شرح الأربعين النووية لعطية سالم

عطية سالم

الحديث الأول [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الأول [1]

مقدمة عن مؤلف الأربعين النووية وسبب تأليفها

مقدمة عن مؤلف الأربعين النووية وسبب تأليفها بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق على صحته، رواه البخاري ومسلم] . فهذا أول حديث في مجموع النووي رحمه الله، المسمى بالأربعين النووية، والنووي رحمه الله يتفق علماء الرجال ويتفق المحدثون والفقهاء من بعده: على أنه إمام جليل، زاهد ورع، فقيه محدث، وهو محل اتفاق على جلالته وفضله في العلم، وله مصنفات عديدة وكلها نفع الله بها طلبة العلم، سواءً في الفقه كالمجموع شرح المهذب، ولا أعتقد أنه توجد موسوعة فقهية تضاهي هذا الكتاب، اللهم إلا إن كان المغني لـ ابن قدامة عند الحنابلة. وله أيضاً كتاب روضة الطالبين في الفقه الشافعي، وله شرح مسلم، وله رياض الصالحين من أحاديث خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وكلها بحق مراجع في بابها. وهذا الكتاب الذي اشتهر عند الناس بالأربعين النووية، نسبة إلى مؤلفه الإمام النووي، الذي ينسب إلى نَوى، وهي منطقة تتبع الجولان من أعمال دمشق، ونشأ بها، ثم تعلم في دمشق أي في الجامع الأموي، ورحل إلى عدة أقطار وتعلم، ونفع الله سبحانه وتعالى به وبمؤلفاته.

سبب تسمية الأربعين النووية

سبب تسمية الأربعين النووية وأصل كتابه هذا الأربعين النووية، يقول بعض العلماء: إن كثيراً من العلماء قد ألفوا في الأربعينيات، فمنهم من يجمع أربعين حديثاً في موضوع واحد، كفضائل العلم، ومنهم من يجمع في فضائل البلدان، أو في المسلسلات أو في غير ذلك. وأما سبب التحديد بهذا العدد فقد ورد حديث ضعفه البعض، ولكنهم عملوا به في فضائل الأعمال: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً على أمتي من أمور الدين أدخله الله الجنة، أو جعله الله من المتقين) ، ورتب صلى الله عليه وسلم جزاءً على من جمع أربعين حديثاً من أمور الدين. قالوا: وإن كان ضعيفاً إلا أن كثيراً من العلماء جمعوا أربعينات في مواضيع مختلفة، وأصل الأربعين النووية كما ذكر ابن رجب في مقدمة شرحه: أن ابن الصلاح وهو من أجل علماء الحديث في الشام، جلس في يومٍ مجلساً ليملي أحاديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، فأملى ستةً وعشرين حديثاً في مجلسه ذاك، فجاء النووي رحمه الله وأخذ هذه الستة والعشرين وأضاف إليها ما أكمل الأربعين، وبالتحديد اثنين وأربعين حديثاً، انتخب فيها الأحاديث الجامعة التي تعد كأصل أصيل في الإسلام. وبعضها يقول عنه بعض العلماء: ربع التشريع، أو ربع الدين، أو ثلث الدين، هناك أحاديث عامة كما جاء عن أحمد رحمه الله: أن ثلاثة أحاديث تدور عليها الشريعة كلها: حديث عمر بن الخطاب: (إنما الأعمال بالنيات) ، وحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وحديث: (إن الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك المتشابهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) . ويقول أحمد لأن الأعمال كلها لا تقبل إلا بنياتها، والأعمال الفرعية لابد أن تكون مطابقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحديث الثاني، والثالث: أن الأعمال منها ما هو بين حلال، ومنها ما هو بين حرام وبينهما المشتبهات، وجميع أحكام الفقه هكذا: إما حلال بين وإما حرام بين، وإما مشتبه بينهما، ليس هناك قسم رابع، (فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه) فيقول أحمد رحمه الله: لم يخرج حكم تشريعي عن هذه الأحاديث الثلاثة. ويروون عن أبي داود رحمه الله أنه يقول: جمعت أربعمائة ألف حديث، ووجدتها تدور على أربعة أحاديث، وذكرها ابن رجب في مقدمته، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تعتبر قواعد عامة، وأخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم) ، فهو صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم والحكم؛ لأنه يجمع المعنى الكبير جداً في كلمتين، كما في هذا الحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، فلو جئت بجميع أعمال المكلفين في الطهارة أو الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج. إلخ، فقسه على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن كان موافقاً لما جاء فيها فبها ونعمت، وإلا فهو مردود، ويشهد له قوله سبحانه، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . والشافعي رحمه الله كان له بحث أو له جمع آية وحديث، يقول: إن جميع الأحاديث النبوية لها أصل يشير إليه في كتاب الله، ولكن ما كل إنسان يجد هذا. يهمنا أن العلماء جمعوا أربعينات في مسائل مختلفة، وكان ممن جمع فيها النووي رحمه الله، وكان جمعه في جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وقد جمعت هذه الأربعين دون أن يلاحظ فيها التناسق بين الأحاديث، والمهم أنها موجودة في هذا المجموع لو استوعبها إنسان لكأنما استوعب جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.

ما استدركه بعض العلماء على الإمام النووي

ما استدركه بعض العلماء على الإمام النووي ويورد عليه بعض العلماء مما ترك من الأحاديث التي تعتبر الأم في بابها قالوا: ترك حديثاً في الفرائض هو أصل للفرائض (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى ذكر وارث) . وقد اتفق علماء الفرائض أن هذا الحديث أصل في باب الميراث، والاتفاق على أن الإرث يكون بالفرض والتعصيب، إذاً: ألحقوا الفرائض على ما جاء في كتاب الله، فإن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، وبين ميراث الزوجين عند وجود الولد وعدمه، وبين حق الذكر مع الأنثى في الأولاد والأخوة والأخوات، وبين حق الأم والأب إذا كان هناك أولاد أو ليس هناك أولاد، وبين ميراث الجميع، وما بقي فلذوي العصبات، (لأولى رجل ذكر) . فيقولون: إنه لم يذكره وكان من حقه أن يذكره مع هذه الأحاديث، ولذا جاء ابن رجب رحمه الله وأخذ الأربعين أو الاثنين والأربعين وأضاف إليها ثمانية حتى كملت الخمسين حديثاً وأدخل فيها هذا الحديث، وما شاكله مثل: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا أيضاً أصل في بابه، فلم يفصل في ذكر المحرمات وأحال ذلك إلى ما ذكر من المحرمات من النساء في القرآن. ومهما يكن من شيء فلا يمكن لأي إنسان أن يدعي لنفسه الكمال، والنووي بنفسه في هذا المجموع ما قال: جمعت كل شيء، إنما جمع ما وقع عليه اختياره في هذا الباب. وهذا الحديث الذي بدأ به هذا المجموع المبارك يتفق العلماء على أنه أصل من أصول الدين، وعلى أنه ثلث أو ربع أو خمس الدين، ويتفق العلماء أيضاً على أن هذا الحديث يدخل في كل باب من أبواب الفقه، ولذا جاء عن بعض السلف أنه قال: لقد بدأ البخاري كتابه بهذا الحديث تنبيهاً على وجوب إخلاص النية في العمل لله، ولو ألفت كتاباً لجعلت مقدمة كل باب: (إنما الأعمال بالنيات) نأتي إلى هذا الحديث وإلى منطوقه ومضمونه وما يتناوله بقدر المستطاع إن شاء الله. يروي النووي رحمه الله هذا الحديث عن عمر مباشرة، وقد أشار في مقدمته أنه التزم أمرين: - حذف السند ليسهل الحفظ. - وصحة الحديث لنطمئن إليه، فلا يوجد في الأربعين النووية حديث ضعيف.

تلقيب عمر بن الخطاب بأبي حفص والفاروق

تلقيب عمر بن الخطاب بأبي حفص والفاروق وفي بداية الحديث عن هذا الإيراد لعلنا نتساءل عن هذه الألقاب والكنى والأسماء، أمير المؤمنين أبو حفص الفاروق عمر يبين علماء اللغة: أن العلم اسم يعين المسمى مطلقاً كما قال ابن مالك في الألفية، ثم بين أنه يأتي كنية وعلماً واسماً ولقباً، والعلم هو ما يعين مسماه بدون قرينة، وسمي الاسم اسماً لأنه وسم أي: علامة على صاحبه، وأصل الوسم العلامة للإبل ونحوها، وهو مأخوذ أيضاً من السمو وهو العلو، ومنه السماء، سما يسمو سمواً، لكأن الاسم سمة علت على صاحبها فميزته عن غيره. والكنية ما صدرت بأب أو بأم كأبي حفص وأبو بكر، واللقب ما أشعر بمدح كالفاروق وذي النورين أو بذم. السؤال هنا: ما هو سبب هذه الألقاب التي لقب بها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؟ أما أمير المؤمنين فيقولون: إنه في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانوا يقولون لـ أبي بكر خليفة رسول الله، فلما جاء عمر كانوا يقولون: خليفة خليفة رسول الله، وطال الأمر فقالوا: جاء وافد من العراق يسأل أين أميركم؟ قالوا: من أميرنا؟ قال: عمر، قالوا: جئت بها، فسموه أمير المؤمنين، وقالوا: إنه هو الذي قال: أنتم المؤمنين وأنا أميركم فأنا أمير المؤمنين، يهمنا أنه لقب جاءه بعد توليه الخلافة. أبو حفص الحفص: الأسد قالوا: كني أبو حفص عمر بذلك لشجاعته وقوته وخفته، ويذكرون عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يمسك أذن الفرس بيد ويثب على ظهر الفرس، دون أن يعتمد على شيء، وذلك لنشاطه وخفته، وهذا القصد والوثب من سمات الأسد والنمر، فلقب أبو حفص لهذه الصفة كما يقولون. أما الفاروق فقد لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لقب خالداً بسيف الله، ويذكرون ذلك في قصة إسلامه وأنه كان أشد الناس على المسلمين إيذاء، وفي يوم أخذ سيفاً، ومضى يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتله، فلقيه رجل وقال: أين يا عمر؟ قال: أريد قتل محمد. قال: هل ترى بني هاشم تاركيك؟ فقال له عمر: صبأت، قال: أدلك على أعجب من ذلك، أختك وزوجها أسلما. فبدل أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت أخته، وكان عندها وعند زوجها خباب بن الأرت يقرئهما القرآن ويخفيان إسلامهما، فلما جاء عمر وسمع خباب صوته اختفى داخل البيت، ودخل عمر إلى البيت فقال لأخته وزوجها: ما هذه الهمهمة التي سمعتها، قال له زوج أخته: ما هو إلا حديث بيننا -وكانا يقرءان سورة طه-، فعدا على زوج أخته، فقامت أخته تدافع عن زوجها فلطمها فأدماها، فلما رأى الدم من أخته أسف على ذلك. ثم قالت له أخته: رغم أنفك يا عمر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقال: أريني الصحيفة التي كنتما تقرآنها، قالت: لا. إنك رجس وهذا كتاب الله، اذهب فاغتسل، فذهب ثم جاء وأخذ الصحيفة وقرأ ما فيها ثم قال: أين محمد الآن؟ فلما سمع خباب قول عمر نادى وخرج وقال: أبشر يا عمر! لعل دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخميس أصابتك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم أعز الإسلام بـ عمر بن الخطاب أو بـ عمرو بن هشام) قال: أين محمد الآن؟ قال: في الدار التي بأعلى الصفا. فذهب عمر رضي الله تعالى عنه فوجد حمزة على الباب رضي الله تعالى عنه ومعه رجال، فلما رآه حمزة قال: لقد جاء عمر إن كان أراد الله له خيراً فالحمد لله، وإلا فقتله يسير علينا، فلما طرق الباب وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته خرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسك بتلابيبه وبحمالة سيفه وقال: أما آن لك أن تسلم يا عمر!! قبل أن يخزيك الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم جلسوا في الدار فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق أحياءً وأمواتا؟ قال: والذي نفسي بيده إننا على الحق أحياءً وأمواتاً، قال: فلماذا نجلس هنا أفلا نعلنها، وخرج عمر وخرج رسول الله في صفين على أحدهما عمر وعلى الآخر حمزة وذهبا إلى البيت وطافا بالبيت، فساءت وجوه قريش، وقالوا: الآن انتصف المسلمون منا. فحينئذٍ سماه الرسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق، كأنه فرق في ذلك اليوم بين الخفاء بالدعوة وبين ظهورها، أو بين المسلمين والمشركين، حيث تميزت جماعة المسلمين حينما دخل عمر في الإسلام وكان ابن مسعود يقول: (إسلام عمر فتح، وهجرته نصر، وخلافته رحمة) من هنا سمي الفاروق، وذلك كما سمى الله سبحانه وتعالى يوم بدر يوم الفرقان؛ لأنه يوم فرق الله فيه بين قوة الشرك الطاغية وبين قوة الإسلام الداعية إلى الله.

شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)

شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات) نأتي إلى حديث النية منطوقه ومضمونه وما يتناوله بقدر المستطاع إن شاء الله: أولاً: من حيث اللفظ (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأة ما نوى) هاتان جملتان متقاربتان لفظاً مختلفتان مضموناً. كلمة (إنما) تعتبر عند علماء اللغة أداة قصر، ومعنى القصر أو الحصر هو أن تقصر المبتدأ على الخبر، ومن أساليب القصر النفي والإثبات (ما وإلا) مثل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144] ، وكذلك تقديم ما حقه التأخير مثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فأصلها (نعبدك ونستعينك) ولكن تقديم المعمول يدل على أنه محصور على ما بعده، فالمعنى: (إياك وحدك نعبد) فقصر العبادة على مرجع الضمير المتقدم هنا (إياك) وكان أصله ضمير وصل وهو الكاف: (نعبدك) فلما فصل جيء بـ (إيا) فصار (إياك) لأنه لا ينطق بالكاف وحده، فصارت الجملة هكذا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لا نعبد غيرك ولا نستعين بغيرك. ومن أساليب الحصر أيضاً: تعريف كل من المبتدأ والخبر كقوله: (الكاتب زيد) فزيد معرفة والكاتب عرف بأل، والمعنى أنه لا كاتب إلا زيد، وكقول البعض: الشاعر شوقي أو الشاعر المتنبي فقصر الشعر على المتنبي كأن غيره لا يذكر معه، فتعريف الطرفين، وتقديم ما حقه التأخير، والنفي والإثبات، و (إنما) كلها أساليب قصر، وأم الباب هي (إنما) {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ} [الرعد:7] فكلمة (إنما) هي أداة حصر وحدها. وهنا (الأعمال) هي المحصور والمقصور على النية، فجميع الأعمال مقصورة ومحصورة ومتعلقة بالنية.

هل تدخل النية في جميع الأعمال

هل تدخل النية في جميع الأعمال وهنا (الأعمال) معرف بأل فيشمل جميع الأعمال، ومن هنا قال جمهور العلماء: كل عمل لابد أن يتعلق بالنية. بعض العلماء يقول: هذا العام مخصوص خرج منه ما لا يحتاج إلى نية، كالأمور التي ليست مقصودة للتعبد، كالأمور الجبلية، كالأكل والشرب والنوم واللبس، فهذه أمور جبلية لا تحتاج إلى نية، وتحصل بدون النية، فإذا أكلت شبعت ولو ما نويت الشبع، وإذا لبست سترت وإن لم ترد الستر. ويقول الآخرون: الحديث على عمومه ولا يخرج منه شيء، حتى الأمور الجبلية داخلة في هذا الحديث؛ لأنك إذا أكلت لتشبع شكراً لله على النعمة، أو لتتقوى على طاعة الله، فإن نيتك في الأمور العادية تحولها إلى عبادة، فإذا لبست تنوي الستر كان لك أجر، وإذا لبست تنوي الفخر والخيلاء كان عليك وزر، إذاً: ما خرج من هذا الحديث شيء. ويقول آخرون: إذا كانت عندك أمانة أو وديعة أو عليك دين، فعندما ترد الوديعة لمودعها، وتؤدي الأمانة لصاحبها، وتقضي الدين، فهذه الأمور لا تحتاج إلى نية، والآخرون يقولون: بل النية تدخل هنا أيضاً، فإن كنت تريد أن تأكل الأمانة، أو أن تجحد الوديعة، أو ألا ترد الدين، وجاء الحاكم وأخذها منك قهراً ليوصل الحق لصاحبه، فأنت أثمت بنية الخيانة أو الغدر، وإذا دفعتها إليه عملاً بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] كان لك أجر بنية الوفاء امتثالاً لأمر الله. وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تستدين، فقالوا لها: لماذا تستدينين وقد تكونين في غنى عن الاستدانة؟ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استدان وهو ينوي السداد كان الله في عونه حتى يسدد دينه) . إذاً: النية لها دخل حتى في العادات، فإذا كان الإنسان يريد عملاً ما من أمور الدنيا أو أمور الآخرة فله من الجزاء بحسب نيته، مثل إنسان بنى بيتاً يستتر فيه ويأوي إليه عياله، ويتركه لعياله من بعده فله أجر على هذا العمل، ألا ترون الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة يضعها في فيَّ امرأته فله بها أجر) ، وقال: (أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: أرأيت لو وضعتها في حرام أليس عليك وزر) . إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال) عامة لا يخرج من ذلك عمل قط.

كلام العلماء على نية القصد

كلام العلماء على نية القصد والنية في الأعمال على قسمين: - نية بالقصد. - ونية للتعيين والتمييز. النية التي للقصد، تكون في الأعمال الأخروية التي قد يدخلها الرياء والسمعة، وقد يدخلها مصلحة أخرى، فهذه الأعمال أجرها متعلق بالنية الخالصة لوجه الله. أما المميزة فتأتي في الصلاة والصيام، وهي التي يهتم بها علماء الفقه. وقد جاء في نية القصد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله الرجل يقاتل حمية، الرجل يقاتل ليرى مكانه، الرجل يقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، فالنية نية القصد أي: ماذا قصد بقتاله؟ ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وسمع أن ثقيفاً اجتمعت له وأراد أن يخرج إليهم، فأراد أن يخرج مسلمة الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتاجوا إلى دروع وإلى سيوف وإلى عتاد، فأرسل إلى صفوان وكان على دين قومه -لم يسلم بعد- يطلب منه أن يعيره أدرعاً، قال: غصباً أم عارية؟ قال: بل عارية مؤداه أو قال: مضمونة، وجاء صفوان بنفسه وهو على دين قومه، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، وحينما فوجئ المسلمون بهوازن ترشقهم بالنبال كالجراد رجع من رجع من المسلمين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وقال قائل: هؤلاء أصحاب محمد لا يردهم إلا البحر، فقال صفوان: والله لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن، وإنما قال ذلك حمية لقريش لا غير. وهكذا الأعمال التي يقصد بها وجه الله فالنية فيها بمعنى القصد {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، ولهذا جاء في الحديث أنه سبحانه وتعالى يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً وأشرك معي فيه غيري تركته وشركه) ويؤتى يوم القيامة وينادى من عمل عملاً يرائي به غير الله فليطلب جزاءه ممن كان يرائي، والأحاديث في هذا كثيرة.

طروء الرياء وإحباط أجر العمل

طروء الرياء وإحباط أجر العمل ويبحث العلماء في مسألة: إذا دخل الرياء عملاً أصله لوجه الله ولكن طرأ عليه مقصد جانبي، فهل يبطل هذا العمل لقوله: (تركته وشركه) ، أو أنه يبطل منه بالقدر الذي دخل فيه الرياء؟ نعلم جميعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من الرياء وقال عنه إنه الشرك الخفي، والرياء: أن ترائي بعملك فتعمل بقصد أن يذكرك الناس، أو يمدحوك، ولذا قيل في الذي يجاهد حمية: (يأتي يوم القيامة فيذكره الله تعالى بنعمه عليه فيذكرها، فيقول له: فما صنعت فيها؟ فيقول: خرجت بمالي وبنفسي وجاهدت في سبيل الله، فيقول: كذبت! خرجت ليقال فلان شجاع، وقد قيل، ويؤتى بالعالم فيعرفه الله نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا فعلت بها؟ فيقول: تعلمت وعلمت ليعلم دينك، فيقول: كذبت! إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل) ولهذا يقول الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله: من تعلم العلم ليماري به العلماء أو يجاري السفهاء أو يلفت أنظار الناس إليه فالنار فالنار، ويقول ابن عبد البر: من تعلم ليماري العلماء فقد قسا قلبه، أي: ضاع عن التحصيل؛ لأنه لم يرد بتعلمه وجه الله، وهذا مما يوقف طلبة العلم على أحرج المواقف، لأن الشهرة أمرها خطير، ولأن طلب الرياء عند الناس أخطر، فليتق الله كل طالب في نفسه وفي علمه وليرجُ وجه الله فيما علم وفيما علَّم، سواء استفاد منه الناس أم لا. وفيما يتعلق بالرياء هل هو يحبط جميع الأعمال أو العمل الذي راءى فيه، وإذا قصد بعمله وجهاً سوى وجه الله، هل يكون له في ذلك حض؛ كمن حج ليتجر، وكمن قاتل ليغنم مع إعلاء كلمة الله. يقول العلماء: إن كان القصد الأول هو وجه الله وما جاء من غيره فإنما هو تبع، فلا شيء في ذلك، والمسلمون كانوا يخرجون ويقاتلون وكانوا يغنمون، ولا يؤثر ذلك على قصدهم في إعلاء كلمة الله. وبعضهم يقول: إن قاتلوا وغنموا فقد فاتهم ثلثا أجر الغزاة، وإن قاتلوا ولم يغنموا فلهم أجر الغزاة كاملة. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغزو ويقاتل ويغنم، ويأخذ من الغنيمة خمسها ويقسم على أصحابه، ولا يؤثر ذلك؛ لأن القصد الأول إنما هو إعلاء كلمة الله. ولذا كان مالك رحمه الله يكره النفل أي: تنفيل الإمام أو القائد للغزاة في أول الأمر في ذهابهم، والنفل هو أن يقول القائد: من قتل مشركاً فله سلبه، يقول مالك: الأولى ترك هذا في الذهاب مخافة أن يذهب هذا المسلم لا لإعلاء كلمة الله ولكن لقتل المشرك ليأخذ السلب، فكرهه حتى لا تغلب المادية على نيته وعلى قصده، أما في العودة فلا مانع؛ لأنهم قد تحدد القصد عندهم وانقضى، فلا تأثير هنا على القصد. وجاء في الحديث (يخرج جيش يريد الكعبة فيخسف الله بهم الأرض، قالت عائشة: يا رسول الله!! يكون فيهم السوقة وغيرهم فما ذنبهم؟ قال: يخسف بهم جميعاً ويبعثون على نياتهم) ، فبعضهم نيتهم هدم البيت، وبعضهم لا قصد لهم، ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، إنما صحبوا ذلك الجيش ليبيعوا ويشتروا ويربحوا، فيبعث كل واحد منهم على نيته. وهكذا نية القصد تأتي في الأعمال التي يراد بها وجه الله، فهذا الذي حج ويتجر إن كان خروجه للحج، وإنما يتجر ليستعين على نفقة الحج، فلا مانع من ذلك؛ لأن القصد هو الحج والاتجار إنما هو وسيلة وليس بغاية، أما إذا كانت غايته التجارة والحج جاء تبعاً فهذا بقدر جزئية النية في الحج يكون له أجر، وهكذا في جميع الأعمال. وهذا يتكلم فيه علماء العقائد وعلماء التوجيه والتربية.

كلام العلماء على نية التعيين والتمييز

كلام العلماء على نية التعيين والتمييز القسم الثاني من النيات: وهي نية التمييز والتعيين، يقول الفقهاء في قوله: (إنما الأعمال بالنيات) : إن العمل قد يقع ولو لم توجد نية، فالصلاة استقبال وقيام وركوع وسجود إلى آخره، فلو أن إنساناً استقبل القبلة وكبر ووضع يديه وركع ورفع وسجد وسلم، فقد أتى بالصلاة وحصَّل العمل، لكن النية غير موجودة، قالوا: فإن كان في الفريضة فلا تصح فريضة إلا بالنية، وهل تنقلب هذه الصلاة نافلة وتصح أم أنها باطلة؟ خلاف بين العلماء. ومثل آخر: سنة الفجر ركعتان، والفريضة ركعتان، فالذي يميز بين ركعتي الفريضة وركعتي النافلة هو النية، فإذا نوى بالركعتين الأوليين النافلة، ونوى بالركعتين الأخريين الفريضة فقد ميز بين الصلاتين بالنية. ومثال آخر في باب الطهارة: إنسان في شدة الحر انغمس في بركة أو في حوض، أو دخل تحت الدش يتبرد من الحرارة، وأراد أن يصلي، فلابد له أن يتوضأ؛ لأن نيته ليست لاستباحة الدخول في الصلاة، إنما اغتسل للتبرد. والخلاف في هذا بين أبي حنيفة رحمه الله والجمهور؛ فالجمهور يقولون: إن النية تكون في الأعمال الأساسية التي هي المقصد، أما الوسائل فلا تحتاج إلى نية، فإذا لبست ثيابك من أجل أن تستر عورتك للصلاة لم تحتج إلى تنوي عند اللبس أن تستر العورة لأجل الصلاة؛ لأن ستر العورة شرط لصحة الصلاة وليس غاية. فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الوضوء أيضاً ليس غاية بذاته وإنما هو شرط لصحة الصلاة، فإذا توضأت للتبرد لا بنية استباحة الصلاة وصليت بهذا الوضوء؛ صحت صلاتك بهذا الوضوء كما صحت صلاتك بذلك الثوب. والجمهور يقولون: الوضوء بذاته عباده وليس هو مجرد شرط للصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الصحيح: (إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت ذنوبه من فيه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل وجهه خرجت ذنوب وجهه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل قدميه خرجت ذنوبه مع آخر قطر الماء، ويخرج من الوضوء لا ذنب له، وكانت خطواته إلى المسجد وصلاته نافلة له) ؛ قال الجمهور: فالوضوء بذاته عبادة؛ لأنه يكفر الذنوب. والرجل الذي وجد امرأة في أقصى المدينة، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أصبت امرأة في أقصى المدينة، وما تركت شيئاً يفعله الرجل مع امرأته إلا فعلته معها غير أني لم أجامعها، فطهرني يا رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: أصليت العصر معنا؟ قال: لا، قال: توضأ وصل، فلما توضأ الرجل وصلى نزلت الآية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فدعا الرجل وقرأها عليه، فقال: ألي خاصة يا رسول الله!! قال: بل لأمتي كلهم) ، قال العلماء: إن وضوءه مع صلاته من مكفرات الذنوب، إذاً فالوضوء عبادة بذاته. وإذا نظرنا أيضاً إلى أعمال الوضوء وجدناها تدور بين العادة وبين العبادة، فالاغتسال من الجنابة تعميم للبدن بالماء، والاغتسال يوم الجمعة تعميم للبدن بالماء، الاغتسال من التبريد والنظافة تعميم للبدن بالماء، وكل هذه الأغسال في صورة واحدة، فما الذي يميز ما كان واجباً عما كان مسنوناً وما كان عادة؟ النية هي التي تميز ذلك، ولهذا فالجمهور على أن النية شرط في صحة الطهارة. نأتي إلى الصلاة كما أشرنا، فإذا صلى ركعتي الفجر ثم صلى الصبح لم يفرق بين ذلك إلا النية، وإذا أراد أن يجمع الظهر والعصر، فالنية تحدد الظهر وتحدد العصر وهكذا، إذاً: النية تدخل في العبادات في وسائلها وفي غاياتها. وهل النية شرط في صوم رمضان؟ قال بعض العلماء: لا تشترط النية في صوم رمضان، فيكفي أن ينوي الصوم، ولا حاجة إلى تعيين النية، فكونه ينوي الصوم فذلك يكفي؛ لأن الإنسان قد يمتنع عن الطعام حمية، وقد يمتنع عن الطعام لعدم رغبة فيه، وقد يمتنع عن الطعام لعدم وجود الطعام، فإن كان في رمضان فظرف الصوم يعيِّن المقصود فلا حاجة للنية عن ذلك. وقال بعض العلماء: بل النية واجبة، وتكون من الليل. فإذا كان في غير رمضان، فهناك صوم قضاء رمضان، وهناك صوم كفارة، وهناك صوم تطوع، وهناك صوم نافلة، كالإثنين والخميس، فإذا أراد أحدنا أن يصوم يوماً قضاء أو كفارة أو نافلة أو نذاراً، فلابد من النية لكي يميز نوعية الصيام هنا. فمن هنا يقول بعض العلماء: (إنما الأعمال بالنيات) أي: تعيينها وصحتها بالنية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يبيت الصيام بالليل فلا صيام له) . وبعضهم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) أي: كمالها وفضيلتها. والصحيح: أن كل عمل توقفت صحته على النية فإنه يقدر المحذوف في قوله: (إنما الأعمال) أي: إنما صحة الأعمال بنياتها، وإذا كان يؤدى بغير نية، كدين أخذ من صاحبه، بأن حكم الحاكم على مدين بدفع الدين فامتنع فباع ماله ووفّى الدائن حقه؛ صح السداد، ولا يتوقف سداد الدين على نية المدين؛ ولكن كمال أجر هذا العمل يتوقف على النية. إذاً: النية تدخل في جميع الأعمال، فهي إما أن تصحح ما يفسد بدونها، وإما أن تكمل وتحسن ما يصح بدونها، ولهذا فالحديث عام في جميع الأعمال التي يتناولها التكليف.

الحديث الأول [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الأول [2]

أقسام العمل

أقسام العمل (إنما الأعمال بالنيات أو بالنية) بالإفراد وبالجمع -روايتان- والأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أعمال اللسان. القسم الثاني: أعمال البدن. القسم الثالث: أعمال القلب. فأعمال اللسان: النطق من ذكر، وتلاوة، وكلام، وغير ذلك. وأعمال البدن -الجوارح-: الصلاة من قيام وركوع، والصيام والحج، والجهاد، وغيرها من الأعمال البدنية. وعمل القلب: ما ينعقد عليه القلب من عقائد كالإخلاص والخوف والرجاء. كما جاء عن بعض السلف، أظنه عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج رجل معلقاً نعليه في يده، فمضى، ومن الغد قال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج ذاك الرجل الذي خرج بالأمس، ثلاث مرات، قال: فتبعته فقلت: إنه قد وقع بيني وبين أبي ما يكون بين الولد ووالده، وقد أقسمت ألا آتيه ثلاثة أيام، فإن رأيت أن تؤويني هذه الأيام الثلاثة وجزاك الله خيراً، قال: تفضل، وبات عنده لكنه لم ير عنده شيئاً جديداً، فقال: لعله أن يكون اليوم تعب، وفي الليلة الثانية لم ير شيئاً، قال: لعله أن يكون مستحياً، وفي الليلة الثالثة قال له: يا عبد الله! والله لم يكن بيني وبين أبي شيء، ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيك: إنك من أهل الجنة، فطمعت أن يكون عندك عمل خاص، فجئت لأرى ما تعمل، قال: والله يا عبد الله ما هو إلا ما رأيت، فذهب، ثم ناداه وقال: ما هو إلا ما رأيت؛ غير أني أبيت وليس في قلبي غل لأحد، قال: هي هذه، وهي التي لا نطيق) ، كان يبيت كل ليلة صافي القلب، ليس في قلبه غل لأحد، مهما كان من الناس إليه من إساءة، ومهما صدر من الناس نحوه من تقصير فإنه لا يحمل غلاً على أحد. ولهذا قال العلماء في قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] التطهير: التنقية، فإنها تطهر الغني والفقير معاً، تطهر الغني من أدران الشح والبخل، ومن أن يمسك ماله عن الفقراء، وتطهر الفقير من أن يحقد أو يحسد الغني على ما أعطاه الله؛ لأنه يأخذ حقه منه، فإذا كان الفقير يأخذ حقه من مال الغني، فلا يحقد عليه، بل يدعو له بالبركة، لكن إذا أمسك الغني ماله ولم يزكه وحرم الفقير، يتمنى أن يذهب الله مال الغني، لأنه ما أعطى حق الله فيه.

أهمية النية

أهمية النية فالنية من أعمال القلب، ولهذا يأتي في بحث القصد: أن النية إنما هي القصد إلى العمل، وليس هناك حاجة للتلفظ بها، فيكفي حينما تتوجه إلى القبلة أن ترفع يديك وتقول: الله أكبر! وتستحضر في قلبك ماذا ستصلي من فريضة أو نافلة، وإن كانت فريضة فتستحضر هل هي صلاة العشاء أم المغرب غيرها، وكل هذا محله القلب. فهذا الحديث كما أشرنا يعتبر أصلاً من أصول الدين، ويدخل في كل باب، وفي كل عمل لفرد من أفراد المسلمين، سواء كان ابتغاء وجه الله أم لغرض دنيوي. وبحسب ما يقصده العبد بعمله يكون أجره وثوابه، أو نكاله وعقابه، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) إذاً نية القصد قد تكلمنا الكلام عنها.

دخول النية في العبادات وأثرها في صحتها وثوابها

دخول النية في العبادات وأثرها في صحتها وثوابها قال الشافعي رحمه الله: هذا الحديث يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه، وقال غيره: لو ألف مائة كتاب لجعلت مقدمة كل باب هذا الحديث، ولو أردت تتبع ذلك لطال بك المقام. نية التعيين التي يتكلم عنها الفقهاء، مثالها: إذا عممت بدنك بالماء فإن أردت النظافة فلك ما نويت، وإن أردت رفع حدث بأعضائك فلك ما نويت، وكذلك أيضاً إذا كان هناك أمران يقتضيان غسلاً أحدهما واجب والآخر مسنون، فإذا نويت المسنون لم يسقط الواجب، وإذا نويت الواجب سقط المسنون ودخل ضمناً، كمن أصبح يوم الجمعة جنباً فاغتسل ينوي غسل الجنابة، فإنه يدخل غسل الجمعة معه، أما إذا نوى غسل الجمعة فإنه لا ترتفع عنه الجنابة؛ لأنه لم ينوها؛ والأعمال بالنيات. وفي باب الصلاة أشرنا إلى أن الصلاة نافلة وفريضة، فإذا أراد النافلة لم تندرج تحتها الفريضة بحال، وإذا نوى الفريضة فقد تندرج معها النافلة، فإذا جئت والإمام في الصلاة في صلاة الصبح ونويت الفريضة دخلت تحية المسجد معها، وكذلك إذا أردت سنة الفجر ونويت تحية المسجد معها، دخلت تحية المسجد مع سنة الفجر؛ لأنها أقوى في الطلب، وهكذا النية تحدد وتعين وتبين المطلوب. وهكذا إذا جئت إلى الصيام، فقد يكون فريضة أو قضاءً أو كفارة، فحسب ما نويت يكون لك ما نويت في صيامك، وإذا جئنا إلى الحج أيضاً، فإذا أخرت طواف الإفاضة ونويت معه طواف الوداع أجزأك ذلك، بل إن الإمام مالكاً يقول عن الذي يأتي متأخراً: قد يحج حجه كله بطواف واحد بالبيت، يعني إذا ضاق عليه الوقت، فإن طاف طواف القدوم فاته الوقوف بعرفات، فيسرع ليدرك الموقف في عرفات ويترك طواف القدوم، فإذا جاء ونزل من عرفات إلى منى، وبقي هناك بعد رمي الجمار أيام التشريق، ثم نزل إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة ويسافر فإنه يطوف طواف الإفاضة فيسقط القدوم تبعاً لأنه بالنسبة إليه قدوم، وهو ركن في الحج وهو طواف الإفاضة، ويجزئه أيضاً عن طواف الوداع. وهكذا نجد جميع الأعمال فيما يتعلق بالعبادات في تعيينها وفي تصحيحها.

أثر النية في المعاملات

أثر النية في المعاملات وإذا جئنا إلى المعاملات، وأهم ما يكون في ذلك الأيمان: إذا حلف إنسان على شيء وكان اللفظ يحتمل معنيين فإن ما نواه هو الذي تنعقد عليه اليمين. ويقولون في باب القضاء، يمينك على ما يصدقك فيه خصمك، فإذا حلفت وكان القسم يحتمل أمرين، فإذا نويت غير ما يريده خصمك، تريد أن تدلس على خصمك، فلا ينفعك هذا التأويل إذا كان الأمر بخلاف ذلك، بل تنعقد عليك اليمين على ما يصدقك الخصم فمثلاً: شخص مظلوم وطولب باليمين، فحلف على نية تخرجه من ظلم الظالم فإنه على نيته، كما ذكروا أن جماعة خرجوا إلى رسول الله فلقيهم خصومهم فأخذوا عدي بن فلان فجاءوا إليهم وقالوا: ليس هذا خصمكم، إنه أخونا. فامتنع القوم أن يحلفوا لهم، فتقدم رجل وحلف إنه أخي فتركه خصومه، فلما أتوا رسول الله وعرضوا عليه الأمر قال: (صدقت! إنه أخوك في الإسلام) . وهكذا كان صلى الله عليه وسلم حينما كان يمر على القبائل في الهجرة، فليقيهما هو وأبو بكر رجال، وخاف أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: من هذا الذي معك يا أبا بكر؟ -لأنهم يعرفونه، حيث كان تاجراً وعالماً بأنسابهم- فلم يقل: هذا رسول الله؛ لأنه يخاف على النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يرد عليهم بقوله: هذا هاد يهديني الطريق. يقصد: إلى الله سبحانه وتعالى. وهكذا إذا كنت في معاملة مع آخر، وتكلمت بكلمة لها معنيان ويمثل العلماء بما إذا قال لامرأة أو قال عند امرأة: فلانة طالق، ويعني بفلانة ناقة تطلق من عقالها، أو من رباطها، وكان ينوي ذلك، وكان عنده ناقة حقيقة، وهي طالق من العقال، ولم يرد طلاق زوجته، فالرواية عن أحمد رحمه الله أن زوجته لا تطلق لأنه لم ينو طلاقها. وكذلك يورد العلماء مثالاً: لو أن رجلاً رأى امرأة أجنبية وظنها زوجته وقال: أنتِ طالق يريد الزوجة، فإن هذه لا تطلق لأنها أجنبية، وفي طلاق الزوجة خلاف، والراجح عند أحمد أنها تطلق؛ لأنه نواها بطلاقه. ويتفق العلماء على أنه لو كان عنده أربع نسوة فقال: إحداكن طالق ولم يعين ولم يسم، أنه يسأل: من أردت بإحداهن؟ فإن عيَّن واحدة طلقت، والنية هي التي خصصت وهي التي حددت. فكما قال الشافعي عن هذا الحديث: إنه يدخل في أكثر من سبعين باباً من أبواب الفقه، ولو تتبعنا الكلام في هذا لوجدنا جميع ما يعقد من أبواب الفقه يدخل فيه هذا الحديث، وقال العلماء: إنه يدخل بين العادة والعبادة فيصير العادة عبادة. وقالوا: لو أنه نام للقيلولة ينوي بها التقوي والاستعانة على قيام الليل لكان نومه عباده، وله في ذلك أجر، ولو أنه أكل وشرب ليتقوى على الجهاد في سبيل الله لكان أكله وشربه عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما خرجوا في فتح مكة وكانوا يصومون قال: (إنكم دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم) ، فمن أفطر في ذلك اليوم وأكل بنية التقوي بأكله على قتال أعداء الله، فله على هذه النية أجر. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الذي يرتبط الفرس في سبيل الله -ينوي إعدادها للجهاد في سبيل الله- فما أكلت ورعت ولا استنت شرفاً، ولا شربت من واد؛ إلا كان في ميزانه) .

ترغيب النبي عليه الصلاة والسلام في النية الحسنة والترهيب من ضدها

ترغيب النبي عليه الصلاة والسلام في النية الحسنة والترهيب من ضدها وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ألا إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً، فعرف حق الله فيه فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً فقال: لو أن لي من المال ما لفلان لعملت فيه كما يعمل، فهما في الأجر سواء، ورجل أعطاه الله مالاً ولم يعطه علماً، فلم يعرف حق الله فيه فهو في أسفل سافلين، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه مثلما يعمل فلان، فهما في الوزر سواء) ، فالذي بلغه ماله وعلمه أعلى عليين أدركه صاحب النية الحسنة، وذاك جاهل يعمل في ماله بما لا يرضي الله، وذاك نوى لو كان عنده مال لعمل فيه مثل عمل الذي قبله، فأدركه في أسفل سافلين؛ لا لشيء إلا بالنية، والأخبار في ذلك طويلة. إذاً: هذا الحديث من أهم الأحاديث التي تدخل في العبادات وفي العادات وفي المعاملات وفي جميع أحوال الناس. وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وليس هذا تكراراً للمعنى، بل تقرير لصحتها ومرادها وتوجيهها، أي: كل عمل فهو بنيته. والجملة الثانية: (وإنما لكل امرئ) امرئ: مذكر، مؤنثها: امرأة، وإذا جاء بلفظ امرئ فإنه يشمل المرأة فتكون داخلة فيه، بخلاف ما إذا عيَّن كقول من قال: (امرؤ القيس) فإنه خاص بشخص معين. (وإنما لكل امرئ ما نوى) : (إنما) أيضاً للحصر، فلا يتعدى عمل العبد ما نواه، ثم فصل صلى الله عليه وسلم فقال: (فمن كانت هجرته) . ذكر الهجرة خاصة مع أن هناك الجهاد وغيره: فمن كان جهاده لله فجهاده لله، ومن كانت صلاته لله فصلاته لله، وكذلك الزكاة، بل كل عمل يندرج تحت الأعمال بالنيات، ولكن نص على الهجرة بخصوصها. والهجرة أصلها مأخوذ من الهجر، والهجر البعد والافتراق، والهجر مأخوذ من الهجير، والهجير شدة الحر في الظهر، ومنه الهاجرة، وهي شدة الحر، وانتقلت حقيقة اللغة المحسوسة -شدة الحر- إلى الهجرة بمعنى الانتقال إلى الهجران وهو المقاطعة، لأن الناس في وقت الهجير والهاجرة يعتكفون في ظلهم ويتقاطعون عن التواصل مخافة شدة الحر.

حكم الهجرة وأهميتها

حكم الهجرة وأهميتها وكذلك الهجران: تهجر صديقك، أي: تقاطعه، وفي الحديث: (ولا يحل لامرئ أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، والهجرة انتقال وانقطاع عما كان فيه، إلى ما ذهب إليه. وفي الاصطلاح: انتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو انتقال من بلد لا يستطيع المسلم أن يؤدي أحكام دينه فيها، ولا أن يعبد ربه على ما ينبغي إلى بلد آخر يستطيع فيه ذلك. وقد سبقت الهجرة إلى الحبشة مرتين، وجاءت الهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة، وكانت الهجرة إلى المدينة ركناً من أركان الإسلام حتى جاء الفتح، (فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) . فالهجرة في بادئ الأمر كانت ركناً، حيث كان يجب أن ينتقل الأعراب وأهل القرى المدن من ديارهم إلى المدينة المنورة، ولماذا كانت ركناً؟ لأنها كانت بداية تكون النواة الأولى للدولة الإسلامية التي ستصبح عاصمتها المدينة، لذا كان لزاماً على كل فرد آمن بالله أن يهاجر إليها، لتتكون القاعدة الصلبة لهذه الدولة والتي منها ينطلقون إلى الأمصار، وفيما بعد رجعوا إلى مكة فاتحين، فكانت الهجرة في أول الإسلام واجبة ليتجمع المسلمون ويتحدوا ليفتحوا القرى والأمصار على ما تم ولله الحمد، وأكمل الله سبحانه الدين للأمة. وبعد أن فتحت مكة طهرت الجزيرة من درن الأصنام، وقضي على دولة الشرك وبقيت البلاد إسلامية من أقصاها لأقصاها، ثم بدأ المسلمون ينطلقون منها إلى ما جاورها. ثم انطلق خلفاؤه من بعده صلى الله عليه وسلم، فـ أبو بكر رضي الله عنه في خلافته تصدى للمرتدين من الأعراب ممن سولت لهم نفوسهم أمراً، حتى استتب الأمر وثبت الناس على دينهم، وبدأت الفتوحات في زمن عمر رضي الله عنه فانطلقت الجيوش وفتحت الأمصار، وفتح الله للمسلمين البلاد شرقاً وغرباً. فقد كانت الهجرة في أمر الأمر واجبة، ثم بعد ذلك صارت مندوبة، أو صارت بحسب حال الفرد، فمن استطاع أن يؤدي أمور دينه في بلده فليثبت، ومن لم يستطع فليهاجر إلى المكان الذي يستطيع فيه تأدية شعائر دينه. وأحب أن أنبه أنه في بعض البلاد تحدث مضايقات للدعاة ولشباب الحركات الإسلامية، مما يحدو بالبعض إلى الهجرة، وترك البلاد لما فيها من فساد، أقول: إذاً: لمن تترك تلك البلاد؟ ومن يقوم بأمر الدعوة فيها إذا تركها الدعاة والصالحون، بل الواجب الصبر، وأن يثبتوا في أماكنهم وأن يدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لعلهم أن يدرءوا الشر عن ضعاف المسلمين، أو أن يكونوا ردءاً لضعاف الإيمان فيعلموهم ويبينوا لهم ما ينبغي أن يفعلوه، وما يجب أن يتركوه، ولكن مع مصانعة الأعداء بالحكمة. ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يدعو إلى الله والأصنام مثبتة في بناء الكعبة، ويصلي إلى البيت وربما يقع الصنم على ظهره، وهو لم يغير شيئاً، حتى إذا أراد الله النصر وجاء الأوان، وفتحت مكة أخذ يشير إلى الأصنام بقضيب في يده ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81] فتتساقط تلك الأصنام مع أنها مثبتة بالحديد.

الهجرة والتاريخ بها

الهجرة والتاريخ بها إذاً: فقد كانت الهجرة أمراً عظيما وهي أعظم حدث في الإسلام، كما بين عمر رضي الله تعالى عنه حينما أراد أن يضع تاريخاً للمسلمين، والأمم متعودة أن تؤرخ بأحداثها العظام، كما أرخ الروم بمولد المسيح، فتفكر عمر رضي الله عنه فما وجد في الإسلام حدثاً أعظم من الهجرة، لأن بها تمكن الإسلام وانتشر في العالم، فجعلها مبدأ تاريخ المسلمين.

الهجرة إلى الحبشة

الهجرة إلى الحبشة والسؤال هنا: لماذا خصت الهجرة بهذا التنبيه، مع أن في لفظ الأعمال ما يفيد الاستغراق؟ وأيضاً ما هي الهجرة حقاً؟ نعلم جميعا أن أعظم حدث في الإسلام بعد الوحي وبعد الرسالة هو حدث الهجرة، وكلنا يعلم أن الهجرة من مكة إلى المدينة سبقتها هجرتان إلى الحبشة، ومجمل ذلك: أن المسلمين حينما ضاق عليهم الأمر بمكة واشتد عليهم إيذاء قريش، ما خرجوا فراراً من الإيذاء، ولكن خرجوا يرتادون موطناً رحباً يستطيعون أن يقيموا فيه شرع الله، ويؤدوا عباداتهم في بلد آمن، وكان ذلك بإرشاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال لهم: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد في جواره) . وهنا وقفة: فهذا ملك نصراني وهو ملك في الحبشة، والرسول صلى الله عليه وسلم يصفه بأنه عادل، ومن هنا نعلم أن العدل من الكافر يثبت له ملكه، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم. فهذا كافر عادل، أي: يحكم بالعدل، ومن هنا ننبه على الحديث الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله. إمام عال) وفي بعض الروايات: (عدل) وهي الصحيحة؛ لأن العادل قد يكون كافراً وقد يكون مسلما؛ لأن العادل الذي يعادل ويساوي بين المتساويين، والأصل في العدل والعدالة: عِدْلَة الحمل من البعير، وحمل البعير عِدلتان، عِدلة في اليمين وعِدلة في اليسار، فإذا ما كانت العدلتان مملوءتين من شيء واحد متعادلتين في الوزن كان التعادل بينهما حاصلاً، وإذا ما نقصت إحدى العدلتين مال الحمل إلى شق الثقيلة وطاشت كفه الخفيفة. فالعدل والعدالة من العدلتين المتعادلتين في الحمل، وقد يعدل حمل كافر أو مسلم، وهكذا العادل في الحكم قد يساوي بين القوي والضعيف وبين الشريف وغير الشريف، وذلك لعدله في الحكم. أما الإمام العدل: فالعدل هو نهاية أوصاف مكارم الأخلاق كما يقول ابن مسكويه في كتاب فلسفة الأخلاق: بأن جماع الفضائل في الإنسان هو أن يكون عدلاً، بأن يكون مؤمناً عفيفاً شجاعاً كريماً، فإن اجتمعت كل خصال الخير فيه كان إماماً عدلاً، ولذا يقول سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] أي: عدول في الشهادة موثوقين في نقل الأخبار لا يتهمون بكذب ولا بتزوير ولا بحيف، قد اجتمعت فيهم خصلة العدالة فأصبحوا عدولاً على الناس. (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره) وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إقرار بالحق وإن كان لكافر، فهو مستحق لهذه المدحة. وفعلاً خرج المسلمون أولا وأتبعهم المشركون برسلهم وهداياهم وأرادوا أن يعودوا بهم، ولكن عدل الملك أبى عليه أن يسلم المهاجرين حتى يسمع ما عندهم، ولما تكلم جعفر رضي الله تعالى عنه عن رسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما كانوا عليه في الجاهلية، وبما أتاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما زاد ما جاء به رسولكم على ما جاء به عيسى ولا هذه القشة، وهكذا أعلن النجاشي إسلامه أو إقراره بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعلنها أكثر من ذلك، حينما قال: لولا ما أنا فيه من الملك لخلصت إليه وأتيته، وغسلت التراب عن قدميه. وكانت الهجرة إلى المدينة، وقد كان أبو بكر يريد أن يهاجر فيمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: (انتظر يا أبا بكر! لعل الله يجعل لك صاحباً أو رفيقاً) ، وكان المهاجرون يخرجون خفية إلا عمر بن الخطاب، فقد ملأ كنانته وأخذ قوسه، وجاء إلى البيت وطاف به، ثم نادى في قريش: شاهت الوجوه! إني مهاجر، فمن أراد أن تثكله أمه أو تيتم أولاده، أو ترمل زوجه، فليلقني خلف ذاك الكثيب. ولم يخرج وراءه أحد.

قصة الهجرة إلى المدينة المنورة

قصة الهجرة إلى المدينة المنورة

التخطيط للهجرة

التخطيط للهجرة وأخذ النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر يعدان للهجرة، فـ أبو بكر أخذ راحلتين وعلفهما من أجل الطريق الطويل، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الظهيرة، في وقت لم يكن يأتينا فيه، فقال لأبي بكر: أخرج من عندك! فقال أبو بكر: ليس إلا فلانة وفلانة وأمنه من أن يفشو سره، قال: أذن الله لي في الهجرة قال: الصحبة يا رسول الله. قال: نعم. وعرض على رسول الله الراحلة والزاد فقال بثمنها. ثم رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق الخطة، على أساس أن يخرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ويأتي عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، وتأتي أخته بالطعام، ويأتي راعي أبي بكر بالغنم بعدهما ليعفي الأثر ويسقيهما اللبن. واجتمع كبار كفار قريش وتآمروا في دار الندوة على حبس النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله أو نفيه، وجاءهم الشيخ النجدي فصوب رأي أبي جهل لعنه الله، ولكن الله سبحانه الذي اختاره صلى الله عليه وسلم واصطفاه والذي بعثه وأرسله كان يتولاه ويرعاه، فعصمه من السفاح قبل ولادته كما جاء في آثاره، وعصمه من كل سوء في طفولته، وشق صدره ليخرج منه خظ الشيطان، وهكذا تولته عناية الله. ففي تلك الليلة يأتي جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: لا تبت في فراشك الليلة، ويأتي أول فدائي كما يقولون: بل أول مسلم من الشباب، علي بن أبي طالب، ويقول له صلى الله عليه وسلم: (نم في فراشي وتسجى ببردي، فلن يصلوا إليك بأذى) ، وهذا ضمان من الصادق المصدوق أنهم لن يصلوا إليه بأذى. ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنوف أولئك الفتية، وهم واقفون بباب الدار، ولم يكفه أن يمر عليهم بل يأخذ التراب ويضعه على رءوسهم ويقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] فلم يبصره واحد منهم، ثم يذهب إلى الغار، وهنا تتجلى عظمة أبي بكر وتظهر محبته رضي الله تعالى عنه، فتارة يمشي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة يمشي وراءه، فإذا رسول الله يقول: (يا أبا بكر ما لي أراك تارة أمامي وتارة من ورائي؟ فيقول: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، فيقول صلى الله عليه وسلم: أردت يا أبا بكر لو كان شيء يكون فيك أنت؟ يقول: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن أهلك أنا أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) . وقد رسمت الخطة للهجرة، وهذا يدل على أنه يجب على كل داع أن يسلك، إعداد العدة والتحفظ والاحتياط، وكل ما يكون في إمكانية البشر. بل قبل سنة أو عدة أشهر من الهجرة كانت رحلة فريدة، وهي رحلة الإسراء والمعراج، وكانت رحلة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على المشركين، وعلى ثقيف، وعلى ما لقي في الطائف، وعلى ما لقي في مكة عند عودته، حيث منع من دخول بلده مكة، فلم يدخل إلا في جوار رجل مشرك، مع أن جبريل قال له: يا محمد! هذا ملك الجبال؛ إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين، قال: لا. إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله. ودخل في حماية رجل مشرك، لماذا لم يدخل في جوار حمزة وعمر وأبي بكر؟ لأنه يسن ويشرع في سياسة الدعوة التي يجب على كل داعية أن يسلكها ويدرسها ذلك. فأرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مطعم بن جبير ودخل في جواره وهو على دين قومه، وخرج مطعم وكان له أربعة من الأبناء الشباب، وقف كل ولد من أولاده عند ركن من أركان البيت متقلداً سيفه لابساً سلاحه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وجاء أبو سفيان وكشف عن الحقيقة، فقال له: أتابع أنت أم مجير، قال: إني مجير، قال: أجرنا من أجرت، وانتهت القضية. فلو كان هذا المجير مسلماً وتابعاً لمحمد، لوقعت حرب أهلية حرب داخلية، تقضي على جميع المسلمين، وليسوا آنذاك بقوة تستطيع أن تقاوم تلك القوة. وكما أشرت أن الداعية حسن البنا رحمه الله كان يريد أن يفتح مركزاً في قرية، وكان عمدة القرية ضد هذا المركز، فسبق أحد أبنائه إلى القطار قبل البلدة بمراحل، وركب معه القطار وأخبره، قال له: أرى أن ترجع، أرى ألا تذهب إلى المركز لأن عمدة القرية جمع رجاله وأعوانه، ويريد أن يضرب من يجتمع في هذا المركز، قال: هل علم بك أحد؟ قال: لم يعلم بمجيئي أحد، قال: إذاً فاسكت، فلما وصل القطار إلى محطة المركز، كان الناس ينزلون على الرصيف المرتفع وهو نزل من الخلف، ولم يشعر به أحد، وأخذ صاحبه بيده وترك المستقبلين المحتشدين عند القطار، وما علموا إلا بالشيخ حسن قد وصل المركز لكن لم يذهب إلى مركزه ولا إلى أحد من أبنائه ولا إلى أحد من أتباعه، بل ذهب إلى بيت العمدة بنفسه، سلام عليكم نحن ضيوفكم، فقام العمدة بأريحية أهل الريف بحق الضيافة، ثم بعد أن تناولوا القهوة أو الغداء قال: نحن جئنا لافتتاح المركز ولا يكون حفل الافتتاح إلا على شرف العمدة الذي هو أمير القرية. فذهب العمدة مع حسن البنا بعد أن كان رجاله قد أعدوا لإحباط الافتتاح ولضرب الحاضرين فصاروا حراساً لهذا الحفل، ثم ما خرج من هناك حتى ولى العمدة رئاسة هذا المركز. نرجع إلى موضوعنا: مشى الصديق رضي الله تعالى عنه مع رسول الله حتى وصلا إلى الغار وهناك قال أبو بكر: على رسلك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، ويدخل رضي الله تعالى عنه الغار ليلاً، يفادي بنفسه، ودخل حتى استبرأ الغار، فقال: على بركة الله باسم الله يا رسول الله، فينزل صلى الله عليه وسلم ويجلس.

وقاية الله لنبيه من كيد المشركين

وقاية الله لنبيه من كيد المشركين ومن الغد تأتي قريش بقلوب حاقدة وسيوف مصلطة يطلبون محمداً، الآثار تأتي بهم إلى فم الغار، لكن يكذب أعينهم عنكبوت قد نسجت خيوطها، ونبت قد تدلى، وحمامة قد باضت، فكيف سيدخل من أراد الدخول دون تمزيق هذا النسيج؟ فكذبوا أنفسهم ورجعوا. نقول: نعم. لقد ردهم الله ورد كيدهم، لا بالدروع والسيوف والجنود، ولكن أمام نسج العنكبوت، كأنه يقول لهم: قوتكم لا تساوي هذا النسج، لأن الباطل لا قوة له. ثم بعد ذلك يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه، ويضع لنا معلماً عظيماً في طريقه حينما يأتي أم معبد وهي امرأة كانت في الطريق عند خيمتها، عندها عنز عجفاء لا تستطيع أن تلحق بالغنم في المرعى، فيقول لها الصديق رضي الله تعالى عنه، هل عندكم من قِرى؟ قالت: إن أردت القرى فاذهب إلى شيخ الحي، قال: وما هذه العنز قالت: إنها عجفاء. فقال صلى الله عليه وسلم: عليّ بها. وفي رواية: ذهب إلى الظل ثم جاءت المرأة بولدها وقالت: اذهب بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فليذحانها وليطعمانا وليطعما، فلما جاء بالعنز وبالمدية قال: رد المدية وأتني بقدح، قال: إنها عجفاء لا حليب فيها، فرد المدية وجاء بالقدح، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم على ضرعها ودعا الله، وحلب فشرب وشرب الصديق، وشرب دليلهم ابن أريقط وبقي الإناء مليئاً بالحليب، فذهب به إلى أم معبد فقالت: والله إن كان هذا ساحراً لهو أكبر السحرة، ولئن كان هذا هو الصابئ في مكة لهو صادق حقاً. وفي امتناع الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذبح الشاة دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام يأبى أن يكون في هجرته وفي طريقه إراقة قطرة دم ولو كانت لشاة، ويختار على ذلك أن يدعو الله وأن يدر له الضرع، فيحلب ويشرب وتبقى العنز كما هي، إن في ذلك إشعاراً بأن الهجرة كانت هجرة خير وبر لا هجرة دم ولا انتقام. ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأول من يعلن عن قدومه رجل من اليهود، ينادي: يا بني قَيْلة! هذا جدكم الذي تنتظرون! وهنا وقفة: فدليل الرحلة رجل مشرك، وفي الإعلام عن وصوله رجل يهودي، يا سبحان الله، دعوة الإسلام تنتقل إلى المدينة بقيادة رجل مشرك، ورحلة الإسراء والمعراج على براق جبريل عليه السلام، فتلك دعوة تكريم لن تكون لأحد بعده، ولن تتكرر لأحد، وليست للتشريع ولكن للتكريم، أما رحلة الهجرة فكانت للتشريع والتعليم، ولبيان المناهج الصحيحة لدعاة الإسلام. فلكأن الله يشعر المسلمين، بأنه سخر المشركين لخدمة الإسلام، وسخر اليهود لخدمة الإسلام أيضاً، إذاً لا مانع أن يستخدم المسلمون المشركين في أمور دنياهم، ولا علاقة لدينهم بذلك. كانت الهجرة المباركة ووصل صلى الله عليه وسلم إلى قباء، وبنى مسجد قباء، ثم نزل إلى المدينة وبنى المسجد النبوي وتمت الهجرة النبوية وكانت المدينة منطلق المسلمين وعاصمتهم الأولى.

ثناء الله عز وجل على المهاجرين والأنصار

ثناء الله عز وجل على المهاجرين والأنصار وهنا يسجل الله سبحانه للهجرة وللمهاجرين الأولين فضلهم، فيقول كما في سورة الحشر {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ، فهذه شهادة من الله للفقراء المهاجرين، فقد كانوا فقراء بعد الهجرة، وليسوا فقراء قبلها؛ لأنه يقول تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] إذاً كانت لهم ديار وكانت لهم أموال. وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم لما جاء في فتح مكة وسئل في أي بيت من بيوتك ستنزل يا رسول الله؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من بيت أو دار؟ فالمشركون أخذوا بيوت المهاجرين وباعوها، واستولوا عليها، والمهاجرون تركوا ديارهم وتركوا أموالهم، وهذا صهيب لما خرج مهاجراً وأدركه المشركون وقالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك فلما أثريت بالمال تخرج وتهاجر، والله لا يكون ذلك أبداً، فقال: يا معشر قريش أويهمكم المال؟ إنكم تعلمون والله إني لرام لا يخطئ سهمي، وإن كنانتي ملأى، فإن كان همكم المال، فدونكم المال قد دفنته في مكان كذا، ارجعوا إليه فخذوه، فتركوه ورجعوا، وهاجر وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ربح البيع أبا يحيى) . إذاً خرج المهاجرون من ديارهم وأموالهم، لما هو أعز من ذلك، ولذا ننظر المعادلة، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ماذا كانت المعادلة من إخوانهم الأنصار {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] ؛ هكذا المعادلة: مهاجرون تركوا ديارهم وأموالهم لله فوجدوا إخوانهم يؤثرونهم على أنفسهم؛ فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وسجل الله للفريقين الفضل العظيم والشرف الكبير، سواء المهاجرون الذين يريدون بهجرتهم نصرة الله ورسوله، ويقر لهم سبحانه بذلك، ويشهد لهم بأنهم صادقون في هجرتهم.

علة اختبار المهاجرات دون المهاجرين

علة اختبار المهاجرات دون المهاجرين ويهمنا في ذلك القسم الثاني من المهاجرين وهو هجرة النسوة المؤمنات حيث يقول الله تعالى فيهن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10] . فالمهاجرون من الرجال بين الله صدقهم في قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] فلا يحتاجون إلى امتحان، والنسوة يأتين مهاجرات فنمتحنهن، ويذكر ابن كثير في كيفية الامتحان أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول لإحداهن: والله ما خرجت من ضيق عيش، ولا هرباً من زوجٍ. فلماذا هذا الامتحان؟ لأن الرجل حينما يخرج من مكة يعلم بأن عليه واجباً، ألا وهو القتال، إذاً: ما خرج من مكة إلا وهو مستعد ملتزم بهذا الأمر الشاق العظيم، فلم يكن لامتحانه حاجة، لأن واقع أمره يصدق فعله، أما النسوة فلا قتال عليهن، فقد تهاجر وتأتي وتتزوج، وقد تهاجر وتأتي ولا تطالب بضريبة الجهاد، إذاً: هجرة النسوة كانت محتملة، ومن هنا فلابد أن تمتحن.

أقسام الناس في الهجرة

أقسام الناس في الهجرة يقول عليه الصلاة والسلام: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله) كأولئك الذين شهد الله لهم بأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، وأنهم ينصرون الله ورسوله، وأنهم صادقون (فهجرته إلى الله) ، أي: من كانت هجرته إلى الله ورسوله قصداً واحتساباً وصدقاً فهجرته إلى الله فعلاً، وجزاءه على الله سبحانه. أما القسم الثاني: (ومن كانت هجرته إلى دينا يصيبها، أو امرأة يتزوجها) . وخصت الهجرة من دون سائر الأعمال؛ لأنها أعظم حدث في تاريخ الإسلام، ولذا نوه بها صلى الله عليه وسلم إعظاماً لشأنها. والله تعالى أعلم. أما (فمن كانت هجرة إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها) ، فيذكر العلماء أن سبب الحديث أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة يقال لها: أم قيس فامتنعت عليه حتى يهاجر فهاجر ليتزوجها. وكما جاء عن ابن مسعود: كنا نقول: مهاجر أم قيس، ويقول ابن رجب: لم يثبت هذا الأثر، أي: لم يثبت سنداً بهذا السبب، ولكن يهمنا الأمثلة التي يوردها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا نظرنا إلى هذا التحديد: دنيا، وامرأة، والمرأة من الدنيا، ودنيا إذا أطلقت فهي تأنيث الأدنى، وهي بالنسبة إلى الآخرة أدنى، سواء كانت أدنى زماناً، بأن يكون سبقها أزمان، أو أدنى منزلة بأنها بالنسبة إلى الآخرة لا تساوي شيئاً: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فهي دنية دنية، وسواء في ذلك المال أو الجاه. إلى آخره. الذي يهمنا أن أي إنسان هاجر لشيء فهجرته إلى ما هاجر إليه، وهنا حكم مبتدأ وخبر، هجرته إلى ما هاجر إليه، أي: هجرته إلى ما هاجر إليه لا إلى الله ورسوله. وإذا تأملنا حال المهاجرين فقد يهاجرون حقاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيجدون الكرامة ويجدون العوض عند الله عز وجل، ومن الناس من قد يهاجر لأجل الدنيا فيجدها، فيأتي فقيراً ويغنيه الله، وقد يأتي مهاجراً للزواج فييسر الله له زواجه. ولذا نقول: وهل الهجرة للدنيا ممنوعة؟ وهل المرأة ممنوعة من السفر؟ إن السفر للتجارة الرابحة قد بينه سبحانه وتعالى، فالمرء إذا ضرب في الأرض ليبتغي من فضل الله، أو ليتزوج امرأة صالحة؛ فلا مانع، بل جاءت الرحلة كما في الحديث الصحيح، (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فليس هناك مانع، فمن أراد الدنيا فليعلنها: جئت للدنيا، ومن أراد الزواج فليقل: جئت لأتزوج، لا أن يأتي في إطار الهجرة لله ورسوله بينما يبطن في نيته دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها. ومن هنا يرجع أول الحديث على آخره (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثاني [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [1]

شرح حديث جبريل عليه السلام

شرح حديث جبريل عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: عن أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟) .

عظمة معاني هذا الحديث على غيره

عظمة معاني هذا الحديث على غيره إن هذا الحديث الشريف ليعتبر من أهم وأعظم وأجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض العلماء: إنه مدار جميع طوائف علماء الإسلام: من فقهاء ووعاظ وزهاد وعباد، وهو مع طوله يضع منهجاً تعليمياً بجانب المنهج العلمي، فقد أرشد فيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام جاء يعملهم أمر دينهم، فجمع الدين كله بتعليم من جبريل عليه السلام في هذا الحديث، ولهذا مهما عُني به الإنسان ومهما تناوله العلماء فلا أعتقد أن أحداً يوفيه حقه إلا إذا تكلّم على الدين كله. يبدأ هذا الحديث بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وتقدمت ترجمة عمر في الحديث الأول: (إنما الأعمال بالنيات) . يقول رضي الله تعالى عنه: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟) .

المكان الذي أتى فيه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم

المكان الذي أتى فيه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل المتعلم، وفي بعض الروايات: (بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد) . وكلمة: (بينما) أو (بينا) يتفق علماء اللغة والمحدثون على أن (بينما) أصلها (بين) الظرفية التي تأتي للزمان وللمكان، تقول: جئتك بين العشاءين، وجئتك بين الظهر والعصر، ولقيتك بين المنبر والحجرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ، وقد تأتي (ما) قبل (بين) وتكون موصولة، فإذا جاءت (ما) بعدها لم تضف (بينما) إلا إذا كانت بين مجموعتين لا بين فردين، و (ما) هنا ألحقت بها لتكفها عن الإضافة إلى الفرد فلا تعمل الجر بالإضافة فيما بعدها، ولهذا يعرب ما بعدها مرفوعاً على الابتداء. (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي بعض الروايات: (في المسجد) . وهو المسجد النبوي الشريف، يأتي جبريل عليه الصلاة والسلام معلماً في صورة المتعلم، ولهذا حُقّ لطلبة العلم في المسجد النبوي أن يفخروا ويحمدوا الله سبحانه، لأنهم يدرسون في المسجد الذي جاء فيه جبريل عليه الصلاة والسلام معلماً في صورة المتعلم.

تعظيم أهل الحديث لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم

تعظيم أهل الحديث لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كذلك يعطينا أيضاً صورة طالب العلم كيف يأتي إلى المسجد النبوي وإلى المعلم بهذه الصورة: (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر) فطالب العلم وخاصة العلماء تكون لهم هيئتهم ونظافتهم ومظهرهم. وقد قالوا: كان مالك رحمه الله أشد الناس عناية باللباس، خاصة إذا درّس الحديث النبوي الشريف، وربما يبيع بعض أثاث بيته ليكمل هيئته في لباسه من أجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي قصة مجيء هارون الرشيد إليه، حينما جاء إلى المدينة وعلم بموطأ الإمام مالك، وكان من قبل أبو جعفر المنصور أشار على مالك بهذا الكتاب المبارك. وجاء هارون ومعه الأمين والمأمون وأراد لهما أن يسمعا الموطأ من مالك، فطلبه بكتابه إلى دار الإمارة، فامتنع من الذهاب إليه، وقال: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فجاء هارون الرشيد بنفسه ليسمع الموطأ من مالك، فلما وصل إلى باب بيته وأخبرته الخادمة أن هارون الرشيد على بابه، أبطأ حتى جاء إلى هارون وأذن له بالدخول، فقال له هارون الرشيد: ما هذا يا مالك! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فأوقفتنا على بابك؟! قال: يا أمير المؤمنين! إن وقوف العلماء على أبواب الأمراء يزري بهم، ووقوف الخلفاء على باب العلماء يعلي شأنهم، ثم إني علمت أنك جئت إلى بيتي، لا تريد دنيا ولا مالاً إنما تريد العلم، فذهبت فاغتسلت، ولبست ثيابي وتهيأت كي ألقي عليك من سنة رسول الله وأنا على أحسن حال. وهكذا ينبغي لطالب العلم! كان بعض إخواننا الذين درسنا معهم في هذا المسجد النبوي الشريف كتاب بلوغ المرام، ورياض الصالحين، ونيل الأوطار، وهذا الكتاب المبارك الموطأ، كانوا في النهار يعملون في الأسواق على لقمة العيش بعفة وباستغناء عن الناس، فإذا جاء وقت الدرس بين المغرب والعشاء، كأنهم أقمارٌ في هذا المسجد في نظافتهم وهيئتهم ونور وجوههم، وهكذا: فقد كانوا في النهار عمالاً يسعون على أرزاقهم وعند الدرس لا تفرق بين أحسن إنسان في المسجد وبين هؤلاء الطلبة. وهكذا يرسم لنا جبريل الطريق، ثم ها هو يأتي في بعض الروايات: (أنه وقف بعيداً وقال: يا محمد أأدنو؟ قال: ادن، ثم دنا قليلاً، وقال: أأدنو؟ قال: ادن، إلى أن وصل إلى مكانه وجلس) . وبعض الكتب تذكر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مجلس خاص؛ لأن الأعراب حينما كانوا يأتون إليه لا يفرقون بينه وبين سائر المسلمين ولا يعرفونه، فجعل له مجلساً خاصاً يميزه عند من يأتيه وهو لا يعرفه فيقصده صلى الله عليه وسلم، ولكني لم أجد في من أرّخ للمسجد النبوي هذا المجلس الخاص يذكرون أسطوانة الوفود في الروضة، التي كان يستقبل عندها الوفود، ويذكرون غيرها من الأسطوانات مثل أسطوانة السرير عند الاعتكاف، وأسطوانة التوبة لـ أبي لبابة، وأسطوانة المخلقة التي كان يجلس عندها ويجلس عنده شيوخ بني هاشم أو شيوخ المهاجرين الذين يوجدون بالمدينة إلى غير ذلك من الأماكن.

هيئة طالب العالم أمام شيخه

هيئة طالب العالم أمام شيخه والذي يهمنا: أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الذي هو فيه، وأنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مجلساً خاصاً في المسجد النبوي يستقبل فيه الناس. ومن هنا أخذ العلماء كيفية حالة الطالب مع شيخه حين طلبه للعلم بين يديه، ومجيئه بكل وقارٍ واحترامٍ لأستاذه كما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك من حق العالم أن يتخذ مكاناً في المسجد يجلس فيه، ولا يحق لأحد أن يسبقه إليه، وإذا سبقه إليه أحد فمن حقه أن يقيمه عنه، وهذا موضوع سبق النزاع فيه في هذا المسجد في القرن السابع الهجري، وقام ابن فرحون وكتب كتاباً - وهو مخطوط موجود في مكتبة عارف حكمت، وتوجد منه نسخة في مكتبة الجامعة- وذلك عندما نازعه أشخاص في أن يختص بمجلس له، فكتب الرد عليهم، وبين مشروعية ذلك، وأتبعه ب Q هل الأفضل للعالم بعد أداء الدرس أن يجلس مع طلابه يتناقشون في مسائل درسهم ويصلي مكانه، أو أنه يتركهم ويذهب إلى الصف الأول لفضيلته؟ ورجح أن جلوسه مع طلابه يدارسهم ويسألونه ويجيبهم عما أشكل عليهم في درسه أفضل له من أن يتقدم إلى الصفوف الأول؛ لأنه حاضرٌ قبل أن يتم الصف الأول. وفي تلك الهيئة، يسند جبريل ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويضع كفيه على فخذيه، أي: فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، كما يذكر بعض العلماء، وفي رواية عند النسائي فيها التصريح بأن جبريل وضع كفيه على فخذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الهيئات التي رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام

الهيئات التي رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وهنا وقفة: فهذا جبريل الملك الذي سد الأفق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:7-8] وذلك عندما طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يراه على هيئته الحقيقة، فرآه فإذا به يسد الأفق بجرمه، وهذا هو جبريل الذي رفع قرية قوم لوط على طرف جناحه، حتى سمعوا صياح الديكة والحيوانات في سماء الدنيا، ثم قلبها كما قال الله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] أي: المنقلبة، فإذا به يأتي ويظهر في سورة رجل، ويدخل المسجد من بابه، ويأتي إلى مجلس رسول الله، يسند ركبتيه إلى ركبتيه وكفيه على فخذيه. كيف تحول جبريل عليه الصلاة والسلام من هذا القدر العظيم إلى هذه الصورة؟ هذا عالمٌ نوراني لا دخل للعقل فيه قط، وكذلك نرى من أحوال الجن وهو عالم نيراني -أي: من النار- ما يتشكل ويتجنس، وإذا تشكل في صورة أحكمته أحكام تلك الصورة. فجبريل عليه الصلاة والسلام يتشكل بهذه الصورة، وأحيانا كان يتشكل كما قال صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه، وقد كان يأتي في خفاء عن الناس، وهنا يأتي ظاهراً عياناً لكأنه يُشهد الخليقة بأن هذا جبريل الذي يأتيني بالوحي ما كان خافياً فقد أصبح ظاهراً، وقد يراه بعض الناس وقد لا يراه. وقد جاء في أحاديث حق الجار عن بعض الأنصار قال: (خرجت مع أهلي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا برجل يقاومه -يعني: قائمٌ معه، والمقاومة يكون فيها كلٌ شخص قائم لصاحبه- فجلست وظننت أن له حاجة، ولقد رثيت لرسول الله من طول القيام مع هذا الرجل، فلما ولى الرجل، جئت وقلت: يا رسول الله! والله لقد رثيت لحالك من طول قيامك مع هذا الرجل، قال: أرأيته؟ قلت: بلى، قال: أتدري من هو؟ قلت: لا. قال: إنه جبريل، ولو سلمت عليه لردّ عليك السلام؛ ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) . وحديث ابن عباس، وذلك لما (جاء العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذن ثلاث مرات فلم يؤذن له، والباب مفتوح والرسول أمامه، والعباس يرى رسول الله، ويستأذن عليه فلا يأذن له، فرجع مغاضباً -وكان في بني هاشم حدّة- فلما رأى ابن عباس أباه مغضباً، قال: يا أبت! لم تغضب؟ لعله مشغول بالرجل الذي عنده يحادثه، قال: وهل عنده رجل؟ قال: بلى، قال: ما أرى شيئاً، قال: ارجع، فرجع فإذا بالرجل الذي عنده ليس موجوداً، فاستأذن فأذن له رسول الله، فقال: يا محمد! جئتك واستأذنت عليك ثلاث مرات فلم تأذن لي وأنا أراك بعيني، والغلام يقول: لعلك كنت مشغولاً بالرجل الذي كان عندك، فقال: أرأيته يا غلام؟ قال: بلى، قال: أتدري من هو؟ هذا جبريل عليه السلام كان عندي آنفاً) . إذاً: جبريل عليه السلام وهو ملك؛ إما أن يتحول في صورة البشر ويقترب من البشر، ويقترب من رسول الله فيما يمكن أن يأخذ عنه ويلقي إليه، وإما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة الوحي، وهي أعلى منزلة في حالة البشرية العادية، حتى يتلقى عن الملك في حالته الملائكية، وهذا بناءً على ما أجرى الله لرسوله من تلك التهيئة البدنية على خلاف العادة، حينما شق صدره وهو غلامٌ صغير، فقد كان ذلك تهيئة لما سيتلقاه من الوحي الذي لا يمكن للبشر العادي أن يتلقاه. وهكذا جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً، وفي صورة رجل من أجل أن يؤدي المهمة العظمى ويعلم الناس أمر دينهم.

سبب مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم

سبب مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأت جبريل بهذه الأسئلة؟ قال بعض العلماء: لأنهم كانوا لا يحسنون السؤال، أو ربما يسأل الإنسان عما تحمله به زوجته، أو عما يأتي به الغد، أو عن أبيه من هو؟ ولهذا حظر الله عليهم كثرة سؤال الرسول، وجعل بين يدي سؤاله صدقة، فمن أراد أن يسأل رسول الله، فقبل أن يسأل عليه أن يتصدق، وليس كل إنسان يجد الصدقة، فيكف الناس عن كثرة الأسئلة ولا يسأل إلا من تصدق ومن كانت له حاجة ضرورية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] ، ثم قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة:13] . (فإذا لم تفعلوا) أي: لم تستطيعوا، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة:13] ، وهذه الصدقة شرعت ثم نسخت، كأنها تقول: احذروا كثرة الأسئلة، فمن واجب الشخص قبل أن يسأل رسول الله أن يتصدق قبل السؤال، ويقولون: إنه لم ينفذ هذه الآية إلا علي رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يطعن في سند هذا الحديث بالنسبة لـ علي. المهم عندنا أنهم أمروا أن يقيموا الصلاة، وأن يلتزموا بتعاليم الإسلام، فكفوا عن بعض الأسئلة، وكان يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (كنا ننتظر الأعرابي يأتي ليسأل فنفرح بسؤاله لنسمع الجواب) ؛ لأنهم كفوا عن الأسئلة، وما كانوا يسألون إلا في الضروريات، فإذا جاء إنسان من البادية، وليس عليه هيئة الحضر، ويسأل حاجته فيفرحون بالسؤال؛ لأنهم يسمعون الجواب، فها هو جبريل عليه السلام جاءهم بالمنهج السليم في طريقة السؤال، فهو عالم ومتعلم، وهو الذي جاء بهذه الأمور كلها بالوحي؛ ولكن ليعلم الحاضرين كيف يسألون، وليبين لهم حقيقة الدين ما هي.

تخفي جبريل حتى خفي على النبي صلى الله عليه وسلم

تخفي جبريل حتى خفي على النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر رضي الله تعالى عنه: (إذ طلع) ، هذه (إذ) الفجائية، كأننا فوجئنا بشخصٍ. وانظر إلى دقة الوصف: (شديد بياض الثياب) ، كأنه خارج من الحمام، (شديد سواد الشعر) ، كأنه لم يمش خطوة في شارع، (لا يرى عليه أثر السفر) لنصاعة بياض ثيابه، ونقاء شعره من وعثاء السفر. (ولا يعرفه منا أحد) ، أي: لا هو مسافر من بعيد، ولا هو من أهل البلد نعرفه، فلو كان من أهل المدينة لعرفه منا أحد، فلم يكن أحد من أهل المدينة يعرفه، ولم يكن قادماً من سفر، إذاً: من أين جاء؟ عمر يصف لنا الواقع، ويصف صورة مجيء جبريل التي تثير التساؤل! نحن الآن نفرض لو أننا جلوس ورأينا واحداً وهو قاعد في الوسط أطول من الحاضرين بمتر، لا نعرفه ولم نر عليه أثر السفر، نقول: من أين جاء؟ طلع من الأرض أو نزل من السماء؟! ما رأينا الأرض انشقت عنه، ولا رأينا السقف انفرج عنه ونزل، ولكن جاء بصورة رجل ودخل واستأذن، فهو رجلٌ؛ لكن من أين جاء؟ هل أحد قال: إنه رأى جدران المسجدان تنشق عنه وهو يخرج منها؟ فاقترب جبريل عليه السلام وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسند الركبتين إلى الركبتين، وأخذ كفيه وبسطهما ووضعهما على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (يا محمد!) . ومعلوم بأن نداء النبي صلى الله عليه وسلم باسمه لا يجوز، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] ، وإنما يقال: يا نبي الله، يا رسول الله، فكيف جبريل نفسه يقول: يا محمد؟ هذا الأسلوب يتخذه الأعراب، فكأن جبريل جاء ويسأل على الأسلوب الجاري عند أهل البادية وعلى طريقتهم بدون كلفة أو ألقاب ومقدمات. ثم قال: (أخبرني عن الإسلام) فأجابه صلى الله عليه وسلم. وهنا نتساءل: هل الرسول عرف بأنه جبريل حينما قال: يا محمد، ثم جاراه في الأسئلة والأجوبة، أم أنه لم يعرفه، وكأنه رجلٌ من الرجال يسأل عن الإسلام وهو يجيبه؟ يرى بعض العلماء أنه لم يعرفه، ويروي في ذلك: (ما التبس عليّ جبريل قط حينما يأتيني إلا هذه المرة، وما عرفته إلا بعد أن ولى) ، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ما عرف السائل بأنه جبريل عليه السلام حتى ولى، فعرف من توليه أنه جبريل، وقال: (ردوا عليّ الرجل) . لماذا يقول: ردوه؟ فما دام سأل وأخذ الجواب، فلماذا لم يتركه يذهب لحاله؟ لأنه تذكر بأنه جبريل عليه الصلاة والسلام.

الحديث الثاني [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [2]

شرح أركان الإسلام الخمسة

شرح أركان الإسلام الخمسة أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن الإسلام بأركان الإسلام الخمسة التي هي: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت يا محمد! قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه) . ونقف هنا عند هذه الأركان الخمسة، بالمقارنة بقوله: (أخبرني عن الإيمان) فأخبره بأمور كلها غيبية، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) .

دلالة الإسلام على الأعمال الظاهرة والإيمان على الغيبيات

دلالة الإسلام على الأعمال الظاهرة والإيمان على الغيبيات أركان الإسلام كلها أعمالٌ ظاهرة، أولها: النطق بالشهادتين، فالنطق مسموع بالآذان. وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة: وهي جزء من مالك تخرجه للفقراء. وصوم رمضان: وهو كف الإنسان عن الطعام والشراب والمبطلات للصيام. وتحج البيت: وهي رحلة طويلة إلى بيت الله الحرام لها مناسك معلومة في أيام معدودة. ولذا قالوا: أركان الإسلام تنبعث من معنى الإسلام نفسه، فهو الاستسلام والانقياد، كما قال حكيم الجاهلية: وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة أطاعت فصبت عليها سجالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا فيقول: أسلمت وجهي، بمعنى: استسلمت وانقدت لمن انقادت إليه العوالم العلوية والسفلية، الذي انقادت وأسلمت له المزن وهي السحب. تحمل عذاباً زلالا: أي الماء حينما تساق السحب إلى أرض فتسقيها. السجل: الذَنَوب الكبيرة؛ هذه السحب التي تحمل الماء العذب الزلال، من الذي أنشأها؟ ومن الذي ساقها؟ ولمن تستسلم في مسيرتها؟ لله الذي خلقها. وهذه الأرض التي تحمل الجبال التي أرسيت بها، من الذي أرساها؟ يقول هذا الحكيم الجاهلي: أسلمت وجهي لمن أسلمت له تلك العوالم التي يشاهدها؛ فكذلك الإسلام: أن يستسلم العبد لله في أوامره بأن يأتي ما أمره الله به، وفي نواهيه بأن يجتنب ما نهاه الله عنه، وإذا كان الأمر كذلك؛ كانت عوامل الاستسلام ظاهرة. وقد جاءت أحاديث تدل على أن الإسلام أعم من هذه الخمس، مثله قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: بأن يكف عن الكذب، الغيبة، النميمة، الحسد، الحقد إلخ. إذاً: الإسلام أوسع، وهو يشمل كل ما فيه معنى الاستسلام لله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، والآية تشير إلى: (يؤمنوا) (ويسلِّموا) أو كأن الإيمان والإسلام صنوان. بينما الإيمان: أن تؤمن بالله، وإن لم تره ولم تلمسه، فهو أمر غيبي، ولكن توقن بوجوده استدلالاً بآثاره: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:16] الآيات. وملائكته لم نرهم ولم نشاهدهم، وقد شاهد بعض الناس بعض الملائكة فرداً من أفراد الجنس، وإذا رأينا ملكاً واحداً لكأنما رأينا جميع الملائكة؛ لأنها جنس. لو أن شخصاً ما رأى التمر قط، ثم جيء بتمرة واحدة، ولكنه يرى البرتقال والتفاح والموز، فقال: ما هو التمر؟ قيل: خذ، فإذا رأى تمرة واحدة حكم بها على جنس التمور بجميع أنواعه، وهكذا الواحد بالجنس، والواحد بالفرد، فهذا الملك قد رئي ورآه بعض الناس، ونحن نؤمن بالملائكة ولو لم نرهم؛ لأنه جاءنا الصادق المصدوق بأمرهم، كما سيأتي الكلام على أركان الإيمان. ونحن نحتاج إلى وقفات عند كل ركن من هذه الأركان، ولكن لا نستطيع ذلك، وإلا لقضينا الوقت كله والليالي العديدة في هذا الحديث، كما يقول ابن رجب: ما من عالم من علماء المسلمين في فن من الفنون إلا ويرجع إلى هذا الحديث.

معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله)

معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله) قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله وأن محمداً رسول الله) . قولك: (أشهد أن لا إله إلا الله) أي: معتقداً بذلك جازماً بأنه لا مألوه بحقٍ إلا الله، ومألوه بمعنى: معبود، لا معبود بحق إلا الله. وجيء كلمة (بحق) لأن هناك معبودات كثيرة، كما اتخذ العرب في الجاهلية أصناماً متعددة، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] ، وفي الحديث: (تعس عبد الدرهم والدينار) . فالناس لهم معبودات كثيرة، ولكن المعبود بحق هو الله سبحانه وتعالى، وأنت تعلن ذلك في الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4-5] . فإذا قلت: لا إله إلا الله؛ فمعناها: لا مألوه ولا معبود بحق إلا الله، ولا ينبغي صرف شيء من العبادات لغير الله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، وتقدم الكلام على نية الإخلاص ونية القصد، وهي قصد التوجه لله تعالى بأعمال الخير، وهنا إذا قلت: لا إله إلا الله، كان عليك أن تلتزم بلوازمها ومفاهيمها.

معنى: (أشهد أن محمدا رسول الله)

معنى: (أشهد أن محمداً رسول الله) إذا قلت: (أشهد أن محمداً رسول الله) ، فمعنى الرسالة أن الله أرسله، والرسول لابد أن تكون معه رسالة، إذاً لا يوجد رسول بدون رسالة، ولا يسمى رسولاً إلا برسالة معه، فتؤمن بالرسول وبالرسالة التي جاءك بها من عند من أرسله. ومن لوازم (لا إله إلا الله) : أنك لا تعبد سواه، وتؤمن به وبكل ما جاء عنه، وإذا قلت: (محمد رسول الله) ، كان يلزمك أن لا تعبد الله الذي ما آمنت به إلا عن طريق هذا الرسول وبمقتضى الرسالة التي جاءك بها، فإن عصيت رسول الله، فحقيقة المعصية معصية لمن أرسله إليك، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وقد قال اللهم بلغت اللهم فاشهد، وانتهى من المهمة، وبقي التنفيذ عليك، وبقي تمام الالتزام منك. ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد) ، ويقول مرسله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، ثم يقول أيضاً: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . إذاً: معنى قولك: (أشهد أن محمداً رسول الله) التزام طاعة رسول الله، وهي طاعةٌ لله: (من أطاعني فقد أطاع الله) ، ونحن نشبه ونقول إيضاحاً لهذا الالتزام: إنه في العرف الدبلوماسي يعبرون بقولهم: تبادل السفراء بين الدول؛ لأن الدولة لا تتعامل مع الدولة بأن يأتي وزراء الدولة كلهم إلى وزراء الدولة الأخرى بكل حاجياتهم، ولكن يختار رئيس الدولة مبعوثاً عنه يسمى سفيراً، فيأتي ويقدم أوراق اعتماده إلى الدولة التي هو سفير فيها، وبعد ذلك يكون سفيراً رسمياً بين الدولتين، وكل ما يأتي به هذا السفير من دولته إلى الدولة التي هو مبعوث إليها يكون كلامه لا باسمه الشخصي ولكن باسم دولته ورئيسها، فإذا قبلت تلك الدولة ما جاءهم بها كانت العلاقة حسنة وتواصلت الروابط الدبلوماسية، وإذا رفضت ما جاء به كان تعكر الجو السياسي، وسحب كل بلد سفيره، وربما قطعوا العلاقات الدبلوماسية، لأنهم رفضوا ما جاء به السفير من عند دولته، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بأوراق اعتماده من المعجزات الباهرات حسياً ومعنوياً.

معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس معجزات الأنبياء

معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس معجزات الأنبياء يقول السيوطي: ما أوتي نبي معجزة إلا وأوتي نبينا صلى الله عليه وسلم من جنسها. فموسى عليه السلام أوتي العصا تنقلب حية تسعى، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى عكاشة في بدر قطعة خشب لما جاءه وقال: انكسر سيفي، فأعطاه عوداً من الخشب وقال: اضرب وقاتل بهذا، فأخذه فانقلب في يده سيفاً بقي عنده إلى ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم!. والرسول صلى الله عليه وسلم حينما لقي ركانة في مكة قبل الهجرة ودعاه إلى الإسلام، قال: (يا محمد! دعك عني، قال: أتصارعني، فإن صرعتني فلك شاة، فصارعه، فصرعه رسول الله، فقال ركانة: واعجبا تصرعني أنت، والله ما وضع أحد جنبي على الأرض قبلك، أتعود للثانية؟ قال: نعم، قال: ولك شاة. ففعل ذلك ثلاث مرات، حتى قال ركانة: يا ويح ركانة، ماذا أقول لأهلي: شاة أكلها الذئب وشاة شردت عني، وماذا أقول في الثالثة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: لا أجمع عليك الغلبة والشياه، خذ شياهك، فعجب ركانة، قال: أتعجب يا ركانة! ألا أريك أعجب من هذا؟ قال: وما هو؟ فنظر إلى شجرة هناك فقال: تعالي، فجاءت تخط الأرض حتى وقفت بين يديه، ثم قال: عودي حيث جئت، فعادت، فقال: ركانة أمهلني أنظر في أمري) . أكثر من هذا أن الجذع الذي كان يحن إليه صلى الله عليه وسلم، جذع له ثمان سنوات وهو يخطب عليه؛ لأن المنبر صنع سنة ثمان من الهجرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ على الجذع حينما يخطب، فلما تحول وصعد المنبر، فإذا بالجذع اليابس يحنّ لرسول الله كحنين الناقة العشراء، يسمعه جميع من في المسجد، فيأتي إليه ويمسح عليه، ويقول له: (إن شئت ذهبت وغرستك في البستان وصرت نخلةً تثمر تعود إليه الحياة، وإن شئت أن تكون غرساً من غرس الجنة أدفنك هنا في الروضة، فيجيب الجذع وهم يسمعون: بل أكون من غرس الجنة) . موسى عليه السلام كان معه معجزة الحجر، كما قال الله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [الأعراف:160] ، يخرج الماء من اثنتا عشرة عيناً من الحجر الذي مع موسى بضربة من العصا. والنبي عليه الصلاة والسلام في عدة مرات يقل عليهم الماء ويؤتى صلى الله عليه وسلم بمخضب -إناء صغير- فيه ماء، ويضع فيه كفه ويدعو الله بما شاء، فإذا الماء ينبع من بين أصابعه، فيتوضئون ويشربون ويرتوون. ونتساءل أيهما أقرب إلى طبيعة الأشياء: انبجاس الماء من حجر وهو جزء من أجزاء الأرض التي تختزن الماء في جوفها، أو نبع الماء من بين دم ولحم؟ وأيهما أدخل في الإعجاز؟ A الذي من بين الأصابع، لأن الحجر يمكن أن تضعه في الأرض ويمتد له الماء من الأرض، والحجر من طبيعته أن ينبت الماء، ولكن أن يخرج الماء من بين الأصابع ويسقي الناس هذا عجيب!. عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه ويحيي الموتى بإذن الله، وكم من مريض شفاه الله على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب حينما كان أرمد يوم خيبر، وجيء به يقاد بين اثنين؛ فيتفل في عينه صلى الله عليه وسلم فلا يرى رمداً بعد ذلك، وأبو قتادة الأنصاري سالت عينه على خده في أحد، وردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن العينين إبصاراً. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالمعجزات، وفي كل قومٍ يؤتى لهم بما يناسبهم. جاء أعرابي وسلم وكانوا يتعشون، فجلس وقال: (يا محمد! من يشهد أنك رسول الله؟ قال: القصعة التي تأكل منها، فرفعها فإذا بها تقول: محمد رسول الله، فقال الذي بجواره: أسمعنيها يا رسول الله؟ قال: أسمعه، فلما طلب الثالث قال: ضعها في الأرض) ، ولم يتركها تتجول بين الناس؛ لأنها أمور خارقة للعادة.

معجزة القرآن الخالدة

معجزة القرآن الخالدة أعظم معجزة لرسول الله التي هي لها صفة الدوام والبقاء، والتي لها الإعجاز الأكبر: القرآن الكريم؛ لأن كل معجزة نبي كانت مؤقتة بوقته وبزمنه، فعصا موسى انقضت بموسى، إحياء الموتى لعيسى انقضى بعيسى، وآية إبراهيم: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ، وآية نوح ومجيء الطوفان انتهى أمرها وقضي الأمر واستوت على الجودي. إذاً: كل معجزة لنبيٍ إنما كانت مرتبطة بشخصه وبزمنه؛ إلا معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي الباقية، وهي التي تحدى الله بها العقول، وليست خوارق للعادات، وإذا كان الأمر يتحدى العقول فإن العقلاء يقفون عند حد، أما إذا كان فوق العقول وفوق القدرات فإن الإنسان يقف منه موقف من يشعر بالعجز؛ لعجز الطاقة عن ذلك، فلا يستطيع البشر أن يأتي بحية من عصا، لكن هذا خارق فوق العادة ملموس. أما القرآن فبلغتهم وبحروفهم وبكلامهم، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، كان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول في أوائل سورة البقرة: أول نداء في المصحف الشريف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا * وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21-22] ، مَنْ الند الذي يمكن أن يخلق أرضاً فراشاً، مَنْ الند الذي يمكن أن يوجد سماءً بناء؟ مَنْ الند الذي يمكن أن ينزل من السماء ماء؟ مَنْ الند الذي يمكن أن ينبت من الأرض نباتاً رزقاً لكم؟ لا يوجد. ثم بعد أن أقام الآيات البينات على وجود الخالق سبحانه، دعاهم إلى عبادته لأنه خالقهم، والمستحق للعبادة وحده، ثم جاء بإثبات الرسالة: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] ، أي: في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] ، أي: ائتوا بالإنس والجن يعاونونكم على هذا. القرآن ليس غريباً عنكم هو: {ألم} [البقرة:1] ، و: {كهيعص} [مريم:1] ، و: {ص} [ص:1] ، و: {ق} [ق:1] ، و: {ن} [القلم:1] ، و: {ألر} [يوسف:1] ، هذه الحروف التي تعرفونها، والتي تؤلفون منها أشعاركم، والتي تتكلمون بها في خطبكم، والتي تتحادثون بها فيما بينكم، لم يأتكم بشيء غريب عنكم، ولكنه منزل من عند الله. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] ، وهذا تحدٍ فوق التحدي، ائتوا بسورة من مثله، ثم يقول: وأنا أخبركم مقدماً أنكم لن تفعلوا. ولم يفعلوا، ويبقى إعجاز في إعجاز وتحد في تحد. إذاًَ: قامت البينة بأن ما أنزله الله على رسوله إنما هو وحيٌ من عند الله، وقامت البينة على أن القرآن الكريم هو وحيٌ من عند الله، وكان في ذلك إثبات لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمنا بأن محمد بن عبد الله هو رسولٌ من عند الله أرسله بكتابه.

معصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي معصية لله تعالى

معصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي معصية لله تعالى فقولنا: (وأشهد أن محمداً رسول الله) : الرسول لا بد له من رسالة، وهذه هي رسالة الله إلى خلقه، جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان لزاماً علينا أن نلتزم بتلك الرسالة، فإذا عطلنا شيئاً منها كان ذلك عصياناً لله وليس لرسول الله فقط. ويجب أن نعلم أن المعصية لله ورسوله قسمان: معصية غلبة النفس والهوى، ومعصية التعنت والعناد، وهذه عياذاً بالله قد تخرج من الملة؛ فمن جحد شيئاً مما جاء به رسول الله، أو استحل شيئاً مما حرمه رسول الله، أو حرم شيئاً مما أحله رسول الله، وقال: إنه حرام، لا أنه امتنع منه، فإنه كافر برسالة رسول الله من عند الله، وليس صادقاً في قوله: (محمد رسول الله) . وإننا نعلم أن كلمة (نشهد) بدل أقر أو أعترف أو أخبر بأن، والله سبحانه وتعالى قد أخبر عن قوم فقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] ، قد قالوا: (نشهد إنك لرسول الله) فكيف يكونون كاذبين؟ لأنهم: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:2] ، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. ولهذا كان حديث: (من قال: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة) معنى الحديث: أن يقولها خالصة من قلبه، وأن يلتزم بمدلولها. وإذا كان الإسلام كله أعمالاً ظاهرة تؤيد مدلول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فإن العلماء يبحثون بعد ذلك: فيمن ترك ركناً من أركان الإسلام هل يصدق عليه: أنه مسلم أم أنه نقض الشهادة بتركه الركن؟ يبحث العلماء في هذا بحثاً طويلاً، ويختلفون في الأركان الثلاثة: الصيام والزكاة والحج، والاختلاف أقل في الصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حقها: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) . وقد بوّب الشوكاني في نيل الأوطار: باب من يرى الكفر في ترك الصلاة، وبعد ذلك جاء بالنصوص، وجاء بباب آخر هو: باب من لا يرى الكفر في ذلك، والأحاديث في هذا عديدة، يصعب علينا أن نمليها وأن نتكلم فيها، لأنها تقتضي الوقت كله. إذاً: جبريل عليه السلام سأل عن الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم أجابه بالأركان الأساسية، وهي: الشهادتان، وإقام الصلاة، وأداء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت بالشرط: إن استطعت لذلك سبيلاً. هذا ما يتعلق بالإسلام، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

الحديث الثاني [3]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [3]

الكلام على الإيمان بالله

الكلام على الإيمان بالله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه ومن والاه. وبعد: فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) . وقد تقدم الكلام على أول هذا الحديث من مجيء جبريل عليه السلام، وكيفية جلوسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤاله: (أخبرني عن الإسلام؟) ، وجوابه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بأركان الإسلام الخمسة، وسيأتي زيادة بيان لهذا الجواب عن الأركان الخمسة، وعلاقتها مجموعة أو مفرقة في الحديث الثالث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) ، وليس ذلك تكراراً من النووي للحديثين. بل يأتي التنبيه على نكتة مجيئه في موضعه.

معنى الإيمان لغة وشرعا

معنى الإيمان لغة وشرعاً وقول جبريل عليه السلام: (أخبرني عن الإيمان؟) هذا سؤال ثانٍ منه عليه السلام بعد أن سأل عن الإسلام وتلقى الجواب، فسأل ثانية عن الإيمان. والإيمان لغة: التصديق، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] أي: مصدقٍ لنا. وإذا كان الإيمان لغة: التصديق، فإن الإيمان في عرف الشرع واصطلاحه عند سلف الأمة إنما هو: اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح. ويبحث علماء الكلام في مفهوم الإيمان شرعاً: هل العمل داخل ضمنه، أم أن العمل من لوازمه؟ وهل الإيمان يزيد وينقص، أو لا يقبل زيادة ولا نقصاناً؟ وسيأتي التنبيه عليه إن شاء الله.

علاقة الإسلام بالإيمان

علاقة الإسلام بالإيمان وهنا يأتي Q كيف سأل جبريل عليه السلام السؤالين مرة عن الإسلام ومرة عن الإيمان؟ ومن هنا يبحث العلماء عن علاقة الإسلام بالإيمان، وعلاقة الإيمان بالإسلام، ويتفقون على أن الإيمان أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وهل كل مسلم مؤمن؟ قالوا: لقد جاء القرآن الكريم وفرّق بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان، قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، ومن هنا أطال العلماء البحث في هذه المسألة وقد أورد الإمام الطحاوي في كتابه ما يتعلق بهذا الحكم، وكذلك السفاريني في عقيدته، وكلهم يتفق: على أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان؛ يجتمعان إذا ذكر واحدٌ منهما، ويفترقان إذا ذكرا معاً. فإذا قيل: أمة الإسلام بخير فيدخل المسلمون والمؤمنون، وإذا قيل: المؤمنون على خير، أي: والمسلمون، أما إذا ذكر معاً: فالإسلام خير والإيمان خير منه أو أخص منه، فلكل اسم ومسمى، ومثل ذلك لفظا (الفقير والمسكين) فإذا اجتمعا افترقا، أي: إذا ذكر الفقير والمسكين كان للفقير معناه وللمسكين معناه، وإذا ذكر واحدٌ منهما اشتمل على الثاني. وعلى هذا: إذا أفرد الإسلام فقط، فإنه يتضمن ما تضمن معنى الإيمان، وإذا ذكر كل واحد مع الآخر، فكل واحدٍ له مسماه ودرجته، {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] . {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، والمسلمون كذلك. ومثل هذا: (المسلمون والمسلمات بعضهم أولى ببعض) ، والمؤمنون من باب أولى أن يكون بعضهم أولى ببعض. ومثال اجتماع لفظ الفقير والمسكين قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية. إذا تبين لنا هذا؛ فما مدلول معنى الإيمان الذي أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في سؤاله؟

أدلة الإيمان بالله

أدلة الإيمان بالله إذا كان الإيمان لغة: التصديق، وشرعاً: ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يخرج عن المعنى اللغوي ولكن أضاف إليه جزئية: (أن تؤمن بالله) ، ومعنى تؤمن هنا: تصدق وتعتقد وتلتزم. ومعنى الإيمان بالله: التصديق بالله، وعلى أي شيء تصدق؟ هل على مجرد وجود الله؟ فإن الكفار والمشركين كانوا يؤمنون بذلك، والله سبحانه قد أقام الأدلة العقلية على وجوده، وجاءت النصوص النقلية بوجود الله سبحانه وتعالى. كما جاء عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال: من الذي لرغبتك ورهبتك وحاجتك؟ قال: الذي في السماء) . فمع وجود آلهة ستة في الأرض فهو يؤمن بالله، ولكن على المشاركة، وإيمانه بالله خاصٌ عند الشدة، كما قال الله عن المشركين إذا جاءتهم شدة: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] ، والإيمان بإله معبود أمرٌ من ضروريات البشر، ولذا لا تجد فرداً من بني آدم إلا ويؤمن بمألوهٍ عنده، سواء كان ذلك المألوه حقاً أو باطلاً، لماذا؟ لو نظرت إلى وجود الإنسان من حيث هو كما بين الله: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] ، فهو ضعيف أمام قوى الطبيعة أو الكائنات أو الموجودات كما هو مشاهد، فهو يرى الجبال الشامخة، والسماء المرفوعة المسموكة، ويرى الأرض المبسوطة والمحيطات المتلاطمة كلها كائنات لم يخلقها ولم يعلم كنهها فيتساءل: ما الموجد لهذه القوى العظيمة؟ لابد في النهاية أن يرجع فكره إلى موجد لها: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] فهم لم يخلقوا من غير شيء، ولم يخلقوا أنفسهم. إذاً: لم يبق إلا أن لهم خالقاً هو الله. {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور:36] ، لم يخلقوها ولم يدّعوا ذلك، إذاً: خالقها هو الله، فإذا كان العبد على توفيق من الله؛ كان مألوهه هو الله رب العالمين، وإذا حرم السعادة -عياذاً بالله- اتخذ له إلهاً على ما يزعم بأن يكون هذا المألوه عنده يحفظه من تلك القوى التي لا يقدر عليها، بأن يجلب له الخير أو يدفع عنه الضر، ولذا فالمولى سبحانه لما عاب على المشركين عبادتهم لأصنامهم، عاب عليهم بأنهم يعبدون ما لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يسمعونهم إذ يدعون. ومن ناحية أخرى: حينما ينام الإنسان ويرى في منامه الأشياء الكثيرة، ويرى عوالم أخرى لا يدرك كنهها، فإنه يتطلع إلى وجود عوالم أخرى فيتساءل: أين تلك العوالم ومن أوجدها؟ ثم يذهب في نهاية الأمر إلى وجود موجد لها، والله سبحانه خلق في العبد عقلاً، وأمره أن ينظر في ملكوت السماوات، وأن يسير في الأرض وينظر في آيات الله الكونية ويتدبر فيها، ثم أرسل إليه رسلاً وأنزل إليه كتباً، وأعلمته الرسل بصدق دعواها الرسالة بما أثبت لها الله من آيات ومعجزات. والمسلم قد التزم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ، وجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتاب الذي فيه آيات القرآن الكريم فيما يتعلق بحقوق الله سبحانه، فالإنسان من حيث هو لابد أن يجعل له مألوهاً يجلب له الخير لعجزه، ويدفع عنه الضر لضعفه، فإن وفقه الله واتبع رسله، كان مألوهه هو الله سبحانه وتعالى. إذاً: الإيمان بإلهٍ ضروري، ولذا تجد من الوثنين والصابئة من عبدة النجوم والكواكب والأحجار من يعتقد أن في ذلك جلب نفع إليه أو دفع ضرٍ عنه، حتى قال المانوية: إله الخير وإله الشر، وكل ذلك ضلال عقلي، والعقل السليم والفطرة السليمة تهتدي بفطرتها إلى الله، قال الحكيم الجاهلي: في الذَّاهبين الأَوَّلينَ من القُرون لنا بصائرْ لمَّا رأيْتُ موارداً للموت ليس لها مَصادِرْ أيقنْتُ أنِّي لا مَحالةَ حيثُ صار القومُ صائرْ وهذا الذي وقف في سوق عكاظ، وقال: سماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا تدل على العليم الخبير؟ فنظر في هذه العوالم الكونية حوله فعلم بأن لها موجداً، وأسلم لصاحب هذه الآيات الكونية، وكما أشرنا في قول القائل سابقاً: وأسلمتُ وجهي لمن أسملتْ له المُزْن تحمِل عَذْبّاً زُلاَلا إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصبت عليها سِجالا وأسلمتُ وجهِي لمن أسلمتْ له الأرض تَحمِل صَخْراً ثِقَالا وهذه الفطرة حينما ينظر بها العقل السليم، يعلم بأن هذا الكون الفسيح لابد له من صانع.

