وانظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 677).

الثالثة والعشرون

الثالثة والعشرون: اختلفوا في جهنم، هل هو عربي أم عجمي؟ ومن جعله عربياً اشتقه، إما من الجُهُومة من قولهم: بئر جَهْماء، أي: عميقة، فمنعه من الصرف، وعلى هذا بالعلمية والتأنيث، وقيل: عجمية معربة، وامتنع من صرفها للعَلَمية والعُجْمة (¬1). الرابعة والعشرون: المشهور أن الفيْءَ مختصٌّ لما بعد الزوال، لأنه من فاء يفيء: إذا رجع، والظل من أول النهار يكون في ناحية ثم يرجع إلى أخرى، والظل يكون فيما قبل الزوال وبعد الزوال (¬2). الخامسة والعشرون: قوله: "إلا خَرَّتْ خَطاياه" يروى: بالخاء وتشديد الراء المهملة من الخُرور، ويروى جَرَت: بالجيم وتخفيف الراء، من الجري، ويروى في كل المواضع أو بعضها: خَرَجَت، من الخروج (¬3). السادسة والعشرون: (الأنامل): أطراف الأصابع الأولى من مفاصل كل الأصابع، يقال لها: الأنامل من اليدين والرجلين جميعًا، قاله الزجاج في كتاب: "أعضاء الإنسان وصفاته على ما سمت العرب" (¬4) قال: والأنامل التي آخره. ¬

_ (¬1) وانظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1892). (¬2) المرجع السابق، (1/ 64). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 463). (¬4) انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 722)، و"هدية العارفين" للبغدادي (2/ 232).

الوجه الرابع: في شيء من العربية، وفيه مسائل

وفي كلام بعض الفقهاء ما يدل على أن اسم الأنملة لا يختص بالطرف. قال الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه": وفي كل أنملة ثلاثة أَبْعِرَة إلا الإبهام، فإنه يجب في كل أنملة خمس من الإبل (¬1). والحديث يدل على ما قاله الزجاج من إطلاق الأنامل على ما في اليدين والرجلين، لأنهما ذُكِرا في الحديث في اليدين والرجلين. * * * * الوجه الرابع: في شيء من العربية، وفيه مسائل: الأولى: قوله: "وهم يعبدون الأوثان" جملة في موضع (¬2) الحالِ من الضمير في "أنهم"، ويحتمل أن يكون حالًا على حذفِ مضافٍ من (أنا)، ويحتمل أن يكون من الضمير في "أظن"، والأولُ هو الأَولى. الثانية: قوله: "مستخفياً" حال، والعامل فيه ما في (إذا) من معنى المفاجأة. الثالثة: قوله: "جِراءٌ عليه قومُه" أي: مجترؤون من الجُرأَة - وهو مكسور الجيم مخفف الراء -، وفعيل يجمع على فِعال، كَظَرِيف وظِراف، وكَريِم وكِرام، وقد روي في هذه اللفظة غير ذلك، فذكر بعض الشارحين (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "التنبيه" للشيرازي (ص: 226). (¬2) في الأصل: "بعض موضع". (¬3) كذا في النسختين: الأصل و "ت"، ولعل المؤلف أراد ذكر كلام الإمام =

الرابعة

الرابعة: قال القرطبي في "جِراء": هو مرفوع على أنَّه خبر مقدم، و"قومه" مبتدأ، في مذهب البصريين (¬1). الخامسة: قوله: "حتى دخلت"، (حتى): على بابها في أنها دخلت؛ لأن التلطف للدخول زال بالدخول، وهذا بخلاف (حتى) التي يأتي الكلام عليها في آخر الحديث. السادسة: المشهور أن (مَنْ) لمن يعقل، و (ما) لما لا يعقل، وقد وقع الاستفهام ها هنا بـ (ما)، فإما أن يكون ذلك؛ لأن السؤال عن الصفة، فإنَّ الذاتَ معلومةٌ لا تحتاج إلى السؤال، وإما عن المجموع من الذات والصفة، وعلى كلا التقديرين فلا يخرج عن القاعدةِ، وقد رأيتُ في كلام بعض الشارحين، وقوله: "من أنت"، سؤال عمن يعقل، وقوله: "وما نبيّ" [سؤال] عن النبوة، وهي من جنس ما لا يعقل لأنها معنى من المعاني (¬2). فهذه الرواية، تنفي السؤال من أصله. السابعة: لفظ النبي، يهمز ولا يهمز، وقد قُرِئ بهما معاً، وذلك بحسب ما تؤخذ منه اللفظة، وهي إما من النَّبَاوة، أو من الإنبَاء. الثامنة: من قرأ بترك الهمز فإن أخذ من مادة النون والباء [والواو، فهو على الأصل اجتمعت الواوُ والياء في فعيل، وسبقت إحداهما ¬

_ = النووي السابق ذكره في الفائدة الثالثة من الوجه الثالث هنا، ففطن له، فتركه؛ خشية التكرار، والله أعلم بحقيقة الحال. (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 460). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

التاسعة

الأخرى بالسكون، ثم قلبت الواو ياءً، وأدغمت، وإن أخذ من مادة النون والباء] (¬1) والهمزة (¬2). التاسعة: مواضع (مِن)، نظمها مُهلَّب في قوله [من المتقارب]: معانٍ لـ "مِنْ" قد أَتَتْ سبعةٌ ... لتبعيضِ كُلٍّ ومعنى البَدَلْ ومعنى مِنَ اجْلِ فلانٍ ولا بـ ... ـتداء مَدًى وانتهاءٍ عَدَلْ وزِيدت لتوكيدِ جنسٍ وقد ... أَتَتْنا بياناً لنوعٍ فَدَلْ قال: أما التي للتبعيض: فهي التي يكون ما بعدها أعمَّ مما قبلها نحو: أخذت أثواباً من الثياب، بخلاف التي لبيان النوع، فإنها تدخل على الأخص دون الأعم والأكثر. وأما التي بمعنى البدل؛ فكقوله - سبحانه وتعالى -: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] أي: بدلكم. وكقول الشاعر [من الوافر]: كَسَوْناها مِنَ الرِّيْطِ اليَماني ... مُسُوحاً في بَنائِقها فُضُولُ (¬3) أي: بدل (¬4) الريط. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) كذا في النسختين الأصل و "ت". (¬3) أنشده أبو علي القالي في "الأمالي" (2/ 77). وانظر: "اللسان" (15/ 16). (¬4) "ت": "بدلُ بدلَ".

وأما التي بمعنى من أجل فلان: فهي [التي] (¬1) تكون بمعنى لام العرض، نحو: أكرمتُك من أجل فلان، أي: لأجله. وأما ابتداء الغاية وهو الذي عادل الابتداء في المقابلة: فهي التي تكون مع المفعول، نحو قولك: رأيت من داري الهلالَ من خلَل السحاب، وشممت من داري الريحان من الطريق، فالأول في المسألتين لابتداء الغاية، والثانيتان منهما لانتهائها؛ لأنهما ليستا مفتقرتين إلى ذكر (¬2) (مِن) بعدهما، كافتقار التي لابتداء الغاية إلى ذكر (¬3) (مِن) بعدها. وأما الزائدة لتوكيد بيان الجنس، فنحو: ما جاءني من أحدٍ، وأما الداخلة لبيان النوع فهي الداخلة على الأخص، كقولك: أكرمت جميعَ الناس من بني أسد، وكقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. هذا ما قاله، وفي بعضه نظر، ويراعى على طريقة هؤلاء الذين يلتزمون التأويل ليردُّوا المواضع المتعددة إلى الفرد أو الأقل، وبعض المتأخرين ردَّ التي لبيان الجنس إلى ابتداء الغاية. إذا ثبت هذا فـ (مِن) في قوله: "ممن آمن به" يجوز أن تكون للتبعيض، ويريد بمن آمن به: مَنْ صَدَرَ منه الإيمانُ فيما مضى قبل ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت" زيادة "إلى". (¬3) "ت": زيادة "إلى".

العاشرة

[هذا] (¬1) الإخبار، ولا يعارض ذلك الاقتصار على أبي بكر وبلال؛ لما ذكرناه من أن مقتضى الإخبار عمن سبق إيمانُه عند وقتِ الاجتماع، والمعنى على هذا: إن معه يومئذ من جملة مَنْ آمن به قبلَ وقتِ الإخبار أبو بكر وبلالٌ، فعلى هذا إذا لم يكن مؤمن [غير] (¬2) أبي بكر وبلال لم يصحَّ التبعيضُ إلا على تأويل لا يتبادر إلى الذهن. العاشرة: قوله - عليه السلام -: "ألا تَرَى حالي وحالَ الناسِ" يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يُراد به المؤمنون الذين لقوا العذاب والشدة من المشركين. ويحتمل: أن يراد به المشركون، وبالحال حال النبي - صلى الله عليه وسلم -. و [يحتمل: أن يراد حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، و] (¬3) حال المسلمين والمشركين. ويترجح أن يكون المراد بحالي: حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده مع أحد الوجهين الآخرين، أعني: المسلمين والمشركين، أو المشركين خاصَّةً؛ لأنَّ المسلمين لو دخلوا في ذلك، لكان الأصلُ في التعبير عنه حالنا؛ لأنه اللفظ الموضوع للدلالة على الجمع، والأولى حَمْلُ اللفظِ على ما وُضِع له في الأصل، ويقوى أيضًا إذا لم يكن التعذيبُ لبلال ولا عتقُه واقعاً حينئذ. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

الحادية عشرة

الحادية عشرة: قد ذكرنا أن (حال الناس) معطوف على (حالي)، فالواو للعطف. الثانية عشرة: (إذا) تستعمل في المتحقِّقِ الوقوع، وستأتي فائدة ذلك. الثالثة عشرة: قوله: "أتَخبّر الأخبارَ" هو بمعنى أتفعَّل. الرابعة عشرة: لا بد في (حين) من قوله: "حين قدم المدينة" من استعمال مجاز؛ إما في (حين) أو في (قدم المدينة)، أي: حين كونه بالمدينة، أي: مقامَه بالمدينة؛ لأنَّ الحقيقةَ متعذِّرةٌ؛ لأنه كان غائباً حين القدوم، ولا عِلْمَ له بالغيب. الخامسة عشرة: قوله: "حتى قدم المدينة" (حتى) للغاية، قلنا: أن نجعلها على ظاهرها على أن تكون الغاية مجموع قدوم القوم، وقوله لهم: فإنه لا يدل على أنَّه تخبّر الأخبار وسأل الناس بعد مجموع القدوم والسؤال، ولا تكون الغايةُ مجردَ القدومِ؛ لأنه قد سأل بعد القدوم وتخبّر، ويحتمل أن يقال: إن المغيَّا محذوفٌ، كما أجيز الحذفُ في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]، وقد أجيز في الآية الكريمة أن تكون حرفَ ابتداء. السادسة عشرة: وجدتُ عن الفاضل العلامة أبي محمد بن برّي: إذا كان للمسمى اسمان؛ فتارة يكون أحدُهما اسماً، والآخرُ

السابعة عشرة

نسباً (¬1)؛ نحو: جاءني زيد أخوك، وعمرو أبوك، [وتارةً يكون أحدُهما اسماً والآخرُ كنيةً؛ نحو: جاءني زيد أبو عبد الله، وتارةً يكون] (¬2) أحدُهما اسماً والآخرُ لقباً، نحو: جاءني زيد قفة، وعمرو بطة، فالأول بالبدل أولى، ويجوز فيه عطف البيان إذا كان أشهر وأخّرته، والثاني بعطف البيان أولى إذا كان أحدهما أشهر وأخَّرته، ويجوز فيه البدل، ومتى أردت البدل جاز لك تقديمُ الأشهرِ وتأخيرُه، ويتعيَّن في البيان تأخيرُه. وأما الثاني: فلا بد من تأخير اللقب عن الاسم ليقع بياناً له؛ لأنه لا يقع إلا أشهرَ منه، ومن الكنى بخلاف الاسم مع الكنية أو مع النسب، فإن الأشهريةَ تتناوب عليها، فلا يجوز قولك: جاءني قفة زيد؛ لأن وضع قفة لبيان زيد، ورفع الاشتراك عنه، وذلك مُنافٍ لتقديمه عليه، إلا في موضعٍ واحد، وهي أن المتكلِّم يقول: جاءني قفة، فيتخرج عن اللقب المنهيِّ عن التنابُز به، فيقول: زيد، لنفي التحرُّج لا لقصد البيان. السابعة عشرة: فإذا تقرر هذا، فها هنا اسمان يثرب والمدينة، فإن كان يثرب اسماً للناحية التي المدينةُ طرفٌ منها، فيكون قولُه: من أهل المدينة بعد قوله: من أهل يثرب، تخصيصاً بعد تعميم، كقولك: ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "لقباً نسباً"، ثمَّ ضرب على قوله: "لقباً" في "ت"، وهو الصواب. (¬2) زيادة من "ت".

العشرون

جاءني رجل من أهل العراق من أهل بغداد، وإن كانت يثرب هي المدينة، وكانت اسمه عند المتكلم، فليس فيه تخصيص بعد تعميم، وتكون بدلًا بإعادة العامل، ويمكن أن يلمح فيه المعنى الذي ذكر في التحرج، فإنه ورد في الحديث ما يقتضي كراهة إطلاق يثرب على المدينة، وأنها طيبة (¬1)، فكأنَّ الراوي تحرَّج من إطلاق يثربَ، فأتى بالمدينة، كما ذُكِر عن ابن برّي في التحرُّج في نحو: جاءني قفة زيد، ويجوز أن يكونَ المُخاطَبُ لَفْظُ المدينة عنده أشهرُ من لفظ يثرب، فقدّم أخفى الاسمين وأخر أشهرَهما بالنسبة إلى المخاطَب. العشرون (¬2): قوله: "الناسُ إليه سَراع، وقد أرادَ قومُه قَتْلَه فلم يستطيعوا ذلك" هذا مما يُستَدَل به على أن الواو لا تقتضي الترتيب، وقد ذكروا شواهدَ من الكتاب العزيز، وهذا بعضُ شواهدِ الحديث. الحادية والعشرون: قوله: "فقلت: يا رسول الله! أتعرفني؟ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1772)، كتاب: فضائل المدينة، باب: فضل المدينة وأنها تنفي الناس، ومسلم (1382)، كتاب: الحج، باب: المدينة تنفي شرارها، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، بلفظ فيه: "يقولون يثرب، وهي المدينة". ورواه البخاري (3824)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (1384)، كتاب: الحج، باب: المدينة تنفي شرارها، من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، بلفظ: "إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث ... ". (¬2) جاء في هامش الأصل "م": "لم يذكر هنا في الأصل الثامنة والتاسعة عشرة"، وعلى هامش نسخة "ت": "كذا وجدته".

الثانية والعشرون

قال: نعم، أنتَ الذي لَقِيْتَني بمكة، فقلتُ (¬1): بلى" قال بعض الشراح لكتاب مسلم: فيه صحة الجواب بـ "بلى" وإن لم يكن قبلها نفي، وصحة الإقرار بها، وهو الصحيح من مذهبنا، وشرط بعض أصحابنا أن يتقدمها نفيٌ (¬2). ويعني ببعض أصحابنا: الشافعية، و"بلى" ها هنا لا تتعين أن تكون للجواب إلا إذا كانت همزة الاستفهام محذوفةً في قوله: "أنتَ الذي لَقِيْتَني بمكة"، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - جزم بأنه يعرفه بقوله: "نعم"، فلينظر في "بلى" ها هنا. وأيضًا فاشتراطُ النفي في الجواب بـ "بلى" لا يقتضيه الاستعمالُ، أعني: خصوص النفي، فإنه يقال: أأنت من بني فلان؟ فتقول: بلى، وهو استفهام مجرد، وكذلك: أتذهب إلى زيد؟ فتقول: بلى، ونظائره كثيرة، وكأن الصواب أن يقال: شرط الدلالة بـ "بلى" على الإيجاب، وهذا هو المسألة الفقهية التي أشار إليها، وهو أن يقول القائلُ لغيره: أليس لي عندك كذا؟ فيقول: نعم، هل يكون مقرًّا أو لا؟ فمن يشترط في الإيجاب بعد النفي أن يكونَ الجوابُ بـ "بلى" لا يجعله مُقرًّا، ومن لا يشترط يجعله مقرًّا، أما لو قال القائلُ: لي عندك كذا، لا مستفهمًا ولا نافياً، فيقول المخاطب: نعم، فهو مُقِرٌّ. الثانية والعشرون: قوله: "حتى تطلعَ الشمسُ، حتى ترتفعَ" غايتان؛ ¬

_ (¬1) "ت": "فقال". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 116).

الثالثة والعشرون

فالأولى: غاية للأمر بالإقصار عن الصلاة، والثانية: غاية للطلوع. الثالثة والعشرون: قوله عليه السلام: "حين تطلُع" تأكيد وتحقيق للوقت الذي يكون معها قرنُ الشيطان. الرابعة والعشرون: قوله: "فإنَّ حينَئذٍ تُسْجَر جهنم" فيه حذف ضمير الشأن والقصة، والتقدير: فإن الشأن والقصة كذا وكذا، وحذفُ هذا الضمير سائغٌ شائعٌ، وكذا إثباته: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: 74]، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج: 46] وهي من المواضعِ التي أُضمر فيها قبل الذكر. الخامسة والعشرون: في مقدِّمةٍ يُبنى عليها غيرُها، جوازُ الفصلِ بين حرفِ العطف والمعطوف، ومما ذكر فيه ذلك قولُه سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، وأنه قد حيل بين الواو التي هي حرف عطف وبين المعطوف، وهو أن تحكموا بالعدل، والتقدير: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وأن تحكموا بالعدل، وفصل بين حرف العطف وبين المعطوف بالظرف، كما فعل أبو علي في بيت الأعشى [من المنسرح]: يومًا تراها كَشِبهِ أَرْدِيةِ الـ ... ـعَصْبِ ويومًا أَدِيمُها نَغِلًا (¬1) فإنه جلبه شاهدًا على الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان الأعشى" (ص: 233) وعنده: "أردية الخِمس".

الذي هو (يومًا) ضرورةً، وإن كان قد تورَّعَ أبو علي في هذا، وقيل: إن ما جعله ضرورةً ليس بضرورةٍ، وذلك أن حرف العطف عطف ثلاثة أشياء على ثلاثة أشياء، فعطف (يومًا) على (يوم) المتقدم الذكر، وعطف (أديمها) على الضمير المنصوبِ المتصل بـ (ترى)، وعطف (نغلًا) على موضع (كشبه أردية العصب)، والتقدير: تراها يومًا كشبه أردية العصب، وتراها يومًا أديمها نغلًا، وإذا عطف بحرفِ عطفٍ أكثرَ من اسمٍ واحدٍ على مثله لم يَسُغْ أن يقال: إنه فُصل (¬1) بالمعطوف الأول بين حرف العطف وما بعده، ألا ترى أنك تقول: أعطيت زيدًا درهمًا وبكرًا دينارًا، في فصيح الكلام، ولا يعتقدُ أحدٌ أنَّك فصلت بين حرف العطف والمعطوف الذي هو (دينار) بـ (بكر). وذكر بعض المتأخرين: أن ما ذكره أبو علي من أن الفصلَ بين حرف العطف والاسم المعطوف به بالظرف في البيت وأمثاله ضرورة صحيحٌ عنده. قال: وبيانُ ذلك: أنَّ الفعل إذا كان له مفعولان، أحدهما: ظرف، والآخر: مفعول به، كانت مرتبة المفعول به أن تتقدَّم على الظرف، وإن قُدِّم الظرف عليه فاتِّساعٌ، النية به التأخير، فإذا حذف ذلك العامل وأثبت منابه حرف العطف، لم يجز تقديم الظرف اتِّساعًا، كما كان يجوز مع الفعل؛ لأن الأصولَ تحتمل من التصرف والاتساع ما لا تحتمله الفروعُ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لم يسمع أن يقال، لأنه قد فصل" والمثبت من "ت".

قال: وقد ذكر أبو الفتح ما يدل على أن أبا علي اعتمد في تقبيح ذلك على ما ذكرته، فقال في كتاب "القَدّ" له، قال أبو علي: إن ضربت اليوم زيدًا وأمسِ عمرًا يضعف؛ للفصل بين الواو وما نصبته إذا كانت هي الآن العامل، قلت له: فإذا كانت [هي] (¬1) الآن عاملًا فهلًا لم يقبح؟ ضربتُ أمس زيدًا واليوم عمرًا، أَوَلاَ تراك تقول مبتديًا (¬2): ضربت اليوم عمرًا فلا يقبح، والواو عندك بمنزلة ضربت في أنها الآن العامل؟ فقال: هي وإنْ كانتِ العاملَ فإنها مُقَامةٌ مقامَ العامل الأول الأصلي، فضعُف الفصلُ بينهما، وإن لم يضعفِ الفصل بين العامل الأول الأصلي وبين ما عمل فيه؛ لضعف ما أقيم مقام الشيء أن يجري مجرى الشيء نفسه. قلت: هذا الكلامُ يقرر أنَّ الفصلَ بين حرف العطف وما عمل فيه بالظرف ضرورةٌ، وهذا قد يسلم، والذي اعترض به المعترض على أبي عليّ يقتضي أنه ليس ثَمَّ فَصْلٌ بين حرف العطف وما عمل فيه، ألا تراه كيف مثَّل: أعطيت زيدًا درهما، وبكرًا دينارًا، في فصيح الكلام، ولا يعتقد أحدٌ أنَّك فصَلتَ بين حرف العطف والمعطوف الذي هو (دينار) بـ (بكر)، فقد بقي أن يكون من باب الفصل، والذي حكي عنه من أنه ليس ضرورةَ يريد به نفيَ ضرورةِ كونهِ فَصَلَ بين حرف العطف والمعطوف، لا نفي كون الفصل إذا وقع ضرورةً، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "معتديًا"، "والتصويب" من "ت".

ومما ذكر في الفصل في الكتاب العزيز قراءة من قرأ: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] بنصب (مثل)، قال بعضهم: ألا ترى أن (مثلهن) معطوف على (سبع سماوات)، وقد فَصلت بينه وبين حرف العطف بالمجرور الذي هو (من الأرض)، وليس ذلك المجرور بمعطوفٍ على مجرورٍ معمول لـ (خلق)، فمثل هذا هو الذي إذا جاء في شعر كان ضرورة لأجل الفصل. قلت: ومما ذكر في هذا الكتاب العزيز قراءة من قرأ {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] في قراءة من نصب يعقوب، وجعله في موضع جر، وإنه قد فصل بين الواو ويعقوب بقوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ}، وجعلت هذه القراءة أصعبَ مأخذًا من بيت الأعشى؛ من قِبَل أن حرف العطف [في الآية ناب عن الجار الذي هو (الباء) في قوله: {بِإِسْحَاقَ} وأقوى أحوال حرف العطف] (¬1) أن يكون في قوة العامل قبله، وأن يليَه من العمل ما كان الأولُ يليه، والجار لا يجوز فصلُه من مجروره، والفصل في البيت معطوفًا على الناصبِ ومنصوبِهِ ليس كالفصل بين الجار ومجروره، كان بين الناصب ومنصوبه [أسهل] (¬2)، [وإن] (¬3) أراد بالمجيء ما جاء في بيت أنشده [من الطويل]: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) سقط من "ت".

السادسة والعشرون

فلو كنت في خَلْقاءَ من رأس شاهقٍ ... وليس إلى - منها - النزولِ سبيلُ (¬1) وقال أبو الحسن ابن عصفور "في شرح الجمل": ولا يجوز الفصل بين حرف العطف والمعطوف إلا بالقَسم خاصةً، أو بالظرف والمجرور، ويشترط أن يكون حرف العطف على (زيد) من حرف واحد، نحو: قام زيد ثم والله عمرو، أو: بل والله عمرو، وقام في الدار زيد ثم في السوق عمرو، ولا يجوز قام زيد والله عمرو، ولا فالله عمرو، لأن الواو والفاء على حرف واحد، فيشتد (¬2) افتقارهما لما بعدهما، فكرهوا الفصل لذلك، وقد يجوز الفصل بين الواو والفاء وبين المعطوف بهما في ضرورة الشعر بالظرف والمجرور نحو قوله [من المنسرح]: يومًا تَراها كَشِبهِ أَرْدية الـ ... ـعَصْبِ ويومًا أَديمُها نَغِلًا ففصل بـ (يومًا) (¬3) بين الواو وأديمها المعطوف على الضمير في (تراها)، انتهى (¬4)، والله أعلم. السادسة والعشرون: في مقدمة لغيرها، عن العلامة أبي محمد ابن بَرِّي فيما إذا وقع الفعل بعد (إلا) في الاستثناء، أنه يشتق من لفظه اسم يكون هو المستثنى في المعنى. قال سيبويه: مصدر، وقال ¬

_ (¬1) انظر: "الخصائص" لابن جني (2/ 395). (¬2) "ت": "ويشتدّ". (¬3) في الأصل: "ففصل هو ما"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "شرح الجمل" لابن عصفور (1/ 250).

المبرد: اسم مشتق، والأول أولى؛ لقوَّة دلالة الفعل على مصدره بالاشتقاق، فإن كان قبل (إلا) نفيٌ لفظًا، فالكلام على ظاهره فيما قبل (إلا)، وإن كان إثباتًا أُوِّل (¬1) بالنفي؛ لأن الاستثناء في هذا النوع مفرَّغ، لأنه استثناءٌ من متعلِّق للفعل عامٌّ، إما من مفعوله العام، وإما من أحواله المقدَّرة، والمفرَّغُ لا يكون إلا في النفي ليفيد، مثالُ الأول (¬2): ما يقوم زيد إلا ضحك، وما يصلي عبد الله إلا بكى، تأويله عند سيبويه: ما يقوم على حال إلا على الضحك، أي: ليس له حال عند قيامه إلا الضحك، وهي الأحوال المقدَّرة، وتأويله عند المبرِّد: ما يقوم إلا ضاحكًا، ومعنى الكلام عندهما واحد، من ذلك قوله تعالى: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، وقوله تعالى: {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ} إلى قوله {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 120 - 121] تأويله على قياس قول سيبويه: لا يغادر صغيرة ولا كبيرة على [حال] (¬3) إلا على إحصائها، وعلى قياس قول المبرِّد: إلا محصيًا لها، ولا يصيبهم ظمأٌ ولا نصبٌ ولا مخمصةٌ على حال إلا على كَتَبَ الله لهم، أو مكتوبًا. ومثال الثاني: نشدتُك الله إلا فعلتَ، وأقسمتُ عليك إلا فعلت، تأويله: ما أطلب إلا فعلَك، وما أسألك إلا فعلَك؛ لأن نَشَدَ؛ بمعنى طلب ¬

_ (¬1) في الأصل: "أولى"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل "الأولى"، والمثبت من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

السابعة والعشرون

وسأل، ومنه قول ابن عباس رضي الله عنهما: بالإيواء والنصر إلا جلستم، يريد ما أسالكم وأطلب منكم إلا الجلوس، أي: ما أطلب شيئًا ولا أسألك شيئًا إلا هذا الفعلَ، وهو المفعول العام، ومثله في تأويل المثبت بالمنفي قوله تعالى {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] (لتأتنني) في معنى النفي، تأويله: لا تمتنِعُنَّ من الإتيان به لعلةٍ من العلل إلا لعلة الإحاطة بكم، أو في كل زمن من الأزمنة إلا في زمن الإحاطة بكم، فهو الاستثناء من أعمِّ العام لا يكون إلا في النفي لفظًا و (¬1) حكمًا، ونحوه في هذا التأويل قراءةُ من قرأ في الشواذ (فشربوا منه إلا قليل منهم) بالرفع على تأويل: فما أطاعه أو فما أطاعوه إلا قليل منهم. السابعة والعشرون: في مقدمة أخرى، وهي جواز العطف إلى آخرها. الثامنة والعشرون: أبو الحسن الأخفش علَّل وقوع الفعل بعد (إلا) في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ} [التوبة: 120] الآية، بأنَّه كلام في معنى الشرط؛ لأن ما قبل (إلا) سبب لما بعدها، فأشبه لذلك الشرط، فمن ثم قال: وقع الفعل ها هنا بعد (إلا) كما يقع في جواب الشرط في قولك: من يَقُم أكرمه، ألا ترى أن معنى الآية: إن أصابهم ظمأ أو نصب أو كذا: كتب ¬

_ (¬1) "ت": "أو".

لهم به، ونحوه: ما تزورني إلا أكرمتُك، يريد: متى زرتني أكرمتك، ومثله في تأويل الكلام بالشرط لما فيه من معنى السببية قولُه تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 274] معناه: من ينفق أمواله فله أجره، وكذلك دخلت (الفاء) في خبر المبتدأ، وكذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] معناه على بعض الأقوال: إن كشفت [عنا] (¬1) العذاب آمنا إيمانًا نافعًا لنا، ويؤكد لك ما ذكرت أن الشرط اللفظيَّ يقع قبل (إلا) هذه المذكورة، ونحو: إذا بررت أباك فأنت طائع له إلا غفر لك، معنى الكلام: إذا بررت أباك طائعًا له، فيقع غفر لك جوابًا للشرط، وطائعًا حالًا منه، إلا أنك لمَّا قصدتَ أن تجعل الطاعة سببًا لحصول المغفرة جعلتها في اللفظ جوابًا للشرط، وأخرجتها عن حكم الفَضْلَة إلى حكم العُمْدة، فوقع لفظ (غفر لك) فضلة لاستيفاء الشرطِ جوابَه، فخرج عن حكم العمدة إلى حكم الفضلة ووقع بعد (إلا)، كما تقول العرب: الأسد مخوف، ثم إذا أردت الإشارة إليه تقريبًا لمكانه [لتأكيد التخويف منه، يعني قلت: هذا الأسد مخوفًا، وحوَّلت ما كان عمدة إلى] (¬2) أن جعلته فضلة، ومثله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] وإنما عدل عن صريح الشرط إلى ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

التاسعة والعشرون

صيغة النفي والإثبات في الآية لأنها أبلغ؛ لأن معنى قوله {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ ...} {إِلَّا كُتِبَ} [التوبة: 120] لا يصيبهم ذلك على حال إلا على حال الكتابة، وهذا أبلغ في الوعد من أن يصيبهم كذا كتب لهم. التاسعة والعشرون: عن بعضهم: إذا خرج مفردان من متعدّدٍ (بإلا) مكررةً معطوفةً، عطفتَ (إلا) الثانية على الأولى بالواو، وسواء (¬1) كان المستثنى منه مثبتًا أو منفيًا، نحو: ما جاءني أحد إلا زيد وإلا عمرو، وقام القومُ إلا زيدًا وإلا عمرًا، ولا يعطف هاهنا (بالفاء) ولا بـ (ثم)، فلا يقال: ما قام إلا أحد إلا زيد ثم إلا عمرو، وفإلا عمرو، ولا قام القوم إلا زيدًا ثم إلا عمرًا ولا فإلا عمرًا؛ لأن المقصود الإخراج، والإخراج نفسه لا يقع مرتبًا، إنما الترتيب في الفعل المسند إلى المخرج إذا كان مُثْبَتًا لا إذا كان منفيًا؛ لأن الترتيب إنما يكون في الفعل الحاصل في الوجود، ولا يكون في الخارج عنه باعتبار سقوطه من الخارج؛ لأن ترتيبَ الأشياء فرع عن وجودها، وعن غير هذا القائل ما يوافقه في هذا المكان، وهو قوله: تختص الواو في العطف بالعطف على معمول فعل لا يصح من واحد؛ نحو: اختصم زيد وعمرو، ويشارك عبد الله وأخوك، وبالعطف في نحو: ما قام أحد إلا زيد وإلا عمرو، وفي [نحو] (¬2): {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ¬

_ (¬1) "ت": "عطف إلا الثانية على الأولى بالواو، سواء". (¬2) زيادة من "ت".

الثلاثون

وَالدَّمُ} [المائدة: 3]؛ لأن المقصودَ ذِكْرُ المحرمات لا ترتيبُها في نحو: جاء زيد وعمرو معه، وجاء زيد وعمرو قبله، والمقصود من هذا الكلام ما قاله في نحو: ما قام أحد إلا زيدًا وإلا عمرًا. الثلاثون: في فرع من فروع ما تقدم: فقياسُ قولِ سيبويه في "مَا مِنْكُم مِنْ أَحَدٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَه فُيُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْشِقُ وَيَنْتَثِرُ" على حال إلا على حال خروج خطايا وجهه وفِيْهِ وخياشيمه، أي: ليس له حال عند تلبُّس هذه الأحوال والأفعال إلا حالًا واحدة وهي خروج خطاياه (¬1)، وعلى قياس قول المبرِّد: ما يفعل أحدُكم هذه الأفعالَ إلا خارجةً خطاياه. وعلى قياس قول الأخفش: إن قرَّب أحدُكم وضوءَه فتمضض، واستنشق، وانتثر، خرجت خطايا وجهِهِ، وفيه، وخياشيمه، والله أعلم. الحادية والثلاثون: في فرعٍ آخرَ من فروع ما تقدم، قوله في الحديث: "ثُمَّ إذِاَ غَسَلَ وَجْهَهُ إِلَّا خَرَجَتْ خَطَايا وَجْهِه" مُشْكِلٌ لِما تقدم [في] (¬2) القاعدة الأولى من وجوب تقدُّم النفي، ويحتمل في تخريجه وجوه: أحدها: أنه مِمَّا حُمل فيه الكلام على المعنى دون اللفظ، ويكون التقدير: ثم لا يغسل وجهَه إلا خرجت خطايا، لا بمعنى أن (إذا) تكون بمعنى (لا)، بل باعتبار ما يُفهم من جملة الكلام، وحَمْلُ الكلامِ على المعنى مع دخول (إلا) قد تقدم لنا مثالُه، ومنه: نَشَدتُك اللهَ إلا فعلت كذا، وهو كلام. محمول على المعنى كأنه قال: ¬

_ (¬1) "ت": "خطاه". (¬2) زيادة من "ت".

ما أَنْشُد إلا فعلَك، أي: ما أسألك إلا فعلك، ومثل ذلك (شَرٌّ أهرَّ ذا نَابٍ) (¬1)، و (شيء جاء بك)، قال ابن يعيش: وجاز وقوع فعلت هاهنا بعد (إلا) من حيث كان دالًا على مصدره، كأنهم قالوا: ما أسألك إلا فعلك، ونحوه ما أنشده أبو زيد [من الوافر]: فقالوا ما تشاءُ فقلتُ ألهو ... إلى الإصْباحِ آثِرَ ذي أثيرِ (¬2) فأوقع الفعلَ على مصدرِه؛ لدلالته عليه، كأنه قال في جواب (ما تشاء): (اللهو)، وإذا ساغ أن يحمل (شرٌّ أهرّ ذا ناب) على معنى النفي في نشدتُك اللهَ إلا فَعلتَ، أظهر لقوة الدلالة على النفي لدخول (إلا) لدلالتها عليها، انتهى ما أردت نقله (¬3). ومن الحمل على المعنى: أقسمتُ عليك إلا فعلتَ، فقياسه لو أجريَ على ظاهره أن يقال: ليفعلن، لأنه جواب القسم في طرف الإيجاب بالفعل، فتلزمه اللام والنون، لكنهم حملوه على نشدتكَ اللهَ إلا فعلت؛ لأن المعنى فيهما واحد، قال سيبويه رحمه الله: سألت الخليل رحمه الله عن قولهم: أقسمت عليك لما فعلت وإلا فعلت، لمَ ¬

_ (¬1) يقال: أهرَّه: إذا حمله على الهرير، وشر: رفع بالابتداء وهو نكرة، وشرط أن يبتدأ بها حتى تخصص بصفة؛ كقولنا: رجل عن بني تميم فارس، وابتدؤوا بالنكرة هاهنا من غير صفة، وإنما جاز ذلك؛ لأن المعنى: ما أهر ذا ناب إلا شر. وذو الناب: السبع. يضرب في ظهور أمارات الشر ومخايله. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني (1/ 370). (¬2) البيت لعروة بن الورد، كما في "ديوانه" (ص: 57). (¬3) انظر: "شرح المفصل" لابن يعيش (2/ 94 - 95).

جازَ هذا، وإنما أقسمت هاهنا كقولك: والله؟ فقال: وجهُ الكلام: لتفعلَنَّ، ولكنهم أجازوا هذا؛ لأنهم شبهوه (¬1) بقولهم: نشدتك اللهَ إلا فعلت، إذ كان المعنى فيهما معنى الطلب (¬2). ومن الحمل على المعنى في قولهم: قلّ رجلٌ يقول ذلك إلا زيد، أي: ما يقول ذاك أحد. وثانيها: أن يقال: ما منكم من أحد يقرب [وضوءه] (¬3) فيتمضمض، ويستنشق، وينتثر، إلا خرجت الخطايا من فيه وأنفه وخياشيمه، ثم إلا خرجتْ خطاياه إذا غسلَ وجهَه. "فَيُمَضْمِضُ، وَيَسْتَنْشِقُ، وَينْتَثِر": صفاتٌ لأحد، و"إِلَّا خَرَجَتْ" هو الخبر؛ لأنه محطُّ الفائدة، والمعنى: ما أحد يفعل هذه الأشياء إلا كان كذا. وقوله عليه السلام: "ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ إِلَّا خَرَجَتْ" فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، وفُصِل بين حرف العطف والمعطوف بالشرط، والتقدير: إلا خرجت الخطايا من وجهه وفيه. والفصلُ بين حرف العطفِ والمعطوفِ إذا كان على أكثر من حرف بالقسم، والظرف، والمجرور، جائزٌ، وأما إن كان على حرف واحد، فلا يجوز إلا ضرورةً. ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "شبهوا"، والمثبت من "الكتاب" لسيبويه. (¬2) انظر: "الكتاب" لسيبويه (3/ 105 - 106). (¬3) زيادة من "ت".

وهذا فرع من فروع القاعدة التي قدَّمناها في الفصل بين حرف العطف والمعطوف، وقد نَقل أبو عبد الله بن مالك، عن أبي علي: المنعَ منه، إلا في ضرورة (¬1)، فإذا بُني على الجواز، فيكون من باب عطفِ جملة على جملة، ويكون جواب الشرط محذوفًا؛ لأن النية بهذا الشرط التأخيرُ، فيصير المعنى: إلا خرجت خطايا وجهه، إذا غسل وجهه كان ذلك. وثالثها: أن يكون العطفُ على "تمضمض" وما بعده، و"إذا" ظرف، ومعنى الشرط (¬2) وجوابه محذوف، تقديره: أسبغَ غسله، أو أَتمَّه، أو بَالَغَ فيه، أو ما أشبهَ ذلك، ودلَّ على هذا المحذوف سياقُ المعنى، وقوله: "وينتثر" لأن الانتثارَ عملٌ زائد على المضمضة والاستنشاق، كما أنّ الإسباغَ زائدٌ على غسل الوجه، وحذفُ جواب (إذا) جائزٌ، و (إذا) وجوابها المعطوف جملة معطوفة بـ (ثم) على (تمضمض) وما بعده، ووقوع (إذا) مع جوابها معطوفة على ما قبلها بـ (ثم) جائز لقوله تعالى {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8]، وكقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ} [الروم: 33]. ورابعها: أن يُعْطَفَ "ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَه" [على "يُقَرِّبُ فيُمَضْمِضُ" فيكون عطف جملة الشرط على هذه الجمل، ولا يكون ¬

_ (¬1) انظر: "شرح الكافية" لابن مالك (3/ 1238). (¬2) "ت": "وإذا ظرف فيه معنى الشرط".

فصل بين حرف العطف والمعطوف، وكأنه قيل: من منكم من أحد إذا غسل وجهه] (¬1) إلا خرجت الخطايا من وجهه، كما قيل: ما منكم من أحد يقرب فيتمضمض إلا خرجت خطايا فيه، واعترض عليه باحثٌ: بأنَّ على هذا التقدير إذا غسل وجهه؛ إما أن يجرد (إذا) عن الظرفية، ويجعله لمجرد الظرف، كقوله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1 - 2]، أو يجعلَها ظرفًا فيه معنى الشرط، فإن جعلتها لمجرد الظرف، كانت في موضع الصفة؛ لأنَّها معطوفة على الصفة، والمعطوف على الصفة صفة، وإذًا لا تكون صفة للحدث (¬2)، كما لا يكون خبرًا عن الحدث (¬3)؛ لأنَّها من ظروف الزمان، وإن جعلتها شرطية، فالجواب محذوف والجملة من الشرط، والجزاء في موضع الصفة، وتقع الجملة الشرطية صفةً للحدث (¬4) بخلاف ظرف الزمان وحده، دون أن يكون في جملة الشرط، وإن جعلتها شرطية و (إذا) وجوابها المحذوف جملة معطوفة بـ (ثم) على (تمضمض) وما بعده، فالجواب المحذوف إما أن تقدره قبل: "إِلَّا خَرَجَتْ خَطَايَا وَجْهِه" أو بعده، لا جائزَ أن تقدره قبله؛ لأنه إذ ذاك يبقى الخبر لا فائدة له، إذ يصير التقدير: ما منكم من أحد إذا غسل وجهه خرجتِ الخطايا من وجهه إلا خرجت الخطايا من وجهه، ولا جائزَ أن تقدره بعده؛ لأنه إذ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "للجثث". (¬3) "ت": "للجثث". (¬4) "ت": "للجثث".

ذاك يبقى الخبر أيضًا لا فائدةَ له، وتكون قد فصلتَ بين الشرط والجواب، الذي مجموعُهما وقع صفة لقوله: "إِلَّا خَرَجَتْ خَطَايَا وَجْهِه"، فيكون ذلك فصلًا بين أجزاء الصفة، وهذا كله لا يجوز. ويلزم أيضًا على كلا التقديرين: العطف على عاملين؛ لأنَّ (ثم) عطفت "إِذَا غَسَلَ وَجْهَه"، أي: على "يقرب فيمضمض" فهو في موضع جرٍّ على اللفظ، أو رفع على الموضع؛ لأن قوله: "من أحد" مبتدأ، و (من) زائدة، وعطفت أيضًا "إِلَّا خَرَجَتْ خَطَايَا وَجْهِه" على "إِلَّا خَرَجَتْ خَطَايَا فِيْهِ"، فهو في موضع رفعٍ؛ لأنه معطوف على الخبر، وهذا لا يجوز إلا على مذهب من أجاز العطفَ على عاملين، وهو الأخفشُ. وعلى التقدير المذكور الذي خُرِّج عليه الحديث، لا تكون من هذا الباب، لأنه ليس إلا معطوفٌ واحد، وهو: "إِلَّا خَرَجَتْ خَطَايَا وَجْهِه" على معطوف عليه واحد، وهو: "إِلَّا خَرَجَتْ خَطَايَا فِيْهِ"، هذا معنى ما قيل. واعلم: أن هذا الوجهَ، وما قيل في إبطال العطف على "يُقَرِّبُ فَيُمَضْمِضُ" من أركان صحته، وإبطال ذلك التقدير، أنه يلزم أن لا تكونَ في الخبر فائدةٌ، وهذا اللازمُ لازمٌ عن وجوب تقدير الجواب: فخرجت خطاياه، وفي تغيّر هذا التقدير للجواب منع، فليُبْحَث عليه، ولينظر إلى ما حكيناه عن كلام الأخفش في: (إذا بررت أباك فأنت طائع له إلا غفر لك).

وخامسها: أن تكون (إذا) لمَحضِ الظرف مجردةً عن معنى الشرط، لا جواب لها، والعاملُ فيها فعلٌ محذوف من جنس المنطوق به، تقديره: ثم يُقرِّب وَضوءَه إذا غسل وجهه، وتكون الظرفية بمعنى الملابسةِ، أي: ثم يُلابِسُ وضوءَه حتى غسل وجهه، ويجوز أن يكون فيها معنى الشرطِ، وجوابُها محذوفٌ، وعلى كلا الوجهين يجوز أن تكون هذه الجملة المذكورة معطوفة على (يقرب) وما بعده، فتدخل في حكم الصفة؛ لأن المعطوف على الصفةِ صفةٌ، وتكون كلُّها صفاتٍ للمبتدأ المنطوق به، وهو واحد من غير إضمارِ موصوفٍ غيرِه، ويكون الكلام كلُّه جملةً واحدةً، ونحن إذا جعلنا (إذا) ظرفًا ومعمولًا بفعل مقدر، لا تكون (إذا) وحدها صفة، وإنما الجملة بكمالها هي الصفة، أعني: (يقرب) المضمرة مع (إذا)، وما دخلتْ عليه. وقد يُعترض على هذا الوجه بأن يقال: (إذا) وصفتِ المبتدأَ، ثم أُخِبر عنه، فلا يُرجع إلى وصفه بعد أن أُخبِرَ عنه، فلا يقال: زيد العالم الفاضل في الدار الكاتب، فيكون الكاتبُ صفةً لزيد بعد أن أخبر عنه بـ (في الدار)؛ لأن فيه الفصل بين الأوصاف بأجنبي، وهنا قد وصف المبتدأ بقوله: (يقرب) وما بعده، ثم أخبر عنه، بما (¬1) أخبر عنه بـ"خَرجَت خَطَايا وَجْهِه وفِيهِ وخَيَاشِيمِه" ثم رجع إلى وصفه بالجملة التي بعد (ثم) المقدر فعلها على تقدير الظرفية، أو جوابها على تقدير الشرطية. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ثم"، والمثبت من "ت".

ويجاب عنه: بأن المبتدأ قد يُوصَف بأوصاف ويُخبَر عنه باعتبار كل صفة بخبر يلائم تلك الصفة، فيتكرر الإخبار عن مبتدأ واحد باعتبار ما تكرَّر من أوصافه، كقولك: ما من أحد يصلي في المسجد الحرام إلا صلاته كألف صلاة، ولا يصلي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا كانت صلاته كسبع مئة صلاة، ولا يصلي في المسجد الأقصى إلا كانت صلاتُه بخمس مئة، وكذلك في الحديث؛ أخبر عن "أحد" بخروج خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، باعتبار وصفه المضمضة والاستنشاق والانتثار، ثم أخبر عنه بخروج خطايا وجهه، فحُسِب باعتبار وصفه بغسل وجهه فحسب. وسادسها: أن تكون هذه الجملة المذكورة، أعني: (يقرب) المقدرة مع (إذا) وما دخلت عليه صفة لمبتدأ محذوف منفيٍّ من لفظ المنطوق، تقديره: ثم ما منكم من أحد يقرِّبُ وضوءَه، حين غَسْلِ وجهه، أو ما منكم من أحد إذا غَسَلَ وجهه أدَّى الواجب، أو ما أشبهه، ويكون الكلام جملتين، وكيف ما قدر بقوله: "خَرَجَتْ خَطَايَا وَجْهِه" في موضع رفع خبر، إما على المبتدأ المنطوق به، وإما على المقدر كما ذكر، وقد يُعترض على هذا الوجه باعتراضين: أحدهما: أن فيه حذفَ المبتدأ منفيًا مع أداة نفيه بعده، والمعروف أن يحذف إذا حذف مع بقاء نفيه، نحو: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 7]، و {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] التقدير في الكل: أحد.

وقد يُجاب عنه: بأن المسوِّغ لذلك ظهور المعنى، وقوة القرينة عليه، وأن المحذوف من لفظ المنطوق بعينه، كقولهم: بين ذراعي وجبهة الأسد (¬1) و [من البسيط]: ويا تيمُ تيمَ عدي (¬2) على أحد التقديرين. [من الطويل]: وإني وقيَّار بها لغريب (¬3) وأشباه ذلك. الثاني: أن فيه حذفَ الموصوف، وإقامةَ الصفة مقامه؛ لأن التقدير على هذا الوجه: ثم ما منكم من أحدٍ إذا غسل وجهَه، وحذفُ الموصوف، وإقامةُ الصفة مقامَه، لا تَحْسُن ولا تكثُر، إلا إذا كانت الصفةُ محضةً مختصةً، فلا يحسن: جاء يركبه (¬4)، على معنى: جاء رجل يركب، ولا جاء عندنا، بمعنى: جاء رجل عندنا، ولا مررت ¬

_ (¬1) تقدم ذكره، وأنه نسب إلى الفرزدق. (¬2) صدر بيت لجرير، كما في "ديوانه" (ص: 219)، وتمامه: يا تيم تيم عدي لا أبا لكم ... لا يوقعنَّكم في سوأة عمرُ (¬3) عجز بيت منسوب لضابئ بن الحارث البرجمي، كما في "الكتاب" لسيبويه (1/ 75) وهو من شواهده، و"خزانة الأدب" للبغدادي (4/ 323)، وصدره: فمن يكُ أمسى بالمدينة رحلُه (¬4) "ت": "يركب".

بأبيض؛ لأن الفعلَ والظرفَ غيرُ صفة محضة، و (أبيض) غير مختصة، وقوله في الحديث: "ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهَ" مع ما يقدر معه جملة، صفة لمبتدأ محذوف على غير هذا الوجه، وهي غير صفة محضة، فلا تحسن إقامتها مقام موصوفها. ويجاب عنه: أنه وإن كان قليلًا، لكنه سُمعَ من العرب له نظائر؛ فمن ذلك ما أنشده (¬1) سيبويه [من الرجز]: لو قلتَ ما في قَومِها لم تَيْثَمِ ... يفضُلُها في حَسَبٍ ومِيْسَمِ (¬2) يريد أحد يفضلها. وأنشد المبرد [من الوافر]: كأَنَّك من جمالِ بني أُقيشِ (¬3) يريد: جمل من جمال بني أُقَيش (¬4). وأنشد أبو زيد [من الرجز]: ¬

_ (¬1) "ت": "أنشد". (¬2) البيت لحكيم بن مُعيَّة الرِّبعي، كما نسبه البغدادي في "خزانة الأدب" (5/ 64). وهو من شواهد سيبويه في "الكتاب" (2/ 345)، و"المفصل" للزمخشري (ص: 154). (¬3) صدر بيت للنابغة الذبياني، كما في "ديوانه" (ص: 190)، وعجزه: يقعقَعُ خلف رجليه بشَنِّ وانظر: "المقتضب" للمبرد (2/ 138). (¬4) في الأصل: "قيس"، والمثبت من "ت".

الثانية والثلاثون

يرمي بِكَفَّي كان مِنْ أَرْمَى البشر (¬1) يريد: بكفي رجل. وأنشد بعضهم لعَبِيْد بن الأبرص [مجزوء الكامل المُرفَّل]: جَعَلَت لها عُوْدَين مِنْ ... نَشَمِ وآخَرَ مِنْ ثُمَامه (¬2) قالوا: يريد عودًا من نَشَم، فحذف الموصوف، وأقام صفتَه مقامه، و (آخر) عطف على الموصوف المحذوف، لا على (عودين)؛ لأنه لو كان كذلك لكانت ثلاثةَ أعواد. وقال: ومنه: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]. قال ابن مالك: وهو مطَّردٌ في النفي، كقولهم: ما منهما مات، حتى رأيته يفعل كذا، وقد يُسهِّل ذلك في الحديث، أنَّ الصفة فيه مختصةٌ، وإن لم تكن محضة (¬3). الثانية والثلاثون: وأما القاعدة التي ذكرناها في عطف المفردين بالواو (¬4)، والعلة المذكورة كذلك، فإنما ذكرناها ليُنظر بينها وبين ¬

_ (¬1) انظر: "المقتصب" للمبرد (2/ 139)، و"المفصل" للزمخشري (ص: 155)، و "لسان العرب" لابن منظور (13/ 415). قال البغدادي في "خزانة الأدب" (5/ 65 - 66): هذا الشاهد قلما خلا منه كتاب نحوي، لكنه لم يعرف له قائل، والله أعلم. (¬2) انظر: "شعر عبيد بن الأبرص" (ص: 117) (ق 48/ 9). (¬3) "ت": "غير محضة". (¬4) "ت": "الواو".

الثالثة والثلاثون

ما نحن فيه، وإلى العلة التي ذكرت، وهل ثَمَّ فرقٌ، أو لا؟ فيه تظهر صحةُ بعض هذه الوجوه، أو فساده، على أنَّ هذه الوجوهَ إنما ذُكِرت لتحقق النظر فيها بعد دلك، والموضعُ لم يتقدم فيه كلامٌ لأحدٍ من المصنفين فيما رأيته، وإنما المذكور احتمالات ومَباحِث (¬1) وقع الكلام فيها، فذكِرَت لتكونَ للفكر مُعَرِّضة، وعن الإهمال مُعْرِضة، وللتهذيب متعرِّضَة. الثالثة والثلاثون: قوله في بعض الروايات: "انصَرَفَ مِنْ خَطِيْئَتِهِ كَيَومَ وَلَدَتْه أُمُّهُ" [يومَ] (¬2) مفتوح مبني لإضافته إلى الفعل الماضي المبني، كقوله [من الطويل]: على حينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبَا (¬3) وقوله [من البسيط]: لم يَمْنعِ الشّربَ منها غَيْرَ أن نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أَوْ قَالِ (¬4) والإضافةُ إلى المبنيِّ أحدُ أسباب البناء. ¬

_ (¬1) "ت": "مباحثات". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) صدر بيت للنابغة الذبياني، كما في "ديوانه" (ص: 80)، وعجزه: وقلتُ ألمَّا أصحُّ والشَّيبُ وازعُ (¬4) البيت لأبي قيس بن رفاعة، كما فى "المفصل" للزمخشري (ص: 163).

الرابعة والثلاثون

الرابعة والثلاثون: قوله: "كَهَيْئَتِهِ يَومَ ولَدتْه أُمُّه" حال من الضمير في (¬1) قوله: "مِنْ خَطِيْئَتِهِ". * * * * الوجه الخامس: في شيء مما يتعلق بالألفاظ غير ما تقدم ويأتي، وفيه مسائل: الأولى: قوله: "فَسَمِعْتُ برجلٍ بمكةَ يخبرُ أخبارًا": لا شكَّ أنه لا يُراد ظاهر اللفظ، لأنه لا غرابةَ في الإخبار بمجرد الأَخبار، ولا حامل بسبب ذلك بمجرده على الرحلة، بل إما أن يكون من باب تَنْكير التعظيم، أو من باب حذف الصفة الممحضة (¬2)، كالإخبار عن الغيوب مثلًا، وبين الوجهين فرق. الثانية: قوله: "ما فَعَلَ هَذَا الرجلُ" هو يعني به: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان أسلمَ، والواجب تعبيرُ المسلمِ عن الرسول بغير هذه العبارة، ولعلَّ سببَهُ طلبُ الإخفاء لِمَا لعله يُتَوقَّعُ من الضرر من القوم المسؤولين؛ لكثرة الكفر في ذلك الوقت، والمعاداة لأهل الإيمان، وليس هذا المعنى في قوله في أول الحديث: "فسمعتُ برجل بمكة يخبر أخبارًا": إما لأنه حينئذ كان قبل الإسلام المقتضي للعدول عن مثل هذه الصيغة، أو لأنه أخبر على حسب ما سمع. الثالثة: قيل: معنى (مع) المصاحبة بين أمرين، وكل أمرين ¬

_ (¬1) في الأصل: "من"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "المخصصة".

لا يقع بينهما مصاحبة واشتراك إلا في حكم يجمع بينهما، ولذلك لا تكون الواو التي (¬1) بمعنى (مع) إلا بعد فعل لفظًا أو تقديرًا لتصحَّ المعيَّةُ، وكمالُ معنى المعية الاجتماعُ في الأمر الذي به الاشتراك في زمان ذلك الاشتراط، ويستعمل أيضًا لمجرد الأمر الذي به الاشتراك والاجتماع دون زمانِ ذلك. فالأول يكثر في أفعال الجوارح والعلاج، نحو: دخلت مع زيد، وانطلقت مع عبد الله، وقمنا معًا، ومنه قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36]، {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} [يوسف: 12]، {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} [يوسف: 63]، {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} [يوسف: 66]. والثاني: يكثر في الأفعال المعنوية، نحو: آمنت مع المؤمنين، وتبتُ مع التائبين، وفهمتُ المسألة مع مَنْ فهمها، ومنه قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]، {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10]، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، أي: بالعناية والحفظ، {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8]، يعني: الذين شاركوه في الإيمان، وهو الذي وقع به الاجتماع والاشتراك من الأحوال والمذاهب، وقد ذُكر الاحتمالان المذكوران في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157] فقيل: إنه من باب المعية في الاشتراك، فيما به الاجتماع والزمان على حذف ¬

_ (¬1) "ت": "الذي".

الرابعة

مضاف، إما أن يكون تقديرُه: أنزل معه نبوَّته، وإما أن يكون التقدير مع أتباعه، وقيل: إنه مما وقع به الاشتراك دون الزمان، وتقديره: واتبعوا معهُ النور، وقد تكون المصاحبة والاشتراك بين المفعول وبين المضاف إلى (مع)، كقولك: شَمَمْتُ طِيبًا مع زيد، ويجوز أن يكون منه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67]، انتهى. وقد ورد في الشعر استعمالُ (مع) في معنى ينبغي أن يُتَأَمَّلَ ليُلحَق بأحد الأقسام، وهو قوله [من الطويل]: يقومُ مَعَ الرُّمْحِ الرُّدَيِنيِّ قامَةً ... وَيَقْصُرُ عنه طُوْلُ كُلِّ نِجادِ (¬1) الرابعة: سيأتيك في الفوائد؛ أنه يُحتمل أن تكون العلّة في النهي هي سجود الكفار، ويكون ذكر كونها "تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَي شَيْطَان" ذِكرًا لسبب العلة، فعليك أن تتأمل وجهَ الدلالة بوجه سجودِ الكفار لها على سببية طلوعها بين قرني شيطان، ويلحق ذلك بما ذكره أهل البيان، وتسميه باسمه الموضوع عندهم بهذه الدلالة، بحيث يتميّز عن غيره، مما يدخل تحت الأسماء التي يوردونها (¬2). الخامسة: التنكير في لفظة "شيطان" يقتضي التعليل بالشيطنة، ولو ورد بلفظ التعريف، وأريد إبليسُ، لم يمتنع التعبير عنه بشيطان؛ ¬

_ (¬1) البيت لسلم الخاسر، كما نسبه البغدادي في "خزانة الأدب" (9/ 489). (¬2) في الأصل: "يوردها"، والمثبت من "ت".

السادسة

لأنَّ التعبيرَ عن الخاص باللفظ العامِّ غيرُ ممتنع، كما تقول: رأيت رجلًا، وأنت تريد معيَّنًا، ويكون التعبيرُ بالتنكير هاهنا أكثرَ فائدة من التعبير بالتعريف، وستأتي فائدتُه في وجه الفوائد والمباحث إن شاء الله تعالى. السادسة: قوله عليه السلام: "فإِنَّها مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ" تفسيُره بحضور الملائكة، يمكن أن يكون فيه تنبيهٌ على علة المنع في وقت الكراهة؛ لأنَّ الملائكةَ لا تشهد، ولا تحضر عند عبادة الكفار؛ لأنه [لمَّا] علَّلَ الإباحةَ بالشهود والحضور، دلّ على انتفاء العلة في حالة المنع، وإلا لَمَا اختصت الإباحة بحالة الشهود والحضور، والله أعلم. السابعة: ويكون التعليل بكون الكفار يسجدون لها من إضافة الحكم إلى سبب السبب، أي: أن الكفارَ يسجدون، وهو سببٌ لعدم حضور الملائكة الذي هو السبب للمنع، وقد دل كتاب الله تعالى على أن شهودَ الملائكة سببٌ للأمر بالفعل، والحثِّ عليه، وهو قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] إذا حملناه على الملائكة، وهو الظاهر. الثامنة: قد حكينا فيما مضى معنى استقلال الظلِّ بالرمح، ويحتمل معنًى آخرَ يليق بهذا المكان؛ وذلك أن الظلَّ إذا كان تحتَ القائمِ، كان شبيهًا باستقلال الحامل بالمحمول، فاستُعِير له لفظه بالمشابهة، ويكون من قولهم استَقَلَّ فلانٌ بالأمر، وفلانٌ لا يستقِلُّ بهذا الأمر، أي: قام به، أو لا يقوم به.

التاسعة

التاسعة: النحويون يذكرون في ضمير الشأن معنى (¬1). العاشرة: قوله: "انصَرَفَ مِنْ خَطِيْئَتِه كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّه" وفي رواية (¬2). الحادية عشرة: قوله: "فالوضوءَ أَخبِرْني عنه" (¬3). الثانية عشرة: رواية "خَرَّت" من الخرور، أبلغُ من جَرَت من الجري، ورواية خَرَّت أبلغُ من خرجَت، وإنما كان كذلك؛ لأن في (خرّت) دلالةٌ على الجري وزيادة، لما في الخرور في الأجسام من الدَّلالة على السُّقوط، والنقل المقتضي للسرعة، من جهة طلب الهويّ بنقل (¬4) هذا المعنى بالاستعارة إلى الخطايا، و (جرت) وإن دلَّ على الخروج والجريان، لكنه لا يدلُّ على الذي دلَّت عليه [خرّت] (¬5) من السرعة؛ لأن الجري قد يكون مع البطء، و (خرجَت) قاصر الدلالة عن الأمرين (¬6) جميعًا، أعني: عن الجري والسرعة، وإنما قلنا: لفظًا؛ لأنه قد يدلُّ على السرعة وجودًا في الأعضاء المغسولة غالبًا. الثالثة عشرة: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "مع الماء" أفاد ¬

_ (¬1) بياض في النسختين الأصل و "ت". (¬2) بياض في النسختين الأصل و "ت". (¬3) بياض في النسختين الأصل و "ت". (¬4) "ت": "ينتقل". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) "ت": "الأمر".

الرابعة عشرة

تعجيلَ المغفرةِ وسرعتَها، ووقوعها عند استعمال الماء، وفي ذلك زيادةٌ على مجرد خروجها لو لم يذكر هذه اللفظة، لإمكان التراخي فيه عند عدم ذكرها. الرابعة عشرة: قوله: "ورقَّ عَظْمي" مجاز؛ لأن هذه الحالة التي أشار إليها، إنما هي بنقصان اللحم، ونُحولِ الجلد، لا لأمر يرجع إلى نفس العظم؛ فإما أن يكون سمَّى الجملةَ عظمًا، وجعل رِقَّته بنقصان بعضِه بعد هذه الملاحظة، أو يكون سمَّى اللحمَ والجلدَ عظمًا بالمُجاورة، والنقصانُ راجعٌ إليهما. الخامسة عشرة: قوله: "لقد كَبِرَ سِنِّي، ورَقَّ عظمي، واقتربَ أجلي، وما بي حاجةٌ أن أكذبَ على الله، ولا على رسولهِ" فيه أمران: أحدهما: ذكر الموجباتِ لعدم الكذب والمقتضيات للصدق. والثاني: انتفاء الموجبِ للكذب بعد قيام الموجب للصدق، وعدمُ معارضة مانعٍ لتلك الموجبات. * * * * الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: قول أبي أمامة لعمرو بن عبسة: بأيِّ شيء تدَّعي أنك رُبْعُ الإسلام؟ وذكر جوابه عن ذلك وتقريره، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون على حذف مضاف، أيَّ ربع أهل الإسلام. والثاني: أن يكون استعَارَ للإسلام لفظَ الرُّبع، تشبيهًا له بما له أجزاء، فيكون ربعًا للإسلام على سبيل المبالغة، فيكون بعد الاستعارة،

الثانية

وعلى هذا ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - داخلًا في هذا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أولُّ المسلمين"، أو "من المسلمين" (¬1)، وهذا هو ظاهر اقتصاره على أبي بكر وبلال. ويحتمل أن يكون اعتبر خديجة في الإسلام، حيث جعل نفسه ربعا، واعتبر الرجولية حين ذكر أبا بكر وبلالًا فقط، والأول أَدْخَلُ في التعظيم، وأبلغُ في الصيغة. وإذا جعلنا فيه حذفًا، ففيه احتمال دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، والاحتمال الآخر، لكن يتفاوت هو والتقدير الثاني في المعنى الذي أشرنا إليه في التقدير الثاني. الثانية: قد كنّا قدمنا كلامًا في قوله: "أظن"، وهل هو بمعنى العلم، أو لا؟ وقد ورد في رواية إسماعيل بن عياش ما يدل على أنه بمعنى العلم، فإن فيها: "رغبتُ عن آلهة قومي في الجاهلية" (¬2)، فظاهر هذا الجزم: مفارقته لاعتقادهم. الثالثة: إجابة عمرو إلى الإسلام بسبب ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (771)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، من حديث علي - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 111)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3/ 41)، والطبراني في "مسند الشاميين" (863)، وغيرهم.

الإرسال بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، والتوحيد لله، من باب الاستدلال بالقرائن، من الأفعال، والأحوال، والأقوال، وهي من الطرق المفيدة للعلم اليقيني، لا سيما مع كثرة القرائن، وطول الأزمنة، وانظر إلى قول عبد الله بن سلام في النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فلما رأيته علمتُ أن وَجْهَه ليس بَوَجْهِ كذَّاب" (¬1) واستدلاله بالحال، ولا يتردَّدَن (¬2) في أنَّ القرائنَ في مثل هذا مفيدةٌ للعلم، فقد عُلِم بالضرورة خَجَلُ الخَجِل لحمرةِ وَجْهِه، عقيب السببِ الموجبِ للخَجَل، وعُلِمَ بالضرورة وَجلُ الوَجِلِ بصُفرة وَجْهِه، عند وجودِ السببِ الموجبِ لذلك، وأين هذا من آلافٍ من القرائن تتضافر على شيء واحد في الزمن الطويل، ولقد أحسن من المتكلمين من قال (¬3). والنصارى يذكرون عن المسيحِ عليه السلام أنه يأتي من بعده أنبياء كذَّابون، وأنه قال: من ثمارهم يعرفونهم، وثمارهم هي أحوالُهم وسِيَرُهم، وما دلَّت عليه شرائعُهم، وتأمَّل الحكمَ في ذلك، والتحقيق فيه لما تدلُّ عليه القرائن؛ فالنصارى هالِكون بعدم تتبُّعهم لأحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله، وحكم شرعه، مخالفون لما دلَّهم عليه المسيحُ عليه السلام. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2485)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، وقال: صحيح، وابن ماجه (1334)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في قيام الليل. (¬2) في الأصل: "يترددون"، والمثبت من "ت". (¬3) بياض في النسختين الأصل و "ت".

الرابعة

ولا يجيء الخلاف الشاذ المقول عن العنبري والجاحظ؛ لأنهم بين مقصِّر أو معانِدٍ، وكيف ما كان فالهلاك واقع بهم، وليس حالهم حالَ من يقول فيه العنبري ما قال: إذا حصل التمكنُ من النظر فيما يوجب الإيمان، ويمكن على هذا أن يجيبَ العنبريُّ عما ردَّ به عليه من تثبيت المشركين، واغترارهم، وعدم المعرفة بالفرق بين المعاند وغيره، فله أن يقول: المكلَّف منهم مع إمكان النظر بين معاند ومقصر، وأنا أقول: بهلاك كل واحد منهما، هذا إن كان قال ما قال بناءً على ما ذكرناه، وأما الذي حُكِيَ عنه من الإصابة في العقائد القطعية، فباطلٌ قطعًا، ولعله لا يقول ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا الذي ذكرنا: أن له [أنْ] (¬1) يقوله، إنما هو بالنسبة إلى هذا الردِّ المخصوص، ولهم عليه ردٌّ أو ردودٌ غيرُ هذا، ليس هي التي أوردنا عليها هذا السؤال. الرابعة: قوله: "مَنْ مَعَكَ على هذا الأمر؟ " يحتمل أن يريد باستعلام من معه النظر في أنه هل يمكن إظهارُ المتابعة باعتضاده بمن أسلم، ويَبْعُد أن يريدَ به الاستدلالَ بالوجه الذي استدل به هِرَقْلُ من أهل الكتاب الناظرين في سير الرسل - عليهم السلام - وأتباعهم، ولهذا لما أخبر بأنهم ضعفاء الناس، قال: هم أتباع الرسل (¬2)، وعمرو ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه البخاري (7)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1773)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -.

الخامسة

ابن عبسة لم يكن من هذا القبيل ظاهرًا، ويحتمل أن يريدَ سؤالَه عمن معه معرفة حالهم، فإن لصفاتِ أربابِ المذاهب والعقائد من العقل الراجح، وغير ذلك، أصلًا كبيرًا في صحتها، والأقرب أن يكون السؤال للأمر الأول. وقوله بعد العلم بقلتهم: "إني مُتَّبعك" لإشراق نور الإيمان في قلبه، وقوَّةِ الاعتقاد، وعدم الالتفات لهذه العلة. الخامسة: قال القرطبي: وقوله: "فمن تبعك على هذا الأمر؟ قال: حرٌّ وعَبْدٌ" الحرُّ: أبو بكر، والعبد: بلال، كما فسَّره، ولم يذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا لصغره؛ فإنه أسلم وهو ابن سبعِ سنين، وقيل: ابن عشر، ولا خديجة؛ لأنه فَهِمَ عنه أنه إنما سأله عن الرجال، فأجابه حسب ذلك. قال: ويُشكل هذا الحديث بحديث سعد بن أبي وقاص، فإنه قال: "ما أَسْلَمَ أَحَد إلا في اليوم الذي أَسْلَمْتُ فيه، ولقد مَكَثْتُ سَبْعَةَ أيام، وإني لَثُلُثُ الإسلامِ" (¬1) وظاهرهُ: أن بلالًا وأبا بكر أسلما في اليوم الذي أسلم فيه، وأنه أقام سبعة أيام لم يسلم معهم - الثلاثةِ - أحدٌ، وحينئذ يلزم أن يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم جاءه عمرو بن عبسة - أبو بكر وسعد وبلال، لكنْ سكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أعني: عن سعد، فلم يذكره. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

السادسة

وذكر احتمالًا وقال: وإما لأن سعدًا لم يكن حاضرًا إذ ذاك بمكة، وإما لأمر آخر، والله أعلم (¬1). السادسة: لم يُذكر في هذا الحديث دخولُه في الإسلام، ولا يمكن إجراؤه على ظاهره، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إنك لا تستطيع ذلك يومَك" (¬2)، ونفس الإسلام يُستطاع مع الإخفاء، وتأخيرُ الإسلام ممتنعٌ مع التمكُّن، والمبادرة مع ذلك فرض مضيق. السابعة: فيه عَلَم من أعلام النبوة؛ لإتيانه - صلى الله عليه وسلم - بـ (إذا) التي تستعمل في محقَّقِ الوقوع، وقد وقع المخبَرُ به على وَفْقِ الخبر، وقد جاء الخبر مصرحًا به في حديث خبَّاب: "واللهِ لَيُتِمَّنَ اللهُ هذا الأمرَ" (¬3)، وفي حديث عدي بن حاتم (¬4)، وما في كتاب الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]. الثامنة: قوله: "أَخبِرْني عن الصلاة" قال أبو العباس أحمد بن عمر فيه: أنه سؤال عن تعيين الوقت الذي يجوز النفل فيه، من الوقت الذي لا يجوز، قال: وإنما قلنا ذلك؛ لأنه عليه السلام فَهِم عنه ذلك، فأجابه ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 460 - 461). (¬2) "ت": زيادة "هذا". (¬3) رواه البخاري (3416)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام. (¬4) رواه البخاري (3400)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، بلفظ فيه: "فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ... "، الحديث.

العاشرة

به، ولو كان سؤاله عن غير ذلك، لما كان يكون جوابه مطابقًا للسؤال (¬1). قلت: إن أراد بالمطابقةِ، أن لا يكون لا أَزْيَدَ، ولا أَنْقَصَ مما وقع عنه السؤال، فالذي استدل به على هذا التقدير صحيحٌ، لكنه قد يُمنع اشتراطُ هذا الشرط في صحة الجواب، فقد يكون الجواب أكبرَ، وقد يكون أقلّ؛؟ بأن يعيّن المسؤول بعض ما وقع عنه السؤال لمعنى يقتضي ذلك عنده، لزيادة الحاجة إليه، أو غير ذلك، لا لأنه فَهِمَ من السائل أن السؤال عن ذلك الشيء الذي عيّن في الجواب لخصوصه. العاشرة (¬2): قول أبي العباس القرطبي: إنه سؤال عن تعيين الوقت، الذي يجوز النفل فيه، من الوقت الذي لا يجوز، ينازعه فيه من يقول: إن المفروضاتِ الفائتةَ تمتنع في هذا الوقت، مستدلًا بظاهر الأمر بالاقتصار عن الصلاة، وهو عامٌّ في الفرض والنفل، ويكون دخول النفل فيه من باب الجواب عن الشيء، وعما هو أكبر منه، وهذا أيضًا مما يَرِد عليه في تعيين السؤال للوقت الذي يجوز النفل فيه من الوقت الذي لا يجوز، والزيادة في الجواب عن القدر الذي سئل عنه لا نزاع فيه "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬3). الحادية عشرة: الذين قالوا بامتناع قضاء الفوائت المفروضة في ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 461 - 462). (¬2) كذا في الأصل و "ت": "العاشرة"، ولم تذكر فيهما المسألة التاسعة، ولم يُنبَّه على ذلك في كلا النسختين، والله أعلم. (¬3) تقدم تخريجه.

الثانية عشرة

وقت الكراهة، يستدلّون - كما بينا - بظاهر العموم في قوله عليه السلام: "أقصر عن الصلاة" وهو عامٌّ في الفرض والنفل كما ذكرنا، ومن أخرجه عن العموم إلى الخصوص، فبدليل من خارج. الثانية عشرة: القائلون بالتخصيص يستدلون بإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قضاء ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح لمن فاتته قبله، كما دلَّ عليه الحديث المروي في ذلك (¬1)، فإذا جاز قضاء النفل الفائت في هذا الوقت، فلأَنْ (¬2) يجوز ذلك في الفرض الفائت أولى. الثالثة عشرة: وربما [تَخَطَّوْا] (¬3) ذلك بالاستدلال بذلك الحديثِ على جواز صلاة ما له سبب مطلقًا في هذه الأوقات المكروهة، وعليه سؤال احتمال أن يكون للمقضي المخصوص أثرٌ في الحكم؛ كتأكُّده مثلًا، فلا يجوز تعدِّي الحكم إلى ما لا يساويه في صفته، وكذلك إذا وجد تخصيص آخر للصلاة في وقت آخر، كما بعد العصر بالنسبة إلى فائت راتبة الظهر، يقال: عليه ذلك أيضًا، اللهم إلا أنَّ يظهرَ بدليلٍ وقرينةٍ إلغاءُ الوصف المقتضي للتخصيص، فيصح الاستدلالُ. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1267)، كتاب: الصلاة، باب: من فاتته متى يقضيها؟ وابن ماجه (1154)، كتاب: المساجد والجماعات، باب: ما جاء فيمن فاتته الركعتان قبل صلاة الفجر متى يقضيهما، من حديث قيس بن عمرو - رضي الله عنه -. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 188). (¬2) في الأصل: "فلا"، والتصويب من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

الرابعة عشرة

الرابعة عشرة: قوله عليه السلام: "ثم أقصر عن الصلاة" الألف واللام تُستعمل للعهد، وتستعمل للجنس، وقد يردُّها بعضُ المناظرين أو المشغِّبين إلى العهد، أي: الصلوات الخمس؛ ليجيبَ بذلك عما عساه يُسْتَدلُّ به عليه في بعض [ما] (¬1) ينطلق عليه اسمُ الصلاة، إذا كان يخالف فيه لكون الصلوات الخمس معهودة. وأنا أقول: إن مجرَّد التقدمِ في الوجود، ولا يلزم منه أن يكون المعهود الذي ترد إليه الألف واللام إلا بقرينة، ونظائره في الأمثلة ظاهرة: {أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15 - 16]، لقيت رجلًا، فقال الرجل، ولعلَّه قد تقدم ذِكْرُ شيء من هذا عند ما أريد أن يجوز حمل الألف واللام المنهي عن اتخاذه للعهد، فإذا لم تقُمْ قرينة، لم يلزم الحمل على العهد إلى هذا. الخامسة عشرة: إذا حملنا لفظَ الصلاة على العموم؛ إما لما ذكرناه من اشتراط القرينة، أو لأنه يلزم خروج النوافل عن المراد، وهو خلاف ما اتفق عليه؛ لأنه إما أن تكون داخلة في المراد مع الفرائض، أو مخصوصة بالإرادة، إما بشرط كعدم السبب؛ كما يقول الشافعي، أو بغير شرط، فعلى هذا كل ما يُسمَّى (¬2) صلاةً يدخل تحت اللفظ. السادسة عشرة: الحنفية يقولون في الأوقات الثلاثة - أعني وقت ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "سمي"، والمثبت من "ت".

السابعة عشرة

الطلوع، ووقت الغروب، ووقت الانتصاب - أنه لا يُصلَّى فيها (¬1) جنسُ الصلوات، ولا يصلي فرضًا ولا نفلًا، ولا سجدةَ التلاوة، وقت الطلوع، والغروب، والانتصاب، إلا عصرَ يومه، فإنه يصليها وقت الغروب، إلا ما استثناه أبو يوسف في رواية، من جواز الصلاة [في يوم الجمعة خاصةً أن يؤدِّيَ النافلة (¬2)، فمقتضى العموم عن الإقصار عن الصلاة] (¬3) أن لا يؤدي الفرض المقضيَّ كما ذهبوا. السابعة عشرة: اقتضاء العموم منع الفائتة في هذه الأوقات، عارضوه بقوله - عليه الصلاة السلام -: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أو نسِيَها فَلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَها" (¬4)، وهو من باب تعارض العمومين من وجه دون وجه، وقد مَرَّ شيءٌ من هذا، والذين أجازوا القضاء للفائتة رجحوا ما ذهبوا إليه بالاتفاق على دخول التخصيص في ذلك الحديث؛ ولم يحصلِ الاتفاقُ على ترك العموم في هذا الحديث، وقد يُعَارض هؤلاء بدخول التخصيص في صلاة الجمعة، وقد يُعتذَرُ عنه بأن يقالَ: الظُّهرُ فرض الوقت، فإن الجمعة ظهرٌ مقصود، والظهر يُقضى، وكذلك من يقول: بعدم قضاء صلاة العيدين إذا نام عنها، أو نسيها، وكذلك فوات صلاة الكسوف، والاستسقاء بالنوم، أو ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيه"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 296). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) تقدم تخريجه.

الثامنة عشرة إلى العشرين

النسيان، وكذلك صلاة الجنازة عند من لا يرى قضاءَها، لكنَّ الصورَ المختلف فيها من ذلك، وقد يقال: إنه لا يرد؛ لأنا ادَّعينا عدمَ الاتفاقِ على التخصيص، والأمر كذلك في هذه المسائل المختَلف فيها. الثامنة عشرة: العموم يتناول النافلة، وقد قلنا: إنه إما مقصود، أو مندرج، فيقتضي في النافلة مع هذه الأوقات الثلاث، وهي ثلاث مسائل. الحادية والعشرون (¬1): ظاهرُ الأمرِ الوجوبُ، وظاهرُ النهيِ التحريمُ، فالأمر في هذا الحديث بقوله: "أقْصِرْ عن الصلاة"، والنهي إمَّا منه أيضًا على القول بأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده على ما فيه من بحث نذكره، وإما من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: "ثلاثُ سَاعاتٍ نهَانَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نُصَلِّيَ فيهنَّ، أو أَنْ نَقْبُرَ فيهن مَوْتَانا" الحديث (¬2)، وظاهر النهي التحريم، والحنفية قالوا: إنه لو صلَّى التطوعَ جاز، ويُكره، ولو قرأ آية السجدة فسجد جاز، ويكره (¬3)، وهو خلاف الظاهر من النهي، فيحتاج صرفُه عنه إلى دليل، هذا بعد أن تبيَّن أن اسمَ الصلاة منطلقٌ على سجود التلاوة، وقد أخذوا منه ¬

_ (¬1) جاء على هامش الأصل: "لم يذكر التاسعة عشرة ولا العشرين". قلت: وذلك لأنه ذكر ثلاث مسائل في المسألة الثامنة عشرة، ولم يفطن لذلك الناسخ رحمه الله. (¬2) رواه مسلم (831)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها. (¬3) انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 296).

الثانية والعشرون

اشتراطَ شروطِ الصلاة على ما هو مذهب المشهورين من العلماء. الثانية والعشرون: إذا أخذنا بالعمومِ في الصلاة، دخل فيها صلاة الجنازة، والحنفيَّة قالوا فيها: كما قالوا في سجود التلاوة: إنه لا يصلَّى على جنازة، ولو صلَّى جاز، هذا في الأوقات الثلاثة، والأمر في ذلك كما تقدم في المسألة قبلها في انطلاق اسم الصلاة، ودلالة النهي على التحريم، لكنهم يُفَرِّقون بين قضاء الفرائض (¬1)، وبين صلاة الجنازة، وسجود التلاوة؛ لأن في قضاء الفوائت الفرضية في هذه الأوقات نيابة الناقص عن الكامل؛ لأنَّ الصَّلاة تثبت في الذمة كاملةً، والصلاة في هذه الأوقات ناقصة، والناقص لا ينوب عن الكامل، ولذلك قالوا: إنه لو قرأ آية السجدة قبل هذه الأوقات، وسجد في هذه الأوقات لا يجوز، ويعاد؛ لأن سجود التلاوة عندهم واجب، وقالوا أيضًا كذلك: فيمن صام يوم النحر قضاءً عن واجب في ذمَّته لا يجوز، وكذلك يوم الفطر وأيام التشريق، ولو صام تطوّعًا جاز، ويكره، ولا بدَّ من دليل على اعتبار هذا المعنى؛ أعني: النقص والكمال في جواز الفعل وإجزائه، وإن كان معنىً مستنبطًا من قاعدة كلية، النص الخاص أولى منه، وهي (¬2) النهي الخاص عن صوم يوم النحر وأيام التشريق، وقال مالك رحمه الله (¬3). ¬

_ (¬1) في هامش "ت": "الفوائت". (¬2) "ت": "وهو". (¬3) كذا بياض في النسختين الأصل و "ت".

الثالثة والعشرون

الثالثة والعشرون: عند الحنفية أنه إذا صلى ركعةً من الصبح، وطلعتِ الشمس، فسدتْ صلاتُه، وفرقوا بينه وبين ما إذا صلى ركعة من العصر، ثم غربتِ الشمس، فإنه يمضي فيها، وتجزئ عنه، وفرقوا بينهما: أنه لما طلعت الشمس صار إلى حال لا يجوز ابتداء الصلاة فيها، فلا يجوز البناء عليها بخلاف العصر، فإنه إذا غربت الشمس، فقد صار إلى حالة يجوز ابتداء العصر فيها، فجاز البناء عليها (¬1). فإن (¬2) أريد الاستدلالُ بهذا الحديث على الحكم الذي قالوه في الصبح، فوجهُه: أن النهي عن الصلاة يتناول هذه الصورة، فإذا قيل بأنه يدل على الفساد، فسدَ ذلك القدرُ الواقع في وقت النهي، وإذا فسد البعضُ فسدَ الكلُّ، وهذا الاستدلال على هذا الوجه، يلزم أن يكون بناءً على قواعدهم في أن النهي يدل على الفساد أو لا، وفيه شغبٌ جدليٌّ من جهة مخالفيهم؛ وهو أن يقال: إن النهي عن الصلاة يتناول جملتها حقيقة، فلم (¬3) نسلِّم تناوله للبعض حقيقة، فيكون مجازًا، والأصل عدمه. وإنما جعلناه شغبًا؛ لأن الاتفاقَ واقعٌ على منع ابتداء الصلاةِ النفلِ في الوقت المكروه، ولو وقع تمامه بعده مستندًا إلى هذا الحديث، وذلك يلغي اعتبار الجملة من حيث هي جملة، وكذلك ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 127). (¬2) "ت": "فإذا". (¬3) "ت": "فلا".

الرابعة والعشرون

الألفاظ الدالة على اشتراط شرائط الصلاة، تعمُّ أجزاءها، وتفسد بعدم بعض تلك الشرائط المدلول عليها بتلك الألفاظ مع ورود هذا السؤال فيها، فإلغاء هذا المعنى في المتفق عليه، يدل على عدم اعتباره في المختلف فيه. فإنْ قال: أنا لا أُثبت تلك الأحكام في مواضع الإجماع بتلك النصوص والألفاظ، بل بدلائل أُخَر؛ فهذا هو الشغب والجدل بعينه، والمراوغة التي لا يَرجع إليها طالبُ تحقيقٍ. الرابعة والعشرون: هذا الذي ذكرناه من الاستدلال، له مُعارِضٌ من وجهين: أحدهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَدْرَكَ [ركعةً] (¬1) من الصبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشمسُ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصبْحَ" (¬2)، وأجاب بعض الحنفية عنه بوجهين: [أحدهما] (¬3): أن هذا يَحتملُ، أن هذا كان قبل النهي عن الصلاة في هذه الأوقات. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه البخاري (554)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من أدرك من الفجر ركعة، ومسلم (608)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) زيادة من "ت".

وهذا ضعيف جدًا؛ لأنه يلزم منه إثبات النسخ بالاحتمال. والثاني: ما معناه، أنه يَحتمل أنه أراد وقت الصلاة؛ لأن الصلاة قد تذكر، ويراد بها وقتُها، كما جاء في الحديث: "جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصلاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ" (¬1)، المعنى: أدركني وقت الصلاة، وكذلك هاهنا: من أدرك ركعة من وقت الفجر (¬2)، يعني: لو أن امرأة طَهُرَتْ في ذلك الوقت، أو كافرًا أسلم، أو صبيًا أدرك في ذلك الوقت، وجب عليه أداء تلك الصلاة، وكان كأنه أدرك جميع الوقت، وهذا ارتكاب لمجاز الحذف. وثانيهما: ما ورد من التصريح بأنه من أدرك ركعة من الصبح، ثم طلعت الشمس، أنه يتم صلاته، وهو نصٌّ على خلاف هذا المذهب. والحديث من رواية عفان، عن همام قال: سئل قتادة عن رجل صلى ركعة من صلاة الصبح، ثم طلعتِ الشمس، فقال حدثنا خلاس، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَلَّى ركعةَ من صلاةِ الصبحِ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشمسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاتَه" (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬2) انظر: "الهداية" للمرغيناني (1/ 40). (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (464)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 490)، والدارقطني في "سننه"، (1/ 382)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 379).

الخامسة والعشرون

وفي رواية هشام، عن عزرة (¬1) بن تميم، عن أبي هريرة: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكم ركْعة مِنْ صَلاةِ الصبْحِ، ثمَّ طَلَعَتِ الشمسُ، فَلْيُصَلِّ إِلَيْهَا أُخْرى" (¬2). وفي رواية عن همام قال: سمعت قتادةَ يحدِّث، عن النضر بن أنس، عن بَشير بن نَهيك، عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصبْحِ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشمسُ، فَلْيُصَلِّ الصبْحَ" (¬3). فقد اختلفت الألفاظ؛ ففي بعضِها ما يحتمل التأويلَ، وهو هذا الأخير، وانظر أيضًا في الاختلاف على قتادة في الإسناد، فإنه قد يوافق محمد بن سنان من رواية أحمد بن عتيق العتيقي عنه، وعفان في الرواية عن خِلاس، عن أبي رافع، ورواية هشام، عن قتادة، عن عزرة، وفي رواية عن محمد بن سنان، عن همام، عن قتادة، عن النضر، عن بشير؛ وهي هذه الأخيرة. الخامسة والعشرون: هذا الذي ذكرناه، وادَّعيناه من النصوصيَّة، إنما هو بالنسبة إلى إبطال القول بإفساد الصلاة، ووجوب الخروج منها، وقضائها، وهو قد روي عن أبي يوسف، أنه قال: إذا طَلَعتِ الشمس وهو في الصلاة، ينبغي أن يَمْكُثَ، حتى ترتفع ¬

_ (¬1) في الأصل: "عروة"، والتصويب من "ت". (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (463)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 379). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 347)، وابن خزيمة في "صحيحه" (986)، وابن حبان في "صحيحه" (1581)، وغيرهم.

السادسة والعشرون

الشمس، ثم يمضي على صلاته (¬1). وعلى هذا المذهب لا تُعارضه هذه الأحاديث؛ لأنه يقول بالإتمام، وبإضافة ركعة أخرى، ولا يخالف، إلا أنها رواية شاذة، ومخالفة أيضًا للقياس، فإنه في مدة المُكث في صلاة فيدخل تحت النهي، واعتذر عن هذا بأنه عجز عن المُضي على الصلاة، واستقبله العذرُ، فصار كالذي سبقه الحدثُ، جاز له أن يتوضأَ، وَيبني على صلاته، فكذلك هاهنا جاز له أن يَمْكُثَ، ثم يَمضي على صلاته. السادسة والعشرون: يكون هذا الحكم في هذا الحديث، والنهي عن الصلاة في هذه الأوقات متناولًا لزمن المُكث، الذي ذهب إليه أبو يوسف في تلك الرواية عنه، فإذا اقتضى النهيُ الفسادَ دلَّ على فساد ذلك الجزء الواقع في مدَّة المكث، فيكون دالًا على خلاف هذا المذهب من هذا الوجه، ولئن قال: إن هذا إِنْ دلَّ على عدم الصلاة في ذلك الجزء، فلا يلزم منه بطلانُ ما ذكرتم من المذهب في الإتمام بعد زوال ذلك العذر، كما في مسألة سبق الحدث، فيعود إلى مسألة القياس على الحكم المخالف للقياس، والله أعلم. السابعة والعشرون: اختلفوا في المتحرم بالنافلة في وقت النهي، هل تنعقد صلاته، أم لا؟ وللشافعية وجهان (¬2)؛ فلمن يقول ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 144). (¬2) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 325).