إلزام الفلاسفة بوجود الخالق

إلزام الفلاسفة بوجود الخالق يقول علماء الكلام في إلزام الخصم عقلاً، كما يذكرون عن أبي حنيفة رحمه الله، ولم أدر عن صحة هذه الرواية ولكن فيها معقولية، فقد كان من الفلاسفة من يمنع وجود الله ويقول: لم نر ولم نسمع، ومثل هؤلاء العلمانيون الذين لا يؤمنون إلا بالمشاهد للملموس. فالفلاسفة طلبوا من الخليفة أن يعقد لهم مجلساً مع أبي حنيفة يناظرهم في إثبات وجود الله على أي وجه. يقولون في القصة -وقد تكون مختلقة أو منظمة لإثبات هذه القاعدة-: فأعطى الموعد، وانعقد المجلس فلم يأتهم، وتأخر عليهم ساعات عديدة ثم جاءهم، قالوا: كيف تكون إماماً وتخلف الوعد وفيه ما فيه؟ قال: مهلاً! لقد حرصت على المجيء في الموعد، ولكن بيني وبينكم البحر -أظن أهل بغداد يعرفون الأعظمية مقابل دار الخلافة- ولما تأخرت المركب مر رجلٌ يحمل حطباً فناديته وأخذت منه الحطب وأخذت ألقيه خشبة بعد خشبة، ثم جاء رجل حداد ومعه مسامير، فأخذت المسامير وألقيت واحداً بعد واحد إلى أن التأمت تلك الأخشاب مع تلك المسامير وصار مركباً فركبت وعبرت وجئتكم. فقالوا: أنت بعقلك اليوم؟ قال: وما بي؟ قالوا: هل من المعقول أن تلقي بالأخشاب في الماء، ثم تلقي بالمسامير، فيتألف الخشب مع المسامير فيصير مركباً تركب عليه وتعبر دونما صانع يصنعه، قال: واعجباً لكم! تستبعدون تركيب سفينة بدون نجار يصنعها، ولا تؤمنون بوجود خالق لهذا الكون العظيم، أي: تقولون: السفينة الصغيرة هذه لابد لها من صانع، وتنكرون صانع هذا العالم بكبره، هل يمكن لهذا العالم أن يوجد بدون موجد. فانتهى المجلس بهذا. ولذا المولى سبحانه أقام الأدلة العقلية على وجوده سبحانه، وهي ضرورة، وهذا يسميه علماء الكلام: دليل الإلزام، ومن ذلك: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] . يقول علماء الأصول: بالسبر والتقسيم لكل الاحتمالات العقلية في وجودنا وجدنا أنه لا يخلو الأمر من هذه الأقسام التي سماها الله: هل خلقنا من غير خالق، ومن غير مادة أساسية نخلق منها، بل جئنا هكذا من العدم. أو نكون نحن خلقنا أنفسنا! العقل يقول: إن قلنا: إننا خلقنا من غير شيء فهذا لا يتأتى؛ لأن ما كان من غير شيء فهو عدم، والعدم لا يعطي وجوداً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالملح لا يحل محل السكر. إذاً بقي الاحتمال الثاني: هل أنتم خلقتم أنفسكم؟ ولو قال قائلٌ: نعم. أنا خلقت نفسي؛ لقيل له: قبل أن تخلق نفسك، أين كنت: في العدم أو لا؟ ومن الذين أبرزك من العدم وصرت في الوجود حتى تخلق نفسك؟! إذاً: لا يمكن أن يدعيها إنسان. في أول سورة البقرة قال الله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] ، أنتم الآن وجدتم، فهل تدعون أنكم خلقتكم آباءكم وأجدادكم الأولين؟ بل هم خلقوا قبل أن توجدوا أنتم في الحياة؛ فلا يمكن للإنسان أن يدعي أنه خلق من كان قبله، فإذا لم يكن البشر خلق من لا شيء، ولم يكن البشر خلق نفسه، فلابد له من خالق، وهو الله سبحانه وتعالى.

معنى قولنا: إن الله واجب الوجود

معنى قولنا: إن الله واجب الوجود إن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود وليس جائز الوجود. ومعنى (واجب) : أن وجود الله سبحانه لم يسبق بعدم، بخلاف جائز الوجود، مثلاً: أنت الآن لم تتزوج، ثم تزوجت ولكن لم تنجب ولداً، فولدك الذي في الغيب جائز الوجود وليس بواجب، بمعنى: أنه يجوز أن يولد لك ولد ويجوز أن لا يوجد لك ولد، فالأمر مستوي الطرفين: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49-50] ، فالولد الذي لم يولد بعد جائز الوجود وجائز العدم، فإذا ما وجد بعد العدم، فننظر: من الذي رجح أحد الطرفين المتساويين؟ أي: إذا كان الوجود والعدم متساويين بالنسبة لمن لم يولد، فمن رجح جانب الوجود على العدم، وجاء به إلى الحياة؟ إذاً: كل موجودٍ لابد له من موجد إلا المولى؛ لأن وجود المولى واجبٌ، لو قلنا: إن الله سبحانه وجد بعد أن لم يكن؛ فمن الذي أوجده سبحانه وتعالى؟! وإذا قيل إن هناك من أوجده فإن الذي أوجده أحق منه بالألوهية، فهو الإله؛ فلم يسبق وجود الله عدم؛ فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والقديم الذي لم يسبقه عدم. {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] . فالإيمان بالله بمقتضى نصوص الكتب السماوية وبمقتضى النظرة العقلية أمرٌ ضروري، ولذا كان كل من ينفي وجود الله فهو مكابر، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، فكل البشر مقرون بوجود الله، ومن ينفي ذلك فهو مكابر. وكما قال: المانوية الذين يقولون بإلهين اثنين: إله الخير وإله الشر، النور والظلمة، يقولون: النور أقوى من الظلمة؛ لأن النور إذا جاء انعدم الظلام، فهو أقوى منه، فرجعوا في النهاية إلى إله واحد، لكن لم يهتدوا إلى حقيقة من هو. والكلام في هذا الموقف طويلٌ عريض، يدعو إلى الكلام عن صفات الله، والكلام في أسماء الله وفي أفعال الله، وكل ذلك مكانه كتب العقائد، وهي مسطرة وموضحة بحمد لله، ولكن الذي يهمنا في هذا الحديث في بيان الإيمان أولاً وقبل كل شيء: أن تؤمن بالله. وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله؛ لأن منطلق كل إيمان ومنطلق كل عمل يرجع إلى هذا المبدأ؛ لأنك إذا آمنت بالله آمنت بأنه موجود، وأنه فعال لما يريد، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب، وشرع وأمر ونهى، وأعد جنة وناراً إلى آخره. فالمؤمن بالله أول خطواته إيمانٌ بكل لوازم الإيمان بالله، وهو كل ما جاء عن الله وأخبر به رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولعلكم تجدون بعض الشراح لهذا الكتاب أو لهذا الحديث يذكرون وجود تكرار، وهل هناك إعادة بذكر الخبر بلفظ المبتدأ؟ (أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن) ، أنا أسألك عن الإيمان، وأنت قلت: الإيمان أن تؤمن، كأنه يقول: فيه الدور والتسلسل؛ وليس بصحيح. جبريل عليه السلام سأل عن الإيمان الذي يجب على الإنسان أن يصدقه ويعتقده العبد، فأجابه صلى الله عليه وسلم بمجموع المسميات في هذا الجواب، فكأنه يقول: هذه الخصال هي الإيمان الذي تسأل عنه.

الإيمان بالله وصفاته

الإيمان بالله وصفاته الواجب في هذا المقام الإيمان بوجوده وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وكل ما سمى الله به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله وكل ما أخبر الله به عن نفسه من فعل أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وجب الإيمان به. على المبدأ الأساسي: نؤمن بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله في صفات الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقاعدة الأساسية لهذا الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ هي قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فنفى عن نفسه سبحانه المثلية، وأثبت لنفسه سبحانه أنه السميع البصير، فإذا أردت أن تثبت سمعاً أو بصراً، فلا يخطر ببالك ولا بخاطرك ولا بفكرك أي سمع وأي بصر على أي مثال كان؛ لأنه (ليس كمثله شيء) ، فهو كما قال الشافعي رحمه الله: نحن مكلفون بإيمان تصديق وإثبات، لا إيمان تكييف وتمثيل. ومن هنا: كان السلف يثبتون لله صفاته دون تشبيه، وينفون عنه النقائص دون تعطيل، فهو إيمان بلا تكييف ولا تمثيل، ونفي بلا تعطيل. وعلى هذا قامت عقيدة السلف في الله سبحانه وفي أسمائه وصفاته، أما الذين قالوا: إذا أثبتنا سمعاً أثبتنا الأذن، وإذا أثبتنا بصراً أثبتنا عيناً؛ فالذي أوقعهم في هذا أنهم يقيسون صفات الله على صفات المخلوق. والمولى لطفاً بعباده قدّم لهم القاعدة الأساسية: (ليس كمثله شيء) ، وذات المولى لا تشبه الذوات، والعقل لا يستطيع أن يتصور كنه ذات الله، إذ لما سألوا الرسول: أخبرنا عن الله، أهو من كذا أو من كذا؟ أقريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فجاء الجواب عن الأولى، وهو السؤال عن الذات: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، سألوه عن الذات فأجابهم بذكر الصفات؛ لأن الذات فوق العقل والإدراك، ولهذا فرعون لما سأل موسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] ؟ (وما) عند المناطقة يسأل بها عن الماهية، يقال: ما الإنسان؟ وA حيوان ناطق، ما التمر؟ تمرة النخل، فلما سأل فرعون بـ (ما) التي للماهية، والماهية بالنسبة لله لا تشرح ولا تدرك، بل يعرف رب العالمين بصفاته وأفعاله، فأجاب موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] . ثم قال: بل رسولكم مجنون؛ لأنني أسأله بـ (ما) التي لشرح الماهية فيذهب يجيب لي بصفاته. وهل أنت يا مسكين تستطيع أن تدرك حقيقة الله، إبراهيم عليه السلام لما سأله النمرود عن ربه، قال: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] فوجده أبله، قال: على مهلك فإن ربي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] ، يحاجه في صفات الله وأفعاله، فبهت الذي كفر. ولهذا لما سألوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] . وكذلك عندما قالوا: انعت لنا ربك من أي شيء هو؟ فقد كان لهم آلهة من حجر ومدر وذهب إلى آخره، فيريدون من النبي أن يبين ما ربه، فنزلت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، أحدٌ في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وعبوديته، فنعبده وحده: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] . قالوا: أحدٌ بخلاف واحد؛ لأن الواحد مقابل الاثنين والثلاثة، أما أحد فلا نظير له، تقول: جاء رجلٌ واحد، وفي الدار رجلٌ واحد، أي: ليس اثنين، ما في الدار إلا رجلٌُ واحد، فتنفي أن يوجد اثنان من جنسه، لكن: ما في الدار أحدٌ، تنفي الوجود بالكلية. إذاً: أنت تؤمن بالله، وبوحدانيته سبحانه وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.

الحديث الثاني [4]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [4]

الإيمان بالملائكة

الإيمان بالملائكة قال صلى الله عليه وسلم: (وملائكته) . يقولون: أصل الملك مألك، والمألك أو الألوكة الرسالة، والملائكة هم رسل الله إلى الخلق، وحقيقة الملائكة -أقصى ما نعرفه عنهم-: عبادٌ مكرمون، وهم عالمٌ نوراني خلق من النور، ويتفق أهل السنة على أن الملائكة ليسوا كالبشر، ولذا لا يقال فيهم: إنهم حيوان ناطق كالإنسان؛ لأن الإنسان حساس نامٍ، أي: يبدأ من الصغر ثم ينمو ويكبر، والملك ليس يحتاج إلى نمو، وإنما يخلق على ما هو عليه. ولهذا لا طاقة للعقل في إدراك كنه الملك، وقد جاءت أحاديث توقف العقل عند حده.

طوائف الملائكة وأعمالهم

طوائف الملائكة وأعمالهم جاء في أمر جبريل عليه السلام، لما طلب منه رسول الله أن يريه ذاته على طبيعته، أنه ظهر له وقد سد الأفق كله، وفي الصحيح: (ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد أو راكع يذكر الله) . ويتفق علماء السنة أيضاً بأن الله جعلهم طوائف، ولذا: التاء في: (ملائكته) ليست للتأنيث ولكنها للطوائف المتعددة، فهناك ملك الوحي جبريل عليه السلام، وهناك ميكائيل الموكل بالأرزاق وما ينزل من السماء إلى الأرض، وهناك عزرائيل الموكل بقبض الأرواح ومعه أعوانه وجنوده، وهناك ملك الجبال ومن يساعده، وهناك ملائكة في البحار، وملائكة موكلة بالأرحام كما جاء في الحديث: (إن الله موكلٌ بالرحم ملكاً) ، فإذا جاءت النطفة أخذها وسأل ربه: مخلقةٌ أو غير مخلقة، ما أجله وما رزقه؟ وشقي أم سعيد؟ وهكذا ملائكة يتعاقبون فينا بالليل وملائكة بالنهار: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] . وكما يقول العلماء: مع كل إنسان أربعة من الملائكة، أحدهم عن أمامه، والآخر عن يساره حفظة له، وهناك ملائكة يكتبون عليه أعماله: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وكذلك ملائكة موكلون بالسؤال في القبر وهما منكرٌ ونكير، وإن كان ابن رجب أو غيره ينفي هذه التسمية ويقول: (عبادٌ مكرمون) ، (كرام كاتبون) فهم كرامٌ وليسوا مناكير. قالوا: منكر ونكير، أي: ليسوا على خِلقة الملائكة ولا على خلقة البشر، بل لهم شكل خاص، وبعضهم يقول: ملائكة المؤمن مبشر وبشير، وملائكة غير المؤمن منكر ونكير. إذاً: الملائكة طوائف لا يحصيها إلا الله. فهناك من وكل بأعمال العباد، وهناك من خلق لعبادة الله وحده، كما جاء في الحديث (البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة) ، وهناك من الملائكة من قد يرسل من الله بشيء خاص، كما جاء في صحيح مسلم: (بأن جبريل عليه السلام كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ سمع صوتاً فرفع رأسه إلى السماء، وقال: هذا باب في السماء فتح اليوم لم يفتح قبل اليوم قط، ثم قال: هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل إلى الأرض قبلها قط، ثم جاء وقال: السلام عليكم يا محمد! أهديك نورين، وذكر له الفاتحة وخواتيم سورة البقرة) ، وجاء في الأحاديث الأخرى تأتي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي الفاتحة وسورة البقرة ليلة الإسراء والمعراج من كنز تحت العرش. وفي غزوة بدر لما كان صلى الله عليه وسلم يرتب المسلمين ويصفهم عندما نزلوا أول منزل، فجاء الحباب بن المنذر وقال: يا رسول الله! أمنزلٌ أنزلكه الله فلا قول لأحد، أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والمكيدة، قال: فإن الرأي عندي أن نتقدم إلى آخر بئر ونبني لنا حوضاً نملؤه ماء، ونغور بقية الآبار. وإذ هو في هذه الحالة فإذا بملكٌ نزل وجبريل مع رسول الله في أرض المعركة، فقال: يا محمد! إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: الرأي ما قال الحباب، فنظر رسول الله إلى جبريل وقال: أتعرف هذا يا جبريل؟ فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] . فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل، ولكن ظاهر عليه أنه ملك وليس شيطاناً، فالجنس يعرف جنسه، وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى حيث أشار الحباب، ويهمنا أن ملكاً نزل بهذا. وفي عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف لما اشتد أمر المشركين على رسول الله، قال جبريل: يا محمد! هذا ملك الجبال، إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل هذا، وهكذا السحاب له ملك يسوقه، وهكذا العالم كله بتدبير الله على ما يلقي من الأوامر على الملائكة.

وجوب الإيمان بعالم الملائكة الغيبي ودليله

وجوب الإيمان بعالم الملائكة الغيبي ودليله نحن إن لم نشاهد الملائكة فإننا آمنا بالله الذي أرسل رسوله وأنزل كتابه، وآمنا برسول الله الذي بلغنا عن الله وأخبرنا بوجود الملائكة، هل نقول: لا نؤمن بها لأننا لم نرها؟ لا والله، بل من لطف الله بالأمة أن يري بعض أفراد الأمة بعض آحاد الملائكة، وهذا ما أشرنا إليه عند قضية ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما جاء العباس يستأذن على رسول الله ولم يأذن له وهو يراه بعينه داخل البيت، فرجع مغضباً، فقال له ابنه: لعله مشغول بالرجل الذي عنده، قال: وهل عنده أحد؟ قال عنده رجل: فرجع، ولما رجع كان الرجل قد ذهب، فقال: يا رسول الله! جئتك أستأذن عليك ثلاثاً فلم تأذن لي، ويقول هذا الغلام: إنك كنت مشغولاً برجل عندك، فقال صلى الله عليه وسلم للغلام: (هل رأيته يا غلام، قال: بلى رأيته، قال: هذا جبريل ذهب عني آنفاً) . وجاء في صورة دحية الكلبي. وكذلك قضية الرجل من الأنصار: خرجت مع أهلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقاوم رجلاً، فجلست وظننت أن له حاجة، ثم صرت أرثي لطول قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب الرجل جئت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته، قال: (هل رأيت الرجل؟ قال: قلت: نعم، قال: تدري من هو؟ هذا جبريل، ولو سلمت عليه لرد عليك السلام، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) . وخديجة رضي الله تعالى عنها لما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهراً، وكان من عادته أن يذهب هو وعلي رضي الله تعالى عنه في أي مكان من الأمكنة يعبدان ربهما، فلما غاب عنها قامت تطلبه، وخافت عليه من قريش، وأخذت غداءه معها، فلقيها جبريل في صورة رجل، قال: إلى أين أنت ذاهبة يا خديجة؟ قالت: ذاهبة إلى محمد، قال: وأين محمد؟ قالت: لا أدري. فلما وجدت رسول الله وجاء إلى البيت جاء جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (أقرئها من الله السلام، وأن الله يبشرها بقصرٍ في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، يرى ظاهره من باطنه) ، إلى آخر الحديث، وهذه خديجة ترى جبريل في صورة رجل. وكذلك الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم أتم المائة بالعابد، وخرج تائباً إلى القرية التي يعبد الله فيها، فمات في وسط الطريق فأتته ملائكة العذاب وملائكة الرحمة يختصمون فيه، فيرسل الله إليهم ملكاً في سورة رجل فيحتكمون إليه. وكذلك الرجل الذي خرج يزور أخاه في الله في قرية، فأرسل الله إليه ملكاً على صورة إنسان، وقال: أين تذهب؟ قال: أزور أخاً لي في الله. قال: هل بينك وبينه قرابة أو شراكة في تجارة؟ قال: لا، قال: أحبك الله الذي أحببته فيه. إلى غير ذلك من الصور التي هي من آحاد رؤية بعض البشر لبعض الملائكة. إذاً: على بقية أفراد البشر أن يؤمنوا ببقية أفراد الملائكة، وقد جاءت النصوص في عمومها تشمل أركان الإيمان المذكورة، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ، إلى غير ذلك، وهذا ما ينبغي على كل مسلم أن يؤمن به، أي: بأن لله ملائكة على أية حالة أو أي صفة كانوا.

مسألة المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر

مسألة المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر هناك قضية قد يخوض فيها بعض الناس وقد يكف عنها البعض، ونحن نشير إليها لأنه ربما يتناولها طالب علم، وهي: أي الفريقين أفضل من الآخر البشر أم الملائكة؟ وهل هناك مفاضلة بين الملائكة وبين بني البشر، أم ليست هناك مفاضلة؟ خير ما تقرأ في ذلك أيضاً: شرح العقيدة الطحاوية، فقد ذكر كلام الفريقين، وذكر بعض كلام العلماء في الإعراض عنها؛ لأنها لا يترتب عليها حكمٌ فقهي، ولأننا لسنا مسئولين عنها، ولكن إن عرض القول فيها فهناك من يقول: مؤمنو البشر وخواص المؤمنين والأنبياء خيرٌ من الملائكة، ويستدلون بأن الله لما خلق آدم ثم علمه الأسماء عرضهم على الملائكة، قال: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ} [البقرة:32-33] ثم قال: اسجدوا له، فلما خلق الله آدم بيده وأكرمه بالعلم، أمرهم بالسجود إليه. ولكن أجاب عن ذلك الفريق الآخر: بأن يوسف عليه السلام حينما جاءه أبواه خروا له سجداً، وليس معنى ذلك أن يوسف أفضل من أبيه ومن سائر أهله، والسجود طاعة لله بأمر الله وهو امتثال لأمره، والسجود لا يقتضي الأفضلية؛ لأنه تكريم من الله لآدم وليوسف إلى أشياء عديدة في هذا الباب، ولكن كما أشرنا: لا حاجة إلى الخوض فيها، ولسنا مسئولين عنها، ولم يأت حديث صحيح صريح في هذا الباب، ومن أراد الاستزادة في هذا المبحث بالذات فليرجع إلى الطحاوية ففيه الكفاية.

علاقة الملائكة بالبشر

علاقة الملائكة بالبشر وكما أن الملائكة في الدنيا فهم كذلك في الآخرة، وقد بين الله سبحانه ارتباط مؤمني البشر بالملائكة كما في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] الآية، وهذا نوع من الملائكة. كما أن بعض المفسرين كـ القرطبي يذكر عند قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] ، قال: نوع من الملائكة مراقب على عامة الملائكة، وهنا يدخلون في فلسفة: هل الملائكة تحاسب وتسأل أم لا؟ وبعضهم يقول: والروح هو جبريل عليه السلام ومنهم: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، وهذا نوع من الأنواع زيادة في ذلك اليوم والله أعلم. ونحن نؤمن بما أخبرنا الله تعالى به، وأخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7] ، أي: يؤمنون بالله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] ، برابطة الإيمان: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] ، فهؤلاء الملائكة يدعون للبشر، {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ} [غافر:8] ، إلى آخر السياق. وهناك أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:30-31] ، ولاية وصداقة، ونصرة وتأييد من الملائكة للمؤمنين في الدنيا، وقد وجدنا ذلك فعلاً في غزوة بدر، حيث نزلت الملائكة وكانت تقاتل معهم. ويوم القيامة: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24] ، فهؤلاء الملائكة أولياء للمؤمنين وتنزل عليهم في آخر لحظة، وهم طوائف عدة، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، وعلى هذا: فالواجب على المسلم الإيمان بالملائكة على ما يريد الله من حقيقة ذاتياتهم.

الإيمان بالكتب

الإيمان بالكتب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكتبه) . الكتب: جمع كتاب، وأصله الكتب والكتابة يقولون: الخياطة، والكِتبة الغربة في القربة أو نحوها، وقالوا: الكتابة مأخوذة من الخياطة؛ لأن الكتابة رصف حرف بجانب حرفٍ كما ترصف الغرزة بالإبرة بجوار الأخرى، ومنه: الكتيبة، أي: جمع الأفراد تحت لواء واحد. ويقول العلماء: لقد أنزل الله سبحانه وتعالى مائة كتاب، ومائة وعشرين صحيفة، ستين لشيث، وثلاثين لإدريس، وثلاثين لإبراهيم، ويختلفون في عشر، وهل نوح نزل عليه صحف آدم نزلت عليه؟ نحن نؤمن بما أنزل الله سبحانه، فكل كتاب أنزله الله على رسله فنحن نؤمن به، ونؤمن بأن القرآن الكريم هو خاتم الكتب، وقد وعى كل ما سبقه من الكتب، وصار مهيمناً عليها. وكما يتفق العلماء بأن جميع الكتب السماوية المعروفة: التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى، وما سبق ذلك من الصحف، كلها تضمنها القرآن الكريم، ونحن نؤمن بوجودها، ولا نعمل إلا بخاتمها وهو القرآن الكريم، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عمر حينما جاء بصحيفة من التوراة يقرؤها مستحسناً ما فيها؛ فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: (يا ابن الخطاب ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو جاء موسى ما وسعه إلا اتباعي) . وبعض العلماء يزيد خطوة ويقول: كل الكتب المتقدمة حواها القرآن، وكل القرآن حوته الفاتحة، ولذا سميت أم الكتاب وأم القرآن، وقالوا في معنى ذلك: لأن جميع أبواب الفقه أو التشريع أو العلوم التي جاءت في القرآن أصولها موجودة في الفاتحة؛ لأن القرآن بكل مدلولاته إما بيان حق لله، وإما بيان للماضي، وإما بيان للمستقبل، وإما بيان لحق الخلق فيما بينهم ولم يبق شيءٌ بعد ذلك. فمن بيان حق الله: الحمد والثناء على الله، والاعتراف بأنه رب العالمين، وبصفاته: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وبالمستقبل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، وبحقه عليهم أيضاً {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، وبحق الخلق أيضاً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وتاريخ الماضي {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، (صراط الذين أنعمتَ) في الماضي، (عليهم) من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقاً. جاء في التوراة أن الله كتب الألواح لموسى، وجاء في غير ذلك: أن الله أنزلها، ويذكر ابن كثير في قوله تعالى في سورة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ، أن القرآن نزل ليلة أربعة عشر، ونزلت التوراة يوم ستة أو اثني عشر، وبين أن الكتب السماوية كلها أنزلها الله في رمضان: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] . وعلى هذا: فإن الإيمان بوجود الكتب المتقدمة، وإنزالها من عند الله هداية للبشر، وبياناً للصراط المستقيم، وبياناً لحق الله على الخلق، وفيما يصير عليه الخلائق فيما بينهم. كل هذا من الواجبات.

الإيمان بالرسل

الإيمان بالرسل قال صلى الله عليه وسلم: (ورسله) . الرسل: جمع رسول، ولا يحصي رسل الله في الناس إلا الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] ، ولكنهم يتفقون على عدد معين، ويذكرون منهم أيضاً تمييزاً: أولي العزم من الرسل، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم. والرسل هم من اصطفاهم الله من خلقه لخلقه، وهم بشر من البشر، لكن اصطفاهم الله وميزهم وطهرهم وأوجب لهم الطاعة بما أنزل عليهم. وخاتم الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ، وهذا ردٌ على اليهود الذين لم يؤمنوا بعيسى ولا بمحمد، وردٌ على النصارى الذين لم يؤمنوا بموسى ولا يؤمنون بمحمد، والأمة الإسلامية تؤمن بجميع رسل الله، ومن جحد رسالة رسول واحد فكأنما جحد الرسالات كلها؛ لأن طريقها واحد. ولذا نجد الإسلام يقر شهادة المسلم على الكافر، ولا يقر شهادة الكافر على المسلم؛ لأن المسلم يؤمن برسالات الأنبياء كلها التي يؤمن بها الكافر، وزيادة الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والكافر يقف عند حد رسوله موسى إن كان يهودياً، وعند حد عيسى إن كان نصرانياً، ولكن المسلم يؤمن بجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام. وهنا يتفق العلماء على أننا مع أننا نؤمن بجميع الرسل؛ لكن ليس لنا اتباع أحد إلا خاتم المرسلين، ولهذا بين صلى الله عليه وسلم أن نبي الله عيسى إذا نزل في آخر الزمان يكون متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.

الحديث الثاني [5]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [5]

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) .

معنى قوله: (واليوم الآخر)

معنى قوله: (واليوم الآخر) إن الكلام عن الإيمان باليوم الآخر لهو الكلام عن الإيمان بالدين كله، والإيمان باليوم الآخر لهو الإيمان بكل أحداثه ومجرياته وما يكون فيه. واليوم: جزء من الزمن على ما يجري تقديره عندنا، ولكن اليوم الآخر على خلاف هذه الأيام؛ لأن اليوم في اللغة هو ما يعقبه الليل، وليس في يوم القيامة ليل ولا نهار بل هو يوم واحد، ولكنه ليس كأيام الدنيا. (والآخِر والآخَر) يتغايران، (فالآخِر) مقابل الأول: (هو الأول والآخِر) ، (والآخَر) بالفتح المغاير، تقول: جاء زيدٌ ورجل آخَر، وليس الآخَر هو الأخِير، ولكنه المغاير. (والآخِر) هو النهاية، قيل سمي يوم القيامة يوم الآخِرة، واليوم الآخِر أي: بالنسبة إلى الأول وهو يوم الدنيا الذي بعده أيام؛ وذلك حينما كان العالم في العدم، فخلق الله الخلائق ثم أماتهم، فهذا يوم، ثم أحياهم في قبورهم للسؤال، وهذا يوم، ثم أماتهم إلى البعث، وذاك هو اليوم الآخِر. وقيل الآخِر: يبدأ من ساعة خروج الروح إلى أن ينزل الناس منازلهم يوم القيامة: فهما داران لا دار للمرء سواهما؛ إما جنة وإما نار، نسأل الله السلامة والعافية.

أثر اليوم الآخر على أعمال المؤمن به

أثر اليوم الآخر على أعمال المؤمن به الإيمان بهذا اليوم يعتبر القاعدة والمنطلق بعد الإيمان بالله لكل عمل من البشر، فمن آمن باليوم الآخر عمل بمقتضاه؛ فعمل الخير رجاء الثواب، وتجنب الشر مخافة الحساب. إذاً: الإيمان باليوم الآخر هو قاعدة المنطلق للتكاليف بعد الإيمان بالله ابتداءً واعترافاً بالمولى سبحانه رب العالمين، ثم بعد ذلك يؤمن باليوم الآخِر. فإن من آمن باليوم الآخِر عمل بمقتضاه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] أي: لذلك اليوم، ولذا لو أخذنا أول ورقة في المصحف سورة الفاتحة يقول الله فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5-6] أي: نستقيم عليه حتى نلقاك، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] . هذا الكتاب هو الهداية، والمتقون هم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] ، وأول إيمان بالغيب هو الإيمان بالبعث، والإيمان بالله ليس غيباً؛ لأنك ترى آيات القدرة الدالة على وجود الله في كل لحظة من لحظات حياتك ترى آيات إثبات وجود الله في شخصك، في أكلك وشربك ونومك ويقظتك وتفكيرك، ونظرة عينك، وسماع أذنك، ونطق لسانك وتنفسك، وكل حركة أو سكون تجد قدرة الله فيها دالةً على وجوده. لو نظرت في أي عالم من عوالم الكون لوجدت قدرة الله، لو نظرت في شروق الشمس وفي غروبها وفي انتظام هذه الأفلاك وفي إنبات النبات، لو نظرت في إنزال الماء وانشقاق الأرض وإحيائها بعد موتها وإنباتها وإيناعها بثمارها كيف تختلف تلك الثمار؛ تربة واحدة وتسقى بماء واحد ويختلف أكلها؛ يعجز إنسان أن يحيط ولو إجمالياً بآيات الله. إذاً: الإيمان بالله ليس غيباً؛ لأن شواهد الحال قائمة عليه. و (ملائكته) : لقد شاهد بعض أفراد الإنس بعض أفراد الملائكة، والواحد من الجنس يكفي في الدلالة على عموم الجنس. (وكتبه) : لا يستطيع عاقل أن ينفي الكتب السماوية؛ لأنها توارت بها أخبار الأمم. (ورسله) : كل أمةٍ تشهد على من قبلها بإرسال الرسل، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] ، فكل أمةٍ تشهد على من قبلها أنها جاءها رسول، وهذه الأمة شاهدةٌ على جميع الأمم بأنها جاءتها رسل الله، وقد تحتج الأمم يوم القيامة، كيف تشهدون علينا وإنما جئتم بعدنا {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] . فنقول لتلك الأمة: نعم جئنا بعدكم وعندنا أخباركم، جاءنا بها صادق مصدوق، إذاً: الإيمان بالرسل ليس محض غيبٍ، فعندنا أخبار متناقلة ومستندها الحس، فكل أمةٍ سمعت وشاهدت وعلمت. أما اليوم الآخر فلا دليل ملموس محسوس عليه، ما قام يومٌ آخر قبل ذلك حتى يكون عندنا علم منه، ولهذا كان الإنكار فيه شديداً، ونفت كثير من الأمم أو الطوائف شيئاً يقال له: بعث أو حياة بعد موت. وسيأتي ما جاء في كتاب الله من أدلة ملموسة على إمكان مجيء يوم البعث حقّاً لا شك فيه.

كل التكاليف منطلقها هو الإيمان باليوم الآخر

كل التكاليف منطلقها هو الإيمان باليوم الآخر لو جئنا إلى أول الكتاب العزيز لوجدنا أن الإيمان بالبعث هو منطلق كل التكاليف: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:2-3] وتبعاً لهذا {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] يعني: يؤدون الزكاة تبعاً لهذا الإيمان، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] ، على ما أخبرتهم وعلموا أخبارهم كما فعل المشركون عندما جاءوا إلى اليهود وقالوا: أنتم أهل دين وكتاب أخبرونا بكذا وكذا، {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ، يؤمنون بالغيب، يقيمون الصلاة، مما رزقناهم ينفقون، يؤمنون بما أنزل إليك، يؤمنون بما أنزل من قبلك، أما في الآخِرة فقال: يوقنون، لأن الإيمان بالله وملائكته والأمم الماضية والرسل المتقدمة؛ كل ذلك فيه شواهد، ولكن اليوم الآخر يحتاج إلى إيمان ويقين جازم {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:4-5] . يقول العلماء: هناك علم اليقين وهناك عين اليقين وهناك حق اليقين. فالإيمان باليوم الآخر يجب أن يكون إيماناً حقيقياً، وهو حق اليقين، وعلم اليقين: العلم الذي لا يعتريك فيه شكٌ ولا تستطيع أن تدفعه، فتعلم يقيناً بأن الكل أكثر من الجزء، والجسم أكبر من الإصبع، وتعلم أنت وكل مسلم في العالم بأن قبلته هي الكعبة، ولا يشك مسلم في ذلك، ولو أراد أن يكذب نفسه ما استطاع، فإذا ما قدر له أن جاء إلى مكة وإلى المسجد الحرام، وأطل من باب المسجد ورأى الكعبة في وسطه، هل علمه بوجود الكعبة وهو في بلده يساوي علمه بوجود الكعبة وهو يعاينها أم زاد علمه؟ زاد علمه. فإذا ما قرب من الكعبة وطاف بها ثم فتح له الباب ودخل إليها وأخذ يتردد في أرجائها، هل يكون علمه حين عاينها كعلمه حينما دخل في وسطها؟ لا. فالأول: علم اليقين، والثاني: عين يقين، والثالث: حق اليقين، وهكذا الإيمان بالآخِرة يجب أن يكون واصلاً إلى اليقين الذي هو حق اليقين. ولذا أنت تصلي وتحافظ على الصلوات، وتصوم وتتحمل الظمأ في شدة الحر، وتتحمل الرحلة إلى الحج، وتخرج من مالك الزكاة والصدقة موقناً بأن هناك يوماً يأتي تأخذ فيه جزاءك، وشهواتك ورغباتك تكف عنها، لماذا؟ لأنك توقن بأن هناك يوماً تأخذ فيه جزاءك أو تلقى عقابك، وهكذا جميع التكاليف أفعالاً وتروكاً منطلقها الإيمان باليوم الآخِر.

جدال المشركين في التوحيد والبعث

جدال المشركين في التوحيد والبعث لقد كانت المعركة قوية، والنزاع شديداً، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في أمرين: كون الله إلهاً واحداً، وكون الناس يبعثون بعد الموت، ومكث صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة وهو يجاهد في هذين الأمرين، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، ويأتي رجلٌ بعظم بالٍ من سنين ماضية ويفتته بين يديه، ويقول: من يحيى هذه العظام التي قد صارت رميماً؟ ويأتي الجواب بمنتهى الهدوء والإقناع بيقين: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] . فالمشركون استعظموا الأمرين: كون الآلهة إلهاً واحداً وهم يؤمنون بآلهة متعددة، ومشكلتهم في التعدد، لو قال لهم: آلهة متعددة؛ واحد في السماء والبقية عندكم ما خالفوه، كما قال عدي حين سأله صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً لك يا عدي؟ قال: سبعة، قال: أين؟ قال: واحد في السماء وستة في الأرض!) ، لو أن الرسول قال: الآلهة ثلاثة أربعة خمسة فلا مانع ولا نزاع، إذاً: هم يؤمنون بمبدأ التأله أو الألوهية، ولكنهم يعددون والرسول يدعوهم إلى التوحيد، فقال: (من الذي لرغبتك ولشدتك، قال: الذي في السماء) . إذاً: قضية الألوهية موجودة، لكن الخلاف في التعدد. وقضية البعث هم يستبعدونها؛ ولذا نجد أن القرآن الكريم عُني بهذه القضية، وبإقامة الأدلة عليها بما لا يدع مجالا لشك قط ولو مع أنصاف العقلاء. لا أقول: كاملي العقول بل أنصاف العقلاء، فإنهم لو تأملوا أدلة القرآن الكريم لما أنكروا يوم البعث، ولو أن الشيوعيين الذين لا يؤمنون بآلهة ولا بأديان ولا برسل ولا بكتب ولا ببعث نوقشوا بهدوء في وجود الله سبحانه وفي وجود البعث لما أنكروا. الدهريون قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] ، بطون تدفع وقبور تبلع، فهذه البطون التي تدفع من الذي يدفعها ومن أين جاءت؟! لو أعملوا عقولهم وتدبروا لوصلوا إلى نتيجة.

أدلة البعث والنشور

أدلة البعث والنشور ما هي أدلة البعث وأدلة وجود الساعة التي سجلها القرآن الكريم ليتدبرها الخلق جميعاً؟ نجد القرآن الكريم في أوائل ندائه للناس ينادي باسم المسلمين أو المؤمنين؛ بل باسم الناس؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من واجب الناس لا المسلم ولا المؤمن فقط، يقول سبحانه بعدما قسم الناس أمام دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ، وهم المؤمنون: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] . والقسم الثاني الذين كفروا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] . والقسم الثالث: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] . ثم جاء بعد هذا التقسيم الثلاثي واقع الناس أمام هذه الدعوة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21] ، الناس: من ناس ينوس إذا تحرك أو صوت؛ لأن العالم لهم حركات على وجه الأرض: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] ، الرب الخالق، المصلح المدبر، المسيطر المسير، لكن فسره بما بعده: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] ، فهل ينفي إنسان بأن الله هو الذي خلقه، لقد ألزمهم الله بالقاعدة المتقدمة: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] ، لو أنهم نظروا في مجيئهم إلى هذا الوجود، ولعلموا أنهم لم يخلقوا من عدم ولم يخلقوا أنفسهم، وأن لهم خالقاً وهو الله. {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، أي تكونوا متقين مؤمنين، وتقدم أنهم {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] ، وتقدم: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ، وهنا قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] . {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، عند هذه الآية الكريمة يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أقام الله في هذه الآية ثلاثة أدلة على وجود البعث والجزاء والحياة بعد الموت، أما الأول فقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] ، ففيه إثبات البعث حين يقيم المولى سبحانه الدليل للإنسان من نفس الإنسان، وأقوى دليل في ذلك آية (يس) التي أوردناها؛ لأن الإنسان إذا تذكر وجود نفسه، وكيف جاء إلى الحياة، عرف أن الذي أوجده أول مرة قادر على أن يعيد مجيئه، ولذا قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] . {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58] ، جئت زوجك وجاء المني، وذهب في طريق ولا تعلم أين ذهب، ولكن {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:59] ، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] ، فقد كنت ماءً مهيناً، {نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] ، أبوك من أين جاء؟ طريق طويل. هناك أبونا آدم الشيخ الكبير، {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] . نطفة جاءت، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] ، تقول: إنه ذهب في التراب، تقول إنه تفتت، تقول: إنه كذا الله سبحانه بكل خلق عليم، وهو الذي خلقه أول مرة، فهو قادر على أن يعيده، وهو أهون عليه. فلو أن الإنسان لم ينس إيجاده، وتذكر كيف جاء لما سأل هذا السؤال؛ فالذي خلقهم أول مرة قادر على أن يعيدهم {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ، فهذا دليل أول بأن الله سبحانه خلق الإنسان وأنه سيبعثه. أما الدليل الثاني: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] ، فانظر إلى هذه العوالم سفلية وعلوية، وهذا الكون العظيم الذي خلقه الله وسيره ودبر أمره، فيما نشاهد في الأرض من محيطات تتلاطم وما فيها من عوالم لا يعلمها إلا الله، وهذه الأرض وما عليها من جبال رواسٍ وما ينتب فيها من نبات، وهذه السماء وما فيها من أفلاك وكواكب، وما فيها مما نشاهد، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] . والقادر على خلق الأكبر أهون عليه خلق الأصغر. أما الدليل الثالث؛ فقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] ، فالماء ينزل وتتلقاه الأرض، ثم ينبت النبات من الأرض وقد كانت ميتة، فهذا هو الدليل الثالث، ويوضحه قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] . أرض هامدة يابسة، يأتيها الماء من السماء، فإذ بها تهتز -والفلاح يعرف هذا- وربما تسمع صوتاً للماء وهو يجري عليها أو وهي تتفتح لتلقي هذا الماء في باطنها، ثم إذا بها تنبت، وإذا بها تأتي بالثمار، وبالحبوب وبكل شيء، إن الذي أحياها من موتها لمحيي الموتى، ولو جئنا إلى عدد الموتى من آدم إلى يوم القيامة ما كان أكثر من عدد حبات النبات التي تنبت. فهذا هو الدليل الثالث. إذا جئنا إلى الدليل الرابع، وهو إحياء الموتى في الدنيا، ونعاين نماذج ذلك، ونأتي إلى صورة النبأ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:1-9] . فمن أدلة البعث: الحياة والموت في الدنيا، فهذا هو النبأ العظيم الذين يختلفون فيه، وجلّ المفسرين على أنه البعث. {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] والأزواج الأصناف؛ فهل تستطيع قدرة في العالم أن تتحكم في الأزواج والأصناف؟ لا والله؛ فالمرأة تحمل تارة ذكراً وتارة أنثى، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى:49] ، أما أنتم فما عندكم شيء. {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:9-11] ، ماذا {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12] ، أرضاً مهاداً وسبعاً شداداً، {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:13] ، {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14] ، {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:15-17] ، أليست هذه أدلة ألبعث؟ يوم الفصل هو يوم القيامة، لم تختلفون في النبأ العظيم وهذه أدلته؟ ثم نأتي إلى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] ، هذه الميتة الصغرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] ، تنام وتغيب عن الوجود، لا تدري ولا تدرك أنها ميتة صغرى، أهل الكهف ناموا ثلاثمائة سنة وتسع سنين بالتوقيت الهجري، فلما استيقظوا قيل: كم لبثتم؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] لم يعرفوا أنها ميتة صغرى، فأنت في كل يومٍ تشاهد آية البعث في نفسك؛ فإن الذي أخمد هذا الجسم والذي أنامه ثم بعد ذلك أرسله وبعثه هو الله، وما الفرق بين هذه النومة وبين تلك في القبر، وبين هذه اليقظة وبين تلك؟ الفرق بينهما: أن الجسم هنا لا زال على تركيبه، وما زال يتنفس ومقومات الحياة فيه، أما هناك فقد تفتتت أجزاؤه في الأرض، ولكن الله قادر على أن يجمعه. وفي الحديث: أن رجلاً أوصى لأولاده إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم يأتوا في يوم شديد الريح ويذروه على ساحل البحر لينتشر على أمواج المحيط، فجمع الله جسمه من ذرات مسحوقة، وأعاده وسأله: لم فعلت ذلك؟ قال: مخالفة منك يا رب، فقال: قد غفرت لك.

الحديث الثاني [6]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [6]

أمثلة لإحياء الله الموتى في الدنيا

أمثلة لإحياء الله الموتى في الدنيا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإن الله سبحانه أوجد الحياة بعد الموت في الدنيا، وعلى أنواع وصور وأشكال وأزمان، وفي أجناس متغايرة مختلفة، من الإنسان ثم الحيوان ثم الطير، ثم الحوت، ثم الميت غير الطبيعي، وكل ذلك نماذج صارت في الحياة والناس يعاينونها وكما يقولون: نموذج، تجربة، مثال. فإذا عاينا نموذجاً ومثالاً حكمنا على بقية الأفراد بمقتضى ذلك.

قتيل بني إسرائيل

قتيل بني إسرائيل قال الله سبحانه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] . قتل قتيل في بني إسرائيل وتدافعوا في تعيين القاتل، فذهب القاتل بنفسه إلى موسى، وكان القتيل عمه قتله من أجل أن يتزوج ابنته ويأخذ ماله، فقال: عمي قُتل يا موسى، أريد أن تأخذ قاتله لتأخذ حقي، فتوجه موسى إلى ربه وناجى ربه، ثم قال: ائتوا ببقرة واذبحوها، فقاموا بتعنتهم وما كادوا يفعلون، فلما ذبحوها وفقدت الحياة. {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] ، فضربوه فأحياه الله، وسألوه عمن قتله، فقال: قتلني فلان، ثم اضطجع، فكهذا الإحياء لهذا القتيل الذي شاهدتموه وسمعتم منه بآذانكم، يحيي الله موتاكم، وهذا نموذج في شخص قتيل. وهنا نبه العلماء: إذا كانت النتيجة إحياء هذا القتيل بضربه بجزءٍ من البقرة ولماذا يذبحونها ولا يبقونها على قيد الحياة؟ قالوا: لا، إنما ضرب ببعضها بعد أن صارت ميتة مثله، لأن الميت لا يهب حياة، فلو ضربوه وهي في حياتها لقيل: عملوا له توصيلة، مثل السيارة المعدومة البطارية توصل لها من السيارة الصالحة فتوصل البطارية العاطلة بها، ويعمل لها اشتراك وتيار يتوصل إليها وتشتغل السيارة، ولكن هنا جاءت الحياة من البقرة المذبوحة إلى القتيل فردت إليه الحياة والميت لا يعطي حياة. إذاً: إذا حيي القتيل بعد ضربه ببعض من بقرة ميتة، فمن أين جاءته الحياة؟ من الله، وقد شاهدتم ذلك، فكذلك يحيى الله الموتى!

قصة موت العزير مائة سنة

قصة موت العزير مائة سنة مثال آخر: العزير عليه السلام حينما مر بالقرية، وقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259] ؛ لأنها خاوية على عروشها، {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259] ، فوجد الحمار عظاماً بالية. هو أول ما نشأت نفسه كيف جاء؟ لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يريه ذلك بنفسه، قال: {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة:259] ، {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} [البقرة:259] أو ننشرها، ننشزها. {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] ، طعام يمكث مائة عام لم يتغير، وطعام الشام فواكه، يأخذون من التين ومن العنب ونحوه، وليس هناك تحنيط وهو نائم، ولا هو محفوظ في ثلاجة! إنها قدرة الله سبحانه، فلما رأى الحمار قام والعظام تأتي تتشابك، فقال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] ، فهذا إنسان أماته الله ومعه حماره، وليس الإنسان فقط بل والحيوان.

إحياء الله لأهل الكهف

إحياء الله لأهل الكهف قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:10-11] ، {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ} [الكهف:19] . وقال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25] ، ولكن في تلك النومة: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:18-19] ، {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف:21] . فلما أرسلوا أحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، وجد أهل المدينة عملة قديمة من أمم ماضية منذُ ثلاثمائة سنة، فسألوهم: أين كنتم؟ من أين هذه العملة؟ من أين جئتم؟ قالوا: كنا نائمين، وجئنا نأخذ طعاماً، قالوا: إن الدولة التي تحملون نقودها هذه لها مئات السنين. فلما جاء الملك وجاء الناس إلى إخوانهم وعرفوا أن هؤلاء من تلك الأمم وبعثوا الآن ماتوا جميعاً، وعلم الأحياء قدرة الله على البعث؛ لأن الله الذي أحيا هؤلاء بعد النوم، وبعد اللبث في الكهف ثلاثمائة سنة، وجاءوا يمشون على الأرض يطلبون الطعام، فعلموا أن الله قادر على إحيائهم مرة أخرى، {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21] . وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم أو أكثر أو أقل، لكن هناك جماعات خرجوا من ديارهم {حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة:243] ، فماتوا، {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] .

إحياء الله لقوم موسى عليه السلام

إحياء الله لقوم موسى عليه السلام موسى عليه السلام يختار من قومه جماعة ويطلبون من موسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء:153] فيموتون. فيرجع موسى إلى ربه، فيأمره بالرجوع إلى الناس ويقول موسى: رب لو شئت لأهلكتنا من قبل، وأهلكت الناس جميعاً، لكن هؤلاء تحملني جريمتهم عند الناس؛ فيرحمه الله سبحانه، ويحييهم له ويرجعون مع موسى عليه السلام. فسواء كان فرداً أو قوماً أو ألوفاً، قتيلاً أو ميتاً ميتةً طبيعة، قد عادت الحياة إليه وهم يعاينون، وجاءنا القرآن يبين لنا ذلك، فوالله لكأننا نشاهد هذا عياناً.

إحياء الله الطيور لإبراهيم عليه السلام

إحياء الله الطيور لإبراهيم عليه السلام نأتي بعد الإنسان والحيوان إلى الطيور. إبراهيم عليه السلام لما سأل ربه، وقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260] ، أي: أما عندك اليقين بالبعث يا إبراهيم؟ قال: بلى عندي، ولكن ليطمئن قلبي ويصل إلى حقيقة اليقين وعين اليقين، لا مجرد الإخبار، فقال: خذ أربعة من الطير وليس طيراً واحداً؛ لأن العملية كبيرة، فيأخذ أربعة طيور، يقول بعض علماء التفسير: ديك وطاووس وغراب ونسر، وأشياء ذكروها في كتب التفسير، ويهمنا التنويع. قال تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة:260] ، قالوا: إنه أخذ الطيور وقطعها أجزاءً ثمانية أجنحة، وأربعة رءوس وثمانية أرجل، فمزقها وخلطها حتى اختلطت الدماء بعضها ببعض، وأخذ جناحاً من هذا ورجلاً من ذاك ورأساً لهذا وذهب به إلى الجبل، وأخذ جناحاً من ذاك وتتمة من هذا ووزع الأجنحة والأرجل والرءوس المختلفة، رأس النسر مع جناح الغراب، وجناح الديك مع رأس الطاووس، ثم قال: تعال يا نسر، تعال يا طاووس. لما قال: تعال يا طاووس، الطاووس عنده جناح هنا، وجناح هناك، ورجل هنا ورجل هناك، عندها كل جزء من أجزاء هذا الطائر الذي دعاه يأتي إليه ويتركب بعضه مع بعض ويتكامل ويقوم طائراً بجناحيه على ساقيه. تلك الأجزاء الممزقة كيف جاءت وتلاءمت وعرف بعضها بعضاً؟ وإذا جاءت وعرف بعضها بعضاً، كيف التحمت؟ الآن أرقى ما وصل إليه الطب زرع الكلية أو القلب لإنسان موجود، لكن هذه الأجزاء زرع عضوٍ خارجي يتحرك بكل لوازمه، لكن إلى الآن ما وصلوا إلى ذلك الالتحام. وهذه الدماء التي ذهبت في التراب، كيف توافرت وتميزت وهو سائل ممتزج؟ كيف انفصلت كرياته الحمراء والبيضاء؟! وهنا يقال: إبراهيم عليه السلام طلب الاطلاع على الكيفية، والكيفية هي سر الصنعة، فهل المولى سبحانه أطلع إبراهيم على كيفية مجيء الجناح وكيفية التحامه وكيفية الحيوية فيه، وأطلعهُ على سر الصنعة؟ لم يطلع على كنه الإحياء؛ لأن هذا خاص بالروح، والروح من أمر الله، ولا يقوى عقل بشر على أن يطلع على ذلك أو يستوعبه، فهذه طيور إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة السلام.

حوت موسى وإعادة الحياة إليه

حوت موسى وإعادة الحياة إليه نأتي إلى عالم البحار، فنجد حوت موسى عليه السلام، فإن موسى سأل ربه: هل هناك أحد أعلم مني؟ ليس هذا ادعاء العلم من موسى واستيعابه، ولكنه رغبةٌ في استزادة العلم، أي: إن كان هناك أحد أعلم مني أذهب إليه لأستزيد منه علماً، لا يظن أحد بأن موسى تطاول وادعى أنه أعلم الموجودين، ولكنه تطلع وتواضع من العالم في أن يطلب من هو أعلم منه ليستزيد من علماً. فقال الله: نعم، عبدٌ من عباد الله اسمه الخضر، قال: أين مكانه؟ قال: مجمع البحرين، قال: وكيف أعرف مكانه؟ قال: خذ حوتاً يكون زاداً لك، ويكون موضع الحوت يخبرك عن مكانه، فخرج موسى عليه السلام مع فتاه، حتى إذا قال: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} [الكهف:62-63] . في الآية الأولى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61] السرب، والسراب: الشيء الممتد الذي تراه من لا شيء، و (سرباً في البحر) أي: اتخذ طريقاً ويشق طريقه في الماء كما لو جاء زورقاً ومشى بسرعة فإنه يترك وراءه سرباً في الماء -علامة- كي يكون سلوكه في الماء محسوساً ملموساً يشاهده الإنسان. فهذا حوت كما يقول المفسرون: مشوي مملوح يحملونه لكي يتغدون به، قال الغلام: لا أدري عن الموضوع، ولا يدري عن السر الذي بين موسى وبين ربه، معه غلام رفيق له في الطريق ومعهما الغداء، وقال: أعطني الغداء، هذا الحوت المشوي المملوح يعيد الله إليه الحياة ويرجع إلى الماء ويسري فيه كما كان قبل أن يخرج من الماء، فمن الذي رد إليه الحياة وعاد إلى ما كان عليه؟! كل ما سبق من الأمثلة يعد من أدلة البعث التي اشتمل عليها كتاب الله، وهي أمثلة ملموسة للأمم كلهم، وقد جاءنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد التزمنا بالتصديق بما يأتي به، وذلك من لوازم (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، وآمنا بالملائكة الذين جاءوا بالكتاب، والكتاب فيه البعث، وفيه تلك الأخبار كلها، ولهذا لم يعد أمر البعث مستغرباً أو مستبعداً؛ لأننا شاهدنا آثار وجوده وآحاده في الحياة. ومن هنا كان الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان، وكان هو منطلق الالتزام بالتكاليف فعلاً وتركاً، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

من مات وأحياه الله لسبب فإنه يموت ثم يحيا مرة أخرى

من مات وأحياه الله لسبب فإنه يموت ثم يحيا مرة أخرى Q تلك الأنفس أفراداً أو جماعات التي أماتها الله ثم أحياها، هل ماتت بعد ذلك، وهل تحيا بعد ذلك؟ A نحن قلنا: قتيل بني إسرائيل عاد إلى الحياة وصار يمشي عند الناس أو أدى الشهادة التي عنده، وقال: لقد قتلني فلان ثم مات من حينه، ونحن قلنا بأن هذه الأخبار جاءتنا عن الصادق المصدوق، ونؤمن بها كما لو كنا نشاهدها. أقول: يذكر علماء السلف من بعض خوارق العادات وبعض كرامات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يضاف إلى تلك الأحداث السابقة، وذلك أنه في بعض الغزوات عند رجوعهم إلى المدينة، مات فرس أحد الصحابة، فقالوا: هات متاعك نحمله معنا، قال: أنظروني أصلي ركعتين وأسأل ربي، فصلى ركعتين وسأل الله أن يحيي له فرسه عارية يوصله المدينة، فانتفض الفرس وقام، وركب حتى وصل إلى المدينة وإلى باب بيته ولم يدخل الفرس داخل البيت، وقال لأولاده: أنزلوا المتاع عن الفرس فإنه عارية! وحينما أنزلوا متاعه سقط على جنبه. وإذا صح السند لا قول لأحد، فأولئك الذين أحياهم الله لقضية معينة رجعوا إلى ما كانوا عليه إلا قتيل بني إسرائيل، ولكن الألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، الله يقول: (أماتهم ثم أحياهم) ، لكي يبين لهم بأن الموت يدركهم وأنهم غير هاربين منه. وكذلك الذين اصطفاهم موسى عليه السلام واختار من قومه وذهب للمناجاة فأخذتهم الصاعقة وماتوا، وموسى عليه السلام قد كان اختار خيار القوم، وإذا رجع وحده فماذا يقول لقومه؟ فإنهم سيقولون له: أنت الذي أهلكتهم، ولذا اعتذر إلى ربه من فعلهم وأكرمه الله بإحيائهم ورجعوا معه مرة أخرى، وهؤلاء سيموتون، لكن حينما يأتي الأجل الحقيقي النهائي، والله سبحانه وتعالى أعلم.

حال من أماتهم الله ثم أحياهم في الموتة الثانية

حال من أماتهم الله ثم أحياهم في الموتة الثانية Q هل ذاقوا مرارة الموت في المرة الثانية؟ A أقف وأقول: الله تعالى أعلم، وهذا شرط بيني وبينكم، من أراد تحقيق ذلك فليرجع إلى النهاية لـ ابن كثير، كتاب النهاية لا البداية لـ ابن كثير، لعله يجد في هذا شيئاً أو يرجع إلى كتب التفسير، والله سبحانه وتعالى أعلم.

الفخذ عورة

الفخذ عورة Q وضع جبريل يده على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، ألا يدل على أن الفخذين ليسا بعورة؟ A أقول: لا دليل في ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس جالساً مكشوف الفخذين، إنما هو اللمس وهو كالرؤية، وكل الناس ترى فخذاه وليس ذلك رؤية للعورة، وليس في هذا دليل من ذلك، ويتفق العلماء على أن عورة الرجل من الركبة إلى السرة، وهذا باتفاق، ولا ينظر ولا يسمع لمن يقول: الفخذ ليس بعورة ويستدل ببعض الآثار الواردة في ذلك، ويرويها أيضاً الصنعاني والشوكاني ولكن يردونها، والصحيح أن الفخذين عورة. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد.

الحديث الثاني [7]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [7]

حياة البرزخ

حياة البرزخ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإننا وصلنا في الحديث على أركان الإيمان إلى (الإيمان باليوم الآخر) ، وأوردنا أدلة البعث من كتاب الله فيما يذكره العلماء، وهي أربعة: خلق الإنسان من عدم، وخلق السماوات والأرض، وإحياء الأرض بعد موتها، وإحياء بعض الموتى في الدنيا من الإنسان والحيوان والطيور والحوت. وقلنا: إن مجرد الإيمان بالبعث أو باليوم الآخر ليس هو المقصود وحده، ولكن المقصود الإيمان بما يكون في ذلك اليوم من أحداث غيبية، ومن حساب وجزاء وعقاب، وما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خروج الروح

خروج الروح يتفق العلماء على أن بداية اليوم الآخر لكل إنسان بحسبه، أما يوم البعث ويوم الحشر فهو للجميع. وبداية اليوم الآخر بالنسبة لكل فرد من بداية النزع، ولحظات سكرات الموت ومفارقة الدنيا والإقبال على الآخرة، ولذا يقول الفقهاء: من مات فقد قامت قيامته، يعني: انتهت دنياه وبدأ في طريق الآخرة. أما الموت فلا ينكره أحد؛ لأنه شيء محسوس معاين، وتحدى الله سبحانه الخلائق كلها أن يوقفوا حركة الموت: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] . وهل ارتجعت روح إنسان قط؟ لا والله، قد حاول العالم في الآونة الأخيرة إبقاء حياة فردٍ كان يحكم قريباً من نصف العالم، وغاية ما استطاعوا إمداد حركة القلب فقط مع موت الدماغ، والطب يقول: ليس الموت موت القلب ولكن الموت موت الدماغ، أما القلب فإنما هو آلة تضخ الدم، ويمكن الاستعاضة عنه بقلب اصطناعي، أما المخ فلا. هذا الشخص اجتمعت له أطباء العالم حتى من معسكر خصمه، وبقي أسبوعاً وقلبه ينبض، ولكن ليس هناك حياة، فعجزوا ثم دفنوه واستراح، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61] ، والمقصود بالساعة الساعة اللغوية، أي: لا يستأخرون عنها. ومن عند الموت تبدأ أحوال الآخرة وأولها عملياً البرزخ، وكلمة البرزخ بدلاً من القبر؛ لأن البرزخ أعم من القبر، فمن أحرق فهو في برزخ، من أغرق وأكلته الحيتان فهو في برزخ، من أكلته السباع في الخلاء فهو في برزخ. ويقول ابن كثير: ولو أحرق وذري في الهواء فهو في برزخ، أي: برزخٌ بين الدنيا والآخرة؛ لأن مرحلة وجود الإنسان أولاً في عالم الذر، وعندما أخرج الله ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. هذه مرحلة رجعوا منها إلى أصلاب الآباء وجاءوا منها إلى الأرحام فهي مرحلة. ثم خرجوا إلى الدنيا، وهي محطة الزرع والتزود وينتقلون منها إلى البرزخ. وهذه مرحلة. ثم تأتي المرحلة النهائية وهي يوم القيامة واليوم الآخِر، وبحث العلماء في موضوع البرزخ هو: عذاب القبر ونعيمه وتفاوت الناس فيه، وسؤال العبد في قبره، وكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؛ عياذاً بالله!

السؤال في القبر

السؤال في القبر أما السؤال في القبر فبالإجماع أنه واقع، وأشرنا بأن من الملائكة الذين نؤمن بهم: منكراً ونكيراً، وقالوا: هما في حق المؤمن: مبشر وبشير. ومنكر ونكير، أي: على خلقة ليست على خلقة البشر ولا على خلقة الملائكة، إنما خلقوا لهذا الأمر. والسؤال في البرزخ واقع باتفاق أهل السنة جميعاً، كما جاءت الأحاديث وتكاد أن تكون متواترة، وفي الحديث عن أنس وغيره قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نقبر ميتاً لنا بالبقيع، فأخذ عوداً وكنا مطرقين كأن على رءوسنا الطير، فقال: وذكر صلى الله عليه وسلم قال: أنا خير الأولين والآخرين يوم القيامة، وساق حديث الشفاعة العظمى، وذكر ما يتعلق بالقبر وقال: إن روح المؤمن إذا حضرتها النزع: وجاء ملك الموت لقبض روحه، جاءت ملائكة الرحمة بحنوط وكفن من الجنة، فلا تمهل الروح في يده طرفة عين، فيأخذونها يكفنونها ويحنطونها بما معهم من كفن وحنوط الجنة، ثم يصعدون بها إلى السماء الدنيا أطيب ما تكون ريحاً؛ فتفتح لها أبواب السماء وتقول الملائكة: من هذا؟ فيقال: فلان بن فلان، ويذكرونه بأطيب أسمائه، ثم يشيعه من كل سماء مقربوها، حتى يصعدون بروحه إلى المولى سبحانه فيقول: أعيدوه إلى الأرض وأفرشوه من الجنة، فإذا أعادوه إلى الأرض وأفرشوه من الجنة، جاءه الملكان وأجلساه وسألاه: من ربك؟ فيجيب: ربي الله، من نبيك؟ فيقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقال له: نَم نوْمة العروس. وفي رواية أخرى: يفتح له باب من النار فيقال: ذاك كان مقعدك لو لم تؤمن، ثم يسد عنه ويفتح له باب من الجنة فيقال: ذاك مقعدك يوم القيامة، فيقول: يا رب أقم الساعة! ثم يأتيه رجل جميل الوجه مبتسم، فيقول له: من أنت! إن وجهك ليبشر بخير؟ قال: أنا عملك الصالح. والكافر أو غير المسلم -عياذاً بالله- على العكس من ذلك.

عذاب القبر ونعيمه

عذاب القبر ونعيمه ومن هنا أثبت أهل السنة والجماعة سؤال القبر وعذابه ونعيمه، واستدلوا بالنصوص الأخرى كما في الموطأ في كتاب الجنائز، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت ليعذب في قبره من بكاء أهله) . ولما سمعت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن ابن عمر رضي الله عنه يحدث بهذا، قالت: رحم الله أبا عبد الرحمن! ما كذب ولكنه نسي؛ إن الرسول قال ذلك في امرأة يهودية: (إنهم ليبكون عليها وهي تعذب في قبرها) . وسواء كان في امرأة يهودية تعذب في قبرها، أو كان العبد يعذب في قبره ببكاء أهله عليه؛ فقد أثبت كل من الحديثين سواء على رواية ابن عمر أو على رواية عائشة أن في القبر عذاباً، سواء كان لليهودية أو كان لهذا الرجل الذي يبكي عليه أهله. وقد جاء الحديث من غير طريق ابن عمر كـ عمر وزيد وغيرهم، من: (أن العبد يعذب في قبره ببكاء أهله) . قالوا: ما ذنبه حتى يعذب بفعل الغير؟ وأجابوا: بأن الإنسان بين أحد أمور ثلاثة: الأول: إما أن يأمر أهله أن يبكوا عليه لزيادة مكانته وإظهار الحزن عليه، كما أوصى طرفة أن يبكوا عليه: إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد الثاني: أن لا يوصي بالبكاء، ولكن يعلم من أهله أنهم سيبكون عليه ولم ينههم وهو حي، وكان الواجب عليه أن يقول: لا تبكوا عليّ، واصبروا واحتسبوا. الثالث: أنه يعلم ذلك لكنه حذرهم؛ فخرج من العهدة، فيكون الذي يعذب في قبره ببكاء أهله: إما أنه أوصى بذلك، وإما أنه يعلم ولم ينههم عن هذا، فيكون كالذي رضي بما سيفعلون فيما بعد، فيعذب بذلك. إذاً: القبر فيه عذاب ونعيم، واستدل الجمهور أيضاً من القرآن الكريم فيما يتعلق بفرعون وأهله، {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، أي: يعرضون عليها باستمرار صباح مساء، ويوم تقوم الساعة يدخلون النار، فيكون عرضهم على النار غدواً وعشياً قبل قيام الساعة، وهذا هو رأي الجمهور.

ثبوت أنه يفسح للمؤمن في قبره مد بصره

ثبوت أنه يفسح للمؤمن في قبره مد بصره قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حق المؤمن: (ويفسح له في قبره مد البصر) ، هنا بعض الناس كما يقول الطحاوي وابن كثير: يدخلون العقل فينكرون ما جاء في خبر القبر. والعجب الذي نريد أن ننبه عليه: ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وهو عالم محدث ليس عرافاً: يذكر في قضية العلاء بن الحضرمي لما ذهب إلى البحرين غازياً لهم فوجدهم قد حازوا السفن إليهم، ودخلوا في جزيرتهم، وكان قد سار حوالي شهرين من المدينة إلى البحرين، فيقف يطالع في البحر والعدو قد انحاز بسفنه إلى الجزيرة، فماذا فعل؟ حينما كان يمشي في الصحراء نفذ ماؤه وماء السرية معه، وكادوا يموتون عطشاً وهم كما يقولون: في الدهناء لا ماء ولا شجر، فدعا الله تعالى؛ فإذا بالمولى سبحانه يغيث جنده، فيرون سحابة جاءت في الظهيرة تأتي على مرأى العين تقصدهم حتى إذا كانت فوق رءوسهم وقفت وتكاثفت وأمطرت عليهم الماء، فشربوا واغتسلوا وسقوا دوابهم وملئوا قربهم ومشوا في أمان الله. فلما وصلوا إلى البحر ووجد السفن قد ذهبت بأهلها التفت إلى أصحابه وقال: أيها الناس! إني عازم على أمر، لقد أراكم الله في البر آية وهو قادر على أن يريكم في البحر آية، إني عازم على أن أخوض هذا البحر، وتقدم إلى البحر وقال: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله ونحن جندٌ في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله! انظروا الأوامر من أين جاءت، انظروا إلى صياغة القرارات، أنت تجري بأمر الله، ونحن لسنا ذاهبين لتجارة ولا لزيارة ولا لغرض نفسي، بل جندٌ في سبيل الله، ونحن وأنت من جنود الله، وما دام الأمر كذلك فقد عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله، الذي أنا وأنت تحت أمره، وخاض البحر. يقول ابن كثير: فما ترجل الفارس ولا واحتفى المنتعل، أي: الذي هو راكب ما نزل، كان لابساً نعله ما خلعه، وعبروا إلى الجزيرة وقاتلوا عدو الله وانتصروا: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] ، فالله ربنا لا يريد منك قوة، فالقوة من عند الله، لكن يريد منك اتجاهاً إليه، وهو يسخر لك العوالم. لما جاءوا راجعين أدركه مرضٌ في عنقه ومات منه، فدفنوه حيث كانوا، فجاء نفرٌ من أهل تلك الأرض، وقالوا لهم: إن كان ميتكم عزيزاً عليكم فلا تتركوه هنا؛ لأن هذه الأرض إذا جاء الليل تلفظ الموتى ولا تقبلهم، فقالوا: والله ما من حق ابن الحضرمي أن نتركه نهب السباع، فرجعوا إلى قبره وحفروا القبر ونبشوه فما وجدوا فيه شيئاً، ووجدوا القبر مد البصر. هل يستطيع أن يتدخل العقل في هذا؟ لا. يقول الطحاوي رحمه الله: وليس ذلك بالغريب أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، وبجواره قبراً آخر هو حفرة من حفر النار؛ لأن الله سبحانه قادر على أن يجعل حجارة القبر محماة حارة على صاحبها ونحن لا نشعر، ولو لمسناها لأدركنا ذلك، وإني لأعجب والله لعقلية هذا العالم الجليل، بل أقول: إن هذا فتحٌ من الله على لسانه، نحن الآن وهذا السلك فيه كهرباء نمسكه كالثلج، وإذا لامس التيار بعضه بعضاً كانت النار المحرقة، ولو انكشف عن هذا الحاجز العازل ولمسه البعير ولمسه أقوى إنسان لصعق في الحال؛ أين النار في هذا؟! الله سبحانه بقدرته قادر أن يجعل القبر بطبيعته ناراً على صاحبه وجاره لا يدرك شيئاً، بل أنت الآن تأتي إلى بيتك تفتح الثلاجة فتجد ثلجاً، وتلمسها من وراءها فإذا هي نار حامية، فلا حرارة الأسلاك خلفها تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ حرارة ما في ظهرها، وإذا كان صنع البشر بتمرير مادة باردة بطبيعتها تدفعه وتتحرك وتوجد هذا التبريد، فالمولى سبحانه أقدر على ذلك. إذاً: لا ينفي عذاب القبر وأحواله إلا جاهل معاند، وإذا ذهب هناك فسوف يعاين الحق. إذاً: أول مراحل القيامة البرزخ، وكما قال العلماء: ولو أنه أحرق وذرّ في التراب فهو في برزخ؛ يجد السؤال والعذاب أو النعيم، كما جاء في حديث الرجل: كان فيمن قبلكم من أوصى أهله إذا مات أن يحرقوه ويسحقوه، وفي يوم شديد الريح وعلى حافة البحر يذروه على أمواج المياه، ففعلوا ذلك، فأمر الله الرياح فجمعت ما أخذت، وأمر الله الأمواج أن ترد ما أخذت، وجمع الله خلقته كما كان، وسأله: لم فعلت هذا؟ قال: مخافة منك يا رب، قال: قد غفرت لك. إذاً: القبر هو البرزخ مهما كانت حالة الإنسان فيه.

الحديث الثاني [8]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [8]

أحداث يوم القيامة

أحداث يوم القيامة

النفخ في الصور

النفخ في الصور من بعد البرزخ يأتي كما يقول ابن كثير والطحاوي وعلماء العقائد: النفخ في الصور، وفي حديث الصور الطويل: أن الله سبحانه أول ما خلق إسرافيل وخلق الصور ألقمه فمه ينظر إلى العرش ينتظر أمر الله له بالنفخ. ويقولون: النفخات ثلاث؛ الأولى: نفخة الفزع، يفزع فيها من في السماوات ومن في الأرض. والثانية: نفخة الصاعقة لا يبقى معها حيٌ على وجه الأرض. والثالثة: نفخة البعث، وعند البعث يجمع الله أرواح الخلائق فيضعها في البوق الذي هو الصور، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله إن فتحة البوق -الصور- لكما بين المشرق والمغرب! فإذا نفخ إسرافيل انتشرت الأرواح كالنحل، ودخلت في أجسام أهلها، وانتظروا البعث) . والأمر في ذلك أحاديثه طويلة، لكن يهمنا البعث من القبور، وخروج الناس، وأحوال ذلك اليوم، فيجب الإيمان بما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الميزان، والصراط، وتطاير الصحف، والعرض، والجنة والنار. هذه أهم أحوال يوم القيامة، وكذلك ما يتبع ذلك من شفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

الميزان والصراط

الميزان والصراط أما الميزان والصراط؛ فيختلفون أيهما يكون أولاً. فبعضهم يقولون: الميزان بعد اجتياز الصراط؛ وقد أجمع العلماء على أن الصراط جسر ممدود على متن جهنم، قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72] . والصراط كما يقول العلماء: أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ويمر الناس عليه بحسب أنوارهم؛ لأن المؤمنين يبعثون من قبورهم بنور الإيمان كلٌ على حسب عمله، منهم من يكون معه النور كالجبل، ومنهم من يكون كالنخلة، ومنهم من يكون كالشمعة، ومنهم من يكون النور في إبهام قدمه ينطفئ تارةً ويضيء تارة، فإذا أضاء مشى وإذا انطفأ قام. ويمرون على الصراط بحسب نورهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم إلخ. فإذا اجتاز الناس الصراط فهناك يأتي الميزان، ونحن نؤمن بأن الله سبحانه يضع الموازين القسط ليوم القيامة، وهو ميزانٌ له كفتان محسوستان، ولكن هل يوزن الإنسان بعمله أو توزن الأعمال فقط؟ ومن أعظم أحاديث الميزان: حديث البطاقة: بأن رجلاً عرض على الميزان وله تسعٌ وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، وكلها أعمال سيئة فتوضع في كفة سيئاته، فيناديه ربه: هل ظلمك كتبتي أليست هذه أعمالك؟ يقول: بلى يا رب، فيقول: هل بقي لك عندنا شيء؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى! لك عندي أمانة، فإذا ببطاقة مكتوبٌ فيها لا إله إلا الله، يقول: يا ربّ وماذا تفعل تلك البطاقة بتلك السجلات، فيقول سبحانه: لا ظلم اليوم، وتوضع البطاقة في كفة الحسنات فترجح وتطيش كفة تلك السجلات بما فيها. فلا شيء يوازن اسم الله، هكذا يقول علماء العقائد. فالميزان موجود وهو محسوس، ولكن قد يقال: كيف توزن الأعمال وهي أمورٌ معنوية؟ وA هذا مما ليس لك فيه دخل، بل إننا في الوقت الحاضر نجد موازين متعددة، موازين تزن الحرارة، موازين تزن البرودة، موازين تزن الضغط في الهواء، موازين تزن الكثافة في الحديد وفي الماء، موازين توصل إليها الناس كانت لا تخطر على قلب أحد. إذاً: توزن الأعمال والصحف والإنسان، وليس في طاقة العقل أن يتكيف معه، وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم: (سبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض) ، فـ (سبحان الله) تملأ الميزان، كيف وهي أمر معنوي؟ هل تتجسم الحسنات وتصير ملموسة لها ثقل؟ ليس لنا ذلك، الله سبحانه يفعل ما يريد، الذي يهمنا أن الله سبحانه أوجد الميزان. ويتساءل العلماء: وما الحاجة إلى الميزان؟ بعض الفلاسفة يتبجحون ويقولون: إنما يحتاج إلى الميزان الفوّال والكيال، والله ليس في حاجة إلى ميزان. والجواب: صحيح أنه ليس في حاجة إلى هذا كله، ولكن: لماذا لا تقولون: ما فائدة الصحف؟ ولماذا لا تقولون: ما الحاجة إلى وجود ملائكة كرام كاتبين؟ فإن الله لا يحتاج شيئاً من ذلك. لكن المولى يقيم الحجة على الخلق لئلا يحتج أحدٌ على الله، فكما جعل كراماً كاتبين وجعل صحفاً، كذلك جعل الميزان لتقوم الحجة على الخلائق.

الحوض

الحوض ومن الميزان إلى الحوض، وبعض العلماء يقول: إنه بعد الصراط والميزان، والقرطبي يرجح أن الحوض قبل هذا كله، لحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذا المسجد فأغفى إغفاءة ثم انتبه يتبسم، فقالوا: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليّ آنفاً سورة خيرٌ من الدنيا وما فيها: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ، أتدرون ما الكوثر؟ نهرٌ في الجنة آنيته عدد النجوم) ، وفي حديث ذكر حوضه صلى الله عليه وسلم. وقالوا في الجمع بين الرواتين: إن الكوثر نهرٌ من أنهار الجنة فيه ميزابان يصبان في حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قدره كما بين مكة وبصرى، عليه أكوابٌ عدد نجوم السماء، تربته المسك واللؤلؤ. وهنا جاء الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من يأتي بعدك ولم ترهم؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً، أكان يعرفها من بين الخيول؟ قالوا:بلى) ، والغرة: بياض الجبين، والتحجيل: والحجل هو موضع القيد للفرس، أي: في اليدين، فإذا كان الموضع فيه بياض فهو حجل، وهذه علامة خاصة بهذه الأمة. وفي تتمة الحديث: (إن هذا العرض على الحوض هي المفازة الأولى) ، فحينما يبعث المنافقون مع المؤمنين والكل معه نوره، {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} [الحديد:12] ، فهنا المؤمنون يمضون في طريقهم بأنوارهم، فإذا ما وردوا على الحوض جاءت ملائكة تفرز الناس، فيذودون أقواماً عن حوض رسول الله لا يردونه، فينادي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (أمتي أمتي! فتقول الملائكة: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، إنهم غيروا وبدلوا، يقول صلى الله عليه وسلم: فأقول: سحقاً وبعداً لمن غير وبدل) .

موقف أهل النفاق في الآخرة

موقف أهل النفاق في الآخرة قال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، الكل يبعث بنوره حتى المنافق، لكن عند العرض على الحوض يمضي المؤمنون بنورهم ويرد المنافقون فتطفأ أنوارهم، وهناك ينادون: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: انتظرونا نمشي في نوركم، أو انظروا إلينا نقتبس نوراً: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} [الحديد:13-14] ، الريب هو الشك، وهذا الشك هو النفاق. ولكن لماذا يبعث المنافقون بالأنوار مع المؤمنين؟ هو تفسير قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8-9] ، فكانوا يخادعون المؤمنين ويقولون: إننا آمنا، وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] . فتركهم الله على نفاقهم واستفادوا بظاهر قولهم: آمنا، ولهم نصيب في المغانم والميراث والزواج، ويعاملون في ظاهر الأمر معاملة المؤمنين، ولكنهم يبطنون الكفر في داخلهم، وهكذا يستهزئون والله يستهزئ بهم؛ فإذا جاء يوم القيامة بُعثوا بأنوارهم وظنوا أن الخدعة مستمرة وأنهم مع المؤمنين في الأنوار، حتى تأتي المفرزة، فهناك يردون على أعقابهم وتطفأ أنوارهم ويطلبون من المؤمنين أن ينظروهم ليلتمسوا منهم النور، فيردونهم ويقولون: لا، ارجعوا فالتمسوا نوراً من ورائكم، وهناك تنتهي الفاصلة: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد:13] ، من جهة المؤمنين، {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] من جهة المنافقين.

أنواع الشفاعة يوم القيامة

أنواع الشفاعة يوم القيامة الحوض هو المرحلة الأولى، ثم تتطاير الصحف، ثم يكون العرض على الصراط، ثم يكون الميزان، ثم المصير بعد ذلك إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وهناك الشفاعة، وبعضهم يذكر الشفاعة قبل ذلك، والصحيح أن الشفاعة هي آخر شيء حينما يمر الناس وحينما يصعب الأمر ويشتد على الخلق. وبعضهم يقول: تكون الشفاعة العظمى قبل ذلك، ثم تأتي الشفاعات الشخصية الفردية.

الشفاعة العظمى

الشفاعة العظمى والشفاعة العظمى -كما ذكر علماء السنة- أنها للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المقام المحمود الذي خصه الله به، يغبطه عليه الأولون والآخرون، وتكاد أحاديث الشفاعة تتواتر، وما نفاها إلا بعض الخوارج والمعتزلة، وبعضهم ينفي البعض منها ويثبت البعض. ومجمل قضية الشفاعة حينما يشتد الأمر على الخلائق، وتدنو منهم الشمس -كما في الحديث- مقدار ميل، وهل هو ميل المكحلة أو ميل المسافة؟ الله أعلم. يشتد الموقف على الجميع حتى يلجم الناس بالعرق؛ منهم من يكون إلى صدره أو ترقوّته أو ركبته حفاةً عراة غرلاً، وتقول أم المؤمنين: (واسوأتاه يا رسول الله! أيجتمع الرجال والنساء حفاةً عراة وينظر الرجال إلى النساء؟! قال: يا عائشة الأمر أخطر من ذلك، كلٌ مشغول بنفسه) . فيموج الناس بعضهم في بعض ويتمنون فصل القضاء والنهاية ولو إلى النار، فيقول بعضهم إلى بعض: ألا تذهبون تستشفعون إلى ربكم، فيأتون آدم: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه وأسجد لك ملائكته إليك، وأسكنك الجنة، وعلمك الأسماء، ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول آدم عليه السلام: نفسي نفسي، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، وقد نهاني ربي عن الشجرة فأكلت منها فأستحيي أن أسأل ربي شيئاً، اذهبوا إلى نوح، فيأتون إلى نوح: يا نوح عمرك الله في قومك، ونجاك بالسفينة، ألا ترى ما نحن فيه؛ اشفع لنا عند ربنا لفصل القضاء. فيقول: أما أنا فقد استعجلت بدعوتي فدعوت على قومي فأهلكهم، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضبه قبله مثله، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيأتون إلى إبراهيم ويستشفعون به. ويذكر إبراهيم عليه السلام الكذبة التي قالها، ويقول بعض العلماء: ليست بكذبة؛ لأنه لما جاء إلى مصر وأراد ملكها أخذ سارة، فلما علم ذلك وخاف عليها قال لها: إن سألك فقولي هذا أخي، وأنا أخوك في الإسلام. إذاً: ليست بكذبة، والله سبحانه أكرمها وكشف عنها الشر، ولما علم ذلك الملك وعرف مكانتها ومنزلتها وأخدمها جارية وأهداها غنماً وإبلاً، والجارية هي هاجر، وسارة وهبتها لإبراهيم فيما بعد، وإبراهيم رزق منها بإسماعيل، وإسماعيل عليه السلام هو جد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو العرب، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الكتب للملوك يدعوهم إلى الإسلام كتب إلى المقوقس ملك مصر، وكانت الإسكندرية عاصمتها آنذاك، فأكرم رسول رسول الله، وسأله المقوقس وقال: أليس تقول: إن محمداً نبي؟ قال: بلى، قال: لم لم يدع على قومه حينما أخرجوه ليلاً في هجرته، قال: ألست تقول: عيسى نبي، قال: بلى، قال: لِم لَم يدع على قومك حينما أرادوا صلبه؟ قال: إنك رجل حكيم، ثم قال: أخبر رسولك أني أومن به، ثم أراد أن يعلن ولكن خاف من بطارقته، وأهدى إلى رسول الله جاريتين وغلاماً وبلغةً وكسوة وطيباً وعنبراً، فأعطى النبي إحدى الجاريتين لصحابي، واختص بـ مارية القبطة التي رزق منها بـ إبراهيم. بهذه المناسبة يقول صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط، إنكم ستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيراً؛ فإن لهم ذمة ورحماً) ، يحفظ صلى الله عليه وسلم حق قطرٍ بكامله في رحم امرأةٍ واحدة. نرجع إلى إبراهيم وإلى ذاك الموقف العظيم، حينما يموج الناس ويذهبون إلى آدم ويردهم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وكلٌ يعتذر، فيقول إبراهيم: اذهبوا إلى موسى، فيأتون إلى موسى فيعتذر، ويقول: لقد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروح منه، فيأتون إلى عيسى فيعتذر، ولم يذكر ذنباً، ثم يقول: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فيقول صلوات الله وسلامه عليه: (أنا لها، أنا لها، فآت فأسجد تحت العرش فيلهمني الله بمحامد لم أكن أعرفها من قبل ولم يلهمها أحد قبلي، فأحمد الله ساجداً ما شاء الله، ثم يقال لي: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع؛ فأقول: أمتي أمتي) . والرواية الأخرى لـ أحمد وغيره: (فيأذن المولى سبحانه وتوضع الموازين، ويأتي المولى ويبدأ الحساب والعرض) ، وهذه هي الشفاعة العظمى والمقام المحمود؛ لأنها شفاعة لفصل القضاء بين الخليقة كلها، وهو مقام يغبطه عليه الأولون والآخرون.

الشفاعات الأخرى

الشفاعات الأخرى ثم بعد ذلك يشفعه الله سبحانه في أقوامٍ -وهي الشفاعة الثانية- تعادلت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع لهم فيدخلون الجنة، أي: بترجيح حسناتهم على سيئاتهم وبشفاعته صلى الله عليه وسلم. الشفاعة الثالثة والرابعة: قوم يستحقون النار فيشفع فيهم فيدخلون الجنة دون دخول النار، ثم بعد ذلك يفصل بين الخلائق، ويدخل أهل النار النار، ويذهب بأهل الجنة إلى الجنة فيجدون الجنة لم تفتح، فيقولون: من يشفع لنا في دخول الجنة، فيأتي صلى الله عليه وسلم ويطرق الباب ويجيبه رضوان خازن الجنة، فيقول: أنا محمد، فيقول: أمرت أن أبدأ بك، لا أفتح لأحد قبلك، فيدخل أهل الجنة الجنة. ثم يرجع صلى الله عليه وسلم إلى ربه ويسجد كما سجد أولاً، ويلهمه محامد كما ألهمه أولاً، ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع، فيقول: يا رب شفعني فيمن كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان من أمتي، فيشفعه الله، فيذهب ويخرج هذا الصنف، ثم يرجع بعد ذلك ويقول: يا رب! شفعني فيمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيشفعه الله فيهم، ثم يرجع الأخيرة: يا رب شفعني فيمن قال: لا إله إلا الله من أمتي، وهنا يقول سبحان الله: شفع النبيون والمؤمنون والصالحون والملائكة المقربون، وبقي أرحم الراحمين، ويخرج من النار إلى الجنة كل من قال: لا إله إلا الله.

طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم

طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أما حكم من طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم اليوم، فيتفق علماء السلف: بأن الشفاعة لا تكون بالشخص على سبيل الإقسام به على الله، فلا يقسم على الله بأحد، ولا بالتوسل بشخصية إنسان، فأنت لا تملك تلك الشخصية، ولكن بإيمانك وبمحبتك وباتباعك لهذا الشخص وهو النبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن الله وبما جاء به رسول الله، وبقدر إيمانك ومحبتك لرسول الله واتباعك له تكون شافعاً في غيرك. والنصوص في ذلك: أن الله سبحانه جعل الشفاعة كرامة للشافع والمشفوع فيه؛ لأن الشفاعة حقٌ لله، ولا يظن إنسان أنها كشفاعة أهل الدنيا، حاشا وكلا؛ لأن الله يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] . إذاً: الشفاعة يوم القيامة تكون أولاً كرامة للشافع كما أكرم الله سيد الخلق بالشفاعة العظمى، والمقام المحمود، وكذلك الصالحون من العباد يكرمهم الله، وجاء في الحديث: (إن العالم ليشفع في أربعين بيتاً من جيرانه) . فالشفاعة كرامة من الله للشافع، وإكراماً من الله للمشفوع فيه، وهل يشفع إنسان في إنسان أدخله الله النار بغير إذن من الله؟ لا يمكن هذا. نحن في الدنيا من أجل طلب الشفاعة يجب أن نكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسألها من الله، فنقول: اللهم إنا نسألك بإيماننا بك، ومحبتنا لرسولك واتباعنا لما جاءنا به، أن تشفعه فينا يا رب العالمين، نسأل الله تعالى أن يشفعه فينا وأن يجعلنا من أهل شفاعته، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربةً هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً. وبعد: فإن هذا الذي أوردناه هو مجمل ما يلزم على المؤمن أن يؤمن به تبعاً لإيمانه باليوم الآخر، وإن في اليوم الآخر أحداثاً ووقائع وأموراً يجب على المؤمن أن يؤمن بها قبلها عقله أو لم يقبلها؛ لأن وراء الموت عالم غيب، ولهذا كان الإيمان بالغيب منطلق الالتزام بالتكاليف فعلاً وتركاً كما أشرنا إلى ذلك، ودللنا عليه بقول الله: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-3] . ومن أهم الإيمان بالغيب: الإيمان باليوم الآخر، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:3-4] .

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه هذا الإيمان بأركانه، ويتفق علماء السلف على أنه يزيد وينقص، وخلاف العلماء في أن الإيمان يزيد وينقص لا نريد أن نطيل الكلام فيه، فمن الأئمة من يقول: لا زيادة ولا نقصان، وجمهور السلف على أن فيه زيادة وله نقصاناً. وليس هناك خلافٌ حقيقي فيما أظن؛ لأن الذين يقولون إنه لا يزيد ولا ينقص ينظرون إلى الإيمان اللغوي الذي هو التصديق، والذين يقولون: يزيد وينقص ينظرون إلى الإيمان الشرعي الذي أمرنا به، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. ومما قاله العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه: لو أردنا أن نوازن بين إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه وعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وزيد بن ثابت، وبين إيمان الناس في هذا الوقت، هل نجد معادلة بين إيمان أبي بكر بجميع معانيه وإيمان عامة الناس اليوم؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح بها) ، ونحن نعلم بأن أمور التصديق تزداد بالأمارات والعلامات، وأشرنا سابقاً إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وبأن كل مسلم في مشارق الغرب يعلم يقيناً وجود الكعبة قبلة له، فإذا جاء إلى الحج ورآها عند باب المسجد زاد علمه بعين يقينه بوجود الكعبة أكثر مما كان يعلم وهو في بلده، فإذا جاء إليها وطاف بها ولمسها، وإذا فتح الباب ودخلها؛ كان إيمانه بالكعبة أقوى من إيمانه بها وهو عند باب المسجد. وهكذا السلف الصالح عاينوا الأمارات، ولابسوا وشاهدوا وعايشوا المعجزات، وعاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يستوي هذا الفريق مع ذاك؟! والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد.

الحديث الثاني [9]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [9]

السؤال عن الساعة في حديث جبريل

السؤال عن الساعة في حديث جبريل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد بقي في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام سؤاله الأخير: (أخبرني عن الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها؟) . وسؤال جبريل عليه السلام عن الساعة إنما هو لتعليم الحاضرين، ولأنهم قالوا: جاء رجل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أسئلة ما كان ينبغي إيرادها، منها أنه قال: إني تزوجت وامرأتي حبلى، فأخبرني ماذا حملت؟! إني خلقت ووجدت فأخبرني متى أموت؟! إنا في الدنيا فأخبرنا متى تقوم الساعة؟!

معنى الساعة

معنى الساعة الساعة لغةً: جزءٌ من الزمن أو لحظة، وفي اصطلاح العامة: جزءٌ من أربع وعشرين جزءاً من اليوم والليلة، وشرعاً: هو اليوم الآخر. وسميت القيامة أو اليوم الآخر ساعة مع أنه فوق خمسمائة ألف سنة؛ إما لتسمية الكل ببعضه، أو لأن العبرة في ذلك بأوله، أي: أول مجيء هذا اليوم، أو بما يكون فيها من مباغتة الناس لحظة، أي: أول مجيئها. والمهم أن السؤال عن الساعة إنما هو عن يوم القيامة، وقد سماها الله سبحانه كذلك، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] ، تقوم الساعة، أي: القيامة، يقسم المجرمون على أنهم ما لبثوا في الدنيا غير ساعة، أي: ساعةً زمانية وجزءاً من اليوم.

حكم السائل والمسئول عن الساعة

حكم السائل والمسئول عن الساعة لما قال جبريل عليه السلام: (أخبرني عن الساعة؟) ، أجابه صلى الله عليه وسلم بتلك القاعدة العامة، ولكن بأسلوب أعم وأشمل، وإلا فقد كان مقتضى السياق أن يقول له: لست أعلم بها منك، ولكن لتعليم الحاضرين ألا يعودوا إلى السؤال عنها مرة أخرى، فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) . وهل ذلك خاص بتلك الصورة المسئول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسائل جبريل أو مدى الدهر؟ A كلما سأل سائل عن الساعة ووجه السؤال لمسئول يكون الجواب: ما المسئول عنها -أياً كان هو ومتى كان السؤال- بأعلم من السائل؛ أياً كان هذا السائل وفي أي زمان ومكان، وهذا هو الذي يفهم من السياق. ويقول بعض العلماء: إن هذا السؤال قد وقع قبل ذلك بين جبريل وعيسى عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام، ولكن السائل في ذلك الوقت كان عيسى عليه السلام، فلما سأل جبريل عليه السلام انتفض انتفاضةً وقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم وجوابه بهذه الصيغة يظل قاعدة عامة مطردة كلما سأل سائل ووجه السؤال إلى مسئول ويكون الجواب هو: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) . وجبريل كان يعلم ذلك، وليس السؤال عن الساعة من حيث هي، فالساعة من حيث هي مسلمٌ بها من كل مؤمن بالبعث، ولكن السؤال عن زمنها، ومتى تكون؟

يوم قيام الساعة

يوم قيام الساعة أخفى الله سبحانه وتعالى علمها على الخليقة كلهم، فلم يَطَّلِع عليها ملك ولا نبي ولا إنسان، ولكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم تحديد اليوم الذي تكون فيه وهو يوم الجمعة، كما جاء في رواية الموطأ عند مالك: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه سجدت الملائكة إليه، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يصلي يسأل الله حاجته إلا أعطاه، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة في الأرض إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة من بعد صلاة الفجر حتى مطلع الشمس إشفاقاً من الساعة) ، أي: إذا كان يوم الجمعة بعد صلاة الفجر فأنها تصيخ الدواب بسمعها وتنتظر سماع نفخة الصور لقيام الساعة. وهذا من آيات الله: أن البهائم العجماوات تؤمن بقيام الساعة، وتعين يوم الجمعة من الخميس قبله أو السبت بعده، وتعلم أن يوم الجمعة هو يوم موعد قيام الساعة، ولكن متى؟ لا يعلم ذلك إلا الله. وفي سورة يس: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:49-50] . وروى البخاري رحمه الله: (تقوم الساعة بغتة، ويكون الثوب بين رجلين فلا يطويانه ولا يتبايعانه) ، أي: يأتي الشخص للتاجر كي يشتري ثوباً، فبينما هو ينظر ويساوم تقوم الساعة قبل أن يطوي الثوب البائع، وقبل أن يشتريه المشتري. (ويحلب صاحب اللقحة حليبها فلا يشرب ما حلب، ويرفع صاحب الطعام الطعمة إلى فِيه فلا يأكلها) وهكذا النصوص الصحيحة في مجيء الساعة بغتة لا يعلم وقتها ولا يجليها لوقتها إلا هو {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:42-46] . وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله متى الساعة؟ فأجابه جواباً لطيفاً: (ماذا أعددت لها؟) ، أي: ليس المهم أن تسأل عن مجيئها، ولكن المهم أن تعد لها العدة فقال: (ماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله، قال: المرء مع من أحب) .

نصائح لطلاب العلم

نصائح لطلاب العلم

وجوب إرجاع العالم علم ما لا يعلمه إلى الله

وجوب إرجاع العالم علم ما لا يعلمه إلى الله هنا يقف العلماء للتنبيه والتأكيد على كل طالب علمٍ: أنه إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: لا أعلم؛ فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي في الصغيرة والكبيرة، جاءه جبريل على أذىً في نعله وهو يصلي، يأتيه جبريل في كل ما يريد الله إبلاغه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك، بدل أن يقول: لا أعلم، قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ، يعني: لا تطمع في جواب من عندي. ولذا كان علي رضي الله تعالى عنه يقول: (ما أشد بردها على قلبي، أن أسأل عما لا أعلم فأقول: لا أعلم) . ويذكر العلماء عن مالك رحمه الله: أنه سئل عن أربعين مسألة جاء بها الآتي مسافراً يشد الرحل إليه، فيجيبه عن أربعة فقط، ويقول في الباقي: لا أعلم، فيقول له: ومن يعلم إذا لم تعلم؟ وكيف لا تعلم؟! فقال له: ارجع وأخبر كل من وراءك أن مالكاً لا يعلم. وهكذا ابن مسعود يقول: (قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) ، ولهذا من أسلم ما يكون لطالب العلم عند عدم المعرفة بالمسئول عنه أن يبرأ إلى الله ولا يحمل ذمته أن يقول بما لا يعلم. وهذه السنة النبوية، وهذا موقف الخلفاء الراشدين وأئمة المذاهب رحمهم الله وسائر العلماء، والعاقل لا يتخطى ذلك، لا تقل اليوم بشيء لا تعلمه، وربما تأخذ السؤال على أنه علم، ثم ينكشف الغيب فيما بعد بأنك قد أخطأت فيما قلت وأنك قلت بما لا تعلم، فكيف يكون الموقف؟ وفرقٌ بين من يتعمد القول فيما لا يعلم بأنه يعلم، وبين من يجتهد فيما إذا كان الموقف موقف اجتهاد ولديه أداة المجتهد؛ فيبذل الوسع ثم يقول بما وصل إليه علمه.

الاجتهاد المأذون به شرعا

الاجتهاد المأذون به شرعاً جاء في بعض المواقف عن السلف في موقف الاجتهاد ما يصادف الحق؛ فيكون شدة الفرح عنده خير من الدنيا وما فيها؛ فقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه: أنه خرج إلى الشام في عام عمواس، فلما وصل إلى تلك القرية جاءه أمراء الأجناد في الشام قبل أن يدخل الشام بمراحل وأخبروه أن الطاعون قد فشا هناك. فقال لـ ابن عباس: اجمع لي مشيخة المهاجرين، فجاءوا. فسألهم: ماذا ترون؛ أنمضي بالجيش أم نرجع من الطاعون؟ فاختلفوا عليه، فمنهم من قال: أردت الخروج في سبيل الله فلا ترجع، ومنهم من قال: معك شيوخ الصحابة ووجوه القوم فلا تقدم بهم على هذا الطاعون ليهلكهم، ونرى أن ترجع، قال: قوموا عني. ثم قال: أدخل عليّ شيوخ الأنصار، فاختلفوا عليه كما اختلف شيوخ المهاجرين، ثم قال: ادع لي من هنا من مشيخة قريش، فجاءوا فما اختلف عليه واحد منهم، وقالوا: نرى أن ترجع ولا تقدم على هذا الوباء ومعك خيار أصحاب رسول الله وبقيتهم. فأعلن: إني مصبح على ظهر -أي: راجع- ولما أصبح جاءه عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً، فقال: يا أمير المؤمنين! عندي في ذلك علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون بأرضٍ فلا تدخلوا عليه، وإذا نزل بكم في أرضٍ فلا تخرجوا منها فراراً منه) ، فكبر عمر، فقال: الحمد لله الذي وفقني لما أراد رسول الله. وكذلك عبد الله بن مسعود لما جاءه السؤال في المرأة التي عقد عليها زوجها، ولم يسم لها صداقاً، ومات قبل الدخول بها، فدفع السائل عنه، فذهب إلى غيره ومكث الرجل أربعين يوماً في الكوفة يطلب من يفتيه فلم يجد، ثم رجع إليه مرة أخرى، قال: لم أجد ولن أرجع حتى أسمع الفتوى، فقال: أقول فيها برأيي؛ فإن أصبت فمن الله وبتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، أرى أن لها صداق مثيلاتها -بنت عمها وبنت خالتها وأختها-، ولها الميراث، وعليها عدة الوفاة؛ لأنها مأخوذ عليها. فلما سمعه رجل من الصحابة جالس قام وقال: أشهد بالله لقد حكمت فيها بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، ففرح بذلك فرحاً شديداً لموافقته الحق بما اجتهد فيه. والاجتهاد في الأحكام من خصائص الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بكتاب الله، ونصوص الكتاب آيات معدودة، وجاءت نصوص السنة النبوية وهي مهما كان مبلغها فأعدادها محصورة. وكما يقول الأصوليون: النصوص محدودة، والأحداث -أي: طول الزمان- ليست محدودة، فلا يمكن أن تقف غير المحدودة عند المحدودة، فما يستجد من الأحداث التي لا تتناهى لا نتركها هملاً، ولا نفرغها عن حكم شرعي بل نرجع إلى القواعد العامة التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنطبق عليها القواعد العامة، وتندرج تحت هذا العموم، ويكون باجتهاد المجتهدين. وأجمع العلماء على أن الاجتهاد من خصائص الإسلام، ومن ادعى قفل باب الاجتهاد فهو مخطئ.

أهلية الصحابة للاجتهاد

أهلية الصحابة للاجتهاد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم بأن علماء هذه الأمة، بل صدر الأمة جميعاً، تأهلوا ليكونوا قادة للعالم كله، وذلك في غزوة تبوك، فإنه لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وفي أيام من أيام سفره ذهب يتوضأ لصلاة الفجر، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يبعد إذا أراد الخلاء، فأبعد طويلاً وكان معه المغيرة بن شعبة، فتأخر عنهم وطال انتظارهم، فخافوا خروج الوقت بطلوع الشمس، فتشاوروا فيما بينهم: ماذا نفعل؟ ننتظر رسول الله فيخرج الوقت! أم نصلي الفرض الواجب علينا؟ فاتفقوا على أن يصلوا وقدموا رجلاً منهم، فلما صلى بهم إمامهم ركعة وقام للركعة الثانية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حضر، فهم المغيرة أن ينبه إمامهم ليرجع ليقوم النبي مقامه؛ وهذا حق الإمام الراتب، لو تأخر وجاء وقد أقاموا رجلاً منهم، فهو بالخيار؛ إن شاء أخره وقام مقامه، وإن شاء صف مع الناس. فـ المغيرة رضي الله تعالى عنه أراد أن ينبه إمامهم ليرجع إلى الصف ويتقدم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنهاه رسول الله، وصف هو والمغيرة في صفوف المسلمين، ولما سلم الإمام قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتم الركعة التي فاتته، ولما سلم عظم على المسلمين أنهم يصلون أمام رسول الله، فهون عليهم وقال: (ما قبض الله روح نبي حتى يصلي خلف رجل من أمته) . هذا الإشعار ليس حدثاً تاريخياً فقط: (ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلي خلف رجل من أمته) ، فلقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة وهم في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، لا يعرفون حقاً ولا ينكرون منكراً، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجعلهم سادة وقادة؛ إذ مهمة الرسول في الأمة: أن ينبه ويرشد ويعلم، ولكأنه بهذا قد ربى جيلاً، وربى قادة، وأوجد مجتمعاً الواحد منهم أصبح صالحاً لقيادة أمة، وأن يأتم به رسوله معه؛ بأي شيء؟ باجتهادهم بعملهم وبتحصيلهم، والباب واسع كما في حديث لـ معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، ثم قال: (بم تقضي يا معاذ؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلوا، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وإن كان بعض الناس يطعن في هذا الحديث لسنده، فالجمهور جميعاً على ما في هذا الحديث من هذا المبدأ. وأدلة الاجتهاد لا تحتاج إلى إيراد، إنما يهمنا أن العالم إذا سئل عما لا يعلم فليقل: لا أعلم، وليتوقف وليسأل من هو أعلم منه. وقد جاء في الموطأ: أن ابن عباس اختلف معه رجل، هل يغسل المحرم رأسه أم لا؟ فقال: يا فلان! اذهب إلى أبي أيوب الأنصاري، وقل له: إن ابن عباس يسأل كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فذهب الرجل، قال: فوجدت أبا أيوب يغتسل بين قرنين -القرنان هما البنايتان- ودونه ثوب يستره، وعنده غلام يصب له الماء، فسلمت عليه وأخبرته بما أرسلني به ابن عباس، فأخذ الثوب وطأطأه حتى ظهر رأسه، وقال للغلام عنده: صب يا غلام، فأقبل بيده وأدبر، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم، فرجع إلى ابن عباس وصاحبه وأخبرهما بما كان. ولما اختلف عثمان رضي الله تعالى عنه ورجلاً آخر في الرجل يجامع أهله ولم ينزل؛ هل يسقط عنه الغسل لحديث: (إنما الماء من الماء) ، أو يغتسل لحديث: (إذا جلس بين شعبها ثم جهدها فقد وجب الغسل) . وجاء عمر رضي الله تعالى عنه وهم مختلفون في ذلك، فقال عمر لـ علي رضي الله تعالى عنه: ما تقول يا علي في هذه المسألة؟ وهنا يرد علي الجميع إلى منبع العلم فقال: ولم تسألني ولم تسأل غيري وبجوارك أمهات المؤمنين، أرسل إليهن فاسألهن عن ذلك، فإنهن أعلم بهذه القضية؛ فأرسل إليهن وذهب الرسول إلى أم سلمة أولاً فقالت: سلوا عائشة، فذهبوا وسألوا عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: كنت أفعله أنا ورسول الله ونغتسل، وقالت لهم: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاوز الختان الختانَ فقد وجب الغسل) ، وقالت لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل؛ أنزل أو لم ينزل) ، فجاء الرسول إلى عمر وهو جالس، فقال: من فعل هذا وجب عليه الغسل وإلا أوجعته ضرباً وجعلته مثلة لغيره، فانتهى الخلاف. إذاً: إذا سئل الإنسان عما لا يعلم فإنه يقف، ويكل العلم إلى الله، ثم عليه أن يجتهد، فإن أداه اجتهاده فيما لا نص فيه، أو لم يبلغه النص، ووقف على علم للسلف في ذلك فليقل بما علم، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.

الحديث الثاني [10]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [10]

أمارات الساعة

أمارات الساعة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: ففي الحديث: قال جبريل عليه السلام: (أخبرني عن أماراتها؟) ، أي: إذا لم تكن تعلمها وأنا لن أعلمها، فهل لها أمارات وعلامات، أو لا؟ والأمارات: جمع أمارة وهي العلامة.

معنى: (أن تلد الأمة ربتها)

معنى: (أن تلد الأمة ربتها) قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأنت ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ، في هذا الموضع من هذا الحديث يكثر إيراد آراء العلماء على قوله: (أن تلد الأمة) . الأمة: هي المرأة المملوكة بملك اليمين، والتي أخذت في أسارى الحرب من الميدان في المعركة؛ لأنه لا إماء إلا بقتال، أو متولدةً من أمة، وما عدا ذلك فلا رق في الإسلام. (أن تلد الأمة ربتها) ، والربة تأنيث الربِّ، وجاء في بعض الروايات: (ربّها) ، أي: سيدها، وقد جاء في الحديث: (لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي) ، لكن المقام هنا مقام بيان. واختلفوا في معنى: (تلد الأمة ربتها) أي: سيدتها، فقيل: أن تلد تلك المرأة المملوكة بملك اليمين سيدتها التي تملكها، قالوا: وهذا موجود في زمن رسول الله، كان يؤتى بالإماء وتوزع السبايا على الرجال، ويولد لهم منهن، وهذا محمد ابن الحنفية ابن علي رضي الله تعالى عنه من سبي بني حنيفة وقيل: وهذا الوجه لا يرد على هذا الحديث؛ لأن السؤال عن أمارات تقع فيما بعد وما وقعت في ذلك الوقت. وقيل: (أن تلد الأمة ربتها) ، بمعنى: ملكها، بأن تصل السراري إلى بيوت الملك ويتسرى الملك بأمة، وتلد ولداً، ثم يتولى الولد الملك فيكون ملكاً على الرعية ومن ضمنها أمه؛ لكن يقال: كل ملك في العالم فهو ملك على الرعية وقد تكون أمه موجودة، فليس في ذلك جواب. وقيل: هذا يدل على تفشي التسري حتى تصل الإماء إلى قصور الملوك، وكان العرب يأنفون أن يستمتعوا بالإماء ويتنافسون على الحرائر. وقيل: قد يكثر الإماء ويكثر التسري بهن، وتباع الأمة وهي حامل، ثم تلد، ثم يشتريها رجل وتكون عنده وتلد ولداً يشتريه آخر ثم يعتقه، ثم يشتري هذا المعتق هذه المرأة التي ولدت هذا الولد، فيملك أمه وهو لا يدري. وقيل: قد يكثر التسري، فيشتري الرجل الأمة، وتحمل منه وتضع له ولداً، ثم يبيع المالك المرأة ويبقى الولد، وتتناولها الأيدي بالبيع وتدور وتستدير وترجع إلى هذا الولد، فيشتريها وهو لا يعلم أنها أمه، وقد يستمتع بها بملك اليمين استمتاع السيد بإمائه وهو لا يدري. وكل ذلك يقوله العلماء وينتهون بجملة واحدة، هي: أنه تنعكس المقاييس ويحصل الاختلاط وتنقلب الأوضاع، وهذا من علامات آخر الزمان، وقد جاءت النصوص في هذا الباب عديدة، وأفردها العلماء بكتب في الملاحم وأشراط الساعة وغيرها.

معنى: (وأن ترى الحفاة العراة)

معنى: (وأن ترى الحفاة العراة) قال صلى الله عليه وسلم: (أن ترى الحفاة العراة) . الحفاة: هم الذين لا ينتعلون في القدمين. والعراة: الذين لا يلبسون شيئاً؛ وهل يصير الناس عرايا مثل إنسان الغابة لا يلبسون شيئاً، أو أن ذلك مبالغة في وصفهم بحالة الفقر وعدم امتلاك شيء؟ (رعاء الشاء العالة) العيلة الفقر، وكثرة العيل الأولاد، وما عال من اقتصد. يعني: ما افتقر إنسان اقتصد في نفقاته، فالعالة: الفقراء، وغالباً أن الرعاة فقراء؛ لأن ما يرعونه من إبلٍ أو بقر أو غنم لملاكها، وهم خدمٌ عندهم مستأجرون، ثم ينقلب الوضع فيصير هؤلاء الناس وهذا الصنف يتطاولون بالبنيان، وفي رواية: (يتفاخرون) . وهل البنيان من حيث هو ممنوع؟ نجد في جانب الزهد والورع من يورد آثاراً في النهي عن البناء بالكلية؛ حتى أوردوا عن عيسى عليه السلام أنه سئل: (لِم لَم تبن بيتاً؟ قال: لا أريد أن أدع شيئاً من بعدي أذكر به) . وعن عمر بن عبد العزيز قيل له: (لم لا تبني بيتاً؟ قال: لا أريد أن أضع لبنة على لبنة ولا خوصة على خوصة) . هذا مع أننا وجدنا الصحابة والسلف لهم البيوت والرسول صلى الله عليه وسلم بنى الحجرات لزوجاته رضي الله تعالى عنهن، ولكن لم يشيد ولم يتطاول، هذا قصر سعد بن العاص موجود في العقيق، ومن أراد أن يراه فهو إلى الآن قائم بالحجارة والنورة والجص، وقد انهدم بعضه وبعضه قائم حتى اليوم، لكن العبرة بالتطاول والتفاخر، فإذا كان الأمر في هذا الباب لا لمجرد البناء ولكن للتفاخر فيه فلا بأس، فقد كانت حجرات رسول الله لأمهات المؤمنين إذا وقف الواقف ومد يده ربما نال السقف، وحينما أريد هدمها وإدخالها في المسجد قام سعيد بن المسيب وقال: ليت حجرات زوجات رسول الله بقيت؛ ليرى الناس كيف كانت حياة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياته صلى الله عليه وسلم معهن؟! وفي أول الأمر حينما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المسجد كان هناك بستان، فقطع النخيل ووضع الجذوع بدل السواري وسقف المسجد، فقيل في بنائه، فقال: (عريش كعريش أخي موسى) ، أو قال: (الأمر أعجل من ذلك) ، فأخذوه على قيام الساعة، ولكن الظاهر -والله تعالى أعلم- أنه أعجل في الزمن؛ لأن حياته صلى الله عليه وسلم وبقاءه في الدنيا محدود، ومهمته أعظم وأوسع من أن يضيع وقته في بناء عريش أو غيره، ولكن في السنة السابعة من الهجرة لما رجع من تبوك بنى المسجد بالحجر والطين. يهمنا أن الحديث يقول: ترى هذا الصنف من الناس تنقلب مقاييسهم؛ فبعد أن كانوا عالة حفاة رعاء، فإنهم يتطاولون في البنيان فيما بعد، والتطاول ليس مجرد بناء، بل هذا بنى بيتاً من طابق ويأتي آخر بجواره ويبنيه من طابقين، ويأتي الآخر ويبنيه من ثلاثة، والآخر يبينه من أربعة، وهكذا يكون التطاول هذا استطال وهذا يتفاعل، والتفاعل التقابل أي: يتسابق كل منهم إلى أن يكون بناؤه أطول بناء من الآخر، ولا نريد أن ندخل في تفاصيل في هذا الباب، من أن المباني أصبحت نوعاً من أنواع الاقتصاد أو أزمة السكن، أو شيء من هذا، إنما يهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأمر يكون من علامات الساعة. ويأتي بعض العلماء من جانب الزهد والورع ويعيبون البناء، ولكن هذا الأمر يدخل في حياة الناس وفي اقتصادياتهم ومعيشتهم وتدابيرهم للحياة، ولا نستطيع أن نوقف هذا التقدم أو التطور، ولكن نقول: لا ينبغي أن يكون تفاخراً وتطاولاً وإيذاء، إذا كان للحاجة فلا مانع، أما للفخر والتطاول على الناس فهذا لا يجوز، وقد وضع الفقهاء قواعد لتطاول البنيان كما ينص الحنابلة. فمن حق الجار على جاره: أن لا تطيل بناءك عليه فتسد عنه إلا بإذنه، وأن من حق جارك إذا بنيت بيتك وكان جارك بجواره ولم يبن جداراً بجوارك وأراد أن يسقف بيته، فمن حقه أن يضع أطراف خشب السقف على جدارك إذا كان في جدارك قوة تتحمل السقفين معاً، ولذا يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره -مالي أراكم عنها معرضين، والله لألقين بها بين أكتافكم-) .

ما يستفاد من منصرف جبريل عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وسلم

ما يستفاد من منصرف جبريل عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا فعل جبريل بعد ذلك؟ انصرف. بعض العلماء كـ ابن حجر في فتح الباري يقول: بعض الروايات يذكر فيها قوله: (صدقت) ، كما قالها سابقاً. والذي يهمنا قول عمر رضي الله تعالى عنه: (فلبثت ملياً) ، أي: كان القوم لا يزالون جلوساً في هذا المجلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ردوا عليّ الرجل) ، أي: هذا الرجل السائل، قال عمر: فطلبناه فلم نجده. فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! أتدري من الرجل؟ قلت: الله ورسوله أعلم) ، هذه العبارة يستعملها السلف رضوان الله تعالى عليهم حينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً، وفعلاً كل ما لم يعلمه الناس يرد علمه إلى الله وإلى رسول الله، والآن إذا سئلت عن شيء هل لك أن تقول: الله ورسوله أعلم، أو: الله أعلم، وتسكت. نجد بعض الناس يقول: يجوز أن تقول: الله ورسوله أعلم، وبعضهم يقول: لا تقل الله ورسوله، قل: الله أعلم. فقط؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا فيه إفراطٌ وهذا فيه تفريط. والوسط في ذلك: إذا كان المسئول عنه من أمور الدين التي لم يخرج علمها عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن تقول: الله ورسوله أعلم، أما إذا كان أمراً دنيوياً وحادثاً اليوم فلا ينبغي أن تقول: ورسوله، بل تقول: الله أعلم، وهذا الذي ينبغي الوقوف عنده، وأحسن ما يقال في هذا المقام. قال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، جِبريل، وجَبريل، وجبرائيل؛ كلها لغات في جبريل، وهو مضاف ومضاف إليه، وئيل بمعنى: لفظ الجلالة، ويضاف إليها ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، كلها من باب المضاف والمضاف إليه وهي غير عربية، وهي على حد وزن المضاف عبد الله، فكذلك هنا لفظة: (ئيل) بمعنى لفظ الجلالة. في نهاية هذا الحديث يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاضرين أن هذا الرجل جبريل، وقد أشار عمر رضي الله تعالى عنه في أول الحديث حينما قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) . هذا النظيف الظريف الذي هو شديد البياض في الثوب والشعر، وليس عليه أثر سفر، ولا يعرفه أهل المدينة: إما أنه من أهل المدينة فيعرفونه، وإما أنه قادم من خارجها فيكون عليه أثر السفر؛ وكل ذلك لم يكن. إذاً: ليس من أهل المدينة، وليس قادماً من سفر، فلابد من وجود قسم ثالث، ما هو؟ إنه جبريل. وقد أشرنا سابقاً بأن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، وأن أركان الإيمان الستة كلها غيب، تؤمن بالله، الملائكة، الكتب، الرسل، القدر، البعث، وكلها أمور غيبية ليست محسوسة عندنا، ولكن في هذا الحديث فردٌ من أفراد الغيب، وهم الملائكة، يأتي إلى المسجد ويراه المسلمون بجوار رسول الله، ويخبرهم الصادق المصدوق بأنه جبريل. إذاً: ركنٌ من أركان الإيمان الستة لم يعد غيباً بل أصبح مشاهداً محسوساً، وأشرنا إلى طبيعة جبريل والملائكة، فجِبريل حينما طلبه رسول الله أن يريه صورته على خلقته العادية ظهر إليه في الأفق وقد سده، والأفق هو ما بين السماء والأرض في منتهى النظر. وأشرنا إلى أن عالم الملائكة عالمٌ نوراني، أعطاه الله القدرة على التكيف في الصورة التي يشاء، وأشرنا سابقاً إلى رؤية ابن عباس جبريل يتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوه العباس معه لم يره، وكذلك قصة خديجة لما ذهبت تطلب رسول الله بطعامه ولقيها وسألها: أين محمد يا خديجة؟ قالت: لا أدري، وذهب عنها، ثم جاء إليه بعد أن لقيته، وقال: السلام يقرئ خديجة السلام، أي: أنها لم تخبر بمكانه خوفاً عليه من المشركين. إذاً: الملائكة قد يراهم الإنس، ثم ها هو صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم) ، جبريل معلم أو متعلم؟ وسائل أو مجيب؟ جبريل سائل، والرسول جعله معلماً، إذاً: المعلم قد يُعلِّم بطرح السؤال، السائل العالم قد يعلم بسؤاله بقدر ما يعلم العالم بجوابه، ولذا قال العلماء: حسن السؤال نصف العلم، وقد وردت مناهج تعليمية من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسأل الناس ليعلمهم، يسألهم فيما يعلمون ليعلموا حكم ما لا يعلمون، وقد سأل مرة عن شجرة مثلها كمثل المؤمن، فذهبوا في أشجار البادية، ثم أخبرهم أنها النخلة. ولما سألته امرأة عن أم لها لا تستطيع الركوب، أينفعها أن تحج عنها؟ قال: (لو كان على أمك دينٌ فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: بلى، قال: فدين الله أحق) ، فاستخلص منها الجواب فيما سألت عنه، وأحالها بما لا تعلم على ما تعلم، وهكذا القياس؛ فهو إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق في حكمه؛ لاشتراكهما في علة واحدة. ويهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، وقد علمهم الإسلام والإيمان والإحسان واليوم الآخر، فجعل صلى الله عليه وسلم الدين عنواناً للإسلام والإيمان والإحسان وما يتعلق بأخبار القيامة. إذاً: كلمة الدين أعم مسمى، وجاءت الآية الكريمة: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] . إذاً: الإسلام بمسمى، والدين بمسمى يشمل جميع ما جاء به رسول الله، وهناك أمورٌ لم يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الإسلام ولا الإيمان وهي من الإسلام والإيمان، جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ، ولم يذكر في حديث جبريل: أن تقيم الصلاة وتصوم رمضان ويسلم الناس من لسانك ويدك. وجاء أيضاً: (الدين النصيحة) ، وجاء في الإيمان: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) ، وما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا محبته من أركان الإيمان. وقال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله خاب وخسر؟ قال: من لم يأمن جاره بوائقه) (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه فليكرم جاره فليقل خيراً أو ليصمت) . الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ وأركان الإيمان ستة، فما هي تلك الشعب؟ قال: (أعلاها: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، فلا إله إلا الله هي أول أركان الإسلام، ومع هذا جعلها من شعب الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق من الأعمال الذي يكتسبها العبد، فجعلها من شعب الإيمان. وهكذا جمع الجميع أيضاً في الدين، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) ، إذاً: كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في كتاب الله عن الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي، بأي موجب كان؛ فهو دين الإسلام. والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثالث [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث [1]

علاقة حديث جبريل بحديث (بني الإسلام على خمس)

علاقة حديث جبريل بحديث (بني الإسلام على خمس) بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فقد تقدم الحديث الثاني من هذا الكتاب المبارك، وهو حديث جبريل أنه جاء وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخبرني عن الإسلام؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، ثم سأله عن الإيمان والإحسان وعن الساعة. ثم ها هو الإمام النووي رحمه الله يأتي بحديث: (بني الإسلام على خمس) وهو جزء من الحديث الذي قبله، مع أنه اشترط في المقدمة أنه ينتقي ويختار، ومعنى الانتقاء والاختيار عدم التكرار. فكان من الممكن أن يقول قائل: يجزئ عن هذا الحديث جزء الحديث الذي تقدم قبله، ولكن لفقه النووي رحمه الله، ودقة فهمه في الحديث، جاء بهذا الحديث ضرورة ليتمم جزءاً في الحديث الذي قبله من جهة الحكم، وبيان أهمية ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سؤال جبريل، وهي خمسة أشياء، فما حكم تلك الخمسة؟ وما مدى ارتباط بعضها ببعض؟ وما أهميتها في ذاتها؟ فجاء النووي رحمه الله بهذا الحديث ليبين أن الإسلام الذي سأل عنه جبريل عليه السلام، وأجاب بمقتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن تلك المسميات هي: بناء الإسلام أي: أركانه! أي: ماهيته! أي: ضروريات وجود تلك المسميات ليوجد الإسلام! إذاً: ليس في هذا تكرار، ولكن فيه بيان لمجمل متقدم.

ترجمة ابن عمر راوي الحديث

ترجمة ابن عمر راوي الحديث كنيته أبو عبد الرحمن والكنية: ما صدر بأب أو أم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنها يكنى بـ أبي عبد الرحمن كما جاء عن أم المؤمنين عائشة، لما ذكر تعذيب الميت في القبر ببكاء أهله، حيث قالت أم المؤمنين عائشة: (رحم الله أبا عبد الرحمن! ما كذب ولكنه نسي) . فكان مشهوراً بكنيته وباسمه، فـ عبد الله اسمه، وأبو عبد الرحمن كنيته، وتقدم لنا في عمر رضي الله تعالى عنه أنه أبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب، الاسم واللقب والكنية، وهنا اجتمعت الكنية مع الاسم.

فضله رضي الله عنه

فضله رضي الله عنه يذكر علماء التراجم في ترجمة عبد الله بن عمر من الفضل والكرم والإحسان الشيء الكثير، وأهم ما يُذكر في ذلك أنه أسلم في مكة وهاجر إلى المدينة مع أبيه، ولما كان في غزوة بدر لم يحضرها، وعُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فمنعه صلى الله عليه وسلم لصغر سنه، حيث كان في الرابعة عشرة من عمره، وعرض عليه في غزوة الخندق بعدها بسنة فأجازه صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات: (أن الرسول أراد أن يرده في غزوة الخندق، فجاء إلى أبيه عمر وقال: يا أبي! أجاز رسول الله عبد الله بن جابر وأنا والله أصرعه -يعني: أنا أقوى منه وأولى بالجهاد منه- فذهب عمر إلى رسول الله وأخبره، فأحضرهما وتصارعا بين يدي رسول الله، فصرعه؛ فأجازه) . كانوا يتسابقون إلى الجهاد، وتأبى مروءة أحدهم وهو غلام أن يرد عن الجهاد في سبيل الله حتى يتقدم ويحتج على من منعه وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم! ورسول الله إنما منعه شفقة ورحمة به لصغره لأنه لم يكلف الجهاد بعد، والجهاد فرض كفائي على ما سيأتي الكلام عليه في أركان الإسلام، ومع ذلك دافع واشترك في الجهاد. ومما يذكر عنه أنه رأى رؤيا في شبابه يقول: كانوا يرون الرؤى، فإذا رأى أحدهم رؤيا ذكرها لرسول الله وفسرها له، وفي بعض الروايات كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال: أيكم رأى رؤيا؟ ويقصون رؤياهم على رسول الله ويفسرها لهم؛ لأن الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة يراها الرجل الصالح أو ترى له. قال: فوددت أني أرى رؤيا فأقصها على رسول الله، قال: فرأيت أني على حافة بئر عميق وفيه نار ملتهبة، فإذا برجل يقول: لم ترع لم ترع، ثم ذكر ذلك لـ حفصة، وفي رواية أخرى: أنه رأى أن بيده بطاقة وإنه في الجنة، وكلما أشار إلى جهة في الجنة طارت به تلك البطاقة، فقص الرؤيا لأخته حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم العبد عبد الله لو كان يصلي من الليل) يقول: (والله ما تركت صلاة الليل بعد ذلك) .

روايته للأحاديث

روايته للأحاديث وجاء أنه روى عن رسول الله ألفاً وستمائة وثلاثين حديثاً، وهو من السبعة الصحابة أصحاب الألوف في روايات الحديث وهو رابع العبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير. وكذلك جاء في الروايات أنه أعتق أكثر من ألف عبد، وحمل على ألف فرس في سبيل الله، وكان من سبب كثرة عتقه العبيد أنه كان إذا رأى عبداً يصلي أعتقه، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن! والله إنهم يصلون يخدعونك؛ لأنهم عرفوا أنك تعتق من يصلي، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له. وروي عنه أنه كان في حج، وركب بعيراً فأعجبه وكان حسناً، فأناخه ثم قلده وأشعره، وقال: يا نافع! أدخله في الهدي، فكان إذا أُعجب بشيء تصدق به {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فكان يكثر من الصدقة خاصة ما يحب. ويقولون عنه رضي الله تعالى عنه: إنه مرض واشتهى العنب، فبحثوا عنه فجاءوه بقطف، فإذا بمسكين يقول: أطعموني، قال: أعطوه إليه، قالوا: كيف وقد عنينا من أجله، قال: لقد أحببته ولهذا أتصدق به، فأعطاه للمسكين، فذهب رجل من أهله واشترى العنب من المسكين، ورجع به فقدمه إليه، فإذا مسكين آخر قال: أعطوه العنب، وهكذا ثلاث مرات.

قوة التشبيه والبلاغة في حديث: (بني الإسلام على خمس)

قوة التشبيه والبلاغة في حديث: (بني الإسلام على خمس) يروي عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه الشيء الكثير عن رسول الله، وكان أعلم الصحابة بالمناسك، وأشد الصحابة تمسكاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادةأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) .

بناء الإسلام وروابطه القوية

بناء الإسلام وروابطه القوية قوله: (بني الإسلام على خمس) يقول علماء البلاغة: البنيان للمحسوس بأساس وجدار وسقف، والمعنويات ليس لها بناء، إنما لها تعابير وألفاظ تؤديها، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح العرب والعجم، فيبين ويوضح ويبرز المعنوي الخفي في صورة المحسوس الملموس، وهذا هو أسلوب القرآن، وجميع تشبيهات القرآن عند علماء البيان من التشبيه التمثيلي الذي مبناه على التشبيه والاستعارة، وتفصيله يعرفه طلاب البلاغة. والقرآن الكريم يبين لنا ذلك، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] ، {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] . فهذا الذي يدعو من دون الله ضرب الله له مثلاً، بمن يبسط كفيه إلى ما ليس بقابضه، يفرج أصابعه ويمدها إلى ماء في قعر البئر، أو يجري في النهر ويفغر فاه ينتظر أن يأتي إليه الماء، فهل الماء يأتي لإنسان من قعر البئر إلى يد مفرجة الأصابع؟! تخيل كأن بين يديك إنساناً شديد الظمأ، فاغراً فاه، ماداً يده إلى ماء بعيد عنه، تقول وأنت أمامه: لن يصل إليك شيء. فلم يقل الله في القرآن الكريم: مثل الذين يعبدون العدم مثل الذي يطلب ما لا يدرك؛ لأن هذا خبر يمر ولا يعلق بالذهن، لكن عند أن يصور صورة لها أجزاء وأبعاض تقف أنت عندها؛ كما يقال: رسوم ساخرة (كاريكاتير) . وهكذا كما بين في أمثلة القرآن في أمر المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17] أتى بحطب وأشعل النار {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] وقبلها: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19] فإذا وقفت أنت أمام هذا العرض {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] الصيب: المطر، لكن تجد فيه رعداً وبرقاً، تسمع بأذنك فتجزع! ترى بعينك فتخاف، فلكأنك تحكي أو تعايش هذه الصورة {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة:19] كأنه وقع بالفعل {حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:19] من هذا الصوت الشديد، فأنت حينما تسمع هذا الوصف لكأنك في شدة المطر والظلام، وتسمع الرعد وترى البرق، فهي صورة مكتملة. وهنا يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (بني الإسلام) والإسلام: اعتقادات بالقلب، وأقوال باللسان، وأفعال بالجوارح، وبيَّن بناءه وقوائمه، فلكأن الإسلام بيت، بل هو حصن، ولكنه حصن حصين، وقوائم هذا البيت ليست مسلحة بالحديد، ولا بالحجر والطين، ولا مبنية بالجيرانيت الذي هو أصلب حجر في العالم، ولكنه مبني بأعمال تستقر آثارها في القلب، وهذه الأعمال أقوى تلاحماً وترابطاً في الأمة الإسلامية من البناء الذي يشد بعضه بعضاً: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) أي: جسد واحد يجمع مائة مليون أو مائتي مليون؟! ملايين المسملين الآن في العالم! المسلمون تعدادهم عظيم، وأي دين يبني بناءً عظيماً كهذا البناء في الأمة الإسلامية؟! ثم أي بناء يرابط بين أفراد البشر، بين الأخ وأخيه، وبين الأب وابنه، وبين الزوج وزوجه، وبين القريب والبعيد، فيجعل رابطة الإسلام بينهم أقوى من رابطة نسب الأبوة والبنوة؟! أي بناء إذا جئته لتهدمه بمعول هدمته، ولكن بناء الإسلام أقوى على طول الزمن، وقد ساير الزمن طيلة خمسة عشر قرناً ولكأنه بني بالأمس، لم تخلق لبناته! ولم تتخلخل بناياته! بل هو قائم على قوته ولكأنه أقيم بناؤه اليوم! وهذا هو القرآن الكريم يتلى ولكأنه بالأمس أنزل، تقرأ الفاتحة وتسمعها من الإمام مراراً في كل صبح ومساء فلكأنك تسمعها للمرة الأولى، تقف خلف الإمام في رمضان وتصلي خمساً وعشرين ركعة أو نحوها، تسمع فيها الفاتحة تتكرر على سمعك خمساً وعشرين مرة فلكأن الأخيرة هي الأولى. وهكذا البناء؛ لأن كل تشبيه له ارتباط بالمشبه به برابط الشبه بينهما، ولكن قد يكون وجه الشبه في المشبه أقوى منه في المشبه به كما هو معروف في التشبيه المقلوب، ولكن هذا تشبيه على وجهه عند البيانيين.

أمثلة ومواقف تدل على قوة روابط الإسلام

أمثلة ومواقف تدل على قوة روابط الإسلام وما دمنا تعرضنا إلى هذه الناحية، فإن من قوة روابط بناء الإسلام فإنه لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، وكان فيها ما كان عند ماء يقال له: المريسيع، حيث نزل المسلمون وذهب غلمان المهاجرين وغلمان الأنصار يستقون الماء، فتزاحم غلامان وتضاربا، فضرب غلام عمر غلاماً لرجل من الأنصار، فذهبوا إلى ابن أُبي وكان معهم وهو رئيس المنافقين يخفي نفاقه، فقال لهم: ألم أقل لكم من قبل: لا تنفقوا عليهم ولا تسعوهم؟ ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك؛ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغت المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الفتنة بين المهاجرين والأنصار فشغلهم بالمسير وقت القيلولة، فجاءوا إلى رسول الله يعتذرون عن المشي في هذا الوقت، فقال لهم مقالة ابن أُبي، فجاء ابن أُبي يعتذر بنفسه، ولكن الوحي قد سبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] تلك قضية أثارها ابن أُبي، جاء الوحي بمقتضى ما قال، وهو عند الأصوليين: القول باللازم أو بموجب القول، ومعناه: صدقت يا ابن أُبي، صحيح لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولكن لمن العزة؟! قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] . فلما وصلوا إلى المدينة، فهناك تأتي المعجزة والآية وقوة التلاحم بين أبناء المسلمين، ورابطة الإسلام وأخوة الإيمان، فيأتي عبد الله بن عبد الله بن أُبي ويمسك بزمام ناقة أبيه ويستل سيفه ويقسم بالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. فأي قوة بناء تربط بين أفراد البناء كهذه القوة؟! مع أنهم يقولون: كان هذا الابن من أعظم الناس براً بأبيه، فبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مروه فليأذن له بالدخول، فدخل بعد إذن رسول الله، وعلم حقاً أن العزة لله ولرسوله. ثم بعد أيام أشيع عند الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أُبي لمقالته ولإظهار نفاقه، فجاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي وقال: (يا رسول الله بلغني أنك قاتل أبي إن كنت فاعلاً لا محالة فمرني أنا آتيك برأسه، فإني لا أقوى أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتل مسلماً بكافر فأهلك) . ولد يقتل أباه! لماذا؟ لأنه ضنين بأن يرى مسلماً قتل أباه فتأتي الحمية فلا يستطيع أن يصبر فيقتله، فلكي لا يقع في هذا المحظور أراد أن تكون مصيبته على يده لئلا يتعدى على أحد بعد ذلك، وكلاهما مصيبتان: قتل أبيه، وكتم غيظه في قلبه. فأي بناء يكون أقوى من ذلك؟! قد نقول إن هذا موقف شاب، والحماسة قد تأتي في بعض الشباب، ولكن وجدنا العكس في غزوة أحد لما جاء المشركون فخرج من يطلب المبارزة من صفوف المشركين، وممن خرج لطلب المبارزة ولد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يقوم إليه أبوه أبو بكر؛ لكي يعلم المشركون أن لا هوادة بينهم، حتى قال رسول الله: (يا أبا بكر! أبق إلينا نفسك) أي: نحن نضن بك على القتل، وهنا Q إذا خرج أبو بكر لمبارزة ولده، فهو إما قاتل أو مقتول، إن قتل قتل من؟ ولده، وإن قُتل قتل بيد من؟ بيد ولده، كلاهما مصيبتان مركبتان، لأي شيء ذابت وذهبت رابطة النسب والدم والتراب، وعلت وسمت وقويت رابطة الدين؟ A لأن هذه الرابطة الإيمانية لم تكن تربط بين بني البشر فقط، بل إنها ربطت بين حملة عرش الرحمن ومؤمني هذه الأمة، بل ربطت بين الإنسان والحيوان، وبين الإنسان والجماد. فمن روابطها بين حملة العرش والمؤمنين ما جاء في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] أي: برابطة الإيمان بينهما مع اختلاف الجنس، عالم نوراني في الملائكة، وعالم ترابي في البشر، ولكن الإيمان أنزل أولئك من منزلتهم، ورفع أولئك من موطنهم وارتبطوا برابطة الإيمان: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9] . وهناك: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] تلك الولاية ظهرت في بدر حينما نزلت الملائكة تقاتل معهم بالفعل. وهذه الرابطة أيضاً ربطت بين المسلمين وبين الحيوانات، بل الوحش من الحيوان كما جاء في الأثر أن الصحابي الجليل الملقب بـ سفينة، وكان عائداً من غزوته فوجد الأسد في الطريق حاجزاً الناس، ولم يستطيعوا أن يمروا، فتقدم إليه وواجهه وقال: أيها الأسد! أنا سفينة صاحب رسول الله، أمرتك أن تجوز عن الطريق، فاجتاز عن الطريق بقدر ما يمروا ومر الناس جميعاً. ماذا يدرك الأسد من سفينة؟ وما هي الرابطة بينه وبين رسول الله؟ الإيمان، تلك الرابطة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلمان الفارسي، فـ سلمان ليس عربياً، لا هاشمياً ولا قرشياً ولا تميمياً ولا ولا إلى آخره، بل هو رجل فارسي يأتي إلى المدينة قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخرج من بلده فارس لما رأى فيه من فساد علماء بلده، وكان أبوه يوقد النار ويشرف عليها، وعلم أن نبي آخر الزمن سيبعث في أرض الجزيرة، فجاء وأُخذ وبيع، حتى وصل إلى المدينة. ومن موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً قال: الآن سأعرف، وكان يعمل في بستان رجل يهودي، فجاء برطب وقال: (يا محمد! هذه صدقة مني عليك، قال: إني لا آكل الصدقة، وقدمها لمن معه) فقال سلمان: هذه واحدة، ثم رجع من الغد وقال: (يا محمد! هذا هدية مني إليك، فأخذها وأكل) فقال: هذه ثانية، ثم لما أراد أن يذهب ناداه تعال: -انظر إلى الثالثة- وكشف له ما بين كتفيه، فنظر إلى خاتم النبوة فقبله، وأعلن إسلامه، وقال: أشهد أنك رسول الله. فإن الله أعلم رسوله بأن سلمان يعلم من علامات النبوة ثلاثاً: لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، فلما رأى سلمان الأولى والثانية أخبره رسول الله بالثالثة قبل أن يتكلم بها سلمان، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: (لو أن الإيمان في الثريا لناله رجال من فارس) . ولما كانت غزوة الخندق في السنة الرابعة من الهجرة قسم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى لوائين: لواء للمهاجرين، ولواء للأنصار، فلما جاءوا إلى سلمان اختصموا فيه، المهاجرون يقولون: هو معنا؛ لأنه هاجر إلى المدينة كما هاجرنا، والأنصار يقولون: هو معنا؛ لأنه كان موجوداً بالمدينة قبل أن يأتي رسول الله، فلما اختصموا فيه قطع الخصومة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلمان منا آل البيت) فأي شرف هذا؟ ولذا قال سلمان: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم وماذا يريد بقيس أو تميم أو غيرهم بعد أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا آل البيت) ما الذي ربط سلمان الفارسي بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلى نسب في العرب؟ الإسلام.

معنى شهادة أن لا إله إلا الله

معنى شهادة أن لا إله إلا الله إذاً: (بني الإسلام) فالإسلام بيت شامخ عظيم، وهو حصن حصين لكل من أوى إليه، ولكل من أقام بناءه، ولكل من التزم بأركانه، ما هي تلك الأركان؟ (شهادة) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو (شهادةِ) بالجر على أنه بدل من (خمس) المجرورة. (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ويقول العلماء: شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن الكفر بكل مألوه سوى الله؛ لأن العرب كانت تعبد آلهة كثيرة، وهي مركبة من قسمين: نفي وإثبات، لا إله: تنفي جميع الألوهية في الوجود، ثم يأتي الإثبات: إلا الله، فتثبت ألوهية واحدة لله الواحد القهار. ولهذا لا يصح إسلام مسلم إذا كان يشرك مع الله إلهاً آخر، فحقيقة لا إله إلا الله: إفراد الله بالألوهية، ومعنى الألوهية: التأله، ومعنى التأله: المحبة والتعبد، فلا يعبد إلا الله، ثم يأتي مع ذلك يعتقد بوحدانية ذات الله، ووحدانية صفاته وأسمائه، لا يشاركه مخلوق لا في ذاته ولا في صفة من صفاته، ولا في اسم من أسمائه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، يفعل ما يريد وهو رب العالمين.

معنى شهادة أن محمدا رسول الله

معنى شهادة أن محمداً رسول الله وشهادة أن محمداً رسول الله: التزام بشهادة أن محمد صلوات الله وسلامه عليه رسول من الله إلى الخلق؛ لأن الرسالة تقتضي وجود مُرسَل يحمل رسالة، والرسول لا بد له من مُرسِل، ولا بد أن يحمل رسالة يبلغها لمن أرسل إليهم. فالإيمان برسالة نبينا محمد تتضمن الإيمان بالله مرسلاً، وبالقرآن الذي أرسل به، وبالسنة شارحة للكتاب، ولذا تدخل كل تعاليم الإسلام ضمن شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأنك تلتزم بكل ما جاءك به الرسول في تلك الرسالة. وقد تكلمنا مراراً على أن الرسالة تشبه في الوقت الحاضر بالسفير المفوض لدولة عند دولة أخرى، حيث يقدم أوراق اعتماده ثم يتكلم باسم الدولة التي يمثلها، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم قدم المعجزات، وجرت خوارق العادات التي أقنعت الصغير والكبير بأنه رسول من عند الله، وبعد ذلك كل ما يأتي به إنما هو من عند الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1-4] . إذاً: الإيمان برسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم هو الالتزام بكل ما جاء به، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) لأنه جاء به من غير رسالة، ولذا يقول مالك رحمه الله: (من سن سنة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة) ، وذلك لأن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فإذا جاء إنسان وقال: خذوا هذه أضيفوها إلى الإسلام، والإسلام قد كمل، والكامل لا يقبل الزيادة، فلو جئت بكأس مليء بماء ووضعت فيه لؤلؤة، ثم وضعت فيه حجراً كريماً، ثم صببت فيه عسلاً، لفضفض من حواليه وتدفق منه الماء؛ لأنه لا يسع أكثر مما فيه. وهكذا شهادة أن محمداً رسول الله ترد كل بدعة في الإسلام أياً كان موردها. وبالله التوفيق، والله أعلم.

الحديث الثالث [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث [2]

شرح بقية أركان الإسلام

شرح بقية أركان الإسلام

الصلاة وأهيمتها في الدين

الصلاة وأهيمتها في الدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين؛ سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقوله: (وإقام الصلاة) الصلاة تحتاج إلى كلام طويل، ولكن معلوم أمرها وأن إقام الصلاة هو أهم شيء في الإسلام، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل: (أي العمل أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: الصلاة على وقتها) . وكما في الحديث الآخر: (والصلاة عماد الدين) فإذا كان البناء من خمسة أعمدة أو خمسة أركان فإن للبيت عموداً في الوسط إذا رفع هذا العمود أقيم البناء، وإذا سقط هذا العمود سقط البناء، ولو كانت الأطراف قائمة؛ لأن هذا العمود هو الذي يثبت البناء ويرفعه، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر) ، وجاء في الموطأ عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى عمّاله بالحث على الصلاة، وقال: (ألا إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) . والعلماء يعقدون مباحث طويلة، هل الكفر في ترك الصلاة مخرج من الملة أم أنه كفر بالنعم، أو كفر دون كفر؟ فجمهور العلماء: على أنه كفر مخرج من الملة. والبعض يقول: هذا الحديث في عمومه للزجر والوعيد، وقد جاء ما يصرفه عن هذا الظاهر لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن وفاها وأداها بحقها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحفظها ولم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد، إن شاء أدخله الجنة، وإن شاء أدخله النار) فقالوا: هو ممن يدخل تحت المشيئة. ولكن الأئمة الأربعة اتفقوا على أن تارك الصلاة إذا رفع أمره إلى ولي أمر المسلمين أنه يستتاب، أي: ثلاثة أيام، وعند أحمد حتى يمضي وقت الصلاة الأولى فقط، فإن رجع وصلى خلي سبيله، وإن لم يصل قتل باتفاق الأئمة الأربعة، سواء كان جاحداً لها أو كان معترفاً بفرضيتها، ولكنه تركها عناداً أو كسلاً، فعند الأئمة الأربعة يقتل، ولكن عند أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله يقتل حداً كالزاني المحصن، وكقاتل النفس المعصومة، وعند أحمد: يقتل كفراً. والفرق بينهما: أن من قتل حداً يعامل معاملة موتى المسلمين، إلا أن الإمام لا يصلي عليه، فترث منه زوجته، ويغسل، ويكفن، ويقبر في مقابر المسلمين، ويصلي عليه أولياؤه. أما عند أحمد فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يورث ماله من بعده، وماله فيء لبيت مال المسلمين، ويوارى في التراب كما يوارى الحيوان عياذا بالله! ومن عظم شأن الصلاة أن الله سبحانه فرض كل أركان الإسلام وحياً بطريق جبريل، والصلاة فرضها على رسول الله مباشرة بدون جبريل ليلة الإسراء والمعراج، وكانت قد فرضت خمسين صلاة، وما زال موسى يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى ربك وسله التخفيف، فقد بلوت الناس قبلك، بلوت بني إسرائيل وكانوا أقوى أجساداً وبناية على دون ذلك فلم يستطيعوا، وكان يستشير جبريل فيشير عليه أن ارجع، فيرجع ويستشفع) فانتهت الخمسون إلى خمس صلوات، وبين سبحانه في الأخيرة: (هي خمس وهي خمسون) أي: في الأجر، والحسنة بعشر أمثالها. وقد بين الله سبحانه حكمة الصلاة، ولكل ركن من أركان الإسلام فعاليته في سلوك المسلم، وفي روابط المجتمع، أما الصلاة فبين سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فإذا كانت تنهى عن الفحشاء والمنكر فهي عامل صيانة ووقاية للعبد. ومثلها بنهر جار أمام بيوتكم يغتسل فيه أحدكم خمس مرات كل يوم، أترون يبقى على جسده شيء من الدرن؟.

منزلة الزكاة من الإسلام

منزلة الزكاة من الإسلام (وإيتاء الزكاة) . والزكاة إنما هي في الأموال الزكوية مما تنبت الأرض من الحب والثمار، ومن النقدين الذهب والفضة، وما ناب عنهما من النقود الورقية وأمثالها، وبهيمة الأنعام، وعروض التجارة. وقد جاء أمر الله سبحانه وتعالى بها، وبين الوعد والوعيد: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] وجاء: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] يقول العلماء: الطهارة والتزكية بمعنى واحد، ولكن تكون التزكية بمعنى النماء، والتطهير بمعنى النقاء، فهي تزكي مال الغني بما أنفق، وتطهر قلب الفقير من الحقد والحسد على هذا الغني فيما أعطاه الله، فإذا ما أخذ الزكاة كان قلبه طيباً لا يحقد على الغني، بل يتمنى له الزيادة. وبحث الزكاة بحث طويل، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من أدى الزكاة طيبة بها نفسه فقد أجر عليها، ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) . وهل يكفر مانع الزكاة كما يكفر تارك الصلاة؟ وهل يقتل مانع الزكاة كما يقتل تارك الصلاة؟ جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، ولو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ولكن يقول العلماء: (قاتل) خلاف (قتل) ؛ لأن المقاتلة تكون عند المنع، أما القتل فهو عقوبة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أمر الزكاة أنه قال: (ومن منعها أخذناها وشطر ماله) ولم يقل: قتلناه. إذاً: من منع الزكاة لا يقتل، وإنما تؤخذ منه عنوة، وعقوبة تركه أو منعه أن يشطر ماله، فتؤخذ الزكاة الفريضة، ثم ينصف المال ويؤخذ نصف ماله عقوبة له، وهذا من أدلة عقوبة المال في الإسلام، والباب في ذلك واسع.

صوم رمضان

صوم رمضان جاء الحديث بروايتين عن ابن عمر وعن غيره: تقديم الحج (تحج بيت الله) وجاءت رواية: (تصوم رمضان) فبعضهم يروي رواية تقديم الحج على ما سمع ابن عمر، وقد أنكر عليه رجل فقال: (لا تنكر ما لا تعلم، هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) والرواية نقلية لا يجتهد فيها الراوي. وبإجماع المسلمين: أن صوم رمضان على كل بالغ قادر ليس مريضاً ولا مسافراً، على الذكر والأنثى والحر والعبد، فكل بالغ مسلم فعليه الصوم ما لم يقم به مانع أو رخصة.

حج بيت الله الحرام

حج بيت الله الحرام وفريضة الحج في العمر مرة، أما الصيام فيتكرر بتكرار الشهر، والصلاة تكرر بتكرار أوقاتها: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] فكلما تكررت الأوقات تكررت الصلاة، وكلما جاء شهر رمضان وجب الصيام. أما حج البيت فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما أمر بالحج: (قالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت ولم يجبهم، ثم قال: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، الحج في العمر مرة) . ويقول بعض العلماء: لماذا كان الحج في العمر مرة، مع أن أشهر الحج تتكرر كما يتكرر الصيام بتكرر رمضان؟ قالوا: الحج ليس للأشهر، والأشهر زمن للحج وظرف له، وإنما الحج للبيت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] والبيت واحدوليس متعدداً. قالوا: لما كان المحجوج -وهو البيت- واحداً اكتفي بحج مرة واحدة، أما الصيام فإنه لذات الشهر: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فكلما جاء شهر رمضان وجب الصيام. وهكذا أيها الإخوة نجد هذا الحديث مع الحديث الذي قبله يبين أن ما ذكر في جواب جبريل إنما هو بهذا الحديث أركان الإسلام. ويقول بعض العلماء: لماذا لم يذكر الجهاد؟ لماذا لم تذكر الأمانة وغيرها؟ وأجيب عن ذلك: بأن البناء إنما هو للأركان الأساسية، كما إذا أردت أن تقيم بيتاً فبنيت الأعمدة والجدران فهذا هو قوام البيت، أما ما يكون بعد ذلك من اللياسة والبوية، والخشب، ومن الكهرباء، والماء، والبلاط، ومن تلك التتميمات فهي تتميم الإسلام، إنما الأركان الأساسية التي بها قوام البناء هي ما جاءت في هذا الحديث، فإذا ما سقط ركن منها سقط البيت أو مال من جهته، إذا انهدم عموده الأساسي -الصلاة- سقط كله، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. ولهذا كما تقدم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) فإذا أقمت العمارة كاملة، ونسيت تركيب باب أو نافذة أحدثت نقصاً في تلك العمارة بقدر هذا النقص البسيط، وإذا ما أكملتها وكانت موادها جيدة كان البناء حسناً. وهكذا يتم تشبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام بالبناء بهذه المواد التي ذكرها صلى الله عليه وسلم.

الآثار المترتبة على أداء أركان الإسلام

الآثار المترتبة على أداء أركان الإسلام وهناك حديث آخر يضم إلى هذه الأحاديث الثلاثة ليبين منزلة هذه الأركان في حياة المسلم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) هذا الحديث يبين لنا آثار تلك الأركان. (الحمد لله) ثناء على الله بما هو له أهل. (سبحان الله) تنزيه الله عما لا يليق به، فهي حقيقة لا إله إلا الله. (وسبحان الله والحمد لله تملآن) هذا بيان الثواب.

الصلاة نور

الصلاة نور (والصلاة نور) كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في سورة الحديد قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] وقال صلى الله عليه وسلم: (تبعث أمتي غراً محجلين من أثر الوضوء) نور في الجبين، ونور في القدمين موضع الوضوء.

الصدقة برهان

الصدقة برهان (والصدقة برهان) : الصدقة هي الزكاة، ولكن هنا صدقة وصدق، والصدقة والصدق من مادة واحدة: الصاد والدال والقاف، فالصدقة برهان على صدق من قال: أنا مسلم؛ لأن حياة الناس مبناها المعاوضة، وأنت تدفع الثمن وتأخذ السلعة عاجلة، فإذا تصدقت بمالك ولم تأخذ عوضاً عاجلاً فأين العوض؟ المؤمن بالله واليوم الآخر يتصدق ويخفي صدقته؛ لأنه يتعامل مع من لا تخفى عليه خافية، ويدفع القليل والكثير رجاء ما سيكون له يوم يلقى ربه، فهي برهان على إيمانه بالله، وإيمانه باليوم الآخر، وبأن الله سيظله في ظل صدقته يوم القيامة.

الصبر ضياء

الصبر ضياء (والصبر ضياء) : الصبر يشمل الصوم، ويسمى رمضان شهر الصبر؛ لأنك تصبر على العطش والجوع، والصبر تقوم به جميع الأعمال. (والقرآن حجة لك أو عليك) إن اتبعته فهو حجة لك ودليل إلى الجنة، وإن خالفته فهو يتبعك ويطالبك، ويوم القيامة له معك موقف. (كل الناس يغدو فبائع نفسه) إن باعها للرحمن فهي للجنة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] إلى آخر الآية، وإن باعها للشيطان فهذه بيعة خاسرة. إذاً: (فمعتقها) إن باعها لله، (وموبقها) أي: مهلكها؛ إن باعها للشيطان. إذاً يضم هذا الحديث إلى حديث (بني الإسلام) وإلى سؤال جبريل، فيتكون عندنا: معنى الإسلام ومعنى بنيانه، ومعنى آثاره على الأمة أفراداً وجماعات. وبالله تعالى التوفيق. اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، واجعلنا ممن أقاموا بناء الإسلام، واستظلوا بظله، وعاشوا في حماه، وأسأل الله تعالى أن يرد المسلمين شعوباً وحكاماً، صغيراً وكبيراً إلى الإسلام، فيدخلوا في هذا البناء الفسيح الرحب، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

فضل صلاة الجماعة

فضل صلاة الجماعة Q ما حكم من يصلي منفرداً فتفوته الجماعة؟ الإجابة: من إقامة الصلاة أن تؤدى في جماعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ، ولكن الجمهور يختلفون: هل الجماعة شرط في صحة الصلاة؟ فالجمهور على أن الصلاة تصح ولو منفرداً لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرء في جماعة أفضل من صلاته في بيته بخمس وعشرين درجة -أو- بسبع وعشرين جزءاً) فقالوا: إذا كانت تفضل عن صلاته فرداً، فالمفاضلة تدل على التساوي وزيادة أحد الجانبين، فزيد أطول من عمرو، معناه: عمرو طويل ولكن زيداً أطول منه. إذاً: تشترك الصلاة منفرداً وجماعة في الصحة، ولكن الصلاة في الجماعة تفضل على الصلاة منفرداً. وجاء في حديث آخر: (إذا كان أحدكم في غنمه، أو كان في بر وجاء وقت الصلاة؛ فليؤذن وليقم وليصل، فإنه يصف وراءه من الملائكة ما بين المشرق والمغرب) وجاء أيضاً: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) وذكر صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة فعنده طهوره ومسجده) فأيما رجل، أي: فرد، إذاً: صلاته منفرداً صحيحة. ولكن الحفاظ على الجماعة أمر مهم، وكان السلف يقولون: (ما كنا نرى يتخلف عنها إلا منافق بيِّن النفاق) ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، وأنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى أولئك الذين تخلفوا عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم) وفي بعض الروايات: (لولا ما في البيوت من النساء والأطفال لحرقت عليهم بيوتهم) ، وذلك لترك الجماعة. والذي جاء في الحديث الصحيح أو الحسن: (من صلى أربعين صلاة في مسجدي هذا، لا تفوته صلاة كتبت له براءة من النار وبراءة من النفاق، وأمن من عذاب القبر) . نقول: أيها الإخوة! ليس المراد أربعين صلاة في ثمانية أيام ونودع الصلاة، ونقول: أخذنا براءة! لا والله، إنما المراد أن تتابع الجماعة بشرط ألا تفوتك صلاة، فإذا فعلت ذلك كان بمثابة الترويض والتعويد، وبمثابة أخذ علاج مكثف هو علاج حفاظك على الجماعة، فإذا رجعت إلى بلدك كنت قد أخذت دورة تدريبية على الحفاظ على الجماعة، وكان قلبك معلقاً بالمسجد، كلما نادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أجبت المنادي، وحضرت الجماعة. وبالله التوفيق.

الحديث الرابع [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1]

شرح حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة.

شرح حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ... ) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجميعن. أما بعد: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) رواه البخاري ومسلم.

ترجمة مختصرة لابن مسعود راوي الحديث

ترجمة مختصرة لابن مسعود راوي الحديث (عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه) وابن مسعود هذا من أوائل المسلمين قيل: كان سادس رجل مسلم، وكان سبب إسلامه: أنه رأى معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم حالاً: (كان غلاماً يرعى غنماً لرجل عنده، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فقال: هل عندك من لبن؟ قال: نعم، قال: اسقنا، قال: إني مؤتمن -أي: لا أملك أن أسقيكم من مال غيري، وهذه أمانة الأجير، فقد كان فعل ابن مسعود هذا قبل أن يسلم، وإنما حمله على ذلك المروءة والإنسانية. فقال له صلى الله عليه وسلم: هل عندك من عنز لم ينزها الفحل؟ قال: نعم، قال: ائتني بها. فجاءه بعنز لم يطرقها الفحل ولم تحمل، فأخذها صلى الله عليه وسلم ومسح بضرعها، ودعا الله، فامتلأ الضرع لبناً، فحلب فشرب وسقى أبا بكر رضي الله تعالى عنه، ثم قال للضرع: اقلصي. فرجعت كما كانت لا لبن فيها، فلما رأى ذلك عبد الله شهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) . وكان من أعلام الصحابة وعلمائهم، يقول: (والله ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت؟ وأين نزلت؟ ومتى نزلت؟ ولو أني أعلم رجلاً أعلم بذلك مني تصله المطية لرحلت إليه) . وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه وقال: (إن عندنا رجلاً يملي المصحف من رأسه! فغضب عمر واشتد غضبه، ثم قال: ويحك من هذا؟! قال: ابن مسعود، قال: فسكن غضبه، وقال: ما من أحد اليوم أحق بذلك منه) . وكان رجلاً نحيف الخلقة، دقيق الساقين، فذهبوا مرة يجمعون بعض ما يكون في شجر الأراك، فكشفت الريح عن ساقه وهي دقيقة، فضحك من رآها، فقال صلى الله عليه وسلم: (علام تضحكون؟ قالوا: لدقة ساق ابن مسعود يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا! والله إنه عند الله لأثقل من جبل أحد) . ويذكرون عنه الشيء الكثير في كرمه وأدبه وأخلاقه، وكان أشبه الناس آداباً بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أمين سره وصاحب نعليه ووسادته في السفر، وله المناقب العديدة.

ابتداء ابن مسعود الحديث بقوله: (وهو الصادق المصدوق)

ابتداء ابن مسعود الحديث بقوله: (وهو الصادق المصدوق) يروي لنا هذا الحديث بهذه الصيغة، قال: (حدثنا رسول الله) وعلماء الحديث في المصطلح بعضهم يقول: حدثنا، أخبرنا، أنبأنا كلها بمعنى واحد. وبعضهم يقول: (حدثنا) بمعنى: قال وسمعنا حديثه، و (أنبأنا) قرئ عليه وهو يسمع، و (أخبرنا) مناولة أو إجازة، وهنا (حدثنا) ، أي: أحدث لنا كلاماً، وهو التحدث باللسان. ثم نجد ابن مسعود في هذا الحديث بالذات يقدم له مقدمة لم تجر له في جميع أحاديثه، مع أن بعض العلماء يقول: روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا فوق الثمانمائة حديث. يقول: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) رسول الله صادق ومصدوق قبل أن يقول ابن مسعود، وصادق ومصدوق في كل ما يحدث به، وهو صادق قبل البعثة وبعدها، وعلى خلق عظيم قبل البعثة وبعدها. لقد جاء في سيرته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة أن قريشاً لما اختلفوا في وضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة، وتنازعوا في أي قبيلة يكون لها شرف وضع الحجر الأسود في مكانه من الجدار في الكعبة، حتى كادوا أن يقتتلوا، حتى ألهمهم الله وقالوا: علام نقتتل؟! نحكّم أول رجل يخرج علينا من هذا الفج، فكان أول من خرج عليهم هو محمد بن عبد الله، فلما رأوه جميعاً قالوا: الأمين ارتضيناه! وكان ذلك بمثابة انتزاع اعتراف منهم بأنه الأمين. وجاء في السير أن هرقل سأل يوماً: أي الأمم تختتن؟ لقد رأيت نجم نبي الختان قد ظهر. فقالوا: العرب يختتنون. قال: إذا جاء وفد من العرب فأحضروهم إليّ. فلما جاء أبو سفيان ومن معه في تجارة إلى الشام أحضروهم إلى هرقل، فسألهم: هل ظهر عندكم نبي؟ قالوا: نعم. قال: لقد كنت أتوقع أن يظهر هنا، ثم قال: إني سائل عن هذا الرجل فأي رجلٍ أقرب إليه نسباً فيكم؟ قالو: هذا أبو سفيان. قال: إني سائله، فكونوا من وراء ظهره، إن صدق فصدقوه، وإن كذب فأخبروني. فسأله عدة أسئلة، ومنها: أكان يكذب عليكم قبل هذه الدعوى، أم كان صادقاً في الحديث؟ قال: ما جربنا عليه كذباً قط. ثم سأله: أكان يغدر في العهد؟ قال: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها! فأراد أبو سفيان أن يدخل دخيلة، وأن يدلس في كلامه. ثم قال: ولكنه أيها الملك أخبرنا بأنه قد جاء إلى مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة -وأراد أبو سفيان بذلك أن يبين بأن هذه كذبة ليست معقولة، ولكن الله أراد أن يحقق المعجزة- فقام دهقانٌ وكان قائماً على رأس الملك وقال: نعم، لقد علمت بتلك الليلة. فقال له الملك: وما علمك بها؟ قال: كنت لا أنام حتى أغلّق أبواب هذا المسجد، وفي ليلة استعصى علينا باب كذا من أبوابه، فجاء الخدم وأخبروني، فدعوت النجاجرة فجاءوا وقالوا: لقد سقط النجاف على الباب فلا نستطيع تحريكه، فدعه إلى الصباح، فتركناه إلى الصباح، فلما جئنا في الصباح وجدنا الباب على ما كان عليه سابقاً، أي: يفتح ويغلق على ما كان عليه، وارتفع النجاف عن الباب، فعلمت أنه حبس على نبي يأتي تلك الليلة. إذاً هو صلى الله عليه وسلم في بادئ أمره صادق، فلماذا يقدم ابن مسعود لهذا الحديث من الثمانمائة الحديث بقوله: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) ؟ A إذا سمعت بأن صحابياً يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبرني خليلي) (أخبرني حبيبي) (أخبرني الصادق المصدوق) توقع شيئاً عظيماً مما يختص به الخليل أو مما يحتاج إلى التنبيه والتأكيد، وهذا الحديث من ضمنها؛ لأنه يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاله لا يخفى على الناس، إذ ولد في مكة، واسترضع في الطائف، ورجع إلى مكة، ثم جاء إلى المدينة، وما دخل مختبراً، ولا معملاً، ولا جلس إلى طبيب، ولا شرّح امرأة، ولا سلّط أشعة على رحم، ولا علم شيئاً من ذلك مما يعلمه البشر، وإذا هو يخبر عن بَدْء خلق الإنسان من نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضعة إلى ما بعد ذلك من أطوار خلق الإنسان، فكان من حق ابن مسعود أن يقول: وهو الصادق المصدوق فيما سأخبركم بأنه حدثني به، فلا يتطرق الشك إلى أحدكم؛ لأنه لم يعلم شيئاً من ذلك من قبل، أو لأنها أمور خفية داخل الرحم، فهو يخبر بما جاءه علمه من فوق سبع سماوات يخبر عن المغيبات يخبر عن من لم يوجد متى سيوجد فيما يعلمه الله سبحانه وتعالى. إذاً تقديم ابن مسعود لهذا الحديث بقوله: (وهو الصادق) أي: فيما يخبر، (المصدوق) فيما أخبر وأعلن فيه إشارة إلى أنه لم يخبر هذا الخبر من تلقاء نفسه، ولا يتوصل إليه إنسان عادي، إذاً لابد من أنه أخبر من جهة أخرى، وكان إخباره صدقاً، فهو صادق فيما يخبر، ومصدق فيما يتناوله الخبر، ومن الذي يعلمه بذلك؟ الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .

معنى قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه)

معنى قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه) قال: (إن أحدكم -أي فرد من بني البشر- يجمع خلقه في بطن أمه) البطن داخله الرحم، وهذا من النطق بالأعم، ووجود الأعم يقتضي وجود الأخص، أي: أنه يدل عليه، وأخبر بالكل وأراد البعض. (يجمع خلقه) يقول بعض العلماء: الجمع هو توحيد المفترق، وهو ضم الأفراد والأجزاء بعضها إلى بعض، فإما أن يراد بداية الجمع وهي النطفة؛ لأن النطفة من الرجل تجمع من جميع جسمه كما قال بعض العلماء من تحت الشعرة، وكما تأتي المشابهة في الطول أو القصر أو اللون أو غير ذلك، أو يجمع في أطواره، طوراً نطفة، وطوراً علقة، ثم مضغة، ثم يأخذ طريقه في بقية الأطوار حتى الولادة. (يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة) وفي بعض الروايات: (أربعين ليلة) ولا منازعة في ذلك، فاليوم يقتضي الليلة، والليلة تقتضي اليوم، والنطفة: هي الماء الخالص أي القليل، تقول: نطف الماء إذا فاض، والنطفة هنا هي المني، ويقال في العلم: إن الحديث الملي متر المكعب يحتوي على ملايين الحيوانات المنوية، ولا يلقح بويضة المرأة داخل الرحم إلا واحد فقط من تلك الملايين، ووجود هذا الكم الهائل منها يؤدي إلى بقاء النوع، وهذه قضية مطردة في كل ما خلق الله من النبات والحيوان وغير ذلك، فإذا جئت إلى عالم النبات تجد حبة الطماطم فيها الكثير من البذور؟ والبذرة الواحدة تنبت شجرة، وتثمر عشرات الحبات، وفيها آلاف البذور، لكي يبقى النوع ويمكن أن ينمو، ويمكن أن يزرع ويعاد إلى ما شاء الله، ولو كانت الشجرة تنبت حبة واحدة ربما تلفت وضاعت. وتأتي إلى الحيتان فتجد في السمكة الواحدة آلاف بل ملايين البويضات الصغيرة، كل هذه تنشأ عنها حيتان صغيرة، وهكذا، ويستثنى من ذلك الطيور، فالأنثى لا تنتج إلا حبة واحدة، لكن تتكرر البيضة كل زمن معين. إذاً هذا الحيوان -النطفة- يجمع منه في بطن الأم واحداً من تلك البلايين، يقول بعض العلماء المتأخرين: لو أن حيوانات المني التي تلقح منها البويضات جمعت من عهد آدم وحواء إلى أن تقوم الساعة لم تملأ كستبان الخياط، يعني: لا تزيد عن اثنين سنتيمتر مكعب، هذه قدرة الخالق سبحانه، وهذا الحيوان الذي لا يرى إلا بالمجهر جعل الله فيه خصائص الشخص وطبائعه وأشكاله وغرائزه من بخل أو كرم، وشجاعة أو جبن، ولون، وطول، وشبه، كل ذلك يولد مع الإنسان في ملايين من تلك الحيوانات، وهذا ما يسمى في لغة العلم الأحيائي بالجينات.

معنى قوله: (ثم يكون علقة مثل ذلك)

معنى قوله: (ثم يكون علقة مثل ذلك) والعلقة كما يقول جميع المفسرين: قطعة دم جامدة، أو دم متجلط متجمد، ويخالف في ذلك علماء الأجنة فيقولون: العلقة ليست قطعة دم جامدة، ولا يمر بالجنين فترة تجمد قط، إنما العلقة: من العلوق؛ لأن الجنين بعد فترة النطفة يعلق بجدار الرحم، وترتيب ذلك عندهم: أن الله سبحانه كما أوجد في الرجل إحدى الخصيتين لإفراز الماء المنوي، أوجد في مقابله البويضتين عند المرأة، والجهاز التناسلي في الرجل يعادل تماماً الجهاز التناسلي في المرأة مع اختلاف في الشكل، فللرجل ذكر بارز، وللمرأة مهبل داخل، وللرجل إحدى الخصيتين لإفراز المني وطبخه، وللمرأة المبيضان لإفراز البويضات، ومن حكمة الله أن أحد المبيضين يفرز شهراً ويستريح آخر، والثاني يفرز شهراً ويستريح آخر، وفي كل شهر تأتي البويضة، ويقولون: إن أكبر خلية في جسم الإنسان هي البويضة، ولا تصل إلى حبة العدس في حجمها، فتخرج من المبيض وتأتي إلى قناة الرحم، وتنتظر عند فم الرحم، فإذا حصل لقاء الرجل بالمرأة، يسبق واحد من الحيوانات فقط فيعلق بالبويضة، وحينئذ يحصل التلقيح فتأخذ طريقها من قناة الرحم إلى أن تستقر في الرحم، وبعد سبعة أيام تنغرز وتنزرع تلك البويضة في جدار الرحم، وهناك تعلق ويستقر مصيرها، فأول يوم تمشي بالحيوان المنوي في قناة الرحم وتبدأ بالانقسام فتصير إلى خليتين، والخليتان تنقسمان إلى أربع، والأربع إلى ثمان، وهكذا في تكاثر حتى تصل إلى الرحم في شكل يعرف عندهم بالتوتة -أي حبة التوت- لأن حبة التوت عبارة عن خلايا متراصة فيما بينها، وهكذا تكون البويضة على شكل حبة التوت فتأتي إلى داخل الرحم، وجدار الرحم يكون كالإسفنجة فتعلق فيه تلك البويضة على شكلها الذي وصلت إليه ثم تبدأ تنقسم وتتزايد ويصير داخلها ماء سائلاً، وينقسم هذا الماء إلى متغذ، وإلى متغذىً به، وهكذا يبدأ تخطيط الجنين من الأسبوع الأول، بمعنى أن الله سبحانه بقدرته يقدر أوضاع هذا الجنين بعد أن قدر أنه مخلوق، ويمضي في نموه إلى أن يبلغ أربعين يوماً، ثم يبقى في تخطيطه الداخلي -أي: المقدر دون أن يرى ولا يشاهد- حتى إذا بلغ إلى المرحلة التي يكون قد استكمل فيها التخطيط خلال الأربعة الأشهر، هناك يأتي إليه الملك وينفخ فيه الروح بعد أن يكون قد خطط ورسم، ووضع كل جزء فيه في مكانه، وتميز الرأس عن المنكبين، واليدان عن القدمين، ووضعت أجزاؤه الداخلية، والقلب قد يوجد من الأسبوع الرابع أو قبل ذلك، وهكذا تتكون جميع أجزائه الداخلية والخارجية، وكل عضو فيه يكون قد وجد بالفعل وأخذ مكانه، فإذا جاء الملك ونفخ فيه الروح بدأ بالحركة، ومن هنا يقول العلماء: جعل الله سبحانه عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا. أما المطلقة فإن عدتها تكون ثلاثة أشهر أو ثلاثة أقراء؛ لأن المطلقة زوجها حاضر إذا ادعت حملاً لم يكن موجوداً أو نفت حملاً هو موجود كان الزوج المطلق هو صاحب هذا الحمل، فإن ادعت حملاً معدوماً قام ونفى حتى لا تطالبه بنفقة العدة، أو أنها نفت حملاً موجوداً وذهبت لتسقطه قام يدافع عن ولده. أما المتوفى عنها زوجها فليس لها ولي يطالب أمامها، وليس خصمها موجوداً فلا يمكن أن تدعي حملاً ليس موجوداً، ولا تستطيع أن تنفي حملاً موجوداً بالفعل؛ لأنه إذا بلغ الأربعة الأشهر ونفخ فيه الروح صار الجنين بعد ذلك يتحرك بداخلها، إن لم يكن في اليوم الأول ففي اليوم الثاني، أو الخامس، أو العاشر، فحينئذٍ إذا استكملت الأربعة أشهر وعشرة أيام وادعت بعد ذلك حملاً عرضت على النسوة، فإذا عرضت على ذوات الخبرة فلا يحتجن إلى أشعة، ولا إلى ماء وهرمونات، ولا إلى أن يضعن أيديهن على بطنها فيشعرن بالحركة، أي: أن الجنين يثبت نفسه، وإذا ادعت حملاً وعرضت على القوابل أو ذوات الاختصاص فلم يجدن عندها شيئاً، بطل ادعاؤها، وهكذا تتفق عدة الوفاة، وتتفق أطوار الجنين هنا عند الأربعة أشهر بنفخ الروح فيه. وهنا في هذا الحديث: (أربعين يوماً علقة) والعلقة قال فيها جميع علماء التفسير: قطعة دم جامدة، والطب يقول: لا يأتي على الجنين فترة تجمد قط؛ لأنه في نمو منذ أن خلق، ويبدأ الانقسام بعد ثلاثة أيام، وسيترتب على هذا من الأحكام الفقهية ما سننبه عليه في آخر الحديث إن شاء الله.

الحديث الرابع [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [2]

تتمة حديث ابن مسعود في مراحل خلق الإنسان

تتمة حديث ابن مسعود في مراحل خلق الإنسان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

معنى قوله: (ثم يكون مضغة مثل ذلك)

معنى قوله: (ثم يكون مضغة مثل ذلك) يقول العلماء: المضغة قطعة لحم بقدر ما يمضغ في الفم، نقول: إن هذا والله تعالى أعلم على مقتضى المعنى اللغوي، ولكن الذي يظهر أن معنى مضغة: لم يزل في حالته مجتمعاً لم تتفصل أجزاؤه، وإجماع المفسرين في هذه الحالة -مهما كان الأمر- أنه تأتي عليه هذه الثلاثة الأربعينات وهي تعادل مائة وعشرين يوماً، فإذا قسمناها على أيام الشهر ثلاثين يوماً كانت الأربعة الأشهر تماماً، فحينئذٍ بعد الأطوار الثلاث يكون قد تهيأ لنفخ الروح فيه، فيأتي الملك وينفخ فيه الروح.

معنى قوله: (ويؤمر بأربع كلمات)

معنى قوله: (ويؤمر بأربع كلمات) قال صلى الله عليه وسلم: (ويؤمر بأربع كلمات) هذه الكلمات التي أشرنا أنها نوع من أنواع القضاء والقدر الذي قدره الله قبل أن يوجد العالم، وهو القدر الخاص بكل فرد. فيكتب أجله، وهذا الأجل لا يمكن أن يزيد ولا ينقص، ويكتب رزقه، وعمله، ويكتب نهايته شقي أو سعيد، ويختم صحيفته، ولا يزيد في عمره ولا ينقص منه. ولقائل أن يقول: كيف يحدد رزقه فلا يزيد ولا ينقص منه، مع وجود الأحاديث الأخرى: (من أراد أن ينسأ له في أثره، ويوسع له في رزقه؛ فليصل رحمه) وكيف ينسأ له في أثره؟ بمعنى: يزيد أي: يؤخر كما في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] أي: نؤخرها. فقوله: (من أراد أن ينسأ له في أثره) أي: يؤخر ويطول عمره، (وأن يوسع له في رزقه ويزيد فليصل رحمه) ، مع أن الكلمات كتبت وحددت وعيّنت، وهناك الآية الكريمة: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، فكيف يمكن الجمع بين ما سبق وبين هذا الحديث؟ فيجاب على ذلك بقول النووي رحمه الله في شرح مسلم: للعلماء في الجمع بين هذه النصوص أقوال: إما أن المولى سبحانه كتب في هذه الصحيفة في قدر الإنسان وهو يعلم في علمه الأزلي أنه سيزيد له من عمره، ولكن هذه الكتابة الظاهرة هي التي أطلع عليها الملك، والتي يمشي بمقتضاها الملائكة الموكلون بأمر الإنسان، ثم هو في علمه سيزيد، وبعضهم يورد على ذلك اعتراضاً: إذا جاء الأجل المكتوب سيأتي ملك الموت. والآخرون يقولون: الزيادة في العمر والتوسعة في الرزق على سبيل المجاز وليس على سبيل الحقيقة، بمعنى إذا وصل رحمه بارك الله له في عمره بما قدر له، فلو كان عمره خمسين سنة، يبارك الله له في الخمسين، فيعمل فيها من الخير، ويحصل له فيها من توفيق الله كما لو كان يعيش إلى ثمانين أو تسعين سنة، وكذلك رزقه مقدر، له عشرة آلاف فهذه العشرة آلاف من أي نوع كان لن تكون أحد عشر ألفاً أبداً، كما لن تكون تسعة آلاف أبدا، ولكن هذه العشرة آلاف يطرح فيها البركة، بحيث تصبح أكثر من عشرين وثلاثين ألفا، وهناك عشرة آلاف منزوعة البركة لا تساوي ألفاً واحداً، فقالوا: (ينسأ له في أثره) أي: يبارك له في زمنه ووقته، كما لو عاش أكثر من ذلك. ولقد وجدنا بعض العلماء وبعض الأشخاص في عمر قليل أنتجوا ما لم ينتجه الذين عمروا أضعاف ذلك العمر، وهكذا ما جاء في رزقه يبارك الله له فيه.

الشقاوة والسعادة ونتائجها

الشقاوة والسعادة ونتائجها قال: (وعمله وشقي أم سعيد) هذه الفقرة الأخيرة يقسم النبي صلى الله عليه وسلم على نتائجها، فيقول: (والله الذي لا إله إلا هو) ، وهنا أيضاً نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يقسم وهو الصادق المصدوق لا يحتاج إلى أن يقسم، ولكن الله سبحانه وتعالى كثيراً ما يقسم في كتابه، وقسمه صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو على أي شيء؟ (إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب -الذي كتب شقي أو سعيد- فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) فهنا يأتي التساؤل: كيف يعمل بعمل أهل الجنة ولم يبق بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، ما ذنبه؟ وماذا فعل؟ يجيب عن ذلك العلماء ويقولون: نعم، جاء في بعض الروايات: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة في الظاهر) أما الخفي والنية الخفية فلا يعلمها إلا الله، ولقد وجدنا قضية كبرى بينها سبحانه في قضية إبليس مع آدم والملائكة، لما قال سبحانه للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] يقول العلماء: (إني أعلم ما لا تعلمون) ما ظهر من موقف إبليس، حيث كان في ظاهر الأمر يعبد الله، وكان في الأرض من أشد خلق الله عبادة حتى رفع إلى مصاف الملائكة بعد أن قاتل الحن والبن ومن كان قبلهم، فلما وجد آدم ورآه تعاظم في نفسه واستنكر خلقته، ثم كان يستهزئ به، فلما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم أظهر ما كان خفياً وقال: أنا خير منه، فقدم قياسه ونظرته الفاسدة لنفسه على أمر الله له {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] ومن هنا كان يظهر عمله مع الملائكة، وكان يخفي استهزاءه وتكبره على آدم الذي خلقه الله بيديه. إذاً: منكم من يعمل بعمل أهل الجنة، وإذا أخذنا في الاعتبار رواية في ظاهر الأمر، يكون كثير من الناس يعملون عملاً خيراً لكنه في الظاهر، وقلوبهم وبواطن أمورهم لا يعلمها إلا الله، ويكون القسم الثاني يعمل بعمل أهل النار، ولكن نبتة الإيمان في قلبه رطبة، وحسن اعتقاده بربه قوي، وأمله في الله ورجاؤه لا زال حياً، فهو على هذا الرجاء، وعلى ذاك الإيمان عندما يريد الله له الخير، ويتوجه بوجهته إلى الخير يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهناك يدخل الجنة ويسبق بسبق الكتاب إليه.

نماذج ممن ختم لهم بالسعادة

نماذج ممن ختم لهم بالسعادة النموذج الأول: ما قاله صلى الله عليه وسلم (كان رجلٌ فيمن كان قبلكم قتل تسعاً وتسعين نفساً، فجاء وسأل رجلاً عابداً: هل لي من توبة؟ قال: كيف تتوب وقد قتلت تسعاً وتسعين؟ فقتله فأكمل المائة، ثم ذهب وسأل عالماً، فقال له: نعم، ومن يحول بين العبد وربه؟ تب إلى الله يقبل توبتك، ولكن اخرج من هذه البلدة التي فيها قرناء السوء، واذهب إلى القرية الفلانية فيها رجال صالحون يعبدون الله فاعبد الله معهم، فخرج الرجل تائباً إلى الله، فلما انتصف به الطريق مات، فجاءت ملائكة الرحمة بكفن وحنوط من الجنة، وجاءت ملائكة العذاب بكفن وحنوط من النار، وكل جلس مد البصر ينتظر انتزاع الروح ليأخذها إلى جانبه، فاختصموا فيه فأرسل الله إليهم ملكاً على صورة رجل، فقال: قيسوا ما بين البلدين وألحقوه بأقربهما منه، فقاسوا ما بين البلد التي خرج منها والبلد التي ذهب إليها، وفي الحديث: إن الله قد أوحى إلى هذه أن تباعدي، وأوحى إلى تلك أن تقاربي- تنزوي الأرض، بقدرة الله- وفي بعضها: أن الله أقدره بأن نأى بصدره إلى الجهة التي خرج إليها، فكان الفرق ذراعاً فقط فأخذت روحه ملائكة الرحمة) . النموذج الثاني: قصة الغلام اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، (افتقده الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فقالوا: إنه مريض. قال: قوموا بنا إليه لنعوده، فذهبوا إليه فوجدوه في النزع، فقال صلى الله عليه وسلم للغلام: يا غلام! قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه وكان عند رأسه، فقال له: أطع أبا القاسم، فنطق الغلام بما أملى عليه رسول الله قائلا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وافتلتت روحه، فحينئذ قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تولوا أنتم أمر صاحبك) بمجرد أن قال: لا إله إلا الله أصبح صاحبنا، وأصبح المسلمون أولى به من أبيه، ماذا صلى؟ وماذا صام؟ وماذا زكى؟ وماذا فعل من خير؟ لا شيء، ولكنه كان يعمل بعمل أهل النار، وكان بينه وبينها أقل من ذراع فسبق عليه الكتاب فدخل الجنة. ومن هنا كان السلف إذا تذكروا هذا الحديث بكوا وقالوا: لا ندري حينما كتب الملك هل كنا من الأشقياء أم من السعداء؟ كما يقولون: ما ندري عند نزع الروح أي الصنفين من الملائكة يكون عندنا؟ وما ندري كيف يكون حالنا عند خاتمة الأمر وعند تطاير الصحف وعند وعند؟ والعبد دائماً وأبداً دائر بين الرجاء والخوف. ويقول العلماء: إذا كان العبد في مقتبل حياته فيغلب جانب الخوف ليجتهد في الخير ويبتعد عن الشر، وإذا كان في أخريات حياته يغلب جانب الرجاء في الله سبحانه وتعالى، وهكذا فقد جاء النووي بهذا الحديث بعد حديث جبريل، وبعد حديث: (بني الإسلام على خمس) ليبين أن الأعمال بالخواتيم، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء) وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه، ويجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.

أحكام فقهية متعلقة بإسقاط الأجنة أو الجناية عليها

أحكام فقهية متعلقة بإسقاط الأجنة أو الجناية عليها إن هذا الحديث ليس مجرد وعظ، وليس مجرد إخبار عن الغيب، ولكنه يترتب عليه شيء من الأحكام الفقهية: من ذلك: أنه إذا سقط هذا الجنين قبل الولادة، فماذا يكون على من أسقطه؟ وما حكم هذا السقط من حيث الصلاة عليه وتكفينه ودفنه، وكذلك ميراثه؟ يبحث العلماء هذا الموضوع في باب الجنائز، وتغسيل الميت والصلاة عليه، واستحقاق الميراث، فيتفقون على أنه إن نزل واستهل صارخاً فإن له الميراث، وإذا جني عليه فإن من جنى عليه ملزم بنفس كاملة. وإذا ما خرج قبل أربعة أشهر ماذا يكون حكمه؟ إذا نزل قبل الأربعة الأشهر يختلف الأمر فيه، إذ جاء في ذلك عن الشافعي قولان، وعن أحمد روايتان؛ بأنه يصلى عليه أو لا يصلي، أما بعد الأربعة الأشهر فإنه إذا نزل حياً أو ميتاً فإنهم متفقون أنه خرج بعد نفخ الروح فيه ولو بعد الأربعة الأشهر بيوم واحد، وعليه فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، فإن نزل ميتاً فلا ميراث له، وإن نزل متحركاً أو له ما يثبت الحياة الثابتة أي حركة مستقرة وكان بعد ستة أشهر -لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر- فله الميراث إن نزل حياً ثم مات بعد ذلك، فإذا جني عليه قبل أن يتحرك فإن في الجناية عليه غرة إذا انفصل عن أمه ميتا، أما إذا مات مع أمه -جني عليه مع أمه- ولم ينزل فديته تندرج في دية أمه، وإذا نزل ميتاً وأمه بقيت في الحياة فإن ديته غرة وليدة أمة أو عبدا. بعد ذلك يأتي البحث: هل للمرأة أن تسقط الجنين قبل الأربعة الأشهر أم لا؟ فعلى قول بعض الفقهاء: النطفة التي تتكون خلال الأربعين يوماً الأولى لها أن تنزلها؛ لأنها لم تتطور. ويقول الحنابلة والمتأخرون: إن النطفة حينما تعلق ببويضة المرأة لا يجوز إجهاضها، وهذا ما أقره الأطباء، حيث عقد في سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف المؤتمر الطبي العام في مستشفى القصر العيني، بحضور جميع أطباء مصر، وفي تلك الندوة قرروا: أنه لا يجوز لطبيب أن يجهض امرأة إذا علقت البويضة، ولو من أول يوم، وكل إجهاض فهو عمل جنائي. أما كونها تحتاج إلى ذلك أو تضطر إليه فهذا أمر آخر، أما في الأحوال العادية التي لا يكون فيها خطر على الأم فلا يجوز إجهاض النطفة ولو بعد تلقيحها بثلاثة أيام، لأن الأطباء متفقون على أن البويضة مع الحيوان المنوي بعد التلقيح بثلاثة أيام تبدأ بالانقسام، وهكذا يبدأ في النمو كما ينمو البطيخ في عرقه، ولا يزال ينمو ويزيد ويتخلق إلى أن تنفخ فيه الروح فيصير إنساناً مكتملاً، وما كان على هذه الحالة فلا يجوز بحال من الأحوال أن تجهض المرأة نفسها أو تسقط جنينها بعد أن علق برحمها، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وهذا من المعجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لنا ما يتعلق بخلق الجنين في الرحم، ولم يطلع على ذلك أحد في ذلك العهد، وكما أشرنا لم تكن هناك أية وسيلة من وسائل الاطلاع على ما في الأرحام وإنما هو الوحي من الله، وكما قال ابن مسعود: وهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

عدم معارضة علم الله بما في الأرحام مع ما وقع من تطور في علم الطب

عدم معارضة علم الله بما في الأرحام مع ما وقع من تطور في علم الطب Q الله سبحانه وتعالى بيّن أنه يعلم ما في الأرحام وعلمها من الغيب، وإن بعض الهيئات الطبية الآن تطلع على ما في الأرحام، ويحددون ما إذا كان ذكراً أو أنثى كيف يكون الجمع بين ذلك؟ A أولاً: قضية الذكر والأنثى هذه ناحية أخرى يرجع أمرها إلى الرجل ولا دخل للمرأة في ذلك: {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:45-46] وطريقة معرفتهم لما في الرحم هي: إما أن يأخذوا سائلاً من الماء الموجود في الرحم، وبعد أن يأخذوه يدخلوه إلى المعمل وينظرون إلى نوعية الهرمونات على اصطلاحهم، وهي كائنات خلايا البشر من ذكورة أو أنوثة، وهي تختلف، وقد بين الإسلام اختلافها في مواطن سوى ذلك، فبعد أن يعلموا نوعية الهرمونات التي تسبح في سائل الجنين، فعندها يمكنهم تمييز الجنين فإن كانت الهرمونات من إفراز ذكورة يكون ذكراً، وإن كانت من إفراز أنوثة يكون أنثى، وهم بهذا ما عرفوا ما بداخل الرحم إلا بعد أن أخرجوا السائل إلى الخارج ونظروا ماذا فيه، وهذا الأمر بسيط، فلو شققنا بطن المرأة وعملنا عملية جراحية فسنعرف الجنين أهو ذكر أم أنثى؟ فبدلاً من أن نشق البطن ندخل إبرة صغيرة ونأخذ من الماء ونحلله، إذاً دون هذه الطريقة لا يستطيعوا معرفة هذا الجنين، لكن السؤال: هل لهم أن يخبرونا بدون إخراج الماء السائل من رحم الأم، لو جاءوا بأشعة (إكس) أو جاءوا بأشعة (ليزر) أو جاءوا بأشعة كذا وكذا وقالوا: علمنا جنس الجنين، نقول: لقد دخلتم على الجنين واقتحمتم عليه بيئته ولم تعلموا جنسه وأنتم في الخارج، لكن دعوه في مكانه وأخبرونا بنوعه دون الدخول عليه! لا يستطيعون ذلك. إذاً: لا يتنافى ذلك كله مع أن المولى سبحانه وحده هو الذي يعلم ما في الأرحام. الموضوع الثاني: حبوب منع الحمل، هذه من مشاكل العصر، وقد زحفت علينا من أعدائنا، والبوابة الكبيرة التي أدخلتها علينا إسرائيل؛ لأنها من قبل سنوات كانت تشيع وتدعو وتجتهد في تصدير وتشجيع استعمال هذه الحبوب، وكانت هناك دعوى سابقة من ماركس اليهودي الأصل، الذي ادعى بأن العالم مقبل على هلاك من المجاعة لتزايد السكان تزايداً هندسياً، وتزايد مواد الغذاء تزايداً حسابياً، والتزايد الحسابي: واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، والتزايد الهندسي: واحد، اثنين، أربعة، ثمانية، ستة عشر، اثنين وثلاثين، أربعة وستين ومضاعفاتها، وكان يقول: بعد خمسة وعشرين سنة يتضاعف عدد السكان كذا مرة، والغذاء لا يواكب هذه الزيادة، فتكون النتيجة الهلاك، لكن ولله الحمد مضت على دعوته عشرات السنين ومئات السنين والعالم بخير، ومعدل الإنتاج يرتفع، والآن بعض الدول تتلف منتجاتها لتحافظ على الأسعار في الأسواق. ومن الناحية الطبية فإن المبيض متصل بالرحم، وإذا كان الرحم خالياً فإن المبيض ينتج بويضة ويرسلها إلى الرحم، فإذا علق في الرحم بويضة مع حيوان منوي أفرز الرحم مادة تخبر المبيض: أن أوقف الإنتاج فلا محل عندي، فحبوب منع الحمل تعمل على إنزال هذا الهرمون الذي يفرزه الرحم لينذر المبيض بعدم الإنتاج، فتأخذ المرأة الحبوب ويقوم الرحم بإنذار مضلل مزيف: لا ترسل بويضات، فتبقى المرأة بدون إنتاج ولا يحصل هناك حمل، وهذه تسمى الطريقة الدوائية لمنع الحمل، وهناك طريقة أخرى غير دوائية لمنع الحمل تستعمل فيها العوازل لمنع الماء المنوي من أن يصل إلى البويضة فلا يقع تلقيح. وهذه الطريقة يحذر منها العلماء؛ لأنها تعود بالمضرة على المرأة في أعصابها، وفي دورتها الشهرية، بل وفي الخلقة بعد ذلك، وعلى هذا فتعاطي حبوب منع الحمل معارض لما جاء في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) وقوله: (سوداء ولود خير من بيضاء عقيم لم تلد) ، والرسول صلى الله عليه وسلم -لما سألوه عن العزل- قال: (أوإنكم تفعلون؟) وفي بعض الروايات: (إنها الموءودة الصغرى) ، وجاء إليه رجل وقال: (إن لي جارية وهي ثانيتنا، وأريد منها ما يريد الرجل من المرأة أفأعزل عنها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله خلق الولد فأرقت الماء على حجر جاء الولد) وقد جاء مصداق ذلك -أي: أن الرجل إذا أفرغ ماءه على ثوب أو على فراش وجاءت المرأة ونامت في هذا الفراش أو لبست هذا الثياب، أو كان ألقاه على حجر وتمسحت به المرأة والماء رطب، فإن الحيوان المنوي له قدرة على البقاء إلى ست ساعات، ويستطيع أن يسري في الرطوبة حتى يصل إلى الرحم، وتحمل المرأة بدون وطء، وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أن رجلاً في زمنه كان قد خطب فتاة وأراد سفراً فذهب يوادع أرحامه، فما وجد أحداً في البيت ووجد خطيبته -وكان قد عقد عليها- فأرادها وحاول معها فعجز عنها، فضخ الماء بين فخذيها، ثم ذهب الرجل ومضت الأيام وظهر الحمل على الفتاة، فأُخبر بذلك عمر، فسألها، فأخبرته بالواقع، قال: إذا عاد من سفره أول من يكلمه عمر، فلما جاء وسأله عن يوم سفره أخبره كما أخبرت الفتاة، فقال عمر: إذا أرخيت الستور وحصلت الخلوة وجب كامل الصداق، ووجبت العدة، وألحق الولد بالزوج، وكان قبل ذلك يقول: من خلا بامرأة ولم يطأها وطلقها فلها نصف الصداق فقط ولا عدة عليها، لكن بعد هذه الحادثة -وقد حدث الحمل دون وطء- ظهر لـ عمر وجوب كامل الصداق والعدة، ولهذا يقول الحنابلة: أيما امرأة تحملت ماء زوجها بدون وطء منه وحملت ألحق به الولد، وعليها إذا طلقها العدة، وله الميراث، وكل أحكام الزوجية والأولاد تسري على هذا الحمل من هذا الماء، وكلنا يعلم أن التلقيح الصناعي إنما هو أخذ ماء فحل ووضعه في أنثى من جنسه، سواء كان في البقر والخيل أو كان كذلك في بني آدم، وقد عرف التلقيح الصناعي من قديم في زمن الفراعنة، ووجد على أوراق البردي بيان كيفية هذا التلقيح. إذاً: قضية منع الحمل تعارض الكتاب والسنة، ولا ينبغي لمسلم أن يفعل ذلك، وقد يدعي بعض الناس قلة النفقة والعجز عن التربية، والله يرد على هذا الادعاء فيقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإياهم} [الأنعام:151] {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإياكم} [الإسراء:31] وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الحديث الخامس [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس [1]

شرح حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)

شرح حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال النووي رحمه الله: عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . هذا هو الحديث الخامس من الأربعين النووية التي جمعها واختارها الإمام النووي رحمه الله، وفيها من التوجيه والأخلاق والآداب والمواعظ ما هو غني عن البيان. وهذا الحديث النبوي الشريف يعتبر أصلاً من أصول الدين، وهو أبين وأوضح حديث يرد البدع على المبتدعين، ويلزم المسلمين جميعاً أن تكون أعمالهم وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقد تقدم حديث عبد الله بن مسعود الذي قال فيه: (حدثني الصادق المصدوق) وقلنا: إنه استهله بهذه العبارة؛ لأن موضوع حديثه يحتاج إلى يقظة، وإلى انتباه، وفيه بُعد عن العقل البشري.

كنية عائشة رضي الله عنها

كنية عائشة رضي الله عنها قال: (عن أم المؤمنين) ، وصفها بما وصفها به الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الوصف لأمهات المؤمنين، ثم كناها، فهي أم المؤمنين وأم عبد الله، والاسم إذا صدر بأب أو أم فهو كناية، كنيت بـ أم عبد الله وبأم المؤمنين، ويتفق العلماء على أن الأمومة للمؤمنين أمومة تكريم وتشريف، وليست أمومة محرم، فلا يحق لأي إنسان أن يخلو بها، ولا أن تكشف وجهها للغريب كما تكشف الأم لولدها، ولكنها أمومة تشريف وتعظيم وتكريم لحرمة نكاحها. فلا يحق لأحد من العالمين أن يتزوج بإحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده، ومن هنا قيل عنهن: أمهات المؤمنين؛ لأنهن يحرمن على كل مؤمن كما تحرم الأم على ولدها، ولكن لا يخلو بها، ولا يرثها، ولا تكون هناك أحكام الأمهات بينهن وبين سائر المسلمين، قال الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] ، لماذا؟ تعظيماً وتكريم، وإذا كان الأمر كذلك، فالأم دائماً مشفقة على أولادها، وقد قال بعض الصحابة لأم المؤمنين عائشة: (يا أم المؤمنين! إني أريد أن أسألك عن شيء ولكني أستحي، قالت: ما كنت سائلاً أمك عنه فسلني، فقال: الرجل يأتي أهله ويكسل أعليه غسل؟ فقالت: مثلك مثل الفروج يسمع الديكة تصيح فيصيح معهم) تعني: أنت طويلب علم صغير، وتأتي إلى الأمور الدقيقة وتسأل فيها، وذكرت له الحكم. زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم لماذا حرمن على جميع المسلمين وكن أمهات المؤمنين؟ يقول العلماء: الزوجة إذا ماتت والزوج إذا مات والتقيا في الجنة، فهل تكون الزوجة في الدنيا زوجة في الجنة؟ نعم، قال الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] فإن كتب الله للزوجين المسلمين دخول الجنة فالزوجة في الدنيا لزوجها في الآخرة، ولكن ما كل زوجين يمكن أن يحكم لهما بالجنة، ولكن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين مقطوع بدخولهن الجنة، ومقطوع بأنهن زوجاته في الآخرة، فإذا كن زوجاته في الدنيا وهن زوجاته في الآخرة، فيحرم على أي إنسان أن يتزوج بواحدة منهن. والرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية كما أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وللحياة البرزخية أمور تدخل في هذا الباب، نقول: أمهات المؤمنين، من باب التشريف والتكريم، ولا تجري عليهن بقية أحكام الأمومة مع أولادهن. يقال: هذه أم فلان إذا كان ولدها اسمه كذلك،، وأبو عبد الله، وأبو عبد الرحمن، إذا كان هذا اسم ولده، والتعريف بالكناية أشد وأعظم تكريماً من التعريف بالاسم العلم فقط. جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله يا عائشة إني أعرف متى تكونين راضية عني ومتى تكونين غير راضية؟ قالت: وكيف تعرف ذلك؟ قال: إذا كنت راضية قلت: ورب محمد! وإذا كنت غير راضية قلت: ورب إبراهيم) . ويقال: يا أبا القاسم! تكريماً للرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: (تسموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي) ؛ فلا ينبغي للإنسان أن يكني نفسه (أبا القاسم) ؛ لأن هذه الكنية من الكنايات الخاصة به صلى الله عليه وسلم، لكن أن تسمي بمحمد وأحمد ومحمود، فلا مانع. إذاً: كنيت عائشة رضي الله تعالى عنها تكريماً لها، وهل كان لها ولد اسمه عبد الله حتى كنيت بـ أم عبد الله؟! بعض العلماء يقول: كانت قد حملت وأسقطت وسمي السقط عبد الله، ولكن علماء الحديث يجزمون بأنها لم تحمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لم تلد من رسول الله قط، وإنما كنيت بابن أختها، ويجوز التكني بدون ولد، وهذا شائع في اللغة.

تكنية الصغير ومن لا ولد له

تكنية الصغير ومن لا ولد له وتقدمت معنا قصة الشافعي ومالك رضي الله عنهم جميعاً، عندما جاء الشافعي إلى المدينة، وكان قد بدأ الدراسة في مكة، ثم جاء إلى المدينة وهو في سن الثانية عشرة، ليقرأ الموطأ على مالك، واستضافه في بيته، وكانت ابنة مالك تسمع من أبيها: الشافعي جاء الشافعي ذهب، ويثني عليه لذكائه وحكمته وحرصه على طلب العلم. فلما استضافه مالك يوماً من الأيام، قالت: اليوم سأرى كيف عبادته، فقدمت العشاء ثم أحضرت الوضوء، فلما جاءت في الفجر لتعطيه ماء للوضوء لصلاة الفجر، وجدت ماء الوضوء الذي وضعته له بعد العشاء، لم يمسه، ولم يكن هناك غيره، فلما أصبحت قالت لأبيها: تقول لي: الشافعي الشافعي وما أفعاله بأفعال طلبة العلم! قال: ولماذا؟ قالت: قدمنا له العشاء فأكل كثيراً وليس هذا من صفة طلبة العلم، وأحضرنا له الماء في إناء ليتوضأ ويقوم من الليل ويصلي، فما توضأ ولا صلى ركعة، قال: سأسأله عن هذا! فلما أصبح سأله، قال: نعم، أما كثرة الأكل، فإني منذ خرجت من عند أمي -أمه هي التي ربته وسبحان الله! مالك أيضاً أمه التي ربته؛ لأن أباه خرج في الغزو، وكذلك أبو حنيفة وأحمد رحمهم الله جميعاً- قال: منذ خرجت من عند أمي -وكان في غزة- ما شبعت من طعام قط؛ لأني أتحرج من الحرام، ولما جئت إلى بيت مالك، وهو إمام دار الهجرة، علمت أنه يتحرى الحلال، فأردت أن أشبع بالحلال فأكلت كثيراً، أما عدم الوضوء في الليل فإني لم أنم، ولم ينتقض وضوئي للعشاء، وصليت الفجر بوضوء العشاء، قال: ولماذا؟ ما الذي أزعجك أو أقلقك ولم تنم؟ قال: حينما جئت إلى المدينة، صرت أمشي في طرقاتها وأتذكر الماضي وأقول: من هنا خرج رسول الله، ومن هنا جاء رسول الله، وهنا أوقفته العجوز، وهنا كلم الغلام -وهذا محل الشاهد- إذ مر على غلام صغير معه طائر نغري، وهذا الطائر معروف بكثرة عند أهل المدينة، وكان يلعب به، ثم مات الطائر، ولما رجع رسول الله عليه الصلاة والسلام وجد الطائر قد مات، والطفل يبكي عليه، فقال له: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) أبو عمير هذه كناية، فكناه وهو صبي ليس له ولد، فأخذت أتفكر في هذه العبارة: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) ومعلوم أن المدينة محرم الصيد فيها، قال: فاستخرجت من هذا الحديث أربعين مسألة فقهية!! منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كنى هذا الغلام بما لم يولد له، فكذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كنيت بـ أم عبد الله وهي لم تلد قط.

معنى (الإحداث) في هذا الحديث

معنى (الإحداث) في هذا الحديث قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . يقول العلماء: إنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، مثل هذا النظم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، أربع كلمات تعتبر بمثابة القاموس، وتعتبر بمثابة القانون والقاعدة العامة الجامعة الشاملة لحفظ هذا الدين من أن يحدث فيه ما ليس منه، فكأنه إطار كامل جامع شامل لهذا الدين، لا يسمح لدخول محدثة في هذا الأمر، وهو كالقاعدة الأساسية، ولكن بقي علينا أن نقف طويلاً عند كلمتي: (أحدث) (أمرنا) ربما تجد إفراطاً وتفريطاً، في فهم الإحداث، وقد جاء في الحديث: (إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة) ، فما هي المحدثات؟. أصل الحدث في اللغة: التجدد، يقال: حدث حادث، أي: هذا أمر حادث غير قديم، ويستعمل لفظ (حدث) عدة استعمالات بحسب السياق، وللغة استعمالاتها، وللشرع استعمالاته، فتقول: هذا حديث وليس بقديم، يعني: جديد، هذا حدث السن، أي: صغير، ويقال: هذه مدرسة الأحداث، أي: الصغار، ويقال: هذه حوادث، أي: جنايات، ولا يقال: حادثة إلا لأمر له خطورته؛ إذاً: معنى هذا أي: من أمر الدين. ويأتي الحدث في اصطلاح الدين بمعنى نقض الوضوء كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ، ونحن قلنا: الحوادث مثل: أو جريمة قتل، جريمة سرقة، أو حوادث تقع، مثل حوادث المرور، وتصادم السيارات، لكن ليس المراد هذا في الحديث، وقد سئل أبو هريرة عن الحدث فقال: (فساء أو ضراط) ، فالحدث كلمة عامة لكن المراد بها هنا حدثاً مخصوصاً ينقض الوضوء. وجاء في صحيح البخاري، في قصة رجم اليهوديين الذين زنيا، قال الراوي: (قد أحدثا جميعاً) فهل هو الحدث الذي عناه أبو هريرة؟ لا، بل معناه حدثاً آخر وهو الزنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتوني بأعلم رجلين عندكم، فأتي بهما، فقال: ما تجدون حكم هذا عندكم في التوراة؟) ، إلى آخره، فقول ابن عمر: (جاء اليهود إلى رسول الله برجل وامرأة قد أحدثا) فهذا حدث غير الحدث الذي في حديث أبي هريرة. وفي غزوة الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم: (من يأتي بالخبر؟) ، فقام حذيفة، قال: (اذهب وائتني بخبر القوم ولا تحدثن حدثاً) ، وهل قوله: (لا تحدثن حدثاً) هو الحدث الذي في حديث أبي هريرة أو حدث اليهودي واليهودية؟ لا، ولذا قال: والله! لقد رأيت أبا سفيان ينادي في القوم: الرحيل، وهو على راحلته، وإنها لمعقولة، فأخذت سهماً من كنانتي ولو شئت لقتلته، ولكن تذكرت قول رسول الله: (ولا تحدثن حدثاً) ، فكل هذا يسمى حدثاً، فجريمة القتل أو السرقة أو نقض الوضوء أو إتيان موجب لحد، كلها تسمى حدثاً، ونقول عند ذكر الحدث في الفقه: الحدث الأكبر والحدث الأصغر، فأي الأحداث المراد بها هنا في قوله: من أحدث؟ ما هو الحدث الذي يحدث في أمرنا؟ وما هو أمرنا؟

معنى (أمرنا) في هذا الحديث

معنى (أمرنا) في هذا الحديث (أمر) مفرد لأوامر، ويأتي مفرد لأمور، يقال: أمرت أمراً، وصدرت أوامر، وتقول: حدث أمر وأمور كثيرة، فأمر مفرد أوامر بمعنى: تعليمات، وهي ضد النواهي، ويكون بمعنى أمور أي: أحداث تحدث. و (أمرنا) هنا من القسم الثاني، وليس من باب الأوامر والنواهي، ولكن (أمرنا) أي: الشأن الذي نحن عليه، وماذا يقصد بالشأن الذي نحن عليه؟ نحن في أحد أمرين: إما أمر الدنيا، وإما أمر الدين. وأمر الدنيا يشاركنا فيه كل العالم، المسلم والكافر فيه سواء، وأمور الدنيا ليست خاصة بالمسلمين بل هي عامة، فالأكل والشرب ليس من أمرنا خاصة، والسفر والحضر ليس من أمرنا خاصة، والنكاح والطلاق ليس من أمرنا خاصة، والدواء والصناعة ليس من أمرنا خاصة. إذاً: أمور الدنيا ليست من أمرنا خاصة، ولكنها عامة للعالم كله؛ لأن أمر الحياة يقتضيها. فقوله: (في أمرنا) معناه: في الشأن الخاص بنا وهو الدين. إذاً: الحدث مرتبط بشيء خاص وهو الدين وليس متعلقاً بالدنيا، ومن هنا لا يجوز لإنسان أن يقول عن أمر من أمور الدنيا: هذا محدث هذا ممنوع هذا رد، لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا) ، من قبل كنا نسافر على الأقدام ونركب الدواب، ثم جاءت السيارات والطائرات، فهل يقول قائل: هذه أحدثت وهذه محدثة لم تكن موجودة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا، وليس لأحد حق في ذلك، بل جاء ما يرد عليه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه قال: (أنتم أعلم بدنياكم مني) ؛ لأنها أمور الدنيا، وأمور الدنيا في العالم كله ليست على وتيرة ومنهج واحد، بل لكل بلد منهجه في حياته، وحتى الصناعات لا تتفق في أنحاء العالم. فالشرع الحنيف ترك أمر الدنيا للناس في دنياهم على ما تقتضيه مصالحهم، أما أمر الدين فهذا لله.

لا يوجد بدعة حسنة في الدين

لا يوجد بدعة حسنة في الدين قال: (من أحدث في أمرنا) أي: من أوجد وابتكر وأحدث شيئاً كان معدوماً، وجاء بشيء حادث لم يكن موجوداً من قبل في الدين، (فهو رد) بمعنى مردود. ما هي الأحداث التي ليست من أمر الدين؟ باختصار: كل جديد تراه وتسمع عنه فيما يتعلق بالتعبد، ويرجى فيه ثوابٌ عند الله، أو يخشى بتركه عقاب من الله، أي: يفعله العبد تديناً لله، فينظر هل هو مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وقد قال مالك رحمه الله: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وقال مالك أيضاً: من سن سنة وظن أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فالذي يأتي بشيء جديد، ويقول: هذا من عندي، اعملوا به، وهو سنة حسنة، نقول له: هذا الذي جئتنا به، لماذا جئت به؟ هل الدين ناقص وتريد أن تكمله به، أو هو زائد على كمال الدين، فإن قال: الدين كان ناقصاً وأريد أن أكمله، نقول: كفرت بكتاب الله؛ لأن الله يقول: (أكملت) (وأتممت) . وإذا قال: إنه زائد عما جاء من عند الله، فنقول: كذبت بكتاب الله؛ لأن الشيء الكامل والتام لا يقبل زيادة، إذاً: لا يمكن لأحد أن يأتي بشيء ويستحسنه ولا أصل له في الدين، ويكون حسناً أبداً.

المصالح المرسلة ليست من البدع

المصالح المرسلة ليست من البدع وأشكل على بعضهم هذا فقال: كيف تقولون: لا إحداث ولا بدعة حسنة، بينما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه جمع الناس على إمام واحد، في التراويح في قيام الليل حينما كانوا يقومون جماعات أوزاعاً، ثم قال: نعمت البدعة؟ فكيف سماها بدعة ووصفها بأنها نعمة، والنعمة ضد النقمة والبأس؟ A من جاء بعمل لم يكن سابقاً، ولكنه من أمر الدين بمعنى: لم يخالف نصاً في كتاب الله، ولم يعارض نصاً من سنة رسول الله، بل يؤيد ويخدم ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله، فهذا من أمرنا وليس بعيداً ولا غريباً عليه. ومن هنا قالوا: لقد جمع القرآن ولم يكن مجموعاً من قبل، فهل كان جمع القرآن حدثاً في ديننا؟ نعم هو أمر جديد، ولكن الصديق رضي الله عنه لما أشار عليه عمر بذلك نظروا في ذلك، فإذا جمع القرآن من صلب الدين، فشرح الله صدر أبي بكر لما قاله عمر، ووافق زيد وأبو بكر عمر فيما قاله، فهل كان القرآن مدوناً من قبل؟ لا، تدوينه محدث، وجمعه في صحف شيء جديد محدث لم يكن من قبل، ولكنه نصر للدين ومن صلب الدين؛ لأنه يحفظ الدين بكليته، ويحفظ كتاب الله من الضياع. وكذلك السنة هل كانت مجموعة؟! ما كان هناك صحيح البخاري ومسلم، ولا السنن كلها، وما كان هناك المسندات: مثل مسند أحمد، لم تكن هذه العلوم مدونة، ومن ثم جمعت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن نقول: بداية تدوين السنة كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقول أبي هريرة لما قالوا: أكثرت يا أبا هريرة! فقال: لم يكن أحد أحفظ مني إلا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ لأنه كان يكتب وأنا لا أكتب. ولما قالوا لـ عبد الله بن عمرو: (إنك تكتب كل شيء عن رسول الله، ورسول الله بشر يغضب ويرضى، فسأل رسول الله، فقال: اكتب، فإني والله! لا أقول إلا حقاً) . إذاً: تدوين السنة كان من قبل، وقد كتب رسول الله للعمال ما يتعلق بأنصباء الزكاة، وما يتعلق بمقادير الديات، إلى غير ذلك. ثم وجد بعد ذلك علم النحو، وعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم المصطلح، وكل هذه العلوم دونت فيما بعد، فهل هذه محدثات في الدين، أو هي من صلب الدين؟ من صلب الدين. إذاً: قوله: (من أحدث في أمرنا) أي: شيئاً جديداً لا صلة له بالدين، (فهو رد) ، أما إذا كان من صلب الدين أو يخدم ما جاء به الدين، فليس رداً. وكما قالوا في جمع القرآن الكريم ولم يكن موجوداً، كذلك أيضاً تدوين الدواوين بأسماء المجاهدين كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه سجل أعطيات المهاجرين والأنصار فيما يتعلق بالغنائم وبالفيء. يقولون في الأصول: الإسلام جاء بجلب النفع ودفع الضر، فكل ما فيه جلب نفع للمسلمين فهو داخل في ديننا، ولكن النفع ليس متروكاً لأهواء الناس ولرغباتهم، ولكن ما شهد به الدين، وهذا باب المصالح المرسلة، وهو مفتوح على مصراعيه، فكل مصلحة لم ينفها الإسلام، وإن لم يأمر بها، لكنها تخدم جانباً من الجوانب الخمسة التي جاء الإسلام بحفظها وتدعيمها، وشرع الحدود لحفظها، فجمع القرآن وتدوين السنة وعمل الدواوين كل هذا لحفظ الدين، وكذا تدوين العلوم التي تخدم القرآن الكريم، وحفظ العقول بتحريم كل ما يضيع العقل، وكذلك حفظ النفس، وحفظ الأموال، وحفظ الأعراض، وحفظ الأنساب، فكل ما يعين على حفظ هذه الأمور فهو من الدين؛ لأن الإسلام جاء بذلك كله.