الثامنة والعشرون

بعدم الصحة أن يستدلَّ بهذا الحديث، وبحديث النهي على البطلان. أما استدلاله بحديث النهي: فإن النهي يدلُّ على الفساد، فتفسد الصلاة. وأما استدلاله بهذا الحديث: ففيه بحث نذكره الآن، ووعدنا به من قبل (¬1). الثامنة والعشرون: إذا أردنا أن نستدلَّ على الفساد بما ورد فيه صيغة الأمر، فلا يتوقفُ ذلك في كل مكان، على أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضدِّه، أو لا؟ بل الحال فيه مقسَّمٌ، وذلك ينبغي أن يُنظر إلى اللفظ بالنسبة إلى هيئته وكيفيته، وبالنسبة إلى جوهره ومدلوله، فكان لم يقتضِ جوهرُه اللفظةَ ومادتَها في المدلول على الترك، أو ما يساويه، احتجنا إلى أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده، أو لا؟ إذا أردنا الاستدلال بالنهي على الفساد، كما إذا قال: قم، فإن الصيغة ومدلول جوهر اللفظ (¬2) لا يدل على النهي عن القعود، وإن استلزمه، وإن كان جوهر مدلول اللفظة هو الترك، أو ما يساويه، فلا يحتاج فيه إلى بيان؛ لأن الأمرَ بالشيء نهيٌ عن ضده، لأن النهي طلب الترك، وهذه اللفظة مثله سواء في ذلك، فما تدلُّ (¬3) عليه صيغة النهي من طلب الترك تدلُّ عليه هذه الصيغة. التاسعة والعشرون: فعلى هذا استُدِلَّ بقوله: "أَقْصِرْ عَنِ الصلاةِ" ¬

_ (¬1) في (ص: 456) من هذا المجلد. (¬2) "ت": "اللفظة". (¬3) "ت": "دلَّ".

الثلاثون

على الفساد؛ لأنه طلبٌ لترك الصلاة، فانظر ذلك، على أنه قد جاء في رواية أحمد، عن المقرئ: "فَإِذَا طَلَعَتْ فَلا تُصَلِّ، حَتَى تَرْتَفِعَ" (¬1)، وهذه صيغة مصرِّحة بالنهي. الثلاثون: إذا نذر الصلاة في الوقت المكروه (¬2) فهل يصح النذر؟ بَنَوه على أن الصلاة هل تصحُّ، أو لا؟ فإن قلنا: تصحُّ صحَّ النذر، وإلا فلا، ويمكن أن يُجعل حديثُ النهي مقدمةً من مقدمات بطلان النذر، وعدمِ لزومه؛ لأنه إن كان منهيًا عنه، لزم أن لا يوفّيَ به، لقوله عليه السلام: "مَنْ نَذَر أَنْ يُطِيْعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنَ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِه" (¬3)، والبناء المذكور ليس بالشديد القوة؛ لجواز أن يجتمع عدمُ صحة النذر، لأجل النهي مع الصحة من غير نذر. الحادية والثلاثون: نذر صلاة مطلقًا، ولم يقيدها بوقت الكراهة، فهل يؤيد فيه؟ ظاهر العموم المنع، والذين قالوا بجواز الصلاة التي لها سبب، قالوا: بأنه يصليها في الأوقات المكروهة، فإنها من الصلوات التي لها سبب كالفائتة، وفي هذا نظر. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 111) في حديث عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -. (¬2) "ت": "الأوقات المكروهة"، وجاء على هامشها: "الوقت المكروه" وكتب فوقها (خ) إشارة إلى أنها في نسخة أخرى كذا. (¬3) رواه البخاري (6318)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر في الطاعة، من حديث عائشة رضي الله عنها.

الثانية والثلاثون

الثانية والثلاثون: قد يقول بعضُ من يُنكر دَلالةَ المفهوم: أَستدلُّ بقوله: "أقْصِرْ عن الصلاةِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى تَرْتَفِعَ، فِإنَّها تَطْلُعُ حِيْنَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْني شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لها الكفارُ، ثُمَّ صَلِّ [على] (¬1) ذلك". ووجْهُه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثُمَّ أقصِرْ عن الصلاةِ، حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حتىَّ تَرْتَفِعَ" وقوله عليه السلام بعد ذلك: "ثم صَلِّ"؛ فإن الغايةَ يقتضي مفهومُها مخالفةَ ما بعدها لما قَبْلَها، فلو كان المفهومُ حجةً، لكان قوله: "ثم صَلِّ" محمولًا على التأكيد، ولو لم يكن حجة، كان محمولًا على التأسيس، والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد، والجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: إن التأكيد إن أُريد به تأكيدُ الدلالةِ على مجرد جواز الصلاة، فقد سلم (¬2) على نظر فيه، وإن أُريد تأكيدُ طلبية الفصل الذي يلزمه الجواز، فمسلَّم، لكنه فيه فائدة زائدة على مجرد تأكيد دلالة اللفظ على الجواز. الثاني: إن المذكور بعد ذلك حكم مذكور معه علتُه، وذلك لا يُستفاد من الغاية، فهي فائدةٌ مجردة، والكلام على حمله (¬3) ما ذكر بعد الغاية، ولو جُرِّدَ عن العلة لأمكن ما يقال، فأما وقد ذُكِرَت العلة، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "يسلم". (¬3) "ت": "مجرد".

الثالثة والثلاثون

فقد حصلت فائدةٌ جديدة. الثالث: إن الحكم بالجواز مُغَيًّا بغايةٍ أخرى، ولا يحصل ذلك بمجرد مفهوم الغاية. الثالثة والثلاثون: فيه دليل على امتداد الكراهة إلى وقت الارتفاع، وأنها لا تختص بوقت الطلوع. الرابعة والثلاثون: الحديث يقتضي زوال الكراهة بوقت الارتفاع، وليس فيه تحديد مقداره، وقد ورد ذلك مثبتًا في رواية المقرئ، عن عكرمة بن عمار: "فَإِذَا ارتَفَعَتْ قِيْدَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ، فَصَلِّ، فإِنَّ الصلاةَ مَشْهُودةٌ مَحْضُورَة". أخرجه الحافظ أبو نعيم في كتابه "المستخرج على مسلم" (¬1). وكذلك ورد في رواية غُنْدَر، عن عكرمة: "فَإِذَا ارتَفَعتْ قِيْدَ رُمْح أو رُمْحَيْنِ، فَصَلِّ" (¬2). وورد في حديث آخر: "حتى تَطْلُعَ الشمسُ ما دامَتْ كالحجْفة حتى تَنْتَشِرَ" (¬3)، أو كما قال. وبعض الفقهاء يقول: حتى ترتفع قيد رمح، ويستوي سلطانها بظهور شعاعها، فإن شعاعها يكون ضعيفًا في الابتداء، ومنهم من يقول: قيد رمح، أو رمحين، كما في الحديث الذي ذكرناه. ¬

_ (¬1) (2/ 424). وكذا الإمام أحمد في "المسند" (4/ 112). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 111). (¬3) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (4/ 111)، وكذا النسائي (584)، كتاب: المواقيت، باب: إباحة الصلاة إلى أن يصلي الصبح.

الخامسة والثلاثون

الخامسة والثلاثون: تكلموا في معنى "قَرْنيَ الشيطانِ"، وطلوعِ الشمس بينهما، وحاصلُ الكلام يرجع إلى الحمل على الحقيقة، أو المجاز. أما الأول: فقد ذكر بعضهم، أنه قيل: إنه حقيقةٌ، لا مجازٌ على ظاهره من غير تكييف، ونسب بعضهم هذا إلى الداوودي، قال بعضهم: وحجَّتُهم قولُ ابن عباس: "والذي نَفْسي بِيَدِه ما طَلَعَتِ الشمسُ قَطُّ حتَّى يتَحَيَّنَها سبعون ألفَ ملكٍ، فيقولون لها: اطلُعِي، فتقول: لا أَطْلُع على قَوْمٍ يعبدونَنِي من دون اللهِ، فَيأْتِيْها مَلَكٌ عن اللهِ، فيأمُرُها بالطلوعِ، فَتَسْتَقْبِلُ لِضِياءِ بني آدم، فَيَأْتِيها شيطانٌ يريدُ أَنْ يُعِيْدَها عن الطلوعِ، فَتَطْلُع بينَ قَرْنَيْهِ، فَيُحْرقُهُ اللهُ [تَحْتَها] (¬1)، وما غَرَبَتْ قَطُّ إلا خَرَّتْ للهِ ساجِدةً، فَيَأْتِيْها شيطانٌ يريدُ أَنْ يُعِيْدَها عن السجودِ، فَتَغْرُبُ يينَ قَرْنَيْه، فَيُحْرِقُه اللهُ تَحْتَها، وذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "ما طَلَعَتْ إلا بَيْنَ قَرْنيَ شَيْطَانٍ، ولا غَرَبَتْ إلا بَيْنَ قَرْنيَ شَيْطَانٍ" (¬2). قلت: قوله من غير تكييف لا ضرورة إليه، وإنما نضطر إلي ذلك فيما يستحيل ظاهره على الله تعالى، والقرن غير مستحيل على الشيطان، اللهم إلا أن يريد [بقوله] (¬3) من غير تكييف، من غير تعيين ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 7)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (9/ 271). وما ذكره المؤلف عن الداوودي، ذكره الحافظ في "الفتح" (13/ 46) عنه. (¬3) زيادة من "ت".

للمراد من المحامل الجائزة، والأثرُ المرويُّ عن ابن عباس محتاجٌ القولُ به إلى الثبوت عنه، ولا يمتنع فيه أن يُحملَ القرنان على جانبي رأسه مجازًا، فلا يتمُّ القولُ بالاحتجاج بالأثر على أنه حقيقة في القرن، نعم تكون حقيقة في التثنية، وظاهر ما نُقل أنهم يتكلمون على القرن. وأما الثاني: وهو المجاز، فقال الهروي: قيل: قرناه: ناحيتا رأسه، قال: وقال الحربي: هذا مثل معناه: حينئذ يتحرك الشيطان ويتسلط (¬1). وقال بعضهم: في معنى التمثيل والتشبيه: وذلك أن تأخيرَ الصلاة إنما هو من تسويلِ الشيطان لهم، وتسويفه (¬2) وتزيين ذلك في قلوبهم، وذوات القرون من شأنها أنها تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها، وكأنهم لما دفعوا الصلاة، وأخَّروها عن وقتها بتسويل الشيطان لهم، حتى غربت (¬3) الشمس، صار ذلك بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها، وتدفعه بها. وقيل: معنى القرن: القوة، أي: تطلع حين قوة الشيطان، قال بعضهم في هذا: ويحتمل أن يريد بقرن الشيطان قوتُه وما يستعين به على إضلال الناس، وكذلك يسجد للشمس حينئذ الكفار. ¬

_ (¬1) وانظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 102). (¬2) جاءت على هامش "ت": لعله: "وتسويله". (¬3) "ت": "اصفرّت".

وقال بعضهم في تفسير القرن بالقوة: إنه من قولك: أَنَا مُقْرِنٌ لهذا الأمر، أي: مطيق له قوي عليه، وذلك أن الشيطان إنما يقوى [أمرُه] (¬1) في هذه الأوقات، لأنه يسوِّل لعبَدَة الشمس أن يسجدوا لها. وقال بعضهم: قرنُه: أمتُه وشيعتُه (¬2). [و] (¬3) قال بعض المتأخرين: والراجح عند جماعة من المحققين كونه على ظاهره، وهو أن المراد جانبا رأسه، ومعناه: أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات، ليصير الساجد لها كالساجد له (¬4). قلت: قوله: على ظاهره، وتفسيره بجانبي رأسه ليس بجيد؛ لأن إطلاق اسم القرنين على جانبي الرأس مجاز، والظاهر إنما هو الحمل على الحقيقة في القرن يكون في التثنية، كما ذكرنا حقيقة لا في القرنين، وبعد ذلك فالجزم بالجائز الذي لا يتعيَّن الحمل عليه، يحتاج إلى دليل يدل على الوقوع، وإنما الحمل على الظاهر أن يقال: بالقرنين حقيقة، وأن الشمس تطلع بينهما، وذلك غير ممتنع كما قدمنا. والقاعدة عند المتكلمين المنتسبين إلى السنة: أن الظواهر التي يجوز حملُها على الحقيقة عقلًا تُحمل عليها، وتعتقد على ما هو (¬5) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 130 - 131). (¬3) سقط من "ت". (¬4) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 269). (¬5) "ت": "هي".

عليه من الظاهر من غير تأويل، إلا أن هذا يختلف باختلاف المَحال، وقوة الدلالة بكثرة تتابع الظواهر على المعنى الواحد، فان انتهت إلى القطع بأن المراد الظاهر جزمنا بذلك، وكفّرنا المخالف، وإن استفاضت استفاضة لا تنتهي إلى القطع بدَّعناه، وإن كان دون ذلك فلا بأس بالقول بظاهره، لكن بشرط أن لا نبُدع المخالفَ في التأويل، ولا يُعادى في الدين، كما فعل الجُهال، فاحترِزْ على نفسك من هذا إن كان لك (¬1) بها عناية، ولسلامتها من عذاب الله رعاية، وقد مر لنا كلام في هذه القاعدة. إذا ثبت هذا، فقد بيَّنَّا: أن ناحيتي رأس الشيطان إطلاقُ القرن عليهما مجاز، وفي التثنية حقيقة، وأما القول بأن القرن القوة، أي: يطلع حين قوة الشيطان، فهو مجاز أيضاً وعلاقته القوة لأجل صلابة القرن، وهو مجاز قريب، إلا أن التثنية في القرنين تشوش في حمله، وكذلك التثنية في حمله على الحزب والشيعة، وهذه المعاني في حديث الصنابحي الذي فيه الإفراد في لفظ القرن: "أن الشمسَ تطلُعُ ومعها قَرْنُ الشيطانِ" (¬2) لا يرد عليها حديث التثنية، لكنها تقتضي أن يكون الواقع طلوع قرن واحد، وهذا الحديث يقتضي أن يكون الواقعُ ¬

_ (¬1) "ت": "لها". (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 219)، ومن طريقه: الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 166)، والنسائي (559)، كتاب: المواقيت، باب: الساعات التي نهى عن الصلاة فيها.

السادسة والثلاثون

طلوع قرنين، وهو زائد تجب إضافته إلى ما دل عليه الحديث الأول، وقد يمكن أن يخرج ذلك. وأما قول من يقول: إن معناه حينئذ يتحرك الشيطان ويتسلّط، فكأنه راجع إلى معنى القوة، وقد استعمل هذا القائل لفظَ الحركة، وقد يقرِّب ذلك بأنه حين انتشار الكفار للسجود، فيشبه اعتماله وإغواؤه لهم بالحركة الحسية. وأما من قال: قرنه: أمته وشيعته، فيحتاج قائله إلى مجازٍ أو تكلفٍ في لفظ الطلوع، وما أرى هذا إلا بعيداً عما يُفهم من ظاهر ألفاظ الحديث. السادسة والثلاثون: ذكر الحافظ المبارك بن محمد بن عبد الكريم الجزري في كتابه "الشافي" في الكلام على هذا المعنى الذي نحن فيه، قال: ويجوز أن يكون المراد به؛ أنه شبه طلوعَ الشمس، وهو ظهورها على العالم، بظهور الملوك والسلاطين على رعيتهم، وما يعاملونهم به من الخِدَم والتحايا والركوع والسجود، وذلك على اختلاف أقدارهم ومراتبهم، وكذلك يفعلون معهم عند انفصالهم عنهم، وعَوْدِهم إلى مساكنهم، فشبَّه طلوعَ الشمس وغروبَها، بظهور الملوك ورجوعِهم إلى أماكنهم، وأن الصلاة في هذين الوقتين تشبه أن تكون مضافةً إلى طلوع الشمس وغروبها، بحدوثها عند حدوثها فنُهُوا عنها، فأما وقت توسُّطِها السماءَ واستوائها في قُبة الفَلَك؛ فلأن ذلك المكان هو أعلى أمكنتها وأرفعها، والسجود في هذا الوقت إذا توهم مضافاً إليها كان تعظيماً لشأنها، وإكباراً لقدرها، فنُهُوا عن الصلاة حينئذ، حتى لا يجريَ

السابعة والثلاثون

هذا الوهمُ، ولا يظن هذا الخيال، انتهى. وإنما أوردنا هذا الكلام؛ لأنه لا يتعلق بتفسير القرآن، ويشبه أن يكون تعليلاً للنهي. السابعة والثلاثون: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فإنها تطلُعُ حين تطلُعُ بَيْنَ قَرْنيَ شَيْطَان" يقتضي تعليلَ الحكم المذكور بهذه العلة، ومناسبتُها الإبعاد عن مشابهة الكفار، والإيغالُ في مخالفتهم، حتى في وقت تعبُّدِهم، وإن كانت العبادة على غير الوجه الذي يفعلونه؛ لأنا نسجد لله تعالى، وهم يسجدون لغيره، لكن النهيَ عن الصورة أَدْخَلُ في باب التعبُّد، حتى في التشبه الصُّوري، والله أعلم. الثامنة والثلاثون: فالتعليل إذاً بسجود الكفار يُجعلُ (¬1) أصلاً في امتناع التشبه في الأفعال والصور، وهو أظهر في هذا مما تقدم في قرن الشيطان، فالتعليل بهذا أقوى وأصرح مما تقدم في المسألة قبلَها. التاسعة والثلاثون: لم يذكر في هذا الحديث غروبُها بين قرني شيطان، وقد ورد ذلك من رواية غندر، عن عكرمة بن عمار، فيها: "فَإِذَا صَلَّيْتَ العَصْرَ، فَأقْصِرْ عَن الصلاةِ حتىَّ تَغْرُبَ [الشمسُ] (¬2)، فإِنَّها تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنيَ شيطانٍ، فحينئِذٍ يَسْجُدُ لها الكفارُ" (¬3)، فتفيد هذه الرواية الأمرين: ¬

_ (¬1) في الأصل: "يجعلون"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد وغيره.

الأربعون

أحدهما (¬1): استمرار التعليل لمقارنة (¬2) قرن الشيطان في جميع ثلاثة الأوقات، مع ضميمةِ ما دل عليه الحديث الذي فيه: "فإذا استَوَتْ قَارَنَها" (¬3). الأربعون: وعلى هذا فيجتمع بمقتضى اللفظ علَّتان في الاستواء: إحداهما: المقارنة. والثانية: إسجار جهنم، فيحتمل أن تكون علَّة مستقلّة. الحادية والأربعون: ويمكن أن يقال: إنَّ العلة واحدة، وهي التشبه بالكفار، أو معنى ذلك على أن يكون إسجارُ جهنم واتّقادُها عبارة عن الكفر الموجب لها بسجود الكفار، ويكون التعليل لسجود الكفار تعليلاً بالسبب الأقرب، وبقرن الشيطان تعليلاً بسبب السبب، وقد ذكرنا فيه حديثاً: "فَحِينَئِذ يَسْجُدُ لهَا الكفارُ"، وهو يعطي السبب ظاهراً. الثانية والأربعون: الأصوليون يفرضون خلافاً بينهم وبين أبي هاشم الجُبائي: في أن الواحد بالنوع هل يجوز أن يختلف حكمه بالنسبة إلى أفراده؟ وينسبون إليه أن السجود للصنم، إنما امتنعَ فيه قصدَ التقرب، وأما الحقيقة النوعية في السجود فهو واحدة، لا يكون ¬

_ (¬1) في الأصل "أحدها"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "بمقارنة". (¬3) هو قطعة من حديث الصنابحي المتقدم تخريجه قريباً.

الثالثة والأربعون

بعضها [منهياً] (¬1) عنه مأموراً به، وردُّوا عليه في المسألة (¬2). والذي يتعلق بهذه المسألة من هذا الحديث أنَّ التعليلَ قد دلَّ على النهي عن الصلاة في هذا الوقت معللاً بسجود الكفار، إشعاراً بالتعليل بالتشبُّه لهم في العبادة في ذلك الوقت، ولو لم يعتبر الصورة النوعية لما علَّل به المنع؛ لأنَّ المنع حينئذ لغير الصورة، ولعلَّه قصد القرب، وهذه العلَّة منتفيةٌ بالنسبة إلينا، فلا يتعدَّى الحكمُ حينئذ منهم إلينا على هذا التقدير؛ لانتفاء العلة على رأيه، وحيث تعدَّى دلَّ على اعتبارِ الصورة في النهي، مع وجود الصورة في صورة الأمر. الثالثة والأربعون: قد يُورَد هنا سؤال، وهو أن يقال: ما ذكرتموه من دلالة اللفظ لتعليل مختص بحالة الطُّلوع، والحكم ممتدٌّ إلى الارتفاع مع انتفاء العلَّة بعد الطلوع؟ والجوابُ - والله أعلم - عن ذلك: أنَّ أفعال المؤدِّين لما يعتقدونه عبادة، قد يتراخى بعضُها عن بعض، لا يمكن في العادة أن تكون جميع الطائفة تسجد في حال الطلوع، وإذا تفاوتت أوقاتُ الأداء اقتضى المنعَ لأجل التشبُّه إلى حالة الارتفاع حَسْماً للمادَّة، وقطعاً لما ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 61)، و"البحر المحيط" للزركشي (1/ 345). * تنبيه: جاء على هامش "ت": بياض، وذلك بعد قوله "وردوا عليه في المسألة"، وفي الأصل جاء الكلام متصلاً.

الرابعة والأربعون

عَسَاه يقع من التشبُّه بأفعال بعض الساجدين، الذي قد يتأخَّر سجودُهم عن أول الطلوع. الرابعة والأربعون: قوله عليه - الصلاة والسلام -: "صَل الصبحَ، ثم أَقْصِرْ عن الصلاةِ حتي تَطْلُعَ الشمسُ، حتئَ تَرْتَفِعَ" تعليلٌ، والله أعلم، للمنع من الصلاة من حين الطلوعِ إلى حين الارتفاع، لا لِمَا قبلَ ذلك، وهذا جائزٌ سائغ؛ لأنه إذا تعدَّدت الأحكامُ على هذا الترتيب المخصوص جاز أن يُعلَّل بعضها، ويُتْرَك تعليلُ البعض؛ لأن الحكم ثابت في ذلك المعلَّل؛ كما هو ثابت فيه عند الإفراد له بالذكر، فجاز تعليله به، وإن انضمَّ إليه غيرُه. الخامسة والأربعون: وقد يكونُ المنع من الصلاة بعد الصبح، وقبل الطلوع من باب سدِّ الذريعة، وحَسْمِ المادة، كما قلنا في التأخير عن طلوع الشمس؛ لأن أوقات الأداء للصبح متفاوتة مترتبة في حقِّ المؤدِّين، وقد تقوم في أحوال موانعُ عن معرفة طلوع الشمس؛ فربما وقع في بعضها صلاة وقتَ الطلوع على تقدير إباحة الصلاة بعد الصبح، فَحَسْمُ المادة يقتضي المنع، كما تقتضيه العادة في الإعراض عن آحادِ الصور المضطربة، وإدارة الحكم على المظنَّة، وربما يشير إلى هذا - أعني حَسْمَ المادة - الحديثُ الذي جاء: "لا تُصَلُّوا بَعْدَ العصْرِ إِلَّا أنْ تَكونَ الشمسُ مُرتَفِعة" أو كما قال، والله أعلم. السادسة والأربعون: التعليلُ بالذريعة مذكورٌ، وهو يحتمل أمرين: أحدهما: أنْ يُقال بالمنع وتُعلَّل بالذريعة؛ كما هو مقتضى

السابعة والأربعون

مذهبِ مالك في سدِّ الذرائع، ويُحتمل أن يعني بذلك أنَّ النهي غيرُ مقصود في التحريم، وإنما المقصودُ النهيُ عن الصلاة وقتَ الطلوع، ووقت الغروب، والنهي قبل ذلك على سبيل الاحتياط، فلا يتعلَّق به المنعُ، ويشهد لهذا حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَتَحَرَّوا بِصَلاَتِكُم طُلوعَ الشمسِ، ولا غُروبَهَا، فَتُصَلُّوا عِنْدَ ذلك"، وهو في "الصحيح" (¬1). السابعة والأربعون: فيه دليل على تعليق هذا الحكم بالفعل، أعني: فعلَ الصلاة، حتى لو تأخَّر الأداءُ عن أول الوقت لم يُكره بمقتضى هذا الحديث، فإنْ دلَّ دليلٌ من خارج على الكراهة قبل الفعل هاهنا فذاك، لا من هذا اللفظ، وقد ورد فيه حديثٌ، أعني: فيما يقتضي النهيَ عن الصلاة كغير ركعتي الفجر بعد الفجر، وهو مذكور في "الإمام" (¬2)، فإن صحَّ فهو دليل على الزيادة على ما اقتضاه هذا اللفظ. الثامنة والأربعون: اختلف أصحاب الشافعي: هل يكره بعد طلوع الفجر مما سوى ركعتي الفجرِ من النوافل؟ على وجهين. ووجه الكراهة بالحديث الذي أشرنا إليه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (833)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها. (¬2) وانظر: "نصب الراية" للزيلعي (1/ 252).

التاسعة والأربعون

ووجَّه بعضُهم عدمَها، فقال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَلاةَ بعدَ الصبْحِ حتي تَطْلُعَ الشمسُ" قال: والمفهوم في صلاة الصبح هو الفريضة، فالتخصيص يدلُّ على عدم الكراهة قبلها (¬1). فإن أراد به أنه يدلُّ على عدمِ الكراهة على سبيل العموم في كلّ نافلة فهذا ممنوع، وإن أراد مطلقَ نفي الكراهة، فهو معمول به في ركعتي الفجر، فلا يدل على ما ادّعاه. التاسعة والأربعون: الأوقات المنهى عن الصلاة فيها: منها ما يتعلق النهي فيه بالفعل؛ كما في الصبح والعصر. ومنها ما يتعلق بالوقت؛ كالنهي عن الصلاة عند الطلوع، وعند الغروب. وقد تضمن هذا الحديثُ هذا النوعَ، كما تضمن النوعَ الأول، وهو النهي عن الصلاة عند الارتفاع (¬2). الخمسون: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "فَإِنَّها تَطْلُعُ حينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَي شيطانٍ، وَحِينَئِذٍ يسجُدُ لها الكفارُ" يحتمل أن يكون هذان المعنيان علّتين؛ كلُّ واحدة منهما مستقلةٌ، ويحتمل أن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (3/ 130). (¬2) في الأصل: "وقد تضمن هذا الحديث هذا النوع، كما تضمن النوع الأول، وهو النهي عن الصلاة عند الطلوع وعند الغروب، وقد تضمن هذا الحديث هذا النوع، كما تضمن النوع الأول، وهو النهي عن الصلاة" ولا ريب أن في الكلام تكراراً لبعضه، والمثبت من "ت".

الحادية والخمسون

[تكون] (¬1) كل واحدة منهما جُزْءَ علّة، ويحتمل أن تكونَ العلَّةُ سجودَ الكفار، وقوله: "فَإنها تَطْلُعُ حينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنيَ شيطانٍ" بياناً لسببيّة (¬2) سجودِ الكفار لها، على أن يحمل النسبة إلى الشيطان، كما يحمل في سائر الأفعال التي تنسب إليه. الحادية والخمسون: التنكير في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "بَيْنَ قَرْنيَ شيطانٍ" لا يُشْعِرُ بأنه إبليسُ رأسُ الشياطين، بل قد يُفْهَم منه خلافُه، وأنَّ الظاهر أنه لو أريد إبليس مع سبق العهد به تعييناً في ألفاظ الكتاب والسنة، لكان الظاهرُ أن يعرف، لكن قد يُعرَض عن تعريفه لفائدة ذكرناها فيما تقدم (¬3). الثانية والخمسون: إذا كانت العلةُ طلوعَها بين قرني شيطانٍ، فيجعل أصلاً لكراهة الصلاة فيما يلابسه الشيطانُ من الزمان، أو ما يكون فيه إثارة، كما تبين ذلك في الأمكنة؛ كما كُرِهت الصلاة في الحمام على مقتضى التعليل بأنها بيت الشيطان، وفي معاطن الإبل على مقتضى ظاهرِ التعليل بأنها جِن خلقت من جِنِّ، فَيُلحق الزمان بالمكان. الثالثة والخمسون: قوله: "ثمَّ صَلِّ، فإِنَّ الصلاةَ مَشْهُودَةٌ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "لسبب". (¬3) وذلك في المسألة الخامسة من الوجه الخامس من الكلام على هذا الحديث.

مَحْضورَةٌ"، إذا حُمِلت الشهادة والحضور على شهود الملائكة وحضورها، فيحتمل أن يكونَ الشهودُ والحضور إخباراً عن الوقوع، ويحتمل أن يكون إخباراً عن إمكان الوقوع؛ الشهود والحضور وتيسره، وهو الذي يعبَّر عنه في بعض الاصطلاحات بالقوة، ويُقابَل بقولهم بالفعل، كأنه يقال: إنَّ المانع من الحضور والشهود قد زال، فقد يحصل الحضور والشهود، وقد يقال: إذا حملناه على الحضور والشهود بالفعل، ففيه إشكال، وذلك أن الله تعالى يقول: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] 58] أي: أَقِمْ قرآنَ الفجر، وعلل ذلك بأن قرآن الفجر مشهودٌ، وظاهرُ ذلك التعليل إظهار فضيلة الوقت، واختصاصه بالوقت المأمور بإقامة القرآن فيه؛ لأن تخصيصَه بالذكر في ذلك الوقت، يظهر منه التعليلُ بما يختص به، وإلا فهو وغيره من الأوقات التي تُباح فيها الصلاةُ سواء، وربما يشهد لذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -: "يَتَعاقَبُون فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِالليلِ، ومَلائِكَةٌ بالنَّهارِ، وَيَجْتَمِعُونَ في صَلاةِ الفَجْرِ، وَصَلاَةِ العَصْرِ" (¬1)؛ فإما أن يرجَّح حملُه على معنى الإمكان، أي: إمكان الشهود والحضور فيه، أو يكونَ الشهود مختلفًا بحسب اختلاف الشاهدِيْن، فيكون الشاهدون لقرآن الفجر غيرَ الشاهدين لسائر الصلوات في أوقات الإباحة، والله أعلم بالمراد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (530)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاة العصر، ومسلم (632)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الرابعة والخمسون

الرابعة والخمسون: في قاعدة أصوليةٍ: الأمر الوارد عقبَ الحظر هل يفيد الوجوبَ، أو يحمل على الإباحة؛ فيه ثلاثة مذاهب (¬1): أحدها: أنه لا أثر لتقدُّم الحظر، وتبقى الصيغة دالةً على ما وُضعت له، فمن قال: للوجوب، بقيت دالّة عليه، وهو اختيار بعض المتأخرين. وثانيها: قولُ قوم ممن سلم أن الصيغةَ إذا وردت من غير قرينة دالة على الوجوب: أنها إذا وردت بعد تقدم الحظر كان ذلك قرينة دالة على الإباحة. وثالثها: أنَّه إن كان الحظر السابق عارضاً لعلَّة وسبب، وعُلقَت صيغةُ (افعل) بزوالها؛ كقوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وكقوله - عليه السلام -: "كُنْتُ قَدْ نهيْتُكُم عَنْ ادخَارِ لحُومِ الأَضَاحي، فَادَّخِروا" (¬2)، فإن الحظر السابق إنما ثبت لسبب، فهذا وأمثاله إذا وردت صيغة (افعل) معلقة برفعه (¬3)، دلَّ بحكم عرفِ الاستعمالِ على أنه لرفع الذئمَ فقط، ويغلب عرف الاستعمال على الوضع، وأما إن كان الحظر السابق قد عرض لا لعلَّة، ولا أن صيغة (افعلْ) علِّقت بزوال ¬

_ (¬1) انظر: "المستصفى" للغزالي (1/ 211)، و"الإحكام" للآمدي (2/ 198)، و "البحر المحيط" للزركشي (3/ 302). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في الأصل"رفعه"، والمثبت من "ت".

الخامسة والخمسون

ذلك، فتبقى صيغة (افعلْ) على ما دلَّت [عليه] (¬1) قبل ذلك، فمن قال: إنها للوجوب قبل ذلك، فهي للوجوب بحالها، ومن قال: إنها موقوفةٌ، قال هي - أيضاً - مترددة بين الوجوب والندب، ويزيد هاهنا احتمال الإباحة، ولا تتعين الإباحة بسببها؛ لأنه لا يمكن هاهنا دعوى عرف واستعمال، حتى يقال: بأنه يغلب العرفُ الوضعَ في هذه الصورة، بخلاف الصورة الأولى، بل يبقى التردُّد لا غير، والاستدلالُ على هذه المذاهب لا يتعلق بغرضنا الآن. الخامسة والخمسون: قوله - عليه السلام -: "ثم صَلِّ" بعد قوله: "أَقْصِرْ عن الصلاةِ" صيغةُ أمرٍ بعد الحظر، ولا يمكن أن يقال: هاهنا بالوجوب؛ لأنه لا وجوب لصلاة مبتدأة في هذا الوقت بالإجماع، ولعلَّ هذا يأخذه القائلون بعدم الوجوب استشهاداً لمذهبهم؛ كما استشهدوا بقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53] {وَإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، فإذا تعذَّر الحمل على الوجوب، بقي الندب و (¬2) الإباحة، فيترجحُ الحمل على الإباحة، أما أولاً: فللقرينة، وأما ثانياً: فلأن النُّدْبيَّة في هذا الوقت لا تستغرقه من حيث هو هو، وإنما تجيءُ في صلاة الضحى، أو يأتي مخصوص فتبقى بقية الوقت من حيث هو هو للإباحة، فإذا حملنا هذا الأمر على الندب مع وجوب ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "أو".

السادسة والخمسون

حمله على الإباحة، لزم استعمالُ اللفظ الواحد في معنيين مختلفين، ومِنَ الذي يدل على أنه لا يحمل على الندب، أنه ذُكِر الحكم، وعُلل بأنَّ الصلاة مشهودةٌ محضورة، وغُيِّيَ ذلك إلى غاية استقلال الظل بالرمح، ولو كان الأمر للندب لاستمر إلى هذه الغاية، لاستمرار العلَّة إليها. السادسة والخمسون: اختلفوا في كراهة الصلاة في وقت الاستواء (¬1)، والمشهور من مذهب مالك، أو أصحابِهِ عدمُ الكراهة، ففي (¬2) رواية ابن القاسم عنه: وما أَدْرَكْتُ أَهْلَ الفَضْلِ إِلا وهُمْ يُهَجرون، وَيُصَلون نِصْفَ النَّهارِ (¬3)، قال بعضهم: وهو عمل أهل المدينة لا ينكره منكِر، ومثل هذا العمل عنده أقوى من خبر الواحد، وكانوا في زمن عمر - رضي الله عنه - يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، وخروج عمر إنما هو بعد الزوال (¬4). ومذهب الشافعي: الكراهة، إلا فيما استثناه من يوم الجمعة؛ فإنه لا تُكره فيها التطوعات وقت الاستواء، ومن أصحابه من قال بتخصيص الاستثناء بمن يغشاه النعاس، فلا يجوز التنفُّل لكل أحد، لاعتقاد أن المعنى المرخص لا يشمل الكل، وذكر في الترخيص معنيين: ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاستمرار"، والتصويب من "ت". (¬2) "ت": "فعن". (¬3) انظر: "المدونة الكبرى" (1/ 107). (¬4) انظر: "الذخيرة" للقرافي (2/ 11).

أحدهما: مشقة مراعاة الشمسِ والتمييز بين حالة الاستواء، وما قبلها، وما بعدها، فخفَّف الأمر عليهم بتعميم الترخيص. الثاني: أن الناس يبكرون إليها فيغلبهم النوم، فيحتاجون إلى طرد النعاس بالتنفُّل، لئلًا يبطل وضوءهم، فيفتقروا في إعادة الوضوء إلى تخطي رقاب الناس. فعلى المعنيين جميعاً: المتخلف القاعد في بيته وقت الاستواء لعذر أو غير عذر ليس له التنفُّل فيه، وأما الذي حضر الجمعة، فمقتضى المعنى الأول: تجويز النفل له مطلقاً، ومقتضى المعنى الثاني تخصيص الجواز بالذين يبكرون إليها ثم يغلبهم النعاس، أما الذي لم يبكر، ولم يؤذه النعاس (¬1)، فلا يجوز له ذلك. وذكر الرافعي عن كلام غير الغزالي: أنه يقتضي اعتبارَ التبكير، وكون غلبة النعاس لطول الانتظار (¬2). فعلى هذا يأتي وجه آخر. قال القرطبي: ومذهبُ جمهور العلماء جوازُ الصلاة حينئذ - وقد نُوزع في هذه الجمهورية التي ادَّعاها - وقال: وحجَّتُهم عملُ المسلمين في جميع الأقطار على جواز التنفُّل يوم الجمعة إلى صعود الإمام على المنبر وقت الزوال. والذي قدمناه عن غيره من إسناد العمل إلى أهل المدينة، أقربُ إلى الثبوت من نسبته إلى جميع الأقطار. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أما الذين لم يبكروا، ولم يؤذهم النعاس"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز". للرافعي (3/ 116، 120، 122).

قال: قال القاضي أبو الفضل - يعني عياضاً -: وتأوَّل الجمهور الحديثَ على أنه منسوخٌ بإجماع عمل الناس، أو يكون المرادُ به الفريضةَ، ويكون موافقاً لقوله: "إِذَا اشتَدَّ الحرُّ، فأبْرِدُوا عن الصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحر من فَيْحِ جَهَنَّم" (¬1)، قال: وفي هذا نظر؛ وهو أنه لا يصح أن يكون هذا نسخاً على حقيقته، وإنما هو تخصيص، فإنه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ الأول، لا رفعاً لكلّية ما تناوله، وأما قولهم: إن هذا في الفريضة فليس بصحيح لوجهين: أحدهما: أن مقصودَ هذا الحديث: بيان الوقت الذي يجوز فيه النفل من الوقت الذي لا يجوز؛ كما قررناه آنفاً. وثانيهما: حديث عقبة بن عامر المتقدم، فإنه قال فيه: "ثلاثُ سَاعات نهانا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُصَلّيَ فِيهِنَّ" (¬2)، وذكر هذا الوقت فيها، ومقصودُه قطعاً: بيانُ حكم النفل في هذه الأوقات، والظاهر حملُ النهي على منع النفل في هذه الأوقات الثلاثة، إلا في يوم الجمعة، جمعاً بين الأحاديث والإجماع المحكي (¬3). قلت: أما قوله: إنه لا يصح أن يكون نسخاً على حقيقته، فصحيح. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (510)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر، ومسلم (615)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وانظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 210). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 462 - 463).

وأما قوله: إنما هو تخصيص، فإنه إخراجُ بعض ما يتناوله اللفظ الأول، لا رفعاً لكلية ما تناوله: ففيه تسامح في العبارة قليلاً، فإن الإجماعَ العقليَّ لا يَنْسَخ، ولا يُخصص بنفسه، ولا يخرج، وإنما هو دليل هذه الأمور إذا صح وقوع الإجماع من الأمة على الفعل، وفي تقريره عُسْرٌ. وأما إبطالهُ لقولهم: إن هذا في الفريضة بالوجهين المذكورين، وأحدهما: بيان مقصود الحديث عنده، فقد قدَّمنا في كون الأمر كما ادَّعاه نظراً، كلاماً، وثانيهما: حديث عقبة. وقوله: ومقصودُه قطعاً بيانُ حكمِ النفل، فهذه القطعيَّة إنما تصحُّ بناءً على مذهبه، وأما من يقول إن الصلاة ممنوعةٌ في هذا الوقت، وإن كان فرضاً مقضيًّا فلا قطعَ على مذهبه ولا ظنَّ، وأجلى من هذا في بيان أن المراد النفلُ، وأنه لا يصح حملُه على الفرض، ولا الاستشهاد (¬1) بقوله عليه الصلاة والسلام: "إِذَا اشتَدَّ الحرُّ فأبْرِدوا عن الصلاةِ" (¬2)، فإن المراد في الصلاة في الحديث، أعني: حديث الأمر بالإبراد، صلاة الظهر، وصلاة الظهر ممنوعة في هذا الوقت بالإجماع، فإن نازعَ منازِعٌ وقال: لا أسلم أن المرادَ صلاةُ الظهر، بل مطلقُ صلاة الفرض، حتى يدخل فيه القضاءُ، فيلزمه أن يكون مانعاً ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا استشهاد"، والمثبت من "ت". (¬2) تقدم تخريجه.

السابعة والخمسون

من القضاء في هذا الوقت، وهو لا يقول به، وفي الصلاة في وقت الاستواء مذهب آخر، وهو الفرق بين الصلاة نصفَ النهار وقت الاستواء في الصيف، أو في الشتاء، ذُكر ذلك عن عطاء بن أبي رباح: أنه كره الصلاة نصف النهار في الصيف، لا في الشتاء (¬1)، [وقول آخر عن مالك أنه قال: لا أكره التطوع نصف النهار ولا أحِبُّه] (¬2)، وقيل: إنه رواية ابن (¬3) وهبِ عنه (¬4)، وهذا لا ينتهي إلى إثبات الكراهة، وإنما يبقي الجواز على سبيل التساوي. السابعة والخمسون: ظاهرُ النهي المنعُ من الصلاة في وقت الاستواء مطلقاً، وقد قدمنا استثناءَ الشافعي يومَ الجمعة وقتَ الاستواء مطلقًا، وقال بعض الناس في الاحتجاج لمذهب مالك - رحمه الله -: ويومُ الجمعة وغيره سواءٌ، ولا فرق بينهما في أثر ولا نظر (¬5). قلت: قد ورد الأثر فيه، فلعلَّه يريد في أثر صحيح، فإن ذلك الأثر رواه الشافعي، عن إبراهيم بن محمد، حدثني إسحاق بن عبد الله، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة: أَن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاةِ ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (5334). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "عن" بدل "ابن"، والتصويب من "ت". (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 17). (¬5) المرجع السابق، (4/ 19).

نِصْفَ النهارِ حتى تَزُولَ الشمسُ إِلا يَوْمَ الجُمُعَةِ (¬1)، ويروى أيضاً من حديث أبي خالد الأحمر، عن شيخ من أهل المدينة يقال له: عبد الله ابن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وإبراهيم بن أبي يحيى، يُكثر المحدثون الكلام فيه، وأقطع النسائي فيه القول، قال بعض الحفاظ: وهذا رواه إبراهيم بن محمد، عن إسحاق بن محمد، وهما متروكان (¬3). قلت: والشيخُ من أهل المدينة يحتاج إلى معرفة حاله، فالاعتماد على الأثر في هذا المذهب ضعيفٌ، والعمل المستفيض أولى منه. وأما النظر فبعد أن لا يستند إلى هذا الحديث، ويرجع إلى العمل؛ إما العام كما ادّعى، أو الخاص بأهل المدينة إن قيل به، يقال: النهي عام بالنسبة إلى الأيام والعمل خاص بالنسبة إلى يوم الجمعة، فيخرج ويبقى الباقي على عموم النهي، فإن أريدَ إلغاءُ الوصف المخصِّص فقد قدمنا المناسبة المختصة بهذا الوقت من وجهين، ومورد الحُجة إذا كان فيه معنى يمكن اعتباره لا يُلْغَى، بل ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 63)، وفي "الأم" (1/ 147)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 464). وإسناده ضعيف؛ إسحاق وإبراهيم ضعيفان، كما قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 188). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 464)، وفي إسناده: الواقدي، وهو متروك. (¬3) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 108).

الثامنة والخمسون

ذِكْرُ المعنى، ينزع ويُكْتَفَى بكون الأصلي في غير مورد التخصيص العملُ بالعموم، إلا أن يقوم دليلٌ على خلافه. الثامنة والخمسون: وأما مذهبُ عطاء في الفرق بين زمن الشتاء والصيف، فله وجه؛ لما يقتضيه التعليلُ بإسجار جهنم وبفتحها، وإذا كان ذلك علَّة، فالأصل زوال الحكم عند زوال علَّته، والله أعلم. التاسعة والخمسون: بعض الشافعية يُجوِّز الصلاة في سائر الأوقات المكروهة يوم الجمعة، فتارة يسند ذلك إلى القياس على وقت الاستواء بجامع التفضيل والتخصيص ليوم الجمعة، وتارة يسند إلى حديث رووه: أن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة، وهو ضعيف (¬1). والأصح إن صح التخصيص بوقت الاستواء أن لا يعم؛ لأنه يبقى الباقي على عموم النهي؛ والقياس المذكور ضعيف، مع اقتضاء النصِّ الصحيح لخلافه، والحديث باستواء يوم الجمعة في الإسجار لابدَّ من إثباته حتى يجوزَ الاستنادُ إليه. الستون: بعض الشافعية يقول: وقيل: إنه الأصح، باستثناء مكةَ من المنع من الصلاة في الأوقات المكروهة كلها (¬2)، فيدخل فيه وقت ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1083)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال، من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -. قال أبو داود: هو مرسل، قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 189): وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. وانظر: "فتح العزيز" للرافعي (119/ 3). (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (3/ 123 - 124).

الحادية والستون

الاستواء، ويقتضي النهي [في] (¬1) المنع منه؛ لتناوله مكة وغيرها، وهذا يعلَّل [بأن مكة تخالف سائر البلاد لشرف البقعة وزيادة الفضيلة] (¬2) للصلاة، فلا يحرم فيها عن استكثار الفضيلة بحال، وهذا المعنى المناسب لا ينتهض لتخصيص النصِّ عندنا؛ لأن النهي عن الصلاة في هذه الأوقاتِ يقتضي تعلُّقَ مفسدةٍ بالفعل، وهذا المعنى المذكور يقتضي تعلُّقَ مصلحةِ به، وإذا تعارضتِ المفاسدُ والمصالح، وجب تقديمُ أرجحِها، ولا علم لنا بمقادير شيء منها، فنرجع إلى النصِّ، لكنْ لهذا الحديث معارضٌ نذكر [هـ] (¬3) في مسألة تأتي إن شاء الله تعالى. الحادية والستون: لو صحَّ هذا الحديث المرويُّ، أعني: "لا صَلاةَ بَعْدَ الصبْحِ حَتَّى تَطْلعَ الشمسُ، ولا صَلاةَ بَعْدَ العصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشمسُ، إلا بِمَكَّةَ" (¬4)، فلقائل أن يمنعَ دلالته على جواز ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 165)، والدارقطني في "سننه" (1/ 424)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 461)، من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. وإسناده ضعيف، كما ذكر البيهقي ثم الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 189).

كل النوافل في هذين الوقتين بمكة، فيلزم إيقاع (¬1) القياس عليه، وإدخالَ وقت الاستواء في جواز النفل مطلقاً، حتى يدخل وقت الاستواء؛ لأن الأصلَ إذا لم يصحَّ، لم يصحَّ الفرعُ. وطريق هذا النزاع أن يقول: "لا صلاة" سلبٌ كليٌّ، فيقتضي العموم لكل صلاة؛ فإما نافلة، أو فريضة على الاختلاف، والاستثناء إيجاب لما بعده، والسلب والإيجاب يتقابلان تقابلَ التناقض، ويكفي في مناقضة السلب الكليّ الإيجابُ الجزئيُّ، ولا يشترط الإيجاب الكليُّ، فالمتيقَن هو الإيجاب الجزليُّ، فمقتضى ذلك: أن تجوز صلاةُ نافلة بمكة في هذين الوقتين. فإذا قلنا بذلك في ركعتي الطواف، فقد وفَّينا بمقتضى اللفظ، فتنقطع الدلالة عن العموم في جواز كل نافلة في هذين الوقتين. فان توهَّمَ متوهِّمٌ: أن النفي دخل على مسمَّى الصلاة، واقتضى العمومَ، والأيجابُ دخل على ما دخل عليه النفي، فيقتضي العموم في الإباحة لكل نافلة، قلنا له: [لا] (¬2) نسلم أن الإيجاب دخل على ما دخل عليه النفي بعينه، وهو ماهية الصلاة، وما يحصل به مسمَّاها، والنفي (¬3) إذا دخل على الماهيه، نفى جميع أجزائها، لوجودها في كل جزء من الأجزاء التي يفرض وجودها، وأما الإثبات إذا تعلق بالماهيَّة، فلا يقتضي الثبوتَ في كل أجزائها. ¬

_ (¬1) "ت": "امتناع". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "النهي".

الثانية والستون

[ولئن] (¬1) قال: نحن إذا قلنا: لا عالم في البلد إلا في الجامع مثلاً، اقتضى العموم في كل عالم في البلد، ووجب أن يكونوا في الجامع، فأما (¬2) إن كان قولُه: (في الجامع) صفةً للعالم، فالاستثناء مُفرَّغ، والأمر كما قلت، وإن لم يكن صفةً له، بل خبراً، فحينئذ يكون النفي دخل على كل عالم بالنسبة إلى البلد، وحينئذ نقول: لا يلزم أن يكون كل عالم في الجامع، بل يكفي وجود عالم واحد في الجامع. الثانية والستون: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ثمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصلاةِ، حَتي تُصَلِّيَ العَصْرَ" قد يعارضه عموم قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، بعد تحقيقه دلالته على الإباحة في جميع هذه الأوقات، فإذا تحقق ذلك، كان هذا الحديث مخصِّصاً لذلك العموم على قاعدة تقديم الخاص على العام، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَلاةَ بَعْدَ العَصْرِ" ويُنظر هناك في تحقيق العموم المخالف لهذا الخصوص إن شاء الله تعالى. الثالثة والستون: روى سفيان، عن أبي الزبير المكي، عن عبد الله ابن باباه، عن جبير - وهو ابن مطعم - يبلغ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَمْنَعُوا ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "قلنا" بدل "فأما".

أَحَدً يَطُوفُ (¬1) بهذا البَيْتِ، ويُصَلِّي أَيَّ (¬2) ساعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ" أخرجه أبو داود، وهو عند الترمذي: "يا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! لا تَمْنَعُوا أَحَداً طَافَ بهذا البَيْت، وَصَلَّى" الحديث، وأخرجه النسائي، وقال: "لا تَمْنَعُنَّ" (¬3). والحديث صحيح صححه الترمذي، وهو يقتضي استثناءَ مكة، لكنَّه عامٌّ في الأوقات بها، وهو عموم قويٌّ، وحديث النهي الذي نحن فيه خاصٌّ بالوقت، عام في الأماكن، فهو من باب تعارُضِ عمومين، كل واحد منهما عامٌّ من وجه خاصٌّ من وجه، فيحتاج إلى الترجيح بالمقصود الذي يظهر من الحديث بقول: إن المقصودَ بحديث مكةَ منعُ الولاة من الحجر على الناس في العبادة، ولو تخصَّص المنع ببعض الأوقات، فيبقى كالمُجمل في الإباحة بالنسبة إلى الأوقات المكروهة، فيعمل المنع منها عمله، فإن لم يرجَّح بالمقصود، فلا بدّ من الترجيح بوجه آخر قبل الجزم بالحكم، وسيأتي ¬

_ (¬1) "ت": "طاف". (¬2) "ت": "أية". (¬3) رواه أبو داود (1894)، كتاب: المناسك، باب: الطواف بعد العصر، والنسائي (2924)، كتاب: المناسك، باب: إباحة الطواف في كل الأوقات، والترمذي (868)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (1254)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت.

الرابعة والستون

في الكلام على الصلاة بعد العصر حديثٌ فيه استثناء مكة، ونتكلم عليه إن شاء الله تعالى، فيمكن من يقول بهذا القول، إذا ثبت له الاستثناءُ فيما بعد العصر، أن يقيس بقيةَ الأوقات بمكة عليه، والله أعلم. الرابعة والستون: لقائل أن يقول: حديثُ جبير بن مطعم - رضي الله عنه - لا يدل على ما ادَّعيتموه من جواز النوافل في هذين الوقتين بمكة من غير حاجة إلى ترجيح حديث الجواز على حديث النهي، وذلك أنه لو قال: رأيت زيداً وعمراً، لم يُكذَّبْ برؤية أحدهما، وأما في الإنشاء فإذا قال: والله! لا كَلَّمْتُ زيداً ولا عمراً، لم يحنَثْ بكلام أحدهما، وإذا قال: والله لاكلمنَّ زيداً وعمراً، لم يبَرَّ إلا بكلامهما، وإذا قال: إن كلَّمتُ زيداً وعمراً فأنتِ طالق، لم يحنَثْ بكلام أحدهما، وإذا قال: لتكلمنَّ زيداً وعمراً وإلا فأنت طالق، لم يَبَرَّ إلا بكلامهما، هذه قاعدة مذهب الشافعي رحمه الله، قال بعض المحققين: فهذه هي (¬1) القاعدة التي يبنى (¬2) عليها السؤال. الخامسة والستون: فإذا بنينا على ذلك، فنقول: الحديث دلَّ على النهي عن المنع لمن أراد أن يطوف ويصلِّي، لأنَّ العطف بالواو في قوله - عليه السلام -: "لا تَمْنَعُوا أَحَداً طَافَ وَصَلَّى" بمعنى أراد أن يطوف ويصلي، فلا يتعلَّق النهي بمن أراد أن يطوف فقط، أو يصلي فقط، ¬

_ (¬1) في الأصل "فهي هذه"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "ينبني".

السادسة والستون

فلا يثبت الجوازُ بالنسبة إلى الصلاة وحدَها، ولا إلى الطواف وحده، فلا يتمُّ الاستدلال الذي ذكرتموه، ولا المعارضة بحديث النهي عن الصلاة. فإن قلت: فأي فائدة في هذا التقدير الذي ذكرته، وهو النهي عن المنع عن المجموع؟ قلت: قد تكون الفائدةُ النهيَ عن المنع عن الطواف وركعتيه، فتبقى للنهي فائدة شرعية، وهي إباحة ركعتي الطواف مع الطواف في هذه الأوقات. السادسة والستون: هذا الذي ذكرناه مبني على هذه القاعدة التي قدمناها، والزام لمن يقول بها، فإما في نفس الأمر، واثبات انقطاع الدلالة من الحديث (¬1). السابعة والستون: اللفظ يقتضي تعليل الحكم بإسجار جهنم حينئذ، وقد تأكد ذلك بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "إذا اشتَدَّ الحرُّ فأَبْرِدُوا عن الصلاةِ، فإنَّ شدةَ الحرِّ من فَيْحِ جَهَنم" (¬2)، فاقتضى ذلك طلبَ مناسبة العلَّةِ للحكم، الذي هو ترك الصلاة حينئذ. الثامنة والستون: قوله: "فَإنَّ حِيْنَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّم" ذكر علَّة الحكم الذي هو المنعُ من الصلاة، وتُطلب مناسبتة، كما تُطلب ¬

_ (¬1) على هامش "ت" قوله: "بياضٌ نحو سطرين من الأصل"، ولم ينبه إلى ذلك في الأصل "م". (¬2) تقدم تخريجه.

التاسعة والستون

مناسبة سائر العلل للأحكام، وربما يستشكل مناسبة الصلاة للاتقاء من جهنم، وإطفاء حرِّها، فيمكن أن يقال: إن المناسبة إنما هي لطلب الفرار لملابسة جهنم، وما هو من آثارها فيما يمكن الانفكاك عنه عادة، وذلك واقع في الحال؛ لأنه يقع بالصلاة فيه، وما قيل من المناسبة إنما هو لرفع عذاب جهنم في الآخرة، وهو خارج عن المقصود الذي ذكرناه، ثم هذا المقصود الذي ادعى مناسبته لا يفوت؛ لأن الصلاة في وقت الجواز تحصله، والمناسبة المذكورة أولاً تفوت على تقدير الصلاة في هذا الوقت، فكان رعايتُها أولى، وربما يستشهد على المناسبة المذكورة بقوله - عليه السلام -: "إِذَا اشتَد الحرُّ فَأبْرِدُوا عن الصلاةِ، فَإنَّ شدَّةَ الحرِّ من فَيْحِ جَهَنم "، ويمكن أن يكونَ من باب التخفيفِ على المخاطَبِين، والتأخيرِ إلى زوال المشقة، وهذا يقتضي أن يكون الإبرادُ رخصةً لا عزيمةً، مع أن ظاهر النهي أو الأمر يقتضي خلافَه. التاسعة والستون: وقد رأيت في كلام بعض المتصوِّفة عنه، أنه بلغهم عن ابن مسعود أنه قال: كُلَّمَا أَتَتْ عَلَى طُلُوعِها سَاعَةٌ من النهارِ (¬1)، فُتِحَ بَاب من النارِ، حتى تُفْتَحَ الأبوابُ (¬2) السبعةُ كلها، عند الاستواء، وتزجرَ النيرانُ زَجْراً لشدةِ غَضَبِ الله، فُتُسْجَرُ جَهَنَمُ، ¬

_ (¬1) "ت": "النار". (¬2) في الأصل و "ت": "أبواب"، وجاء فوقها في "ت": "كذا". ولعل الصواب ما أثبته.

السبعون

وَيتَلَظَّى حريقُها، وَتُغْلَقُ أَبوابُ الرحْمَةِ. فلذلك حَرُم على المؤمن الصلاة في ذلك الوقت؛ لأن الربَّ كريمٌ يستحي أن يخيِّب عبْدَه عِنْدَ الإِقْبالِ عليه، وليس ذلك وقتَ نزولِ الرحمة، ولا وقتَ النوال. ورأيت عن بعض المنتسبين إلى التصوُّف من المتأخرين في كلامه على الأوقات المكروهة ما معناه: أنه جعل كل وقت منها وقعَ فيه ما يوجب البُعدَ عن الله تعالى، والضلال، وفتح باب العذاب، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تكون أعمال أمته تصعد في وقت حَلَّ فيه الغضب من الله تعالى، وجعل وقت الطلوع وقت السجود للعِجْل أول طلوع الشمس، وذكر في وقت الاستواء أن النصارى يومَ رفع الله تعالى عيسى إليه عند الوقوف الشمسي عبدوه من دون الله تعالى، ففتح الله عليه باباً من الغضب، واتخذوا الصلبان. وذكر في وقت الغروب معنى آخر لم أر ذكره. فلما كشَفَ حقائقَ هذه المعارفِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، أمرهم أن يجتنبوا الأزمنة التي نزل فيها غضبُ الله، وأمرهم بالأوقات التي هي مظانُّ الإجابة، كالصلاة الوسطى، وجعلِها العصر. وهذه الأمور التي ذكرناها من مقاربة هذه الأسباب لهذه الأوقات، تحتاج إلى نقل صحيح يُعتمد عليه. السبعون: ذكر بعض المتصوِّفة فيما يتعلَّق بالمنع من الصلاة في الأوقات إشارة، وذلك أنه تلا قوله تعالى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ

الحادية والسبعون

وَعِدْهُمْ} [الإسراء: 64]، فقال: وكما جعل له نصيباً من أموالهم وأبنائهم وأعمالهم، كذلك جعل له نصيباً في أزمانهم. الحادية والسبعون: من المجاز المحتمل في هذا أن يكون سَجْرُ جهنم، الذي هو الامتلاء أو الوَقود عبارة عن كثرة أسباب جهنم الموجبة لها من الأفعال، التي يدعو إليها الشيطان، ويطيعه فيها الكفار، وتظهر قوة تسلطِهِ في الإضلال، فيعود ذلك بهذا المعنى، إلى المعنى الذي فيه النهي عن الصلاة عند الطلوع، وعند الغروب، لأجل عبادة الكفار، إلا أن هذا يقتضي أن يكون لوقت الاستواء زيادة في عبادة الكفار، وانتشارُ سلطة الشيطان، وليس بالظاهر المعروف. الثانية والسبعون: من القواعد الكلية عند تعارض المصالح والمفاسد، وعدم إمكان الجمع في التحصيل والرفع، ترجيحُ أعلى المصلحتين، وترك أخفهما (¬1)، ودفع أعظمِ المفسدتين، واحتمال أخفهما، لكن من ذلك ما يظهر فيه الترجيح؛ إما بالنظر إلى [المصالح والمفاسد الدنيوية على ما تقتضيه العادة والوجود، وإما بالنظر إلى] (¬2) القواعد الشرعية التي تقتضي الترجيح لأحد الأمرين على (¬3) الآخر، ثم من ذلك ما يظهر ويستقل الفهم به، ومنه ما يخفى، ولا يعلم إلا من جهة تقديمِ الشرع أحدَ الأمرين على الآخر، والسبب في ذلك: ¬

_ (¬1) في الأصل: "أخفها"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "إلى".

الثالثة والسبعون

أن معرفة أعداد المصالح والمفاسد، ومقاديرها، والترجيح بين المقادير، لا يستقل العقل به، بل قد يَرِدُ الترجيح في الشرع لأحد الأمرين على اللآخر مع شعور النفس بالتساوي ظاهراً. الثالثة والسبعون: لا شك [أن] (¬1) في إقامة الصلاة مصالحَ؛ كالقراءة والذكر، وما يقتضيه فعل الأركان من التعظيم، وقد قدم الشرعُ مصلحةَ تركِ الصلاة في هذه الأوقات على مصلحة فعلها، بسبب رُجحانِ المفسدة في فعلها، على تقديم الفعل على المصلحة في (¬2) فعلها، فلينظر في موجب ذلك، هل يحصل فيه معنى ظاهر للفهم؛ فإن ظهر، وإلا فيؤخذ من المسألة [تقديمُ ما قدمه] (¬3) الشرع فقط. الرابعة والسبعون: يمكن أن يقال: إن المفسدة على تقدير الفعل مفسدة تتعلق [بالموافقة] (¬4)، وهي شدة المباعدة للكفار، وما يتعلق بهم، وذلك مطلوب في الأمور المعنوية، كما هو مطلوب في الأمور الحسية؛ كوجوب الهجرة، و"أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ [يُقِيْمُ بَيْنَ أَظْهُرِ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "و" بدل "في"، والمثبت من "ت". (¬3) بياض في النسختين الأصل و "ت" بمقدار ما أثبت، ولعله المراد. (¬4) أشار في هامش "ت" إلى سقط في الكلام، ولم يشر إليه في الأصل، ولعل المراد ما أثبت، فتأمله.

الخامسة والسبعون

المشْرِكِيْنَ"، قالوا يا رسول الله ولِمَ؟ قال] (¬1): "لا تَرَايا (¬2) نارُهُما" (¬3)؛ وذلك لأن المقاربة في الحسية، والمعنوية، قد يسرق منها الطبعُ ما يُوجب مفسدة عظمى، والمصالح المرتبة على فعل الصلاة في هذا الوقت أمر يتعلق بالفروع الدينية، لا سيما إذا خصَّصنا المنع بالنوافل، فإن حاصله طلبُ زيادة النفل بالفعل، والمفسدة المتعقلة بالأصول أرجح في الدَّرْء من المصلحة المتعلقة بالفعل بالنسبة إلى الفروع والنوافل، ثم التفت بعد ذلك إلى ما قدَّمناه من الفوات وعدمه، ثم إمكان التدارك وعدمه، فإن ظهر لك هذا، وإلا فارجع إلى الاستدلال بمجرد الأمر على الترجيح، أعني: في المسائل المنبَّهِ عليها في الحديث. الخامسة والسبعون: قولُه - عليه السلام - "فإِنَّ الصلاةَ مَشْهُود مَحْضُورَةٌ، حتَّى يُصَليَ العَصْر" دليلٌ على أن الكراهة في العصر معلَّقة بالفعل، كما ذكرنا في الصبح، فإذا تأخَّر الفعل، لم تكره النافلةُ قبلَه. السادسة والسبعون: أنه يؤخِّر العصر، ويصلِّي في آخر وقتها، والشمسُ بيضاء لم تتغيَّر، وعند غيرهم يعجّل، ورجَّح بعض الحنفية مذهبهم: بأن في تعجيلها حَجْراًعن النوافل؛ لأنه إذا صلَّى العصر ¬

_ (¬1) بياض في النسختين الأصل و "ت"، والمثبت من مصادر التخريج المشار إليها. (¬2) "ت": "يترايا". (¬3) رواه أبو داود (2645)، كتاب: الجهاد، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، والترمذي (1604)، كتاب: السير، باب: ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، وذكر الترمذي عن البخاري ترجيح إرساله.

السابعة والسبعون

لا يجوز له أن يصلي التطوع ما لم تغرب الشمس، وإذا كان كذلك يستحب التأخير، وهذا له وجه من الترجيح، لكن الدلائلَ الدالَّة على التعجيل أرجحُ منه. السابعة والسبعون: النهيُ الوارد عن الصلاة بعد العصر كالنهي الوارد عن الصلاة في الثلاثة أوقاتٍ نطقاً ومفهوماً، [ومقتضاه] (¬1) التسوية في الأحكام، والحنفية يفرِّقون بين الثلاثة أوقات: الطلوع والغروب والانتصاب، وبين الوقتين الآخرين بعد الصبح وبعد العصر، فيقولون في الثلاثة: لا يصلَّى فيها جنس الصلوات لا فرضاً، ولا نفلاً، ولا سجود تلاوة، وفي هذين الوقتين يجوزون قضاء الفوائت، ويصلي على الجنازة، ويسجُد للتلاوة، ولا يصلي فيها التطوعَ إلا ركعتي الفجر خاصةً، ولا يركع ركعتي الطواف، كما في الأوقات الثلاثة، فلو صلَّى جاز، ويكره، وهو معلّل بأن الوقت كامل، ألا ترى أنه لو أدَّى فرض يومه يجوز بغير كراهة، وإذا أدى فرضا آخر يجوز أيضاً، وكذلك تجوز صلاة الجنازة، ويسجُد للتلاوة من غير كراهة؛ لأنهما واجبتان، وإذا جاز أداء الفرائض، فأولى أن يجوز أداء النوافل، على أصلهم في الفرق بين الفرض والواجب، وصلاة التطوع، وسجود التلاوة إذا قرأ آية السجدة في الأوقات الثلاثة جائز مكروه عندهم، كما في هذين الوقتين. الثامنة والسبعون: لهذا النهي عن الصلاة بعد العصر - معارض، ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

وهو ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلَّى ركعتين بعد العصر، وقالت عائشة - رضي الله عنها -: لَمْ يَدع رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الركْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ، قالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَتَحَرَّوا بِصَلاتِكُمْ طُلُوعَ الشمسِ ولا غُرُوبَهَا فتُصَلُّوا عِنْدَ ذلك" وهو في "الصحيح" (¬1)، وفي "الصحيح" - أيضاً - عنها: "مَا تَرَكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ عِنْدي قَطُّ" (¬2). والمنقول عن داود أنه قال: يصلي التطوع بعد العصر لحديث عائشة: مَا تَرَكَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ في بَيْتِي قَطُّ، قال: ولا يتطوَّع بعد الصبح؛ لأن الآثار في ذلك غير ثابتة، والأصل أن لا يمنع من عمل البر إلا بدليل لا معارض له، وقد تعارضت الآثار في الصلاة بعد العصر فواجب الرجوع إلى قول الله تعالى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] والصلاة فعل خير (¬3). فمن الناس من استثناهما عن الكراهة مطلقاً وأجاز ركعتين بعد العصر لا غير، تقديماً للخاص الذي هو الدليل الدالُّ على جوازهما، على العام الذي هو الدليل الدالُّ على المنع من الصلاة، وتقديم الخاص على العامّ طريق معبَّد. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (833). (¬2) رواه البخاري (566)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، ومسلم (835)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر. (¬3) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 115).

التاسعة والسبعون

ومن الناس من حمل ذلك على أنه لسبب خاصٍّ؛ وهو قضاء الركعتين بعد الظهر لأجل الشغلِ عنهما، كما صحَّ في الحديث، وهذا مذهب الشافعي - أعني: إثباتَ الكراهة - فيما عدا ما له سبب، وقد مَرَّ لنا كلام في تعدية هذا إلى كل ما له سبب (¬1). التاسعة والسبعون: وله معارض آخر، وهو الحديث المرويُّ عن علي - رضي الله عنه - وهو منع الصلاة بعد العصر، إلا أن تكون الشمس مرتفعة (¬2)، فإن مفهومه يقتضي الجواز إذا كانت [الشمس] (¬3) مرتفعة، وهو خلافُ ما دل عليه العموم في هذا الحديث، وفي حديث: "لا صَلاةَ بَعْدَ الصبْحِ حتي تَطْلُعَ الشمسُ، ولا صَلاةَ بَعْدَ العَصْرِ حتَى تَغْربَ الشمسُ" (¬4)، والله أعلم. الثمانون: والصلاة بعد الصبح [له] معارِضٌ، وهو حديث قيس ابن عمرو [قال] (¬5): رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَصلاةَ الصبحِ مَرتَيْن؟ " قال: إنه لم أكن صليتُ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (3/ 109). (¬2) رواه أبو داود (1274)، كتاب: الصلاة، باب: من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، والنسائي (573)، كتاب: المواقيت، باب: الرخصة في الصلاة بعد العصر، بلفظ: "نهى عن الصلاة. بعد العصر إلا والشمس مرتفعة"، وإسناده صحيح. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) سقط من "ت".

الحادية والثمانون

الركعتين قبلها، فصلَّيت الآن، قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وفي تسمية هذا الراوي وتسمية أبيه اختلاف في الروايات. الحادية والثمانون: فالشافعي يرى أن ذلك من باب ما أجيز لوجود السبب، وتعديته إلى ما عدا ذلك من الأسباب، وقد تقدم ما فيه، ومالك لا يرى ذلك. الثانية والثمانون: ولهما معاً - أعني: الصلاةَ بعد الصبح، وبعد العصر - معارِض آخر من وجه، وهو: قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إِذَا دخَل أَحدُكُمُ المسْجِدَ، فَلا يَجْلِسْ حتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ" (¬2) أو بصيغة الأمر، ووجه التعارض من وجه: أن النهي عن الصلاة خاصٌّ بالوقت، عام في الصلوات، والأمر بالصلاة عند دخول المسجد خاصٌّ بهذه الصلاة، عامٌّ بالنسبة إلى الوقت، فيتعارضان، ويتكافآن، ونحتاج إلى الترجيح، وقد مرَّ لنا مثل هذا، وأن الترجيحَ قد يُراد به النظر إلى المقصود، وقد يُراد به الترجيحُ بالأمور الخارجة عن ذلك، والأول إذا ظهر وجهُه أقوى، فإن تعذَّر رُجِع (¬3) إلى الترجيح العام. الثالثة والثمانون: فيمكن الشافعية أن يرجِّحوا بالدليل الدالِّ على جواز ما له سبب، ودخولُ المسجد سبب، فيترجَّح دليل الأمر بذلك ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه مسلم (714)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين، من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -. (¬3) "ت": "رجح".

الرابعة والثمانون

الدليل، لكن تعميم (¬1) الحكم في كل ما له سبب يحتاج إلى لفظ يقتضي العمومَ، وهو غيرُ موجود، وإنما الموجود دلائلُ خاصَّةٌ على أسباب خاصَّةٍ، وقد نبَّهنا على ذلك. الرابعة والثمانون: ولجميع ما يدلُّ على الكراهة في الأوقات المذكورة معارضٌ آخر، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام -: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أَوْ نسَيَها، فَلْيُصَلّها إِذَا ذَكَرَها" (¬2)، وبه يَستدِلُّ من يُجيز قضاءَ الفوائت في الأوقات المكروهة، لكن بين الحديثين عمومٌ من وجه، وخصوصٌ من وجه، لا عموماً مطلقاً، وخصوصاً مطلقاً، فيُحتاج إلى الترجيح لوقوع التعادل، فإنَّ أحدَ الخصمين إذا قال: أَخُصُّ الفوائت عن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات بقوله - عليه السلام -: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أَوْ نَسِيَها"؛ [لأنه عامُّ في الصلوات، وهذا خاصّ بالفوائت منها، قال خصمه: أَخُصُّ هذه الأوقات من قوله - عليه السلام - عن قوله - عليه السلام -: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةٍ أَوْ نسِيَها"] (¬3) فإنَّه عامٌّ في الأوقات (¬4) فيتعادلان، وقد رجَح العمل بحديث النوم عن الصلاة، بأن حديث الأوقات وقع التخصيصُ فيه اتفاقاً بعصر اليوم، ولم يقع الاتفاقُ على تخصيص هذا، والأول أولى، وقد مَرَّ لنا هذا على سبيل التمثيل فيما مضى. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تعليل"، والمثبت من "ت". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": "الصلوات".

الخامسة والثمانون

الخامسة والثمانون: قد يترتَّب على المنع من الصلاة في هذه الأوقات مصلحة أخرى، سوى ما اقتضاه التعليلُ السابقُ في الحديث؛ وهو مصلحة إجمامِ النفس عن كدِّ العبادة في المتعبدين الذين اشتدت رغبتُهم في تكثير النوافل، واقتضته طبائعُهم من المبالغة فيما يعزِمون عليه، وفي ذلك مصلحةُ إجمام النفس لتتلقَّى العبادةَ بعدها على انشراح ونشاط، ودرءُ مفسدةِ تَكْرِيهِ العبادة إلى النفس "اكْلَفُوا من العَمَلِ ما تُطِيقُون" (¬1). وإن كان ما قيل عن الحولاء بنت تُوَيْتٍ في أنها لا تنام الليل بقوله - عليه السلام - "لا تَنَامُ الليلَ" (¬2) على وجه الإنكار: "إِنَّ هذا الدينَ مَتِين، فَأوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسك عبادةَ الله؛ فَإِنَّ المُنْبَتَّ لا أَرْضاً قَطَعَ، وَلا ظَهْراً أَبْقَى" (¬3)، ولا يعارَض هذا بأن يقال: هذا يشكل بوجهين: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى حتَّى تورَّمت قدماه (¬4)، قال الله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]. والثاني: أنه لو كان اعتبر ما ذكرتموه، لما اختصَّ ذلك بمنع ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1865)، كتاب: الصوم، باب: التنكيل لمن أكثر الوصال، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه عند الشيخين في أول هذا الكتاب.

السادسة والثمانون

الصلاة بخصوصها؛ لأنا نجيب عن الأول: بالفرق بين حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا، وحال غيره، ولا يبقى تكلُّفه - صلى الله عليه وسلم - وتبتله إلا أن تكون فيه المصلحة المذكورة في حقِّ من ليس على حاله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد جُعِلت قرَّةُ عينه في الصلاة، وذلك واقع لكل ما ينشأ عن نقل العبادة على غيره. وعن الثاني: بأن الصلاة فيها أعمال البدن كلِّه بالأفعال، والحركات المقتضية للتعب والمَلالِ وتَكْرِيه العبادة إلى النفس. السادسة والثمانون: ينبغي للمتعبِّد إذا وُجِدَت هذه الأوقات أن يستحضرَ هذا المعنى، ويعتبره في تركه، لتحصل له زيادة، ولا يحصل على تقدير الغفلة عنه، ولا يُعتَرَض على هذا، فإنه قد ألزم هذا الترك بالنهي الوارد فيه، وإنما يكون هذا في المباحات (¬1) التي له أن يفعلها، وأن لا يفعلها، ويتوقف الثواب عليها على تقدير أن يفعل لتحصل المصلحة المطلوبة؛ لأنا نقول: إنما ادَّعينا أنه ينبغي استحضارَه لتحصل له زيادة لا تحصل على تقدير غفلته، وحصول الزيادة أعمُ من حصول الزيادة بالثواب، وهو ظاهر، فتأمله. السابعة والثمانون: قوله - عليه السلام -: "ثُمَّ أَقْصِرْ عن الصلاةِ، حتَّى تَغْرُبَ الشمسُ؛ فَإِنَّها تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْني شَيْطَانٍ، وَحِيْنَئِذٍ يَسْجُدُ لها ¬

_ (¬1) "ت": "المباحثات".

الثامنة والثمانون

الكفار" هذه العلَّة مذكورة في الطلوع والغروب، وليست مذكورة في [هذا] (¬1) الحديث وقتَ الاستواء، وانما المذكور فيه إسجارُ جهنم، وقد ورد حديث آخر يقتضي مقارنة الشيطان لها عند الاستواء، وليس في واحد من الحديثين التعليلُ بسجود الكفار عند الاستواء، ولعلَّ سبَبه عدمُ وقوع ذلك في الوجود الخارجي، فبطل التعليل به، وهو الأظهر. الثامنة والثمانون: الخلافيون من المتأخرين يقولون: إن التعليل بالمناسبة يقتضي الحصر؛ لأن قولنا: فعل كذا لكذا، يمنع أن يقال: فعله لكذا غيره، في العرف والاستعمال، فإذا قيل: أَعطيتُ هذا لفقره (¬2)، لم يحسن أن يقال معه: أعطيته لعلمه (¬3). فلو قال قائل: قد ذكرتم التعليل بإسجار جهنم في هذا الحديث، وذكرتم مقارنة قرني الشيطان لها عند الاستواء، والحديث يقتضي التعليل بذلك، فاللازم أحد أمرين: إما عدم مناسبة العلَّة للحكم، أو عدم اقتضاءِ المناسبة للحصر، فنقول في الجواب: اقتضاءُ المناسبة للحصر دليل ظاهر يعارضه التصريح بعلَّة أخرى، وتقدَّم عليها لرجحانها عليه، ولعدم لزوم التعارض المنتفي جزماً. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "لفعله". (¬3) نقله الزركشي في "البحر المحيط" (5/ 194) عن المؤلف رحمه الله.

التاسعة والثمانون

التاسعة والثمانون: قوله - عليه السلام -: "ثُمَّ أَقْصِرْ حتَّى تَغْرُبَ الشمسُ" عام بالنسبة إلى أجزاء هذا الوقت كلِّه، وقد ورد ما يقتضي النهي عن الصلاة وقتَ الاصفرار، ولا يلزم من هذا التخصيص هاهنا تخصيصُ العموم في النهي عن الصلاة في جملة أجزاء هذا الوقت؛ لأن ذكر بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، على ما وقع الاختيار عليه في فنِّ الأصول، ولْيُلْتَفَتْ مع ذلك إلى ما كنّا قدمناه: في أن المفهوم هل يخصِّص العموم، أو لا؛ إذا كان ثَمَّ مفهومٌ به. التسعون: قوله - عليه السلام -: "حتَّى تَغْرُبَ الشمسُ" يقتضي مخالفةَ ما بعد (حتى) لما قبلها، والذي قبلها الإقصار عن الصلاة، فلينتهِ بغروب الشمس، ويثبت بدلُه، فيثبت الجواز، فالذين يكرهون الركعتين قبل المغرب، يحتاجون إلى الجواب عن هذا، وقد ورد فيهما خصوصاً حديث، يقتضي استحبابهما، أو جوازهما؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - رآهم يصلونهما (¬1)، فلم يأمرهم، ولم ينهَهُم (¬2). الحادية والتسعون: المنع ينتهي بانتهاء غروب الشمس، وهو محمول على غروبها مع عدم الموانع من رؤيتها على تقدير كونها ¬

_ (¬1) في النسختين: "يصلوهما". (¬2) رواه البخاري (599)، كتاب: الأذان، باب: كم بين الأذان والإقامة، ومن ينتظر الإقامة، من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري، حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم كذلك، يصلون الركعتين قبل المغرب.

الثانية والتسعون

طالعاً؛ لأنها عند قيام الموانع لم تَغْرُب حقيقةً، والحكم معلَّقٌ على الحقيقة. الثانية والتسعون: ويقتضي الاكتفاءَ بما يسمى غروبا للشمس، أي: مع [عدم] (¬1) الموانع كما ذكرناه، وبعض الفقهاء يقول في الغروب: غروب الشمس وشعاعها المستولي عليها (¬2). الثالثة والتسعون: الذين منعوا الصلاة قبل المغرب، ربما علله بعضُهم بمنافاة الصلاة للمستحب من تعجيل صلاة المغرب، فإِنْ ضَيَّقَ وجعلَ وقتَ الاستحباب يتناول وقتَ الركعتين، فقد يمنعه المخالف هذا التضييق، وإِنْ لم يضيّق، فيمنع منافاتهما للمستحب المذكور. الرابعة والتسعون: إباحة الصلاة بعد الغروب يعارضه حديث آخر، الحديثُ الصحيح عن أبي برزة الأسلمي: "لا صَلاةَ بَعدَها حَتى يَطْلُعَ الشاهد" (¬3) والشاهد: النجم. ووجه المعارضة: أن طلوعه وظهوره يكون بعد غروبُ الشمس بزمان، فيكون هذا الحديث الذي نحن فيه دالًا على الزيدية القائلين ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) قاله بعض أصحاب الإمام مالك، كما ذكر المؤلف في "شرح عمدة الأحكام" (1/ 135). (¬3) رواه مسلم (830)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، لكن من حديث أبي بصرة الغفاري - رضي الله عنه -.

بتأخير وقت المغرب إلى ظهور النجم، ولهم أن يقولوا: إِن حديث أبي برزة يقتضي من المنع أمراً زائداً على ما اقتضاه هذا الحديث؛ من انتهاء المنع إلى غروب الشمس، وهذا الحديث يقتضي المنع بما زاد على ذلك الوقت، والأخذ بالزائد واجب، فيقال: عليهم بجعل حديث أبي برزة من التعبير عن الشيء بما [يقاربه] (¬1)، وغروبُ الشمس مقاربٌ لطلوع الشاهد، والتعبيرُ بالشيء عمّا قاربه سائغٌ مشهورٌ، فإن قيل: هو مجاز ومشترك الدلالة، فإنكم إن قلتم: إنه عبر عن غروب (¬2) الشمس بطلوع الشاهد، فنعكسه، ونقول: عبَّر عن طلوع الشاهد بغروب الشمس، فتتساوى الأقدام، قلنا: إذا انتهى الأمر إلى هذا رجعنا إلى البيان قولاً وفعلاً: أما القول: فقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو: "وَوَقْتُ صَلاةِ المَغْرِبِ إِذَا غَابَتِ الشمسُ، مَا لَمْ يَسْقُطِ الشفَقُ" (¬3). وحديث بريدة: "فَأقَامَ المَغْرِبَ حِيْنَ غَابَتِ الشمسُ" (¬4). وفي رواية في حديثه: "ثمَّ أَمَرهُ - يعني بلالاً - بِالمَغْربِ حِيْنَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل "طلوع"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه مسلم (612)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس. (¬4) رواه مسلم (613)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس.

الخامسة والتسعون

وَجَبَتِ الشمسُ" (¬1). وفي حديث أبي موسى: "فَأقَامَ المَغْرِبَ حِيْنَ وَقَعَتِ الشمسُ" (¬2)، وكُلُّها صحيحة متعاضدة، وكذلك قوله: "كَانَ يُصَلّي المَغْرِبَ إِذَا غَابَتِ الشمسُ، وَتَوَارَتْ بِالحِجَابِ" (¬3)، والاحتمالات مع التعاضد والكثرة تُبْعِدُ المجاز، أو تنفيه. الخامسة والتسعون: الكلام في قوله: "فالوُضوءَ أَخْبِرْني عنه" كالكلام في قوله: "أَخْبِرْني عَمَّا عَلَّمَكَ الله"، وقد تقدَّم فاعتبرْه هاهنا. السادسة والتسعون: "ما مِنْكُمْ مِنْ رَجُل (¬4) يُقَربُ وَضوءَه"، الوَضوء: الماء، والحقيقة ممكنة في تقريبه، ويحتمل أن يكون دلَّ بها على نفس الوضوء؛ لأنه السبب، والوَضوء المسبَّب. السابعة والتسعون: الحديث يدلُّ على استحباب المضمضة والاستنشاق والانتثار، وأنها سننٌ ثلاثة، والأكثرون يقتصرون على ذكر المضمضة والاستنشاق في سنن الوضوء دون ذكر الانتثار، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (612)، (1/ 429). (¬2) رواه مسلم (614)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس. (¬3) رواه مسلم (636)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس، من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. (¬4) "ت": "أحد".

الثامنة والتسعون

الثامنة والتسعون: الانتثار يقتضي فعلاً وتعمُّلاً زائداً على مجرَّد خروج الماء من الأنف، فلا تحصل السنَّة إلا بزائد. التاسعة والتسعون: خروج الخطايا من الوجه ذُكِرَ مرتين: إحداهما: عند ذكر المضمضة والاستنشاق والانتثار، حين قيل: "خَرَّتْ خَطَايا وَجْهِهِ وَفِيهِ وَخَيَاشِيمِه". وذُكِرَ أيضاً: عند غسل الوجه حين قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثُمَّ إِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ - عز وجل - إلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطَرَافِ لِحْيتهِ مَعَ المَاءِ" فينُظَر في ذلك. والذي أَذهبُ إليه فيما يرجع إلى نفسي، لا فيما يرجع إلى المناظرة: أن المواضع التي يقع الاختلاف فيها بين الرواة، وتحتاج في الجمع بينها إلى التأويلات المستكرهة، أو في تخريج بعضها إلى الوجوه الضعيفة، بحيث لا تطمئن النفس إلى التأويل والتخريج، أن أذهب إلى الترجيح، وأبنيَ عليه، وأقدِّمَه على طريقة الجمع والتخريج؛ لأن اختلاف الرواة فيما يرجع إلى الدلالة على المعاني كَثُرَ كَثْرَةً لا يمكن إحصاؤها، فيكون النظرُ الحاصلُ من أن سببَ ذلك الاستكراهُ، والضعفُ من اختلاف الرواة أغلبُ من الظن الحاصل من أَنَّ المراد من لفظ الشارع أو أكابر الصحابة والعلماء ما يستكره ولا تطمئنُّ النفس إليه. إذا ثبت هذا، فهذه اللفظة المذكورة عند المضمضة والاستنشاق والانتثار، أعني "وَجْهَه" مختلفٌ فيها، ففي "صحيح مسلم" ما ذكرناه،

وفي "صحيح أبي عوانة": "ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ وينْتَثِرُ إلَّا خَرَّتَ خَطَايا فِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ، كَمَا أَمَرَهُ اللهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايا وَجْهِهِ مِنْ أَطَرافِ لِحْيتهِ مَعَ الماءِ" [أخرجها من رواية أبي الوليد، عن عكرمة بن عمار "إِلَّا خَرَّتْ خَطَايا فِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ"، لم يذكر (وَجْهَه) إلا عند غسل الوجه، فقال: "ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ إِلَّا خَرَّتْ خَطَايا وَجْهِهِ مِنْ أَطَرافِ لِحْيتهِ مَعَ الماءِ"، (¬1) أخرج ذلك الحافظ أبو نعيم في "المستخرج على كتاب مسلم" فهاتان (¬2) روايتان، عن عكرمة (¬3)، والمقرئ من رجال الصحيح، ومشاهير الرواة، وأبو الوليد من أكابر الرواة وحفَّاظ الحديث، لم يذكرا هذه اللفظة عند المضمضة والاستنشاق، وخالفهما النظر عنه، فإن توجَّه عندك ما تطمئنُّ النفس إليه من التأويل و (¬4) التخريج، وإلا فارجع إلى هذا، ويمكن أن يقال في التخريج: [إن] (¬5) "ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ" معطوف على الفعل الأول، الذي هو "يُقَرِّبُ" لا على "يُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْشِقُ" فيكون التقدير: ما منكم من أحد يقرِّب، فيُمَضْمِضُ، ما منكم من أحد يقرِّب ثم يغسل وَجْهَهُ، فيكون لخروج خطايا الوجه طريقان: ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "فهذان"، والمثبت من "ت". (¬3) وقد تقدم تخريجهما. (¬4) "ت": "أو". (¬5) زيادة من "ت".

أحدهما: أن يقرِّب، ويُمَضْمِضُ وَيستنْشِقُ وَينتَثر، فعلى هذا: لم يبق في الوجه خطايا، فلا يكون غسله مُخْرِجاً لخطاياه. والطريق الثاني: أن يقرِّب وَضوءه، ثم يغسل وجهَه، ويترك المضمضةَ والاستنشاقَ، فحينئذ تخرجُ خطايا الوجه بغسله. ونظيرُ العطفِ على الفعل الأول، ما قيل في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ} [آل عمران: 14]، إنه لا يعطف الخيل على الذهب والفضة، بل على القناطير، أو غيرها مما مضى، وكما قيل في قوله تعالى: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ} [الإسراء: 91 - 92] إن تسقط لا يجوز أن يكون معطوفًا على تفجر التي (¬1) تليه هو، بل على الفعل السابق، وهو أو تكون. فإن قلت: الفرق بين البابين واضحٌ، لأن الضرورةَ دعت إلى العطف على الأول في الآيتين الكريمتين؛ لأنه تعذَّر العطف على الأقرب، لأن الخيلَ ليس من القناطير المقنطرة، والإسقاط ليس من الجنة من نخيل وعنب، بخلاف ما نحن فيه. قلت: أمَّا أن يمكنَك تخريجُ الحديث المذكور على الوجه الثاني، وهو العطف على المضمضمة أولى، فإن أمكن فالسؤال ساقط، وإن لم يمكن فقد تعذَّر الحمل على الثاني، فيحمل على ¬

_ (¬1) "ت": "الذي".

الأول، كالمواضع التي ذكرناها، ووجه آخر في التخريج، وهو أن يقال: هذا من قبيل الأسباب والمسببات التي لا يؤثر فيها السبب إلا على إمكان تأثيره، فإن لم يمكن، صَرَفْنا إلى وجه آخر، وإن أمكن أَعمَلْناه، والتعذر في بعض الأماكن التي لا يمكن الإعمال فيها، لا يوجب نفي السببيَّة حيث يمكن. وهذا كما قيل في قوله عليه الصلاة والسلام: "الصلَوَاتُ الخمْسُ، والجمُعَةُ إلى الجمُعَةِ، ورَمضَانُ إلى رَمضَانَ؛ مُكَفرات لما بَيْنَهُنَّ، ما اجْتُنِبَتِ الكَبائِرُ" (¬1)، حيث أورد عليه أنه إذا فعلت الصلوات الخمس فكفرت، فما يبقى لصلاة الجمعة؛ وإذا فعلا معاً - أعني: الصلوات الخمسَ والجمعةَ - فما يبقى لرمضان؟ فقيل في الجواب: إنها أسباب للتكفير إن وَجَدَت ما يُكَفَّر. فكذلك نقول هاهنا: فعل المضمضة والاستنشاق والانتثار سبب لخروج خطايا الوجه، وكذلك غسل الوجه، فإن وُجِدَ السببُ الأول، وحدَثَت خطايا بعده، كان الغسل مكَفراً لها، وإن لم توجد خطايا بعدَه، لم يقع مسببِّها لعدم الخطا [يا] (¬2) في المحل، ولا يزيل ذلك السببية، بمعنى الصلاحية للتكفير. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) زيادة من "ت".

الحادية بعد المئة

الحادية بعد المئة (¬1): ويدلُّ على اعتبار الترتيب في حصول هذا الثواب عملاً بلفظ (ثم) المقتضي للترتيب، ولا مانع منه، وهذا غير ما قدَّمنا فيه النزاع، من أنه يدلُّ على وجوب الترتيب، أما في هذه السنن الثلاثة، فإنه لم يُذْكَر فيها (كما أمره)، وأما في غسل الوجه؛ فلِمَا تقدم من البحث. الثانية بعد المئة: التفرقة في ذكر هذه اللفظة - أعني (كما أمر الله) - بين الأفعال الثلاثة - أعني المضمضة والاستنشاق والانتثار - حيث تُرِكَت فيها، وذُكِرَت في غسل الوجه وغيره. الرابعة بعد المئة (¬2): قد تُسْتَنْبَط منه فائدةٌ أو فوائد، لكنه يتوقَّف على الترْكِ في الثلاث ذِكْراً، والذكْر له في غيرها من الواجبات: أما تركها في ثلاثة الأفعال المذكورة: فلا أحفظ الآن أنه ورد ذكرها فيها. وأما ذكرها في غيرها من الأعضاء الواجب غسلها: فإن الرواياتِ قد تختلف فيه، فقد يذكرها بعضُ الرواة في بعض الأماكن، ويتركها غيرُه. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت" قوله: "كذا وُجد في الأصل" أي: لم يذكر المسألة رقم (مئة)، ولم ينبه إلى ذلك في "م". (¬2) سقطت الفائدة "الثالثة بعد المئة" في كلا النسختين، وعلى هامش "ت" قوله: "كذا وجد".

الخامسة بعد المئة

الخامسة بعد المئة: قد يُستدَلُّ به على أن غسلهما (¬1) لا يدخل تحت الأمر بغسل الوجه - أعني: الفم والأنف - حتى يُستدَلَّ بذلك على وجوبهما؛ لأنهما لو دخلا تحت الأمر بغسله، لصَحَّ إطلاقُ لفظِ الأمر على غسلهما، ولو صَحّ لم يكن للتفريق بين الذكْر وعدمه فائدة، والظاهر خلافه، ولا يقال: إنهما ليسا من الوجه حِسًّا، فيدخلان تحت الأمر بغسل الوجه، لأنا نقول الداخل تحت الوجه هو ظاهرهما، وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في إيصال الماء إلى باطنهما. السادسة بعد المئة: وقد يُستَدَلُّ به على أن الأمر للوجوب؛ لأنه لو كان للندب وأنه ثابت فيهما، لما امتنع إطلاق لفظه عليهما، ولو لم يمتنع لبطلت فائدةُ التفريق بين الذكْر وعدمِه، والظاهر خلافه، وهذا على أن لا يكون كما أمره الله محالاً على ما في الآية الكريمة. السابعة بعد المئة: لقائل أن يقول: قد سلمْتُم أن ظاهر العضوين من الوجه، ويدخل تحت الأمر بغسل الوجه، فلا يلزم من عدم الذكر حينئذ عدمُ الأمر، لثبوت الوجوب والأمر في ظاهر العضوين، وإذا ثبت ذلك جاز أن يجتمع الوجوب مع عدم ذكر اللفظ فيهما، فيبطل ما ذكرتموه من الاستدلال بعدم الذكر مع التفرقة على عدم الوجوب. وجوابه: أن مسمَّى المضمضة والاستنشاق ليس مجردَ غسلِ الظاهر، بل هو مع إيصال الماء إلى الباطن، فلو كان هذا المجموع واجباً أو داخلاً تحت الأمر بالغسل، لاستوى مع بقية الواجبات، ¬

_ (¬1) "ت": "غسلها".

الثامنة بعد المئة

فتبطل فائدةُ التفريق، أو نقول: غَسْلُ ظاهرهما لا يدخل في المسمى - أعني: مسمى المضمضة والاستنشاق - ووجوبِ غسله، لاندراجه تحت الأمرِ بغسل الوجه، فلو كان مأموراً [به] (¬1) لبطلت فائدة التفريق، والله أعلم. الثامنة بعد المئة: عند الشافعية تفرقة بين ما يُندَب إليه في ابتداء الوضوء، وبين ما يُعدُّ من سنن الوضوء، ولا يلزم من الأول الثاني، ولهذا تردّد في أن غسل الكفين في ابتداء الوضوء، هل يُعدُّ من سننه، أو لا؛ وبَنَوا عليه فائدة، وهو ما إذا ما اقترنَت النيَّة بغسلهما، وعَزَبت قبل غسل الوجه، وقلنا: إن اقترانَ النية بسنن الوضوء المتقدمة عليه كافٍ أنه لا يكفي اقترانُ النية بغسلهما، إذ ليسا من سننه على هذا التقدير (¬2). وفي هذا التفريق نظر، أشرنا إليه فيما مضى، وهذا ما يُحوِجُنا إلى ذكر مسألة تتعلق بلفظ الحديث نذكرها الآن. التاسعة بعد المئة: السائل سأل فقال: أخبرني عن الوُضوء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب بما أجاب به، فيتصدَّى النظر إلى أن كل ما أجاب به يكون داخلاً في مسمَّى الوضوء، وأن ما لم يذكره لا يكون داخلاً. أما مَن استدلَّ بالجواب على المقصود بالسؤال، فيلزمه أن يُدْخِلَ كلَّ ما ذكر في مسمى الوُضوء، وأما إذا لم يستدِلَّ بهذا الوجه ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 316).

العاشرة بعد المئة

المذكور، فالظاهر أيضاً أن ما ذُكِر داخل في الوُضوء مع احتمال؛ فعلى [هذ]، (¬1) يُستدَل بالحديث على أن المضمضة والاستنشاق من الوضوء، وينبني عليه: أنه إذا نوى عندهما، وعَزَبَت النية قبل غسل الوجه، أن يجزئ عند بعض الشافعية. وأما أَنَّ ما لم يذكر فليس من الوضوء، ففي ثبوت ذلك احتمالٌ أقوى من احتمالِ عدم دخول المذكور تحت الوضوء، إلا على من يرى بالمطابقة، والاستدلال بالجواب على مطابقة السؤال له، والسبب فيه أنَّا إذا جعلنا السؤال عن الإخبار عن الوضوء يقتضي الجواب بأمر يتعلق به، فإنما ينافي هذا أن يترك ذكر كل ما يتعلق بالوضوء؛ لأنه (¬2) يُوجبُ ذكرَ كلِّ ما هو من الوضوء. العاشرة بعد المئة: هذا المذكور عقب السؤال، إنما يقتضي ترتب الثواب الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - على أفعال مخصوصة، وهي المذكورة في الحديث، ومقتضاه: أن يترتب ذلك الثواب على حصول مسمَّى تلك الأمور، ولا يلزم من قيام الدليل على استحباب أمور أخرى أن لا يحصُلَ الثواب إلا بوجودها، سواء كانت كيفيةً لما ذُكِر، أو أمراً مُباينا لَهُ، إلا أَنْ يدلَّ [له] (¬3) دليل على أن تلك الأمور التي قام الدليل على استحبابها داخلةٌ في الوضوء، ويقوم دليل على أن الثواب ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) "ت": "لا أنه". (¬3) سقط من "ت".

الحادية عشرة بعد المئة

المخصوص مرتَّب على حصول مسمَّى الوضوء، فيقال حينئذ: هذه الأمور داخلة في مسمى الوضوء، والثواب المخصوص لا يدخل إلَّا في مسمى الوضوء، فالثواب المخصوص لا يحصل إلَّا بهذه الأمور، لكن هذه المقدمة الثَّانية لم يحصل في الدلالة عليها لفظٌ صريحٌ، ودلالة السؤال والجواب فيه ما قدَّمناه، فإذا لم يثبت ذلك، جَرَيْنا على ما قدَّمنا من الأصل، وهو أن الثواب يحصل بفعل هذه الأمور، ولا يتوقف على فعل الأمور التي دلَّ الدليلُ الخارجيُّ على استحبابها، والله أعلم. الحادية عشرة بعد المئة: وهذا كما استدلُّوا على عدم وجوب غُسْلِ الجمعة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ رَاحَ" (¬1) حيث أخذوا من حصول الثواب المرتَّب على مجرَّد الوضوء عدمَ وجوب الغسل. الثَّانية عشرة بعد المئة: ويدخل تحت هذه القاعدة مسائل: منها: حصوله بدون السواك. وبدون غسل اليدين في ابتداء الوضوء. وبدون المبالغة في المضمضة والاستنشاق. وبدون التسمية. وبدون استيعاب مسح الرأس عند من يرى أنَّه مستحب غير واجب. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

التاسعة والعشرون بعد المئة

وبدون الردِّ في مسح الرأس. وبدون مسح الأذنين ظاهرِهما وباطنِهما. وبدون تخليل شعر اللحية والعارض عند الكثافة. وبدون التكرار ثلاثًا في المغسول. وبدون تطويل الغرَّة والتحجيل. وبدون مسح الرقبة. وبدون تخليل أصابع اليدين والرجلين. فهذه سبع عشرة مسالةً يقتضي الحديثُ حصولَ الثواب المخصوص بدون فعلها، وإن قامت الدلائل على استحبابها في الوضوء؛ لأن الشارع قد يرتّب الثواب أو زيادته على بعض أمور تشترك مع (¬1) غيرها في أمر أعمَّ، بل قد يرتّب مع الاستواء بين الأمرين ثوابًا، أو زيادة فيه، على ما قاله بعضهم. التاسعة والعشرون بعد المئة (¬2): قد قيل بكراهته غيرُ ناسٍ في الوضوء، فإن لم يصحَّ الدليل على كراهتها، فلا إشكال في عدم ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "في "، والمثبت من هامش "ت". (¬2) جاء في الأصل مكتوبًا فوقها (كذا)، ثم ضرب عليها وكتب في الهامش: "الثالثة عشرة بعد المئة" ووضع عندها إشارة "صح"، وكذا أثبتت في "ت"، أعني: التاسعة والعشرين بعد المئة، وهذا هو الصواب؛ لأنه قد ذكر في المسألة قبلها سبع عشرة مسألة كما أشار، وقد جَرَيْتُ على ترقيم النسخة "ت".

الثلاثون بعد المئة

اعتبارها في حصول الثواب المذكور، وإن صحَّ، فالظاهر من هذا الحديث: أن لا يُعتبر أَيضًا في انتفاء هذا الثواب، ويحصل الثواب مع ارتكابها على ما يقتضيه اللفظ، ولا يخدش في هذا إلَّا أن تكون المفسدةُ في ارتكابها زائدةً على المصلحة في فعل المستحبات المذكورة، لكن هذا لا سبيل لنا إلى معرفة العلم به، فيجري على الظاهر، نعم، هي منافية للثواب المرتَّب على إحسان الوضوء، وليس هو مذكور في هذا الحديث، والله أعلم. الثلاثون بعد المئة: الشافعيون يوجبون إيصالَ الماء إلى ما تحت بعض الشعور الكثيفة النابتة على الوجه، وهي: الحاجبان، والشاربان والعنفقة والعذاران، إما لأجل نُدْرَة كثافتها، أو لأن بياض الوجه محيطٌ بها (¬1)، وليس بذلك القوي على كون هذا الموضع من مواضع عدم اعتبارها؛ لأنه لو اعتبرت الكثافة النادرة لم يجب غَسلُ ما تحتها. وأما إحاطة الوجه فهو من قبيل إعطاء الشيء حكم ما جاورهُ أو قاربه، فإن لم يكن الدليل اللفظي الدالُّ على الوجوب موجودًا، فهذا من قبيل الاستحسان، واعتبار المناسبة المرسلة. وغيرهم يطلقون القول باستحباب تخليل الشعور الكثيفة في الوضوء، فيمكن ذلك الغير أن يستدلَّ على عدم الوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْكُم مِنْ أَحَدٍ" فإنَّه يقتضي العموم في كلّ أحدٍ، ومن جملة الآخذين من كثفت هذه الشعور على وجهه. فيقتضي ترتُّب الثواب ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 341).

الحادية والثلاثون بعد المئة

بدون ما قيل بوجوبه؛ لأنه غير مذكور، إلَّا أنَّ هذا يتوقف على أن ما تحت هذه الشعور لا ينطلق عليه اسمُ الوجه؛ فإنَّه لو انطلق عليه، لدخل تحت قوله عليه السلام: "ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ"، فلا يحصُل حينئذٍ ما رُتِّبَ عليه الثواب في الحديث، إلَّا أن يقال على هذا: إن البشرة إما أن يختصَّ اسم الوجه بها أولا يختص، بل ينطلق على ما نَبَت عليها، فإن كان مختصًّا بالبشرة كان وجودُه مأخوذًا من تعليق الحكم بغسل الوجه، ويضيع التعليل بالندرة، وإحاطة بياض الوجه بهذه الشعور، وأيضًا فيقتضي أن يندرجَ ما تحت اللحية الكثَّة والعارضين الكثَّين تحت الأمر حينئذٍ، فيجبُ، ولا يقولون بوجوبه، وإما أن يكون اسم الوجه حاصلًا بدون إيصال الماء إلى البشرة مكتفًى فيه بغسل ما نبت، فإن كان حينئذٍ كان مختصًّا، فتقصر دلالة الأمر بغسل الوجه على إيصال الماء إلى ما تحت البشرة، ويتَّجه الاستدلال لمن ينازع بلفظ الحديث. الحادية والثلاثون بعد المئة: خروج الخطايا من هذه الأعضاء المذكورة يقتضي وجودَها قبل الخروج فيها، إذ لا خروج إلَّا بعد الوجود، ولا ينافي هذا العمل على المجاز؛ لأنه يلي الحقيقة في المعنى المتجوّز به، فإذًا يجب أن ينظر فيما يتعلق بالحواس المذكورة من الذنوب، وبعضها ظاهر الوجود كاللسان مثلًا، فإن المعاصي المتعلقةَ به ظاهرةٌ فاشيةٌ كالقذف، والغيبة، والنميمة، إلى غير ذلك. وأما الوجه: فحاسة النظر منه، يتعلق بها الإثم، إما بارتكاب

المحظورات كالنظر إلى العورات، والصور المشتبهات كالأجنبيات، والمُرْدِ حيث [تدعو] إلى المفسدة، وإما باجتناب المأمورات، كترك الحراسة الواجبة في سبيل الله، وترك حراسة الأجِير ما استُؤْجِر على حراسته، وترك ما وجب على الشهود النظرُ إليه لإثبات الحقوق، وإسقاطها في الدعاوى والمخاصمات. ولما كانت حاسَّةُ اللمس عامَّةً للبدن، تعلق بالوجه منها ما يتعلَّق بالحاسَّة؛ إما في ترك الواجب، كترك إمساس الجبهة الأرض في السجود عند من يوجبه، وإما بفعل المحظور كإمساس الوجه المحرّم لا سيما بالقُبلة، وإما بفعل الممنوعات كلمس عورات الأجانب، ولمس ما خرج من العورة كأبدان النساء الأجانب وغيرهم ممن يخاف الافتتان بمسِّهِ، وكالملامسة بين الزوجين المُحرِمَين بشهوةٍ في حال الإحرام. وأما اليدان: فتعلُّق الإثم بهما ظاهرٌ إما بترك الواجب، فبترك كلِّ بطشٍ مأمور بهِ كالقتال في سبيل الله، والرجم، والجلد في الحدود، وما تجِبُ من التعزيراتِ، وكذلك ترك كتابة ما تجبُ كتابتُه، وترك كل ما لا يتأتَّى القيامُ بالواجب فيه إلَّا باستعمالها، كالرمي في سبيل الله، وإما بارتكاب المحرم، كبسطهما لفعل المحرّمات، كالضرب، والبطش، والإعانة على فعل الغير للحرام بالمناولة له، وغير ذلك. وأما الرأس: فيمثل ترك الواجب المتعلِّق بها بترك غسلها

الواجب، كالغسل من الجنابة، والحيض، وكالمسح، في الوضوء وترك الحلق، والتقصير الواجبين في الحج والعمرة، ويمثل فعل المحرم بترك سترها في الإحرام كالدهن، ويدخل فيها ما يدخل في ممنوعات اللمس أَيضًا، لما ذكرناه من عموم هذه الحاسَّة للبدن. وأما الأرجُل: فتعلُّق الإثم بهما ظاهر، إما في ترك الواجبات، فكترك المشي إلى الجهاد المتعيّن، وتشييع الجنازة المتعينة، والطواف والسعي الواجبين، وترك القيام في الصلاة، وكشفهما في الإحرام، وترك المشي عند الدعاء إلى الشهادة حيث يتعيّن الأداء والمشي، وأما في ارتكاب المحظور، فكالمشي إلى كل محرَّم مقصودًا، أو توسّلًا، إلى غير ذلك، والمقصودُ التمثيلُ لا الحصر. وأما الفم: فقد ذكرنا أمرَ اللسان، ويتعلق بحاسة الذوق منه ذوق الحرام، وترك ذوق ما يتوقف إيصال الحقّ فيه عند التخاصم من الحاكم أو الشهود. وأما الخياشيم: فإثبات الخطايا فيها أغمضُ من إثباته في غيرها بما ذكر، ويمثَّل الإثم بترك الواجب، كترك الشمّ الواجب على الحاكم، أو الشهود المأمورين بالشمِّ لأجل فَصْلِ الخصومات الواقعة في روائح المشموم، حيث يَقصِدُ الردَّ بالعيب، أو يَقصِدُ منعَ الردِّ إذا حدث عند المشتري؛ ويمثَّل الإثم بارتكاب المحرم بتحريم ثم الطيب في حال الإحرام، وتحريم اشتمام طيب النساء الأجنبيات التي تدعو إلى المفسدة، وأما شمُّ ما لا يملكه الإنسان كشمِّ الإِمام الطِّيب الذي

الثانية والثلاثون بعد المئة

يختص بالمسلمين إذا لم يتصرَّف في جرمِه، فإن المنقول عن بعض أكابر الامتناع منه، والتعليل بأنه هل ينتفع منه إلَّا بريحه، وقد قيل: بأنه لا بأس بذلك، بل زاد بعضهم وقال: إنه في كونه ورعًا نظرٌ من جهة أن شمَّه لا يؤثر نقصًا ولا عيبًا، فيكون إدراك الشمّ له بمثابة النظر إليه بخلاف وضع اليد عليه، ولو نظر إنسان إلى بساتين النَّاس، وغرفهم، ودورهم، لم يمنع من ذلك إلَّا إذا خُشِيَ الافتنانُ بالنظر إلى أموال الأغنياء، وكذلك لو مسَّ جدارَ إنسان لم يُمنع من مسِّه، ولو استند إلى جدار إنسان لجاز، كما لو جلس مُتطيِّبًا أو جالسَهُ متطيّبٌ، فإن ذلك مأذون بحكم العُرف، ولو منعه من الاستناد إلى جداره، فقد اختلفوا فيه إذا كان الاستناد لا يؤثِّر في الجدار البتة، ولا ينبغي أن يَطَّرِدَ ذلك في شمِّ ريح المطيَّب. قلت: أما النظر في كونه ورعًا فيما فعله ذلك الكبير، واستبعاد كونه ورعًا، فَيَبعُدُ عندي، وليس كما استبعَدَ كونهَ ورعًا من أكل طعام حلالٍ محضٍ حمله ظالم، ولا سيما الطعام الذي نَدَب الشرعُ إليه كطعام الولائم، فإن ذلك أقربُ إلى الاستبعاد من حديث الطيب. الثَّانية والثلاثون بعد المئة: خروج الخطايا من أعضاء المحدِث جعل سببًا لعدم طهورية الماء المستعمل، ثم قال بعضهم: بالتنجيس، وقال بعضهم: بعدم الطهورية، وربما تجاوز الحنفية وأطلقوا على أعضاء المحدث النجاسة نجاسة حكمية، وربما أُخِذَ ذلك من كون الماء طهورًا، فإنَّه يقتضي وجود ما يطهرّه كما في النجاسة الحسيّة.

وأصحاب الشَّافعيّ يذكرون في تعليل عدم الطهورية تأدِّيَ الفرض أو تأدِّيَ العبادة [أو انتفاء المانع، فأما تأدِّي العبادة] (¬1) فذُكِرَ في مناسبته: أن الآلة المستعملة في المقصود الحسِّيِّ يورثها ضعفًا وكَلالًا، وكذلك الآلة المستعملة في المقصود الشرعي، وأما تأدِّي الفرض فإن المراد منه رفع الحدث، أو رفع منعه من الصلاة، حيث لا يُكتَفى به، كما هو [في] (¬2) أوضوء، صاحب الضرورة، وذلك يقتضي تأثر (¬3) الماء، ألا ترى أن غسالة النجاسة لما أثَّرت في المحلّ حتَّى لم يبقَ المحلُّ كما كان قبل الغسل، تاثَّرت هي بالاستعمال، حتَّى لم تبقَ كما كانت قبل الغسل (¬4)، ثم أُبيحَ له بعد ذلك ما مُنِعَ منه، وانتقل المانع الذي كان في الأعضاء إلى الماء، وربما قيل: بأن المانع الحكمي تتَّصف به الأعضاء تقديرًا كالأوصاف الحسِّيَّة (¬5). وليس يخفى أن العقل حاكم بأنه لا شيءَ يحلُّ الأعضاء، ولو كان بها، يصِحَّ انتقالُه إلى الماء، بل لو صَحَّ أن الماء المستعمل غيرُ طهور، أو نجسٌ، لم يلزم منه أن يكون الانتقال (¬6) المذكور، وإنما الثابت المحقَّق: أن الشارع حَكَم بالمنع من الصلاة ممدودًا إلى غاية ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "تأثير". (¬4) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 107 - 108). (¬5) في الأصل: "لأوصاف الحشفة"، والتصويب من "ت". (¬6) "ت": "للانتقال".

غسل الأعضاء، ولا يلزم من ذلك قيام مانع، ولا انتقال إلَّا على سبيل التقدير، الذي هو خلاف الواقع، والأحكام التقديرية على خلاف الأصل لا بدَّ فيها من دليل شرعي يدلُ عليها، سيما إذا خالفت المعلوم، بل لو ورد النصُّ بالانتقال، لوجب تأويله، وحمله على المجاز، أو على تنزيل الحكم منزلة المنتقل إطلاقًا مجازيًا، وما ذكر من ملاءمة التعليل بأداء العبادة للحكم؛ من أن الآلة المستعملة في المقصود الحسين يورِّثها ضعفا وكَلالًا، فكذلك الآلة المستعملة في المقصود الشرعي، فلا يخفى ضعفه، فعيبه قراره. واعلم! أن هذه العلل المذكورة - أعني: تأذي العبادة أو الفرض، أو انتقال المانع - تارة تُؤخَذ دليلًا على عدم طهورية الماء المستعمل، وتارة تُؤخَذ تعليلًا للحكم بعد إقامة دليل عليه، والثاني أهونُ من الأول، لكن إذا حمل عليه، يحتاج إلى دليل شرعي خارج عن هذه العلل، يدلُّ به على الحكم، ثم يعلَّل بعد ثبوت الحكم بما ذكر، ثم هو بَعْدَ ذا ضعيف، رُتْبتُه في المناسبة ضعيفة جدًا، لكنه أقرب من أن يجعلَه سببًا لإثبات الحكم، وفي إقامة ذلك الدليل على عدم الطهورية عسرٌ، وأقوى ما قيل فيه: ترك الأولين جمعه، لاستعماله في الطهارة حيث يعدم الماء، مع شدة محافظتهم على العبادات، واحتياطهم لها، وقد اعترضت عليه بما (¬1) كتبته من شرح ¬

_ (¬1) "ت": "مما".

"مختصر" (¬1) الشيخ العلامة أبي عمرو بن الحاجب. وطريق الاعتراض أن يقال: إما أن يُدَّعى اتفاق الأولين على ترك الجمع، أو لا. فإن كان الثاني: فلا حجَّة في فعل البعض، أو قوله في محلِّ الخلاف. وإن كان الأول - وهو اتفاقهم على عدم الجمع للطهارة -: بطلب الملازمة بين عدم جمعهم، واعتقادهم عدمَ الطهورية؛ لأنه لو ثبتًا معًا - أعني: عدم الجمع من الكل، وملازمة اعتقاد عدم طهوريته لعدم الجمع - لزم اتفاقهم على عدمِ طهوريتهِ جزمًا، وهذا اللازمُ منتفٍ لوقوع الخلاف بين السَّلف في المسألة؛ كما ذكره ابن المنذر (¬2)، وغيره. فالحاصل: أن اللازم أحدُ الأمرين؛ إما عدم اتفاقهم على عدم الجمع، وإما عدم ملزومية عدم الجمع لاعتقاد عدم الطهورية، وأيًّا ما كان يبطل؛ فهذه المباحثة ينبغي أن تتأملها، وتنظر فيما يقابلها، مما هو أقوى منها، فإن لم يظهر ذلك؛ فالعمومات تدلُّ على الطهورية، وإطلاق اسم الماء موجود في المستعمل، فَزِنِ الظنون، وقدِّمِ الأرجح؛ فهو الواجب في النظر. وقد ورد عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الماء المستعمل حديثان: ¬

_ (¬1) زيادة: من هامش "ت". (¬2) انظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 285).

الثالثة والثلاثون بعد المئة

أحدهما: حديث الربيِّع بنت معوِّذ: "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ بَرَأْسِهِ مِن فَضْلِ مَاءٍ كَانَ بِيَدهِ" (¬1)، فاستدَلَّ به بعضُهم في المسألة، وقد نُوزِعَ، أو يُنازَع في ذلك؛ من أن فضل الماء كان بيده، لا يلزم أن يكون فضل الماء المستعمل في يده. الثالثة والثلاثون بعد المئة: اختلفوا في وجوب إفاضة الماء على ظاهر اللحية، والذين أوجبوه جعلوها من الوجه، فقد يمكن أن يستدلُوا بخروج خطايا الوجه على كونها منه؛ كما استدلُّوا بخروج خطايا الرأس من الأذنين على كونهما من الرأس، وليس بذاك القوي؛ لأنه يجوز أن يكون ما يخرج من عضو معيَّن ينتهي إلى ما ليس منه، ويقع الانفصالُ من ذلك الغير. الرابعة والثلاثون بعد المئة: الإخبار عن خروج خطايا كل عضو عند غسله، استُدِلَّ به على أن طهارةَ كلِّ عضو تحصُلُ بغسله، وهي مسألةٌ يُختلف فيها، وهذا الاستدلال ذكره بعض أكابر المالكية، وهو متوقف على أنَّه يلزم من خروج الخطايا حصول التطهير، وهو ظاهر لا بُعْدَ فيه؛ لأنه [قد] (¬2) رتَب خروجها على الوضوء لقوله: - صلى الله عليه وسلم - "إِذَا تَوضَّأ العَبدُ المؤمِنُ أو المُسلِم، فَغَسَلَ" (¬3)، وترتيب الحكم على الوصف يقتضي التعليل، وإذا كان مرتبًا على الوضوء، فيلزم من ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) سقط من "ت". (¬3) تقدم تخريجه.

الخامسة والثلاثون بعد المئة

وجوده خروج الخطايا، ومن لوازم الوضوء الطهارة، فيلزم من وجودها خروج الخطايا، فَيُستَدَلُّ بخروج الخطايا على وجودها؛ استدلالًا بوجود المعلول على وجود علته المتعيَّنة للتعليل، وتعيُّنها؛ إما باقتضاء الأصل عدم غيرها، أو لأن (الفاء) يقتضي التعليلَ مجردُها، والعلَّة تقتضي الحصرَ غالبًا ظاهرًا، وإذا استدْلَلْنا بخروج الخطايا على وجود الطهارة، وقد خرجت عقيب كل عضو بغسله، تكون موجودة عند غسل كل عضو، وذلك ما ادَّعاه. الخامسة والثلاثون بعد المئة: بُني على هذا الخلاف في أنَّه هل [يطهر كل] (¬1) عضو بغسله، أو يتوقف على إكمال الطهارة، ما لو فرق النية على أعضاء الوضوء، هل يصح، أم لا؟ وهذا يتوقف على صحة هذه الملازمة - أعني: ملازمة صحة التفريق في النية لطهارة كل عضو بإكماله -، فإن صحَّت فقد صار حصول طهارة كل عضو ملزومًا لجواز التفريق، والدالُّ على الملزوم دالٌّ على لازمه، فيدلُّ على جواز تفريق النية بواسطة دَلالاته على طهارة كلِّ عضو بغسله. السادسة والثلاثون بعد المئة: ويقال بعد هذا: إنه يلزم من جواز تفريق النية تعدُّد عبادة الوضوء، وعدم اتحادها؛ لأنهم بَنَوا تفريق النية على الطاعات وعدمه على الاتحاد والتعدُّد، وقسمت إلى ثلاثة أقسام: أحدها: طاعة متحدة، وهي التي يفسد أولُها بفساد آخرها؛ كالصلاة والصيام، فلا يجوز تفريق النيَّة على بعضها، مثاله في الصيام: أن ينوي ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

إمساكَه الساعةَ الأولى وحدَها، ثم ينوي إمساكَ الساعةِ الثَّانية وحدَها، وكذلك يُفرِد كلَّ إمساك بنيَّة تختص به إلى آخر النهار، فإن صومه لا يصحُّ، وكذلك لو فرَّق بنيَّة الصلاة على أركانها وأبعاضها؛ مثل إفراد التكبير بنية، والقيام بنية ثانية، والركوع بنية ثالثة، وكذلك إلى انقضاء الصلاة، فإن صلاته لا تصِحُّ؛ لأن ما نواه من هذه المفردات ليس بجزء من الصلاة على حياله. القسم الثاني: طاعة متعدّدة؛ كالزكوات، والصدقات، وقراءة القرآن، فهذا يجوز أن يُفرِدَ أبعاضَه بالنيَّة، وأن يَجمعه في نيَّة واحدة. القسم الثالث: ما اختُلِف في اتحاده؛ كالوضوء والغسل، فمن رآهما مُتَّحِدَيْن، منع تفريق النية على أجزائهما، ومن رآهما متعددَيْن، جوَّز تفريقَ النية على أَبعاضِهما. قلت: إذا كانت العلَّة في الاتحاد فسادَ الأول بفساد الآخر، فالوضوء كذلك، فإنَّه لو أحدث قبل فراغه بطل، وإذا كانت العلَّة في التعدُّد عدمَ فساد الأول بفساد الآخر، فمن أين جاء الخلاف فيه؟ فاللازم أحد الأمرين؛ إما فسادُ أحدِ الاتحاد والتعدد من فساد الأول بفساد الآخر، وإما عدمُ جَرَيانِ الخلاف [في] (¬1) الوضوء، فإنَّه إن فسد أولُه بفساد آخره، وُجِدت العلَّة في الاتحاد، وإن لم يفسد وجدت علَّة ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

السابعة والثلاثون بعد المئة

التعدُّد، فمن أين جاء وأفتى على [أن] (¬1) هذا هو المأخذ على الاتحاد والتعدُّد، لم يصِحَّ منه الخلاف، والله أعلم. السابعة والثلاثون بعد المئة: هذا الذي ذكرناه من الاستنباط في الحديث، يقتضي أن يكون التعدد فرعًا عن (¬2) جواز التفريق، وجواز التفريق فرعًا عن وقوع طهارة كل عضوٍ بغسله، فالتعدُّد لازمُ [لازمٍ] (¬3) يُسْتدَلُّ عليه بملزومِ ملزومه، والذي حكينا عن الغير، يقتضي أن يكون جواز التفريق فرعًا عن التعدُّد، فيكون لازمه، فهو خلاف ما قررناه، فلا بد من ترجيح أحد الطريقين على الآخر، ويمكن أن يرجَّح ما قلناه؛ بأنا دلَّلنا على الملزوم من الحديث، الذي هو طهارة كل عضو بغسله، وترتَّب عليه لازمُه ولازمُ لازمه، وعلى الطريقة الأخرى يحتاج إلى الدليل على التعدد، أو الاتحاد في الوضوء، الذي هو الملزوم حينئذ، ولا يمكن أخذُه من جواز التفريق، فَيُطالب بالدليل عليه، والله أعلم بالصواب. الثامنة والثلاثون بعد المئة: ترتُّب الثواب على الوضوء يقتضي كونه عبادة، وقد بيَّنوا مسألة اشتراط النية على كون الوضوء عبادة، ليبنوا عليه المأخذ، فإذا صَحَّ كونه عبادة، اسَتنتَجُوا منه اشتراطَ النيَّة بالقياس على سائر العبادات، وقد فعل ذلك في القياس، فقيل: إن ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "من". (¬3) زيادة من "ت".

التاسعة والثلاثون بعد المئة

الوضوء عبادة على اشتراط النيَّة يتوقَّف على مقدِّمات نذكرها. التاسعة والثلاثون بعد المئة: منها أن انتفاء الثواب على الفعل لا يلزم منه عدمَ صحته؛ لأنه يجعل رفع الحدث وترتُّبه على مرور الماء على الأعضاء من باب خطاب الوضع في الأسباب والمسبَّبات، والثواب يترتَّب على القصد، إذ لا يثاب المكلف إلَّا على كسبه، وما لم يكسبه بالقصد لا يكون فيه ثواب، ويصحُّ بناءً على وجود سببه. الأربعون بعد المئة: فيعترض على هذا بأن يقال: كلُّ وضوء يترتَّب عليه الثواب، ولا شيء ما لم ينو يترتَّب عليه الثواب، فلا شيء مما لم ينوِ بوضوء، وإذا لم يكن وضوءًا، لم يكن صحيحًا. فإن قيل: على هذا لا يسلَّم (¬1) أن كل وضوء يترتب عليه الثواب؛ لأن ما لم [يُنوَ] (¬2) وضوء بحصول سببه، وهو مرور المطهر على الأعضاء، ولا يثاب عليه لعدم التكسُّب. قيل في الجواب: الدليلُ عليه ترتُّبُ الثوابِ على استعمال المطهر في هذه الأعضاء؛ إما لما في هذا الحديث من ترتُّب الثواب على تقريب الوضوء والغسل، وإما لما في الحديث الآخر: "إِذَا تَوَضَّأَ العَبدُ المؤمِنُ، أو المسلِمُ، فَغَسَلَ وَجْهَه" إلى آخره، والحكم المترتِّب على المسمَّى يحصل عند وجود المسمَّى، وكل (¬3) ما يسمَّى وُضوءًا ¬

_ (¬1) "ت": "لا يلزم". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "فكل".

الحادية والأربعون بعد المئة

حينئذ يترتَّب عليه الثواب. الحادية والأربعون بعد المئة: ومن المقدّمات المحتاج إليها: تحرير محلِّ الخلاف في النيِّة المشترطة، فإن ها هنا ثلاث نيَّات: القصد إلى الفعل. والقصد إلى إيقاع المعتبَر في صحة الفعل؛ كرفع الحدث، أو استباحة الصلاة، أو استباحة ما لا يستباح إلَّا بوضوء، أو أداء فرض الوضوء. ونيَّة ثالثة، وهي: قصد التقريب إلى الله تعالى. ويلزم من إسقاط اعتبار الأخريين ومن اشتراط إحدى الأخريين اشتراط الأولى. الثَّانية والأربعون بعد المئة: إذا قيل: مَنْ فعل كذا، فله كذا، أو فعليه كذا، فهل يقتضي أن يكون ذلك الفعل مقصودًا متعمدًا إليه، ولا يدخل فيه النسيان؟ أبو عمر ابن عبد البر زعم ذلك، وقاله في قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَه فَلْيَتَوَضَأْ" (¬1)، والله أعلم. الثالثة والأربعون بعد المئة: فإن صَحَّ ما قال أبو عمر، أو لم يَصِحَّ، ودلَّ السياق المخصوص، والصيغة المخصوصة في الحديثين، بطلت المقدمة - أعني: "ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَه" و"إِذَا تَوَضَّأَ الَعَبْدُ المُؤْمِنُ أو المُسْلِمُ" أن المراد القصد إلى الفعل -، بطلت المقدِّمة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 249).

الرابعة والأربعون بعد المئة

القائلة: إن الثواب مرتَّب على مسمَّى غسل الأعضاء، وظهور القرينة على ما ذكرناه بيِّنٌ؛ لأنه لا يُشَكُّ في أن المراد "يُقَرِّبُ وَضُوءَه" ليتوضأ، وأن ما ذكر بعد ذلك هو المقصود إليه من التقريب، وكذلك صيغة تفعَّل، فإنَّها تقتضي التعمُّل والتكسُّب، وإذا ظهر في كل واحد منهما القصد إلى الفعل، فلم يترتَّب الثواب إلَّا على فعل مقيد بالقصد، فلا يصح أن يكون مرتَّبًا على ما لم يقيَّد به، ويقصر (¬1) الدلالة على اشتراط أحد النيَّتين الأُخريين اللتين ذكرناهما، فإنَّه لا يلزم من الدلالة على اشتراط [القصد] (¬2) إلى الفعل الدلالة على اشتراط النيَّتين الأخريين، وتأمَّل فَكنَّا للملازمة بالنسبة إلى الدلالة، فإنَّه قد يُدَّعَى الاستلزام في الحكم بطريق جدلي عندنا، وهو إجماعُ لا قائل، لكن إثبات الحكم عن إثبات الدلالة من الحديث. الرابعة والأربعون بعد المئة: ومن المقدِّمات: اشتراطُ النيَّة في كل العبادات؛ لأن طريق القياس أن يقال: الوضوء عبادة، والعبادة تفتقر إلى النيَّة، فالوضوء يفتقر إلى النية، فان لم يتبين أن كلَّ عبادة تفتقر إلى النية، حتَّى يندرجَ تحته الوضوءُ، لم يحصلِ المقصودُ، ولم يلزم اندراج الوضوء تحت قولنا: والعبادة تفتقر إلى النيَّة، [لكن للمتأخرين - أو بعضهم - نزاع في أن كل عبادة تفتقر إلى النيَّة، ¬

_ (¬1) في الأصل: "ويقصد"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

الخامسة والأربعون بعد المئة

فنذكر] (¬1) ما قيل في ذلك. الخامسة والأربعون بعد المئة: يقول بعض المتأخرين: إن الغرضَ من النيَّات تمييزُ العبادات عن العادات، أو تمييزُ رُتَبِ العبادات: فمن تمييز العبادات عن العادات: الغسلُ، فإنَّه متردِّدٌ بين ما يفعل قربة إلى الله تعالى؛ كالغسل عن الأحداث، وبين ما يفعل لأغراض العباد من التبرُّد والتنظُّف، والاستحمام، والمداواة، وإزالة الأوضار، والأقذار، فلما تردَّد بين هذه المقاصد، وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب، عمَّا يُفعل لأغراض العباد، وذكر أمثلة غير هذا؛ كرفع الأموال، والإمساك عن المُفطِّرات، وحضور المساجد، والضحايا، والهدايَا، والحج. وأما تمييز رتَب العبادات: فمثَّلها بالصلاة، وقسَّمها إلى فرض ونفل، والنفل ينقسم إلى راتب، وغير راتب، والفرض ينقسم إلى منذور وغير منذور، [وغير المنذور] (¬2) ينقسم إلى ظهر، وعصر، ومغرب، وعشاء، وصبح، وإلى قضاء، وأداء، فيجب في النفل أن يميِّز الراتب عن غيره بالنيَّة، وكذلك تمييز صلاة الاستسقاء عن صلاة العيد، وكذلك في الفرض تمييز الظهر عن العصر، والمنذورة عن المفروضة بأصل الشرع، وكذلك في العبادة المالية تمييز الصدقة ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

الواجبة عن النافلة، والزكاة عن المنذورة والنافلة، وكذلك تمييز صوم النذر عن صوم النفل، وصوم الكفارة عنهما، وصوم رمضان عما سواه، وتمييز الحج عن العمرة، كل ذلك تمييزًا لبعض رتب العبادات عن [صور] (¬1) بعض، ولا يكفيه مجرد نية القربة دون تعيين الرتبة، فإن أطلق نية الصوم، أو الصلاة، حمل على أقلّهما؛ لأنه لم ينوِ التقرُّب بما زاد على رتبتها. ثم قال: فإن كانت العبادة غير ملتبسة بالعادة؛ كالإيمان؛ والتعظيم، والإجلال، والخوف، والرجاء، والتوكُّل، والحياء، والمحبة، والمهابة، فهذه متعلِّقة بالله عز وجل، قربة في أنفسها، متميِّزة لله بصورتها، لا تفتقر إلى قصد يجعلها قربة، فلا حاجة في هذا النوع إلى نيَّة تصرفه إلى الله عز وجل، وكذلك التسبيح والتهليل والتكبير، والثناء على الله عز وجل بما لا يُشارَكُ فيه، والأذان، وقراءة القرآن؛ فإنَّه لا يحتاج إلى نيَّة، إذ لا تردُّد له بين العبادة والعادة، ولا بين رتب العبادة، والنيَّات إنما شرعت لتمييز العبادات عن العادات، أو لتمييز (¬2) رتب العبادات (¬3). قلت: ظاهر أكثر هذا الكلام، يرجع إلى نيَّة القربة، لا إلى نيَّة ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "والتمييز"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 176 - 178)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله.

السابعة والأربعون بعد المئة

الفعل، ونحن قد فرَّقنا بينهما، حيث جعلنا النيَّة في الوضوء منقسمة إلى ثلاث نيَّات، فإن نازع في اشتراط نيَّة أصل الفعل، وأنها لا تشترط في كونه قربة، نُوزع في ذلك، ولو كانت العبادةُ متعيِّنةً، ويقال: لو أن الإنسان جرى لفظ التسبيح، والتهليل، [والقراءة] (¬1) على لسانه سهوًا من غير قصد ولا نية عامَّةٍ ولا خاصَّةٍ، لم يكن عبادة، ولا يثاب عليه، وليس التزام هذا مما يتعبد (¬2)، بل هو الأقرب والأصوب إن شاء الله تعالى، وإن كان الكلام في نيَّة التقرُّب والإضافة إلى الله تعالى فقد أَفرد لذلك مسألة غير هذه. السابعة والأربعون بعد المئة: مما ينبني على أن الوضوء عبادة، وأنه يُبْنَى عليه اشتراط النية: اختلافهم في أن نيَّة التقرُّبِ إلى الله تعالى في العبادة هل تشترط؟ وقد أجري الخلاف فيه في سائر العبادات، وأطلق القولَ فيه بعضُ الفقهاء، وقال: هل يشترط أن يستحضر إضافة النية إلى الله سبحانه، أو تكفيه استلزام القربة الإضافة إلى الله تعالى؟ فيه اختلاف (¬3). وهذا يقتضي انفكاك نيَّة القربة عن نيَّة الإضافة إلى الله، وفيه نظر، فتأمله. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) جاء على هامش "ت": لعله: "يُستبعد". (¬3) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 180).

الثامنة والأربعون بعد المئة

والذي يتعلق بنا من هذا: أنَّه إن دلَّ دليل على اشتراط الإضافة إلى الله تعالى في نية العبادات، فمن لوازم كون الوضوء عبادة، أن تشترط هذه النية، فإذا قلنا: إنه يلزم من كونه عبادة اشتراط هذه النيَّة، فلا بدَّ بعد اشتراط نية الفعل من دليل يدلُّ على اشتراط هذه النيَّة، وكذا الكلام في نية رفع الحدث وأخواتها، يحتاج إلى دليل يدلّ على اشتراط النيَّتين في كون الفعل عبادة، وعدم الاكتفاء بالقصد إلى الفعل. الثامنة والأربعون بعد المئة (¬1): من لوازم كون الوضوء عبادةً لزومُه بالنذر، وطريقُه أن يقال: الوضوء عبادة، وكلُّ عبادة هي طاعة، فالوضوء طاعة، ثم يقال: الوضوء طاعة، وكلُّ طاعة تلزم بالنذر؛ [فالوضوء يلزم بالنذر] (¬2)؛ أما أنَّ الوضوء عبادة فعلى ما تقدَّم، وأما أنَّ الوضوء طاعة؛ فلأنَّ الطاعةَ إما مرادفة له، أو لازمة، وإلا جاز انفكاكُهما، وهو باطل، وأما أنَّ كلَّ طاعة تلزم بالنذر، فلقوله - عليه السلام -: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيع الله فَلْيُطِعْهُ" (¬3). وقد اختلف أصحاب الشَّافعيّ في أنَّ تجديد الوضوء هل يلزم ¬

_ (¬1) جاء في "ت": "السابعة والأربعون بعد المئة"، وكتب عندها "كذا"، ثم كتب في الهامش: صوابه: "الثامنة، وكذا ما بعده" أي: المسألة بعدها، وقد أثبت ترقيم المسائل كما أشار إليه في الهامش. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) تقدم تخريجه.

التاسعة والأربعون بعد المئة

بالنذر؟ وصحَّح اللزوم، وإنما أوجب الاختلاف عندهم؛ لأنهم لم يلزموا بالنذر كل ما هو عبادة أو طاعة، بل قسموا الحال فيه: فأما العبادات المقصودة، وهي التي شرعت للتقرُّب بها، وعُلِمَ من الشارع الاهتمامُ بتكليف الخلق إيقاعَها عبادة؛ كالصوم، والصلاة، والصدقة، والحج، والاعتكاف، والعتق؛ فهذه تلزم بالنذر بلا خلاف. وأما القربات التي لم تشرع لكونها عبادة، وإنما هي أعمال وأخلاق مستحسنة رغَّب الشرع فيها لعظم فائدتها، ويُبْتَغَى بها وجهُ الله تعالى، فيُنَال الثوابُ منها؛ كعيادة المرضى، وزيارة القادمين، وإفشاء السلام بين المسلمين، وتشميت العاطس؛ ففي لزومها بالنذر وجهان، صحَّحوا اللزوم، وتجديد الوضوء أُدْخِلَ في هذا القسم. وأما المباح الذي يَرِدُ فيه ترغيب؛ كالأكل، والنوم، والقيام، والقعود، فلو نذر فعلها، أو تركها، ينعقد نذره، وقد يَقْصِدُ التقوِّي على العبادة، وبالنوم النشاط عند التهجد، فَينالُ الثواب، لكنَّ الفعل غير مقصود، والثواب يحصل بالقصد الجميل (¬1). التاسعة والأربعون بعد المئة: هذا الذي ذكرناه من الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعْهُ" مبنيٌّ على قاعدتنا في أنَّ كلَّ ما عاد إخراجُه على العموم بالتخصيص فالأصل عدمُه، ويُعْمَلُ ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 301 - 303).

الخمسون بعد المئة

بالعموم، وأما على ما قيل: من أَنْ المطلق لا عموم [له] (¬1)، فإذا عُمِلَ به في صوره كفى، فالحديث مطلقٌ في العبادة كفى، ولا يقتضي العموم في حقِّ كل عبادة. فعلى هذا: ما وقع النزاع فيه من تجديد الوضوء، والقسم الذي هو منه، يمكن المخالِف فيه في الجدل أن يسلُكَ هذه الطريقةَ فيما يخالِف فيه، وجوابه هو الدليل على المذهب الذي اخترناه؛ وهو وجوب الوفاء بصيغة العموم، وإنما جعلتُ (¬2) ذلك جدلًا؛ لأنه لا بد للمجتهد المخصِّص للحكم بهذه الصفة، أن يُخْرِجَ عنها بعضَ ما تناوله اللفظُ من دليل يدلُّ على التخصيص، ومخالفة الحكم، فَحِينَئِذٍ إذا أُورِد (¬3) عليه الاستدلالُ بالعموم يقول ما يقول. الخمسون بعد المئة: من لوازم الاستدلال بالحديث على أنَّ تجديدَ الوضوء يلزم بالنذر، بعد إثبات كونه عبادةً يترتَّب الثوابُ عليه في الحديث: القولُ بالعموم ليدخل فيه الوضوء، والتفريق بين العبادة المقصودة بالتفسير المذكور، وبين القسم الآخر، لا بدَّ له من دليل يدلُّ عليه لمخالفته لظاهر العموم، فإنَّ في التفصيل إخراجَ بعضِ الطاعات، وأما المباحات فإنْ لم تقترن بها نيَّة تجعلها عبادة، فهي ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "حصلت"، والتصويب من "ت". (¬3) " ت": "ورد".

الحادية والخمسون بعد المئة

خارجة عن مقتضى اللفظ المذكور، ومن ألزم النذر (¬1)، فإنما يأخذه من دليل آخر، أما إذا اقترن بها ما يقتضي كونها عبادة بالنيَّة، فيدخل تحت العموم، فإخراجها يحتاج إلى دليل. الحادية والخمسون بعد المئة: تكلَّم بعض أكابر الفضلاء في الحكمة في غسل هذه الأعضاء، وذكر وجوهًا؛ منها: أنَّه أمر بغسل هذه الأعضاء تكفيرًا لما ارتُكِبَ بهذه الحواس من الإجرام؛ لأن بها تُرتكب جُلُّ المآثم، فإنَّ بها يوصل إلى الشيء الحرام، والنظر إلى العورات، والأكل الحرام، وسمع اللغو والكذب، وتناول [مال] (¬2) الغير، ونحو ذلك، قال: وقد وردت الأخبار في كون الوضوء تكفيرًا للمآثم، فتكون مؤيِّدةً لما قلنا (¬3). قلت: هذا يجعل تعليلًا لتخصيص هذه الأعضاء بالغسل دون غيرها من الأعضاء، ولا ينبغي أن يُجعَل دليلًا على أصل الوضوء، فتأمَّله. وبعض الوجوه التي ذكرها يمكن أن تُجعَل تعليلُ الأصل الوضوء، مثل قوله: إن الله تعالى لمّا أمرهم بالقيام إلى الصلاة؛ وهي مقام المناجاة، ومحلُّ القرب، أمرهم بتطهير الأعضاء الظاهرة لتذكرهم بتطهير باطنهم، فإن قيام الحدث لا ينافي العبادة والخدمة في ¬

_ (¬1) "ت": "ومن إلزام النذر بها". (¬2) سقط من "ت". (¬3) كذا وجدته في "بدائع الصنائع" للكاساني (1/ 115).

الثانية والخمسون بعد المئة

الجملة، حتَّى يجوز أداءُ الزكاة مع الحدث والجنابة، وأقرب منه: أنَّه يجوز أداء الإِسلام مع قيام الحدث، وهذا لأنَّ ذلك ليس بمعصية، ولا سببَ مأثم، فأما ما يقوم في الباطن؛ من الغشِّ، والحسد، والكبر، وسوء الظن بالمسلم، ونحوِها أسباب المآثم، فأمر بغسل هذه الأعضاء الظاهرة، لتكون دالَّة على تطهير الباطن عن هذه الأمور، لمَّا طلب المناسبة للحكم، والحكمة فيه على ما هو الأصل، والواقع في أحكام الله تعالى، وبَيَّنَ أن الحديث لا يناسب، استنتج من ذلك أمرًا مناسبًا للتعليل، وهو تطهير الباطن. الثَّانية والخمسون بعد المئة: لمَّا قيل بنجاسة الأعضاء نجاسةً حكمية وتطهيرًا لما لها [لكون الماء] (¬1) مطهِّرًا بالآية الكريمة، والحديث [الشريف] (¬2): {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُه، الحِلُّ مَيْتَتُه" (¬3) نستنتج من ذلك: عدمَ اشتراط النيَّة في الوضوء؛ لعدم اشتراطها في إزالة النجاسة الحسية. أُجيبَ عن ذلك: بحمله على التطهير من الآثام، فقيل في لفظ التطهير: إنه يحتمل أن يكون المراد منه التطهير عن الأوزار والآثام، ويحتمل أن يكون المراد به التطهير عن النجاسة، قال: والحمل على ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) تقدم تخريجه وهو الحديث الأول من هذا الكتاب.

الثالثة والخمسون بعد المئة

التطهير عن الأوزار أولى، وأشار إلى بيان الأولوية، وكأنه يريد أنَّه لا نجاسة في المحلِّ حقيقة، فلزم (¬1) منه تقديرُ النجاسة، والتقدير على خلاف الأصل، وهذا الجواب والترجيح يفتقر إلى الدلالة على كونه مطهرًا عن الآثام والأوزار، فَيسَتدِلُّ عليه بالحديث، فيصِحُّ الجواب، والله أعلم. الثالثة والخمسون بعد المئة: يقال: الفعل عبادة، بمعنى: أنَّه يُتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى، ويُمْتَثَلُ به الأمر، ويقال: عبادة، بمعنى التعبد، وعدمِ معقوليةِ المعنى، وقد بني بعض الخلافيّين وجوبَ النيَّة على كون الوضوء عبادةَ بهذا المعنى الثاني، فعلى هذا: إذا قيل الوضوء عبادة، تُشترط فيه النيَّة كسائر العبادات، فإن أريد المعنى الأول، لم يكفِ في بيان كونه عبادةَ ترتُّبُ الثواب عليه، ويحتاج حِينَئِذٍ إلى أن يبيّن كون كلِّ وضوء عبادة؛ كما قدَّمنا، أو يحترزَ في القياس بإيراد قيدٍ يُلْحَق به الوضوء، بما هو مقيَّد به في عبادة أخرى، وإن أُريد التعبُّد، فَليُقِمْ عليه دليلًا. الرابعة والخمسون بعد المئة: خروج الخطايا في مسح الرأس من أطراف الشعر، الكلام فيه كالكلام في خروج الخطايا من الوجه [من أطراف شعر اللحية، إلَّا أَنَّه ها هنا لا يمكن أن يجعل أطراف الشعر من الرأس] (¬2)، ولو أمكن أن يسلِّم الدليل في مثل هذا اللفظ ¬

_ (¬1) "ت": "فيلزم". (¬2) زيادة من "ت".

الخامسة والخمسون بعد المئة

على ما ذكر؛ لأن الشَّعر يتناول ما نزل عن حَدِّ الرأس من الذؤابة، فلو أُجْرِيَ مَجْرَى الرأس في الحكم، لوجب أن يجري المسحُ على طرف الذؤابة مع ترك المسح على الرأس جملة، فلا يتأدَّى الواجبُ حينئذ. والشافعيةُ قد زادوا على هذا، وحكموا بأنه لو مسح على شعر في حدِّ الرأس، لكان إذا مدَّ موضع المسح خرج عن حدِّ الرأس لم يُجْزِئه (¬1)، فيُؤَوَّل هذا على تقديرٍ سليمِ الدلالة، على كون اللفظ يدلُّ على كون الشعر من الرأس، إلى أن الحكم ثبت بدليل من خارج. والمالكية يقولون: إنه يمسح الذؤابةَ مع الرأس (¬2)، وهذا يدلُّ على أنَّهم يدخلونها تحت اسم الرأس. الخامسة والخمسون بعد المئة: قوله: "ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْه، كَمَا أَمَره الله" دليلٌ صحيح في أن الله أمر بغسل الرجلين، ولهذا ذكره في الأصل، وهو قاطع لدابر مذهب الإمامية في عدم وجوب الغسل، وأن الواجبَ المسحُ، ولا يتأتَّى للشريف أبي القاسم علي بن الحسين الملقب بالمرتضى (¬3) في تأويل ما ورد من الأحاديث بغسل الرجلين في وضوء النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه قال: أما الخبر المتضمن لأنه - عليه السلام - غسل رجليه، فيحتمل أن يكون فعل ذلك بعد مسحهما، ولم يَرْوِ الراوي ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 353). (¬2) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 265). (¬3) المتوفى سنة (436 هـ)، وهو جامع كتاب "نهج البلاغة". انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (17/ 588).

المسحَ؛ إمّا للنسيان، وإمَّا لالتباس الفعل عليه، وتقارب زمانه. والاعتقاد أن ذكر الغسل يغني عنه؛ لأن ذلك فعلٌ يحتمل ما ذكره، وهذا قولٌ مصرِّح بأن الله تعالى أمر بالغسل، فلا يبقى ها هنا حيلة للإمامية في دفع هذا إلَّا إنكارَ وجوبِ العمل بخبر الواحد، وهو قول باطل قطعًا بعد تتبّع أفعال الرسول والصحابة والتابعين، فلا التفاتَ إليه، ولم أرَ الشريف ذكر هذا في الجواب عن أحاديث الغسل، فيما حكاه الفقيه سليم عنه من قوله، وإنما ذكر التأويل المذكور، ولعلَّه دليل على إنصافه، ويمكن أن يكون من المجاملة، وإنما ذكر ذلك ابن المعلِّم وقال: الخبر الذي رَويتُم من أخبار الآحاد، وأخبار الآحاد لا توجب عندنا علمًا ولا عملًا، وقال في موضع آخر - على ما حكاه الفقيه سليم -: ولو أوجَبَت عملًا لم ترفع ظاهرًا، ولم تخصِّص عمومًا، وله في هذه المسألة رسالة، ولمحمد بن محمَّد بن النُّعمان المعروف بابن المعلِّم (¬1) رسالة أخرى. وردَّ عليهما الفقيهُ أبو الفتح سليم بن أَيُّوب الرَّازيّ (¬2) في رسالة ¬

_ (¬1) المتوفى سنة (413 هـ)، قال الذهبي في "السير" (17/ 345): بلغت تواليفه مئتين، لم أقف على شيء منها، ولله الحمد، انتهى. (¬2) قال الإِمام النووي: كان إمامًا جامعًا لأنواع من العلوم، ومحافظًا على أوقاته، فلا يصرفها في غير طاعة، وهو الذي نشر العلم بصُور، المدينة المعروفة، وله مصنفات كثيرة في التفسير والحديث وغريب الحديث =

السادسة والخمسون بعد المئة

سماها "المنصفة في طهارة الرجلين في الوضوء" وأجاب عن تأويل الشريف: بأن (¬1) الأمر الذي ورد فيه هذا الخبر، لو كان مما لا يتفق إلَّا لَاحاد النَّاس في وقت دون وقت؛ كالحوادث من الإيلاء، والظِّهار، واللعان، لكان الظنُّ بالصحابي أنَّه ضبطَه ونقلَه على وجهه، فكيف وهو مما يَحتاج إليه كل أحد في كلِّ يوم مرات؟!. وكذلك لو كان الذي نقله ممن لم يصحبِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا يومًا واحدًا، لم يُتَّهَم [بخفاء] (¬2) ذلك عليه، فكيف وقد نقله النجومُ من أصحابه، الذين لم يكونوا يفارقونه؟! وقد تقدّم ذكرُ أسمائهم، وألفاظِ أخبارِهم، والمواضعِ التي نقلتُ منها، فأغنى عن إعادتها، ثم يقال: كيف يُحتمل أن يكون فعل ذلك بعد مسحهما، وليس على أصله مسحهما، ببلة اليد مرةً واحدة، إلَّا بدعة. السادسة والخمسون بعد المئة: ظاهر قراءة الخِرَقِيِّ قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} يخالف ما اقتضاه هذا الحديث، وسائر الأحاديث المتضمنة للغسل، فيحتاج إلى الكلام عليها، وتخريج ما يدلُ عليه ليردَّ إلى حكم الغسل، وفي ذلك وجوه: أحدها: منع تعيين دلالتها على المسح؛ لأن ذلك مبنيٌّ على ¬

_ = والعربية والفقه، تُوفِّي سنة (547 هـ). انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 223). (¬1) في الأصل "لأن" والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

كون الجرِّ للعطف على الرؤوس، واقتضاء الواو للتشريك في الحكم، وذلك بأن يحمل الجرُّ على الخفض بالجوار، أو الإتباع، والخفضُ على الجوار مشهورٌ في لسان العرب تعدَّدت فيه الشواهد: منها قراءة حمزة والكسائي: {وَحُورٌ عِينٌ} بالجرِّ (¬1)؛ فإنَّه لا يطاف بالحور العين، وأول الآية قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] إلى قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]. ومنها قراءة من قرأ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 58]، بكسر النُّون في المتين (¬2)، وهو نعت للرزاق، وجرُّه على الجوار. ومنها قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [هود: 26] وهو صفة للعذاب، الذي هو منصوب حقيقة. ومنها قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] وهو نعت للريح المرفوعة حقيقة، فالخفض للجوار. ومن الشواهد المشهورة في الخفض على الجوار: ما ذكره سيبويه، وأبو حاتم [من الرجز]: كأن نسجَ العنكبوتِ المُرَمَّلِ (¬3) ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 529). (¬2) المرجع السابق، (ص: 517). (¬3) للعجاج، كما في "ديوانه" (1/ 243) (ق 12/ 107)، من قصيدة مطلعها: ما بال جاري دمعك المهلهل ... والشوق شاجِ للعيون الحُذَّلِ وانظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 437).

السابعة والخمسون بعد المئة

والمُرمَّل صفة للنسج المنصوب جزمًا، رملْتُ الحصير أرمُلُه، نسجته. يقال: ومنها أنشد أبو حاتم لذي الرُّمَّة [من البسيط]: كأنَّما ضَرَبتْ قُدَّامَ أعينها ... قطنًا مستصحب الأوتارِ محلوجِ (¬1) فَجَرَّ المحلوج، وهو نعت للقطن المنصوب؛ للمجاورة والإتباع. ومنها ما أنشد بعضهم [من المتقارب]: أطوفُ بها لا أرى غيرَها ... كما طافَ بالبيعةِ الراهبِ (¬2) فجرَّ الراهب إتباعًا للفظ البيعة. ومنها ما أنشد الأخطل [من الطَّويل]: جزى اللهُ عنَّا الأَعْوَرَين مَلَامةً ... وفروة ثَفْرَ الثَّورةِ المُتَضَاجِمِ (¬3) السابعة والخمسون بعد المئة: في اعتراضِ الإماميةِ على الخفضِ بالجوار، وهو من وجوهٍ: ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (1/ 456)، وعنده: عِهْنًا بمستْحصد الأوتار محلوجِ (¬2) لم أقف على قائله. (¬3) انظر: "ديوانه" (ص: 674)، والمتضاجم: المتسع.

الأول: ادعاءُ شذوذِهِ، قال الشريفُ: الإعرابُ بالمجاورة شاذٌّ نادرٌ، لا يُقاس عليه، وإنما ورد في مواضعَ لا يتعدَّى إلى غيرِها، وما هذه منزلتُهُ في الشذوذِ والخروجِ عن الأصول، لا يجوزُ أنْ يُحملَ كلامُ الله تعالى عليه. وقال ابن المعلِّم: وقد صَرَّح أهلُ اللغة وأئمةُ العربية بأنَّ المجاورةَ لا يجوز استعمالُها في كتاب الله تعالى؛ لبعدِها عن أصل، ولخروجِها عن حقيقة الكلام. وقالوا: استعمالُها شيءٌ يُخَصُّ به الأعرابُ دونَ الفصحاءِ من أهل اللسان؛ وقد نصَّ على ذلك الفرَّاء، واليزيدي، وغيرُهما من أهل اللغة. وقال في فصل آخر: وقد قال المبرِّدُ: إنَّ قولهم: جحرُ ضبٍّ خربٍ، ليسَ فيه شيءٌ من حكم المجاورة، لكنه لما أضيفَ (الجحرُ) إلى (الضبِّ) صار كالاسم الواحد، فأعرب (الخرب) بنعتِ الاسم (¬1). قال: ولم يقصد المتكلمُ بذلك ما ذهب إليه من لا علمَ له من خفض (الخرب) بالمجاورة. أجاب الفقيهُ أبو الفتح سليم بأن الذين استدلُّوا بذلك، لم يقتصروا على مجرَّدِ الدعوى، لكن تلوا فيه آياتٍ من القرآن، وذكروا فيه أبياتًا من الشعر معروفةً، وحكوا عن قوم أمناءَ ثقاتٍ أنَّهم نقلوه عن العرب مُطلقًا من غير تقييد، فسبيلُ المستدلِّ عليه، إذا أَرادَ أن يحكمَ ¬

_ (¬1) انظر: "المقتضب" للمبرد (4/ 73).

بشذوذه، ويقصرَهُ على موضع دونَ موضع، أن ينقلَ ذلك كنقلهم، ولا يقتصرَ على مجرد دعواه، ولأن في ذلك سدَّ باب الاحتجاج بكلام العرب، بأن يكونَ كلُّ من استدلَّ عليه بشيء منه، يقول: هذا إنَّما ورد في مواضعَ لا تتعدَّى إلى غيرها، وهو شاذٌّ نادر، وما هذه منزلتُهُ في الشذوذ والخروج عن الأصول، لا يُحتجُّ به، فيقف الاحتجاجُ بكلامهم، وإذا كان ذلك كذلك، لم يلزمْ هذا السؤال حتَّى يقرنَهُ بالبرهان. وقال أبو البقاء العُكْبَريُّ في الكلام على الإعراب الذي يقال: هو على الجوار، وليس يمتنعُ أن يقعَ في القرآن لكثرته، فقد جاء في القرآن والشعر؛ فمن القرآن قولُهُ تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] على قراءة مَنْ جَرَّ، وهو معطوفٌ على قوله: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة: 18] والمعنى مختلفٌ؛ إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدانٌ مخلدون بحور عين. قال الشَّاعر [من البسيط]: لمْ يَبْقَ إلَّا أَسِيْرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ... أَوْ مُوْثَقٍ في حِبَالِ القَدِّ مَجْنُوبِ (¬1) والقوافي مجرورة. ¬

_ (¬1) البيت للنابغة الذبياني، كما في "ديوانه" (ص: 58)، وعنده: لم يبق غيرُ طريد غيرِ منفلت ... وموثقٍ في حبال القد مسلوبِ

والجوارُ مشهورٌ عندهم في الإعرابِ، وقلبِ الحروف بعضها إلى بعض، والتأنيثِ، وغيرِ ذلك؛ فمن الإعراب ما ذكرنا في العطف، ومن الصفات قولُهُ: {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84] واليومُ ليس بمحيط، وإنما المحيطُ العذابُ، وكذلك قوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] واليومُ ليس بعاصف، وإنما العاصفُ الريح. [ومن] (¬1) قلب الحروف قوله - عليه السلام -: "ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ" (¬2)، والأصل: موزورات، ولكنْ أريدَ التآخي، وكذلك قولهم: إنه ليأتينا بالغَدَايا والعَشَايا. ومن التأنيث قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فحذف التاءَ من (عشر)، وهي مضافة إلى (الأمثال)، وهي مذكرة، ولكن لما جاورت الأمثالُ الضميرَ المؤنث، أُجْرِيَ عليها حكمُهُ، وكذلك قوله [من الكامل]: لمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَضَعْضَعَتْ ... سُوْرُ المدِيْنَةِ والجبالُ الخُشَّعُ (¬3) وقولهم: ذهبت بعضُ أصابِعِهِ. ومما راعت العربُ (¬4) فيه الجوارَ قولهُم: قامت هندٌ؛ فلم يجيزوا ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه ابن ماجه (1578)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في اتباع النساء الجنائز، والبزار في "مسنده" (653). وإسناده ضعيف. (¬3) البيت لجرير، كما في "ديوانه بشرح الصاوي" (ص: 345). (¬4) في الأصل: "في العرب".

حذف التاء، إذا لم يُفصَلْ بينهما، فإن فصلوا بينهما أجازوا حذفَهَا، ولا فرقَ بينهما إلَّا المجاورةُ وعدمُ المجاورة، ومن ذلك قولهم: قام زيدٌ، وعمرًا كلمته، استحسنوا النصبَ بفعل محذوف لمجاورة الجملة اسمًا قد عَمِلَ فيه الفعل، ومن ذلك قلبُهُم الواوَ المجاورةَ للطرف همزةً في قولهم: أوائل، كما لو وقعت طرفًا، وكذلك إذا بَعُدَت عن الطرف، ولا تقلبُ نحوُ طواويس. وهذا موضعٌ محتمل أن يُكتبَ فيه أوراقٌ من الشواهد، قد جعل النحويون له بابًا، ورتبوا عليه مسائلَ، وأصَّلوه بقولهم: جحرُ ضبٍّ خربٍ، حتَّى اختلفوا في جواز جرّ التثنية والجمع؛ فأجاز الإتباعَ فيهما جماعةٌ من حُذَّاقِهم قياسًا على المفرد المسموع، ولو كان [لا] (¬1) وجهَ له في القياس بحال، لاقتصروا فيه على المسموعِ فقط (¬2). قلت: أخذ أبو البقاء الأعمَّ، وهو الإتباعُ، وجلب فيه الشواهدَ، ولم يعرض الأخصَّ، الذي هو الخفض بالجوار. وأجاب الفقيهُ أبو الفتح عما تقدَّم ذكرُهُ عن ابن المعلِّم: أنَّه إنما يُنكَرُ استعمالُ المجاورة في كتاب الله تعالى إذا لم يكنْ هناك ما يُبيِّنُ المقصودَ، فإذا وُجِدَ ذلك فليس بمنكر؛ كسائر أنواع المجاز، وقد وُجِدَ في الآية ما يبين المقصود، وهو ما تقدم ذكره، قال: فسقط هذا الاعتراضُ. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "إعراب القرآن" لأبي البقاء العكبري (1/ 422 - 423).

قال: وقول من قال: إن استعمالها شيءٌ تختصُّ به الأعرابُ دون الفصحاء من أهل اللسان، [ظاهرُ الفساد؛ لإن امرَأَ القيس والنابغةَ من فصحاء أهل اللسان] (¬1)، وقد نُقِلَ عنهما استعمالُ ذلك. وقوله: وقد نصَّ على ذلك الفرَّاءُ، واليزيدي، وغيرهما، محمولٌ على أنَّهم نصُّوا على المنع من استعمالِهِ من غير دلالة تبينُ المقصودَ من الكلام، فإن الفراءَ وابنَ الأنباري وغيرَهما قد أجازوا استعمالَ ذلك في كتاب الله تعالى، وقد تقدم ذكرُ ذلك. وذكر أبو الفتح عثمانُ ابنُ جِني في كتاب "المحتسب" في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27]: قال أبو الحسن - يعني: الأخفش -: إنهم إنما تمنَّوا الردَّ، وضمنوا ألا يكذبوا، وهذا يوجبُ النصبَ؛ لأنه جوابُ التمني، ومنه قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالجر، قال: فهي معطوفةٌ في اللفظ على المسح، وفي المعنى معطوفة على الغسل، قال: ونحو هذا: جُحرُ ضبِّ خَرِبٍ (¬2). قلت: قد ذكرنا أنَّ القرينةَ في البيان ضعيفةٌ، وأما الردّ بفصاحة امرئ القيس والنابغة، فصحيحٌ بعد تعيين الخفض ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها" لابن جني (1/ 252).

بالجوار فيما قالها (¬1). الثاني من وجوه اعتراض الإمامية على الخفض بالجوار: قولُ الشريفِ الموسوي: كلُّ موضعٍ أُعرِبَ بالمجاورة مفقودٌ منه حرفُ العطف الذي تضمَّنته الآيةُ، وكان عليه اعتمادُنَا في تساوي حكم الأرجل والرؤوس، فلو كان ما أُورِدَ من حُكم المجاورة يسُوغُ القياسُ عليه، لكانت الآيةُ خارجةً عنها، لتضمنها من دليل العطف ما فقدناه من المواضعِ المُعْرَبةِ بالمجاورة، ولا شُبهةَ على أحد ممن يفهمُ العربيةَ في أن المجاورةَ لا حكمَ لها مع العطف. أجاب الفقيه أبو الفتح بأن العربَ تعربُ بالمجاورة في العطف، كما تفعلُ ذلك في النعت، وبه جاء القرآن والشعر الفصيح. وذكر من القرآن: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] على قراءة حمزة والكسائي في آخرين؛ بالجر فيهما. وذكر من الشعر [من الوافر]: وزَجَّجنَ الحَوَاجِبَ والعُيونَا (¬2) وقول النابغة [من البسيط]: في حِبَالِ القَدِّ مَجْنُوبِ (¬3) ¬

_ (¬1) جاء فوقها في "ت": "كذا". (¬2) سيأتي ذكره قريبًا. (¬3) تقدم ذكره قريباً.

وقال: قال أبو عبد الله بن الأعرابي: اتَّبعَ الخفضَ لما دنا منه. قلت: الأول: إنما هو على اعتبارِ المعنى الأعمِّ في الجوار، لا على اعتبارِ الأخصِّ في الخفض بالجوار. والثاني: إنما يَحسنُ ذكرُهُ في الجواب عن هذا السؤال، إذا كانت الرواية: موثقٍ؛ بالجر، فإن صحَّت الروايةُ هكذا، وإلا فلا. وقال الفاضلُ أبو منصور الماتُريديُّ: ولا شكَّ أنَّ إعطاءَ الإعرابِ بحكم الجوارِ والقربِ بابٌ من اللغة، إن كانَ محلُّهُ من الإعراب شيئاً آخر؛ لكونِهِ نعتاً لغيرِه، أو معطوفًا على غيره، وسوَّى بينهما إذا كان بينهما حائل، أو لا، وقال: أما بغير الحائل فكثير شائع، وذكر: جحرُ [ضبٍّ] (¬1) خربٍ، وذكر مع الحائل الآيةَ الكريمة: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، وقال: ومع ذلك خَفَضَ على طريق المتجاورين، وإن كان دخلَ الواوُ هاهنا حائلًا بين المتجاورين. قال: وكذلك قولُ الفرزدق [من الطويل]: وَهَلْ أَنْتَ إِنْ مَاتَتْ أتَانُكَ رَاْكِبٌ ... إِلَى آلِ بَسْطَامِ بن قَيسٍ (¬2) فَخَاطِبِ (¬3) ذكر (فخاطب) مخفوضًا بالمجاورة لبسطام، وإن كان بينهما ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "آل ابن قيس بسطام"، وفي "ت": "آل قيس بن بسطام"، والصواب ما أثبت. (¬3) انظر: "الأغاني" للأصفهاني (10/ 310).

حائل، وهو حرف الفاء، وهو في محلِّ الرفع معطوفًا على قوله: راكب. الثالث من الاعتراض على الخفض بالجوار: قال الشريفُ: الإعرابُ بالجوار إنما يُستحسنُ بحيث ترتفعُ الشُّبهةُ في المعنى، ألا ترى أنَّ الشُّبهةَ زائلة في كون (خربٍ) من صفات الضب، والمعرفةُ حاصلة بأنَّهُ من صفات الجحر، وكذلك قوله: مُزَمَّلِ، معلومٌ أنه من صفات الكبير، لا البجاد، وليس هكذا الآية الكريمة؛ لأن الأرجلَ يصحُّ أن يكونَ فرضُهُما المسحَ، كما يصحُّ أن يكونَ الغسلَ، والشكُّ في ذلك واقعٌ غيرُ ممتنع، فلا يجوزُ إعمالُ المجاورة فيها؛ لحصول اللَّبسِ والشُّبهة، ولخروجه عن باب ما عُهِدَ استعمالُ القوم المجازَ فيه. أجاب الفقيه أبو الفتح بأنَّ في الآية غيرَ وجهٍ من البيان يزيلُ اللَّبسَ والشُّبهة، في أن يكون جرُّ الأرجل للمجاورة مع أن الفرضَ الغسلُ، وللبيان مراتبُ في الجَلاَء والخَفَاء، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْراً" (¬1)؛ فمن ذلك: أنه لما أمر بغسل الأيدي مع بُعدها من الوسخ، كانت الأرجلُ مع قربها أولى بذلك، روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: اغسلوا أقدامَكُم؛ فإنها أقربُ أجسادِكُم إلى الأقذار، وذكرَ عن محمد بن يوسف الفِرْيابي الإسنادَ إلى علي - رضي الله عنه - ووصلَ إسنادَهُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4851)، كتاب: النكاح، باب: الخطبة، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

إلى محمد بن يوسف؛ فروى عن أبي بكر علي بن محمد بن السُّمَيدَع، [ثنا] أبو العباس محمد بن محمد الأَثْرم، ثنا العباس بن عبد الله الباكساني أبو محمد، ثنا محمد بن يوسف، ثنا مُعلَّى بن هلال الأحمري؛ يعني: عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه - قال: "اغسلوا أقدامكم؛ فإنها أقربُ أجسادِكُم إلى الأقذار". قال: ومثلُ ذلك من كتاب الله تعالى قوله جلَّ ذكرُهُ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] مع قوله - تعالت كلمته - في آخر السورة في فرض الأخوات: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]، ففرضَ لما فوق الاثنتين من البنات الثلثين، والأختين مثل ذلك، وقد عُلِمَ أنَّ البناتِ أقوى من الأخوات، وكأنَّ في ذلك التنبيهَ على أنَّ البنتين لا تنقصان عن الثلثين، في نظائرَ كثيرة لذلك في الكتاب والسنة. قال: ومن ذلك - يعني: من الدلائل على البيان المزيل للَّبسِ في الآية -: أنه تعالى حدَّ الأرجلَ كما حَدَّ الأيدي؛ فقال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وقال: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فكانَ تنبيها على الأرجل أنها مغسولةٌ كالأيدي. قلت: هذان الوجهان [قريبان] (¬1) ليسا بالقويَّين، وقد اعتُرِضَ على هذا الثاني بما معناه: أنه لا يمتنعُ أن يُعطَفَ المحدودُ على غيرِ ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

المحدود؛ كما جاز عطفُ (الأرجل) على (الرؤوس)، وإن لم تكن (الرؤوسُ) محدودةً. وقال ابن النعمان: أو ليسَ قد عطف باليدين، والطهارةُ فيهما محدودةٌ على الوجوه، ولم يحدَّ الطهارةَ فيهما بشيء تتميز به غايةُ الغسل ونهايتُهُ، فما أنكرتَ أن يُعطفَ بالرجلين، وإن حُدَّت الطهارةُ فيهما على الرؤوس، وءان لم تكن الطهارةُ فيها محدودةً إلى غاية منها؟ أجاب الفقيهُ أبو الفتح بأنَّ كلَّ ذلك غيرُ لازم، وهذا؛ لأنَّ الأرجل إذا ساوتِ الأيدي في التحديد بينهما في وجوب الغسل، ولم يَقْدَح في ذلك كونُ الوجوه مغسولةً مع عدم التحديد فيها؛ لأن ذلك عكسٌ، والدلالةُ لا تُعكَسُ، وهذا كما تقول: إنَّ المرتدَّةَ لما شاركت المرتدَّ في الارتداد عن الإسلام إلى الكفر، شاركَتْهُ في استحقاق القتل، ولم يقدحْ ذلك في أن القاتلَ عمداً، أو الزانيَ المحصن، مقتولان، مع عدم ارتدادهما. ثم يقال: إنما لم تحدَّدِ الوجوهُ مع كونها مغسولةً لوجوبِ التعميم فيها، والأيدي والأرجل متساويتان في أن التعميمَ فيهما غيرُ واجب، وذلك أنَّ اليدَ من أطراف الأصابع إلى الكتف، والرجل من أصل الفخذ إلى القدم، والواجبُ غسلُ اليدين [إلى] (¬1) المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، وكذلك فارقت الوجوهُ إياهما في التحديد، ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

مع الباء التي تفيدُ التبعيضَ من غير اختصاص المسح بمكانٍ من الرأس مخصوصٍ، فثبت أنَّ البيانَ بالتحديد حاصلٌ، واللَّبسَ به في ذلك زائلٌ. قلت: قد ذكرت أنَّ القرينةَ ضعيفةٌ، والاعتراضُ الذي اعترض به ركيكٌ، والذين قالوا بوجوب التعميم في مسح الرأس، جوابُهُمْ في ذلك هو ما أُجيبَ به في الوجه. وهؤلاء المتأخرون من النُّحاة في بعض الأقطار، يتأولون ما ظاهرُهُ الدلالةُ على خلاف ما يقولون بالتأويلات البعيدة المتعسَّفَةِ، ويكتفون في الردِّ على مَنْ يستشهدُ بالشواهد على خلاف مذهبهم بأنه غيرُ مُتعيّنٍ لما قاله خصومُهُم، ولا يعتبرون الظهورَ وردَّ التأويلاتِ المستَبعدة، ولم يسلكوا طريقةَ أهل النظر من غيرهم في تقديم الظاهر وردِّ التأويلات المستبعدة، وقد سُلِكَ هذا المسلكُ في هذه الشواهد التي استُشْهِدَ بها، وأُخرِجَت عن التأويل عما يقولُ خصومُهُم من الخفض بالمجاورة. فأما قراءةُ: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، فقال الشريف: وللجرِّ وجهٌ، وذكر العطفَ على {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} على حذف مضاف؛ أي: وفي عطف {وَحُورٌ عِينٌ} على {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} مقارنة، أو معاشرة {وَحُورٌ عِينٌ}، وحُذِفَ المضافُ، قال: وهذا وجهٌ حسنٌ؛ ذكره أبو علي الفارسي في كتابه المعروف بـ "الحجة"، واقتصرَ عليه (¬1)، ولو ¬

_ (¬1) انظر: "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي (6/ 255).

كان للجر بالمجاورة وجهٌ لذكره، ولما جاز أن يخلَّ به؛ فإنهُ ممن لا يُتَّهَمُ بخفاء وجهِ الإعراب؛ ضعيفًا كان أو قويًا. ثم قال بعد ذلك: فإن قيل: لم لا تحملُهُ على الجار في قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] بكذا؟ ويجوزُ؟ وأجابَ بأن هذا يمكنُ أن يقال، إلا أنَّ [أبا] (¬1) الحسن قال: في هذا بعضُ الوحشة. وأجاب أبو الفتح في أثناء كلامه بأن قُصارى أمرِهِ أن يكونَ وجهًا ثانياً في الجرّ، وقد كفى خصمَهُ أن يكونَ الذي قاله قد ذكره إمامٌ من أئمة هذا الشأن. ثم قال: أليسَ من الحَيْفِ أن يقولَ أبو عبد الله: لو ساغتِ القراءةُ بالنصب في الرجلين، لكانت على مجازِ اللغة دونَ حقيقتها؟ وذلك لأنَّ الأصلَ في اللغة أن يكونَ حكمُ المعطوف به حكمَ المعطوف عليه، وأن يُقضَى بالمعطوف به على أنه معطوفٌ على أقرب المذكور منه، ولا يُعدَّى إلى ما بَعُدَ منه، ويقول الشريف: إنَّ الكلامَ إذا حصل فيه عاملان؛ أحدُهما قريبٌ، والآخرُ بعيدٌ، فإعمالُ الأقربِ أولى من إعمال الأبعد، ويحكي فيه نصَّ أهل العربية عليه، ومجيءَ القرآنِ وأكثرِ الشعر به، ثم يختار عطفَ قوله: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] على قوله: {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} مع البعد، ويُنكِرُ أن يُعطفَ على قوله: {بِأَكْوَابٍ} [الواقعة: 18] مع القرب، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

تَصِفُونَ} [يوسف: 18]!. قلت: ليس في لفظ الشريف ما يدل على اختياره ذلك، بل على تجويزه. قال الفقيه أبو الفتح: وفي قوله: (ولو كان للجرِّ بالمجاورة وجهٌ لذكره، ولم يجزْ أن يخلَّ به؛ فإنه لا يتهمُ بخفاء وجهٍ في الإعراب عليه؛ ضعيفًا كان أو قويًّا)، أوجهٌ من التحامل؛ منها [إنكارُ] (¬1) ما ذكره أبو زكريا الفراءُ أن يكون وجها جائزًا. ومنها إلزامُ أبي علي ذكرَ جميع ما عرفه، وهو لم يذكرْ شيئاً في [هذه]، (¬2) المسألة، بل لو لم يصنف (¬3) كتاب "الحجة، لكانَ جائزاً له. ومنها الدعوى له بما يعلمُ أنه لم يكنْ يدَّعيه لنفسه. وعلى أنه إن تركه أبو علي، فقد ذكره أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، وأبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وكفى ذلك. قال أبو بكر في "الوقف والابتداء": وكان أبو حفص، والأعمش، وحمزة، والكسائي يقرؤون: {وَحُورٌ عِينٌ (22)} [الواقعة: 22]، بالخفض، فعلى هذا المذهبِ لا يَحسنُ الوقفُ على {يَشْتَهُونَ} لأن الحورَ العين منسوقاتٌ على الاكواب، وإن شئتَ جعلتهن نسقاً على قوله: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 12] وفي {وَحُورٌ عِينٌ}. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "يصرف"، والتصويب من "ت".

وقال السجستاني: لا يجوزُ أن تكونَ (الحورُ) منسوقاتٍ على الأكواب؛ لأنه لا يجوز أن يطوفَ الولدان بالحور العين. قال أبو بكر: وهذا خطأٌ منه؛ لأنَّ العربَ تتبعُ اللفظةَ اللفظة (¬1)، وإن كانت غيرَ موافقةٍ لها في المعنى، من ذلك قراءتُهم في سورة المائدة: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 16] فخفضوا الأرجل على النسق على الرؤوس، وهي تخالفها في المعنى؛ لأن الرؤوسَ تُمسح، والأرجل تُغسل، وقال الحُطيئة [من الوافر]: إِذَا مَا الغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والْعُيُونَا (¬2) فنسقَ العيونَ على الحواجبِ (¬3)، والعيونُ لا تزجَّج، وإنما تُكحَّل، وهذا كثيرٌ في كلامهم. وقال الفراءُ: يلزمُ مَنْ رفعَ الحور العين؛ لأنه لا يُطافُ بهن، أن تُرفعَ الفاكهةُ واللحم؛ لأنهما لا يُطافُ بهما، إنما يُطافُ بالخمر وحدَها، وقال الفراء: الخفضُ [وجهُ] (¬4) القراءة، وبه كان يقرأُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "اللفظ"، والمثبت من "ت". (¬2) انظر البيت في: "الخصائص" لابن جني (2/ 234)، و"المحكم" لابن سيده (7/ 182)، و"أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 267)، و "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 244). (¬3) "ت": "فنسق الحواجب على العيون". (¬4) سقط من "ت".

الثامنة والخمسون بعد المئة

أصحابُ عبد الله (¬1). قال أبو الفتح: هذا كلُّهُ من كلام ابنِ الأنباري، وفيه ما يُحتاج إليه في ذلك (¬2). الثامنة والخمسون بعد المئة: في وجهٍ آخرَ من الاعتذار عن قراءة الجر، وتخريجِ وجهها، وأنها لا تتعيَّنُ لإيجابِ المسح، ذكره أبو البقاء العُكْبَرِي، وهو أن يكونَ جرَّ (الأرجل) بجاِرٍّ محذوفٍ تقديره: وافعلوا بأرجلكم غسلاً، وحذفُ الجارِّ وإبقاءُ الجرِّ جائرٌ، قال الشاعر [من الطويل]: مَشَائيمُ ليسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيْرَةً ... ولا نَاعِبٍ إلا بِبَيْنٍ غُرَابُهَا (¬3) وقال زهير [من الطويل]: بَدَا ليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "إيضاح الوقف والابتداء" لابن الأنباري (2/ 921 - 922). (¬2) جاء في هامش "ت": "بياض"؛ إشارة إلى أن كلام المؤلف لم ينته في هذه الفائدة. ولم يشر إلى هذا في الأصل. (¬3) البيت للأخوص اليربوعي؛ انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 165)، و"إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 151)، و"الخصائص" لابن جني (2/ 354)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 314)، و"خزانة الأدب" للبغدادي (159 - 4/ 158). (¬4) انظر: "ديوان زهير بن أبي سلمى بشرح أبي العباس ثعلب" (ص: 287).

التاسعة والخمسون بعد المئة

فَجَرَّ بتقديرِ الباء، وليس بموضعِ ضرورةٍ (¬1). التاسعة والخمسون بعد المئة: في وجهٍ آخرَ في الاعتذار عن قراءة الجر: أنَّ العربَ قد تجمعُ في العطف بين شيئين باعتبار فِعْلٍ عَمِلَ فيهما، وهو صالحٌ لأحدِهِما دونَ الآخر بنفسه؛ إما اعتباراً بالمعنى الأعمِّ مع التضمين، وإما حذفًا للعامل فيما لا يصلحُ للعمل: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246] والأبناءُ لا يُخَرجُ منهم، وذلك للاشتراك في معنى أعم، وهو الإبعادُ، وقال الشاعر [من الرمل]: يُسْمِعُ الأَحشاءَ مِنْهُ لَغَطًا ... ولليدين حُيَيئَةً وَبَدَادًا (¬2) والحييئة والبدد لا يُسمعان بل يُرَيان، وذلك لاشتراكهما في الرؤية أو العلم. وقال [من مجزوء الكامل المرفّل]: مُتَقلِّداً سَيْفاً ورُمْحا (¬3) والرمحُ لا يُتقلَّد، وذلك لاشتراكهما في معنى التسلح، وقال [من الوافر]: إِذَا مَا الغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "إعراب القرآن" لأبي البقاء العكبري (1/ 424). (¬2) قلت: في الشطر الثاني من البيت خلل في الوزن. (¬3) عجز بيت لعبد الله بن الزبعرى، كما تقدم، وصدره: يا ليت زوجك قد غدا (¬4) تقدم ذكره قريبًا.