الحديث الخامس [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس [2]

تابع شرح حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)

تابع شرح حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)

المحدثات قد تكون في العبادات أو المعاملات

المحدثات قد تكون في العبادات أو المعاملات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: ما هي المحدثات؟ هي: كل ما كان في أمر الدين مما لم يكن من قبل، ولم يشهد له كتاب ولا سنة. فإذا جاء إنسان بأمر جديد في عبادات أو في معاملات، فعمله مردود، فإن جاء بعبادة لم تكن معروفة من قبل فهي رد، وإن جاء بمعاملات وعقود بين الناس لم تكن موجودة فهي رد، وتكون العبادة باطلة ويكون العقد فاسداً. يذكر العلماء من المحدثات: صلاة الرغائب وكانت معروفة في بعض البلدان سابقاً، حيث تصلى في شهر رجب، فيجتمع الناس في المساجد ويصلون صلاة الرغائب ويفعلون كذا، ويقولون كذا، فهذه بدعة مردودة على أهلها؛ لأنها محدثة في الدين، ولم يوجد نص في كتاب الله ولا في سنة رسول الله يدل عليها، ولا ثبت عن أحد من سلف الأمة أنه كان يفعل ذلك في تلك الليلة بالذات. ومن المحدثات ما كان يفعله بعض الناس في الشام والعراق من التعريف ليلة عرفة في الأمصار، فكانوا يوم عرفة يجتمعون بعد العصر في المساجد تشبهاً بأهل عرفات في أرض عرفات، وكل ذلك ليس من الدين في شيء. وممن يأتي بالبدع في الدين من يدعون التصوف وليسوا بصوفية، وإنما يأتون بما حرم الله زاعمين أنه من الدين والدين بريء منه، ويشهد على ذلك قول بعض علماء الصوفية الصادقين: كل عمل أو كل دعوى ليس عليها شاهدا عدل من الكتاب والسنة فهي مردودة. فإذا جاء رجل وقال: خذوا هذه العبادة، فإنها حسنة، استحسنتها من فكري، نقول له: لا. وقد عاب أهل السنة على المعتزلة وغيرهم التحسين والتقبيح العقليين، فقالوا: العقل لا يحسن ولا يقبح، ولكن يستحسن ما حسن الشرع، ويستقبح ما قبح الشرع. إذا كانت العقود على مقتضى كتاب الله لا غرر فيها ولا ضرر ولا ضرار، وليس فيها أكل لأموال الناس بالباطل فهي صحيحة، أما إذا كان العقد يشتمل على ضرر وضرار، فهل يجوز برضا المتعاقدين؟ ولو تعاقد اثنان على شيء ولكن فيه ضرر على إنسان، أو تعاقدا على شيء نهى عنه الشرع، فهل نقول كما يقول أهل القانون: العقد شرعة المتعاقدين؟ لا. والآن الحمد لله رجع رجال القانون عن هذا، وألحقوا في القانون المادي: العقد شرعة المتقاضيين ما لم يتعارض مع المصلحة، ولكن نقول لهم: أي المصالح تريدون، فلابد أن تقيد بالمصالح الشرعية. عقد الربا بين اثنين، فهما حين يتفقان على خمسة في المائة أو اثنين في المائة، أليس هذا بتراضي الطرفين؟ نعم، وهل تراضي الطرفين على الربا يبيح هذا العقد؟ لا، بل هو فاسد، وكل عقد توجه النهي إليه في ذاته فهو فاسد، ولا ينفذ مقتضى العقد. لو أن إنساناً باع بيعتين في بيعة، أو باع حلالاً وحراماً، فهل ينعقد هذا العقد وهل يصح؟ اختلف العلماء فيما إذا كان النهي موجهاً لعين المنهي عنه أو موجهاً لوصف خارج عنه، وهذه قضية أصولية توضيحها كالآتي: قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، فإذا بعت عند النداء للصلاة فحكمه باطل؛ لأن الله قال: (ذَرُوا الْبَيْعَ) أي: اتركوه. ولو تعاقدا على دار أو على سلعة في هذا الوقت الذي نهى الله عن البيع والشراء فيه، فحكم هذا العقد أنه باطل. الله سبحانه وتعالى حرم الخمر والخنزير والميسر، فلو بايع المرء رجلاً يهودياً أو كتابياً من أهل الذمة، وجاء ليدفع الثمن، فنقصت عليه القيمة، فدفع إليه زق خمر بتمام القيمة، فالخمر منهي عن بيعها وشرائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله بائعها ومشتريها ... ) إلى آخره، وهل النهي عن بيع الخمر يساوي النهي عن العقد عند النداء ليوم الجمعة أو يختلفان؟ إذا نظرنا إلى النهي عن البيع والشراء وقت النداء للجمعة، هل هو منهي عنه لذات المبيع؟ بمعنى أنك إذا اشتريت ثوباً عند النداء، هل النهي لعين الثوب هذا، أو النهي لأمر آخر، وهو عدم الاشتغال عن الذهاب إلى الجمعة؟ النهي عن البيع والشراء عند النداء من أجل الجمعة، والجمعة أمر خارج عن المبيع، ولكن حينما أخذت زق الخمر في الثمن فالنهي موجه للخمر لكونها ثمناً في بيت أو ثوب، فالنهي لعين الخمر.

متى يقتضي النهي فساد العقد، ومتى لا يقتضيه؟

متى يقتضي النهي فساد العقد، ومتى لا يقتضيه؟ إذا كان النهي موجهاً لذات المنهي عنه فهو باطل فاسد بإجماع المسلمين، فمن باع خمراً أو اشتراها فالعقد باطل، ومن باع ميتة أو اشتراها فالبيع باطل، ومن باع خنزيراً أو اشتراه فالبيع باطل، ومن باع ملك غيره مما لا يملكه فالبيع باطل، ولكن إذا اشترى وباع وقت النداء يوم الجمعة ففيه خلاف، وإذا باع ملك الغير فهل النهي لكونه حيواناً أو ثوباً أو لكونه اعتداء على ملك الغير؟ لكونه اعتداء على ملك الغير، والغير خارج عن صلب العقد، ولو أن الغير وافق وأمضى هذا البيع، فمن العلماء من يقول: يصح البيع ويمضي بالعقد الأول؛ لأن المالك قد أجاز. من عقد عقداً وقت النداء إلى الجمعة، فالنهي لا لذات المعقود عليه، ولكن لأمر خارج عنه، فمن العلماء -ومنهم الحنابلة- من يلحق المنهي عنه لوصف خارج عنه بما نهي عنه لذاته، ولذا عندهم لو اغتصب سكيناً وذبح بها شاة، فالشاة ميتة؛ لأنه منهي عن غصب السكين، والجمهور يقولون: لا، ذبيحة الشاة حلال، وهذا مغتصب السكين، فحق الغصب لصاحب السكين، وهذا آثم لاغتصابه سكيناً، أما الشاة فقد أريق دمها بالسكين، وكل ما أنهر الدم وقطع الودجين فهو حلال. وكذلك هناك من يقول: العقد صحيح ولكنه آثم؛ لأنه انشغل به عن صلاة الجمعة، ولذا لو أن هذا العقد بعينه أمضاه امرأتان أو صبي وامرأة، فالعقد صحيح؛ لأن المرأة والصبي ليس عليهما جمعة. إذاً: ننظر في كل العقود، إن كان العقد منهياً عنه لذاته فهو باطل وحرام ولا يفيد التملك، وإن كان لوصف خارج عنه أو لازم له ففيه خلاف بين الأصوليين؛ فمنهم من يجعله كالمتوجه لذاته فهو باطل عندهم، ومنهم من يقول: جانب العقد يمضي، وجانب الاعتداء يأثم عليه، وتقدم في أصول الفقه حكم الصلاة في الأرض المغصوبة، فالمسلم منهي عن الغصب، ومأمور بالصلاة، فهل الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة أو باطلة؟ عند الحنابلة أن صلاته باطلة؛ لأنه بصلاته يثاب، وباغتصابه يعاقب، فكيف يثاب ويعاقب على فعل واحد؟! ولكن غيرهم يقولون: هو غاصب وآثم سواء نام أو لعب أو جلس، وليس الغصب موقوفاً على الصلاة، وهو مطالب بالصلاة سواء في أرض مملوكة له أو حرة أو مغصوبة، فالصلاة في طريقها تسقط الفرض عنه، والغصب في طريقه يحاسب ويعاقب عليه. ويقولون بانفكاك الجهة، فإذا كان النهي منفك الجهة عن المنهي عنه، فالعقد صحيح وهو آثم، وإن كانت الجهة غير منفكة عنه فهو باطل ولا ينفذ فيه أو لا ينتج نتيجة التعاقد، وهذا الباب من أدق الأمور في الأصول، فحديث: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ، فإن كان عقداً لا يفيد التمليك، وإن كان عبادة لا تسقط الواجب، ولا تقبل، وترد على صاحبها. فإذا كان المحدث الأول الذي جاء بالحدث والبدعة، وأخذها الناس عنه، عمله رد عليه، فما حكم من تابعه عليها؟ إن الذي يأتي بعد المحدث الأول يقول: أنا ما أحدثت، وهذا موجود من قبل. فماذا نقول له؟ نقول: أنت ومن أحدثها في اللحظة الأولى سواء؛ لأن عملك الآن ليس من أمرنا فهو رد أيضاً، وكل من ادعى تقليداً لغيره فيما ليس من أمر الدين، فيقال له: أنت ومن قلدته عملكما مردود؛ لأنه إحداث في أمرنا لما ليس منه. وعلى ذلك فمن أحدث في أمرنا ما كان منه فليس بمردود، كإحداث تدوين القرآن في صحف، وكإحداث جمع المصلين في رمضان على إمام واحد، وكإحداث تدوين العلوم والكتب والفنون التي تخدم المصلحة العامة، سواء كان ديناً أو دنيا، وكذلك كل ما فيه مصلحة المسلمين من تدوين الدواوين وبناء المدارس التي تملأ العالم الآن، والمعاهد، والكليات، وإحداث العلوم التي تدرس فيها لمصلحة الإنسان، فهل هذه من أمرنا أو خارجة عن أمرنا؟ كلها داخلة في أمرنا. أما إذا درس شيئاً يخالف الدين، فنقول: هذا حدث ليس من أمرنا. إذاً: ما أحدث وكان من أمرنا فليس مردوداً بل هو مقبول، وبالله تعالى التوفيق.

المقصود بقول أهل الحديث: (متفق عليه)

المقصود بقول أهل الحديث: (متفق عليه) قال النووي رحمه الله: رواه البخاري ومسلم، وهناك اصطلاح آخر فيما يرويه البخاري ومسلم فيقال: متفق عليه. فـ النووي سمى الشيخين الجليلين، وهما يلتزمان الصحة، فلا يورد البخاري ولا مسلم في صحيحيهما إلا الحديث الصحيح. قد يقول قائل: وجدنا في بعض أحاديث مسلم ما يتكلم في سنده، فنقول: مسلم يأتي بالحديث الأصلي في القضية ثم يتبعه بمتابعات وشواهد، وهي ليست الأصل في الباب ولكن شواهد وتوابع، فقد يتساهل في الشواهد وفي التوابع، أما في أصل الباب فليس فيه ضعيف قط. ثم ذكر رواية أخرى فقال: وفي رواية لـ مسلم، يعني لا توجد في البخاري، فهما قد اتفقا على الرواية الأولى: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ، وانفرد مسلم بالرواية الثانية، ولا توجد عند البخاري وهي: (من عمل عملاً) ، وعملاً نكرة، وهو مفعول به، والنكرة تفيد العموم، بمعنى: أي عمل كان، والقول والفعل والترك من العمل، في الحديث الأول قال: (من أحدث في أمرنا) ، وهنا قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وإذا جئنا إلى هذه الرواية مع تلك، نجد هنا: (من عمل عملاً) ، وهناك: (من أحدث) فقد يكون الإحداث بدون عمل يدعو إليه وبدون أن يعمل، لكن نقول: هو عمل أيضاً؛ لأنه تكلم به، والرواية الثانية تشمل من فعل فعلاً ولو لم يكن قولاً، ولو لم يدع إليه أحداً، بل هو مجرد عمل يعمله لكنه ليس من أمر الإسلام، وهذا يحتم على المسلم قبل أن يقدم على أي عمل أن ينظر، هل عليه أمره صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فإن كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فبها ونعمت، ولابد أن يشهد له ما جاء به صلى الله عليه وسلم سواء كان نصاً أو قياساً يلحق الفرع بأصل سابق أو كان عليه سلف الأمة. والخلاصة هي: الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما يتعلق بأمر الدين ومصلحة العباد، وبالله تعالى التوفيق.

الأسئلة

الأسئلة

المقصود بسنة الخلفاء الراشدين

المقصود بسنة الخلفاء الراشدين Q ما معنى سنة الخلفاء الراشدين؟ A أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة الخلفاء الراشدين، وقد قدمنا مراراً أن سنة الخلفاء الراشدين تبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن أقوال وأفعال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين لنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الأصوليون: من الأصول التي يشرع عليها الأحكام: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهذا متفق عليه، وذكروا من غير المتفق عليه: قول الصحابي إذا لم يوجد له مخالف من الصحابة، فقول الصحابي وفعله إذا لم يخالفه نص أو يخالفه صحابي آخر فهو حجة يعمل به، ويكون دليلاً للتشريع، ودليلاً على جواز الفعل الذي فعله الصحابي رضي الله تعالى عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فذكر ثلاثة قرون، وهي القرون المشهود لها بالخيرية، فما كان في تلك القرون من أمر الدين والدنيا فهو جائز إلى يوم القيامة، ولكن النظر فيما حدث من الأمور الدنيوية التي لم تكن من قبل، هل نتقبلها أم لا؟ ننظر إن كانت محضاً من أمر الدنيا فلا بأس، وإن كانت لها علاقة بالدين لها علاقة بالعمل لها علاقة بالتعبد فيها شبهة من التشبه بغير المسلمين فنتركها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب فيما يختصون به، ولو كان في أمور الدنيا، يقول الفقهاء: لو شربت الحليب الصافي والماء النقي، في كئوس وأوان على شكل كئوس وأواني الفساق الذين يشربون فيها الخمر متشبهاً بهم فهذا حرام، أي: الصفة التي تشبهت بها، وهكذا لبس الزنار، ولبس القبعة التي هي خاصة بالمشركين، فلا ينبغي ذلك. إذاً: الحلال بذاته لو جاء في صورة التشبه العمد بغير المسلمين فهو حرام. وقوله: رد، بمعنى مردود، مثلما تقول: سد بمعنى مسدود. وكلمة: (رد) راجعة على ما أحدث، (من أحدث في أمرنا) و (من) مثل (ما) كلاهما من صيغ العموم، (فهو رد) فيه ضمير مستتر، يعود على ما، في قوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي: هذا المحدَث مردود على صاحبه، وإذا قلنا: يعود على (من) أي: مردود قوله عليه، ولا يدل على الردة عن الإسلام قطعاً، لكن قد تأتي الردة من شيء آخر، إذا جاء مثلاً بشيء وقال: هذا فرض، أو جاء إلى ما أوجب الله وقال: هذا ليس بواجب، فهذا جاء بحدث، ولكن عارض به ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهي ردة عن الإسلام عياذاً بالله، ومن الردة بعض القوانين في بعض البلاد التي تغير في المواريث، وتغير ما أنزل الله، وهذا هو عين الردة عن كتاب الله.

معنى قول عمر في صلاة التراويح: نعمت البدعة

معنى قول عمر في صلاة التراويح: نعمت البدعة Q كيف يوجه العلماء قول عمر: نعمت البدعة؟ A يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: البدعة من حيث هي لها مدلولات كما قلنا في الحدث، فهي بدعة لغوية وبدعة شرعية، والبدعة اللغوية: هي وجود ما لم يكن موجوداً على غير مثال، كما جاء في قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:101] أي: أوجدها على غير مثال سابق يحاكيها، وهنا كذلك من حيث الصورة فقد كانوا يصلون أوزاعاً وأشتاتاً، فجمعهم على إمام واحد، وهو أمر محدث لا قديم، وعمر نظر إلى المدلول اللغوي فجمعهم على إمام واحد، وجعل إحداثه بدعة لغوية، وقال: نعمت البدعة؛ لأنها توافق مقصود الشرع من الدين؛ لأن اجتماع الناس على إمام واحد هو من الإسلام، أما تركهم أوزاعاً يذهبون ليتبعوا كل قارئ حسن الصوت، ويصبحون شيعاً وأوزاعاً في المسجد، فهذا ينافي الإسلام، فجمعهم على إمام واحد من أمرنا، فـ عمر رضي الله تعالى عنه قال: نعمت البدعة، وسماها بدعة؛ لأنها لم تكن لها صورة سابقة، والأصل في ذلك المشروعية؛ لأن الرسول ندب إلى قيام رمضان، والله سبحانه وتعالى ندب إلى قيام الليل، وثبت عن رسول الله قبل ذلك أنه صلى قيام رمضان بأناس في المسجد النبوي جماعة. إذاً: أصل المشروعية موجود، وفعل عمر من أمرنا، وليس خارجاً عنه.

معنى حديث: (هلك المتنطعون)

معنى حديث: (هلك المتنطعون) Q ما معنى حديث: (هلك المتنطعون) ؟ A كلمة: نطع مثل كلمة مط، لما يكون في يدك مطاط وتشده تقول: مط، فتنطع، أي: زاد فيما شرع الله، فهو حين يتوضأ يفعل كذا وكذا من الزيادة، وكذلك في كل أعماله يزيد كذا وكذا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) ، وتعرفون حديث الثلاثة النفر الذين جاءوا إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوا عن أعماله فتقالوها! فقال أحدهم: أنا أقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الآخر: أنا لا آتي النساء، وهذا تكليف للنفس فوق طاقتها، فلما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (لكني أنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) وليس من التنطع زيادة الرغبة في الخير، ومن التنطع: السؤال عن كل صغير وكبير، والخوض في دقائق الأشياء. وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الحديث السادس [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث السادس [1]

شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين.

شرح حديث: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ... )

معنى الحلال والحرام

معنى الحلال والحرام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا الحديث السادس من هذه المجموعة المباركة عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) رواه الشيخان البخاري ومسلم. يعتبر هذا الحديث عند العلماء ركن من أركان الإسلام، وفيه مباحث عديدة، من جوانب متعددة. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بيّن) ، يقول العلماء: حرف إن من أدوات التوكيد، والخبر يلقى مؤكداً للاهتمام به، أو لتنزيل السامع منزلة الغافل لينبه، كما قالوا في قول الشاعر: جاء سليك عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح الأصل: بنو عمك فيهم رماح، فجاء بإن؛ لأنه جاء معترضاً برمحه، وكأن عدوه ليس مستعداً للقتال والدفاع، فكان في منزلة المستهتر بعدوه المتغافل عن سلاحه، وهذا الحديث يشير إلى أمور يغفل عنها الناس: (لا يعلمهن كثير من الناس) ، فجاء في بادئ الأمر بأداة التوكيد تنبيهاً للسامع لأول وهلة، وكان مقتضى إلقاء الخبر عادياً أن يقول: (الحلال بيّن، والحرام بيّن) ولكن جاء بإن قبل الجملة ليؤكد مضمون هذا الخبر، ويسترعي الانتباه إليه. والحلال ما أحله الله، وأصل حلّ من باب ضرب نصر، حَلَّ يَحِلُ كضَرَبَ يَضرِبُ، وحَلَّ يَحُلُ كنصر ينصُر، قالوا: اللازم من باب ضرب، والمتعدي من باب نصر، تقول: حلّ الحبل يحُله حلاً؛ لأنه متعدٍ إلى الحبل، وتقول: حلّ بالمكان يحل، يعني: نزل به، والحلال مادة مستقلة بذاتها، تقول: حلّ هذا الشيء يحِل أي يصير حلالاً، ولا تقل: يحُل، بل حل الحلال يحِل، بمعنى ثبت الحكم ونزل واستقر، كمن يأتي إلى مكان ويحل به ويستوطن ويستقر، فلا يتغير هذا الحكم ولا يتحول. (إن الحلال) هو: ما أحله الله صرفاً، و (بيّن) من البيان والوضوح، ويقابل هذا: (وإن الحرام بيّن) والحرام هو: الممنوع، ومن شواهد ذلك: جالت لتصرعني فقلت لها: اقصري إني امرؤ صرعي عليكِ حرام يعني: ممنوع، ومنه: حريم البيت الذي يمتنع الدخول إليه، ومنه: محارم الإنسان وحرمه الممنوعات على غيره، ومنه: حرمة الرجل، أي: أنها محرمة وممنوعة على غيره، فالحرام ما حرمه الله، وهو بين وواضح.

معنى الشبهات

معنى الشبهات قال: (وبينهما أمور مشتبهات) ، ولم يقل: متشابهات، وفرق بين المتشابه والمشتبه، قال الله في وصف ثمار الجنة: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] أي يقولون: الذي أكلنا قبل هذا هو شبيه به ولكن ليس هو، فمتشابه أي: بعضه يشابه بعضاً، وهذا يدل على وجود شيئين، ولكن مشتبه هو في ذاته، وليس هناك طرف ثان، والمادة متقاربة، فالمشتبه هو: ما يدور بين طرفين متغايرين يشبه هذا من جهة، ويشبه هذا من جهة أخرى، فيصبح في نفسه مشتبهاً، بخلاف المتشابهين، مثل: أخوين توأمين يكونان متشابهين، ولكنهما متغايران، كل واحد بشخصية مستقلة، لكن الأمر المشتبه يدور بين أمرين متغايرين، يأخذ من هذا بوجه، ويأخذ من هذا بوجه، فيصبح مشتبهاً في ذاته. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: من أحكام الشريعة، ومن معاني القرآن، ما هو بين واضح ليس فيه شبهة ولا يعذر أحد بجهله، سواء كان في الأوامر أو كان في النواهي، وتفسيره تلاوته، وذلك مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، فكل هذا من الأمور الواضحة، وكذلك في المحرمات قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] ، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] ، فهذا بين واضح لا لبس فيه، وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] ، وقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، فالحلال واضح بين لا شبهة فيه، والحرام واضح بين لا شبهة فيه، ومثل قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الإسراء:33] ، وقوله: {لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12] ، فهذا حرام بيّن.

أقسام تفسير القرآن

أقسام تفسير القرآن يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يعذر أحد بجهله، وقال ابن عباس تفسير القرآن على أربعة أنحاء: 1- قسم واضح لا يعذر أحد بجهله، وهو أصول وعموم ما شرع الله سبحانه وتعالى من الأوامر والنواهي. 2- قسم تعلمه العرب من لغتها، كما في قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] قال: الفاكهة عرفناها، وأما الأب فوالله ما نعرفه، حتى جاء أعرابي إلى المدينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يارسول الله! إني تركت ناقتي ترعى الأب) قال عمر: فعرفت أن الأب هو: مرعى الإبل. ومثال آخر: (ذو) الطائية التي بمعنى الذي، كان ابن عباس يستشهد على معناها بقول الشاعر عندما تخاصم مع آخر في بئر فقال: فإن الماء ماء أبي وجدي بئري ذو حفرت وذو طويت يعني: بئري التي حفرتها والتي طويتها، وهذا القسم تعرفه العرب من لغتها على ما وضع لها في لغة العرب. 3- قسم لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، وهذا القسم لا يعلمه كثير من الناس، مثاله: قصة المرأة التي وضعت حملها بعد زواجها بستة أشهر، وجيء بها إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يرجمها؛ لأن المعهود عند الناس أن المرأة تلد بعد تسعة أشهر، وهذه وضعت قبل التسعة بثلاثة أشهر، فظن الناس أنها تزوجت وهي حامل في ثلاثة أشهر، فجاء علي فقال: يا أمير المؤمنين! لا يمكن أن ترجمها؛ لأنها قد تكون ولدت لأقل مدة الحمل، قال: وما أقل مدة الحمل؟ قال: الله سبحانه وتعالى جعل لأقل مدة الحمل ستة أشهر، فقد تلد المرأة لستة أشهر، قال: وأين هذا في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه وتعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] ، وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] ، وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] ، والحولان الكاملان أربعة وعشرون شهراً، فإذا كان للفصال أربعة وعشرون شهراً فيبقى للحمل -وهو قسيم الرضاعة- ستة أشهر، وهي الباقية من الثلاثين، فكف عنها عثمان رضي الله تعالى عنه، فهذا الأمر ما كل الناس يعرفونه. 4- قسم استأثر الله بعلمه، كما قال في أول سورة آل عمران: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، قيل: الوقف على لفظ الجلالة ثم يستأنف كلاماً جديداً: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ، وقيل: الوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] . العلماء يبحثون هذا في علم الكلام، هل الراسخون في العلم يعلمون تأويله للعطف على لفظ الجلالة، أو لا يعلمون تأويله للوقف على لفظ الجلالة؟ كلا الوقفين صحيح كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وعلى الوقف على لفظ الجلالة يكون معنى (تأويله) : الحقيقة التي يئول إليها الشيء، وهذا لا نعلمه، وذكروا من ذلك صفات الله سبحانه وتعالى التي لا يدركها العقل، كقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، فلا يعلم من أين يكون مجيئه؟! وحديث: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) كيف تسع الدنيا رب العالمين؟ وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، حقيقة الصفة في ذات الله لا يدركها العقل البشري، والله يعلمها، قالوا: ومن ذلك قوله تعالى في وصف ثمار الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] ، ماء الدنيا إذا وقف قليلاً أسن وتغير وتعفن، قال: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] ومن لبن خالص، ومن خمر سائغ، وكل هذه المسميات لها نظائرها في الدنيا، ولكن هل هي التي في الدنيا؟ لا إنما مجرد الاسم، أما حقيقة ذاك اللبن وحقيقة ذاك العسل وحقيقة ذاك الخمر فلا يعلمه إلا الله، وقد بيّن أن تلك الخمر {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] ، بينما خمر الدنيا ينزف ويسكر بها، ويصيب شاربها الصداع، إذاً: لا تساويها في الحقيقة، وإن اشتركت في اسمها، فمعنى: (لا يعلم تأويله) أي: مآله وحقيقة أمره إلا الله سبحانه جل جلاله. إذاً: بعض الأمور مشتبه، تدور بين الحلال والحرام، ولا يعلم هذا المشتبه كثير من الناس.

حكم ترك الشبهات

حكم ترك الشبهات قال: (فمن اتقى الشبهات) ما يتعلق بما بين الناس ينبغي أن يتقيه، فالأمور ثلاثة: حلال بين مشروع، وحرام بين ممنوع، ووسط مشتبه، فماذا يكون موقف المسلم فيها؟ يأتي الحلال الواضح البين الحل، ويترك الحرام الواضح البين التحريم، والوسط ماذا يفعل فيه؟ أيأخذه تارة، ويتركه تارة؟ لا، بل قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ) أي: سلم من الحرام، لكن كيف يكون حد الشبهات؟ العلماء يبينون على سبيل المثال كيف يكون حد هذا الشيء المشتبه بين الحلال والحرام، فإذا قلنا: المنطقة ثلاثة أمتار، متر للحلال، ومتر للحرام، ومتر في الوسط للمشتبه، والمشتبه ربما يتزحزح إلى الحلال ويكون أقرب إلى الحلال، وربما يتزحزح إلى الحرام ويكون أقرب إلى الحرام؛ لأنه مشتبه بين طرفين متغايرين. مثلاً: لو أن إنساناً تاجراً يبيع العسل والسمن واللبن والخمر، فماله الذي يكتسبه فيه حرام وفيه حلال، ففيه شبهة بقدر مبيع الخمر؛ لأن الحرام مختلط بكامل المال، لو كان عنده ألف درهم، كم تكون نسبة الحلال الصرف والحرام الصرف؟ هل تستطيع أن تقول: قيمة الخمر إلى حد عشرة في المائة أو عشرين في المائة، وقيمة السمن والعسل ثلاثين أو خمسين أو سبعين في المائة، وعشرة في المائة مشتبهة بينهما، الألف في يدك ماذا تقول فيه؟ فيه شبهة من ثمن الخمر، لكن قد تقرب إلى الحلال لأنها قليلة، وقد تقرب إلى الحرام لأنها كثيرة، ولهذا يقول الغزالي وغيره: إذا عرفت إنساناً يتعامل بحلال وحرام فإن في ماله شبهة، وهذا المشتبه إلى أي حد؟ هل تمتنع بالكلية عن أن تتعامل معه؟ وهل تمتنع بالكلية عن أن تأكل طعامه وتقبل ضيافته؟ أو يكون هناك جزء فيه حلال؟ أنا آتي بهذا المثال لأبين أن المشتبه ليس على خط واحد بين الحلال والحرام، لكنه كالزئبق تارة يميل إلى جانب التحريم فيكون أقرب إلى الحرمة، وتارة يميل إلى جانب الحلال فيكون أقرب إلى التحليل، والشبهة تقوى وتضعف. قال الله: {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] ، لو أخذت كلب الصيد أو طائر الصيد أو أخذت سهمك وكنانتك وخرجت إلى البر فرأيت الصيد، ورميت السهم قائلاً: باسم الله، الله أكبر، وجئت إلى الصيد ووجدته قد مات، فهذا حلال بيّن، ولو جئت إلى الصيد ووجدته جريحاً وكان بوسعك أن تذكيه، ولكنك تركت تذكيته حتى مات، فهذا حرام بيّن، ولو جئت إلى الصيد وقد غاب عنك في المزرعة أو غاب عنك وراء الجبل، ومن الغد لقيته فوجدت فيه سهماً آخر لشخص آخر، ووجدته ميتاً، فهل مات من سهمك أو من سهم الآخر؟ فهذا مشتبه، سهمك وسهم الآخر متساويان، هل تأكل منه؟ لا، قد يكون من سهم غيرك وليس صيدك، وإنما سمى عليه غيرك وقتله. ولو رميتة بالسهم وغاب عنك، ثم وجدته غارقاً في غدير من الماء، فهل مات بسهمك أم بالماء؟ لا تدري، فوجود سهمك داع للحلية، ووجوده غارقاً في الماء داع للحرمة، ففيه شبه بين الحلال البين وبين الحرام البين، فيتجاذب إلى هذا وإلى هذا، مثل عوامل المغناطيس التي تتجاذب الشيء ويكون بينهما على السواء، فهذا مشتبه يترك للشبهة.

متى يكون ترك الشبهة واجبا؟

متى يكون ترك الشبهة واجباً؟ والترك للشبهة قد يكون واجباً متعيناً كما قالوا: ما لا يترك الحرام إلا بتركه فهو حرام، وكما قالوا: يجب ترك المشتبه لو اشتبهت مذكاة بميتة، كما لو أعطاك إنسان فخذ كبش، وبعد قليل أعطاك رجل آخر فخذ كبش أخرى، وأنت تعلم أنه يستبيح أن يأكل الميتة، وصار عندك الآن هذا اللحم وهذا اللحم، يا ترى! أيهما من لحم الميتة وأيهما من المذكاة؟! وكما قالوا: إذا اشتبهت أخته بأجنبية -وهذا مثال مذكور في أصول الفقه- فيحرم عليه وطء الأجنبية اتقاء لأخته. وكذلك اشتباه المغصوب بالحلال، واشتباه سطل ماء طهور يمكن أن تتوضأ وتغتسل وتشرب منه، بسطل آخر مثله جاء إنسان فبال في أحد السطلين، ثم جاء شخص لا يعلم وغير مواضع السطلين، كما لو كانت إلى جهة الشرق والغرب، فجاء واحد وحولها شمالاً وجنوباً، وأنت كنت تعلم أن الذي في جهة الشرق هو الذي فيه البول، فهذا نجس بيّن، وذاك طهور بين، ولكن الآن اختلفت عليك السطول ولم تعد تدري بالنجس، حيث لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، فلم تستطع أن تحدد أيهما الطاهر، فهل يجوز لك أن تتوضأ بواحد منهما؟ حصل خلاف بين الفقهاء في ذلك فقيل: يتوضأ من هذا مرة ومن هذا مرة، هذا حاجة إلى ذكر الخلاف، ولو كان عندك إناءان فيهما عسل، وهما بشكل واحد، وحجم واحد، وجاء إنسان ووضع السم أمامك في أحد الطبقين، ثم ذهبت عنهما فقلت: السم في الذي في الجهة الغربية، والطبق الذي في الجهة الشرقية سليم ليس فيه سم، وأنا جائع أريد أن آكل، فجئت ووجدت الطبقين منحرفين، تغيرا عن وضعهما، فلا تدري أين الذي كان في الغرب وأين الذي كان في الشرق؟ فهل يمكن أن تمد يدك إليه؟ مستحيل أن تذوق واحداً منهما؛ لأنه اشتبه عليك الحلال بالحرام. يقول العلماء في مسألة إذا قتل الرجل عبداً: هل فيه الدية أو فيه القصاص؟ هناك من يقول: فيه القصاص؛ لأن النفس بالنفس، وهو قول ابن حزم ومن يوافقه. والجمهور يقولون: لا، هو وسط اجتمع على شبهين من طرفين مختلفين: فمن حيث أنه يباع ويشترى ويوهب ويكون من الميراث، فيشبه الأموال والمتاع، ومن أتلف متاعاً فعليه قيمته بالغة ما بلغت. ومن جهة أنه يقيم الصلاة، ويصوم رمضان، ويذكر الله، وأنه مكلف بالعبادات أشبه الإنسان، ومن قتل إنساناً فحكمه؟ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، إذاً: اشتمل على وجهين مختلفين، يشبه كل وجه جانباً من الجانبين، فكان فيه قياس الشبه، كما يقول الأصوليون، فمن غلب شبه الإنسان الحر ألحقه بالدية، ومن غلب شبه المتاع والمال غلب فيه جانب القيمة، ولو بلغت قيمته أكثر من دية الحر.

عدم الطمأنينة علامة على الوقوع في الشبهة

عدم الطمأنينة علامة على الوقوع في الشبهة بيّن لنا صلى الله عليه وسلم حكم الشبهات، وما دام أنك لست من القليل الذين يعلمون حكم هذا المشتبه، فعليك الكف والترك، وقد جاء في الحديث وسيأتي إن شاء الله: (البر ما اطمأنت إليه النفس) ، حينما تجد الصدر مشغولاً وفيه زوابع، وفيه أمواج تتلاطم، وفيه انفعالات وترددات: تقدم أو تحجم يجوز أو لا يجوز؟ عرفت عندها أن النفس لم تطمئن؛ لأن الطمأنينة الاستقرار، أما حركة التردد، وحركة القلق، وحركة الاضطراب، وحركة الانفعال بين حلال وحرام، فهذه علامات الشبهة، إذا وجد هذا الاضطراب ارتفعت تلك الطمأنينة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) فالأمر تعمله خفية، ولا تحب أن أحداً ينظر إليك؛ لأنه فيه إثم. إذاً: البر ما اطمأنت إليه النفس، فإذا وجدت في النفس طمأنينة فهو واضح بعيد عن المشتبه، وإذا وجدت في نفسك شبهة، وترددت في أصل الأمر هل هو حلال أو حرام؟ فلو أقدمت عليه فستجد نفسك قلقلة.

الحديث السادس [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث السادس [2]

تابع شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين.

تابع شرح حديث: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ... )

الترغيب في اتقاء الشبهات

الترغيب في اتقاء الشبهات الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن اتقاء الشبهات معراج أو سلّم أوله في الأرض وآخره في السماء، فبعض الناس يرى الكبيرة العظيمة (كذبابة على أنفه قال بها هكذا) كما جاء في الحديث، وبعض الناس يرى الشبهة كأنها جبل على رأسه، وما كل الناس في اتقاء الشبهات سواء، يوجد أشخاص نفسياتهم شفافة، لو نفثت عليها بالهواء تأثرت، كالمرآة الصقيلة في الشتاء إذا جعلتها إلى فمك وتنفست، يخرج من المعدة بخار، فيتكاثف مع برودة الجو على المرآة فيعمل مثل السحابة، فبعض الناس من شفافية نفسيته وتحريه للحلال فإن الشبهة تؤثر فيه كسحابة حرام، وبعض الناس يبلعها ولا يبالي، والأمر عنده واسع، فالناس ليسوا سواء. وأقرب مثال عندنا قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه عندما جاءه خادمه بطعام، فلما أكله تأثرت نفسه، سبحان الله! الطعام ما وصل إلى جوفه إلا وأحس بحساسية، فنادى الغلام وقال له: تعال! من أين هذا الطعام؟! قال: كنت في الجاهلية تكهنت لرجل، وأنا والله! لست بكاهن -يعني: خدع الرجل- فلقيني الآن، وأعطاني حلواناً فاشتريت به كذا وكذا، فوضع أبو بكر رضي الله تعالى عنه أصبعه في حلقه واستقاء ما أكله، فما الذي حرك نفسية أبي بكر من هذا الطعام؟ هل كان فيه ملح زايد أو شطة أو شوك؟! كذلك عمر رضي الله تعالى عنه أرسل غلامه ليأتيه بحليب من إبله، فذهب وجاء فلما شرب الحليب استنكر طعمه، قال: تعال يا غلام! من أين جئتني بهذا الحليب؟ قال: والله! أرسلتني آتيك بحليب من إبلك، فوجدت الرعاة قد أبعدوا بها، ولقيت إبل الصدقة على الماء فقلت: احلبوا لي، فحلبوا لي، فجئتك بلبن من إبل الصدقة، فقال أمير المؤمنين: آكل الصدقات؟ أحس في نفسيته هذه الحساسية، ويمكن نسمي هذه الحاسة السادسة حاسة الحلال والحرام، لا يكشفها بارومتر ولا ترمومتر ولا أي شيء من هذه المقاييس المادية مهما كانت، وهي تكشف الأمور العضوية، والكثافة، والدسومة، والخفة، والحرارة، والبرودة، لكن الحلال والحرام فهي أمور حكمية واردة على العين الواحدة. إذاً: الإحساس والتوقف عند المشتبهات ليس كل الناس فيه سواء، فأيما إنسان صفت نفسه، وتعود أكل الحلال، ونشأ على الحلال فأقل شبهة تؤثر على نفسه. أبو حنيفة كان تاجر بز، وكان عنده ثوب فيه عيب، فجعله في جانب، وهو آخر ثوب عنده من ذلك الصنف وكان معه في المحل من يعمل معه، فذهب أبو حنيفة ليقيل ثم رجع فإذا الثوب الذي عزله في جانب غير موجود، فسأل عنه فقال العامل: بعته، قال: بكم بعته؟ قال: كما نبيع الثياب. قال: هل أخبرت المشتري بالعيب الذي فيه؟ قال: لا، وهل فيه عيب؟ -لم يدر العامل- لكن أبا حنيفة تصدق بكامل قيمة الثوب، وكان يمكن أن يتصدق بقيمة العيب فقط ولكن فعل ذلك ورعاً منه. ويذكرون عن الإمام أحمد رحمه الله أنه خُبز عجين بيته في بيت فلان فامتنع أن يأكل منه؛ لأن فلاناً في ماله شبهة. سبحان الله! بعضنا قد يأتيه خبز وإدام وشراب من رجل في ماله شبهة فيتلقاه بكل رحابة صدر. وإلى عهد قريب كان الشيخ محمد بن تركي شديد الورع، وأهل المدينة يعرفون ورعه وزهده في هذه الأمور، فقد كان ورعاً إلى حد بعيد. يتعين على المسلم أن يتقي الشبهة، ولا يستطيع الإنسان أن يوفي هذا المقام حقه، ولكن عليه بالمقاربة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع الناس عليه) . وهذا هو التقسيم الثلاثي، وبيان موقف الأمة من هذه الأقسام: الحلال بيّن، ويقدم عليه كل إنسان، والحرام بيّن، يجب أن يحجم عنه كل إنسان، وبينهما أمور مشتبهة، إن نظرت إليها من جهة قد تكون حلالاً، وإن نظرت إليها من الجهة الثانية قد تكون حراماً، إذاً: ماذا تفعل؟! القليل الذين يعلمون حكمها كما قال: (لا يعلمهن كثير من الناس) ، ومفهوم ذلك أن يعلمها القليل، ولا تخلو الأمة من هذا القليل الذي يعرف حقيقة المشتبه، وإليه يرجع الناس، فإن كنت أنت من هذا القليل، تحريت وتحققت ثم بعد ذلك أقدمت على مقتضى ما علمت، وإن كنت من الكثيرين الذين لا يعلمون حكم هذا فموقفك منه الكف، (من ترك شيئاً لله أبدله الله خيراً منه) .

التعليم بضرب الأمثال

التعليم بضرب الأمثال ثم ذكر في نهاية هذا الحديث التشبيه البليغ الواضح البين، وضرب الأمثال من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ورد في القرآن الكريم ضرب الأمثلة، وتشبيه الأمر المعنوي بالمحسوس، ليصبح واضحاً ظاهراً لكل الناس، من ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] ، ماء في قاع البئر أو في النهر أو في الغدير وهو بعيد عن لمس اليد، فيأتي رجل يبسط كفه إليه ويفتح فمه، وينتظر الماء أن يأتيه!! والماء لن يأتيه إذا ناداه أبداً، ولكن كأن هذه صورة -كما يقولون في العصر الحديث- كاريكاتورية لإنسان عطشان، ويتخذ طريقاً غير الطريق الذي يوصله إلى الماء، وهنا يبين صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمور المشتبهة ينبغي للإنسان أن يبتعد عنها؛ لأن من وقع في الشبهات وقع في الحرام، فيجب عليك أن تجعل بينك وبين الحرام حاجزاً، كما يقولون: منطقة محايدة، لا تقربها؛ لأنك إن دخلت تلك المنطقة لم يبق ما يحجزك عن الحرام، فإن زلت القدم زلت في الحرام، أما إذا جعلت منطقة محايدة وكنت خارج المنطقة، فإن زلت قدمك زلت في هذه المنطقة المشتبهة وترجع، لكن إذا اقتحمت المنطقة المشتبهة فزلت القدم فستنزل في الحرام، على سبيل المثال: هناك رأس جبل عنده هاوية، وهناك حافة حاجزة عن تلك الهاوية، فإذا مشيت من وراء الحافة، وصرت تلعب وتمرح خلفها، فإن سقطت وقعت على هذا الحاجز، لكن إذا مشيت فوق هذا الحاجز، وصرت تلعب عليه، فإن زلت قدمك وقعت في الهاوية، والراعي حول الحمى إن ابتعد عن الحمى كان في عافية من الحمى؛ لأنه بعيد جداً، لكن إن جاء على حدود الحمى فهل يضمن أن غنمه لن تفر إلى الحمى؟ لا، وإذا فرت واحدة منها إلى الحمى فالملك سيعاقبه ويأخذ غنمه كله، لكن إن بعد مسافة مائتين أو خمسمائة متر، فمهما شذت شاة عن الغنم لن تبعد عن مائة متر، ويمكنه أن يدركها قبل أن تنزل إلى الحمى، وهكذا. ثم أتى صلى الله عليه وسلم بالتشبيه التمثيلي فقال: (ألا وإن لكل ملك حمى) ، ولا يمكن لأحد من الرعية أن يقتحم حمى الملك، وحمي الحمى مشروع، فقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم حمى جهة النخيل، وحمى جهة وادي الفرع، وكان يحمي لإبل الصدقة مواطن خاصة ترعى فيها ولا يدخل فيها نعم الناس. وتقدم معنا قصة أنعام عثمان وعبد الرحمن بن عوف في درس الموطأ، فحماية الحمى لإبل الصدقة أو للمصالح العامة مشروع لا للأفراد ليستغلوه دون الآخرين، ويجوز أن يكون للملك حمى لدوابه ولمصالحه؛ لأنها تعود على مصالح الأمة، والله سبحانه له حمى في خلقه، ما هو الحمى الذي حماه الله، ومنع الناس أن يدنوا منه؟ حمى الله هي محارمه، ليست بأراضٍ ولا بساتين، ولا مراعٍ، رغم أن الأرض كلها ملك لله، ولكن الله حمى ومنع وحرم المحارم، ومن هنا يقول علماء الأصول في حكمة التشريع: ما أقامه الله من حدود على المحارم فقد جعله لتلك المحارم حمى، ونحن نعلم أن المحارم تدور حول الأديان والعقول والأنفس في الدماء والأموال والأعراض والأنساب، فحرم الله الردة حماية للدين، وحمى الردة البدع، فحرم البدعة؛ لأنها تسوق إلى الردة عن الدين عياذاً بالله، وعقوبة المرتد القتل لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) ، ومن ابتدع لا يقبل عمله، لحديث: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وحرم قتل النفس وإراقة الدماء، وجعل فيها القصاص قال الله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، وجعل للنفس حمى، فلا تعتدي عليها بالضرب؛ لأنك إن اعتديت عليها بالضرب -وهو ليس قتلاً للنفس- جر الضرب إلى ضرب أكثر إلى أن يصل إلى ضربة قاضية، وحرم الله الزنا، وجعل فيه حد الجلد أو الرجم، وجعل للزنا حمى، إن ابتعدت بعيداً عن هذا الحمى سلمت، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يخلون رجل مع امرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) ، وقال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ، وقال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] ، فإذا كنت بعيداً عن هذا الحمى سلمك الله من الزنا، فالزنا حرمه الله وجعل له حمى ووقاية، منطقة محايدة، ومنطقة صيانة، فإذا لم يخل بامرأة، وغض بصره، فهل يصل إلى الزنا؟ لا يصل إلى الزنا. وكذلك في الأموال حرم السرقة، وجعل للمال حماية، فنهى عن الغش وعن التدليس، وعن كل ما يسمى أكل أموال الناس بالباطل. إذاً: من اتقى الشبهات فقد استبرأ، ومن ابتعد عن حمى الله سلم أن يقع فيه؛ لأنه إذا لم يخل بالمرأة، ولم يقع بينهما شيء من الملامسة لا يصل إلى الزنا، لكن إذا اجتمع بها وخلا بها، ووقع بينهما ما دون الزنا فما الذي سيمنعه ويحجزه عن الزنا؟ لا شيء، وهذا يسميه العلماء: التكميلات، أي: تكميلات لحفظ الضرورات التي جعل الله لها الحدود للزجر عنها. (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) يعني: إذا كانت هناك حالة مشتبهة بين أن تكون من محارم الله أو من المباحات فعليك أن تستبرئ لدينك وتترك الأمور المشتبهة حتى لا تقع في حمى الله الذي حرمه عليك.

صلاح الأعمال بصلاح القلب وفسادها بفساده

صلاح الأعمال بصلاح القلب وفسادها بفساده ثم ذكر منطلق اتقاء الشبهات، والأصل في ذلك وهو: القلب، فقال: (ألا وإن في الجسد مضغة) ما علاقة هذه المضغة في الحمى وفي المحارم؟ لأن اتقاء الشبهات ليس عمل الجوارح بقدر ما هو عمل القلب؛ لأن اتقاء الشبهات بتقوى الله، وتقوى الله محلها القلب، (ألا وإن في الجسد) عموماً من شعره إلى إلى ظفر رجله (مضغة) والمضغة تشبيه بقدر ما يكون القلب، علماً بأن قلب كل حيوان بقدر قبضة يده، فقلب الطفل الصغير بقدر قبضة يده وهكذا قلب الفيل بقدر خفه، وقلب البعير بقدر خفه، وهذا مقياس في جميع الحيوانات، (ألا وإن في الجسد مضغة) أسلوب تقليل، أي: أنها من أصغر الأعضاء الموجودة في الجسم، فهي أصغر من الكبد، وربما تكون أصغر من الطحال في بعض الحالات، مع أن القلب أكبر من الطحال نوعاً ما، وأصغر من الرئة، وأصغر من اليد، وأصغر من الرجل، وأصغر من الرأس، فهذه المضغة صغير حجمها ولكن عليها مدار صلاح العبد. (إذا صلحت صلح الجسد كله) صلحت من الناحية الصحية فيكون القلب سليماً، ومن الناحية الاعتقادية فيكون القلب نقياً طاهراً، الأمران معاً، ويتفق الأطباء الآن بأن مريض القلب يعتبر مريض الجسم كله، وأن صحيح القلب صحيح الجسم كله إلا ما ندر في بعض الجوانب، فصحة القلب دليل على الصحة العامة بالجسم، ولكن الأصل أن المراد هنا: الصحة المعنوية، وهي صحة الإيمان والعقيدة، وقوة اليقين بالله، فإذا صلح القلب مع الله سبحانه؛ صلح هذا الجسد في أعماله، وكان سلوكه صالحاً خالصاً لوجه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ترك المشتبهات مراعاة لحال المجتمع

ترك المشتبهات مراعاة لحال المجتمع ذكرنا أن لكل ملك حمى، وقلنا: إن الملك قد يحمي بعض المواطن لرعي دوابه، وقد يحمي بعض المواطن لمواقف سياراته، وقد يحمي بعض المواطن لموارد مستودعاته، وكل هذا من الحمى الذي يكون للمصالح العامة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (استبرأ) أي: طلب البراءة، مثل: (استغفر) طلب المغفرة، وقوله: (واستبرأ لعرضه) هذا واجب على كل مسلم كما لا ينبغي أن تخالف عادات مجتمعك بأمر فيه شبهة وإن كان على حقيقته ليس منظوراً، ولكن فيه شبهة، فينبغي أن تتقي تلك الشبهة، وإن كانت في حقيقتها ليس فيها محظور، يفسر لنا ذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان معتكفاً، وجاءت صفية رضي الله تعالى عنها لتزوره، ومكثت عنده، ثم قام معها ليلاً ليقلبها إلى بيتها -وكان بيتها شمالي المسجد، فحجرات رسول الله كانت تحيط بالمسجد من القبلة فالشرق فالشمال- فمشى معها من محل معتكفه في المسجد إلى بيتها، فأحس برجلين يمشيان وراءه، فقاصر الخطوات حتى لحقا به ثم التفت إليهما، فقال: إنها صفية، -بين لهم حقيقة الأمر وأنها زوجه، وليس في الأمر أي لبس ولا اشتباه، ولكن الناس عندهم فيها شبهة، إذا رءوا امرأة ورجلاً يمشيان في الليل! - فقالا: سبحان الله، يا رسول الله! فقال: لا، أنا خفت عليكما أن يطرأ عليكما شبهة فتهلكا) ، فعلى كل إنسان أن يستبرئ لعرضة، فمثلاً مشي الرجال مع النساء في منتصف الليل فيه شبهة، فلو أخذت زوجتك تتمشى في ذلك الوقت ويدك في يدها، وهي زوجتك ويحل لك أن تضع يدك في يدها أو على كتفها لكن أمام الناس هل تستسيغه العامة؟! هل يستسيغه الناس؟! هل يجوز مروءة؟! لا، فمن حق هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يوقفوك، ويسألوك: من هذه المرأة التي معك؟ تقول: زوجتي، فيقولون: هات البطاقة، من حقهم هذا؛ لأنك أوقفت نفسك في موقف الشبهة، فلا ينبغي لك أن تفعل ذلك، ويجب عليك أن تبتعد عن مواطن الشبهة، إذا كان مثلاً في بلد من البلدان سوق العسل وسوق السمن وسوق الخمر، فجاء إنسان مسلم وقال: أتفرج على سوق الخمر! معلوم عند الناس أنه لا يمر بهذا السوق إلا زبون هذه المحلات، فهل من حقك أن تمر بها وتقول: أنا -والله- أريد أن اتعظ بهؤلاء المبتلين، الذين عافانا الله مما ابتلاهم به! نقول لك: لا، هذا موقع فيه شبهة، ولا يجوز لك أن تمشي فيه. كان هناك جماعة يسمون الملاتية، يأتون أفعالاً يلام عليها الشخص، فقيل: لم تفعلون ذلك وقد نهيتم عنه؟ قالوا: حتى يقع الناس في أعراضنا بالغيبة فتكون لنا حسناتهم، لكن هذا تغرير بالناس، ولماذا تضيعون على الناس حسناتهم؟ فلا ينبغي هذا. إذاً: من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ولو كان الأمر الذي تركه ليس حراماً. ولذا يتوسع مالك رحمه الله في سد الذرائع، وسد الذريعة هو أن تترك من الحلال جزءاً ابتعاداً عن الحرام، وتترك بعض المباح ابتعاداً عما ليس بمباح، وهكذا يستبرئ الإنسان لدينه وعرضه، لدينه فيما حقيقته مشتبه، ولعرضه حتى لو كان في حقيقته حلال ولكن صورته صورة الشبهة، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

نقل قلب كافر إلى مسلم هل يؤثر في الإيمان؟

نقل قلب كافر إلى مسلم هل يؤثر في الإيمان؟ Q في عمليات زراعة القلب، كيف يكون الحال إذا نقل قلب كافر إلى مسلم؟ A هذا -والله- سؤال وجيه ووارد، فإذا كان صلاح المسلم بصلاح قلبه، فكيف بما جاءنا به العلم الحديث أو التكنولوجيا الحديثة من نقل لقلب المسلم إلى غير مسلم، أو بنقل قلب الكافر إلى المسلم، فهل يصبح الكافر مسلماً أو المسلم كافراً بنقل هذا القلب أم لا؟ وما أثر نقل القلبين من مكانهما؟ سئل عن هذا والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أوائل هذه العمليات، فقال: يفسر هذه القضية قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] قال: فالقلب إنما هو وعاء يجعل فيه نور الإيمان أو معصية الكفر، ويمكن أن نستشهد لهذا بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] ، فالمصباح يضيء بالزيت الذي يوجد فيه، ولذا نقول: الإيمان كالزيت النقي، فإذا جاء العمل الصالح وجاء اليقين اشتعل ذلك الزيت، وأضاء القلب، والمعصية تنكت في القلب نكتة سوداء حتى تغطي النور الداخلي، كزجاجة الفانوس إذا كثر عليها الدخان حجبت النور داخله، إذاً: لو نقل قلب المؤمن فإنما تنقل البضعة، وينقل اللحم والدم، أما حقيقة النور وحقيقة الإيمان فتبقى لصاحبها، وهكذا قلب الكافر ينقل السراج فقط أما الزيت فيبقى في محله، ولهذا لا تأثير لنقل قلب مسلم لكافر ولا لنقل قلب كافر لمسلم، والله تعالى أعلم.

حكم نقل القلب

حكم نقل القلب Q ما حكم نقل القلوب وزراعتها طبياً؟ وهل هذا واقع فعلاً؟ A مسألة يجوز أو لا يجوز، أو صح أو لا يصح، أو عاش أحد بعده أو لم يعش أحد بعده، سبق بحث هذا في مؤتمر ماليزيا عام أربعة وثمانين، وقلنا: هذا من الترف العلمي، ولا يتأتى عملياً، والذين نقلت لهم قلوب وعاشوا أياماً إنما هي حالات قليلة، والله تعالى أعلم، ومن ناحية حكمه شرعاً فقد صدر بحث عن هيئة الإفتاء في مجلة البحوث العلمية فيما يتعلق بنقل الأعضاء، ومن شاء فليرجع إليه.

إدراك الإمام راكعا

إدراك الإمام راكعاً Q هل يشترط لمن أدرك الإمام راكعاً أن يدرك الطمأنينة مع الإمام حالة الركوع؟ A لا يعتد بتلك الركعة، إنما يعتد بالركعة لمن أدرك الإمام راكعاً، وركع معه، وأدرك معه طمأنينة، أما إذا جاء وركع، والإمام رافع ولم يشترك معه في الركوع، فلا يعتد بتلك الركعة.

القراءة للأموات

القراءة للأموات Q هل ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ للأموات؟ A لا، ولكنه أجاز قراءة القرآن على الأموات عند الاحتضار بسورة (يس) ؛ لأنها تسهل خروج الروح، أما بعد ذلك فالعلماء لهم كلام كثير في ذلك، فمن شاء فليرجع إلى المجموع للإمام ابن تيمية رحمه الله، فقد أطال الكلام فيها في كتاب الجنائز من مجموع الفتاوى.

الحديث السابع [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث السابع [1]

تميم بن أوس الداري وحديثه في الجساسة

تميم بن أوس الداري وحديثه في الجساسة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: قال رحمه الله تعالى في الحديث السابع من الأحاديث الأربعين النووية: [الدين النصيحة. عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم] . هذا الحديث -السابع من الأربعين النووية- يعده بعض العلماء ربع الدين، ومنهم من يعده نصف الدين، وآخرون يعدونه ثلاثة أرباع الدين، ولو قال قائل: إنه الدين كله -كما قال صلى الله عليه وسلم لكان حقاً، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من الجميع. وقبل الكلام على الحديث نقول: جرت العادة على التنبيه على بعض النوادر أو بعض الأشياء الغريبة فيما يتعلق ببعض الرواة، ومن هذا القبيل: فإنه من المعلوم عند علماء التاريخ وعلماء الحديث أنه إذا ذكر تميم الداري ذكر معه حالاً خبر الجساسة، وخبر الجساسة -كما رواه مسلم مطولاً- عن فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها، أنه دخل عليها بعض التابعين وقال: حدثينا حديثاً سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسندينه إلى أحد غيره -يعني: لا تجيئن بواسطة بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، بل بحديث تقولين: إنك سمعتيه مشافهةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقالت: تزوجت فلاناً وطلقني، وفلاناً ثم في يوم نادى المنادي: الصلاة جامعة، فحضر الناس المسجد وكنت في صف النسوة خلف القوم، فصعد صلى الله عليه وسلم المنبر وتبسم، وقال: (أتدرون لِمَ جمعتكم؟ ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة؛ ولكن حدثني تميم الداري بشيء كنتُ حدثتكم بمثله، فأحببت أن تسمعوا. تميم الداري أن يتكلم فقام وقال: ركبنا سفينة بحرية في ثلاثين رجلاً -وكلمة بحرية قيد ليبين أنها سفينة كبيرة تبحر في البحار وليست سفينة نهرية صغيرة تمشي في النهر-. قال في بعض الروايات: ركبنا البحر حينما اغتلم علينا، فهاج بنا شهراً، حتى أرفأْنا -يعني: رست السفينة- إلى جزيرة، فجئنا وركبنا في قُرُب السفينة -القُرُب: جمع قارب، ومن المعروف الآن أن مع البواخر الكبيرة: قوارب نجاة، وتكون تلك القوارب متصلة بالسفينة الكبيرة حتى وقت الحاجة الطارئة إذا أرادوا أن يذهبوا إلى ماء خفيف إلى الشاطئ، والعمق لا يحتمل السفينة الكبيرة فينزلونها لتكون أخف في الحركة وأسرع- فجلسنا في قُرُب السفينة ثم نزلنا إلى الجزيرة. وفي بعض رواياته: فطلبنا الماء. وبعض رواياته: فانكسرت السفينة فركب البعض منا على لوح منها. كل تلك الروايات: فجئنا تلك الجزيرة، فلقيَنا دابةٌ أهلب كثيفة الشعر لا يُعرَف قُبُلها من دبرها -لايعرف مؤخرها من مقدمها من كثرة الشعر فيها- فقلنا: من أنتِ؟ قالت: أنا الجساسة. قالت: ومن أنتم؟ وما خبركم؟ فذكرت لنا رجلاً وقالت: ائتوا ذلك الرجل في هذا الدير. فلما ذكرت لنا رجلاً خفنا منها، وظننا أنها من الجن، فأسرعنا إلى الدير، فوجدنا رجلاً أشد وأكبر ما يكون، موثوقة يداه إلى رجليه ما بين الركبتين إلى القدمين في الحديد، فقال: من أنتم؟ فأخبرناه أمر الجساسة وقلنا: وجدنا دابة صفتها كذا وكذا، ثم قالت: هلموا إلى هذا الرجل في هذا الدير، فخشينا منها، فمن أنت؟ فقال: أنا المسيح، ومن أنتم؟ قلنا: قوم من العرب هاج بنا البحر وأرفأنا إلى هذه جزيرتك، فنزلنا فيها. فقال: أما وقد علمتم مكاني، فإني أنا المسيح، أسألكم عن نخل بيسان. قلنا: وعن أي شيء تسأل؟ قال: هل يثمر إلى الآن؟ قلنا: نعم يثمر. قال: يوشك ألَّا يثمر. ثم قال: أسألكم عن بحيرة طبرية: أفيها ماء؟ قلنا: نعم، مليئة بالماء. قال: أسألكم عن عين كذا -وهي عين في أقصى الشام- هل تسيل؟ وهل يزرع أهلها؟ قلنا: ماؤها يفيض، ويزرع أهلها على مائها. قال: يوشك ألَّا تجري، وألَّا يزرع أهلها. ثم قال: أسألكم عن النبي الأمي: أظهر؟ قلنا: نعم، ظهر في مكة وهاجر إلى طيبة. قال: ماذا فعل مع العرب، هل قاتلوه وقاتلهم؟ قلنا: نعم، قاتلوه وقاتلهم. قال: ماذا فعل معهم؟ قلنا: لقد نصره الله عليهم وأظهره على كل من لقي وأطاعه العرب. قال: هذا خير لهم. ثم قال: إنه المسيح، ويوشك أن تُحلَّ قيوده وأن يظهر. قال: فإذا خرجت فلن أترك قرية في الأرض إلا وطئتها إلا مكة وطيبة. وبعض الروايات: ويثرب. ورواية مسلم: وطيبة. فإن على أنقابها ملائكة بأيديهم سيوف مصلتة. وبعض الرويات: ملك يحرسها بيده سيف مصلت، فإذا جئت إلى أحد أبوابها ردني بسيفه. ثم يقول تميم: أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال رسول الله: هل كنتُ حدثتكم بمثل ذلك من قبل؟ قالوا: نعم. قال: أحببت أن أخبركم بخبر تميم يطابق ما كنت أخبرتكم به) . هذه نبذة عن قصة الجساسة، وسميت جساسة؛ لأنها تتجسس الأخبار للدجال عما يحدث عند الناس، أوردنا هذا على غير العادة لأن اسم تميم الداري دائماً يصحبه خبر الجساسة. وتميم الداري رضي الله تعالى عنه كان نصرانياً وكان راهباً متعبداً، قالوا: ولما أسلم جاء إبان عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وأسلم ومكث على الاجتهاد في عبادته، وكان يقوم الليل وربما قرأ القرآن كله في ليلة، وربما قضى الليلة في آية واحدة، فكان متعبداً رضي الله تعالى عنه، ثم خرج بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الشام ومات بفلسطين.

موافقة الواقع للخبر يزيد في اليقين

موافقة الواقع للخبر يزيد في اليقين وهنا يقول العلماء: ما الحاجة إلى عرض الرسول صلى الله عليه وسلم خبراً عن تميم مع أنه كان يخبر أصحابه بمثل ذلك؟ نقول إن مثل هذه الأخبار، وتلك القضايا التي يأتي الواقع يصدقها تزيد في يقين المؤمن وتزيد في إيمانه، فهذا الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أول من يؤمن بكل ما أخبره الله به، وكان للمتقين إماماً، وكان أمة وحده، ومع ذلك يقول: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260] ألستَ مصدقاً؟ {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ، فالخبر حينما يأتي سماعاً ليس كالخبر حينما يأتي حساً مشاهداً، (ليس الخبر كالعيان) . ولهذا إذا جاء المحسوس الواقع مطابقاً ومصادقاً للخبر السماعي زاده قوة. فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما يجمع الناس ويخبرهم بما سبق أن حدثهم به هل كان الرسول في شك من أمره؟ لا والله؛ ولكن أراد أن يعلن للناس واقعية ما كان قد أخبرهم به، وهذا يزيد في يقين الناس بما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

يقين أبي بكر وعمر فيما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم

يقين أبي بكر وعمر فيما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان بعض المؤمنين بمجرد أن يسمع الخبر لَكأنه رأى بعينه، ونذكر من ذلك ما جاء عند ابن كثير في البداية أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم قال: (إن رجلاً كان فيمن قبلكم ركب بقرة فضربها فقالت: يا هذا! لم أخلق لذلك، فقال الناس: واعجبا! بقرة تتكلم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم. وأنا أؤمن بذلك ومعي عليه أبو بكر وعمر - أبو بكر وعمر ليسا حاضرَين-، وما هما ثمة، ورجل كانت له غنم، فجاء ذئب وخطف شاةً فأدركه وخلصها منه، فالتفت إليه الذئب وقال: أنت خلصتها مني، من لها حينما لا يكون لها راعٍ غيري! قالوا: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! قال: نعم. وأنا أؤمن بذلك ومعي أبو بكر وعمر، وما هما ثمة) وهنا يتجلى اليقين بمجرد سماعِ الخبرِ. والصديق رضي الله تعالى عنه لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأمر الإسراء والمعراج وقام أهل مكة يصفقون ويصفرون وذهبوا سراعاً إلى أبي بكر وقالوا: (اسمع ماذا يقول صاحبك! قال: ما يقول؟ قالوا: يقول: إنه ذهب البارحة وأتى إلى بيت المقدس، وأسري به إلى السماوات، ثم نزل إلى الأرض وجاء في ليلة، ونحن نضرب أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراً إياباً. قال: أقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لَإن قاله فهو صادق. قالوا: كيف تصدقه على مثل ذلك. قال: أنا أصدقه على ما هو أبعد من هذا، أصدقه على خبر السماء، فكيف لا أصدقه على بيت المقدس؟! إذاً: بعض الناس يكون اليقين والإيمان عنده بمجرد سماع الخبر ولا يعتريه أدنى شك.

يقين علي والزبير فيما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم

يقين علي والزبير فيما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله تعالى عنه لما كتب حاطب كتابه لأهل مكة فيما يتعلق بتهيؤ رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وسبق أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله قائلاً: (اللهم عمِّ عليهم الأخبار) ، ودعوته صلى الله عليه وسلم غالباً مستجابة، وأعطى حاطب الكتاب لضعينة -أي امرأة مسافرة- وقال لها: إن أوصلتِه إلى أهل مكة فلك كذا وكذا، فجاء جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا قال الله في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] وذاك قال فيه سبحانه: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21] لا شك في هذا ولا يحتاج الأمر إلى تثبت. فقال لـ علي والزبير: (أدركا الضعينة في روضة خاخ، وخذا منها الكتاب) فأسرعا وأدركا الضعينة في الروضة التي أخبرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: أخرجي الكتاب. قالت: ما عندي كتاب. ففتشا الزاد والرحل ولم يجدا شيئاً، فكادا أن يرجعا، فاستل علي سيفه، وقال: والله ما كذبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لصادق، ولابد أن تخرجي الكتاب، وإلا فتشنا الثياب. فلم يكن علي رضي الله تعالى عنه في شك من إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! وقد هددها بالقتل وجزم بأن الكتاب موجود؛ لأن الرسول صادق، ما توقف حتى يفتش ويتيقن أهو موجود أم لا؟! لا. وإنما قال قبل أن يفتشها: (لتخرجن الكتاب أو لأفتشن تحت الثياب -وتحت الثياب ممنوع- فأخرجته من عقاص شعرها) . فيقين علي رضي الله تعالى عنه بصدق الخبر ومطابقته للواقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله كأنه يشاهد الكتاب، فما حمله على أن جزم بوجوده وهدد المرأة حتى أخرجت الكتاب.

مراتب الناس في اليقين

مراتب الناس في اليقين الناس في اليقين على مراتب، إذ يتفاوتون بقدر صدق الإيمان وقوته، وبعض الناس يحتاج إلى تأليف قلبه حتى بالمادة، إلى أن يستقر الإيمان في قلبه. وجاء أيضاً في باب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما يذكره العلماء- عند قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] ، هذا في سياق المنافقين. وقبلها قال جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] إلى قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:65-66] . فلو أن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم القتل كما كتب على اليهود من قبل في توبتهم أو الخروج من ديارهم كما خرج المهاجرون من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، ما فعل هذا القتل أو الخروج إلا قليل منهم. جاء بعض اليهود إلى بعض المسلمين -قيل: جاءوا إلى أبي بكر، وقيل: إلى عمر، وقيل: إلى بلال، وقيل: إلى فلان، فقالوا: (واعجباً! نحن كلفنا بأن نقتل أنفسنا توبةً لله ففعلنا، وأنتم يأتيكم رسول منكم تعرفونه وتؤمنون به وتتبعونه ولا تحكمونه فيما بينكم؟! فقال عمر رضي الله عنه: والله لو أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل نفسي لفعلت، والحمد لله لم يأمرنا -قالها يقيناً وامتثالاً- فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله اليهود رد عليهم بمقالتهم، فقال: إن هذا الإيمان لهو في قلوب بعض الناس كأمثال الجبال) . أيحتاج إلى شواهد مادية؟! لا. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع الناس لأنه يحدثهم بأمر غيب وبأمر بعيد وو إلى آخره. فلما جاءت قصة تميم الداري وسمع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس وأخبرهم بما رأى تميم. وهنا يقول بعض العلماء: الرسول يروي عمن؟ يقولون: هذا من رواية الأكابر عن الأصاغر، فقد يأتي إمام كبير جليل ويأتي أحد طلابه ويسمع حديثاً من جهة ما عن بعض الشيوخ بسند أطول ويسمعه شيخه منه ويكون الطالب عدلاً ثقة عنده، فيروي الشيخ عن تلميذه، وقد يروي الشيخ حديثاً ويسمعه طلابُه وينسى الشيخ ما حدث به، فيأتي الطلاب فيظلون يذكرونه: أنت حدثتنا كذا، فيقول: أنا نسيت، فيروي الشيخ مرة أخرى: حدثني فلان عني أني حدثتهم عن فلان عن فلان، فيجعل نفسه أحد الرواة بعد أن كان هو الشيخ الذي روى ذلك، وهذا باب في علم مصطلح الحديث، وهو يشف عن مدى التحري والصدق والأمانة في النقل. وفي هذا الحديث لما ذكره تميم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إلا مكة وطيبة. تقول فاطمة في بعض رواياتها: لكأني أنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخمش في المنبر بإصبعه: طيبة هذه، طيبة هذه) أي: المدينة المنورة، ومن أسمائها: طيبة، وطابة وذكر لها بعض العلماء في كتب التاريخ فوق الأربعين اسماً.

شرح حديث: (الدين النصيحة.

شرح حديث: (الدين النصيحة ... )

عموم النصيحة

عموم النصيحة قوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) : تجد في بعض النسخ: قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة. ثلاثاً) ، فهل كلمة (ثلاثاً) اختصار في الكتابة، متعلقة بـ (قال) ، أو هي متعلقة بـ (النصيحة) . الصحيح في الأسلوب أنها متعلقة بالنصيحة، وبهذا يكون السياق سليماً، مع احتمال أنه أراد الاختصار؛ ولكن صحت الرواية: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة) فرجح هذا أن (ثلاثاً) متعلقة بـ (قال) لاختصار الكتابة. وهذا التكرار والتأكيد لبيان أن الدين بكامله من أول أركان الإسلام إلى أركان الإيمان إلى الإحسان إلى العقائد إلى كل ذلك، يجمعه كلمة (الدين) لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جبريل بعد أن أجابه عن أسئلته (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، وجبريل سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة، وفصل الجواب عنها، كل ذلك جمعه صلى الله عليه وسلم تحت عنوان: (الدين) . إذاً: (الدين) في كلمة هو يحتاج إلى تقوية هذا الإخبار للسامعين. وإذا كان هذا الحديث بهذه المثابة وهو من أبلغ كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هي النصيحة؟ النصحية لغةً: يقولون: الإخلاص أو التخليص. والأصل في النصح: يقال: نصح العسل إذا صفاه عن الشمع. وتقول أنت: نَقَح الحبّ -أو نَقَّح الحبّ- إذا صفى الحب من التبن. وبهذا يجتمع كل تعريف النصيحة في الإخلاص والإصلاح، أو ما استخدم للإصلاح ولذا قالوا: النَّصْح، الإبرة نصاح، الخيط نصاح، الخياط ناصح؛ لأن الإبرة بالخيط في يد الخياط تصلح شق الثوب، أو تصلح الثوب لصاحبه. فقالوا: النصح هو: الإخلاص. وإذا كان النصح أو النصيحة هي الإخلاص، فالإخلاص لمن؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) : ماذا بقي بعد هذا؟ لم يبق شيء؛ حتى الحيوان تنصح له امتثالاً لأمر الله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (في كل ذي كبد رطبة أجر) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء ... ) الحديث.

الحديث السابع [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث السابع [2]

تابع شرح حديث: (الدين النصيحة.

تابع شرح حديث: (الدين النصيحة ... )

حصر الدين في النصيحة

حصر الدين في النصيحة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: (الدين النصيحة) هل هو على سبيل المبالغة، أو الحقيقة، أو الأغلبية؟ هذا يسمى عند البلاغيين: القصر، (الدين النصيحة) بمعنى: قصرت الدين في النصيحة. قالوا: هذا على سبيل التغليب، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ، ففي الحج السعي والرمي والنحر. كل هذا من الحج؛ ولكن يأتي (الحج عرفة) ، وبقية الأركان والأعمال الأخرى أليست من الحج؟ قالوا: أعظم أركان الحج عرفة، وإن كان السعي ركناً، والطواف كذلك، لكن كل عمل قد يُدرك في غير وقته إلا عرفة؛ لأنه إن فات عرفة فات الحج، والطواف والسعي الذي باسم الحج ينقلب إلى عمرة، وإذا فاته الوقوف بعرفة فلا رمي ولا شيء بعده، ولا اعتداد بالطواف والسعي الذي كان باسم الحج من قبل، فلو جاء وطاف طواف القدوم وسعى سعي الحج ثم فاته الوقوف بعرفة انقلب السعي من حج إلى عمرة، ويتحلل بعمرة. إذاً: (الحج عرفة) و (الدين النصيحة) من باب التغليب والتنبيه على الأهم. فإذا قلنا: ذلك كان أهم ما في أمور الدين النصيحة. وإن جئنا إلى الشمول وأخذ اللفظ على ظاهر مدلوله فإن النصيحة بعمومها تشمل المسميات التي جاءت في هذا الحديث. وعلى هذه فلمن تكون النصيحة؟

النصيحة لله

النصيحة لله تكون النصيحة لله أولاً. قالوا: إذا كانت النصيحة هي تخليص الشيء، فنصيحتك لله: هي إخلاصك نيتك مع الله، ومحبتك لله. ومن نصحك لله: أن تحببه إلى خلقه، وتحبب خلقه فيه. ولذا جاء عن بعض العلماء: أعبد الناس إلى الله من حبب إليهم عبادته؛ لأنك إذا حببت العبادة إلى الناس جمعتهم على الله، وحببت الله لعباده، فصاروا يحبون الله. إذاً: دللتهم على طريق محبته. ولذا ينقلون عن القاضي عياض: المحبة أشد تعبداً من الخوف. وقالوا: عن ابن المبارك وغيره: لو أن لك عبدين، أحدهما يحبك، والآخر يخاف منك، أيهما يكون أقرب إليك؟ الذي يحبك؛ لأنه يطيعك في حضورك، وينصح لك في غيبتك، وتأتمنه فيؤدي إليك أماناتك؛ لكن الذي يخافك، إن كنت حاضراً ربما استقام، وإن غبت عنه فلا خوف، فربما قصر في واجبك أو لم يؤد ما ائتمنته عليه. إذاً: المحبة أشد من الخوف. والنصح لله إما فرض وإما نافلة. أما النصح لله الذي هو فرض على كل عبد فهو: إخلاص العبادة لله وعدم اتخاذ شريك، بمعنى ألا يشرك معه غيره في أي جانب من الجوانب، وأن يصف الله بما وصف به نفسه على سبيل الجلال والكمال، وأن ينفي عنه ما لا يليق بجلاله وكماله. وأما النافلة فهو: أن يكون حبه لله، وما فيه مرضاة الله، أشد من حبه لنفسه. ثم بعد ذلك يكون داعيةً إلى الله، فيكون ناصحاً فيما بينه وبين الله.

النصيحة لكتاب الله

النصيحة لكتاب الله والنصح لكتاب الله: هو خدمة كتاب الله بكل ما أوتي من قوة، وذلك بحسن النية في اتباع الكتاب، وهذا عام في الجميع، وبمداومة تلاوته وتفهم معانيه، وكذلك اتباع أوامره واجتناب نواهيه. ويندرج تحت النصح لكتاب الله ما قام به العلماء من بيان طريقة تفسيره وبيان طرق ومناهج معرفته وبيان مدلوله، فكل ما كتب في علوم القرآن وتفسير القرآن وتجويد القرآن، وما كان من كتابة القرآن وحفظ خط القرآن، وكل ما دوِّن من حرف في سبيل حفظ القرآن فهو نصح لكتاب الله. ولهذا عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى القتل يستشري بين القراء قال لـ أبي بكر: (أدرك كتاب الله من الضياع) . إذاً: عمر لما جاء إلى أبي بكر يستحثه على جمع القرآن كان بدافع النصح لكتاب الله وحفظه من الضياع. وهكذا كل ما يتعلق بالقرآن من حفظ وعلم وتعليم وتأمل وما يتعلق بهذا من جميع الجوانب.

النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (ولرسوله) صلى الله عليه وسلم في حياته صلوات الله وسلامه عليه، وقد رأينا النماذج من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أنهم كانوا يفدونه بأنفسهم وبأموالهم وبأولادهم وبالعالم كله، فامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومحبته في قلوبهم، ما هو إلا من شدة نصحهم له. ونحن نعلم قضية خبيب بن عدي حينما أخذ أسيراً، ولما أرادوا أن يقتلوه أخرجوه إلى الحل وقالوا له: (هلم يا خبيب! أتود أن يكون محمد مكانك هنا ونخلي سبيلك) السيف مصلت على عنقه ويقولون: تمنَّ فقط، (أتتمنى أن يكون محمد -الذي هو سبب أخذك وأسرك- محلك هنا، تضرب عنقه وتسلم أنت، ونخلي سبيلك فماذا كان جوابه؟ لم يبال بسيوفهم ولم يبال بجمعهم ولم يبال بالحياة كلها بل قال: لا والله لا أرضى له ذلك، بل ولا أن يُشاك بشوكة وهو في مكانه بالمدينة. فما الدافع لقوله هذا؟ الدافع هو شدة النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا امتثال الأوامر فيما ينفذه العبد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكثيرة هي تلك النماذج في ذلك، ومنها أيضاً: موقف علي رضي الله تعالى عنه لما نام في فراش النبي وهو خارج للهجرة، أيضاً كان سببه النصح لله ولرسوله. وأبو بكر حينما مشى يوم الهجرة تارةً أمامه وتارةً خلفه، ولما قال له: (انتظر يا رسول الله! حتى أستبرئ لك الغار) ، كل ذلك من باب النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والسنة كلها وتاريخ سلف الأمة من أصحاب رسول الله ومن بعدهم؛ يوضح جلياً مدى نصحهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقدم لنا بأن التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم يعتبر من النصح لله ولرسوله، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] فالرد إلى الله رد إلى كتاب الله دائماً وأبداً، والرد إلى رسول الله في حياته إلى شخصه صلى الله عليه وسلم، وإلى سنته بعد مماته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى. وكذلك الآن، من النصح لرسول الله في شخصيته صلوات الله وسلامه عليه النصح لسنته من بعده؛ لأنه قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي) . فمن النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم النصح للسنة بنصرتها، وتدوينها، وحفظها، وبيانها، وعلم المصطلح الذي يبين صحيح الأحاديث من حسنها من ضعيفها، ومباحث الرجال وكل ما دون في علم الرجال وما يتعلق ببيان حال الرواة؛ فهذا الرجل ثقة نقبل حديثه، وذاك ضعيف نتوثق ونبحث له عن مستند وشواهد، وهذا كذاب، وهذا منكر الحديث، كل ذلك نصح للسنة، حتى لا نجمع بين الغث والسمين، ونتبين حقيقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: هؤلاء الرجال الأعلام أيدهم الله لإخلاصهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصحاً لله ولرسوله، فبينوا لنا الصحيح من السقيم، والمقبول من المرفوض في حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي بعد هذا العمل كان يأتيك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -آمراً إياك بأمر ما- ونفسك فيها شيء، وأنت بين أحد أمرين: · تنصح لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنصرها وتعمل بها وتترك رغبات نفسك؟! · أو تترك السنة وتأخذ رغبات نفسك؟! هنا يأتي النصح. وكما سيأتي في باب الإجارات من حديث جابر رضي الله تعالى عنه لما جاء إلى أهل العالية قال: (جئتكم بأمر نهى عنه صلى الله عليه وسلم، كان لكم فيه خير؛ ولكن طاعة رسول الله خير لكم. نهى صلى الله عليه وسلم عن تأجير الأرض بما يكون على رءوس الجداول والماذيانات) ؛ لأنهم كانوا يؤجرون الأرض على قسمين: قسم لصاحب الأرض، وقسم بين للذي يزرعها. يقول صاحب الأرض: الذي يطلع على القنوات والذي في رأس الجدول أو رأس الحوض هذا لي، والباقي في أرض الحوض هذا لك أيها الزارع. فقد يصح هذا ويموت ذاك أو يضعف، فيحصل عندها الغبن، فنهى صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من التأجير وقال: (بذهب أو فضة أو جزء مشاع مما يخرج من الجميع) . أخرجت -مثلاً- عشرة أوسق فيعطي صاحبها النصف أو الثلث أو الربع -بعد أن يُجمع (الماذيانات) ورءوس الجداول وأوساط الجداول، بنسبة مئوية مطّردة، فقال: (نهى عن أمر كان لكم فيه خير -أي: مصلحة- ولكن طاعة رسول الله خير لكم) . هناك في آية أخرى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] يا سبحان الله! هنا والله تتجسد حقيقة الإيمان، وهنا يظهر المقياس الحقيقي للإيمان. فـ زينب بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن حارثة، ومن زيد بن حارثة؟ كان زيد قد أخذ أسيراً، فاشتراه حكيم بن حزام ثم أهداه إلى خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه، فجاء أبوه وعمه بالفداء، وقال: (يا محمد! بلغنا أن ابننا زيداً عندك، وهذا فداؤه، قال: هل لك بخير من ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أناديه وأسأله إن كان يريدكم أخذتموه بغير فداء، وإن كان يريدني فما أنا بمفادٍ شخصاً يريدني. قالوا: والله لقد أنصفتنا. قال: تعال يا زيد! أتعرف الرجلين؟ قال: نعم. هذا أبي، وهذا عمي. قال: جاءوا بفدائك وأخبرتهم إن أردت أهلك فاذهب معهم بدون فداء، وإن اخترتني فما أنا بمستغنٍ عنك. ماذا قال زيد؟ قال: والله! لا أختار أحداً عليك أبداً. وهذا قبل أن يكون رسولاً، لما رآه من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. قال أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودية على الحرية؟ قال: وما لي لا أختاره؟! والله! ما قال لي لشيء فعلتُه قط: لم فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لم تفعله؟) . إن الإنسان لا يصبر على هذا مع ولده، بل حتى على نفسه أحياناً، فقد يتضايق لأنه فعل هذا، ولم يفعل ذاك أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يؤنب خادمه على عدم فعله لأمر فضلاً عن أن يعاقبه. بعض العلماء يبتلى بأن يكون له بعض الأولاد سيئي الأخلاق، فيقال له: يا أخي! أنت عالم وفاضل وهذا ولدك كذا لماذا لم تؤدبه؟ قال: لا أفسد أخلاقي بإصلاح أخلاق غيري. قلت: إن هذا فيه تقصير؛ ولكن إلى هذا الحد بلغ به الخوف من أن تفسد أخلاقه؛ لأنه لو أخذ يعنف ويصيح ويعمل، فهذه صورة قد يأباها بعض الناس، ويكون بذلك يفسد أخلاقه من أجل أن يصلح غيره. الذي يهمنا بأن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم عظيمة من قبل البعثة؛ لأنه كان في عهدة ربه، يتعهده من قبل أن يولد، وصانه من السفاح وو، ولما كان رضيعاً شُق صدره، وأُخذ حظ الشيطان منه، إلى آخره. ولما رضي زيد واختار جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته رأى النبي أن يكافئه على ذلك كما جاء في الحديث: (فأخذه وطاف به حول الكعبة، وقال: أشهدكم يا معشر قريش! أن زيداً ابني) يعني: زيد ابنه بالتبني، وكان التبني قاعدة معروفة عند العرب، من تبنى أحداً كان بمثابة ولده لصلبه، يرث عنه ويرثه ويعقل عنه، كأنه واحد منهم وكفى. وعلى هذا فإذا تزوج الابن بالتبني من امرأة صارت حليلته، وحليلة الولد لا تُنكح، فأراد الله أن يبطل التبني، ويبطل حرمة زوجة الابن على جهة التبني؛ ولكن ذلك كان درساً شديداً، فقد أبطل الله هذا التبني في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيمن تبناه، وفي ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فيأتي رسول الله ويخطب زينب لـ زيد بن الحارثة، فنريد أن نبين في معرض هذه القصة أن المؤمنين يسلبون الخيرة من أمرهم. لكن وهذه القضية ليست عادية، فليس الأمر متعلقاً بثوب يلبسه ويخلعه، أو طعام يأكله وينتهي منه، أو بيت يسكنه ويخرج منه، لا. بل هي قضية لها أبعاد بعيدة جداً في ذلك المجتمع: فـ زينب القرشية تعد في الذروة من حيث النسب، وزيد -مهما كان أصله- قد جرى عليه الرق، فهل هناك تقارب وتكافؤ في النسب بين زيد وزينب؟ ليس هناك تقارب إلا في حرف الزاي والياء فقط؛ لكن من ناحية النسب فهما بعيدين جداً. فـ زيد جرى عليه رق، وزينب في القمة من النسب. فكيف تواجه زينب المجتمع؟! كيف ترضى أن تتزوج برجل جرى عليه رق وهي في القمة من قريش؟! فهذه زيجة وعشرة وفراش ومعاشرة، فماذا سيقول الناس؟! وقد أجبرت على الزواج بشخص لا رغبة لها فيه، فـ زينب كانت تواجه المشكلة من جانبين: · جانب مواجهة المجتمع للفارق البعيد بينهما، إذ ليس هناك تكافؤ بينهما. · وزينب تواجه أيضاً إباء في شخصيتها، أن تكون فراشاً لمولىً سبق عليه الرق، وأخوها يأبى ذلك. ولكن ينزل قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] . إذاً: الخيرة لمن؟ لله سبحانه وتعالى. أليس الخلق كلهم عبيداً لله؟! هل يُمنع الخالق من أن يتصرف في خلقه؟! إذاً: من حق المولى سبحانه أن يحكم بما يريد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] . إذاً: حكم الله مقدم على رغبات الناس، وعلى اختياراتهم، ولذا جاء الحديث: (والله! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) هواه ورغباته تكون تبعاً لما جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، لا أن تكون السنة والكتاب تبعاً لأهواء الناس، وكل يجرها إلى حيث شاء، بل الأهواء

الأسئلة

الأسئلة

الدعوة ببصيرة وحكمة من النصيحة لدين الله

الدعوة ببصيرة وحكمة من النصيحة لدين الله Q هل من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله: الدعوة إلى الله بالحكمة؟ A أشرنا بأن من النصيحة لله: أن تحبب الله إلى الخلق، ويصبح العبد يحب ربه أكثر مما يخافه. والنصيحة لكتاب الله: أن تتعلم القرآن وتعلمه غيرك. والنصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون موقفك من السنة كموقفك من كتاب الله. أما كون الدعوة إلى الله نصحاً لله بأسلوب ما، فهذا محله: (ولأئمة المسلمين وعامتهم) ؛ ولكن فعلاً الدعوة إلى الله بما أمر الله: نصيحةٌ لله. الله سبحانه وتعالى جعل للدعوة إليه قواعد وإطارات: · أولاً: يجب أن يكون الداعية قبل أن يتعرض للدعوة عالماً بما يأمر وبما ينهى. · وأن يكون حكيماً في أسلوب أمره وفي أسلوب نهيه، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] والبصيرة: العلم، وكما يقول البخاري: (بابُ: العلم قبل العمل) ؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] . · وبعد البصيرة ورؤية الأمور وتوقع نتائج الأمر والنهي: أنه لا يأتي بأشد من الموجود، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] ، فتبصرت أولاً وعرفت، فجئت للتنفيذ العملي: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ} [النحل:125] لم يقل: (والموعظة) فقط، وإنما {الْحَسَنَةِ} [النحل:125] . إذاً: يفهم من ذلك الموعظة قد تكون حسنة، وقد تكون غير حسنة. وهذا الذي سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ، وإن أدى الأمر إلى جدال أو نقاش: فـ {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] . وسيأتي زيادةُ تنبيه عليه إن شاء الله. وبالله تعالى التوفيق.

الحديث الثامن [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1]

شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس.

شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... )

مشروعية الجهاد والدعوة

مشروعية الجهاد والدعوة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه في الدارين آمين: [عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى) رواه البخاري ومسلم] . هذا الحديث الذي اختاره الإمام النووي رحمه الله ضمن هذه الأربعين الحديث المختارة، يبين فيه صلى الله عليه وسلم حقيقة القتال في سبيل الله مع بيان حرمة المسلم وبما يعصم الإنسان دمه وماله. فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأنفسهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) . في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه أُمر، ومن الآمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس أحد من الخلق له حق توجيه الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الآمر لرسول الله هو رب العالمين، وهناك في علم الحديث حينما يقول الصحابي: أُمرنا بكذا، قالوا: إن له حكم الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يتأتى أن يأمر صحابي صاحبياً آخر لمساواتهم في الصحبة، فيكون الآمر للصحابي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا إذا قال صلى الله عليه وسلم بنفسه: (أمرت) فلا يكون الآمر لرسول الله إلا رب العالمين. فبماذا أمر صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أمرت أن أقاتل الناس) ، وإذا كان الأمر موجهاً من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كان مقتضى ذلك الوجوب، وليس عندنا في هذا المقام صارف يصرفه عن ذلك الحكم. وبأي شيء أقاتل؟ المقاتلة: مفاعلة، وتكون دائماً بين طرفين، والمقاتلة هنا: أسندها صلى الله عليه وسلم لنفسه (أن أقاتل) ، وهل يقاتل وحده صلى الله عليه وسلم، أم أن أصحابه أمروا بقتال من أُمر صلى الله عليه وسلم بقتاله؟ هذا الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام، وأمته داخلون معه فيه. وقد بيّن الله سبحانه وتعالى في الجملة موقف أصحابه رضي الله تعالى عنهم: فمن جانب المهاجرين يقول الله سبحانه وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] . ثم بيّن موقف الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} [الحشر:9-10] ، فهذا هو سبيل المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أقسام الناس مع الجهاد

أقسام الناس مع الجهاد إنما سمي الجهاد جهاداً لبذل الإنسان جهده وهو أقصى طاقته في قتال العدو، والنص الصريح هنا (أمرت أن أقاتل الناس) الناس: عامة، وكما يقولون: ناس ينوس إذا تحرك أو صوّت، وتشمل جميع الطوائف من غير المسلمين، فتشمل اليهود والنصارى وأصحاب الأوثان والصابئين وغير ذلك، ولكن جاءت النصوص الأخرى وخصت هذا العموم فأخرجت منه أهل الكتاب؛ لأنه يكتفى منهم بالجزية، فإما أن يسلموا، أو يؤتوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإما أن يقاتلوا. أما بقية الناس من المشركين ومن لا كتاب لهم فإنهم ليس لهم إلا أحد أمرين: إما الإسلام، وإما القتال. ويختلفون في بعض الطوائف كالمجوس وغيرهم، هل يُلحقون بأهل الكتاب لقوله عليه الصلاة والسلام: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ؟ وهل ذلك يشمل الجزية؟ والذي يهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه أُمر بقتال الناس، واستثنى منهم الشيخ والمرأة والطفل، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا غزى أو جهز جيشاً أو بعث سرية، قال: (لا تقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً هرماً) أي: ما اجتنبوا القتال، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم، وقد جاء أيضاً: (ستجدون أقواماً عكفوا في صوامعهم فدعوهم وما اعتكفوا عليه) . إذاًَ: (أمرت أن أقاتل الناس) عام وخصص منه أهل الكتاب، ثم الذين يقاتَلون والباقي بعد التخصيص أفراد منهم وطوائف لا تقاتل إلا إذا شاركوا في القتال، فالمرأة لا تقتل إلا إذا شاركت في القتال، والطفل لا يقتل، والشيخ الكبير لا يقتل إلا إذا شارك برأي أو بفكر أو بتخطيط أو مكيدة أو غير ذلك.

عصمة الدم بالنطق بالشهادتين

عصمة الدم بالنطق بالشهادتين قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يشهدوا) يتفق علماء اللسان على أن حتى: حرف غاية، وأن ما بعدها يغاير ما قبلها (أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) فإذا شهدوا هل يستمر القتال، أم يتوقف؟ يتوقف، إذاً: (أقاتل) حتى يأتي ما بعد حتى، وهو: أن يشهدوا، والشهادة من المشاهدة، كما قال سبحانه {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ} [الطلاق:2] والشاهد سمي شاهداً: لأنه يشاهد ويعاين الحادثة التي يشهد عليها، سواءً كان برؤية أو بسماع، ومن هنا قال سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] أي: دخل عليه الشهر وهو حاضر، سواءً كان شهده بعينه، أو شُهد وأُخبر فسمع وعلم بدخول الشهر. والشهادة بأن لا إله إلا الله يقر بمعناها، وينطق بمبناها، وتقدم في حديث جبريل عليه السلام حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: (أخبرني عن الإسلام ... ) وذكر له أول ما ذكر: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) . ونلاحظ هنا في الحديث: (أن يشهدوا) ولم يقل: أن يقروا، فقد يقر الإنسان بشيء لم يشهده، فالشهادة أخص وآكد من الإقرار، ومن هنا كان قول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، كأنه يقر بأمر مشهود محسوس عنده بيقين، ولذا أجمع العلماء على أن العقائد لا يكفي فيها غلبة الظن كما هو في أمور العبادات والمعاملات، بل لا بد أن تكون على يقين وقطع جازم. وهنا يبحث علماء الكلام: هل يكفي في إثبات العقائد أحاديث الآحاد وهي ظنية الدلالة، أو لا يدخل في باب العقائد إلا قطعي الدلالة من نص آية أو حديث متواتر؟ تجدون في كتب الأصول الخلاف في هذا، ومما بينه أو سجله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في مبحث نسخ الكتاب بالسنة هل وقع أو لم يقع؟ وجائز عقلاً ولم يقع شرعاً إلى غير ذلك، نص على أنه بناءً على أن الحديث وإن كان آحاداً إذا صح سنده، ثبتت به أمور العقائد، ولهذا كثير من الأسماء والصفات إنما جاءت بأخبار الآحاد، وتلقاها المسلمون بالقبول، والسنة وحي كما قال تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] . قال: (يشهدوا أن لا إله إلا الله) فالعقيدة لابد فيها من جزم، ولابد فيها من قطع، كما تقر بمشاهد محسوس تراه بعينك أو تسمعه بأذنك أو تلمسه بيدك.

معنى شهادة أن لا إله إلا الله

معنى شهادة أن لا إله إلا الله وقد جرى الاتفاق على أن شهادة أن لا إله إلا الله تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: نفي. والقسم الثاني: إثبات، فـ (لا إله) نفي لجميع الآلهة، والإله بمعنى: المألوه، والمألوه: المتعلق به المحبوب، ومنه: الوله، ومنه: الولهان شديد الحب لما يحبه، والعبد متعلق بربه ولهان به، يجأر إليه ويلجأ إليه في كل أموره، ولهذا قالوا: إن القسم الأول نفي لكل مألوه أياً كان نوعه مما تألهه الخلق في جاهلية وغيرها من حجر أو شجر أو ملك أو فلك أو أي شيء، (لا إله) نفي لجميع المألوهين، و (إلا الله) إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى، فلا يؤله ولا يرجى ولا يحب ولا يرغب إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن في قولك: (لا إله إلا الله) إثبات إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية وهو غاية التوحيد. والقسم الثاني من الشهادة: (وأن محمداً رسول الله) هنا في الشهادة كما قلنا: لابد أن ينطق بها قولاً، ويعتقدها قلباً، ويعمل بمقتضاها، فإذا قال: (لا إله إلا الله) بلسانه واعتقدها بقلبه ثم ناقض ذلك بفعله يكون فعله ناقضاً لقوله، فإذا قالها وتأله وعبد غير الله فلا ينفعه ذلك، وقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل حصيناً والد عمران بن الحصين فقال: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحداً في السماء، قال: من الذي تلجأ إليه عند الشدة، وتسأله عند الحاجة؟ قال: الذي في السماء) فهل هذا يكفي ليكون موحداً؟ لا، بل لابد أن ينفي جميع الآلهة.

الاعتقاد بالشهادتين لا يكفي دون النطق بهما

الاعتقاد بالشهادتين لا يكفي دون النطق بهما وهنا ترد مسألة: هل الاعتقاد بالقلب يكفي عن النطق؟ فمثلاً: لو أن إنساناً يعتقد في قلبه أنه لا إله بحق أو لا معبود بحق إلا الله، فهل يكفي ذلك ليكون مسلماً؟ الاتفاق بأن ذلك لا يكفي. ودليل ذلك أن عم النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده يقين في قلبه بصدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام لكن هذا اليقين الذي لم يتبعه الشهادة على ذلك باللسان والعمل لم ينفعه عند الله، ونجد هذا في قول عمه أبي طالب: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً إذاً: الاعتقاد موجود، ولكن بقيت الكلمة -الشهادة- لكنه لم يقلها. إذاً: مجرد الاعتقاد لا يكفي، والذين يقولون: الإيمان اعتقاد بالقلب وحسب، ويرد عليهم بهذا الحديث، وبهذه المحادثة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عمه، ولهذا أجمع علماء أهل السنة على أن: الإيمان قول واعتقاد وعمل، وبعضهم يقول: الإسلام: وهو العمل الظاهر، فالنطق بالشهادتين أقرب إلى مسمى الإسلام؛ لأنه استسلام، ولذا كان المنافقون في عداد المسلمين بقولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكانوا مع الكفار باعتقادهم الداخلي. إذاً: لابد من هذا النطق بـ (لا إله إلا الله) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأن محمداً رسول الله) لماذا لم يقل: (وأني رسول الله) جاء في بعض الروايات عن أبي هريرة: (وأني رسول الله) ، ولكن هنا في هذا الحديث: (وأن محمداً) فهل يتكلم عن شخص آخر، أم عن شخصيته صلى الله عليه وسلم؟ لكأنه يجرد من نفسه نفسه، ومن شخصه شخصه، هو الرسول محمد الذي أرسل، ويبعد حظ نفسه من ذلك؛ لأنه مبلغ عن الله، وهو بنفسه صلى الله عليه وسلم قد أعلن عن إيمانه بأنه في ذاته رسول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285] . إذاً: هو يعلن عن إيمانه برسالته وبوحي الله الذي أنزل عليه، وبهذه المناسبة ومثالها في باب التجريد -كما يقولون-: لما جاءت المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده ثم سرقته، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فعز على الناس أن امرأة مخزومية من بني مخزوم -من علية القوم- تقطع يدها في إناء سرقته، قالوا: من يكلم فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ويحك يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) لم يقل فاطمة بنتي، فيكون الموضوع شخصياً يخصه صلى الله عليه وسلم، بل الأمر والقضية هي أنه مبلغ شرع، قال: (لو أن فاطمة بنت محمد) ومن هو محمد هذا؟ جاء في القرآن: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ، فالقرآن يسجل بأن محمداً هو الذي أرسله الله ليبلغ الرسالة للناس، فمحمد هذا يبلغ وينفذ الأحكام ولو على فاطمة، ولم يقل: فاطمة بنتي، بل قال: لو أن فاطمة بنت محمد، وأنتم تعلمون من محمد. وهنا يقول: (وأن يشهدوا أن محمداً رسول الله) صلى الله عليه وسلم. ثم قال: (ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) لم يقل: (ويؤدوا الصلاة) بل قال: (يقيموا) لأن الإقامة من القيام، والقيام فيه عزيمة، وفيه ملازمة ومصابرة وقوة، ومنه قوامة الرجال على النساء، ومنه القوم تطلق على الرجال ولا تطلق على النساء، لوجود القوة والقوامة والإصلاح.

الحديث الثامن [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [2]

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس.

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... )

عصمة الدم بإقامة الصلاة

عصمة الدم بإقامة الصلاة بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: إقامة الصلاة: هو أداؤها والحفاظ عليها بجميع شروطها في أوقاتها بصفة جماعية، تقول: قامت السوق على ساقها، إذا كانت السوق نشيطة، والحركة فيها دائمة وقوية، وهكذا: (يقيموا الصلاة) أي: يؤدونها ويحافظون عليها بكل لوازمها. (ويؤتوا الزكاة) الصلاة كما قالوا: حق البدن، وهي محض عبادة لله، وأمرها تعبدي توقيفي، وليس لأحد في باب الصلاة اجتهاد، ولا يدخل في أمر الصلاة قياس ولا اجتهاد، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الصلاة كما تلقاها عن جبريل عليها السلام؛ لأنه ثبت في ليلة الإسراء والمعراج أنه لما جاء صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ظهر يومها، جاء جبريل عليه السلام وصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في أول وقتها، ثم نزل فصلى العصر في أول وقتها وهكذا الأوقات كلها، فعلمه كيف يركع، وكيف يسجد، وكيف يفعل بقية أفعال الصلاة حتى تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي اليوم الثاني نزل جبريل عليه السلام في آخر وقت كل صلاة إلا المغرب حيث نزل من الغد في الوقت الذي نزل فيه بالأمس، ثم قال: (يا محمد! ما بين هذين الوقتين وقت) ، وهكذا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إذا جاءه أعرابي ونادى: (يا رسول الله كيف الصلاة؟ قال: صل معنا، فصلى الأعرابي معهم أول يوم، فصلاها صلى الله عليه وسلم في أوائل أوقاتها، وصلى بهم في اليوم الثاني في آخر وقت كل صلاة إلا المغرب صلاها في اليومين في الوقت الأول، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: ما بين هذين وقت) .

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الصلاة

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الصلاة أما الكيفية في ذاتها وأدائها: (فقد صعد صلى الله عليه وسلم منبر مسجده في المدينة واستقبل القبلة وكبّر وقرأ وركع، ثم رفع من الركوع، ثم نزل القهقرى من المنبر -وكان ثلاث درجات- وسجد عند آخر درجة من درجات المنبر التي هي الأولى ورفع من السجود وجلس بين السجدتين، ثم سجد الثانية، ثم قام للركعة الثانية وصعد المنبر مستقبلاً القبلة وركع ثم رفع من الركوع، ثم نزل القهقرى ولم يستدبر القبلة محافظاً على استقبال القبلة حتى نزل إلى الأرض وسجد السجدتين، ثم تشهد وسلم، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي) . والسنة مليئة بأحاديث تعليم الصلاة من أول النداء إليها إلى السلام منها وتوابعها: من تسبيح وتحميد وتعليم للفرائض والنوافل، كل ذلك مبين موضح في كتب الحديث وفي كتب السنة. (وإقام الصلاة) المقصود هنا الفريضة. وقد جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء من قبل نجد وقال: (يا رسول الله! ما افترض الله علي من الصلوات؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، قال: ما افترض الله علي من الصيام؟ قال: شهر رمضان، قال: هل علي غيره، -إلى آخره- ثم قال: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فلما أدبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق) . وجاء الحديث الآخر يبين معنى إقامة الصلاة عندما قال عليه الصلاة والسلام: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، من حفظها وحافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحفظها ولم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد) إلى آخر الحديث. إذاً (إقام الصلاة) أداؤها بالحفاظ على كل شروطها ومستلزماتها وأداؤها في الجماعات، ولهذا عبّر صلى الله عليه وسلم بإقام الصلاة بدلاً من أداء الصلاة، أما حكم القتال عليها فسيأتي بعد إن شاء الله.

عصمة الدم بإيتاء الزكاة

عصمة الدم بإيتاء الزكاة (ويؤتوا الزكاة) ، الزكاة هي فريضة المال، والأموال الزكوية في الجملة تحت عنوان واحد: الأموال النامية. إذاً: الأموال الجامدة الصامتة التي لا نماء لها فلا زكاة فيها، وهذا في الجملة. ما هي الأموال النامية؟ جرى الاتفاق على أن بهيمة الأنعام، وما يحصد من الزروع والثمرة، والذهب والفضة أنها أموال نامية ففيها الزكاة. وبقي أنواع من الزروع اختلفوا فيها، كما اختلفوا في بعض الحيوانات فمن الأنواع النامية الموجودة: ما كان نماؤها مؤقت، مثل: الخضروات، فالأصل أنها نامية، ولكن ليست دائمة، ولهذا يتفقون على أن الزكاة في الحبوب الموسقة -من الوسق- والمقتاتة التي تقتنى، والخضروات لا تقتنى، فلو مضى عليها أربع وعشرون ساعة لذبلت وتلفت، والزكاة في قيمتها. فاتفق على أصول الأموال الزكوية النامية من بهيمة الأنعام ومن الحرث والثمار المقتاتة والنقدين وما يتصرف منهما، وللزكاة فروع ولها تفصيلات أخرى فيما يتعلق بالركاز والمعادن وما شابه ذلك، وكذلك في العسل وفيما يؤخذ من البحر إلى غير ذلك، وهذه كلها فرعية في هذا الباب.

لمن تؤدى الزكاة؟

لمن تؤدى الزكاة؟ قال: (ويؤتوا الزكاة) يؤتونها لمن؟ أيؤتونها للإمام، أم يؤتونها للمستحقين؟ جاء في قصة أبي بكر مع عمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين حينما امتنع قوم عن أداء الزكاة، وقالوا: لا نؤديها لـ أبي بكر فقد كنا نؤديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدعو لنا ويصلي علينا، والله تعالى قال لرسوله ولم يقل لـ أبي بكر: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] والرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى، وجاء غيره وهو ليس مثله فلا نعطيها لأحد بعده، فمنهم من جحدها بالكلية، ومنهم من امتنع عن أدائها، ومنهم من كان يؤديها بنفسه ولا يسلمها إلى الخليفة، وسيأتي تفصيل ذلك.

على أي شيء يعود اسم الإشارة في قوله: (فإن فعلوا ذلك)

على أي شيء يعود اسم الإشارة في قوله: (فإن فعلوا ذلك) قال: (فإذا فعلوا ذلك) هنا ناحية لغوية ينبه عليها علماء الحديث في أن: السياق يأتي في مقتضى صورة الشرط وجزائه (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا فإن فعلوا ذلك) ، ولكن جيء بـ (إذا) وهي لما يستقبل فقالوا: (إن) من باب التفاؤل، والحرص، والشفقة على الناس، قال: (فإذا فعلوا ذلك) أي: قبل القتال أو بعد القتال أو عند القتال، و (ذلك) : اسم إشارة للبعيد، يقول أهل اللغة: ذلك وذا وهذا كلها أسماء إشارة، ذا: للقريب جداً، هذا: للمتوسط، ذلك: للبعيد جداً، فقالوا: (إذا فعلوا ذلك) قد يكون المشار إليه حسياً في البعد والقرب والتوسط، وقد يكون المشار إليه معنوياً، وتستعمل (ذلك) للإشارة للبعيد لعلو مكانته وبعد منزلته، كما جاء في قوله سبحانه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1-2] مع أن (الم) جزء من الكتاب، فهو قريب جداً تنطق به، ولكن جاء لفظ الإشارة للبعيد لبعد المنزلة وعظم قدر القرآن الكريم. فقوله: (فإذا فعلوا ذلك) اسم الإشارة (ذلك) راجعة على ماذا؟ على كل ما تقدم (حتى يشهدوا، وحتى يقيموا، وحتى يؤتوا) فمجموع ذلك إذا فعلوه (عصموا مني) وعصموا بمعنى: حفظوا، والعصمة الحفظ، والعصمة من الخطأ، والعصمة من القتل. فإذاً: (عصموا) أي: حفظوا وصانوا وامتنع علي منهم دماؤهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، (عصموا مني) : منه وحده، أو من جميع المسلمين، أو من المقاتلين؟ لأن الأمر يرجع إليه هو صلى الله عليه وسلم، فمن قُتل قتل بأمره، ومن عُصم عصم بأمره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يوجه السرايا ويتوجه بنفسه بالجيوش، أو يكفها ويوقفها ويمنعها، بصفته المسئول عن الأمة والمتكلم باسمها صلى الله عليه وسلم وهو المأمور بذلك.