والعيونُ لا تُزَجَّج، بل تكحَّل؛ للاشتراك في معنى التَّزَيُّن، وقال [من الطويل]: تَرَاهُ كَأَنَّ اللهَ يَجْدَعُ أَنْفَهُ ... وَعَيْنَيْهِ إنْ مَوْلاهُ ثَابَ لَهُ وَفَرْ (¬1) ولا يُتَوَهَّمُ أنَّ ذلك يختصُّ بتأخير ما لا يُستعمَلُ الفعلُ فيه، لِيَتبع لما تقدم، فإنَّا قد وجدناه متقدمًا، قال [من الطويل]: عَلَيْهنَّ فِتْيانٌ كَسَاهُنَّ مُحْرِقٌ ... وَكَانَ إذا يَكْسُو أَجَادَ وأكرَمَا صَفَائِحَ تَسْرِي أَخْلَصَتْهَا قُيونُها ... ومُطَّرِداً مِنْ نسجِ داودَ مُبْهَمَا (¬2) ولا تُستعمَلَ الكُسْوَةُ في السيوف، وإنما تُستعمَلُ في الدروع؛ لأنها تُلبس كما تُلبس الكُسوةُ من الثياب، وقال الحُطيئة [من الطويل]: سَقَوا جَارَكَ الَعَيْمَانَ لمَّا جَفَوْتَهُ ... وقَلَّصَ عن بَرْدِ الشَّرابِ مَشَافِرُه سَنَامًا ومَحْضًا أَنْبَتَا اللَّحْمَ فَاكْتَسَتْ ... عظَامُ امْرِئٍ مَا كَانَ يَشْبَعُ طائِرُه (¬3) ¬

_ (¬1) البيت لخالد بن الطَّيفان؛ انظر: "الحيوان" للجاحظ (6/ 40)، و"الخصائص" لابن جني (2/ 431)، و"المحكم" لابن سيده (1/ 306). (¬2) البيتان للحُصَين بن الحُمَام المُرِّي؛ انظر: "المفضليات" للمفضل الضبي (ص: 66)، و"الأغاني" للأصفهاني (12/ 310 - 311)، وعندهما: صفائح بصرى أخلصتها قيونُها ... ومطردًا من نسج داود مبهما (¬3) انظر: "ديوانه" (ص: 31).

الستون بعد المئة

والسنامُ لا يُسقى. إذا ثبتَ هذا كُلُّه دلَّ على أنَّ العطفَ بين الشيئين يُستعمَلُ مع اختلاف المعنى؛ كما في النظائر، فيكون عطفُ (الأرجل) على (الرؤوس) مع اختلاف المعنى في كون الرؤوس ممسوحة، والأرجل مغسولة، من هذا الباب، والله أعلم. الستون بعد المئة: القائلون بالمسح يحتاجون إلى الاعتذار عن قراءةِ النصب، وكلُّ واحدٍ من الفريقين يحتاج إلى ترجيح ما ذهبَ إليه من التأويل على ما ذهب إليه خصمُهُ، والذي ذكروه في الاعتذار عن قراءة النصب: أنها محمولةٌ على العطف على الموضع، كما يقال: لست بقائمٍ، ولا قاعداً، بالنصب على موضع (قائم)، وإن في الدار زيدًا وعمرو، بالرفع عطفًا على الموضع، {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186]، قال [من الوافر]: مُعَاوي إنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بالجبال ولا الحَدِيْدا (¬1) اقتضب الجبال عن الحديد، وقال [من البسيط]: هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِيْنَارٍ لِحَاجَتِنَا ... أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ (¬2) ¬

_ (¬1) البيت لعقيبة الأسدي؛ انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 67)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 388). (¬2) قال البغدادي في "خزانة الأدب" (8/ 219): البيت من أبيات سيبويه =

فنصب (عبدَ ربٍّ) محمولاً على الموضع؛ لأن الأصل: باعثُ ديناراً. وأبعدُ منه العطفُ على المعنى، قال الشاعر [من البسيط]: جِئْني بِمِثْلِ بَني بَدْرٍ لِقَوْمِهم ... أَوْ مِثْلَ إِخْوَةِ مَنْظُورِ بنِ سَيَّار (¬1) بنصب (مثلَ)؛ لأن المعنى: هات مثلهم، أو أعطني مثلهم، فنصب (مثل) بهذا، وهو شائع كثير، وهو أصلحُ (¬2) من حمل الجرِّ على الجوار؛ فإنهُ لا يُساويه في الكثرة، وأما باب: وزَجَّجْنَ الحواجِبَ والعُيُونَا فهو أكبرُ من الجرِّ بالمجاورة، ونُقِلَ عن جماعة. قال الواحدي في "وسيطه": وقال جماعة من أهل المعاني: (الأرجلُ) معطوفةٌ على (الرؤوس) في الظاهر، لا في المعنى، وقد ينسقُ بالشيء على غيرِه، والحكمُ فيهما مختلفٌ، كما قال الشاعر [من مجزوء الكامل المرفّل]: ¬

_ = الخمسين التي لم يعرف قائلها. وقال ابن خلف: وقيل هو لحابر بن رألان، ونسبه غير خَدَمةِ سيبويه إلى جرير، وإلى تأبط شراً، وإلى أنه مصنوع، والله أعلم. (¬1) البيت لجرير، كما في "ديوانه" (ص: 242). (¬2) "ت": "أرجح".

يَا لَيْتَ بَعْلَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفًا ورُمْحا (¬1) والمعنى: حاملًا رمحًا، وكذلك قول الآخر [من الرجز]: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بارِدًا (¬2) المعنى: وسقيتها ماءاً، كذلك المعنى في الآية: وامسحوا برؤوسكم، واغسلوا أرجلكم، فلما لم يذكر الغسل، عطفت (الأرجل) على (الرؤوس) في الظاهر. أجاب الفقيهُ أبو الفتح الشريف من وجوه: منها: أنَّ الذين قرؤوا بالنصب، ذكروا أنه رجع إلى الغسل، كذا روي عن غير واحد منهم، من ذلك ما ذكره الفراء في "معانيه" عن قيس بن الربيع، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: أنه قرأ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب مقدم ومؤخر، وعن الكسائي في "معانيه": مَنْ نَصَبَ ردَّ إلى الغسل، ومثله عن جماعة من التابعين، وهم أعرفُ بما تلقوه عن أصولهم، لا سيما والأمرُ الذي تضمنته الآيةُ مما تعمُّ به البلوى، ويشتركُ فيه الخاصةُ والعامة. قلت: ليس هذا بالقوي، فإنَّ تأويلَ البعض لا يمنعُ من حملِ اللفظِ على ما يجوزُ حملُهُ عليه لغةً، لا سيما ولم تحصل حكايةُ ¬

_ (¬1) تقدم ذكره قريبًا. (¬2) لذي الرُّمة، كما في "ديوانه" (2/ 331)، وصدره: لما حططت الرحل عنها وارداً

التأويل عن جميع القَرأة بالنصب. ومنها: أن هذا توسُّعٌ، فيجوز، والظاهرُ والحقيقةُ يوجبان عطفَهُما على اللفظ، لا الموضع، كما أنَّ الظاهرَ في القراءة بالجر عطفُ (الأرجل) على (الرؤوس) في الحكم، وإنما عُدِلَ إلى الإعرابِ بالمجاورة، والتفريقِ بين العضوين في الحكم للدليل. قال: والذي يبين ذلك ما حكاه أبو عبد الله، عن المفضل بن سلمة: أنه مُستنكَرٌ عند أهل اللغة أن يقول القائل: رأيت زيدًا، ومررت بخالدٍ، وبكراً، فاستُنكِرَ ذلك حين كان الظاهرُ حملَهُ على العامل اللفظي، وقد اعتُرِضَ بينهما بجملة لغير فائدة، ولو كان الظاهر حمله على الموضع (¬1) مع تقدم العامل اللفظي لم يُسْتَنْكَرْ، ولقيل: تقديره: رأيت زيدًا وعمراً، ومررت بخالد وبكر، لو لم يتقدمْهُ العاملُ. ومنها: أنَّ في قول القائل: (فلسْنَا بالجبالِ)، الباء زائدة، والمعنى: فلسنا الجبالَ، وكذلك قوله: لست بقائم، وخَشَّنْتُ بصدره، الباء فيها زائدة، المعنى: لست قائمًا، وخَشَّنْتُ صدره (¬2)، فيستوي العطف على لفظه، والعطفُ على موضعه في المعنى، والباء في قوله: {بِرُءُوسِكُمْ} ليست بزائدة للتوكيد، وإنما هي للتبعيض، فيختلفُ العطفُ على لفظها، والعطفُ على موضعها في الحكم، ¬

_ (¬1) "ت": "الوضع". (¬2) أي: أغظته.

ويفيدُ العطفُ على اللفظ بعضَ القَدَم، ويفيدُ العطفُ على الموضع وجوبَ المسح جميع القَدَم كلّها إلى الكَعْب، وهم لا يُوجبون مسحَ جميعِ القدم، بل أكثرُ ما يوجبونَهُ منه أن يضعَ كفَّهُ على الأصابع، فيمسحها إلى ظاهر القدم، وكذلك في الرأس لا يوجبون منه أكثر من مسح ثلاثة أصابع، ومنهم من قال: أقلُّ ما يُجزِئُ في مسح الرأس قدرُ إصبع واحدة. والذي يبيِّنُ صحةَ هذا الفرق ما ذكره الشريفُ عَقيبَ كلامِه الذي حُكِيَ عنه في هذا الفصل، فقال: ومثله: مررت بزيد، وذهبت إلى عمرو، ولك أن تعطفَ فتقول: مررت يزيد وخالداً، وذهبت إلى عمروٍ وبشراً؛ لأنَّ موضعَ (بزيد) وإلى (عمروٍ) نصبٌ، وإن لم يجزْ أن نُسقطَ حرفَ الجر، فنقول: مررت زيدًا وذهبت عمرو، إلا أنه لما كانَ معنى مررت وذهبت: لقيت وأتيت، جاز أن تعطفَ فتقولَ: وخالداً، أي: وأتيتُ خالداً، وتكون (مررت) دالة على (أتيت). أو ليسَ هذا تصريحًا بأنه إذا حمل قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} على موضع {بِرُءُوسِكُمْ} يكون التقدير: وامسحوا أرجلكم إلى الكعبين. وقد قال الشريف في هذا الكتاب: إنَّ الباءَ في مسح الرأس يقتضي التبعيض، فيلزمُهُ إذا قَدَّرَ إسقاطَ الباء في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} أن يُوجِبَ مسحَ القدمين إلى الكعبين، وهو لا يُوجِبُ ذلك، فأين التوثيق بين القراءتين؟ وأين هذا الاستعمالُ من استعمال مَنْ حمل القراءةَ بالجر على الإعراب بالمجاورة، وأوجبَ بها ما أوجبَهُ بالقراءة المنصوبة سواء؟

ومنها: أنه إنما حُمِلَ قولُهُ: (ولا الحَديدا)، على الموضع؛ لأنه لم يكنْ هناك عاملٌ لفظيٌّ يمكنُ حملُه عليه، وكذلك: ليس زيد بقائم، ولا قاعدًا، وخشَّنْتُ بصدرِه، وصدرَ زيدٍ، وكذلك البيتان الآخران: هل أنت باعث دينار لحاجتنا و: جئني بمثلِ بَنِي بَدْرٍ لقومهم لأنهُ ليس في شيء من ذلك ما يُحمَلُ النصبُ عليه إلا الموضع، وليس كذلك [في] (¬1) قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} في القراءة بالنصب؛ لأنه قد تقدم (¬2) عاملٌ لفظي، فكانَ الظاهرُ حملَهُ عليه، لا يُطلبُ حملُهُ على غيرِه، ومثال ذلك: رفعهم المفعول إذا لم يُسمَّ فاعلُهُ، فلو ذهب ذاهبٌ في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [القصص: 43] , إلى أن موسى في موضع رفع اعتبارًا بقوله جل ذكره: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص: 48] لكان كلامُهُ لغوًا، وكذلك لا يلزمُ العطفُ على العامل مع تقدم العامل اللفظي، وإن لزم ذلك إذا لم يكنْ وجهٌ غيره، وأما [في] (¬3) قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] قرأه أبو عمرو وعاصم: ويذرهم بالياء والرفع، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "تقدّمه". (¬3) سقط من "ت".

الحادية والستون بعد المئة

وقرأه حمزة والكسائي: (ويذرهم) بالياء والجزم، وقرأه ابن كثير، ونافع، وابن عامر: (ونذرهم) بالنون والرفع (¬1)؛ فمن قرأ بالجزم عطفَ على موضع الفاء، ويكون الجوابُ عنه ما تقدم، وهو أنه لا يمكنُ حملُهُ في الجزم على غير ذلك، ومن رفع فعلى الاستئناف؛ لأنه يمكنُ ذلك فيه، فلا يُطلَبُ لهُ وجهٌ غيرُهُ، وقول القائل: إن تأتني فلكَ درهمٌ، وأكرمْكَ، فيجوز في (أكرمك) الوجهان، والكلامُ فيه مثلُهُ في الآية، وقول القائل: إن زيدًا منطلقٌ، وعمراً، وعمروٌ، مَنْ نصبَ عَطَفَه على اللفظ، ومَنْ رفعَ فعلى ثلاثة أوجه: العطفُ على موضع (إن)، والعطف على المضمر في (المنطلق)، والابتداءُ وإضمارُ الخبر. والجوابُ: أنهم لما طلبوا وجهَ الرفع؛ لأنه لم يمكنْ ردُّهُ إلى اللفظ، ألا ترى أنه حين أمكنَ العطفُ على اللفظ، وهو في حال النصب، لم يُحمَلْ إلا عليه؟ الحادية والستون بعد المئة: قد ذكرنا حاجةَ كلِّ واحد من الفريقين إلى ترجيحِ ما ذهبَ إليه من العمل في الآية الكريمة؛ أعني: مما يدل على المسح ومما يدل على الغسل، وهذا الترجيحُ على قسمين: الترجيحُ بين الحملِ على الجِوار، والحملِ على العطف على الموضع، ولا شك أن العمل في العطف على الموضع أشهرُ من الحمل على الجِوار، وقد أُبديَ معارضٌ في هذا المحلِّ المخصوص ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 271).

الثانية والستون بعد المئة

يقتضي (¬1) مرجوحيةَ العمل على الموضع في قراءة النصب، وقد ذكرنا ما قيل فيه سؤالًا وجوابًا. وقد أرادَ ترجيحَ العمل على الجوار بعضُ مَنْ ذهبَ إلى الغسل، وقال قولًا يمكن أن يُرجَّحَ به، مع تسليم كثرة العمل على العطف، فقال: ولو كانَ كلُّ واحد من الأمرين في حدِّ الجواز، وفي الصرف إلى أحد الجائزين إيجابُ التناقض بين القراءتين، وفي الصرف إلى الجائز الآخر، وهو المجاورة، تحقيقُ الموافقة، [وكتاب الله تعالى يوافقُ بعضُهُ بعضًا، لا أنه يُخالف ويناقض، فكان الصرفُ إلى ما فيه موافقةٌ] (¬2) أولى، وكذلك الأخبارُ وردت بوجوب غسلِ الأرجل في قولهِ - عليه السلام -: "وَيْل للأعْقَابِ مِنَ النَّارِ" (¬3)، ونحوه، مؤيدةً لما قلنا. الثانية والستون بعد المئة: وقد سلَكَ طريقَ التوفيقِ بين القراءتين، فعيَّنها الشريفُ في تقرير رأيِهِ، فقال: على أنَّ حملَ (الأرجل) على حكم (الرؤوس)، وعطفَهَا بالنصب على موضعها في الإعراب، أولى من عطفها على الأعضاء المغسولة من وجه آخر، وهو أنَّا قد بيَّنا أنَّ القراءةَ بالجرِّ تقتضي المسحَ، ولا تحتمِلُ سواه، فالواجبُ حملُ القراءة بالنصب على ما يطابقُ معنى القراءة بالجر؛ لأن قراءةَ الآيةِ ¬

_ (¬1) "ت": "ما يقتضي". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) تقدم تخريجه.

الواحدةِ بحرفين تجري مجرى آيتين في إيجاب المطابقة بينهما، ومتى جعلْنا (الأرجل) معطوفةً بالنصب على (الأيدي) لم تتطابقِ القراءتان، فاطَّرحنا حكمَ القراءة بالجر، وإذا جعلناها معطوفةً على موضع (الرؤوس) تطابقتا، فكان (¬1) هذا أولى. عَكَسَه الفقيهُ عليه بأن قال: إنَّ القراءةَ بالجرِّ تحتملُ أن تكونَ على وجه المجاورة، ويكون الفرضُ الغسلَ، والقراءةُ بالنصب ظاهرةٌ في وجوب الغسل، والقراءتان كالآيتين في وجوب المطابقة بينهما، ومَتى حُمِلَت القراءةُ بالجر على إيجاب المسح لم تتطابقِ القراءتان، وإذا حُمِلَت [على] (¬2) المجاورةِ مع أنْ الفرضَ الغسلُ، تطابقتا (¬3)، فكان هذا أولى. وهذا الذي ذكره الفقيهُ مبنيٌّ على تجويز العطف على المجاورة، وظاهرُ كلام الشريف يمنعه؛ لقوله: لا يحتمل سواه. وقال أيضًا: معلومٌ أنْ استعمالَ المجاورة ليس كاستعمال العطف على الموضع، وأنَّ ذلك شاذٌّ نادر، لا يُقاسُ عليه، وهذا جائزٌ مستحسنٌ مُستعمل، لا على سبيل التَّجوُّزِ والامتناع. أجابَ الفقيه بأنَّ العطفَ على الموضع مع تقدم لفظٍ يمكن ¬

_ (¬1) في الأصل: "وكان"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) "ت": "تطابقا".

العطفُ [عليه] (¬1) مُسْتبعدٌ، واستعمالُ المجاورة مع وجودِ الدلالةِ على المقصود مُسْتَحْسَنٌ. قال: فمن شواهد الأول قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} [الممتحنة: 1] , {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ} [المائدة: 57] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} إلى قوله: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} [الأنعام: 99]. ورَدَّ العلماءُ بهذا الشأن المنصوبَ على اللفظ، لا على الموضع. وذكر من شواهد الثاني: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، في القراءة بالجر، و: إذا مَا الغَانِيَاتُ ... البيت و: يا لَيْتَ بَعْلي قَدْ غَدَا ... البيت ولقائلٍ أن يقولَ: إثباتُ الجر بالمجاورة مُشكِلٌ؛ لأنَّ مواضعَ الاستشهاد؛ إمَّا أن تحتملَ الحملَ على غير المجاورة، أو تتعيَّنَ. فإنِ احتملت سقطَ الاستدلالُ على طريقتهم، أو (¬2) احتيجَ إلى ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "و".

الثالثة والستون بعد المئة

بيان الظهور فيما يُدَّعَى من العمل على الجواز. وإن تعيَّنَ الحملُ على الجواز، فيمكنُ أن يُدَّعَى أنَّ الموجبَ للحمل هو التعيّن، ولا يُساويه ما لا يتعيَّنُ للحمل على المجاورة، لكنَّ دعوى الشريف: أنه لا تحتملُ القراءةُ بالجر إلا المسحَ، مردودةٌ؛ لأنه لو تمَّ له إبطالُ العمل على المجاورة، لم يلزمْ منه عدمُ احتمالِ الحملِ على ما لا يقتضي المسحَ من وجه آخر، وهو ما تقدَّمَ من قول الشاعر: وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا وبابه، والله أعلم. الثالثة والستون بعد المئة: قال الشريفُ: وكذلك معلومٌ أنَّ العُرفَ في الشريعة يمنعُ من استعمال المسح بمعنى الغسل؛ فإنَّ الظاهرَ من إطلاق الأمرين اختلافُ معناهما. قال الفقيهُ: الجوابُ؛ أن يقال: العرفُ في الشريعة: أنَّ المسحَ غيرُ الغسل؛ كما أنَّ العُرفَ في اللغة: أنَّ الترجيجَ غيرُ الكحل، وأنَّ الشربَ غيرُ الأكل، والرؤية غير السمع، ثم حَسُنَ أن يقول: وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ وَالعُيُونَا يريد: وكحَّلن العيونَ، على تقدير: وزَيَّنَّ الحواجبَ والعيونا؛ لأن التزيينَ قد يتضمَّنُ (¬1) معنى الترجيج، ومعنى الكحل. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تضمن"، والمثبت من "ت".

الرابعة والستون بعد المئة

ويقول: سقوا جارك العيمان ... وذكر البيتين، قال: ويريد: المعموه سنامًا، على تقدير: قروه سنامًا ومحضًا؛ لأن القِرَى قد تضمَّنَ معنى الإطعام، ومعنى السقي. ويقول: يُسْمِعُ الأحشاءَ منه لَغَطًا وذكر البيت، قال: ويريد: وترى لليدين مثلَ ذلك، على تقدير: تحسُّ منه كذا وكذا؛ لأن الإحساسَ قد تضمَّنَ معنى الرؤية، ومعنى السمع. كذلك حَسُنَ أن نقول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] , ويكون المراد: واغسلوا أرجلَكُم، على تقدير: وأمِرُّوا الماء على رؤوسكم وأرجلكم؛ لأن الإمرارَ قد تضمَّنَ معنى المسح، ومعنى الغسل. الرابعة والستون بعد المئة: وذكر الشريفُ معنى آخر، وهو [أنَّ] (¬1) حملَ القراءةِ بالنصب على الغسل تركٌ لظاهرٍ لا إشكالَ فيه، وهو إعمالُ الأبعد من العاملين، وتركُ الأقرب، فكيف يسوغُ أن يُعدلَ عن ظاهر القراءة بالجرّ، ويحملَها على توسُّعٍ وتجوُّزٍ؛ لِتُطَابِقَ معنى النصب الذي ما تَمَّ إلا بعد عدول عن ظاهر آخر؟ بل الأولى أن يَحمِلَ ¬

_ (¬1) زيادة من هامش "ت".

القراءتين على ظاهرهما، فتكونا معا مُفيدتين للمسح دونَ الغسل. أجاب الفقيه بأنه قد تبيَّنَ أنَّ في حمل القراءة بالنصب على المسح تركًا لظاهر لا إشكالَ فيه، وهو الحملُ على الموضع، وتركُ (¬1) اللفظِ والمخالفة بين المعطوف عليه ظاهراً في الحكم، فكيف يسوغُ أن يُعدلَ عن ظاهر القراءة بالنصب، ويحملَها على توسعٍ وتجوُّزٍ؛ لتطابقَ لفظ القراءة بالجر، مع احتمالِ أن يكونَ معناها معنى القراءة بالنصب، بل الأولى أن يحمِلَ القراءةَ بالنصب على ظاهرها، والقراءةَ بالجر المحتملةَ على موافقةِ المنصوبة، فتكونا مفيدتين الغسلَ دونَ المسح. قال: ثم يرجَّحُ حملُ القراءتين جميعًا على الغسل بما مضى ذكره من التنبيه (¬2) والبيان؛ فالتنبيهُ: أنه لما وجبَ غسلُ اليدين مع بُعدهما من الوسخ، كانت الرجلان مع قُربهما من الوسخ بوجوب ذلك فيهما أولى. ثم قال: والبيانُ: أنه لما حدَّ اليدين أوجبَ غسلَهُما، وكانت الرجلين محدودتين، عُلِمَ أَنَّ الواجبَ فيهما الغسلُ. قال: وما أورده الشريفُ على الاحتجاج بالتحديد (¬3) قد تقدَّمَ الجوابُ عنه، وأيضًا، فإنَّ مَنْ حملَهُما على الغسل أوجبَ بكلِّ ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "ودلَّ"، والمثبت من هامش "ت". (¬2) "ت": "البنية"، وجاء في الهامش: "لعله: التنبيه". (¬3) "ت": "بالتجريد".

واحدةٍ مُقتضاها من غسل الرجلين إلى الكعبين، ومَنْ حَمَلَهُما على المسح لم يفعلْ ذلك؛ لأن تقديرَ القراءة بالنصب عنده، إذا حملها على موضع الباء: امسحوا أرجلَكُم إلى الكعبين، فيقتضي أن يمسحَ جميعَ القدم، وهو لا يوجبُ مسحَ باطن القدم، ولا مسح جانبيهما. قلت: أما أمرُ التحديد فقد تقدَّمَ أمرُ استضعافنا له، وكذلك الترجيحُ بمناسبة الغسل التي ذُكرت، ولكن الذي ذكره الفقيهُ آخِرًا قويٌّ في الردِّ، وطريقُهُ أن يقالَ للشيعي: حملُ العطف على (الرؤوس) كما ادَّعيتم، يلزمُ منه أمر، فيمتنع. بيانه: أنه يلزمُ منه وجوبُ مسح الرجلين إلى الكعبين، وذلك خلاف الإجماعِ مني ومنك؛ لأني قائل [بوجوب الغسل، وأنت قائلٌ بوجوب المسح، لكن لا إلى الكعبين، فالقولُ] (¬1) بوجوب المسح إلى الكعبين الذي يوجبه ما ذكرتَ من حمل العطف على (الرؤوس)، مخالفٌ للإجماع مني ومنك، امتنع حملك عليه. وهذا الذي ذكرناه وقوَّيناه، إنما هو مكايلةٌ للشيعي، لا لابن جرير، والظاهري، وسيأتي الكلام عليهما. قال الفقيه: وأيضًا فإنَّ [في] (¬2) حملِهِما على الغسل الاحتياطَ للطهارة والصلاة؛ لأنَّ الغسلَ يأتي على المسح ويزيدُ عليه، قال أبو ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

الخامسة والستون بعد المئة

زيد: المسحُ عند العرب: غسل خفيف، والمسحُ لا يأتي على الغسل، فيكون الحظر في الغسل، أن يكون قد تمكن من إسقاط فرضه بالمسح، فعَدَل إلى الغسل، وذلك غيرُ مانع من سقوط الفرض؛ كمنْ تركَ الاستنجاءَ بالأحجار إلى غسل ذلك الموضع بالماء، ومن ترك التيممَ، وغَسَلَ الأعضاءَ مع حاجته إلى الماء لشربه، أو إلى ثمنه الذي يشتريه به لكفايته، والحظر في المسح: أنْ يكونَ قد تركَ ما هو شرطٌ (¬1) في ارتفاع حدثه، وذلك مانع من إجزاء وضوئهِ، وصحةِ صلاته. وقول الشريف: الغسلُ مخالفٌ المسحَ، إلى آخر ما ذكره في هذا الفصل، يلزمُهُ عليه: تركُ الاستنجاءِ إلى غسل الموضع بالماء، وتركُ التيممِ إلى غسل الأعضاء، وتركُ الاقتصارِ على مسح بعض الرأس إلى الاستيعاب، فإنَّ كل شيءٍ من ذلك مخالفٌ لصاحبه في الاسم، وهو قائم مقامَهُ في الإجزاء. الخامسة والستون بعد المئة: قد تقدَّمت الإشارةُ إلى الفَرق بين العطف على الموضع حيثُ يتعذَّرُ العطف على اللفظ، وبين العطف على اللفظ حيثُ يكونُ ثمَّ عاملٌ لفظي للنصب، فردَّ ذلك بعضُ الشيعة، وطالبَ خصمَهُ بإيراد جملتين في كلام العرب ثبتَ في إحداهما عامل للنصب بالصريح، وثبت في الأخرى عاملُ الخفض بالصريح، فعطفوا في جملة المجرور بلفظ النصب، وأرادوا به عطفَهُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "شرطه"، والمثبت من "ت".

السادسة والستون بعد المئة

على الجملة الأولى، قال: بل يطالبه بإيراد الجملتين المذكورتين على حال، فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، فأُوْرِدَ عليه قولُ الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 57] فقيل: إنه في معنى ما أنكرَهُ، وادَّعى أنه لا يوجد السبيل إليه، وذلك أن قوله: {وَالْكُفَّارَ} قرأه أبو عمرو، والكسائي بالجر عطفًا على {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}؛ أي: ومن الكفار، وقرأه الباقون من الأئمة السبعة {وَالْكُفَّارَ} بالنصب (¬1)، وانتصابُهُ بالعطف على ما عمل فيه العاملُ اللفظي، وهو قوله: {لَا تَتَّخِذُوا} دونَ موضع {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. قال الفَرَّاء في "معانيه": من نَصَبَها رَدَّها على {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ}؛ أي: ولا تتخذوا الكفارَ أولياء. وقال الزجَّاجُ في "معانيه": النصبُ فيه على النَّسق على قوله: {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} ولا تتخذوا الكفار أولياء (¬2). فقد ثبتَ بقول إمام الكوفيين في النحو، وإمام البصريين فيه، العطفُ بلفظ النصب عقيبَ المجرور على منصوبٍ متقدِّم، وتركُ العطف على موضع الجار والمجرور، والله أعلم. السادسة والستون بعد المئة: ادَّعى الشريفُ أنَّ العطف على الموضع مستحسنٌ في لغة العرب، جائزٌ؛ لا على سبيل الاتّساع ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 254). (¬2) انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 186).

والتجوُّز، والعدول عن الحقيقة، وأن المتكلمَ مخيّرٌ بين حمل الإعراب على اللفظ تارةً، وبين حمله على الموضع أُخْرى. فرد عليه الفقيه: بأن هذا دعوى مجردةٌ عن برهان، وللخصم أن يقول: بل لا تفعل العرب ذلك إلا تجوُّزًا واتّساعاً، وإنما الحقيقةُ تتبُعُّ اللفظِ اللفظَ، لا الموضعَ، وذكر قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 99] فذكر أبو إسحاق الزجاج، وغيره من العلماء بهذا الشأن: أن قوله: {جَنَّاتٍ} منسوق على قوله: {خَضِرًا} أي: وأخرجنا من الماء خَضِرًا وجنات (¬1)، ولم يقولوا: أنها تحمل على الموضع (¬2) {وَمِنَ النَّخْلِ} إن كان موضعهُ نصباً؛ لأن النخلَ مما أخرجه أيضًا، ألا ترى أنه قال في الآية: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ}؟ أي: وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان، مع أن هذا أقربُ إليها من غيره، فأخرجنا منه خضراً، فثبت أن العطفَ على اللفظِ أصلٌ، وعلى الموضعِ تجوُّزٌ. قلت: الذي ادَّعاه الفقيه من أن الحقيقةَ العطفُ على اللفظ، صحيحٌ، والاستعمالاتُ المذكورةُ في العطف على الموضع لا تدل على الحقيقة، والذي ذكره الفقيه أيضًا من الآية والحمل على العطف ¬

_ (¬1) انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 276). (¬2) "ت": "موضع".

السابعة والستون بعد المئة

على اللفظ، مع إمكان العطف على الموضع بمجرده، لا يدل على الحقيقة، لكنَّه أقربُ في الدلالة من ادّعاء التَّساوي، للعدول عن العطف على الموضع، مع قيام الدليل الراجح على العمل على الموضع، وهو القربُ، مما يؤكّدُ دعوى الحقيقةِ في العمل على اللفظ. السابعة والستون بعد المئة: رجَّح الشرِيْفُ حملَ العطفِ على موضع (الرؤوس)، على العطف على الأيدي والوجوه في الغسل؛ بأن الكلامَ إذا حصل فيه عاملان: أحدُهما قريبٌ، والآخرُ بعيدٌ، فإعمالُ الأقربِ أولى من إعمال الأبعد، قال: وقد نصَّ أهلُ العربية على هذا، فقالوا: إذا قال القائلُ: أكرمني وأكرمتُ عبدَ الله، وأَكْرمتُ وأَكرمني عبدُ الله، فحمل الاسم المذكور بعد الفعلين على الفعل الثاني أولى من حملِه على الأول، فإن الثاني أقرب إليه، وقد جاء القرآن وأكثرُ الشعر بإعمال الثاني، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن: 7] وقال: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] , وكذلك {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] كل ذلك بإعمال الثاني دونَ الأولِ؛ لأنه لو أعمل الأولَ لقال: كما ظننتموه، وآتوني أفرغه، وهاؤم اقرؤوه (¬1) كتابيه؛ لأن المعنى: آتوني قطراً أفرغه عليه، وكذلك هاؤم كتابيه، وقال الشاعر [من الطويل]: ¬

_ (¬1) في الأصل: "أقرؤوا"، والتصويب من "ت".

قَضَى كلُّ ذي دَينِ فوفَّى غَريمَهُ ... وعزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنَّى غَريمُها (¬1) فأعمل الثاني دون الأول؛ لأنه لو أعمل الأول لقال: قضى كُلَّ ذي دين فوفَّاه غريمُه، ومما أُعمِل فيه الثاني أيضًا قول الشاعر [من الطويل]: وكُمْتا مُدمَّاةً كأنَّ مُتونَها ... جَرى فوقَها واستَشْعَرتْ لونَ مُذْهَبِ (¬2) ولو أَعملَ الأولَ لرفعَ لونًا، وفي الرواية هو منصوب، ومثلُه للفرزدق [من الطويل]: ولكنَّ نِصْفًا لو سَبَبْتُ وسبَّنِي ... بَنُو عبدِ شَمسِ مِنْ مُنَافٍ وهَاشِمِ (¬3) وقال: بنو؛ لأنه أعمل الثاني دون الأول. عارض الفقيهُ الترجيحَ الذي ذكره الشريف بأن قال: لو جاز عطف قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب على موضع {بِرُءُوسِكُمْ}، وعلى قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ}، لكان عطْفُه على قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ} أولى؛ لأن هذا عطْفٌ على اللفظ، والآخر ليس بعطف ¬

_ (¬1) البيت لكثير عزة، كما في "ديوانه" (ص: 143)، (ق 8/ 14). (¬2) البيت للطفيل الغنوي؛ انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 77)، و"المفصل" للزمخشري (ص: 38)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 81). (¬3) انظر: "ديوانه" (2/ 300).

على اللفظ، فجرى أحدهما مع الآخر مجرى المُفسِّر مع المُجْمَل، والحقيقةِ مع المجازِ، ولا يقدح في ذلك أن اللفظ أبعدُ من الموضع، الذي بيَّنَ (¬1) ذلك: قولُهُ تعالى، وذكر الآيتين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا} [المائدة: 57] {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: 99] وأجاب عن إعمال الأقرب، الذي ذكره الشريف، واستشهد عليه بأن قال: إن شيئًا من ذلك لا يوجب أن يكون الأمرُ على ما قاله، وذلك أنه ليس في شيء مما ذكره معطوفٌ تقدَّمَه أمران؛ أحدهما من جهة اللفظ، والآخر من جهة الموضع، فترك حمله على اللفظ إلى حمله على الموضع. قال: ثم يقال: كيف ادَّعى نصَّ أهلِ العربية على ما ذكروه، وقد يعلم أن هذا بابٌ قد اختلف فيه الكوفيون والبصريون، وشَرْحُ ذلك أنَّ القائلَ إذا قال: ضربت وضربني زيد، فالاختيار عند البصريين إعمال الثاني؛ لأنه أقرب إلى الاسم، وعند الكوفيين إعمال الأول؛ لأنه أسبق، فإعمال الثاني على تقدير: ضربت زيدًا، وضربني زيد، إلا أنَّك حذفت المفعولَ من الأول، مستغنيًا بما دل عليه بعدَه، وإعمالُ الأول على تقدير: ضربتُ زيدًا، وضَرَبَني، فتضْمِر في (ضربني) ما يرجع إلى (زيد)، ويكون فاعلاً لضربني، ثم ذكر الفقيهُ شواهدَ على إعمال الأول؛ منها قول عمر بن أبي ربيعة [من الطويل]: ¬

_ (¬1) "ت": "يبين".

إذا هِيَ لم تَستَك بِعُودِ أرَاكة ... تُنُخِّل فاسْتاكت به عُودُ إسْحِلِ (¬1) قلت: فسر الإسحل بأنه شجر يشبه الأَثْلَ، ينبت بالحجاز، قصبانُه سمر مستوية لطيفة تشبه كان المرأة، قال امرؤٌ القيس [من الطويل]: وتعطو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنَّهُ ... أساريعُ ظَبْيٍ أو مساويكُ إِسْحِلِ (¬2) وأطرافه من أحسن المساويك، والشاهد في البيت الأول: إنما يتمُّ إذا كان (عودُ) مرفوعًا وهو المعروف، وقد قيل: إنه يروى (عودَ) بالخفض، فيكون من إعمال الثاني، ويكون الضمير المستتر في (تنخِّل) إذ ذاك عائدًا على (عود إسحل)، والضمير المجرور بالياء عائدًا على ذلك الضمير، ووجِّه بغير ذلك، وذكر أيضًا [من الوافر]: فَرَدَّ على الفُؤادِ هَوَى عَميدًا ... وسُوَئل لو يُبين لنا السُّؤالا وقد نَغْنَى بها ونَرى عُصُورًا ... بها يَقْتَدْننَا الخُرُدَ الخِذَالاَ (¬3) فنصب الخرد والخذال بـ (نرى)، وعُصُوراً على الظرف، وذكر قول امرئ القيس، أنشد [من الطويل]: ¬

_ (¬1) انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 78). (¬2) انظر: "ديوانه" (ص: 17). (¬3) البيتان للمرَّار الأسدي؛ انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 78)، و "المقتضب" للمبرد (4/ 76).

فلو أنَّ ما أَسْعَى لأَدْنَى معيشةٍ ... كَفَاني ولم أطلُبْ قليلٌ من المالِ وقال [من الكامل]: ولقد ترى تَغْنَى بها سَيْفَانةٌ ... تُصْبِي الحليمَ ومثلُها أَصْبَاه (¬1) قال: امرأة سيفانة شطبة، كأنها نصل سيف. قال: وقول الشريف في قول امرئ القيس: هذا شاذٌّ غيرُ مستحسن، دعوى محتاجةٌ إلى دليل. قلت: هذا منهما اتفاق على أنَّ [قول] امرئ القيس من باب إعمال الأول، وهو الظاهر من كلام أبي علي، وأما سيبويه فإنه قال: وأما قول امرئ القيس: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... ، البيت، فإنما رفع؛ لأنه لم يجعل القليل مطلوبًا، وإنما المطلوب عنده الملك، وجعل القليل كافيا, ولو لم يرد ذلك، ونصب، فسد المعنى (¬2). وشرحه الشيخُ العلَّامةُ أبو عمرَ ابن الحَاجب في "شرحه لمقدمته"، فقال: إن من شرط هذا الباب أن يكون الفعلان موجَّهين إلى شيء واحد من حيث المعنى، ولو وجّه الفعلان ها هنا إلى شيء ¬

_ (¬1) البيت لرجل من باهلة؛ انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 77)، و"المقتضب" للمبرد (4/ 75). (¬2) انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 79).

واحد، لفسد المعنى، فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني، ولم أطلب قليل من المال، و (لو) تدلُّ على امتناع الشيء لامتناع غيره، فإذا كان بعدها مثبتٌ، كان منفيًا في المعنى، وإذا كان منفيًا، كان مثبتًا؛ لأنها تدل على امتناعه وامتناعُ النفيِ إثباتٌ، وإذا ثبت ذلك فقوله: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة، فلو وجِّه، ولم أطلب إلى قليل، لوجب أن يكون فيه إثبات لطلب القليل؛ لأنه في سياق جواب (لو) فيكون نافيًا [للسعي لأدنى معيشة، مثبتًا لطلب القليل من المال، وهو غير ما ثَبَتَ نفيُه، فيؤدي إلى أن يكون نافيًا مثبتًا] (¬1) لشيء (¬2) واحد في كلام واحد، وهو فاسد، فثبت أنه ليس من هذا الباب؛ لما أدى إليه من فساد المعنى. وأما أبو إسحاق ابن ملكون (¬3)، فإنه حَمَلَ كلام أبي عليٍّ على ظاهره، وذكر أنه صحيحِ، وأن ما قال سيبويه أيضًا صحيح على وجهين مختلفين، ومأخَذيْن متمكِّنين، فقال: وتعقَّبَ على الفارسي جعلَه هذا البيت من الإعمال بعضُ من قلَّت بهذا العلم خبرتُه، ولم ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "للشيء"، والتصويب من "ت". (¬3) لأبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن منذر الحضرمي الإشبيلي المعروف بابن ملكون، المتوفى سنة (584 هـ) مصنفات عدة منها: "إيضاح المنهج في الجمع بين كتابي التنبيه والمبهج" لابن جني، و"شرح الحماسة"، و"النكت على التبصرة في النحو" للضميري. انظر: "كشف الظنون" لحاجي (1/ 339، 691).

تعرض على تفهُّم أصوله فطرتُه، وليس كما زعم، بل البيت يحتمل تفسيرين، يُخرَّجُ على أحدهما قولُ سيبويه، ويخرج على الآخر قولُ أبي علي، وذلك أن (أسعى) و (أطلب) بمعنى واحد في البيت، إذ السعي قد يكون في اللغة بمعنى الطلب، قال [من الكامل]: يسعى الفتى لينالَ أفضلَ سعْيِهِ ... هيهاتَ ذاكَ ودونَ ذاكَ خطوبُ (¬1) ومعيشة في البيت، تحتمل أن تكون مصدراً، أو أن تكون اسمَ ما يُعاش به، وكأنها في قول سيبويه مصدر، وتقدير البيت على قوله: فلو أن طلبي لسيء عيش، كفاني قليلٌ من المال، ولم أطلب سيء العيش، وإنما أطلب الملك؛ لأنه قال [من الطويل]: ولكنّما أسعى لمجد مُؤثَّل قيل: وكأنه أراد جعله (أدنى معيشة) مصدراً أن يبين أن (أطلب) و (كفاني) غير متوجهين إلى (¬2) معمول واحد، بل معمول كفى (قليل)، ومعمول (أطلب) سيء العيش، وقال في توجيه كلام الفارسي: وأما قول أبي علي، فيجوز على تقدير المعيشة مصدراً، أو اسم ما يعاش ¬

_ (¬1) البيت لنويفع بن نفيع، كما أنشده الزجاجي في "أماليه". وقد جاء في الأصل و "ت": "خطوف" وكتب فوقها في "ت": "وكذا"، والمثبت من "أمالي الزجاجي". (¬2) في الأصل: "على" , والتصويب من "ت".

به، إلا أنك إذا قدرتها مصدراً، احتجت إلى تقدير حذف مضاف قبل أدنى، تقديره: لمديم أدنى عيش، فيكون تقدير البيت عنده، إذا جعلت (معيشة) اسمَ ما يعاش به: فلو أن طلبي لأدنى ما يعاش به؛ وهو القليل، كفاني ذاك (¬1) القليل، ثم قال: ولم أطلبه، أي: ولم أطلب ما ذكرته أولًا من قليلِ ما يُعاش به، وإنما أطلب الملك، فيكون القليل على هذا تعلَّقَ لكل واحد من العاملين، إلا أنه أعمل الأولى، وحذف معمول الثاني للضرورة، ونظير ذلك قول الفرزدق [من الوافر]: وإنْ شِئْتُ انتسبْتُ إلى فقيمٍ ... وناسَبَني وناسَبْتُ القُرود (¬2) أي: ناسبتني، وناسبتهم القرود، وقول عاتكة بنت عبد المطلب [من مجزوء الكامل المرفل]: بِعُكَاظَ يُعشي النَّاظريـ ... ـن إذا هُمُ لَمحُوا شُعَاعُهْ (¬3) ويكون تقدير البيت عنده، إذا جعلت (معيشة) مصدراً: فلو أن مطلبي لمديم سيء العيش، وهو القليل؛ لأن من لازم الإقلال، خالف سوء الحال، فيكون أيضاً العاملان في هذا الوجه متوجِّهَيْن على القليل من جهة المعنى. قال أبو الحسن بن عصفور: وهذا الذي خَرَّجَ عليه الأستاذ أبو ¬

_ (¬1) "ت": "ذلك". (¬2) انظر: "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام (2/ 306)، و"الأغاني" للأصفهاني (10/ 354). (¬3) انظر: "الحماسة بشرح المرزوقي" (2/ 743).

إسحاق كلام أبي علي من أنه أراد: كفاني قليل، ولم أطلب القليل. و [هو] (¬1) مذهب أبي سعيد السكري، ذكر ذلك فيما شرحه من قول امرئ القيس. قال أبو الحسن: والصحيح أن البيت لا يجوز أن يكون من الإعمال، من جهة أن الإعمال لا يتصور، حتى يكون قوله: ولم أطلب، غير معطوف على جواب (لو)، وهو (كفاني)، ولا في موضع حال من مفعول (كفى)، إذ لو كان معطوفًا عليه، لكان جواباً لها أيضا؛ لأن المعطوف شريكٌ للمعطوف عليه، وإذا كان جوابها، كان التقدير: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة، لم أطلب قليلاً من المال، وذلك فاسد المعنى، ولو كان في موضع حال من مفعول (كفى)، لكان التقدير: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة، كفاني قليل من المال في حال أنني لم أطلبه، وذلك باطل؛ لأنَّ سعيَه إذا كان لأدنى معيشة، لم يكن القليلُ كافياً له، إلا في حال طلبِهِ إيَّاهُ، وإذا ثبت أن القليل إذا كان معمولاً لأطلب، لم يسغْ أَنْ يكونَ (ولم أطلب) معطوفاً على (كفاني)، ولا في موضع حال من مفعول (كفى)، بل مستأنفًا، كان الإعمال ممتنعاً؛ لأن الإعمال لا يتصور حتى يكون أحدُ العاملين مرتبطًا بالآخر؛ بعطف، أو بغيره، ألا ترى أنك لو قلت: ضربت، ضربني زيداً، لم يجز، لعدم ارتباط أحدهما بالآخر، وسبب ذلك: أن الإعمال قد يجيء فيه الفصل بين العامل والمعمول إذا أعملت الأول، ¬

_ (¬1) زيادة من هامش "ت".

والإضمار قبل الذكر إذا أعملت الثاني، واحتاج الأول إلى فاعل، أو مفعول لم يُسَمَّ فاعله، فلو لم تكن إحدى الجملتين مرتبطة بالأخرى، للزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وهو غير جائز، وجعل مفسر ما أضمر قبل الذكر في كلام منقطع من الكلام، الذي الضمير منه، وهذا الإضمار إنما جاء فيما الجملتان فيه كالجملة الواحدة. قال: ولهذا الذي ذكرته منع سيبويه، والله أعلم، أن يكون البيت من الإعمال، لا لما ذكره أبو إسحاق؛ بدليل قوله: ولو لم يرد ذلك، ونصب، فسد المعنى، فجعل نصف القليل مفسداً للمعنى، ولو أراد ما قاله أبو إسحاق، لم يعلل امتناع نصبه بفساد المعنى، بل كان ينبغي له أن يعلل امتناع نصبه بكونه قد قال أولًا: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة، ومعناه: فلو أن سعيي لأدنى عيش، والسعي هو الطلب، فينبغي أن يكون معمول (أطلب) (أدنى عيش) حتى يكون قد نفى ما فرض أولًا، وإذا جعل معمولَه القليل، لم يكن نافيًا ما فرض، وهو السعي لأدنى معيشة، بل ما يلزم عنه أدنى العيش، وهو السعي القليل (¬1) (¬2). قلت: وقد أطلنا الكلام على هذا البيت لشهرته، وشهرة تعليل المنع بما تقدّم، فجرَّ ذلك إلى اجتلاب اعتراضٍ على المشهور من وجه الامتناع، وهو كلامُ أبي إسحاق ابن ملكون، فاغتفرنا الإطالة، ¬

_ (¬1) "ت": "للقليل". (¬2) انظر: "شرح الجمل" لابن عصفور (1/ 635).

وإن كانت سبب المَلال، لغرابة الاعتراض، ودقة النظر في البيت، على أن كتابنا هذا ليس موضوعًا على الاختصار، فتُنْكَرُ الإطالةُ، إلا أن المُنْكَرَ (¬1) إطالةُ ما يقتضي المقصودُ خلافَه، أو يقتضي المعرف إنكاره، ومن ظريف ما بلغني في كراهة الإطالة - وإن كان الكلام عامّيًا - ما حدثنيه أحمد بن نصر الله الأديب، ما معناه: أن ابن قُدَيم - وهو المنعوت بأبي الشرف - المشهور من أدباء مصر عندهم، مدح جدّه (¬2) المنعوت بالعلاء بقصيدة فيها مئة وأربعون بيتًا، ثم سأل الشرف (¬3) الشاعر ولد العلاء المنعوت بالأسد، فقال: كيف رأيت القصيدةَ اللَّامية؟ فقال: مليحة، لو (¬4) كانت إلَّا مِيَّة. ثم نرجع إلى كلام الفقيه سُليم، قال: فأما قول الله تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96] فقرأه عاصم في رواية أبي بكر وحمزة موصولة، أي: جيئوني، وقرأه ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص والكسائي: (آتوني) ممدودة (¬5)، وعلى هذا يحتمل أن يكون من المواتاة، وأن يكون من الإيتاء، فعلى الوجهين الأوَّلين لا يتعدى إلى مفعول ثانٍ، وعلى الوجه [الثالث] (¬6) ¬

_ (¬1) "ت": "لأن المنكر". (¬2) "ت": "جلده"، وكتب فوقها: كذا. (¬3) كذا في الأصل و "ت"، وجاء فوقها في "ت": كذا. (¬4) في الأصل: "أو"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 148). (¬6) سقط من "ت".

يصلح أن ينصب (قطراً) به، ويكون على حذف الهاء من (أفرغه) ويصلح أن ينصب (قطرًا) لا (أفرغ) على ما قاله، وكذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن: 7]، وقوله: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19]، يصلح فيهما الوجهان، وحذف المفعول لدلالة الكلام عليه كثيرٌ، قال الله تعالى: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23] وقرأ ابن عامر وأبو عمرو (يصدر الرعاء) - بفتح الياء وضم الدال - أي: حتى ينصرف الرعاء عن الماء، وقرأ الباقون من القراء السبعة (حتى يصدر) - بضم الياء وكسر الدال - أي: حتى يرد الرعاء غنمهم (¬1)، فحذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وقد جاء ما هو أكثر من ذلك، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] أي: كنتم تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولين جميعًا؛ لأن التوبيخ بالإشراك قد دل عليه. قال الفقيه: وأما قول الشاعر [من الطويل]: وكُمْتًا مُدَمَّاةً كأَن متونَها ... جرى فوقَها واستشعرتْ لَوْنَ مُذْهَب فقد روي (لونَ مذهب) بالنصب على إعمال الفعل الثاني، و (لونُ مذهب) بالرفع على إعمال الفعل الأول، قال: والكمته: لون ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 435).

الثامنة والستون بعد المئة

ليس بأشقر، ولا أَدْهَم، والمُدَمَّى من الخيل: الأشقر الشديد الحمرة، شبه لون الدم، وكُمَيت مُذْهَب: إذا عَلَتْ حمرتَه صفرةٌ، كأنه مُوِّه بالذهب، وأما قوله: قضى كلُّ ذي دينٍ فوفَّى غريمَه فيروى: أرى كلَّ ذي دين يوفِّي غريمَه ويكون لكل واحد من الفعلين مفعول خاص، ومن روى: قضى كل ذي دين فوفى غريمه جعل (قضى) و (وفَّى) شيئًا واحداً، ففارق بذلك سائر الأمثلة، وأما قول الفرزدق [من الطويل]: ولكنَّ نصفًا لو سببتُ وسبَّني ... بنو عبدِ شمسٍ من منافٍ وهاشمِ فالكسائي يجيز أن تقول: بني عبد شمس بالنصب (¬1) على إعمال الأول، على خلاف ما اقتضاه كلامُ الشريف، وليس في المسألة اختلاف في الجواز والمنع، بل كلا الفريقين يجوِّز الأمرين، والاختلافُ إنما هو في الاختيار. الثامنة والستون بعد المئة: قال الشريف: ولا خلاف بين أهل ¬

_ (¬1) في الأصل: "أن تقول: بني عبد شمس، وشمس بالنصب"، والمثبت من "ت".

اللسان في أن القائل [إذا قال:] (¬1) ضربت عبد الله، وأكرمت خالداً وبشرًا، أنَّ ردَّ بشرٍ إلى حكم خالدٍ في الإكرام أولى من رده إلى حكم عبد الله في الضرب، هذا هو الظاهر المستحسن، وغيره مُستَقْبَح. أجاب الفقيه: بأن هذا لا دليل فيه؛ لأنه إذا عطف وبشرًا على الذي يليه عطفه على اللفظ لا على الموضع، [و] (¬2) هو إليه أقرب، فيكون أولى، وإذا عطف قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} في القراءة بالنصب على الذي يليه عطفه على الموضع، وترك العطف على اللفظ، فيكون تاركًا لما هو أولى. قال: وجواب آخر، وهو: أنه إذا قال: ضربت عبد الله، وأكرمت خالدًا وبشرًا، وهو يريد رد بشر إلى حكم عبد الله، يؤخر ما حقه أن يقدم، ويوقع الشبهة في المعنى لغير غرض صحيح، فيكون مُسْتَقْبَحًا، وليس كذلك قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [فيمن] (¬3) قرأ بالنصب؛ لأنَّ الظاهرَ حملُ المنصوب على المنصوب في اللفظ، لا على المجرور الذي موضعُه النصب، ولا تقع الشبهة في المعنى في (¬4) تأخير ذكره، فكان مستَحسَنًا غير مستقبح. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "وفي".

التاسعة والستون بعد المئة

التاسعة والستون بعد المئة: مما ذُكر في تأويل قراءة الجر: حملها على المسح على الخفين، وربما جعل طريقًا إلى استعمال القراءتين، بأن يقال: أُريدَ بالقراءة بالنصبِ غسلُ الرجلين إذا كانتا بارزتين، وبالقراءة بالجرِّ المسحُ إذا كانتا في الخُفّين، وذكر حديث جرير في إسلامه بعد نزول المائدة، وروايته للمسح على الخفين (¬1)، وقيل: ولا تكون الآية موجِبَةً لغسل الرجلين بكل حال، أو لمسحهما (¬2) بكل حال، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يترك [كل] (¬3) ذلك إلى المسح على الخفين، فثبت أن كل واحد من غسل الرجلين ومسح الخفين من مضمون الآية، ويؤيده أن القراءتين كالآيتين، فكان حملُهما (¬4) على فائدتين أولى من حملهما (¬5) على فائدة واحدة. وأقول: هذه الطريقة مستعملة كثيرًا للفقهاء والمتناظرين، [أعني:] (¬6) ترجيحَ ما يدعي أحدُ الخصمين الحملَ عليه على ما يدعيه خصمُه، وإسناد هذا الترجيح إلى كثرة الفائدة في أحد الحُكمين، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (380)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الخفاف، ومسلم (272)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين. (¬2) في الأصل: "لمسحها"، والمثبت من "ت". (¬3) سقط من "ت". (¬4) في الأصل: "وكان حملها"، والمثبت من "ت". (¬5) في الأصل: "حملها"، والمثبت من "ت". (¬6) زيادة من "ت".

السبعون بعد المئة

والاعتراض عليه: أن ثبوتَ كونه فائدةً، ليس في نفس الأمر، [بل] (¬1) على تقدير رُجحان الحمل على ما يدعيه؛ لأنه لو انتفى الرجحانُ لانتفى كونُه فائدةً، فإثباتُ الرجحانِ بكونه فائدةً إثبات للشيء بما لا يثبت إلا بعد ثبوته، وهو دَورٌ ممتنع، وهذا متينٌ لا يُورَد عليه شيء إلا بطريق جدلي. السبعون بعد المئة: اعترضَ الشريف على التأويل بالمسح على الخفين؛ بأن الخُفَّ لا يُسمَّى رِجْلاً في لغة ولا شرع، كما أن العمامةَ لا تُسمَّى رأساً، ولا البُرْقَع وجهًا، فلو ساغ حملُ ما ذكر في الآية من الأرجل على أن المراد به الخِفافَ، لساغ في جميع ما ذكرناه. أجاب الفقيه: بأنَّ من عادة (¬2) العرب تسميةَ الشيء باسم غيره، إذا كان مجاوِراً له، وكان منه نسيب، تقول: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، يريدون الكلأ والمطر، وقال الشاعر [من الوافر]: إذا نزلَ السَّماءُ بأرَضِ قومٍ ... رَعَيْنَاهُ وإن كانوا غِضَابَا (¬3) فسمى المطر سماء لنزوله من السماء، وقال آخر [من الطويل]: كَثَورِ العَدَابِ الفردِ يَضْرِبُه النَّدَى ... تَعَلَّى النَّدى في مَتْنِهِ وتَحَدَّرا (¬4) ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "غاية". (¬3) البيت لمعاوية بن مالك؛ انظر: "المفضليات" للمفضل الضبي (ص: 359). (¬4) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي؛ انظر: "ديوانه" (ص: 84).

فسمى الشحمَ ندًى؛ لأن الندى يكون سببًا فيه، فلما كان كذلك لم يمتنع بأن يُطلق اسمُ الأرجل على الخِفاف، لمجاورتها إيَّاها، وأنْ تُحمَلَ القراءة بالجر على ذلك لما تقدم ذكره من الدلالة، ولا يمتنع أن يكون الفعلانِ في الطاهر متساويين، ويقدَّرَ في أحدهما غيرُ ما يقدر في الآخر، كقوله - جل ثناؤه -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] تقديره فيما روي عن ابن عباس: أن يُقتَّلوا إن قَتَلوا، أو يصلَّبوا إن قتلوا وأَخَذوا المالَ، أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلُهم من خِلاف إن أخذوا المال، أو يُنْفَوا من الأرض إن هربوا بعد وجوب الحَدِّ عليهم، وذلك بأن يُطلبوا حتى يؤخذوا فيقامَ عليهم الحدّ (¬1)، وكذلك إذا كانت القراءتان بمنزلة اللفظتين، فكأنَّه قال: وأرجلكم إلى الكعبين، وقيل أراد بقوله: (وأرجلكم) المسحَ، إذا كانت القدمان في الخفين، وبقوله: (وأرجلكم إلى الكعبين) [الغسل] (¬2) إذا كانتا بارزتين، ولا ينكر أن تكون القراءتان على معنيين، وعلى تقدير حالين ووقتين، ¬

_ (¬1) رواه الإِمام الشافعي في "مسنده" (ص: 336)، وفي "الأم" (6/ 151 - 152)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 283). وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 72). (¬2) زيادة من "ت".

قال الله تعالى {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي (بظنين) بالظاء، أي: بُمتَّهم، وقرأ الباقون بالضاد، أي: ببخيل (¬1). وقال جل ذكره: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم (حمئة) محذوفة الألف، أي: ذات حمأة، وقرأ الباقون (حامية) بالألف من غير همز، أي: حارة ذات (¬2) حمأة (¬3). وقال - جل ثناؤه -: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فقرأ نافع، وابن عامر (واتَّخَذوا من مقام إبراهيم) بفتح الخاء على الخبر، وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر (¬4)، فحمل على أن الله تعالى أمرهم بذلك، فلما فعلوا أخبرهم (¬5) عنهم به في عَرضة أخرى. وكذلك قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} [الإسراء: 93] قرأ ابن كثير، وابن عامر بالألف على ما في مصاحف أهل مكة، والشام، وقرأ ¬

_ (¬1) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 573). (¬2) "ت": "وذات". (¬3) المرجع السابق، (ص: 371). (¬4) المرجع السابق، (ص: 192). (¬5) "ت": "أخبر".

الحادية والسبعون بعد المئة

الباقون (قل) بغير ألف على ما في مصاحفهم (¬1)، ووجهه: أنه أنزل عليه قل، فقال، ثم أخذ عليه جبريل في عرضة أخرى، قال: فكانا جميعًا صحيحين، فكذلك القراءتان في آية الوضوء تكونان على معنيين، وفي حالين، ولا يمتنع (¬2) ذلك. وقد ذهب إلى إجازة المسح على الخفين أكثرُ الأمة، ورآه من قال من الفقهاء والمتكلمين إن الزيادة في النص نسخٌ، ومن قال منهم: إنها ليست بنسخ، وإنما هي زيادة حكم، وامتنعوا من المسح على الرجلين، فعُلِم أن ذلك منهم على استعمال القراءة بالنصب على غسل الرجلين، والقراءة بالجر على الخفين، ثم قواه بما رواه بإسناده في (¬3) حديث المغيرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين، فقلت: يا رسول الله! نسيت؟ فقال: "لا بلْ أنتَ نسيتَ، بهذا أمرني ربّي" (¬4). الحادية والسبعون بعد المئة: الذي اقتضى لنا الكلامَ على الآية؛ أنها قد تعارض ظاهرَ القراءةِ قراءةِ الجرّ (¬5) ما في الحديث من الأمر بالغسل، والكلامُ على المعارضات، والمخصّصات، مما يُحتاج إليه في الكلام على الحديث، وأطلنا في الكلام على الآية الكريمة لوجهين: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 361). (¬2) في الأصل: "يقع"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "من". (¬4) رواه أبو داود (156)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 253)، وغيرهما. (¬5) في الأصل: "قد تعارض ظاهراً لقراءة قراءة الجر"، والمثبت من "ت".

أحدهما: أن المسح على الخفين مذهب لمن يخالف السنة، وقد اعتنَوا بالاستدلال عليه، وصنّفوا فيه، والردُّ على من يخالف السنة من المُهِمَّات، وقد لا يستحضر الناظرُ جميعَ ما قيل، مما قد يَحتاج إليه، ولا يهتدي إليه بنظرِه وفِكْرِه، فذكْرُه مجموعًا من الطرفين مفيدٌ، فقد يكون في الإطالة إِطَابة، وفي الاقتصارِ القُصُور (¬1). والذي يقطع دَابِرَ القولِ بالمسح على الخفين وجهان: أحدهما ظاهر، والثاني نص فقهي. أما الظاهر: فالرواياتُ المتكثرة عن جماعات من الصحابة: أنَّه - عليه الصلاة والسلام - غسل رجليه؛ كالرواية عن عثمان بن عفان، وقد تقدمت، [و] (¬2) عن عبد الله بن زيد، وعبد الله بن عباس، وكلها في "الصحيح". ورواية ابن عباس عند البخاري، وفيها: ثم أخذ غَرْفةً من ماء، فرشَّ على رجله اليمنى، ثم غسلها، ثم أخذ غَرْفة أخرى، فغسل بها رجله، يعني: اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (¬3). وكالرواية عن علي بن أبي طالب، من حديث عبد خير، عنه، ¬

_ (¬1) لم يذكر المؤلف الوجه الثاني في سبب إطالة الكلام عن الآية الكريمة. (¬2) سقط من "ت". (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (140) عنده.

وفيها: ثم غَسَلَ رجلَه اليمنى ثلاثًا، ثم غسل رجله اليسرى [ثلاثًا] (¬1)، ثم قال: من سَرَّه أن يعلمَ طُهْرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو هذا (¬2). ومن رواية أبي حَيَّة، عن علي، وفيها: وغسل قدميه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتُمُوني فعلت، فأحببتُ أَنْ أُريَكم (¬3). وكالرواية عن الرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوذ، وفيها: ويغسل رجليه ثلاثًا (¬4). وكالرواية عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهي مذكورة في "الإلمام" (¬5)، وفيها الدلالة فعلاً وقولاً. أما الفعل: فظاهر. وأما القول: ففي قوله "هكذا الوضوء"، والاستدلال بها على إبطال القول بالمسح ظاهرٌ عيناً، وتأويل الشريف مردودٌ؛ لأنه حوالة على مجرَّد الوهم والاحتمال، مع وجود القرينة على إرادة الغسل، وهي التكرار ثلاثًا. ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (111)، والنسائي برقم (92). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (121). (¬4) رواه أبو داود (126)، كتاب: الصلاة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإمام أحمد في "مسنده" (6/ 358)، وغيرهما. (¬5) انظر: (1/ 66) منه. وقد تقدم ذكره عند المؤلف في هذا الكتاب وشرحه.

وأمَّا الاستدلال بالأحاديث على من يرى الجمعَ بين الغسل والمسح، فلا يتأتَّى، وأما على من يقول بالتخيير، ففيه نظر؛ لأنه يمكن أن يُضَمَّ دليلُ التأسي إلى الفعل، فيقتضي الوجوبَ للغسل، وهو يسقط القولَ بالإيجاب للمسح، وفيه بحث سننبِّه عليه. والأحاديث أيضًا تدل على أمور لا يقول بها الشيعة، كالأمر بتخليل الأصابع، وتجديد الماء لغسل الرجلين الذي في حديث البخاري؛ لأنَّ عند الشّيعيِّ أنه لا يؤخذ لهما ماء جديد، لكنهما يمسحان ببلة اليدين. ولا يقول أيضًا بالتكرار، وكقوله - عليه السلام -: "ويل للأعقاب من النار" (¬1)، وكما جاء عن أبي ذر من حديث مجاهد عنه: أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتوضأ فقال: "ويل للأعقابِ من النَّار"، فطفقنا (¬2) ندلكها دلكًا، ونغسلها غسلًا (¬3). ومنها: ما عند أبي داود: أنَّ رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد توضأ وترك على قدميه مثل موضع الظفر، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجِعْ فأحسِنْ وضُوْءَك" (¬4). وتعميمُ الرِّجْل بالمسح لا يجب عندهم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في الأصل: "وطفقنا", والمثبت من "ت". (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (64) دون قوله: "ونغسلها غسلًا". (¬4) تقدم تخريجه.

الثانية والسبعون بعد المئة

وأما النص الفقهي، الذي أشرنا إليه: فهو هذا الحديث الذي ذكرنا طرفه (¬1)، وهو قوله - عليه السلام -: "كما أمر (¬2) الله "فإنه صريح في أن الله أمرَ بالغسل، ويمكن أن يكون إشارةً إلى الآية الكريمة، ويمكن أن يكون إخباراً عن أمرٍ خارجَ الآية، وعلى كل حال فهو صريح في الأمر، وهو قاطعٌ لدابرِ القول بتعيُّن المسح. الثانية والسبعون بعد المئة: هذا الحديث الذي اخترناه للتخريج، يدل على بطلان مذهب الشيعة من وجوه: أحدها: ما ذكرناه من التصريح بالأمر، وهو يغني عن المباحث التي ذكروها في معنى الآية من الراجح وغيرها، فإنه أصرَحُ وأقوى من كل ما يُذْكر. وثانيها: أن نبيِّنَ أن المراد من "كما أمره [الله] (¬3) "الحوالة على الآية الكريمة، فإن على هذا التقدير يكون مبينًا، وعلى تقدير أن تكون الحوالة على أمرٍ غيره يكون مُجْمَلاً ظاهراً، لعدم بيانِه من هذا اللفظ، وحملُ الخطابِ على البيان أولى من حمله على الإجمال، أو على بيان من غير الآية، لم يقم عليه دليل بوجهٍ ما، وإذا حملناه على الحوالة على الآية، بطل كلُّ تأويلٍ يُخْرِج الآيةَ (¬4) عن الدلالة على الغسل. ¬

_ (¬1) "ت": "طرقه". (¬2) "ت": "أمرك". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) في الأصل: "لأنه" بدل "الآية"، والتصويب من "ت".

الثالثة والسبعون بعد المئة

وثالثها: ترتبُ الثوابِ على الفعل، وهو مقتضٍ الإجزاء، فإن الفعلَ الباطلَ لا يُخرِج عن العُهْدة، ولا يُثَابُ عليه. الثالثة والسبعون بعد المئة: في مقدمة لغيرها، اختلف الأصوليون في الواجب المخيَّر، ونقلوا مذاهب: منها: أن الكلَّ واجب على البدل. ومنها: أن الواجب واحدٌ لا بعينه، يتعين باختيار المُكلَّف، وقيل: يتعيَّنُ بالفعل، لا بالاختيار (¬1). الرابعة والسبعون بعد المئة: فإذا قلنا: إن الوجوبَ يتعلق بالكل، وأردنا أن نستدلَّ بهذا الحديثِ على أن الواجبَ الغسلُ عينًا، ونقل القول: بالتخيير، فَلِمَنْ يذهبُ إليه أن يقولَ: لا يلزم من تعلُّقِ الوجوب بالمسح لغسلٍ عدمُ تعلُّقِه بالمسح على سبيل البَدَل، بناءً على المذهب. الخامسة والسبعون بعد المئة: قوله - عليه السلام -: "فإنْ هو قامَ فصلَّى" إلى آخره، يقتضي ترتُّبَ الثواب المذكور عَقيبه، وهو قوله: "كيومَ ولدتْهُ أمُّه"، على مجموع الوضوء والصلاة بالصورة المذكورة، وما تقدم من خروج الخطايا بغسل أعضاء الوضوء، إنما يقتضي الخروج منها لا من غيرها، فليست تلك جميع أعضاء البدن، فيكون هذا الثواب - أعني: الخروجَ من الذنوب كيوم ولدته أمه بالمجموع، ¬

_ (¬1) انظر: "الإحكام" للآمدي (1/ 141)، و"البحر المحيط" للزركشي (1/ 246).

السادسة والسبعون بعد المئة

وخروج الخطايا من تلك الأعضاء المخصوصة - مرتَّباً على الوضوء. السادسة والسبعون بعد المئة: هذا الذي ذكرناه هو مقتضى هذا الحديث، ولكن حديث مالك الذي رواه عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن عبد الله الصنابحي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا توضَّأَ العبدُ المؤمنُ، فَمَضْمَضَ، خرجتِ الخَطَايا من فِيْهِ، فإذا استَنْثَر خرجتِ الخَطَايا من أَنفِهِ" إلى أن قال: "فإذا غَسَلَ رِجْلَيهِ، خرجتِ الخَطَايا منْ رِجْلَيهِ، حتَّى تَخْرُجَ من تحتِ أَظْفَارِ الرِّجْلَينِ" قال: "ثُمَّ كان مَشْيُهُ إلى المسجدِ وصلاتُه نافلةً لَهُ" (¬1) يقتضي أن [يكون] (¬2) التكفير لجميع الذنوب يحصل بالوضوء، وكذلك حديث مسلم الذي فيه: "حتَّى يَخْرجَ نقيًّا من الذُّنُوبِ" (¬3) يقتضي ذلك، فيحتمل أن يكونَ نقيًّا من الذنوب [المتعلقةِ بالأعضاء المغسولة، ويكون قوله: "وكان مَشْيُهُ وصلاتُه نافِلةً له" أي: بالنسبة إلى ما حصلَ بالتكفير بغسل هذه الأعضاء؛ لأنَّ دلالة هذا الحديث على غاية النَّقاءِ وتكفيرِ كل الذنوب أقوى من دلالة الحديث الآخَر، فيقدَّمُ القولُ بظاهره على ظاهر ذلك. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (1/ 31) عنده. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه مسلم (244)، كتاب: الطهارة: باب: خروج الخطايا مع ماء الوضوء، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

السابعة والسبعون بعد المئة

ويحتمل: "حتى يخرج من الذنوب"، (¬1) وجهًا آخر، وهي: أن تكون الذنوب هي التي تتعلَّق بالأعضاء، والألف واللام للعهد؛ لأنه لما كان خروجُ الخطايا من الأعضاء مُستلْزِمًا لوجودها فيها، كانت كذكرها لفظًا، فتكون الألف واللام [للعهد] (¬2)، كما كانت الألف واللام في الخطايا المراد بها: خطايا ذلك العُضْوِ المَخْصُوصِ، خرجت الخطايا المتعلقة بالوجه من الوجه، والخطايا المتعلقة بالفم من الفم، إلى آخره. ويحتمل وجهًا آخر، وهو: أن يكون المعنى لا يزال شأنه التكفير بما هو مِنْ وضؤيهِ وغيره، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب، كما يقال: خرج عمرو وزيد (¬3) وبكر، حتى خَرجَ الصغارُ والعبيدُ، بمعنى أنه لم يَزلِ الخروجُ متصلًا، حتى خَرجَ الصغارُ والعبيد، وليس خروجُ الصغارِ داخلًا تحت خروج زيد وعمرو وبكر، وإنما المقصود: أنه لم يَزلِ الخروجُ متصلًا، حتى خرج الصغارُ والعبيد؛ لا أنه غايةٌ لخروج زيد وعمرو وبكر، ولما كان الوضوء يُراد للصلاة، وهو المقصود منه: دخلتِ الصلاةُ في جملة الأفعال التي بها التكفيرُ، كانت الجملةُ مُوْجِبة لخروجه كيومَ ولدتْهُ أمُّهُ. السابعة والسبعون بعد المئة: قد تكلم أبو العباس أحمد بن عمر ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) سقط من "ت". (¬3) "ت": "زيد وعمرو".

القرطبي في هذا المعنى، وتعرض للجمع بين الأحاديث بغير ما ذكرناه نحن، فقال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وكانت صلاتُه ومَشْيُه إلى المسجدِ [نافلةً] " يعني: أن الوضوء لم يُبقِ عليه ذنبًا، فلما فَعَل بعدَه الصلاةَ، كان ثوابُها زيادةً له على المغفرة المتقدمة، والنفل: الزيادة، ومنه: نفل الغنيمة: وهو ما يعطيه الإمامُ من الخُمس بعد القَسْمِ. قال: وهذا الحديث يقتضي أن الوضوء بانفراده يستقلُّ بالتكفير، وكذلك حديث أبي هريرة، فإنه قال فيه: "إذا توضَّأَ العبدُ المسلمُ، فغسل وجْهَهُ، خَرَجَ من وجهِهِ كلُّ خَطِيئةٍ نَظَر إليها بعينه" وهكذا إلى أن قال: "حتى يخرجَ نقيًّا من الذُّنوب" وهذا بخلاف أحاديث عثمان المتقدمة؛ إذ مضمونُها: أنَّ التكفيرَ إنما يحصُلُ بالوضوء، إذا صلى به صلاةً مكتوبةً يُتِمُّ ركوعَها وخشوعَها. قال: والتلفيق من وجهين: أحدهما: أن يُرَدَّ مطلقُ هذه الأحاديث إلى مُقيَّدِها. والثاني: أن نقول: إن ذلك يختلف بحسب اختلاف أحوال الأشخاص، فلا بُعدَ في أن يكون بعضُ المتوضِّئين، يحصُلُ له من الحضور [و] مراعاة الآدب المكملة، [ما يستقلُّ] (¬1) بسببها وضوءه بالتكفير، ورُبَّ متوضيءٍ لا يحصل له مثلُ ذلك، فيكفر عنه بمجموع الوضوء والصلاة. قال: ولا يُعتَرضُ [على] هذا بقوله - عليه الصلاة والسلام -: ¬

_ (¬1) سقط من "ت".

الثامنة والسبعون بعد المئة

"مَنْ أتمَّ الوضوءَ كما أمره الله، فالصلواتُ المكتوبة كفاراتٌ لِما بينهن" (¬1)؛ لأنَّا نقول: إن من اقتصر على واجبات الوضوء، فقد (¬2) توضأ كما أمره الله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: "توضَّأ كما أمركَ الله" (¬3)، فأحاله على آية الوضوء كما قدَّمناه. وكذلك ذكر النسائي من حديث رفاعة بن رافع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها لم تتمَّ صلاةُ أحدِكُم، حتى يُسْبغَ الوضوءَ كَمَا أمرهُ الله، فيغسلَ وَجْهَهُ، ويَدَيهِ إلى الِمْرفْقَين، ويمسحَ بَرِأْسِهِ (¬4)، ورِجْلَيهِ إلى الكعبين" (¬5)، ونحن إنما أردنَا المحافظةَ على الآداب المكمِّلة، التي لا يُراعيها إلا من نوَّرَ اللهُ باطنَه بالعلمِ والمُرَاقبةِ، والله أعلم (¬6). الثامنة والسبعون بعد المئة: يحتمل وجهًا آخر؛ وهو أن يكون المراد: أنَّ العبدَ المسلمَ من حيث هو مسلمٌ يحصُلُ له الثوابُ العظيمُ المرتَبُ على هذا العملِ اليسيرِ، ويكون المقصود: أنه لا يتوقَّف هذا الثوابُ العظيم في حقِّ العبدِ المسلم على أمور عظيمة شاقَّةٍ، بل ¬

_ (¬1) رواه مسلم (231)، (1/ 208)، كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه، من حديث عثمان - رضي الله عنه -. (¬2) في الأصل "فقال" بدل "فقد" والمثبت من "ت". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) "ت": "رأسه". (¬5) رواه النسائي (1136)، كتاب: التطبيق، باب: الرخصة في ترك الذكر في السجود. (¬6) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 491 - 492).

التاسعة والسبعون بعد المئة

يحصل بمثل (¬1) هذا, ولا يلزم من هذا المعنى أن يحصلَ لكل عبد مسلم، حتى يحتاج إلى تخصيصه ببعض الأحوال في حقِّ بعض المتوضئين، الذي دلَّ العمومُ عليه، ولا إلى حمل المطلق على المقيد؛ لأنَّا على هذا التقدير نجعلُ الألفَ واللاَم ليست للعموم في حقِّ كل فردٍ، وأن المعنى: أن من شأن العبدِ المسلمِ أن يحصُلَ له هذا الثوابُ. التاسعة والسبعون بعد المئة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ هو قَامَ، فصلَّى، فحَمِدَ الله، وأَثْنَى عليه بِما هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وفرَّغَ قلبَه للهِ" يقتضي ظاهرُه حصولَ هذا الثواب عند حصول هذا المسمّى من هذه الأمور، وقد يتعلق به من لا يوقف الصحةَ على عينِ الفاتحة، لحصول مسمَّى الحمدِ والثناء إذا فَعَل ذلك بغير الفاتحة، كقراءة شيءٍ من القرآن غيرِها، وقد حصل المسمَّى فحصل الاكتفاءُ، لكنَّ المخالفَ لهُ يأخذُ تعيينَ الفاتحة من دليل آخرَ، ولا يعارِضُه هذا، كما أنه يَشترطُ القراءة، ولا يكتفي بمجرد الحمد والثناء من غير قرآنٍ بدليلِ من خارج، ولا تبقى إلا أمورٌ جدليَّة من الجانبين، مثل أن يقول من لا يُوجب الفاتحة بفرض هذه المسألة، فيما إذا أتى من القرآن بشيء فيه الحمد والثناء: فيجبُ أنْ يُجزئَ، وأنت لا تقول به، ويقول خصمُه بفرضه فيما إذا أتى بهذه الأمور من غير قراءة: فلو صحَّ ما ذكرتُه لوجبَ أنّ يجزئَ، وأنتَ لا تقولُ به، ويتجاذبان الجِدالَ، وطرقُه معروفةٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مثل"، والمثبت من "ت".

الثمانون بعد المئة

الثمانون بعد المئة: قوله: "وأَثنَى عليهِ بالذي هُوَ لَهْ أهلٌ" من العامِّ الذي يُراد به الخاص؛ أعني: العمومَ الذي في (الذي)، وإنما تعيَّن ذلك؛ لأن الثناء بكل ما الله (¬1) تعالى له أهلٌ غيرُ مستطاعٍ من العبد "لا أُحْصِي ثناءً عليكَ، أَنتَ كَمَا أثنيتَ عَلَى نَفْسِك" (¬2)، فيكون المعنى: أُثني عليه بِما هو له أهل، من غير عموم، ليخرجَ عنه الثناءُ الذي لا يليق به تعالى؛ لأنَّ الدعاءَ والثناءَ المتعلِّقين بالله تعالى، لا بدَّ أن يكونَ فيه توقيفٌ، يجوز إطلاقُ ذلك اللفظِ في حقه تعالى، كما هو المختارُ في علم الأصول (¬3). الحادية والثمانون بعد المئة: وإذا كان محمولاً على الخصوص، وتقيَّد ذلك بما هو له أهل، دلَّ ذلك التقييدُ إلى انقسام الثناء إلى أمرين المطلوبُ منهما أحدهما، فيقتضي المذهب القائل: بأن بعضَ ما هو ثناءٌ وثابت في حقّ الله تعالى يتوقَّف إطلاقُه على السمع، إما هذا، أو يدخل تحته هذا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ما لله"، والمثبت من "ت". (¬2) رواه مسلم (486)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) ذكر الحافظ في "الفتح" (11/ 112): أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا اختيار المازري، قال: فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء. بتلك الحروف، ولعله أوحي إليه بهذه الكلمات، فيتعين أداؤها بحروفها، انتهى.

الثانية والثمانون بعد المئة

الثانية والثمانون بعد المئة: وقوله: "فرَّغَ قلبَه للهِ" قد تقدم أن التفريغَ والملءَ حقيقةٌ في الأجسام، مجازٌ في المعاني، والمراد به: إزالة الخواطر والشَّواغِب والوَساوِس المُلْهِية الشَّاغلة عما هو بِصدده، من الإقبال على الله تعالى، وإخلاص التوجُّه إليه، كما جاء في الحديث الآخر: "لا يحدِّثُ فيهِمَا نَفْسَه" (¬1). الثالثة والثمانون بعد المئة: قوله: "وفرَّغَ قلبَه لله" يقتضي: أن يكون ذلك ممكنا له، وذلك صحيحٌ في باب الأمرِ والترغيبِ معًا؛ أما في الأمر؛ فظاهرٌ، وأما في الترغيب؛ فلأنَّ المقصودَ به اتحادُ الفعل، فإن لم يكن ممكنا، لم يحصلِ المقصودُ بالترغيب. الرابعة والثمانون بعد المئة: فالأقرب أنه إنما يتناول التفريغَ المنتشرَ عنه عادةً، وتخرج عنه الوساوسُ التي لا يمكن دفعُها، فيكون معفوًّا عنها، غيرَ مُشْتَرطةٍ في حصول الثواب المذكور تيسيراً على المصلّين، ويحتملُ أن يكونَ المرادُ الحقيقةَ، وهي نفيُ جميع الشَّواغبِ والخواطرِ، لكن بواسطة تحصيلِ الأسباب الموجبةِ لذلك، وإزالةِ الموانع، وتحصيل هذه وإزالة تلك من الممكنات؛ بكثرة ذكر الله تعالى، حتى يَعْمُرَ القلبُ ويُنفى كلُّ خاطرٍ، كما يحكى عن بعض أكابر الصالحين والسلف، لكنه شديدٌ وتشديدٌ، والأقربُ إن شاء الله هو الأول، وربما تُشْعِر به بعضُ هذه الألفاظ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الخامسة والثمانون بعد المئة

الخامسة والثمانون بعد المئة: ظاهر الحديث خروجُه من جميع ذنوبه، كبيرِها وصغيرِها، وقد خصُّوه أو مثلَه بالصَّغائرِ، لما [جاء] (¬1) في الحديث الآخر: "الصَّلواتُ الخَمْسُ، والجمعةُ إلى الجُمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ؛ مُكفِّراتٌ لِما بينهنَّ، إذا اجتُنِبَت الكَبائُر" (¬2). قال بعضهم: يدلُّ على أنَّ الكبائرَ إنما تُغفرُ بالتوبة المعبَّرِ عنها بالاجتناب في قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] قال: وعلى هذا فقوله: "حتىَّ يخرجَ نقيًّا من الذُّنوبِ" يعني [به] (¬3): من الصغائر. قال: ثم لا بُعدَ أن يكون بعضُ الأشخاص تُغفر له الكبائُر والصغائرُ، بحسب ما يحضُرُه من الإخلاص، ويراعيه من "الإحسان والآداب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (¬4). قلت: أما قوله: يدلُّ على أنَّ الكبائر إنما تغفر بالتوبة، فيه نظر؛ لأن هذا التقييد باجتناب الكبائر إنما وردَ بالنسبة إلى تكفيرِ هذه الأمور، ولا يلزمُ من اشتراطِه في هذه الأمور اشتراطُه في غيرِها، فإن مراتبَ العبادات مختلفةٌ، والثواب مرتَّبٌ على حسب عِظَمِ رتبَتِهَا ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 492).

السادسة والثمانون بعد المئة

ونقصِه، ولا طريقَ لنا إلى العلم بحقيقة ذلك، حتى يُمكنَنا التعديةَ من المكان المشترطةِ فيه، إلى المكان الذي لم تُشترط فيه، وعلى ذهني أني سمعت بعضَهم يذكر الاتفاقَ على أن الكبائر لا تُغفر إلا بالتوبة، فإن صحَّ ذلك بطريق ثابت، فهو دليل على التخصيص الذي ذكروه. وأما قوله: بالتوبة المعبَّر عنها بالاجتناب في قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] ففيه غَور ينفي فيه مذهب المعتزلة، ويردُّه إلى مذهبه؛ ليحملَ المجاز في لفظة الاجتناب، وحملُها على التوبة، فنذكرها الآن. السادسة والثمانون بعد المئة: هذا الذي ذكرناه هو بحسب هذه الرواية, وفي بعض ما رأيت من طرق هذا الحديث: "ثم يقومُ فيحمد الله غز وجل، ويثني عليه الذي هو له أَهلٌ، ثم يركعُ ركعتينِ، إلا خَرَجَ من ذُنوبِهِ كَهيئتِهِ يومَ ولدتْهُ أمُّه" (¬1)، فليحقَّق ذلك، ومقتضاه: أن يكون الثناء قبل الركعتين، فيبطل هذا الاستدلالُ بالكليِّة. وفي رواية أخرى من جهة ابن البيلماني عبد الرحمن: "فإذا قام إلى الصلاةِ، وكان (¬2) هو وقلبُه، ووجهُه، أو كلُّه (¬3) نحوَ الوجه إلى الله، ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 112)، من طريق عكرمة بن عمار، عن شداد بن عبد الله، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، به. (¬2) في الأصل: "فكان"، والمثبت من "ت". (¬3) "ت": "كلمة".

انصرف كما ولدتْهُ أُمُّه" (¬1)، واللفظ يحتمل الأمرين، أعني: أن يكون قبلَ أو في الصلاة، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 113).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ الأَلْمَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى مِن إِصْدَارَاتِ وَزَارَة الشُّؤُونِ الإِسْلَامِيَّةِ وَالأَوْقَافِ وَالدَّعْوَةَ وَالإِرْشَادِ المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السُّعُودِيَّةُ 1429 هـ - 2008 م الطَّبْعَةُ الثَّانِيَة مِنْ إِصْدَارَاتِ دَارُ النَّوَادِرِ 1430 هـ - 2009 م دَارُ النَّوَادِرِ لصاحبها ومديرها العام نُورِ الدِّين طَالِب سوريا - دمَشق - ص. ب: 24306 لبنان - بيروت - ص. ب: 5180/ 14 هاتف: 00963112227001 - فاكس: 00963112227011 www.daralnawader.com

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر وفي حديث جابر في حَجَّة الوداع، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[من رواية النَّسائي] (¬1): "ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ" (¬2). والحديث في "الصحيح"، لكن بصيغة الخبرِ: "نَبْدأُ"، أو "أبَدأُ"، لا بصيغة الأمر، والأكثرُ في الرواية هذا، والمَخْرَج للحديثِ واحدٌ. أما جابر - رضي الله عنه - فقد مرَّ ذِكْرُه. وأما إيرادُ الحديثِ على الوجه، فسيأتي في كتاب الحج إن شاء الله تعالى؛ لأنَّه أَولى به، والله أعلم. الكلام عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) زيادة من "الإلمام" للمؤلف (ق 7/ ب)، وكذا في المطبوع منه (1/ 73). (¬2) * تخريج الحديث: رواه النسائي في "السنن الكبرى" (3968)، مطولاً، من حديث حاتم بن إسماعيل، عن جعفر ين محمد, عن أبيه، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، به. وإسناده صحيح. وسيأتي تخريج طرق وألفاظ الحديث في الوجه الثالث من الكلام على هذا الحديث.

[الوجه] الأول: في تصحيحه

* الأول: في تصحيحه، وفيه مسائل: الأولى: قد ذُكِرَ أن النَّسائيَّ أخرجه، ولم يُضفْه إلى كتاب مسلم، وإنْ كان مسلمٌ أخرج الحديث بكماله؛ لأنَّ المقصودَ هنا بإيراد هذه القطعة منه: ذكرُ ما احتُجَّ به على وجوب الترتيب، وهو قولُه: "ابدؤوا بما بدأ الله به"، والمَأخذُ صيغةُ الأمَرِ التي ظاهرُها الوجوبُ، وصيغة الأمر (¬1) لم ترد في كتاب مسلم، ولم يُحْسِنْ من يقول إذا احتج بهذه اللفظة: أخرجه مسلم، وإنما قلنا ذلك لشيء نذكره الآن. الثانية: معلوم أنَّ نظرَ المُحَدِّثِ من حيث هو محدِّثٌ، إنما هو في الإسناد، وما يتعلَّق به، لا من جهة استنباطِ الأحكامِ من الألفاظ ومدلولاتِها، فإن تَكلَّم في ذلك، فمن حيث هو فقيه (¬2)، وكذلك العكس نظرُ الفقيهِ فيما يتعلق بالاستنباط من الألفاظ ومدلولاتها، فإن تكلَّمَ في الأسانيد فمن حيثُ إنه مُحَدِّثٌ، فإذا كان كذلك فالمحدث إذا قال بعد حديث: أخرجه فلان، فإنما يريد أصلَ الحديث، ولا يريد أنه أخرجه بتلك الألفاظ بعينها؛ لأنَّ مُوْجِب (¬3) صناعته تقتضي ذلك، ولهذا عملوا الأطراف، واكتفَوا بذكر طرق الحديث، وقالوا: أخرجه ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأمر التي"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل و "ت": "محدث"، وقد جاء فوقها في "ت": كذا، وكتب في الهامش: لعله "فقيه". قلت: وهو الصواب فأثبته. (¬3) في الأصل "موجبها"، والمثبت من "ت".

الثالثة

فلان وفلان، والفقيهُ إذا أراد أن يحتجَّ بلفظة يقتضي مدلولُها حكماً يذهب إليه، وقال: أخرجه مسلم، أو فلانٌ من الأئمة؛ فعليه أن تكونَ تلك اللفظةُ التي استنبط منها الحكمَ موجودة في رواية [مسلم؛ لأنه مقتضى ما يلزمُه من صناعته، فيلزَمْ على هذا أن لا يُتَرْجِمَ ليستدلَّ على حكمٍ يُدخِلُه تحت الترجمة، حتى تكون تلك اللفظةُ موجودةً في رواية] (¬1) مَنْ نَسَبه إليه، فمن قال بعد إيراد هذا الحديث للاحتجاج بهذه اللفظة: أخرجه مسلم، فلم يُحْسِن؛ لأن موضعَ الحُجَّةِ صيغةُ الأمر، وليست في كتاب مسلم. الثالثة: في معنى قوله في الأصل: (والأكثر في الرواية هذا، والمخرج للحديث واحد): الحديث يرجعُ إلى جعفرِ بن محمدٍ، عن أبيه، عن جابر، رواه عنه جماعة: مالك، وإسماعيل بن جعفر، وابنُ جُرَيْجٍ، وسليمانُ، وحاتم بن إسماعيل؛ ففي رواية مالك من رواية ابن وهب عنه: "نبدأ بما بَدَأ الله به" (¬2)، وهو عند أبي عَوانة (¬3). وكذلك في رواية القَعْنبيِّ، عن مالك، عن أبي مسلم: "نبدأ بما بدأ الله [به] (¬4) " يريد الصفا. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 372)، ومن طريقه: النسائي (2969)، كتاب: المناسك، باب: ذكر الصفا والمروة، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 388). (¬3) لم أقف عليه في المطبوع من "مسنده". (¬4) سقط من "ت".

وكذلك في رواية (¬1) ابن جريج: "نبدأ بما بدأ الله به" وقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. وكذلك في رواية سليمان، ورواية القعنبيِّ عنه: فلمَّا جاء الصفا قال: "نبدأ بما بدأ الله به"، وهو أيضاً عند أبي عوانة (¬2). وأما حديثُ حاتم بن إسماعيل، عن (¬3) جعفر بن محمد، فرواه عنه جماعةٌ: أبو بكر بن أبي شيبة، وأخوه عثمان، وعبد الله بن محمد النُّفَيْلي، وسليمان بن عبد الرحمن، والهيثمُ بن معاوية، وإسحاق بن إبراهيم، وهشام بن عمار، وإبراهيم بن هارون البَلْخي. فأمَّا رواية [إسحاق] (¬4) بن إبراهيم، وأبي بكر بن أبي شيبة، فعنهما روى مسلم الحديثَ وفيه: "نبدأ" (¬5)، وأبو بكر وإسحاق بَحْرَانِ من بحور الحفظ، وإسحاق منهما سيل جارف، وأخرجه أبو نُعَيْم الحافظ في "المخرَّج على كتاب مسلم" من طرق، وجعل اللفظ فيها عن شيخين له، عن الحسن بن سفيان، عن هشام بن عمار، وأبي بكر بن أبي شيبة، وساق الحديث إلا أن فيه: "أبدأ" (¬6)، وأخرجه أبو عبد الله الحاكم في "مستدرَكِهِ" من حديثهما معاً، ¬

_ (¬1) في الأصل: "رواية أخرى". (¬2) وانظر: "الإمام" للمؤلف (2/ 6). (¬3) "ت": "أن" بدل "عن". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه مسلم (1218)، كتاب: الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) انظر: "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (3/ 316).

الوجه الثاني: في شيء من العربية

وفيه: "نبدأ" (¬1). وأما رواية عثمان بن أبي شيبة، والنُّفيلي، وسليمان، وهشام بن عمار؛ فهي عند أبي داود (¬2). وأما الرواية التي فيها: "ابدؤوا" بصيغة الأمر، فهي عند النسائي، عن إبراهيم بن هارون البلخي، عن حاتم بن إسماعيل (¬3). * * * * الوجه الثاني: في شيء من العربية: [الأولى]: ما في قوله - صلى الله عليه وسلم - "بما بدأ" يمكن أن يكون بمعنى الذي، ويجوزُ أن يكونَ بمعنى النَّكِرَة الموصوفةِ، ولا شكَّ أن الإشارة إلى ما في الكتاب العزيز من قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ ¬

_ (¬1) لم أقف علمه في المطبوع من "المستدرك". (¬2) رواه أبو داود (1905)، كتاب: المناسك، باب: صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد رواه الترمذي (862)، كتاب: الحج، باب: ما جاء أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، من حديث سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد، به، وفيه: "نبدأ". ورواه ابن ماجه (3074)، كتاب: المناسك، باب: حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من حديث هشام بن عمار، عن حاتم بن إسماعيل، به، وفيه أيضًا: "نبدأ". (¬3) كما تقدم في "سننه الكبرى" برقم (3968). تنبيه: جاء على هامش "ت": "بياض نحو ثمانية أسطر من الأصل"، ولم يشر إليه في "م".

الثانية

شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] يدل السياق والقرائن من تلاوة الآية مع ذلك، وهو يقوِّي كونَها بمعنى (الذي)؛ لأنَّ صلتها لابدَّ أن تكون معلومةً للمخاطب. الثانية: ينبغي أن تَنْظُر - إذا أردت الاستدلال بالعموم في: "ابدؤوا بما بدأَ اللهُ به" - أيَّ اللفظين أقربَ إلى الدلالة على العموم، وكأنَّ النكرةَ الموصوفةَ أقربُ إلى ذلك باعتبارٍ، لكن ذلك بعد النظر في ترجيح حملِها على أن تكون نكرة موصوفة، وقد ذكرنا أن الأقربَ ترجيحُ أن تكون بمعنى (الذي)، وإنما قلنا: إنَّ النكرة الموصوفةَ أقربُ إلى العموم من الموصولة؛ لأنّ الموصولة إذا عاد الأمرُ فيها إلى وجوبِ معرفةِ المخاطب بصلتها، جاز أن يكون الحكمُ معلَّقاً بالخصوص، فإن جاء التعميم، فإنَّما (¬1) هو من طريق المفهوم من العلةِ، التي هي كونُ الله تعالى بدأ به، بخلاف ما إذا جعلناها نكرةً موصوفة باعتبارٍ، كما ذكرناه، فإنه حينئذ لا يمكن على خصوص وتأويل معنى قولنا باعتبار جيداً. * * * * الوجه الثالث: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: قد ظهر لك أن المقصودَ بذكر الحديث هاهنا: الاستدلالُ باللفظ على وجوب الترتيب، وقد استدلَّ بذلك ¬

_ (¬1) في الأصل: "وإنما"، والمثبت من "ت".

الثانية

الظاهري (¬1)، وبعض الشافعية، أو كثير منهم (¬2)، والاستدلال مبنيٌّ على تصحيح هذه اللفظة، فإن فيه نظراً بعد تسليم الصحَّة، بالنسبة إلى عدالة الرواة، وعلى العموم، ودلالةُ صيغة الأمر على الوجوب؛ فأما دلالة الأمر على الوجوب: فلا يُتكلَّم فيه؛ لأنَّها الطريقة الفقهية، والعمل باللفظ والعموم ففيهما، أما العمومُ ففيه كلام سيأتي. الثانية: مما يتوقف الاستدلال عليه: ترجيحُ العمل بهذه اللفظة المعيَّنة، أعني: صيغةَ الأمر، وراويها (¬3) عند النسائي إبراهيم بن هارون البَلْخي، وثَّقه النسائي، وكذلك إسناد حديث سفيانَ الثوريِّ، عن جعفر عند الدارقطني إسناده جيد (¬4)، لكنْ إذا تبيَّن أن الحديثَ واحدٌ من مَخرجٍ واحد، وسِياقَةٍ واحدة للحديث الطويل إلى موضِعِ ذِكْرِ هذه اللفظة المختلفِ فيها، بعد أن يكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال الألفاظ الثلاثة في وقتٍ واحد - أعني: "أبدأ"، "ونبدأ"، و"ابدؤوا" - غلب على الظنِّ أن الطريقَ الواضحَ طَلَبُ الترجيح، فإنْ رجَّحنا بالكثرة، فارجعْ إلى الروايات التي ذكرناها تجدِ الأكثرَ على غير لفظة "ابدؤوا" عن جعفر وعن حاتم، وإن رجعنا في الترجيح إلى الحفظ، فيظهر أن الترجيح عن حاتم بن إسماعيل غير لفظة "ابدؤوا"؛ لوجود الحفاظ الكبار عنه، بخلاف اللفظة كابن راهويه وأبي بكر، مع متابعة من ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 66). (¬2) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 30). (¬3) في الأصل: "ورواتها"، والمثبت من "ت". (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 254).

الثالثة

تابَعهما (¬1) من عثمان، وهو معدود في الحفاظ، والنفيلي، وسليمان، لكنَّ سفيان الثوري جبلٌ من الجبال، ذروةٌ في الحفظ إنِ امتدتْ إليها الأيدي فقد لا تنال، لكنَّ من دونه من الرواة هم الذين يحتاجون إلى النظر في حالهم، بالنسبة إلى الحفظ، لا بالنسبة إلى العدالة، فعليك بذلك، فإن ظهر الترجيحُ بينهم، وبين الرواة، وبين من خالف عن جعفر غير سفيان مع سفيان، فاعمل به. فإن قلت: فمن ذا الذي يقابل سفيان؟ قلت: [مالك] (¬2) بن أنسٍ جبلٌ في الحفظ، وقد قال عبد الرحمن ابن مهدي: وما في القوم أصلحُ حديثاً من مالك (¬3)، وقد خالف في هذه اللفظة على ما حكيناه، فيُنْظَر في الواسطة عنه، والواسطة عن سفيان، فإن لم يظهر ترجيحٌ بوجهٍ من الوجوه، وظهر أن اللفظةَ المذكورةَ في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - واحدةٌ، وقعتِ الدَّلالةُ فيها. الثالثة: من القواعدِ الفرقُ بين صيغةِ العمومِ المذكورة مقصوداً بها العموم، وتأسيس القواعد الشرعيَّة، منفيًّا عنها قرائنُ الخصوص، والفرقُ ظاهر؛ فإنَّ العمومَ يُخصَّصُ بالقرائن على ما نصَّ عليه بعضُ أكابرِ أهل الأصول، ويشهد - أيضاً - لذلك مخاطباتُ الناسِ بعضهم ¬

_ (¬1) في الأصل: "تابعها"، والمثبت من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/ 14) بلفظ: ما أُقدِّم على مالك في صحة الحديث أحداً.

الرابعة

بعضاً، حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم بناءً على القرينة، والشرعُ يخاطب الناسَ بحسب تعارُفِهم (¬1). الرابعة: لا يشتبهنَّ عليك التخصيصُ بالقرائن بالتخصيصِ بالسبب، كما اشتبه على كثيرٍ من الناس، فإن التخصيصَ بالسبب غيرُ مختار، فإن السبب وإن كان خاصًّا، فلا يمتنع أن يُوْرَدَ لفظٌ عامٌّ يتناولُه وغيرَه، كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ولا ينتهضُ السببُ بمجرده قرينةً لرفع هذا، بخلاف السياق، فإنَّ به يقع التبيينُ والتعيينُ، أما التبيين: ففي المُجْمَلات، وأما التعيين: ففي المُحْتَمِلات، فعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات، تجدْ منه ما لا يمكنك حصرُه قبل اعتباره (¬2). الخامسة: لقائل أن يقول: السياقُ والقرائنُ ترشد إلى أن المراد "بما بدأ الله به" الصفا من القرينتين الحالية والمقالية؛ أما الحالية: فلأنَّ الحاجة إنما مسَّت حينئذ إلى ما يبدأ به من الصفا أو المروة، والمذكور من اللفظ إنما هو لبيانِ ما مسَّتِ الحاجةُ إليه. وأما المقالية: فتلاوة الآية عقب (¬3) هذا اللفظ، بالروايات (¬4) التي ذكرنا، فإنها ترشد إرشاداً قوياً أن المرادَ ذِكْرُ اللفظ الذي فيه البداءة ¬

_ (¬1) نقله عن المؤلف: الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 503 - 504). (¬2) نقله عن المؤلف: الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 504). (¬3) "ت": "عقيب". (¬4) في الأصل و "ت": "فالروايات"، ولعل الصواب ما أثبت.

السادسة

بالصفا، ليكون فيه تمام المراد، لا سيما في الرواية التي فيها: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فابدؤوا بما بدأ الله به" من جهة دلالة الفاء المقتضيةِ للتعليل، ويصير التقديرُ: فابدؤوا بما بدأ الله به من ذلك. السادسة: من يريدُ الاستدلالَ بعمومه، يمكن أن يقول: لا أجعل التمسُّكَ به من جهة العمومِ اللفظيِّ، بل من جهة عمومِ الحكمِ بعموم علَّته، وفيه إحواجٌ إلى التفاتٍ إلى دلالة السياق على التخصيص، وإلى أمر آخر نذكره الآن إن شاء الله تعالى. السابعة: مما يُضْعِفُ به العمومَ بعضَ الضعفِ كثرةُ ورود التخصيص فيه، وبالعكس يقوى بقلَّة التخصيصِ فيه، والسببُ فيه: أنَّه إذا قلَّ التخصيصُ ظهرَ قصدُ التعميم، وبالعكس إذا كثرَ التخصيصُ ظهر قصدُ [عدم] (¬1) التعميم، ولا يعارِضُ هذا أن قصدَ التعميم غيرُ مُعْتَبَرٍ في العموم؛ لأنَّ عدمَ اعتباره إنما هو بمعنى عدمِ اشتراطه، ولا ينافي ذلك قوتَه، أو ضعفَه من وجه آخر، وإذا اعتبرت هذا وجدته كذلك، ألا ترى أنك تشعر بضعف الاستدلال في المسألة الجزئية، بالعمومات البعيدةِ التناولِ لها؟! تجد ذلك بالتأمل في الجزئيات. الثامنة: فإذا كان كذلك، فوجوبُ البَداءة بما بدأ الله بذكره، يخرج عنه بالتخصيص أمورٌ كثيرة؛ كـ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

التاسعة

الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، تتبَّعْها لتجدها (¬1) كثيرةً، فإن كانت كثيرةً، فهي على القاعدة التي قبلَها، وإلا فَمِنَ المشهورِ عند الخلافيين القياسُ على محلِّ التخصيص بجامعٍ يُبْدُونه، فإذا فعلْتَ ذلك، فانظر إلى مرتبة ذلك القياس مع هذا الظاهرِ الذي دلَّ السياقُ على عدم قوة إرادة العمومِ، [و] (¬2) وازن بين الظَّنَّين، واعملْ بالأرجح. التاسعة: البَدَاءة بالشيء لا يطابق ذكرُه قبلَ شيء آخرَ مطابقةَ التَّرادُفِ، فإنَّ ذكرَه قبل شيء آخرَ إنما هي بَداءةٌ مقيدةٌ بإضافتها إلى ذلك الآخر، فأما البَداءةُ المطلقةُ فإنما تقتضي الأوليةَ المطلقةَ لا المقيدةَ بالإضافةِ، والبَداءة في الحديث مطلقةٌ، فتقتضي الأوليةَ المطلقة، ألا ترى! أنه يمكن نفيُ البَداءة بالذكر لأحد الشيئين على ما بعدَه، فتقول: ما بدأ به، ولا يمكن نفيُها عن أولِ مذكورٍ، حتى تقول: ما بدأ بكذا، فظهر الفرقُ بين الأمرين، وأن البَداءةَ المطلقةَ لا تطابقُ البداءةَ المضافَة تطابقَ التَّرادُفِ. العاشرة: فإذا كان كذلك، والبَداءةُ بالحديث مطلقةٌ، فلو تناولتْ محل النزاع، ودلَّت عليه، لم تدلَّ إلا على البداءة بالوجه في الوضوء، فالذي يريد أن يثبتَ باللفظ وجوبَ الترتيب بين اليدين، والرأس، والرجلين، مع قصور دَلالةِ اللفظ عن ذلك، يكون مُثْبِتاً للشيء بما لا يدل عليه. ¬

_ (¬1) كتب فوقها في "ت": "كذا". (¬2) زيادة من "ت".

فإن قلتَ: إذا ثبت وجوب البَداءة بالوجه، وجب الترتيب في باقي الأعضاء، لعدمِ القائلِ بالفرق، قلتُ: الجواب من وجهين: أحدهما: مناقشتُه، وهي أن يقال حينئذ: يكون الدليلُ مبنياً على مقدمتين؛ إحداهما: وجوبُ البَداءة بالوجه، والثانية: إجماع لا قائلَ، مع أن المستدلِّين عن آخرِهم إنما استدلُّوا بلفظ الحديث. والثاني: تحقيقيٌّ، وقد تقدمت الإشارةُ إليه فيما مضى، وهو: أن دليلَ الحكم ومنشأَ قولِ المجتهد، هو ما يبعثُه من جهة اللفظ على القولِ بالحكم، ومُحالٌ أن يبعثَه القاصرُ الدّلالةِ على أزيدَ مما يدلُّ عليه، والذي يُظهِر لك هذا أن الدلائلَ الشرعيةَ عامةٌ لكل مجتهدٍ في كل وقت، والحادثةُ لابدَّ وأن يكونَ النظرُ فيها مُبْتَدأً به في زمنٍ من الأزمنة، يَحكمُ فيه المجتهدون بمقتضى دلالةِ اللفظ، وذلك الزمن لم يسبقه إجماعٌ، فلا يجوز أن يثبتَه المجتهدُ بدليل قاصرٍ، وإنما يتمُّ هذا، إن تمَّ في العصر الثاني، وحينئذ يكون الدليلُ مجموعَ مقدمتين، كما قلناه، ولا يكون اللفظُ مُنْشِئاً للحكم، ومُوْجِباً لقولِ المجتهدين.

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر وروى البخاريُّ حديثَ شقيقِ بنِ سَلَمَةَ في التيمم، عن عمَّارٍ، وفيه (¬1): فتمرَّغْتُ في الصَّعِيْدِ كمَا تَمَرَّغُ الدَّابةُ، فذكرتُ ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنَّما كَانَ يَكْفِيْكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا" وَضَرَبَ بكفَّيهِ ضَرْبةً عَلَى الأَرْضِ، ثَمَّ نَفَضَهما (¬2)، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَ شِمَالِه بِكَفِّهِ، أو ظَهْرَ كفِّهِ بِشِمَالهِ (¬3)، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ (¬4). وأخرج الإسماعيليُّ في بعض طُرقِهِ: "إِنَّما كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ ¬

_ (¬1) في "الإلمام" للمؤلف (ق 7/ ب) بخط الإمام ابن عبد الهادي، وكذا في المطبوع منه (1/ 73): "وفيه عن عمار". (¬2) في الأصل: "نفضها"، والمثبت من "ت". (¬3) في "الإلمام" للمؤلف، وكذا المطبوع من "صحيح البخاري": "ثم مسح ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه". (¬4) * تخريج الحديث: رواه البخاري (340)، كتاب: التيمم، باب: التيمم ضربة، ومسلم (368/ 110)، كتاب: الحيض، باب: التيمم، وأبو داود (321)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم، والنسائي (320)، كتاب: الطهارة، باب: تيمم الجنب، كلهم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، به.

[الوجه] الأول: في التعريف

تَضْرِبَ بيديكَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ تنفُضُهُمَا، ثُمَّ تَمسَحُ بيمينِكَ عَلَى شِمَالِكَ، وشِمَالِكَ عَلَى يِمِينكَ، ثُمَّ تمسَحُ عَلَى وَجْهِكَ" (¬1). الكلام عليه من وجوه: * * * * الأول: في التعريف: أما عمار - رضي الله عنه -: فهو أبو اليقظانِ عمارُ بنُ ياسر بن عامر بن مالك ابن كنانةَ بن قيس بن الحُصين (¬2) بن الوليد بن ثعلبة بن عوف بن حارثة ابن عامر الأكبر بن يَام بن عَنْس، والوليدُ في نسبه قد قال فيه الوَذِيم - بفتح الواو وكسر الذال المعجمة - واعتمده بعضهم، فلم يذكر غيره، وهو الذي ذكره في كتاب "ذيل المُذَيَّل" لأبي جعفر الطبري، وفيه: يَام، أوله آخر الحروف. وعَنْس في نسبه - بفتح العين، وإسكان النون، وآخره سين مهملة - هو الذي تُنْسَب إليه القبيلة، واسمه: زيد بن مالك بن أدد بن زيد بن يَشْجُب بن عُرَيب بن زيد بن كَهْلان بن سَبأ بن يَشْجُب بن يعرُب بن قحطان، كذا ذكره هانئ بن المنذر، فيما حكاه الأمير عنه، وهي قبيلة فيها جماعةٌ من أهل العلم معروفون بسُكنى الشام، ومنها ¬

_ (¬1) رواه الإسماعيلي في "المستخرج على البخاري"، كما ذكره المؤلف في "الإمام" (3/ 135)، والزيلعي في "نصب الراية" (1/ 35)، وابن حجر في "فتح الباري" (1/ 457). (¬2) في الأصل و "ت": "الحصيم" بالميم، والمثبت من مصادر ترجمته.

العَنْسِي الكذَّابُ، الذي ورد ذكرُه في الحديث، واسمه عَبْهَلة (¬1). وكان عمار - رضي الله عنه -، وأبوه، وأمه، من الأولين السابقين إلى الإسلام، وكان إسلامُه وإسلامُ صهيبٍ في وقت واحد، حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقمِ بن أبي الأرقم، وأسلم [بعد] (¬2) بضعةٍ وثلاثين رجلاً. وعَن مُجاهد قال: أولُ من أظهرَ إسلامَه أبو بكر، وبلالٌ، وخبَّاب، وصهيب، وعمار، وأُمُّه سُميَّةُ (¬3). وكان عمار وأبوه وأمُّه يُعَذَّبون في الله تعالى على إسلامهم، وَيمُرُّ بهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: "صَبْراً، صَبْراً آلَ ياسِرٍ، فإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجنَّةُ" (¬4). وقَتَل أبو جهلٍ سميَّةَ رضي الله عنها، فهي أول شهيد في الإسلام، وأمُّه سميةُ؛ أَمَةٌ لأبي حذيفةَ بنِ المغيرةِ المَخْزُومي، فحالف ياسراً، وزوَّجَه إياها، فولَدت له عماراً، فأعتقه أبو حذيفةَ، وسميةُ ابنةُ خَبَّاط، بالخاء المعجمة، ثم ثاني الحروف مشدداً، وآخره طاء مهملة، ¬

_ (¬1) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (6/ 91). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 366). (¬4) رواه الحاكم في "المستدرك" (5646)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1631)، عن ابن إسحاق: أن رجالاً من آل عمار أخبروه، فذكره. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (769)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 343)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 368)، عن عثمان - رضي الله عنه -.

هكذا (¬1) رأيته في النسخة القديمة من "ذيل المُذيَّل"، وكذا ضبطه الأمير (¬2)، وذكر الحافظ محمد بن عبد الغني بن نقطة: أن أبا نُعيم ذكرها في الصحابة، وضبطها بالياء المعجمة من تحتها باثنتين، وقد نقله من خطه (¬3). قلت: الأول أولى أن يُعتمدَ عليه. وهاجر عمار إلى المدينة، وشهد بدراً، وأحداً، والخندقَ، والمشاهدَ. قال بعض المتأخرين: واختلفوا في هجرته إلى الحبشة (¬4). وهو خلافُ ما رأيته في "ذيل المُذَيَّل" لأبي جعفر، فإن فيه: وهاجر عمارُ ابنُ ياسرٍ في قول جميع أهل السِّيَرِ إلى أرض الحبشةِ الهجرةَ الثانيةَ، قيل: إن عماراً كان أولَ من بنى لله مسجداً في الإسلام، بنى مسجد قُبَاء، وذكر أبو جعفر الطبريُّ في "ذيل المذيَّل"، عن ابن عمر، وهو محمد قال: رأيت عمارَ بنَ ياسرٍ يومَ اليمامة على صخرة، وقد أشرف، يصيح: أنا عمارُ بنُ ياسر، هَلُمُّوا إليَّ، وأنا أنظر إلى أُذُنِه وقد قُطِعت، فهي تَذَبْذَب، وهو يقاتل أشد القتال (¬5). ¬

_ (¬1) "ت": "كذا". (¬2) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (3/ 375). (¬3) انظر: "تكملة الإكمال" لابن نقطة (2/ 463). (¬4) قاله النووي في "شرح مسلم" (2/ 352). (¬5) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 254)، والحاكم في "المستدرك" (5657)، من طريق محمد بن عمر، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، =

وأستعمله عمر - رضي الله عنه - على الكوفة. ومن فضائله: الروايةُ عن علي - رضي الله عنه - قال: جاء عمار يستأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ائْذَنُوا لَهُ، مرحباً بالطيِّبِ المُطَيَّبِ"، رواه الترمذيُّ وغيرُه، وصححه الترمذيُّ (¬1). ومنها: عن عائشةَ، قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا خُيِّر عمار بين أمرينِ إلَّا اختارَ أَرْشَدَهُما"، رواه الترمذي بإسناد على شرط مسلم (¬2). ومنها: عن حذيفةَ قال: كُنَّا جُلوساً عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنِّي لا أدري ما قَدْرُ بَقائي فيكم، فاقْتَدُوا بالذين من بعدِي" وأَشارَ إلى أبي ¬

_ = عن ابن عمر، قال .. ، فذكره. قلت: في النسختين الأصل و "ت" سقط في إسناد هذا الأثر، والله أعلم. (¬1) رواه الترمذي (3798)، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمار بن ياسر - رضي الله عنه -، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (146)، في المقدمة، باب: فضل عمار بن ياسر، وغيرهما. (¬2) رواه الترمذي (3799)، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمار بن ياسر - رضي الله عنه -، والنسائي في "السنن الكبرى" (8276)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 113)، والحاكم في "المستدرك" (5665)، وغيرهم. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من هذا الوجه إلا من حديث عبد العزيز بن سياه، وهو شيخ كوفي، وقد روى عنه الناس. قلت: ما ذكره المؤلف رحمه الله أن إسناد الحديث على شرط مسلم، نقله عن النووي رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 353)، بل إن غالب الترجمة هنا منقولة عن النووي رحمه الله.

بكرٍ وعمرَ، "واهتدُوا بَهديِ عمَّارٍ، وما حدَّثَكُم ابنُ مسعودٍ فَصَدِّقوه" (¬1). وفي "المسند" عن علقمةَ، عن خالدِ بنِ الوليدِ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ عَادى عَمَّاراً عَادَاهُ اللهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَمَّاراً أَبْغَضهُ اللهُ" (¬2)، وفيه انقطاع بين علقمةَ وخالد. وجاءتِ الروايةُ عنه من جهة عليِّ بنِ أبي طالب، وابن عباس، وأبي موسى، وأبي أُمامة، وجابرٍ، وعبد الله بنِ جعفر من الصحابة. ومن التابعين عن ابن المسيَّبِ، وابن الحنفية، وأبي وائل، وابنِه مُحمَّدِ بن عمَّار. وقيل: إنه رُويَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وستون حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفردَ البخاريُّ بثلاثة، ومسلمٌ بحديث (¬3). وهذا [كما] (¬4) ذكرنا، لا يصحُّ إلا بالنسبةِ إلى كتابٍ مخصوصٍ، والظاهرُ: أن الذي قاله أراد "مسندَ بقيِّ بن مَخْلد" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3799)، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمار بن ياسر - رضي الله عنه -، وقال: حسن، وابن حبان في "صحيحه" (6952)، وغيرهما. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 89)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8269)، وابن أبي شيبة في "المصنف"، (32252)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4796)، والحاكم في "المستدرك" (5674). (¬3) قاله النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 352). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) قلت: وهو كذلك، كما ذكر الذهبي في "السير" (1/ 407). قال الذهبي: ويقال: إن لعمار من الرواية بضعةً وعشرين حديثاً.

وقيل في صفة عمار: إنه [كان] (¬1) آدمَ طويلاً، لا يغيِّر شيْبَه. وكانت وفاته قتلاً بِصِفِّين مع عليِّ - رضي الله عنه - في شهر ربيع الأوَّلِ، وقيلٍ: الآخِر سنة سبعٍ وثلاثين، وهو ابنُ ثلاث، وقيل: أربعٍ وتسعين سنةً. قيل: وأوصى أن يُدفنَ بثيابه، فدفنهُ عليٌّ - رضي الله عنه - بثيابه، ولم يُغَسِّلْهُ (¬2). وأما شقيق بن سَلَمَةَ: فهو أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، أسد خزيمةَ، الكوفيُّ التابعيُّ المخضرم، أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يره. قيل: وروى عن أبي بكر، وسمع عمرَ، وعثمانَ، وعلياً، وابنَ مسعودٍ، وعماراً، وخَبَّاباً، وحُذيفةَ، وأبا موسى، وأسامةَ بنَ زيد، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 246)، "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 25)، "الثقات" لابن حبان (3/ 301)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 139)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1135)، "تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 150)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (34/ 359)، "أسد الغابة " ابن الأثير (4/ 122)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 352)، "تهذيب الكمال" للمزي (21/ 217)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 406)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 575)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (7/ 357).

وابنَ عمرَ، وابنَ عباس، وابنَ الزبير، وأبا الدرداء، وأبا مسعود البدري، والبراء، والمغيرة، وجَرِيراً البَجَلِي، وكعب بن عُجْرةَ، وأبا هريرةَ، وعائشةَ، وأم سلمة، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -. وسمع خلائق من كبار التابعين. روى عنه الشعبي، وعاصم الأحول، والحكم، والسَّبِيعي، والأعمش، وخلائق غيرهم من التابعين، انتهى (¬1). وحكي عنه أنه قال: بُعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنا ابن عشر سنين، أرعى إبلاً لأهلي. وقال: أتاني مصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وروي عنه أنه قال: أدركتُ سبع سنين من سِنِيِّ الجاهلية (¬3). وقيل: إن وفاتَه سنة تسع وتسعين، وقيل: إنه توفي في زمن الحجاج بن يوسف بعد الجماجم. وكان من كبار التابعين بالكوفة وخيارهم، ومن أصحاب ابن مسعود. واتفقا على إخراج حديثه في "الصحيحين". وقال أبو عمر النَّمْرِي: أجمعوا على أنه ثقة حجة. ¬

_ (¬1) نقله المؤلف عن "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 235). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (23/ 159). (¬3) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 245)، وفي "التاريخ الأوسط" (1/ 252)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (23/ 160).

وذكر ابن أبي خيثمة بسنده، وقال: قال لي إبراهيم: خذ عن شقيق، فإني أدركت الناس وهم متوافرون، وإنهم ليعدُّونه من خيارهم (¬1). وروى أيضاً عن مغيرة، قال: قيل لإبراهيم حين ذكرَ كَراهيةَ أصحابه الصلاة على الطِّنْفِسَة، فقيل: إن أبا وائل يصلي على الطنفسة، قال إبراهيم: أما إنه خيرٌ مني (¬2). وروى أيضاً عن عمرو بن قيس، قال: كان شقيق بن سلمة يدخل المرأة، ثم يتشح كما تتشح المرأة. وروى أيضًا عن محمد بن فضيل، عن أبيه، عن شقيق: أنه تعلَّم القرآن في شهرين (¬3). وروى أيضاً عن زِبْرِقان السراج قال: سمعت أبا وائل يقول: إذا أنا متُّ، فلا تؤذنوا بي أحداً (¬4). وروى أيضاً عن عاصم قال: لما مات أبو وائل، قبَّل أبو بردة جبهته (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 245)، وعبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (2/ 560)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (23/ 166). (¬2) ومن طريق ابن أبي خيثمة: رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (23/ 167). (¬3) ومن طريقه: رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (23/ 169). (¬4) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11208). (¬5) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (12075)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 101)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 245).

وروى أيضاً عن الأعمش قال: لقيت أبا وائل يوم الجمعة في إمارة الحجاج، فقلت له: أصليت قبل أن تتزوج؟ قال: نعم، من أنت؟ قال: رجل من المسلمين، قال: مرحباً بالمسلمين فقم. وذكر أيضاً عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي وائل قال: أرسل إلي الحجاج، فأتيته، فقال: ما اسمك؟ قلت: ما أرسل إلي الأمير إلا وقد عرفَ اسمي، قال: متى هَبَطْتُ هذا البلد؟ قلت: ليالي هبط أهله، انتهى (¬1). وعن إبراهيم قال: وما [من] (¬2) قريةٍ إلا وفيها من يدفع عن أهلها به، وأرجو أن يكون شقيقٌ منهم (¬3). وعن عمرو بن مُرَّة قلت لأبي عبيدة ابن مسعود: من أعلم أهل الكوفة بحديث أبيك؟ قال: شقيق (¬4). ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 97 - 98)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (23/ 181). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35660)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 105)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 270)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (23/ 167). (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (23/ 167). * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 96)، "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 245)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 101)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 710)، "تاريخ بغداد" للخطيب (9/ 268)، "التعديل والتجريح" للباجي (3/ 1166)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر =

وأما أبو بكر الإسماعيلي: فهو الإمام أبو بكر أحمدُ بن إبراهيم الإسماعيلي، أحد من جمع بين الحفظِ الواسع للحديث، وبين الفقهِ مع الجلالة في الدنيا، والصيتِ الواسِ، والثناء الجميل. ذكرَهُ الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني في كتاب "الإرشاد". ونقلنا من اختصار الحافظ أبي طاهر السِّلَفي له، قال: أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي كبير المحل في العلم، كان يعرف هذا الشأن، وله تصانيف كثيرة فيه، وفي الفقه كبير. سمع محمدَ بن عثمانَ بن أبي شيبة، والحضرميَّ، وإسماعيلَ المُزَنيَّ الكوفي صاحب أبي نُعيم، وأقرانَهم من العراقيين، وهو من المكثرين في الحديث، ثم سمع من بعدهم بخراسانَ، والرّي. صنف على كتاب مسلم والبخاري، وله في الأبواب والغرائب تصانيف كثيرة، كتب إلي على يدي جعفر بن محمد الصائغ القزويني، ومات بعد السبعين والثلاث مئة (¬1). ¬

_ = (23/ 152)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 235)، "تهذيب الكمال" للمزي (2/ 548)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 161)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 317). (¬1) * مصادر الترجمة: "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (2/ 793)، "تاريخ جرجان" للسهمي (ص: 109)، "التقييد" لابن نقطة (ص: 128)، "سير أعلام النبلاء" (16/ 292)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (3/ 947)، "طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 7).

الوجه الثاني: في إيراد الحديث بتمامه على الوجه

قلت: أما كتابه على البخاري، فقد اتصلتْ روايتُه إلى زماننا من جهة البَرقاني عنه، وأما كتابُ مسلم، فلم يصلْ إلينا، ولكنْ رأيت جمعه لأحاديث جماعة؛ أيوب السختياني، ومِسْعَر بن كدام، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، وزيد بن أبي أُنيسة، وهي كتب مفيدة تدل على اتساعٍ في الرواية كثير، وجمع للمشايخ والطرق كبير. * * * * الوجه الثاني: في إيراد الحديث بتمامه على الوجه: رواه البخاري، عن محمد بن سَلاَم - بتخفيف اللام -، عن أبي معاويةَ، عن الأعمشِ، عن شقيقٍ قال: كنتُ جالساً مع عبد الله، وأبي موسى الأشعريِّ، فقال له أبو موسى: لو أنَّ رجلاً أجنبَ، فلم يجدِ الماءَ شهراً، أما كان يتيمم ويصلي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فقال عبد الله: لو رُخِّص لهم في هذا، لأوشكوا إذا بَرَدَ عليهم الماء، أن يتيمموا الصعيدَ، قلت: وإنما كرهتم هذا لذا (¬1)؟ قال: نعم، فقال أبو موسى: ألم تسمعْ قول عمارٍ لعُمَرَ: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فأجنبتُ، فلم أجدِ الماء, فتمرَّغتُ في الصعيد كما تَمَرَّغُ الدابةُ، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما كان يكفيك أن تَصْنَعَ هكذا"، وضربَ بكفِّه ضربةً على الأرض، ثم نفضَها، ثم مسحَ بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه، فقال عبد الله: أفلم تر عمر ¬

_ (¬1) في الأصل: "الداء"، والمثبت من "ت".

الوجه الثالث: في تصحيحه

لم يقنع بقول عمار؟ وهذه الرواية فيها نقصٌ وحذفٌ، به يتجه الكلام ويتم، وقد تبين من رواية حفص بن غياث، عن الأعمش قال: سمعت شقيق بن سلمة قال: كنت عند عبد الله وأبي موسى، فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنبمته، فلم تجد ماءً، فكيف تصنعُ (¬1)؟ فقال عبد اللهِ: لا يصلِّي حتى يجدَ الماءَ (¬2). فهذا هو الذي يلتئم به الكلام في الرواية الأخرى، وقوله: كيف تصنعون؛ لأنه لم يذكر فيها قولَ ابن مسعود: حتى ورد عليه، فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة؟ وأما إيراد روايةِ الإسماعيلي على الوجه. (¬3) * * * * الوجه الثالث: في تصحيحه، وقد تقدَّم لك التنبيهُ على الفرق بين المحدِّث والفقيهِ، من حيث هما هما فيما يُسندانه إلى الكتاب المخرَّجِ فيه الحديثُ، وأن طريقةَ المحدثِ الاكتفاءُ بأصله من غير تتبعٍ لآحادِ ألفاظه، وأن الفقيهَ من حيث هو فقيه يجب عليه أنْ يتتبعَ اللفظَ ¬

_ (¬1) "ت": "إذا أجنب فلم يجد ماء، كيف يصنع؟ "، وهو موافق للمطبوع من "صحيح البخاري". (¬2) رواه البخاري (339)، كتاب: التيمم، باب: إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت، أو خاف العطش، تيمم. (¬3) جاء في الأصل: "كذا" وفي هامش "ت": "بياض".

الذي يريد أن يستنبطَ منه الحكم؛ لأنه مُقتضَى صناعتِهِ، فيحتاج إذاً إلى ذكر الطريقين معاً، أعني: مَنْ أخرج هذا الحديث، ومن أخرج هذا اللفظَ المحتجَّ به؛ لأن كتابنا هذا كتابُ احتجاجٍ، واعتماد على الألفاظ. أما أصلُ الحديث: فقد اتفق الشيخان؛ البخاري ومسلم على إخراجه من حديث الأعمش، عن أبي وائل، ثم من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، وانفرد البخاريُّ برواية شعبةَ (¬1)، وحفصِ بن غياثٍ، عن الأعمشِ (¬2)، ومسلمُ برواية عبدِ الواحدِ بن زيادٍ، عن الأعمشِ (¬3). وفي الألفاظ خلاف بالزيادة والنقص، وأما هذه اللفظة التي هي لفظةُ: "ثم يمسح بها وجهه" فهي عند البخاري من رواية محمد بن سلام، عن أبي معاوية (¬4). ومسلم أخرج الحديث عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وابن نمير، عن أبي معاوية، وذكر ما يدل على أن اللفظ لأبي بكر، وفيه: "ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهرَ كفَّيه ووجههِ" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (338)، كتاب: التيمم، باب: إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت، أو خاف العطش، تيمم. (¬2) برقم (339) كما تقدم. (¬3) رواه مسلم (368/ 111)، كتاب: الحيض، باب: التيمم. (¬4) برقم (340) كما تقدم. (¬5) برقم (368/ 110)، كما تقدم، إلا أنه قال: "وظاهر وجهه وكفيه".

الوجه الرابع: في شيء من المفردات، وفيه مسائل

وروايتُه عن عبد الواحد - هو ابن زياد - مختصَرةُ اللفظ فيها: "وإنما كان يكفيك أن تقولَ هكذا"، وضرب بيديه إلى الأرض، فنفض يديه، فمسحَ وجهه وكفيه. فقد وقع الاختلاف في لفظة "ثُمَّ". وقد ذكر الرَّضيُّ النيسابوري (¬1) الخلافي في احتجاجه في مسألة الترتيب: أن أبا داود روى [في] (¬2) "سننه": أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تيممَ، فبدأ بيديه قبل وجهه. والخلاف في التيمم والوضوء واحد، فلو (¬3) عَلِمَ أن البخاريَّ أخرجه، لكان أقوى له في الاحتجاج أن يذكره. * * * * الوجه الرابع: في شيء من المفردات، وفيه مسائل: الأولى: سيأتي في باب التيمم - إن شاء الله تعالى - الكلامُ على لفظ التيممِ والصعيدِ، وقد تقدَّم الكلام على (أجنب) ويقال: أجنب الرجلُ، وجنب، من الجنابة، عن الفراء، ثم قيل: إنه مأخوذ من البعد: ¬

_ (¬1) الرضي النيسابوري، صاحب الطريقة في علم الخلاف المعروفة بالرضوية في ثلاث مجلدات، أخذ عنه الخلاف الركن العراقي أبو الفضل الطاووسي صاحب الطريقة، ويلقب بمنشئ النظر، وأخذ عنه ركن الدين العميدي، والركن إمام زاده، انتهى. كذا وجدته في "الجواهر المضيَّة في طبقات الحنفية" لابن أبي الوفاء (ص: 370). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل "فلم"، والتصويب من "ت".

الثانية

[من الطويل] فلا تحرمني نائلاً عن جنابة (¬1) أي: عندَ بعدِهِ، ولما نهى الجُنُبَ أن يقربَ مواضعَ الصلاةِ ما لم يتطهر، وُجِدَ فيه معنى البعد، وعن الشافعيِّ - رحمه الله - إنما سُمِّي جنباً من المخالطةِ، ومن كلام العربِ: أجنبَ الرجلُ، إذا خالط امرأتَه، قال بعضهم: وهذا ضدُّ المعنى الأول (¬2)، وفيه نظر؛ لأنه يجوز أن يكون اعتبرَ معنى البعد؛ بسبب كونه مخالِطاً للمرأة. الثانية: (أوشك) بمعنى أسرع، قال أبو الحسينِ بنُ فارس في "المُجْمَل": أوشكَ فلان خروجاً من العجلة، [و] (¬3) وشكان، ما كان ذلك في معنى عجلان، وأمرٌ وشِيْكٌ، وأوشكَ يوشِكُ، قال: وسمعتُ أحمد بن طاهر بن النجمِ يقول: سمعتُ ثعلباً يقول: أوشك يوشِكُ لا غير. ابنُ السكيت، وأوشك وشاكاً: أسرع السير (¬4)، انتهى. وقوله: يوشِك لا غير، يعني: بكسر الشين في المستقبل، ومما ذكر لنا عن بعض أكابر العلماء أنه قُرِئ عليه: يوشِك، بكسر الشين، وفي المجلس إنسان، فاعترض، وقال: يُوْشَك، فقال الشيخ: ¬

_ (¬1) صدر بيت لعلقمة بن عبدة، الفحل، كما في "ديوانه" (ص: 48)، وعجزه: فإني امرؤ وسط القباب غريب (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 220). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (4/ 926).

يوشِك، ونسبَه إلى "الصحاح"، فقال المعترض: "الصحاح" بيتي (¬1)، فأخرج "الصحاحَ"، فوجدَه على خلاف ما قال، فقال الشيخُ: هذا غلطُك في بيتك، فكيف في غيره؟! أو كما قال (¬2). قال أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز الأندلسي المعروفُ بابن القُوطيَّة في كتاب "الأفعال": وَشُك الأمر وَشكاً ووَشَكَاناً، وأوشك: أسرع، يعني: وشُك، بضم الشين. وقال أبو مروان عبد الملك بن طريف الأندلسيُّ (¬3) في كتاب "جامع الأفعال": فيما جاء من الصحيح على فعل وأفعل باتفاق، معنى وشك الشيء وشكاً ووشكاناً، وأوشك: أسرع. وقال أبو زيد السلمي [من الطويل]: فضمَّت بأيديها على فضلِ مائها ... مِنَ الرِّيِّ لما أوشكت أن تضلَّعا (¬4) وقال الجوهري: وَشُك ذا خروجاً، بالضم، يوشُك. قلت: يعني بالفتح والضم في الشين، وَشْكاً، قلت: بضم الواو وفتحها، قال: أي: أسرع، وعجيب من وَشْك ذلك الأمر، ووُشْك ذلك الأمر، بضم الواو. ¬

_ (¬1) في الأصل: "في بيتي". (¬2) في الأصل و "ت": "أو كما كان"، وجاء على هامش "ت": "لعله: أو كما قال". (¬3) المتوفى سنة (400 هـ). (¬4) انظر: "الكامل" للمبرد (1/ 244).

الثالثة

قلت: يعني وبفتحها، قال: ومن وُشكان ذلك الأمر، ووَشكان ذلك الأمر، أي: من سرعته، عن يعقوب، ويقال: وَشْكان [ذا خروجاً، أي: عَجْلان، ووَشْك البَيْن: سُرعة الفِراق، وخرج وَشِيكاً] (¬1)، أي: سريعًا، وامرأةٌ وشيكٌ، وقد أوشك فلان يُوشِك إيشاكاً، أي: أسرعَ السيرَ، ومنه قولهم: يوشِكُ أن يكون كذا، قال جرير يهجو العباسَ بن يزيد الكنديَّ [من الوافر]: إذا جَهِلَ الشَّقيُّ ولم يُقدِّر ... ببعض الأمرِ أوشكَ أَنْ يصابا (¬2) (¬3) والعامة تقول: يوشَك، بفتح الشين، وهي لغة رديئة، قال أبو يوسف: وأوشك يُواشِك وِشَاكاً، مثل أوشك، يقال: إنه مُواشِك مستعجل، أي: مسارع، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: هذا يقال بهذا اللفظ، ولا يقال منه وَاشَك (¬4). الثالثة: قنِع بكسر النون في الماضي، وفتحِها في المستقبل، قال ابنُ طريف: وقَنِع بكسر النون قَنَاعة وقَناعاً: رَضيَ عن الله - عزَّ وجلَّ - وبقَسْمه، وقنِعتُ بقولك وبالشيء: رضيتُ. قلت: وأما قَنعَ بفتح النون في الماضي قُنُوعاً في المصدر، فهو ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل: "يصانا"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "ديوان جرير" (ص: 56)، ووقع عنده: إذا جهل اللئيم ولم يقدر ... لبعض الأمر أوشك أن يصابا (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1615)، (مادة: وشك).

الرابعة

قانعٌ في اسم الفاعل، فمعناه: إذا سأل، وفسر به: "لا تجوز شهادة القانِع مع أهل البيت" (¬1)، وفي القرآن الكريم: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] ففُسِّر القانع: بالسائل، والمعترُّ: الذي يتعرض ليُعطى من غير مسألة، قال الشَّمَّاخ [من الوافر]: لمالُ المرءِ يُصْلِحُه فيُغْنِي ... مَفَاقِرَه أعفُّ من القُنُوع (¬2) الرابعة: الطَّيِّب في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] يفسر بالطاهر. الخامسة: قد تبين في علم الأصول أن كلمة (إنَّما) للحصر، والحصرُ فيها على وجهين: أحدهما: [أن] (¬3) لا يكون فيما دخلت عليه تخصيصٌ، ولا تقييد ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3600)، كتاب: الأقضية، باب: من ترد شهادته، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 181)، وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قلت: في إسناده محمد بن راشد يعرف بالمكحولي، قال ابن عبد الهادي في "التنقيح" (3/ 548): ضعيف، وقد وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما. قال ابن عدي في "الكامل" (6/ 202): ليس برواياته بأس، إذا حدث عنه ثقة فحديثه مستقيم. قال الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 83): ورواه أيضًا عن عمرو بن شعيب: حجاج بن أرطأة وآدم بن فائد وهما ضعيفان، وكلاهما لم يذكر فيه "القانع". (¬2) انظر: "ديوانه" (ص: 220)، (ق: 10/ 4). (¬3) زيادة من "ت".

{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]. الثاني: أن يقعَ التقييدُ فيما دخلت عليه: إما في جانب الإثبات: بأن يكون هو المقصود. أو في جانب النفي: بأن يكون هو المقصود (¬1)، والقرائنُ ترشد إلى المراد، وهي من العُمَد الكبرى في فهمه {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]، فإن جميع هذه الأوصاف التي دخلت عليها (إنما) ليست على العموم، بل يختص كونها لعباً ولهواً بمنْ لا يريدُ بعمله فيها الآخرةَ والتزودَ إليها، والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لا ينحصر في النذارة ولا البشريَّة، بل له أوصاف أخرى جليلة زائدة على البشرية والنذارة، ولكن فُهِم منه: أنه ليس على صفة تقتضي العلم بالغيب لذاتها، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر مثلكم، [وإنكم] (¬2) تختصمون إلي" (¬3)، وفي {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] في الآية الكريمة، نفهم منه: أنه ليس قادراً على خَلْقِ الإيمان، قهراً لِسَبْقِ قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا ¬

_ (¬1) انظر: "المحصول" للرازي (1/ 535). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه البخاري (2534)، كتاب: الشهادات، باب: من أقام البينة بعد اليمين، ومسلم (1713) كتاب: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

الوجه الخامس: في شيء من العربية

عَامِلُونَ} [فصلت: 5]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] أي - واللهُ أعلمُ -: لا أقدر على إجبارِكم على الإيمانِ، وكذلك أمرُ النذارةِ لا ينحصرُ فيها - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)} [الفتح: 8]. إذا عرفتَ هذا فنقولُ: إن دلت القرائنُ والسياقُ على التخصيصِ، فاحملْه على العموم فيما دخلَتْ عليه، وعلى هذا حَمَل ابنُ عباس: "إنما الرِّبا في النَّسيئة" (¬1) على العموم، حتى نفى ربا الفضل، وقيل: إنه رجعَ عنه، وحملَ غيرُهْ "إنما الماء من الماء" (¬2) على ذلك، ولم يوجِبِ الغسلَ بالتقاء الختانَيْن، ومن خالفَ في الأمرين فبِدليلٍ مِنْ خارج. * * * * الوجه الخامس: في شيء من العربية: يوشك: من أفعال المقاربة كعسى، وحكمُها في أن مفعولها بـ (أن) والفعل كحكم عسى، وفي التعدي وعدمه كذلك تقول: يوشك أن تأتيَني، قال الله تعالى في عسى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] فهذه بمعنى قَرُبَ، فلا ينصب، ويكون فاعلُها (أن) والفعل، وتقول: يوشك زيدٌ أن يأْتيَني، كما تقول: عسى زيد أن يأتيَني، بمعنى قارب، فيتعدى، ويكون مفعولها (أن) والفعل، قال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52]، وقد تَرِدُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه.

عسى ويوشك من غير مقاربة (أن)، قال الشاعر [من المنسرح]: يوشِك مَنْ فَرَّ مِنْ مَنِيَّتِهِ ... في بعضِ غَرَّاتِها (¬1) يوافقها (¬2) وقال بعضهم: إنما جاء في الشعر، وأما في الكلام، فلا يكون إلا بـ (أن) كعسى. قلت: ومما جاء في عسى بغير (أن) قول هُدبة [من الوافر]: عسى الكربُ الذي أمسيتُ فيهِ ... يكونُ وراءَهُ فرجٌ قريبُ (¬3) أُجريَتْ مجرى كاد، كما أجريت كاد مجرى عسى في ثُبوتِ (أن)، قال الشاعر [من الرجز]: قد كاد من طول البلى أن يَمْصَحَا (¬4) ومعنى مَصَح: ذهب ودرس. فمقتضى هذا: تكون هذه اللفظة في الحديث ناصبةً، ومفعولها: "أن تيمموا الصعيدَ". ¬

_ (¬1) "ت": "في غراته". (¬2) البيت لأمية بن أبي الصلت، كما في "ديوانه" (ص: 421) (ق: 8/ 47). (¬3) انظر: "ديوانه" (ص: 54). (¬4) عجز بيت لرؤبة بن العجاج، وصدره: رسْمٌ عفا من بعدما قد امَّحى

الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

* الوجه السادس: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: لمَّا كان الحديث السابق على الذي نحن فيه المقصودُ به (¬1) ذِكْرُ ما استُدِلَّ به على وجوبِ الترتيبِ من جهة لفظ "ابدؤوا"، ذَكَر هاهنا ما استدل على عدم وجوبِهِ، من جهة تقديم مسحِ اليدِ على الوجه، ولنذكر مآخذ الفريقين. الثانية: فيه المباحثة والمناظرة في المسائل الشرعية، واستعمال الصحابة لذلك على الوجه الذي كانوا يفعلونه؛ ففيه دليلٌ على جواز مثل ذلك في مسائل الأحكام، لكن قد ينضم إليه ما يمنعه؛ كالمِراء، والمجادلة بالباطل، وتقويةِ الإنسان لما يعتقده باطلاً، وخروجِهِ متحيِّلاً بامتناع الكلامِ المجاز عما إذا راجع نفسه، عُلِمَ (¬2) أنه خلافُ المقصودِ من اللفظِ، إلى ما ينضافُ إليه من أمور أُخَرَ؛ كالأدنى قولاً وفعلاً، واستحقار المرء المسلمِ؛ فهذه كلُّها عوارضُ توجب المنع، وإنما المقصود: إثباتُ أصلِ المناظرة، والسؤال، والجواب. الثالثة: فيه ميل إلى سدِّ الذرائعِ، والمصالحِ المرسلة من جهة قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لو رُخِّصَ لهم في هذا، لأوشكوا (¬3) إذا برد عليهمُ الماءُ أن يتيمموا"، وهو يُشْكِلُ مع مخالفة النص، وسنتكلم عليه الآن. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ثم"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "إذا رجع علم". (¬3) في الأصل: "وشكوا"، والمثبت من "ت".

الرابعة

الرابعة (¬1): فيه دليل على شرعية التيممِ، وهو منصوصُ الكتاب العزيز وإجماعُ الأمة. الخامسة: المنقولُ عن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما -: أن الجُنُبَ لا يتيمم (¬2)، لكنه يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكونَ سببُه أن ألفاظَ الآيةِ الكريمة لا تتناوله. والثاني: أن يكون العمومُ متناولاً له، لكنه يخرج عن العموم كما في سائرِ مسائلِ تخصيصِ العمومِ. وقد حُمِلَ مذهب عمر - رضي الله عنه - على أنه كان يرى أنَّ الآية لا تتناول الجنبَ رأساً، فمنعه التيممَ لذلك، وتوقفَ في حديث عمار، لكونه لم يَذْكُره حين ذكَّره به. وحُمِل مذهب ابن مسعود على أنه ليس داخلاً في عموم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] أي: مع كونه متناوِلاً له، واستدل بتسليمه لأبي موسى، وبأنه نَحى إلى منع الذريعة، قال بعضهم: وكانَّه كان يعتقدُ تخصيصَ العموم بالذريعة، ولا بُعْدَ في القول به على ضعفه (¬3). قلت: قوله: "وإنما كرهتموه لِذا؟ قال: نعم"، قد يُشعر بما نُسِب إلى ابن مسعود من أنه يسلم العموم، ويمنع لهذا المعنى. السادسة: فيه دليلٌ على تيمم الجُنُبِ، وهو مذهب الفقهاء، ¬

_ (¬1) سقطت المسألة الرابعة من "الأصل"، وأثبتها من "ت". (¬2) كما تقدم حكايته عن ابن عبد البر وغيره. (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 613).

السابعة

وقد ذُكِرَ خلافهُ عن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - كما تقدم، وقيل: إنهما رَجَعا عن ذلك. [قال بعضهم: وقد صَحَّ عن عمرَ وابنِ مسعود أنهما رجعا إلى أنَّ الجنب يتيمم] (¬1). قال: وهو الصحيح؛ لأنَّ الآية بعمومها متناولةٌ له ولحديث عمار، وحديثِ عِمران بن حُصين، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال: أصابتني جنابة، ولا ماء: "عليك بالصَّعيد، فإنه يكفيك" (¬2)، وهذا نصٌّ رافعٌ للخلاف (¬3). السابعة: فيه التوقفُ والتثبُّت، وعدمُ التنازعِ إلى العمل حيث تقع الرِّيبة، وذلك من قوله: "ألم تر عمر لم يقنع؟ "، قال القاضي عياض - رحمه الله -: وإنكارُ عمرَ الخبر على عمار؛ لأنَّه حدَّثه أنه كان حاضراً له عند النبي - صلى الله عليه وسلم - , ولم يذكره (¬4). قلت: ليس في اللفظ الذي ورد فيه هذا، ما يدلُّ على أنَّ عماراً حدَّث عمر أنه كان حاضراً له عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَذْكُرْه؛ لأنَّ اللفظ الذي جاء من رواية ابن أبزى: أن رجلاً أتى عمرَ، فقال: إني أجنبتُ، فلم أجدْ ماءً، فقال: لا تُصَلِّ، فقال عمار - رضي الله عنه -: أَمَا تذكُرُ يا أمير المؤمنين! إذ أنا وأنت في سَرِيَّةٍ فأجنبنا، [فلم نجد ماء]، فأما أنت لم ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (337). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 614). (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 222).

الثامنة

تصلِّ، وأما أنا فتمعَّكْتُ في التراب، فصليتُ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما كان يكفيك أن تضربَ بيديك الأرضَ، ثم تنفضَ (¬1)، ثم تمسحَ بها وجهك وكفيك"، فقال عمر: اتَّقِ الله يا عمار! الحديث (¬2). والمتحقِّق من هذا: أنهما كانا مجتمعين في السَّرِيَّة، وأما أنهما كانا مجتمعين عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الذي أخبر به عنه عمار، فلا يتحقّق. الثامنة: فيه دليلٌ على أن التوقف لأجل الرِّيبة إذا لم تَزُلْ، وجب العمل بظاهر الحال، وما يقتضيه الموجبُ لذلك، وهذا من قول عمر - رضي الله عنه -: نولِّيك ما تولَّيت، وقد نصَّ الفقهاء على ذلك في باب القضاء، أعني: أن الحاكمَ يتوقف لأجل الريبةِ، فإن لم تَزُلْ أمضى الحكم بمقتضى البينة (¬3)، وهذا ينبغي أن يُجعَل أصلاً فيه. التاسعة: قد مرَّ في الحديث ذِكْرُ قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6]، والشافعيةُ أوجبوا القَصْدَ إلى الصعيدِ أخذاً من معنى التيمم ومدلوله، وبنوا عليه: أنَّه لو وقفَ غير ناوٍ في مهبِّ ¬

_ (¬1) في المطبوع من "صحيح مسلم": "ثم تنفخ". (¬2) رواه مسلم (386/ 112)، كتاب: الحيض، باب: التيمم. (¬3) قال الإمام العز بن عبد السلام: بحث الحاكم عن الشهود عند الريبة والتهمة حق واجب في حقوق الله وحقوق عباده، فإن بحث على حسب إمكانه، فلم تزل الريبة والتهمة، لزمه القضاء؛ لأنه بذل ما في وسعه. قال: وهذا مشكل عند قيام الشك مع تساوي الطرفين، وعند غلبة كذب الشهود على ظنه. انظر: "قواعد الأحكام" (2/ 34).

العاشرة

الريح، فَسَفَتْ عليه التراب، ونوى التيممَ عندما حصل الترابُ عليه، لم يصِحَّ تيممه، وإن وقف قاصداً بوقوفه التيمم، حتى أصابه الترابُ، ففي صحته وجهان (¬1). العاشرة: أوجبَ الشافعيةُ النقل، أعني: نقل الترابِ الممسوحِ به إلى العضو، واحتُج عليه: أن الله تعالى إنما أمر بالتيمم، وهو القَصْد، قيل: وإنما يكون قاصداً، إذا نقل التراب إلى المحل الممسوح (¬2). وهذا يُنازَعُ فيه، وليس بالشديد الظهور، ولقد أحسن الرافعيُّ في قوله: وغيرُ هذا الاستدلال أوضح منه. وبنى الشافعيَّةُ على هذه القاعدة: أنه لو كان على وجههِ ترابٌ، فمسح به، لم يُجْزِهِ؛ لأنه لم ينقله (¬3). إلى غير ذلك من الفروع، والله أعلم. الحادية عشرة: الحديثُ يدل على النَّفضِ للتراب بعد الضَّرب عليه وقبل المسح، وقيل: يَستدل به من لا يرى اشتراطَ نقلِ شيءٍ إلى العضو الممسوحِ؛ لأنه بَعْدَ نفضِهِ وعدمِ تشبُّثهِ بالعضو المضروبِ، لا يبقى منه، أو لا يكاد يبقى منه شيء (¬4)، وهو ضعيف. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (2/ 317). قال: ظاهر نص الشافعي رحمه الله وقول أكثر الأصحاب: أنه لا يصح؛ لأنه لم يقصد التراب، وإنما التراب أتاه. (¬2) المرجع السابق، (2/ 318). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 615 - 616).

الثانية عشرة

الثانية عشرة: الذين يشترطون وصول التراب إلى العضو، فيحملون النفضَ على ما إذا كان كثيراً، وأنه يُكتفى بنفضة واحدة إذا كان قليلاً. الثالثة عشرة: قال البَغَوِيُّ في "شرح السنة": وفي حديث عمار دليلٌ على أن مَسْحَ الوجه واليدين كافٍ للجُنُب، كما كان يكفي للمُحْدِث، فمَسْحُ الوجه واليدين بالتراب تارةً يكون بدلاً عن غسل أعضاء الوضوء في حق المحدث، وتارة يكون بدلاً عن غسل جميعِ البدنِ في حق الجنب، والحائضِ، والميِّتِ، عند العجز عن استعمال الماء؛ لعُدْمٍ، أو مرضٍ يُخاف منه الهلاكُ، وزيادةُ المرضِ، وتارة يكون بدلاً عن غسل لَمعة من بدنه؛ بأن كان على عضو من أعضاءِ طهارته جُرْحٌ، يُخاف من إيصالِ الماء إليه الهلاكُ، أو تلفُ العضو، أو زيادةُ الوجعِ، فعليه أن يغسل الصحيح من أعضائه، ويتيمم بالتراب على الوجه واليدين، بدلًا عن غَسْل موضعِ الجُرْحِ (¬1). قلت: أما أن في حديث عمار دليلاً على أن مسح الوجه واليدين كافٍ للجنب، كما يكفي للمُحْدِث؛ فصحيح، وأما كلُّ ما ذكر بعد ذلك، فليس فيه دليل عليه، ولعلَّ البغوي لم يقصد بقوله: فمسح الوجه واليدين إلى آخره، أن يَدْخُلَ تحت الحديث، وإنما هو كلامٌ ابتدأ به لبيانِ الأحكامِ عنده. الرابعة عشرة: قال ابن حزم الظاهري: في هذا الحديث إبطالُ القياسِ؛ لأن عماراً قدَّر أن المسكوتَ عنه من التيمم للجنابة حكمُهُ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح السنة" للبغوي (2/ 112).

حكمُ الغُسْل للجنابة، إذ هو بدلٌ منه، فأبطلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأعلمه أنّ لكلِّ شيء حُكْمَ المنصوص عليه فقط (¬1). والاعتراضُ عليه من وجوه: أحدها: لا نسلِّم أنه أبطله، فإن الحكمَ المتجدِّدَ في الحال، لا يلزم منه بطلانُ الفعلِ الماضي، ولا الحكم، فإن القياس لا يكونُ أعلى من النص، ولو ورد نصٌّ بحكم، وورد بعده خلافُه، لم يدلَّ على بطلانِ الماضي، وعدمِ اعتبارِه في وقته، إنَّما الذي يدل على بطلانِ الماضي اللفظُ الدالُّ على عدمِ اعتباره بوجهٍ ما، وهذا ظاهرٌ في الرواية التي لفظها: "إنما يكفيك". الثاني: [سلّمنا] (¬2) أنه أبطلَ القياسَ، لكنه أبطلَ كلَّ ما قاسه عمار، أو بعضَ ما قاسه؟ الأولُ ممنوع، وظاهرٌ أنه ليس كذلك؛ لأن لِعمارٍ قياسين: أحدهما: قياسُ تيمُّمِ الجُنُبِ على تيممِ المُحْدِثِ في أصل التيممِ. والثاني: قياسُ البدلِ على الأصلِ في تعميمِ البدنِ، وهذا الثاني هو الذي وقعَ إبطالُه، أما الأول فلا. وإنَّما قلنا: إن له قياسين، أما الثاني: فظاهر، وأما الأول: وهو قياس أصل التيمم للجنابة على أصله عن الحدث، فإن عماراً - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (2/ 155). (¬2) سقط من "ت".

الخامسة عشرة

لم يكن يعتقد أنَّ الآيةَ تتناولُ تيممَ الجنبِ؛ لأنه لو كان يعتقد ذلك، لكان الحكمُ متبيِّناً له من الآية، وهو التيمم في الوجه واليدين فقط، فلم يكن ليتمرَّغَ في التراب، وإذا لم يكن الحكم متبيناً له، فإقدامُه على التيمم عن الجنابة، يكون بقياسها على التيمُّم عن الحَدَثِ الأصغر. الثالث: سلَّمنا أنه إبطالٌ لكل قياسٍ قاسه [عمار في هذه الواقعة، لكنَّ إبطالَ القياس الجزئي، لا يلزمُ منه إبطالُ القياس] (¬1) الكليِّ، كما زعم، فإن القائسين لا يصححون كلَّ قياس. الرابع: قد نزيدُ وندَّعي: أنه يدل على صحة القياس بما بيَّنَّاه في الوجه الثاني؛ من أن قياسين لم يرض إلى بطلانِ أحدهما. الخامس: وهو على رواية: "إنما كان يكفيك" أن تقول: بإثباتِ كان، وهو أن يُدَّعى: أن الحديثَ يدل على إثباتِ القياس، وطريقُه أن يقالَ: لو كان فعلَ ما ذكر لكانَ قائساً، ولو كان فعله، لكان مصيباً، فيكونُ فعلُه لازماً للقياس والإصابةِ، فلو كان وُجِدَ الفِعْلُ، وهو الملزومُ لوُجِدَ اللازمان؛ القياسُ والإصابةُ، ويُقرَّر: أنه لو كان فعل لكان قائساً، مريدين لقياس أصلِ التيمم عن الجنابةِ، على التيمم عن الحدث الأصغر بما قدمناه. الخامسة عشرة: الحديثُ يدل على وجوب استيعابِ الوجه بالمسح؛ لأن لفظة (إنَّما) تدل على انحصارِ الاكتفاء بما ذُكِر، والوجه ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

السادسة عشرة

حقيقةٌ في جملة العضو. وعن أبي حنيفة - رضي الله عنه - من رواية الحسن بن زيادٍ: أنه إذا مسح أكثرَ وجهِهِ، أجزأه، ونقل بعضُ الشافعية عنه: أنه يجوز أن يُتْرَك من ظاهر الوجه دون الربع (¬1). السادسة عشرة: الحديث يدلُّ على أنه مسح بالضربة الواحدة وجهَه وكفيه، وبالضربةِ الواحدةِ لا يصل الترابُ إلى منابت الشعورِ، وكذلك حكَمَ الشافعية، ولم يفرقوا بين الخفيفة والكثيفة، ولا العامة والنادرة، كما فرَّقوا في الوضوء، وعندهم وجه: أنه يوصَلُ الترابُ إلى ما تحتَ الشعورِ، التي يجب إيصال الماء إليها، إعطاءً للبدلِ حكمَ الأصل، وفُرِّق؛ لعسر الصال التراب إلى منابت الشعور (¬2). السابعة عشرة: الحديث يدل على الاكتفاء بمسمى مسح الوجه، وهو حاصل بدون إيصال التراب إلى ما استرسل من اللحيةِ، إذا (¬3) كان اسمُ الوجه منطلقاً بدونها، وأجرى الشافعية فيه الخلافَ الذي في الوضوء (¬4)، والله أعلم. الثامنة عشرة: الأقرب أن يُحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما كان يكفيك"، على أن المراد يكفي، لو عُلِم الحكمُ حينئذ، ولا يحمل على أن المراد ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" (2/ 326). (¬2) المرجع السابق، (2/ 326 - 327). (¬3) "ت": "إذ". (¬4) المرجع السابق، (2/ 327).

التاسعة عشرة

"كان يكفيك" في القياس؛ لأنَّه قاس البدل على الأصل، ومقتضاه ما فعل، ولا يقتضي قياسُ البدل على الأصل أن يقتصر على الوجه واليدين. التاسعة عشرة: قال القاضي عياض - رحمه الله -: وفيه أن المتأوِّلَ المجتهدَ لا إعادةَ عليه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر عماراً بالإعادة، وإن كان خَطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما تَرك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هيئتها، بأكمل مما يلزمه (¬1). قلت: أما أول الكلام، وهو الاستدلال بأنَّه لم يأمره بالإعادة، فيمكن أن يُقال فيه: إنه إنَّما لم يأمرْه فيه بالإعادة؛ لأنه قد أتى بالواجب وزيادة، كما دلَّ آخرُ الكلام عليه، فآخر الكلام يمنع صحةَ الاستدلالِ بعدمِ إلزامِ الإعادةِ على المجتهدِ المتأولِ؛ لأنَّ الإتيانَ بالواجبِ وزيادة عليه خطأ في الزيادة، لا يمنعُ من الاكتفاء بفعل القدر الواجب، وهذا الاعتراض مبنيٌّ على أن التمرُّغَ في التراب يُجزئ إذا حصل فيه مسحُ الوجه واليدين، وفيه منعٌّ لبعض الشافعية، فإنَّ عندهم وجهين: فيما إذا تمعَّك في التراب، فوصل إلى وجهه ويديه يغير عذر، هل يجزئه بناء على أصل آخر وهو وجوب نقل التراب؟ فإن هذا لم يَنقلِ الترابَ إلى العضو، وإنما نقل العُضْو إلى التراب (¬2). العشرون: الاستدلالُ بهذه الرواية على عدم وجوب الترتيب ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 223). (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (2/ 319).

الحادية والعشرون

ظاهرٌ جداً؛ لأنَّه ذكر مسح اليدين، وعطفَ عليه مسحَ الوجهِ بكلمة (ثُمّ) المقتضيةِ للترتيب، ولا تَعارُضَ برواية العطفِ بالواو؛ لأنها لا توجب، ولا تَمْنع، فهذه الرواية إذاً فيها زيادة، يجب قبولُها. الحادية والعشرون: إنما ذَكَرَ رواية الإسماعيلي بعد رواية البخاري، مع اشتراكها في الدلالة على عدمِ وجوبِ الترتيب؛ لأنَّ رواية البخاريِّ وإن دلت، فقد أُحيلَ فيها على الفعل بـ"هكذا"، فالمُشَغِّب يقول: هذا المسحُ للكفين أولاً، لا ينافيه مسحُها (¬1) بعد مسحِ الوجه، ويكون (¬2) الأول - أعني مسحَ الكفين أولاً - لا على قصد التيمم، وهذا الاحتمال بعيدٌ جداً؛ لأنَّ الحديث مسوقٌ لبيان القدر الواجب الكافي، فلا يجوز أن يُخِلَّ بذكرِ شيء منه لا أصلاً، ولا نقلاً، فلمَّا كان هذا الاحتمال الذي يُوْرِده المُشَغِّبُ جائزاً على الجملة، وإن اشتدَّ بعده، أوردَ روايةَ الإسماعلي عقيبَه لقطع دابرِه؛ لأنها قولٌ لا إحالة فيه على فعل، فيكون النصُّ القولي دالاً على الاكتفاء بما ذُكر، إلا أن فيه إشكالاً سنتعرض لجوابه، وهو أنه يقتضي أن تكونَ الكفاية منحصرةً في تقديم اليدين على الوجه، ولم يقل به أحد. الثانية والعشرون: الكفاية يُتيَقَّن منها الإجزاءُ والخروجُ عن العُهدة، وأما أنّها تدلُّ على عدمِ الزيادة على المذكور، فليس بالقويّ، والسياق هاهنا ينفيه، وهي محتمِلَةٌ لهذا المعنى، إذا قامت القرينةُ ¬

_ (¬1) "ت": "مسحهما". (¬2) "ت": "فيكون".

الثالثة والعشرون

عليه، والله تعالى أعلم. الثالثة والعشرون: السياق يقتضي أنَّ المقصود، إنما نَفى ما زاده عمار - رضي الله عنه - مما زاد على الوجه واليدين، وحصرَ الإجزاءَ في الوجه واليدين فقط؛ لأنَّ الذي أُريد به نفيُ ما فعله من الزيادة، فهذا أحد المواضع التي تكون (إنما) فيه غيرَ عامة فيما دخلت عليه بالسياق، وإذا كان هذا هو المراد، فلا تقوى دلالتُه على الحصر للكفاية في تقديم اليدين على الوجه، ولا تبقى الدلالةُ على جوازِ التقديم. الرابعة والعشرون: قد يمكنُ مَنْ لا يرى وجوب الترتيب أن يستدلَّ بالحديث؛ لأن التمرُّغَ كالدابَّة، يمكن أن يكون مع الترتيب، ويمكن أن لا يكونَ معه، بأن يقعا معاً، وعلى أحد التقديرين تلزم الإعادةُ، وعلى التقدير الثاني لا تلزم، فترْكُ التفصيلِ والاستفصالِ يدل على عدم الوجوب للترتيب، وتعينه في أداء الفرض على القاعدة المشهورة. الخامسة والعشرون: لو أرادَ مَنْ ذكر في الحديث: أن المتأوِّلَ المجتهدَ لا إعادة عليه بهذه الطريق التي ذكرناها، وهو أن يقول: لو وجبتِ الإعادة عليه، لبيَّن (¬1)، فلما لم يبيِّنْ، دل على أنه لا إعادة عليه؛ لقيل له: إنما يلزمُ بيان هذا على تقدير أن يتعيَّن الخطأُ الموجِبُ ¬

_ (¬1) "ت": "لتبين".

السادسة والعشرون

للإعادة، ولم يبيِّنْ، والخطأ هاهنا في الزيادة على الواجب قد بُيِّنَ (¬1)، وعدمُ الإعادة من جهة الإتيان بالواجب، والله أعلم. السادسة والعشرون: الحديث حجةٌ ظاهرة على أن الواجب الكفَّان في التيمم، ونُسِبَ هذا القول إلى علي، وابن عباس، وعمار، ومن التابعين: إلى الشَّعبي، وعطاءِ بن أبي رباح، ومكحولٍ، وأنه قال به الأوزاعيُّ، وأحمد، وإسحاق، وجماعة أصحاب الحديث؛ ذكر ذلك البغوي (¬2). والقاضي عياض قال: ويَحتجُّ بهذا من يقول: إن التيمم إلى الكوعين، وهو قول جماعة من العلماء، وفقهاءِ أصحاب الحديث، وبعضِ أصحابنا، وتأولوا (¬3) على رواية ابن القاسم، عن مالك، فمن (¬4) صلى بذلك أنَّه يعيد في الوقت، والمعروف من مذهب مالك: أن فرضَه إلى المرفقين، وهو قول أئمة الفتوى والسلف (¬5). ونُقل عن قديم قولي الشافعي: التيممُ إلى الكُوعَيْن، قال الرافعي: وأنكر الشيخ أبو حامد وطائفةٌ ذلك، قال: وسواء ثبت ¬

_ (¬1) "ت": "تبين". (¬2) انظر: "شرح السنة" للبغوي (2/ 113 - 114). (¬3) في الأصل: "وتأولها"، وفي المطبوع من "إكمال المعلم": "وتأولوها"، والمثبت من "ت". (¬4) في المطبوع من "إكمال المعلم": "فيمن". (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 222).

السابعة والعشرون

أم لا، فالمذهب الأول (¬1)، يعني: أن الواجبَ استيعابُ اليدين إلى المِرفقين. السابعة والعشرون: فيه دليل على الاكتفاء بضربة لقوله: "وضرب بكفه [ضربةً على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه] (¬2)، ثم مسح بها وجهَه" قال القاضي عياض - رحمه الله -: في ظاهره حجةٌ لمن يَرى الفرضَ ضربةً، وهو قولُ بعض أصحابنا، ودليل قول مالك، وأنه لا إعادة على من فعله، أو يعيد في الوقت، وأن الضربةَ الثَّانية سُنَّةٌ، قال: وجمهور العلماء على أنه لا تُجزئه إلَّا ضربتان، وهو قول بعض أصحابنا، وجعله بعضهم قولَ مالك (¬3). قال الرافعي الشَّافعي: واعلم أنه قد تكرَّرَ لفظُ الضربتين في الأخبار، فجرى طائفة من الأصحاب على الظاهر، وقالوا: لا يجوز أن ينقُصَ منهما، ويجوز أن يزيد، فإنَّه قد لا يتأتى له الاستيعابُ بالضربتين، وقال آخرون: الواجب إيصالُ التراب إلى الوجه واليدين، سواء كان بضربة، أو أكثر، قال: وهذا أصح (¬4). الثامنة والعشرون: أما الاكتفاء بالكفين عن المسح إلى المرفقين، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (2/ 329). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 222). (¬4) انظر: "فتح العزيز" للرافعي (2/ 329).

فدلالة الحديث عليه قوية جداً، بل ربما يُدَّعى أنها نصٌّ على طريقة الفقهاء، والذين خالفوا يحتاجون إلى الاعتذارِ عن المخالفة، والذي اقتضاه كلامُ بعضِ الأكابر منهم الاعتذارُ بوجوه: أحدها: المعارضاتُ برواياتٍ أخرَ تقتضي المسحَ إلى المرفقين، فذكر: أنه روى جابر، وابن عباس، وابن عمر، وأبو أُمامة: أن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "التَّيمم ضربتان: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين"، وذكر أيضاً في الجواب عن احتجاج خصومه: أنه قد رُوي عن عمار: أن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "التَّيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المِرْفقين". والثاني: أن يقالَ: تتعارضُ الروايتان، أعني (¬1): عن عمار في الكفين والمرفقين، وتبقى الروايات التي تمسك بها. وثالثها: الترجيح، بأنَّ يقول: خبرُنا أَزيدُ، فكان أولى و (¬2) أحوط، وأشار إلى ترجيح آخر لم يُفصح به؛ لأنَّه قال: أو يرجح بما ذكرنا، وكان ذكر أمرين: أحدهما: القياسُ بأنه بدلٌ، يؤتَى به في محل مُبْدَله، فوجب استيعابُه أصلَه مسح الوجه. وثانيهما: ذكر وجهين فيما يتعلق بالآية: أحدهما: أن المطلق يُحمل على ما هو من جنسه، أولى من ¬

_ (¬1) "ت": "أي". (¬2) "ت": "أو".

حمله على غير جنسه، وفي الوضوء يجب إلى المرفقين، وكذلك (¬1) في التَّيمم. الثَّاني: قال: لأنَّ الآية حجةٌ لنا؛ لأنَّ إطلاق اليد يقتضي إلى المناكب، وأجمع المسلمون على استثناء العضُد، فيبقى على ظاهره، وكذلك كان المقتضى في قطعِ السارق، إلَّا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع من الكوع، فتركنا مقتضاه الظاهر، وصرنا إلى ما فعله - صلى الله عليه وسلم -. ورابعها (¬2): التأويل؛ لأنَّه ذَكر الكفين، وعبَّر بهما عن الذراع؛ لأنَّ العرب تسمي الشيء بما هو من جنسه. ولخصومهم أن يقولوا: أمَّا الروايات المذكورة في المعارضة فلابدَّ من معرفة مخارجها، وعدالةِ رواتها، وانتفاء العلل عنها، وحديث ابن عمر منها أخرجه الدارقطني من حديث عليّ بن ظُبْيان، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافعٌ، عن ابن عمر، عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "التيممُ ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين". قال الدارقطني: كذا رواية عليّ بن ظُبيان، مرفوعاً، ووقفه يَحْيَى القطَّان، وهشيم، وغيرهما، وهو الصواب (¬3). ثم أخرج الدارقطني رواية يَحْيَى بن سعيد، ورواية هُشَيم، عن ¬

_ (¬1) "ت": "فكذلك". (¬2) في الأصل: "وأربعها"، والمثبت من "ت". (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 180).

عبيد الله بن عمر، ويونس، عن نافعٌ، عن ابن عمر، بالوقف (¬1). ورواية مالك، عن نافعٌ: أن ابن عمر كان يتيمم إلى المرفقين (¬2). وأمَّا رواية جابر، فأخرجها الدارقطني من حديث عَزْرة بن ثابتٍ، عن أبي الزُّبير، عن جابر، عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "التَّيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين" (¬3). وفي كلام بعضهم احتجاجُهم بحديث ابن الصِّمَّة قال: مررت على النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد [عليَّ] (¬4)، حتَّى قام إلى جدارٍ، فحتَّه بعصاً كانت معه، ثم وضع يده على الجدار، فمسح وجهه وذراعيه (¬5). قال البغوي: هذا حديث حسن، وفيه فوائد: ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 180). (¬2) جاء في الأصل و "ت" زيادة: "مرفوعاً". وانظر: "السنن" للدارقطني (1/ 181). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 181)، وقال: رجاله كلهم ثقات، والصواب مرقوف. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه الإمام الشَّافعي في "مسنده" (ص: 12)، وفي "الأم" (1/ 51)، وفي "اختلاف الحديث" (ص: 496)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 205)، وقال: هذا منقطع؛ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج لم يسمعه من ابن الصمة، إنَّما سمعه من عمير مولى ابن عباس، عن ابن الصمة، وإبراهيم بن محمد بن أبي يَحْيَى الأسلمي وأبو الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قد اختلف الحفاظ في عدالتهما.

منها: وجوبُ مسح اليدين إلى المرفقين، قال: وهذا أشبه بالأصول، والأولى أصح في الرواية، وهو مسح الوجه على الكفين. ومنها: أن التَّيمم لا يصِحُّ ما [لم] (¬1) يعلق بالوجه غبار التراب؛ لأنَّ النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - حثَّ الجدار بالعصا، ولو كان مجرد الضرب كافياً، لكان لا يحتُّه. ومنها: استحبابُ الطهارةِ لذكرِ الله تعالى (¬2). قلت: أما قوله هذا حديث حسن، فعجيب! فإنَّه من رواية إبراهيم بن محمد، عن أبي الحويرث، عن الأعرج، عن ابن الصمة، وإبراهيم بن أبي يَحْيَى الذي خرج الحديث من جهته، قد أكثروا عليه القول من جهات، وأفْظَعَ فيه النَّسائى القولَ جداً (¬3)، ولعله قربَ أمرَه لرواية الشَّافعي - رحمه الله - عنه، واعتقاده صدقه على ما روي عنه. وأمَّا أبو الحويرث عبد الرحمن بن محمد، فقد (¬4) روى مسلم في مقدمة كتابه "الصحيح" عن أبي جعفر الدَّارميُّ، عن بشر بن عمر، سألت مالكَ بن أنسٍ عن أبي الحويرث، فقال: ليس بثقة (¬5). وأمَّا استدلالُه به على وجوب المسح إلى المرفقين، وعلي أن التَّيمم لا يصح ما لم يعلقْ بالكف غبارٌ، فلخصمه أن يقول: الحديث ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) انظر: "شرح السنة" للبغوي (2/ 115). (¬3) انظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي (1/ 182). (¬4) في الأصل "وقد"، والمثبت من "ت". (¬5) انظر: "صحيح مسلم" (1/ 26).

التاسعة والعشرون

الذي تمسكتَ به يدل على الاكتفاء والإجزاء، والذي استدللت به لا يدل على الوجوب؛ لأنَّ الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب، فأحمله على الاستحباب، وهذا اعتراض ظاهرٌ. التاسعة والعشرون: وربما احتج في المسألة بحديث محمد بن ثابت العبدي (¬1). الثلاثون: من استدلالاتهم التي قد تُقام عذرًا في المخالفة: حديثُ أبي داود من رواية محمد بن ثابت العبدي، قال: حدَّثنا نافعُ قال: انطلقت مع ابنِ عمرَ في حاجة إلى ابن عباس، فقضى ابنُ عمر حاجته، وكان من حديثه يومئذٍ أنْ قال: مرَّ رجلٌ على رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في سِكَّة من السكك، وقد خرج من غائط أو بولٍ، فسلَّم عليه، فلم يرد عليه، حتَّى [إذا] كاد الرجل أن يتوارى في السكة، ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلامَ، [و] (¬2) قال: "إنه لم يمنعني أنْ أردَّ عليك السلامَ، إلَّا أني لم أكن على طُهرٍ" (¬3)، وهذا الحديث - وإن كان قد ¬

_ (¬1) جاء على هامش الأصل و "ت": بياض. قلت: وسيأتي ذكر حديثه في الفائدة الآتية. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) رواه أبو داود (330)، كتاب: الطهارة، باب: التَّيمم في الحضر. قال المؤلف رحمه الله في "الإمام" (3/ 145): ورُدَّت هذه الرواية بالكلام في محمد بن ثابت؛ فعن يَحْيَى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ليس =

تُكُلِّمَ في محمد بن ثابت خيرٌ من الأول وأقوى، لحُسْن حال محمد هذا بالنسبة إلى حال الرجلين في الحديث قبله عند المحدثين، لكنَّ فيه من الإعتراض ما في الحديث الأول؛ من منع دلالةِ الفعل على الوجوب. ¬

_ = بالمتين، وقال البُخاريّ: خولف في حديثه عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً في التَّيمم، وخالفه أيوب وعبيد الله وغيرهم فقالوا: عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً في التَّيمم، فعله. وقال النَّسائيّ: محمد بن ثابت يروي عن نافع، ليس بالقوي، وقال ابن عدي: عامة حديثه لا يتابع عليه. وذكر البيهقي في تقوية هذه الرواية أشياء ذكرها، ونحن نذكر ما يمكن أن يقوله مخالفوه، مع الاستعاذة بالله من تقوية الباطل أو تضعيف حق. قال البيهقي: وقد أنكر بعض الحفَّاظ رفع هذا الحديث على محمد بن ثابت العبدي؛ فقد رواه جماعة، عن نافع، من فعل ابن عمر، والذي رواه غيره عن نافع من فعل ابن عمر إنَّما هو التَّيمم فقط؛ فأمَّا هذه القصة فهي عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - مشهورة برواية أبي الجهم الحارث بن الصمة وغيره. وينبغي أن يتأمل فيما أنكره هذا الحافظ، هل هو أصل القصة أو روايتها من حديث ابن عمر، أو رفع محمد بن ثابت للمسح إلى المرفقين، وفي كلام البيهقي إشارة إلى أن المنكر إنَّما هو رفع مسح اليدين إلى المرفقين، لا أصل القصة وروايتها من حديث ابن عمر؛ لأنَّه قال: والذي رواه غيره عن نافع من فعل ابن عمر إنَّما هو التَّيمم فقط، وكيف يمكن أن يتأتى رواية هذه القصة على هذا الوجه موقوفة على ابن عمر، فيتعين أن يكون المنكر عند من أنكر هو المسح إلى المرفقين، وأن التعليل برواية غيره موقوفة؛ فإنَّه إذا كان المشهور أصل القصة من رواية أبي الجهم، وليس فيها ذكر المرفقين، فليس ينفع ذلك في تقوية رواية محمد بن ثابت، بل قد عده خصومه سببًا للتضعيف، وأن الذي في الصحيح في قصة أبي جهم: ويديه، وليس فيه: وذراعيه، والله أعلم، انتهى. وانظر: "نصب الراية" للزيلعي (1/ 152).

الحادية والثلاثون

الحادية والثلاثون: المنقول عن الزُّهريّ: أن التَّيمم إلى المناكب (¬1)، والحديث يدل على خلافه، لدلالته على الاكتفاءِ بما دون المناكب. الثَّانية والثلاثون: قد تقدَّمت مسألةٌ في الاستدلال على عدم اشتراط التَّرتيب بطريقة ترك الاستفصال، ويمكن أن يؤخذ من الحديث من وجه آخرَ، وهو حُصول المسمَّى من مسح الوجه واليدين، مع دلالة النص على الاكتفاء بالمسمى حيث ذكر الاكتفاء بمسح الوجه واليدين بالواو التي (¬2) لا تقتضي التَّرتيب. الثالثة والثلاثون: المشهورُ أن حُكْمَ الموالاة في التَّيمم، كحكمها في الوضوء، فتخرَّج على قولين للشافعية، ومن يعتبر الجفاف للماء، اعتبر هاهنا مدَّة الجفاف، لو كان المسْتَعْمَلُ ماء، ونقلت طريقة قاطعة عن بعض الشَّافعية باشتراطها في التَّيمم، وأخرى قاطعة بعدم الاشتراط في التَّيمم (¬3)، والاستدلال بحصول المسمى ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (19/ 283): فأمَّا ما ذهب إليه ابن شهاب من التَّيمم إلى المناكب والآباط فإنه صار إلى ما رواه في ذلك. قلت: وهو ما رواه أبو داود (381)، كتاب: الطهارة، باب: التَّيمم، والنَّسائيُّ (314)، كتاب: الطهارة، باب: التَّيمم في السفر، من حديث ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عمار بن ياسر، به، وفيه: "فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم" وفي إسناده كلام كما ذكر ابن عبد البر. (¬2) في الأصل "الذي"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (2/ 334).

الرابعة والثلاثون

الذي ذكرناه في التَّرتيب يجيء مثله هاهنا. الرابعة والثلاثون: حصول المسمَّى إذا اقتضى الاكتفاء، لا يعيِّن هيئةً دون هيئةٍ. * * *

الحديث الموفي عشرين

الحديث المُوْفيَ عِشرين وروى أبو داود من حديث خالد بن مَعْدانَ، عن بعض أصحاب النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا، وفي ظَهْرِ قَدَمِهِ لَمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرهم، لم يُصِبْها الماءُ، فأمرَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُعيدَ الوضوءَ والصلاةَ. وفي إسناده بَقِيَّة، يرويه عن بَحيِر بن سعد. وفي "المسند" عن أحمد أنه قال (¬1): ثنا بَحِيْر (¬2). قال الأثرم: ¬

_ (¬1) في بعض نسخ "الإلمام": "يعني بقية، وقد وثقه جماعة، وقد زالت تهمة تدليسه بقوله: حدثنا". كذا ذكره ابن عبد الهادي على هامش نسخته الخطية (ق 7/ ب)، وانظر: المطبوع من "الإلمام" (1/ 74). (¬2) * تخريج الحديث: رواه أبو داود (175)، كتاب: الطهارة، باب: تفريق الوضوء، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 424)، كلاهما من حديث بقية بن الوليد، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، به. قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (1/ 130) بعد أن ذكر كلام الإمام أحمد في تجويد إسناد هذا الحديث: وقد احتج به الإمام أحمد أيضاً في رواية غير واحد من أصحابه، وتكلم فيه البيهقي وابن حزم وغيرهما بغير مستند قوي.