الأصناف التي تستثنى من العصمة بالإسلام

الأصناف التي تستثنى من العصمة بالإسلام قال: (عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام) ، وما هو حق الإسلام الذي يفك العصمة ويرفعها عن الدماء والأنفس؟ قالوا: ترفع العصمة عن ثلاثة: قاتل النفس غير معصوم الدم؛ لأن فيه القصاص، والمرتد عن دينه عياذاً بالله غير معصوم النفس، والثيب الزاني لأنه يرجم، عصمت الدماء جميعاً إلا بواحدة من تلك الثلاث: الثيب الزاني؛ لأنه يرجم، وقاتل النفس؛ لأنه يقتل قصاصاً، والمرتد عن دينه المفارق للجماعة، وحق الإسلام في هذه الثلاث. قال: (وحسابهم على الله) أقبل وأكف وأعصم الدماء والأموال بتلك الأمور الظاهرة، والتي هي نطق يسمع، وصلاة تشاهد، وزكاة تدفع، فهذه كلها أمور ظاهرية ظاهرة واضحة والكل يشهدها. (حسابهم على الله) في أي شيء؟ في نطقهم بالشهادتين، أكانت عن يقين واعتقاد واستسلام، أم عن نفاق، فهذا حسابه على الله، ولذلك فإن أسامة بن زيد حينما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله وقال: (إنما قالها خشية السيف أو تحت السيف، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: أشققت عن قلبه) . إذاً: أنت لست مسئولاً عما يكنه في داخله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] هذا أمر معاملة بينهم وبين الله لا تقوى أنت على تصفيتها، كالذي يأتي المسجد ليصلي، هل كانت صلاته حقيقة خالصة لله، أو جاء لشيء؟ صلى وصام لشيء كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صام إذاً: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . عندما يدفع المزكي زكاته هل يدفعها على أنها مغرم ويسلمها ليسلم، أو يدفعها معتقداً بأن الله سيخلفها عليه، وأنه يقرض الله قرضاً حسناً؟ مرد كل ذلك إلى الله. وهنا يقف كثير من العلماء -وهو محل وقوف حقاً- فيقولون: إن ولي أمر المسلمين له ظواهر أحوالهم، ولا يحق لأحد أن ينقب ليكشف عما يبطنون أو يخفون، وليكل أمرهم إلى الله، ولذا كان معاوية رضي الله تعالى عنه يقول: من تتبع أحوال الأمة أفسدها. ولذا نقول لأولئك الإخوة الذين يتتبعون عثرات الناس، وهفواتهم ليكشفوها: احذروا أن يكشف الله الستر عنكم، وقد جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن رجل يفعل منكراً: ماذا يصنع معه؟ قال: عظه ومره بالمعروف، وانهه عن المنكر، فإذا لم يمتثل لا ترفع أمره للسلطان لتستعديه عليه.

علة عدم ذكر الصوم والحج في الحديث مع أنهما من أركان الدين

علة عدم ذكر الصوم والحج في الحديث مع أنهما من أركان الدين وهنا مسألة يجب أن نتوقف عندها: ذكر صلى الله عليه وسلم أنهم إن شهدوا الشهادتين وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، عصموا الحديث، لماذا لم يذكر بقية أركان الإسلام والتي هي الصوم والحج؟ إن جميع شراح الحديث وخاصة أصحاب الأربعين يقولون: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الصوم ولم يذكر الحج لاحتمال أن يكون هذا الحديث قبل مشروعية الصوم، وقبل مشروعية الحج، والآخرون يقولون: هو إنما ذكر الأصلين لقسمي التكليف؛ لأن العبادات إما بدنية محضة وهي الصلاة والصوم، وإما مالية محضة وهي الزكاة، وإما تجمع بينهما كما في الحج والجهاد، فاكتفى صلى الله عليه وسلم بذكر الصلاة ويتبعها الصيام؛ لأنه عبادة بدنية، وذكر الزكاة ويتبعها الحج؛ لأن فيه عنصر المال، وهذه خلاصة أقوال شراح الحديث. وهنا قول ثالث: إن الحديث جاء بأن أمر أن يقاتل الناس جميعاً حتى يعلنوا ما يمكن إعلانه، أما ما خفي فحسابهم على الله، والذي يمكن أن يظهر ويعلن ويشهد عليه: هو ما نص عليه في الحديث بأن يشهدوا فنسمع، ويصلوا فنشاهد، ويؤتوا فنقبض، أما الصوم فأمر خفي وأما الحج فعلى من استطاع إليه سبيلاً، والاستطاعة أمر خفي، فلذا نقول -والله تعالى أعلم-: لم يذكر صلى الله عليه وسلم الصوم؛ لأنه أمر خفي، وجاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي) لا من أجلكم أنتم، فلا يستطيع أحد أن يقول: نقاتل فلاناً؛ لأنه لم يصم، إلا إذا رأيناه يأكل بأعيننا، هذا شيء آخر، لكن بدون أن نراه يأكل أنستطيع أن نقاتله بدعوى أنه صائم، أو غير صائم؟ كما لا نستطيع، لا نستطيع أن نقاتل إنساناً لأنه لم يحج؛ لأن الحج مبناه على الاستطاعة، وقال صلى الله عليه وسلم في الاستطاعة (الزاد والراحلة) ونحن لا ندري حاله فيهما. والخلاصة أن الأقرب في عدم التنصيص على الصوم وعلى الحج؛ لأن الصوم والحج عملان خفيان لا يطلع عليهما إلا الله عز وجل وليسا بظاهرين. ويقول بعض العلماء المتأخرين: نحن نكتفي من الناس بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فنحكم بالإسلام، فإذا التزموا بلا إله إلا الله محمد رسول الله حكمنا بإسلامهم، ومن ثم نطالبهم بالصلاة، ونطالبهم بالزكاة، ونكلفهم بالصوم، وبكل أركان الإسلام؛ لأنه إذا نطق بالشهادتين فمعنى ذلك أنه نفى كل الآلهة إلا الله واعترف بالله وحده، فإذا عبد غير الله ناقض شهادته، وناقض التزامه، وإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، وعبد الله بغير ما جاء به محمد الرسول، فيكون بذلك قد رفض شيئاً مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنه رد شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، والله يقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] قالوا: إذا نطق بالشهادتين حكمنا بإسلامه، ثم بعد ذلك نطالبه ببقية أركان الإسلام، فإن امتثل وأطاع وإلا اعتبرناه مرتداً وقتلناه، وليس قاتلناه، فإن لم قد تعلم بعد، نعلمه حتى يتعلم أركان الإسلام، ولهذا قالوا: أركان الإسلام وتعاليم الإسلام إذا قصر فيها حديث عهد بالإسلام سواء كان في الجاهلية أو اليوم نعذره ونمهله حتى يتعلمها وحتى نبينها له، فإذا التزم بها فبها ونعمت، وإلا كان مصيره آخر. إذاً: عدم ذكر الصوم، وعدم ذكر الحج لا لأنهما غير مشروعين بل لما قد علمتم، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه يروي هذا الحديث وإنما أسلم في العام السابع من الهجرة، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، ومشروعية القتال والجهاد كانت موجودة قبل ذلك. والصوم شرع في السنة الثانية من الهجرة في شعبان، إذاً: كان الصوم مشروعاً من قبل، وكذلك الزكاة في السنة الثالثة، إذاً: الصيام والزكاة كانا مشروعين فلا يقول إنسان: كان الحديث قبل مشروعية الصيام، ولكن الأولى أن يقال: إنه إذا التزم بالصلاة والتزم بالزكاة فحينئذ يكون الأمر على هذا، ويُلحق به البقية كما يقول البعض، ويستشهدون بحديث معاذ رضي الله تعالى عنه لما أرسله النبي إلى اليمن وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ولم يذكر صوماً ولا حجاً، ومعاذ إنما ذهب إلى اليمن في أخريات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: ترك ذكر الصيام الحج إما لأنه أمر خفي، وإما لأن الأمر يأتي بالتدرج، فإذا التزم بالصلاة وهي عبادة بدنية أُلحق بها الصيام وهو كذلك عبادة بدنية. والكلام عن الحديث بصفة عامة يرجع إلى حقيقة القتال، وعلى ما يكون القتال؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول هنا: (أمرت) فما دلالة الأمر هنا؟ وهل الحكم في ذلك يشمل من يأتي بعده؟ ثم يمكن أخذ موقف الصديق رضي الله تعالى عنه شاهداً على ذلك، مع بيان من الذين قاتلهم الصديق؟ وعلى أي شيء؟ ثم حكم الجهاد على الأمة أهو فرض عين، أم فرض كفائي؟ ومتى يسقط الجهاد عن الأفراد؟ ومتى يتعين؟ وعلى أي شيء يكون؟ وأحكام الحهاد وآدابه، وثمرة الجهاد وثوابه، وكل هذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

الحديث الثامن [3]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [3]

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس.

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... ) بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فلا زلنا عند حديث النبي: (أمرت أن أقاتل ... ) . والكلام على هذا الحديث من عدة جوانب:

هل الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت) خاص به أم أن الولاة داخلون فيه؟

هل الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت) خاص به أم أن الولاة داخلون فيه؟ أولاً: في قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس) ، في هذه الجزئية يتكلم بعض الناس بأن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس لمن جاء بعده أن يقاتل الناس، وأجيب عن هذا الادعاء بأنه باطل؛ لأن الله سبحانه قد يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المقصود في هذا الخطاب أحد ثلاثة أمور: فإما أن يكون الخطاب موجهاً للنبي عليه الصلاة والسلام ولا يراد به إلا شخصه فقط. وإما أن يراد به النبي عليه الصلاة والسلام والأمة داخلة معه في ذلك الخطاب. وإما أن يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام ويراد به أمته وحدها والنبي غير داخل في ذلك الخطاب. فمن خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي اختص به لا يشاركه فيه أحد: ما جاء في أمر الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ، فليس لأحد من الأمة أن يطأ امرأة بمجرد أن تهب نفسها له؛ لأن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو ولي من لا ولي له. والخطاب الذي خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام والمقصود به أمته وهو غير داخل فيه ما جاء في حق الأبوين: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23] ولم يقل: (ربكم) قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، العبادة عامة للجميع {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] ، بعد عبادة الله قال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ} [الإسراء:23] لم يقل: (عندكم) {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] لم يقل: (فلا تقولوا لهما أف) {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] ، وهناك الآية الأخرى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] ، أين كان أبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية؟ هل يمكن لرسول الله أن يصاحب أبويه في الدنيا معروفاً؟ لقد مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن سبع سنوات، فأين يصاحبهما في الدنيا معروفاً؟! فلا يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت هذا الخطاب أبداً، ولكن خوطبت الأمة في شخصية رسول الله عليه الصلاة والسلام تعظيماً لهذا الحق؛ لأن الأبوين هما صاحبا الحق الثاني على الإنسان بعد الله، فخوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحق والمراد به الأمة. ويأتي الخطاب الخاص به أو الموجه إليه والمراد به الأمة بكاملها كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] ، قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ) هل هذا خاص به، أو عام للأمة؟ عام للأمة، ولهذا جاء في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] ، خطاب خاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، ثم يأتي: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ، قال: لكم ولم يقل: لك، فهنا الخطاب موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بيّن بأن الأمة كلها داخلة معه صلى الله عليه وسلم. إذاً: (أمرت أن أقاتل الناس) وكل من يأتي بعده ويلي أمر المسلمين يقوم بهذا الأمر ويكون الأمر موجه إليه. نظير هذا الخطاب قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، فهم بعض الناس الجهال الذين كانوا، حدثاء عهد بالإسلام بأن الزكاة إنما تدفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط؛ لأن الله قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] ولم يقل: (خذوا) وقال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] ، وسيأتي زيادة تنبيه على هذه الجزئية عند قوله: (وآتوا الزكاة) .

جهاد الطلب وجهاد الدفع

جهاد الطلب وجهاد الدفع إذا كان كل من جاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين، وولاة أمور الأمة الإسلامية مخاطبون بذلك، ومأمورون به، فما هو حكم قتال الكفار؟ ما حكم قتال الناس حتى يشهدوا شهادة الحق ويؤدوا ما عليهم من واجبات الإسلام؟ نجد الأمة مجمعة في القرون الأولى على وجوب مقاتلتهم، إلى أن اختلط المسلمون بغيرهم، وجاءت المدارس الغربية والشرقية، ونشأت أفكار جديدة باسم المقاربة بين المسلمين والمشركين، أو الكفار أو الكتابيين، ونادى بعض المتأخرين: بأن النصرانية انتشرت بالأخوة والتراحم والتعاطف، أما أنتم أيها المسلمون فنشرتم الإسلام بالسيف، فقام من هو مخدوع أو مخادع وقال: نحن كذلك، ليس عندنا سيف إلا دفاعاً عن النفس، ونشأت الفكرة الضالة، وأصبحت المعركة بين القديم والجديد: ما غاية الجهاد وقتال الناس؟ أهو الدفع عن الحوزة، والدفع عن البيضة، والدفع عن الإسلام والمسلمين، أم هو: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا ... ) الحديث؟ فالمدرسة الجديدة تقول: إن كفوا كُفوا عنهم، شهدوا أو لم يشهدوا، صلوا أو لم يصلوا، زكوا أو لم يزكوا، ولا دخل لكم بهم، وقام الجدل وكتبت الكتب، ومن يقرأ في هذا الباب لبعض الكتاب في حدود المائة سنة الماضية، أو السبعين سنة، أو أقل -بل إن بعض الكتاب قد يكون معاصراً إلى عشرات السنين- يرى هذا المنهج الفكري واضحاً.

أدلة القائلين بأن الجهاد لم يشرع إلا للدفع

أدلة القائلين بأن الجهاد لم يشرع إلا للدفع ونشأت هذه الأفكار أول ما نشأت وبقوة في الهند، ثم انتقلت إلى المسلمين في عقر دارهم، حتى الذي يقرأ تاريخ الطوائف الجديدة وبالأخص القاديانية: أنهم حرّجوا على المسلمين قتال المستعمر، وينادون بالسمع والطاعة، وألا قتال بعد ذلك، وفي بعض البلاد في أفريقيا يتركون دراسة باب الجهاد في الفقه ويقولون: لم يبق قتال لماذا؟ قالوا: ما بقي جهاد! ما شبهة هؤلاء؟ شبهة أولئك حدثت أولاً: غزو فكري إلى المسلمين فوجدت طائفة تقارب بين الفريقين وتسد الفجوة، والحق والباطل خطان متوازيات لا يلتقيات أبداً، ولبّسوا على الناس بآيات ظاهرها ما ذهبوا إليه لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61] ، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] لا تعتدوا بأي شيء؟ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] وقال: لا يكره أحد، والآن إلى عهد قريب بعض الكتب تدرس في بعض الجامعات في مقدمتها {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، ولكن ما معنى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} ؟ معناها: نكف عنهم، إذا لم يقاتلون، ما معنى: (لا تَعْتَدُوا) ؟ ما معنى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ؟ وتركوا أول سورة براءة، وآخر ما أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة حينما أرسل أبا بكر رضي الله تعالى عنه يحج بالناس وجلس صلى الله عليه وسلم؛ لأن فتح مكة كان في العام الثامن من الهجرة، وكان المشركون في عهود مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة المشركين في الجاهلية أن يطوفوا بالبيت عرايا رجالاً ونساءً، وما كان لرسول الله أن يشهد هذا المشهد، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه، وأدرك أبا بكر في الطريق، فقال له أبو بكر كما يروي القرطبي: أمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور، قال: ما مهمتك؟ قال: أبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة براءة، فلماذا لم يأمر الرسول أبا بكر أن يبلغها عنه؟ قالوا: كان من عادة العرب أنه لا يبلغ عن الشخص إلا من عصبته وذويه، وعلي رضي الله تعالى عنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر فقد كان ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب وقرأ على الناس في يوم الحج الأكبر {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] ، ثم جعل لهم مهلة {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] ثم بين {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] .

رد أهل العلم من السلف والخلف على من قال بأن الجهاد إنما شرع للدفع

رد أهل العلم من السلف والخلف على من قال بأن الجهاد إنما شرع للدفع ومن هنا يأتي الناظر الآن في هذا الباب ويجد من يحتج ببعض نصوص القرآن على أن الجهاد إنما هو دفاع عن النفس، ويجد سلف الأمة وأئمة المذاهب الأربعة، وعلماء التفسير، قد أجابوا عن ذلك وبينوه الناس، فيما يلي: الوجه الأول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] كلمة (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) إغراء على المقاتلة؛ لأنه لو لم يكن جهاداً في سبيل الله لكان قتالاً للمقاتلين (وَلا تَعْتَدُوا) ليس معناها: لا تعتدوا على الناس المسالمين، ولكن لا تعتدوا في قتالكم بقتل الصغير والمرأة والشيخ الكبير، هذا وجه. الوجه الثاني: كانت تلك الآية وهي في البقرة سابقة لبراءة في النزول، والقتال في الإسلام أخذ طور التدرج، وقد جاء في السنة وفي السيرة: أن الأنصار رضي الله تعالى عنهم لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوا بيعة العقبة وكانوا سبعين رجلاً قالوا: (يا رسول الله! لو أذنت لنا أن نميل على أهل الموسم بأسيافنا، فقال صلى الله عليه وسلم: لا؛ إنا لم نؤمر بقتال بعد) تحمل وصبر ثلاث عشرة سنة في مكة لم يؤمر بقتال، وكلنا يعلم ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من أذى المشركين ولم يؤذوا واحداً، لقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، فكيف كان موقفهم منه صلى الله عليه وسلم؟ سلطوا عليه السفهاء، ورموه بالحجارة، وأدموا قدميه، ويصبر، وينزل ملك الجبال مع جبريل يقول له جبريل عليه السلام: (هذا ملك الجبال إن أردت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل، يقول: لا، إني لأصبر وأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله) . ولذا جاء في آخر سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:125-126] . وقد سلّى سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:127-128] لا تكن في ضيق من مكرهم، واصبر وما صبرك إلا بالله وقد صبر، ولذلك لما جاء إلى مكة وأراد أن يدخل مكة منعوه، حتى دخل في جوار رجل مشرك، كل ذلك ويصبر ويحتسب، ولم يعاقب أحداً، ولم يأت في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقب شخصاً واحداً في مكة قبل الهجرة، مع شدة إيذائهم له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه، لذا أذن لأصحابه بالهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم أذن لمن شاء أن يهاجر إلى المدينة، وأخيراً هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ونعلم كيف كانت ظروف الهجرة. إذاً: (لم نؤمر بقتال بعد) ثم جاء إلى المدينة، وشُرعت الأحكام، وأُذن في القتال فهل كان دفاعاً عن النفس، أو كان لإعلاء كلمة الله (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) لم يقل: من قاتل ليرد الناس، أو ليحمي البلاد أو الأوطان أو غير ذلك، هنا كذلك: (أمرت أن أقاتل الناس) . إذاً: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] في بادئ الأمر حينما كانوا في أوائل أمرهم وقلة عددهم كانوا مسالمين، ثم بعد ذلك لما قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا أمة {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] ثم كان بعد ذلك النهاية، وخاتمة المطاف أن تنزل سورة براءة ويرسل علياً بها رضي الله تعالى عنه لينبذ العهود إلى المشركين جميعاً، ويجعل لهم المهلة أربعة أشهر {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] فإذا انسلخ الأشهر الحرم ماذا تكون النتيجة؟ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] قاتلوهم حيث كانوا. إذاً: كانت النهاية الأمر بالقتال العام، وقاتلوهم حتى يكفوا عنكم! أو حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وكذلك أيضاً: كيف يجيب العلماء على تلك الدعوة الجديدة الزائفة؟ قالوا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] قالوا على أهل الكتاب؛ لأن الله قبل منهم الجزية، أما المشركون فإما الإسلام وإما السيف، قالوا: إنها كانت متقدمة فجاءت براءة ونسختها، يقول بعض العلماء في مبحث الناسخ والمنسوخ: كل آية فيها موادعة فقد نسختها آية السيف.

الحديث الثامن [4]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [4]

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس.

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... ) بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فلا زلنا في مسألة هل الجهاد شرع للطلب أم للدفع، وقد ذكرت لكم قاعدة ذكرها العلماء، مفادها: أن كل آية فيها موادعة للمشركين، أو مسالمة للأعداء، فقد جاءت آية السيف ونسختها: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] ، هل هذا يكون من باب الدفاع عن النفس؟! لا والله.

الرد على المستدلين بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) على منع جهاد الطلب

الرد على المستدلين بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) على منع جهاد الطلب تأتي الشبهة الكبرى التي قال بها أصحاب هذه الدعوى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] ، فإذا كان لا إكراه في الدين، فكيف تقاتلونهم وترغمونهم على الإسلام؟ وبرجوعنا إلى كتب التفسير عند السلف، نجد أن القرطبي يقول: فيها ستة أوجه للعلماء: الوجه الأول: أن الآية كانت في بادئ الأمر من باب المسالمة، ثم نسختها آية السيف على القاعدة العامة عند المفسرين. الوجه الثاني: كان الأوس والخزرج قبل الهجرة وقبل الإسلام في عهود مع اليهود، فكانت المرأة المقلاة، -أي: التي لا يعيش لها ولد- تنذر إن عاش لها ولد أن تجعله يهودياً؛ لأنهم كانوا يرون أن دين اليهود خير مما هم عليه من الوثنية. والوجه الثالث: أن المرأة من الأوس والخزرج ربما أرضعت ولدها من يهودية، أي: وجد ترابط بين الأوس والخزرج واليهود، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة، أراد اليهود أن يأخذوا أولئك معهم، وأراد آباؤهم الأصليون أن يمسكوهم عندهم، فجاءت الآية بالتخيير وليس بالإكراه. وجاءت أوجه عديدة غير ذلك، ولكن خير ما يقال: القاعدة الأولى: (كل آية موادعة نسختها آية السيف) ولو أننا عملنا بآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] اليوم لفسد العالم، بمعنى: أن الدين جنسية وانتماء، فالإنسان إذا انتمى إلى الإسلام أصبح له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وبالنسبة لغير المسلمين فهو متميز عنهم ولا ينتمي إليهم، يشبه ما فيه العالم اليوم من التمايز إلى دول وتابعيات، فلو أن شخصاً الآن جاء من موسكو إلى واشنطن وأخذ جنسية أمريكية، وأصبح له ما للأمريكان في بلادهم، ثم انقلب إلى روسيا وجاء أمريكي إلى روسيا، ثم انتقل إلى غيرها، وأخذ من كل بلد ما يريد وينتقل فيها حيثما شاء، لضاعت جنسيات الأمم، وضاعت مصالحها فيما بينها، ولو أنه أجرم هنا، ثم انتقل هناك، وأجرم هناك، ثم انتقل إلى هنا، وكان تبعاً لدولة من الدول، بعيداً عن أن ينال عقاب على جريمته، وهنا في الإسلام وغير الإسلام أحكام شرعية وحقوق دينية، فلو أن غير مسلم أسلم، أو جاء وقال: إنه مسلم، فتزوج امرأة مسلمة، وورث من أقارب مسلمين، ثم انتقل إلى النصرانية، أين تذهب الزوجة المسلمة؟ ولو ذهب إلى النصارى وصار نصرانياً وتزاوج منهم، وورث منهم، ثم انتقل إلى اليهودية، لو حدث مثل هذا الأمر، مع عشرة أشخاص من كل جيل في كل شهر لماعت الحقوق وضاعت. إذاً: كون الإنسان حر في اعتقاده هذا ليس صحيحاً، والدين لله ولا يترك للأفراد أن يتلاعبوا به، إذا شهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمداً رسول الله، أصبح ملتزماً بهذا العهد المنصوص في هاتين الشهادتين، فإن نكث قُتل.

أدلة القائلين بأن الجهاد شرع إعلاء لكلمة الله

أدلة القائلين بأن الجهاد شرع إعلاءً لكلمة الله إذاً: ليست هناك حرية في الأديان كما يقولون، وإذا جئنا إلى هذه القضية في هذا النص عملياً، نأتي ونقول: الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المدينة شُرع القتال، وخرج إلى بدر، فهل كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً عن النفس، أم إلى عير وتجارة لقريش؟ وهل كان خروجه اختياراً أم اضطراراً؟ لقد كان خروجه اختياراً وابتداءً: قال لهم: (هذه عير لقريش اخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها) فخرجوا إليها، وفي الطريق علم صلى الله عليه وسلم أن العير قد نجت، وأن النفير قد أقبل، -قبل أن يصل إلى بدر- فكان بوسعه أن يرجع، ولكن يعلن ويقول: (إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين: إما العير، وإما النفير) ثم ما وقع في تلك الغزوة من أمور فوق طاقة البشر تخطيط من المولى سبحانه {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] في الجبهة، الناحية نفسية كما يقولون: التعبئة يقلل هؤلاء في أعين أولئك، ويقلل أولئك في أعين هؤلاء، {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ} [الأنفال:43] لأنهم ذليلون ما لهم شيء، لو رأوهم على حقيقتهم ربما خافوا، فالمولى سبحانه يخطط لالتقاء الفريقين على غير موعد، ثم هو سبحانه يري هؤلاء أعداءهم أقل منهم، وبالعكس مع أننا عرفنا حقيقة الموازنة بأن هؤلاء: ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وأولئك: ما بين التسعمائة والألف، كل ذلك {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42] ، وقد بين سبحانه سير المعركة فقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] جاءت الملائكة. إذاً: هذا أول شيء يجابه به أولئك الذين يقولون: القتال دفاع عن النفس. لو تجاوزنا ذلك كله، وجئنا إلى غزوة تبوك، وهي على تخوم الشام، هل جاء الروم يقاتلون المسلمين؟ ما جاءوا، يقول: سمع بتجمعهم وتواعد معهم، ألم يكن من الممكن أن ينتظرهم عند خيبر، فلماذا ذهب إلى حدود الشام، وأوغل فيها وهو أصلاً لم ينته مما حوله بعد؟ وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي موقف أبي بكر مع أهل الردة، وعمر رضي الله تعالى عنه حينما يسير الجيوش إلى الشام، وإلى مصر، وتذهب إلى أفريقيا هل كان هناك عدو يقاتل المسلمين فيدفعونه عن أنفسهم؟ هل سمعنا بأن مصر قاتلت المسلمين في جزيرة العرب؟ بينما الجيش يذهب إليهم ويغزوهم ويفتح تلك البلاد، هل أفريقيا جهزت جيوشها لتقاتل المسلمين فيذهبون يدفعون عن أنفسهم؟ وتذكرون كلمة القائد المظفر الذي وصل إلى المحيط الأطلسي وخاض بفرسه البحر وقال: (والله لو كنت أعلم أن وراءك من المشركين من يقاتل لخضت هذا البحر إليه) ، الذين وراء البحر هل اعتدوا حتى يدفعهم عن نفسه؟ لا والله. نرجع مرة أخرى ونقول: إن من يقول: إن الجهاد في الإسلام دفاع عن النفس، قتلوا روح الجهاد في سبيل الله، وصرفوا الناس عن التعبئة للجهاد في سبيل الله، وأصبحت كل دولة في موطنها تحافظ على حدودها، وتكون سعيدة إذا سلمت من غيرها، ودخلت السياسة في أمور الناس، وأصبح الوضع على ما هو عليه، بصرف النظر رفعت راية الجهاد أو لم ترفع، فإن القتال في سبيل الله مشروع وكتاب الله ينادي بذلك، وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... ) . بقي من الذي سيقاتِل؟ ونقاتل من؟ إن وضع الأمة الحاضر بنظمها السياسية، وارتباط العالم بعضه ببعض على هذا الوضع، لا يمكن لأمة وحدها، أو: لدولة وحدها أن ترفع راية الجهاد لتقاتل جميع المشركين، ليس في وسعها ذلك، ولا نريد أن نتعرض إلى قرارات هيئة الأمم، وميثاق وحقوق الإنسان، والتزامات الدول وو إلى آخره, ولكن يهمنا من حيث البحث العلمي أن نعلن ونؤكد ونقول: إن باب الجهاد مفتوح، لإعلاء كلمة الله، وليشهد الناس أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عُصموا، وفي آية براءة {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] ، والأخرى {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فإذا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، وإذا لم يفعلوا ذلك فالمعنى: أننا نقاتلهم، ولذا يجب أن تتوحد الأمة الإسلامية تحت راية واحدة راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعندها يجب ويتعين تسيير الجيوش إلى المشركين. ولذا بعض العلماء يقول: من واجب إمام المسلمين أن يغزو سنة ويحج سنة، يقول: إعلان الجهاد كأداء مناسك الحج، كما كان هارون الرشيد رضي الله تعالى عنه يفعل ذلك، كان يحج سنة ويغزو سنة.

هل الجهاد فرض عين أم فرض كفاية؟

هل الجهاد فرض عين أم فرض كفاية؟ إذا كان الأمر كذلك: فما حكم الجهاد على الأمة أو على الفرد؟ اتفق السلف -أما الخلف لا كلام لهم في هذا؛ لأنهم أسقطوه بالكلية- على أن الأصل في الجهاد أنه فرض كفائي، والفرض الكفائي المراد منه: وقوع المطلوب، ولا ينظر إلى من يقوم به، كما في أمور الجنائز، من تغسيل الميت، وتكفينه ودفنه، قصد الشارع إيواء جثة المسلم بتغسيلها وتكفينها ودفنها، من الذي يقوم بذلك؟ الأمة كلها مخاطبة بهذا، فإذا قام واحد من الأمة أسقط الواجب عن الجميع. فكذلك قتال المشركين فرض كفائي، إذا قامت به جماعة من المسلمين سقط عن الباقين. وأما من هو المطالب بهذا الأمر؟ فنحن نعلم جميعاً أنه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، كان المسلمون كلهم مجندون، كانوا في الجاهلية أهل حرب وقتال، كل ينشأ على الفروسية، ولا يحتاجون إلى ميادين تدريب، ولا إلى كليات يتعلمون فيها، صحراؤهم هي ميادينهم، فيأتي الأعرابي بفرسه ودرعه ورمحه وسيفه جندي مقاتل، وكل كان يجهز نفسه، وعندما رجعوا من تبوك ومروا بمدائن صالح، وعجنوا خبزهم من مياه مدائن صالح، أمر الرسول أن يعلفوا العجين للدواب، فقد كان المجاهد بنفسه يجهز ويمون نفسه ويأخذ طعامه معه، فهو يصنع طعامه ويحمل زاده، ويأتي بسلاحه. أما بعد ذلك، حينما أصبح للمسلمين مردود، جاء عمر رضي الله تعالى عنه ودون الدواوين، أي: كتب الجنود في دواوين، وأصبح بعض الناس متخصصاً للقتال وله ديوان سنوي أو شهري، وأعطى المهاجرين والأنصار ورتب لهم، فكان هناك أشخاص مسجلون للقتال في أي وقت، يشبه في الوقت الحاضر الذي يسمونه: الجيش الاحتياطي: هم جماعة دربوا سواءً دربوا من الخارج للجيش، أو أحيلوا على التقاعد من الجيش، أو سُرحوا من الجيش، عند الضرورة يجمعون، فكان هؤلاء مدونون في الدواوين وعند أية غزوة إذا جاء النفير اجتمعوا. ففي ذاك الوقت كان أشخاص يقومون بهذا الواجب، بعد ذلك دُولت الدول، وخصصت الطوائف، وأصبحت الجيوش رسمية، وأوجد جيش في كل دولة، إذاً: الفرض الكفائي يقوم به: الجيش النظامي، وهو القائم بالفرض الكفائي عن الأمة المسلمة الآن، ولذا المواطنون، أو القاعدة الشعبية لا تتدخل إلا عند استنفار الإمام لها، وعلى هذا: إذا دخلت الدولة في حرب مع العدو، من الذي يقوم بفرضها الكفائي؟ الجيش؛ لأن الجيش معد لذلك، وخاصة في تلك الآونة؛ لأن الحرب لم تعد سيفاً ورمحاً، بل أصبحت حرب آليات، تستخدم فيها التكنلوجيا العلمية، والأسلحة الكيميائية، والذرية. إذاً: أصبحت الحرب الآن تقوم على علم وصارت إنتاجاً عسكرياً خاصاً، ولا يتعامل مع تلك الآليات إلا الدارس لها، إذاً: الفرض الكفائي اليوم يقوم به من؟ الجيش النظامي، كل في ميدانه، وأصبح هناك سلاح جوي، ومدرعات، وسفن، وغواصات، وكل ذلك مقابل سلاح يماثله لدى العدو. إذاً: لا يتدخل في الفرض الكفائي شخص أعزل، لا أقول أعزل من السلاح، بل أعزل من العلم العسكري، أعزل من التدريب والتمرين العسكري، أعزل من معرفة التعامل مع تلك الآليات، وإلا كان تعريضاً لضياع نفسه، وكان فقداناً لنفسه بدون مقابل.

متى يكون الجهاد فرض عين؟

متى يكون الجهاد فرض عين؟ إذاً: الفرض الكفائي يقوم به الجيش النظامي اليوم، ولكن قد يرتقي هذا الفرض الكفائي إلى فرض عين، ومعنى فرض عين: يجب على كل فرد، ويكون ذلك في حالتين فقط: الحالة الأولى: إذا لم يكن الجيش النظامي يكفي لصد العدو، واستنفر الإمام القوة الشعبية. إذاً: يكون الجهاد فرضاً عينياً حينما يستنفر الإمام الأمة، حينما تقل إمكانيات الجيش النظامي، بقلة عدده أو بكثرة عدوه، ويحتاج إلى مساعدة، وليعلم الجميع بأن القتال ليس مجرد سلاح وإراقة دم العدو، بل أسلحة القتال متعددة: قد تكون بالكلمة كما جاء عن حسان رضي الله تعالى عنه حينما تكلم عن المشركين، فقال له صلى الله عليه وسلم: (كيف تهجوهم وأنا منهم؟ قال: أسلك كما تسل الشعرة من العجين، فأخذ يهجو المشركين ويثبط أمرهم، ويعلي من شأن المسلمين، حتى نصب له رسول الله كرسياً في هذا المسجد وقال: اهجهم وروح القدس يؤيدك) . قد تكون المساهمة في الحرب بكلمة في الإذاعة، وقد تكون بكلمة في صحيفة، وقد تكون بأي نوع من الأنواع ولذا قال العسكريون الجدد: إن كل جندي في الميدان يتبعه سبعة جنود خارج الميدان، فالذي يزرع ويحصد ويقدم الحب لمخابز الجيش ليمون الجنود، جندي أم لا؟ الذي يجز الصوف ويقدم الغزل للمصنع لينسج البطانية للجندي ليتغطى بها، أو البدلة أو الحذاء ليلبسها، جندي أم لا؟ العامل الذي في مصانع الذخيرة، الذي يعد الذخيرة للجندي ليرمي بها، (إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: الذي يريشه، والذي يناوله، والذي يرمي به) وبعض المدافع تحتاج إلى ثلاثة أشخاص، وبعضها إلى أربعة، فليس المقاتل هو الذي يقذف بالقذيفة فحسب، بل الذي يقدمها إليه، والذي يعبد الطريق للآليات، والذي يمد الأسلاك للاتصالات، والذي يهيئ الماء ليشربوا، كل أولئك جنود يعملون في المعارك، ولكنهم جنود خلف الصفوف، ولذا قال العلماء: الزراعة والصناعة والتعليم فرض كفائي؛ لأن الأمة لا تستغني عنها، ويقول النووي رحمه الله تعالى في المقدمة: (إن تعلم الصناعات فرض على الأمة) فرض كفائي حتى الإبرة، ارجعوا إلى مقدمة المجموع للنووي. ويقول: إذا قصرت الأمة الإسلامية في صناعة الإبرة فهي محتاجة إلى عدوها يتحكم فيها بقدر حاجة الإبرة. ولو لم يكن عندنا إبر لصرنا عراة، لا نستطيع أن نخيط ثوباً. إذاً: جعل العلماء الزراعة والصناعة من باب الجهاد أيضاً. الحالة الثانية: إذا -لا قدر الله- دوهمت البلدة أو القرية التي أنت فيها من العدو، وجب على الصغير والكبير، ولا يُستأذن في ذلك أحد، حتى الولد لا يستأذن أبويه، ويخرج الرجال والنساء يدافعون عن قريتهم وعن أعراضهم وأموالهم، أما ما عدا ذلك وفي المرحلة الأولى: الفرض الكفائي، لو أراد إنسان أن يتطوع، هل أحد يمنع المتطوعين؟ لا، ولكن حينما يريد شخص الجهاد في سبيل الله في حال كونه فرض كفاية يكون بين أمرين: بين فرض كفاية وهو الجهاد، وبين فرض عين وهو طاعة وبر الوالدين، فيقدم فرض العين هنا على فرض الكفاية، وجهاده في بر الوالدين. إذاً: حينما يكون القتال في المرحلة الأولى وهو: الفرض الكفائي، وأراد إنسان أن يتطوع، ويذهب للجهاد في سبيل الله، فلينظر: هل هذا التطوع يضيع واجباً عليه كفائياً أو عينياً، أم لا؟ إنسان عنده زوجة وأولاد، حقوق الزوجة والأولاد فرض كفائي، أو فرض عيني؟ فرض عيني، هل يترك زوجته، وأولاده في ضياع، ويقول: أذهب أقاتل في سبيل الله! لا والله، ولا ننسى الرجل الذي جاء من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وقال: (جئت لأقاتل معك في سبيل الله) قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: اذهب ففيهما فجاهد) لماذا؟ لأن قتاله مع رسول الله تطوع، والجهاد في بر أبويه واجب، فلا نهدم واجباً من أجل تطوع، والعاقل لا يهدم مصراً ليقيم قصراً. والرواية الأخرى: (نعم، تركتهما يبكيان على خروجي، قال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما) . وأعرف أنا قد نكون أطلنا في هذا الموقف، ولكن لضرورة الحال؛ لأننا سمعنا من سنوات عديدة من شباب ناشئ متحمس قد يغرر عليه، ويذهب ليقاتل في سبيل الله تاركاً أبويه تاركاً دراسته تاركاً أهله، كل ذلك بدافع الحماس، يغرر عليه عندما يقرأ لأشخاص مجهولين يقولون: القتال فرض عين على كل مسلم، وهذا لم يقله عالم مسلم قط، بل إن أهل أفغانستان يقولون: نحن في حاجة إلى المال والسلاح أكثر من الرجال، والواقع يصدق ذلك؛ لأنه كما قلنا: يذهب الواحد إلى بلد لا يعرف تضاريسه، ولا يقوى على تحمل طبيعته، فيحتاج إلى مران عسكري يجابه به تلك الحالة، فيكون عندها عالة عليهم حتى يتدرب. أقول لأمثال أولئك: إنك إذا أردت مساعدة المجاهدين، فإنه لابد أن يكون وراء الجندي في الميدان سبعة جنود، فاعمل واكتسب وتبرع وأرسل إليهم قيمة السلاح، أو قيمة اللباس، أو قيمة الدواء، أو قيمة الطعام، ويكون ذلك جهاداً، ولذا فقد قسم صلى الله عليه وسلم أجر الجهاد بين اثنين: (من خلف غازياً في أهله بخير كُتب له نصف أجره، ومن جهز غازياً في سبيل الله، كان له مثل أجره) لأي شيء له مثل أجره؟ بتجهيزه؛ لأن التجهيز نوع من الجهاد.

الحكم فيما إذا أقر بالشهادتين بغير الصيغة المعروفة

الحكم فيما إذا أقر بالشهادتين بغير الصيغة المعروفة نواصل الكلام عن الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... ) إذاً: الغاية من قتال رسول الله للناس ما هي؟ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، لا أن يفكوا عن المسلمين قتالهم، لا وكلا. بقي الحديث عن (يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) يبحث العلماء في منطوق الشهادتين من باب البحث العلمي: لو أن إنساناً جاء وقال: أشهد أن لا إله إلا الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا السميع العليم، ولم يقل إلا الله، فهل يجزئه ذلك أم لا؟ أو قال: أشهد أن أحمد رسول الله، ولم يقل: محمداً رسول الله، هل يجزئه ذلك أم لا؟ الجمهور يقولون: لا، وبعض من أهل المذاهب يقول: نعم تجزئ؛ لأن المطلوب الإقرار، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لعمه: (قل كلمة أحاج لك بها عند الله) إذاً هي كلمة مقصودة وهي: لا إله إلا الله، ثم لفظ الجلالة: الله، علم على الذات، ولا يشاركه سبحانه في هذا العلم أحد، بخلاف (الرحمن) فإن هناك رحمان اليمامة، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كاتبه في صلح الحديبية أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: لا نعلم رحماناً إلا رحمن اليمامة، اكتب: باسمك اللهم) . وكذلك (الرحيم) {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] سمي بها صلى الله عليه وسلم، كل صفات الله قد يشاركه فيها المخلوق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وكل حيوان يأكل ويشرب سميع بصير، ما عدا لفظ الجلالة: الله، كلمة: (إله) يمكن أن تطلق على معبود بغير حق، لكن: (الله) لا تطلق إلا على رب العزة سبحانه، إذاً: لا يغني ولا يجزئ عنها غيرها. كذلك: محمد رسول الله، عيسى عليه السلام قال: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] إن قال: أشهد أن أحمد كما سماه القرآن يجزئ، وما عداه من الأسماء كالماحي والعاقب والحاشر إلى آخره لا يجزئ. بصرف النظر عن هذا نقول: إذا كان يريد أن يقر بالإسلام لا يضيره أن يلتزم بما قاله صلى الله عليه وسلم ويقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) . (ويقيموا الصلاة) إقام الصلاة جزء من الشرط على كف اليد عنهم أو على عصمة المال للمشركين، أن يشهدوا وأن يقميوا، فإذا لم يقيموا الصلاة، نكف عنهم، أو نقاتلهم عليها؟ يقول الجمهور: بأنهم إذا نطقوا بالشهادتين ولم يصلوا قاتلناهم عليها، وليس قتلناهم.

الحديث الثامن [5]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [5]

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس.

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... ) بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فلا زلنا عند قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل ... ) .

الحكمة في الأمر بقتل تارك الصلاة دون تارك الزكاة

الحكمة في الأمر بقتل تارك الصلاة دون تارك الزكاة وتعرض لنا هنا مسألة: لماذا فرق بين الصلاة والزكاة عند الامتناع عنهما، فالصلاة يقتل تاركها، والزكاة بخلاف ذلك؟ أما الفرق بين القتل على الصلاة، وعدم القتل على الزكاة لمن منعها؛ لأن الصلاة أمر فيه اعتقاد وفيه عمل بدني محض، لا تؤدى بإكراه، بخلاف الزكاة، تؤخذ بالقوة كما جاء في الحديث: (من أداها فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، ولكون الزكاة يمكن أن تؤخذ عنوة وقوة لا يقتل صاحبها، إنما تؤخذ منه ويخلى سبيله. وهنا سأل بعض الإخوان: من كان ترك الصلاة مدة، ثم أراد أن يصلي، هل يلزمه قضاء ما مضى؟

حكم تارك الصلاة وما يلزمه من قضاء الفوائت بعد التوبة

حكم تارك الصلاة وما يلزمه من قضاء الفوائت بعد التوبة أما من ترك الصلاة جحوداً لوجوبها، فهذا مرتد عن الدين -عياذاً بالله-، كمن جحد أي شيء معلوم من الدين بالضرورة، والكلام عندهم فيمن كان تركها تكاسلاً وتهاوناً، ثم هداه الله وتاب ورجع إلى الله، وحافظ على الصلاة، ما حكم تلك الصلوات التي مضت؟ جمهور الأئمة الأربعة رحمهم الله على أنها دين في ذمته عليه أداؤها. ويرى بعض المتأخرين: بأنه تكفيه التوبة، والإسلام يجب ما قبله. إذاً: من قال بكفر تارك الصلاة يتعارض قوله مع إلزامه بأداء ما ترك منها حال كفره بعد توبته، وفي هذا الحكم تناقض؛ لأنهم إن حكموا عليه بالردة، لماذا لم يقتل ردة؟ ولماذا لم يحرموا عليه زوجته؟ ولماذا لم يعاملوه معاملة المرتدين؟ يتركونه في كل شيء، ولو مات لماذا يرثون ماله؟ وإذا مات مورثّه لماذا يرث منه، مع أنه لا ميراث بين مسلم وكافر، إذاً: يتناقضون في هذا الحكم.

اعتراض ابن عباس على من أسقط قضاء الفوائت من الصلوات

اعتراض ابن عباس على من أسقط قضاء الفوائت من الصلوات وابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: (يا سبحان الله! إذا كان الترك بسبب النسيان أو النوم وقد أوجب عليهما النبي عليه الصلاة والسلام القضاء مع رفع القلم عنهما، فكيف لا نوجب القضاء على من تركها عمداً ( {فليصلها إذا ذكرها، فإنه لا وقت لها إلا ذلك) ، وقد ثبت أن المصطفى صلى الله عليه وسلم وجمع الصحابة في عودتهم من بعض الأسفار في غزوة نزلوا وعرّسوا، فقال النبي: (من يكلأ لنا الفجر، فانتدب بلالاً، فأسند بلال ظهره إلى راحلته، واستقبل المشرق بوجهه، ينتظر الفجر ليخبر ويوقظ النائم، فنام كما نام غيره، ولم يوقظهم إلا حر الشمس، بعد أن خرج الوقت) ، هل أسقطها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حتى إنه ليروى في ذلك: (بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما استيقظ وجاء أبو بكر آسفاً، قال: يا أبا بكر! لكأني بـ بلال قد جاءه الشيطان يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام، ثم ناداه: تعال يا بلال! أين كنت؟ قال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم) ، يعني: أنا مثلكم، فاعتذر بأمر واقع، قال: (والله يا رسول الله لقد أنخت راحلتي وأسندت إليها ظهري، واستقبلت المشرق أنتظر الفجر، فإذا بالشيطان يأتي ويهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، فقال أبو بكر: أشهد إنك لرسول الله) ، هنا ماذا فعل رسول الله؟ هل قال: ما عليكم! خرج الوقت وانتهينا! لا؛ قال: (اجتازوا هذا الوادي فإن فيه شيطاناً، واجتاز الوادي، وتوضئوا، وأمر المؤذن فأذن، وصلوا سنة الفجر، ثم أمره فأقام وصلوا الفريضة) . فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: (حينما تفوته بعذر مقبول شرعاً نوماً أو نسياناً تكلفونه بالأداء، وحينما يتعمد تركها تخففون عنه وتتركونه!) يعني: أمر متناقض. إذاً: من ترك الصلاة متساهلاً، ثم هداه الله ورجع، يعلم بأن ما فات من الصلوات دين عليه، ولكن لا ينبغي أن نأتي ونقول: قم الآن وأد ما عليك قضاء السنوات الماضية، فيقعد سنة أو سنتين، أو شهر أو شهرين وهو معتكف يؤدي الذي عليه، وإنما عليه أن يكثر من قضاء الفوائت حسب الترتيب، وكما يقول الفقهاء من باب التخفيف عليه: يصلي مع كل فريضة مثلها إلى أن يقضي زمناً يعادل الزمن الذي ترك فيه الصلاة، وإن قُدر ومات في أثناء ذلك قبل أن يوفي فهو على نيته، والله أولى به. ويقتل من ترك الصلاة، بعد رفع أمره إلى ولي أمر المسلمين المسلم، وحبسه وأمره بالصلاة؛ لكن كم ننتظر له؟ الإمام أحمد رحمه الله يقول: إلى أن يخرج وقت الصلاة التي جيء به فيها، ويقول البعض: يوم وليلة، وقول ويقول آخرون: ثلاثة أيام لأنها أكثر الجمع، فإن أصر على عدم الصلاة فيقتل، وهل يقتل ردة أم حداً، الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون: حداً وأحمد يقول: ردة وكفراً. وإذا تواطأ جماعة على تركها قوتلوا حتى يؤدوها، حتى قال بعض المالكية والأحناف: لو تركت قرية إعلان الأذان، قالوا: نصلي بلا أذان، قاتلهم الإمام على ذلك؛ لأن الأذان من شعائر الإسلام.

علة عدم ذكر الصوم والحج في الحديث

علة عدم ذكر الصوم والحج في الحديث وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) ، وأشرنا إلى أن العلة في على عدم ذكر الصيام والحج؛ لأن العبادات قسمين: بدنية ومالية، والعبادات البدنية هي: الصلاة والصوم، فإذا كانوا يقاتلون حتى يصلوا، فكذلك حتى يصوموا، والعبادة المالية هي: الزكاة، فيلحق الحج بالزكاة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه في حق الحج أنه قال: (لقد هممت أن أبعث برجال لقبائل العرب ينظرون من يستطيع الحج ولم يحج فليفرضوا عليهم الجزية ما هم بمؤمنين ما هم بمؤمنين) ، ولكن ما قال: أقاتل، قال: أفرض الجزية؛ لأن استطاعة الإنسان للحج ليست قطعية، قد يكون في ظاهر الأمر مستطيعاً، وفي حقيقته غير مستطيع، ولكن يؤيد ما ذهب إليه عمر رضي الله تعالى عنه نص القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فمن استطاع ولم يحج قال عنه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] لم يقل: ومن لم يحج؛ لأن السياق {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ومن لم يحج، هل قال: هذا شأنه والله غني عنه! لا؛ بل قال: (وَمَنْ كَفَرَ) فأطلق الكفر على من لم يحج وهو مستطيع، وهذه خطورة كبيرة.

الجهاد وسيلة وليس غاية

الجهاد وسيلة وليس غاية قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك) اسم الإشارة (ذلك) راجع إلى كل ما سبق من النطق بالشهادتين معاً، -ولا تجزئ إحداهما عن الأخرى- وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والصوم والحج كما قدمنا. قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم) ويتفق علماء اللغة على أن (حتى) : حرف غاية، وما بعدها مغاير لما قبلها، من هنا يجب أن يقف المسلم وكل كاتب وخطيب وأديب وكل من يتعاطى الدعوة إلى الله ليعلن للعالم كله أن القتال في الإسلام ليس غاية لذاته، ولكنه وسيلة للوصول إلى غاية وهي: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) ، أي: يعبدوا ربهم الذي خلقهم، فإذا فعلوا ذلك: كانوا معصومي الدم. إذاً: القتال من حيث هو، والجهاد من حيث هو في شرع الإسلام، ليس غاية لذاته، إذاً: لماذا يعيب أولئك على المسلمين حينما يعلنون القتال، وحينما يجاهدون في سبيل الله، لا في سبيل أنفسهم، ولا في سبيل مغنم يغتنمونه، ولا سلطان يقيمونه، كلا: إنما هو في سبيل الله، لكي يعبد الخلق خالقهم. إذاً: القتال للمشركين ليس غاية في ذاته، ولهذا كان القتال في الإسلام هو آخر ما يمكن أن يعالج به المسلمون عقول وأفكار الكفار، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن أنه قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم) والمسلمون الذين يجاهدون عشرات السنين، إذا جاءوا إلى أمة ووقفت أمامهم، ودخلوا معها في قتال، واستشهد من المسلمين من استشهد، فإذا قال العدو: لا إله إلا الله، كفوا عنه. والذين قتلوا في سبيل ذلك من المسلمين ماذا بشأنهم؟ هؤلاء أجرهم عند الله، لا يتحمل المشركون دية الذين استشهدوا من المسلمين على أيديهم، مع أنه لو كان قتالاً بين المسلمين أنفسهم لتحملت كل طائفة ديات القتلى من الطائفة الأخرى، لكن هنا هم يستشهدون إلى ربهم؛ لأن الله قد عقد معهم صفقة ربح {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة:111] أجر المجاهد عند الله، لا يرجع المسلمون على الكفار بعوض ما فات على المسلمين من رجال وأموال لا؛ لأنهم خرجوا في سبيل الله، فكيف يعاب على المسلمين إذاً؟!. قال: (فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد كتب عليهم) فقال هنا: الله، ليس الرسول أو أي أحد، بل الله؛ لأن هذا هو حق الله، خمس صلوات في اليوم والليلة، يقف المصلي يقول: الله أكبر، يسجد ويقول: سبحان ربي الأعلى، يركع ويقول: سبحان ربي العظيم، فهي حق لله، (فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وليست الزكاة ضريبة، ولا غنيمة للمسلمين، وكما جاء عن بعض السلف: أرسل عاملاً للزكاة فجاء وقال: أين الزكاة؟ قال: أرسلتني مزكياً أو جابياً؟ قال: مزكياً، قال: أخذتها من حيث كنا نأخذها زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفقتها حيث كنا نصرفها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذتها من الأغنياء ورددتها إلى الفقراء، وهكذا فهي منهم ولهم، وهذا يجسد التعاون الاجتماعي بين الغني والفقير، وهو أمر إنساني، ولو لم يأت الإسلام به لتعين على كل مجتمع التضامن الاجتماعي. إذاًَ: ما حظ المسلمين من ذلك؟ حظهم الشهادة في سبيل الله، وقد بين صلى الله عليه وسلم في قوله: (عصموا مني دماءهم وأموالهم) بأي شيء؟ بمجرد القيام بحق الله، ولذا غضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً على أسامة في بعض المعارك حينما قتل رجلاً مشركاً في المعركة وهو في الميدان بعد أن قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلما أخبر بذلك رسول الله قال: (قتلته بعد أن قالها! ماذا تفعل بلا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! قالها تحت شعاع السيف -أي: قالها خوفاً من السيف- قال: هل شققت عن قلبه؟ -بمعنى: هل أتدري ما في قلبه؟ - إني لم أؤمر أن أفتش عن بطونهم) . وهكذا يبين صلى الله عليه وسلم أن من نطق بالشهادتين ولو تحت ظلال السيف فإنه يكف عنه، وتقدم لنا في الموطأ قول عمر رضي الله تعالى عنه: (لأن يسند العلج في الجبل فيقول: مترس، فيقتله إنسان، إلا جعلته مثلة لغيره) مترس بمعنى: مأمن أو أمان أو أمني إلى آخره، فيعيب عمر رضي الله تعالى عنه على من يقتل أعجمياً أو كافراً في الميدان بعد أن يطلب الأمان. إذاً: القتال ليس غاية للمسلمين، وليس تشفياً من أعداء المسلمين، ولكنه كما يقول بعض الإخوان المسلمون في موقف الجهاد مثلهم كمثل إنسان نظر إلى شخص يعيش في دياجير الظلام يتخبط، لا يدري أيطأ شوكاً أو ورداً أيمسك حية أو حوتاً، لا يدري ماذا يفعل؟ في ظلام وجهالة وضلال، فأتاه وفي يده مشعل يضيء الطريق، فجاء وطرق الباب على هذا الضال الضائع، وقال: يا هذا! خذ هذا المشعل واستنر به.

الحديث الثامن [6]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [6]

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس.

تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... ) بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا بحق الإسلام)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا بحق الإسلام) فالحق هنا حق الإسلام الذي هو دين الله، ولم يقل: بحق المسلمين، أو بحق الرسول (إلا بحق الإسلام) أي: الحق الذي جاء به الإسلام من عند الله، وهنا يرد Q ما هو حق الإسلام؟. جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، والنفس بالنفس -أو قاتل النفس- والتارك لدينه المفارق للجماعة) .

ثبوت القتل بالرجم من سنة النبي عليه الصلاة والسلام

ثبوت القتل بالرجم من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ويهمنا هنا أن هذا الحديث الصحيح يثبت وجود الرجم، وقد أنكر بعض الناس الرجم، وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه خطب الناس على المنبر وقال: (أيها الناس! لا يطولنّ الزمان بالناس فيقولون: أين الرجم لم نجده في كتاب الله؟ لقد نزلت آية الرجم، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا معه، ولولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها) ، وقد أجمع أنه كان فيما أنزل من القرآن: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله وكان الله عزيزاً حكيماً) ، ونُسخت وبقي حكمها، وكل علماء الأصول يعلمون أن النسخ: إما نسخ اللفظ وبقاء الحكم، أو نسخ الحكم وبقاء اللفظ. وقد يرد Q ما الحكمة من النسخ بهذه الكيفية؟ قالوا: نسخ الحكم وبقاء اللفظ للتعبد، ليتذكر الناس تخفيف الله عليهم، ونسخ اللفظ وبقاء الحكم: للابتلاء والامتحان، هل يتركون العمل به بمجرد عدم وجوده، أم يظلون ممتثلين أمر الله ولو رُفع اللفظ؟ ثم إن بعض العلماء يقول: ما نسخ لفظ الرجم، بل إنه موجود كما في قصة اليهود، ففي حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (جيء بيهودي ويهودية قد زنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: ائتوني بأعلم رجلين، فجاءوا بابني صورية، فقال لهما: ما حكم ذلك في كتابكما؟ قالا: إن رهباننا قد غيّروا وجعلوا التحميم -تسويد الوجه- وتنكيس الوجوه في الركوب، فقال عبد الله بن سلام: مرهم فليأتوا بالتوراة فليقرءوها، فجاءوا بالتوراة وقرءوها، ولم يقرءوا آية الرجم، فقال ابن سلام: مره فليرفع يده -أي: القارئ- فرفع يده فإذا آية الرجم موجودة في التوراة) ، فقالوا: إن وجود آية الرجم في التوراة، وطلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقرأ على الحاضرين، علاوة على دلالة القرآن الكريم عليها والإحالة إلى موضعها في التوراة، لهو إثبات للرجم. وهنا مبحث: هل شرع من قبلنا شرع لنا، أم لا؟ الجمهور: على أنه شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما ينسخه أو يدل على منعه. ويكفي في إثبات الرجم الأحاديث المتواترة في ذلك، وقضية ماعز وقضية الغامدية وكل منهما قد رجم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ووقعت بعض الوقائع في زمن عمر ولم يكن نصاب الشهود كاملاً، فلم يطبق هذا الحد. وهنا يبحثون أيضاً: لماذا يشترطون أربعة شهود في حد الزنا؟ بينما في القتل لو شهد اثنان على قتل أربعة لواحد لقتل الأربعة؟ قالوا: لأن كل جريمة شهادة على جانب واحد، لو أن إنساناً قتل إنساناً، نحن في حاجة إلى شهادة على القاتل أنه قتل، ولكن في الزنا هناك زان ومزني بها، فهناك طرفان، قالوا: وشهادة الأربعة لا تخص واحداً من الطرفين في الزنا، هذا فيه وجه آخر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يطلب الأربعة الشهود إلا أن يكون الطرفان موجودان، وما جاءت قضية يقر صاحبها وفتش عن الطرف الثاني. فحينما جاء ماعز، ما قال له: بمن زنيت؟ وحينما جاءت الغامدية ما قال لها: من الذي زنى بك؟ لأن ذلك تفتيش وتنقيب عن الفواحش، والأمر مبني على الستر، فلما جاءت الغامدية اكتفى بمجيئها، ولما جاء ماعز اكتفى بمجيئه، لأنه: لو قال ماعز: زنيت بفلانة، وجيء بفلانة وقالت: يكذب، هل قوله: يسري عليها، لا وكذلك لو جاءت الغامدية وسئلت: من صاحبك، وقالت: فلان، وجيء بفلان، وقال: كذبت علي، هل يؤخذ بادعائها عليه، لا يؤخذ، إذاً ما الفائدة من المجيء، ولكن في قضية العسيف كما تقدم في الموطأ: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، فأفتيت بأن على ابني الرجم فافتديت ولدي بوليدة ومائة شاة، فاقض بيننا بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، أقضي بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم يردان عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام) . إذاً: هذا هو الحكم بكتاب الله؛ لأن ولده بكر ليس بمحض، والتغريب من كتاب الله، لا كما تقول بعض المذاهب: زيادة على النص فهو ساقط، وعليه تغريب عام، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) لماذا أرسل إلى امرأة هذا؟ الاعتراف جاء من المرأة والأجير من قبل، ولكن اختلفوا في الحكم، فأُفتي ممن لم يعلم الحكم، فقام الرجل وافتدى ولده، والحدود لا يفتدى فيها، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، وذهب أنيس إلى المرأة فاعترفت فرجمها.

المقاصد الشرعية من تغليظ حد الثيب الزاني

المقاصد الشرعية من تغليظ حد الثيب الزاني إذاً فممن يستحل دمه: الثيب الزاني، والثيب: هو الذي سبق أن تزوج، ودخل بامرأته في عقد لا بملك يمين، ووطأها وطئاً صحيحاً ولو مرة واحدة، بل كما يقول العلماء: ولو بمجرد مغيب الحشفة، ويرتبون على مغيب الحشفة نحواً من عشرين حكماً في الفقه، فإذا تزوج ودخل بالزوجة، ولو طلقها في الحال، أو ماتت أصبح ثيباً. الخلاصة أن البكر إذا زنت تجلد مائة جلدة، والثيب إذا زنت رجمت. الزنا واحد، والإيلاج واحد، وقضاء الوطر واحد فلماذا اختلف الحكم؟ ونجد البعض يقول: إن البكر لم يتذوق أمر النكاح، فهو لا يدري شيئاً عنه، ولذا فهو أقدر على الصبر عليه، أما الثيب فقد تذوق ولا يقوى على الصبر والعفة، فلماذا شدد في حكم الثيب دون البكر؟ أقول: إن الذي يتتبع مقاصد الشريعة يجد أن الحكمة فيما جاء به الشرع؛ لأن الثيب غالباً ما تكون ذات زوج، والبكر لا زوج لها، فإذا زنت البكر وحملت، وظهر حملها وجاء ولدها، هل يمكن أن يلصق بأحد؟ لا، متميز بذاته، ولكن الثيب إذا زنت وحملت من غير زوجها، فإنها تلحق بزوجها من ليس منه. إذاً جرم الثيب أكبر، وجرأة الثيب في التساهل أكثر؛ لأنها ترى عليها غطاءً يسترها ألا وهو زوجها، والبكر لا تجد ذلك، إذاً: القضية ليست محل اجتهاد، وإنما هو تخرص واستنتاج، ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب الزاني) وتفاصيل هذا الأمر في كتب الفقه في باب الحدود.

أقوال العلماء في قتل النفس بالنفس

أقوال العلماء في قتل النفس بالنفس قال عليه الصلاة والسلام: (والنفس بالنفس، أو القاتل ... ) أجمع العلماء على أن من قتل يقتل، لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] وبيّن في موضع آخر: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178] . فإن قتل حر عبداً، أو العكس، أو قتل ذكر أنثى أو العكس، ماذا يكون الحكم؟ بينه قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فالذكر يُقتل بالأنثى، والأنثى تقتل بالذكر، ولكن بعض المذاهب يقول: إذا قتل رجل امرأة وطلب أهل المرأة القصاص من الرجل، دُفع لهم نصف الدية؛ لأن دية المرأة نصف دية الرجل، فيدفعون نصف الدية أو يقتلون الرجل، والجمهور يقولون: لا (النفس بالنفس) رجل بامرأة وامرأة برجل سواء، أما الحر بالعبد، فالجمهور يقولون: لا، الحر إذا قتل عبداً، العبد مال يقوّم، ويدفع لسيده قيمته مهما بلغت، ولو زادت عن دية الحر، وإذا قتل العبد حراً، ماذا يكون الحال؟ ليس على سيد العبد إلا تسليم العبد، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا امتلكوا، أو باعوا وأخذوا القيمة، ثم هناك القصاص في الجروح دون النفس وهذا له بحث خاص في موضعه.

كلام العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (التارك لدينه المفارق للجماعة)

كلام العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (التارك لدينه المفارق للجماعة) قال صلى الله عليه وسلم: (والتارك لدينه المفارق للجماعة) وهذا باب واسع يُبحث في باب الردة، ومن أراد أن يرجع إليه فليرجع، وفيه دقائق قد تخفى على كثير من العلماء، ومن تلك الدقائق: كل من سخر بعمل في الإسلام ولو كانت السخرية في سنة أو مندوب لكونه في الإسلام فهي ردة عن الإسلام، فإن رأى إنسان إنساناً بلحية طويلة فنظر إليه بسخرية وضحك منه لهذا الأمر، أو سخر إنسان من إنسان لأنه رآه يستاك، قال العلماء: كل من سخر من أي شيء ينسب إلى الإسلام أو استهان بشيء في الدين فإن الفقهاء يعتبرونها ردة. وقوله: (التارك لدينه المفارق للجماعة) ، لا يفارق الجماعة إلا إذا انعزل عنها، وترك تعاليمها، وأبى أن يكون ضمن الأمة بكاملها في أوامرها ونواهيها وتعاليم دينها.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله) قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله) هذا من القواعد العامة أن المسلم لا ينبغي له أن ينقب ويتجسس ويتتبع عورات الناس، وها هو صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى، وقد بيّن الله له حال المنافقين {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة:273] فيكاد يسميهم القرآن واحداً واحداً، وكان حذيفة يعرفهم بأفرادهم، حتى يأتيه عمر ويقول: (هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين) ، عمر يخشى من ذلك، بينما ابن أُبي رئيس المنافقين حين هم بعض أصحاب النبي بقتله، منعه وقال له: (لا؛ حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) يتركهم لشأنهم، فحسابهم على الله.

النصيحة أولى من تتبع العورات

النصيحة أولى من تتبع العورات إذاً: لا ينبغي لولي أمر المسلمين، ولا لطالب علم، ولا لمتقدم للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتتبع عورات الناس، وإنما يكلهم إلى الله. جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (أنه رأى رجلاً مسرعاً، فقال له: ما لك؟ قال: جاري يشرب الخمر في بيته، وأنا ذاهب إلى صاحب الشرط لأشتكيه، قال: هل نصحته، قال: لا، قال: اذهب إليه أولاً فانصحه) . وهكذا: يروى عن أحمد رحمه الله أنه سئل: إذا نهيت جاري عن منكر يفعله فلم ينته، هل أستعدي عليه الحاكم؟ قال: لا. مهمتك أن تنصحه وتنهاه، ما دام مستتراً ليس لك عليه سبيل، دعه في شأنه، لعل الله يهديه، وحاول بنصحك له، والتلطف معه، لعل الله يرحمه، أما إذا جاهر صاحب المنكر وأظهر منكره، فهذا كان في ستر الله فهتك الستر عن نفسه، وأصبح مرتكباً جرمين: جرم المنكر الذي يفعله، وجرم الاستهانة بإحساس المجتمع، ونشر الرذيلة على غيره، فهو كمورد الرذائل للمجتمع، فهذا أصبح بؤرة فساد وإغواء، فلا يترك، وعلى كل فرد من الأفراد أن يرفع أمره إلى الحاكم، ولا ينتظر من هو معين أو مسئول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا نُصح فلم ينتصح، ووُعظ فلم يتعظ، وأصبح يجاهر ويستهتر، ويفعل المنكر غير مبال، فهذا لا حرمة له. إذاً: (وحسابهم على الله) فيما هو بينهم وبين الله، أما إذا كشف صفحته فهذا شيء آخر، وقد جاء في الحديث: (من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فمن كشف لنا صفحته أخذناه بفعله) إذاًَ ما دام يعصي الله سراً فلعل الله سبحانه وتعالى أن يتوب عليه.

الفرق بين الجهاد في سبيل الله وقتال الأمم الأخرى

الفرق بين الجهاد في سبيل الله وقتال الأمم الأخرى وهناك تتمة بسيطة: إذا قارنا بين الجهاد في سبيل الله، وقتال الأمم الأخرى، نجد الفرق عظيماً جداً، بين شناعة وفظاعة الأمم غير المسلمة إذا قدرت، فإنها -كما يقولون- تأتي على الأخضر واليابس، وتأتي بالأسلحة العامة الفتاكة التي تأخذ البريء والمذنب، والطفل والمرأة، والشاب والكبير، وكل إنسان، أما الإسلام: فإننا نجد فيه الآداب الحسنى: (لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً هرماً) أولئك كلهم لا يقتلون، ونهى عن استعمال السلاح في الدمار العام -كما في رواية الموطأ- أي: عن الغرق وإحراق النحل أو النخل والمرافق العامة، إلا إذا تترس بها الكفار، ولم نصل إليهم إلا عن طريقها. وإذا وضعت الحرب أوزارها، وجاء أسارى في أيدي المسلمين، فهل يقتلون؟ هل يمثل بهم؟ هل هل إلى آخره؟ لا والله، انظر إلى قول تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] الأسير في أيدي المسلمين ليس مسلماً، وإنما هو كافر أخذ بحد السيف، ومع ذلك يطعمونه مع الأيتام ومساكين المسلمين، لأي شيء؟ {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:9-10] هكذا المسلم يعامل الأسير لوجه الله، ويتقي ويخاف الله فيه، بخلاف غير المسلمين، فهل بعد ذلك يعاب على المسلمين الجهاد في سبيل الله؟ لا والله. وبالله تعالى التوفيق.

الحديث التاسع [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع [1]

شرح حديث: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)

شرح حديث: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) بسم الله الرحمين الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) رواه البخاري ومسلم] .

ترجمة راوي الحديث أبي هريرة

ترجمة راوي الحديث أبي هريرة هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وكنيته، واسمه: عبد الرحمن بن صخر كما ذكر النووي وللعلماء خلاف في حقيقة اسمه وكنيته: فقيل: كان اسمه عبد شمس في الجاهلية، فلما أسلم سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وكناه بـ أبي هريرة، وهريرة: تصغير هرة، قيل: كان في الجاهلية كان يرعى غنماً، فوجد هرة برية فاحتملها معه، وكان في الليل يضعها على غصن شجرة لتبيت عليه، فإذا جاء الصباح أخذها واصطحبها معه؛ مخافة عليها من الوحوش، فقيل له: أبو هريرة. وقيل: إن الكنية كناه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يحمل هرة صغيرة في كُمّه، فقال: (ما هذا يا عبد الرحمن؟! قال: هرة، قال: يا أبا هريرة) ! وقالوا: إن حمله إياها بعد الإسلام شفقة بها، بينما حمله إياها في الجاهلية تسلية، وإشفاقه على الهرة ناتج عن استشعاره للواجب الشرعي الداعي إلى الرفق بالحيوان؛ إذ أنه صاحب حديث: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، ومهما يكن من شيء فإن كنيته أصبحت أشهر وأعرف من اسمه عبد الرحمن. وذكروا أ، هـ أسلم وهاجر سنة سبع من الهجرة، ووصل إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وقت غزوة خيبر، فلحق به، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات. وترجمة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه تعتبر من أهم التراجم لكل طالب علم؛ لأنه رسم منهجاً لطلبة العلم المتفرغين.

حب أبي هريرة وأمه من علامات الإيمان

حب أبي هريرة وأمه من علامات الإيمان قال أبو هريرة في حقه وحق أمه: (ما من مؤمن يسمع بي أو يراني إلا أحبني، قالوا: ولم يا أبا هريرة؟! قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتمتنع، وفي يوم أسمعتني كلاماً شديداً في رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني، فذهبت أبكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: إن أمي أسمعتني كلاماً فيك أبكاني، فادع الله لها بالهداية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أن يهديها الله للإسلام، فرجع أبو هريرة قال: فوجدت الباب مجافياً، وسمعت صوت الماء، فإذا بأمي تخرج، وقد لبست درعها، ولبست خمارها، وبادرتني قائلة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فرجعت إلى رسول الله أبكي من شدة الفرح، ثم قلت: يا رسول الله! إنا غريبان فادع الله لنا، فقال: اللهم! حبب أبا هريرة وأمه للناس) ، فلذا يقول أبو هريرة: (إن من رآني أو سمع بي أحبني) ، وهنا نلفت النظر إلى أولئك الذين لا يحبون أبا هريرة، ولا يترضون عنه، فيوجد أشخاص بل طوائف وجماعات تبنت هذا الفكر السقيم، وألفت في ذلك الكتب، وقد سخر الله من دافع عن أبي هريرة رضي الله عنه.

صبر أبي هريرة رضي الله عنه على طلب للعلم

صبر أبي هريرة رضي الله عنه على طلب للعلم بعض الناس استكثروا على أبي هريرة، وربما ردوا آحاده التي تخالف القياس على زعمهم، وقد ذكر أبو هريرة رضي الله تعالى عنه سبب كثرة أحاديثه، ودافع عن نفسه فيما انتُقد عليه، وذلك عندما قالوا له: (يا أبا هريرة! تسمعنا أحاديث لم نسمعها من غيرك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: إن إخواني من المهاجرين كانت تشغلهم الأسواق، والضرب في التجارة، وإخواني من الأنصار كان يشغلهم العمل في بساتينهم وزراعاتهم، أما أنا فكنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطني، وقد كنت أصرع ما بين المنبر وحجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يأتي الرجل فيجلس على رأسي أو على صدري يظن بي الجنون، وما بي إلا الجوع، ولقد خرجت يوماً ولقيت أبا بكر فسألته عن معنى آية، وإني -والله- لأعرف ذلك ولكن بغية أن يصحبني إلى بيته، ولقيت عمر فسألته ومشيت معه حتى وصل إلى باب بيته، فأسند ظهره إلى باب البيت وتبسم، وقال: يا أبا هريرة! لو كان عندنا شيء لاستضفناك) . ويذكر لنا: (أنه رضي الله عنه وجماعة من أهل الصفة جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى في وجوههم الجوع، فأتي بطبق فيه تمر، فأعطى كل واحد تمرتين، وقال: كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما الماء فإنهما يجزيانكم يومكم، فأكل أبو هريرة تمرة، وأبقى أخرى! فقال له صلى الله عليه وسلم: لم أبقيت الأخرى يا أبا هريرة؟! قال: لأمي) يعني: كان هو وأمه ليس عندهما شيء، فيقتات بتمرة، ويحمل تمرة لأمه. ويقول: (خرجت فلقيني عمر فسلم ومضى، ولقيني أبو بكر فسلم ومضى، ولقيني رسول الله فعرف ما في نفسي، فتبسم وقال: يا أبا هريرة! ما أخرجك؟ قلت: الجوع، قال: اتبعني، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، واستأذنت ودخلت، فأتي بقدح فيه لبن، فسأل: من أين هذا؟ قالوا: أُهدي إلينا من بيت فلان) ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا تُصدق عليه بشيء أرسله إلى أهل الصفة، وإذا أهدي إليه شيء أخذ منه وأعطى أهل الصفة، وكان أهل الصفة ضيوفاً على الإسلام، ليس لهم بيت يأوون إليه، ولا تجارة، ولا زراعة، منقطعون ومتفرغون للعبادة، وتلقي العلم، وإذا دعا داعي الجهاد كانوا هم الأوائل، قال: (يا أبا هريرة! ادع أهل الصفة، يقول أبو هريرة: فساءني ذلك في نفسي، وودت لو أخذت جرعات من هذا اللبن، ولكن طاعةً لله وطاعة لرسوله، ذهبت ودعوتهم، فلما جاءوا وجلسوا في البيت قال: يا أبا هريرة! خذ فاسق القوم، فأخذت أعطي الرجل يشرب، ثم أعطي الآخر حتى شربوا جميعهم، ورددت القدح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: يا أبا هريرة! لم يبق إلا أنا وأنت) . انظروا هذه الكرامة يا إخوان! (لم يبق إلا أنا وأنت) ، وفيها مساواة أبي هريرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفضلة الباقية، فقال: (اشرب يا أبا هريرة! قال: فشربت، قال: اشرب يا أبا هريرة! قال: فشربت، ثم قال: اشرب قال: فشربت، ثم قال: اشرب، فقلت: والله! لا أجد له مسلكاً) ، وفي بعض الروايات: (فرويت حتى رأيت الري بين أظفاري، وبقي في القدح بقية، فشرب صلى الله عليه وسلم من تلك الفضلة) ! معجزة عظيمة، قدح يسقي أهل الصفة حتى يفيض، ويشرب أبو هريرة حتى لا يجد له مسلكاً، ولو كان انفرد بالقدح لشرب كل ما فيه، ولكن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، والذي يهمنا أن أبا هريرة صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه: (على شبع بطني) .

بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة

بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة يقول صحابي: (كنا في المسجد ندعو، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسكْنا، فقال: عودوا إلى ما كنتم عليه، فأخذنا ندعو: اللهم! اغفر لنا، اللهم! ارحمنا، اللهم! ارزقنا، فقام أبو هريرة وقال: اللهم! إني أسألك بمثل ما سألك به صاحبي هذان، وأسألك أن تعلمني ما لم أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: آمين) ، فدعا أبو هريرة أن يعلمه الله، وأمّن على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا نرد على أولئك الذين يقولون: أبو هريرة راوٍ وليس بفقيه، فنقول: بل هو فقيه، وقد قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: الإمام الثقة الحافظ الفقيه، وإذا لم يكن أبو هريرة فقيهاً فمن يكون الفقيه إذاً؟! ولما أكثروا عليه، قال: تقولون: أكثر أبو هريرة! أكثر أبو هريرة! وفي يوم وقف عند باب المسجد، فكلما رأى رجلاً خارجاً قال: قف! ماذا قرأ الإمام في صلاة العشاء؟ فيلتبس على البعض منهم، فيقول: الآن صليت مع الإمام ونسيت ماذا قرأ، وتريد أن تكون مثلي فيما حفظت عن رسول الله؟! وامتاز أبو هريرة بخصيصة لم يمتز بها أحد من الصحابة، ففي الحديث: (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكى إليه النسيان) ، وفي بعض الروايات: (جلس صلى الله عليه وسلم، فأخذ شملة لي عن كتفي وبسطها) ، وفي بعض الروايات: (فأخذت ردائي فبسطته) ، وفي بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يحفظ فليبسط رداءه، فبسطت ردائي، فلما قضى حديثه صلى الله عليه وسلم قال: ضم إليك رداءك يا أبا هريرة! فضممته إلى صدري، فما نسيت حرفاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم!) .

اختبار قوة حفظ أبي هريرة رضي الله عنه

اختبار قوة حفظ أبي هريرة رضي الله عنه يذكرون أن مروان بن الحكم لما كان أميراً للمدينة طلب أبا هريرة، فاحتال عليه ليكتب حديثه، وأجلس الكاتب وراء حجاب، وأخذ يسأله، وأبو هريرة يحدث، والكاتب يكتب، حتى انتهى المجلس فقال: يا أبا هريرة! كتبنا حديثك، فقال: أوفعلتم؟! أسمعوني، فأسمعوه، ثم بعد سنة دعا أبا هريرة، وطلبه أن يحدثهم بما كتبوا عنه، فحدثهم، فما أخطأ في حرف واحد! ونحو هذا وقع للبخاري رحمه الله حينما جاء إلى بغداد، وقد سمع الناس بحفظه، فجعلوا له مجلساً وجاءوا بعشرة رجال، وأعطوا كل واحد عشرة أحاديث، ثم قلبوا الأسانيد، ثم سأله كل رجل منهم، ويقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا فيقول: لا أعرفه بهذا السند، ثم الثاني إلى العاشر، مائة حديث ويقول في كل حديث: لا أعرفه بهذا السند، فكيف يكون حافظاً؟ وكيف يكون طالب علم؟ مائة حديث لا يعرف منها حديثاً واحداً بذلك السند! لكنه واثق من نفسه، وقبل أن ينصرفوا قال: على رسلكم، أما أحاديث فلان الأول فإن حديثه الأول سنده كذا وكذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وحديثه الثاني: كذا وكذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وأعاد المائة حديث إلى أسانيدها الصحيحة، فحينئذٍ سلموا له بالإمامة والحفظ.

منهجية أبي هريرة رضي الله عنه في نشر العلم

منهجية أبي هريرة رضي الله عنه في نشر العلم أبو هريرة رضي الله تعالى عنه مناقبه كثيرة، ومنهجه في العلم يعد قدوة، فقد كان منقطعاً لطلب العلم والحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: أبو هريرة لا يُطعن في شخصيته، ولا يُشك في أحاديثه، وقد ردها طائفة من أهل البدع، وطعنوا في كل ما روى، وشكك فيه بعض الناس، وقال بعضهم: إذا وافقت روايته القياس أخذنا بها، وإذا لم توافق قدمنا القياس عليها، وكل هذا انتقاص له، وطعن في مرجعية إسلامية كبرى. وبعضهم يأخذ عليه قوله: (إن عندي جرابين من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: جراب بثثته لكم، وجراب لو بثثته لقطع هذا -وأشار إلى حلقه-) ، فقالوا: لماذا يخفيه؟ والجواب أنه لم يبثه على جميع الناس، ولكن لم يعدم أن يذكره لبعض الآحاد والأفراد وإلا لما وصلنا، وفي هذا الجراب الذي أمسكه أحاديث الفتن، وكان يمشي في السوق ويقول: (اللهم! إني أعوذ بك من سنة الستين، وإمارة الصبيان) ، وكان يذكر أشياء ويدع أخرى، وله سلف، فأمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه كان يقول: (حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) ، ويقول الذهبي: لو أن أبا هريرة حدثهم بأن البيت يهدم أو يحرق، سيقولون: من يصدق أبا هريرة في هذا؟! ومن كان يخطر في باله أن الكعبة ستهاجم؟ فكان يحفظ أشياء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحدث بها؛ لأن عقول الناس آنذاك لا تتحملها.

ولاية أبي هريرة رضي الله عنه للمدينة

ولاية أبي هريرة رضي الله عنه للمدينة من عدالة أبي هريرة: أنه ولي الإمارة في المدينة، فكان معاوية تارة يوليه، وتارة يولي مروان، وعمر رضي الله تعالى عنه استعمله على البحرين أو أرسله مع العلاء، فقد ولي الإمارة لعدالته، وكان آخر أمره أنه لازم بستانه في العقيق، ومات بالمدينة رضي الله تعالى عنه عن ثمانين سنة، بعد أن خلف لنا آلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الحث على الصبر في طلب العلم

الحث على الصبر في طلب العلم أطلنا في ترجمة أبي هريرة لتعلقها: بمنهجه في تحصيل العلم عن رسول الله، ومن ينقطع للعلم يحصل على بعض ثمرته، والعلماء يقولون: أعطه كلك يعطك بعضه، إن أعطيت العلم كلك، وتفرغت له ليلاً ونهاراً، أعطاك بعضه {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] ، فإذا أعطيته كلك ويعطيك بعضه؛ فكيف إذا كنت تعطيه البعض الأقل؟! كيف إذا كان يزاحمه في قلبك الشيء الكثير؟ ورحم الله الشاعر الشنقيطي الذي يقول: جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب ذل: أي تواضع لمن تأخذ عنه، تواضع لمن كان أكبر منك، وارحم من كان دونك، وابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يترجم لنا هذا عملياً، يقول: كنت غلاماً عند أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لشاب: هلمّ نجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كثر، فقال: أتظن أن الناس يأتيهم يوم يحتاجون فيه إليك؟ قال: فقمت أنا، وقعد هو، فكنت أسمع بالحديث عند الرجل ولو آذنته لجاءني، فأتبعه من المسجد وأمشي خلفه، إلى أن يأتي إلى بيته، وأريد أن يلتفت عند دخوله البيت فيراني فيكلمني، فيدخل البيت ولا يتلفت، فأجلس على باب بيته حتى يخرج إلى الصلاة المقبلة، أضع ردائي على وجهي وتسفي الرياح على التراب، فيخرج الرجل فيقول: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لو أعلمتني لجئتك، فأقول: العلم يؤتى إليه. وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يمشي مع زيد بن ثابت، وهو راكب، وابن عباس يمشي، فيقول: يا ابن عم رسول الله! إما أن تركب أو أنزل؟ فيقول: لا أركب ولا تنزل، هكذا أمرنا أن نكون مع علمائنا جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب ليس ذل الصغار ولا الهوان، ولكن التواضع في طلب العلم. لقد رسم لنا جبريل عليه السلام صورة طلب العلم، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور: (دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد منا، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يديه على ركبتيه وقال: أخبرني عن الإسلام؟ ... ) وهذه جلسة المتعلم المؤدب، جلسة من يطلب العلم، ويوقر من يأخذ عنه. وسغب في البيت المذكور هو الجوع، ويقولون: الإنسان إذا ملأ بطنه، وأعطى نفسه كل مطلوبها تبلد الذهن، ويقل الذكاء مع كثرة الشبع، ومن عادة العلماء في طريقة التعليم أنهم يلزمون الطالب في بداية النهار أن يحفظ قبل أن يفطر، وبعد أن يحفظ ويُسمّع ورده، يؤذن له بأن يتناول الإفطار بعد ارتفاع الشمس، ولذا يقولون: إذا أردت أن تحفظ أو تذاكر مسألة عويصة عليك؛ فلا تأتها وأنت على شبع، وإنما وأنت خالي المعدة، وقوله في هذا البيت: (ذل وسغب) ، أي: لا تشغلك الدنيا وملذاتها عن طلب العلم. ومن هنا أقول: إن فترة الدراسة بالمنحة الدراسية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هي الفرصة الذهبية في حياة طالب العلم؛ لأنه يقضي -على أقل تقدير- سبع سنوات، ثلاثاً في الثانوية، وأربعاً في الجامعة، وإن قدر له دراسات عليا أربع أو خمس سنوات كان مجموعها عشر سنوات، يقضيها منقطعاً للدراسة، ليس كالمهاجرين يشتغلون بالأسواق لطلب المعيشة، وليس كالأنصار يشتغلون في البساتين لإصلاح أموالهم، ولكن تجارته ومزرعته وكل شيء -في هذه الفترة- هو درسه وطلبه للعلم ما بين الجامعة والمسجد النبوي الشريف الذي جعل الله فيه البركة لكل طالب علم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الآتي إليه معلماً كان أو متعلماً كالغازي في سبيل الله. ولو تتبعنا ترجمة أبي هريرة لخرجنا عن موضوع الحديث، ويكفينا هذا القدر، ونرجع إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجوب اجتناب ما نهى عنه الشرع

وجوب اجتناب ما نهى عنه الشرع يقول أبو هريرة: (سمعت) وإذا ذكر السماع فمعناها: التلقي بواسطة السمع مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) (ما نهيتكم عنه) : شيء عام، ويقول علماء اللغة: أعم العموم لفظة شيء، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فشملت كل كائن. وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشمل ما كان في السنة ابتداءً أو كان في كتاب الله، فهو المبلغ عن الله، فكل ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نهى عنه الله، وما حكم النهي؟ اجتناب المنهي عنه، ولذا قال العلماء: النهي يقتضي الفساد، والنهي إما أن يكون في العقود وإما في العبادات، إما في عبادة أو معاملة، فالنهي في المعاملات يقتضي: الفساد، والنهي في العبادات يقتضي: التحريم والبطلان. وإذا تتبعنا النواهي سنجد أنها شرعت لحفظ الكليات الخمس وهي: الدين، والدماء، والنفوس، والأموال، والأنساب. وقال صلى الله عليه وسلم: (فاجتنبوه) بدلاً من (فاتركوه) ؛ لأن الترك قد يكون بعد فعل، وقد يكون بمجرد الكف، أما (اجتنبوه) فمعناها: أن تكون أنت في جانب والمنهي عنه في جانب آخر، وبينكما مسافة بعيدة. إذاً: (فاجتنبوه) أبلغ من (فاتركوه) أو (فلا تفعلوه) .

الحديث التاسع [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع [2]

معنى قوله: (فائتوا منه ما استطعتم)

معنى قوله: (فائتوا منه ما استطعتم) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، الأمر مبني على الاستطاعة، بخلاف النهي فهو للاجتناب، ولِمَ لا يكون الأمر بدون قيد الاستطاعة؟ ولِمَ لا يكون النهي مقيداً بالاستطاعة؟ قالوا: لأن الترك عدمي: اتركه، يعني: كف عنه وابتعد عنه، بدون قيد ولا شرط، أما المأمور به فقد يكون ذا شروط، وذا جزئيات، وقد تتوافر الشروط كلها، وقد لا تتوافر كلها، فإذا لم تتوافر كل الشروط فيؤتى منه قدر المستطاع، ولا يترك بالمرة. فمثلاً: الصلاة مأمور بها، ولها شروط مثل: الطهارة، استقبال القبلة، ستر العورة. وكل هذه من شروط صحة الصلاة، فإذا لم يستطع توفير كل شروط الصلاة، فهل يترك الصلاة أو يفعل من شروطها ما استطاع؟ يفعل ما استطاع. وإذا عُدِم الماء انتقل إلى التيمم، وإذا فَقَدَ الطهورين، فيصلي صلاة عادم الطهورين. وإذا لم يكن لديه ما يستر كامل العورة، وعنده ما يستر السوأتين فقط، فهل يترك الستر مرة واحدة أو يستتر بالموجود؟ يستتر بالموجود، حتى قال بعض العلماء: لو أن إنساناً سرقت ثيابه، وليس عنده ثوب يصلي به بالكلية، وبجواره نهر، فليدخل في النهر حتى يستر به عورته، ويقول: ويذكر بعض العلماء كـ النووي وغيره: إذا لم يكن هناك ماء، وهناك طين في الأرض، فهل يدهن نفسه بالطين حتى يستر عورته أم لا؟ لسنا بصدد هذا، وإنما أردنا الإشارة إلى أن الفقهاء ذهبوا إلى اعتبار الاستطاعة. وإذا عجز الإنسان عن الصلاة قائماً فليصل قاعداً، وإن عجز عن الجلوس اضطجع، لقوله: (فأتوا منه ما استطعتم) ، ولا تسقط الصلاة بالكلية. وفي ساحات المعارك عند احتدام القتال لا تسقط الصلاة، بل يصلون بقدر المستطاع، إما جماعة وإما وهم يكرون ويفرون، ولهم أن يصلوا بقلوبهم وألسنتهم، ولا يتقيدون باستقبال القبلة؛ لأنهم ما استطاعوا، والآية الكريمة تقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وأيضاً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، فكل العبادات والأوامر في الشرع مبناها على الاستطاعة، وهذه أمثلة في الصلاة. نأتي إلى الزكاة: ليس بلازم على كل شخص أن يعمل ويكتسب ليبلغ عنده النصاب فيزكي، ولكن بحسب استطاعته إن ملك نصاباً وحال عليه الحول زكى، وهل الحكم مبني على الاستطاعة أو على الإلزام؟ على الاستطاعة. وفي الصيام: إذا عجز عن الصيام لسفر أو مرض {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] . وفي الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] . وفي الجهاد: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:17] . وهكذا جميع العبادات والتكاليف مبناها على الاستطاعة. وقوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) ، كل النواهي مقدور على تركها، وهناك بعض الجزئيات من النواهي لا يتأتى تركها، وجاءت النصوص بالرخصة فيها، مثل الرخصة في أكل الميتة المنهي عنها، وهكذا الرخصة في ارتكاب أخف الضررين، فإذا غص أحد بطعام وليس عنده ما يسيغ به اللقمة إلا الخمر، وقد يموت بسبب حبس الهواء عن رئتيه بسبب اللقمة التي سدت البلعوم، قال الفقهاء: له أن يزيل الغصة عن نفسه ولو بجرعة خمر، لكن لا يشربها للعطش؛ لأن الخمر لا تذهب العطش بل تزيده. إذاً: جميع المحرمات مقدور على تركها {لا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ، {لا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام:151] ، {لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الأنعام:151] كل هذه يمكن للإنسان أن يكف عنها، ولا يقع فيها إلا بنوازع الشر، وكان في مقدوره الإنساني وطاقته البشرية أن يكف عنها. إذاً: جميع المنهيات مقدور على تركها، وليست جميع الأوامر مقدور على إتيانها؛ لأن لها شروطاً قد يعجز عنها فخفف الشرع فيها، وجعلها بقدر المستطاع. انتهى شرح قوله صلى الله عليه وسلم:. (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، ولوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه كلام جميل جداً على كلمة (فاجتنبوه) عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ، فمن أراد أن يتوسع في معنى الاجتناب فليرجع إلى أضواء البيان عند تفسير هذه الآية الكريمة.

كراهة الإكثار من السؤال

كراهة الإكثار من السؤال ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإنما أهلك من كان قبلكم: كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم) ، ما مناسبة قوله: (أهلك من كان قبلكم ... ) مع قوله: (اجتنبوه وافعلوا ما استطعتم) ؟ يقولون: سبب ورود الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟! فسكت عنه، فأعادها الرجل مرة ثانية، ثم أعادها ثالثة، فقال: لا، في العمر مرة، ولو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم فكفرتم، دعوني ما أمرتكم) ، أي: الذي أسكت عنه اتركوه (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم) ، إذاً: الحديث له سبب، ولذا ذكر ما يتعلق بالسؤال عقب الكلام على الأمر والنهي؛ لأن جواب السؤال سيكون أمراً أو نهياً. وقوله: (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم) ، هل كثرة سؤالهم وحدها أو اختلافهم على أنبيائهم مرتبط بكثرة أسئلتهم؟ يعني: هل نأخذ كثرة أسئلتهم وحدها ونفصلها عما بعدها أم أنها مرتبطة بما بعدها وهو (واختلافهم) ؟ الجملتان مرتبطتان؛ ولذا لا تؤخذ الجزئيات كلمة كلمة، لكن تؤخذ الجملة في إطار كامل. إذاً: السؤال إما أن يكون مؤدياً لاختلاف أو يؤدي إلى علم. وبمعنى آخر: السؤال إما يكون استفتساراً للعلم والمعرفة، وإما يكون تعنتاً وتعجيزاً. فالأسئلة التعنتية والتعجيزية ليست من شأن أهل الدين، وليست من شأن طلبة العلم، بل كانت سبباً في إهلاك الأمم؛ لأنها أدت إلى اختلاف الأمة مع أنبيائها، أما الأسئلة الإيضاحية لأجل الفتوى أو لأجل التعليم، فهي من منهج التعليم الصحيح.

السؤال والجواب في القرآن

السؤال والجواب في القرآن قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إن هذه الأمة أقل الأمم سؤالاً، ما سألت إلا اثني عشر سؤالاً، وكلها جاء الجواب عنها) . والأسئلة تنقسم إلى قسمين: أسئلة تعنت وتعجيز، وأسئلة استفهام لبيان الفتوى في الواقع. أما أسئلة التعنت والتحدي فكما بيّن لنا سبحانه أسئلة الأمم مع أنبيائهم، مثل قوم صالح حين سألوه أن يخرج لهم من الجبل ناقة، وهذا السؤال فيه تحدٍ، إذ كيف لجبل أصم أن ينتج ناقة فيها حياة؟! ولو طلبوها من البحر لكان يمكن أن تخرج ناقة من البحر، إذ فيه حيتان وحيوانات، أو من السماء لكان يمكن أن تنزل من السماء، فالله أعلم بخزائنه، لكن طلبوا ناقة من هذا الجبل الأصم! فهذا تحدٍ، ولذا كان هذا التحدي سبب إهلاكهم؛ لأنهم ما صبروا على الناقة فعقروها {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس:14] . بنو إسرائيل قالوا لعيسى -وانظر إلى صيغة السؤال الذي يشف على عدم الحياء-: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ} [المائدة:112] حسبنا الله ونعم الوكيل! من قال لهم: إن الله لا يستطيع ذلك؟! هو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ولكن انظر إلى السؤال! فهو محض تحدٍ، والصيغة تدل على عدم الحياء وغياب الأدب، {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:112] ، خافوا ربكم! قالوا: لا، نريد أن نأكل، وهذا يشير إلى أنهم لا يؤمنون إلا ببطونهم!! والمشركون طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفجر لهم عيوناً، وأن يسير الجبال، وأن يجعل لهم جنات وأنهاراً، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:90-93] ، يا سبحان الله! إلى هذا الحد! فأسئلة التحدي كانت سبباً للإهلاك، ورحم الله هذه الأمة فلم يهلكها بسبب تعنتهم في أسئلتهم؛ وذلك لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] . وقد أشار القرآن إلى ثلاثة أسئلة تعجيزية، وذلك أن المشركين قالوا لليهود: أنتم أهل كتاب، فأعطونا شيئاً نورده على هذا الرجل نسكته به، فقالوا: سلوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم عن بعضها وترك بعضها فهو صادق، وإن أجابكم عنها كلها، أو ترك الإجابة عنها كلها فاعرفوا أنه كاذب، وشأنكم به. قالوا: سلوه عن فتية في غابر الزمن كان لهم شأن، وسلوه عن الرجل الذي طاف الأرض إلى المشرق والمغرب وكان له شأن، وسلوه عن الروح، فرجعوا فرحين، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك حتى جاء الوحي، وأخبره عن الفتية أصحاب الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] إلى آخره القصة، وقال الله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، وذو القرنين هو الذي له شأن في التاريخ الماضي، ولم يقل: يسألونك عن رجل طاف الأرض، ولا: يسألونك عن رجل صفته كذا، لا، وإنما قال جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83] ، انظر كيف الجواب! وكل الأسئلة التي جاء في القرآن جوابها، فجوابها مباشر دون تمهل، ولكن هنا قال: {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} [الكهف:84] ، فأول الجواب من قوله: (إنا مكنا) ، ولكن قل لهم وأسمعهم: (سأتلوا عليكم منه ذكراً) ، والتلاوة والذكر لشيء واحد، ولكن المتلو يكون ذكراً للعالمين، وأخبرهم صلى الله عليه وسلم بالوحي عن ذي القرنين بتفصيل ربما لم يكن عند اليهود تفصيله. وهذه الأسئلة تبين لنا حقيقة الحكمة في نزول القرآن منجماً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] ، فالكتب الأولى كلها نزلت جملة، فموسى جاء بالألواح وهي مكتوبة كلها، ثم عرضها على بني إسرائيل فامتنعوا من العمل بها حتى نتق الله فوقهم الجبل، قال الله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف:171] ، ولولا التهديد بالجبل فوق رءوسهم لما آمنوا، ولكن القرآن يأتي آية آية، يساير حياتهم ويعايشهم في كل ما يطرأ لهم، وكل مشكلة جاءت ينزل بحلها، وكل قضية واجهتهم يأتيهم بتوجيهها، فكانوا يأخذون القرآن آية آية، وحكماً حكماً، فما انتهت فترة الوحي إلا وقد استوعبوا الوحي كله.

أسئلة الصحابة المذكورة في القرآن

أسئلة الصحابة المذكورة في القرآن قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، والسؤال عن المحيض ليس فيه تعنت، فهو أمر يحتاجون إلى معرفة أحكامه في بيوتهم {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، فهذا تعليم لأمور تتعلق بكل زوجين؛ ولذا جاء الجواب مفصلاً، وبعد ذلك لا ينسى أحد من الصحابة حكم المحيض. وهكذا في أي أمر اختلفوا فيه أو التبس عليهم يسألون عنه، ويأتي الجواب كقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:215] ، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:219] ، سؤالان كلاهما عن الإنفاق، أجابهم مرة عن الجزء الذي ينفقونه وهو: العفو، أي: الزائد، وأجابهم مرة عن جهة الإنفاق، وأن أولى من تنفق عليه الوالدين والأقربين إلى آخره. وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه:105] ، هذا مظهر من مظاهر الكون، وآية من الآيات المشاهدة الدالة على قدرة الخالق جل وعلا، فبين قدرته سبحانه فقال: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] . وقوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] ، وذلك قد وقع بالفعل، وانتهزها المشركون فرصة في الطعن على المسلمين، فقالوا: محمد صلى الله عليه وسلم يدعي أنه يعظم حرمات الله، وهو وأصحابه يقتلون الناس في الأشهر الحرم! {قُلْ} [البقرة:217] على واقع الحال، واعتراف بالواقع، ولكن بمقارنة {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217] ، ولكن ماذا فعلتم أنتم؟! كفرتم بالله، وصددتم عن سبيل الله، ففعلكم أنتم أشد من خطأ هؤلاء الذين شكوا في كون الشهر دخل أم لا. وقوله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219] ، هي من المعاملات، كانوا يشربون الخمر، ويقامرون، ومن فاز بالميسر لا يأخذه ويتصدق به على المساكين، وأخذه إياه ليس على وجه حق، وإنما هو أكل لأموال الناس بالباطل عن غير طيب نفس، فالسؤال عن معاملات وأشياء واقعية يعاشرونها وتعايشهم، فجاء الجواب في القرآن عن هذا التساؤل.

أسئلة الصحابة المذكورة في السنة

أسئلة الصحابة المذكورة في السنة كانت الأسئلة التي سأل عنها صدر هذه الأمة أسئلة فقهية واستيضاحية وتعليمية، فتعلموا بالأسئلة، أما الأشياء التي لا جدوى من السؤال عنها فكانوا يجتنبون الخوض فيها امتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] ، ولم يسألوا عن شيء لم يقع، فلم يسألوا إلا في الواقع، ولكن هل هناك مانع من السؤال عما وقوعه محتمل؟ لا مانع إذا كانت المسألة محتملة الوقوع، ومثال ذلك لما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستبتلى بأمراء جور وفساد (قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) . مثال آخر: أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرسل هدياً إلى الكعبة وهو في المدينة، فسأله سائق الهدي لما أراد أن يتوجه إلى مكة فقال: (يا رسول الله! لو عطب الهدي ماذا أفعل به؟) هل نهاه عن سؤاله وقال: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم) ؟ لم يقل ذلك صلى الله عليه وسلم؛ لأن عطب هدي في طريق طويل من المدينة إلى مكة محتمل، وهذا من فقه صاحب الهدي، فأجاب بقوله: (انحره واغمس قلادته في دمه، وخل بينه وبين الناس) . مثال ثالث: في غزوة خيبر أرسل صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله تعالى عنه ليعطيه الراية، وكان قد قال في اليوم السابق: (لأعطين الراية غداً) إلى آخره، فلما حمل الراية قال له: (انفذ على رسلك، ولا تلتفت، وقاتلهم) فمشى علي قليلاً ثم وقف، ولم يلتفت، ونادى بصوت عالٍ: (يا رسول الله! علام أقاتل القوم؟ قال: على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ... ) إلى آخره، فسأل ليتبين، فالسؤال الذي يكون عن معرفة واستفسار حسن، أما التعنت واللجاج في المسألة -حتى ولو كان حقاً- فهو منهي عنه، وتتضح كراهة ذلك في مسألة وقعت للصحابة رضي الله عنها، فإنهم اجتمعوا رضي الله تعالى عنهم وسألوا رسول الله عن ليلة القدر، ودخل البيت، فتلاحى رجلان منهم، وكانوا يريدون أن يعلموا بليلة القدر، والسؤال عنها مطلوب، ومعرفتها بغية كل إنسان، لكن رفع علمها لما حصلت الملاحاة -ولو كانت في الحق-، فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (كنت أردت أن أنبئكم فتلاحى رجلان؛ فرفعت) أي: رفع تعيينها. ومن هنا يقول العلماء: لا ينبغي لطلبة العلم الملاحاة في المسائل الفقهية ولو كانت حقاً، يروى عن مالك رحمه الله أنه قال: (إن من تتبع شواذ المسائل حرم نور العلم) ، ويقول عمر بن عبد العزيز - كما نقله عنه ابن عبد البر -: (من أراد الله حرمانه من العلم شغله بشواذ المسائل) ، وعمر رضي الله تعالى عنه يقول: (أحرج على كل مسلم أن يحدث بحديث ليس عليه العمل) ، ومالك لما أراد هارون الرشيد أن يعلق الموطأ على الكعبة، ويحمل المسلمين جميعاً عليه قال: (لا تفعل؛ إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، ونقلوا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ كل بما وصل إليه، فلا تغير على الناس) ، والإسكندري جلس عنده طلابه فتلاحوا عنده فقال: (درنت قلوبكم! قوموا إلى خالد بن حماد فاجلوا قلوبكم عنده، وتعلموا منه الرغائب ونوافل العبادات؛ فإنها ترقق القلب، وتورث المحبة، وتبعد الضغينة) . ويقولون: إن المناقشة في العلم -ولو في الحق- قد تؤدي إلى التعالي والحرص على حظ النفس، وكل يريد أن ينتصر لنفسه، فتقع الفرقة والشحناء. إذاً: السؤال إن كان للاستفتاء فلا بأس بذلك، أما أن يكون للمناقشة والجدال والتعالي فهذا هو الذي يفرق بين المسلمين، ولقد أدى تعصب بعض أتباع المذاهب إلى تسابهم وتخاصمهم وتهاجرهم، كما دوّن ذلك بعض المتأخرين، ولك أن تعجب من سؤال يتردد عند بعضهم: هل يجوز أن يتزوج شافعي بحنفية؟! إلى هذا الحد! مع أن الأئمة رضوان الله عليهم جميعاً ليسوا متعصبين، قالوا لـ أحمد: أتصلي خلف الشافعي وهو لا يتوضأ من لحم الإبل؟ قال: وماذا تراني؟! أأمتنع من الصلاة خلف مالك وخلف أبي ثور وخلف فلان وفلان؟! يعني: إذا اختلفنا في رأي أو في مسألة هل يكون ذلك سبباً لفرقتنا؟! لا. والله!

خلاف التضاد شر وخلاف الأفهام رحمة

خلاف التضاد شر وخلاف الأفهام رحمة قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم) أي: الأسئلة التي تؤذي إلى الخلاف؛ ولذا لما حج عثمان رضي الله تعالى عنه وأتم الصلاة في منى، جاء ابن الزبير إلى ابن مسعود وقال: (أرأيت ما فعل الرجل؟! قال: يا ابن أخي! إن صليت في رحلك فاقصر الصلاة، وإن صليت خلفه فأتم الصلاة، ولا تخالفنه فالخلاف شر كله) ، وفرق بين مخالفة واختلاف، الاختلاف في الرأي في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها، أو فيها نصوص متعارضة، أو فيها مجال سائغ للنظر، فهذا لا يمكن لإنسان أن يرده، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر المختلفين في قضية واحدة في صلاة العصر في بني قريظة، أما مخالفة النص الصحيح الصريح الذي لا معارض له، فهذا مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله. إذاً: في هذا الحديث بيان موقف المسلم من الأمر والنهي، والأصوليون يأخذون من هذا الحديث قاعدة للجمع بين المتعارضين، وهي: أيهما نقدم؟ ويتفق العلماء على تقديم جانب الحظر كما ذكر ابن دقيق العيد في قضية تحية المسجد بعد العصر، وأطال النقاش في ذلك، وأورد الأدلة ثم قال: تعارضت الأدلة في الجانبين، وليس لدينا مرجح من تلك النصوص، فنأتي بمرجح من الخارج ألا وهو: إذا تعارض مبيح وحاظر قدمنا جانب الحاظر على المبيح؛ لأن مقتضى الحظر: أن تقع في محظور أقله الكراهية، ومقتضى الطلب: إن لم يكن واجباً فهو مندوب، فلأن تترك مندوباً وتسلم من مكروه أولى من أن ترتكب مكروهاً من أجل تطبيق مندوب، والأصوليون يستدلون بهذا الحديث على هذه المسألة. وننصح طلبة العلم خاصة بترك الملاحاة في السؤال، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتاً في الجنة) .

لا تكليف بما لا يستطاع

لا تكليف بما لا يستطاع قوله عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، مأخوذ من قوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] . وهل يوجد تعارض بين الآيتين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] والآية الأخرى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] ؟ وهل قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] منسوخة أم لا؟ يذكر بعض علماء التفسير أن آية {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] منسوخة، وقالوا: لما نزلت: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] ذهب الصحابة يبكون إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقالوا: من الذي يستطيع أن يتقي الله حق تقاته؟! فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فنزلت: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [آل عمران:102] ، فما فرحوا بشيء مثل فرحهم بهذه الآية، وقالوا: إنها نسخت: {حَقَّ تُقَاتِهِ} . وآخرون يقولون: ما نسخت، وبيان حق تقاته يشير إليه آخر الآية: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، والإسلام أعم من حقيقة التقوى؛ لأن الإسلام أعمال ظاهرية تأتي بعده رتبة أعلى منه وهي: الإيمان، ثم تأتي رتبة أعلى من الإيمان وهي: الإحسان، والتقوى هي رأس مال المسلم، وهي نهاية كل شيء. فقالوا: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] هي: امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والدوام على هذا الالتزام حتى الموت، كما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] وقال الصديق رضي الله تعالى عنه: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أي: التزموا واستمروا على ذلك حتى ماتوا عليه. إذاً: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] القول فيها يدور بين النسخ وبين عدم النسخ، وتفسير حق تقاته بما جاء في آخرها: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . وبهذه المناسبة يقولون: إن ترك المعاصي كلها لا يقوى عليه إلا الصديق، وفعل المأمور به قد يقدر عليه كل الناس بقدر الطاقة؛ ولذا جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (عجب ربنا لشاب ليست له صبوة!) لأن ترك المعاصي ليس بالأمر الهين. ولما سئل أيهما خير: شخص تراوده نفسه لعمل المعاصي فيكف أو شخص لا تراوده نفسه أبداً؟ فأيهما أقوى وأفضل عند الله؟ قال: الشخص الذي تراوده نفسه ويمنعها أفضل من الشخص الذي لا تراوده نفسه. وبهذا نعلم تفسير قوله تعالى:: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ونعلم وجه الرج على من قال: كيف يهم بها وهو نبي؟! وقد أجاب العلماء بأن الهم الموجود عند يوسف عليه السلام هو الدواعي الجبلية في الإنسان، فأي إنسان كان جائعاً ورأى طعاماً، فالنفس بطبيعتها تشتهي هذا الطعام، ولكن يأتي بعد ذلك النظر: هل هو حلال فيأكل منه أو هو حرام -كأن يكون ملكاً لغيره أو محرماً لذاته- فيكف عنه؟ لكن رغبة النفس موجودة، فالقدرة هنا والعفة والتقى أن يكف يده عما ليس له فيه حق. ولو كان مريضاً سقيماً ولم يأكل منه لتلك العلة، وقال: أتعفف عن الحرام، وليس الأمر كذلك، وإنما الذي منعه المرض، أما نبي الله يوسف فلو لم يكن لديه ميل فطري، وغريزة الجنس؛ لما كان مكتملاً من الناحية الإنسانية، قال الله: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] إذاً: هو كف الهم الجبلي الذي يراود النفس، ولكن عصمه الله، فكف عن الحرام مع وجود الدوافع؛ وهنا تكمن قيمة العفاف وفضله، لا ذلك العجز الذي يريد البعض أن يصفوا به نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام. إذاً: المرأة كانت حريصة غاية الحرص على أن يحصل ما همت به، فغلقت الأبواب، وقالت: هيت لك، ولكن هو ما هم، ولا حرص أن يفعل، وإنما عرضت عليه خطرات النفس البشرية، ولكنه كف مع وجود الدوافع، والحرص على الفعل قد يكون له حكم الفعل كما في الحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، ففرق بين من هم وكان همه مجرد خطرات تتردد في النفس، وبين من هم هماً جازماً مؤكداً وما رده إلا العجز والتقصير. إذاً: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] على بابها، و {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] أي: التزام الأوامر واجتناب النواهي، ولا يقوى عليه إلا الصديقون -كما قيل- والله تعالى أعلم. وأظن أن والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه وعلينا تناول هاتين الآيتين فيما في كتابه: دفع إيهام الاضطراب، وهي من مواضع قصيدة (نظم السيوطي) فيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، وللشيخ رحمه الله شرح على هذه القصيدة أملاه عليّ. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل طلبنا للعلم خالصاً لوجه الله، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

الحديث العاشر [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1]

أهمية الحفظ في طلب العلم

أهمية الحفظ في طلب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: [الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟) رواه مسلم] . يقال: من حفظ المتون حاز الفنون، ونحن في الواقع ضيعنا المتون بينما كان طلبة العلم في السابق لا يقرءون فناً إلا بعد حفظ متن فيه، مثل الزاد في الفقه، والألفية في النحو، فلابد لطالب العلم في أي فن يقرأه، أن يكون حافظاً لمتن فيه. ولكن -وهذا من المؤسف- كثرة المشاغل، وحشو القلب بكثير من الأشياء أضعف ذاكرة الحفظ، ومهما يكن من شيء فينبغي لطالب إذا استطاع أن يحفظ متناً ولو لم يفهمه، ثم سيأتي وقت يفهمه. ولذا نجد في نظام الكتاتيب، اعتناؤهم بتحفيظ الأطفال القرآن الكريم مع أن أحدهم لا يفهم معناه، ولا يستطيع أن يرتقي إلى مستوى الفهم، لكن بعد أن يكبر يكون الحفظ موجوداً، فإذا قرأ فهم، أو رجع إلى التفسير كان أيسر عليه، والله المستعان. وهذا الحديث العاشر من الأربعين النووية المباركة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وتقدم الكلام عن ترجمة أبي هريرة، وفيها ما يهم طالب العلم من الحرص والانقطاع والتفرغ للعلم.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] ، وتمام الآية: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] ) . قوله: (الآية) عقب ذكر جزء منها، اصطلاح، وهو يعني: إلى آخر هذه الآية، ويأتي الطابع أو يأتي الكاتب ولا يكمل الآية، وقد يقتصر على جزء من الآية وهو محل الشاهد، وقد يكون المعنى كاملاً في تمام الآية، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حينما جاء يوقظ علياً رضي الله تعالى عنه وفاطمة لقيام الليل، فقالا: أرواحنا بيد الله يرسلها متى شاء، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] ، وجعل يرددها، وهي جزء من آية ينطق ويستدل بها. وتتمة هذا الحديث: (وذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! يا رب!) في بعض النسخ أو الطبعات يعني: يقول: يا رب! ثلاث مرات، (ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغُذِيَ -أو غُذِّيَ- بالحرام، فأنّى يستجاب له؟) .

عظمة الله وطيب ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله

عظمة الله وطيب ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله هذا الحديث في بدايته، وفي آخره، والتئام وتناسق، وبين أوله وآخره ومناسبة، وهذا موضع البحث، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب) يرتب عليه (لا يقبل إلا طيباً) ، وهذا تجانس، فالطيب لا يتناسب معه إلا الطيب {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] ، ويتناول العلماء هذا اللفظ من هذا الحديث (إن الله طيب) ففي أي شيء هو طيب؟ طيب: في كل شيء: طيب في ذاته، طيب في أسمائه، طيب في صفاته، طيب في أفعاله. فهو طيب في ذاته، أي: منزه عن أي نقص أو شائبة عيب، وهو متصف بكل مجامع الحمد، وكما يقولون: كملت صفات المولى سبحانه، فهو الكامل في ذاته، فلا يعتريه سبحانه -ولا يجوز في حقه- أي نقص، ولا شبه بمخلوق، ومن طيبه سبحانه وتعالى في ذاته وفي أفعاله؛ أنه لا يكون منه إلا الطيب، ولا يليق بجلاله إلا الطيب، فهو خلق الكون، وكل خلقه طيب في نظامه، وفي وضعه، وفي تسييره، إن نظرت إلى السماء، رأيت عالماً طيباً في إحكامه، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] ، وإذا نظرت إلى الأرض، وجدت عليها مكونات الحياة، في بحارها، في أنهارها، في جبالها، في نباتاتها، في تنظيم الخلق، في خلق الإنسان خلقاً سوياً، وكل ذلك من الله طيب؛ لأنه طيب.

أفعال الله طيبة وإن كان بعضها في نظر بعض الناس على غير ذلك

أفعال الله طيبة وإن كان بعضها في نظر بعض الناس على غير ذلك إذا وجدت شيئاً من مخلوقات الله ليس طيباً في نظرك، فهو طيب عند الله؛ لأن وراءها من الحكم ما هو طيب. فالإنسان في الأصل أنه سوي، وخلقه الله في أحسن صورة (في أحسن تقويم) ، فإذا وجدت إنساناً ذا عاهة وعيب، فأنت تشفق عليه، وترى أنه ناقص عن غيره، ولكن الله سبحانه وتعالى قد جعل لهذا الشيء حكمة، وفيها من الطيب ما لا تدركه أنت، ففي الآخرة يكرمه ويعوضه، ويعطيه الشيء الكثير، بل يجعله موجباً لشكر نعمته على غيره من الأصحاء، فأنت إذا رأيت إنساناً مريضاً، فمرض هذا المريض يجعلك تشعر بالصحة، كما قالوا: (وبضدها تتميز الأشياء) ، وإذا وجدت إنساناً فقيراً فقراً مدقعاً، فاعلم أن هذا الوضع عند الله طيب، وقد جاء في الحديث القدسي، (إن من عبادي من لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغنيتهم لفسد حالهم) . -كما قال الله: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7]- (وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لفسد حاله) ، مع أن الله قال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] . إذاً: كل وضع في الخلق فهو من الخالق طيب، لماذا؟ لأنه من الله، ومن هنا: كان من أركان الإيمان: الإيمان والرضا بالقدر فيما وقع بك، وفيما نزل بك، فتعلم أنه طيب؛ لأنه من الله، وتعلم بأن الله عالم وقادر وغني، فإذا أمسك عنك شيئاً؛ فليس ذلك لفقر، ولا لعجز، ولا لجهل، ولكن لمصلحتك، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] ، فكل شيء ابتلاء من الله. إذاً: معنى (إن الله طيب) : أي: طيب في ذاته، فلا يعتريه نقص سبحانه، طيب في أفعاله فلا يصدر عنه إلا الطيب، فارضَ بما كتب الله لك. إذا علمت هذا، لوجدت أن كل إنعام المولى على العالم، وكل فضله على الخلق مندرجاً تحت قوله: (إن الله طيب) ، يعلم ذلك من يعلم، ويغفل عن ذلك من يغفل، ولا يستطيع إنسان أن يدرك كل معاني: (إن الله طيب) ، واعلم أن أسماءه الحسنى كلها طيبة {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] . وهذا المجال يكفي فيه مجرد الإشارة والتنبيه، ولا نستطيع أن نوفيه حقه.

طيب العمل شرط في قبوله

طيب العمل شرط في قبوله الله سبحانه لا يقبل إلا ما كان طيباً، وهذا أمر معقول، فما دام أنه سبحانه طيب، وأفعاله طيبة، فكيف تتقرب إليه بغير الطيب؟ هو في ذاته طيب، فلا يليق به غير الطيب، وهو في أفعاله معك ومع غيرك طيب، فكيف يقدم له غير الطيب؟! هو ما فعل بك إلا الطيب، فكيف تقدم له غير الطيب؟! (لا يقبل إلا طيباً) من جميع تصرفات العباد: في عباداتهم، وفي معاملاته، فمثلاً الطهارة للصلاة، أمر صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء؛ لأن الوضوء غير المسبغ غير طيب، والله لا يقبله؛ لأنه طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن لم تقدم له الشيء الطيب رده عليك. وكذا الصلاة، جاء في الحديث أنه إذا أحسنها العبد وأداها كما أمر الله سبحانه وتعالى صعدت ولها ريح طيبة، وإذا نقرها أو فرط فيها لفت كما يلف الثوب الخلِق وردت عليه! إذاً: إخلاص النية شرط في طيب العمل، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) . والعمل الطيب يشترط فيه أيضاً أن يكون موافقاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، وقد أرسل الله لنا الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يبين لنا ما يريده الله منا؛ لأن العبادة حق لله، ومن حق الله أن يبينها إذ فرضها علينا، فبين العبادات التي يريدها منا، فليس لأحد من الخلق أن يخترع عبادة لله، وما دام أنها عبادة لله فيجب أن تكون من عند الله؛ لأنه هو الذي أمرنا بالعبادة، وبينها لنا، أما أن تخترع عبادة من تلقاء نفسك فلا!!

لا يستوي الخبيث والطيب

لا يستوي الخبيث والطيب إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى شرط لطيبه، فإذا لم يكن العمل خالصاً فهو خبيث، وإذا نظرنا إلى الأشياء نجد أن الطيب يقابله الخبيث، ومن صفات النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل أنه كما قال الله: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، وهذا هو الذي يليق بمقام المولى سبحانه، وبرسالات الرسل، ولأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. هذا، والكلمة تقسيمها ثنائي، إما طيبة أو خبيثة، قال الله:: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} [إبراهيم:24] ، ثم قال: {كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ} [إبراهيم:26] ، وكذا الأرض: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ} [الأعراف:58] ، وقال سبحانه: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] . وقال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26] ، وهكذا كل ما أوجده الله سبحانه وتعالى تجد فيه الطيب وتجد أنه يقابله الخبيث. وهكذا في جميع العبادات، لا يقبل الله سبحانه عبادة من إنسان إلا إذا كانت طيبة، ومتى تكون طيبة؟ إذا كانت وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: في التشريع، وقصد فاعلها وجه الله، وهذا ما أمر الله به، وأوجبه على عباده، قال الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، وعلى هذا قس جميع الأعمال. وفي بعض الآثار مما يتعلق بالحج: (من حج بمال حلال، وزاد حلال، وراحلة حلال، فوضع رجله في الغرز وقال: ليبك اللهم لبيك، نودي من السماء: لبيك وسعديك، وإذا كان حراماً، وقال: لبيك، نودي: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً!) . ويقول بعض العقلاء: عجباً لهذا الشخص الذي يحمل زاداً حراماً ليحج به! وهذا حق، فكيف تكون قاصداً بيت الله لتحج وتؤدي المناسك وتعظم الشعائر والمشاعر؛ وأنت تحارب الله عند بيت الله بما حرم الله عليك؟! فكونك بعيداً عن بيت الله أخف، وتكون مثل السارق الذي يختفي، لكن المجاهرة بالمنكر لا تُحتمل، فلو أن إنساناً سرق ثوب جاره، ثم جاره دعاه لوليمة لديه، فهل يذهب بالثوب المسروق أم بغيره؟! فإذا ذهب بالثوب المسروق الذي يعرفه الجار جيداً، فإن هذا يعتبر تحدياً لصاحب الثوب، مع أنه دعاه ليكرمه!! أما لو كان بعيداً عنه، ولم يدر عن هذا الثوب شيئاً؛ فالأمر أهون، أما أن يتحدى صاحب الثوب، ويأتيه وهو يكرمه، فالعقل والواقع يرفض ذلك تماماً. وكذلك ربك دعاك لتحج بيته، ولتقف المواقف، ولتشهد المشاهد، وتذكر الله في تلك المواطن كلها، فكيف تأتيه متبجحاً بهذه الحال، ولسان حالك: يا رب! أنا سرقت من مال فلان، ونهبت مال فلان، واغتصبت مال فلان، وجئت لأحج بيتك بمال مسروق! فبأي شيء تفسر هذا التصرف المشين؟! (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، ومن هنا بيّن صلى الله عليه وسلم أن الله لا يقبل الصدقة إلا إذا كانت طيبة، ويقول بعض السلف: لأن أكف عن كسب درهم حرام، أحبُّ إليّ من أن أنفق مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف وهي حرام، وما قيمة ذلك؟! فلأن تكف عن درهم واحد حرام أولى من أن تنفق مئات الآلاف من الدراهم إن كان كسبها حراماً؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. وهكذا العقود، ومعاملات الناس، فإذا غش أو دلس في السلعة، فهل هذا طيب؟ الواقع يقول: لا، فكيف يكون طيباً عند الله؟! فالله لا يقبل ذلك العمل، ويعاقب عليه، فالإسلام في جميع تعاليمه تحت عنوان (طيب) . وهكذا القتال، لابد فيه من الإخلاص، قال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، لو أن إنساناً أراد أن يطبق جميع التشريعات في الإسلام الجزئية والكلية على هذا اللفظ: (لا يقبل إلا طيباً) ؛ لما شذت جزئية واحدة في التشريع. ففي باب الطهارة لا يقل الله إلا طيباً، وقد بينت مسألة إسباغ الوضوء، ومثله يجب إسباغ الغسل على جميع البدن؛ لأن تحت كل شعرة جنابة. وفي الصلاة: الطمأنينة والخشوع واستكمال شروطها. وفي الصوم يكف عما حرم الله، فتصوم معه جميع الجوارح. وفي الزكاة: (لا يقبل الله صدقة من غلول) ، لا يقبل الله صدقة من مال حرام: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، فالقول المعروف طيب يقبله الله، والأذى يفسد ذاك المعروف، قال الله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، فالأذى ليس بطيب، والله لا يقبله، فكونك تتصدق وتمنّ على المسكين بالصدقة هذا يبطل أجرها، فاتق الله! في صدقتك ولا تبطلها، فكما أعطاك الله يعطي غيرك، وكما حرم هذا قد يحرمك. وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل أنت ما تدري متى الغنى والفقر، فكون المال جُعل في يدك هو ابتلاء لك، ومنعه من يد الآخر ابتلاء له: أتشكر النعمة أم لا؟ أيصبر على الفقر أم لا؟ وكله ابتلاء، والابتلاء أنواع. إنسان يبتلى بمرض، يبتلى بمال، يبتلى بفقر، يبتلى بشخص يؤذيه، وقد يكون من أقرب الناس إليه. ومن نكد الدنيا على الحر أن يجد عدواً له ما من صداقته بد إذاً: كونك تمنّ على المسكين لا يجوز لك ذلك عند الله سبحانه وتعالى، وقد أوجب الله عليك حفظ ماء وجه الفقير عند استلام حقه، فقال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، ومن الذي يتولى أخذ هذا الحق من الغني وإعطاءه الفقير؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة أمور المسلمين من بعده؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن امتنع أخذناها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، وما دام أنه ليس له منها شيء فلماذا يتحمل مسئوليتها؟ ليحفظ ماء وجه الفقير، وإذا جاء فقير إلى باب الغني وقال: أعطني حقي في الزكاة، فقد يماطله الغني، وكيف يكون حال المسكين؟! أليس فيه امتهان له؟! أما عندما يأخذها ولي الأمر منه، ثم يقول للمسكين: خذ حقك، فحفظ بذلك ماء وجهه من سوء المسألة. والإسلام طيب؛ لأنه دين المولى سبحانه، فهو طيب لا يقبل إلا طيباً، ففي الكلام لا يقبل منك إلا كلمة طيبة؛ وفي الدعاء إذا سألت ربك لا تتنطع في الدعاء، ولا تدعو بمعصية، فهذا ليس طيباً، وحينئذ لا يقبلها. وأقول لطلبة العلم خاصة ولكل مسلم عامة: لو تأمل أحد جميع ما أمر به أو نهي عنه لوجده داخلاً تحت هاتين الجملتين: (إن الله طيب، لا يقبل إلا طيباً) ، وأظن أن هذا التنبيه كافٍ.

الحديث العاشر [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [2]

أمر الله للرسل والمؤمنين بتحري الطيبات

أمر الله للرسل والمؤمنين بتحري الطيبات بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) ، انظر المجانسة! المؤمنون: عامة الناس، والمرسلون: هم الخواص الذين اصطفاهم الله برسالاته، فيبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر يشترك فيه الجميع، وذلك لأهميته: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) ، فمثلاً قوله تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أمر الله المرسلين في جميع الأحوال بإقامة الصلاة, وأمر المؤمنين في جميع الأحوال بإقامة الصلاة، وهكذا جميع أركان الإسلام إذ أنها حق لله، وهي مطلوبة لذاتها. وهذا الأمر هنا ينبني عليه غيره، وهو أساس لما يذكر بعده في الحديث. الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المؤمنين والرسل مكلفون بتكليف واحد من الله فقال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) فبمَ أمرهم سبحانه وتعالى؟ قال: (أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ)) ) ، ومتى اجتمع الرسل في وقت واحد حتى يخاطبهم الله بقوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) ؟ هل خاطب الله الرسل جميعاً في وقت واحد كما في هذه الآية؟! يقول العلماء: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) جاء بصيغة الجمع، والمقصود به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تأتي صيغة الجمع في الجنس والمراد به الفرد، كما أنه قد يكون العكس، ومن الأول قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] يتفق العلماء على أن كلمة (النَّاسَ) المراد بها هنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثال آخر: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] ، هل القائل جميع الناس أم فرد واحد؟! فرد واحد وهو نعيم بن مسعود، فأطلق عليه لقظ: (الناس) في قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) ، فالأولى المراد بها فرد من الجنس، والثانية مراد بها الجنس كله، ولماذا هذا؟ لأن الفرد الذي استعمل في حقه اسم الجنس قام مقام جنس كامل، فقوله: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) ، المراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر بلفظ الناس؛ لأنه بما أعطاه الله يعادل الناس كلهم، وكما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] ، هو واحد لكن كان أمة؛ لأنه وحده الذي كان يعبد الله في ذلك الوقت، وأمَّة أي: إماماً قدوة، ويقول بعض العلماء: إن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توجه إليه الخطاب. وبعضهم يقول: لا، بل قال الله لكل رسول في زمنه: كل من الطيبات واعمل صالحاً، فهو قال لكل رسول في وقته، وهنا جاءت الآية إخباراً بمجموع ما حدث وحصل من قول الله لرسله، ومهما يكن من شيء فالأمر عام لجميع رسل الله. ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ، مما يلفت النظر من الأساليب البلاغية، وبلاغة القرآن فوق كل بلاغة، أن الرسول قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) ، وجاءت صيغة الأمر في حق الرسل: (كُلُوا مِنْ الطَيِّبَاتِ) ، والطيبات هذه لم يذكرها مقيدة، بل قال: (كُلُوا) ويكفي؛ لأنهم رسل الله يأكلون من الطيبات ويعملون الصالحات، أما المؤمنون فقال لهم: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، وأليست الطيبات التي يأكل منها الرسل مما رزقهم الله؟! بلى، ولكن هناك فرق، فلو أنك أعطيت ولدك أو صديقك مائة ريال، ثم قلت: يا فلان! اصرف مما أعطيتك، فقولك: (مما أعطيتك) تُعد مؤشراً في ذهنه بأنك تذكره بما أعطيته، ولكن لو قلت له: يا فلان! اصرف كيفما شئت، ولم تشر إلى (أعطيتك) ، فالوضع يختلف، وهكذا حينما يوجه الله سبحانه الخطاب إلى الرسل، وهم الذين يعلمون حقيقةً أن الرزق من عند الله، فهم رسل الله، فكأن الأسلوب يعفيهم من إشعار المنة في رزقه إياهم، (كُلُوا مِنْ الطَيِّبَاتِ) ، لكن المؤمنين يحتاجون إلى التنبيه، فيقال للمؤمن: كل من طيبات رزق الله التي لديك، ولذلك رتب عليه: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) ، بينما الرسل ليسوا في حاجة إلى التنبيه أو إلى أن يكلفوا بالشكر؛ لأن من طبيعة رسالتهم أن يعرفوا أن تلك الطيبات من الله، وهم يقومون بجبلتهم بشكر نعم الله، فهم رسل الله، ومقامهم ومكانتهم عظيمة، وبالنور الذي يحملونه يعرفون حق المنعم فيشكرونه، فإذا قيل لهم هنا: واشكروه، فكأن فيه إشعاراً بتقصير منهم في الشكر، وهذا لا يليق بمقام الرسالة، أما عامة الناس فهم في حاجة إلى أن ينبهوا إلى أن هذه الطيبات من رزق الله، وأن عليهم شكر النعمة؛ لأن أفراد المؤمنين ليسوا كالرسل، فالرسل ليسوا في حاجة كالأفراد إلى التنبيه بأنها من زرق الله، ولا يطالبون بشكر النعمة؛ لأن مقام الرسالة يحملهم على شكرها ولو لم يأتِ هذا التنبيه، بخلاف أفراد الناس فهم بحاجة إلى أن تدعوهم وأن تذكرهم وأن تبين لهم أن هذه الطيبات مما رزق الله، من أجل أن تقابل النعمة والرزق الطيب بالشكر. ثم قال: {إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] ، وهذه أخص بعامة الناس دون المرسلين. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يستدل بهاتين الآيتين على عموم التكليف، وأن الخطاب للمرسلين يتضمن تكليف المؤمنين، لكن هل تكليف الله للمرسلين وللمؤمنين خاص بهذا الباب؟ التكليف في هذا الحديث ورد في الطيبات، لكنه عام، فكما أمر الله المرسلين بالصلاة والزكاة والصيام. إلى آخره، كذلك أمر المؤمنين تبعاً لجميع المرسلين.

أثر أكل الحرام

أثر أكل الحرام ذكر عليه الصلاة والسلام أثر الأكل من الطيبات في حياة الإنسان وعلاقته بربه، والأصل مبدأ (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، سواءً في العبادات والمعاملات والمطعم والمشرب، واستدل بالآيتين على عموم التكليف بأكل الطيبات من الرزق وشكر النعمة، ثم كأنه قارن بين من يأكل الطيبات وبين من لا يتحرى أكل الطيبات، وما هي النتيجة من عدم تحري الحلال الطيب؟ انظر إلى رجل أشعث أغبر، يطيل السفر، وهذه الحالة بالنسبة للعبد مع الله حالة استعطاف، وطلب رحمة، وافتقار إلى مساعدة، لا حالة انقطاع وإعراض وترك، فالإنسان إذا كان أشعث أغبر يطيل السفر، في حاجة إلى الرحمة والشفقة والعطف عليه من الله سبحانه وتعالى، وفي الحديث:: (ثلاث دعوات لا ترد) وذكر (المسافر) ، والمسافر موضع الرحمة، ويرخص له في الصلاة أن يقصر، وفي الصيام أن يفطر، وإن كان له ورد حال إقامته ثم عجز عنه بسبب سفره؛ أمر الله الملائكة أن تكتب له في سفره ما كان يعمله وقت إقامته، وهذا إكرام له؛ لأنه في حالة ضعف مع طول السفر والجهد، وفي الحديث: (السفر قطعة من العذاب) . (أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء) ، فيه مشروعية رفع اليدين في الدعاء، (يا رب!، يا رب!) يلح على ربه، ومع هذا لم يستجب له! لماذا؟ (مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذِيَ أو غُذِّي بالحرام) غُذِّي: أي: غذّاه غيره، أي: في حالة طفولته نشأ على الحرام بين أبويه، وغذِي: أي: هو غذى نفسه واقتات من الكسب الحرام، (فأنى يستجاب له؟!) بمقتضى هذا، فهذه قضية منطقية أن من غذي بالحرام ومد يديه وألح في الدعاء لا يستجاب له، ويستبعد أن يستجاب له. لكن يجب أن نستثني المظلوم، فالمظلوم لا ترد دعوته ولو كان مأكله حراماً، المظلوم لا ترد دعوته ولو كان كافراً، كما في الأثر: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً، علم أن له رباً فدعاه) ، والمشركون لما كانوا يركبون البحر، وتأتيهم العواصف، يدفعهم الاضطرار إلى أن يدعوا الله وحده، فيستجيب لهم، لماذا؟ لأنهم في تلك اللحظة كفروا بتلك الآلهة واتجهوا إلى الله وحده، وهكذا المضطر المظلوم -ولو كان كافراً- حينما يتوجه إلى المولى وحده، فهو في تلك اللحظة ألغى جميع الآلهة من مفهومه، وعرف أنها لا تنفعه بشيء، وجاء في السير أن عكرمة بن أبي جهل هرب في عام الفتح، وركب في السفينة، فاضطرب بهم البحر فقال ملاحها: أخلصوا الدعاء لله وحده الآن، فإنه لا ينجي من هذا إلا الله، فقال: عجيب! إذا كان لا ينجي في البحر إلا الله فلا ينجي في البر إلا هو، لله عليّ إن أنجاني الله من هذه لآتين محمداً، ولأضعنّ يدي في يده، ولأجدنه رءوفاً رحيماً، مع أنه كان في جماعة مشركة تعبد الأصنام، واصطحبوه معهم، ومع ذلك فإنهم عند الشدة يلجئون إلى الله وحده لا شريك له سبحانه. وكذلك حصين والد عمران بن حصين، لما سأله صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ قال: ستة في الأرض، وواحداً في السماء! فقال: من الذي لضرائك وسرائك وشدائدك؟ قال: الذي في السماء) . وقوله هنا: (أنى) أنى للاستبعاد، أي: كيف يستجاب له؟ لأنه لم يأكل طيباً فيقبل على الله بقلب وبقول طيب، وإنما كما قال صلى الله عليه وسلم: (غذي بالحرام) ، وهذا يؤكد قاعدة: (كل ما نشأ عن الحرام فهو حرام) ، وكما يقولون: (الفرع يتبع الأصل) وكقولهم: (ما كان أصله باطل فشرعه باطل) . ومن هنا يقول بعض العلماء: اللقمة الحرام إذا قذفها العبد في جوفه لا يقبل الله له صلاة أربعين يوماً! وقال أحمد رحمه الله: لو أن إنساناً اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيها درهم واحد حرام، لا يقبل الله صلاته في هذا الثوب، وكل هذا تنفير من الحرام، وفي الحديث الصحيح: (كل جسم نبت من الحرام فالنار أولى به) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (غذِّي بالحرام) مسئولية كبرى على الآباء للأبناء، فليتق الله كل أب في أسرته، في أبنائه، فلا يطعمهم الحرام؛ لأنه إذا غذِّي بالحرام، كان هذا الجسم نابتاً بالحرام، فإذا كبر ودعا فقد لا يستجاب له، فيجب وقايتهم من ذلك لقوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] ، فالإنسان مسئول عن أبنائه، وعليه أن يطعمهم بكده وبتوكله على الله، ومن رزق الله الحلال. وقوله تعالى: {طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ، يقف عندها العلماء، هل الطيب هنا هو المعنى الحسي أو المعنوي؟ هل الطيبات هنا مثل: الرطب الطيب، والعنب والموز واللحم المشوي؟ هل هذا هو الطيب أم غيره من الحلال ولو كان ملحاً وخلاً؟ حقيقة الطيب هو: الطيب في الشرع قبل كل شيء، فلو كان من أشهى ما خلق الله، عسلاً مصفاً، وزبداً لكنه مسروق فهل هو طيب؟ والله! ما هو بطيب؛ لأنه من الحرام، ومآله إلى النار. لكن لو أكل إنسان خلاً وملحاً وخبزاً حلالاً، وشرب الماء فهذا نِعْم الأكل، وهو طيب؛ لأنه يعين على طاعة الله، وسمعتم قضية الشافعي لما جاء عند أحمد، وأكل كثيراً، وبنت أحمد قالت: كيف تقول الشافعي صفته كذا وكذا وصفته ليس من صفات العلماء، فإنه أكل كثيراً، ومن أكل كثيراً نام طويلاً، وما تعبد، قالت: اسأله، فلما سأله قال: والله! لها حق، منذ أن خرجت من بيت أمي -وكان في غزة- ما ملأت بطني بطعام أبداً؛ أتقي الشبه، فلما جئت بيت أحمد بن حنبل علمت أنه يتحرى الحلال، فوجدت الحلال فأشبعت بطني. وهكذا -أيها الأخوة- الإنسان إذا تعود الحلال، فقدم له الحرام، فإنه يجد عنده حساسية منه، وتقلق نفسه، ولا يطمئن إليه قلبه، ويرتاب، وتعلمون قضية عمر لما أرسل غلامه ليأتيه بالحليب من أبله، فرجع فشرب فاستنكر عمر طعم الحليب، وقال: من أين جئتني بهذا الحليب؟! قال: والله! أرسلتني إلى أبلك فوجد الراعي قد أبعد بها، وأدركت إبل الصدقة في الطريق فحلبوا لي منها، إذاً: عمر يستنكر طعم حليب إبل الصدقة، ولو تعمد هذا ما تركه يستقر في جوفه، والذي يهمنا أنه استنكر. وكذلك الصديق، جاء غلام له -أي: عبد له- بطعام، فأكل، فاستنكر الطعام فسأل: من أين جئتني بهذا الطعام؟ قال: تكهنت في الجاهلية لرجل، وما أنا -والله- بكاهن، فلم آخذ منه شيئاً، فلقيني فأعطاني حلواني، فاشتريت لك به، وحلوان الكاهن لا يجوز، وكان هذا في الجاهلية، والإسلام يجب ما قبله، ولكنه أخذ شيئاً بغير مقابل، وهو محرم، وما أدرى الصديق بحرمة هذا الطعام؟ أنها حساسية وشفافية، فيحس هل هذا الطعام طيب أم لا؟ لأن الجسم كله طيب، فلما أكل غير الطيب لم يتلاءم معه، وهذا مثل جهاز كهربائي لو وصلت إليه تياراً بقوة مائتين وعشرين فلتاً، وهو مصمم ومعد ليستقبل مائة وعشرة (فلت) ، ماذا يصير فيه؟ يحرقه يحترق، ولو كان معداً لاستقبال تيار بقوة مائتين وعشرين، ووصلت إليه تياراً بقوة مائة وعشرة (فلت) ، فإنه لا يشتغل، فالجسم الذي نمى وترعرع على الطيب صار كله طيباً، ولا يقبل إلا ما كان من جنسه. إذاًَ: يبين صلى الله عليه وسلم أن أكل الطيب يعين على طاعة الله، وقليل من الحلال خير من كثير مع الحرام، فالحرام لا خير فيه، وأكل الحرام يمنع إجابة الدعاء. إذاً: هذا الحديث في جملته يرسم لنا منهج الزهد والعفة والتعفف واتقاء الحرام واتقاء الشبهات؛ ليرد ذلك مفعوله علينا في عبادتنا، وفي أولادنا؛ لأن من غذِّي بالحرام وهو صغير فعاقبته تكون سيئة، وأنت المسئول عنه. والله أسأل أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحديث الحادي عشر [1]

الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [1]

شرح حديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)

شرح حديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. [عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) رواه النسائي والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح] . أيها الإخوة! هذا الحديث على قصر عبارته، وقلة ألفاظه، أصل من أصول هذا الدين، ففيه بيان مسلك الأتقياء الزاهدين الورعين الذين يخافون الله ويقدرونه حق قدره.

فضل الحسن بن علي راوي الحديث

فضل الحسن بن علي راوي الحديث راوي هذا الحديث هو: أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وأمه هي: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه بالبنوة تشريفاً وتكريماً حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر، فأخذه وحمله وقال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين من المسلمين) . وصفه النووي بأنه ريحانة رسول الله، والريحانة نبت معروف، وهو الريحان، وهو من أنواع النباتات العطرية، ومادة: روح مثل ريحان والارتياح تعطي الارتباط من ارتياح النفس إلى الطيب، وقد كان الحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهما ريحانتي المصطفى، وهما سيدا شباب أهل الجنة، والريحانة استعملت هنا إما على سبيل الاستعارة، أو على سبيل الحقيقة، فالاستعارة لارتياح النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤيتهما، والحقيقة حينما يأخذهما ويشمهما فإنه يجد منهما انطلاقاً من العاطفة والرحمة- مثلما يجد من شم الريحانة بالفعل. ونحن نشاهد هذا بين الطفل وأمه، وبين الأم وطفلها، تجد الأم لو كانت مكتئبة وولدها غائب عنها، فإذا أخذته -وخاصة إذا كان صغيراً- فإنها تقبّله وتشم رائحته، وقد قال سبحانه في قصة يعقوب مع يوسف: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94] ، إذاً: فهو ريحانة رسول الله إما على الحقيقة فيجد منه الريح الطيبة ويرتاح إليه، وإما على سبيل الاستعارة، فكما ترتاح النفس إلى شم الريحان فكذلك ترتاح إلى رؤيتهما، ومهما يكن من شيء فيكفي في مناقبهما رضوان الله تعالى عنهما أنهما سيدا شباب أهل الجنة. ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعل الله أن يصلح به بين الطائفتين) ، وفعلاً بعد أن توفي علي رضي الله تعالى عنه، بويع الحسن خليفة، ومكث في الخلافة ستة أشهر، قال علماء التاريخ: وهي تتمة الثلاثين عاماً المذكورة في حديث: (الخلافة ثلاثون عاماً، ثم يكون بعد ذلك الملك العضوض) ، وهذا أمر تاريخي لا حاجة لنا في الخوض فيه، فبايعه أربعون ألفاً من أهل العراق، وذهب ليلتقي مع معاوية، فلما التقى الجيشان، رأى أنه إن كان غالباً أو مغلوباً فلابد من إراقة الدماء، ولابد من قتل الأنفس، ولابد من ضحايا من الجانبين، فرأى أن يترك الأمر لـ معاوية، ولم ينازعه حقناً للدماء، وكتب شروطه وقبلت بكاملها، وحقق الله ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصلح الله به بين طائفتين) وقالوا: إن يزيد بن معاوية بعد أن استتب الأمر لأبيه، أرسل إلى زوجة الحسن لتسمه، وكان من أمره ما كان، ونرجع إلى شرح الحديث، ولا ندخل في قضايا التاريخ. ووصف النووي هنا الحسن بن علي بأنه سبط رسول الله، والسبط ولد البنت، قال: حفظت، وهو رضي الله تعالى عنه ولد في السنة الثالثة من الهجرة، ومعنى ذلك أنه أدرك من حياة رسول الله سبع سنوات، وفي هذه الحالة إذا روى حديثاً فإنه يحتاج إلى التثبت وإلى التأكد؛ ولذا يقول: حفظت، ومن كان في سن السابعة يحفظ، ومن هنا قال: حفظت من رسول الله، وأحاديثه قليلة؛ لأنه -كما أشرنا- توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنوات، فمما حفظ قوله صلى الله عليه وسلم: (دع) بمعنى: اترك (ما يريبك إلى مالا يريبك) (ما) من صيغ العموم، وهي بمعنى: الذي، والريبة: الشك واللبس كما في قوله سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] أي: لا شك ولا لبس فيه، والشيء الذي فيه الريبة، والذي فيه الشك واللبس بخلاف ذلك، وقوله: (دع ما يريبك) أي: اترك الشكوك وما فيه الريبة في نفسك إلى ما لا ريبة ولا شك فيه، وعليك بما كان خالصاً واضحاً لا لبس فيه ولا شك فيه. وهذا الأمر (دع) فعل أمر بمعنى اترك؛ لأن (دع) ليس لها ماض، ولها مضارع (يدع) ، فدع فعل أمر أغفل ماضيه.

هل الأمر في هذا الحديث للاستحباب أم للوجوب؟

هل الأمر في هذا الحديث للاستحباب أم للوجوب؟ هل الأمر بترك ما يريب على سبيل الاستحباب أو على سبيل الوجوب؟ المتأمل في أحاديث هذه الأربعين النووية المباركة، يجد حديثين سوى هذا في هذا الباب، تقدم حديث: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) ، إذاً: الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، والشبه تورث الريبة، فمن وقع في المشتبهات جره ذلك إلى الحرام، ومن ترك الشبهات كانت حمىً وحاجزاً ووقاية له عن الوصول إلى منطقة الحرام، فحديث: (دع ما يريبك) للتوجيه، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء، والحديث الثالث هو الحديث السابع والعشرون من هذه المجموعة، وهو حديث: (جئت تسأل عن البر؟ البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، فالأمر المريب هو: الذي أحسست فيه بالإثم، وأحسست بأنه يحوك في صدرك، وخشيت أن يطلع عليه الناس، فهذه الأحاديث الثلاثة في هذا الموضوع تبين بمجموعها منهج الورع في الإسلام حقاً. وصور ترك الريبة في الإسلام كثيرة، ويذكر العلماء أموراً يجب على كل مسلم أن ينظر إليها، وأن يقف عندها، فترك الريبة استبراء للدين والعرض، وإذا نظرنا إلى الحديث السابق عرفنا مدى أثر هذا الحديث وتأثيره في حياة المسلم، ففي الحديث العاشر الذي قبل هذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، وقال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] ) ، فأمر الرسل وأمر المؤمنين بالأكل من الطيبات، وعمل الصالحات، والحلال الطيب هو: الذي لا شبهة ولا ريبة فيه، ولذا ذكر بعده: (الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء، يقول: يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟) . وذكر الرجل الذي يطيل السفر أشعث أغبر؛ لأن المسافر تستجاب دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة تستجاب دعوتهم: الصائم، والمسافر، والمظلوم) ، فالمسافر من ضمن الثلاثة الذين تستجاب دعوتهم، وهذا الرجل مع كونه ممن تستجاب دعوته ولكن لا يستجاب له، لوجود المانع القائم، ألا وهو أنه يأكل الحرام، ويشرب الحرام، ويلبس الحرام، وغذي بالحرام، فتناول الحرام مانع من استجابة الدعاء. وكيف تتجنب الحرام؟ أتى النووي بهذا الحديث هنا ليبين بأن من كمال تجنب الحرام حتى تستجاب الدعوة أن تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وكأنه يقول: لا يتم اجتناب الحرام ولا يتم اكتمال الحلال إلا بترك ما فيه ريبة. ولذا يقولون: الورع هو: أن تترك مالا بأس به خشية مما فيه بأس، تترك الشيء الذي لا بأس فيه ولا شبهة فيه مخافة أن تقع فيما فيه بأس، فمن سد الذرائع: ترك المباح مخافة من الوقوع فيما ليس بمباح، وهذا هو الورع، فكل ما يحيك في صدر الإنسان فهو شبهة فليتركه.

قصص في الورع

قصص في الورع إذا أراد طالب العلم أن يتتبع ما مضى في الأمم السابقة واللاحقة مما يذكره العلماء من قصص أهل الورع من هذه الأمة، لجاء ذلك في سفر كبير.

قصة نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام

قصة نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام قد ذكر الله قصة سليمان عليه السلام حينما استعرض الخيل، واشتغل بها حتى غربت الشمس: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32-33] ، والصحيح في تفسيرها أنه استعرض الخيل التي يجاهد بها في سبيل الله، لكنه شغل بها حتى غربت الشمس، وضاعت عليه صلاة العصر، فوجد في نفسه ريبة وشكاً من الخيل، فردها وتصدق بها كلها.

قصة رجلين من بني إسرائيل

قصة رجلين من بني إسرائيل قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل اشترى أرضاً، فوجد فيها كنزاً، فذهب إلى الذي باعه فقال: هلم خذ كنزك، قال: إني بعتك الأرض بما فيها، قال: إني اشتريت أرضاً ولم أشتر كنزاً، قال: وأنا بعت الأرض بما فيها، وتخاصما لمن يكون الكنز الذي كان مدفوناً ولا يعلم به أحد عند البيع!) فالبائع يتورع أن يأخذ شيئاً لم يكن في ذهنه، والمشتري يتورع أن يأخذ شيئاً لم يكن داخلاً في العقد، قال عليه الصلاة والسلام: (فجاء رجل صالح فاختصما إليه فقال لهذا: ألك ولد ذكر؟ قال: نعم. وقال لهذا: ألك ابنة؟ قال: نعم، قال: زوجا أحدهما بالآخر، وادفعا إليهما الكنز) ، وهذه قصة عجيبة، ولها نظير في هذه الأمة.

قصة أبي طلحة رضي الله عنه

قصة أبي طلحة رضي الله عنه كان أبو طلحة رضي الله تعالى عنه يصلي الضحى في بستان له متشابك الأغصان، فإذا بطائر الدبسي يريد أن يخرج من بين الأغصان وهي متشابكة، فأعجبه حسن بستانه، وأتبع الطائر بنظره وهو في صلاته حتى وجد الطائر فرجة فخرج منها، ثم رجع أبو طلحة إلى نفسه فوجد أنه انشغل عن الله بهذا الطائر الذي كان في بستانه، فقال: إني فتنت في مالي، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: ضعه في سبيل الله يا رسول الله! وهذه القصة تشبه قصة سليمان حينما انشغل بالخيل حتى غربت الشمس، وهذا شغل في صلاته بالطائر حتى خرج من بين الأغصان، وكلاهما قدم ذلك الذي شغله في سبيل الله.

قصة تاجر من أهل المدينة

قصة تاجر من أهل المدينة يشبه قصة صاحب الكنز ما ذكره بعض العلماء أن رجلاً في صدر هذه الأمة، كان تاجراً بالمدينة، وله غلام بالبصرة، فكتب إليه الغلام: إن قصب السكر قد فسد فانظر ما عندك من السكر فاشتره، فقام: واشترى السكر من تاجر كبير، وبعد أن فسد قصب السكر نقص الإنتاج، فارتفع السعر، فباع بربح كثير، فتأمل في نفسه ووجد أنه لم يخبر الذي اشترى منه السكر، فذهب إليه وقال: يا فلان! لقد اشتريت منك السكر، ولم أخبرك بما أخبرني غلامي، وإني لا أراني إلا قد خدعتك، فخذ ثمن السكر وخذ ربحه، فقال البائع: ها أنت الآن أعلمتني، وقد أبحتك ما ربحت، فما زال يلح عليه به حتى قبل منه الربح. فننصح التجار الذين يستغلون الفرص فإذا عرف واحد منهم موجبات رفع السلعة، قام وجمع ما في السوق، ولا يخبر أصحاب السلع بما دفعه إلى ذلك، فلا ينبغي هذا، ومن يفعل ذلك فهو مخادع لم ينصح، ومن واجب النصح لعامة المسلمين أن يخبر التاجر بأن السلعة سيرد عليها كذا، ليكون على علم فإن شاء تعجل بالبيع، وإن شاء انتظر حتى ارتفاع السعر لينتفع هو أيضاً. وبهذه المناسبة ننبه أن كل ذي سلعة يعلم من أمرها ما يمكن أن يسبب في ارتفاع الأسعار، ثم جمع ما يوجد بأيدي الناس دون أن يخبرهم؛ فهو غاش مخادع وليس بناصح، مثلاً: علم تاجر بأن مصنعاً من مصانع سلعة تعطل أو توقف لمشكلة، وسيقل الإنتاج، ويقل العرض، ويكثر الطلب، فترتفع السلعة، فيذهب ويجمع نوعها من الأسواق دون أن يعلمهم بما وصل إليه الخبر؛ فهو غاش لهم ومخادع وليس بناصح.

الحديث الحادي عشر [2]

الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2]

نصيحة للتجار

نصيحة للتجار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: نحذر التجار وننبهم نصحاً لله ولكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فنقول: قد يأتي مشروع في البلد، مثل مرور شارع أو غيره بأراضٍ شاسعة، وأصحاب الأراضي لا يعلمون بذلك، ولكن الذين عندهم التخطيط يعلمون، لهم أصدقاء أو اطلعوا على ذلك من مرجعه، فيذهب التاجر وكأنه لا يعلم شيئاً، فيشتري ما يعلم بأن المشروع سيمر من عنده؛ لأنه يعلم أن الدولة ستعوض بأضعاف القيمة، ويخفي هذا الأمر على أصحاب الأراضي ويشتري منهم، وبعد فترة يظهر المشروع، ويعوض المشتري أضعاف أضعاف ما دفع، فهل هذا ناصح؟! لا، وكيف يستحل هذا التعويض المضاعف ويحرم صاحبه منه؟! وقد ذكرنا ورع سلف هذه الأمة، اشترى أحدهم السكر لما علم أن الإنتاج سيقل، ثم تورع عن الربح، وهو بيع وشراء صحيح، لكن في المستقبل ربما يعوض بشيء آخر، ولكن مع ذلك تأسف وأحس بالحرج، وأحس بالريبة، فترك ذلك، ورجع إلى صاحب السكر، ودفع إليه الربح!! ويذكر العلماء أن رجلاً أرسل بضاعته إلى البصرة، وقال لغلامه: بعه بالسعر الذي وجدته يوم وصوله، فوجد الغلام السعر نازلاً، فأمسك عن البيع، وبعد فترة ارتفع السعر، وباع البضاعة بربح كثير، وأرسل لصاحبه، فكتب إليه: لقد خنتنا، لقد أمرتك أن تبيع بسعر اليوم الذي وصلت فيه، فأمسكت حتى ارتفع السعر، فتصدق بكل القيمة على فقراء البصرة، ولعلنا ننجو بذلك!! ماذا نقول -يا جماعة- في هذه النماذج؟! وبالنسبة في الوقت الحاضر لا تكاد تجد مثلها إلا ما شاء الله، فيستغرب الإنسان على هذه الصور، وهو ليس بغريب.

عبد الرحمن بن عوف مثال التاجر التقي

عبد الرحمن بن عوف مثال التاجر التقي عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قدم إلى المدينة بلا شيء، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين رجل من الأنصار، وأخوه الأنصاري عنده زوجتان، فقال له: هلم إلى زوجتي فاختر أيهما شئت، فأطلقها وتعتد وتتزوجها، وهلم أقاسمك مالي، سبحان الله العظيم! فقال: أمسك عليك زوجك، وبارك الله لك في مالك وفي زوجك، دلني على السوق، فذهب إلى السوق، وأخذ يبيع ويشتري، يأتي يوم بأقط، ويوم بسمن، ويوم بكذا وكذا، حتى اتسعت تجارته، وأصبحت القوافل تأتي إليه من الشام إلى المدينة، ومرة في يوم جمعة، والرسول صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فإذا بطبول القافلة تدق، فخرج الناس إليها، ونزلت الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، فما بقي في المسجد إلا إثنا عشر رجلاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو خرجوا جميعاً عن بكرة أبيهم لسال عليهم الوادي ناراً) ، فعلم عبد الرحمن أن تجارته هي سبب انصراف الناس، وجاءه التجار وأعطوه في المائة ربح درهم، ودرهمين وخمسة وعشرة وهو يقول: عندي زيادة، فأعطوه في المائة عشرين ثم خمسين ثم في المائة مائة فقال: عندي زيادة! فقالوا: يا ابن عوف! ليس في المدينة تاجر إلا وقد حضر، فمن يدفع لك أكثر من ذلك؟ فقال: ربي، هي صدقة في سبيل الله، القافلة كلها بعيرها وعبيدها وتجارتها في سبيل الله! لماذا؟ لأنه علم أنها سبب خروج الناس عن رسول الله، وقد رأى رؤيا بأن القيامة قامت، وعرض ونوقش حتى ظن أنه هالك، وقال: ما أنجاني إلا صحبتي لك يا رسول الله! هذه هي النفوس المطمئنة، والقلوب الخاشعة.

حكم الاحتكار

حكم الاحتكار احتكار السلعة قسمان: جمع السلعة في إبّانها عند وفرتها، فيضعها في مخازنه حتى إذا انقطع من الأسواق إنتاجها، أخرجها وباع، فهذا تاجر يحتكر ليتحكم في المسلمين، وهو ظالم؛ لأنه يتحكم في قوت الناس، أما إذا كان يجمع ليبيع، ولا يقصد وقت الغلاء، فلا مانع من ذلك، مثلاً: حين الحصاد يجمع القمح ويبيع، وحين الجذاذ يجمع التمر ويبيع، ولكنه لو احتكر ذلك إلى الشتاء مثلاً، ليبيع التمر عندما تنفذ السلعة، ولم تبق إلا عنده، فيتحكم في السلعة عند البيع للناس، فهذا هو الخاطئ المذكور في حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ) ، بمعنى: ظالم، ويقول علماء الحسبة: للإمام أن يتدخل ويجبره على البيع بما لا ضرر ولا ضرار، وما يجعلونه من أخذ امتياز السلعة، والتحكم بها في السوق داخل في هذا الباب، أما حرية البيع والشراء فلا شيء فيه، فإذا كان يجمع الحبّ في وقته، ثم يأتي بعد انتهاء الحصاد وينزل السلعة إلى السوق، والدكاكين مفتوحة، والمستودعات مفتوحة، والبيع والشراء قائم، فلا مانع في ذلك؛ لأنه لم تتوقف حاجة الناس إلى ما في يده. ذكروا أن رجلاً احتكر طعاماً، ثم رأى في الخريف سحابة، فخشي أن تمطر، ويزرع الناس، ويكثر الطعام، فيضيع عليه ما احتكر، فقال: أكرهت الخير للمسلمين؟! فأخرج ما احتكره، وباعه برأس ماله، دون أن يربح شيئاً. لماذا المحتكر خاطئ؟ يبينه قصة هذا الرجل، فحينما احتكر الطعام تمنى ارتفاع السعر، وارتفاع السعر يأتي نتيجة قلة السلعة، وقلة السلعة شدة على الناس، فإذا جاء المطر، وأنبتت الأرض، وتوافرت السلعة؛ كره ذلك، فهو لا يحب المطر، بل يكرهه لما يترتب عليه من الخير للمسلمين. والمرابي يكره أن يستغني الناس عنه، فهو يحب للفقراء الفقر والحاجة والاضطرار، فإذا سمع بأن عميله استغنى كره ذلك؛ لأنه يريده دائماً متعاملاً معه، فإذا جاء الخصب وجاء الغنى كره ذلك المرابي؛ ولهذا فإن المرابي عدو المجتمع.

محاسبة النفس

محاسبة النفس ذكرنا قصة التاجر الذي احتكر السلعة، ثم رأى سحابة فكره في نفسه أن يأتي المطر، ويكثر الزرع، وتضيع عليه ثمرة احتكاره، لكنه تنبه، وارتاب في نفسه أنه لا يحب الخير للمسلمين من أجل منفعته الخاصة، وحمله على ذلك الرغبة في الربح، فإذا به يخرج ما احتكره، ويبيعه في الأسواق بدون ربح، فما الذي حمله على زهده هذا؟ محاسبته نفسه، ولما كان عمله يؤدي إلى ألا يحب الخير للناس، ارتاب في عمله. فمن الناس من تكون عنده شفافية في معرفة الحلال والحرام، يرى الريبة في الشيء فيعافه، ويذكرون عن بعض السلف كـ ابن سيرين وغيره، أن منهم من يترك أربعين ألفاً، ومنهم من يترك خمسمائة ألف من ميراثه من أبيه؛ لأن أباه كان يعمل في عمل فيه ريبة، وأحمد بن حنبل رحمه الله أبى أن يأكل خبزاً في بيت رجل في كسبه ريبة.

متى يكون الورع؟

متى يكون الورع؟ يقول العلماء: التحرز من الريبة يجب أن يكون بعد اجتناب كل محرم، لا أن يكون يتعامل بالربا الصريح، ثم يتورع عن كسب ما فيه ريبة! فهذا متناقض، وذكر بعض العلماء عن أحمد رحمه الله أن رجلاً قال له: أتأذن لي أن أكتب من دواتك؟ فنظر إليه وقال: هذا ورع مظلم، يعني: تتورع من الكتابة من الدواة، فهل قد تجنبت كل ما فيه شبهة أخرى؟ وسئل عن رجل طلبته أمه أن يطلق زوجته: أيطلقها براً بأمه؟ فقال: إذا كان قد بر أمه في كل شيء، ولم يبق إلا هذا فليفعل، أما أن يبرها في طلاق زوجته ثم يضربها، فليس هذا ببر. ويذكرون عن عبد الله بن عمر أنه جاءه أهل العراق يستفتونه في دم البعوض، فقال: واعجباً لكم! تستفتونني في دم البعوض، وقد قتلتم الحسين بن علي! والورع قسمان: - ورع من أهله، فهو من أهل الورع. - وورع مصطنع مظلم، فهذا بينه وبين الله. وهذا الحديث -أيها الإخوة- لو تدبره الإنسان وعمل به، فإنه يرسم له منهج حياته: فيما يدع، وفيما يأخذ، وفيما يتناول من طعامه وشرابه ولباسه، وفيما يتقي الله في كسبه، وقد قال العلماء في الحديث الذي قبله: لو أن إنساناً اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيه درهم واحد حرام؛ ما قبل الله صلاته في ذلك الثوب!

ورع أبي حنيفة رحمه الله

ورع أبي حنيفة رحمه الله ذكروا عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يبيع البز، وكان عنده ثوب فيه عيب، فركنه في جانب، فجاء خادمه وغلامه في غيبته وباع هذا الثوب بقيمته لو كان سليماً، فلما جاء الإمام إلى الدكان فلم يجد ذاك الثوب سأل عنه: أين هو؟ قال: بعته، قال: بكم؟ قال: بكذا. بسعره الأصلي، قال: هل أطلعت المشتري على العيب الذي فيه؟ قال: لا، فتصدق بقيمة الثوب كله! ما الذي حمله على ذلك؟ إنه الورع، وكان يمكن أن يتصدق بقيمة العيب الذي في الثوب، ولكن حمله الورع وتقوى الله على أن يتصدق بكامل قيمة الثوب. وذكرنا قصة الذي أمر غلامه أن يبيع السلعة بسعر يومه، فانتظر ولم يبع حتى ارتفع السعر، فكان يكفيه أن يأمره أن يتصدق بفارق السعر، ولكنه أمره أن يتصدق بالثمن كله، وقال فيما كتبه إليه: لعلنا ننجو بذلك! هذا الحديث وإن كان موجزاً في عبارته (دع ما يريبك إلا مالا يريبك) إلا أنه يأتي على كل تصرفات الإنسان، والناس في هذا الحديث طبقات ودرجات، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.

الأسئلة

الأسئلة

المسافر الذي تستجاب دعوته

المسافر الذي تستجاب دعوته Q من المسافر الذي تستجاب دعوته؟ A الحديث السابق كان فيه أبحاث عديدة، ولكن خشينا أن نبدأ بها فيضيع علينا الوقت على هذا الحديث، فمن أبحاث الحديث الأول: - آداب الدعاء. - الزمن الذي يتحرى فيه الدعاء. - المكان الذي يختار. - نوع الدعاء. وكل هذه يذكرها العلماء في مقدمات كتب الأذكار والأدعية، وهي مطروقة، وأوسع من ساق ذلك صاحب نزل الأبرار: السيد صديق خان. ومن الذين يستجاب دعاؤهم؟ جاءت أحاديث عامة، وجاءت أحاديث خاصة، فمن الخصوص المريض والمسافر والصائم، والمسافر المراد به من سافر مطلق سفر إما سفر طاعة وإما سفراً مباحاً، وإذا كان سفر معصية فبعض العلماء يقول: ليس له حق أن يترخص برخص المسافر، فمن باب أولى أنه لا يستجاب له الدعاء، وليعلم أن المضطر مسافراً كان أو مقيماً مضمونة له إجابة الدعوة، وكذلك المظلوم براً كان أو فاجراً، حتى الكافر كما في الحديث القدسي: (إني لأنصر المظلوم، ولو كان كافراً، علم أن له رباً فدعاه) ، وقال الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] ولم يقل: باراً أو فاجراً؛ لأن المضطر عند الشدة يقلع عن اعتقاده وتعلقه بكل شيء إلا بالله سبحانه وحده، وحينئذٍ يكون مؤمناً مخلصاً في دعائه. ومن أسباب إجابة الدعاء الإخلاص، فالإخلاص سر استجابة الدعاء، والمضطر أشد الناس إخلاصاً، هذا ما يتعلق بسؤال: من المسافر الذي تستجاب دعوته؟

الدعاء في مسجد قباء

الدعاء في مسجد قباء Q هل يستجاب الدعاء عند زيارة مسجد قباء؟ A زيارة مسجد قباء ليس فيه نص على استجابة الدعاء عنده، ولكن وردت بعض الآثار فيما بين الركن والمقام، فهناك تستجاب الدعوات، وجاء في الحديث الصحيح (أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف بالملتزم ما بين الركن والباب، ملصقاً صدره إلى جدار الكعبة وهو يبكي، فقال له عمر: أتبكي هنا يا رسول الله؟! قال: نعم يا عمر! ها هنا تسكب العبرات) ، فلا تسكب العبرات في لعب ولهو، ولكن في ذكر الله ودعائه. ومن أسباب استجابة الدعوة: الخضوع والتذلل بين يدي الله، حتى ذكر بعض العلماء أن من آداب الدعاء أن يجثوا الإنسان على ركبتيه، وقد جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه عندما كثرت الأسئلة على رسول الله فغضب وقال: (لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم عنه) وعلم عمر أنهم أغضبوا رسول الله، فقام وجثا على ركبتيه وقال: يا رسول الله! نستغفر الله ونتوب إليه، رضينا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً. يا رسول الله! كنا في الجاهلية فلا تكشف أستارنا، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] أي: بخشوع بين يدي الله، وهذا من آداب الدعاء. أما الذهاب إلى قباء للصلاة فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين، كان له كأجر عمرة) ، وكان صلى الله عليه وسلم يقصده ويذهب إليه كل أسبوع، وكان يصادف ذلك يوم السبت، وليس ذلك لذات السبت، ولكن كان يترقب أخواله بني النجار أن يصلوا الجمعة في المسجد النبوي، فإذا صلى وغاب بعضهم أو لم ير شخصاً كان يريد أن يراه، فمن الغد يوم السبت يذهب إلى قباء ليراهم هناك، وقال أنس: هذا المسجد لو لم يكن عندنا لاستحق أن تضرب إليه أكباد الإبل. ومسجد قباء نزل فيه القرآن الكريم، فقال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] ، فكفى بهذا شرفاً لقباء، وقد ورد أن المسجد الذي أسس على التقوى هو هذا المسجد النبوي، وقد أشرنا أن الأولوية إنما هي نسبية، فكل مسجد بني من أول يوم بنائه على التقوى خالصاً لله، بخلاف المسجد الذي يبنى مباهاة ومضارة لقوم آخرين، والله أعلم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، ونسأله من فضله، وأن يغنينا وإياكم بالحلال عن الحرام، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحديث الثاني عشر

الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر

شرح حديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)

شرح حديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: هذا الحديث الثاني عشر من أحاديث الأربعين النووية، وهو حديث أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، وهذا الحديث على وجازة ألفاظه يعده بعض العلماء نصف الإسلام، وبعضهم يقول: هو الإسلام، وبعضهم يقول: ربع الإسلام؛ لأنه من جوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمع قصر ألفاظه، وقلة كلماته، اشتمل على آداب الإسلام. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن) (من) للتبعيض، و (حسن) الحسن في الشيء زيادة في جماله وكماله وتحسينه. إذاً: هناك محسنات لغيرها، وورد فيما يتعلق بعنصر الإحسان حديث جبريل عليه السلام، حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، وكان الجواب النبوي الكريم عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) ، فالعبادة أصل، وإحسانها: أن تراقب الله حال عبادتك إياه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فيوجد عبادة، وإحسان تلك العبادة. وهكذا الإنسان إذا بنى بيته، وأقام أركانه، يأتي بمحسنات، ويأتي بوسائل التجميل لهذا البيت. إذاً: (من حسن إسلام المرء) ، يعمل بهذا الحديث من اكتمل إسلامه بأركانه، ثم هو يأخذ في المحسنات، ومن هنا قالوا: محسنات الإسلام، قد تندرج تحت هذا الحديث وقد لا تندرج، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق) ، وحسن الخلق من محسنات الإسلام، وهنا أيضاً: (من حسن إسلام المرء) ، و (المرء) هنا مذكر، ويؤنث بامرأة، والأصل في الأسماء الذكورة، ثم تأتي الأنوثة لها علامة زائدة، فتقول: امرؤ وامرأة، والتاء للتأنيث تكون زائدة عن لفظ المذكر، وقد يطلق (المرء وامرؤ) ويشمل الجميع بالتبع، كقوله هنا: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، وهذا الحديث يتعلق بجوانب الترك، والترك هو الكف، وفي عرف الشرع واللغة: الكف فعل، ومن كف عن سيئة فله حسنة، وكما قال القائل عند بناء المسجد النبوي، والرسول صلى الله عليه وسلم يشارك معهم: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل فجعل قعودهم عن العمل عملاً، إذاً: الكف فعل على الصحيح من أقوال العلماء. إذاًَ: ترك ما لا يعني فعل، ومن هنا كان هذا الترك من محسنات الإسلام.

ما يعني المرء وما لا يعنيه

ما يعني المرء وما لا يعنيه ما الذي يعني المسلم وما الذي لا يعنيه؟ (يعنيه) أي: تتعلق العناية به، وتتعلق مصلحته بعين ذلك الشيء، فهذا الفعل يعنيه، وهذا الفعل لا يعنيه، ولذا قسم العلماء الأعمال بالنسبة لهذا الحديث أربعة أقسام: أمر يعنيك فعله، وأمر لا يعنيك فعله، وأمر يعنيك تركه، وأمر لا يعنيك تركه. فإذا فعلت ما يعنيك وتركت ما لا يعنيك فقد جمعت الحسنيين، أما إذا تركت فعل ما يعنيك فهذا تقصير، وإذا فعلت ما لا يعنيك فهذا فضول، والكمال في فعل ما يعنيك وترك ما لا يعنيك، ولم يبق في عمل الإنسان وحياته قسم خامس بعد هذا. والعاقل لا يضيع وقته عن أمر يعنيه ولا يفعله، فهذا تفريط في حقه وضياع، والعاقل لا يترك الأمر الذي يعنيه، ولا يتبع ما لا يعنيه ويفعله، وقد ذكر العلماء أن من علامة سخط الله على العبد أن يشغله بما لا يعنيه خذلاناً له. وما اشتغل إنسان بما لا يعنيه إلا ضيع ما يعنيه؛ لأن العمل إما يكون في الحق وإما الباطل، وليس بعد الحق إلا الضلال، فإن شغلت وقتك في الحق وما يعنيك لم يبق عندك وقت لما لا يعنيك، وإن ذهبت إلى ما لا يعنيك فوت وضيعت ما يعنيك. قال العلماء: أهم ما يعنيك فعل الواجبات، وأهم ما لا يعنيك فعل المحرمات، فمن حسن إسلام المسلم تركه ما لا يجوز له فعله؛ لأنه لا يعنيه، فترك المحرمات والمكروهات، وترك الكبائر والصغائر مما يعني الإنسان تركه، والشخص إذا ترك المحرمات والشبهات والمكروهات يسلم ولو قصر في الواجبات، لكن إذا أخذ من هنا، ومن هنا، فقد خلط عملاً سيئاً وآخر صالحاً. إذاً: هذا الحديث كما يقول العلماء: ربع الإسلام، أو نصفه، أو كله: (من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه) ، هذا منطوقه، ومفهومه المقابل: (فعله ما يعنيه) ، وكأن هذا الحديث يضع المقياس للإنسان المسلم في حياته، ليعلم: ماذا يفعل، وماذا يترك؟

أمثلة من الواقع لترك ما لا يعني

أمثلة من الواقع لترك ما لا يعني لو نظرنا إلى حياة الناس في كل زمان ومكان، نجد الأمثلة على ذلك، فإذا كنت طالباً تمشي في الطريق، ووجدت اثنين يتحادثان، وجلست تتسمع لهما، فهل هذا يعنيك؟ هذا لا يعنيك، وقد أضعت وقتاً، وارتكبت إثماً، ونظر الناس إليك بما لا يليق، وتركت ما لا يعنيك، فلا تتجسس على أحد، ولا تتبع عورات الناس. ولو تزوج إنسان ثم سئل: كم دفع صداقاً؟ ومن هي المرأة؟ وكيف خطب؟ وكيف؟ وكيف؟ فهذا لا يعنينا. أو إنسان مات، فتأتي تسأل: كم عنده من الأولاد؟ وكم؟ وكم؟ والعوام يقولون: أردب ما هو لك، لا تحضر كيله، ما ينوبك إلا شيله، وهذا مثل عاصي يحذر من التدخل فيما لا يعني. وإذا رأيت مزارعاً في أرضه يحرثها أو يعمل فيها، فنقول: كيف تحرثها؟ ولأي شيء تحرثها؟ وماذا ستزرع فيها؟ فهذا لا يعنيك، وإذا كنت تريد أن تشتري أرضاً، وتريد زراعتها، فعند ذلك لك أن تسأل. وقد أكثر العلماء من الأمثلة على ترك ما لا يعني، والقاعدة العامة: أن تنظر ماذا سيعود عليك هذا العمل من نفع؟ فإن كان سيعود عليك نفع منه فهذا يعنيك، وإن كان لن يعود عليك منه نفع فهو لا يعنيك، ونفع المسلم قد يكون في دينه، يتعلم علماً ويعمل به، وقد يكون في بدنه يحفظه ويصونه ويغذيه، أو يستر عورته وقد يكون في ماله يحفظه ويصونه وينميه، وقد يكون عرضه يصونه عما يدنسه. في دينك: كأن تتعلم شيئاً تجهله، وأن تعمل بشيء أنت تاركه، وفي بدنك: أن تعالجه وتحافظ عليه وتطعمه وتكسوه، وفي مالك: بأن تنميه وتحفظه عن الحرام وغير ذلك، وفي عرضك: بأن تحفظه وتصونه من مواقف السوء كما علمنا صلى الله عليه وسلم، فقد ورد (أنه كان معتكفاً في رمضان، وجاءت زوجه صفية رضي الله تعالى عنها، فتحدثت عنده ساعة، ثم أرادت أن ترجع، فقام معها ليقلبها إلى بيتها، فرأى رجلين يسرعان الخطى، فوقف ووقفت معه وقال: على رسلكما! إنها صفية، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله! فقال: إني خشيت أن يقذف الشيطان بشيء في نفوسكما فتهلكا) . فيجب على المسلم ألا يقف في موقف شبهة.

الإحسان قاعدة عامة في الإسلام

الإحسان قاعدة عامة في الإسلام الإحسان في الإسلام قاعدة عامة في جميع الأعمال، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) ، فإذا كان المولى سبحانه كتب الإحسان على كل شيء فلأن تحسن إسلامك من باب أولى، وكيف تحسن إسلامك؟ تصون أعمالك وأقوالك مما ليس منه، ويقول العلماء: لا تحسد أحداً على ما هو فيه، ولا تحقد على أحد في شيء فعله، ولا تسيء الظن بإنسان لكلام تكلمه، ويقولون: (إن رجُلاً جاء إلى لقمان الحكيم، وهو في مجلسه، والناس يأخذون عنه الحكمة، فقال للقمان: ألست كنت عبداً لبني فلان؟ قال: نعم، قال: ألست كنت ترعى الغنم في جبل كذا؟ قال: نعم، قال: ماذا بلغ بك ما أرى الآن؟ قال: قدر الله، وصدق الحديث، وعدم دخولي فيما لا يعنيني) ، كان عبداً مملوكاً يرعى الغنم، تخلق بهذه الأخلاق، فوصل إلى ما وصل إليه، وأوتي الحكمة!! : {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] . وهكذا على الإنسان في نفسه، وفي مجتمعه، فإن كان موظفاً في دائرة، وله اختصاص في عمله، فلا يأتي بفضوله يتتبع عمل الرئيس أو المدير أو الزملاء الآخرين، ويقول: أنتم فعلتم كذا وكذا، فهذا لا يعنيك، وليس من اختصاصك، فلماذا تترك عملك وتنتقل إلى دائرة أخرى؟! لو أن رجلاً يعمل في مستشفى، وفيه عدة أقسام بالنسبة للأطباء، وجاء طبيب أسنان يعترض على طبيب جراح، ويقول له: أنت فعلت كذا وكذا، فنقول له: مهمتك هي في الضرس والسن، فلماذا تتدخل في أمر الجراحة؟ فهل هذا يعنيك؟ وبالعكس: طبيب جراح يسمع عن أعمال طبيب الأسنان، فيأتي ويقول له: يا أخي! أنت تكسر الضروس، فهل هذا مما يعنيه؟ لا. ولو ترك كل إنسان ما لا يعنيه ما وقع حسد، ولا وقعت خصومة، ولا وقع غل في صدر أحد، ولا تعطلت أعمال الناس، فإذا انقطع كلٌ لما يعنيه لتوفرت كل الأعمال. مثلاً: مصنع نسيج القطن، فيه مكينة تغزله، ومكينة تنسجه، فلو جئنا بمكينة الغزل لتعمل مكان مكينة النسيج، أو مكينة النسيج لتعمل عملية الغزل، فهل يمكن هذا؟ لا يمكن هذا، فقد أشغلت جهازاً فيما لا يعنيه، وهو لا يصلح له، وكذلك الإنسان إذا تدخل فيما لا يعنيه أفسده، وإذا لزم ما يعنيه قام بواجبه وبعمله، وكان كل شيء على ما يرام.

صلاح الناس في ترك ما لا يعني

صلاح الناس في ترك ما لا يعني لو طبق كل مسلم هذا الحديث في نفسه، وبيته، وسوقه، وعمله، والتزم حدوده؛ لصار دولاب الحياة منتظماً، ولو ترك كل إنسان ما يعنيه وتدخل فيما لا يعنيه لتعطلت الحياة، وصار هذا يتجسس على هذا، وهذا يتدخل في شئون هذا، وهذا يفسد أمر هذا. وأخطر ما يكون ما نراه اليوم، تجد الفتاة تتزوج، وتعيش مع زوجها في أحسن ما يكون، فتأتي أمها لتزورها وتقول: ما هذا العفش يا بنت؟! أهذه حياة؟! لماذا لا تكلمي زوجكِ؟! أنتِ ما عندكِ نظر! ما عندكِ لسان! كذا كذا والبنت كانت راضية بمعيشتها مع زوجها، فالأم ما يعنيها في حياة الزوجة مع زوجها؟ ثم تخرج الأم من البيت، ويأتي الزوج، وكان قد ترك زوجته في أحسن ما يكون من البشاشة والسرور، فيرجع وإذا الدنيا متغيرة، وتخاصمه: أنت ما فعلت لي كذا، وما فعلت لي كذا! وكل هذا بسبب الأم. وكم من مفاسد تقع في البيوت بسبب ذلك، ومن العجب! أن الإمام أحمد رحمه الله يقول: إذا رأى والد المرأة زوجها يضربها فلا يسأله: لماذا يضربها؟ ولا يتدخل فيما لا يعنيه، فهذا أمر بين الزوجين. ولهذا -يا إخوان- من حكمة التشريع الإسلامي ومحاسنه: أنه جعل الخلافات الزوجية مستترة خفية في غرفة النوم بين الزوجين إلى أن يعجزا عنها، فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ} [النساء:34] ، وقال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] ، هل قال: أحضروا أمها وأباها؟! لا والله! هل قال: نادوا الجيران؟! لا، وإنما قال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ} [النساء:34] قبل أن يقع النشوز، ماذا نفعل؟ قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] ، فإذا رأى منها بوادر النشوز، يبدأ يعظها بالموعظة الحسنة؛ لأن من مبادئ الإسلام اختيار الزوجة على مبدأ الدين، (تنكح المرأة لأربع: لحسبها، ولمالها، ولجمالها، وادينها، فاظفر بذات الدين) ، {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] ، فإذا كانت الزوجة -على مبدأ الاختيار الإسلامي- ذات دين، وحصلت هفوات ولا أحد يسلم، فتكون الموعظة، والموعظة أول ما تؤثر في ذات الدين، فالموعظة ستجد طريقها، وإذا كانت المشكلة أكبر، فاهجروهن، وأشد ما يكون ثقلاً على المرأة أن يهجرها زوجها في الفراش: {فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] ، وكأنه يقول لها: سلاحكِ الذي تتسلطين به عليَّ باطل ملغي لا تأثير له، ويعطيها ظهره. وإذا افتقدت المرأة سلاح أنوثتها، فلم يبق عندها إلا البكاء أو المكيدة، وإذا كانت مؤمنة فالمكيدة منسية، فإن نفع هذا الهجر فبها ونعمت وإلا ضربها، لا للتشفي، ولكن للتهذيب، والتوجيه، والتنبيه، والإنابة، فإذا عمل بهذه المراحل الثلاث بأقصى جهده، وعجز عن حل الخلاف، فكما قال الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ، لا تذهبوا بعيداً، وتشنعوا عليهم في الحارة كلها! {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ؛ لأن أهلهما أحرص على المصلحة، {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] . إذاً: لا يتدخل الأبوان في شئون الزوجية إلا إذا عجز الزوجان، ولا تأتِ الأم لأول وهلة وتتدخل في شئونها، وفي لبسها، وأكلها، وفراشها، وفي معاملة زوجها لها، فمن الخير أن تترك الأم ابنتها مع زوجها، ولو سمعت بخلاف بينهما وتركتهما يعالجان القضية؛ لأن البنت قد تتحمل على نفسها فيما بينها وبين الزوج ما لا تتحمله في حضور أمها، وقد تأخذها الحمية لأهلها. إذاً: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، وكم من امرأة طلقت من زوجها بسبب أهلها أو أمها أو أخيها! يكون الأخ بينه وبين الزوج مخاصمة ومحاكمة، فيتدخل في شأنهما. لو طبق هذا الحديث في أي مجال من مجالات الحياة؛ لسلم المجتمع من كل فضول، ولصار كلٌ في طريقه يؤدي ما عليه، ويأخذ ما له، وإذا أخذ ما له ووقف عند حقه، وأدى ما عليه ولم يقصر في واجبه؛ كان المجتمع كله مجتمعاً سليماً سعيداً. ونكتفي بهذا القدر من التوضيح لهذا الحديث النبوي الشريف، وهو يشمل حتى الراعي مع الرعية، كما قال معاوية: (لو تتبع الأمير الرعية لأفسدهم) أي: لو كان يتتبعهم في كل صغيرة وكبيرة، لفسدوا، لكن لو ظهر هناك مخالفة وإفساد، فلا مانع، لكن لا يتتبعهم في كل صغيرة وكبيرة، سواءً أساءوا أو أحسنوا، فلا ينبغي ذلك. وبالله تعالى التوفيق.

الحديث الثالث عشر

الأربعين النووية - الحديث الثالث عشر

شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)

شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: [عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه] . هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي قبله يبين حسن الإسلام، والإسلام هو: النطق بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، من محاسنه: ترك ما لا يعني، والبر، وحسن الخلق، وأشياء أخرى متعددة.

معنى: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه.

معنى: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ... ) وإذا كان الحديث السابق يبين حسن الإسلام، فهذا الحديث يبين كمال الإيمان، وقد جاء في هذا المعنى أحاديث عديدة، وقوله: (لا يؤمن أحدكم) (لا) نافية، تنفي الإيمان عن أحد، وأحد نكرة أضيفت للمخاطب، فتعم جميع آحاد الناس، والإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) ، وهذا الحديث ينفي كل أركان الإيمان الستة، وهل يكون قد خرج عن عداد المؤمنين أو المعنى: لا يؤمن إيماناً كاملاً؟ لا يؤمن إيماناً كاملاً كما جاء في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، وعند علماء اللغة أن (لما) تشترك مع (ما) في النفي، إلا أن (لما) تدل على أن المنفي هو في سبيل إتمامه، تقول: أثمرت النخلة ولما ترطب، أثمرت الشجرة ولما تينع، أي: ينضج ثمرتها، أي: أنها في طريق النمو، وفي طريق اكتمال النضج، وكذلك الأعراب، أسلموا، وبوادر الإيمان في طريق اكتمالها، فقوله: (لم تؤمنوا) أي: لم يكتمل إيمانكم، وبقي مراحل حتى يكتمل، ولذا حملوا النصوص التي ترد بهذا المعنى على نفي كمال الإيمان كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) ، وليس المراد أنه انتفى عنه الإيمان وخرج عن مسمى المسلمين، لا، بل جاء في الحديث الآخر: (يكون الإيمان عليه كالظلة حتى يرجع عن ذلك أو ينتهي منه) ، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. هذا الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) نقيسه بالشمول وعموم الإسلام كله، (حتى يحب لأخيه) ، وليس المراد بأخيه ابن أمه وأبيه أو أخوه من الرضاع أو أخوه لأب أو لأم، بل المراد أخوة الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، وقال بعض العلماء: الأخوة في الإنسانية أعم من الأخوة في الإسلام؛ لأن الواجب عليك لو رأيت كافراً مشركاً -وتعلم أن نهاية الكفر والشرك إلى النار وأنت تكره ذلك- أن تحب له الإسلام لينجو من النار كما تحب ذلك لنفسك، فبعض العلماء وسع نطاق الأخوة، وجعلها في الجنس البشري، وبعضهم يقصرها على الأخوة الإسلامية.

أهمية الأخوة في الله

أهمية الأخوة في الله ينبغي إشعار المسلم بالأخوة مع المسلمين، ولو أراد إنسان أن يوفيها حقها، فعليه أن يرجع إلى أصل دعوة الإسلام وأولها، والهجرة هي أعظم حدث في الإسلام بعد النبوة، فقد هيأت المجال للإسلام أن ينطلق وينتشر، بعد أن كان محدوداً في مكة، ومحصوراً فيها، ومحاطاً من جميع الجهات، ولا يسمح له بالتحرك، فهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعند خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته إلى الغار كان الصديق تارة يمشي أمامه، وتارة يمشي وراءه، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أبا بكر! ما بالك تارة تمشي أمامي وتارة ورائي؟! أتود لو كان شيئاً أن يكون فيك يا أبا بكر؟! قال: نعم، إن أهلك أهلك أنا وحدي، أما أنت -يا رسول الله- فإن معك الرسالة) ، فمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معناه مجيء رسالة الإسلام، وليس ذاته صلى الله عليه وسلم فقط، بل ما يحمله من رسالة ربه إلى خلقه، وكان في المدينة الذين بايعوا عند جمرة العقبة من الأنصار، والذين خرجوا قبل رسول الله مهاجرين، مثل مصعب بن عمير الذي كان يعلم الناس الإسلام، فكان فيها بوادر الإسلام، وبجانب هذه القلة كان هناك عباد أصنام، وكان عمرو بن الجموح له صنم في بيته، وكان ولده ممن حضر بيعة العقبة شاباً يافعاً، فلم يستمع لولده، وكان من سادة قومه، وكان كلما أصبح الصباح يأتي إلى صنمه ويطيبه ويمسحه ويؤدي له حقوقه في زعمه! فجاء الولد ونكس الصنم في الليل، فجاء الأب ووجد الصنم منكساً، فعدله، ثم جاء الولد ووضع عليه بعض القاذورات، فأخذه الأب وغسله وطيبه وعدله، ثم ربط الولد صنم أبيه مع كلب ميت في حفرة خارج البيت، وألقاهما معاً، وأصبح الأب يبحث عن معبوده فلم يجده، فأخذ يبحث عنه حتى وجده مع الكلب في حفرة، فلما وجده تعجب من ذلك! وأبعد عنه الكلب، وطيبه ووضعه في محله، وجاء بالسيف ووضعه بجواره، وقال: انتقم لنفسك، فإذا مرة أخرى يأخذه الولد ويجعله بتلك الصورة، فتنبه الأب وقال: عجباً! والله! لو كنت إلهاً حقاً لما كنت مع كلب في قرن، أف لك من إله، وتركه في مكانه وأسلم. إذاً: كان في المدينة حينئذٍ أقلية مسلمة، ومشركون يعبدون أصناماً، ومنافقون أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ويهود يعادون الدعوة بصراحة. إذاً: المجتمع المدني كان مؤلفاً من عدة طوائف، أما مجتمع مكة فكان طائفتين فقط، إسلام وشرك، والكفار صرحاء، ولم يكن نفاق في مكة أبداً، إما مسلم واضح وإمام كافر ظاهر، لكن المجتمع في المدينة كان على أربعة أقسام، فكيف للإسلام أن ينتشر وأن يمضي في هذا المجتمع الخليط؟ ومع أن هذه بلدة صغيرة، وفيها هذه الطوائف، إلا إن الإسلام وقضى على تلك المظاهر كلها، وانطلق خارج المدينة، ولو وقف الساسة ورجال الاجتماع لعجزوا عن تعليل هذا، لكن ذلك كان بوسيلة الأخوة بين المسلمين، فأول ما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب الصحيفة العالمية المشهورة بينه وبين اليهود، وبين المشركين، وكان منها: ما كان من أمر في المدينة فمرجعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أول الإسلام كانوا يتوارثون بالإخوة، فإذا مات رجل من الأنصار وله أخٌ في الله من المهاجرين ورثه كما يرث الأخ أخاه والولد أباه، حتى نزلت آية المواريث: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75] .

من مظاهر الأخوة في الله

من مظاهر الأخوة في الله مظاهر الأخوة في عصر النبوة يعجز إنسان أن يصورها، فمن تلك المظاهر: عندما رجع صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق تلاحى غلامان: غلام من الأنصار، وغلام من المهاجرين، وضرب غلام المهاجرين غلام الأنصار، فبلغ الأمر إلى عبد الله بن سلول رئيس المنافقين، فقال: قد قلت لكم من قبل: ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمّن كلبك يأكلك، آويناهم في المدينة، وأطعمناهم، والآن يضربونا، {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، فبلغت مقالته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاد المهاجرون والأنصار أن يفتتنوا، فأمرهم بالمسير وقت الظهيرة ليشغلهم، وجاء الوحي وبين مقالة ابن أُبي، فقال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] . ويقول علماء الأصول وعلماء البلاغة: إن ابن أُبي حكم حكماً صحيحاً، فالأعز يخرج الأذل، لكن من هو الأعز ومن هو الأذل؟ هذه هي نقطة الخلاف، فالحكم صحيح، ولكن من هو الأعز، ومن هو الأذل؟ ابن أُبي يزعم بأنه العزيز في بلده، والقرآن قد رد على ابن أُبي حكمه، وبين أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكنك لا تفقه يا ابن أُبي!! فلما وصل الناس إلى المدينة، ظهرت ثمرة الأخوة في الله، جاء عبد الله بن عبد الله بن أُبي - وهو صحابي جليل، وكان من أبر الناس بأبيه رئيس المنافقين- فأمسك بزمام راحلة أبيه عند باب المدينة، واستلّ سيفه وقال: والله! لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين! فما أعجب هذا الارتباط بين الولد وبين المسلمين، وفصل العرى التي بينه وبين أبيه، فرابطة النسب ضاعت؛ لأنها رابطة ماء وطين، أو رابطة زوجية، أما رابطته برسول الله فهي من الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، وأي نعمة؟ إنها نعمة الإسلام: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] ، والذي لم يدخل في الإسلام لا يزال واقفاً على شفا حفرة من النار. وهكذا وقف الأب أمام الولد ولم يستطع أن يدخل المدينة! من الذي منعه؟ هل هو الرسول؟ لا، هل هو أبو بكر أو عمر؟ لا. بل منعه ولده! ثم بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه: دعه يدخل، فدخل المدينة ذليلاً حقيراً! وأمثال هذه المواقف كثير، ويهمنا أن الأخوة الإسلامية ربطت بين أفراد الأمة الإسلامية، وهي أقوى من النسب والقرابة والرحم، ويظهر أثرها أكثر من هذا في الغزوات، فمثلاً: بعد أن انتهت معركة القادسية، خرج رجل يطلب ابن عم له في القتلى، وقال: لعلي أجده في رمق يحتاج إلى ماء، وحمل معه قدحاً من الماء، ثم وجده في النزع، فقال: ألك حاجة في الماء؟ قال: نعم، فقدّم إليه الماء في القدح، فلما أخذ القدح وأهوى به إلى فيه إذا به يسمع جريحاً يئن، فرفع الماء وقال: اذهب به إليه لعله أحوج إليه مني، فذهب به إليه، وعندما أراد أن يرفع القدح إلى فيه سمع أنيناً ثالثاً فأرسله إليه، فذهب إلى الثالث فوجده قد مات، فرجع إلى الثاني فوجده قد مات، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات، فمات الثلاثة وكل يؤثر أخاه على نفسه، والماء يبقى في القدح!! روى البخاري رحمه الله عن ابن عمر قال: (كنا في زمن لا يعرف أحد منا فضل درهم على أخيه، ونحن في زمان الدرهم عند الرجل أعز من أخيه وأبيه!) ، فإذا كان ابن عمر يقول هذا في وقته، وهو صحابي جليل، فكيف بنا اليوم؟! تجد أن الفلس عند الرجل أعز من الدنيا كلها!

رابطة الإيمان مع الملائكة

رابطة الإيمان مع الملائكة إذا تجلت الأخوة بين المسلمين كان المجتمع مثالياً، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن رابطة الأخوة الإيمانية لم تقف عند سطح الأرض، بل امتدت إلى السماء، وإلى حملة عرش الرحمن، وربطت بينهم وبين المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] ، فما هي الرابطة هنا؟ إنها رابطة الإيمان، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9] ، أي دعاء أبلغ وأعظم وأشمل من هذا الدعاء الذي تدعو به الملائكة حملة العرش للمؤمنين؟! وهذا بسبب رابطة الإيمان. ونقول أيضاً: إن تلك الرابطة لم تقف عند حد الدعاء بل كانت عملياً، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:30-31] ، فهم أولياؤهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فمثلاً: في يوم بدر، نزلت الملائكة وقاتلت مع المسلمين. إذاً: ربطت الأخوة الإيمانية بين المؤمنين وبين حملة العرش.

رابطة الإيمان مع الجماد

رابطة الإيمان مع الجماد وربط الإيمان بين مؤمني هذه الأمة وبين الجماد. فهذا العلاء بن الحضرمي حينما ذهب إلى البحرين، علم به مشركو المجوس، فرجعوا إلى الجزيرة وأخذوا السفن، وجاء العلاء ومن معه من المسلمين والبحر أمامهم، فماذا يفعلون؟ توجه العلاء إلى من معه من المؤمنين وقال: أيها الناس! إني عزمت على أمر، إن الله قد أراكم آية في البر، وهو قادر على أن يريكم آية في البحر. وما هي الآية التي أراهم الله إياها في البر؟ لما كانوا في الطريق، نفذ عليهم الماء، وكادوا يموتون عطشاً، فنزلوا منزلاً ينتظرون الموت، وفي الظهيرة جاءت سحابة صغيرة من بعيد، ووقفت على مساحتهم ثم أمطرت! مدد من الله، أليس هذا من جنود ربك؟! بلى، جند من جند الله، فشربوا وسقوا دوابهم وتزودوا منه. فقال العلاء: إن الذي أراكم تلك الآية في البر قادر على أن يريكم آية في البحر، قالوا: وماذا تريد؟ قال: عزمت أن أخوض هذا البحر، فتقدم إلى البحر، وهو جماد لا يدري، فقال: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن حتى نعبر لنقاتل عدو الله، ثم عبر البحر بجيشه!! قرار في ثلاث كلمات (توجه إلى الله) ، والرابطة الكبرى التي تجمع بين الجميع هي الإيمان. يقول ابن كثير في ذكر هذه القصة: (فما ترجل الفارس، ولا احتفى المتنعل، واجتازوا وقاتلوا وانتصروا) . بأي أمر استطاع العلاء أن يعبر على الماء؟ هل بشخصيته أو بقوته وجيشه؟ لا. بل لأنه في سبيل الله، وهذا يجري بأمر الله، والكل من خلق الله.

رابطة الإيمان مع الحيوان

رابطة الإيمان مع الحيوان ذكروا عن سفينة خادم رسول الله، أنه رجع من الغزو، فإذا بالأسد يعترض الناس في الطريق، فما استطاع أحد أن يجاوزه، فتقدم إلى الأسد وقال: أيها الأسد! أنا سفينة صاحب رسول الله، عزمت عليك لتخلين الطريق لنمضي، فإذا بالأسد يذهب بعيداً، ويخلي الطريق! بماذا طرد سفينة الأسد؟! هل طرده بسيفه ورمحه؟ لا والله! إنما طرده بإيمانه وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: لو قال قائل: إن إخوة الإيمان تربط بين جميع خلق الله فلا يستبعد عن ذلك أبداً،: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه) ، فالأخوة الإسلامية ذللت كل شيء لهؤلاء المسلمين. وهذه الآثار تبين لنا معنى نفي الإيمان في هذا الحديث، وأنه نفي كمال وتمام الإيمان، كما جاء في نظير ذلك: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) ، قالوا: يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وتقدم الكلام على أن الأخوة هنا: (أن يحب لأخيه) هي أخوة الإيمان، وليست أخوة النسب، بل أخوة الجنس البشري، كما في رواية: (يحب للناس ما يحب لنفسه، ويكره للناس ما يكره لنفسه) ، وأشرنا إلى مدى آثار الأخوة في الله، وذكرنا قضية ابن أُبي وولده عبد الله، وما قاله عند الرجوع من غزوة بني المصطلق، ووقوف ولده أمامه عند باب المدينة ليمنعه من دخولها حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه تبين لنا كيف ألقى الرابطة بينه وبين أبيه من جانب النسب، وقوى الرابطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعلاقة الإيمان.

موقف أبي بكر رضي الله عنه من ولده في غزوة أحد

موقف أبي بكر رضي الله عنه من ولده في غزوة أحد في غزوة أحد حينما اصطف الفريقان، خرج من المشركين من يطلب المبارزة، وكان منهم ابن أبي بكر الكبير رضي الله تعالى عنه، فقال: من يبارز؟ فأول من نهض ليبارزه أبوه: أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فأمسك به رسول الله وقال: (أبق علينا نفسك يا أبا بكر!) . وأشرنا إلى ما كان في معركة القادسية، عندما ذهب رجل يطلب ابن عمه في الجرحى ومعه الماء، فلما وجده دفع إليه قدح الماء ليشرب، فسمع الجريح أنيناً، فقال: اذهب بالماء إليه لعله أحوج إليه مني، فذهب إليه فسمع أنين شخص ثالث، فقال: اذهب بالماء إليه لعله أحوج إليه مني، فلما وصل إلى الثالث وجده قد مات، ثم رجع إلى الثاني ووجده قد مات، ثم رجع إلى ابن عمه فوجده أيضاً قد مات، يموت الثلاثة وكل يؤثر صاحبه على نفسه، ويبقى الماء في القدح! هذه حقيقة الأخوة في الله، وأشرنا إلى أثر الإيمان بين الجماد والمؤمن في قصة العلاء بن الحضرمي، حين أقسم على البحر أن يجمد ليعبر عليه حتى يقاتل العدو، فجمد الماء وقاتل الأعداء وانتصر، إلى غير ذلك من آثار الأخوة في الله. وأشرنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة كان فيها تيارات مختلفة، وعقائد متنوعة، ما بين قلة مؤمنة، وكثرة مشركة، وبعض المنافقين واليهود، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم بنور النبوة وحكمتها أن يشق طريق الإسلام بين تلك الطوائف الأربع.

الأخوة من أسس بناء الدولة الإسلامية

الأخوة من أسس بناء الدولة الإسلامية أول خطوة عملها عليه الصلاة والسلام عند بناء الدولة الإسلامية هي: المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وبين المهاجرين والأنصار، وكتب الاتفاقية العامة بينه وبين اليهود، وقد أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الحل والعقد فيما يتعلق بالمدينة، وكل ما شجر فيها فمرجعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد استطاع النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤاخي بين المسلمين، حتى صار في فجر الإسلام يستظل بمظلة الإسلام الكبرى شتى الجنسيات المختلفة، فهنا سلمان الفارسي، وهنا بلال الحبشي، وهنا صهيب الرومي، والكل يعيش في ظل راية الإسلام، وتحت مظلة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. أما العالم اليوم فقد دمر بالحروب وبالتفرقة العنصرية، وتمزق بالتعصب الشخصي أو الحيدة والمصلحة الخاصة، ولكن الإسلام بتعاليمه يذيب الفوارق بين تلك الجنسيات فيعيش الحبشي والرومي والفارسي والعربي والعجمي جميعاً تحت مظلة الإسلام، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، ويقول الإمام علي رضي الله تعالى عنه: الناس من جهة التكوين أكفاء أبوهمُ آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء إذاً: الإسلام يذيب الفوارق ويجمع الشتات، ويربط الجميع بأخوة واحدة، ويصبح هذا التآخي بمثابة التلاحم، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ، ويقول: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، كيف فعل الإسلام ذلك؟ أشرنا إلى عنصرين أساسيين هما: - الروح. - الجسد. يقولون: الإنسان حيوان ناطق، والحيوانية مبناها على الحياة بالأكل والشرب، فهو حيوان كسائر الحيوانات: يأكل ويشرب، ويجوع وينام، والنطق هي الملكة التي بها تميز عن غيره، كالصهيل للفرس، والنهيق للحمار، إذاً: هذا الفصل عن الجنس، والله كرم الإنسان بالقوة المخيلة، والذاكرة، والعقل الذي به يدرك خطاب الله لخلقه. إذاً: الإنسان جسدٌ وروح، والجسد بدون الروح لا قيمة له، يكون جثة هامدة، والروح بدون الجسد ناقصة؛ لأنها ساكنة في الجسم، ولابد للساكن من بيت يسكن فيه، وإذا انهدم هذا البيت صعدت الروح إلى بارئها. إذاً: الإنسان من مادة وروح، (جسم وروح) ، فالإسلام آخى بين المسلمين على هذين العنصرين: أما العنصر المادي فهو -كما أشرنا-: رد الإنسان إلى أصله الأول: {خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13] ، وكما قال علي رضي الله تعالى عنه: (من ماء وطين) ، هذه هي الناحية المادية: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17] . أما الناحية المعنوية، وهي الروح والعقل والإيمان، فهي نعمة من الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، ولما أوجد الله هذا الكيان الإنساني، جاء الإسلام بروافد تغذي تلك النبتة القوية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء. فمنع وحرم كل إيذاء بين بني البشر: من القتل، والسرق، والضرب، بل منع من السخرية والهمز واللمز، وأوجب روافد الخير: من التآخي، والتزاور، والهدايا، وصلة الأرحام، وو إلخ، وكف عنها آفات الفرقة بالاعتداء والخصومة، وسلط عليها روافد النمو من الأخوة والمحبة والموالاة والزيارة إلى غير ذلك. والخلاصة: منع الإسلام من كل آفة تعيق نمو المحبة، وشرع روافد الخير التي تغذيها حتى تنميها وتؤتي ثمارها في كل حين.

ثمرات العمل بحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه)

ثمرات العمل بحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه) قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يتصف بهذه الصفة، وهذه صفة لو طبقت لألغيت المحاكم والسجون؛ لأنه إذا أصبح كل إنسان يحب لأخيه ما يحب لنفسه فلن يحصل اعتداء، ولا ظلم، ولا بغي، ولا حسد، ولا حقد، ولا غل، ولا سخرية. إلى آخر الشرور، وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث في الشاب الذي جاءه وأعلن إسلامه وقال: (يا رسول الله! أريد أن تأذن لي في شيء واحد، قال: ما هو؟ قال: في الزنا، فنهره أصحاب رسول الله وزجروه، فقال عليه الصلاة والسلام: هلم! ادن، فدنا الشاب وأجلسه بين يديه، وسأله فقال: أترضى ذلك في أختك؟ قال: لا والله! قال: أترضاه في ابنتك؟ قال: لا، أبداً. قال: أترضاه في أمك؟ قال: لا، أبداً، قال: كذلك الناس لا يرضونه في محارمهم) ، وهذا من تطبيق الحديث: أن تحب للناس ما تحبه لنفسك، وأن تكره للناس ما تكره لنفسك. وهذا تطبيق عملي من الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الشاب في موضوع خطير جداً، فالشاب كان يجب شيئاً محرماً، ولكن بصره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره فانتهى، فكما أن لك محارم فللناس محارم، فإن كنت ترضاه لنفسك فهذه نقيصة، وإن كنت لا ترضاه لنفسك فكيف ترضاه للناس؟ ومن هنا كف الشاب عن ذلك، وأبغض الزنا! ولو أن كل شاب طبق هذا الحديث في نزواته لما زنى أحد؛ لأنه لا يرضى ذلك في محارمه. وكذلك المال، قال صلى الله عليه وسلم -فيما معناه- (لا يحلب أحد ماشية أحد، فإنما هي تحزن طعامهم) أرأيت لو أن إنساناً جاء إلى مخزنك وأخذ منه طعامك وشرابك! وكأنه يقول: تلك الإبل المحفلة بالحليب تحمل غذاء أهلها، فإذا أخذت هذا الحليب، أترضى أن يخلفك إنسان إلى مخزن بيتك ويأخذ رزقك وطعامك من هناك؟! A لا، إذاً: دع أرزاق الناس مكانها، فلو طبق هذا أيضاً من جهة المال لما سرق سارق؛ لأنه لا يرغب إنسان أن يسرق ماله، ولما ظلم ظالم ولا اغتصب غاصب؛ لأنه لا يرضى إنسان أن يظلمه أحد أو يبغي عليه أحد، وهكذا.

عامل الناس كما تحب أن يعاملوك

عامل الناس كما تحب أن يعاملوك المولى سبحانه وتعالى يقول: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً} [النساء:9] ، مذا؟ {ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] ، أي: خافوا عليهم من الناس. إذاً: أنت في حياتك لك ذرية ضعيفة، وأمامك وبين يديك ذرية الآخرين، فإذا أحسنت إليهم سخر الله من يحسن إلى ذريتك الضعاف، وإن أسأت إلى ذرية الآخرين الضعاف فخف على ذريتك من بعدك، فالأمر مبادلة، فأحب لذرية الأجانب الآخرين ما تجب لذريتك، وافعل لهم من الخير، وكف عنهم من الشر ما تحب أن يفعل لذريتك الضعاف من بعدك. ويقول الله في الآية الأخرى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266] ، يعني: أنت في كبر السن، ولك ذرية ضعاف، ولك يستان وحديقة، ثم يأتي إعصار فيه نار فيحرق تلك الحديقة، فأين تذهب ذريتك الضعيفة؟ وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263] ، سبحان الله! كيف تعامل المساكين؟ {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [البقرة:263] ، باللسان، {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ} [البقرة:263] ، بالمال مهما كانت {يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، لماذا تؤذي الفقراء؟ هل ترضى أن تكون فقيراً ويؤذيك الأغنياء؟! لا والله! وبعدها قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، لما تؤذي المسكين وتمن عليه؟! هل هذا من جهدك ومالك أنت؟ المال مال الله، وهو في يدك ابتلاء، ومنع منه المسكين ابتلاء، كلٌ يبتلى لينظر أيشكر الغني ويصبر الفقير أم لا؟

النصح للمسلمين

النصح للمسلمين الله عز وجل يريدك أن تكون مسلماً حقاً، تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وتنصح لهم كما في الحديث: (الدين النصيحة) ، فينبغي أن يكون كل مسلم ناصحاً لكل إخوانه. ويذكر بعض العلماء أن رجلاً جاء ليبيع دابة، فجاءه شخص وقال: أسألك: أتصلح لي هذه الدابة؟ قال: لو كانت تصلح ما بعتها، ما الذي حمله على هذا؟ إنها الأخوة في الله. وذكروا قصة عن نبي الله سليمان عليه السلام، وهي أنه عندما أراد أن يبني بيت المقدس، أوحى الله إليه: (أن ابن لي بيتاً) قال: يا رب! وأين أبني ذلك البيت؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه، فرآه، فسأل عن صاحب هذه الأرض، فقالوا: لرجل من بني إسرائيل، فقال: أحضروه، فجاء، فقال: ثامني على أرضك هذه، فقال: بألف، قال: اشتريت، فقال: يا نبي الله! أستنصحك: الأرض خير أم الألف؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، ثم قال: بألفين، قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك الأرض خير أم الألفين؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، وهكذا خمس مرات حتى وصلت إلى خمسة آلاف، وأخيراً قال له نبي الله: كم تريد فيها وأعطيك؟ سم أنت الذي ترضى! فقال: تملؤها عليَّ نعماً، إبلاً وبقراً وغنماً فأمر بني إسرائيل أن يملئوها له بما طلب! والشاهد قوله: (أستنصحك: الأرض خير أم الثمن؟ فقال: الأرض خير، فما الذي حمله على ذلك؟ إنه النصح. ومن الإيمان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنك إذا رأيت إنساناً على منكر لا ترضاه لنفسك، فلابد ألا ترضاه لهذا الشخص، وأن تخلصه منه، ولكن كيف تخلصه؟ هل تخلصه بالسوط والعصا؟ لا، إنما بما تحبه لنفسك، فلو كنت مثله، ورآك آخر، فبأي طريقة تريد أن ينهاك أو يأمرك؟ أتحب أن يزجرك ويسبك ويعنفك أمام الناس؟! أتحب أن يقبحك ويخرجك من الإسلام ومن الإيمان؟! لا والله! وكما يقول بعض السلف الصالح: إن الأتقياء الصالحين ينظرون بنور الله، يرون العبد على المعصية، فيكرهون العمل ويشفقون على العامل، وينصحونه بالرحمة والرفق؛ ولذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر كالطبيب الحاذق الحليم؛ حينما يرى إنساناً مريضاً لا يربطه بالحبال، ولا يقيده بالقيود، ولكن يتلطف معه، ويبدأ بما يخفف إحساسه، وبما يلطف الطريق إليه، فيعطيه منوم، أو مسكن، ثم يفعل ما يشاء في علاجه، والمريض ربما يسبه وربما يتطاول عليه، ولكنه يتحمل ذلك في سبيل علاجه، والآمر بالمعروف أولى بالصبر من الطبيب: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] . وبالتناصح سنجد الصدق، والأمانات ستؤدى إلى أهلها. يقول العقلاء: إن مطامع العقلاء في الدنيا لأحد أمرين: إما لجلب نفع، وإما لدفع ضر. لمنافع يسعى اللبيب فلا تكن بشيء دهرك ساعياً إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كما يضر وينفعا تضر الخصم والعدو، وتنفع نفسك والصديق، فالإنسان العاقل ما دام يتصف بالعقل لا يسعى سعياً إلا لأحد أمرين: إما ليجلب نفعاً إليه، وإما ليدفع شراً عنه، وجاء الإسلام بهذين المبدأين، وزاد مبدأً ثالثاً ألا وهو: الحث على مكارم الأخلاق، فإذا كان لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فبالتالي يكره لغيره ما يكره لنفسه. إذاً: كلما فيه جلب نفع أحبه للغير، وكلما فيه دفع ضر أحبه للغير، وقد اتفق العلماء والأصوليون والعقلاء من كل الملل على أن أهم ما يحافظ عليه الإنسان، ويسعى للحفاظ عليه، الكليات الخمس: الدين، والعقل، والجسم، والمال، والعرض، ويدخل فيه النسب. فإذا أحببت أن تحفظ دينك: فأمرت بالمعروف، وانه عن المنكر؛ لتسعد بإنقاذ إنسان مما هو فيه، وإذا وجدت إنساناً في دينه أعلى منك اجتهدت أن تصل إليه، وإذا وجدت إنساناً أقل منك ساعدته حتى يصل إليك، وهذا من حفظ الدين، أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجاهد نفسك لتؤدي حق الله عليك. وحفظ العقل بأن تجتنب كل ما فيه مضرة على العقل، وكذلك تجنب غيرك أن يقع في مثل ذلك. وكذلك حفظ البدن فكما تحب أن يحفظ بدنك من ضرب أو من جرح أو من إساءة بدنية فكذلك كف هذا عن غيرك. وحفظ العرض: كما لا تحب أن يعتدى على عرضك، فلا تسمح لنفسك أن تعتدي على أعراض الآخرين. وحفظ المال كما تحب أن تحفظ مالك من أي اعتداء، وتكره أن يغصبك أحد، فكذلك أحب الخير لغيرك في ماله. ولو طبق هذا الحديث، فلا حاجة للمحاكم، إذا كان كل إنسان يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره لأخيه ما يكره لنفسه، فلن تكون هناك خصومة. عمر رضي الله تعالى عنه طلب منه أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن يلي أمر القضاء، ويكفيه مئونته، فمكث عمر سنة ثم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: أغفني من القضاء، فقال له: لماذا؟ قال: لم يأت إليّ أحد! وليت على أمة كلٌ قد عرف ما له وما عليه، عرف ما له فلم يتجاوزه، وعرف ما عليه فلم يقصر فيه. وما دام كل إنسان يمضي في خطه المرسوم له، فلن يعتدي على أحد، ولن يعتدي عليه، فلماذا المحاكم؟ ولماذا الشرطة؟! إذا: لو طبق الناس هذا الحديث وحده، لكان المجتمع الإنساني مجتمعاً مثالياً، فما أعظم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) . ولعل في هذا القدر الكفاية لبيان معنى الحديث النبوي الشريف، وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وبارك على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

الحديث الرابع عشر [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع عشر [1]

شرح حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)

شرح حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: [عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه] . ابن مسعود رضي الله عنه صحابي جليل، وكان يقول: أنا سابع سبعة في الإسلام، وتاريخه مجيد، وفضله بين الصحابة عظيم، حينما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل أخاه ليسمع خبره، ثم رجع إليه وقال: إنه يأمر بالمعروف، ويأمر بمكارم الأخلاق، وذكر أموراً مجملة، فقال: لم تغن عني شيئاً، فركب راحلته، وأخذ ماءه وزاده، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وسمع منه، ثم رحل هو وأمه ونزل على خاله، ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (لا يحل) حلّ يحل تأتي في اللغة متعدية ولازمة، تقول: حل يحِل، وحل يحُل، فإذا كانت من الفعل اللازم فهي من باب ضرب يضرب، وإذا كانت من الفعل المتعدي فهي من باب بطر يبطُر، تقول: حل العقدة يُحلُها؛ لأنه متعد إلى مفعول به، وتقول: حل بالمكان يحَل، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] ؛ لأنه لازم، وكذلك حل الشيء يحِل، إذا كان حراماً. ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) ، الإسلام يعصم دم الإنسان، كما تقدم في الحديث الصحيح: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) . الإسلام هو المذكور في حديث جبريل عليه السلام حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرني عن الإسلام؟) ، فبين له الأركان الخمسة، ثم سأل عن الإيمان؟ فبيّن له الأركان الستة، ثم سأله عن الإحسان، فبيّن له ذلك، وهو مسك الختام، وأهم شيء فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، فهكذا بناء الإسلام، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بيت فسيح منيع يحمي أهله فقال: (بني الإسلام على خمس ... ) ، وتلك الدعائم هي التي يقوم عليها الإسلام، وجاء الحديث الآخر يبين آثار تلك الدعائم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) ، وهنا قال: (فقد عصموا مني أموالهم ودماءهم؛ إلا بحق الإسلام) ، فعصمة المال والدم تكون بالإسلام، وكل إنسان ينطق بالشهادتين فإنه قد عصم دمه وماله إلا بحق الإسلام، وما هو حق الإسلام؟ هذا الحديث يُبين ذلك: (لا يحل دم امرئ مسلم) ، والمسلم هو الذي التزم بالشهادتين، ومدلولهما، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج إن استطاع، فهذا المسلم معصوم الدم والمال، لا يحل دمه أبداً، بأي حالة من الأحوال، إلا بنص جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهنا ذكر هذه الثلاث الحالات، ويوجد أحاديث أخرى أباحت القتل بسبب صفات وأعمال أخرى، ولكنها تندرج تحت قتل النفس، أو تحت (التارك لدينه، المفارق للجماعة) ، وجاءت أحاديث تجيز القتل بسبب شرب الخمر والسرقة، ولكنها -كما قيل- إما ضعيفة، وإما منسوخة، مثل حديث: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه) ، ولكن ثبت أن رجلاً شرب الأولى وجلد، ثم الثانية، وجلد، ثم الثالثة وجلد، ثم الرابعة فجلد، فقال الصحابة رضي الله عنهم: فعلمنا أن الحد قد وقع، وأن القتل قد رفع.