[الوجه] الأول: في التعريف

قلت لأحمد: هذا إسناد جيد؟ قال: نعم. الكلام عليه من وجوه: * * * * الأول: في التعريف: فنقول: بَحِير - بفتح ثاني الحروف، وكسر سادسها، وقبل الراء المهملة ياء - ابن سعد أبو خالد السُّحولي (¬1)، ويقال: الكُلاعي، ويقال: الحزازي الحِمْصي، روى عن أبي عبد الله خالد بن معدان الكُلاعي، روى عنه عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعيّ، ومعاوية بن صالح الحَضْرمي، وإسماعيلُ بن عيَّاش، ومحمد بن حمير، وبقيَّةُ بن الوليد، وأبو مطيعٍ معاويةُ بن يَحْيَى الإطرابُلُسي. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: بحير بن سعد صالح الحديث. قال الأوْنَبِي: أخرج له أبو داود، والترمذي، وهو ثقة، قاله ابن صالح، والنسوي. وقال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمدَ بن حنبل -: أيُّما أصحُّ حديثاً عن خالد بن معدان؛ ثور، أو بحير بن سعد؟ قال: بحير، فقدَّم بحيراً. ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "السحوري"، والصواب ما أثبت. قال المزي: والسحول آخر الخبائر، وهو بطن من ذي الكلاع من حمير.

وقال محمد بن عوف الطَّائي: قال أحمد بن حنبل: ليس بالشام أثبت من حُرَيْز، إلَّا أن يكون بحيراً، انتهى (¬1). وأمَّا بَقِيَّة: - بفتح الموحدة وكسر القاف -، فهو أبو يُحْمِد - بضم الياء آخر الحروف (¬2)، وسكون الحاء المهملة، وكسر الميم، وآخره دال مهملة - بقية بن الوليد بن صائد بن كعب بن حُرَيْز، الكلاعي الشَّاميُّ الحمصي. روى عن أبي خالد بحير بن سعد الحزازي الحمصي، وأبي سفيان محمد بن زياد الأَلْهاني الحمصي، وأبي عبد الله ثابت بن عَجلان الأنصاري السلمي الحمصي. روى عنه: شعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، ويزيد بن هارون، وعبد الله بن يَحْيَى البرلسي المصري، وإبراهيم بن موسى الفرَّاء، وهشامُ بن عمَّار الدمشقيّ، وحَيْوَةُ بن شُرَيح بن يزيد الحَضْرمي الحِمْصي، وأبو سليمان يَحْيَى بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينارٍ الحمصي، وأبو حَفْص عمر بن سعيد بن ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 137)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 412)، "الثقات" لابن حبان (6/ 115)، "تهذيب الكمال" للمزي (4/ 20)، "تذكرة الحفَّاظ" (1/ 175)، "الكاشف" كلاهما للذهبي (1/ 264)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (1/ 368). (¬2) قال ابن ماكولا في "الإكمال" (7/ 327): وأصحاب الحديث يقولون بفتح الياء.

مسروقٍ الحمصي، وأبو عثمان سعيد بن عمرو بن سعيد السُّكوني الحمصي، فيما ذكر الأَوْنبَي. قلت: اختلفت الأقوال فيه، فمنهم من وثقه، وأطلق القول بذلك. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زُرعة يقول: بقية أحبُّ إليَّ من إسماعيل بن عيَّاش، ما لبقيةَ عيبٌ إلَّا كثرةَ روايتِهِ عن المجهولين، فأمَّا الصدقُ فلا يؤتى من الصِّدقِ، وإذا حدَّث عن الثقات فهو ثقة (¬1). وقال ابن صالح: بقية بن الوليد الحمصي، ثقةٌ ما روى عن المعروفين، وما روى عن المجهولين، فليس بشيء (¬2). وذكر عثمان الدَّارميُّ: أنه سأل يَحْيَى من معين قال: قلت: فبقية كيف حديثه؟ قال: ثقةٌ، قلت: هو أحبُّ إليك، أو ابنُ حرب؟ فقال: ثقة، وثقة (¬3). قلت: وقد أخرج مسلم لبقيةَ في المتابعة، وذكر الصُّوفي قال: ثنا سعيد بن عثمان قال: سألت محمد بن عبد الله بن السُّكَّرى عن بقية بن الوليد، فقال: حمصيٌّ، ثقة، يُحدِّث عن الضعفاء، فما حدث عن الثقات فهو صحيح. ومنهم من شَجَّع القول فيه: فعن أبي مُسْهِر الغَسَّاني أنه قال: ¬

_ (¬1) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 435). (¬2) انظر: "معرفة الثقات" للعجلي (1/ 250). (¬3) انظر: "تاريخ ابن معين - رواية عثمان الدارمي" (ص: 79).

بقية ليست أحاديثه نقيَّة، فكن منها على تقيَّة (¬1). وعن سفيان بن عيينة: لا تسمعوا من بقية ما كان من سُنَّة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره (¬2). ومنهم من فَصَّل القول، وبيَّن ما عابه به: ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سُئل أبي عن بقية، وإسماعيلِ بن عَيَّاشٍ، فقال: بقية أحبُّ إلي، فإذا حدَّث عن قوم ليسوا بمعروفين، فلا، يعني: لا تقبلوه (¬3). وقال ابن أبي خَيْثَمة: سئل يَحْيَى بن معين عن بقية بن الوليدِ، فقال: إذا حدَّث عن الثقات مثلِ صفوانَ وغيره، فأمَّا إذا حدث عن أولئك المجهولين، فلا، وإذا كنَّى، ولم يسمّ اسمَ الرجل، فليس يساوي شيئًا، فقيل ليحيى: أيهما أثبت؛ بقية، أو إسماعيل بن عياش؟ قال: كلاهما صالحان (¬4). وعن ابن المبارك: إذا اجتمع بقية وإسماعيل بن عياش في الحديث، فبقية أحبُّ إليَّ (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 435)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 72)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 124). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 435)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/ 339). (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 435)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 162)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/ 343). (¬4) ومن طريق ابن أبي خيثمة: رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 435)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/ 345). (¬5) رواه البُخاريّ في "التاريخ الأوسط" (2/ 226)، ومن طريقه: ابن عدي =

وذكره أبو أحمد الحاكم في كتاب "الأسماء والكنى" فقال: ثقةٌ في حديثه إذا حدَّث عن الثقات بما يُعرف، لكنه ربما يروي عن أقوام نُبلٍ مثل: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، ومحمد بن الوليد الزبيدي، وعبد الله بن عمر العُمَرِي، أحاديثَ شبيهة بالموضوعة، أحدها: عن محمد بن عبد الرحمن القشيري، ويوسف بن السفر كاتب الأوزاعي، وغيرهما من الضعفاء، فيُسْقِطُهم من الوسط، ويرويها عمن حدثوه بها عنهم. وقال الأَوْنبَي: أخرج لبقيةَ هذا أبو داود، والترمذي، وأخرج له مسلمٌ في المتابعة، ولم يُتَكَلَّم [فيه من قِبَلِ حِفْظ، ولا مذهب، وإنَّما تُكُلِّمَ] (¬1) فيه من قبل تدليسه، وروايته عن المجهولين. وقال ابن يونس: توفي سنة سبع وتسعين ومئة (¬2). ¬

_ = في "الكامل في الضعفاء" (1/ 293)، ورواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 125)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/ 340). (¬1) زيادة من "ت". (¬2) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 769)، "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 150)، "معرفة الثقات" للعجلي (1/ 250)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 435)، "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (2/ 72)، "الضعفاء" للعقيلي (1/ 162)، "تاريخ بغداد" للخطيب (7/ 123)، "رجال مسلم" لابن منجويه (1/ 99)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (10/ 328)، "تهذيب الكمال" للمزي (4/ 192)، "سير أعلام النبلاء" (8/ 518)، "ميزان الاعتدال" كلاهما للذهبي (2/ 45)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (1/ 416)، "طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 126).

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجه الثَّاني: في تصحيحه: وقد ذكرنا توثيقَ من وثَّقه مطلقاً، ومِن بَيْنِ ما أنكر عليه؛ من تدليس، أو روايةٍ عن المجهولين، وقد انتفتْ هذه العلة في الحديث الذي أوردنا؛ لما ذَكَرنا في "المسند" عن أحمد، قال: حدّثنا بحِير، فزال بذلك تهمةُ التدليس، والروايةُ عن المجهولين، وما ذكرنا من تصحيح القول فيه عن بعضهم، فليس فيه ما يدل على شيء منكر منه غيرِ التدليس، والروايةِ عن المجهولين، فقد وُجِدَ شرْطُ ذِكْرِنا له في الكتاب. * * * * الوجه الثالث: في الفوائد، وفيه مسائل: الأولى: فيه دليل على اشتراط الموالاةِ في الوضوء، وقد اختلفَ فيها الفقهاءُ، وليس فيه ما يدل على فصْلٍ طويل، أو قصير، وكيفما كان فهو دليل. وقد رُوي في الحديث من وجه آخر: أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "ارجع فأحسِنْ وضوءَك" (¬1)، وهذا لا ينافي ما دلَّ عليه هذا الحديث، فإن "فأحسن وضوءك" مُبْهَم في كيفية الإحسان، مبيَّنٌ في هذه الرواية أنه ¬

_ (¬1) رواه مسلم (243)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رجلًا توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ارجع فأحسن وضوءك" فرجع، ثم صَلَّى.

الثانية

إعادة الوضوء والصلاة، بل قد ادعى الخطابي أنَّ دلالته: أنه لا يجوز تفريق الوضوء، وذلك لأنَّه قال: "ارجعْ فأحسن وضوءك"، وظاهر معناه: إعادة الوضوء في تمامٍ، ولو كان تفريقه جائزًا لأشبه أن يقتصر فيه على الأمر بغسلِ ذلك الموضعِ، أو كان يأمره بمسِّه الماءَ في مقامه ذلك، وأن لا يأمره بالرجوع إلى المكان الذي يتوضأ منه (¬1). ولا يخلو بعض هذا من نظرٍ، لا سيَّما قوله في آخر الكلام: أو كان يأمرُه بمسِّ الماء في مقامه، ولا يأمرُه بالرجوع، فإنَّه جائز أن لا يكون الماءُ حاضرًا. وأيضًا، فلا فرق بالنسبة إلى وجوب الموالاة، أو عدم الوجوبِ بين الأمكنة، فلو كان الماءُ حاضرًا، لم يَأْمر بالرجوع، وإن وجبتِ الإعادةُ. الثَّانية: الحديثُ دالٌّ على الاشتراط، وما دل على الشرطية، دلَّ على الوجوب، بمعنى: أنه لا يجوز أداءُ المشروط بدون شرطِهِ، وأمَّا العكسُ؛ وهو أنَّ الوجوب هل يستلزم الشرطية؟ بمعنى: أنه إذا وجب شيء في أمر هل يكون شرطاً فيه؟ هذا لا يستلزمه من حيث هو كذلك، ولكنه يُسْتَدَلُّ عليه بأنَّ الغالب أنَّ ما كان واجباً في العبادة، كان شرطاً فيها، وبأنه إذا كان واجبًا، فعند الإخلال لم يأت المأمورُ به على الوجه المأمورِ به، فبقي في العُهدة. الثالثة: اتفقوا على جوازِ التفريق القليل، وإنَّما اختلافهم في الكثير، واستُدِلَّ على ذلك: ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 63 - 64)

الرابعة

بأنه - عليه الصَّلاة والسلام - فَرَّقَ التفريقَ اليسيرَ، حتَّى أخرج يده من الجُبَّة الشامية (¬1). وممَّا يُستدل به على ذلك أيضًا رواية عبد السلام بن صالح، عن إسحاق بن سويد، عن العلاء بن زياد، عن رجل من أصحاب النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - مَوصِيٌّ: أن رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - خرجَ عليهم ذات يومٍ، وقد اغتسل، وقد بقيت لمعة من جسدِهِ، لم يُصِبْها الماء، فقلنا: يا رسول الله! هذه لمعة لم يصبها الماء، فكان له شعر واردٌ، فقال بشعرِهِ هكذا على المكان، فبلَّه. وهذا يتعين (¬2) منه: أن التفريقَ اليسير لا يضر، أخرجه الدارقطني، وقال: عبد السلام بن صالح هذا بصري، ليس بالقوي، وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق، عن العلاء مرسلاً، كما ذكر، ولم يَذْكُرْ تمام لفظه، وقال: وهو الصواب (¬3). الرابعة: اختلفوا في حد الكثير: فقيل: أن يمضيَ من الزمان ما يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء، ومزاجِ الشخصِ، فلا عبرةَ بالمحمومِ، ولا بتباطؤ الجفافِ، ولا بمسارعته من جهة الحرارةِ. وقيل: يُؤخذ القليل والكثير من العادة. وقيل: إذا مضى قدرُ ما يمكن فيه إتمامُ الطهارة، فقد أكثر ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -. (¬2) في الأصل: "يعني"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "السنن" للدارقطني (1/ 110).

الخامسة

التَّفريق، وهذه الأقوال مذكورة في كتب الشَّافعية (¬1). الخامسة: الذي يتحقَّق من الحديث: أن هذا الفصلَ ضارٌّ، والأمر بإعادة الصَّلاة يقتضي أن يكونَ قد وقعَ الفصل بمقدار الصَّلاة، ولا يلزم من ذلك إلَّا (¬2) ما كان دونَه غيرَ ضار؛ لأنَّه إذا كان الزمنُ الأطولُ ضاراً، لم ينافِهِ كونُ الأّقصرِ ضاراً؛ لدخول الأقصرِ في الأطول، فلا يتبيَّن من هذا المقدار الحدُّ في الكثرة المبطِلة. نعم، قد يكون ذلك دليلاً على اعتبارِ العادة، إذا لم تكن مدةُ الصلاةِ زائدةً على العادة، فإن كانت زائدة، فهو دليل على من يقول باعتبار العادة، لكنَّ الأصلَ عدمُ زيادتها. والرجوعُ إلى العادة هو أقوى هذه الأقوال التي حكيناها؛ لأنَّه إذا ثبت أنَّ التَّفريق الكثير يضرُّ شرعاً، ولم يَرِدْ حدٌّ فيه، فالقاعدة: أنْ يُرْجَعَ فيه إلى العُرْف، وله نظائر، كما في الحِرْزِ والقَبْضِ. السادسة: وأمَّا القول بالجفافِ، فكأنه راجع إلى الاستحسان، وهو أن يقيمَ بقاءُ أثرِ الشيء مقامَ بقائه في نفسِه، فإنَّ الفعل قد انقطعَ، ولكنَّ البللَ الذي هو أثرُه باقٍ، فيقامُ مقامَ وجودِه، وهو ضعيفٌ، إلَّا أن يُدَّعى أن العادةَ تحكم بأنَّ مثلَ هذا التفريقِ كثير، فحينئذٍ المرجوعُ إليه هو العادةُ لا الجفافُ. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 440)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله. (¬2) "ت": "أن".

السابعة

وقد يُدَّعى: أنَّ في الحديث ما يدل على عدمِ اعتبارِ هذا؛ لأنَّ التفرقةَ بينَ ما لم يُصِبْه الماء، وبين ما أصابه، قد تُشْعِر ببقاء البلل، وقد يكون الشعورُ به من جهة الوضاءةِ الحاصلة بالغسل لما غسل. وقد يُستدل من الحديث أيضًا على إبطالِ هذا القول؛ بأنَّ الأمر بإعادة الصَّلاة يدل على أنَّه وُجِدت الصَّلاة، ووجود الصَّلاة مع الحركة في القيامِ والقعود، وملابسةِ الثياب، يقتضي الجفافَ ظاهراً بالأفعال والملامسة، والقائلون بهذا القول يعتبرون زمنَ الجفاف، والمعتاد دون النادرِ والطارئِ، كما دلَّ ما حكيناه [عنهم] (¬1)، فلو كان وجوبُ الإعادة متوقِّفاً على الزمن المذكور، لتوقَّف الأمرُ به على وجود ذلك الزمن، ثم لَزِمَ من ذلك بيانُ تعلق الحكم به؛ لأنَّ صورةَ الجفاف لم تكنْ دالةً حينئذ على ما يتعلَّقُ به الحكم، فيقعُ الاشتباهُ عند عدم البيان بما يتعلَّقُ به الحكم. السابعة: وأمَّا القولُ باعتبار الزمن بمقدار ما يُمكن [فيه] (¬2) إتمامُ الطهارة، فلا يدل الحديثُ على بطلانه؛ لأنَّه إذا كان ما ذكره ضاراً، فما وقع من التَّفريق بالصلاة أولى، لكنْ يُحتاج إلى دليل على إثباته، أي: إثباتِ اعتبارِ ذلك الحدِّ الذي ذكره. الثامنة: قالوا - من جهة الشَّافعية -: إنَّ اعتبارَ مدةِ التَّفريق من آخر الفعل المأتي به من أفعال الوضوء، حتَّى لو غسلَ وجهه ويديه، ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

التاسعة

ووقع فصل، ثم مسحَ رأسَه قبل جفافِ ماء اليدين، لم يضرّ، وإن جف الماء على وجهه (¬1). وهذا تفريع على اعتبار الجفاف، أعني: التمثيلَ بالصور المذكورة، والجفاف، وقد مر ما فيه قبل. وإذا اغتسل (¬2) ثلاثاً، فالاعتبار من الغَسْلة الأخيرة (¬3). وأمَّا الاعتبار بآخر (¬4) الفعل، فلا يَلْزَمُ أن يكون مفرَّعاً على اعتبار الجفاف. التاسعة: الذين أوجبوا الموالاة، اشترطَ أكثرُهم عدمَ العذر، وعن بعض الشَّافعية: طرَّد القولين في التَّفريق بالعذر أيضًا؛ مثَّل العذر بما إذا نفِدَ ماؤه، فذهب لطلبه، وخاف من شيء، فهرب (¬5). وهو قول بعض المالكية، أعني: عدمَ اشتراطِ العذر، وأنه تجبُ الإعادة مطلقًا عند الإخلال بالموالاة، وفي كونِ النسيان عذرًا خلافٌ عندهم؛ أي: على قول وجوبِ الموالاة، وظاهرُ مذهبِ مالكٍ الوجوبُ مع الذِّكْرِ دون النسيانِ، والمنسوبُ إلى ابن وهب الوجوبُ مطلقًا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 440 - 441). (¬2) "ت": "غسل". (¬3) المرجع السابق، (1/ 441). (¬4) في الأصل: "بأجزاء"، والمثبت من "ت". (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه (¬6) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 270).

العاشرة

العاشرة: وأمَّا المالكية فذكروا صورتين: إحداهما: أنَّ يبتدئ بما ظنَّ أنه كفايتُه، فعجز عنه، هل يعذر بذلك؟ وحكي قولان: قال بشير المالكي: وهذا على الخلاف في أن الاجتهاد هل يرفع الخطأ، أو لا؟ قلت: وهذا الإطلاق، وجعله قاعدةً، لا يستمر في كل صورة، فإنه [و] (¬1) إن صح في المجتهد في القِبلة إذا أخطأ، فلا يصحُّ في المجتهد في غروبِ الشمس في رمضان إذا أخطأ نهارًا، ولا في بقاء الليل إذا أخطأ ليلاً، إلى غير ذلك من الصور، وإنَّما انقسمَ النَّاسُ في القاعدة، فمن أراد إلحاقَ الفردِ المختَلَفِ فيه بآحاد الصور، فعليه دليلُ التخصيص. الصورة الثَّانية: إذا ابتدأ بماءٍ كاف بلا شكّ، فغُصِبَ، أو أُهْرِيْقَ، فصُحِّح عنِ المالكية؛ أنه معذورٌ، ونُقِلَ قولٌ لبعض المتأخرين؛ أنه لا يُعذر به، قال بعضهم: وهذا أولى بالعذر من النَّاسي، فإن النَّاسي معه بعضُ التفريط، وهذا غير مفرِّط (¬2). وهذا يعارَضُ بأنَّ النسيانَ كثيرُ الوقوع، ولا تساويه في الوقوع الصورة المذكورة؛ الغصب والإراقة. الحادية عشرة: زعم بعضُهم؛ أنَّ التفرِقَةَ بين المعذور وغيره، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) وانظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 226).

الثانية عشرة

سببها: أنَّ رؤيةَ الموالاةِ من بابِ المنهيَّات، والمنهياتُ يفترق عَمْدُها ونسيانها، قياساً على الكلام في الصَّلاة. وهذا فيه نظر؛ لأنَّ الأمرَ بالشيء مع النَّهيِ عن ضدّه، إمَّا أن يتلازما، أو لا؛ فإن لم يتلازما: لم يلزمْ، إذا وردت صيغةُ الأمر بشيء، أن يكون ضدُّه من باب المنهيات. وإن استلزمه: فإذا كان أمرٌ يستلزمه النَّهيُ، فيلزم أن يكون لنا ردُّ كلِّ أمرٍ إلى باب المنهيات، وهو باطل. وإن انقسم الحال: فمن ادَّعى في شيء معيَّنٍ إلحاقَه ببعضٍ دون بعض، فعليه البيان. الثَّانية عشرة: حُكِيَ عند المالكية قولٌ بالفرق بين الممسوح والمغسول، بمعنى عدمِ الاشتراطِ في الممسوح دون المغسول، وعُلِّل: بأنَّ المسحَ مبنيٌّ على التخفيف (¬1). وهذا نوع من الاستحسان لمناسبة ضعيفة، ثم نقول: إما أن يُدّعى التخفيفُ في كل أحكام المسحِ، أو في بعضها؛ فإن كان في الكل: فلا بد من دليلٍ عليه، وكيف يمكنه ذلك مع القول بوجوب التعميم في مسح الرأس؟ فإنَّه تثقيل لا تخفيف. وإنِ انقسم الحال: فلا بدَّ من دليل يدل على خصوص الإلحاق بما أُلحق به. الثالثة عشرة: وعند المالكية قولٌ آخرُ في الفرق بين الممسوح ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 67).

الرابعة عشرة

بدلًا، والممسوحِ أصلًا (¬1)، وهو أيضًا ضعيفٌ، مبنيٌّ على مناسبةٍ ضعيفةٍ، أو استحسانٍ، وهو درجة منحَطَّةٌ عن التمسُّكِ بالظواهرِ. الرابعة عشرة: الذي دلَّ الحديث عليه؛ هو التفرقةُ في المغسول، والنظرُ إلى تعلُّقِ الأمر بالفعل المتناوِل للمَمْسوحِ، والممسوحُ يقتضي أن لا فرقَ بينهما، ولكن يمكن الفارق أن يقول: دلَّ الحديثُ على المغسول، فلا أعدِّيه إلى الممسوح، فإمَّا أن يسند عدم التعدية إلى الأصل، أعني: عدمَ الوجوب، وهو باطلٌ؛ لدلالة النص على الأمر بالجميع، وإما أن يسنده إلى دليل من خارج، يقتضي عدمَ الوجوب في الممسوح، ويخرج عنه الوجوبُ في المغسول بهذا الحديث، فعليه إبانةُ ذلك الدليل، وأمر التخفيف قد ضعفناه. الخامسة عشرة: ممَّا يمكن أن يعارَض به الاستدلالُ بهذا الحديث، من جانب من لا يشترِطُ الموالاة، الاستدلالُ بالآية الكريمة؛ ووجهُه أن يقالَ: أتى بما أمر به؛ وهو غسل الأعضاء المعينة، مع مسح الرأس، فوجبَ أن يَخْرُج عن العُهْدة، وهذا اعتقاد؛ لأنَّ الآية الكريمة لا تدلُّ على الموالاة، وقد نوزع فيه: إما بناءً على القول: بأنَّ الأمر على الفور، أو لأنَّ (إذا) وإن كانت شرطًا، فهي ظرف، والعامل فيها جوابُ ما (¬2)، فكأنه قيل: اغسل هذه الأعضاء إذا قمت؛ لأنَّ (الواو) الداخلة بين الأعضاء ¬

_ (¬1) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (1/ 223). (¬2) في هامش "ت": "لعله: جوابها".

تقتضي التشريك، وربما ادعى بعضُهم [أن] (¬1) الشرطَ هاهنا قرينةٌ على الفورية. أُورِد عليه: أنه إنَّما تقتضي الآيةُ الفورَ في حقِّ من قام إلى الصَّلاة، لا في حق مَنْ توضأ قبل الوقت، أو قبلَ أن يريدَ القيامَ إلى الصَّلاة. أجاب بعضُ المتأخرين عن هذا: بأنه فهم من ذلك: أن الأعضاء الأربعةَ في حكمِ العبادة الواحدة، لمَّا وجب تواليها في بعض الحالات، حكمنا بذلك في حقّ مَنْ توضَّأ قبل دخول الوقت، أو وقتَ إرادته للصلاة. وهذا الفهمُ الذي ادَّعاه، إن كان بسنده إلى الوجدان في نفسه، فقد يعارضه خصمُه بضد ذلك. وإن كان يسنده إلى دليلٍ شرعي، فليبيِّنْه؛ فإنَّه لا يلزم من كونِها كالعضو الواحد في حالة مخصوصة، أن تكونَ كالعضو الواحد مطلقًا، نعم، يمكن على طريقة المتأخرين، أن يقال: إذا وجبتِ الموالاةُ في الصورة التي سلمتموها، وجبَ في غيرها، لعَدَمِ القائل بالفصل، إلَّا أنَّا قد أشرنا في ما مضى: أنَّ مثل هذا من باب الجدليات، وأنه لا يستند إليه الحكم في أول زمنِ الاجتهاد، هذا على تقدير أن يكون عدمُ القول بالفصل ممَّا يمنع في مثل هذه الصورة. ¬

_ (¬1) زيادة من هامش "ت".

السادسة عشرة

السادسة عشرة: وأمَّا الاستدلال بالفور، واقتضاء الأمر له، فالمختار خلافُه عند الشَّافعية (¬1)، وربما قال بعضُهم: إنَّ الأمر على الفور ما لم تقترنْ به قرينة، وها هنا قرينة، هي الإجماع، فإنَّه لو توضَّأ فغسل وجهَه، وبقي ساعةً بحيث لا تنشف أعضاؤه، فإن وضوءَه صحيحٌ، وإن لم يكن فيه فور، وهذا ليس بالقوي، فإن الخصمَ لا يجعل التفريقَ اليسيرَ منافياً للموالاة، والله أعلم. السابعة عشرة: يُدَّعى أنَّ لهذا الحديث مُعارِضٌ من حديث آخر، يَسْتَدِل به من لا يرى وجوبَ الموالاة، وهو ما رُوي من حديث سالم، عن ابن عمر، عن أبي بكر وعمر (¬2)، عن النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، قال: جاء رجلٌ قَدْ توضَّأَ، وبقي على ظهْرِ قدمِهِ مِثْلُ ظُفْرِ إبهامِهِ، لم يَمَسَّهُ الماءُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ارِجعْ، فأتمَّ وضُوْءَك" ففعل. أخرجه الدارقطني، والحديث من رواية المغيرة بن سقْلاب، عن الوازِع بِن نافعٌ، عن سالم. قال الدارقطني: الوازعُ بن نافعٍ ضعيفُ الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "المحصول" للرازي (2/ 189). (¬2) في الأصل و "ت": "أبي بكر بن عمر"، وجاء فوقها في "ت": "كذا"، والتصويب من "سنن الدارقطني". (¬3) انظر: "سنن الدارقطني" (1/ 109). وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 95).

قلت: ولم يخْلُ المغيرةُ من مسٍّ أيضاً (¬1). على إمكانِ المنازعةِ في دلالة: "أتمَّ وضوءَك"، على الاكتفاء بغَسْل المكان، وقد ذكر بعضُ الشافعيَّةِ في الاستدلال: أنَّه رُوِي: أنَّ رجلًا توضَّأ وتركَ لَمْعَةً في عَقِبِهِ، فلمَّا كان بعد ذلك، أمرَهُ النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بغَسْل ذلك الموضع، قال: ولم يأمره بالاستئناف، ولم يَسْأَله عن المُدَّة الفاصلة (¬2). ودلالة قوله: "أمره بغَسْل ذلك الموضعِ" على عدمِ الموالاةِ أقوى من دلالة "أتم وضوءك" على ذلك (¬3)، فإذا أرادَ الاستدلال، فلا بد من إثبات هذا اللفظِ الزائدِ في القوة، [و] (¬4) لا يمكن أن يقال: إنَّه من باب الرواية بالمعنى، فإن مِنْ شَرْطِهِ عندهم اتّحادُ الدلالة بين اللَّفظين، ولا اتحادَ مع وجود التفاوت. وأمَّا الحديثُ الذي فيه: "ارجع، فأحسِنْ وضوءَك" فقد ذكرنا الكلامَ فيه، وما قاله الخطابي، وليس يتبيَّن أنَّ الإحسان بماذا، أهو بالابتداء، أم بالإكمال؟ وقد روى ليث - وهو ابن أبي سليم -، ثنا عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة، أو عن أخي أبي أمامة قال: رأى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قوماً على أعقاب أحدهم مثل موضع الدرهم، أو ¬

_ (¬1) قال العقيلي في "الضعفاء" (4/ 182) بعد أن أورد الحديث في ترجمة المغيرة بن سقلاب: لا يتابعه إلَّا من هو نحوه. (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 439). (¬3) نقله الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 95) عن المؤلف رحمه الله. (¬4) زيادة من "ت".

مثل موضع الظُّفْرِ لم يصبه الماء، قال: فجعل يقول: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ" قال: فكان أحدُهم ينظر، فإن رأى موضعًا لم يمسَّه الماء، أعاد الوضوء (¬1). والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 108)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 84)، وإسناده ضعيف؛ ليث بن أبي سليم معروف باختلاطه. قال البيهقي: وهذا إن صح، فشيء اختاروه لأنفسهم، وقد يحتمل أن يريد به إعادة وضوء ذلك الموضع فقط.

الحديث الحادي والعشرون

الحديث الحادي والعشرون وعن أَنسٍ - رضيَ اللهُ عنه - قال: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ بالمُدِّ، ويَغْتَسِلُ بالصَّاعِ، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ. لفظ رواية مسلم، وهو متفق عليه (¬1). قد تقدم ذكر أنس - رضي الله عنه -. الكلام عليه من وجوه: * الأول: في تصحيحه: وقد ذكرنا أنه متَّفق عليه، وهو راجع ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه البُخاريّ (198)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء بالمد، ومسلم (325/ 51)، كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، من حديث مسعر، عن عبد الله بن عبد الله بن جبر، عن أنس، به. ورواه مسلم (325/ 50)، كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، والنَّسائيُّ (345)، كتاب: المياه، باب: القدر الذي يكتفي به الإنسان من الماء للوضوء والغسل، من حديث شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بني جبر، به. ورواه أبو داود (95)، كتاب: الطهارة، باب ما يجزئ من الماء في الوضوء، من حديث عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن جبر، به.

الوجه الثاني: في شيء من مفردات ألفاظه

إلى رواية ابنِ جبرٍ، عن أنس، والبخاريُّ أخرجه عن أبي نعيم، ومسلم عن قتيبة، عنَ وكِيع، كلاهما عن مِسْعَر، عن ابن جبر، [ورواه شعبة، عن عبد الله بن جبر] (¬1)، ومن طريقه أخرجه مسلم، والنَّسائيُّ، ورواه عبد الله ابن عيسى، عن عبد الله بن جبر، ومن طريقه أخرجه أبو داود. وفي الألفاظ اختلافٌ، فلذلك صُرِّحَ بأنَّ اللفظَ لمسلمٍ، يعني: من بعضِ الوجوه، التي هي رواية مسعر. * * * * الوجه الثَّاني: في شيء من مفردات ألفاظه: [الأولى]: الصاع: يُطْلق على المكيال الذي يُكال به، وهو المراد ها هنا، رأيتُ التّمر يُصاع؛ أي: يُكال بالصَّاع، ويطلق على المطمَئِنِّ من الأرض، قال المسيَّب بن عَلَس، بفتح العين المهملة واللام معاً وآخرُه سِيْن مهملة [من الكامل]: مَرَحَتْ يداها للنَّجاءِ كأَنَّما ... تَكْرُو بِكَفَّي لاعِبٍ في صَاعِ يقال: كروتُ بالكرة أكرو بها كَرْواً: إذا لعبتُ، وضربْتُ بها. والصَّاعُ بمعنى المطمئِنِّ من الأرض، وإن ذكر في سياقة المجاز عن هذه المادة، فلعلَّ الأقربَ: أنه مُشْتَرَك لخفاءِ العلاقةِ، وعدمِ مبادرة الذِّهنِ إليها، ويطلق الصَّاعُ - أيضاً - على وجه آخر، [يقال: ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق، وقد سقطت من الأصل و "ت".

ضرَبه في صَاع صَدْرهِ، وصاعٌ خوجِيَّةٌ، وسيق ذلك في المجاز] (¬1)، وهذا قريب؛ لأنَّ الصَّدْرَ جامعٌ، حاوٍ لما تحته، كجَمْعِ الصَّاع؛ أي: لما يحويه، فالعلاقة الاحتواءُ والجمعُ. وربما عُدَّ - أيضًا - في المجاز (¬2) قولهم: الرَّاعي يصوعُ إبلَه، والكَمِيُّ يصوعُ أَقْرانه، والتَّيس يصوع المَعْز، قال الشاعر [من الوافر]: يَصُوْعُ عنوقَها أحوى زنيمٌ ... له ظَأَبٌ كَمَا صَخِبَ الغَرِيمُ (¬3) ولعلَّ العلاقة في هذا الحوز والجمع من النواحي. وما يقرب من هذه المادة: صوَّعَ الطارقُ موضعًا للطُّروق: هيَّأه وسوَّاه. ويمكن أن تكون العلاقةُ التسويةَ؛ فإن الصَّاعَ يسوِّي المكيلةَ، وأمَّا التَّصَوُّع: بمعنى التفرق، يقول ذي الرُّمة [من الطَّويل]: عَسفْتُ اعْتِسافاً دونَها كلُّ مُذْهلٍ ... تظلُّ بها الآجالُ عنِّي تَصَوَّع (¬4) أي: تَفَرَّقُ، وكذلك انصاع: بمعنى انفتلَ راجعاً، ومرَّ مسرعاً، تقول: صِعْتُ الشيء فانصاعَ؛ أي: فرَّقْتُه فتفرَّقَ، ففي ردِّ هذا إلى ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) "ت": "وربما محمد في المجاز أيضاً". (¬3) البيت لأوس بن حجر، كما نسبه إليه ابن سيده في "المحكم" (2/ 301)، والأزهري في "تهذيب اللغة" (1/ 169)، وابن منظور في "لسان العرب" (1/ 568). (¬4) انظر: "ديوانه" (1/ 352).

الثانية

معنى الصاع بالاشتقاق، وجَعْلِها من مادة واحدة بُعدٌ (¬1). الثَّانية: يجمع الصَّاعُ على أَصْوُع - بسكون الضَّاد وضمِّ الواو - كأفْلُس، وعلي صِيْعَان، وأصواع (¬2). * * * * الوجه الثالث: في شيء من العربية، وفيه مسائل: الأولى "الباء" في قوله: "بالمد وبالصاع" للاستعانة. الثَّانية: لا بُدَّ من حذفِ مُضافٍ؛ أي: يَغْتَسِلُ بملء مُدٍّ، أو بملء صاعٍ من الماء. الثالثة: إذا جُمِعَ الصَّاعُ على أصْوُعٍ، جاز أن تُبْدَلَ واوه همزةً؛ لأنَّ الواو إذا كانت عيناً مضمومة، جاز أن تُقلبَ همزة بشرطين: أحدهما: أن تكون غير مضاعَفَةٍ؛ احترازاً من التقول، فإنَّها لا تقلب؛ لأنها مضاعفة. الثَّاني: أن لا تكون للإلحاق؛ [احترازاً من التسهيل، وما هو على بنيته، فلا تُقلب فيه الواو همزة؛ لأنها للإلحاق] (¬3)، فلو قلبت، إن الهمزة غير منقلبة (¬4)، وأنها صيغت بذاتها للإلحاق، وهذان الشرطان ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (2/ 301)، و"الصحاح" للجوهري (3/ 1246)، و "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 264). (¬2) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 364). (¬3) زيادة من "ت". (¬4) جاء فوقها في "ت" إشارة تدل على خلل في السياق.

الرابعة

موجودان في أصوع، فجاز قَلْيبُ الواوِ همزةَ، قال الجوهريُّ: وإنْ شئتَ أبدلتَ من الواو المضمومةِ همزةً (¬1)، يعني: في أصوع. الرابعة: "إلى" لانتهاء الغايةِ حقيقةً، فقوله في الحديث: "إلى خمسة أمداد" الأقرب (¬2) أنه انتهاء لغايةِ الزيادةِ، بمعنى: أنه يَغْتسل بالصاعِ، وقد يزيد عليه إلى خمسة أمداد؛ لأنَّ الصَّاع أربعة أمداد. * * * * الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: قد ثيتَ بالنصوص والظواهر: أن الواجبَ هو الغسل، ومقتضى ذلك أن يكتفى بالمُسَمَّى، فحيث حصلَ، حصلَ الإجزاءُ، وحيثُ نقص، لم يحصُلِ الإجزاء، ومقتضى ذلك: عدمُ التحديد فيما يُتَوَضَّأ به ويغتسل، وليس في الحديث دلالة على عدم الاكتفاء بما دون المقدارين المعيَّنَيْن، أعني: المدَّ والصاعَ، فلا تعارَض الظواهرُ في الاكتفاء بالمسمَّى إذا نقَص عن ذلك، إنْ أمكن أن يحصُل المسمَّى بما دون المقدارين المذكورَين. الثَّانية: المنقول عن الشَّافعي - رحمَهُ الله - أنه قال: "وبلغنا أن النبي - صَلَّى الله عليه وسلم - توضَّأ بالمُدِّ، واغتسل بالصَّاع"، وفي هذا ما دل على أن لا وقت فيه إلَّا كماله (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1247). (¬2) "ت": "أعني" بدل "الأقرب". (¬3) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 194).

الثالثة

قلت: دلالته على أن لا وقت بالنسبة إلى الزيادة، ظاهرٌ؛ لأنَّه لو كان الواجبُ أمراً زائداً على هذا المقدار، لما اكتفى بهذا المقدار. وأمَّا دلالتُه على أن لا وقت، فيما دون هذا المقدارِ إلَّا كَمَالُه، ففيه نظر، وسيأتي في المسألة بعدها ما يشير إليه. والذي يدلّ على عدم التحديد مطلقاً: هي الظواهُر التي اقتضت تعليقَ الحكمِ بمسمَّى الغسل، أو بمسمى الإفاضة. الثالثة: حكي عن محمد بن الحسن - رحمه الله - أنه قال: لا يمكن المُغْتَسِل أن يَعُمَّ جسدَه [بأقلَّ من صاع، ولا المتوضئ أن يسبغ أعضاء وضوئه] (¬1) بأقلَّ من مُدٍّ. قال بعض الشارحين المتأخرين: وفي هذا نظر: فإنَّه قد رُوِيَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنه توضأ بثلثي مد". قلت: هذا النظر الذي ذكره، يحتاج إلى تحقيق، فإن هذا الذي ذكر فيه ثلثا المد مذكور في حديث الرُّبيِّعِ بنتِ معوِّذ: "أنه - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ بماءٍ قَدْرَ ثلثي المُدّ" (¬2)، فحمله هذا الشارح على مُدّ النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وبه يتمُّ ردُّه ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين سقط من الأصل و "ت"، وأثبته من كلام المؤلف رحمه الله الآتي في هذه الفائدة. (¬2) رواه أبو داود (94)، كتاب: الطهارة، باب: ما يجزئ من الماء في الوضوء، والنَّسائيُّ (74)، كتاب: الطهارة، باب: القدر الذي يكتفي به الرجل من الماء للوضوء، لكن من حديث أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها، ولم أقف على رواية الرَّبيع رضي الله عنها في هذا الباب، فلا أدري إن كان هناك سبق قلم، أو أنها مروية لكنني لم أهتد إليها، والله أعلم.

ونظره، لكن المد مدان: مُدُّ النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، ومُدّ هشامِ بن إسماعيل، وهو أَزْيَدُ من المُدِّ الأول، قيل: بثلث، وقيل: بنصف (¬1)، فإذا كان كذلك، وكان الإخبار عنه، لم ينقُصِ الذي توضأ به النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن مُدِّه، لكنَّ ذلك يتوقف على تاريخ موتِ الرُّبيِّعِ، ومدة ولايةِ إسماعيل، وهل أدركَتْ زمن هشام بن إسماعيل، أو لا؟ فإن كان يمكن اجتماعُهما، فلا دلالةَ، لجواز أن تكونَ أرادت مُدَّ هشام، ولا تتوهمنَّ أنَّ قولها: "فأُتِيَ بماءٍ قَدْرَ ثلثي المد" يتعين لِئَن يكونَ بمُدِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّها إذا أدركت مد هشام، جازَ أن يعين ما كان أولاً عند المقدار بثلثي المقدار الحاضر عند إخبارها. والمنقولُ عن ابنِ شعبان وهو المالكي القُرْطي (¬2)، بضم القاف، وسكون الراء، والطاء المهملة، كأنه نسبةٌ إلى قُرْطة (¬3)، الموضع الذي بين النَّوبة وأسوان، نقل عنه: أنه قال: لا يُجْزِئُ في الغُسْل أقلُّ من صاعٍ، ولا في الوضوء أقلّ من مُدَّ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشَّافعي (2/ 187). (¬2) هو الإمام العلامة شيخ المالكية أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان العماري المصري المعروف بابن القرطي، له تصانيف بديعة منها كتاب: "الزاهي" في الفقه، و"أحكام القرآن"، و"مناقب مالك"، توفي سنة (355 هـ). انظر: "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (3/ 293)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (16/ 78). (¬3) وقال الذهبي في "السير" (16/ 78): نسبة إلى بيع القرط. (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 162).

الرابعة

وهذا إن كان إخباراً عن أمر شرعيٍّ، بناءً على أمر وجودي، كأنه قيل: لا يحصل في الوجود مسمَّى الغُسْل بدون هذا: فلا يجزئ ما دون هذا، فهذا يعودُ إلى ظاهر كلام محمد بن الحسن الذي قدَّمناه، فإنَّه يقتضي الإخبارَ عن الأمر الوجودي بقوله (¬1): لا يمكن المغتسلَ أن يَعُمَّ جسدَه بأقلَّ من صاعٍ، ولا المتوضئَ أن يسبغَ أعضاءَ وضوئه بأقل من مُدٍّ. وإن كان إخباراً عن أمرٍ شرعي، بمعنى: أن الدليل الشرعيَّ يقتضي عدمَ الاكتفاء بما دون ذلك، فهل يحتاج إلى دليل شرعي، يعلى حكم الإجزاء بهذا المقدار، وعدم الاكتفاء بما دونه؟ الرابعة: يمكنُ أن يستدل لمذهب ابن شعبان، بناء على القول: بأنَّ الفعل للوجوب، مع ضميمة دليلِ التأسِّي إلى الفعل، فإن ذاك يقتضي وجوبَ هذا المقدار، وفيه بحثٌ؛ فإنا إذا جعلنا الحكم مُداراً على مسمى الغُسْل، وأمكن حصولُه بما دون هذا المقدار، فلا يتنافى وصفُ هذا المقدار بالوجوب، مع جوازِ الاقتصار على ما دونه بناءً على [أن] (¬2) ما جاز الاقتصارُ عليه في الواجب بالنسبة إلى الشيء الواحد إذا مُدَّ، هل تتصف الجملة بالوجوب، كما في مَدِّ الركوع أكثرَ من الطمأنينةِ الواجبةٍ، [و] (¬3) كما في مَدِّ مَسْحِ الرأسِ إذا لم يقدر أقله، ¬

_ (¬1) "ت": "لقوله". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

الخامسة

فمدعي عدم جواز الاقتصار على ما دون ذلك، يحتاجُ إلى إبطال هذا المذهب، فتأمَّلْ هذا البحث، وتنبَّهْ له. وقد يُستدل بمفهومِ حديثٍ جاء في "المسند" عن أحمد - رحمه الله - من حديث جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: فيُجْزِئُ من الغُسْلِ الصاعُ، ومن الوضوء المُدُّ" (¬1). الخامسة: المشهور المعروفُ أن المُدَّ والصاعَ مقداران مُعَيَّنان، لا يختلفان باختلاف المَكِيْلات، وبعضُ الشَّافعية فرَّق بين صاعِ الوضوء، وصاعِ الزكاة، فقال: صاعُ الجنابة ثمانيةُ أرطالٍ، والمُدُّ منه رِطلان، بخلاف صاعِ الزكاة، وذكر في صاع الجنابةِ أنَّه رواه أنس؛ حكاه أبو المحاسن الروياني الشَّافعي (¬2) صاحب كتاب "بحر المذهب"، قال: وقال بعض أصحابنا (¬3). وهذا القول حكاه أيضاً بعضُ المتأخرين. قلت: وقد روي عن موسى الجُهَنِيِّ، قال: أُتِىَ مجاهدٌ بقَدَحِ حزرتُهُ ثمانية أرطال، فقال: حَدَّثَتْني عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَغْتَسِلُ بمثلِ هذا. أخرجه النَّسائيّ (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 370)، وابن خزيمة في "صحيحه" (117)، والحاكم في "المستدرك" (575)، وغيرهم بلفظ: "يجزئ من الوضوء المد، ومن الجنابة الصاع". (¬2) في الأصل: "عن الشَّافعي"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "بحر المذهب" للروياني (1/ 211). (¬4) رواه النَّسائيّ (226)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر القدر الذي يكتفي به الرجل من الماء للغسل. قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (2/ 256): هذا إسناد صحيح، وموسى بن عبد الله الجهني وثقوه.

السادسة

السادسة: إذا قلنا بالمشهور، وهو أن الصاع لا يختلف مقداره، فقد اختلفوا في مقداره: والمشهور: أنه خمسةُ أرطال وثلث، والمد رطل وثلث، وهذا مذهب أهل الحجاز. ومذهب أبي حنيفة: أنَّ الصَّاع ثمانيةُ أرطال. وقد رجع أبو يوسف - رحمه الله - إلى مذهب أهلِ الحجازِ، لَمَّا اجتمع بمالك، وتناظرا في المسألة، فاحتجَّ مالكٌ بصيعان أهلِ المدينة المتواترة، وأحضَرها، أو بعضَها، فرجعَ أبو يوسف، وأخبرَ النَّاسَ برجوعِهِ عندَ وصوله العراقَ (¬1). السابعة: هذا الحديثُ، وحديثُ عبد الله بن عمرو الماضي، كيف ما كان يدل على الاقتصاد في الماء الذي يُتَطَهَّر به. الثامنة: الشَّافعي - رحمه الله - يَسْتَحبُّ أن لا ينقصَ عن هذين المقدارين في الوضوء والغُسْل (¬2)، وقد تبيّن أنه لا يَلْزم من استحباب الشيءِ كراهةُ ضدِّه، فمَنْ أراد أن يُثبِتَ الكراهةَ في الاقتصارِ على ما دون ذلك، يحتاج إلى دليل غير دليل استحباب الفعل، وعند الطّبرانيّ حديثٌ عن أبي أمامة: أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - توضَّأ بنِصْفِ مُدّ، ويُحتاج إلى النظر في إسناده (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 141)، و "شرح عمدة الأحكام" للمؤلف (1/ 107). (¬2) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (2/ 189). (¬3) قلت: الحديث رواه الطّبرانيّ في "المعجم الكبير" (8071)، وابن عدي =

التاسعة

التاسعة: كما يدل على استحباب الاقتصاد في ماء الطهارة، فكذلك يدل على أن الغايةَ التي زادها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليستْ داخلةً في باب الكراهة، ولا خارجةً عن الاقتصاد المطلوب. العاشرة: [إذا أردنا أخذَ استحبابِ عدم] (¬1) النقصانِ عن هذا القدر الذي في الحديث، أو الكراهة للنقصان عنه، إن قيلَ بها، فالأجسام تختلف في الحاجة إلى مقدار ما يحصل به مُسَمَّى الغُسْل، كاختلافها بحسب العَبَالَة (¬2)، والضخامة وضدها، [و] (¬3) بحسب الليونة والقشافة والغلظ، وما هو ضد ذلك. فأمَّا استحبابُ عدمِ النُّقصان، فجيِّد؛ لأنَّ بدنَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان الدرجةَ العاليةَ من اللِيْنِ، كما شهد به حديث أنس: ما مَسستُ بيدي ديباجاً، ولا حريراً، ألينَ من كفِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، فإذا دلَّ الاقتصارُ ¬

_ = في "الكامل في الضعفاء" (4/ 80)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 196)، من طريق الصلت بن دينار، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، به. قال البيهقي: والصلت بن دينار متروك لا يفرح بحديثه. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 219): أجمعوا على ضعَّفه. (¬1) سقط من "ت". (¬2) العَبَالة: بمعنى الضخامة. (¬3) سقط من "ت". (¬4) رواه البُخاريّ (3368)، كتاب: الأنبياء، باب: صفة النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، ومسلم (2330)، كتاب: الفضائل، باب: طيب رائحة النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، ولين مسه، والتبرك بمسحه.

الحادية عشرة

على هذا القدر في قريب من هذه الليونة، فلأَن يدلَّ على عدم استحباب الاقتصار فيما هو أخشنُ منها وأغلظُ من باب الأولى، وهذا بخلاف الكراهة، فإنَّه لا يلزَمُ من عدمِ كراهة الاقتصار على هذا القدر في البدن الليِّن عدمُ الكراهةِ لما دونه في البدن الخشن. الحادية عشرة: تَصَرَّف شيخنا أبو محمد ابن عبد السلام - رحمه الله - تصرُّفاً أخصَّ من هذا، فجعل للمتوضِّئ والمغتسل ثلاثةَ أحوال: إحداهنَّ: أن يكون معتدلَ الخَلْق؛ كاعتدال خَلْق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقتَدِي به في اجتنابِ التنقيصِ عن المُدِّ والصَّاع. الحالة الثَّانية: أن يكون ضئيلاً لطيفَ الخَلقْ، بحيث يعادلُ جسدُه بعضَ جسدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فيُسْتَحَبُّ له أن يستعملَ من الماءِ ما تكونُ نسبتَه إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. الحالة الثالثة: أن يكونَ مُتَفَاحِشَ الخَلْقِ في الطُّول والعرض، وعِظَمِ البَطْن، وتخامَةِ الأعضاء، فيستَحَبُّ أن لا ينقص عن مقدارٍ تكون نسبتُه إلى بدنه، كنسبة المد والصاع إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، كذا ذكر (¬1). الثَّانية عشرة: هذا النوع - أعني: مراعاةَ هذا القدر - فرعٌ من فروع قاعدةٍ شرعية؛ وهي الاقتصاد في المصالح والطاعات، ¬

_ (¬1) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (2/ 175).

والاقتصاد رتبةٌ بين رتبتين، ومنزلةٌ بين منزلتين: فالمنزلة الدنيا: التقصيرُ في جلبِ المصالحِ، وهو مذموم. والمنزلة القُصوى: الإسرافُ في جَلْبها، ويدخل فيه الغلوُّ في الدينِ والتنطُّعُ، وهو مذموم. والاقتصاد: التوسُّط بينهما، وهو محمود، كما قيل الحسنة بين السيئتين؛ بمعنى: أن التقصيَر سيئةٌ، والإسرافَ سيئةٌ، والحسنةُ ما توسط بين الإسراف والتقصير، وخيرُ الأمور أوساطها، وها هنا أمرٌ دقيقٌ عَسِرٌ في العلمِ به، وفي العمل في مواضع: منها: الفرق بين الوَرَعِ والوَسْوَاسِ، فإن الوسواسَ مذمومٌ، والورعَ محمودٌ. وآخرُ كل مرتبة تلي الأخرى، وأولُ الأخرى تلي آخرَ الأولى، وهذا في الأخلاق والشجاعة والتهوُّر؛ فإنَّ الشجاعةَ محمودةٌ، فإذا زادت على القدرِ المطلوبِ، انتهت إلى التهوُّر المذموم. وكذلك التحرز والاحتياط والنظر في العواقب محمودٌ، فإذا أفرط، انتهى إلى الجُبْنِ والخَوَرِ المذموم. فهذا هو العسر في معرفة التوسط علماً وعملاً، حيث تتقارب المراتب، فأمَّا إذا تباعدت، فلا إشكال. ولمرتبة الاقتصاد في الشرع أمثلة: أحدها: التوسط في الإنفاق {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67].

وثانيها: التوسط في العبادة، وعدم تكليف النفس ما لا تطيقُ الدوام عليه، وتؤدي إلى الملالة والسآمة "إنَّ هذا الدينَ متينٌ، فَأوْغِلْ فيه بِرفْقٍ، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِك عبادةَ الله" (¬1). "ألا هلك المتنطِّعون" (¬2). وقيل لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: هذه الحولاءُ بنتُ تويت، لا تنامُ الليل، فقال: "لا تنام الليل! اكلفوا من العملِ ما لكم به طاقة" (¬3). وروى بعض الصحابة النَّهي عن التبتُّل، فقال: ولو أُذِنَ لنا، لاختصينا (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 19)، وفي "شعب الإيمان" (3886)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف، ولقوله: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق" شاهد عند الإمام أحمد، فهو حسن إن شاء الله. وانظر: "السلسلة الضعيفة" (5/ 479). (¬2) رواه مسلم (2670)، كتاب: العلم، باب: هلك المتنطعون، وأبو داود (4608)، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة، واللفظ له، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 118) بلاغاً، ووصله ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 191)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) رواه البُخاريّ (4786)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء، ومسلم (1402)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

ورَدَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن عمرو التزامَه قيامَ الليل، وصيامَ النهار، ولم يُقِرَّه على طلب كثرةِ التلاوةِ، التي رامَها (¬1). وثالثها: ما تعلق بالزيادة في لذات الدُّنيا، فإن الشَّرعَ دل على طلبِ الزهدِ في الدُّنيا، وذمَّ قوماً أذهبوا طيباتهِم في حياتهم [الدُّنيا] (¬2)، فتكلَّف قومٌ من أهل الرِّيادة أموراً شاقة (¬3)، والتزموا تركَ مباحاتٍ؛ كالزواجِ، وأكلِ بعضِ الطيِّباتِ، فردَّ عليهم؛ قال عليه أفضل الصَّلاة والسلام: "من رَغِبَ عن سُنَّتي، فليسَ منِّي" (¬4)، وقصة عثمان مع عامر بن عبد قيس - رضي الله عنهما - أحد الثمانية الزهاد، مذكورة. ورابعها: الشريعة طافِحَةٌ بمجاهدَةِ النَّفس، ورَدْعِها عن شهواتها، وأخلاقِها المذمومة، فتكلَّف المتعبِّدون والمتصوِّفون أفعالاً شاقَّة، قصدوا بها المجاهَدة، وتوغَّلوا (¬5) في ذلك، فكان هذا في جانب الفعل، كما تقدَّم في جانب التَّرك، من الامتناع عن المباحات، وأُنكِر بعض ذلك، وقيل (¬6): إنه تصرُّف في المملوك بغير إذن المالك، ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه عند البُخاريّ ومسلم. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "من أهل الزيادة أموراً شافية"، والمثبت من "ت". (¬4) رواه البُخاريّ (4776)، كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح، ومسلم (1401)، كتاب: النكاح، باب: استحجاب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬5) "ت": "فتوغلوا". (¬6) "ت": "فقيل".

فإن الأنفس ليست مِلْكاً لإنسان، بل هي مِلْكٌ لله تعالى، فالتصرفُ فيها بغير ما أَذِنَ فيه ممتنعٌ، وهذا كلّه يشّهد لك ما ذكرناه من صعوبة الفرق علماً وعملاً. وخامسها: ما نحن فيه، فإن إسباغَ الوضوءِ مطلوبٌ: "ويلٌ للأعقابِ من النَّارِ، أسبِغُوا الوضوء" (¬1)، والزيادة سَرَفٌ ممنوعٌ، كما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو. وسادسها: المواعظُ النَّافعةُ في الدين المؤدِّيةُ إلى سلوك سبيل المتقين مطلوبةٌ شرعًا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، والإكثارُ منها يُسْقِط وَقعها، ويؤدي إلى السآمة منها، فتبطُل فائدتُها المطلوبة، فالاقتصادُ هو المحمود: "كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يتخوَّلُنا بالموعِظَةِ مخافةَ السآمِة علينا" (¬2). وانظر (¬3) إلى الحِكْمة الشَّرعية في جعلها مرةً في الأسبوع؛ لأنَّ طولَ تركِها يُطْغي النفسَ، ويقوِّي دواعِيَها المذمومةَ، فربما عَسُرَ ردُّها بعد تمكُّنِها من النَّفس، وكثرةِ فعلها فيه ما ذكرنا من إيطال فائدتها وحكمها، فتوسط في ذلك. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البُخاريّ ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه البُخاريّ (68)، كتاب: العلم، باب: ما كان النَّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، ومسلم (2821)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: الاقتصاد في الموعظة، عن ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) "ت": "فانظر".

وسابعها: الاقتصادُ في العقوبات، والحدود، والتعزيرات، بأنْ يُعاقَب كلُّ واحد من الزُّناة على حسب ضَعْفه وقُوَّته، فلا يجلد الزَّاني والقاذفُ جَلْدَ مبالغةٍ بحيث يُسْفَح الدم، ولا يُضْرب ضرباً لا أثر له في الزَّجْر والردع، بل يكون ضَرْباً بين ضربين، وسَوْطاً بين سوطين، وزَماناً بين زمانين؛ أي: يُتَجَنَّبُ زمنُ الحرِّ الشديد، والبردِ الشديد، [أعني] (¬1): حينَ إقامة الحدود، وكذلك الاقتصاد في التأديبات للرقيق، والصِّبيان، والبهائم، والنِّسوان. وثامنها: الإحسانُ في صفة الهلاك إذا وجب، أو جاز، كما قيل في الزاني إذا رُجِم لا يرجَمُ بحصَيَاتٍ، ولا بصَخراتٍ، وإنَّما يرجم بما تقتضيه العادة في مِثله، وكذلك في ذَبْح الحيوان: "إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحْتُم، فأحسنوا الذِّبْحَةَ" (¬2). وتاسعها: الاقتصادُ في الدُّعاء، قيل: لأنَّ الغالبَ على أدعية رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في الصَّلاة وغيرها اختصارُ الأدعيةِ، فنُقِلَ عنه - صَلَّى الله عليه وسلم - دعواتٌ جامعاتٌ، وغيرُ جامعاتٍ، وعلَّة ذلك: أنَّ الله تعالى أمرَ بالتضرُّع، والخِيفة في الدُّعاء، ولا يحصل (¬3) ذلك غالبًا إلَّا بتكلف، وإذا ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه مسلم (1955)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. (¬3) في الأصل: "ولا يحضر"، والمثبت من "ت".

طال الدعاء، عَزَبَ التضرُّع والإخْفاءُ، وذهبَ أدبُ الدعاء، وقد استحبَّ الشافعيُّ أن يكون دعاءُ التشهُّدِ دون التشهُّدِ (¬1)، انتهى. قلت: وقد وردَ أنَّ قوماً يعتدون في الطُّهور والدُّعاء (¬2). وعاشرها: ما دل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]. والحادي عشر منها: الأكلُ والشربُ، بحيث لا يتجاوز حدَّ الشِّبَعِ والرِّيِّ، ولا يقتصرُ على ما يُضْعِفُ ويُقْعِدُ عن العباداتِ والتصرفاتِ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. الثَّاني عشر منها: الاقتصادُ في السَّيْر إلى الحَجِّ والعُمْرة. والثالث عشر منها: زيارُة الإخوانِ مطلوبةٌ مُرَغَّبٌ فيها، والإكثارُ منها داعيةُ الملالة: "زُرْ غِبًّا تزدْد حُبًّا" (¬3)، والإبطاءُ فيها ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (3/ 517). (¬2) رواه أبو داود (96)، كتاب: الطهارة، باب: الإسراف في الماء، وابن ماجه (3864)، كتاب: الدعاء، باب: كراهية الاعتداء في الدعاء، من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. وإسناده صحيح، كما قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 144). (¬3) رواه الطّبرانيّ في "المعجم الكبير" (3535)، وفي "المعجم الأوسط" (3052)، وفي "المعجم الصغير" (296)، والحاكم في "المستدرك" (5477)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (8363)، من حديث حبيب بن مسلمة الفهري رضي الله عنه. قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/ 248): وهذا الحديث قد روي عن جماعة من الصحابة، وقد اعتنى غير واحد من الحفَّاظ بجمع طرقه =

يُسلِم إلى الجفاء والوَحْشة. والرابع عشر منها: مخالطةُ النِّساءِ، وحسنُ العِشْرةِ معهن، إذا أكثرَ منه غلبت عليه أخلاقُهُنَّ، وإذا أقَلَّ منه جاء استثقالُهنَّ واستجفاؤهنَّ. الخامس عشر منها: دراسة العلوم في الكثرةِ والقلةِ؛ فالأول: يؤدي إلى السآمة، والثاني: يؤدي إلى القُصور فيها. والسادس عشر منها: السؤال عما تدعو الحاجةُ إلى السؤال عنه من أمور الدُّنيا، الإكثارُ منه مذمومٌ، ووردتْ فيه أحاديثُ، وتوعُّدات، والإقلالُ عند الحاجة والضرورة مُضِرٌّ، وقد ينتهي بعضُه إلى الحُرْمة. والسابع عشر منها: المُباح من المِزاح، والانبساطِ، واللعبِ، والضحكِ؛ والكثرةُ منه مذمومةٌ، مُذْهِبة للخشوع، مُوْجِبة للخروج عن السَّمْت الحَسَنِ، والإقلالُ منه جداً داخل في الانقباض المُوْحِشِ للمخالطين والزائرين، وربما أدَّى إلى نَفْرَة الأنفس عن قومٍ صالحين. ¬

_ = والكلام عليه، ولم أقف على طريق صحيح كما قال البزار، بل له أسانيد حسَّان عند الطّبرانيّ وغيره. قال الحافظ في "الفتح" (10/ 498): وقد ورد من طرق أكثرها غرائب، لا يخلو واحد منها من مقال. وقد جمع طرقه أبو نعيم وغيره، وقد جمعتها في جزء مفرد، انتهى. قلت: ذكره الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 278) وسماه: "الإنارة بطرق غب زيارة"، ثم قال: وبمجموعها يتقوى الحديث، وإن قال البزار: إنه ليس فيه حديثٌ صحيحٌ، فهو لا ينافي ما قلناه.

[من السريع]: إنْ شِئْتَ أنْ تُصْبحَ بينَ الوَرَى ... ما بَيْنَ شَتَّامِ ومُغْتَابِ فكُنْ عَبُوسًا حينَ تلقاهُمُ ... أو خَالِطِ النَّاسَ بإِغْرابِ (¬1) وقد ينتهي بعضُ المتنطِّعين في هذا إلى سوءِ العِشْرة، والإنكار فيما لا يُنْكَر، بل ربَّما ينتهي بعضهم إلى إنكارِ استعمالِ المَجَازِ في اللغةِ، التي امتلأت لغةُ العربِ منه، وربَّما فوَّتَ بعضُهم مصالحَ، وأوقعَ مفاسدَ أشدَّ ممَّا رغب فيه، أو نهى عنه. والثامن عشر منها: المَدْحُ، وَرَدَ فيه الذَّمُّ: "احثوا في وَجْهِ المدَّاحِيْنَ التُّرابَ" (¬2)، ويُحْمَلُ على المذمومِ منه، فإنَّ الإكثارَ من المدحِ فيه مفسدَةُ التخطي إلى الكذب والوقوع فيه، ومفسدةُ فسادِ نفسِ الممدوحِ، بما يحدث عنده من الكِبْرِ، والفخرِ، فاليسيرُ (¬3) منه عند مسيسِ الحاجة إليه ترغيبٌ للممدوح ممَّا مُدِحَ به، وتذكيرٌ له بنعمة الله عليه ليشكُرَها، فيتحرَّزُ من المفسدة، ويفعل المصلحةَ، حيثُ تؤْمَنُ الفتنةُ للممدوحِ. قال بعض المتكلمين في هذا المعنى: وعلي الجملة، فلا ينبغي ¬

_ (¬1) البيتان لابن وكيع التنيسي، كما ذكر الثعالبي في "يتيمة الدهر" (5/ 40). (¬2) رواه مسلم (3002)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: النَّهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، وخيف منه فتنة على الممدوح، عن المقداد بن عمرو رضي الله عنه. (¬3) في الأصل في "اليسير"، والمثبت من "ت".

الثالثة عشرة

لعاقل أن يخطرَ بقلبه، ولا يجري على جوارحه، إلَّا ما يَجلبُ صلاحاً، أو يَدرأ فسادًا، فإن سَنَحَ له غيرُ ذلك، فليدرأه ما استطاع (¬1). الثالثة عشرة: هذا الذي ذكرناه، إنَّما هو باعتبار الأعَمِّ والأغلب، وقد يقعُ في بعض الأحيان ما يُوجِب أن يكونَ المصلحةُ في الخروجِ عن بعض ما ذكرناه، كما في التوسُّط في رفع الصوت، فإنَّه ممدوح "اربَعوا على أنفسكم، إنَّكم لا تَدْعُون أَصَمَّ، ولا غَائباً" (¬2). ثم دعت الحاجة في الوَعْظِ إلى رَفْع الصوت: كان النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خَطَبَ احمرَّتْ عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبُه (¬3)؛ لأنَّ المقصود من الخطبة يقتضي هذه الهيئةَ، لأجلِ إحداثِ التأثُّر في أنفسِ المستمعين، ووجود ما يتأثرون به من الهيئة المذكورةِ، إلى غير ذلك ممَّا تقتضيه الحالاتُ المخصوصة في بعض الأحيان. الرابعة عشرة: ها هنا أمور مقسَّمةٌ في الشرع إلى محمودٍ ومذمومِ، فلا ينبغي في كثيرٍ منها أن يدخلَ تحت هذا الباب، ولا يندرجُ تحت هذا ¬

_ (¬1) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (2/ 179). (¬2) رواه البُخاريّ (2830)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ومسلم (2704)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (867)، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصَّلاة والخطبة، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

الخامسة عشرة

النوع الذي يُؤْمر فيه بالاقتصاد ليفعل، ولكنَّ ذلك يدخل في باب تأمُّلِ الحِكَمِ الشرعية، وتقسيمِها إلى ما يُمدح ويُذم، بحسب المصالح. مثال ذلك: مدحُ النفسِ مذمومٌ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] وقد حُمِد (¬1) حيث تدعو الحاجة إليه، وتتعلق به المصالح: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فما زادَ على مقدار المصلحة هو مذمومٌ متعيِّنٌ للذَّم، وما كان بَقْدرِ الحاجة، فهو محمود متعيِّن للمدح بنفسه، لا باعتبارِ الاقتصاد والغلوِّ في المباحات أو المطلوبات. الخامسة عشرة: ومن هذا الباب أيضًا: الذَّمُّ والهجوُ، حيث أُبيح في التجريح المضطَّرِ إليه، ما زاد عليه مذمومٌ متعينٌ للذَّمِّ، وما اقتصر فيه على الضرورة ممدوحٌ متعين للمدحِ، وليس متعلّقُ المدح والذم الاقتصادَ وعدمَه المطلوبَ منهما الفعل. السادسة عشرة: التسميع مذموم: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بهِ" (¬2)، وقد ورد عن بعض الأكابر ذِكْرُ مآثر، وخيراتِ، وقربات صدرَتْ منهم، وفضائلَ. تعلَّقَتْ بهم. قال عثمان - رضي - الله عنه -: ما تغنَّيْتُ منذ أسلمتُ، ولا مسستُ ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "حُمل"، ولعل الصواب ما أثبت. (¬2) رواه البخاري (6134)، كتاب: الرقاق، باب: الرياء والسمعة، ومسلم (2987)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله، من حديث جندب العلقي رضي الله عنه

ذكري بيميني مُذْ بايَعْتُ بها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، أو كما قال. وكذلك جمع من أكابر الأولياء ذكروا لهم عباداتٍ صدرتْ منهم، وكراماتٍ جَرَت عليهم، وذلك لأمرين: أحدهما: الترغيب والتبسيط للمريدين، والسالكين في طريقهم؛ لأنّ النفس مجبولةٌ على طلب حَظِّها الأخروي والدنيويِّ معًا، وهذا قد خُصَّ بالأقوياء الذين أَمِنوا التسميع (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (311)، كتاب: الطهارة، باب: كراهة مس الذكر باليمين. وإسناده ضعيف جدًا؛ فيه الصلت بن دينار، وقد تقدم الكلام عنه قريبًا، وأنه متروك مجمع على ضعفه. (¬2) قلت: بعض ما ذكره المؤلف - رحمه الله - في الفائدة الثالثة عشرة وحتى السادسة عشرة مأخوذ من كلام شيخه الإمام العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام".

الحديث الثاني والعشرون

الحديث الثاني والعشرون وثبت في "الصَّحيحين" من حديث المغُيرةِ بنِ شُعبةَ: أنَّهُ صَبَّ على النَّبيٍّ - صلى الله عليه وسلم - الماءَ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ (¬1). ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه البخاري (356)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: الصلاة فى الجبة الشامية، ومسلم (274/ 77)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن المغيرة بن شعبة، به. ورواه البخاري (381)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: الصلاة في الخفاف، من حديث أبي أسامة، عن الأعمش، به. ورواه البخاري (2761)، كتاب: الجهاد، باب: الجبة في السفر والحرب، و (5462)، كتاب: اللباس، باب: من لبس جبة ضيقة الكمين في السفر، من حديث عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، به. ورواه مسلم (274/ 78)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، والنسائي (123)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين في السفر، من حديث عيسى بن يونس، عن الأعمش، به. ورواه البخاري (180)، كتاب: الوضوء، باب: الرجل يوضِّئ صاحبه، و (200)، باب: المسح على الخفين، و (4159)، كتاب: المغازي؛ =

أما المغيرة بن شعبة: فقد تقدم ذكره. ثم الكلام عليه من وجوه: ¬

_ = باب: نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر، ومسلم (274/ 75)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، والنسائي (124)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين في السفر، وابن ماجه (545)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المسح على الخفين، من حديث سعد بن إبراهيم، عن نافع بن حبير، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة، به. ورواه البخاري (203)، كتاب: الوضوء، باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، و (5463)، كتاب: اللباس، باب: لبس جبة الصوف في الغزو، ومسلم (274/ 79)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، من حديث زكريا، عن الشعبي، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة، به. ورواه مسلم (274/ 80)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، من حديث عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، به. ورواه أبو داود (151)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، من حديث عيسى بن يونس، عن أبيه، عن الشعبي، به. ورواه النسائي (82)، كتاب: الطهارة، باب: صفة الوضوء، من حديث ابن عون، عن الشعبي، به. ورواه مسلم (274/ 76)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، من حديث أبي الأحوص، عن أشعث، عن الأسود بن هلال، عن المغيرة، به.

[الوجه] الأول: في إيراد الحديث على الوجه

* الأول: في إيراد الحديث على الوجه: روى مسلمٌ من حديث أبي معاوية، عن الأعمشِ، عن مسلمٍ، عن مسروق، عن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقال: "يا مُغيرةُ! خُذِ الإداوَةَ"، فأخذْتُها، ثم خرجْتُ معه، فانطلقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حتَّى توارى عنِّي، فقضى (¬1) حاجته، ثم جاء، وعليه جُبَّةٌ شاميَّةٌ ضيقةُ الكُمَّين، فذهب يُخْرج يده من كُمِّها، فضاقت [عليه]، فأخرج يَدَه من أسْفَلها، فصَبَبْتُ عليه، فتوضأ وُضوءَه للصلاة، ومسحَ على خُفَّيه، ثم صَلَّى. وفي رواية عيسى، عن الأعمش بسنده: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجَتَهُ، فلما رَجَعَ تلقَّيْتُهُ بالإدَاوَةِ، فصببت عليه. . .، الحديث. وفي رواية عروةَ بن المغيرة، عن أبيه قال: كنتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ في مسيرٍ، فقال لي: "أَمَعَكَ مَاءٌ؟ " فقلتُ: نعمْ، فنزل عن راحلته، فمشى حتَّى توارى في سَواد الليل، ثم جاء، فأفْرَغْتُ عليه من الإداوة. . .، الحديث. وفي رواية عن عروة بن المغيرة، عن أبيه: أنه وضَّأَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فتوضأ، ومَسَحَ على خُفَّيه، فقال له، فقال: "إنِّي أدْخَلْتُهُما طاهرتين". ¬

_ (¬1) "ت": "حتى قضى".

الوجه الثاني: في تصحيحه

* الوجه الثاني: في تصحيحه: وقد ذكر في الأصل: أنه في "الصحيحين"، وهذه الروايات التي حكيناها، هي ألفاظُ رواية مسلم. * الوجه الثالث: في شيء من العربية (¬1). * الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: المقصود بإيراد الحديثِ هاهنا، مسألةُ الاستعانة في الوضوء، فنبدَأُ بها، ثم نعطِف على شَرْحِ بقيةِ ألفاظ الحديثِ الكاملِ، فنقول أولًا: فرقٌ (¬2) بين الإعانة والاستعانة، وليس أحدُهما مُلازمًا للآخر، فقد تقعُ الإعانة ولا [تقع] (¬3) الاستعانة؛ بأن لا تَطْلُبَ، وقد تقعُ الاستعانة ولا إعانة؛ بأن لا تَفْعل. الثانية: [المقصود] (¬4) بهذا الكلام: أنه قد استُدِلَّ على جواز الاستعانة بأحاديث فيها الإعانة، وعلى مقتضى ما ذكرناه: لا يكونُ ¬

_ (¬1) جاء في هامش الأصل "م": "بياض في الأصل"، وفي هامش "ت": "بياض نحو ثلاثة أسطر من الأصل". (¬2) "ت": "لا فرق". (¬3) سقط من "ت". (¬4) زيادة من "ت".

الثالثة

الاستدلال صحيحًا إلا بمقدِّمةٍ زائدة، ولا يكون الحديث بنفسه كافيًا في الاستدلال؛ كما فُعل، والمقدمة أن يقال: لو كُرِهَتِ الاستعانةُ، لكُرهت الإعانة، وتَثْبت هذه الملازمة بدليل، ويبقى اللازم بالأحاديث التي استدل بها. الثالثة: هذا الذي ذكرناه إنما هو تنبيهٌ على الاستدلال الذي (¬1) استمرَّ بين الفقهاء، وما فيه، وقد ورد في حديث الرُّبيِّع - بضم الراء، وفتح الباء ثاني الحروف، وتشديد آخرها مكسورًا - بنت مُعوِّذ - بكسر الواو المشددة - التصريحُ بالاستعانة؛ لأنَّ في حديثها (¬2): صببتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماءً، وقال لي: "اسكبى عليَّ". . . الحديث، وفيه: أنَّه في الوضوء (¬3). الرابعة: ورد في غير حديثٍ الإعانةُ بصبِّ الماء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء: منها: حديث المغيرة، وقد ذكرناه. ومنها: حديث أسامة بن زيد: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لما أفاضَ من عَرَفَةَ، عدلَ إلى الشِّعب، فقضى حاجته، قال أسامة: فجعلْتُ أصبُّ عليه ويتوضأ، وهو في "الصحيح" (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "التي"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "حديث"، والتصويب من "ت". (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود وغيره. (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (179)، وعند مسلم برقم (1280).

الخامسة

ومنها: حديث الرُّبيِّع، وفيه: وصببتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: حديث عمرو بن العاص، وفيه: صببت [على] (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتوضأَ وُضوءًا مُنكَّسًا (¬2). ومنها: حديث عن رجل من قَيس: صببتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتوضأ. رواه أبو مسلم الكشِّي (¬3). ومنها: حديث أُميمة مولاةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كنت أُوضِّئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أفرغُ (¬4) عليه الماءَ، ذكره أبو بكر بن أبي خَيثمة (¬5). الخامسة: المحقق من هذه الأحاديث، جوازُ الإعانة بالمعنى الأعمّ، الذي يدخل تحته الوجوب، والنَّدب، والكراهة، والإباحة المستوية في الطرفين، ولا يناقضه إلا التحريمُ، وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل. السادسة: هذا المعنى الأعمّ في جواز الفعل، لا يناقضه استحبابُ الترك، وهو مذهب الشافعي - رحمه الله - قال: وأحبُّ أن لا يستعينَ على وضوئه بأحد، ويتولاه بنفسه. وهذا الاستحباب إن أخذ من دلائل عامة وقواعد كلية، فله وجهُ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "الإمام" للمؤلف (2/ 50) ووقع عنده: "مكيثًا" بل "منكسًا". (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) في الأصل "أفوض"، وفي "ت": "أفرد"، والمثبت من "الإمام" للمؤلف. (¬5) المرجع السابق، (2/ 51).

السابعة

قُربٍ (¬1)، وإن أريد دليلٌ خاص عليه، فقد يَعسُرُ على وجهٍ تقوم به الحُجَّة، والذي يُقال في هذا، وأشهر (¬2) من استدلال الشافعية: أنه رُوي: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فأراد بعضُ أصحابه أن يَصُبَّ عليه ماءً، فقال: "أنا لا أستعينُ على وُضُوئي بأحدٍ"، وهو حديث غريب، يُحتاج إلى معرفة مخْرجِهِ، وحالِ رواته، ولم يحضُرني ذلك الآن، ولم أذى هـ في "الإمام" (¬3)، ولكن قد ورد ما يقتضي معناه من أمر الاستعانة، وسنذكره في المعارض لهذا الحديث. السابعة: عُلِّلَ عدمُ استحبابِ الاستعانة بأنَّه نوعٌ من التنعم والتكبر، وذلك لا يليق بحال المتعبِّدِ، والأجرُ على قدر النَّصَب. الثامنة: يُخطِّئ بعضُ الشافعية الخراسانيين، فكَرِهَ الاستعانة بالغير إلا لعذر، واعتذرَ -[أو] (¬4) مَنِ اعتذرَ عنه - عن الاستعانة بالمغيرة بنقل ثيابه - صلى الله عليه وسلم -[عليه] (¬5)، أو لأنَّه كان في السَّفَر، فأراد أن لا يتأخر عن الرُّفقة تعليمًا للحزم والاحتياط (¬6). ¬

_ (¬1) "ت": "وجهٌ وقربٌ". (¬2) "ت": "اشتهر". (¬3) قلت: قد تقدم ذكره عند المؤلف رحمه الله (3/ 477)، ونقلت هناك كلام الإمام النووي والحافظ ابن حجر على هذا الحديث. (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت". (¬6) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 443)، و"روضة الطالبين" للنووي (1/ 62).

التاسعة

وهذا الاعتذار بالسفر، قد ورد ما يُلغيه من حديث صَفْوانَ بن عسَّال قال: صببتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماء لوُضُوئه في السَّفر والحضر، فتوضأَ، ذكره البزَّار في "مسنده" (¬1). التاسعة: الصادرُ من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - يُحْمَل ظاهرًا على الجواز، الذي لا تُجامعه الكراهةُ؛ لأنَّ الظَّاهرَ عدمُ ارتكابِ المكروه؛ لأنَّ الجَزْمَ بعدم ارتكابِ المكروه من غير معارضٍ واقعٌ في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد يعلِّلون في بعض ما يكرهون الفعل ببيان الجواز، فيقولون: إنَّما فعل لتبيين الجواز، لكنَّ ذلك بعد قيام الدليل المقتضي للكراهة، فإن لم يقمْ دليلٌ شرعيٌّ على الكراهة، لم يصحَّ أن يقال بها، فلا يكون المانع قائمًا، فلا يَحْسُن تعليل الفعل بأنه بيان للجواز، وبهذا يبينُ ضعفُ القول بالكراهة، وهو المرجَّح عند الشافعية على ما ذكره بعضهم؛ أعني: القول بعدم الكراهة. العاشرة: قد تلخَّص لك من مذهب الشافعي - رحمه الله -: أنَّ ترك الاستعانة مستَحَبٌّ، وأن الصحيحَ من مذهب أصحابه: أنها لا تُكْره، ولا تعارضَ بين الأمرين، لأنك علمْتَ أنه لا يلزم من استحباب الشيء كراهةُ ضدِّه، ومثاله الظاهر: كثرةُ شغل الأوقات بالعبادات، فإنه مستحبٌ، ولا يوصَفُ تركُه بالكراهة. ¬

_ (¬1) ورواه ابن ماجه (391)، كتاب: الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه، وفي إسناده ضعف، كما ذكر الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 98).

الحادية عشرة

الحادية عشرة: لهذا الذي دلَّت عليه الأحاديث من جواز الإعانة أو الاستعانة ما قد يُعارضه، وكنَّا قد أشرنا إلى ذِكْرِه، وهو ما رواه النَّضْر بن منصور، عن أبي الجَنوب قال: رأيت علِيًّا - رضي الله عنه - يستقي ماءً لوُضوئه، فأردتُ أن أُعينه عليه، فقال: "رأيتُ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي ماءً لوُضوء، فقلت: ألا أعينُك عليه؟ قال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي ماءً لوضوئه، فأردتُ أن أُعينَه، فقال: إِنِّي لا أحبُّ أن يعينَني على وضوئي أحدٌ" رواه الحافظ أبو بكر البزار في كتاب الطهارة من "السنن"، وقال: هذا الفعل لا نعلمه يُروى عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وأبو الجنوب لا يُعلم حدَّث عنه إلا النضرُ بن منصور، والنضر قد حدَّث عنه غيرُ واحد (¬1). وهذا الحديث، إنما ذكرناه؛ لأنه لا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه، ولعل الحديث الذي ذكره الفقهاء مختصرٌ من هذا. وذكر أبو أحمد بن عدي، عن عثمان بن سعيد: قلت ليحيى بن معين: فالنضر بن منصور العَنَزِيّ تعرفه؟ روى عنه ابن أبي معشر، عن أبي الجنوب، عن علي، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء حمالةُ الحطب (¬2). قلت: أبو الجنوب مسمى بعقبة بن علقمة. الثانية عشرة: وهاهنا حديثٌ اَخرُ يدل على عدمِ استحباب الاستعانة من رواية مُطَهرِ بن الهيثم: أنبأ علقمةُ، عن أبيه أبي جمرةَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (7/ 23).

الثالثة عشرة

الضُّبَعِيِّ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَكِلُ طهورَه إلى أحد، ولا صدقتَهُ التي يتصدَّقُ بها، حتى يكونَ هو الذي يتولاها بنفسِهِ". وجدته من رواية أبي الحسن الدارقطني - رحمه الله - في غير كتاب "السنن"، مما صنفه في بعض أنواع علوم الحديث (¬1)، في ترجمة علقمةَ بن أبي جمرة الضبعي، عن أبيه، وهو نصر بن عمران (¬2). وهذا يدل على الاستحباب (¬3) الذي استحبه الشافعي، فإن كان رواتهُ مُحْتَجًّا بهم عن آخرهم، فهو دليلٌ معين جيد (¬4)، أجودُ مما استدل به الفقهاء. الثالثة عشرة: وأما مَنْ كرهَ الاستعانة، فقد وردَ عن ابن عمر ما يقتضي المنع، وهو ما جاء عنه أنه قال: "ما أُبالي أَعانني على طُهْري أحدٌ، أو أعانني على رُكوعي وسجودي"، رواه الحافظ أبو علي الحسن بن علي (¬5) بن شبيب المعمري (¬6). وهو محتمل للتأويل الذي سنذكره الآن. ¬

_ (¬1) سماه في "الإمام" (2/ 54): "بعض أحاديث المقلين من أبناء المكثرين، وبعض أحاديث المكثرين عن آبائهم المقلين، وعن إخوانهم المقلين". (¬2) ورواه ابن ماجه (362)، كتاب: الطهارة، باب: تغطية الإناء، قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 97): وفيه مطهر بن الهيثم، وهو ضعيف. (¬3) في "الأصل": "استحباب"، والمثبت من "ت". (¬4) "ت": "جدًا". (¬5) "ت": "أبو الحسن بن علي". (¬6) ذكره المؤلف رحمه الله في "الإمام" (2/ 54).

الرابعة عشرة

الرابعة عشرة: جميع ما ذكرناه يُحمل على الاستعانة في أسباب الطَّهارة، والاستعانةُ على وجهين: استعانةٌ في الأسباب، واستعانة في نَفْسِ الفعل. فالاستعانةُ في الفعل: أن يتناولَ غَسْلَ الأعضاء غيرُ المتوضِّئ بنفسه، وهذا أقربُ إلى الكراهة من الاستعانة في الأسباب؛ كاستقاء الماء، ويمكن أن يُحْمَل عليها (¬1) ما دلَّ على كراهة الاستعانة من الألفاظ المطلقة، التي لا تدلُّ على الاستعانة في الأسباب، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "عليه".

الحديث الثالث والعشرون

الحديث الثالث والعشرون روى مسلمٌ من حديث عمرَ، في حديث طويلٍ، قال فيه: "مَا مِنْكُم مِنْ أَحَدٍ يتوضَّأُ، فَيُبْلِغُ، أو فَيُسْبغُ الوضوءَ، ثُمَّ يقولُ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ؛ إلَّا فُتِحَت لَهُ أبْوابُ الجنَّةِ الثمانيةُ، يدخُلُ مِنْ أيِّها شاءَ" (¬1). وعنده في رواية: "مَنْ توضَّأَ، فقال: أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه مسلم (234/ 17)، كتاب: الطهارة، باب: الذكر المستحب عقب الوضوء، وأبو داود (169)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا توضأ، من حديث معاوية بن صالح، عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر، عن عمر، به. ورواه مسلم (234/ 17)، كتاب: الطهارة، باب: الذكر المستحب عقب الوضوء، وأبو داود عقب حديث (169)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا توضأ، من حديث معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر، به.

[الوجه] الأول: في التعريف

وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ" (¬1). الكلام عليه من وجوه: * الأول: في التعريف: أما عمر - رضي الله عنه -: فهو أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب بن نُفَيْل ابن عبد العُزّى بن رِياح - بكسر الراء المهملة، وبعدها آخر الحروف مخفَّفًا - بن عبد الله بن قُرْط بن رَزَاح - بفتح الراء المهملة، وبعدها ¬

_ (¬1) رواه مسلم (234)، (1/ 210)، كتاب: الطهارة، باب: الذكر المستحب عقب الوضوء. والنسائي (148)، كتاب: الطهارة، باب: القول بعد الفراغ من الوضوء، من حديث ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر، به. ورواه الترمذي (55)، كتاب: الطهارة، باب: فيما يقال بعد الوضوء، من حديث ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، به. ورواه ابن ماجه (470)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقال بعد الوضوء، من حديث أبي بكر بن عياش، عن عبد الله بن عطاء البجلي، عن عقبة بن عامر، به. * تنبيه: قوله: "وعنده في رواية. . . " لم تقع في النسخة الخطية لابن عبد الهادي في كتاب "الإلمام"، وليست هي كذلك في المطبوع من "الإلمام"، ولعل الصواب إثباتها؛ لأن المؤلف رحمة الله قد ذكرها بعدُ في شرحه، وتكلم عنها، والله أعلم.

زاي - بن عَدِي بن كعب بن لؤي بن غالب، القرشيُّ العدويُّ، المدنيُّ. أمُّه حَنْتَمةُ - بفتح الحاء المهملة، وبعدها نون ساكنة، ثم ثالث الحروف مفتوحًا - بنتُ هاشم، ويقال (¬1): هشام بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، فمن قال: بنتُ هشام، فهي أختُ أبي جهل، ومن قال: هاشم، تكون بنتَ عمه. قال الحافظ أبو عمر: الصحيحُ بنتُ هاشم، ومن قال: بنت هشام، فقد أخطأ. وقال الزبير بن بَكَّار: بنت هاشم؛ كما قال أبو عمر. وقال ابن منده، وأبو نعيم: بنت هشام أخت أبي جهل، ونقله أبو نعيم، عن ابن إسحاق. قيل: وُلد عمرُ - رضي الله عنه - بعد الفِيْل بثلاث عشرة سنة، وكانَ من أشرافِ قريش. قالوا: وإليه كانت السِّفارة في الجاهلية، وكانت (¬2) قريشٌ إذا وقعت الحرب بينهم، أو بينهم وبين غيرهم، بعثوه (¬3) سفيرًا، أي: رسولًا. وكان إسلام عمر - رضي الله عنه - قديمًا، قيل: بعد أربعين رجلًا، ¬

_ (¬1) في الأصل: "يقال له"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "فكانت". (¬3) في الأصل و "ت": "بعثوا"، ولعل الصواب ما أثبت.

وإحدى عشرة امرأة، وقيل: بعدَ تسعة وثلاثين رجلًا، وثلاث وعشرين امرأة، وقيل: بعد خمسة وأربعين، وإحدى عشرةَ امرأة. وعن سعيد بن المسيِّب قال: أسلم عمر بعد أربعين رجلًا، وعشرِ نسوة، فما هو إلا أن أسلم، فظهر الإسلامُ بمكة (¬1). وقال الزبير بن بَكَّار: أسلم عمرُ بعد دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دارَ الأرقم، بعد أربعين رجلًا، أو نيِّفٍ وأربعين من رجال ونساء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ بأحبِّ الرجلين إليكَ؛ عمرَ بنِ الخطاب، أو عمرو بن هشام" (¬2) يعني: أبا جهل. وقد اشتُهر خبرُ إسلامه، وسببُه: أنَّ (¬3) أختَه فاطمةَ بنتَ الخطاب - رضي الله عنها - كانت زوجةَ سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، أحدِ العشرة، وكانت أسلمتْ هي وزوجُها، فسمعَ بذلك عمر، فقصدها، فقرأا عليه القرآن، فأوقع الله تعالى في قلبه الإسلام، فأسلمَ، ثم جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم مُختفون في دارٍ عند الصَّفا، فأظهر إسلامه، فكبَّر المسلمون فَرَحًا بإسلامه، ثم خرجَ إلى مجامعِ قريش، فنادى بإسلامه، فضربتْه جماعةٌ منهم، فضارَبَهم، فأجارَه خالُه، فكفُّوا عنه، ثم لم تَطِبْ نفسُ عمر - رضي الله عنه - حينَ رأى المسلمين يُضرَبون، ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 269)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 40 - 41). (¬2) رواه الترمذي (3681)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب عمر بن الخطاب منه، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: حسن صحيج غريب. (¬3) في الأصل و "ت": و"أن"، ولعل الصواب حذف الواو كما أثبت.

وهو لا يُضرَبَ في الله، فردَّ جِوارَه، فكان يضارِبُهم [ويضاربونه] (¬1)، إلى أن أظهرَ اللهُ تعالى الإسلام. وعن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ إسلامُ عمرَ فَتْحًا، وكانت هجرتُهُ نَصْرًا، وكانت إمامتُهُ رَحْمَةً، ولقد رأيتُنَا، وما نستطيعُ أن نصليَ في البيت، حتى أسلمَ عمر، فلمَّا أسلم قاتلَهُم، حتى تركونا، فصلَّينا (¬2). وروى البخاريُّ عن ابن مسعود قال: ما زلنا أَعِزَّةً منذُ أسلمَ عمر (¬3). وعن حذيفةَ قال: لما أسلمَ عمرُ كان الإسلامُ كالرجل المُقبِل، لا يزدادُ إلا قُربًا، فلما قُتِلَ عمر، كان الإسلام كالرجل المُدبِرِ، لا يزدادُ إلا بُعدًا" (¬4). قال محمد بن سعد: كان إسلامُ عمر - رضي الله عنه - في السَّنَةِ السادسة من النبوَّة (¬5)، واتفقوا على تسميته بالفاروق (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: ". . . بونه"، وفي "ت": "ويضاربونهم". (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 270). (¬3) رواه البخاري (3481)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (32021)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 373)، والحاكم في "المستدرك" (4488). (¬5) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 269). (¬6) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 325).

ورووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ الله جعلَ الحَقَّ على لسانِ عمرَ، وقلِبهِ، وهو الفاروقُ، فرَّقَ الله [به] (¬1) بين الحقِّ والباطلِ" (¬2). وعن عائشة قالت: سمَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عمرَ الفاروقَ (¬3). واتفقوا على أنه أوَّلُ من سُمِّي أميرَ المؤمنين، وإنما يقال لأبي بكر: خليفةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعمرُ - رضي الله عنه - أحدُ السابقين للإسلام، وأحدُ العشرة المشهودِ لهم بالجنة، وأحدُ الخلفاءِ الراشدين، وأحدُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحد أكابرِ علماءِ الصحابة وزُهَّادهم. قال بعضهم: رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس مئة حديث، وتسعة وثلاثون حديثًا، اتفق البخاريُّ ومسلم منها على ستةٍ وعشرين حديثًا، وانفرد البخاريُّ بأربعة وثلاثين، ومسلمٌ بأحد وعشرين (¬4). قلت: قد تقدم إن هذا لابدَّ أن يُضافَ إلى شيء معين، وإلا فلا يمكن حصرُهُ على الوجه. قيل: روى عنه عثمان بن عفَّان، وعليُّ بن أبي طالب، وطلحة ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 270)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 50 - 51)، عن أيوب بن موسى مرسلاً. (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 270)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 50). (¬4) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 325).

ابن عُبيد الله، وسعدُ بن أبي وَقَّاص، وعبدُ الرحمنِ بنُ عوف، وابن مسعود، وأبو ذَرٍّ، وعمرو بن عَبَسَةَ، وابنه عبد الله بن عمر، وابن عباسٍ، وابنُ الزُّبيرِ، وأنسٌ، وأبو موسى الأشعريُّ، وجابر بن عبد الله، وعمروُ بن العاص، وأبو لُبابة بن عبد المُنْذِر، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخُدري، وأبو هريرة، وابن السَّعْدِيِّ، وعقبة بن عامر، والنعمانُ بن بشيرٍ، وعَدِيُّ بن حاتم، ويَعْلَى بن أُمية، وسفيان ابن وَهْب، وعبد الله بن سِرْجِس، والفَلَتَان بن عاصم، وخالد بن عَرْفَطَة، والأشعثُ بن قيس، وأبو أُمامة الباهليّ، وعبد الله بن أُنيس، وبُريدَةُ الأسلميّ، وفُضالة بن عبيد، وشدَّاد بن أوس، وسعيد بن العاص، وكعب بن عُجْرة، والمِسْوَر بن مَخْرمة، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن الأرقم، وجابر بن سَمُرة، وحبيب بن مَسلمة، وعبد الرحمن بن أبزَى، وعمرو بن حُريث، وطارق بن شهاب، ومَعْمَر بن عبد الله، والمسيَّب بن حَزْن، وسفيان بن عبد الله، وأبو الطُّفيل، وعائشة، وحفصة رضي الله عنهم، وكلهم صحابة. قلت: ولو قيل: وكلهم معددون في الصحابة لكان أجود. قيل: وروى عنه من التابعين خلائق؛ منهم: ابنه عاصم، ومالك ابن أوس، وعلقمة بن وقاص، وأبو عثمان النَّهْدي، وأسلمُ مولاه، وقيس بن أبي حازم، وخَلْق سواهم. قيل: وأجمعوا على كثرةِ علمهِ، ووُفُورِ فَهْمه، وزهدِهِ، وتواضُعِهِ، ورفْقِهِ بالمسلمين، وإنصافِهِ، ووقوفهِ مع الحقِّ، وتعظيمه

آثارَ رسول الله، وشدةِ متابعته له، واهتمامِه بمصالح المسلمين، وإكرامه أهلَ الفضلِ والخير، ومحاسنُه أكثرُ من أن تُستقصى. قال ابن مسعود حينَ توفيَ عمرُ - رضي الله عنه -: ذَهَبَ بتسعة أعشار العلم (¬1). وأقوالُ السلف في علمه مشهورةٌ، وهاجر إلى المدينة، حتى أراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الهجرةَ، فتقدم قُدَّامه في جماعة. قال البراء بن عازب: أوَّلُ من قدم علينا من المهاجرين مُصعب بن عمير، ثم ابنُ أمِّ مكتوم، ثم عمرُ بن الخطاب في عشرين راكبًا، فقلنا: ما فعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو على إثري، ثم قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر - رضي الله عنه - (¬2). وعن علي - رضي الله عنه - قال: ما علمتُ أحدًا هاجرَ إلا مُخْفيًا، إلا عمرَ بن الخطاب؛ فإنه لما همَّ بالهجرة تقلَّدَ سيفه، وتنكَّبَ قوسه، وانتضى (¬3) في يده أَسْهُمًا، وأتى الكعبةَ، وأشرافُ قريش بفِنائها، فطاف سبعًا، ثم صلَّى ركعتين عند المَقام، ثم أتى [حِلَقَهم] (¬4). واحدةً واحدةً، ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 336)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8808)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 283). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (36610)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 365)، والإمام أحمد في في "المسند" (1/ 2)، وابن حبان في "صحيحه" (6870)، وغيرهم. (¬3) في الأصل: "وأعطى"، والمثبت من "ت". (¬4) سقط من "ت".

وقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تثكلَه أمُّه، ويُؤتَّمَ ولدُه، وتُرَمَّلَ زوجتُه، فليلقني وراءَ هذا الوادي، فما تَبِعَهُ منهم أحدٌ (¬1). قال ابن إسحاق: هاجر عمر وزيد ابنا الحطاب، وسعيد بن زيد، وعمر وعبد الله ابنا سراقة، وخُنيس (¬2) بن حذافة، وواقدُ بن عبد الله، وخولي وهلال ابنا أبي خولي، وعيَّاشُ بن أبي ربيعة، وخالد وإياس وعاقل بنو البكير، ونزلوا على رفاعةَ بن المنذر في بني عمرو بن عوف (¬3). وشهِدَ عمرُ - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا، وأحدًا، والخندقَ، وبيعةَ الرِّضوانِ، وخيبرَ، والفتحَ، وحُنينًا، [وتبوك] (¬4)، وسائرَ المشاهدِ، وكان شديدًا على الكفار والمنافقين، وهو الذي أشار بقتل أسارى بدر، فنزل القرآن على وَفْقِ قوله في ذلك، وكان عمر - رضي الله عنه - ممن ثَبَتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد. وأما زهده وتواضعه فمن المشهورات التي استوى الناس في العلم بها. وقال طلحة بن عبيد الله: كان عمرُ أزهدَنا في الدنيا، وأرغبَنا في الآخرة (¬5). وقال سعد بن أبي وقاص: قد علمتُ بأيِّ شيء فَضَلَنا عمر، ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 51 - 52). (¬2) في الأصل: "وحبيش"، والمثبت من "ت". (¬3) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 326). (¬4) زيادة من "ت". (¬5) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 287).

كان (¬1) أزهَدنا في الدنيا (¬2). قال بعضهم (¬3): وروينا أنَّ عمرَ دخل على ابنته حفصةَ، فقدمت له مَرَقًا باردًا، وصبَّتْ عليه زيتًا، فقال: أُدُمان في إناء واحد؟! لا آكله حتى ألقى الله عز وجل (¬4). وعن أنس قال: لقد رأيتُ في قميص عمر - رضي الله عنه - أربعَ رِقاع بين كتفيه (¬5). وعن أبي عثمان: رأيتُ عمرَ - رضي الله عنه - يرمي الجمرة، وعليه إزارٌ مرقوع بقِطْعَةِ جِراب (¬6). وعن غيره: أنَّ قميصَ عمر - رضي الله عنه - كان فيه أربعَ عشرة (¬7) رقعة، أحدُها من أدم (¬8)، انتهى. وللصحابة - رضي الله عنهم - فضائلُ مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن صحيحها: ¬

_ (¬1) في الأصل: "فكان"، والمثبت من "ت". (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (32012). (¬3) هو الإمام النووي، كما في "تهذيب الأسماء واللغات" له (2/ 326). (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 319)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 301). (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (19934)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (34447)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 327)، وغيرهم. (¬6) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 304). (¬7) في الأصل و "ت": "أربعة عشرة"، والصواب ما أثبت. (¬8) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 330) عن أنس - رضي الله عنه -.

ما في حديثِ أبي موسى الأشعري الطويلِ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افتحْ له"؛ يعني: لعمر "وبَشِّرْهُ بالجنة" (¬1). وحديث أبي سعيد الخُدْرِيّ، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بينَا أنا نائمٌ، رأيتُ الناسَ يُعرَضُون عليَّ، وعليهم قُمُصٌ، فمنها ما بلغ الثَّديَ، ومنها ما دُون ذلك، وعُرِضَ عليَّ عمرُ بن الخطاب، وعليه قميصٌ يجُرُّهُ"، قالوا: فما أوَّلْته يا رسول الله؟ قال: "الدِّين" (¬2). وحديث ابن عمر قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بينا أنا نائمٌ، أُتيتُ بقَدَحِ لبنٍ، فشرِبْتُ منه، ثم إِنِّي لأرَى الرِّيَّ يخرجُ من أظفاري، ثمَّ أعطيتُ فَضْلِي عمرَ بنَ الخطاب" قالوا: فما أولتَ ذلك يا رسولَ الله؟ "قال: العِلْم" (¬3). وما في حديث سعد بن أبي وقاص: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرَ: "يا ابنَ الخطاب! والذي نفسي بِيدِهِ، ما لقِيَكَ الشيطانُ سالكًا فجًّا، إلا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3490)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب، ومسلم (2403)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عثمان - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (23)، كتاب: الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، ومسلم (2390)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (82)، كتاب: العلم، باب: فضل العلم، ومسلم (2391)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

سلكَ فَجًا غيرَ فجِّكَ" (¬1). وفى حديثِ أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بينا أنا نائمٌ، رأيتُني في الجنَّة، وإذا امرأةٌ تتوضأُ إلى جانبِ قَصْرٍ، فقلت: لِمَنْ هذا القصرُ؟ فقالوا: لعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غيرتَكَ" فبكى عمر، وقال: أعليك أغارُ يا رسول الله (¬2)؟! وفي حديثه أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كانَ فيمَنْ قبلَكم مِنَ الأممِ ناسٌ مُحدَّثون، فإن يكُ في أمَّتي أحدٌ، فإنّه عمرُ" (¬3). وكذلك حديث الدَّلوِ والنَّزعِ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا أنا نائمٌ، رأيتُنى على قَلِيْبٍ، عليه دَلْوٌ، فنَزَعْتُ منها ما شاء الله، ثم أخذها أبو بكر، فنزعَ منها ذَنوبًا أو ذَنوبين، وفي نَزْعِهِ ضَعْفٌّ، واللهُ يغفر له، ثم جاء عمر، فاستقى، فاستحالت غَرَبًا، فلمْ أرَ عَبْقريًا يَفْرِي فَرِيَّهُ، حتَّى رَوَى الناسُ، فضربَ الناسُ بعَطَنٍ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3480)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب، ومسلم (2396)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (3476)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب، ومسلم (2395)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (3486)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬4) رواه البخاري (7037)، كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة، =

قال بعضهم: قال العلماء: هذه إشارة إلى خلافة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وكثرةِ الفتوحِ، وظهورِ الإسلام في زمن عمر (¬1). ومنها: قوله - رضي الله عنه -: وافقتُ ربِّي في ثلاثٍ: قلتُ: يا رسولَ الله! أرأيتَ لو اتَّخذنا من مَقامِ إبراهيم مُصَلّى؟ فنزلتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. وقلت: يا رسولَ الله! يدخُلُ على نسائك البَرُّ والفاجِرُ، فلو أمرتَهُنَّ يحتجبْن؟ فنزلت آيةُ الحجاب، واجتمعَ نساءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الغَيْرة، فقلت: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] فنزلت كذلك، وفي رواية: "أُسارى بدر" بدل "اجتماع النساء" (¬2). وفي حديث أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بينما راعٍ في غنمِهِ، عدا الذِّئبُ، فأخذ منها شاةً، فطلبَها، حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذِّئبُ، فقال: من لها يومَ السّبع؛ يوم ليس لها راعٍ غيري؟ " فقال الناس: سبحان الله! فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فإني أؤمنُ بهِ، وأبو بكرٍ وعمرُ"، وما هما ثَمَّ (¬3). ¬

_ = ومسلم (2392)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر - رضي الله عنه -. (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 327 - 328). (¬2) رواه البخاري (4213)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، ومسلم (2399)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل - رضي الله عنه -، مختصرًا. (¬3) رواه البخاري (3487)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن =

وحديث ابن عباس: وُضِعَ عمرُ بن الخطاب على سريره، فتكنَّفَهُ الناسُ؛ يدعون، ويُثنون، ويصلُّون عليه قبل أن يُرفَع، وأنا فيهم، فلم يرُعْني إلا رجلٌ، قد أخذ بمِنكبِي من ورائي، فالتفتُّ إليه، فإذا هو عليّ، فترحم على عمر، وقال: ما خلَّفتُ أحدًا أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايمُ [الله] (¬1)! إن كنتُ لأَظُنُّ أن يجعلَكَ الله مع صاحبيك، وذلك أنيّ كنتُ كثيرًا أسمعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "جئتُ؛ أنا وأبو بكر وعمر، ودخلتُ؛ أنا وأبو بكر وعمر"، فإن كنت لأرجو، أو لأظن أن يجعَلَك معهما (¬2). وحديث أنس: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَعِد أُحدًا، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجفَ بهم، وقال: "اثبتْ أُحد! فإنما عليكَ نبُّي، وصديقٌ، وشهيدان"، وهذا عند البخاري (¬3). وعند مسلم، عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على حِراء؛ هو، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحرَّكت الصخرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اهدأْ، فما عليك إلا ¬

_ = الخطاب، ومسلم (2388)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. (¬1) سقط من "ت". (¬2) رواه البخاري (3482)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب، ومسلم (2389)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (3472)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلاً".

نبي، أو صديق، أو شهيد" (¬1). وحديث عمرو بن العاص: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيشِ ذاتِ السَّلاسل، قال: فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، فقلت: من الرجال؟ فقال: "أبوها"، قلت: ثم من؟ قال: "ثم عمر"، فعد رجالًا (¬2). وعن عمر - رضي الله عنه - قال: استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العُمرة، فأذن، قال: "لا تنسنا أُخَيُّ منْ دعائِكَ"، فقال كلمة لا يسرني أن لي بها الدنيا، وفي رواية أنه قال: "أشركْنا يا أخيُّ في دعائِك"، وهو عند أبي داود، والترمذي، وصححه (¬3). وعن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله جعلَ الحقَّ على لسانِ عمرَ، وقلبه". وقال ابن عمر: ما نزلَ بالناس أمرٌ قطُّ، فقالوا، وقال عمر، إلا نزل فيه القرآنُ على نحو ما قال عمر، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2417)، كتاب؛ فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (3462)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلًا"، ومسلم (2384)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو داود (1498)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، والترمذي (3562)، كتاب: الدعوات، باب: (110)، وابن ماجه (2894)، كتاب: المناسك، باب: فضل دعاء الحاج. (¬4) رواه الترمذي (3682)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب عمر بن =

وروى - أيضًا - عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدُوا باللَّذينِ من بعدي؛ أبو بكرٍ وعمر" وقال: حديث حسن (¬1). وروى أيضًا عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -: "هذانِ سيدَا كُهولِ أهلِ الجنةِ من الأولِيْنَ والآخرينَ، إلا النبيِّيْنَ والمرسلينَ"، وقال: حديث حسن غريب (¬2). وروى أيضًا عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ نبيٍّ إلا ولهُ وزيران مِنْ أهلِ السَّماء، ووزيرانِ من أهلِ الأرضِ، فأمَّا وزيراي من أهلِ السماء: فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض: فأبو بكر وعمر" وقال: حديث حسن (¬3). وصحَّحَ الترمذي أيضًا من حديث ابن عمر: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ بأحبَّ هذين الرجلين إليك، بأبي جهلٍ، أو بعمرَ بن الخطاب"، وكان أحبَّهما إليه (¬4) عمر (¬5). ¬

_ = الخطاب - رضي الله عنه -، إلا أنه قال: حسن غريب، وابن حبان في "صحيحه" (6895)، وغيرهما. (¬1) رواه الترمذي (3662)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 382). (¬2) رواه الترمذي (3664)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه الترمذي (3680)، كتاب: المناقب، باب: (17)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 86). (¬4) "ت": "إلى". (¬5) رواه الترمذي (3681)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب عمر بن =

وعنده، وعند أبي داود من حديث أبي سعيد: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أهلَ الدَّرَجاتِ العُلى ليَرَاهُم مَنْ تحتَهم، كما ترون النَّجَم الطالعَ في أفقِ السماء، وإنَّ أبا بكر وعمر منهم، وأَنْعَمَا" (¬1)؛ أي: زادا وفضلا (¬2)، وقيل: دَخَلا في النعيم. وعند البخاري من حديث محمد بن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أيُّ الناسِ خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر (¬3). وعنده عن ابنِ عمر قال: كنا نخيِّرُ بين الناسِ في زمنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنخيرُ أبا بكر، ثم عمرَ، ثم عثمان (¬4). وعنده عن ابن عباس قال: دخل عُيينةُ بن حِصْنٍ على عمرَ بن الخطاب، فقال: هي يا ابنَ الخطاب! فو الله ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم بيننا بالعَدْل، فغضب عمرُ، حتى همَّ أن يُوْقِعَ به، فقال الحُرُّ ¬

_ = االخطاب - رضي الله عنه -، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 95). (¬1) رواه الترمذي (3658)، كتاب: المناقب، باب: مناقب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 27)، وغيرهما. (¬2) فى المطبوع من "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي، وعنه نقل المؤلف رحمه الله هنا غالب الترجمة: "زادا فضلاً". (¬3) رواه البخاري (3468)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلاً". (¬4) رواه البخاري (3455)، - كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل أبي بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ابن قيس: يا أمير المؤمنين! إنَّ الله تعالى قال لنبيِّه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإنَّ هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزَها عمرُ حينَ تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتابِ الله تعالى (¬1). وعنده عن حَفْصَةَ: قال عمر: اللهمَّ ارزقني شهادةً في سبيلك، واجعلْ موتي في بلدِ رسولك، فقلتُ: أنَّى يكونُ هذا؟ فقال: يأتيني بهِ اللهُ إذا شاء (¬2). وعنده عنِ ابنِ عمر قال: ما رأيتُ أحدًا قطُّ بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مِنْ حين قُبِضَ، كان أجدَّ وأجودَ، حتى انتهى من عمر (¬3). وروى مالك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري: أنَّ عمرَ - رضي الله عنه - كان يحمل في العام الواحد على أربعينَ ألف بعير، يحمِلُ الرجلَ إلى الشَّام على بعيرٍ، والرَّجُلين إلى العراقِ على بعير. (¬4) ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4366)، كتاب: التفسير، باب: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. (¬2) رواه البخاري (1791)، كتاب: فضائل المدينة، باب: كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة. قلت: قوله: "فقلت: أنى يكون هذا. . . " ليس عند البخاري، وقد رواه الإسماعيلي في "مستخرجه"، وأبو نعيم، كما ذكر الحافظ في "تغليق التعليق" (3/ 136). (¬3) رواه البخاري (3484)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 464)، ومن طريقه: ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 302).

وفي رواية الشافعي بإسناده، عن مولًى لعثمان، قال: بينا أنا مع عثمانَ في مالٍ له بالعالِيَةِ، في يومٍ صائفٍ، إذْ رأى رجلًا يسوقُ بَكْرين، وعلى الأرض مِثْلُ الفَراش من الحَرِّ، فقال: ما على هذا لو أقامَ بالمدينةِ حتى تَبْرُدَ، ثم يَرُوْحُ؟! فدنا الرجل، فقال: انظرْ! فنظرتُ، فإذا عمرُ بن الخطاب، فقلت: هذا أميرُ المؤمنين، فقام عثمان، فأخرج رأسه من البابِ، فآذاه نفحُ السَّموم، فأعاد رأسه، حتى حاذاه، فقال: ما أخرجَك هذه الساعة؟ فقال: بَكْران من إبل الصدقة تخلَّفا، وقد مُضي بإبِل الصَّدقة، فأردْتُ أن أُلحقهما بالحِمَى، وخشيتُ أن يضيعا، فيسألَني اللهُ عنهما، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين! هلمَّ إلى الماءِ والظِّل، ونكفيك، فقال: عدْ إلى ظِلِّك، ومضى، فقال عثمان (¬1): من أحبَّ أن ينظر إلى القويِّ الأمينِ، فلينظرْ إلى هذا، فعاد إلينا، فألقى نفسه (¬2). ومن المشهورِ من كرامته قصةُ سارية [و] (¬3) الجبل، ففي بعض رواياتها: أنَّه كان يخطبُ يومَ الجمعة بالمدينة، فقال في خطبته: يا ساريةُ بنُ حصنٍ! الجبلَ الجبلَ! فالتفت النَّاسُ بعضهم إلى بعض، فلم يفهموا مرادَه، فلما قَضَى صلاته، قال له عليّ - رضي الله عنه -: ما هذا ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل، والمثبت من "ت". (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 390) قال: أخبرني عمي محمد ابن علي بن شافع، عن الثقة، أحسبه؛ محمد بن علي بن الحسين أو غيره، عن مولى لعثمان بن عفان، فذكره. (¬3) زيادة من "ت".

الذي قُلته؟ قال: وسمعتَهُ؟ قال: نعم، أنا وكلُّ أهلِ المسجد، قال: وقع في خَلَدي؛ أنَّ المشركين هَزَموا إخواننا، وركبوا أكتافهم، وأنَّهم يمرون بجبل، فإن عَدَلوا إليه، قاتلوا مَنْ وجدوا، وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرجَ منِّي هذا الكلام، فجاء البشيرُ بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم، وفي الساعة حين جاوزوا الجبل، صوتًا يشبهُ صوتَ عمر، يقول: يا ساريةَ بن حصنٍ! الجبلَ الجبلَ! فعدلنا إليه، ففتح الله علينا (¬1). وليَ عمرُ الخلافةَ باستخلافِ أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -، فقام بالخلافةِ أحسنَ قيام، وجيَّش الجيوش، وفتحَ البلدان، ومصَّرَ الأمصار، وأعزَّ الإسلام، وأذلَّ الكفر، وفتحَ الشامَ، والعراقَ، ومصرَ، والجزيرةَ، وديارَ بكر، وأرمينية، وأذربيجان، وأرانية (¬2)، ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "الإصابة" (3/ 6): هكذا أخرج القصة الواقدي، عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، وأخرجها سيف مطولة، عن أبي عثمان وأبي عمرو بن العلاء، عن رجل من بني مازن، فذكرها مطولة. وأخرجها البيهقي في الدلائل، واللالكائي في "شرح السنة"، والزين عاقولي في "فوائده"، وابن الأعرابي في "كرامات الأولياء" من طريق ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، فذكرها. ثم قال الحافظ: وهكذا ذكره حرملة في جمعه لحديث ابن وهب، وإسناده حسن، انتهى. وتابعه على تحسينه الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 553)، ثم قال: وقد أفرد لطرقه الحافظ القطب الحلبي جزءًا. (¬2) في المطبوع من "تهذيب الأسماء" للنووي: "وإيران".

وبلادَ الجبال، وبلا د فارس، وخوزستان، وغيرها. واختلفوا في خراسان؛ قيل: فتحها عثمان، وقيل: فتحها عمر، ثم انتقضَتْ ففتَحها، والصحيح [عندهم] (¬1): أنَّ عثمانَ الذي فتحها. وكان عمرُ أول من دوَّنَ الديوانَ للمسلمين، ورتَّبَ النَّاس على سابقتهم في العطاء، وفي الإذن، وفي الإكرام. وقيل: إنه طُعِنَ في يومِ الأربعاء، لأربع ليالٍ بقينَ من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، ودفن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين، وكانت خلافتُه عشرَ سنين وخمسة أشهر وواحدًا (¬2) وعشرين يومًا. وقيل: توفِّي لأربع بقينَ من ذي الحجة، وقيل: لثلاث، وقيل: لليلة، وقيل غيرُ ذلك في مدَّةِ الخلافة وتاريخ الطعن والوفاة، وتوفي وهو ابنُ ثلاثٍ وستِّين سنة على المشهور، وما ثبت في "الصحيح" عن معاوية بن أبي سفيان. وقيل في صِفَةِ عمر - رضي الله عنه -: إنَّه كان طُوالًا جدًا، أَعْسَر يسر، وهو الذي يعملُ بيديه جميعًا، وكان أبيضَ يعلوه حُمْرة، وإنَّما صار في لونه سُمرة في عام الرَّمادة؛ لأنه أكثرَ أكلَ الزيتِ، وترك السَّمنَ، للغلاء الذي وَقَعَ بالناسِ، فامتنع من أكلِ اللبنِ والسَّمنِ، حتى لا يتميَّز ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في الأصل و "ت": "وإحدى"، وهو خطأ.

الوجه الثاني: في الإيراد على الوجه

على الضَّعَفَةِ، والله تعالى أعلم (¬1). * الوجه الثاني: في الإيراد على الوجه: روى مسلمٌ من حديث عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعايةُ الإبلِ، فجاءت نوبتي، فروَّحْتُها بعشِيٍّ، فأدركْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا يحدِّثُ الناس، فأدركْتُ مِنْ قوله: "ما مِنْ مُسلمٍ يتوضَّأُ، فيُحْسِنُ وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقبلٌ عليهما بقلبه ووجهِهِ، إلا وجبَتْ له الجنة"، قال: فقلتُ: ما أجودَ هذه! فإذا قائلٌ بينَ يديَّ يقول: التي قَبْلها أجودُ، فنظرتُ فإذا عمرُ، قال: إني قد رأيتك جئتَ آنفًا، قال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ يتوضَّأ، فيُبلغُ، أو فيُسْبغ الوضوءَ، ثُمَّ يقولُ: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله [وحدَهُ لا شريكَ له] (¬2)، وأنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُهُ، إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجَنَّةِ الثمانيةُ، يَدْخُلُ من أيِّها شاء". ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 265)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 38)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1144)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (44/ 3)، "صفة الصفوة" (1/ 268)، "المنتظم" كلاهما لابن الجوزي (4/ 131)، "أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 137)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي 21/ 324)، "تهذيب الكمال" للمزي (21/ 316)، "البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 133)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 588)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (7/ 385). (¬2) ما بين معكوفتين ليس في المطبوع من "صحيح مسلم".

والحديثُ في الجملة عند الترمذي، والنسائي، من رواية زيد بن حباب، عن معاويةَ بن صالحٍ بسنده، وفي لفظ الإسناد عند مسلم إشكالٌ، ينبّه عليه أهلُ الحديث؛ وهو مما تَكَلَّمَ عليه أبو علي الجَيَّاني، وذلك أنَّ مسلمًا أخرجه عن محمد بن حاتم بن ميمون، عن عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاويةُ بن صالحٍ، عن ربيعةَ؛ يعني: ابنَ يزيد، عن أبي إدريس الخَولانيّ، عن عقبةَ بن عامرٍ. قال: وحدثني أبو عثمان، عن جُبَيْر بن نُفَيْر، هكذا وقع، قال أبو عثمان من غير إيضاح بقائله، فقيل: القائلُ ربيعةُ بن يزيد، وأنه وقع مبينًا في رواية قال ربيعة: وحدثني أبو عثمان، قيل: وما بعده يصححه في الحديث الآخر. وقال آخر: وهذا وَهْمٌ، والصوابُ: أنَّ قائل ذلك معاوية بن صالح (¬1). وعلى كل حال فلا تَضُرُّ جهالةُ قائله في الحكم بتصحيحِهِ، بعد كونِ كلِّ واحدٍ من الرجلين اللَّذينِ تردد القول بينهما ثقةً. وأما الرواية الذي ذُكِرَ أن فيها: "أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له" فإن مسلمًا أخرجَها من حديثِ زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، وأبي عثمان، عن جُبير بن نفير بن مالكٍ الحَضْرمي، عن عقبةَ بن عامرٍ الجُهَنِيّ، ولم يَسُقْهُ بتمامِ لفظِهِ، وقال: إنَّ رسول الله قالَ، فذكر مثلَه، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 119).

غير أنه قال: "مَنْ توضأَ فقال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه"، لم يزِدْ على هذا. ورواه أبو نعيم الحافظ من طريق معاوية بن صالح، عن أبي عثمانَ، عن جُبير بن نُفير، عن عقبة بن عامر، قال: كنَّا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خُدَّام أنفُسِنِا، نتناوبُ على الرّعايةِ؛ رعايةِ إبِلِنا، فكنتُ على رعايةِ الإبلِ، فروَّحْتُها بعشيٍ، قال: فذكر نحوَه، ولم يسُقْه بتمامه أيضًا. قال: وقال معاويةُ: حدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، نحوه (¬1). فمسلمٌ، وأبو نُعيم [لم] (¬2) يذكرا الحديثَ بتمامِهِ، وهو عندَ الحافظ أبي عَوَانة الإسِّفراييني في "مسنده" بتمامه على الوجه، فاحتجْنا إلى إيراده من جهته: ثنا بَحْرُ بن نَضْر، ثنا ابن وَهْب قال: سمعتُ معاويةَ بن صالح يحدِّثُ عن أبي عثمان النهدي، عن جُبَيْرِ بن نُفير، عن عقبة بن عامر: أنه قال: كنَّا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خُدَّام أنفسِنا، نتناوبُ رعايةَ إبلِنا، فروحتها بعشي، فأدركتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ الناسَ، فسمعته يقول: "ما [مِنْكُم] (¬3) أحدٌ يتوضأُ، فيُحْسِنُ الوضوءَ، ثم يقومُ فيركَعُ ركعتين، يُقْبِل عليهما بقلبِهِ وبوَجْهِهِ، فقد أَوْجَبَ"، فقلت: بخٍ بخٍ، ما أجودَ هذه! فقال رجلٌ بين يديّ: التي قبلها أجودُ، ¬

_ (¬1) انظر: "المسند المستخرج على صحيح مسلم" لأبي نعيم (1/ 298). (¬2) زيادة من "ت". (¬3) زيادة من "ت".

الوجه الثالث: في تصحيحه

فنظرتُ إليه، فإذا هو عمرُ بن الخطاب، فقلت له: ما هي يا أبا حَفْصٍ؟ قال: إنَّه قال آنفًا قبل أن تجيءَ: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ يتوضَّأُ فيحسنُ الوضوءَ، ثم يقولُ حينَ يَفْرُغُ مِنْ وُضوئه: أشهدُ أن لا إله إلا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، إلا فُتحَتْ له أبوابُ الجنة الثمانيةُ، يدخلُ من أيِّها شاءَ". قال معاوية بن صالح: وحدَّثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة. قال معاوية - هو ابن صالح -: وحدَّثني عبد الوهابِ بن بخت، عن ليثِ بن أبي سُلَيْم، عن عقبة بن عامر (¬1). * الوجه الثالث: في تصحيحه: وقد ذكرنا أن مُسْلمًا أخرج حديث عمر وعقبة، وما وقَعَ مِنَ الاختلافِ فيمنْ قال: عن أبي عثمانَ، فإنَّ ذلك لا يَضُرّ. * الوجه الرابع: في شيء من مفرداته، وفيه مسائل: الأولى: قوله: "فروَّحْتُها بعشي" الضمير للإبِلِ، وقد تقدَّم ذكرُها في قوله: "كانتْ علينا رعايةُ الإبل"؛ أيْ: جِئْتُ بها للمَبِيْتِ، ¬

_ (¬1) انظر: "مسند أبي عوانة" (1/ 225).

والمُراحُ: موضع مبيت الماشية، بضمِّ الميم (¬1). وقال أبو نعيم "فروَّحتها": الخروج بعد الزوال (¬2). قال الجوهري: ورَاحَت، وأرَحْتَها: إذا رَدَدْتَها إلى المُراحِ، وقال أيضًا: والرَّواحُ: نقيضُ الصَّباح، وهو اسمٌ للوقت من زوال الشَّمس إلى الليل (¬3). قال الرَّاغب: وراحَ فلانٌ إلى [أهله؛ إما] أنّه أتى لهم (¬4) في السُّرعة كالرِّيح، أو أنّه استفاد برجوعه إليهم رَوْحًا من المَسرَّة. والراحةُ من الرَّوْح، ويقال: افعل كذا في سَرَاح ورواح (¬5)؛ أي: في سهولة. والمُروَاحَة في العمل: أن يَعْمَلَ هذا مرةً وذاك مَرَّة، واستُعِيْرَ الرواحُ للوقت الذي يُرَاحُ الإنسانُ فيه من نِصْفِ النهار، ومنه قيل: أَرَحْنا إبلنا، وأرحْتُ إليه حقَّهُ مستعارٌ من: أرحت الإبل، والمُراح: حيثُ تُراح [الإبل] (¬6) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 22). (¬2) انظر: "المسند المستخرج على صحيح مسلم" (1/ 298). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 368). (¬4) في "مفردات القرآن": "أتاهم". (¬5) في الأصل و "ت": "راح"، والتصويب من "مفردات القرآن". (¬6) زيادة من "ت". (¬7) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 370 - 371).

الثانية

الثانية: قال الجوهري: العَشِيُّ، والعَشِيَّة: من صلاة المغرب إلى العَتَمة، تقول: أتيته عشيَّ أمسِ، وعشِيَّةَ أمسِ، وتصغيرُ العَشِيِّ: عُشَيَّان على غير مُكبَّر (¬1)، كأنهم صَغَّروا عَشْيَانًا، والجَمْعُ: عُشَيَّانات، وقيل أيضًا في تصغيره: عُشَيْشِيَان، والجمع: عُشَيْشِيَانات، وتصغير العَشية: عُشيَّة (¬2)، والجمع: عُشيشيات، والعِشَاء - بالكسر والمَدِّ -: مثل العشي، والعِشاءان: المغرب والعَتَمة. قال: وزَعَمَ قوم: أنَّ العِشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، وأنشدوا [من الوافر]: غَدَوْنَا غَدْوَة سَحَرًا بليلٍ ... عِشَاءً بعدمَا انتصفَ النَّهارُ (¬3) الثالثة: قال الرَّاغب في "المفردات": في أَنْف: أصلُ الأَنْف الجارحةُ، ثم يسمَّى به طَرَفُ الشيء وأشرَفُهُ، يقال: أَنْفُ الجبل، وأنفُ اللحية، ونسُبَ الحَمِيَّةُ والغضبُ والعزةُ والذلَّةُ إلى الأنف حتى قال الشاعر [من الطويل]: ¬

_ (¬1) في "الصحاح": "على غير قياس مكبَّره". (¬2) في "الصحاح": "عشيشية". (¬3) البيت دون نسبة، كما ذكره الجوهري هنا في "الصحاح" (6/ 2426)، وابن دريد في "الجمهرة" (2/ 872)، وابن منظور في "لسان العرب" (15/ 56).

[إذا غَضِبَتْ] (¬1) تلكَ الأنوفُ لَمْ ارْضَها ... ولمْ أَطْلبِ العُتْبى ولكنْ أزيدُهَا (¬2) وقيل: شَمَخَ فلان بأنفه: للمتكبِّر، وتَرِبَ أنفُه: للذليل، وأَنِفَ فلانٌ من كذا؛ بمعنى: استنْكَفَ، وأَنَفْتُهُ: أصَبْتُ أنفَهُ، وحتى قيل للأَنَفة: الحميَّة (¬3)، واستأنفتُ الشيء: أخذْتُ أنفَه، أي: مُبْتَدَأه، ومنه: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]؛ أي: مبتدأً (¬4). وقال ابن فارس في "المُجمَل": وشريفُ القوم: أَنْفُ، وطرف اللحية: أَنْفُها، والناتِئ من الجبل: أَنْفٌ، والأَنْف: أوَّلُ الشيء، وروضةٌ أُنُف: إذا كانت لم تُرْعَ، وأَنِفَ الرجلُ أَنَفًا وأَنفَة، وكأنه مشتقٌ من شَمَخَ بأنفِهِ، وأَنَفْتُ الرجلَ: ضَرَبْتُ أنفَه، ويقال: استأْنَفْتُ الشيء، وامرأة أَنوفٌ: طيِّبةُ ريح الأنف، وجمل أَنِفٌ، أي: أوجَعَتْه الخِزامَة، فتسلس منها، ويقال: عدا الشيء، وأنفَ الشدُّ أي: أشده، قال ذلك ابن السِّكِّيت (¬5). قلت: يمكن أن نُحاول رَدَّ الجميع إلى معنى واحد، ولكن الذي ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) ذكره الراغب أيضًا في "محاضرات الأدباء" (1/ 386) دون نسبة. (¬3) في المطبوع من "مفردات القرآن": "حتى قيل للحمية: الأنفة". (¬4) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 95). (¬5) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 67). وانظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (1/ 104).

الرابعة

نختاره: أنَّا إذا جعلنا اللفظَ حقيقةً في شيء، وحاولنا ردَّ الباقي إليه بالمجازِ، وكانتِ العلاقةُ خفيَّةً (¬1)، أو بعيدةً جدًا، أنْ نُقَدِّمَ الاشتراكَ حينئذٍ، والمجازُ وإن كان خيرًا منه، إلا أنَّه يبقى مَرْجُوحًا بالنسبة إلى خَفَاء علاقَتِهِ، أو بُعْدِها، وقد ذكر الواحديُّ في "وسيطه" في تفسير قوله تعالى: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]؛ أي: الساعَةَ، ومعنى الأنف: من الائتناف، يقال: ائتنفْتُ الشَّيءَ، أي: ابتدأْتُه، وأصله من الأَنْف، وهذا ابتداء كل شيء (¬2)، و [هذا] (¬3) كأنه يَرُدُّ أكثرَ الاستعمالات، أو كلَّها، إلى معنى الابتداء. الرابعة: قال الراغب: البُلُوغ والبَلاع: الانتهاءُ إلى أقصى المَقْصِد والمُنتهى، مكانًا كان أو زمانًا، أو أمرًا من الأمور المقدَّرة، وربما يُعبَّر بِهِ عَنِ المشارَفةِ عليه، وإن لم ينتهِ إليه، فمن الانتهاء: {بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15]، وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232]، و {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} [غافر: 36]، {أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} [القلم: 39]؛ أي: منتهيةٌ في التوكيد. والبَلاغ: التبليغ، نحو قوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} [إبراهيم: 52]، وقوله: {بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35]، {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17]، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "حقيقة"، والمثبت من هامش "ت". (¬2) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 23). (¬3) زيادة من "ت".

الْحِسَابُ} [الرعد: 40]. والبلاغُ: الكفايةُ، نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106]، وقوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]؛ أي: إنْ لم تبلغْ هذا، أو شيئاً منه مِمَّا حُمِّلتْ، تكنْ (¬1) في حُكْمِ مَنْ لم يُبَلِّغْ شيئاً مِنَ الرسالة، وذلك أنَّ حكمَ الأنبياء وتكليفاتِهِمْ أشدُّ، وليسَ حُكْمُهُم كحكمِ سائرِ النَّاسِ، الذين يُتجافى عنهم (¬2) إذا خَلَطُوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا. وأما قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] فللمشارفة، فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجَلِ لا يصِحُّ للزوج مُراجعتُها وإمساكُها. ويقال: بَلَّغته، وأَبْلَغته، وبلَّغته أكثر، قال عز وجل: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} [الأعراف: 62]، وقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هود: 57]، وقال (¬3): {بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40]، وفي موضع: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8]، وذلك نحو: أدرَكني الجَهْدُ، وأدركتُ الجَهْدَ، ولا يصح: بَلَغَني المكانُ، وأدركَني. ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "تكون". (¬2) "ت": "عليهم"، وجاء في الهامش: "لعله: عنهم". (¬3) في الأصل: "فقد"، والمثبت من "ت".

الخامسة

والبلاغةُ تقال على وجهين: أحدهما: أن يكون بذاتِه بليغًا، وذلك بأن يَجْمَعَ ثلاثة أوصافٍ: صوابًا في وضع لغتِهِ، وطِبْقًا للمعنى المقصودِ، وصِدْقًا في نفسه، ومتى اخترم وصفٌ من ذلك، كان ناقصًا في البلاغة. والثاني: أن يكونَ بليغًا باعتبارِ القائلِ والمَقُولِ له، وهو أنْ يَقْصِدَ القائل به أمرًا ما، فيورده على وجهٍ حقيقٍ أن يقبلَه المقولُ له، وقول الله عز وجل: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] يصح حملُه على المعنيين. وقولُ مَنْ قال: معناه: {وَقُلْ لَهُمْ}؛ أي: إنْ أظهرتُم ما في أنفسكم قُتِلْتُم، وقول من قال: خوِّفْهم بمكارِهَ تنزلُ بهم، فإشارةٌ إلى بعض ما يقتضيه عمومُ اللفظ. والبُلْغَة: ما يُتبلَّغ به من العيش (¬1). الخامسة: شَهِدَ، يطلق ويراد به: حضر: شَهِدْتُ حَرْبَ كذا، وسُوْقَ كذا. ويطلق شهد بمعنى: عَلِمَ: شَهِدْتُ بأنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ. ويطلق بمعنى: أظهرَ، وأبانَ (¬2): شهدَ الشاهدُ عند الحاكم بكذا، أي: أظهرَ ما عنده من العلم وأبانه، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]: أظهرَ ذلك بما أبدعَ مِنْ مخلوقاتِهِ ومصنوعاته، ¬

_ (¬1) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 144 - 145). (¬2) "ت": "بأن".

وأبان من الدلائل على وحدانيّته (¬1). وقد يلزمُ بعضُ هذه المعاني بَعْضًا، وقد يصِحُّ توارُدُهُما في محل، فقولُه: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، يجوز أن يكونَ بمعنى: أعلمُ، ويجوز أن يكونَ بمعنى: أُظْهِرُ وأُبِيْنُ. وجدتُ في تلخيص أبي القاسم عبد الرحمنِ بنِ إسحاقَ النّحويِّ الزجَّاجيِّ لكتاب "الزاهر" لأبي بكر بن الأنباري (¬2): وقولهم: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: - يعني ابن الأنباري - أعلمُ أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ، وأُبِيْنُ أنَّه لا إلهَ إلا الله، وحُكِيَ [ذلك] (¬3) عن ثعلب، قال: والدليل على ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، ولما أنهم (¬4) جحدوا نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كانوا قد ثبتوا على أنفسهم الضلالة والكفر. قال: وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] بيَّنَ الله (¬5) أنه لا إله إلا هو. ¬

_ (¬1) انظر: "مفردات القرآن" للراغب (ص: 466). (¬2) للإمام أبي بكر محمد بن أبي محمد القاسم الأنباري النحوي المتوفى سنة (328 هـ) كتاب: "الزاهر في معاني الكلام الذي يستعمله الناس"، شرحه واختصره الشيخ الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي المتوفي سنة (340 هـ). انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 947). (¬3) سقط من "ت". (¬4) "ت": زيادة "لما". (¬5) في الأصل: "بمعنى" بدل "بين الله"، والمثبت من "ت".

وقال أبو عبيدة: معناه: أنه قَضَى اللهُ أنَّه لا إلهَ إلا هو. قال: وقولهم: شَهِدَ فلانٌ عند الحاكمِ، أي: بَيَّنَ له وأعلمه (¬1). واعترضَ أبو القاسم عليه، فيما وجَدْتُه، فقال: ليس حقيقةُ الشهادة كما ذكره، ولو كان معنى الشهادة البيانَ والإعلام، لما أكذَبَ الله تعالى المنافقين في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]؛ لأنَّ البيان الإعلامُ، والبيانُ باللسانِ لا بالقلبِ، فقد قالوا بألسنتهم، وأَعْلموا، فكذَّبهم الله تعالى؛ لأنَّ الشهادة في هذا الموضع، إنَّما هي تحقيقُ الشيء وتيقُّنه، فكذَّبهم الله - عز وجل - لأنَّهم أبطنوا خلاف ما أظهروا. فقد تكون الشهادة على ضُرُوب، وأصلُها: تحقيق الشيء وتيقنه، من شهادة الشيء، أي: حضوره؛ لأنَّ مَنْ شَاهَدَ شيئاً، فقد تيقَّنه علمًا، فاستُعملت هذه اللفظة في تحقيق الأشياء، ثم اتُّسِعَ فيها بعد ذلك، فاستُعْمِلَت في موضعين آخرَين: أحدهما: الإقرارُ بالشيء. والآخر: الإظهارُ والبيان. فمن الإظهار والبيان: ما ذكره من قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، ومنه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]، وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في معاني كلمات الناس" (1/ 125).

الوجه الخامس: في شيء من العربية، وفيه مسائل

فأمَّا شهادَةُ الشاهد بالحقوقِ، فإنَّما هي إخبارٌ منه عما شاهده وتيقَّنه، وأحضر للوقوف عليه معاينة وسماعًا. وأما الإقرارُ فما كان يُؤْخَذُ به المشركون في صدر الإسلام من الدُّعاء إليه، وهو أنَّهم كانوا يقاتَلون، حتى يقولَ الواحدُ منهم: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، فيحْقُنُ مالَه ودمَه، فإنما (¬1) كان يُراد منهم الإقرارُ بهذا، ألا ترى أنَّ المنافقين على عَهْدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله، كانوا يقولون هذا، ويُقِرُّون به في الظاهر، فيصير لهم حُكْمُ المسلمين، ويُبْطِنون خلافه؟ قلت: ليس في هذا (¬2) التلخيصِ تلخيصٌ (¬3). * الوجه الخامس: في شيء من العربيَّة، وفيه مسائل: الأولى: الضَّمير في "رَوَّحْتُها" عائدٌ على الإبل، وقد تقدَّم ذِكْرُها في قوله: "كانت علينا رعايةُ الإبِلِ". الثانية: قوله: "بعشيٍّ" حال؛ إمَّا من ضميره، أو من ضميرها، أو منهما معًا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "في"، والتصويب من "ت". (¬2) في الأصل: "ليس هذا في"، والمثبت من "ت". (¬3) قلت: كتاب الزجاجي شرح وتلخيص كما ذكر في مقدمة كتابه فقال: هذا كتاب جمعت فيه جمل الألفاظ التي ذكرها الأنباري في كتابة الموسوم: بـ "الزاهر"، وشرحتها مختصرة موجزة، وحذفت منه الشواهد. كذا نقله حاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/ 948).

الثالثة

الثالثة: قوله: "يحدِّث الناسَ" حالٌ من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، والعاملُ فيه الضميرُ في "أدركت"، أو مِنَ الضميرِ في "قائمًا"، وقائمًا حالٌ من الضمير في "أدركتُ"، كما ذكرناه. الرابعة: قولُه: "مِنْ" للتبعيض؛ لأنَّ الذي أدركَه بعضُ قولٍ، هو أكثرُ منه، ويجوز على مذهب أبي الحسن: أن تكونَ زائدةً؛ لأنه يجيزُ زيادتَها في الإثبات، والأول أولى؛ لدلالة السِّياقِ على ما تقدم. قول آخر: يكون هذا بعض الجملة منه، ومن هذا (¬1). الخامسة: قوله: "ما أجودَ هذه"، (ما) هذه هي التي للتعجُّب، وقد اختلف النحويُّونَ فيها؛ فقيل: إنَّها بمعنى الذي، وقيل: إنها نكرةٌ بمعنى شيء، أو ما قاربه، وهذا مذهب سيبويه، والأول مذهب الأخفش (¬2)، ولبعض المتكلِّمين اعتراضات على مذهب سيبويه، المتأخرون صمٌّ (¬3) عن استماعها. السادسة: قوله: "ما أجودَ هذه" تأنيثٌ [بمعنى الكلمة، المقصود بها الجملة، والكلمةُ تطلقُ ويراد بها الجملةُ، بل وعلى ما] (¬4) يراد [به] (¬5) الجملُ، كإطلاق الكلمةِ على القصيدة. ¬

_ (¬1) جاء في هامش الأصل و "ت": "بياض". (¬2) انظر "شرح الجمل" لابن عصفور (2/ 470). (¬3) "ت": "صمُّوا". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) زيادة من "ت"

السابعة

السابعة: (إذا) هي التي للمفاجَأَة، قال أبو محمد ابن بَرِّي - فيما وجدْتُه عنه -: اختلف النحويون في (إذا) التي للمفاجأة: فاختارَ بعضُهم: أنَّها حرفٌ؛ لأنَّ المفاجأة معنَى من معاني الكلام؛ كالاستفهامِ والنَّفيِ والتوقُّعِ، والأصلُ: أنَّ هذه المعاني وما أشبَهها، تُؤدَّى بالحروف، نحو: قدْ، ومَا، ألا تراهم يقولون: أصلُ أدواتِ الشَّرْط: إِنْ، وأصلُ أدواتِ الاستفهامِ: الهمزةُ؛ لحرفيَّتِهما (¬1). واختار بعضُهم: أنَّها ظرفُ زمانٍ، لأنَّها إذا لم تكن للمفاجأة كانت ظرفَ زمانٍ بلا خلافٍ، وجعلَها كلمةً واحدةً وضعَتْها العربُ لظرفِ زمان، ولم تُخْلِها عنه، وأضافَتْ إلى دِلالتها على الزمان، تارةً الشرط، أو نحو: إذا قام زيدٌ قُمْتُ، وتارةً المفاجأة في نحو: خرجْت فإذا السبع، وتارةً جرَّدَتْها عنهما، ومَحَّضتها للزمان، نحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]، أولى من جعلِها لفظاً مشتركاً بين الاسميَّة والحرفيَّة، أو بين ظرفي الزمان والمكان. واختار بعضهم: أنها ظرفُ مكانٍ، وهو مذهبُ سيبويه، وعليه شَرْحُ أبي سعيدٍ، ومذهب الفراء، والمبرد، والأخفش، وأبي عليّ، وكثير من المحققين؛ لأن معنى المفاجأة: حُضُورُ الشيءِ معك بغتةً، اتفاقاً، وذلك في مكانِ فِعْلِكَ الذي باغتك ذلك الشَّيءُ فيه، أَقْعَد في معنى المفاجأة، وأَدْخَل فيها من حضوره معك في زمان فعلك، وقد تكلَّمَتِ العربُ فيه على ثلاثةِ أوجُهٍ: ¬

_ (¬1) في الأصل: "لحرفيتها"، والمثبت من "ت".

الأول: خَرَجْتُ فإذا زيدٌ، وله مَحْمَلان مِنَ الإعراب: أن يكون زيدٌ مبتدأً، و (إذا) خبرَه، وعلى هذا الوجْهِ يتعيَّنُ أن يكون (إذا) ظرفَ مكان؛ لأنَّ الحرفَ لا يُفيد مع الاسم الواحد إلا في النّداء، وظرفُ الزمانِ لا يجوزُ أن يكونَ خبراً عن الحيثِ، فهو نظيرُ قولِكَ: عندي زَيْدٌ، ولولا تأويلُ (إذا) بـ (عندي) لم يجزْ أن تكون خبراً بنفسها؛ لعدمِ الفائدةِ، كما أوَّلوا (ذا) في الصِّفات بصاحبِ؛ ليصحَّ وقوعُه صفةً في قولك: هذا رجلٌ ذو مالٍ. وأن يكونَ (زيدٌ) مبتدأً محذوفَ الخبرِ؛ لدلالةِ المفاجأةِ عليه؛ أي: فإذا زيدٌ حاضرٌ، وما أشبهَ ذلك، ومحلُّ (¬1) (إذا) نُصِبَ على الظَّرف على قول من جَعَلها ظَرْفاً، ولا محلَّ لها على قول من جعلها حرفاً؛ لأنَّها على هذا الوجه باقيةٌ على احتمالاتها الثلاثة. الوجه الثاني: خرجْتُ فإذا زيدٌ قائم، يُرْفَعْ (قائم) على أنّه خبرُ (زيد)، و (إذا) ظرفٌ محلُّه النَّصبُ، أو حرفٌ لا محلَّ له. الوجه الثالث: خرجْتُ فإذا زيدٌ قائماً، بنصْبِ (قائماً) على الحال، فإما أن يكون (إذا) ظرفَ مكانِ خبراً عن (زيد)، كما تقدم، وإما أن يكون خبرَ (زيد) محذوفاً، وتبقى (إذا) على احتمالاتِها الثلاثةِ، والعاملُ فيها - عند من يرى ظرفيَّتها - ما دلَّتْ عليه من معنى المفاجأة، فإذا قُلْتَ: خرجْتُ فإذا السّبعُ، تأويلُه: فاجأَني، أو بَغَتنَي، ¬

_ (¬1) "ت": "فمحل".

الثامنة

أو حصرَني عند خروجي السَّبعُ، والله أعلم أيّتهنَّ (¬1). قال الشيخُ العلَّامة أبو عمرو بن الحاجِب، فيما وجدْته عن "أماليِّه": ومِنْ حَذْفِ الخبرِ قولُهم: خَرَجْتُ فإذا السّبعُ، (إذا) هنا للمفاجأة، وهي ظرفُ مكان في أصحِّ الأقوالِ؛ لأنَّ معنى المفاجأةِ خروجُ الشيءِ معك في زَمَنِ وصفِك بالخروج، أو في مكانِ خروجِك، وحضورُه معك في زَمَنِ خروجك، ألصقُ بك من حضورِه في زمنِ خروجك؛ لأنَّ حصرَ ذاتِك في مكان فعلِك، حين تلبُّسِك به أمسُّ بكَ من حَصْرِك في زَمَنِ فعلِك، حينَ تلبُّسِك به؛ لأنَّ ذلك المكان يَخُصُّك ذلك الحينَ دون من أشبهك، ذلك الزمن لا يخصُّك دونَ من أشبهك، وكلَّما كانَ المفاجَأ ألصقَ بالمفاجِئ، كانت المفاجأةُ أقوى، وهي تدلُّ على الوجود، فلا يخلو إمَّا أنْ تريد وجوداً مطلقاً، أو لا تريدَ ذلك، فإن أردتَ الوجودَ مطلقاً، جازَ حذفُ خبرِ المبتدأ الواقع بعدَها؛ نحو: خرجت فإذا السَّبعُ، وإن شئت قلت: فإذا السبع موجودٌ، وإن لم تُرِدِ الوجودَ المطلق، بل المقيَّد، بأنْ تريدَ قياماً أو قعوداً أو ضَحِكاٌ، فلا بدَّ من ذكره، إذْ ليس في (إذا) ما يدل على ذلك القيد؛ لأنهّ ليس فيها أكثرُ من مُطْلَقِ الوجود، كما قالوا ذلك في نحو: زيدٌ في الدار، على [هذا] (¬2) التفصيل. الثامنة: قوله: "جئت آنفًا"، فيه وجهان: ¬

_ (¬1) وانظر: "شرح الرضي على الكافية" (1/ 273)، (3/ 192)، و"مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 120). (¬2) زيادة من "ت".

التاسعة

أحدهما: أن يكون ظرفاً، أي: وقتاً مؤتَنِفاً. والثاني: أن يكون حالاً من الضمير في (جئت)؛ أي: مؤتنفاً. التاسعة: "وحدَه" قال الجوهريُّ - رحمه الله -: الوحدةُ: الانفرادُ، تقول: رأيتُه وحدَهُ، وهو منصوبٌ عندَ أهلِ الكوفة على الظَّرفِ، وعندَ أهلِ البصرةِ على المَصْدرِ في موضع حال، كأنَّك قلت: أوحدْتُه برؤيتي إيحاداً، أي لم أرَ (¬1) غيَره، ثم وَضَعْتَ (وحده) في هذا الموضع. وقال أبو العباس: يَحْتَمِل أيضاً وجهاً آخر، وهو أن يكونَ الرجلُ في نفسه منفرداً، أو كأنّك قلتَ: رأيتُ رجلاً منفرداً انفراداً، ثمَّ وضعت (وحده) في موضعه. ولا يضافُ إلا في قولهم: فلانٌ نسِيْجُ وَحْدِهِ، وهو مَدْحٌ، وجُحَيْشُ (¬2) وحدِهِ، وعُيَيْرُ (¬3) وَحْدِهِ، وهما ذَمٌّ. كأنَّك قلتَ: نسيجُ إفرادٍ، فلما وضعت (وحده) موضعَ مَصْدَرٍ مجرورٍ جررتَه. وربما قالوا: رُجَيلُ وحدِهِ (¬4). وقال أبو الحسن بن عصفورٍ النحويُّ (¬5): اختلفوا فيه؛ فمنهم مَنْ زعم: أنه انتصبَ انتصابَ الظروفِ، وهو يونس، ويقول: إنَّك إذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "في "، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل: "نحس"، والصواب ما أثبت. (¬3) في الأصل و "ت": "عصير"، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 547 - 548). (¬5) انظر: "شرح الجمل " له (2/ 162).

قلت: زيدٌ وَحْدَهُ، فالمعنى: جاء زيدٌ على حيادة، فكأن الأصلَ: جاء زيد على وَحْدةٍ، ثم حُذف حرفُ الجَرِّ، ونُصِبَ [كما] (¬1) يُعمَلُ بالمفعولِ إذا حُذِفَ منهُ حرفُ الجَرِّ، وحُكِيَ من كلام العرب: جَلَسا على وحدَيْهِمَا. ومنهم من قال: إنَّه مصدرٌ موضوعٌ موضعَ الحالِ، والقائلون بهذا: منهم مَنْ يقول: إنّه مصدرٌ لمْ يُلْفَظ له بالفعل مثل: الأبوَّة، والأخوَّة، والعمومَة، ويَحْتَجُّ الأول بأنْ يقولَ: قد وجدنا مصدرَ (أفْعَلَ)، يأتي على وزن مصدر (فَعَل)، ويأتي مصدر (تَفَعَّل) على وزن مصدر (فَعَّل)، مثال الأول: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]، فنبات مصدر أَنْبَتَ، لكنَّه على تَوَهُّمِ حَذْفِ حرفِ الزيادة، وذلك أن (أَفْعَلَ) لا يأتي مصدرُه إلا إِفْعالاً، فجاء مصدرُ أنبت على نَبَاتٍ على توهُّمِ حذفِ حرفِ الزيادة، ومصدر تَفَعَّل تَفَعُّلاً، نحو تَكَرَّم تكرُّماً، وقال تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، وتبتيلٌ إنَّما هو مصدرُ بَتَّلَ، فجاء على حَذْفِ حرفِ الزيادة، وكذلك (وحده). ومنهم من قال: إنَّه اسمٌ موضوع [موضعَ] (¬2) المصدرِ الموضوعِ موضعَ الفعل؛ أعني: فعلَ الحالِ، وهو الأصح. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت".

وأمَّا مَنْ قال: إنَّه ظرفٌ، فباطلٌ؛ لأنَّ حذفَ [حرف] (¬1) الجر لا يجوز بقياس، ومهما أمْكَنَ أنْ يخرج عن حذف [حرف] (¬2) الجرِّ، فهو أحسن. وأما من قال: إنه مصدرٌ موضوعٌ موضعَ الحالِ على توهُّمِ حذفِ الزيادة، أو مصدرٌ لا فِعْلَ له، فباطلٌ أيضاٌ؛ لأنَّ هذه المصادرَ الموضوعةَ موضعَ الأحوال تَتصرَّفُ، وهذا لا يتصرّفُ، فدلَّ على بُطلانِ مذهبِهم. فلم يبق إلا ما ذهبَ إليه سيبويهِ؛ مِنْ أنَّه اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدرِ الموضوعِ موضعَ الحال، فـ (وحده) عندَ سيبويهِ موضعَ (¬3) (اتحاد) الموضوع موضع (موحد)، وإذا قلتَ: ضربتُ زيداً وَحْدَه، ففيه خلاف: ومذهب سيبويه: أنَّه حالٌ من الفاعلِ، كأنه [إذا] (¬4) قال: ضربْتُ زيداً وحده، قال: مُفْرِدًا له بالضَّرب (¬5). والمبرِّدُ يقول: إنهُ يجوز أن يكون حالاً من المفعول، فإذا قلتَ: ضربتُ زيداً وَحْدَه، فمعناه: ضربت زيداً في حالِ أنه مُفْرَدٌ بالضَّربِ (¬6). ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل: "موضوع"، والمثبت من "ت". (¬4) زيادة من "ت". (¬5) انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 374). (¬6) انظر: "المقتضب" للمبرد (3/ 239).

العاشرة

ومذهبُ سيبويه أحسنُ؛ لأنَّ وضعَ المصادرِ موضعَ اسمِ الفاعل أكثرُ وأَطْرَدُ من وضعِها موضعَ المفعولِ، ولا يجوزُ في (وحده) الرفعُ، ولا الخفضُ، إلا ألفاظاً شاذَّة، لا يُقاس عليها، وهو عُيَيْرُ (¬1) وحدِهِ، وجُحَيْشُ وحدِهِ. العاشرة: النحويون يقولون في (لا إلهَ إلا الله)، وأمثاله: إنَّ خبرَ (لا) محذوفٌ، ويقدرونه بـ: لا إله لنا موجودٌ، أو ما أشبه [ذلك] (¬2)، ونازَعهم في ذلك بعضُ أكابرِ المتكلِّمين، بناءً على أنَّ النفيَ للماهيَّة منْ غيرِ قيدٍ أعمُّ من نفيهِا بقيدٍ، والتقديراتُ المذكورةُ مقيَّدَةٌ، فكان الأولُ أولى. الحادية عشرة (¬3): قوله: "لا شريكَ له" فيه وجهان: أحدهما: أن يكون (له) خبر يتعلَّقُ بما تتعلق به المجروراتُ إذا كانت أخباراً (¬4). والثاني: أن تكونَ (له) صفةً، فتتعلقُ بمحذوف أيضاً، ويكون في محله وجهان، ولا يتعلق بـ "شريك"؛ لأنَّه حينئذٍ يطولُ، فلا يُبنى، ويلزم تنوينُه، وذكر الزمخشريُّ في قوله: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "عوير"، والصواب ما أثبت. (¬2) زيادة من "ت". (¬3) جاء في الأصل في هذه المسألة وبعدها "عشر" بدل "عشرة". (¬4) في الأصل: "آحاداً"، والمثبت من "ت".

الثانية عشرة

الْيَوْمَ} [يوسف: 92] (¬1). الثانية عشرة: ذكرَ بعضُ المشهورين بعلمِ النَّظرِ في عَصْرِنا، في كلامه على (لا إله إلا الله) فيما وَجَدْتُه عنه: اتفقَتِ النُّحاةُ على أن محلَّ (إلا) في هذه الكلمةِ محلُّ (غيرِ)، والتقدير: لا إله غيرُ الله (¬2)، كقول الشاعر [من الوافر]: وكُلُّ أخٍ يفارِقُهُ أخُوهُ ... لعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ (¬3) أي: غير الفرقدين. قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]؛ قال: والذي يدل على الصحة: أنا لو حملنا (إلا) على الاستثناء، لم يكن قولنا: (لا إله إلا الله) توحيداً مَحْضًا، فإن تقديرَ الكلامِ: لا إله مستثنى عنهم اللهُ، ولا يكون نَفْيًا لآلهةٍ لا يُستثنى عنهم اللهُ، بل عند من يقول بدليل الخطاب يكون إثباتاً لذلك، وهو كُفْرٌ، ولَمَّا أجمعتِ العقلاءُ على ¬

_ (¬1) جاء على هامش "ت": "بياض" ولم يشر إليه في الأصل "م". قلت: قال الزمخشري في "الكشاف" (2/ 473): فإن قلت: بم تعلق اليوم؟ قلت: بالتثريب، أو بالمقدر عليكم من معنى الاستقرار، أو بـ: يغفر، والمعنى: لا أثر بكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام، انتهى. قلت: لعل المؤلف رحمه الله أراد من كلام الزمخشري على الآية ما ذكرته، والله أعلم. (¬2) في الأصل: "غيره"، والمثبت من "ت". (¬3) البيت لعمرو بن معدي كرب، كما نسبه إليه سيبويه في "الكتاب" (2/ 334)، وابن جرير في "تفسيره" (5/ 161)، والمبرد في "الكامل" (3/ 1444)، وغيرهم.

الثالثة عشرة

أنَّه يفيدُ التوحيدَ المَحْضَ، وجبَ حَمْلُ (إلا) على معنى (غير). هذا معنى ما وجدْتُه (¬1) عنه، فأمَّا حملُها على ذلك في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، على أنّ (إلا) بمعنى (غير)، فهذا مشهور عند النُّحاة، وقد (¬2). الثالثة عشرة: قولُه: "يدخُلُ مِنْ أيِّها شاء" حالٌ منه، أي: ضميرُ القائل، ويحتمل أن يكونَ حالاً مقدَّرة؛ لأنَّ التفتيح لا يكونُ في حال الدخولِ، والله أعلم. * الوجه السادس: في شيءٍ يتعلق بالألفاظ غيرِ ما تقدَّم، وفيه مسائل: الأولى: قولُه - عليه الصلاة والسلام -: "مُقْبِلاً عليها بقلبِهِ ووجهِهِ" فيه أنواعٌ من المجازِ: أحدها: استعمالُ الوجْهِ. والثاني: استعمال القلبِ. والثالث: ما يدل عليه العطفُ من المغايَرَةِ ظاهراً. والرابع: استعمال لفظِ (الإقبال). والخامس: استعمالُ لفظَةِ (¬3) (على). ¬

_ (¬1) في الأصل: "وجد"، والمثبت من "ت". (¬2) جاء في هامش "ت" والأصل: "بياض". (¬3) "ت": "لفظ".

الثانية

والكلُّ يرجع إلى معنًى واحدٍ؛ وهو الإخلاصُ، ونفيُ الاشتغالِ، وصرفُ الخواطرِ إلى غيرِ ما هو من الرَّكعتين، وحصرُها فيما هو فيه منهما، فالإقبالُ مُعَبَّرٌ به عَنْ هذا الحصرِ؛ لأنَّه إدبارٌ عن الخواطِرِ المُشْغِلَةِ، وصرفٌ إلى المقصودِ، والصَّرفُ إليه هو الإقبالُ، والوجه: القَصْدُ، والقَلْبُ: الدَّواعي، والعوازمُ، والخواطرُ، التي يشتمل عليها هو، وهو أقربُ المجازات إلى الحقيقةِ، تسميةً للشيء باسم محلِّه. وإذا كانت الحقيقة ما قلناه، فلا تعدُّدَ، واستعمالُ ما يقتضي التعدد يكون على خلاف الحقيقةِ في مثل هذا المكان، وكذلك إذا قلنا: أقبل زيدٌ على عمرو، فله حقيقة يُجوَّزُ بها عن توجُّهِ الخواطر، وجَمْعِ الهمِّ على الشيء فيه، تشبيهاً بإقبال الشَّخْصِ على الشخص، وتوجُّهِه إليه. الثانية: قوله: "قال: إنَّي قد رأيتُك جئتَ آنفاً" تحتاجُ إلى بيانِ مناسبته للحال والواقعة، ويمكن أن يقال فيه: إنَّه لما كان السابقُ أجودَ ما يُخبِرُ به عمرُ - رضي الله عنه - على ما ذَكَر، احتمل أن يكون قولُ عُقبةَ: "ما أجود هذه؟ " سببـ[ـه] (¬1) الغفلة عمَّا سبقَ مِنَ الأجودِ معَ حضورهِ له. واحتمل أن يكونَ سبُبه عدمَ حضورِه، فيكونُ الإخبارُ من عمرَ - رضي الله عنه - بما هو الأجودُ محتَمِلاً لأنْ يُنْسَب عقبة إلى الغفلةِ مع الحضورِ، وأنْ تُنْفَى عنه الغفلةُ ببيان أنَّه لم يكن حاضراً. ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

الثالثة

والثاني في حُسْن المخاطبة أولى؛ لأنَّ فيه نفيَ اعتقادِ أنَّ عدمَ العلم لأجل الغفلة، وإذا دارتِ المخاطبةُ بين احتمالِ ما ليس بحَسَنٍ، واحتمال ما هو حَسَنٌ، فتجريدُه لبيان الحَسَنِ، ودفع الاحتمال أولى. الثالثة: الظاهرُ أنَّ المرادَ بأبواب الجنةِ الحقيقةُ، ويترجَّح الثاني بأنه أقرب من حيث الزمانُ؛ لأنَّ أسبابَ دخولِ الجنة بالطاعاتِ موجودٌ في الحال، وفَتْحَ أبوابِ الجنة الحقيقيةِ في الآخرة. * الوجه السابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: الظاهرُ من قوله: "علينا رعايةُ الإبلِ"، أنَّها رعايةُ إبِلِ الصَّدَقَةِ، أو (¬1) المصالحِ المتعلقةِ برعايةِ المسلمين، وليستْ إبلَهُم المملوكةَ لهم؛ لأنَّ (على) لا تستعمل في مثلِ رعايةِ مِلْكِ الإنسانِ عُرْفاً، ولأنَّ المناوبةَ التي دلَّ عليها الحديثُ [لا تليقُ بمِلْكِ الإنسان، ولا يلزم غيرُهُ إلا لمعارِض خاص] (¬2) لا دليلَ على وجوده في لفظِ الحديث. الثانية: فيؤخَذُ منه: أنَّ تعيينَ بعض المسلمين لبعضِ المصالح المتعلقةِ بهم؛ لأنَّ ذلك الإمام (¬3)، وأما كونُه بعِوَضٍ، أو بغير عوض، فليس في اللفظ ما يدل عليه، والأصلُ عدمُه، وهو أقوى مناسبةً ¬

_ (¬1) "ت": "و". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) جاء فوقها في "ت": "كذا". قلت: لعل المعنى: أن تعيين بعض المسلمين لبعض المصالح المتعلقة بهم تكون بإذن الإمام، ولا تكون بأيديهم.

الثالثة

لـ (علينا) عرفاً ممَّا إذا كان بعِوَض. الثالثة: اختلفَ الفقهاءُ فيما إذا عَيَّن الإمام رجلاً لفَرْض الكفايةِ، هل يتعيَّن؟ وقد تكون لفظةُ (على) أقربَ إلى التعين (¬1)، ممَّا إذا لم يتعيَّن، وقد لا تدلُّ؛ بناءً على بحثٍ لهم في الأصول في فرض الكفاية ومدلوله (¬2). الرابعة: وفيه تعديلُ الإمام بين النَّاس في هذه الأفعال، التي تعيَّن فيها مباشرتُها بجعلها مناوبةً بينهم، دَفْعاً للعُسْرِ الناشئ من ملازمةِ الشخصِ الواحدِ للفعلِ دائماً. الخامسة: فيه طلبيَّةُ القيامِ للخُطَبِ والمواعِظِ، وما يُقْصَدُ إبلاغُه من الحديث للسامعين؛ لأنه أبلغُ في تحصيل المقصود، وقد اختلَف ¬

_ (¬1) في الأصل: "تعيين"، والمثبت من "ت". (¬2) اختلف الأصوليون في أن الواجب على الكفاية، هل هو واجب على جميع المكلفين، ويسقط الوجوب عنهم بفعل بعضهم، أم على بعضٍ غير معين؟ فذهب طائفة إلى الأول، والأخرى إلى الآخر، واختار ابن الحاجب المذهب الأول. انظر: "مختصر ابن الحاجب مع شرحه للأصفهاني" (1/ 343). قلت: وقد مرَّ أثناء الشرح كلام دقيق للمؤلف رحمه الله في مدلول فرض الكفاية، ووضع في ذلك قانوناً فقال (2/ 45): "القانون في معرفة فرض الكفاية: أن ما كان المقصود منه تحصيل المصلحة منه، أو دفع المفسدة، ولم يتعلق المقصود بأعيان الفاعلين وامتحانهم، فهو فرض كفاية".

السادسة

الفقهاءُ في ركنيَّةِ القيامِ (¬1) في خطبة الجمعة، ولا يتعدَّى أن يكونَ حكمُه مرتباً على حكمِ القول، فحيثُ لا يجب لا يجب، وحيث يجب أمكن أن يجبَ تحقيقاً عن عُهدة الواجب، وأمكنَ أن لا يجب اكتفاءً بظاهر الحال [وعدمِ تحققِ] (¬2) المانع من الإجزاء، وعلى كل حال: فالقدر المشترك من الطلبية حاصلٌ. السادسة: قوله: "يُحَدِّثُ الناسَ"، ولم يقل: يَخْطُبُ النَّاس، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون عَبَّر بتحديث (¬3) الناس عن الخطبة عن طريق إطلاق اللفظ العامِّ على الخاصِّ. والثاني: أن يكونَ غيرَ معبَّرٍ به عن الخطبةِ؛ لأنَّ الخطبة لها أمورٌ مخصوصة، وقد شرط الفقهاء فيها أقوالاً مخصوصةً، ومعانيَ مخصوصة، وزعم بعضُهم: أنها لا تُسَمَّى خطبةً إلا بتلك الأقوال وتلك المعاني، أو لا تكونُ خطبةً شرعيةً إلا بها. ولما كان عقبة قد جاء بعد مُضِيِّ صدرٍ من الكلام، أمكن أن يكونَ ما مضى وفاتَهَ، لم تقعْ فيه تلكَ الألفاظُ والمعاني المعتبرة في تسميتها خطبة، أو في كويها خطبةً شرعية، فكان إخبارُه [بأنه] (¬4) - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في الأصل: "الإمام"، والتصويب من "ت". (¬2) زيادة من "ت". (¬3) في الأصل و "ت": "عن تحديث"، والتصويب من هامش "ت". (¬4) سقط من "ت".

السابعة

يحدث الناس، أحوطَ من إخبارِهِ بكونِهِ - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس. السابعة: قَدْ يُؤْخَذ منه طلبيَّةُ الشَّفْعِ في النَّفل المطلقِ، وقد لا؛ لأنه ثوابٌ مخصوصٌ، ولا يترتب على ما دونه، لكنَّ الأول أقربُ؛ لكثرةِ تعليقِ الأحكامِ على الركعتين في ألفاظِ الشارعِ، مع اختلافِ المُرَتَّب عليها. الثامنة: قد بيَّنا معنى الإقبال على الركعتين، وتعلَّقه بالإخلاص والخشوع، أو كونَه هو، ففي الحديثِ دليلٌ على طلبية مثلِ ذلك في الصلاة، وقد عَضَدَه غيرُ ذلك من الحديث، وإنما يُكتبُ له ما عقلَ منها. التاسعة: لفظ الإسلامِ والإيمانِ، والمسلمِ والمؤمنِ، قد يطلقان من غير اعتبار ما يخُصُّ أحدَهما، إذا كانا معاً موجودَيْن، فيمن أُطلق عليه مؤمن أو مسلم، وهذا كثيرٌ في الألفاظ الشرعيَّة، وقد يُطلق ويراد به الخصوص والقيد المعيَّن، وهذا الموضع مما أُطْلِق من غير اعتراضِ الخصوص، هذا هو الظاهرُ، ويحتمل أن يُعْتَبَرَ الخصوصُ في الإسلام؛ أعني: الدرجَة [السفلى] (¬1) التي لا ينافيها الإيمانُ، ويكون ذلك تسهيلاً لحضور (¬2) المتيسر به، حيث لم يَعْلَقِ الحكمُ بالدرجةِ العُليا. العاشرة: الإحسان في الوضوء من جملة الشرائط المعتبرة في ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) كذا في الأصل و "ت"، وقد جاء في هامش "ت": "لعله: لحصول".

الحادية عشرة

حصولِ الوعود، والإحسانُ هو الإتيانُ به على الوجه المطلوب شرعاً، من غير غلُوٍّ ولا تقصير. الحادية عشرة: وجوبُ الجنة من حيثُ اللفظُ، لا يدل على عدمِ دخولِ النار، وقد وردَ ذلك في مواضع رُتِّب فيها وجوبُ الجنة، أو دخولُها، على عملٍ مخصوصٍ غيرِ الإيمان، أو معَ الإيمان، فالإيمانُ علَّةٌ مستقلةٌ في وجوب الجنَّة بهذا التفسير، إذا لم [يُشْتَرط] (¬1) فيه عدم دخول النار، والعلة المستقلة لا تأثيرَ لغيرها في العليَّةِ، لا كلاًّ، ولا جزءاً؛ لأن كلًّا منها ينافي الاستقلال، فتوجه إشكال من هذا الوجه، إذا جرينا على مقتضى اللفظِ، من أنه لا يلزم من وجوبِ الجنة عدم دخول النار، فما كان من ذلك لم يُشترطْ مع الإيمان فيه عملٌ آخر. ولنا (¬2): أن نجيبَ فيه بإجراء اللفظ على ظاهرِهِ من غير زيادة، وتكون الفائدة فيه: إبطالَ مذهب القائلين بوعيد الأبد، وهي فائدة جليلة. الثانية عشرة: وأما ما اشتُرط فيه زيادةٌ على الإسلام، أو إفراد ذلك بالعمل المخصوص، فيمكن أن يُقال فيه: إن المعنى مع دخول الجنة عدم دخول النار، ولا امتناع في ذلك، ولله أنْ يتفضلَ بما شاء على أيِّ الأعمالِ شاء. ويمكن أن يقالَ: تكونُ الفائدةُ في هذا وجوبَ الجنَّةِ، ولم يلزمْ ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) في الأصل: "قلنا"، والمثبت من "ت".

الثالثة عشرة

عدمَ دخولِ النار، فتحصلُ الفائدةُ بلا إشكال. الثالثة عشرة: الذي قاله عمر - رضي الله عنه -: من أنَّ ما حكاه أجودُ ممَّا سمعه عقبة، لعلَّ سببَه - والله أعلم -: أنَّه أقلُّ شروطاً في استحقاق الثواب المخصوص. فإن الأول: يقتضي إحسانَ الوضوء، وصلاةَ ركعتين مع الإقبالِ بالقلبِ والوجهِ، وفي ذلك عُسْرٌ على ما يَشْهَدُ به الحال في [أكثر] (¬1) الخَلْقِ، من تزاحم الوساوِسِ والخواطِرِ، وتزاحمِهما (¬2) كثيراً في حقِّ بعضهم. وأما الثاني: فليس فيه إلا إسباغُ الوضوءِ، أو إبلاغُه، والقولُ المخصوصُ، وذلك يسيرٌ بالنسبة إلى الأوَّلِ، ويحتمل أن يُضاف إلى ذلك ما دلَّ عليه: "فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة" من زيادة [الثواب] (¬3) المرغِّب في العمل، فينضافُ زيادةُ الثواب إلى يُسْرِ (¬4) العمل على هذا الوجه، فيكون أحسنَ. ووجه الزيادة في قوله: "فُتِحَتْ له أبوابُ الجنةِ الثمانيةُ": ما دل (¬5) عليه هذا الفعل من تعظيمِ الفاعلِ وتكريمِه بتخييرِه بالدخولِ من أيِّ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت". (¬2) في "ت": "تزاحمها". (¬3) زيادة من "ت". (¬4) "ت": "يسير". (¬5) "ت": "يدل".

الرابعة عشرة

الأبواب شاء، فهذه مزيَّةٌ عظيمةٌ ترغِّبُ في العمل. الرابعة عشرة: تفتيحُ أبوابِ الجنةِ للدخولِ، وإنْ دلَّ على الدخولِ، [لكنَّ دلالةَ لفظِ الوجوبِ أقوى في الدلالة، واللفظُ الآخرُ دالٌّ على التعظيمِ والتكريمِ مع الدخول] (¬1)، والأولُ دالٌّ على الوجوب من غير دلالةٍ على هذه الزيادةِ، ففي كلِّ واحدٍ منهما دلالةٌ راجحةٌ ومرجوحةٌ، والله أعلم. الخامسة عشرة: قوله - عليه السلام -: "أبوابُ الجنةِ الثمانيةُ" يدل على حصر هذا العدد للأبواب، وحصر الأبواب فيه. السادسة عشرة: اشتُهِرَ بين المتفقِّهةِ والطلبةِ سؤالٌ على هذا الحديث: وهي المعارضةُ بينَه، وبين كونِ البابِ الريَّانِ لا يدخله إلا الصائمون. وأجيبَ عنه: بأنَّ شرطَ التعارضِ اتحادُ الموضوع، وأحد الحديثين يدلُّ على أنَّ الدخولَ من بابِ الريّان مخصوصٌ بالصائمين، والآخر يدلُّ على تخييرِنا على هذا الفعل في الدخول من أيِّها شاء، فلا اتَّحاد في الموضوع، إذِ التخييرُ في الدخول غيرُ الحكم بالدخول. فإن قيل: فما الفائدة في التخيير في دخوله من أيِّها شاء، مع كونِه لايدخل من بعضها؟ قلنا: الفائدةُ إظهارُ التعظيمِ والشرفِ الناشئِ عن هذا التخيير، وقد لا يكون هذا المعارِضُ - أعني: عدمَ دخولِ غيرِ الصائمين البابَ ¬

_ (¬1) زيادة من "ت".

السابعة عشرة

الريَّانَ - معلوماً عند هذا المدعوِّ، ولا عندَ السامعين حينئذٍ، فتبقى الفائدةُ كاملةً، وهذا في المثال، كما رُوِيَ عن بعض المتقدمين أنه قال: أُخِذ الميثاقُ على جميع الأنبياءِ أن يؤمنوا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا ظهر (¬1). مع العلم بأنَّه لا يظهرُ في زمنِ أحدٍ منهم، وإنما ذلك لإظهارِ الشرفِ، وعدمِ العلمِ بعدمِ ظهوره في زمنِ الأنبياءِ السابقين لهم - صلواتُ اللهِ وسلامُه على جميعِهم - السابقين لهم إن كانَ العلمُ غيرَ حاصلٍ لهم - صلوات الله عليهم -، وإن كان حاصلاً، فهو أقوى لما قلناه، وأسَدُّ لما ذكرناه. السابعة عشرة: ظاهرُ الحديث يدل على ترتيبِ الثوابِ المذكور على مجرَّدِ القول، وما ذُكِرَ معه، فأمَّا الحديث الذي ليس فيه ذكر الإسلام، فلا بد من أشتراطه وإضافته إليه، بالدلائل القاطعة، وبالرواية الأخرى التي فيها ذِكْرُه. الثامنة عشرة: وأما الحديثُ الذي فيه ذكر المسلمِ، فظاهرُه يقتضي ترتيبَ الثوابِ على وصفِ الإسلام الذي [به] (¬2) تحصُلُ العِصْمة. والمتوغِّلون من المتصوِّفة ربما يذهبون إلى أنَّه لا يتحقق التوحيد على الوجه، حتى لا تبقى على القلبِ غلبةُ سلطانٍ لغير الله تعالى، فهذا تحقيقُ التوحيد، وأما معَ غلبةِ شيءٍ على القلب فلا يحصُل ¬

_ (¬1) وانظر: "تفسير ابن كثير" (4/ 526). (¬2) زيادة من "ت".

التاسعة عشرة

التحقُّق بمقتضى مدلولِ اللفظ. ولقد بلغنا عن بعضِ أكابرِ الصالحين، ومَنْ هو في الدرجة العاليةِ منهم: أنَّ صاحباً له قال: (لا إلهَ إلا الله) حقاً، فقال الشيخُ: ولا أمَّ محمدٍ، يعني: زوجَتَه، وكان يميل إليها. وهذا بناء على المعنى الذي ذكرناه، وقد يقوى بما جاءَ أنَّ الهوى إلهٌ معدود، واستشهد بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]. التاسعة عشرة (¬1): [قد] (¬2) قدَّمنا: أنَّ الحديثَ يقتضي ترتُّبَ الثواب على مجرَّد هذا الشرط، وقد ورد في بعض الروايات: زيادةُ أمرٍ آخر؛ وهو رَفْعُ الطرفِ إلى السَّماء، رواها أبو بكر البزَّار من حديثِ أبي سَلَمَة، عن ثَوْبان قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضَّأ، فأحسنَ الوضوءَ، ثم رَفَعَ طَرْفَه إلى السَّماءِ، فقال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة، يَدْخُلُ مِنْ أيِّها شاء" ذكره في الطَّهارة من "السنن" وقال: وهذا الحديث لا نعلمُه يُروى عن ثَوْبانَ، إلا من هذا الوجه (¬3). العشرون: يظهرُ في فائدةِ رفعِ الطَّرْفِ إلى السَّماءِ التوجُّهُ إلى ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "الثامنة عشرة"، وهو خطأ، وإنما هذه المسألة التاسعة عشرة، وعليه فقد زادت الفوائد على النسختين فائدة، لتصبح سبعة وعشرين فائدة. (¬2) سقط من "ت". (¬3) ذكره المؤلف رحمه الله في "الإمام" (2/ 66)، ولم أقف عليه من رواية ثوبان، والله أعلم.

الحادية والعشرون

قبلةِ الدعاءِ، ومهابطِ الوحيِ، ومصادرِ تصرُّفِ الملائكة عليهم الصلاة والسلام (¬1). الحادية والعشرون: هاهنا زيادةٌ أخرى عند أبي الشَّيخ من رواية محمدِ بن جابر، عن الأعمشِ، عن أبي وائلٍ، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فَرَغَ أحدُكُم من طُهُوْرِهِ، فليقُلْ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، ثم ليُصَلِّ عليَّ، فإذا قالَ ذلك: فُتِحت له أبواب الرحمة" أخرجه أبو موسى الأصبهاني مِنْ جِهَةِ أبي الشيخ، وقال: هذا حديث مشهورٌ، له طرق عن عمرَ بن الخطاب، وعقبةَ بن عامر، وثوبان، وأنسٍ - رضي الله عنهم -، ليس في شيء منها ذكرُ الصلاةِ، إلا في هذه الرواية. قلت: محمد بن جابر اليَمامي روى عنه جمعٌ من الأكابرِ، وقد تُكلِّم فيه، وكأنَّ أبا موسى أرادَ بقوله من هذه الرواية: رواية الأعمشِ، عن شقيقٍ، عن عبد الله، لا روايةِ محمد بن جابر، عن الأعمشِ، فإنَّ هذه الزيادةَ قد رُوِيتْ من غيرِ حديثِ محمدِ بن جابرٍ، ومن رواية يحيى ابن هاشم (¬2) السِّمْسَار (¬3)، وقال فيه النَّسائي: متروك الحديث، ومن ¬

_ (¬1) نقل هذه الفائدة عن المؤلف: الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 102). (¬2) في الأصل: "هشام"، والمبثت من "ت". (¬3) رواه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (1/ 239)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 44) وقال: وهذا ضعيف، لا أعلمه رواه عن الأعمش غير يحيى بن هاشم، ويحيى بن هاشم متروك الحديث.

الثانية والعشرون

[رواية] (¬1) عمرو بن شمر، عن الأعمش أيضاً، وعمروُ هذا متروكٌ عندهم (¬2)، والله أعلم. الثانية والعشرون: المشهورُ عند الأصوليين والفقهاءِ: أنَّ الاستثناءَ من النفيِ إثباتٌ، والدليلُ عليه: الاتّفاقُ والإجماعُ على الاكتفاء بهذه الكلمة في إثباتِ التوحيد، قال - عليه الصلاة والسلام -: "أُمِرْتُ أنْ أقاتِلَ النَّاسَ، حتَّى يقولوا: لا إلهَ إلا اللهُ، فإذا قالُوها، عَصَمُوا منِّي دماءَهم وأموالَهم، إلا بحقِّها" (¬3)، والعلمُ ضروريٌّ حاصلٌ بالاكتفاء بهذه الكلمةِ في التوحيدِ، من غير حاجةٍ إلى زيادةٍ، ولا سؤالٍ عن أمرٍ آخرَ، ومن هذا القبيلِ: هذا الحديث الذي رتب فيه الثواب الأخروي على الكلمة دون التوقُّف على زيادة أخرى (¬4). وخالفَ بعضُ الناسِ في هذا، أعني: في أنَّ الاستثناءَ من النفي إثباتٌ، وشغَّب في تقريره بعض المتكلمين من وجهين: الأول: أنَّ الاستثناءَ مأخوذٌ من قولِكَ: ثَنَيْتُ الشيءَ عن جهتِهِ، ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) انظر: "الإمام" للمؤلف (2/ 96). (¬3) رواه البخاري (25)، كتاب: الإيمان، باب: {تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، ومسلم (22)، كتاب: الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬4) انظر: "المحصول" للرازي (3/ 56)، و "الإحكام" للآمدي (2/ 331)، و"البحر المحيط" للزركشي (4/ 403).