حرمة الدماء والأموال والأعراض

حرمة الدماء والأموال والأعراض الدماء والأموال والأعراض أعلن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها يوم الحج الأكبر، حينما خطب الناس بعرفات أو بمنى يوم العيد فقال: (أيها الناس! أي يوم هذا؟ قالوا: فسكتنا، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس هو يوم الحج الأكبر؟ قالوا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس شهر ذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: ألا -وهي أداة تنبيه، بعد تلك التساؤلات كلها- إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، وهذا الأسلوب من النبي صلى الله عليه وسلم يُبين للمسلمين عظم حرمة الدماء، وعظم حرمة الأعراض، وعظم حرمة الأموال. وقد بين سبحانه أن من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً؛ لأنه اعتداء على حق الله، الله يبني هذه البنية، ويرزقها، وينشئها في أحسن تقويم، ثم تأتي أنت وتهدمها، لو أنك بنيت خُصاً أو عشة، وجاء أكبر إنسان واعتدى عليها وهدمها؛ لاشتطت غضباً، ولو استطعت قتله فلربما قتلته؛ لأنه هدم عشة بنيتها أنت، فكيف بمن يقتل نفساً خلقها الله في أحسن تقويم؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم في بيان حرمة المسلم: (إن حرمة المسلم عند الله، أعظم من حرمة الكعبة) ، والكعبة قد تنقض وتبنى على ما كانت عليه من قبل أو أحسن، ولكن هذه البنية إذا هدمت من الذي سيعيد بناءها؟ لا أحد غير الله، ولهذا كان من عدل الإسلام القصاص، فالعين بالعين، والسن بالسن، والجروح قصاص، ففي الإسلام مساواة الجميع في الدية، فلا يزيد إنسان على إنسان مثله بدرهم واحد؛ لأن الكل سواسية عند الله، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، فالمفاضلة دينية، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، وقد أعلنها صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في تلك الخطبة العظيمة التي جمعت أركان وأطراف الإسلام، وبينت الحقوق التي بين الفرد مع أخيه، والزوج مع زوجه، والولد مع أبيه، والحاكم مع المحكوم، وكل أطراف الإسلام جمعت في تلك الخطبة، ولو تأملنا تحريم هذه الثلاث في قوله: (ألا إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام ... ) ؛ لوجدنا اتفاق العالم كله، والديانات كلها، والأمم بأكملها، على أن هذه محرمة عند بني الإنسان، وكما يقول الأصوليون: لا يستقيم نظام أمة في العالم، أياً كان دينها، إلا بحفظ هذه الثلاث، ومعها العقل والدين، وهي: الضرورات الخمس: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض، ويدخل معه النسب، وكل أمة اتفقت على ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم حمل حجاج بيت الله أمانة التبليغ عنه فقال: (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) ، فكان على كل حاج في تلك الحجة سمع الخطبة أن يبلغ من وراءه، فيشمل الحديث كل مسلم يأتي في هذا العالم. ولو أن كل إنسان وقف عند هذه الحدود؛ لما سفك دم ظلماً، ولا انتهك عرض غصباً، ولا اختلس مال، ولا وقع سرق، ولا نهب، ولحفظت الحقوق، وسلم العالم من الظلم والشرور. كانوا في الجاهلية يستبيحون القتل والسلب، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك وحرمه، وعصمت دماء المسلمين بالإسلام، وهنا قال في هذا الحديث: (لا يحل) ، أي: لأي إنسان -كان من كان- أن يستبيح قطرة دم مسلم، ولا أن يستبيح عرض مسلم، ولا أن يستبيح جزءاً من مال مسلم.

أسباب قتل المسلم بحق

أسباب قتل المسلم بحق قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) ، وذكر أول هذه الأسباب الثلاثة: الزنا بعد إحصان، والزنا هو: إتيان الرجل المرأة بغير وجهٍ حلال، وفرق الحلال من الحرام كلمة الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (استوصوا بالنساء خيراً) ، انظروا إلى الأسلوب النبوي الكريم، فمن حكمته وبلاغته يتمدد وينتشر انتشار الأثير في الهواء، قال: (استوصوا) ، ولم يقل: أوصيكم بالنساء، فتكون الوصية مؤقتة منه فقط، ولكن قال: استوصوا، أي: ليوصي كل منكم الآخر، فتظل هذه الوصية تعمل، وتتفاعل، وتتكاثر، وتمتد إلى يوم القيامة، (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان تحت أيديكم، استحللتموهن بكلمة الله) وليس بالصداق، إنما الصداق نحلة، كما قال الله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أي: هبة، وهدية، وكرامة من الرجل للمرأة، ولكن إباحة البضع حقاً إنما هو بكلمة الله، فزوجتك قبلت ذلك على كتاب الله وسنة رسوله، فهذا هو الفرق؛ ولهذا يشرع في النكاح أن يعلن ويضرب عليه بالدف، وأمر صلى الله عليه وسلم بإقامة الوليمة؛ ليعلم الجميع بانضمام زوجين معاً، وإقامة لبنة وأسرة في بناء المجتمع الإسلامي، بخلاف الزنا -عياذاً بالله- فيختفي الزاني، ويستتر، ويتهرب.

حكم الزنا بعد الإحصان

حكم الزنا بعد الإحصان ومعنى الزنا بعد إحصان أي: بعد وطء امرأة حرة بعقد نكاح، أما إذا وطء أمة بملك يمين فلا تحصنه، وهذا قول الجمهور، وإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها فلا تحصنه، وإذا وقع في زناً قبل زواجه، فلا يحصنه هذا الزنا؛ لأنه باطل لا ينبني عليه حكم صحيح، فإذا تزوج ثم ارتكب تلك الرذيلة -عياذاً بالله- فحينئذٍ يكون عليه الرجم، ويحل دمه بعد أن كان معصوماً، وقد تكلم الفقهاء على جريمة الزنا، وعقوبتها، واتفق الجميع بلا نزاع على أن غير المحصن -وهو البكر- يجلد مائة جلدة، قال سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، ومن لطائف أسلوب القرآن -كما قال بعض العلماء- أنه في باب الزنا قدم المرأة فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] ، وفي باب السرقة قدم السارق فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، قالوا: إن للتقديم أثره كما بين صلى الله عليه وسلم ذلك في أمر الصفا، فالسعي بين الصفا والمروة شوط مكتمل، ولكن من أين نبدأ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابدءوا بما بدأ الله به) ، والله قد بدأ بالصفا، فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] ، قالوا: إن سبب الزنا أقوى من جانب المرأة؛ لأنها موضع الإغراء، ولو لم يجد الرجل منها ميولاً، أو ليونةً، أو إغراءً، لخاف وابتعد، أما في السرقة فالرجل أقوى؛ لأنه أجرؤ على اقتحام بيوت الناس، وانتهاك الحروز! لا إشكال عند جميع الناس أن البكر يجلد مائة، وأشكل على بعض الناس الثيب الذي أحصن، والإحصان، هو: الزواج والدخول بالزوجة، وليس بشرط أن تظل معه زوجه، بل لو دخل على زوجه ليلة واحدة، وكان بينهما ما يوجب الصداق، ويوجب العدة، ويلحق الولد، فهذا إحصان بلا نزاع، وعلى هذا؛ لو طلق زوجته، أو ماتت، ثم بعد ذلك وقع في هذه الرذيلة، فإنه يستحق الرجم. وهل ثبت حد الرجم بالسنة أو بالكتاب؟ بعض العلماء يقول: إنما ثبت بالسنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية، ورجم أيضاً غيرهم، وآخرون يقولون: الرجم ثابت بكتاب الله، فقد ثبت أن من القرآن الذي نسخت تلاوته آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ، وهذه الآية نسخت لفظاً، وقال ابن عباس: (إن الرجم ثابت في كتاب الله، واستنبطه من قصة اليهوديين اللذين زنيا، فسأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للحبرين منهما: (ماذا عندكم في التوراة؟) فقالا: أحبارنا الأولون غيروا الرجم، وارتضوا بالتفحيم، وتنكيس الزاني على دابة، وغير ذلك من التعزير، فقال: (وماذا في التوراة؟) قالا: فيها الرجم، فأمر صلى الله عليه وسلم برجمهما، وفي بعض الروايات أنه قال: (فأتوا بالتوراة فاتلوها) ، فجاءوا بالتوراة، وغطى القارئ بيده على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام، وكان حاضراً: (ارفع يدك، فلما رفع يده، إذا بآية الرجم تحت يده، فأمر صلى الله عليه وسلم برجمهما، قال ابن عباس: هذا يدل على أن الرجم ثابت في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليبين لهم ما كانوا يخفون من الكتاب، كما أخبر الله؛ فمما أخفوه آية الرجم. وثبت عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه خطب الجمعة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري رحمه الله- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس! إن الرجم قد أنزل في آية من كتاب الله قرأناها، ثم نسخت، ولولا أن يقول الناس: زاد عمر في القرآن، لكتبتها بيدي، ولقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه، فأخشى إن طال الزمان أن يقول أحد: لا يوجد الرجم في كتاب الله.

الحديث الرابع عشر [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع عشر [2]

رجم الزاني المحصن

رجم الزاني المحصن بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول علماء أصول التفسير: لماذا نسخ نص الحكم بالرجم؟ قالوا: تكريماً لهذه الأمة، فكأن الله سبحانه لم يرد أن يسجل عليها في كتابها زناً يقع من شيخ وشيخه، والمولى سبحانه ينهى الناس أن يشيعوا الفاحشة في المؤمنين، فكيف يسجله على الأمة في القرآن الذي يتلى في المساجد؟! فلما وقع الحكم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفعلوا ذلك، وعلم الجميع به؛ لم يعد هناك حاجة إلى بقاء النص بهذه الصفة في كتاب الله. وهذا الحكم هل يكون معه جلد ثم رجم كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أو يكفي الرجم دون الجلد كما هو مذهب الجمهور؟ استدل الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجلان، زنى ابن أحدهما بزوجة الآخر، فقال زوج المرأة: (يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، وكان الآخر أفقه، فقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، فافتديت ابني بمائة من الغنم وبأمة، وسألت العلماء فقالوا: إنما على ابنك الجلد، وعلى المرأة الرجم، فقال رسول الله: نعم، سأقضي بينكما بكتاب الله، أما غنمك والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ، ولم يذكر جلداً قبل الرجم. يهمنا هنا أن الإسلام يعصم دم الإنسان إلا بتلك الأمور الثلاثة، ولكن مسألة: لماذا يرجم؟ ومسألة: الفرق بين الرجم والجلد؟ تلك مسائل يجتهد فيها العلماء، وقد يصيبوا وقد يخطئوا.

قتل النفس بالنفس

قتل النفس بالنفس والخصلة الثانية: (النفس بالنفس) ، وهذا دليل على المساواة بين المسلمين، فأكبر إنسان في أكبر مجتمع إذا قتله أدنى إنسان في أدنى مجتمع، وكلاهما يشهد أن لا إله إلا الله؛ فليس في دم هذا العظيم أكثر من دم هذا الوضيع، وكذلك العكس: لو أن أعظم إنسان في أعظم مجتمع قتل أضعف إنسان في أضعف مجتمع، فدم هذا العظيم مقابل دم هذا الحقير، ولذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في خطابه العام للأمة أول خلافته: أيها الناس! وليت عليكم ولست بأفضلكم، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له الحق، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه. وليس كما يقولون: حكم النقض يسري على كل أحد، كالأمم التي تتحكم في العالم، فإذا كان قرار في غير مصلحتها تستعمل حق الفيتو وتنقض الحكم، لا وإنما هي المساواة بين الأنفس جميعاً، فالنفس بالنفس. واختلف العلماء في الرجل إذا قتل امرأة، فالجمهور على أنه يقتل بها، أي: في العمد، وقال بعض العلماء -وهي رواية عن علي رضي الله تعالى عنه-: إن أولياء المرأة إذا أرادوا قتل الرجل فعليهم أن يدفعوا نصف الدية لأولياء الرجل؛ لأن دية المرأة على نصف دية الرجل، والجمهور يقولون: قال الله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، والمرأة نفس، والرجل نفس، فهما سواء. واتفقوا على أنه إذا اجتمع جماعة على قتل شخص، واشتركوا جميعاً في قتله، فإنهم يقتلون جميعاً بهذا الواحد، كما قال عمر: والله! لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعاً، وذلك لحفظ الأمن؛ لأنه إذا لم تقتل الجماعة بالواحد؛ لاتفق القاتل مع آخرين، وقتلوا من أراد صاحبهم أن يقتله، لعلمهم أنهم لا يقتلون، فتسفك الدماء، ويقع الهرج في الناس، أما إذا تحقق أنهم اتفقوا وتواطئوا على قتله، فإنهم يقتلون به، ولا يوقف القتل إلا القتل كما قال الله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ، فإذا علم من أراد القتل أنه إن قتل يقتل، كف عن قتل خصمه، وسلم هو عن القتل، فيكون القصاص قد أحيا الشخصين معاً. وهل يقتل الحر بالعبد؟ التحقيق -وهو قول الجمهور- أن الحر لا يقتل بعبد. وهل يقتل المسلم بكافر؟ إن كان الكافر حربياً فلا يقتل به إجماعاً، وإن كان ذمياً أو مستأمناً أو له عهد وأمان من الإمام، فـ أبو حنيفة رحمه الله قال: يقتل به المسلم؛ لأن من قتل المعاهد الذي له من الإمام عهد بالأمان فقد افتات على الإمام بنقض عهده مع هذا الذمي، والجمهور يقولون: لا يقتل به، وإنما لأوليائه الدية، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. فهذا الحكم: النفس بالنفس؛ لو عمل به الناس، لحفظت الدماء، وكانت لهم الحياة، كما قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] .

الردة

الردة الخصلة الثالثة: (التارك لدينه، المفارق للجماعة) ، التارك لدينه، أي: للإسلام؛ لأن أول الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلمٍ) ، فالضمير راجع إلى الإسلام. يقول العلماء: كل من ارتد عن دينه قتل سواءً كان رجلاً أو امرأة، إلا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فيقول: المرأة إذا ارتدت لا تقتل، واستدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل نساء المشركين، ونهى عن قتل الرهبان من أهل الكتاب، ونهى عن قتل الصبيان، وقال: (إنهم لم يقاتلوا، فلا تقتلوا إلا المقاتلة) ، فقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: فإذا ارتدت امرأة مسلمة، فهي لو كانت كافرة لا تقتل، فكيف تقتل إذا ارتدت؟ فترجع إلى ما كانت عليه قبل أن تسلم، وهو الحكم الأصلي، ولكن الجمهور يقولون: جاء في الحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) ، و (مَنْ) من صيغ العموم، فيشمل كل مرتد، وقال الجمهور: إن المشركة التي على شركها جاهلة لا تعلم شيئاً، ولكن بعد أن أسلمت والتزمت بالإسلام فجرمها في ارتدادها عن الإسلام كبير وخطير؛ لأنها لو تركت على ردتها بعد إسلامها، كأننا نقرها على ذلك، والمرتد لا يرتد إلا وهو ساخط عن الدين، وغير راض به، فلو ترك فكأننا نقر الطعن في الدين، أو نقر الأعداء بأن الدين لا يصلح لهم، ولذا فمن ارتد بعد إسلامه فهو أعظم جرماً ممن لم يسلم بعد.

بم تكون الردة؟

بم تكون الردة؟ الردة تكون بأن يرجع إلى الشرك، أو يرجع إلى اليهودية، أو يرجع إلى النصرانية، وهناك أمور أخرى تلحق الفرد بالكفار: مثل سب الله أو سب رسوله، حتى قال بعض العلماء: من فعل هذا لا تقبل توبته؛ لأنها زندقة، والزندقة خفية، فلا يُعلم حقيقة توبته، وكذلك من سب المصحف، أو أهانه، أو ألقاه في مكان نجس غير لائق به، وهكذا من أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، كأن ينكر شيئاً من أركان الإسلام، فهو مرتد حتى لو نطق بالشهادتين، وهكذا لو قال: الصلاة غير واجبة، أو الصوم غير واجب، أو الحج لا حاجة إليه، أو الزكاة غير مفروضة، أو أنكر أي شيء معلوماً من الدين بالضرورة، أو قال: لا عدة على المرأة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها، فكل ذلك ردة عن الإسلام؛ لأنه يرد شرع الله الثابت بالضرورة عند المسلمين. ومن الأسف أن بعض الناس قد يستخف ببعض السنن، وقد قال الحنابلة: من استخف بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها سنة، فقد ارتد عن الإسلام عياذاً بالله! كمن رأى إنساناً قد وفر لحيته، وأكرمها، فهزأ به وقال: هذا رجعي، هذا متأخر، فإنها ردة عن الإسلام عياذاً بالله! فليحذر الإنسان أن يفعل شيئاً يوقعه في خطر لا يعلم مداه، أو يتكلم كلمة لا يلقي لها بالاً فيدخل بها جهنم، كما جاء في الحديث: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أربعين خريفاً) . وقد كان الصحابة في غزوة، وكان منهم بعض ضعاف الإيمان، فأخذوا يتكلمون ويسخرون من أصحاب رسول الله، وقالوا: ما رأينا أكبر بطوناً، وأجبن عند اللقاء، من أصحاب محمد!! فجاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم كفروا، فقال تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] ، فقالوا: كنا نتحدث حديث الركب، وما كنا جادين، فلم تقبل معذرتهم، فقد كفروا بالله عندما سخروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وهكذا كل من فعل فعلاً يضر بالإسلام أو ينقض الإسلام فهو ردة والعياذ بالله!

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة ترك الصلاة يدخل في قوله: (التارك لدينه) ، وقد أجمع أكثر الأئمة على أن من ترك الصلاة فإنه يقتل، ويختلفون في التفاصيل، فالأئمة الثلاثة يقولون: يعطى مهلة ثلاثة أيام، ويأمره ولي الأمر بالصلاة، فإن صلى وتاب ورجع فالحمد لله، وإلا ضربت عنقه، وأحمد رحمه الله يقول: لا يقتل حتى يخرج وقت الصلاة الموجودة، فإن صلاها وإلا قتل، وقال: أبو حنيفة رحمه الله: يضيق عليه ويحبس ولا يطعم حتى يموت جوعاً، فاتفقوا على أنه يموت إذا أصر على تركها. ومذهب الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأبي حنيفة رحمهم الله أن قتل تارك الصلاة حد من حدود الله، وأما الإمام أحمد رحمه الله فيقول: يقتل تارك الصلاة ردة وكفراً عياذاً بالله! والنتيجة المترتبة على هذا الخلاف: أن الأئمة الثلاثة يعاملونه في تركته وفي زوجه معاملة المسلمين، أي: أنه يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، ويرثه ذووه؛ لأنه مسلم عاصٍ قتل في حد من حدود الله، كما لو قتل نفساً فقتل بها، وأحمد رحمه الله يقول: لا يشرع له تغسيل ولا تكفين، بل يدفن ويوارى، ولا يرثه أهله، وتركته وماله فيء لبيت مال المسلمين، ولا يصلى عليه؛ لأنه قتل ردة وكفراً والعياذ بالله! ومنهم من يقول: يدخل في عموم التارك لدينه، المفارق للجماعة الذي يخرج على جماعة المسلمين، ويقطع عليهم الطريق، ويسلب الأموال، ويعتدي على الأعراض، وقد يسفك الدماء، فهذا يقتل ويصلب، أو تقطع يده ورجله من خلاف، أو يغرب، وكل ذلك جاء في حد قاطع الطريق. وإذا بايع الناس إماماً، ثم جاء رجل يطلب البيعة لنفسه، فإنه يقتل؛ لأنه جاء ليشق عصا المسلمين.

الحكمة من قتل هؤلاء المفسدين وحل دمائهم

الحكمة من قتل هؤلاء المفسدين وحل دمائهم هذا الحديث النبوي الشريف يحفظ على المسلم دمه، ويبين حماية الإسلام للمسلم بقوله: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا يحل دم هذا المسلم إلا بإحدى ثلاث، فواحدة من هذه الثلاث تبيح دمه؛ لأنه بواحدة من هذه الثلاث يوقع الفساد في المجتمع، فالزاني مفسد للأنساب، لاسيما المحصن، فإن البكر ولو تكرر منه الزنا عشر فحده الجلد، رجلاً كان أو امرأة، أما الثيب فإنه لأول مرة يقتل ويرجم، ولو قال إنسان: هذا زناً ووطء محرم، وهذا زناً ووطء محرم، فكيف يكون حد البكر الجلد بلا إزهاق النفس، وحد الثيب القتل والرجم؟ لو فكر الإنسان في وصف البكر الذي لم يتزوج رجلاً كان أو امرأة لعلم الحكمة، فالمرأة البكر التي لم تتزوج، لو زلت قدمها ووقعت في الزنا، فزناها أهون من المحصنة وقد جاء في الحديث: (إن الله كتب الزنا على كل شخص، فهو يصيب ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها اللمس، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، وفي رواية: (والقلب يزني وزناه التشهي والهوى) ، فكل ذلك من الزنا، والفرج يصدق أو يكذب، فلو قدر أن فتاة بكراً زلت بها قدمها فزنت، فلو حملت من هذا الزنا هل يمكن أن تلصق هذا الولد بزوج سابق؟ لا، ويعلم الجميع أنه لا أب له، أما الثيب المرأة المتزوجة، فلو أنها زنت وحملت من الزنا، فولدها سيكون تحت مظلة الزوج، وتلحق بالزوج من ليس له، فتفسد الأنساب، ويكون هناك مفاسد كبرى، فولدها من الرجل الأجنبي يعيش مع بنات هذا الزوج كأخ لهن، وهو أجنبي عنهن، ويعيش مع هذه المرأة على أنها أمه، ويرثها، وإذا مات الزوج ورثه على أنه ابنه، وهو ليس ابناً له، ولا يحل له الميراث. إذاً: زنا الثيب يلحق أضراراً كثيرة بالمجتمع، ويوجد في الأسرة ولداً تحت مظلة الزوج، ولو كانت مطلقة، أو توفي زوجها، ثم بعد سنة ارتكبت الزنا وجاءت بولد، فممكن أن تقول: هو من الميت أو من الزوج المطلق، فتتعلق بوسيلة ما، أما البكر فليس لها طريق عذر، وإن قدر شيء فهو محدود ومحصور وقائم بذاته، وولدها لا يلحق ولا يناط بأحد. وكذلك حد قتل النفس فيه حكم عظيمة، فلو ترك الناس يقتل بعضهم بعضاً لانتشر الفساد في الأرض، ولما أمن أحد. وهكذا قتل التارك لدينه، فلو ترك لكل إنسان أن يلعب بالدين كيفما شاء، لعظم الفساد والشر، وقد يقول قائل: وماذا تقول في قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] ، فيرتد أو لا يرتد فهو حر؟!! نقول: لا، آية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} سبب نزولها معروف، ولو ترك الباب مفتوحاً لكل من أراد التلاعب بالدين، لصار اليوم مسلماً، وغداً يهودياً، وبعدها نصرانياً، وعاش مع المسلمين، وورث من أموالهم، وتزوج من نسائهم، ثم ينتقل إلى النصارى بأموال وميراث المسلمين، وبعد أن علم بأحوالهم وانتقل إلى الآخرين، وهكذا ينتقل إلى الدين الثالث، ثم يرجع، ويصبح كاللولب يلعب بالأديان كلها، فهذا فساد عظيم، وإشارة إلى عدم صلاحية دين من هذه الأديان، فآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} لا تتعارض مع هذا الحديث، ولا مع هذه القضية، فنزولها كان في أول الأمر، فكان لا يكره أحد، بل يترك له الاختيار إلى أن يقتنع ويرى وينظر، ثم بعد ذلك نسخت بهذا الحديث، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... ) ، ولم يقل: حتى يتخيروا، وأتركهم على اختيارهم، وكان إذا بعث جيشاً أو سرية قال لقائدها: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فكف عنهم، وإن هم أبوا فأعلمهم أن عليهم الجزية، فإن دفعوها فكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم) ، فما ترك الناس على اختيارهم بل يلزمهم أن يختاروا الإسلام أو الجزية أو السيف، فهذا الحديث عظيم بين حرمة المسلم في الإسلام، وبالله تعالى التوفيق.

الحديث الخامس عشر

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس عشر

شرح حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)

شرح حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)

الحث على مكارم الأخلاق

الحث على مكارم الأخلاق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلومه في الدارين آمين: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) رواه البخاري ومسلم. أكثر الأحاديث التي تقدمت تتعلق بالإسلام وأصوله، وهذا الحديث يتعلق بمكارم الأخلاق، ومكارم الأخلاق من صلب الشريعة الإسلامية، بل سر الشرائع كلها، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الرسالة كلها، والبعثة بأكملها؛ من أجل مكارم الأخلاق، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما) وإنما أداة حصر، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق) ، وقضية منطقية -كما يقولون- بين آية من كتاب الله وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبين أن كل جهات وجوانب التشريع في حسن الخلق، قال الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة:177] ، وكل هذه الجوانب الخيرية من الإيمان باليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، خبر عن البر، فالبر من مجموع تلك السلسة من فضائل الأعمال والواجبات، وكلها تندرج تحت عنوان: (البر حسن الخلق) . إذاً: حسن الخلق هو البر، والبر هو كل الخصال الكريمة التي قد تكون أصولاً أو فروعاً. وهذا الحديث يشتمل على كثير من تلك النواحي.

أهمية الإيمان في امتثال الأوامر الشرعية

أهمية الإيمان في امتثال الأوامر الشرعية قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) يقولون في علم اللغة: (من) مِن أدوات الشرط، وفعل الشرط هنا: (كان يؤمن بالله اليوم الآخر) ، وجواب الشرط: (فليقل خيراً أو ليصمت) ، ثم مرة أخرى: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ثم أعاد الشرط مرة ثالثة: (فليكرم جاره) ، ولو تأملنا في نصوص الشريعة لوجدنا أن الإيمان بالله واليوم الآخر قاعدة الانطلاق في العمل الإسلامي من فعل أو ترك، فما صلى إنسان، ولا صام، ولا زكى، ولا حج، ولا جاهد، ولا فعل فعلاً من أفعال الخير، ولا عف عن زنا، ولا كف عن سرقة، ولا صان دماً؛ إلا انطلاقاً من إيمانه باليوم الآخر، لماذا؟ لأنه في اليوم الآخر يجازى على فعل الخير، ويعاقب على فعل الشر، ولولا إيماننا بالبعث والجزاء والحساب، لصرنا أشبه ما نكون في غابة، فمنطلق أي عمل هو الإيمان باليوم الآخر؛ ولو أخذنا المصحف الشريف فأول ورقة فيه بعد الفاتحة، فيها قوله سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، ومن هم المتقون؟ (الذين) ، وفي علم البيان في البلاغة أن مجيء الجملة بعد الجملة معطوفة بواو فهي مغايرة؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، ولكن إذا جاءت بدون واو، فالجملة الثانية إما تفسير لما قبلها، أو جواب على سؤال فيها، أو جزء منها، فهنا قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2-3] ، فالمتقون هم الذين يؤمنون بالغيب، إذاً: الآية جاءت مفسِّرة لما قبلها، وهي مفسرة بما قبلها أيضاً بينت من هم المتقون، وكلمة المتقين تبين لنا الذين يؤمنون بالغيب. إذاً: علة وجود التقوى عند المؤمن هو إيمانه بالغيب، وعطف على الإيمان بالغيب توابع: يقيمون الصلاة، يؤتون الزكاة، ومما رزقناهم ينفقون، والإيمان بالماضي، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ، فكأنهم يرون القيامة بين أعينهم يقيناً، ما هو مجرد تصديق، بل يقين، ومراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.

حفظ اللسان

حفظ اللسان الإيمان بالغيب، واليقين باليوم الآخر، هو سبيل الهداية، ونتيجته الفلاح، من كان بهذه الصفة يؤمن بالله، ويوقن باليوم الآخر، ويريد أن يكون على هدىً ثابت، ومن الفالحين، فليقل خيراً أو ليصمت، يا سبحان الله! المقدمة الكبيرة، وفعل الشرط هو (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) ، ماذا يصير في الدنيا؟ كلمة بسيطة: (فليقل خيراً أو ليصمت) ، وهذا يعطي المسلم مدى خطورة الكلمة التي يتكلم بها، فإذا كنت بهذه المثابة من الإيمان بالله وباليوم الآخر، فانتبه! وحاذر من الكلمة التي تتكلم بها، وانظر ماذا تقول؛ لأنك ستسأل عنه، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، (فليقل خيراً أو ليصمت) لأن السكوت خير من الكلام بغير فائدة، والحديث عن الكلمة الخيرة والكلمة السيئة باب واسع، والله سبحانه وتعالى ضرب المثل الملموس المحسوس، {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] ، أكبر شجرة يمكن أن تثمر في السنة مرتين، إذا كانت التربة خصبة، والنوع جيداً، لكن هذه كل حين، لا بخصوبة التربة، بل بإذن ربها؛ ولذا قالوا: هي كلمة لا إله إلا الله، اللسان أخطر ما يكون على الإنسان كما جاء في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه، عندما قال له صلى الله عليه وسلم: (احفظ عليك لسانك، فقال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!) وبعض السلف كان يخرج لسانه ويمسكه ويقول: اتعبتني، وفي بعض الآثار أن الإنسان حينما يصبح فكل الأعضاء تناشد اللسان أن يقيها النار، وتخاطب اللسان وتقول: اتق الله فينا! ويقول علماء التربية الإسلامية: كل عضو خارجي مفتوح ما عدا اللسان فعليه قفلان: فك الأسنان والشفتان، ومع هذا يتفلت منهما، وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً خطر الكلمة: (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً) ، يستهين بها ولعل فيها هلاكه! كالذين تناولوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام أهلكهم وأوبقهم، فقد يصاب الإنسان ويقتل بكلمة يقولها بلسانه، وكما قالوا: جرح اللسان ليس له التئام، وجرح السنان قد يلتئم. ومن تعاليم الإسلام تعويد هذا اللسان على نطق الخير، وزجره والحذر منه، حتى لا ينطق بكلمة سوء ولو كانت في محلها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوا الشيطان، واستعيذوا بالله منه) ، يقول بعض العلماء: هو ملعون فلن تأتي بشيء جديد، بل يخاف عليك أن تتعود هذا اللفظ فتوقعه في غير محله، فتبوء بإثمه عياذاً بالله! وفي بعض الروايات: (فإنه يتعاظم في نفسه) ، فلا تعود لسانك النطق بهذه الكلمة، وإذا كان الإنسان يتحرى قول الخير أو يصمت عن الكلام، فلن يقع في غيبة، ولن يقع في نميمة، ولن يقع في كذب، ولن يقع في تدليس، وكل المخاطر يتجنبها.

إكرام الضيف

إكرام الضيف يأتي القسم الثاني من الحديث بتلك المقدمة أيضاً: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، إكرام الضيف من مكارم الأخلاق والمروءة، والشخص كريم المعدن لا شك أنه يؤثر ضيفه على نفسه، وغير خافٍ علينا قصة أبي طلحة حينما جاء ضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى بيوت زوجاته أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن أجمعين يسأل عن قرى للضيف، وكل واحدة تعتذر بأنه ليس عندها عشاء، الله أكبر! زوجات رسول الله وما عند واحدة منهن قرى للضيف!! لا إله إلا الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: (من يستضيف ضيفي الليلة وله الجنة؟) ، فقام أبو طلحة وأخذ الضيف إلى بيته، وقال لزوجه: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ليس عندي ما أكرمه، إنما يوجد عشاء عيالي، وهي معذورة، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ابدأ بنفسك) ، فقال: علليهم حتى يناموا، وإذا ناموا فأحضري العشاء، فأجلس أنا والضيف للأكل، وقومي أنتِ واعمدي إلى السراج كأنك تصلحينه فأطفئيه، وأنا سأمد يدي مع الضيف ليشعر أني أشاركه الأكل، وسأرفع يدي خالية من الطعام، وأوفر الطعام للضيف، فتطيع المرأة الكريمة زوجها، وتعين الزوج الصالح على فعل الخير، ولم تضع العقبات، ولم تتوجع لأطفالها، إنما فعلت كل ما طلب منها، فأكل الضيف وشبع، وباتوا جائعين! فماذا كانت النتيجة؟ لا يخفى على الله شيء، فهو عالم بكل شيء، سميع بصير، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل الرجل ويبتدئه بقوله: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة!) وهو صنيع ليس بالهين، وحيلة لكن لمرضاة الله. ولو قلبنا صفحات الماضي لوجدنا اليهود يحتالون على استحلال ما حرم الله، حينما حرم عليهم الشحوم، جملوها وأذاوبها وباعوها، واشتروا بثمنها ما يأكلونه، فلما أنكر عليهم قالوا: نحن ما أكلنا الشحوم أبداً!! ولما منعوا من العمل يوم السبت، وامتحنوا بالحيتان {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] احتالوا، فألقوا الشباك يوم الجمعة، وعلقت فيها الحيتان يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، وقالوا: ما عملنا شيئاً يوم السبت! حيلة يتوصلون بها إلى استحلال ما حرم الله. وأما حيلة ذاك الصحابي فليتوصل بها إلى مرضاة الله، حقاً قال الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة) ، وفي حديث آخر أن رجلاً قال: (أويضحك ربنا يا رسول الله؟! قال: نعم قال: ما عدمنا خيراً من رب يضحك) . وأحذرك ثم أحذرك! أن تفتح المجال لمخيلتك وذهنك وتفكر كيف يضحك، لا تفكر في ذات الله، ولا يتوجه السؤال إلى الله بالكيفية أبداً، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، إنما نثبت لله ما أثبته لنفسه، وهو أعلم بذلك، ونثبت لله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا أحد أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأسماء والصفات توقيفية، قال الإمام الشافعي رحمه الله: نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، ونؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، والإمام ابن تيمية رحمه الله الذي ولد في القرن السابع يقول: نحن أمرنا بإيمان إثبات، لا بإيمان تكييف، وكما قال الإمام مالك لما سأله رجل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك مبتدعاً أخرجوه عنا.

حد إكرام الضيف

حد إكرام الضيف يذكرون في كتب الفقه أن للضيف ثلاثة أيام، ولكن متى؟ حينما لا يكون للضيف مأوى، أما في المدن فإنه توجد فيها الفنادق، وشقق مفروشة، فليس من حق الغريب أن يطرق أي باب ويقول: أعطني حق الضيافة ثلاثة أيام!! نقول له: لا، أبواب الفنادق مفتحة عندك هناك، لكن إذا كان في البادية وفي القرى، وليس هناك مأوى له، فيجب على أهل القرية كلهم، أن يستضيفوه ثلاثة أيام. إذاً: مكارم الأخلاق في الإسلام قد تصعد إلى درجة الواجب، ومما جاء في عهود أهل الصوامع، أنهم يُقْرون من يمر بهم في الطريق، وكانوا يفعلون ذلك، والكرم من أفضل خصال الخير، وكما يقول علماء الأدب: الكرم يغطي كل نقيصة. ويقول علماء الأخلاق: الكرم والشجاعة صنوان، ولا تجد كريماً جباناً أبداً، ولا تجد شجاعاً بخيلاً أبداً؛ لأن الشجاع: يجود بالنفس إن ظن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود فإذا كان يجود بنفسه فهل سيبخل بالمال أو بالحيوان؟ لا، ومن حق الضيف على مضيفه أن يقدم له طعامه وشرابه، وأن يدله على موضع وضوئه، وأن يحضر له الماء وكل ما يحتاجه، ومن حق المضيف على ضيفه ألا ينتقص طعامه، وألا يتكلم على نواقص وقعت عليه، وأن يستر ما يرى من أهل البيت، إلى غير ذلك مما يذكره العلماء في آداب الضيافة.

إكرام الجار

إكرام الجار القسم الثالث من الحديث هو أعظمها وأخطرها، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) ، حق الجار عظيم في الإسلام، ولا أعتقد أن هناك قضية أوسع منها، اللهم إلا قضية بر الوالدين، فينبغي تأمل الأحاديث الواردة فيما يتعلق بالجار، وفي مقدمة الآثار الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، وهذا الحديث مذكور في كتب السنن كلها، وفي بعض الروايات عن بعض الأنصار قال: ذهبت إلى النبي عليه الصلاة والسلام مع أهلي لحاجة يريدونها، فوجدته قائماً مع رجل يحادثه ويغاير بين قدميه من طول القيام حتى أشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام، ثم قلت: يا رسول الله! من هذا الرجل الذي أطال القيام معك؟ والله! لقد أشفقت عليك من طول قيامك، وأنت تغاير بين قدميك! فقال: (أورأيته؟) قلت: نعم، قال: (هذا جبريل لا زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، وقف طويلاً حتى جعل يغاير بين قدميه، ولماذا هذه الوقفة الطويلة؟! ليوصيه بالجار.

حق الجار الكافر

حق الجار الكافر قال عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في الأدب المفرد للبخاري -: (ذُبحت شاة في بيته فقال لغلامه: أعط فلاناً، وأعط جارنا اليهودي، فقال الحاضرون: اليهودي يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار، ويقول: (لا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) .

أقسام الجيران

أقسام الجيران الجار على ثلاثة أقسام: القسم الأول: الجار المسلم القريب، وله ثلاثة حقوق: حق الإسلام -الأخوة الإسلامية- وحق الجوار، وحق القرابة -صلة الرحم-. القسم الثاني: المسلم غير القريب، وله حقان: حق الإسلام -الأخوة الإسلامية-، وحق الجوار. القسم الثالث: الجار غير المسلم، كيهودي أو غيره: له حق واحد، وهو حق الجوار. ومما يروى في ذلك أن الإمام أبا حنيفة كان له جار يؤذيه، وفي يوم من الأيام لم يجد علامات الإيذاء التي تعود عليها، فسأل عن جاره، فقالوا: إنه في السجن، فسأل عن السبب؟ فقالوا: سجنه الوالي لأمر ما، فذهب إلى الوالي وشفع عنده بأن يطلق هذا الشخص، ولم يعلم الجار بالذي شفع له، فجاءه أمر الإطلاق من السجن، فذهب يسأل لأي شيء أطلقت؟ فقالوا: جاء جارك فلان، وشفع فيك، وعفا عنك الوالي، قال: جاري فلان!! وتذكر إيذاءه له، وكيف قابل إساءته بالإحسان، فذهب يعتذر إليه، وعاهد الله ألا يؤذيه. ويذكر لنا بعض شيوخنا في المدينة، وهو الشيخ عبد الرحمن الإفريقي رحمه الله، أنه كان يسكن في المدينة، وأولاده يلعبون مع أولاد الجيران، فتشاجر الأولاد مع بعض، فجاء والد أحد الأولاد وضرب ولد الشيخ، وذهب الأولاد واشتكوا، فأخذ الرجل وحبس، وفي الظهر علم الشيخ بذلك، فقال: أين الرجل؟ قالوا: محبوس، فذهب بنفسه إلى الشرطة وقال: هذا ولدي، وأنا وليه، وليس لنا دعوى على أحد. والذي يهمنا التأكيد على حقوق الجار، سواء كان أجنبياً أو كان قريباً مسلماً، أو غير مسلم، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان له خادم يهودي، فمرض هذا الخادم، فسمع صلى الله عليه وسلم بأن خادمه اليهودي مريض، فقال لمن عنده: (هلموا بنا نزوره) ، سيد الخلق يزور خادماً يهودياً، فالعوام يقولون: اجتمعت فيه الخستان، كونه خادماً، وكونه يهودياً، ولكن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم تطغى على هذا كله، فذهب ومعه أصحابه، فوجد الخادم في النزع، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه وكان عند رأسه، فقال الأب للغلام: أطع أبا القاسم يا بني! فنطق بالشهادتين ومات في الحال، فقال صلى الله عليه وسلم لمن معه من أصحابه: تولوا أمر أخيكم) ، لأنهم صاروا أولى به من أبيه؛ لأنه دخل في جماعة المسلمين.

حد الجوار

حد الجوار من هو الجار؟ ذكر البخاري في الأدب المفرد عن بعض السلف مرفوعاً وموقوفاً أنه إلى أربعين بيتاً، أربعين عن يمينك، وأربعين عن يسارك، وأربعين من أمامك، وأربعين من ورائك، وإذا نظرنا إلى دائرة قطرها أربعون بيتاً، فهي حد الجوار، ولو نظرنا إلى جيران آخر بيت في هذه الدائرة، لوجدنا أن كل المدينة ستدخل في الجوار، ولا يبقى في المدينة العظمى بيت إلا وله جيران إلى أربعين بيتاً، وحد الجوار يشمل القرى، فكل قرية مجاورة للقرية الأخرى لها عليها حقوق الجوار، وكذلك حد الجوار يشمل الدول والأقطار، فتدخل كل دول العالم تحت هذا الحديث، ولو أدى كل جار حق جاره، لكان العالم كله متواصلاً كخيوط الشبكة.

من الأولى بحق الجوار؟

من الأولى بحق الجوار؟ الأولى بحق الجوار الأقرب، كما جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله! عندي جاران، فلمن أهدي منهما؟ قال: (لأقربهما باباً) . بماذا يكرم الجار؟ إذا رجعنا إلى مصالح المجتمع، نجد كل إنسان يعمل لجلب نفع له، ولدفع ضر عنه، فكل ما فيه نفع لجارك فيجب أن تبذله له ما استطعت، وكل ما فيه مضرة عليه فمن حق جارك عليك أن تدفعه عنه؛ ولهذا رأى ابن مسعود رجلاً يجري فقال له: ما لك؟ قال: أستدعي الشرط -الشرطة- قال: لماذا؟ قال: لجاري، قال: ما به؟ قال: يشرب الخمر، قال: هل نصحته؟ قال: لا، قال: ارجع فانصحه أولاً بينك وبينه، فمن حق الجار النصيحة. ومن حق الجار على جاره أن يحفظ له ماله، كما يحفظ مال نفسه، فلا تجوز إساءته في دوابه ومتاعه، ذكر البخاري في الأدب المفرد أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وقالت: إن أحدانا يطلبها زوجها فتمتنع -إما مريضة وإما متعللة- فهل عليها من شيء؟ قالت: نعم، لو دعاها زوجها وهي على رأس جبل، لكان عليها أن تجيب، وأحدثك أني كنت بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراشه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً، وعندي قدح شعير، فطحنته وصنعت قرصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته إذا خرج أن يقفل الباب معه، فخرج وترك الباب مفتوحاً، ودخلت داجنٌ لجارنا، ثم جاء صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، وجئت جواره، فنهضت الداجن إلى قرص الشعير فنهضت إليها، فقال: (على رسلك يا عائشة! خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته) ، فهذا قرص واحد، والرسول صائم، ومنتظر للمغرب، وتأتي الداجن -وهي الشاة- وتخطف القرص، وعائشة أخذته منها، وأرادت أن تؤذيها، فقال: لا، لا، بالرفق، (خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته) ، وهذا يعني أن دواب جارك لو جاءت لزرعك، أو دخلت بيتك، فلا تؤذها، وإنما كف أذاها عنك بالرفق. إذا كان الحفاظ على الجوار إلى هذا الحد، فكيف يكون ما عدا ذلك؟! لو غضب جارك عليك، لو أساء إليك، لا تبادر بالانتقام. إذاً: حقوق الجار من الحقوق الاجتماعية العامة التي يجب أن تكون بين الأسر والبيوت والأفراد، ليرتبط المجتمع كله بعضه مع بعض، وهذا الجوار ليس في البيوت فقط، بل حتى في الدكاكين وفي الوظائف والعمل إلخ. والمفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) ، أن من لم يكرم جاره، ومن لم يكرم ضيفه، فليس إيمانه مكتملاً باليوم الآخر، وكذلك من لم يحفظ لسانه! الخلاصة: هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وينبه فيه عليه الصلاة والسلام على نقاط ثلاث: حفظ اللسان، والحذر من مساوئه قدر المستطاع، وألا يتكلم العبد إلا فيما هو خير، وكذلك ترابط المجتمع وتأمين السبيل لذلك بإكرام الجار وإكرام الضيف، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة والله وبركاته.

الحديث السادس عشر

شرح الأربعين النووية - الحديث السادس عشر

شرح حديث: (إن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أوصني.

شرح حديث: (إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أوصني ... )

التعليم بالسؤال والجواب

التعليم بالسؤال والجواب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب) رواه البخاري] . إن هذا الحديث النبوي الشريف من أبين وأظهر الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وذلك أنه حديث في كلمة دخل عليها حرف النفي، ومدلولها ومعطياتها يعجز الإنسان أن يوفيه حقه. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً) ، من هو هذا الرجل؟ لا يعنينا، لأنه صحابي، والراوي صحابي، والحادثة وقعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجواب سمعه أصحابه رضي الله تعالى عنهم. رجل صحابي سأل النبي، وهذه نعمة كبرى على أصحاب رسول الله، فما إن تعرض لهم حاجة، أو يقعون في مشكلة، أو تتجدد لهم الأحداث إلا ويهرعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه فيجابون. والسؤال والجواب من أعلى أساليب التعليم والتربية، وقد جاء هذا الأسلوب في كتاب الله، واعلم أن السؤال إما أن يكون عن حاجة واستفهام وطلب المعرفة، وإما عن تعنت وتعجيز، وكل ذلك جاء في القرآن الكريم، والله سبحانه أجاب على تلك الأسئلة كلها، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (إن هذه الأمة أقل الأمم سؤالاً لنبيها، سألوه اثني عشر سؤالاً) ، والمتتبع لهذه الأسئلة في كتاب الله يجدها عملية واقعية إلا ما تدخّل فيها عنصر اليهود.

أسئلة الصحابة المذكورة في القرآن

أسئلة الصحابة المذكورة في القرآن فمن الأسئلة العملية التي جاءت في القرآن: قال الله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:215] سألوه مرتين: مرة بنوعية الإنفاق، ومرة بمصرف هذا الإنفاق، فقال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] أي: ليس كل المال، كما جاء في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام:141] ، قالوا: (وَلا تُسْرِفُوا) في الحق الذي تخرجونه، فلا تتصدقوا بكل الثمرة، فتتركون الأهل والولد جياعاً، وقيل: (وَلا تُسْرِفُوا) راجعة على الأكل المتقدم ذكره، أي: كلوا بدون إسراف، بل بتوسط، وكما قال الله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29] والسؤال الآخر: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] ، فبين الله الأصناف الذين هم أحق بالبداءة والأولوية، وهو أمر عملي. وقال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]-وهو أمر يخالط البيوت- {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] . وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217] وهذه أمور واقعية. وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْر} [البقرة:220] واليتيم فرد من المجتمع. وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، فقارن بينهما ورجح الإثم. وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] ، وهنا قال: (فَقُلْ) ولم يقل: قل.

من أسئلة المشركين المذكورة في القرآن

من أسئلة المشركين المذكورة في القرآن وقد دل اليهود المشركين على أسئلة التعنت والتعجيز لما جاء المشركون إلى اليهود فقالوا: أنتم أهل كتاب؟ فأعطونا شيئاً نسأل به هذا الرجل لنسكته، فقالوا: سلوه عن ثلاث: عن رجل في سالف الزمن خرج من المشرق إلى المغرب، ما شأنه؟ وعن فتية آمنوا بربهم وخرجوا، ما شأنهم؟ وعن الروح؟ فإن سكت عن الجميع فهو كاذب فشأنكم به، وإن أجابكم عن بعضها وسكت عن بعضها فهو صادق، فجاءوا وسألوه، وجاءت الإجابة بقدر Q {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] ، وبيّن سبحانه قصتهم وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبي} [الإسراء:85] ، وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83] ، وكان رجلاً في سالف الزمن، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ التاريخ، ولم يعاصره، ولم يبلغه عنه شيء، فقص الله قصته للتحدي وللإعجاز، وسؤالهم ليس عن رغبة في فائدة يتحصلون عليها من وراء هذا السؤال، فجاء الجواب دون كل الأسئلة: {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83] ، أي: سأقرأ وحياً ينزل عليّ، ويكون هذا الذكر باقياً إلى الأبد: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ} [الكهف:84] إلى آخر السياق، وفيها طوافه من المشرق إلى المغرب، وما كان منه في الطرفين، وما فعل مع يأجوج ومأجوج، إلى آخر قصته وفيها ما لم يكن عند اليهود من خبره في ذلك.

سؤال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه

سؤال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه وقد يكون السؤال من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ليفتح الذهن، ويختبر الذكاء، ويجعلهم يتطلعون إلى الجواب، ويفتشون عن الإجابة، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخبروني بشجرة تشبه المسلم لا يتحات ورقها) قال ابن عمر: وأخذ الناس يخوضون في شجر البوادي، وخطر ببالي أنها النخلة، واستحييت أن أتكلم مع كبار الناس، فقال له أبوه: والله! لو كنت تكلمت بها، لهو خير لي من الدنيا وما فيها، والرسول كشفها عندما عجزوا عنها فقال: (هي النخلة) . وقال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! أتدري -وهذا سؤال استفهام- ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟) ، والرسول صلى الله عليه وسلم يسأل معاذاً: (أتدري؟) ، وهو يعلم أن معاذاً لا يدري، ومن له علم بذلك، فلماذا السؤال وهو يعلم أنه لا يعلم الجواب؟ يقولون: حينما يأتيك جواب عن قضية عابرة يمر الجواب بسمعك عابراً، ولكن حينما تُسأل وأنت لا تعلم، تتفاعل في نفسك وتطلب الجواب والمعرفة فلا تجد، فتقف وكلك استعداد لتلقي وقبول الجواب الذي يأتيك، فيرسخ في قلبك. ومن هنا نعلم جميعاً أن معاذاً تشوق إلى الجواب، فأخبره صلى الله عليه وسلم بعدما استجمع حسه وقواه لتلقي الإجابة، فقال: (حق الله على العباد كذا، وحق العباد على الله كذا) .

سؤال الصحابة لزوجات النبي عليه الصلاة والسلام

سؤال الصحابة لزوجات النبي عليه الصلاة والسلام وقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرسلون مع زوجات رسول الله أسئلة مما يتعلق بشأن البيوت، فكان السؤال والجواب أقوى وسيلة لتلقي أصحاب رسول الله العلم عن الله وعن رسول الله وعن زوجات رسول الله. وكان عمر رضي الله تعالى عنه في مسجد رسول الله فاختلف عنده رجلان من الصحابة، فيمن يأتي أهله فيكسل ولم ينزل، أيغتسل، أم لا؟ فقائل يقول: لا غسل عليه، لحديث: (إنما الماء من الماء) ، وقائل يقول: عليه الغسل لحديث: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل) . فسأل علياً رضي الله تعالى عنه: ما تقول أنت -يا علي! - في هذه المسألة؟ فقال علي: لا تسألني ولا تسأل غيري، دونك زوجات رسول الله فأرسل إليهن وسلهن، فيرسل إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فأخبرتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويغتسل، قالت: وسمعته يقول: (إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل) ، فرجع الرسول وأخبر عمر، فقال: لئن سمعت أحداً يقول: لا غسل عليه، لأجعلنه مثلة لغيره، وانتهى الخلاف، وقال أُبي: يا أمير المؤمنين! لا تعجل، أنا أخبرك عن هذا: في بادئ الأمر لم يُعزم علينا بالغسل، ثم في آخر الأمر عزم علينا به.

البحث في سبب الخلاف من وسائل ترجيح الروايات

البحث في سبب الخلاف من وسائل ترجيح الروايات وهذا منهج من مناهج البحث في سبب الخلاف، وترك التعصب للرأي، وجمع الأحاديث بعضها مع بعض، فالذين قالوا: لا غسل، دليلهم ما كان في أول الأمر، والذين قالوا بالغسل، دليلهم ما استقر عليه الأمر بعد ذلك، ولا مانع في ذلك. وفي زمن مروان بن الحكم، وهو أمير على المدينة، اختلفوا عنده فيما يتعلق بالصائم في رمضان إذا أصبح جنباً -أي: أجنب بالليل، ولم يغتسل حتى طلع الفجر وهو جنب- والجنابة أثر من الوطء، فهل الأثر له فعل المؤثر، وصيامه باطل لأنه أثر الجنابة، والجنابة تبطل، أم لا؟ فتساءلوا، وقال قائل: إن أبا هريرة أخبرني أنه لا صيام له، فأرسل رجلاً إلى أم المؤمنين عائشة وسألها: فقالت: (كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا احتلام ويصبح صائماً) ، فأرسل الرجل إلى أبي هريرة، وهو بوادي العقيق، ليسأله عن رأيه، ويخبره بما قالت أم المؤمنين، وهذا منهج عملي في تتبع الخلاف في الروايات، فلما جاءوا إلى أبي هريرة وأخبروه، قال: أوقالت ذلك؟ قالوا: نعم، قال: أنا أخبرني مخبر، يعني: ما سمعت ذلك مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهل ترجح رواية من قال: أخبرني مخبر، أو رواية عائشة عن رسول الله؟ هكذا يكون ترجيح الروايات، وهذا منهج عملي لمعرفة الراجح من الخلاف فيما يصلنا من الروايات المتعارضة في الظاهر.

طلب الصحابة للوصية من رسول الله من وسائل التعلم

طلب الصحابة للوصية من رسول الله من وسائل التعلم فأصحاب رسول الله يسألونه عن الحلال والحرام، ويطلبون منه التوجيه في كل ما يعرض لهم، وهذا الرجل طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيحة، وجاء في بعض الروايات أنه أبو الدرداء، وقال: (يا رسول الله! أوصني وأوجز) ، أي: أوصني بوصية ولا تكثر لعلي أعقل، أو لعلي أحفظ، والوصية من وصى، والمادة اللغوية وَصِيَ، وصية، على وزن فعيلة، والوصية من وَصِيَ، فحروف مادتها: الواو والصاد والياء. وتجد كلمة أخرى شبيهة بها في مادتها، وهي: وَصَلَ، فالواو والصاد موجودتان في الكلمتين، وتختلف الوصية من أنها تنفرد بالياء، والوصل ينفرد باللام. يقول علماء فقه اللغة: إذا وجدت كلمتان تتفقان في أكثر الحروف، وتختلفان في حرف واحد، فبينهما صلة قرابة، والفرق بينهما هو الفرق بين الحرفين المختلفين، ويمثلون لذلك بقولهم في اللغة: خَبَنَ وغَبَنَ، فالخبن هو: التقصير من طول الثوب، والغبن: النقص في القيمة، فيقال: فلان مغبون في السلعة، أي: اشتراها بعشرة وهي تساوي خمسة، فنقص عليه من الثمن وصار بدون مقابل، أو باع السلعة بخمسة وهي تساوي عشرة، فهذا غُبن في خمسة ذهبت عليه، فالغبن والخبن كلاهما يشترك في معنى النقص. لكن الخبن: في نقص الثوب وتقصيره، والغبن: في نقص القيمة وتقديرها. ومن دقة اللغة العربية وبلاغتها أنهم غايروا بين الغين والخاء، فنظروا إلى أن الغين أدخل في الحلق، والخاء أظهر، وكلها من حروف الحلق، وهي: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء، فلما كان الغبن أمراً معنوياً، والغين أدخل في الحلق، جعلوا الغين مع الغبن من النقص المعنوي، ولما كان الخبن في المحسوسات، جعلوا الخاء التي هي أظهر من الغين في المعنى الملموس. إذاً: وصى ووصل متقاربتان، والوصية صلة للموصى إليه، ولذا قال الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] ، والوصية للوالدين والأقربين هي صلة لهم بما يوصي به، ومن هنا فمعنى: أوصني، أي صلني بمعروفك يا رسول الله! تقول: أوصيك يا فلان! أي: أصلك بخير وأمنحك إياه.

من وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام

من وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام الوصية صلة لمن توجهت إليه، سواء وصايا الله لخلقه أو وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولا تصدر الوصية بين الناس إلا في معرض الشفقة والرحمة، فلا تجد عدواً يوصي عدوه، إنما تجد الموصي هو الصديق المشفق القريب، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ إني أحبك) ، فقدم قوله: (إني أحبك) ومن محبته قال له موصياً: (لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وكانت فاطمة رضي الله تعالى عنها تعمل على الرحا حتى اشتكت من أثرها في يديها، فسمع علي أن النبي جاءه سبي فقال لها: اذهبي لأبيك ليمنحك خادماً، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال (ما الذي يمنعك أن تعملي بما أوصيك به؟ لا تدعي دبر كل صلاة أن تقولي: يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) ووصية الرسول لـ فاطمة أخص من وصية أي والد لولده؛ لأن الوالد هنا ليس ككل الوالدين، والولد ليس ككل الأولاد، وقد قال: (فاطمة بضعة مني) . إذاً: الوصية مصدرها الشفقة والرحمة وحب الخير.

استيعاب قليل العلم خير من تضييع كثيره

استيعاب قليل العلم خير من تضييع كثيره هنا أبو الدرداء أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يوصيه، فبماذا أوصاه؟ هناك قال لـ معاذ: (لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وهناك وصايا عديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور متعددة، ويهمنا في هذا الموقف وصيته لهذا الرجل الذي طلب وصية رسول الله، وتحفظ في طلب الوصية فقال: لا تكثر عليّ لعلي أعقل، والمراد بالعقل هنا: الإدراك، والحفظ، قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، ولم يقل: يحفظه؛ لأن الفقه هو: الفهم، والفهم ثمرة الحفظ، كما جاء في الحديث: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) . فالنبي صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لرغبة السائل لم يكثر، فقال: (لا تغضب) ، فكأن لسان حال السائل يقول: أهذه الوصية التي جئت من أجلها، وتعبت لأسألك، وأهتم لذلك، ثم تقول لي: (لا تغضب) ، فكرر: (يا رسول الله! أوصني، قال: لا تغضب) . وفي بعض الروايات أنه جاءه عن يمينه ثم جاءه عن يساره ثم جاءه من أمامه، قال: (ألا تعقل! لا تغضب) ، وفي بعض الروايات أنه قال: أوصني، علمني حسن الخلق، فقال: (لا تغضب) ، وكل الروايات جاءت بالتأكيد على عدم الإكثار، فقال: (لا تغضب) فهذه كلمة كل من يسمعها يتقالها، وفي بعض الروايات أن السائل قال: (فتأملت في الغضب فوجدت تركه ترك الشر كله) . وفي بعض الروايات: (فتأملتها فإذا هي جامعة الخير كله) ، هذه الكلمة يقف عندها علماء الأخلاق، كما فعل ابن مسكويه، ويقف عندها علماء التشريع في الفقه، في آثار فعل الغضبان، ويقف عندها علماء التربية والتوجيه.

تهذيب الإسلام للغرائز

تهذيب الإسلام للغرائز فالغضب غريزة، والأخلاق مجموعة غرائز، مثل: الحلم والغضب والشجاعة والجبن والكرم والبخل، فكل هذه غرائز جبل عليها الإنسان، ولا يمكن لإنسان أن يغير غريزة في نفسه، والإسلام ما جاء لينتزع الغرائز، ولكن جاء ليهذبها، ولذا لما جاء وفد عبد القيس من البحرين، تسارعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخر أشج عبد القيس، فجمع الرواحل وعقلها، وجمع المتاع وحفظه، ثم جاء إلى عيبته، وأخرج حلته، ولبس أحسن ثيابه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الشريف، فهو قد تأخر عن أصحابه، بينما أصحابه أول ما وصلوا المدينة أسرعوا إلى رسول الله، حيث جاءوا من مسافة شهرين ليروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قلوبهم المحبة العظيمة، والأشواق الكبيرة للالتقاء برسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن هو تأخر، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قادماً، أفسح له مكاناً بجواره، وقال له: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله! خلق تخلق به أم جبلة جبلني الله عليها؟ قال: بل جبلة جبلك الله عليها) والجبلة: الخلقة. إذاً: الغرائز جبلات لا يمكن أن تنتزع، والإسلام ما جاء لينتزع الغرائز ولكن جاء ليهذبها، ويقال: إن الغضب محله القلب، وهو غريزة سبعية، فالأسد يغضب، وكلٌ من الرحمة والرضا غريزة إنسانية وحيوانية، ومحلها الكبد كما يقولون، والفكر والإدراك والذاكرة والتريث والتعقل محلها العقل، وهل العقل في الدماغ أو في القلب؟ هذه مسألة مختلف فيها بين الفلاسفة والفقهاء.

في الإنسان ضابط لغرائزه

في الإنسان ضابط لغرائزه تميز الإنسان بغريزة العقل وقالوا عنه: حيوان ناطق، أي: مفكر، واشترك مع الحيوانات في غريزتين: الغضب في السبعية، والرحمة والصلة، فإذا غلب على الإنسان جانب الحيوانية كان كالسبع، وإذا غلب على الإنسان جانب العاطفة كان أقرب إلى عالم آخر هو عالم الملائكة، والذي يتحكم في ذلك هو العقل، كما قال عنه صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة -أي الذي يصرع الناس- ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ، ولذا قال ابن المبارك: القوي الناجح التقي -فعلاً- من يملك نفسه عند أربع: الرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب، أعتقد أنه لا يقوى على هذا إلا الأبطال، فالرغبة: حينما ترى موضع الطمع؛ تجلد، اصبر، لا تندفع، يقول الشاعر: إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل والرسول صلى الله عليه وسلم مدح الأنصار بصفة كاملة، فقال: (إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع) ، قياس عجيب، ومقابلة بديعة، عند الطمع حينما تستشرف النفوس، وعند العطاء، وعند وجود الخير، حينما يتطلع كل إنسان ليحصل على أكثر ما يكون؛ يقلون، ولا ظهور لهم، تعففاً واستغناءً، وعند الفزع والنجدة يكثرون، الواحد منهم كعشرة من غيرهم، والله امتدحهم في قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} يوقى هذه الغريزة وهي شح النفس {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] . وامتلاك النفس عند الشهوة، كحديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وجاءت الصخرة وسدت عليهم فم الغار، فما أنجاهم الله إلا بعد التوسل بخالص أعمالهم، لا بزيد ولا بعمرو، فلم يكن يعلم بمكانهم أحد، ولا يقوى مخلوق على إسعافهم، فقاموا وبينوا لنا الطريق السليم في التوسل إلى الله، وهو التوسل بالعمل الصالح، فيتوسل أحدهم بإيتاء الأجير حقه، ويتوسل الآخر ببر والديه وتقديمهما على أولاده، ويتوسل الآخر بهذا الموقف الخطير حيث قال: إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها أشد ما يحب الرجل المرأة، فراودتها عن نفسها فامتنعت، فأخذتها سنة من السنين المجدبة، فجاءت تطلب عشرين ديناراً، فقلت لها: أعطيك على أن تخلي بين وبين نفسك!! ثم دفعتها الحاجة، قال: فلما أجابت وجلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها حياءً وقالت: يا هذا! اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت لها الدنانير، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فتدحرجت الصخرة، وخرجوا يمشون في الفضاء، موقف عجيب! لو جيء (بونش) ليقيم الإنسان وهو تحت تأثير رغبته وشهوته ما استطاع أن يرفعه إلا وهي معه، ولكن مخافة الله أيقظت فيه الضمير عندما قالت له: (اتق الله) ، وتقوى الله هي كل شيء. فليملك الإنسان نفسه عند الشهوة، وعند الغضب كذلك، ففي هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب) ، وفي بعض الروايات: (لا تغضب فإن كثرة من في القبور من الغضب) نعم، فتشوا، وشكلوا لجاناً، وكل منكم يسأل: هل طلق زوج زوجته إلا بغضب؟! وهل قتل القاتل إلا بغضب؟! وهل اغتصب غاصب مغصوباً إلا بغضب؟! وهل اعتدى إنسان على إنسان إلا بغضب؟!

أنواع الغضب

أنواع الغضب الغضب هو الدافع لكل شر، والعبد إذا غضب خرج عن طوره، ولم يعد يعقل. أذكر قبل حوالي عشرين سنة أني كنت قرأت مقالاً لبعض الأطباء، يقول: الغضب ثلاثة أقسام: غضب أخضر، وأسود، وأحمر. الغضب الأخضر: وهو ممدوح ومطلوب، وذلك إذا كان لحرمات الله، ويكون في محله، ويكون لمصلحته، فالرسول صلى الله عليه وسلم (كان إذا رأى حرمات الله تنتهك يغضب لله) فلما جاء أسامة -حب رسول الله وابن حبه- يشفع في المخزومية التي سرقت، غضب وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟ والله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!) فكان يغضب ولا يقول إلا حقاً، كما قالوا لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: إنك تكتب كل أحاديث رسول الله وهو بشر يغضب ويرضى، فذهب إلى رسول الله فقال: يا رسول الله! يقولون: كذا، وكذا، قال: (اكتب كل ما سمعت، والله! إني لا أقول إلا حقاً في غضب أو رضا) . والغضب الأحمر هو: الغضب على الأشياء التوافه الذي يثير الإنسان لكنه في حدود التمكن. والغضب الأسود هو: الذي يعمي البصيرة ويطمس البصر، ويذهب عن الإنسان إدراكه، ولا يدري ماذا يفعل؟ فيضر نفسه، وهذا القسم من الغضب قد يرجع على صاحبه بالأذى، فقد يصاب بنزلة معوية، فتتضرر أعصاب المعدة فيمرض، وقد يثور عليه ضرس، وقد تثور عليه عينه، وأقل آثاره أن يصاب بصداع شديد، وقد يحصل عليه شلل في المخ.

ضرر الغضب على البدن

ضرر الغضب على البدن وحدثنا بعض مشايخنا قصة حدثت قبل حوالي ثلاثين أو خمس وعشرين سنة، قال: كان فلان يمشي معي، وفي ميدان كذا من مدينة كذا، وسماهما، وكنا نتحدث في قضية كذا، وذكرها، وكان منفعلاً للغاية، وأنا أقول له: لا تعجل، الزمن كفيل بكذا إن شاء الله الصبر جميل، وهو منفعل إلى أقصى حد، وجئنا لنعبر الطريق، والميدان دائرة كبيرة، ونريد أن نعبر من الرصيف الأيمن إلى الرصيف الأيسر، وفي منتصف الطريق وفي زحمة السيارات توقف وقال: خذ بيدي! فانتهرته وقلت: ليس هذا وقت المزح! ابتعد عن السيارات، فقال: لم أعد أبصر! فنظرت إلى عينيه، وهما قائمتان، فنهرته وسحبته، فقال: أقسم بالله! إني لا أراك! وبكى، فذهبنا مسرعين إلى طبيب مختص، ودفعنا أجرة كشفيته مضاعفة -والمستعجل يدفع مالاً مضاعفاً- وحالاً بعد الكشف المستعجل على العينين أمر الطبيب بتهيئة غرفة العمليات حالاً وقال: قبل ساعتين يجب أن تنتهي، قال صاحبه: أخبرني أيها الطبيب! ما الذي حدث؟ قال: انعزلت الشبكة القرنية عن محلها، أي: التوصيلة التي بين العين والدماغ انفصلت، مثل التيار الكهربائي عندما ينقطع يتوقف الجهاز حالاً، قال: ما السبب يا دكتور؟ قال: أخبرني أنت، ما الذي كان يفعل صاحبك قبل أن تأتي به؟ لو تأخرت ساعة لجف العرق وذهبت العين، فما الذي كان يفعل؟ قال: لا شيء، غير أنا كنا نمشي ونتحدث، وفجأة أوقفني، قال: فيم كنتما تتحدثان؟ قال: كنا نتحدث في كذا وكذا وكذا، قال: أكان منفعلاً للغاية؟ قال: نعم، في أشد الغضب، قال: هذا الانفعال هو سبب فصل الشبكة القرنية!! إذاً: عليك ألا تغضب لتسلم من الأمراض، فبالغضب قد تنفجر الطبلة في الأذن، وقد تتخلخل الأسنان، وقد ينشل المخ لسرعة التفكير وقوته، وقد يتعطل مركز من مراكز المخ فينشل عضو من أعضاء الجسم، فلا تغضب، فإن كثرة من في القبور من الغضب. إذا كان الغضب غريزة وهذه أخطاره، فهل نتخلص من غرائزنا؟ لا، ليس المراد بقوله: (لا تغضب) أن تنتزع هذه الغريزة من نفسك، وأن تتجرد من إحساسك، لا، فإن الغضب من شيمة الرجال، والشخص الميت لا يغضب بالكلية، فالغضب دليل الإحساس، لكن إذا أحسست بدوافع الغضب، فلا تسترسل معه، ولا تستجب لدعائه، فإذا غضبت من إنسان فالنفس تدعوك إلى البطش وإلى الانتقام، فلا تنفذ ما يدعوك إليه الغضب، إذاً: ليس المراد بقوله: (لا تغضب) أن تكون ميتاً، فالحيوان لو اعتدي عليه فإنه يغضب لنفسه، وليس معنى ذلك أن تسلب نفسك الإحساس بالغضب، ولكن معناه: أنك لا تمكنه من نفسك، معناه: أنك لا تستجيب لنزعات الغضب. فكيف نعالج الغضب؟ ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في مجلسه، وقام رجلان يستبان، كل واحد منهما يسب الثاني، وأقول: سامحهما الله! يستبان أمام رسول الله! فغضب أحدهما جداً حتى انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه. وهذا هو أثر الانفعال، فإذا انتفخت الأوداج فمعناه: أن الدم يجري بكثرة في العروق، هناك أوردة شعرية دقيقة مثل الشعرة تغذي ما تحت جلدك، فإذا ما غمزت بطرف الدبوس في أي محل في جسدك فإنك تحس به؛ لأن خلية الإحساس موجودة، والخلية يغذيها الدم، والشعرة يغذيها عرق مثل الشعرة تحتها. إذاً: هناك أوردة شعرية في الجسم، وأكثر ما تكون وأدق ما تكون تحت حاجب العين، وفي الدماغ، فإذا زادت كمية الدم في العروق، وزاد القلب في ضرباته ودفعاته، فتلك العروق الدقيقة لا تحتمل الضغط العالي فتنفجر، فيتعطل المخ، فالرجل المذكور انتفخت أوداجه واحمرت عيناه؛ لأن العين -كما يقول أطباء العيون- فيها ما يقرب من مليون خلية تنقل الألوان إلى المخ، فالعين أسرع ما تكون تأثراً عند الغضب، فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى حال الرجل: (إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ، فسمعها رجل فذهب وهمس بها في أذن ذاك الرجل، فقال: أمجنون أنا؟! ما قبلها وهو غضبان، ولو كان مالكاً لنفسه لسمع وعمل بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

علاج الغضب

علاج الغضب ومن الوسائل التي يتم بها علاج الغضب وإسكات ثورته بالتدرج: أولاً: ذكر الله، وخاصة هذا الذكر الوارد. ثانياً: جاء في الحديث: (الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، فأطفئوه بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) ، والحكمة أنه إذا توضأ حبس الغضب في أطرافه، فلم يجد له منفذاً فيهدأ، فإن لم يذهب فليغتسل. ثالثاً: إذا كان قائماً فليجلس، وإذا كان جالساً فليضطجع، ومما أثبته علم التشريح أن الإنسان إذا كان قائماً فالقلب يعمل أكثر، فإذا جلس قلت المسافة التي بين القلب وبين الأعضاء، فإذا وقفت وكان طولك مترين، فالقلب يوزع الدم على منطقة طولها متران، لكن إذا جلست صرت متراً واحداً، وبسبب تقارب الأعضاء يكون الضخ أقل، فإذا استلقيت فلا يوجد مجهود كبير، لأن الجسم يكون على مستوى واحد، وأظن هذا معروفاً، ولهذا عندما تذهب المريض إلى الطبيب من أجل ضغط الدم -الله يعافينا وإياكم جميعاً- فالطبيب يقيس الضغط للمريض وهو جالس؛ لأن الضغط يكون أعلى في حال الوقوف، وإذا كان المريض تعبان من الطريق فإنه يتحدث معه قليلاً قبل قياس ضغطه، وإذا كان منفعلاً يهدئ باله، حتى يكون في الوضع الطبيعي ثم يقيس له الضغط. وأثر الغضب كبير، فالشخص الغاضب إذا كان قائماً وبجانبه عصا، والذي أغضبه أمامه فإنه تلقائياً سيأخذ العصا ويضربه، ولو كان قائماً ولا يوجد عصا أمامه، فإنه سيبحث عن شيء يمكن أن يضربه به، فإذا كانت أسباب الانتقام موجودة، فتكون الاستجابة للغضب أسرع، فإذا كان قائماً فهذا أمكن لتنفيذ دعوة الغضب، وإذا كان جالساً وأراد أن يضرب فإنه يحتاج إلى أن يقوم، ويحتاج إلى أن يأخذ ما يضرب به، فتكون الفرصة في حال الجلوس أضيق، وإذا اضطجع كانت الفرصة أضيق وأضيق. فمن علاج حالة الغضب حتى لا يتحكم بالإنسان، أن يذكر الله، وأن يبادر إما بالوضوء أو الغسل، وأن يغير هيئته التي هو عليها، فإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع.

أثر الغضب في سريان الأحكام الشرعية

أثر الغضب في سريان الأحكام الشرعية الناحية الفقهية التي تترتب على آثار الغضب، لو أن إنساناً في حالة غضبه تصرف تصرفاً في غير محله، فبعض الناس يقول: اتركه يكسر، ويهدم، وينفس عن نفسه، لكن هذا أقوى علامات الضعف، فلا نقول: الغضبان إذا مزق شيئاً أو كسر شيئاً أو عمل شيئاً أو سب إنساناً فإنه بذلك ينفس عن نفسه ويرتاح؛ لأنه بذلك يتعدى على الناس، لكن المؤمن يضبط نفسه عن هذه الأشياء. فإذا فعل الغضبان شيئاً ماذا يكون الحكم؟ يتفق العلماء على أن الغضبان إذا أتلف شيئاً لغيره في حالة غضبه، فهو ضامن لما أتلف، ولا يقول: إني غضبان وما كنت في وعيي، فالعوض المالي ثابت بخطاب الوضع لا بخطاب التكليف، فخطاب الوضع يقول: من أتلف شيئاً لغيره فهو ضامن، هذا ما حصل لأم المؤمنين عائشة مع صفية رضي الله تعالى عنهما، فقد كانت صفية تجيد صنع الطعام، وكانت بنت ملك، فأرسلت يوماً بقصعة فيها طعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نوبة عائشة، فغارت عائشة رضي الله تعالى عنها فضربت القصعة وهي في يد الخادم، فسقطت فانكسرت وانتثر الطعام، فأمسك صلى الله عليه وسلم قصعة صفية عند عائشة، وأخذ قصعة عائشة وأرسلها إلى صفية عوضاً عن قصعتها، وما الذي حمل عائشة على هذا؟ الغيرة، والغيرة غضب، والغيرة قد تقتل لأنها من أثر الغضب! وإذا تصرف الغضبان تصرفاً معنوياً فهل يلزمه نتائجه أو لا يلزمه؟ إذا أعتق عبداً أو إذا طلق زوجه، ونحو هذه الأمور المعنوية، فهل يقع طلاقه ويسري عتقه أم لا؟ يتكلم الفقهاء في هذه المسألة كثيراً، وليس هذا محل تحقيقها، ولكن خلاصة ذلك ما جاء عن الإمام ابن تيمية رحمه الله: إذا تملك الغضب على الإنسان بحيث أصبح لا يعرف الذي أمامه ولا يعرف هل هو ولده أو أبوه؟ ولا يميز بين ابنته وزوجته، وهذا كما يقول المالكية فيما يتعلق بالسكران الذي لا يعرف نعله في قدمه من نعل غيره، ولا يعرف رداءه من رداء غيره، فهذا لا يقع طلاقه ولا عتقه، والشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان يقول: المولى سبحانه قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فإن كان يحسن قراءة الفاتحة فهو صاح، وإن كان لا يحسنها فهو سكران، ويقول الإمام ابن تيمية في هذا: من استحكم فيه الغضب حتى أصبح لا يميز ولا يدرك فإنه يؤاخذ بتصرفاته التي عليه، ولا يؤاخذ بتصرفاته التي له، فالبيع والشراء عليه هو، ولكن الطلاق والعتق له هو، فيقول: لا يقع طلاقه ولا يقع عتقه، أما ما كان عليه من ضمان الأموال والاعتداء على الدماء ونحو ذلك فإنه ملزم به. فالغضب إذا وصل بإنسان إلى هذا الحد، فصار لا يميز بين ولده وأبيه، وبين زوجته وابنته،يقول: فهو في حالة يكون فيها مسلوب العقل والاختيار كالحيوان، فيضمن ما أتلف، ولا يؤاخذ بالعقود المعنوية كالطلاق والعتاق. فهذا الحديث الذي فيه مجيء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبه منه الوصية الموجزة، فجمع له الخير كله، ودفع عنه الشر كله، بكلمة واحدة: (لا تغضب) . وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الحديث السابع عشر

شرح الأربعين النووية - الحديث السابع عشر

شرح حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء.

شرح حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء ... )

الإحسان من الكمالات التي دعا إليها الإسلام

الإحسان من الكمالات التي دعا إليها الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم. إن هذا الحديث لهو القمة في التوجيه النبوي الكريم، وفي بيان حكم ومحاسن الإسلام في كل شيء، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) . والمتأمل في كتاب الله يجد الثناء العاطر على أهل الإحسان، وحديث جبريل عليه السلام حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة، وجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل جلسة، وسأله عن الإسلام، والإيمان، وعن اليوم الآخر، ومما سأله عن الإحسان، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم أجابة شاملة فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) بأي شيء؟ بكل العبادات، على أية حالة؟ فالإحسان هو: مراقبة الله في كل حال. وإذا جئنا إلى منطوق الحديث النبوي الكريم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، فيقول العلماء: هل هذا من قبيل الإنشاء أم من قبيل الإخبار؟ أي: هل هذه الجملة إنشائية أم خبرية؟ ومعنى خبرية أو إنشائية أي: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله أنه فعلاً كتب الإحسان على كل شيء وأوقع الإحسان في كل شيء؟ كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] . فالله خلق كل شيء على أحسن ما يكون، وعلينا أن نحسن أعمالنا، وانظر في قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] أحسن كل شيء خلْقه أو خلَقه، بالمصدر أو بالفعل الماضي. ولذا قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:2-3] . وقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:1-4] . فإن كان الحديث يراد به الإخبار فإن الله قد أحسن كل شيء، ولا شك في ذلك، فهاهو العالم علويه وسفليه يسير في نظام دقيق من أبدع ما يكون كما نحس ونشاهد: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] . يقول علماء الفلك: لو أن الشمس اختل ميزانها ودنت من الأرض دقيقة ضوئية لأحرقت العالم، ولو ارتفعت عن الأرض دقيقة ضوئية لتجمد العالم من الثلج. إذاً: قوله: (إن الله كتب الإحسان ... ) يمكن أن يكون على سبيل الإخبار. وإن كان على سبيل الإنشاء: أي: يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن ننفذ ما كتب الله، (وكتب) بمعنى: حكم وقضى وأمر: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاص} [البقرة:178] {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] ، و (كتب) بمعنى فرض وأوجب، والذي يليق بالمسلم أن يكون كل ما يصدر عنه حسناً، سواء في صناعة أو في تجارة، أو في أي معاملة كانت، بل ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يحفرون قبراً، فنظر إليه فرأى فيه اعوجاجاً، فأوصى بتسوية القبر، فقالوا: إنه ليهودي. قال: ألستم مسلمين؟!) أي: عليكم أنتم أن تحسنوا العمل؛ لأن العمل ينظر فيه إلى من صدر عنه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) ؛ لأنك إذا خنت من خانك صرت أنت وهو في الخيانة سواء، ولذا قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] ؛ لأنك إن قابلت السيئة بسيئة مثلها كنت معه في الإساءة سواء. ولذا يأتي الإسلام بالتسامي في مكارم الأخلاق، فيقول الله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] ، ويقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126] ؟ يربطه بالسبب، ويقول: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] النتيجة معية الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] . إذاً: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، ولو أن الناس طبقوا هذا الحديث بالعموم والشمول المطلوب لاستغنينا عن القضاء والشرطة، وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أعطاها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، مثل حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) لو طبق هذا الحديث عملياً لأقفلت المحاكم، وسرح الشرط، وهدمت السجون؛ لأن كل إنسان سيعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، ووجدنا تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المبدأ مع الشاب الذي جاء وأسلم، واستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا، فلما سمع هذا الصحابة هموا به، فقال عليه الصلاة والسلام: اتركوه، وقال له: ادن، فلما دنا، قال له: (أترضى ذلك لأختك؟ قال: لا، قال: فكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم، أترضاه لبنتك؟ قال: لا. قال: فكذلك الناس لا يرضونه لبناتهم، أترضاه لأمك؟ قال: لا، قال: كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم) فخرج وما على وجه الأرض أكره إليه من الزنا. وهنا لو أن المسلمين طبقوا حديث الإحسان في كل شيء لاستغنينا عن القضاء، والشرطة، والمفتشين، والمراقبين، وكان كل إنسان على جادة الإحسان، إن كان صانعاً وأراد أن يغش تذكر هذا الحديث: (إن الله كتب الإحسان) ؟ أو كان عاملاً في أي مهنة وأراد أن يغش تذكر هذا الحديث، وإذا تذكر أيضاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، وعمل بالحديثين معاً سيحب لعملائه ما يحبه لنفسه وسيحسن عمله، وهكذا إذا جئنا للمزارع في زراعته، وللمهندس في ورشته، وكل ما فيه تخطيط وتنسيق داخل تحت هذا الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، تأتي بالعامل وتتركه يعمل لوحده بدون مراقبة؛ لأنه يعلم أن الله كتب الإحسان على كل شيء، ويعلم أنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وبذلك يستيقظ الضمير في نفوس البشر فلا تجد حقداً ولا حسداً، ولا غشاً، ولا سرقة، ولا تدليساً، ولا شيئاً مما تحاربه الحكومات بمبادئ الإسلام، واعتقد أن هذا الحديث يخاطب طلبة العلم في دراساتهم، وفي تنظيم أوقاتهم وكتبهم، وربما تدخل بيت الإنسان فتجد الكتب مبعثرة فينبغي أن يرتبها، وينسقها، كما جاء عن زيد بن ثابت، الصحابي الجليل الذي جمع القرآن، قالوا: كان في بيته مع أهله كالطفل، ومع الناس في مقابلتهم ومعاملتهم أدق ما يكون وأظرف ما يكون وأجمل ما يكون، ومصعب بن عمير كان فتى مكة في شبابه وجماله، وكان أعطر أهل مكة. إذاً: طالب العلم يكون عليه الإحسان في ذاته ويكون بقدر استطاعته أنموذجاً، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، ويقال: إن مالكاً رحمه الله كان يبيع خشب البيت في ثيابه وأكل اللحم، ولما جاء إليه هارون الرشيد ليسمع الموطأ نزل في بيت الإمارة، وأرسل إليه: هلم بكتابك لتقرأه علينا. فرد عليه مالك رحمه الله وقال: العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فجاء هارون إلى بيته فتأخر عليه، فلما أذن له بالدخول قال: ما هذا يا مالك! طلبناك إلينا فامتنعت علينا، وجئنا إلى بيتك فحبستنا على بابك؟ قال: يا أمير المؤمنين! إن مجيء الملوك إلى العلماء يعلي قدرهم، ومجيء العلماء إلى الملوك يزري بقدرهم، فعلمت أنك لم تأت لمال ولا لدنيا، إنما جئت لتسمع حديث رسول الله، فتهيأت لحديث رسول الله، واغتسلت وتطيبت ولبست أحسن ما عندي. فعمله هذا كان من قبيل التكريم للحديث، وكان رحمه الله يكره أن يسأل في الشارع، ويقول: هذه إهانة لحديث رسول الله!. فعلى طالب العلم أن يكون محسناً في ذاته ودراسته، فيرتب أوقاته مع دروسه، فإن كانت دروساً نظامية فعلى الجدول، وإن كانت غير نظامية فحسب الأولوية، وهكذا العامل في عمله يرتب أدواته، وكل ما يترتب عليه حياة الإنسان يدخل تحت الإحسان. فصاحب الحديقة والبستان إذا أراد أن ينشئ حديقة جديدة، فينبغي أن يرتبها بأبعاد متساوية وبقدر ما تسع من الشجر، ويحسن في كل شيء: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) . ثم يأتي الحديث في تتمته على سبيل المثال، ويأتي إلى القمة التي لا يتصور إنسان أنها محل إحسان، فإذا تفريع جزئيات: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، ومن كل شيء تلك الجزئية: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ، ثم بين بم تكون الذبحة حسنة؟.

الإحسان في القتل

الإحسان في القتل فقوله: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) تحتها مباحث اجتماعية وفقهية. والقتل يكون بأحد هذه الأمور: إما جهاد في سبيل الله، وإما قصاص، وإما حد كما تقدم في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، فإذا ارتكب المسلم ما يوجب قتله سواء كان نفساً بنفس، أو ارتد عن دينه، أو كان ثيباً وزنى، أو قتل يقتل، وقد يقتل في ميدان الجهاد عند مجاهدة العدو الكافر المشرك بالله، وفي هذه يتجلى أدب الإسلام حتى مع الكافر المشرك والمحارب، فلو قتل في المعركة فلا ينبغي أن يمثل به، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (قاتلوا على بركة الله باسم الله، لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا تمثلوا) ، فإذا كان هذا في حق المشرك بالله المحارب للمسلمين، فكيف بغيره؟! فإذا كان القتل في الإسلام، وكان القتل لحد من حدود الله فقد بين صلى الله عليه وسلم أن إقامة الحد إن كان موجباً للقتل فيجب أن تكون القتلة حسنة، ولا تكون على سبيل التعذيب، واتفقوا بأن الحدود ضربة بالسيف من خلف العنق؛ لأنها أقرب للنخاع الشوكي، وإذا قطع النخاع مات الإنسان، وكان الناس يستعملون المشنقة والخنق أو غير ذلك، لكن السيف أسرع ما يكون. ويقال: القصاص مأخوذ من المقص، وإذا قصصت الثوب بالمقص تساوى طرفا القماش المقصوص، فإن كان في المقص اصطلامات وانحناءات فستظهر تلك الانحناءات في طرفي القماش. أي: يجب أن يكون القصاص مماثلاً، بمعنى: لو أن إنساناً قتل إنساناً بحجر في رأسه فيقتل بحجر في رأسه، ولو أن إنساناً خنق إنساناً وكتم نفسه، فيقتص منه بالخنق وكتم النفس وهكذا عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، إلا إذا كان قتله بمحرم فلا ينبغي أن ينفذ حكم الله بمحرم، كأن يكون سقاه خمراً مسكراً، أو سقاه شيئاً مما هو محرم حتى قتله، ومعلوم عند الأطباء أن من شرب الخمر وزادت نسبة الكحول في دمه إلى ستة في المائة فإنه يموت في الحال، وعلى هذا قالوا: فلا يقتل بخمر؛ لأن الخمر حرام، ولكن يمنع عنه كل الطعام ويسقى بخل حتى يحترق الكبد ويموت؛ لأن الخل حلال ويأتي بالنتيجة. لكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: كل قصاص ضربة بالسيف، والذي ضرب أو خنق أو رض آثم وخطؤه على نفسه ونحن لا نخطئ مثله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ، وقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا حكم عام في كل قتل ولو كان قصاصاً. والجمهور يستدلون بقضية اليهودي الذي وجد جارية وعلى رأسها أوضاح، -يعني: شيء من الحلي- وفي بعض الروايات: (بأطراف المدينة) وفي بعضها: (بخربة من خربات المدينة) فرض رأسها بين حجرين وأخذ الأوضاح، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يسألونها: فلان فعل بك هذا؟ فترفع رأسها كأنها تقول: لا، فيسألونها: فلان؟ فترفع رأسها، حتى ذكر ذاك اليهودي فخفضت رأسها، فجيء به فاعترف فرض رأسه بين حجرين، فقال الجمهور: فهذا قتل بما قتل به فقد رض رأس الجارية بين حجرين، -بمعنى: أضجعها وجعل تحت رأسها حجراً، وجاء بحجر آخر ورض رأسها فماتت- ففعل به مثلما فعل. وهنا نقف مع قضية هذه الفتاة، ونخاطب بها الشرطة، والمجتمع، والأبوين. فاليهودي وجد الجارية في أطراف المدينة في خربة، وقتلها لأن عليها أوضاحاً، أي: قطع من الذهب والفضة، فنقول للشرطة وعمد الحارات: لا تتركوا الخربات في أطراف المدينة فتكون مأوى للمجرمين، بل عمروها، أو اهدموها؛ لأن تلك الخربات يأوي إليها أصحاب الجرائم. ونقول للأبوين: تبذلوا المال للأطفال، فهذه فتاة صغيرة سبب قتلها حليها، فما حاجة الفتاة الصغيرة للأوضاح؟ فلا تلبسوها الذهب والفضة وتسرحوها في الشارع، وإلا فأنتم تشاركون في قتلها. إذاً: على الأبوين أن يصونوا أولادهم، وألا يكونوا سبباً في إلحاق الضرر بهم في زيادة التنعيم. نرجع إلى القضية نص الحديث حيث يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) هل القتل ضربة بالسيف في جميع الحالات، أم أن الإحسان في القتل أن يكون بالمماثلة؟ فحينما يرى أهل الجارية جاريتهم مقتولة بهذه الصورة البشعة يتألمون، وحينما يتذكرون أن رأس قاتلها رض بين حجرين كما فُعل بها فإن ذلك يخفف عليهم من المأساة، لكن بخلاف ما لو ضرب عنقه بالسيف فهذا لا يساوي عندهم قتل جاريتهم، فالجمهور رحمهم الله والأئمة الثلاثة قالوا: (كتب الإحسان) صحيح، وإحسان القتلة صحيح، والقتلة: بمعنى فِعلَة، أي: هيئة القتل، ومن الإحسان فيها: أن نشفي صدور أولياء الدم، وأن يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه. ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) فلا يكون القتل إلا ضربة بالسيف.

الإحسان في الذبح

الإحسان في الذبح قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ، الذبح يكون للشياه وللدجاج مأكول اللحم، وروي عن علي، أو عمر: أنه رأى جزاراً يسحب الشاة من أذنها ليذبحها، فقال له: اسحبها إلى الموت برفق، فقال: أرفق بها وأنا أريد ذبحها؟ واستل الشفرة. فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ، يعني: أن الذبح فوق كل شفقة، ومع ذلك فأحسن الذبحة، فهذا الرجل لما قيل له: اسحبها إلى الموت برفق، قال: كيف أرفق بها؟ فمهما فعلت بها قبل الذبح فهو بسيط، -هذا في تصوره- ولكن جاء في الأثر: (بأن الشاة تعرف الموت ولكنها تؤمن بالله وتصبر) . ويذكر ابن رجب: (أن جزاراً فتح باباً على شاة فهربت، فجرت حتى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ برجلها، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقال: أحسن في ذبحها، ثم نظر إليها وقال: اصبري لقضاء الله) . ومن إحسان الذبحة: (فليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) يحد الشفرة -السكين- ولكن لا يحدها أمام الذبيحة، ولا يسمعها صوت الشفرة (وقد مر صلى الله عليه وسلم برجل يحد الشفرة أمام الشاة وهي تنظره بعينيها، فقال: هلا كان قبل ذلك) أي: هلا حددت الشفرة قبل أن تضجعها وهي تنظر إليك. ومن إحسان الذبحة: ألا يذبحها أمام أمها أو أمام أولادها، ويذكر أيضاً أن رجلاً ذبح عجلاً أمام أمه وهي تنظر إليه فخبل في عقله. فمشى يوماً في طريق فنام تحت شجرة، فإذا بعش طائر سقط منه فرخ على الأرض، فأشفق عليه ورده إلى عشه، فرد الله عليه عقله، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر ببيت للنمل محترق فنهى صلى الله عليه وسلم أن يعذب بالنار وقال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) ، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يعذب أحد بالنار، وتروى روايات عن بعض السلف أنهم حرقوا بعض الأشخاص في الردة أو في فعل كذا أو كذا، وجاء النهي صريحاً: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) . ومن إراحة الشاة الذبيحة: حد الشفرة بعيداً عن الشاة، وعرض الماء عليها قبل أن يذبحها، ولا يذبحها أمام حيوان آخر ينظر إليه، والحديث المتقدم: (هلا كان قبل ذلك؟ أتريد أن تميتها موتات عديدة) ، فهي كلما رأت الشفرة تحد كأنها ماتت موتة، لكن إذا أخذها بغتة وفاجأها بالذبح انتهى الأمر. قوله: (وليرح) يتفق العلماء أنه يرفق بها حينما يضجعها، وإن كان تحتها من الأحجار أو من النواتئ أو من الأشواك فيجب أن يزيلها ويضجعها مستريحة: (ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً واضعاً رجله على صفحة الشاة متكئاً عليها ليذبحها، فقال: أتميتها موتتان أو عدة موتات) . إذاً: في هذا الحديث يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم الأمة في أن تحسن في كل شيء حتى القتلة والذبحة.

الإحسان في كل شيء بحسبه وجوبا وندبا

الإحسان في كل شيء بحسبه وجوباً وندباً يقول العلماء بعد هذا: على المسلم أن يحسن في كل شيء، وأول إحسان يتوجب عليه: أن يحسن على نفسه بترك المعاصي، قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] ، وأول إحسان هو أن تبعد نفسك عن النار، وكما يقولون: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، يلي ذلك الإحسان في طاعة الله؛ وأعلى درجات الإحسان في طاعة الله، أداء الواجبات، فمن ترك واجباً عليه لم يحسن إلى نفسه، فإذا أدى الواجبات فيؤديها على أحسن وجه، ويلي ذلك النوافل، فيحسن إلى نفسه في عبادة ربه في نوافل العبادات، وكلنا يعلم أن لكل فريضة من فرائض الإسلام نافلة، فالصلاة لها نوافل سواء كانت الراتبة أو غير الراتبة، والصيام له نوافله، وهكذا الزكاة منها ما هو نافلة؛ كالصدقة، والمرء في ظل صدقته، وكذلك الحج والعمرة، وكذلك ذكر الله، وكل ما هو عبادة لوجه الله تعالى، فإحسان العبد في ذاته أول ما يكون بتجنب المعاصي، ثم بعد ذلك في فعل الطاعات. وقوله: (كتب الإحسان) هل الكتابة للفرض أم للندب والتوجيه؟ يقولون: كلا الأمرين، فالإحسان واجب فيما لا يتم الواجب إلا به، وتعلمون قصة المسيء صلاته -والإساءة ضد الإحسان- الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء يسلم على رسول الله فقال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، يعني: عدم الإحسان ألغى العمل، ورده صلى الله عليه وسلم مراراً حتى جاء وقال: (علمني يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أحسن إلا هذا، فعلمه: وقال: إذا توضأت فأسبغت وضوءك، وجئت واستقبلت القبلة فكبر، ثم اقرأ ما معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع من الركوع حتى تطمئن رافعاً ... ) ، وهنا نخاطب بعض الناس الذين تراهم يركعون ولا يطمئنون في ركوعهم، فترى الواحد منهم كأنه ينفض شيئاً عن ظهره، وكذلك الجلسة بين السجدتين، ويقولون: مذهبنا أنه ركن خفيف، فنقول: ليس في الأركان خفيف وثقيل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يركع حتى يطمئن راكعاً، ويرفع حتى يستقر ويعود كل فقار في مقره، ويعود كل عظم في مكانه، والحركة الخفيفة ليست استقراراً. فالإحسان هنا واجب؛ لأنه إذا تغيب الإحسان بطلت العبادة، فقد رده صلى الله عليه وسلم مراراً ليحسن صلاته، إذاً: الإحسان في الواجبات من حيث إتمامها وكمالها واجب، وإن كان الأصوليون يناقشون مداعبة للطلاب: القدر الذي به يتم الواجب من الطمأنينة، وما زاد عنها، وهل الزيادة واجبة أم القدر الذي تصح به الفريضة هو الواجب والباقي مندوب؟ فيقولون: أقل شيء فيه الطمأنينة في الركوع سبحان الله ثلاث مرات وهي الفريضة، وإذا سبح عشر مرات فهي إحسان، وزيادة في الإحسان. إذاً: الإحسان قد يدخل الفريضة وقد يدخل النافلة، وكما يقولون: (الإحسان في كل شيء بحسبه) . وإذا رجعنا إلى تتمة الحديث وأمر الذبح والقتل والإرفاق بالمخلوقين حتى الحيوانات، نجد قوله صلى الله عليه وسلم لما قال في قضية المرأة التي سقت الكلب، والمرأة التي حبست الهرة فقال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، وقال في الحديث الآخر: (إن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها) فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا الحديث بعمومه وشموله لو طبقه الإنسان في فعل الواجبات وترك المحرمات، وفي كل ما طلب منه لكانت الحياة كلها على أحسن ما تكون. إذاً: على كل إنسان أن ينظر في منهج حياته، أولاً: في كسبه الذي يقتات به، هل اكتسبته من طريق إحسان أم لا؟ ولينظر في الطريق الذي ينفقه فيه، هل هو طريق إحسان واضح جلي أم فيه ما فيه؟ ونقول لأولئك الذين يبذرون الأموال في المحرمات كالدخان: هل أحسنتم؟ لا. بل أسأتم عدة مرات، أسأتم في ضياع المال، وفي فعل ما حرم الله، وفي إفساد البدن والمجتمع. إذاً: هذا الباب لا يستطيع إنسان أن يوفيه منتهاه، ولكن القواعد العامة فيه: ما ذكر صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، و (كل شيء) لا يخرج منها شيء: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) هذا على سبيل التمثيل في أقسى المواقف في الحياة، ومع ذلك لابد أن يكون مع الإحسان. وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثامن عشر

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر

وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل

وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: [عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح. ] . هذا الحديث الذي يسوقه النووي رحمه الله في هذه المجموعة المباركة عن الصحابيين الجليلين رضي الله تعالى عنهما أبي ذر ومعاذ بن جبل. أما أبو ذر فتقدمت الإشارة إلى ترجمته بإيجاز وذكر قصة إسلامه وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ثم مجيئه إلى المدينة، ثم ما كان من أمره، وسفره إلى الشام، واختلافه مع معاوية رضي الله تعالى عنهما، وإقامته بالمدينة، ثم طلبه من الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه الاعتزال، وذهابه إلى الربذة، وبقي بها إلى أن وافاه أجله رضي الله تعالى عنه، وصدُق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده) . أما معاذ بن جبل فهو الأنصاري الخزرجي البدري، جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (معاذ أمام العلماء يوم القيامة برَتْوَة) أي: يتقدمهم برمية حجر. وقال عنه صلى الله عليه وسلم في مجموعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم مبيناً خصائص بعض أصحابه: (أرحم هذه الأمة بأمتي أبو بكر رضي الله عنه، وأشد هذه الأمة في الله: عمر، وأشد الناس حياءً عثمان، وأعرف الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) وهكذا ذُكر مع هؤلاء الأكارم. كما قال صلى الله عليه وسلم عن زيد بن ثابت: (أفرضكم زيد) . وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي دعا له بقوله: (اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين) . مما يدل لأول وهلة على أن الاختصاص في العلم والتخصص في بعض مواده له أصل، وقد يفيد الأمة أكثر من غيره، وقد كانت نتائج هذا التخصص أو تلك الخصوصيات أنهم رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من تلك العلوم رجعوا لصاحب الاختصاص فيها، فإذا اختلفوا في مسألة فرضية رجعوا إلى رأي زيد، وتقرءون في الرحبية: عن مذهب الإمام زيد الفرضي إذ كان ذاك من أهم الغرض وإن زيداً خُص لا محالة بما حباه صاحب الرسالة من قوله في فضله منبهاً أفرضكم زيد وناهيك بها فاختار صاحب الرحبية مذهب زيد الفرضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفرضكم زيد) . وحينما كان عمر رضي الله تعالى عنه يجمع الشيوخ في مجلسه لمشاورته ومجالسته، كان ابن عباس وهو غلام يدخل معهم فيرى عمر أثر ذلك في وجوههم ولهم غلمان، فأراد أن يبين لهم موجب ذلك، فقال لهم ذات يوم: (ما معنى قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] . قالوا: إنها بشرى من الله لرسوله بالفتح، بشرى للمسلمين بمجيء النصر ودخول الناس في الدين أفواجاً. وابن عباس ساكت. قال: ما تقول يا ابن عباس؟! قال: أقول: إنها نعت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا. قال: وكيف ذلك؟! قال: إن الله أرسل رسوله برسالة وكلفه بمهمة أدائها، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فإذا انتهت المهمة ودخل الناس في دين الله أفواجاً فما عليه إلا أن يتهيأ لملاقاة ربه، ليلقى وافر جزائه. قال: وأنا أرى ذلك) . ومصداق هذا من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن) . وكذلك حينما اختلفوا في ليلة القدر. إلى آخره.

علم معاذ بن جبل رضي الله عنه وفقهه

علم معاذ بن جبل رضي الله عنه وفقهه ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان أعلم الأمة بالحلال والحرام ومن أفقه الصحابة، ورد عنه موقفان يدلان على فقهه وإمامته وألزم ما يكون لطالب العلم معرفتهما: أولاً: ما يذكره ابن كثير في تفسيره، والذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ: كانت الصلاة في أول الأمر إذا أقيمت وجاء مسبوقٌ، لا يدري كم صلوا، يسأل الذي بجانبه: كم صليتم؟ فيشير واحدة أو اثنتين، فيصلي ما فاته بسرعة، ثم يدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا ما سلم رسول الله سلم معهم؛ لأنه أتى بما فاته قبلاً. فجاء معاذ رضي الله تعالى عنه يوماً فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ساجد، فلم ينتظر رفعهم من السجود ويسأل؛ ولكن كبر وسجد، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرف معاذ ما فاته قام وقضى ما فاته وسلم بعد ذلك. فقال له جاره: (لم تعتد بالركعة -يعني: سجدت ولم تأتِ بالركعة كاملة- فقال: ما كنت لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وأحببت أن أكون عليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: ما فعل معاذ - فقال: هي سنة لكم) فصارت السنة إلى الآن أن المسبوق إذا جاء وجب عليه أن يدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها ولا ينتظر، فإن كان قائماً قام معه واستمع أو قرأ، أو راكعاً ركع، أو رافعاً قائماً، أو ساجداً، أو جالساً، أو في التشهد، على الحالة التي يدرك الإمام فيها. الموقف الثاني: حينما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه صلى الله عليه وسلم يوادعه ويوصيه، ثم قال: (يا معاذ! كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات: فبقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب صلى الله عليه وسلم بصدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) . قد نجد بعض الناس يتكلم في سند هذا الحديث، ولكن عامة علماء المسلمين وقضاتهم يعتبرون حديث معاذ هذا الأصل الأصيل في باب القضاء، وعليه فإن أول ما يلزم القاضي أن يطلب الحكم من كتاب الله، وهذا أمر حق، فإن لم يجد في مجمل كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -إما الخاصة في أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما العامة في نصوصه- فإن لم يجد في كتاب أو سنة فهنا يتعين عليه الاجتهاد، ولا يصح له التقليد، بمعنى: ألَّا يحكم حكماً إلا ويعرف دليل هذا الحكم على ما استند. هذا هو معاذ. أما أثره في الإسلام، فإنا نعلم بأن مصعب بن عمير أول من قدم المدينة يعلم أهلها الإسلام ويقرئهم القرآن ويفقههم في الدين. ومعاذ خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح حينما خرج إلى حنين يفقه أهل مكة في الدين. ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بعثه إلى الشام، فـ معاذ علم أهل مكة الإسلام، ومعاذ ذهب إلى اليمن معلماً وقاضياً فيها، ومعاذ بُعث إلى الشام، فلكأن معاذاً كان بعثة علمية متنقلة في العالم الإسلامي. وما يهمنا في هذا كله هو أخذ نبذة عن هذا الصحابي الجليل، كما أنه يروي لنا حديث (اتقِ الله حيثما كنت) قيل: إنه جزء من الوصية التي أوصاه بها صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى اليمن. وفي بعض الروايات قال له صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! لعلك ترجع فلا تلقاني، ولعلك تمر بمسجدي وبقبري. فبكى معاذ رضي الله تعالى عنه خَشَعاً لفراق رسول الله وألَّا يراه) . وقد جاء مثل ذلك عن بعض الصحابة -ولعله عبادة بن الصامت - حينما أراد النبي أن يرسل بعثاً إلى نخلة لاستطلاع أهل مكة، فأعطاه كتاباً مختوماً وقال: (لا تفضن كتابي هذا إلا بعد مسيرة ثلاثة أيام فأخذه ونظر إلى رسول الله وبكى قال: ما يبكيك؟! قال: لفراقك يا رسول الله! فأعفاه وأخذ الكتاب وأعطاه لـ عبد الله بن جحش، ومضى في طريقه وما فض الكتاب إلا بعد ثلاثة أيام) كما يقولون في الوقت الحاضر: تعمية الأخبار، والحرب الخاطفة. فـ معاذ رضي الله تعالى عنه بأي شيء أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي شيء؟ قال له: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) : ثلاث جمل، كل جملة وحدها تستوقف طالب العلم؛ يجمع أطرافها، وينظر كنهها، ويبحث في آثارها على الشخص وعلى المجتمع، ولا أعتقد أن إنساناً يستطيع أن يستوفي الثلاث كلها.