أي: صرفْتَه عنها، فإذا قلتَ: لا عالمَ إلا زيدٌ، فهاهنا أمرانِ: أحدُهما هذا الحكمُ، والثاني نفسُ هذا العَدَمِ، فقولُك إلا زيدٌ: يَحْتَمِلُ أن يكونَ عائداً إلى الأول، وحينئذ لا يلزمُ تحقُّقُ الثبوتِ؛ إذ (¬1) الاستثناءُ إنَّما يُزيلُ الحكمَ بالعَدَمِ، فبقي المستثنى مَسْكوتًا عنه، غيرَ محكومٍ عليه لا بالنّفيِ، ولا بالإثباتِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ عائداً إلى الثاني، فحينئذٍ يلزم تحقُّق الثبوتِ؛ لأنَّ عندَ ارتفاعِ العدمِ يحصلُ الوجودُ لا محالةَ، لكنَّ عودَ الاستثناءِ إلى الأولِ أولى، إذِ الألفاظُ وضعتْ دالة على الأحكام الذهنيَّةِ، لا على الأعيانِ الخارجيَّةِ، فإنَّك إذا قلتَ: العالمُ قديمٌ، فإنه لا يدلُّ على كونه قديماً في نفسه، ولأنَّ عدَمَ الشيءِ في نفسه، ووجودَه في نفسِهِ، لا يقيّد تصرفَ الغيرِ، فثبتَ أنَّ عود الاستثناء إلى الأول أولى. الثاني: ما جاء من وَضْعِ هذا الاستثناء من غير أن يكونَ الإثبات: "لا نكاح إلا بولي" (¬2)، "لا صلاةَ إلا بطهورٍ" (¬3)، لا مُلْكَ إلا بالرجالِ، لا رجالَ إلا بالمالِ، والمرادُ في الكلِّ: مجرَّدُ الاشتراطِ. وتمَّم هذا التشغيب: بأنَّ الصورَ التي دلَّتْ فيها على الإثبات، يجوزُ أن يكون مستفاداً من اللفظِ، بل بدليل منفصلٍ. وفي كلامِ بعض المتكلمين ما يقتضي تقويةَ هذا المذهبِ، فإنَّه ¬

_ (¬1) في الأصل: "إذا"، والمثبت من "ت". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

التجأَ إلى أن يجيبَ بأنَّ هذه (¬1) الكلمة، وإن كانت لا تفيد الإثباتَ بالوضعِ اللغويِّ، لكنَّها تفيدُ بالوضعِ الشرعيِّ. وبوجه آخرَ حاصلُه: أنَّ المقصودَ من هذا الكلام نفيُ الشريكِ، وأما إثباتُ الإلهيةِ لله تعالى فمتَّفَق عليه على ما عُرِفَ، كأنَّه يشير إلى قوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، ولِمَا جُبِلَتِ الفِطَرُ عليه. وهذا عندي كلُّه تشغيب، ومراوغات جدليَّةٌ، والشرعُ خاطَبَ الناس بهذه الكلمةِ، وأمرَهم بها؛ لإثباتِ مقصودِ التوحيدِ، وحَصَلَ الفهمُ لذلك منهم، والقبولُ له، منهم - صلى الله عليه وسلم -، من غير زيادةٍ ولا احتياجٍ إلى أمر آخر، ولو كان وضعُ اللفظِ لا يقتضي التوحيدَ، لكان أهمَّ المهمات تعليمُ اللفظِ الذي يقتضيه؛ لأنَّه المقصودُ الأعظم. والاكتفاءُ الذي ذكرناه عندنا في محلِّ القطع بالظَّنِّ، لكنْ هل هو لمدلول اللفظ، أو لقرائن (¬2) احتفَّت به لا تبلغ إلى القطع؟ (¬3) نعم، ادعاءُ الاحتياج إلى أمر آَخرَ في تحصيل مقصودِ التوحيدِ لا يصِحّ، وأما المُثُلُ الذي ذكروها، فيُقابَلون فيها بالمثل، فإذا قالوا: هذه المواضع لا تُدلُّ فيها على الإثباتِ، والمواضع التي تدل عليه، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بهذه"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "القرائن". (¬3) من أول المسألة إلى هنا: نقله الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 404) باختصار.

الثالثة والعشرون

يمكن أن تكون لدليلٍ (¬1) منفصلٍ عن دلالة الوضع. قيل له: المواضع التي ذكرتموها دالةٌ بالوضع على الإثبات، وعدم دلالتها في بعض الصور على الإثبات؛ لقيامِ معارضٍ من خارج، وهو اشتراطُ أمرٍ زائدٍ على الأول، فيجبُ ضمُّه إليه، والكلمة (¬2) حيث يكون المقصود الكلي حاصلاً. والذي يدلُّ على ذلك الأمور الشرعية، أنهّ لو جمعنا جميعَ الألفاظ التي تدلُّ على الاشتراط، ووُجِدَتْ كلُّها اقتضى ذلك ثبوتَ المستثنى، فدلَّ على أنَّ عدمَ الثبوتِ في بعضِ الصورِ؛ لأجل قيامِ دليلٍ على أمرٍ آخر، لا لعدمِ الدلالة على الإثباتِ. كذلك نقول في الأمور العُرْفيَّةِ: قد يكون العرفُ والوجود شاهداً على اشتراط أمرٍ آخر، فإنْ فرضَ الخصمُ عدمَ دليلِ الاشتراط في بعض الصور، أو (¬3) ادعى انتفاءه، منعنا الحكمَ فيه. الثالثة والعشرون: قال بعض المتكلمين على هذه الكلمةِ الشريفة، فيما وجدْتُه عنه: في الناس من قال: تصوُّر الإثبات مقدَّمٌ على تصور النفي، بدليل أنَّ الواحدَ منَّا يمكنه أنْ يتصوَّر الإثبات، وإن لم يخطُر ببالِهِ معنى العدم، وَيمْتنع أن يُتَصوَّر العدمُ، ولا يخطُر ببالِهِ معنى الإثبات، وإذا كان كذلك، فما السببُ في تقديمِ النفيِ على الإثبات؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الدليل"، والمثبت من "ت". (¬2) "ت": "الكلام". (¬3) "ت": "و".

الرابعة والعشرون

قال: فيقول أولاً: نفي الربوبيَّة عن الغيرِ، ثم إثباتُها له آكَدُ في الإثبات، فالنَّفيُ إخراجٌ لكلِّ ما سواه عن القلب، حتى يصيرَ خالياً، فيحضر فيه سلطانُ الله، أشرقَ نورُه إشراقاً تاماً، وكَمُل لمَعَانُه كمالاً ظاهراً. وقال أيضاً: إنَّ النفيَ الحاصل بـ (لا) يجري مجرى الطَّهارة، والإثبات بـ (إلا) يجري مجرى الصلاة، قال: وقد قال قوم من أهلِ التحقيق: النّصفُ الأول من هذه الكلمة تنظيفُ الأسرارِ، والثاني جِلاء الأنوار، والأول انفصالٌ عما سوى الحقِّ، والثاني اتصالٌ بالحق، والأول فَناء، والثاني بَقاء، أو كما قال في جميع ما ذكرنا. وهذا كلامُه، بعضُه يرجع إلى شيءٍ من علم النظر، ويَحتاج إلى تحقيقٍ واستفسارٍ، وبعضُه يرجع إلى إطلاقات الصوفية ومعانيهم، وبعضُه فيه ضعف. الرابعة والعشرون: ذكر بعضُ المتكلمين على هذه الكلمة سؤالاً، فقال: لقائلٍ أن يقول: من عرفَ أن للعالم صانعاً قادِرًا عالماً موصوفًا بجميع الصفاتِ المعتبَرة في الإلهيَّة، فقد عرفَ اللهَ تعالى معرفةً تامةً، بعدمِ الإلهِ الثاني لا يزيدُه كمالاً في صفاته، فلِمَ لا يكون العلمُ بالإله كافياً في حصول السعادة؟ وأجاب: بأنَّ تقديرَ الإله الثاني، لا يَعلمُ العبدُ بأنه عبدٌ لهذا أو لذاك، أو لهما جميعاً، فلا يظهرُ الافتقار إلا إلى المعيَّن، وفيه مِنَ الفساد ما فيه، أو كما قال.

الخامسة والعشرون

والمقدمة التي قال فيها: إنَّ علمَه بعدم الإلهِ الثاني، لا يزيد كمالاً في صفاته؛ ممنوعةٌ، وكتابُ الله تعالى يدلُّ على خلاف ذلك: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] وهذا يناقضُ ما ادعاه من المقدمةِ؛ لملازمةِ علُوِّ البعض على البعض، لنقصِ المعلُوِّ عليه، ولترتُّب فسادِ العالمِ المنافي للكمال المطلقِ بالنسبة إلى القيُّومِيَّة. الخامسة والعشرون: الحديثُ يقتضي ترتُّب (¬1) الثوابِ على القول، والنَّاس تكلموا في اشتراط القولِ بالإيمان، والمراتِبُ ثلاثة: أحدها: مرتبة من تَمَّم النظر والاستدلال في معرفة الله تعالى، ولم يتمكَّن من القولِ لضيق القولِ مثلاً، فلا شكَّ أنه يكون ناجياً. والثانية: أن تحصل المعرفة مع إمكان النطقِ، وَيترُك النطقَ إباءً واستكباراً، فلا شكَّ في عدم النجاة، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} [يونس: 91] وكفرُ إبليس من هذا القبيل، وكذلك كلُّ معاندٍ عرف الحق، ولم ينقَدْ له عتُوًّا وكِبْراً. الثالثة: من عرف وتمكَّن، ولم ينطق، لا على سبيل العناد، فقد اختلفوا: هل يكون مؤمناً، أم لا؟ فالذين قالوا: بأنَّه لا يكون مؤمناً؛ جعلوا صحَّة الإيمان متوقفةً على اللفظ بهذه الكلمة، مع القدرةِ عليها، واستدلَّ بعضُهم على ¬

_ (¬1) في الأصل: "ترتيب"، والمثبت من "ت".

السادسة والعشرون

ذلك: بأنَّ فرعونَ كان عارِفاً بربِّه؛ لقوله تعالى {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] حكم عليه موسى: بأنه كان عارفاً بالله، ثم ماتَ كافراً. قال: ومنهم مَنْ قالَ: إنَّه مؤمنٌ؛ لأنَّه حصل له العِرْفانُ التَّام. وهذا الذي قاله فاسدٌ؛ لأنَّ فرعون أبى واستكبر، وقد بيَّنا كفرَ من هو كذلك. وحكايةُ الخلاف على الإطلاق فاسدٌ؛ لأنَّ الخلافَ في غير المستكبر، فإن أراد أن يستدلَّ بأمرِ فرعونَ على غير المستكبِر، فهو فاسدٌ، وإن أرادَ أن يثبتَ الخلافَ في المستكبر، فهو باطلٌ بنصِّ القرآن والاتفاق. السادسة والعشرون: قد قدَّمنا من مذاهبِ الصوفيَّة: أنَّ تحقيقَ هذه الكلمة، بزوال كلِّ الأحكام الغالبة على القلب سوى حُكمِ الله تعالى. وبعضُ المتكلمين قسَّم الناسَ تقسيماً آخر فيها، فقال: إنَّ الناسَ في قول هذه الكلمة على مراتبَ وطبقات: فأدناها طبقة: من قالها بلسانِهِ، فإنَّ ذلك يحقِنُ دَمَه، يعني: ويحرز ماله، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "أُمِرْتُ أن أقاتلَ النَّاسَ حتى يقولوا ... " الحديث (¬1)، وهذه درجةٌ يشترك فيها الموافقُ والمنافقُ، والصدِّيقُ والزِّنديق. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الطبقة الثانية: الذين ضَمُّوا إلى القول باللسان الاعتقادَ بالقلب على سبيل التقليدِ، والاعتقادِ التقليدي لا يكونُ عِلْمًا، إذِ العَقْدُ ضدُّ الانحِلال والانشراحِ، والعلمُ عبارةٌ عن الانشراحِ قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22]، فصاحبُ (¬1) التقليدِ إذاً (¬2) لا يكون عارِفاً، وهل يكونُ مؤمناً؟ فيه الخلاف. الطبقة الثالثة: الذين ضَمُّوا الاعتقادَ بالقلبِ معرفةَ الدلائل الإقناعية، ولكن ما بلغتْ درجتُه إلى الدلائل اليقينية. الطبقة الرابعة: الذين بالغوا في الطَّلَب، تأكيداً لتلك العقائدِ بالدلائل القطعية والبراهينِ اليقينية، إلا أنهم لا يكونون من أربابِ المشاهداتِ والمكاشفات. ثمَّ الإقرارُ باللسانِ له درجة واحدةٌ، والاعتقادُ بالقلبِ له درجاتٌ مختلفة، بحسب قوةِ الاعتقاد، وضعفِه ودوامِه، وعدمِ دوامِه، وكثرةِ تلك الاعتقادات وقلَّتِها، فإن المقلِّدَ ربما كان مقلداً في البعضِ من المسائل الأصوليةِ، وقد يكون في الكُلِّ، ولا يُسْتَراب في أنَّ للخَلْقِ مراتبَ في كلِّ طبقةٍ من هذه الطبقات. وأما الطبقة الخامسة: فهم أصحاب المشاهداتِ، فنسبتهم في القلة إلى أصحاب البراهين القطعية، كنسبة أولئك الأصحابِ إلى عامة الخلق، ولا نهايةَ لعالم المكاشفات؛ لأنَّه عبارةٌ عن سَفَرِ العقلِ في ¬

_ (¬1) في الأصل: "وصاحب"، والمثبت من "ت". (¬2) في الأصل "إذ"، والمثبت من "ت".

جلالِ الله تعالى، ومدارجِ عظمتِه، ومنازلِ آثارِ كبريائه وقُدْسه، وكما لا نهاية لهذه المقامات، فكذلك لا نهايةَ للسَّفَرِ في تلك المقامات، أو كما قال. قال: وأما أرباب الحقيقة، فقد بَنَوْا لأصحاب المكاشفات مراتبَ ستة: منها ثلاثةٌ لأصحاب البدايات، وثلاثةٌ منها: لأَصحابِ النهايات. أما الثلاثة الأُوَل: فهي اللوائح: فكأنها كالبُروق، كلَّما ظهرت في الحال استترتْ. ثم اللوامع: فإنها أظْهرُ من اللوائح، فلا يكونُ زوالُها بتلك السُّرعة. ثم الطوالع: فإنها أبقى من اللوامع، ولكنَّها على خطرِ الأفولِ والزوال. ثم قال: إنَّها مختلفةٌ، البعضُ منها زائلٌ بتمامه، والبعض منها غيرُ زائل بتمامه، يبقى منه أثرٌ. وأما الثلاثة الأخيرة: وهي الحاضرة: وأنها عبارة عن حضورِ القلب عند الدلائل. ثم المكاشفةُ: وهي أنْ يصيرَ، يعني: عند سَيْرِه إلى اللهِ تعالى غنياً عن طلبِ السَّبيل، وتأمُّل الدليل، ثم السائرُ مختارٌ في الانتقال من الدليلِ إلى المدلولِ في تلك الحالة، بخلاف غيره. ثمَّ المشاهدة: وأنها عبارةٌ عن توالي أنوارِ التجلِّي على قلبه، من غير أنْ يتخلَّلها انقطاع.

السابعة والعشرون

والمحاضرةُ تشبه الوقوفَ على عتبةِ بابِ المَلِكِ، والمكاشفة عند الدخولِ في الدار، والمشاهدَةُ تشبه الوقوفَ في الموضع الذي لا يكونُ بينه وبين المَلِكِ حجاب، أو كما قال. السابعة والعشرون: بعضهم يختار (¬1) تطويل المَدِّ في كلمة (لا)؛ لأنَّ في التطويل الاستحضارَ للأضدادِ والأندادِ، فيقعُ النفيُ على جميع المُشخَّصة، فيكون أقربَ إلى الإخلاص، واختار غيرُه تَرْكَ التطويلِ والتمديد؛ لاحتمالِ الموتِ والاخترام قبل الإثبات، وفَرَّق بعضُهم بين ما يُدْخَل به في الإسلامِ، فلا يطول، وبين غيرِه فيطُول، والله أعلم. ¬

_ (¬1) "ت": "يحتاج".

الحديث الرابع والعشرون

الحديث الرابع والعشرون وروى أبو محمد عبد الله (¬1) بن عبد الرحمنِ الدَّارِمِيُّ الحافظُ في "مسنده" من حديث ابنِ عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَنَضَحَ. ورجالُ إسناده رجالُ الصحيح (¬2). الكلام عليه من وجوه: * الأول في التعريف: فنقول: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن: بن الفضل بن بَهْرَام ابن عبد الصَّمد، أبو محمد الدارِمِيّ السَّمَرْقَنْدِي، أحد أكابر العلماء ¬

_ (¬1) في الأصل و "ت": "عبد الله بن أحمد"، وهو خطأ. (¬2) * تخريج الحديث: رواه الدارمي في "مسنده" (711)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 244)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 162)، من حديث قبيصة، عن سفيان، عن زيدٌ بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، به. قال البيهقي؛ قال الإمام أحمد: قوله: "ونضح" تفرد به قبيصة عن سفيان، ورواه جماعة عن سفيان دون هذه الزيادة.

والسابقين من الحُفَّاظ، والأعلامِ من المشاهير، جَبَلٌ من الجبال، وعالمٌ درجتُه رَبْوَةٌ على جمهور الرجال، له ذكر في "تاريخ نيسابور" للحاكم أبي عبد الله الحافظ. قال: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهْرَام السمرقندي، أبو محمد الدارميّ، من حفاظ الحديث المبرزين. سمع بخُراسان من عَبْدان بن عثمان، ومحمد بن سلام، وطبقتهما. وبالعراقين من عبيد الله بن موسى، وأبي نُعيم، وروح بن عبادة، وأشهل بن حاتم، وطبقتهم. وبمصرَ من سعيد بن أبي مريم، وأبي صالح، وطبقتهما. وبالحجازِ من المُقْرِئ، والحُميدي، وابن أبي أويس، وطبقتِهم. وبالشام من محمد بن يوسف الفِرْيابي، وأبي اليمان، وأبي مُسْهِر، وطبقتهم. حدَّث بنيسابور سنة ثلاث وأربعين ومئتين، روى عنه محمدُ بن يحيى الذُّهلي، وأبو زُرعة، ومسلم بن الحجَّاج في "الصحيح"، وأبو حاتم، وأئمة الحديث. قلت: وممن روى عنه من أئمة الحديث: محمد بن يحيى الذهلي (¬1)، وأبو داود السِّجِسْتاني، وأبو عيسى الترمذي، وعبد الله بن ¬

_ (¬1) جاء في "ت" فوق قوله: "محمد بن يحيى الذهلي": "كذا" إشارة إلى تكرارها.

أحمد بن حنبل، وصالح بن محمد جزرة، ومحمد بن عبد الله الحضرمي المُطَيَّن، ومحمد بن عَبْدُوس بن كامل، وجعفر بن محمد الفِرْيابي. وطافَ البلادَ، وجمع المُسند، ورواه عنه عيسى بنُ عمر بن العبَّاس السمرقندي، وبقيتْ روايتُه إلى زمانِنَا، [علت] (¬1) عالية من جهة أبي الوقتِ عبد الأول بن عيسى السِّجْزي، وله ثلاثيَّات في "مسنده"، وربَّما خرجت وجُمِعَت مفردة. وله ذكر في "تاريخ بغداد" للخطيب، فرُوِيَ بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعتُ أبي يقول: عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي إمامُ أهلِ زمانه (¬2). وذكر أيضاً بالإسناد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، سمعتُ أبي يقول: انتهى الحفظُ إلى أربعةٍ من خراسان: أبو زُرْعَةَ الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، والحسن بن شجاع البَلْخِيّ (¬3). وذكر الغُنْجَار محمد بن أحمد بن محمد بن سُليمان صاحب ¬

_ (¬1) سقط من "ت". (¬2) ورواه من طريق الخطيب: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (29/ 318)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 309)، ولم أقف عليه في المطبوع من "تاريخ بغداد". (¬3) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 21)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 62)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 309).

"تاريخ بخارى" بإسناد عن نُعَيْم بن نَاعِم، قال جَزَرَةُ: سمعتُ محمدَ ابن عبد الله بن نُمير يقول: غلبَنَا عبد الله بنُ عبدِ الرحمن بالحفظ والورع (¬1). وذكر الغُنْجَار عن إسحاق بن أحمد بن خلف، وكنا عند محمد ابن إسماعيل، فوردَ عليه كتابٌ فيه نعيُ عبد الله بن عبد الرحمن، فنكَّس رأسه، ثم رفع واسترجَع، وجعل تسيلُ دموعُه على خديه، ثم أنشأ يقول [من الكامل]: إن تَبْقَ تُفجَعْ بالأحبَّةِ كلِّهمْ ... وفَنَاءُ نَفْسِكَ لا أباً لك أَفْجَعُ قال إسحاق بنُ أحمد: وما سمعناه يُنْشِدُ شعراً إلا ما سمِعْناه في الحديث (¬2). وذكر الحاكم (¬3) عن علي بن حَمْشَاد، عن نُعَيْم بن عبد الله، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي الشيخُ الفاضلُ (¬4). ¬

_ (¬1) ورواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 31)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" " 29/ 318)، ومن طريق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد ابن سليمان الغنجار في "تاريخ بخارى": رواه ابن نقطة في "التقييد" (ص: 309). (¬2) ومن طريق غنجار: رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (29/ 318)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 309). (¬3) جاء في الأصل و "ت" قبل قوله: "وذكر الحاكم": "وقال الترمذي"، فلعل هناك سقطاً أو سهواً، والله أعلم. (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (29/ 317).

الوجه الثاني: في تصحيحه

وذكر الغُنْجار بإسناد إلى عبد الله بن عبد الرحمن، هو الدارمي: ولدتُ في سنة مات ابن المبارك، سنة إحدى وثمانين ومئة (¬1). وروى الغُنْجار بإسناد ذكر فيه: أنه مات عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي يومَ عرفةَ، وذلك يومَ الخميس، ودُفِنَ يومَ الجمعة سنة خمس وخمسين ومئتين (¬2)، والله أعلم (¬3). * الوجه الثاني: في تصحيحه: قد ذكرنا في الأصل: أن رجاله رجال الصحيح. والدارميُّ أخرجَه عن قبيصةَ، فقال: أنا قبيصة، ثنا سفيان، عن زيدٌ بن أسلم، عن عطاءِ بن يسارٍ، عن ابن عباس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرَّةً مرةً، ونَضَحَ. وهؤلاء - كما ذكر في الأصل - رجال الصحيح. ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 30)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (29/ 315). (¬2) ورواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 31). (¬3) * مصادر الترجمة: "الثقات" لابن حبان (8/ 364)، "تاريخ بغداد" للخطيب (10/ 29)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 310)، "التقييد" لابن نقطة (ص: 308)، "تهذيب الكمال" للمزي (15/ 210)، "سير أعلام النبلاء" (12/ 224)، "تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (2/ 534)، "تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 258).

وقد أفرد لفظ الصحيح، ليتناول ما اتفقا عليه من الرِّجال، وما انفرد أحدهما به، وسفيان فمن فوقَه متَّفقٌ عليهم، وقبيصة أخرج له البخاري. والانتضاحُ بعد الوضوء فيه أحاديثُ متعدِّدة، ذكرت ما انتهى إلي منها، وتيسر ذكره في كتاب "الإمام" (¬1): منها ما استُضْعِفَ، ومنها ما يُعَلَّل (¬2). وعند التّرمذي، وابن ماجه منها حديث الحسنِ بن عليٍّ الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جاءني جبريلُ، قال: يا محمد! إذا توضَّأتَ، فانْتَضِحْ". وفي حديث ابن ماجه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جاءني جبريلُ". قال الترمذي: هذا حديثٌ غريب، قال: سمعت محمَّداً يقول: الحسنُ بن علي الهاشميُّ منكرُ الحديث (¬3). وهذا الحديث الذي أخرجه الدارمي أجود ما رأيت في هذا الباب، فلذلك اخترتُ تخريجه من جهته، على (¬4) ما ذكره الترمذي، ¬

_ (¬1) في الأصل: "الإلمام" والتصويب من "ت". (¬2) انظر: "الإمام" للمؤلف (2/ 75). (¬3) رواه الترمذي (50)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء، وابن ماجه (463)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء. (¬4) في الأصل و "ت": "وعلى"، وجاء فوق الواو في "ت": كذا. قلت: لعل الصواب حذفها، والله أعلم.

الوجه الثالث: في المفردات

وابن ماجه، والله تعالى أعلم. * الوجه الثالث: في المفردات: النَّضْحُ: إصابةُ الماء للمَحَلِّ مع خِفَّة، وهو بالحاء المُهملة، والنَّضْخ بالخاء المعجمة أكثرُ منه، وقد يُستعمَلُ النضح - بالمُهملة - في موضع النَّضخ - بالمعجمة -، على ما يَظْهر من كلامِ بعضهم، ومنه: "مَدِينةٌ يَنْضَحُ البحرُ جوانبَها"، أو "في جوانِبهِا" (¬1). وقد تكلَّم بعض الفقهاء في النضح من بولِ الغلامِ بما يقتضي كثرةَ الصَّبِّ. وأما المالكيّة: فكلامُهم يدل على ما يقتضِيْه معنى الخِفّةِ والقِلّةِ، والفرْقُ بينه وبين الغُسْلِ، من جهة الكَثْرَةِ والقِلّة (¬2)، وإنما قلتُ: من جهة الكثرة والقلة؛ لأنَّ الشافعيَّ الذي أشرنا: أنَّ كلامه يقتضي ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 44)، وأبو يعلى في "مسنده" (106)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 18)، والضياء في "الأحاديث المختارة" (1/ 76 - 77)، من حديث أبي لبيد - رضي الله عنه -، وفيه: "إني لأعلم أرضاً يقال لها: عمان، ينضح بناحيتها البحر، بها حي من العرب، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 52): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير ابن زياد وهو ثقة، ورواه أبو يعلى كذلك. وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 16). (¬2) انظر: "الذخيرة" للقرافي (1/ 176 - 177).

الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل

الكثرة، يفرق بينه وبينَ الغُسْلِ من وَجْهٍ آخرَ غيرِ الكثرةِ والقلةِ، هذا ما يقتضيه كلامُه (¬1)، أو يُفْهَمُ منه، وهذا الفرقُ بالكثرة والقلة بالإعجام والإهمال، من باب زيادةِ اللفظ بزيادة المعنى، فالإعجامُ زيادةٌ مقابلَةٌ بزيادةِ المعنى، وهو الكثرةُ، والإهمال نقصٌ باعتبارِ نقصِ المعنى، وهو القلة، وهذا كما في المضمضة والمصْمَصَة، والشقداف والشقنداف. * الوجه الرابع: في الفوائد والمباحث، وفيه مسائل: الأولى: هذا اللفظُ الذي في هذا الحديث، أعني قولَه: "وَنَضحَ"، ليس فيه تصريحٌ بأنَّه النضحُ بعد الوضوءِ على الفَرْجِ، وقد ترجَم عليه الدارميُّ بقوله: (باب: في نضح الفرج بعد الوضوء)، وترجَم الترمذيُّ على حديثِهِ الذي أخرجه: (باب: النضح بعد الوضوء)، واللفظُ وإنْ لمْ يقتضه، لكنَّه مفهومٌ من الأحاديث الواردة فيما يقتضيه، فيجبُ ردُّه إليها؛ صَوْناً للكلام عن الإجمال، ورجوعاً إلى ما يَثْبُتُ في النفس من مجموع تلك الأحاديثِ. ومن صريحه: ما رواه الدارقطني، من حديث أسامةَ بنِ زيدٍ: أنَّ جبريلَ - عليه السلام - لما نزلَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أراه الوضوءَ، فلمَّا فرغ من وضوئه، أَخَذَ حَفْنَةً من ماءٍ، فرَشَّ بها في الفَرْجَ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي (1/ 258). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 111)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (5/ 203). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 242): فيه رشدين =

الثانية

الثانية: ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في "عارضة الأَحْوَذِيّ" في كلامه على ما أخرجه الترمذيُّ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "جاءني جبريلُ، فقال: يا محمد! إذا توضأْتَ فانتضحْ": أنَّ العلماءَ اختلفوا في تأويلِ هذا الحديث على أربعةِ أقوالٍ: الأول: معناه: إذا توضَّأْتَ، فصُبَّ الماءَ على العضوِ صبًّا، ولا تقتصرْ على مسحِهِ، فإنَّه لا يُجْزِئُ فيه إلا الغَسْلُ دونَ إسرافٍ، ولذلك أنكرَ مالكٌ حتَّى يَقْطُرَ أو يَسِيْل، فَكَرِهَ أن يجعلَ القَطْرَ والسَّيَلان حَدًّا، وإن كان لا بدَّ منه مع الغَسْل. الثاني: معناه: استبراءُ الماءِ بالنَّثر والتَّنَحْنُحِ، يقال: نَضَحْتُ أَسَلْتُ، وانتضحتُ: تعاطَيْتُ الإِسَالة (¬1). الثالث: ما معناه: إذا توضَّأت فَرُشَّ الإِزَارَ الذي يلي الفرجَ بالماء، ليكون ذلك مُذْهِبًا للوسواس. ويُروى عن قَتادةَ: النَّضْحُ من النَّضْحِ (¬2)، يقول: من أصابَه نَضْحُ البول، فعليه أن يَنْضَحَه بالماءِ، ويكون على هذا معنى الحديثِ الوارد: "عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ"، فذكر: "وانتقاضُ الماءِ" (¬3)، ورواه أبو عبيد: ¬

_ = ابن سعد، وثقه هيثم بن خارجة، وأحمد بن حنبل في رواية، وضعفه آخرون. (¬1) في المطبوع من "عارضة الأحوذي": "تعاطيت الاستبراء له". (¬2) رواه ابن قتيبة في "غريب الحديث" (2/ 602). (¬3) تقدم تخريجه.

الثالثة

"انتضاحُ الماءِ" (¬1)، وفسَّرَه بما قدَّمناه. قال: وكذلك روى أبو داود، والنَّسائي، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه كان إذا توضَّأ، أخذَ حَفْنة من ماءٍ، فقال بها هكذا، ووصفَ شعبةُ، ونضَحَ بها فَرْجَه (¬2). الرابع: معناه الاستِنْجَاءُ بالماءِ، معناه إشارةٌ إلى الجَمْعِ بينَه وبينَ الأحجار، فمانَّ الحَجَرَ يُجَفِّفُ الموضِعَ، والماءُ يطهِّره (¬3). الثالثة: قد قدمنا اختيار الوجه الثالث، وهو رَشُّ الماءِ على العضو بعد الوضوء، ومن شواهِدِه: روايةُ الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث ابن لَهِيْعَة بسنده إلى أسامةَ بنِ زيدٌ، عن أبيه: أنَّ جبريل نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أولِ ما أوحي إليه، فعلَّمه الوضوءَ والصلاةَ، فلما فَرَغَ أخذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماءً، فنضحَ بها فرجَه (¬4). وعن أحمد بن حنبل: أنه تُكُلِّم في هذا الحديث. ومن شواهده: ما عند ابن ماجه من رواية قيس، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزُّبير، عن جابر قال: توضَّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنَضَحَ فَرْجَه (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه من حديث الحكم بن سفيان الثقفي - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 66). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (4657)، وكذا الإمام أحمد في "مسنده" (4/ 161). قال أبو حاتم: هذا حديث كذب باطل، كما نقله ابنه في "العلل" (1/ 46). (¬5) رواه ابن ماجه (464)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء، وإسناده ضعيف.

الرابعة

ومنها: ما ذكر الدارقطني في "غرائِبِ حديثِ مالِك "، من رواية أنسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضَّأ نَضَح عانَتَهُ (¬1). ومنها: ما ذكره أحمدُ بن عُبَيْد بإسناده إلى عليٍّ قال: وضَّأتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما فَرَغَ نَضَحَ فرجَه، إلى غيرِ ذلك مما ذكرتُه في كتاب "الإِمَام (¬2) في معرفَةِ أحاديثِ الأحكام" (¬3). الرابعة: هذا الحكمُ معلّلٌ بعلَّتَيْن: إحداهما: ما تقدَّمتِ الإشارةُ إِليه؛ فيما حكيناه عن القاضي أبي بكر بنِ العربيِّ من إذْهابِ الوَسْوَاسِ، ومعناه: أنه إذا نَضَحَ الفرجَ، فوجد بلله، أحالَه على ما نَضَحَ به من الماءِ، فذهب الوسواسُ، ومثله قد تبيَّن في باب الاستبراءِ، وليس هو بالهيِّن عندي، وينبغي أن يكونَ محلُّه عندنا إذا تعارضتِ الاحتمالات على الاستواء، فحينئذ يُبنى على الأصل في الطَّهارة، وأما إذا كانت العادةُ في الشخصِ المعيَّنِ خروجَ الخارجِ، وعرفَ ذلك من نَفْسِهِ، فلا ينبغي أنْ يقالَ بهذا فيه؛ لأنَّ العملَ بالغلبة راجحٌ، والظنَّ المستفادَ منها أقوى من مقابِلِهِ. والمعنى الثاني في تعليلِ هذا الحكم: أنَّ الماءَ الباردَ ينقبِضُ له العضوُ وينكمشُ، بخلاف الحارِّ، فإنَّه يُرخيه، فإذا نَضَحَ بعد الوضوء بالماء البارد، كان أقربَ إلى عدم خروجِ الخارج لتقبُّضِ العُضْوِ. ¬

_ (¬1) انظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي (5/ 452)، وذكر أنه حديث باطل. (¬2) في الأصل: "الإلمام"، والتصويب من "ت". (¬3) انظر: (2/ 75) وما بعدها من "الإلمام".

الخامسة

الخامسة: قد ورد في بعض الأحاديث من طريق ابن لَهِيْعَةَ، عند ابن ماجه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "علَّمَنِي جبريلُ الوُضوءَ، وأمرني أن أنضحَ تَحْتَ ثوبي لِمَا يَخْرُجُ من البولِ بعد الوُضوء" (¬1)، وهذا ظاهر في تعليل النَّضْحِ لعدمِ الخروجِ. السادسة: فإذا ترجَّح هذا المعنى في التعليلِ، جُعِلَ أصلاً في مداواة المَرَضِ، ودَفْعِ ما عساه يُخْشَى من تجدُّدِه. السابعة: فإن ترجَّح المعنى الأولُ، ففيه دليلٌ على الرغبة عن الوسواسِ. الثامنة: ودليلٌ أيضاً على البناء على الأصلِ، إذا لم يتحقَّق مخالفُه، وأنه لا يُشْتَرَطُ القطع بزوال المخالِفِ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (462)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء. وإسناده ضعيف؛ لضعف ابن لهيعة.

الحديث الخامس والعشرون

الحديث الخامس والعشرون ومن حديث بريدة قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بلالاً، فقال: "يا بلالُ! بِمَ سَبَقتنِي إلى الجنَّة" قال: "ما دَخَلْتُ الجنَّةَ قَطُّ إلا سمعتُ خَشْخَشَتَكَ أمامي" وفيه: فقال بلالُ: يا رسولَ اللهِ! ما أذَّنْتُ قطُّ إلا صلَّيْتُ ركعتين، وما أصابني حَدَثٌ قطُّ إلا توضَّأْتُ عِنْدَها، ورأيتُ أنَّ لله عليَّ ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِهِمَا". لفظ رواية الترمذي، وحكم بصحته (¬1). الكلامُ عليه من وجوه: ¬

_ (¬1) * تخريج الحديث: رواه الترمذي (3689)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقال: صحيح غريب، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 354)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1209)، والحاكم في "المستدرك" (1179)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2717)، وغيرهم من حديث الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، به.

[الوجه] الأول: في التعريف

* الأول: في التعريف: فنقول: أما بُرَيْدَةُ: فهو ابن حُصَيب، بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الصادِ المهملة، بعدها آخر الحروف، ثم ثانيها، بنُ عبد الله بن الحارث ابن الأعوج بن سعد بن رَزَاح بن عَدِيّ بن سهل بن مازن بن حارث بن سُلامان بن أَسْلَمَ بن أَفْصَى - بالفاء بعدها صاد مهملة مفتوحة - بن حارثة ابن عمرو بن عامر، أبو عبد الله، ويقال: أبو ساسان. وقال يحيى بن معين: أبو سهل الأسلمي. قال الكلاباذي: وكان من ساكني المدينةِ تحوَّل إلى البصرةِ، ثم خرج منها إلى خراسان غازيًا، فمات بمرو في ولاية يزيدَ بن معاوية، ودُفِنَ بها سنة اثنتين أو ثلاث وستين (¬1). وأما بلالُ: فهو أبو عبد الله بن رَبَاح، ويقال: أبو عبد الكريم، ويقال: أبو عمرو مولى أبي بكرٍ الصدِّيقِ التيمي القُرَشِيِّ، وتِرْبُه (¬2)، مؤذِّنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من مُوَلَّدي السَّراة، مدنِيٌّ، سكن الشامَ، ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 8)، "الثقات" لابن حبان (3/ 29)، "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 185)، "رجال البخاري" للكلاباذي (1/ 122)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله الترجمة كاملة، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 141)، "تهذيب الكمال" للمزي (4/ 53)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 469)، "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 286)، "تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (1/ 378). (¬2) في الأصل: "توبة"، والتصويب من "ت".

الوجه الثاني: في إيراد الحديث على الوجه

شهِدَ بَدْرًا، سَمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه: ابنُ عمرَ، والصنابحي، ومات بالشام زمنَ عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه -، قاله البخاري. وقال عمرو بن علي: ماتَ بدمشق سنة عشرين، وهو ابن بضع وستين سنة. وقال الواقِديُّ مثل عمرو بن علي. وقال أبو عيسى: مات سنة عشرين في خلافة عمر. وقال الذُّهلي: قال يحيى بن بُكَيْر: مات بدمشق في طاعونِ عَمْواس سنة سبع أو ثمان يعني عشرة. وقال ابن نمير: مات بدمشق سنة عشرين (¬1). * الوجه الثاني: في إيراد الحديث على الوجه: الحديث من رواية عبد الله بن بُريدة، عن أبيه قال: أصبحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بلالاً، فقال: "يا بلالُ! بِمَ سبقْتَنِي إلى الجنّة؟ ¬

_ (¬1) * مصادر الترجمة: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 232)، "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 106)، "المستدرك" للحاكم (3/ 318)، "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 147)، "رجال البخاري" للكلاباذي (1/ 120)، وعنه نقل المؤلف رحمه الله الترجمة كاملة، "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 178)، "تاريخ دمشق" لابن عساكر (10/ 429)، "أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 415)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 144)، "تهذيب الكمال" للمزي (4/ 288)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 347)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 326).

الوجه الثالث: في تصحيحه

ما دخلتُ الجنَّة قطُّ إلا سمعتُ خَشْخَشَتَكَ أمامي، دخلتُ البارحةَ الجنة، فسمعت خَشْخَشَتَكَ أمامي، فأتيتُ على قَصْر مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ من ذهب، فقلت: لمن هذا القصرُ؟ فقالوا: [لرجل من العربِ، فقلت: أنا عربيٌّ لمن هذا القصرُ؟ قالوا] (¬1): لرجلٍ من قريش، قلت: أنا قُرَشِيٌّ، لِمَنْ هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمَّةِ محمدٍ، قلتُ: أنا محمد، لِمَنْ هذا القصر؟ قالوا: لعُمَرَ بنِ الخطَّاب" فقال بلالُ: يا رسول الله! ما أذَّنْتُ قَطُّ إلا صليتُ ركعتين، وما أصابني حَدَثٌ إلا توضَّأتُ عندهما، ورأيتُ (¬2) أنَّ لله علي ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِهما". * الوجه الثالث: في تصحيحه: الترمذي أخرجَه منفرداً به عنِ الجماعةِ، وحَكَم بصحَّتِهِ، ورواه عن أبي عمار الحُسين بن حُرَيْث، عن علي بن الحسين بن واقِد، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه. والله الموفق للصواب (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين زيادة من "سنن الترمذي". (¬2) في الأصل: "أو رئيت"، وفي "ت": "ورئيت"، والمثبت من "سنن الترمذي". (¬3) جاء على هامش "ت": "هذا آخر ما وجدته، ونقلته من خط الإمام جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي الحنفي على سقمٍ فيه، وذكر أن هذا آخر ما وجده. وكتبه عبد الرحمن بن علي بن خلف الفارسكوري، عفا الله عنهم أجمعين".

فهرس مصادر ومراجع التحقيق

فهرس مصادر ومراجع التحقيق 1 - الاستذكار، ابن عبد البر القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2000 م، ت سالم عطا ومحمد علي معوض. 2 - الاستيعاب، ابن عبد البر القرطبي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 هـ، ت علي محمد البجاوي. 3 - الاقتراح، ابن دقيق العيد، دار البشائر الإسلامية، ط 2، 1427 هـ، 2006 م، ت د عامر حسن صبري. 3 - الاهتمام بتلخيص كتاب الإمام، قطب الدين الحلبي، مؤسسة الكتب الثقافية، ط 1، 1410 هـ، 1990 م، ت حسام رياض. 5 - الآحاد والمثاني، ابن أبي عاصم، دار الراية، الرياض، ط 1، 1411 هـ، 1991 م، ت باسل الجوابرة. 6 - الأحاديث المختارة، الضياء المقدسي، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط 1، ت عبد الملك بن عبد الله. 7 - الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل البخاري، دار البشائر، بيروت، ط 3، 1409 هـ، 1989 م، ت محمد فؤاد عبد الباقي. 8 - الأربعون النووية، محي الدين بن شرف النووي، دار ابن كثير، دمشق، 1997 م، ت د مصطفى البغا. 9 - الأصمعيات، الأصمعي، دار المعارف، القاهرة، ط 7، 1993 م، ت أحمد شاكر، عبد السلام هارون. 10 - الأضداد، ابن الأنباري، المكتبة العصرية، بيروت، ت محمد أبو الفضل إبراهيم. 11 - الأعلام، الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط 5، 1980 م. 12 - الأغاني، الأصفهاني، دار الفكر، بيروت، ط 2، ت سمير جابر. 13 - الألفية، ابن مالك، المكتبة العصرية، بيروت. 14 - الأم، الإمام الشافعي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1393 هـ. 15 - الأمالي، أبو علي القالي، دار الكتب العلمية، بيروت، نسخة مصورة.

16 - الأمالي المطلقة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1416 هـ، ت حمدي بن عبد المجيد. 17 - الأمالي النحوية، ابن الحاجب، دار الجيل، بيروت، 1459 هـ، 1989 م، ت د فخر قدارة. 18 - الأنساب، السمعاني، دار الجنان، ت عبد الله البارودي. 19 - الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1405 هـ، 1985 م. 20 - الأوسط، ابن المنذر، دار طيبة، الرياض، ط 1، 1985 م، ت أبو حماد صغير، أحمد بن محمد حنيف. 21 - الإبهاج في شرح المنهاج، السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1404 هـ. 22 - الإحكام، ابن حزم، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1404 هـ. 23 - الإحكام، أبو الحسن الآمدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1404 هـ، ت سيد الجميلي. 24 - الإرشاد في معرفة علماء الحديث، الخليل بن عبد الله الخليلي، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1409 هـ، ت د محمد سعيد إدريس. 25 - الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412 هـ، 1992 م، ت علي محمد البجاوي. 26 - الإكمال، ابن ماكولا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 هـ. 27 - الإلمام بأحاديث الأحكام، ابن دقيق العيد، دار ابن حزم، بيروت، ط 2، 1423 هـ، 2002 م، ت حسين الجمل. 28 - الإمام في معرفة أحاديث الأحكام، ابن دقيق العيد، دار المحقق، ت سعد بن عبد الله آل حميَّد. 29 - الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه والصحيحين، د نور الدين عتر، مؤسسة الرسالة، بيروت. 30 - الإنصاف، أبو الحسن المرداوي، دار إحياء التراث، بيروت، ت محمد حامد الفقي. 31 - البحر الرائق، الزيلعي، دار المعرفة، بيروت. 32 - البحر المحيط، الزركشي، دار الكتبي، بيروت.

33 - البحر المحيط، أبو حيان، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1422 هـ، 2001 م. 34 - البداية والنهاية، ابن كثير، مكتبة المعارف، بيروت، 1995 م، ت د عبد الفتاح حلو وعبد الله الطباع. 35 - البدر المنير، ابن الملقن، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1414 هـ، ت جمال محمد السيد وأحمد شريف الدين. 36 - البرهان في أصول الفقه، أبو المعالي الجويني، دار الوفاء، مصر، ط 4، 1418 هـ، ت عبد العظيم الديب. 37 - البسيط في شرح جمل الزجاجي، ابن أبي الربيع الإشبيلي، دار الغرب الإسلامي، 1986 م، ت عياد الثبيتي. 38 - البلدان، اليعقوبي، دار صادر، بيروت. 39 - البيان والتبيين، الجاحظ، دار صعب، بيروت، ت فوزي عطوي. 40 - التاج والإكليل، ابن المواق، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1398 هـ. 41 - التاريخ الأوسط، محمد بن إسماعيل البخاري، دار الوعي، حلب، ط 1، 1397 هـ، 1977 م، ت محمد إبراهيم زايد. 42 - التاريخ الكبير، البخاري، دار الفكر، ت السيد هاشم الندوي. 43 - التحرير والتنوير، ابن عاشور، مؤسسة التاريخ، بيروت، ط 1، 1420 هـ، 2000 م. 44 - التحقيق في أحاديث الخلاف، ابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415 هـ، ت سعد السعدني. 45 - التدوين في أخبار قزوين، الرافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987 م، ت عزير الله العطاري. 46 - الترغيب والترهيب، المنذري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 هـ، ت إبراهيم شمس الدين. 47 - التعديل والتجريح، الباجي، دار اللواء، الرياض، ط 1، 1406 هـ - 1986 م، ت د أبو لبابة حسين. 48 - التفريع، ابن الجلاب المالكي، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1408 هـ، ت د حسين الدهماني. 49 - التفسير الكبير، الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421 هـ، 2000 م. 50 - التقييد، ابن نقطة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1408 هـ، ت كمال الحوت.

51 - التكملة، ابن الأبار، دار الفكر، بيروت، 1415 هـ - 1995 م، ت عبد السلام الهراس. 52 - التلخيص في معرفة أسماء الأشياء، أبو هلال العسكري، دار صادر، بيروت، ت عزة حسن. 53 - التمهيد، الأسنوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400 هـ، ت محمد هيتو. 54 - التمهيد، ابن عبد البر، وزارة عموم الأوقاف، 1387 هـ، ت مصطفى العلوي ومحمد البكري. 55 - التمييز، مسلم بن الحجاج، مكتبة الكوثر، الرياض، ط 3، 1410 هـ، ت محمد الأعظمي. 56 - التنبيه، الشيرازي، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1403 هـ، ت عماد الدين حيدر. 57 - الثقات، بن حبان، دار الفكر، ط 1، 1395 هـ، 1975 م، ت السيد شرف الدين أحمد. 58 - الجامع "السنن"، الترمذي، دار إحياء التراث، بيروت، ت أحمد شاكر وآخرون. 59 - الجامع لأحكام القرآن، القرطبي دار الشعب، القاهرة، ط 2، 1372 هـ، ت أحمد البردوني. 60 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، مكتبة المعارف، الرياض، 1403 هـ، ت محمود الطحان. 61 - الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، دار إحياء التراث، بيروت، ط 1، 1952 م. 62 - الجمع بين الصحيحين، الحميدي، دار ابن حزم، بيروت، ط 2، 1423 هـ، 2002 م، ت علي حسين البواب. 63 - الجمع بين الصحيحين، عبد الحق الإشبيلي، دار ابن الجوزي، الدمام، ت سعد آل حميد. 64 - الجمع بين رجال الصحيحين، ابن طاهر المقدسي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985 م. 65 - الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم المرادي، مطابع المكتبة العربية، حلب، ط 1، 1993 هـ، 1973 م، ت فخر الدين قباوة، محمد نديم فاضل.

66 - الجواهر المضية في طبقات الحنفية، ابن أبي الوفاء، مطبوعة كراتشي. 67 - الجوهر النقي، ابن التركماني، دار الفكر، بيروت. 68 - الحاوي، الماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1999 م، ت علي معوض وعادل عبد الموجود. 69 - الحجة للقراء السبعة، أبو علي الفارسي، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1، 1993 م، ت بدر الدين قهوجي، بشير جويجاتي. 70 - الحطة في ذكر الصحاح الستة، القنوجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ - 1985 م. 71 - الحيوان، الجاحظ، دار الجيل، بيروت، 1416 هـ، 1996 م، ت عبد السلام هارون. 72 - الخصائص، ابن جني، عالم الكتب، بيروت، ت محمد علي النجار. 73 - الدر المنثور، جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، 1993 م. 74 - الدراية في تخريج أحاديث الهداية، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، ت السيد عبد الله اليماني المدني. 75 - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب، ابن فرحون المالكي، دار الكتب العلمية، بيروت. 76 - الذخيرة، القرافي، دار الغرب، بيروت، ت محمد حجي. 77 - الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، أبو منصور الأزهري، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط 1، 1399 هـ. 78 - الزاهر في معاني كلام الناس، ابن الأنباري، دار البشائر، دمشق، ط 3، 2004 م، ت د. حاتم الضامن. 79 - الزهد الكبير، البيهقي، مؤسسة الكتب، بيروت، ط 3، 1966 م، ت عامر أحمد حيدر. 80 - السلسلة الصحيحة، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت. 81 - السلسلة الضعيفة، الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت. 82 - السنن، ابن ماجه، دار الفكر، بيروت، ت محمد فؤاد عبد الباقي. 83 - السنن، الدارقطني، دار المعرفة، بيروت، 1386 هـ، 1966 م، ت السيد عبد الله هاشم اليماني.

84 - السنن، الدارمي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1407 هـ، ت فواز زمرلي وخالد العلمي. 85 - السنن، أبو داود، دار الفكر، ت محيى الدين عبد الحميد. 86 - السنن المجتبى، النسائي، مكتب المطبوعات، حلب، ط 2، 1406 هـ، 1986 م، ت عبد الفتاح أبو غدة. 87 - السنن الكبرى، البيهقي، دار الباز، مكة المكرمة، 1414 هـ، 1994 م، ت محمد عبد القادر عطا. 88 - السنن الكبرى، النسائي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 هـ، 1991 م، ت عبد القادر البنداري وسيد حسن. 89 - السيرة النبوية، ابن إسحاق، معهد الدراسات والأبحاث للتعريف، ت محمد حميدالله. 90 - الشافية في علم التصريف، ابن الحاجب، المكتبة المكية، مكة، ط 1، 1415 هـ - 1995 م، ت حسن العثمان. 91 - الشرح الكبير، الدردير، دار الفكر، بيروت، ت محمد عليش. 92 - الشعر والشعراء، ابن قتيبة، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1417 هـ، 1996 م، ت أحمد شاكر. 93 - الشفا، القاضي عياض، دار الفكر، بيروت. 94 - الشكر، ابن أبي الدنيا، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1400 هـ - 1980 م، ت بدر البدر. 95 - الصحاح، الجوهري، دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1404 هـ، 1984 م، ت أحمد عطار. 96 - الضعفاء، العقيلي، المكتبة العلمية، بيروت، ط 1، 1404 هـ، ت عبد المعطي قلعجي. 97 - الطبقات، خليفة بن خياط، دار طيبة، الرياض، ط 2، 1402 هـ، 1982 م، ت أكرم ضياء العمري. 98 - الطبقات الكبرى، محمد بن سعد، دار صادر، بيروت. 99 - الطهور، أبو عبيد، مطبعة المدني، 1414 هـ، ت د صالح الزيد

100 - العبر، الذهبي، مطبعة حكومة الكويت، ط 2، 1984 م، ت د صلاح الدين المنجد. 101 - العقد الفريد، ابن عبد ربه، دار الكتاب العربي، بيروت، 1402 هـ، 1982 م عناية أحمد أمين، أحمد الزين إبراهيم الأنباري. 102 - العلل، ابن أبي حاتم، دار المعرفة، بيروت، 1405 هـ، ت محب الدين الخطيب. 103 - العلل، أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1408 هـ، 1988 م، ت وصي الله بن محمد عباس. 104 - العلل الصغير، الترمذي، دار إحياء التراث، بيروت، ت أحمد محمد شاكر. 105 - العلل المتناهية، ابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ، ت خليل الميس. 106 - العلل الواردة في الأحاديث النبوية، الدارقطني، دار طيبة، الرياض، ط 1، 1405 هـ، 1985 م، ت محفوظ الرحمن بن زين الله. 107 - العين، الليث، دار الهلال، بيروت، ت د مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي. 108 - الفائق في غريب الحديث، الزمخشري، دار المعرفة، بيروت، ط 2، ت علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم. 109 - الفتاوى، تقي الدين السبكي، دار المعرفة، بيروت. 110 - الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي، المناوي، دار العاصمة، الرياض، ت أحمد مجتبى. 111 - الفروع، ابن مفلح المقدسي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ، ت حازم القاضي. 112 - الفصول المفيدة في الواو المزيدة، الخليل بن كيكلدي العلائي، دار البشير، عمان، ط 1، 1410 هـ، 1990 م، ت حسن الشاعر. 113 - الفهرست، ابن النديم، دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ، 1978 م. 114 - الفوائد، ابن منده، مكتبة القرآن، القاهرة، ت مجدي السيد إبرهيم. 115 - الفوائد، أبو ذر الهروي، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1418 هـ، ت سمير حسين. 116 - القاموس المحيط، الفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت.

117 - القبس في شرح الموطأ، ابن العربي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1992 م، ت د. محمد عبد الله ولد كريم. 118 - القواعد والفوائد الأصولية، ابن اللحام البعلي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1375 هـ، 1956 م، ت محمد حامد الفقي. 119 - القوانين الفقهية، ابن جزي، دار الجيل، بيروت. 120 - الكاشف، الذهبي، دار القبلة للثقافة، جدة، ط 1، 1413 هـ، 1992 م، ت محمد عوامة. 121 - الكافي، ابن عبد البر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1407 هـ. 122 - الكامل في الأدب، ابن المبرد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1418 هـ 1997 م، ت د محمد أحمد الدالي. 123 - الكامل في الضعفاء، ابن عدي، دار الفكر، بيروت، ط 3، 1409 هـ، 1988 م، ت يحيى مختار غزاوي. 124 - الكتاب، سيبوبه، دار الجيل، بيروت، ط 1، ت عبد السلام هارون. 125 - الكشاف، الزمخشري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ت عبد الرزاق المهدي. 126 - الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، المكتبة العلمية، المدينة المنورة، ت أبو عبد الله السورقي، وإبراهيم حمدي المدني. 127 - اللباب في تهذيب الأنساب، ابن طاهر، دار صادر، بيروت. 128 - اللمع في أصول الفقه، أبو إسحاق الشيرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ، 1985 م. 129 - المجروحين، ابن حبان، دار الوعي، حلب، ط 1، 1396 هـ، ت محمد إبراهيم زايد. 130 - مجمل اللغة، ابن فارس، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1406 هـ، 1986 م، ت زهير عبد المحسن سلطان. 131 - المجموع في شرح المهذب، محيي الدين بن شرف النووي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1417 هـ، 1996 م، ت محمود مطرحي. 132 - المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات، ابن جني، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1386 هـ، ت ناصف، النجار، شلبي.

133 - المحتضرين، ابن أبي الدنيا، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1417 هـ، ت محمد خير يوسف. 134 - المحدث الفاصل، الرامهرمزي، دار الفكر، بيروت، ط 3، 1404 هـ، ت محمد عجاج الخطيب. 135 - المحرر في الفقه، المجد بن تيمية، مكتبة المعارف، الرياض، ط 2، 1404 هـ. 136 - المحرر الوجيز، ابن عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1413 هـ، 1993 م، ت عبد السلام عبد الشافي. 137 - المحصول، الرازي، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط 1، 1400 هـ، ت طه العلواني. 138 - المحكم، ابن سيده، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2000 م، ت عبد الحميد هنداوي. 139 - المحلى، ابن حزم، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ت لجنة إحياء التراث العربي. 140 - المختلطين، العلائي، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1، 1417 هـ، ت رفعت عبد المطلب وعلي فريد. 141 - المخصص، ابن سيده، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 142 - المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد، بكر أبو زيد، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1417 هـ، 1997 م. 143 - المدخل إلى السنن الكبرى، البيهقي، دار الخلفاء، الكويت، 1404 هـ، ت محمد ضياء الرحمن الأعظمي. 144 - المدونة الكبرى، مالك بن أنس، دار صادر، بيروت. 145 - المراسيل، ابن أبي حاتم، مؤسسة الرسالة، ط 1، ط 2، 1397 هـ، ت شكر الله قوجاني. 146 - المرض والكفارات، ابن أبي الدنيا، الدار السلفية، بومباي، ط 1، 1411 هـ، 1911 م، ت عبد الوكيل الندوي. 147 - المسالك والممالك، ابن خرداذبه، دار إحياء التراث العربي ط 1، 1408 هـ، ت د محمد مخزوم. 148 - المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 هـ، 1991 م، ت مصطفى عطا.

149 - المستصفى، الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1413 هـ، ت محمد عبد السلام الشافي. 150 - المستقصى من أمثال العرب، الزمخشري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1987 م. 151 - المسند، البزار، مؤسسة علوم القرآن، المدينة المنورة، ط 1، 1409 هـ، ت محفوظ الرحمن زين الله. 152 - المسند، الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت. 153 - المسند، أبو عوانة، دار المعرفة، بيروت. 154 - المسند، أبو يعلى الموصلي، دار المأمون، دمشق، ط 1، 1404 هـ 1984 م، ت حسين سليم الأسد. 155 - المسند، أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر، (الميمنية). 156 - المسند، إسحاق بن راهويه، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، ط 1، 1412 هـ 1992 م، ت عبد الغفور البلوشي. 157 - المسند، عبد بن حميد، مكتبة السنة، القاهرة، ط 1، 1408 هـ، 1988 م، ت صبحي السامرائي ومحمود الصعيدي. 158 - المسند، الطيالسي، دار المعر فة، بيروت. 159 - المسند (زوائد الهيثمي)، الحارث بن أبي أسامة، مركز خدمة السنة، المدينة المنورة، ط 1، 1413 هـ، 1992 م، ت حسين أحمد الباكري. 160 - المسند المستخرج على صحيح مسلم، أبو نعيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1471 هـ، ت محمد حسن إسماعيل. 161 - المصباح المنير، الفيومي، مكتبة لبنان، ناشرون، 2001 م، ت د خضر الجواد. 162 - المصنف، ابن أبي شيبة، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1409 هـ، ت كمال يوسف الحوت. 163 - المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ، ت حبيب الرحمن الأعظمي. 164 - المطلع، ابن أبي الفتح، المكتب الإسلامي، بيروت، 1401 هـ، 1981 م، ت محمد بشير الإدلبي. 165 - المعارف، ابن قتيبة، دار المعارف، القاهرة، ت ثروت عكاشة.

166 - المعتمد، أبو الحسين البصري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ، ت خليل الميس. 167 - المعجم الأوسط، الطبراني، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ، ت طارق عوض الله وعبد المحسن إبراهيم الحسيني. 168 - المعجم الصغير، الطبراني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1405 هـ، 1985 م، ت محمد شكور. 169 - المعجم الكبير، الطبراني، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، ط 2، 1404 هـ 1983 م، ت حمدي بن عبد المجيد. 170 - المعرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، الجواليقي، دار الكتب المصرية، ط 2، 969 م، ت أحمد شاكر. 171 - المعرفة والتاريخ، يعقوب بن سفيان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419 هـ 1999 م، ت خليل المنصور. 172 - المعلم بفوائد مسلم، المازري، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1992 م، ت محمد الشاذلي النيفر. 173 - المغني، ابن قدامة المقدسي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 174 - المغني في الضعفاء، الذهبي، ت نور الدين عتر. 175 - المفصل، الزمخشري، مكتبة الهلال، بيروت، ط 1، 1993 م، ت علي بو ملحم. 176 - المفضليات، المفضل الضبي، بيروت، ط 6، ت أحمد شاكر، عبد السلام هارون. 177 - المفهم، القرطبي، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 2، 1420 هـ، 1999 م، ت مجموعة من المحققين. 178 - المقاصد الحسنة، السخاوي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1414 هـ، 1994 م، ت محمد عثمان الخشت. 179 - المقتضب، المبرد، عالم الكتب، بيروت، ت عبد الخالق عظيمة. 180 - المقدمات الممهدات، ابن رشد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1408 هـ - 1988 م، ت محمد حجي. 181 - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، ابن مفلح، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1410 هـ، ت عبد الرحمن بن سليمان العثيمين.

182 - الملخص في ضبط قوانين العربية، ابن أبي الربيع الإشبيلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1405 هـ، ت علي الحكمي. 183 - المنتظم، ابن الجوزي، دار صادر، بيروت، ط 1، 1358 هـ. 184 - المنتقى، ابن الجارود، مؤسسة الكتاب، بيروت، 1408 هـ، 1988 م، ت عبد الله البارودي. 185 - المنتقى في شرح الموطأ، الباجي، دار الكتاب الإسلامي. 186 - المنثور في القواعد، الزركشي، وزارة الأوقاف، الكويت، ط 2، 1405 هـ، ت تيسير فائق محمود. 187 - المنخول، الغزالي، دار الفكر، دمشق، ط 2، 1400 هـ، ت محمد حسن هيتو. 188 - المنهاج = منهاج السنة النبوية، ابن تيمية. 189 - المنهاج في شعب الإيمان، الحليمي، ط 1، 1399 هـ - 1979 م، ت حلمي فودة. 190 - المهذب، أبو إسحاق الشيرازي، د ار الفكر، بيروت. 191 - الموافقات، الشاطبي، دار المعرفة، بيروت، ت عبد الله دراز. 192 - الموضوعات، ابن الجوزي، ط 1، 1966 م، عبد الرحمن محمد عثمان. 193 - الموطأ، مالك بن أنس، دار إحياء التراث، مصر، ت محمد فؤاد عبد الباقي. 194 - النكت على كتاب ابن الصلاح، ابن حجر العسقلاني، دار الراية، الرياض، ط 3، 1415 هـ، 1994 م، ت ربيع عمير. 195 - النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، المكتبة العلمية، بيروت، 1399 هـ، ت طاهر الزاوي، محمود الطناحي. 196 - الهداية، المرغيناني، المكتبة الإسلامية، بيروت. 197 - الوابل الصيب، ابن القيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت، 1985 م، ت محمد عبد الرحمن عوض. 198 - الوافي بالوفيات، الصفدي، دار إحياء التراث، بيروت، 1425 هـ، 2000 م، ت أحمد الأرناؤوط، وتركي مصطفى. 199 - الوسيط، الغزالي، دار السلام، القاهرة، ط 1، 1417 هـ، ت أحمد إبراهيم، ومحمد تامر. 200 - الوقف والابتداء، ابن الأنباري، مجمع اللغة العربية، دمشق، 1390 هـ، 1971، ت محيي الدين رمضان.

201 - أحكام القرآن، ابن العربي، دار الكتب العلمية، بيروت. 202 - أدب الإملاء والاستملاء، السمعاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1401 - هـ، 1981 م. 203 - أدب الكاتب، ابن قتيبة، الرسالة، بيروت، ط 2، 1417 هـ، 1999، ت د محمد الدالي. 204 - أساس البلاغة، الزمخشري، دار الفكر، بيروت، 1420 هـ، 2000 م، نسخة مصورة. 205 - أسرار العربية، ابن الأنباري، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1415 هـ، 1995 م، ت فخر صالح قدارة. 206 - أسد الغابة، ابن الأثير، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003 م، ت علي معوض وعادل عبد الموجود. 207 - أطراف الغرائب والأفراد، الدارقطني - تخريج ابن طاهر المقدسي، دار الكتب العلمية، بيروت، ت محمود حسن نصار. 208 - أعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية. 209 - أنيس الفقهاء، القونوي، دار الوفاء، جدة، ط 1، 1406 هـ، ت أحمد الكبيسي. 210 - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، شهاب الدين الدمياطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419 هـ، 1998 م، ت أنس مهرة. 211 - إحياء علوم الدين، الغزالي، دار المعرفة، بيروت. 212 - إرشاد الفحول، الشوكاني، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1412، 1992 م، ت محمد سعيد البدري. 213 - إصلاح المنطق، ابن السكيت، دار المعارف، القاهرة، ط 4، ت أحمد شاكر، عبد السلام هارون. 214 - إصلاح غلط المحدثين، أبو سليمان الخطابي، دار المأمون، دمشق، ط 1، 1407 هـ، ت محمد علي الرديني. 215 - إعراب القرآن، أبو البقاء العكبري، مطبعة عيسى البابي الحلبي، ت علي البجاوي. 216 - إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض، دار الوفاء، المنصورة، ط 3، 1426 هـ، 2005 م، ت يحيى إسماعيل.

217 - إنباه الرواة، القفطي، دار الكتاب العربي، بيروت، ت محمد أبو الفضل إبراهيم. 218 - إيضاح الإشكال، ابن طاهر المقدسي، مكتبة المعلا، الكويت، ط 1، 1408 هـ، ت د باسم الجوابرة. 219 - بحر المذهب، الروياني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 2002 م، ت أحمد عزو عناية. 220 - بدائع الصنائع، الكاساني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1928 م. 221 - بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط 1، 1996 م. 222 - بغية الوعاة، السيوطي، دار الفكر، ت محمد أبو الفضل إبراهيم. 223 - جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398 هـ. 224 - بيان الوهم والإيهام، أبو الحسن بن القطان، دار طيبة، الرياض، ط 1، 1418 هـ، 1997 م، ت الحسين آيت سعيد. 225 - بيان من أخطأ على الشافعي، البيهقي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1402 هـ، ت الشريف نايف النعيس. 226 - تاج العروس، الزبيدي، الكويت. 227 - تاريخ ابن معين "رواية عثمان الدارمي"، يحيى بن معين، دار المأمون للتراث، دمشق، 1400 هـ، ت د أحمد سيف. 228 - تاريخ ابن معين "رواية الدوري"، يحيى بن معين، مركز البحث العلمي، مكة، ط 1، 1399 هـ، 1979 م، ت أحمد محمد سيف. 229 - تاريخ الأمم والملوك، الطبري، دار المعارف، القاهرة، ت محمد أبو الفضل إبراهيم. 230 - تاريخ أسماء الثقات، ابن شاهين، الدار السلفية، الكويت، ط 1، 1404 هـ، 1984 م، ت صبحي السامرائي. 231 - تاريخ أصبهان، أبو نعيم الأصبهاني، مكتبة المعارف، الرياض، 1404 هـ، 1984 م، ت محمود الطحان. 232 - تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت. 233 - تاريخ جرجان، حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، عالم الكتب، بيروت، ط 3، 1401 هـ، 1981، م، ت محمد خان.

234 - تاريخ دمشق، ابن عساكر، دار الفكر، بيروت، 1995 م، ت عمر بن غرامة العمري. 235 - تبصرة الحكام، ابن فرحون، دار الكتب العلمية، بيروت. 236 - تثقيف اللسان وتلقيح الجنان، أبو حفص ابن مكي الصقلي، لجنة إحياء التراث، مصر، 1966 م، ت عبد العزيز مطر. 2237 - تحرير ألفاظ التنبيه، محيي الدين بن شرف النووي، دار القلم، دمشق، ط 1، 1408 هـ، ت عبد الغني الدقر. 238 - تحفة الفقهاء، السمرقندي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 239 - تخريج أحاديث الإحياء، العراقي، مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية. 240 - تذكرة الحفاظ، الذهبي، أم القرى، القاهرة. 241 - ترتيب المدارك، القاضي عياض، دار مكتبة الحياة، بيروت، دار الفكر، ليبيا، ت د أحد بكر محمود. 242 - تغليق التعليق، ابن حجر العسقلاني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1405 هـ، ت سعيد القزقي. 243 - تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم الرازي، المكتبة العصرية، صيدا، ت أسعد محمد الطيب. 244 - تفسير الطبري، محمد بن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت، 1405 هـ. 245 - تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار الفكر، بيروت، 1401 هـ. 246 - تقريب التهذيب، اين حجر العسقلاني، دار الرشيد، حلب، ط 1، 1406 هـ، 1986 م، ت محمد عوامة. 247 - تقييد المهمل، أبو علي الجياني، وزارة الأقاف، المغرب، 1418 هـ، ت محمد أبو الفضل. 248 - تكملة الإكمال، ابن نقطة، جامعة أم القرى، مكة، ط 1، 1410 هـ، ت عبد القيوم. 249 - التلخيص الحبير، ابن حجر العسقلاني، المدينة المنورة، 1384 هـ، 1964 م، ت السيد عبد الله اليماني. 250 - تنقيح التحقيق، ابن عبد الهادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ت أيمن صالح شعبان.

251 - تهذيب الأسماء واللغات، محيى الدين بن شرف النووي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1996 م. 252 - تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1404 هـ، 1984 م. 253 - تهذيب الكمال، المزي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1400 هـ، 1980 م، ت بشار معروف عواد. 254 - تهذيب اللغة، الأزهري، دار إحياء التراث العربى، بيروت، ط 1، 2001 م، ت محمد عوض مرعب. 255 - تهذيب المدونة، البراذعي، ت أحمد فريد المزيدي. 256 - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، أبو منصور الثعالبي، دار المعارف، القاهرة، ط 1، 1965 م، ت محمد أبو الفضل إبراهيم. 257 - جامع العلوم والحكم، ابن رجب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 7، 1417 هـ، ت شعيب الأرناؤوط، وإبراهيم باجس. 258 - جلاء الأفهام، ابن قيم الجوزية، دار العروبة، الكويت، ط 2، 1987، ت عبد القادر وشعيب الأرناؤوط. 259 - جلاء العينين بتخريج روايات البخاري في جزء رفع اليدين، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، تصنيف: بديع الدين شاه السندي. 260 - جمهرة الأمثال، العسكري، دار الفكر بيروت، ت محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش. 261 - جمهرة اللغة، ابن دريد، دار صادر، بيروت، مصورة عن دائرة المعارف ببلدة حيدر آباد سنة 1344 هـ. 262 - جمهرة اللغة، ابن دريد، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1987 م. 263 - حاشية ابن القيم على سنن أبي داود، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1415 هـ، 1995 م. 264 - حاشية الدسوقي، محمد عرفة الدسوقي، دار الفكر، بيروت، ت محمد عليش. 265 - حلية الأولياء، أبو نعيم، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 4، 1405 هـ. 266 - حلية العلماء، القفال، مؤسسة الرسالة، بيروت، عمان، ط 1، 1420 هـ، ت ياسين درادكة.

267 - حياة الحيوان الكبرى، الدميري، دار البشائر، دمشق، ط 1، 1426 هـ - 2005 م، ت إبراهيم صالح. 268 - خزانة الأدب، عبد القادر البغدادي، مكتبة الخانجي، ط 1، 1983 م، ت عبد السلام هارون. 269 - خلاصة الأحكام، محيي الدين بن شرف النووي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1418 هـ، 1997 م، ت حسين الجمل. 270 - خلاصة البدر المنير، ابن الملقن الأنصاري، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1410 هـ، ت حمدي عبد المجيد. 271 - درة الغواص في أوهام الخواص، الحريري، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1418 هـ، 1998 م، ط 1، ت عرفات مطرجي ود رمزي بعلبكي. 272 - دلائل الإعجاز، الجرجاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1415 هـ، 1995 م. 273 - دلائل النبوة، البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2002 م. 274 - ديوان ابن الرومي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1418 هـ، 1998 م، ت أسامة حيدر. 275 - ديوان الأعشى، المطبعة النموذجية، مصر، ت د محمد حسين. 276 - ديوان البحتري، المعارف، مصر، ط 3، ت حسن كامل الصيرفي. 277 - ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1، 1407 هـ، 1987 م، ت د نعمان طه. 278 - ديوان الخنساء، دار صادر، بيروت. 279 - ديوان الراعي النميري وأخباره، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، 1383 هـ، 1964 م، ت ناصر الحاني. 280 - ديوان الشماخ، دار المعارف، مصر، ت صلاح الدين المعادي. 281 - ديوان العجاج، توزيع مكتبة أطلس، دمشق، ت د عبد الحفيظ السطلي. 282 - ديوان الفرزدق، دار صادر، بيروت. 283 - ديوان الكميت، عالم الكتب، بيروت، ط 2، 1997 م، جمع داود سلوم. 284 - ديوان المتنبي بشرح عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1327 هـ، 2006 م، ت د يوسف البقاعي. 285 - ديوان مجنون ليلى، دار مصر للطباعة، جمع وتحقيق عبد الستار أحمد مزاج.

286 - ديوان النابغة الذبياني، دار صعب، بيروت، 1985 م، ت فوزي عطوي. 287 - ديوان النمر بن تولب، دار صادر، بيروت، 2000 م، ت محمد نبيل طريفي. 288 - ديوان النمر بن تولب = شعر النمر بن تولب، صنعة د نوري حمودي القيسي، مطبعة المعارف، بغداد. 289 - ديوان الهذليين، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965 م. 290 - ديوان امرئ القيس، دار المعارف، مصر، ت محمد أبو الفضل إبراهيم. 291 - ديوان أبي العلاء المعري. 292 - ديوان أبي ذؤيب الهذلي. 293 - ديوان أبي زبيد الطائي، ت د نوري حمودي القيسي. 294 - ديوان أبي زهير الفهمي تأبط شرًا، ت علي ذو الفقار شاكر. 295 - ديوان أبي نواس، دار الكتاب العربي، بيروت، ت أحمد عبد المجيد الغزالي. 296 - ديوان أمية بن أبي الصلت، ت د عبد الحفيظ السطلي. 297 - ديوان جرير بشرح الصاوي، دار الأندلس، بيروت. 298 - ديوان جميل بثينة، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1969 م، أحمد أشرف عدرا. 299 - ديوان حاتم الطي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1968 م، شرحه إبراهيم الجزيني. 300 - ديوان حسان بن ثابت، دار صادر، بيروت، 1974 م، ت وليد عرفات. 301 - ديوان حميد بن ثور الهلالي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب سنة 1371 هـ، 1951 م، صنعة: عبد العزيز الميمني. 302 - ديوان خفاف بن ندبة، جمع د نوري القيسي، مطبعة المعارف، بغداد، 1967 م. 303 - ديوان دريد بن الصمة، دار المعارف، مصر، ت د عمر عبد الرسول. 304 - ديوان ذي الرمة، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1417 هـ، 1997 م، ت واضح الصمد. 305 - ديوان رؤبة بن العجاج، مطبعة دوغولين، برلين، 1903 م، ت وليم بن الورد البروسي. 306 - ديوان زهير بن أبي سلمى بشرح أبي العباس ثعلب، دار الكتب المصوية القاهرة، ط 2، 1995 م. 307 - ديوان طرفة بن العبد، مجمع اللغة العربية، دمشق، ت درية الخطيب ولطفي الصقال.

308 - ديوان عروة بن الورد بشرح ابن السكيت، مطبوعات مديرية إحياء التراث القديم، دمشق، ت عبد المعين الملوحي. 309 - ديوان علقمة بن عبدة بشرح الشنتمري، دار الكتاب العربي، حلب، ط 1، 1969 م، ت لطفي الصقال، درية الخطيب. 310 - ديوان علي بن أبي طالب، جمع نديم زرور، دار الكتب العلمية، بيروت. 311 - ديوان عمرو بن أحمر الباهلي، جمع د حسين عطوان، مجمع اللغة العربية بدمشق. 312 - ديوان عبيد بن الأبرص، "عبيد بن الأبرص شعره ومعجمه اللغوي"، مطبعة حكومة الكويت، ط 1، 1409 هـ، 1989 م، ت د توفيق أسعد. 313 - ديوان عمرو بن كلثوم، دار سعد الدين، دمشق، ط 1، 1412 هـ، 1991 م صنعة د علي أبو زيد. 314 - ديوان عنترة. 315 - ديوان كثير عزة، جمع حسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1391 هـ، 1971 م. 316 - ديوان الطرماح، مطبوعات مديرية إحياء التراث القديم، دمشق، 1388 هـ، 1968 م، ت د عزة حسن. 317 - ديوان كعب بن سعد الغنوي. 318 - ديوان لبيد بن ربيعة مع شرحه، الكويت، 1962 م، ت د إحسان عباس. 319 - ديوان الأخطل، دار الثقافة، بيروت، ت إيليا سليم الحاوي. 320 - رجال صحيح البخاري، أبو نصر أحمد بن محمد الكلاباذي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1407 هـ، ت عبد الله الليثي. 321 - رجال صحيح مسلم، ابن منجويه، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1407 هـ، ت عبد الله الليثي. 322 - روضة الطالبين، محيي الدين بن شرف النووي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405 هـ. 323 - روضة الناظر وجنة المناظر، ابن قدامة، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ط 2، 1399 هـ، ت عبد العزيز السعيد. 324 - رياض الأفهام شرح عمدة الأحكام، الفاكهاني، مخطوطة خزانة القرويين. 325 - عيون الأخبار، ابن قتيبة، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1343 هـ، 1925 م. 326 - النوادر في اللغة، أبو زيد الأنصاري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1967.

327 - رياض الصالحين، محيى الدين بن شرف النووي، دار أسامة، عمان، ط 2، 1418 هـ، علي أبو الخير. 328 - زهر الآداب وثمر الألباب، أبو إسحاق القيرواني، دار الجيل، بيروت، ط 5، 1999 م، ت د تركي مبارك. 329 - زوائد الزهد، عبد الله بن أحمد. 330 - سؤالات حمزة السهمي للدارقطني، حمزة بن يوسف، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1404 هـ، 1984 م، ت موفق عبد القادر. 331 - سير أعلام النبلاء، الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 9، 1413 هـ، شعيب الأرناؤوط. 332 - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، ابن مخلوف. 333 - شذرات الذهب، ابن العماد، دار ابن كثير، دمشق، ط 1، 1406 هـ، ت محمود الرناؤوط. 334 - شرح التسهيل، ابن مالك. 335 - شرح الجمل، ابن عصفور الإشبيلي، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1419 هـ - 1999 م، ت د صاحب أبو جناح. 336 - شرح الحماسة، التبريزي، عالم الكتب، بيروت. 337 - شرح الحماسة، المرزوقي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1991 م، نشره أحمد أمين، عبد السلام هارون. 338 - شرح الزركشي على الخرقي، الزركشي، العبيكان، الرياض، ت عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين. 339 - شرح السنة، البغوي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ، 1983 م، ت شعيب الأرناؤوط. 340 - شرح السنة، اللالكائي. 341 - شرح الشافية، الرضي الإستراباذي، دار الكتب العلمية، بيروت، ت محمد نور، محمد يحيى عبد الحميد. 342 - شرح الشَّنْتَمَري على ديوان طرفة، الشنتمري. 343 - شرح العمدة في الفقه، ابن تيمية، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1، 1413 هـ. 344 - شرح الكافية، الرضي الإستراباذي، جامعة قاريونس، 1398 هـ - 1978 م، ت يوسف حسن عمر.

345 - شرح الكافية الشافية، ابن مالك، دار المأمون للتراث، دمشق، ت د عبد المنعم هريدي. 346 - شرح الكوكب المنير، ابن النجار، مطبعة السنة المحمدية. 347 - شرح المفصل، ابن يعيش، مكتبة المتنبي، القاهرة. 348 - شرح المقنع، ابن أبي عمر، دار الكتاب العربي، بيروت. 349 - شرح أبيات مغني اللبيب، عبد القادر البغدادي، دار المأمون، دمشق، ت عبد العزيز رباح. 350 - شرح أدب الكاتب، ابن السيد، دار الجيل، بيروت. 351 - شرح علل الترمذي، ابن رجب، مكتبة المنارة الزرقاء، ط 1، 1407 هـ، ت همام سعيد. 352 - شرح عمدة الأحكام، ابن دقيق العيد، دار الكتب العلمية، بيروت. 353 - شرح فتح القدير، دار الفكر، بيروت. 354 - شرح مختصر ابن الحاجب، محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني، جامعة أم القرى، مكة، ت محمد مظهر بقا. 355 - شرح مختصر ابن الحاجب، البابرتي، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1426 هـ، 2005 م، ت د ضيف الله العمري ود ترحيب الدوسري. 356 - المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، محيي الدين بن شرف النووي، دار إحياء التراث، بيروت، ط 2، 1392 هـ. 357 - شرح مشكاة المصابيح، الطيبي، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي. 358 - شرح معاني الآثار، الطحاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1399 هـ، ت محمد زهري البخار. 359 - شروط الأئمة، ابن طاهر المقدسي. 360 - شعب الإيمان، البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 هـ، ت محمد زغلول. 361 - شعر الخوارج، جمع إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1974 م. 362 - شعر هدبة بن الخشرم العذري، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1976 م، جمع وتحقيق د يحيى الجبوري. 363 - شواهد التوضيح، ابن مالك، دار الكتب العلمية، بيروت، ت محمد فؤاد عبد الباقي.

364 - صحيح ابن حبان، الرسالة، بيروت، ط 2، 1414، 1993 م، ت شعيب الأرناؤوط. 365 - صحيح ابن خزيمة، المكتب الإسلامي، بيروت، 1390 هـ، 19750 م، ت محمد مصطفى الأعظمي. 366 - صحيح البخاري، دار ابن كثير، بيروت، ط 3، 1987 هـ، ت مصطفى البغا. 367 - صحيح مسلم، دار إحياء التراث، بيروت، ت محمد فؤاد عبد الباقي. 368 - صفة الصفوة، ابن الجوزي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1399 هـ، 1979 م، ت محمد قلعه جي ومحمود فاخوري. 369 - صيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1408 هـ، ت موفق عبد القادر. 370 - طبقات الحفاظ، السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ. 371 - طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى، دار المعرفة، بيروت، ت محمد حامد الفقي. 372 - طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1407 هـ، ت د الحافظ خان. 373 - طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، دار هجر، القاهرة، ط 2، 1413 هـ، ت د محمود الطناحي ود عبد الفتاح الحلو. 374 - طبقات الفقهاء، الشيرازي، دار القلم، بيروت، ت خليل الميس. 375 - طبقات المحدثين بأصبهان، أبو الشيخ الأصبهاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1412 هـ، 1992 م، ت عبد الغفور البلوشي. 376 - طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي، دار المدني، جدة، قرأه وشرحه محمود شاكر. 377 - طرح التثريب، العراقي، دار إحياء الكتب العربية، بيروت. 378 - عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، ابن العربي المالكي، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1415 هـ، 1995 م، ت هشام البخاري. 379 - عقود الزبرجد، السيوطي. 380 - عمدة القاري، العيني، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 381 - عمل اليوم والليلة، النسائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1406 هـ، ت فاروق حمادة.

382 - غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، السفاريني، مؤسسة قرطبة. 383 - غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة، رشيد الدين ابن العطار، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 1، 1417 هـ، ت محمد خرشافي. 384 - غريب الحديث، الخطابي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1402 هـ، ت عبد الكريم الغرباوي. 385 - غريب الحديث، أبو عبيد، دار الكتب العربي، بيروت، ط 1، 1366، ت محمد عبد المعيد. 386 - فتاوى ابن الصلاح، مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1407 هـ، ت موفق عبد القادر. 387 - فتح الباري، ابن حجر، دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ، ت محمد فؤاد عبد الباقي، محب الدين الخطيب. 388 - فتح العزيز شرح الوجيز، الرافعي، دار الفكر، بيروت. 389 - فتح المغيث، السخاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ. 390 - فتح الوهاب، زكريا الأنصاري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ. 391 - فضائل الصحابة، عبد الله بن أحمد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 14703 هـ، 1983 م، ت وصي الله عباس. 392 - فضائل الكتاب الجامع، الإسعردي، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1409، ت صبحي السامرائي. 393 - فيض القدير، المناوي، المكتبة البخارية، مصر، ط 1، 1356 هـ. 394 - قواطع الأدلة في الأصول، أبو المظفر السمعاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1997 م، ت محمد حسن إسماعيل. 395 - قواعد الأحكام، العز بن عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت. 396 - كشف الخفاء، العجلوني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 4، 1405، ت أحمد القلاش. 397 - كشف الظنون، حاجي خليفة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413 هـ - 1992 م. 398 - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام، السفاريني، دار النوادر، دمشق، ط 1، 1428 هـ، 2007 م، ت نور الدين طالب.

399 - لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط 1. 400 - لسان الميزان، ابن حجر، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 3، 1406 هـ - 1986 م. 401 - ليس في كلام العرب، ابن خالويه، مكة المكرمة، 1979 م، ت عبد الغفور عطار. 402 - مجالس ثعلب، أبو العباس ثعلب، دار المعارف، ط 5، ت عبد السلام هارون. 403 - مجمع الأمثال، الميداني، دار المعرفة، بيروت، ت محيي الدين عبد الحميد. 404 - مجمع الزوائد، الهيثمي، دار الريان للتراث، القاهرة، 1407 هـ. 405 - مجموع الفتاوى، ابن تيمية، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، 1393 هـ - 1973 م، ت محمد حامد الفقي. 406 - محاضرات الأدباء، الراغب الأصفهاني، انتشارات المكتبة الحيدرية. 407 - مختصر الخرقي، أبو القاسم الخرقي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1402 هـ، ت زهير الشاويش. 408 - مختصر السنن، المنذري. 409 - مختصر الطحاوي، دار الكتاب الغربي، القاهرة، 1370 هـ، ت أبو الوفاء الأفغاني. 410 - مختصر المزني، المزني، دار المعرفة، بيروت. 411 - مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، ت محمد حامد الفقي. 412 - مروج الذهب، المسعودي، دار الكتب العلمية، بيروت، ت د مفيد قميحة. 413 - مسائل الإمام أحمد، عبد الله بن أحمد، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1408 هـ، 1988 م، ت زهير الشاويش. 414 - مسند الشاميين، الطبراني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1405 هـ، 1984 م، ت حمدي عبد المجيد. 415 - مسند الشهاب، القضاعي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1407 هـ، 1986 م، ت حمدي عبد المجيد.

416 - مسند الفردوس، الديلمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406 هـ، 1986 م، ت سعيد زعلول. 417 - مشارق الأنوار، القاضي عياض، المكتبة العتيقة. 418 - مشتبه النسبة في الخط واختلافها في المعنى واللفظ، عبد الغني المقدسي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ت محيي الدين الجعفري. 419 - مصباح الزجاجة، البوصيري، دار العربية، بيروت، ط 2، 1403 هـ. 420 - معالم السنن، الخطابي، المطبعة العلمية، حلب، ط 1، 1352 هـ، 1933 م، ت محمد راغب الطباخ. 421 - معاني القرآن، الزجاج، دار الحديث، القاهرة، ط 2، 1418 هـ، 1997 م، ت عبد الجليل شلبي. 422 - معجم الأدباء، ياقوت. 423 - معجم البلدان، ياقوت، دار الفكر، بيروت. 424 - معجم الصحابة، ابن قانع، مكتبة الغرباء، المدينة النبوية، ط 1، 1418 هـ، ت صلاح سالم. 425 - معجم المؤلفين، كحالة، مكتبة المثنى، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 426 - معجم المطبوعات العربية والمعربة، يوسف سركيس، منشورات مكتبة آية العظمى المرعشي النجفي. 427 - معجم ما استعجم، أبو عبيد البكري، عالم الكتب، بيروت، ط 3، 1403 هـ، ت مصطفى السقا. 428 - معجم مصنفات الحنابلة، د عبد الله الطريقي، ط 1، 1422 هـ، 2001 م. 429 - معرفة الثقات، أحمد بن عبد الله العجلي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط 1، 1405 هـ، 1985 م، ت عبد العليم البستوي. 430 - معرفة السنن والآثار، البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت ت سيد كروي حسن. 431 - معرفة علوم الحديث، الحاكم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1397 هـ، ت السيد معظم حسين. 432 - مغني اللبيب، ابن هشام، دار الفكر، دمشق، ط 6، 1985 م، ت مازن المبارك ومحمد علي حمد الله. 433 - مغني المحتاج، الخطيب الشربيني، دار الفكر، بيروت.

434 - مفردات ألفاظ القرآن، الراغب، دار القلم، دمشق، ط 3، 1423، 2002 م، ت صفوان داوودي. 435 - مناقب الإمام أحمد، ابن الجوزي، دار الآفاق الجديدة، ط 3، 1402 هـ، 1982 م. 436 - منح الجليل شرح مختصر خليل، الشيخ عليش، دار الفكر، ببروت. 437 - منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، مؤسسة قرطبة، ط 1، 1406 هـ، ت د محمد رشاد سالم. 438 - مواهب الجليل، الحطاب، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1398 هـ. 439 - موضح أوهام الجمع والتفريق، الخطيب البغدادي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1407 هـ، ت عبد المعطي قلعه جي، علي معوض، عادل عبد الموجود. 440 - ميزان الاعتدال، الذهبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1995 م. 441 - نزهة الألباب في الألقاب، ابن حجر العسقلاني، مكتبة الرشد، الرياض، 1989 م، ت عبد العزيز السديري. 442 - نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، ابن حجر، دار الخير، دمشق، ط 2، 1414 هـ، 1993 م، ت د نور الدين عتر. 443 - نصب الراية، الزيلعي، دار الحديث، القاهرة، 1357 هـ، ت محمد يوسف النوري. 444 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن المقري التلمساني، دار صادر، بيروت، 1997 م، ت إحسان عباس. 445 - هدية العارفين، البغدادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 446 - وفيات الأعيان، ابن خلكان، دار صادر، بيروت، 1994 م، ت إحسان عباس. 447 - يتيمة الدهر، الثعالبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1983 م، ت د مفيد قميحة.

§1/1