الوصية الأولى: لزوم التقوى

الوصية الأولى: لزوم التقوى إذا نظرنا إلى الفقرة الأولى: (اتقِ الله حيثما كنت) علماء اللغة يقولون: أصل التقوى: الوقاية، اوْتَقَى: افتعل، من اتخذ وقاية، من أي شيء؟ يأخذ حاجزاً ساتراً يقيه مما يخافه، (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ، يعني: اجعل حاجزاً ووقاية بينك وبين النار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] . وقالوا: (اتقِ الله) : إضافة التقوى إلى الله سبحانه وتعالى أي: ما يصيبكم من عذاب الله أو ما يأتيكم من الله بسبب ذنوبكم، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] أي: اتقوا ما يقع من أحداث في ذلك اليوم. إذاً: (اتقِ الله) : اتخذ الوقاية بينك وبين ما يأتيك من الله مما تكره. أربع نقاط يبحثها طالب العلم في مجال تقوى الله: بِمَ يتقي الله؟ وفيمَ يتقي الله؟ ومن هم أتقياء الله؟ ونتائج التقوى! ولا أستطيع أن أقول: إنه يمكن إحصاء ذلك؛ ولكن سنمر بكتاب الله في مواطن أو موطن واحد من المصحف الشريف في سورة الشعراء لنرى ما يتقيه الإنسان، وقبل ذلك: من هم المتقون؟

وصف المتقين وأعمالهم

وصف المتقين وأعمالهم إذا جئنا إلى أول المصحف لتعريف المتقين نجد افتتاحية الكتاب الكريم في أول سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، من هم أولئك المتقون؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:3-4] ، هذه صفة المؤمنين. وإذا جئنا إلى موطن آخر: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] . من هم المتقون؟ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 134-136] . {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] . هؤلاء هم المتقون، وتلك هي صفاتهم. والتقوى في حقيقتها وفي ذاتها وفي عمومها: إن جئنا إلى زاد في الدنيا فالتقوى خير زاد يوصل إلى الآخرة: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] . مفاضلة الخلق وميزان تقويم البشر، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، ولكأن التقوى في كل شيء هي المثل الأعلى وهي الغاية القصوى. بل نجد في بعض الأشياء الأخرى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] . إذا جئنا إلى بعض القربات أو الأعمال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] . سبحان الله! تلك هي التقوى في التعريف المستقيم، والتقوى في معاملة الإنسان وما يرجع إليه من لباس التقوى، ومن زاد التقوى، ومن مقياس ورفعة وعزة التقوى.

التقوى وصية الله للأولين والآخرين

التقوى وصية الله للأولين والآخرين ومن هنا كانت التقوى، وصية الله لجميع الأمم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] . لماذا الحث على التقوى؟ والندب على التقوى؟ كل ذلك لمن؟ (لو أن أولكم وآخركم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) . ولذا تجد قبل {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} [النساء:131] قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء:131] . وبعد {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} [النساء:131] . كأنه يقول: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء:131] ومع هذا {وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ثم يبين: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} أي: بعدم التقوى، فاعلموا بأن {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء:131] ، {وَإِنْ تَكْفُرُوا} بهذه التقوى فإن الله غني حميد، يعني: غني عن تقواكم، فإذا كانت الوصية للأمم قبلنا، ولنا من بعدهم فليس الله بحاجة إلى تقوانا، فهو غني عنا حميد بذاته سبحانه وتعالى. ومن وصيته سبحانه لمن قبلنا وإيانا نجد ابتداءً من نوح عليه السلام في سورة الشعراء. انظر في كتاب الله، بعد عرض قضية قوم نوح معه يأتي إلى قوله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:106-110] : هذا بيان من الله سبحانه وتعالى لموقف نوح عليه السلام مع قومه، ثم بين موقفهم وما هو المطلوب من تقوى الله فيهم. أعتقد أن قضية نوح عليه السلام مع قومه قضية واحدة وهي الشرك؛ لأن نوحاً عليه السلام على ما قص الله سبحانه أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى عبادة الله وحده. وكما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] أي: على التوحيد، فوقع الشرك، أي: فجاء نوح عليه السلام ونهاهم عن هذا الشرك، وذكر الله ما واجهه به قومه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] . فنوح عليه السلام إنما كان يدعو قومه إلى التوحيد، ولهذا ذكر مع قومه أنهم كذبوه، وهذه جريمة قومه. يأتي بعد نوح عليه السلام هود عليه السلام وقومه. {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:123-124] : ما قاله نوح لقومه قاله هود لقومه. أيضاً: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:125-126] كما قال نوح عليه السلام. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء:127] كما قال نوح لقومه، ثم بين حياتهم وقوتهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:128-129] أي: عدم الإيمان بالبعث. كما قال تعالى في آية أخرى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} [الشعراء:149] . وهذه علامة على القوة، {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] : عدم الإيمان بالبعث والإفساد والبطش في الأرض، تلك من جرائمهم. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:131] كما قال نوح أيضاً لقومه. ثم يذكرهم بنعم الله عليهم: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ} [الشعراء:132] : بماذا؟ {بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء:132] بالذي أنتم تعرفونه، {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:132-135] لماذا؟ لأنكم لم تشكروا نعمة الله التي أمدكم بها، ولأنكم تبطشون في الأرض بطش الجبارين. ثم ذكر سبحانه رد قومه عليه وعنادهم واستكبارهم فقال تعالى: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:136-139] . ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:140] ، تتكرر هذه الجملة وهذه الآية في نهاية سرد السورة لقصة كل نبي مع قومه، وسيأتي التعليق عليها إن شاء الله. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] أي: كما كذبت الأمم المتقدمة كذلك {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إذ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:141-142] ثم قال كما قال نوح وكما قال هود عليهما السلام. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:143] . وقال أيضاً {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:144] نفس الأسلوب والمنهج {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] . وأيضاً على أي أساس؟ على أساس {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:145] ، وهذا هو الذي قاله نوح لقومه وقاله هود لقومه أيضاً هنا قاله صالح لثمود. أتظنون أنكم ماذا؟ متروكون هنا وكفى؟! {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} [الشعراء:146] . في هذه النعم {في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:147-148] في هذه الزروع وهذه الثمار والنخيل إلى غيرها؟! {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء:149] . وكذلك تنحتون من الجبال بيوتاً. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:150] عوداً على التقوى بعد هذه النعم التي يذكرهم بها. {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء:151] أول خطيئة لهم: أنهم يطيعون أمر المسرفين، وفعلاً أطاعوا أمر المسرفين المتجاوزين للحد، فعقروا الناقة، وما كان عقرهم للناقة إلا باتباع أمر المسرفين، {هذه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف:73] ، تقترحون على الله أو على نبي الله صالح بأن يخرج الله لكم من هذا الجبل ناقةً عشراء؟ أي تعنت بعد هذا؟ فالله سبحانه وتعالى يحذرهم وينذرهم، فقالوا: لابد من هذه الآية، والله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فإذا بالصخرة أو الجبل يهتز ويتمخض كما تتمخض الأنثى، وإذا بالناقة تخرج من بطن الصخرة. وكانت لهم آية {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] . فماذا كان أمرهم مع الناقة؟ {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف:77] سبحان الله! ثم قالوا لنبيهم متحدين {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:77] وإذا جاءكم به ماذا تفعلون؟ هؤلاء {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:152] ، إذاً: التقوى من الإفساد في الأرض، والتقوى من بطش الجبارين، والتقوى كذلك من كفران النعم، إلى آخر ذلك، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:159] . ثم يأتي ذكر قوم لوط، أيضاً {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:160-161] نفس العبارة التي قالها من سبقه من الأنبياء: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:162-163] بطاعة ما جئتكم به، وأطيعوني فيما أرسلت به إليكم. {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء:164] كل هذه العبارات تتكرر في كل دعوات الرسل. {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] . وهنا يبين فاحشتهم، وماهية خطيئتهم؟ كما قال عن قوم عاد: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] ، وكما قال نبي الله صالح لقومه: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:151-152] وهنا يبين الله تعالى خطيئة ال

حقيقة التقوى

حقيقة التقوى إذاً: حقيقة تقوى الله كما قال الحسن البصري وغيره، أو كما قال عمر بن عبد العزيز: (أن تجتنب ما نهى الله عنه، وتمتثل ما أمر الله به، وما زاد على ذلك من خير فهو خير) . أساس وأصل التقوى المطلوب هو: أن تجتنب المنهيات وتفعل المأمورات، وما جاء بعد تلك الواجبات من امتثال الأوامر واجتناب النواهي فهو زيادة خير. ولكن كما يقول السلف: إن من حقيقة التقوى أن يترك ما لا بأس به مخافةً مما به بأس. وكما يقول الآخرون: إن محاسبة الأتقياء لأنفسهم أشد من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، يحاسب على الصغيرة والكبيرة. ولذا كان الورع وكان الخوف من الله نابعاً عن التقوى. وجاء عن سعيد بن المسيب، حينما جاء إنسان وقال له: كيف التقوى؟ قال: أرأيت لو كنت تمشي في أرض بها شوك ماذا تفعل؟ قال: أنظر وأتجنب الشوك أن أطأ عليه. قال: كذلك التقوى، أن تتجنب المعاصي. فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء الزهاد العلماء الدعاة إلى الله ونَظَمها في هذه الأبيات: خَلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماشٍِ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى يقول الحسن البصري: (التقوى لا تحصل إلا بسبق العلم) ؛ لأنك إذا لم تعلم ما تتقي ارتكبت المعاصي وفرطت في الواجبات، فمثلاً إذا لم تعلم حرمة الزنا ورأيت امرأة فلن تغض بصرك عنها، وإذا لم تعلم أحكام البيع والشراء وقعت في الربا، إلى آخر ما في الإسلام من فقه وحلال وحرام. ولهذا فأساس التقوى العلم والمعرفة ثم العمل، وهي منحة من الله سبحانه وتعالى، كما قال بعض السلف: كثير من يتكلم بالتقوى، وقليل من يعمل بها. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتقين، وأن يرزقنا وإياكم ثمرة هذه التقوى.

ثمار التقوى

ثمار التقوى وقد بين سبحانه أن أعلى منزلة للتقوى معية الله بتأييده ونصرته: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] . {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54] أين؟ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] . {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً} [النبأ:31-36] انظر! (عَطَاءً) ! لا تقل: بتقواي، لا. بل عطاء من الله، (حساباً) بمعنى: كافياً، ليس بمعنى: محاسبةً، أخذاً من قولك حينما يعطيك إنسان: حسبي حسبي، يعني: يكفيني، {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً} [النبأ:36] كافياً وافياً حتى يقول المعطَى: حسبي حسبي. وأظن أن هذا القدر كاف في التنبيه على هذه الجزئية من هذا الحديث وهي الوصية أو الفقرة الأولى: (اتقِ الله) . وبعد ذلك قال: (حيثما كنت) : (حيث) يقولون: إنها للمكان، وتكون للزمان، مثل: اجلس حيث جلس فلان، صلِّ حيث ينتهي بك الصف. كأنه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك لـ معاذ مشعراً إياه وهو خارجٌ من المدينة ذاهباً إلى اليمن؛ أن تقوى الله ليست في المدينة فقط، لنزول الوحي فيها، ولوجود الرسول صلى الله عليه وسلم، وللقرب من المسجد النبوي، لا. بل حيثما كنت، وهذا التعميم من خصائص التشريع في الإسلام، والتعميم هو: العموم والشمول، فإن كنتَ في أقصى العالم، وإذا ذهبتَ إلى القطب المتجمد الشمالي، وإذا طرت في مركبة فضاء، وإذا نزلت في غواصة تحت الماء، وإذا كنت في منجم تحت الأرض، وإذا كنت في أي مكان فاتقِِ الله حيثما كنت، لماذا؟ لأن الله مطلع عليك أينما توجهت، وأنت إنما تتعامل مع الله، ولذا خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمصار ودعَوا إلى الله، ولما كتب بعض السلف إلى إخوانه في الشام: هلم إلى الأرض المقدسة، قال: إن الأرض لا تقدس أهلها؛ ولكن يقدسهم العمل. (اتقِ الله حيثما كنت) : وأيضاً (كيفما كنت) أي: على أية حالة تكون فيها مع الناس يجب أن يكون معيارك تقوى الله. وأعتقد أن المجال هذا واسع جداً، ولا يستطيع إنسان مثلي أن يوفي هذا الموضوع حقه فيما يتعلق بالتقوى؛ في تحصيلها وبيانها وآثارها. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] . {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5] . فجاء قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ) ثلاث مرات في سورة الطلاق وحدها. إذاً: أمر التقوى عظيم.

الوصية الثانية: إتباع السيئات بالحسنات

الوصية الثانية: إتباع السيئات بالحسنات يأتي بعد ذلك القسم الثاني من الحديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) : هو يوصيه بتقوى الله، والتقوى ليس معها سيئة؛ ولكن هل الإنسان معصوم؟! لا. ومع أنك تتقي الله كيفما كنت وحيثما كنت، فإن وقعت منك زلة، أو أسأت إساءة فأتبعها بحسنة، وفي بعض وصايا النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا عصيت ربك في مكان فأطعه فيه) ، أي: المكان الذي عصيت فيه أحدث فيه طاعة؛ لأن المكان سيأتي ويشهد للإنسان أو عليه، فإذا جاء المكان وشهد عليك بمعصية يكون عنده شهادة لك بحسنة، فمن وصاياه صلى الله عليه وسلم: (وإذا عصيت بمكان فأحدث به طاعة) . فقوله: (أتبع السيئة الحسنة) في أي شيء؟ في كل تصرفات الإنسان، أخطأت على شخص وأسأت إليه، تتبع هذا الخطأ والإساءة بإحسان. ما أثر الإحسان مقابل السيئة؟ إن الإحسان يمحو السيئة (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) . وقد ثبت مثل هذا في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما وقع منه وما كان بينه وبين امرأة، حيث جاء في بعض الرويات: (أصاب رجل من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، فقال الرجل: يا رسول الله هذا لي خاصة؟! قال: بل لجميع أمتي) . وهذا من سعة فضل الله على هذه الأمة، ويقول العلماء في موجب ذلك: أن السيئة تكتب واحدة، والحسنة تكتب عشراً، والحسنات تقدر على محو السيئة؛ ولكن -والله- هو فضلٌ من الله أن ضاعف الحسنة، وفضلٌ من الله أن لم يضاعف السيئة، بل في بعض الآثار: أن ملَك الحسنات يبادر بكتابة الحسنة، وملَك السيئة حينما يريد أن يبادر يمنعه الآخر يقول: اصبر! لعله يتوب! لعله يستغفر! لعله. ! فإذا سوَّف وطال الوقت ولم يتب كتبها، فإذا استغفر وتاب ورجع، فالتوبة تجب ما قبلها. وقد بين سبحانه وتعالى مقابلة السيئة بالحسنة منك وعليك: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ؛ ولكنها منزلة عظيمة، ما كل إنسان يقدر عليها، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .

الوصية الثالثة: حسن الخلق

الوصية الثالثة: حسن الخلق قال صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن) : الحديث جمع التقوى وجمع حسن الخلق، حسن الخلق ألفت فيه الكتب، وأدق ما في ذلك كتاب ابن مسكويه في فلسفة الأخلاق، يبحث عن الغرائز النفسية وأحوالها وعن نتائجها، فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه؛ ولكن يهمنا ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من مجامع الحكم مع جوامع الكلم. الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ. } [البقرة:177] . ويقول: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189] . فجعل القرآن الكريم {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى. } [البقرة:177] إلى آخره؛ هو البر، وهنا جعل البر التقوى، فكأن التقوى هي بر، أو أن البر بعموم أنواعه هو التقوى. وجاء الحديث: (البر حسن الخلق) : فلَكأن البر يتفق ويجتمع مع حسن الأخلاق ومع تقوى الله، ولذا جمع صلى الله عليه وسلم الأمرين وهما القمة في التوجيه الإسلامي، وهما الذروة في مكارم أخلاق الإسلام: (اتقِ الله حيثما كنت) . (خالق الناس بخلق حسن) . ولعل هذا القدر يكفي. وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً إلى تقوى الله، وأن يجعلها غايتنا، وأن يملأ قلوبنا بتقوى الله وخوفه وعظيم رجائه، وأن يوفقنا وإياكم إلى اجتناب السيئات، وأن يعيننا وإياكم على فعل الحسنات، وأن يجملنا وإياكم بمكارم الأخلاق. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي مدحه الله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] .

الأسئلة

الأسئلة

حكم الإقامة في غير ديار الإسلام

حكم الإقامة في غير ديار الإسلام Q ما حكم الإقامة في غير بلاد المسلمين؟! A لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أولاً: يا إخوان! من حسن الإسلام: استقلال ذاتية المسلم، ومن أهم استقلال ذاتية المسلم: ألَّا يقيم في بلد الكفر، وبلد الكفر قسمان: دار كفر وحرب. ودار كفر بغير حرب. ودار الحرب: هي التي تعلن الحرب على المسلمين، وبينها وبين المسلمين قتال. ودار الكفر فقط هي المهادنة التي لم تقاتل. وكلا البلدين لا يحق للمسلم أن يقيم فيها، وللعلماء في إقامة المسلم في دار الكفر -أي: بدون حرب- خلاف. إن كانت هناك مصلحة، كتجارة أو دعوة، والمقيم آمن على نفسه وماله وعرضه من أهلها، كما أن دار الإسلام يأتيها الشخص من دار الكفر لا من دار الحرب، فيأخذ الأمان لتجارة أو لحاجة بإذن ولي أمر المسلمين، فهو آمن على نفسه وماله مدةً محدودة، كما كان يفعل عمر رضي الله تعالى عنه، إذا كان يعطي تجار اليهود أو النصارى أو غيرهم كالمجوس ثلاثة أيام، يأتون يبيعون ما عندهم من التجارة ويذهبون، وقد يعطون أكثر حسب المصلحة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال في حق الكفار: (لا يسكن الإنسان في دار الكفر؛ لا تتراءا ناريهما) ، فإذا كان لحاجة وهو في مأمن فلا بأس، ومثل هذا ما نتج عن المعاهدات والقوانين الدولية الدولية في الوقت الحاضر، حيث أن من دخل بلداً بتأشيرة دخول فله حق الإقامة المحددة له في جوازه. فليكن المسلم مسلماً، وليكن كما كان السلف شمعةً يضيء ما حوله، وليعلم الجميع أن الإسلام لم يدخل إندونيسيا بقتال، وما حارب المسلمون في تلك البلاد أبداً، إنما دخلها بوجود المسلمين وبتميزهم بأخلاقهم وعباداتِهم. أما بعض الشباب وللأسف إذا جاء إلى أوروبا أو إلى آسيا أو غيرها من البلاد وجاء وقت الصلاة فإنه يستحي أن يقيم الصلاة ويصلي! لماذا؟ أين شخصية المسلم؟! الشخص إذا ذاب في غيره؛ ذاب معه دينه وعقيدته، فما قيمته إذاً؟! لا أريد أن أتطرق إلى أشياء يذيب بها شخصه قبل أن يغادر حدود بلده. لا. المسلم مسلم حيثما كان، والإسلام لا يرخِّص للمسلم في معصية أياً كان مكانه، أما إن كان ممن قال الله فيهم: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، فهذا شيء آخر. فإذا كان يُكرَه في بلد الكفر على مخالفة أو ترك دينه، فلا يحق له أن يقيم، وتعينت عليه الهجرة، ولذا اختلف العلماء في حكم الهجرة هنا هل هي واجبة أو مندوبة؟ فبعضهم يقول: (لا هجرة بعد الفتح) ؛ ولكن إذا ضُيِّق عليه في بلد الكفر، ولا يستطيع أن يقيم شعائر دينه تعينت عليه الهجرة كما يتعين عليه أن يصلي ويصوم. والله تعالى أعلم.

حكم وضع المصحف على الأرض

حكم وضع المصحف على الأرض Q ما حكم وضع المصحف على الأرض؟! A بعض الإخوة -للأسف- يريد أن يصلي فيضع المصحف أمامه على الأرض. وقد يقول الإنسان: الأرض طاهرة ونسجد عليها. فأقول: نعم؛ ولكن تعظيم القرآن وتعظيم حرمات الله: من تعظيم القرآن أن ترفعه وأن تكرِّمه. وحصل للشيخ محمد المختار -الله يغفر له- أنه كان في مسجد وقام يصلي، وجاء بجواره رجل وصف نعليه بين قدميه، ووضع المصحف على النعلين وقام يصلي. فقال: يا أخي! كيف تفعل هذا؟! قال: هما هطارتان وليس فيهما نجاسة. فقام وأخذ المصحف ووضعه في حجره، وأخذ النعلين ووضعهما على رأسه. فقال: كيف تفعل هذا؟ قال: أليست طاهرة؟ إذا كنت تشمئز من وضع النعلين على رأسك وهي طاهرة، وهما نعلاك أنت، فكيف تقرن بين النعلين والمصحف؟! تلك مسائل شفافة، ليس فيها حد هندسي، وليس فيها مسطرة؛ ولكن شعور وإحساس. والله الموفق. والسلام عليكم.

الحديث التاسع عشر [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [1]

مكانة ابن عباس عند رسول الله وعند الصحابة

مكانة ابن عباس عند رسول الله وعند الصحابة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: [عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع اليسر يسراً) ] . إن هذا الحديث العظيم، يبين مكانة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد اختص بخصائص من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطيل علماء الرجال والتراجم في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما، فقد حظي بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم! فقه في الدين، وعلمه التأويل) ، وها هو في هذا الحديث غلام دون البلوغ، ويلقي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث العظيم، وقالوا: إن سبب دعوة رسول الله له، أنه كان ذات ليلة عند خالته ميمونة، ونام النبي صلى الله عليه وسلم على طرف الوسادة، وجاء ابن عباس وهو غلام ونام على طرفها الآخر، فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، قام ودخل الخلاء، ثم خرج صلى الله عليه وسلم فوجد أداوة من ماء عند باب الخلاء فقال: (من وضع هذا؟ قالت له ميمونة: وضعها ابن عباس) أي: أن ابن عباس فطن أن خروجه صلى الله عليه وسلم يقتضي ماء لوضوئه، وهذا من الفهم والفطنة والفقه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم! فقهه في الدين، وعلمه التأويل) ، والتأويل هو: التفسير. روى البخاري رحمه الله أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يدنيه، وكان يدخله في مجلسه، وفيه شيوخ المهاجرين والأنصار، فرأى في وجوههم استنكار ذلك، وقالوا لـ عمر: كيف تدخل هذا الغلام، ولنا غلمان مثله لم نحضرهم؟ فجمعهم ذات يوم وسألهم، عن تفسير سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] ، فخاضوا في معانيها من ظواهر لفظها، فسأل عمر ابن عباس، فقال: إنها نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، فوافقه عمر على ذلك، وظهر للناس فهمه لكتاب الله، وصاروا يرجعون إليه في ذلك.

طلبه للعلم في صغره

طلبه للعلم في صغره نشأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه نموذجاً حياً لطالب العلم في كل زمان ومكان، ولزاماً على كل شخص يسلك طريق طلب العلم أن يدرس ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ذكرنا في برنامج إذاعي أن تراجم الرجال مدارس الأجيال، وفي ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما شب وصار يافعاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب إلى أحد أصدقائه فقال له: هلم نجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوترى -يا ابن عباس - أن الناس يحتاجون إلى ما تجمعه مع وجود كبار أصحاب رسول الله؟! فمضى ابن عباس في طريقه، قال ابن عباس: كنت أتبع الرجل الذي عنده حديث رسول الله من المسجد إلى بيته، وأستحي أن أوقفه في الطريق، فأتبعه وأقول: لعله يلتفت فيراني فأسأله، قال: مرة اتبعت فلاناً فلم يلتفت، ودخل بيته ولم يلتفت، ورد الباب دوني، وذلك بعد صلاة الظهر، قال: فجلست على باب بيته أنتظر خروجه، ووضعت ردائي على وجهي، والريح تسفي عليّ، فأخذني النوم، حتى خرج الرجل لصلاة العصر، فقال: ابن عباس على باب بيتي! قلت: نعم، جئت أسألك عن حديث كذا، قال: لو آذنتني فآتيك إلى بيتك! قال: إن العلم يؤتى إليه. وكان ابن عباس، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذ بركاب زيد بن ثابت وهو راكب، وابن عباس يمشي، فيقول له: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فيقول: لستَ بنازل، ولستُ براكب، هكذا أمرنا أن نعظم علماءنا. هذا حال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في طلب العلم، ثم دارت الأيام، وصار صاحبه الذي قعد عن مرافقته في طلب العلم، يرجع إليه ويسأله عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يفتي الناس بمكة، ثم إنه خرج من مكة وقال: لا أستطيع أن أسكن بلدة تتضاعف فيها السيئات كما تتضاعف فيها الحسنات، ولكني أتخذ من الطائف مسكناً، ثم أنزل إلى الناس يوم الحج، وبقي ساكناً في الطائف، وينزل مكة في وقت الحج. ولقد ذكروا من مناقبه رضي الله تعالى عنه أنه رأى جبريل عليه السلام مرتين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بذلك فأخبر أنه سيفقد بصره، وقد ابتلي في آخر حياته بفقد البصر، قالوا: لأنه رأى جبريل مرتين، إحداهما لما جاء العباس يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهراً، فاستأذنه ثلاث مرات، فلم يأذن له، فرجع مغاضباً، وكان في بني هاشم بعض الحدة، فقال ابن عباس لأبيه العباس: يا أبت! لا تغضب فهو مشغول عنك بالرجل الذي كان يجلس إليه يحدثه، فقال: أوعنده رجل؟! قال: نعم، قال: ما رأيته! وأخذ بيد ابنه ورجع مرة أخرى إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصل استأذن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول مرة، ولم يكن هناك رجل، فقال العباس: (يا ابن أخي! ما بالك استأذنتك ثلاث مرات فلم تأذن لي؟ قال: ما علمت، قال: إن هذا الغلام يقول: إنك كنت مشغولاً برجل عندك، وما رأيت عندك أحداً، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله وقال: أرأيت الرجل يا غلام؟! قال: نعم، قال: ذاك جبريل عليه السلام) .

سرعة حفظه

سرعة حفظه ومناقب ابن عباس وافرة، ويهمنا منهجه في العلم والتعليم، ولقد كانت له بمكة مدرسة نشأت عنه، وكذلك في البصرة، وانتشر علم ابن عباس بتلاميذه رضي الله تعالى عنهم، وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء. ها هو ابن عباس ينظر إليه رسول الله صلى الله وهو غلام، فيرى فيه الفراسة، ويرى فيه الأهلية، لكي يلقي عليه هذا الحديث، وكان ابن عباس يحفظ من أول مرة، فلقد ذكر علماء الأدب، مثل الرافعي في تاريخ الأدب أن ابن عباس كان جالساً عند الكعبة، وعنده بعض الخوارج من أهل الشدة والشوكة، فإذا بـ عمر بن أبي ربيعة يمر عليه، فقال عبد الله: هيه هيه يا عمير! هل من جديد؟ فقال: نعم، وأنشده قصيدة من تسعين بيتاً، فلما انتهى قال الخارجي: يا ابن عباس! أما تخشى الله فينا؟ جئناك عند بيت الله نسألك عن الحلال والحرام، فتتركنا وتسمع لهذا الشاعر الماجن! أوأعجبك شعره؟! قال: نعم، وحفظته، قال: أحفظت ما قال؟! قال: نعم، وإن شئت أعدته عليك منكسّاً فعلت، قال: نعم -والله- شئت، فأعاد عليه القصيدة، وبدأ من آخر بيت فيها حتى جاء إلى أولها، وهذا يدل على عظم ذاكرة ابن عباس، فالرسول صلى الله عليه وسلم خصه بهذا الحديث عندما رأى فيه أهلية التعليم، فألقى عليه هذا العلم. ويذكر علماء الحديث مسألة: الغلام الذي دون البلوغ هل يعتمد على روايته؟ يقولون: إن العبرة في رواية الحديث بوقت الأداء؟ فلو أن غلاماً سمع ووعى، ثم أدى ما سمعه بعد البلوغ، كانت روايته حجة، ولو أن كافراً مشركاً سمع وقت الكفر والشرك ثم أدى بعد الإسلام كانت روايته معتمدة؛ لأنه عند الأداء مؤتمن على ما يؤديه، وهكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنه حفظ هذا الحديث العظيم.

تحمله لهذا الحديث وهو غلام

تحمله لهذا الحديث وهو غلام وقوله: (يا غلام) ، ما سن الغلام؟ يقولون: من أول ولادته إلى قبل الاحتلام، هذا لغة واصطلاحاً، وقد يطلق الغلام على اليافع الأشد إذا بلغ الأربعين سنة، كما قالت الخنساء: غلام إذا هز القناة سقاها. ولا يستطيع أن يسقي القناة بدماء الأعداء إلا القوي الأشد. إذاً: غلام هنا على بابها اللغوي الأصلي، وهو: ما كان دون البلوغ؛ لأن ابن عباس ولد قبل الهجرة بعدة سنوات، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة، وكان ممن قدّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الضعفة، ويقول عن نفسه: (وكنت معهم حينئذٍ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا فضرب على أفخاذنا، وقال: يا أغيلمة بني هاشم! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) ، فكان غلاماً أو أغيلماً حينما نزل مع الضعفة من الحجاج حين حج النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في سنة عشر من الهجرة غلاماً مع الضعفة والنسوة، ووعى هذا الوعي وهو غلام، وأخذ عنه العلماء هذا الحديث، ورواه الترمذي وغيره بروايات مختلفة، فحديثه موضع قبول عند العامة والخاصة. يقول رضي الله تعالى عنه: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم) ، وهل كان راكباً أو ماشياً؟ جاء في بعض الروايات: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) أي: راكباً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: كان راكباً على حمار، وقيل: على بغلة أهداها إليه المقوقس، وأخذ من ذلك يستنتج العلماء جواز الإرداف على الراحلة إذا كانت تحتمل ذلك، وقد جاء في حديث معاذ قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) بهذا التصريح، فقال: (أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟) إلى آخره.

معنى قوله: (أعلمك كلمات)

معنى قوله: (أعلمك كلمات) قال: (يا غلام!) ، فيه جواز نداء الغلام بوصفه، وإن كان يُعلم اسمه وعلمه، (إني أعلمك كلمات) أي: كلمات معدودات، موجزة، والتحفيظ والتعليم سواء، ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يفصّل المجمل من الكلمات، والكلمات: جمع كلمة، والكلمة: تطلق على اللفظ، كما قال الناظم: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم واحده كَلِمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم فالكلمة تطلق على أحد أقسام الكلام، فإذا قلت: (قد) فهي كلمة، وإن كانت حرفاً، وإن قلت: (جاء) فهي كلمة، وإن كانت فعلاً، وإن قلت: (زيد) فهي كلمة وإن كان إسماً، فكل واحد من هذه يقال لها: كلمة، والموضوع الطويل الذي تخطب به في أمة يقال له أيضاً: كلمة، فيقال: ألقى فلان كلمة، ونشر فلان كلمة، فكلمة تطلق على اللفظ المفرد، وتطلق على مجموع الكلام، فكلمة الإخلاص هي: لا إله إلا الله، وهي عدة ألفاظ وسميت: كلمة، وهنا قال: (أعلمك كلمات) جمع: كلمة، فهي جُمل، وكل جملة من تلك الجمل، يقال لها: كلمة.

معنى قوله: (احفظ الله يحفظك)

معنى قوله: (احفظ الله يحفظك) (احفظ الله يحفظك) ، يحفظك جواب فعل الأمر، أي: احفظ الله فإن تحفظه يحفظك، (احفظ الله تجده تجاهك) ، الفعل واحد، وأسند مرتين: مرة إلى العبد، ومرة إلى المولى سبحانه، فما هو الحفظ بالنسبة إلى العبد؟ وما هو الحفظ بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى؟ قالوا: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله) ، ما يدل عليه الحال، وقرائن الحال، أي: احفظ الله في أوامره ونواهيه وحقوقه عليك؛ لأن الله غني عن حفظك سبحانه وتعالى، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] ، فهو الحافظ الحفيظ للعالم كله.

حفظ الله في أسمائه وصفاته

حفظ الله في أسمائه وصفاته فأنت أيها العبد مطالب أن تحفظ الله في كل شيء، فيما توجه إليك من أوامره، وفيما توجه إليك من نواهيه، ومما يجب له عليك أن تحفظه من أن تنسب إليه ما لا يليق بجلاله، فحفظ العبد لربه في ذات الله بأن يصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فإذا عطل شيئاً مما وصف الله به نفسه، أو عطل شيئاً مما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فما حفظ الله في ذاته، ولا في صفاته، فأول شيء تحفظ الله في ذاته، وفي أسمائه وصفاته، فتصف الله بكل ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الشافعي رحمه الله: نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، ونؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: نحن مأمورون بإيمان إثبات، لا بإيمان تكييف قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . فأول واجب على العبد في حفظه لله، أن يحفظه سبحانه فيما وصف به نفسه فيصفه به، وفيما نزه عنه نفسه فينزهه عنه، فإذا عطل صفة من صفاته، أو أسند إليه ما لا يليق بجلاله، فإنه لم يحفظ الله، فأول باب في هذا الحديث، وأول واجب في هذا الموضوع، أن يحفظ العبد ربه فيما وصف به نفسه، وفيما نزه عنه نفسه جل جلاله سبحانه وتعالى.

حفظ الله في العبادات

حفظ الله في العبادات بعد هذا يحفظ الله فيما توجه إليه من ربه سبحانه من العبادات والمعاملات، وكل ذلك تشريع من الله، فمثلاً فرض الله على العباد الصلوات كما قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، فالواجب على العبد في الصلاة أن يحفظها كما قال الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن حفظهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن ضيعهن لم يكن له عند الله عهد، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) ، فالصلاة من العبادات، وقس عليها غيرها، وقال الله كما في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به) وجاء في الحديث: (الصوم جُنة ما لم يخرقها) والجُنة: ما يقي الإنسان، ويجنه من الأعداء، وتكون وقاية بينه وبين الآخرين، فإذا خرّق هذه الجُنة؛ توجهت إليه السهام من تلك الخروق، (قيل: بم يخرقها يا رسول الله؟! قال: يسب هذا، ويغتاب هذا، ويظلم هذا) ، فالجنة كانت من الخير وفعل الخير، وهو مزقها بأفعال الشر. وفي الزكاة قال سبحانه وتعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، وقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، فالذي أتبع الصدقة بالمن، وأساء في إعطاء الزكاة، هل حفظها أم ضيعها؟ ضيعها وأبطلها بما أتبعها من المن على المسكين الذي دفعها إليه، ولماذا تمن عليه؟ هل ولدت ومعك هذا المال؟ هل هو حق لك من أجدادك وآبائك؟ المال مال الله، وجعله الله وديعة في يدك، وهو قادر أن يأخذه منك ويسوقه إلى غيرك، ويأخذ من غيرك ويسوقه إليك، وإنما هو ابتلاء وامتحان. والحج كذلك يحفظ في نيته وقصده، وفي أعماله، فيقيم المناسك، ويعظم شعائر الله وغير ذلك. فكل العبادات حفظها أداؤها كما أوجب الله سبحانه وتعالى، فمن حج من مال حلال، وزاد حلال، فإذا وضع رجله في الغرز، وقال: لبيك اللهم لبيك! قيل له: لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور. وإن حج بمال حرام وزاد حرام، فوضع رجله في الغرز، وقال: لبيك، قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً، ما الفرق بين هذا وهذا؟ هذا ماله حلال كما أوجب الله، وهذا ماله حرام مما نهى الله، فكيف يأتي بيت الله بما حرم الله؟ فكأنه يجاهر بالمعصية، ويتحدى الله في بيته بماله من الحرام.

حفظ الله باجتناب المعاصي

حفظ الله باجتناب المعاصي وهكذا من حفظ الله ترك المحرمات والمعاصي، فلا يقدم عليها عمداً، بخلاف من زلت به قدمه، والإنسان غير معصوم، وبعدما تزل به القدم في المعصية، يحس بأوساخه فيقوم فينفض الغبار عنه، ويغسل درنه بتوبة واستغفار، فهذا عبد الله حقاً. أما إذا كان لا يبالي بما وقع فيه، ولا يخشى الله، ولا يخاف مما وقع فيه من الذنب، ولا يستحيي من الله، وقد جاء في بعض الأحاديث: (استحي من الله كما تستحيي من رجلين من ذوي المروءة في قومك) ، وجاء في الحديث القدسي: (لا أكون أهون من تستحيي منهم!) ، أي: تستحيي من الناس ولا تستحيي من الله!! فجعلت الله في نظرك أهون من الناس! نسأل الله السلامة والعافية، وليس هناك إنسان معصوم، ولكن يجب على العبد إذا سقط، أن يتوب، مثل إنسان ماشٍ في الطريق تعرقلت رجله في عود فسقط على الأرض، فهل يظل على سقطته أو ينهض ويزيل السبب الذي أسقطه حتى يمضي في طريقه سالماً؟ فيجب على العبد إذا زلّت به القدم، ووقع فيما حرم الله عليه، أن يسارع في الرجوع إلى الله، ويستغفر من ذنبه، ويغسل الخطيئة بهذه الحسنة، كما تقدم في الحديث الماضي: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) . فقوله: (احفظ الله) هذا هو حفظ العبد لله سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل، فمقابله (يحفظك) ، كما قال الله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ، يحفظونه من كل سوء يخشى منه، ولولا هؤلاء الحفظة المعقبات لتخطفتهم الجن، ولاجتالتهم الشياطين عن الأرض، فقوله: (يحفظك) أي: حفظ أمن، وهناك حفظ أعظم منه، فإذا حفظت الله في حقه، وفي أسمائه وصفاته، وفي أوامره ونواهيه؛ حفظك أن تهدم ذلك، وحفظك من أن تقع في السوء، وحفظك من أن تحيد عن الطريق، وحفظك على الجادة السوية، وحفظك على الصراط المستقيم، وحفظك أن تتلاعب بك الشياطين، وحفظك أن تميل بك الأهواء، وحفظك من وساوس النفس، وحفظك من كل سوء لا ترضاه، فيعاملك بالمثل؛ فإذا حفظت الله في ذاته حفظك في بدنك وفي ذاتك، وإذا حفظت الله في أوامره ونواهيه حفظك في سلوكك، وحفظك عن المعاصي، مثل يوسف عليه السلام في ذلك الموقف الرهيب عندما غلقت سيدته الأبواب كلها وقالت: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ، أي موقف أشد حرجاً من ذلك؟! وهو في بيتها محكوم عليه، وهي سيدة الموقف وملكة، فماذا كان الموقف؟! حفظ الله فحفظه، قال الله: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] ، والله هو الذي كشف له هذا البرهان، وكانت رؤيته لبرهان ربه هي سبب الوقاية والحفظ عن أن يقع فيما يراد منه. وهكذا لو نظر الإنسان في تاريخ الأمم، وفي الأحداث، وفي حياته، فلابد له من موقف مر به، أو مأزق وقع فيه، ولم يقدر أحد على إنجائه وحفظه إلا الله سبحانه، وشعر بنعمة الله عليه في ذلك.

معنى قوله: (تجده تجاهك)

معنى قوله: (تجده تجاهك) ثم قال: (احفظ الله تجده تجاهك) تجاه ويقولون: وجاهه، فأصل التاء من واو، يقال: فلان اتجه إلى كذا، أصلها من الوجه، فاتجه بمعنى اوتجه، والواو إذا جاءت بعدها تاء الاستفعال تبدل تاء وتدغم التاء في التاء، مثل: اتقى، أصلها: اوتقى، فالواو أبدلت تاء، وأدغمت التاء في التاء، فأصلها: (تجد الله توجاهك) ، فالاتجاه هو قصد العبد، وأخذ من الوجه أساساً؛ لأن القاعدة في اللغة العربية أن أصول موادها يوضع للمادة المحسوسة، ثم يُنقل إلى الأمور المعنوية، فالوجه مادة محسوسة، والوجهة أمر معنوي، كما قال الله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] ، وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] فالوجهة هي: الجهة والمقصد. وقوله: (احفظ الله تجده تجاهك) ليس معناه: أمامك وليس وراءك، أو ليس يمينك، أو ليس يسارك، لا، إنما المعنى: تجد الله في كل اتجاه لك تقصده، سواء كان قصداً محسوساً، أو كان قصداً معنوياً، فلو اتجهت إلى طلب العلم تجد الله تجاهك، ولو اتجهت إلى فتح محل للتجارة تجد الله تجاهك، ولو اتجهت إلى حرث أرض لتزرعها تجد الله تجاهك، ولو اتجهت إلى صنعة تحكمها تجد الله تجاهك، وهكذا بصفة عامة؛ ونحن نعلم أن العبد مهما كانت وجهته فهي تحت سلطان الله، لكن المراد بهذا أنك إذا حفظت أوامر الله -على الوجه الذي بينا- كان الله سبحانه وتعالى معك في كل أحوالك.

معية الله

معية الله وقيل: تجاهك بمعنى: معك، والمعية من الله على قسمين: معية عامة لجميع الخلق، قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [المجادلة:7] فهذه معية عامة، فلا يخفى على الله من خلقه شيء، ولا يغيب عن علمه وعن نظره شيء فهو مع الجميع. ومعية خاصة: وهذه المعية الخاصة لمن أحبهم الله، أما من لم يحبهم فيتركهم، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل:128] ، وغير المتقين لا يستحقون هذه المعية، وقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، ولما قال قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61-62] . إذاً: قوله هنا: (تجده تجاهك) المقصود بها المعية الخاصة، فالله مع المتقين معية خاصة، وكان مع موسى وقومه معية خاصة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم والصديق وهما في الغار معية خاصة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر: (ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!) ، فجاء العدو لينظر، فإذا به تُعمى بصيرته، ويكذب نظره، ويرجع خائباً، والأثر قد دخل إلى الغار، وأمامهم حمامة باضت، وعنكبوت نسج، ونبات نبت، فقالوا: كيف يدخلان في هذا الغار وهذه الآثار موجودة؟! فردهم الله بنسج العنكبوت البالي المهين الضعيف، مع حقد قلوبهم، وسيوفهم بأيديهم، ويقول الصديق: والله! لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!) ومن كان الله معه فلا يخاف أحداً، ومن يتخلى الله عنه فهل يأمن من الله؟! لا، والله! إذاً: المعية الخاصة هي: معية التكريم، ومعية النصر، ومعية الحفظ، ومعية التأييد، ومعية التوفيق، ومعية السعادة في الدنيا والآخرة، ومن حفظ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام ما أخبر به الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان جالساً عند رسول الله في مكة لما نزلت سورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، فجاءت زوجة أبي لهب ومعها فهر، أي: حجر كبير في يدها، وهي تبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لها: هو مع أبي بكر في ذلك المكان، فلما جاءت رآها أبو بكر من بعيد فقال: (يا رسول الله! فلانة جاءت وبيدها فهر، أخشى عليك منها، فقال: لا تخف إن الله منجيني منها!) ، وقرأ صلى الله عليه وسلم آيات من كتاب الله، فجاءت ووقفت على أبي بكر فقالت: أين محمد؟ أين صاحبك؟ وهو جنبها!! قال الله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45] ، وجاء في بعض كتب البلاغة المتأخرة في قوله: {حِجَابًا مَسْتُورًا} بمعنى: ساتر، مفعول بمعنى: فاعل، ولو كان مستوراً بمعنى ساتر، فهل رأت الحجاب؟! ما رأته، إذاً: مستور على الحقيقة لا على المجاز، فهو ساتر ومستور، ولو كان حجاباً مستوراً بمعنى ساتر، لكان ظاهراً لها، والمعجزة في كونه مستوراً، ومعنى ساتر يفهم من كلمة حجاب؛ لأن الحجاب للحجب والستر، فجمع القرآن بين المعنيين: فهو ساتر ومستور في وقت واحد، والمعجزة في كونه مستوراً عن عينيها. ولما خرج صلى الله عليه وسلم من بيته ليلة الهجرة، كان على باب بيته عشرة رجال، ليس فيهم امرأة، ليس واحداً، ولا اثنين، بل عشرة رجال بسيوفهم قائمين على باب بيته ينتظرون خروجه ليقضوا عليه بضربة رجل واحد، لكن معية الله كانت مع رسوله في ذاك الوقت، فخرج عليهم علانية، وأخذهم النعاس، وأعمى الله أبصارهم، وقرأ الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، وأخذ التراب من تحت أقدامهم، ووضعه على رءوسهم، فمن كان الله معه فلا يخشى أحداً، (احفظ الله تجده تجاهك) . فينبغي للعاقل أن يفكر، فالفلاسفة أو علماء الاجتماع يقولون: الإنسان مدني بطبعه، بمعنى: لا يعيش وحده، فأنت لا تستطيع أن تعمل كل شيء وحدك؛ من زراعة، ونسيج، وصناعة، فالثياب التي تلبسها لا تستطيع أن تغزلها، فلابد من جماعة من البشر تتعاون على الحياة، لقمة العيش لا تصنعها وحدك، فحرث الأرض، يحتاج إلى محراث، والمحراث يحتاج إلى ورشة تعمل الحديد، وهكذا الآلات والمكائن تحتاج إلى ورشة وعمال، وعند الحصاد تحتاج إلى منجل ليحصد، وهكذا فلا تطحن وتعجن وتخبز إلا وآلاف الأيدي قد عملت معك، فأنت لن تستطيع أن تعيش وحدك، ولابد أن يكون لك مُعين، وأنت بين أحد أمرين: إما أن تتخذ معينك رب العالمين، الذي بيده ملكوت كل شيء، وإما أن تتخذ معيناً يحتاج إلى من يعينه، فالعاقل قبل كل شيء يجعل وجهته إلى الله، فإن كان في عبادة فليخلصها لله، وإن كان في عمل مع خلق الله فليعامل الله، وهذا من قبيل الصدقة، كما قال الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ؛ لأنك بإعطائك المسكين الذي لا يستطيع أن يكافئك، فإنما تعطي الله، وتدخر الأجر عند الله، وهذا رصيد مضمون، الحسنة بعشر، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] .

معنى قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)

معنى قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) وقوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) هو بمعنى: (احفظ الله تجده تجاهك) ، وكل إنسان معرض لرخاء وشدة، وكما جاء في كتاب الله: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] ، فإذا كنت تتعرف إلى الله في الشدة فقط؛ فأنت أناني، وإذا كنت تتعرف إلى الله في الرخاء؛ فأنت شاكر النعمة، وإذا أنعم عليك تعرفت عليه وشكرته، والشخص الذي يشكر النعمة خير من الأناني الذي لا يعرف المنعم إلا وقت الشدائد. هذا الحديث يعطينا أحوال الحياة، فأنت لابد أن تتقلب بين شدة ورخاء، ورب العزة سبحانه هو ملجؤك في الشدة، وهو معينك في الرخاء، فإذا كنت تتعرف إلى الله في الرخاء، فتعرفك شكر للنعمة، وهذا يزيدها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فهل العبادة التي جاءت بعد هذا الإخبار أعظم أم العبادة التي قبل الإخبار، وهو يرجو رحمة الله؟ التي قبلها فيها طلب ومعاوضة، لكن التي بعدها محض شكر، ولذا قال لـ عائشة حينما كلمته في ذلك: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) . إذا كان لإنسان عليك منّة، ثم دقمت له يداً أو شيئاً، فمهما كان الذي تعطيه فأنت في ظل التي له عليك، لكن إذا لم يكن له عليك يد، وقدمت له شيئاً لغير مقابل من قبيل حفظ العهد؛ فهذا أكمل، فإذا كنت تتعرف إلى الله في الرخاء، فهذه معرفة شكران، لا أقول: صحبة أو صداقة، بل أقول: معرفة شكران لنعم الله، وتعظيم الله دليل على محبتك لله؛ لأن محبتك لله هي التي ربطتك بالله، وإن كنت تشعر أنك لست في حاجة إلى أن تسأل الناس شيئاً، لكن العبد لا يستغني عن الله لحظة، كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلبت فاطمة منه خادماً؛ لأنها تعبت من العمل على الرحا، واشتكت لـ علي فقال: سمعت أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بجوارٍ وعبيد، فاطلبي منه خادماً، فطلبت منه ذلك، فقال: (ما يمنعك أن تفعلي ما أوصيك به؟ تقولين دبر كل صلاة: يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله) ، والله! لو وكل الله العبد لنفسه طرفة عين لخر ميتاً هامداً، فالقلب إذا توقف لحظة يموت الإنسان؟ والدماغ إذا توقف لحظة أصيب بالشلل والموت، فالله سبحانه يرعى هذا العبد وهو غافل، وإيمانه ينقص وهو غافل، والمولى يدبر قلبه ويحركه، ولولا ذلك لخر ميتاً. فحينما تكون في الرخاء تفعل الخير لوجه الله شكراً لله على نعمه، ولا تقوى أن تقطع نفسك عن الله، وصارت صلتك بالله كأنها سجية، فإذا جاءتك شدة، فمن كنت متعرفاً إليه سابقاً بالشكر هل يتخلى عنك؟ لا يمكن أن يتخلى عنك؛ لأنك ما تخليت عنه وقت السعة، فلا يتركك أبداً وقت الشدة، والله! لو كان لك صديقك دائماً تغدق عليه بالخير بدون منة له عليك، فإذا رآك في شدة فإنه من باب المروءة يفزع لك، فإذا كان الأمر فوق هذا، فكنت توليه بخيراتك دائماً، فإذا شعر أنه ألمت بك حاجة، فكم يبادر إليك، وهو إنسان، فما بالك بفضل المولى سبحانه؟ فالعبد ينبغي أن يكون عاقلاً، قال بعض علماء السلف: الكيس من كانت له عند الله خبيئة سر، كل واحد منا سيرجع إلى بيته، ويضع رأسه على الوسادة، ويطفئ الأضواء، ويغمض العينين، فليحاسب نفسه، كم له من خبيئة سر عند الله؟ وكم عليه من غدرة مع الله؟ وكم عليه من سيئة؟ وكم له من حسنة لا يعلمها إلا الله؟ فحاسب نفسك ساعة فيما لك وما عليك، وعد السيئة والحسنة حتى تنجو، فالتاجر الحاذق ما يبيت ليلة إلا وقد كتب حسابه الذي له والذي عليه، حتى يعرف مكسبه من خسارته، فالإنسان منا لماذا لا يحاسب نفسه على هذا؟ يا إخوان! هذا الباب واسع، ويصعب عليّ أن أطيل فيه، ولكن أكتفي بهذا القدر.

قصة الثلاثة النفر الذين آواهم المبيت إلى غار

قصة الثلاثة النفر الذين آواهم المبيت إلى غار قال صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فهو لا ينكرك في الشدة بل يعرفك في الشدة، معرفة خير، ومعرفة رحمة، ومعرفة إنقاذ، كما جاء في الحديث الثابت الصحيح: (أن ثلاثة نفر آواهم المبيت إلى غار، فتدحرجت صخرة وسدت عليهم فم الغار) ، نتصور ثلاثة رجال داخل الغار، وصخرة كبيرة على فم الغار، وهم لا يستطيعون دفعها، لو كنت أنت واحداً من هؤلاء الثلاثة، ما إحساسك تجاه هذا؟ لو كنت في بيتك وجاء أحد الأولاد وأغلق الباب عليك ظاناً أنك غير موجود، فقمت لتفتح الباب فإذا بالباب مغلق عليك! فضربت الباب لكن لم يفتح لك أحد، فعندها ستقلق وتغضب وأنت في بيتك وعندك فراشك، وبعد قليل سيأتون إليك، وعندك أمل في مجيئهم ولو بعد يوم، ولو علمت أن الغيبة طويلة فيمكن أن تكسر الباب، لكن هذه الصخرة ما يمكن أن تكسر، فتصوروا شعورهم بالموت وهم أحياء، وإحساسهم أنهم قبروا وهم أحياء، وليس هناك هاتف، وليس هناك تلكس، وليس هناك جرس، وليس هناك أي وسيلة للإعلام عنهم، انقطعوا عن العالم كله، ولا يقوى العالم كله أن يعلم بحالهم، فماذا كان موقفهم؟ (قالوا: ليس لنا إلا أن نرجع إلى الله) وبأي شيء يرجعون؟ بسود الصحائف الأولى، أو بخبيئة السر؟ في هذا الموقف هل رجعوا بعدم تعرفهم إليه في الرخاء، وبنسيانهم ذكر الله في تلك الحالات الواسعة، وفي ذلك الفضاء، أو رجعوا إلى الله بما كان لهم عند الله من صالح الأعمال السابقة؟ تساءلوا: هل يعلم بحالهم أحد ممن لهم به صلة؟ ثم أيقنوا أن كل من يعرفهم يجهل حالهم إلا الله سبحانه، فقالوا: فتشوا في دفاتركم، وفتشوا عن خبايا أسراركم مع الله، فقاموا بالتوسل بالعمل الخالص لله لا بعمرو ولا بزيد، ولا بكبير ولا بصغير، فقام أحدهم يقول: (اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان كبيران، وكنت آتي بالحليب في المساء فأسقيهما، ثم أسقي أولادي، وفي يوم نأى بي المرعى، فجئت متأخراً، فحلبت لهما فإذا بهما قد ناما، فكرهت أن أوقظهما، وأولادي صغار يتضاغون جوعاً عند قدمي، وكرهت أن أقدمهم عليهما، فقمت بالإناء عند رأسيهما أنتظر قيامهما حتى طلع الفجر! اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه) ، ماذا تقولون في هذا التوسل؟ ماذا تقولون في هذا العمل؟ ما قعد إلى أن يستيقظا وينادياه، وما سقى الأولاد، وما قال لهم: اشربوا بكيفكم فمن نام تركناه! ولم ينقض عليهما نومهما، بل تركهما في راحتهما ما إلى أن استيقظا بنفسيهما فسقاهما، فهذا العمل شديد، وليس بسهل، (فانزاحت الصخرة قليلاً) أي: تحركت، وظهر لهم أثر الدعاء، فهم -إذاً- على طريق صحيح، وفي عمل سليم، فقام الثاني وقال: (اللهم! إنه كان لي أجير، يعمل لي وأعطيه أجره يومياً، فأعطيته أجره يوماً قدحاً من شعير فاستقله، ومضى مغضباً، فنميته له، وبعد سنوات جاء وقال: أعطني ذلك الأجر، فقلت: اذهب إلى بطن الوادي، وخذ ما فيه فإنه أجرك! فقال: أتسخر مني؟ الوادي مليء بإبل وبقر وغنم، قال: والله! هو أجرك، فإني نميته لك، فذهب فأخذ كل ما رأى، ولم يترك شيئاً، اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانزاحت الصخرة قليلاً -جزءاً آخر- وقام الثالث فقال: اللهم! إنك تعلم أنه كانت لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجل المرأة، فراودتها عن نفسها؛ فامتنعت حتى أخذتها السنون، -أي الشدة- فجاءت تطلب مني عشرين ديناراً، فقلت: ذاك الذي تعلمين، فامتنعت، ثم أجابتني لشدة الحاجة، فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها وقالت: يا هذا! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت لها المال، اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانزاحت الصخرة، وخرجوا يمشون في الأرض) . هذا خبر رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله! لولا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان العقل يتوقف في تصديقه، ولكنه خبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، فهذه نتيجة التعرف إلى الله في الرخاء، وجدوها عند الشدة، والعجيب أن هذا الحديث يجمع ثلاث حالات: واحدة اجتماعية في بر الوالدين، وواحدة أخلاقية في العفة عن المرأة، وواحدة اقتصادية فيما يتعلق بالأجير، فكأنه جمع أطراف العلاقة بين العبد وبين ربه، وبين العبد وبين الخلق، وهذا الباب واسع.

قصة يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت

قصة يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت وهناك نماذج أخرى في ذلك، فنبي الله يونس عليه الصلاة والسلام كما قال الله عنه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:141-144] ، فيونس عليه السلام كان كثير التسبيح قبل أن يأتي إلى البحر، فلما ألقي في البحر، والتقمه الحوت، تداركه الله بسبب تسبيحه من قبل، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) .

قصة عجيبة لرجل من المتأخرين

قصة عجيبة لرجل من المتأخرين ونورد قصة لو لم نسمعها من الثقات لما أبحنا ذكرها، وهي في الواقع نموذج من آيات الله التي يسمعها العبد فيزداد يقيناً بالله سبحانه وتعالى، ولقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يشاهدون الآيات والمعجزات، فيزداد في يقينهم بالله، وإيمانهم بوعده سبحانه، وهذه القصة من هذا القبيل، تنفع كل مسلم يتعامل مع الله، وهي: أن رجلاً من وادي الدواسر في المملكة خرج في السيل يطلب الماء، فما وجد ماءً في الآبار التي حوله، وكان تحت الجبل مغارة يقال لها: الدحل، وهي معروفة عند أهل تلك الناحية، وإذا جاء المطر وجرى السيل غمرها الماء، فيمكث فيها السنة والسنتين، لكنها في متاهة ومفازة، فهي تحت الجبل، في ظلام دامس، وطرق متعددة، ولا يدخلها إنسان إلا بدليل، وبضوء أو بحبل يربطه على فم الدحل، وهذا الرجل دخل بدون شيء، فلما أبعد قليلاً وجد نفسه قد ضاع، فجلس، وعلم أن أهله سيأتون يبحثون عنه في هذا الدحل، وأخذ أهله يبحثون عنه أربعة عشر يوماً، في الآبار، وفي الغيران، وفي الكهوف، فما وجدوا شيئاً، وأخيراً قالوا: نذهب إلى الدحل، فجاءوا وبطريقتهم العادية، يأخذون ثوباً من القماش، ويشقونه على عرض الكف، ويشبّعونه بالشحم، ويلفه رجل على وسطه، ثم يشعل النار في طرفه كالشمعة، ويأخذ حبلاً، ويدخل إلى الدحل، والناس ينتظرونه في الخارج، فمشى رجل منهم كذلك، فلما دخل قليلاً إذا به يرى شبحاً من بعيد جالساً، فناداه: أنت فلان؟ قال: نعم، أنا فلان، فجاء إليه، وخرج به، وذهبوا به إلى بيته، وسألوه: متى جئت إلى الدحل؟ قال: من يوم خرجت من عندكم! قالوا: أربعة عشر يوماً؟! قال: نعم، قالوا: كيف عشت هذه المدة كلها؟! قال: قبل أن أجيبكم أخبروني ماذا فعلتم في منيحة أيتام فلان؟ والمنيحة عند العرب أن يكون عندك شيء من الإبل، أو البقر، أو الغنم، وفيها الحلوب، فتسرح مع أنعامك، وإذا رجعت في المساء أخذت حليبها، وأرسلته إلى من منحته إياها، فهذا كان له جيران أيتام، وكان قد منحهم حليب بقرة من بقره، فكل يوم يرسلها إليهم، فقال: أخبروني عنها! فقالوا: وما علاقتها بذلك؟ قال: أخبروني أولاً! قالوا: كنا نرسلها كل يوم، وما قطعناها إلا بالأمس، قال: قد عرفت ذلك! قالوا: وكيف عرفت؟! قال: إني حينما دخلت، وتشعبت عليّ الطرق، وعرفت أني قد تهت، ووقعت في الهلاك إن لم يتداركني الله برحمته، جلست في مكاني بغية أن تأتوا إليّ فتأخذوني، فما جاءني أحد، فلما مضى زمن صرت أقوم للصلاة، وأتلو القرآن، ولما اشتد بي الجوع والعطش رفعت كفي إلى الله وسألته أن يغيثني، فإذا بإناء بين يدي، فرفعته إلى فمي فإذا بحليب البقر الذي أعرفه! وهكذا كل يوم لمدة ثلاثة عشر يوماً، وما انقطع عني إلا بالأمس!! ماذا نقول في هذا أيها الإخوة؟! هم كانوا يحلبون البقرة، ويرسلون حليبها إلى الأيتام، وهو هناك في الدحل تحت الجبل، ولا يعلم عنه أحد إلا الله، فمن كان يبعث إليه بحليب منيحته؟ مع أن الأيتام شربوا الحليب! وتأتي إليهم منيحتهم كل يوم، ولكن الله سبحانه عرفه في الشدة؛ لأنه كان متعرفاً إلى الله في الرخاء، فكان يمنح الأيتام هذا الرزق، فحينما وقع في الشدة لم يتخل عنه رب العزة، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله، فالله سبحانه هو الذي يسوق الحليب في ضروع الأنعام كلها، ولكن أن يأتي هذا الحليب إلى هذا الشخص في تلك الظروف فهذه هي الآية والمعجزة. فما عدم مسلم خيراً أودعه عند الله قط، بل جاء في الحديث: (إن العبد إذا تصدق بالصدقة، وقعت أول ما تقع في كف الرحمن، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون كجبل أحد) ، تعطي لقمة صدقة، تضعها في يد المسكين، فيتلقاها المولى سبحانه، وينميها لصاحبها حتى تصبح كجبل أحد، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) . وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحديث التاسع عشر [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2]

معنى قوله: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)

معنى قوله: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) الجزء الثاني من الحديث: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) ، ربط فيه جزئيات الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوجه الأمة كلها بوصيته لابن عمه ابن عباس؛ لأن قوله لواحد كقوله للأمة كلها، (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) ما هو السبب ألا تسأل غير الله، وألا تستعين بغير الله؟ بيّن ذلك في قوله: (واعلم أن الأمة كلها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) . إذاً: الأمة قيمتها لا شيء، كما سيأتي بيانه، ويهمنا الربط: (إذا سألت فاسأل الله) يقول العلماء: Q طلب المسألة، والاستعانة: طلب العون، وكل منهما ينقسم إلى قسمين: سؤال للمخلوق فيما يقدر عليه، واستعانة بالمخلوق على ما في قدرته، وسؤال بما لا يقدر عليه إلا الله، واستعانة على أمر لا يعين عليه إلا الله، فيقولون: لا مانع أن تسأل العبد بما يقدر عليه، فتقول مثلاً: أعطني قلمك، ففي قدرته أن يمد ويعطي، مع أن تقدير الله سابق على هذا، ويمكن أن يقول لك: لا، ما أعطيك، لكنك سألته بما في قدرته، أو تقول: أعطني ريالاً، أو أقرضني عشرة ريالات، يقولون: يجوز إن كان في مقدور المخلوق الذي تسأله أو تستعين به، ومثاله أيضاً أن تقول: أعني على حمل متاعي، كما جاء في الحديث: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو تحمل له عليها متاعه صدقة) ، وقال الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، فإذا كان سؤال العبد للعبد فيما بيده ويقدر عليه؛ فهذا من المشروع، ولكن سؤال العبد للعبد بما لا يقدر عليه، ولا يملك عطاءه؛ فهذا هو الممنوع، وقد يصل إلى حد الشرك بالله؛ لأنك تعطي المخلوق من القدرة والمكانة ما ليس من حقه، بل هو من حق الله سبحانه وتعالى.

سؤال العبد لله في كل شيء

سؤال العبد لله في كل شيء ويجب على العبد أن يسأل الله حتى ما كان في مقدور العبد، فتوجه بقلبك أولاً وقبل كل شيء إلى الله؛ لأنه الذي يملك قلب العبد، فيوفقه لأن يجيبك لما سألت، وهو قادر أن يصرفه عنك، فاسأل الله أولاً وقبل كل شيء، وقد روي في الأثر (أن موسى عليه الصلاة والسلام قال له ربه: يا موسى! سلني كل شيء، صغيره وجليله وعظيمه، قال: والله! يا ربي! إنه لترد علي الحاجة، وأستحي أن أسألك إياها لصغرها، فقال: لا، بل سلني كل شيء، حتى شراك نعلك، وملح عجينك، وعلف دابتك) ونحن نعلم -يا إخوان- أنه إذا لم ييسر الله هذه الجزئيات اليسيرة للعبد، فلن يحصل عليها أبداً. ويروى في أثر أن المولى سبحانه عاتب خلقه فقال: (من ذا الذي سألني فلم أعطه؟! من ذا الذي استغفرني فلم أغفر له، وأنا الغفور الرحيم؟!) وفي الحديث الصحيح: (إذا كان الثلث الأخير من الليل، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) فالمولى يتودد إلى عباده، ويقول: (هل من سائل فأعطيه؟) . وقد أشرنا إلى إعجاز القرآن وبلاغته في السؤال والجواب، ففي القرآن: يسألونك عن كذا، قل: كذا، يسألونك عن كذا، قل: كذا، ولكن في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة:186] ما قال: قل، بل قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] بدون واسطة أحد، فالمولى أقرب إلى عبده من حبل الوريد، وقالوا: الله سبحانه وتعالى يحب عبده اللحوح في السؤال، والإنسان إذا ألححت عليه تضجر، حتى لو ألححت عليه وقلت: ما اسمك؟ وما اسم أبيك؟ وما اسم جدك؟ فإنه يغضب. قال الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسئل يغضب قال بعض العلماء: إن المولى سبحانه إذا سأله عبده الصالح قد يؤخر عليه الإجابة، فتقول الملائكة: (يا رب! عبدك الصالح يدعوك، فيقول: إني أحب أن أسمع هذا الصوت) ، فأخر حاجته، ليسمع صوته، يا سبحان الله! إلى هذا الحد المولى سبحانه الغني الحميد يتودد إلى الخلق ليكثروا السؤال عليه، وهو لا ينقصه شيء، خزائنه ملأى، وجاء في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر) فالمخيط ناعم أملس، ولو كان عود سواك أو عصا فيمكن أن يأخذ شيئاً من الماء، لكن المخيط أملس ناعم ما يعلق فيه الماء، وذكر هذا المثال لكي تأخذ الصورة العملية أنت بنفسك فتقتنع، وتقول: والله! ما نقص شيء، فخزائن الله ملأى لا تغيض، ولهذا عطاؤه كلام، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما تراءت له الجنة في القبلة، وتقدم خطوة، سألوه: (ما لك تقدمت؟ قال: رأيت الجنة، فتقدمت لآخذ لكم منها قطف عنب، ووالله! لو أخذته لأكلتم منه إلى يوم القيامة!) ، فكلما تأخذ حبة من العنب تنبت أخرى محلها، فما دام كل حبة تستخلف بغيرها فإنه لن ينتهي أبداً، ففضل الله كبير، فإذا سألت فاسأل الله؛ لأن الله هو الذي يعطي، وإذا سألت العبد، فمن أين يأتيك بما سألت؟ يعطيك مما عنده، والذي عنده هو من الله، فهي تحويلة، أنت تسأل زيداً، وزيد سيعطيك مما أعطاه الله، فالذي أعطاه قادر أن يعطيك، وهو أقرب، فالسؤال عبادة، فإذا كان المسئول فوق قدرة الإنسان، وسألت إنساناً فهذه هي المصيبة، كيف تتوجه إلى مخلوق حياً كان أو ميتاً، ولو كان من ملائكة الرحمن؟ كيف يسأل إنسان عقيم إنساناً مثله أن يعطيه ولداً؟! هو لا يملك هذا، أو إنسان مريض يسأل إنساناً أن يعطيه العافية!! وهو لا يملك هذا، حتى الطبيب يأتيه بالدواء حسب علمه وتجاربه، وهذا الدواء قد يتفاعل مع هذا المرض بإذن الله، فهل يعطيه الشفاء بنفسه أو هو من عند الله؟ الشفاء من عند الله، فهو يشفي من شاء بلا شيء، ويمرض من شاء بلا شيء، قال الله: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49] فعلى العبد أن يتوجه إلى ربه في سؤاله.

مشروعية طلب الدعاء من الرجل الصالح

مشروعية طلب الدعاء من الرجل الصالح إذا جئت تقول لرجل صالح: ادع الله لي أن يرزقني الولد، فمرحباً، أنا وأنت نتوجه إلى الله لتسأله وتدعوه، ذاك الرجل الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (سلني) أي: سلني أي شيء تريد، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة!! سبحان الله العظيم! ما قال: أسألك ولاية كذا، أو غير ذلك، فهو يعلم أن الله إذا أكرمه بمنزلة عالية في الجنة، فالذرية والأزواج يكرمهم الله سبحانه وتعالى معاً في الجنة، فقد قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم} [الطور:21] ، فهو قال: (يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ قال: هو ذاك) ، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود) أي: الزم طريقاً يكون سبباً لذلك، فأكثر من صلاة النافلة، (أعني على نفسك بكثرة السجود) ، ثم تأتي شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم متممة لذلك. فإذا رأيت رجلاً تتوسم فيه الخير، وسألته أن يسأل الله لك، وصرت أنت وهو تدعوان الله سبحانه، فهذا مظنة الإجابة، وروي: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه عمر رضي الله عنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية، ولم أوف بنذري، فقال: أوفِ بنذرك يا عمر! فلما أراد الخروج قال له النبي: لا تنسنا من دعائك يا أخي!) أي: من دعائك هناك عند الكعبة، فلا مانع في ذلك. وقوله: (وإذا استعنت فاستعن بالله) ، والاستعانة تكون على النفس، وعلى الغير، وعلى العبادة، وعلى امتثال الأوامر، وعلى اجتناب النواهي، وعلى النوائب التي تصيب الإنسان، وعلى كل ما يلم بالعبد، فالعبد ضعيف، فلابد له من إعانة، كما يتعاون الأفراد في الدنيا على أمور حياتهم، قال الشاعر: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم ولكن فيما لا يملكه العبد، فلا تستعن إلا بالله!

ورود الاستعانة في أول سور القرآن دليل على أهميتها

ورود الاستعانة في أول سور القرآن دليل على أهميتها ولعظم قضية الاستعانة، ولعظم حاجة العبد إليها، صُدرت في القرآن، وتعبدنا الله بسؤالها في كل ركعة من الصلوات في سورة الفاتحة،: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] . فبعد البسملة الحمد والثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا يكون ذلك إلا لله، ثم جاء الوصف العام (رَبِّ) والرب هو: الخالق، المدبر، المربي، الحافظ، الرازق، فالرب هو: الذي يربي، ويصلح المسألة، عشرة معانٍ في اللغة لمعنى الرب، وقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، جمع: عالم، فمنهم: الإنس، والجن، والملائكة، والحيوان، والوحش، والطير، والحوت، والنبات، والجبال، والجماد، والهواء، والماء، فكل ذلك عوالم لله، خاضعة لقدرته وإرادته، وهو المسير لها والمسيطر عليها، وهو ربها، خلقها ويدبرها، لا الماء يطغى على اليابس، ولا اليابس يغرق في الماء، ولا الليل سابق النهار، قال الله {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] كل في نظام عجيب، فالله هو رب هذا العالم كله، الشجر لا يزهر ولا يثمر ولا ينبت إلا بإذنه، والأنثى من كل المخلوقات لا تحمل ولا تضع إلا بإذنه، وكل هذه الكائنات تحت تصريف وتدبير الله، فالحمد لله؛ لأنه رب العالم كله، فاستحق الحمد بذاته، وربوبيته للعالمين من رحمته كما قال: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولم يقل: رب العالمين، الملك الجبار، مع أنه قادر قاهر جبار، ولكن ذكر الرحمة في معرض التربية، وفي معرض الرعاية، فهو رحمن رحيم، وهذا في أمور الدنيا، وفي الآخرة هو الملك الواحد الأحد، كما قال الله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] . إذاً: أيها العبد! إذا كنت فرداً من عوالم هذا الكون، وكلها تحت ربوبية الله، والله رب العالمين بيده نواصي المخلوقين، سماءً وأرضاً، وجبالاً وبحاراً، وفي الآخرة الملك يكون لله، فأنت في الدنيا تحت ربوبية الله، وفي الآخرة تحت سلطان وقهر وملك الله، فأين تفر عن الله؟ فتقول: حقاً ويقيناً إياك وحدك نعبد، وإياك وحدك نستعين، وهل أحد له مكانة في هذا الوجود يستحق بها أن يتوجه إليه غير الله؟! لا، ومن هذا الذي ستتوجه إليه؟ وبأي سلطة وبأي استحقاق يعبد من دون الله؟ فالعالم كله مربوب لله، ويوم الآخرة الملك لله، فأين تذهب؟! فتقول: إياك وحدك نعبد؛ لأنك المستحق للعبادة يا رب العالمين! ولا نعبد غيرك، لا بسؤال ولا باستعانة، ولا بخوف ولا رجاء، ولا بشيء، ونستعينك على تلك العبادة؛ لأن من لم يعنه الله على الطاعة فلا طاعة له، وحقاً: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولهذا فإن هذه الكلمة جاءت من كنز تحت العرش، ويذكر بعض العلماء عند هذا الحديث قصة، وهي: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن ابني أخذ أسيراً، وربط بالقد) والقد جلد البعير اللين، إذا شُد على شيء فيبس كان كالحديد، وهذا يفعلونه مع العتاة الذين لا يقدرون عليهم، وصارت أمه تبكي حينما علمت بذلك، فجاء أبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (أرسل إليه من يخبره أن يكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فبلغ الابن ذلك، فأكثر من قولها، فإذا بالقد يتساقط عنه، ثم رأى ناقة قريبة منه فركبها وهرب، فمر بسرح القوم - أي إبلهم - فنادى بها فتبعته، فما فجأ أبويه إلا وهو يطرق الباب، فقالوا: هذا صوت مالك والله! وأمه تقول: مالك في القد هناك يئن، فلما خرج أبوه والخادم وجدوه قد جاء ومعه الإبل، فذهب أبوه إلى رسول الله فسأله. فقال: (هي إبلك فاصنع بها ما شئت) ، بصرف النظر عن صحة هذا الحديث أو ضعفه، يهمنا أثر (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، ومعناها كما يقول العلماء: لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله، والعزيمة والإرادة والتوفيق كله من الله سبحانه وتعالى.

معنى قوله: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء.

معنى قوله: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ... ) ثم قال: (واعلم (تقدم أنه قال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات) ، ومما علمه (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) ، وكل هذا يدخل في قوله: (أعلمك) ، ثم قال: (واعلم) فجدد ذكر العلم مرة ثانية، ولم يجدده فيما قبلها عند كل كلمة، وهذا يدل على تجديد الإدراك والعلم لأمر جديد له أهمية، وتعريف العلم أتعب العلماء، وأحسن ما يقال: العلم ضد الجهل، وبعضهم يقول: العلم هو معرفة الشيء حقيقة على ما هو عليه، هذه أشياء لا ندخل فيها، ويقال: إدراك، والإدراك يحتاج إلى تفسير أيضاً، فما كان معلوماً بداهة لا يحتاج إلى تعريف. قال: (واعلم بأن الأمة) الأمة في اللغة تأتي بمعنى: الجماعة، وتأتي بمعنى: الرجل الفاضل القدوة كما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] ، فهو وحده كان أمة، وتأتي بمعنى: المدة من الزمن كما قال الله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] ، والأمة تطلق على جماعة، وتطلق على جميع المعاصرين فتشمل أمة الإجابة، وأمة الدعوة، والمراد بالأمة هنا: جميع الخليقة من بني آدم، قال: (واعلم بأن الأمة لو اجتمعت -أي: وتعاونت- على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) ، والعكس كذلك، (وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) ، فالأمة كلها لا تستطيع أن تنفع أو تضر إلا بما قدر الله، فهناك خطة مقدرة لن تخطئها، ما كان لك فسوف يأتيك، (وما أخطأك لم يكن ليصيبك) ، فالمقادير موجودة، والتقديرات سابقة، وتقدم معنا أن الله وكل بالجنين ملكاً، يكتب: عمره، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد، وقال الله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، وبعضهم يقول في تفسير قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] : النون: هي الدواة، والقلم هو قلم القدرة، وبصرف النظر عن هذا التفسير، فقد جاء في الحديث: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) ، أو (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب) ، على رواية الرفع يكون مبتدأ، أي: أول ما خلق الله من المخلوقات كلها القلم، وأولَ -بالفتح- تكون على الظرفية، أي: أول لحظة خلق الله فيها القلم قال له: اكتب، ومتى كان خلقه؟ لم يتعرض له سواء كانت على الابتدائية، أو كانت على الظرفية، فالله سبحانه أمره أن يكتب فقال: (ماذا اكتب؟ قال: كل ما هو كائن، إلى يوم القيامة) ، فجلوسك، وغمضة عينك، وحركة لسانك، وابتلاع ريقك، وأخذ نَفَسِك، وإخراج نَفَسِك، وحركة الذر في ظلام الليل، كل ذلك مكتوب قبل أن يوجد هذا العالم، فسبحان الله لا تخفى عليه خافية، فإذا كان كل شيء مكتوباً، فالأمة لا تستطيع أن تغير مما كتب الله شيئاً، ونذكر قصتين لنبيين كريمين، يتبين منهما أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء، لن يستطيعوا أن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك:

قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإلقاؤه في النار

قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإلقاؤه في النار أولاً: قصة خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كان يدعو بمفرده أمة إلى الله، وتحداها وحطم أصنامها، وأذلها، وسخر منها، وعندما سألوه عن ذلك قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] فقالوا: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65] إلى آخر الآيات، ثم أجمعوا كيدهم على أن يحرقوه، وذكروا أن الرجل منهم كان يوصي عند موته بجزء من ماله لحطب النار التي سيلقى فيها إبراهيم، {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:98] ، إبراهيم عليه السلام كان وحده في تلك الأمة، وأجمعوا على ضره، ولكن الله ما قدر عليه الضر، وهم قد جمعوا كل ما في إمكاناتهم، وعند إلقائه تحيروا كيف يلقونه في النار في الوقت الذي لم يكن أحد يقدر أن يقرب منها لشدة حرها، فجاءهم أستاذهم إبليس ورسم لهم خطة المنجنيق، فصنع المنجنيق ووضع إبراهيم فيه، وما بقي إلا أن يرمى، فجاءه جبريل عليه السلام يسأله: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ الوقت ضيق، ولا يوجد فرصة للكلام الكثير، فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، هذه أخصر برقية في العالم، (إليك فلا) ، (إليه بلى) ، (علمه بحالي أغنى عن سؤالي) ، وبعض الناس يعترض على هذه الجملة ويقول: إذاً: لا ندعو، ولا نسأل، فهذا غفل عن الظرف، والعرب من بلاغتهم يقولون: لكل مقام مقال، هل كان وقت إبراهيم متسعاً؛ لأن يقول: يا رب! يا رب؟! لا يوجد وقت، فهو رمي بالمنجنيق وصار في الهواء، وليس هناك وقت ليرفع كفه ويدعو ويستجير، ولو كان في الوقت متسع، فعليك أن تلجأ إلى الله، وتسأل الله، وتدعو الله، لعل القضاء والقدر معلق بسؤالك، قال الله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] ، لكن من الخطأ أن تكف عن الدعاء، قال الله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر:60] ، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، فالإعراض عن الدعاء إعراض عن الله، لكن إبراهيم لم يجد وقتاً للدعاء. هل ضرت تلك الأمة بجمعها إبراهيم؟! لا، مع أنهم فعلوا كل ما في إمكاناتهم، والعجيب -كما قال بعض العلماء- أن المولى يعلم بأنهم لن يصلوا إليه، ومكنهم من إيقاد النار، وما أرسل سحابة على قدر النار تمطر وتطفئ عليهم النار، ولم يجر سيولاً على النار، وما أنزل عليهم صواعق تهلكهم، وكل هذا في قدرة الله، لكن لم يقدره لتكتمل المعجزة، وتظهر الآية، وتكون لنا عبرة، فتركوا على مهلهم؛ جمعوا الحطب، وأتوا بآلة النفخ، فنفخوا حتى تأججت النار، حتى بلغ من شدتها أن الطير لا تستطيع أن يطير في سمائها، ثم أتوا بالمنجنيق، ففعلوا كل ما عندهم، ووصلوا إلى أقصى غاية في إمكاناتهم، ثم قال الله كلمة: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ، هل يوجد عقل للنار؟! هل في النار دماغ أو أذن تسمع به؟! لكن خالقها الذي أذن بتأججها وأعطاها القدرة على الاشتعال، سلبها القدرة على الإحراق بكلمة، فالآية تظهر حينما يأتي السبب، وينتفي المانع، ويقف الأثر، فالسبب موجود وهو النار المحرقة، وانتفى المانع، فلا ماء يطفئها، ولا هو لابس ثياباً ضد الحريق، وما عليه شيء من هذا، فما الذي منع النار أن تحرق إبراهيم بطبيعتها؟ ليس هناك مانع إلا قوله: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] . إذاً: لو أن الأمة اجتمعت على أن يضروك بشيء، لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وإذا لم يكن قد كتبه عليك فلن لم يستطيعوا أن يغيروا ما كتب الله، وها هو إبراهيم عليه السلام أنجاه الله من النار بعدما فعلوا ما بوسعهم وبعدما خمدت النار، نظروا إلى إبراهيم ليروا كيف حرق، ففوجئوا به حياً!! ولو كانت عقولهم سليمة لآمنوا، فهذه نار كبيرة ماذا كانت ستبقي من إبراهيم لو خلي بينها وبينه لن تبقي منه شيئاً، لكن عقولهم سخيفة فلم يؤمنوا!! يقول بعض العلماء في قوله سبحانه: (كُونِي بَرْدًا) حفظ من شدة البرد بقوله: (وَسَلامًا) ، ولولا هذا لكانت (كالفريزر) فيتجمد، فرحمه الله من بردها بسلام فقال: ((يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ((.

قصة محمد صلى الله عليه وسلم وكيد قريش له ليلة الهجرة

قصة محمد صلى الله عليه وسلم وكيد قريش له ليلة الهجرة ثانياً: قصة الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة الهجرة، كان وحده في بيته، فاجتمع على باب بيته عشرة رجال أشداء بسيوفهم ليقتلوه، وقد تآمرت قريش -كما علمنا- في دار الندوة، فقيل: نقتله، فقال بعضهم: لا تستطيعون، فقيل: نحبسه، فقال بعضهم: يفكونه، فقيل: نخرجه من مكة، فقال بعضهم: سيأتيكم بقوم فيحاربونكم، فكل الآراء تعارضت، ولكن الشيخ النجدي -وهو الشيطان- دخل عليهم، وقال: القول ما قال فلان، اجمعوا له عشرة رجال من القبائل، وأعطوا كل واحد منهم سيفاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم أن يحاربوا القبائل كلها، فيقبلون بالدية ويسكتون، فقريش كلها -والعرب تبع لأهل مكة- تآمروا واجتمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وحده، وجاءوا فعلاً بالفتية ومعهم السيوف على باب البيت، فالمولى سبحانه أرسل جبريل فقال: يا محمد! لا تبت في فراشك الليلة، سبحان الله العظيم! محمد وهو في بيته يدبره رب العرش، ويصرفه ويحفظه سبحانه وتعالى، وكان الله قادراً أن يرفعه من سقف البيت كما في ليلة الإسراء والمعراج، عندما كان في بيت أم هانئ مستلقياً على ظهره، فإذا بالسقف ينفرج وينزل منه ملكان، فيأخذانه إلى زمزم، فكان يمكن أن يأتي ملك واحد يأخذه من سقف البيت، ويأتي له بالبراق، كما أتي له به في الإسراء، لكن حتى في الهجرة ما أتي له بالبراق، بل خرج من بيته واختفى في الغار، لتكون آية ومعجزة، وتظهر قدرة الله، ولتكتمل المعجزة، وكان من الممكن أيضاً أن يلاقوا أسداً أو فحل إبل على باب بيته فيشردوا، وكان من الممكن أن تأتيهم الزلازل والقلاقل أو الحيات والعقارب فيشردوا، لكن تركهم الله يأتون ويصطفون بأكمل استعداد، ويخرج صلى الله عليه وسلم من نفس الباب، وهو يقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، فأعمى الله أبصارهم وزاد إمعاناً في إذلالهم أن أخذ التراب من تحت أقدامهم ووضعه على رءوسهم، ولو كان خرج من السقف، لقالوا: والله! هذا شيء ما نقدر عليه، والله! هذا من السحر الكامل، لعل الجن أتت معه، لكن لا، هم على ما هم عليه، وأنجاه الله من الطريق المعتاد من بين عشرة فرسان، ولا أحد منهم فتح طرفه ورآه وهو خارج، فهذا من الإعجاز الذي يبين قدرة الله، وما خرج وهو يجري، بل على مهله، وجعل التراب على رءوسهم واحداً واحداً، فبينما الخائف يجري خوفاً أن يلحقه أحد، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج وهو مطمئن القلب ومستقر الفؤاد، موقن بحفظ الله، وبرعاية الله، ويعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لن يضروه إلا بما كتب الله عليه، والله قد وعده بإبلاغ الرسالة. فلو أن الإنسان وقف عند هذه المسألة، وعلم علم يقين أن الأمة كلها لو اجتمعت على نفعه أو ضره فلن تقوى عليه لطابت نفسه، ولما توجه مازحاً ولا صادقاً في صغيرة ولا كبيرة لغير الله، وأي غنى، وعز، ورفعة، أعظم من أن تكون مرتبطاً بالله، فيما ترجو أو تخشى؟ وأي ملك واستغناء أن تشعر بأنك غني عن الناس كلهم غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم؟ لا، والله! لا يوجد أعظم من هذا.

الإيمان بالقدر خيره وشره يبعث في نفس المؤمن الطمأنينة

الإيمان بالقدر خيره وشره يبعث في نفس المؤمن الطمأنينة فالواجب على العبد أن يكون ربانياً، أي: مع ربه في علمه، وفي طاعته، وفي معرفته، وفي تعريف الناس بربهم، وبهذا يكون أسعد الناس، وأغنى الناس، وأقوى الناس، يسعد في دنياه ويرتاح، ما عنده هم، ولا عنده مذلة لأحد، ولا في عنقه منّة لأحد، فيكون دائماً مع الله سبحانه وتعالى، (وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) ، وإذا كان الله قد كتب على الإنسان شيئاً، فالمؤمن كل ما يقدره الله عليه هو خير له، كما في الحديث: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير: إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له) ، وهذا للمؤمن فقط؛ لأنه يعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، ولذا يقولون: إن ظاهرة التخلص من مشاكل الدنيا بالانتحار -عياذاً بالله- أقل ما تكون في المسلمين، وأكثر ما تكون في غير المسلمين؛ لأن الكافر لا يؤمن بقضاء الله ولا بقدره، فإذا أصيب في تجارة، أو أصيب بعاهة، أو أصيب في ولده، أو غير ذلك، فلا يجد أمامه إلا أن يهرب من الدنيا، أما المؤمن فيعلم أن هذا قدر الله عليه، فإن صبر عليه فله الأجر. يقول بعض العلماء: لو قيل: إن هذا الحديث نصف الإسلام، أو قال: هو الإسلام -لأنه يجمع للإنسان أطراف كل الفوائد والمعارف- لما كان في ذلك مبالغة.

معنى قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)

معنى قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف) ثم قال: (رفعت الأقلام، وجفت الصحف) ما هي الأقلام؟ A قال عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم) ، وهناك أقلام أخرى الله تعالى أعلم بها، وهل هذا هو قلم القدر الفردي أو قلم القدر السنوي أو قلم القدر العام الكوني؟ كل هذه أقلام جرت للإنسان، أما القلم العام الكوني، فهو القلم الذي أقسم الله تعالى به، وهو القلم الذي أمره الله أن يكتب كل شيء، وكتب كل شيء في اللوح المحفوظ، والعالم كله يجري على مقتضى ما كتب أولاً، يليه بعد ذلك من الأقلام العامة القدر السنوي، وهو ما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3-4] وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ومعنى: ليلة القدر أي: الرفعة والشأن، وقيل: أي: المقدار والتقدير، وقالوا: ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا مقادير السنة الجديدة، أو بمعنى أوضح: المنهج المختص للعالم في تلك السنة، فتطلع عليه الملائكة الموكلة به، وتنفذ ما في هذا القدر في هذه السنة إلى أن يأتيها نظام آخر. والقلم الثالث: هو الذي يجري على كل فرد فيما يخصه، وكل ذلك مما قدر الله، وقد قيل: (يا رسول الله! علام نعمل، على أمر قدر ومضى، أو على أمر مستأنف جديد؟ فقال: بل على أمر قد قدر ومضى، قالوا: فلماذا نعمل إذاً؟ -أي: ما دام الأمر مقدراً فلماذا نعمل؟ - فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، هل جاءك بيان بعملك؟ هل جاءك بيان بمصيرك؟ هل جاءك بيان بما يخصك؟ لا، بل جاءك كتاب من الله فيه أوامر ونواه، فعليك أن تمتثل الأوامر، وتجتنب النواهي، والنتيجة والنهاية إلى الله، ومن هنا أجابهم صلى الله عليه وسلم بقوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، والأمر خطير ومخيف، قال عليه الصلاة والسلام: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة، حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ومنكم من يعمل بعمل أهل النار، حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذارع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ، وتعرفون قصة الرجل الذي لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طريقه إلى الغزو، فأسلم ضحى النهار، ثم غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشهد في المعركة، ولم يكن قد صلى ركعة واحدة، وكان مآله إلى الجنة! إذاً: (رفعت الأقلام) عن الكتابة والتغيير، إلا ما شاء الله، (وجفت الصحف) ، وهل هناك صحف حقيقة؟ وهل هناك مداد؟ وهل هناك قلم؟ وهل هناك كتابة؟ العلم لله، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بالكتابة والصحف فنؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وبعض الناس يقول: هذا اللوح الذي يسع مقادير العالم من أولها إلى آخرها، ويسع الطيور في الهواء، والحيتان في الماء، وكذا وكذا، فكيف يمكن ذلك؟! فنقول: الآن جاء الكمبيوتر، وفيه رقائق يحمل السنتيمتر المربع منها أكثر من مائة صحيفة من كتاب، واكتشفوا أن عقل الإنسان في حياته كلها لا يملأ خمسة في المائة من مقياس حجم سعته لمعلوماته! فهذه أمور نردها إلى القادر سبحانه، ونؤمن بأن هناك أقلاماً، وأن هناك صحفاً، ونقول: إذا كان المولى -وهو العالم بكل شيء، والقادر على كل شيء- قد قدر، وكتب، وأملى ذلك، وأثبت ذلك في الصحف، فنحن في حياتنا يجب أن نكون منظمين، ولا نأتي بالأمور عفوياً وارتجالاً، فيجب أن يسبق العمل علم وتقدير، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

الحديث التاسع عشر [3]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [3]

ارتباط العبد بالله تعالى سبب لحفظ الله له

ارتباط العبد بالله تعالى سبب لحفظ الله له قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) وهذا محط الرحل، يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن يكون العبد مرتبطاً بربه؛ لأن جميع الكائنات في قبضة يده، وهو المسخر لكل شيء، فإذا سألت حاجة كبيرة أو صغيرة فسل خالقها ومالكها الذي يملك أن يوصلها إليك، وإذا كنت في حاجة إلى طلب المعونة -لأنك لا تستطيع أن تعيش وحدك، ولا تستطيع أن تهيئ لنفسك كل ما تحتاج- فاستعن بالله. وقد ذكرنا أن الآية الكريمة في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، جاءت بعد مقدمة تثبت ذلك وتستلزمه، فقوله: (الحمد لله) أي: الثناء بالجميل على الله سبحانه، (رب العالمين) فربوبية العالم ومصلحة العالم راجعة إلى الله، هو الذي خلق، ورزق، ودبر، وربى، فإذا كان هو رب العالمين، فأي شيء تسأله لا يخرج عن عالم من عوالم هذا الكون، فاسألها من رب العالمين، الذي ربوبيته، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ، وفي الآخرة هو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، فأين تذهب؟ وأين تتوجه؟ إذا كانت الدنيا لله وحده، كما قال سبحانه: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83] ، وإذا كنت في الآخرة فمرجعك إلى الله، وله الملك، وله الأمر، كما قال الله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ، فلا ينبغي لك أن تصرف وجهك عنه سبحانه وتعالى. ثم قال: (واعلم أن الأمة) . فقوله: (واعلم) أعاد ذكر العلم مرة أخرى؛ لزيادة التنبيه والتأكيد، (أن الأمة) ، جميع الخلق، ويمكن أن نتوسّع في معنى الأمة، فالأمة الجماعة، والأمة الزمن، والأمة الشخص القدوة، ويمكن أن يقال: العالم كله؛ إنسه وجنه وملائكته، فالأمة لو أرادت أن تصيبك بخير أو بشر لن يصلوا إليك إلا بشيء من الخير كتبه الله لك أو من الشر كتبه الله عليك. إذاً: المقادير بيد الله، والكائنات في قبضته، والأمر كله راجع إليه، فإذا كان الأمر كذلك فلمن تتوجه؟ لله؛ لأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بخير لن ينفعوك بخير إلا كتبه الله لك، وما قُدر لك لن يخطئك، وإن أرادوك بسوء لن يصلوا بهذا السوء إليك إلا إذا قدّره الله عليك. وقوله: (لن يضروك بشيء ... ) لن هذه أبدية، أي يضرونك بشيء إلا بشيء قد قدره الله عليك، وإذا كان مقدراً عليك فقدر الله ماضٍ، إلا إذا رفع بقضاء آخر، بدعاء أو فعل خير. الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اجتمع عليه أبوه وقومه ومعهم النمرود، على أن يجعلوه في النار ورموه بالمنجنيق، لأنهم عجزوا أن يدنوا من النار ويقتربوا منها لشدة حرها وعلو لهبها، فماذا كانت النتيجة؟ قال الله: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:98] ، فالمولى سبحانه الذي خلق النار، وسلطانها بيده، وهو الذي أعطاها خاصية الإحراق قال لها: ((كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) ، هل في العالم قوة تستطيع أن تسلب النار خاصيتها؟ لا يمكن، لكن قدرة الله فوق كل شيء.

قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون وجنوده في البحر

قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون وجنوده في البحر وفي تاريخ الأنبياء من المعجزات والدلائل ما يقنع العبد بأن كل أمر يأتيه أو يصرف عنه فإنما هو من عند الله، فبعد إبراهيم عليه السلام جاء نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، في وقت فرعون الذي قال الله عنه وعن قومه: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [الأعراف:141] ، وذلك: زيادة وإمعاناً في التنكيل؛ لأن النسوة إذا نشأن بدون رجال يحمونهن، يكن في أيدي العدو إماء وخدماً، ولو كان قتّل الجميع لكان أهون، لكن كان يستحيي النساء حتى يكن خدماً عنده وعند قومه، ويقتّل الأبناء حتى لا يدافعوا عن النساء، وفي تلك اللحظات يولد موسى عليه السلام، وتخاف عليه أمه، قال الله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] ، إذا خفت عليه فألقيه في البحر، ومن سيأخذه؟ {عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39] ، يا سبحان الله! هي خائفة عليه، وتعطيه لعدوه؟! قال الله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] ، سبحان الله العظيم! طفل رضيع يوضع في التابوت، ويلقى في اليم!! {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] ، فقصته أخته، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] ، يأتيهم عدوهم إلى بيتهم وهو طفل رضيع، وفرعون يتحدى العالم ويقتّل ويذبح، والله يتحداه بطفل رضيع يتربى في حجره، فضلاً عن أن يذبحه. !! فنشأ موسى وشب، وكان من أمره مع خصمه ما كان، فقضى عليه، وخرج خائفاً يترقب، ثم رجع إلى فرعون يدعوه إلى الله، وقال: {َأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:105] ، فقال: ألم تكن فينا وليداً، وربيناك؟ والآن جئتنا بدعوة، فماذا كانت النتيجة؟ خرج موسى عليه السلام -وهذا محل الشاهد- ببني إسرائيل، وأمره الله أن يسير حيث تسير السحابة في السماء، فإذا بالسحابة تسير به وتوقفه على شاطئ البحر، وإذا بفرعون من ورائه، فكان الموقف شديداً، وقال الذين مع موسى) إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (، البحر أمامنا، والعدو وراءنا، فأين نذهب؟ هل نطير في السماء؟ لا يوجد طيران، هل ننزل في الأرض؟ لا يوجد مغارات ولا شيء، {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، فأجابهم بسرعة بكلمة تزلزل الأرض: (كلا) ، لو توجهت إلى جبل لزلزلته، انظر إلى نطقها، ما قال: (لا) ، وما قال: (لا تخافوا) ، بل قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وهذه المعية الخاصة، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ، (تعرف إلى الله تجده تجاهك) ، قال: ((مَعِيَ رَبِّي)) ، وهذه معية النصر والتأييد، فماذا فعل ربه؟ هل أرسل ملائكة لتصد فرعون؟ لا، انظر إلى المعجزة، قال: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] ، ماذا تفعل هذه العصا؟! ما طولها؟ وما ثقلها؟ وما تأثيرها؟ ليس فيها تيار مغناطيسي، ولا فيها أدوات زائدة، عصا يتوكأ عليها، ويهشُ بها على غنمه، ولكن لا يعلم قدرها إلا الله، فضرب البحر، {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] يا سبحان الله! ماء لجاج تتلاطم أمواجه، ينفلق ويصير كل فرق -أي: طريق- كالطود شامخاً، وبين كل طريق حاجز، وينقسم بنو إسرائيل في تلك الطرق، ويمشون على أرض يابسة ما فيها لجة، فأرضية البحر جفت، فيمشون في قعر البحر، وفتح الله لهم منافذ ليرى بعضهم بعضاً حتى لا يخاف بعضهم على بعض، ويعرفون أن جماعتهم يمشون في نفس الطريق مثلهم، حتى خرجوا كلهم، وبهذه المناسبة نقول: الطغيان يعمي، والظلم يلهي، ففرعون طاغية، قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فيأتي إلى البحر، وهو يعرف البحر وطبيعته، ويجد موسى الذي كان يطلبه قد انشق له البحر، لكنه دخل ليدركه، لو أنه نظر بعقله لما دخل، لكن الله طمس بصيرته ليقضي أمراً كان مفعولاً، يا فرعون! رأيت البحر قد انفلق وهل في حياتك رأيت البحر انفلق؟! هل سمعت في التاريخ قبل هذا أن البحر انفلق؟! إنك لما رأيت آية عظمى كهذه أفلا ترعوي؟ ألا تنزجر؟ ألا تقف وتفكر؟ موسى الذي تطلبه أراك في تلك العصا الآيات الكبرى، فقد بلعت الحبال والعصي وأنت تنظر موسى يدعوك إلى الله موسى آمنت به السحرة الذين يعرفون حقيقة السحر، وهذا البحر صار طريقاً له، فهل بقدرة موسى أن يفعل ذلك؟! ألا تعلم أن هذا من عند الله؟! ولكن مادام فرعون متلبساً بطغيانه، فعماه مستمر، فخاض البحر وراء موسى، وحينما كان موسى خارجاً من الشاطئ الثاني؛ كان فرعون وقومه في وسط البحر، فهل بقي البحر كل فرق كالطود أم رجع إلى ما كان عليه؟ رجع البحر وهم في وسط ذلك الطريق، فغرقوا، قال الله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] ، ماذا فعل فرعون وقومه بموسى؟ ما استطاعوا أن يضروه بشيء؛ لأن الله كتب لموسى النجاة.

قصة غلام بني إسرائيل مع الساحر والملك

قصة غلام بني إسرائيل مع الساحر والملك وكما سخر الله لموسى البحر، وأنجاه من فرعون وقومه، نجد في قصة غلام بني إسرائيل مثل تلك العجائب، فكان بعض الملوك له ساحر يستخدمه أو ينبئه أو يخبره، فكبر هذا الساحر، فقال للملك: ائتني بغلام أعلمه ليكون محلي، فاختار غلاماً، فكان يأتي إلى الساحر فيعلمه، وحينما يرجع إلى أهله يمر براهب في صومعته، فسمع منه كلاماً يغاير كلام الساحر، فإذا بالراهب مؤمن برب وبإله سوى هذا الملك، فأعجبه كلامه، فكان يجلس إليه ثم يذهب إلى الساحر، فكان إذا مكث عند الراهب وجاء إلى الساحر متأخراً يضربه، ويسأله: أين كنت؟ وإذا رجع وجلس عند الراهب وتأخر على أهله ضربوه، وسألوه: أين كنت؟ فشكا ذلك للراهب فقال: إذا سألك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا سألك أهلك فقل: حبسني الساحر، ففعل ذلك وسلم من الضرب، وذات مرة سمع الراهب يسأل الله باسمه الأعظم، فقال: علمنيه؟ قال: لا ينبغي لك يا ولدي! قال: علمنيه فإني سأتبعك؟ قال: لا تقوى عليه، وفي يوم رجع إلى أهله فوجد دابة حصرت الناس، فأخذ حجراً وقال: اليوم أعلم هل الراهب أصدق أم الساحر؟ اللهم! إن كنت تعلم أن أمر الراهب حقٌ فاقض على تلك الدابة ليسير الناس، ورمى بالحجر، والناس كلهم محصورون، فقتل الله الدابة بالحجر الذي رماه الغلام، فعرف أن الراهب على حق، فذهب وتعلم أسماء الله من الراهب، وكتبها في أوراق، قيل: إنه ألقاها في البحر، فغرقت إلا واحداً، وقيل: ألقاها في النار فاحترقت إلا واحداً، وهو الاسم الأعظم، فجاء إلى الراهب وأخبره، فقال: يا بني! إذا عرفت الاسم الأعظم فإنك ستبتلى، وإذا ابتليت فاصبر، ولا تدلن عليّ أحداً، فذهب الغلام إلى جلساء الملك، فوجد رجلاً أعمى فقال: ألا تؤمن بالله، وأدعو ربي، فيشافيك؟! قال: ألك رب غير الملك؟ قال: نعم، الذي يملك أن يرد عليك بصرك، قال: فإني آمنت بربك فادعه لي، فدعا ربه فرد عليه بصره، وجاء يجلس عند الملك وهو يُبصر، فقال: عجباً، من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: وهل لك رب غيري؟ قال: نعم، دلني عليه الغلام، فدعا بالغلام وسأله يا غلام! ألك رب غيري؟ قال: نعم، الذي رد إليه بصره هو ربي، فزجره وقال: إنك غلام صغير، فأتي برجل أبرص وغيره من أصحاب العاهات في مجلس الملك، فدعا الله لهم، فعافاهم الله جميعاً، وأصر الغلام على أن له رباً غيره، وأن الملك مخلوق، فيئس من إرجاعه، فدعا زبانيته وقال: إن قتلته أمام الناس قالوا: هذا قتل غلاماً، فاذهبوا به في قارب في البحر، حتى إذا أبعدتم عن الشاطئ ألقوه في الماء وارجعوا، فذهبوا به، وحينما أرادوا أن يلقوه في الماء قال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فاضطرب القارب وغرقوا كلهم ورجع هو بسلامة الله، فجلس في مجلس الملك، فقال: أين أصحابك؟! قال: كفانيهم الله، فجاء بزبانية آخرين وقال: اذهبوا به، وألقوه من شاهق جبل، فذهبوا، فلما علوا القمة، قال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فاهتز الجبل واضطرب، يا سبحان الله! البحر يضطرب ويهتز ويبتلعهم، من الذي يقدر أن يهز الجبل؟! من يقدر على هذا؟! هو الله المولى سبحانه، ويأتي الغلام يمشي سالماً إلى الملك، ماذا فعل هذا الملك؟ ماذا فعل أولئك الزبانية؟ والله! لا شيء، وماذا كان يريد الغلام؟ كان يريد أن يعرف الناس أن لهم رباً خالقاً، فجعل نفسه فداء لدعوته فقال: أيها الملك! لا تتعب نفسك، إنك لن تسلط عليّ -غلام يتحدى ملكاً في ملكه وسلطانه- ولكن أدلك على شيء إذا فعلته قتلتني؟ والملك يريد هذا، فقال: نعم، فقال: عليك أن تجمع الناس في صعيد واحد، وتأتي إلى منصة وتضعني، ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتضعها في قوس وترميني به وتقول: باسم الله رب هذا الغلام، فإن فعلت ذلك فإني أموت، والملك مغفل؛ لأن الطغيان يعمي، ففعل ما قاله الغلام، ومات الغلام، وجميع من حضر قال: آمنا برب هذا الغلام؛ لأن الملك قال: باسم رب هذا الغلام، فألغى ربوبيته، وهو لا يدري! فآمن جميع الحاضرين، فقام الملك وخد الأخاديد، وأحرق المؤمنين في النار، وهي قصة الأخدود التي وقعت في اليمن.

قصة يوسف عليه الصلاة والسلام ونجاته من كيد إخوته

قصة يوسف عليه الصلاة والسلام ونجاته من كيد إخوته فالأمة لو اجتمعت على أن يضروا العبد بشيء لم يكتبه الله عليه لن يضروه، فإخوة يوسف ألقوه في غيابة الجب -أي: في جب بعيد، غائب كل ما فيه- فألقوه فيه إلقاءً، يا سبحان الله! صغير يرتع ويلعب ويرمى في البئر! لم ينزلوه فيه إنزالاً، بل رموه مرياً وإذا به يسلم، ثم كان من أمره أن آتاه الله الملك، ثم جاءه إخوانه يستغفرون عنده، ويطلبون منه العفو، فما استطاعوا أن يضروه بشيء.

قصة النبي صلى الله عليه وسلم يوم هجرته

قصة النبي صلى الله عليه وسلم يوم هجرته وقد ذكرنا قصة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه حينما أراد الهجرة، وما كان من أمر المشركين حينما تآمروا على قتله، وجمعوا عشرة رجال بسيوفهم على باب بيته، فجاءه جبريل عليه السلام -لأن الله يرعاه- فقال: لا تبت في فراشك الليلة، فنام علي رضي الله تعالى عنه في برده، وخرج صلى الله عليه وسلم أمامهم وسيوفهم في أيديهم، ولكن الله ألقى عليهم النعاس، وقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، فيخرج من بين أيديهم فلا يرونه، ويحجبه الله عنهم، ويمعن في إذلالهم فيأخذ التراب من تحت أقدامهم ويذروه على رءوسهم، ثم يتوجه إلى الغار، فيأتون إلى فم الغار، وهم يريدونه حياً أو ميتاً، وجعلوا مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، فيقفون على فم الغار، ويقول الصديق: (يا رسول الله! والله! لو نظر أحدهم إلى أسفل نعليه لأبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!) ، وقال الله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وهي مثل كلمة موسى عليه السلام: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) ولكن -وهنا لطيفة ننبه عليها- موسى عليه السلام قال: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) ، ومحمد صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فـ (نا) هذه للجمع، ومن هم الجمع الذين في الغار؟ أبو بكر مع رسول الله، فهذا يدل على فضل أبي بكر حينما شركه القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَعَنَا) ، فموسى كان معه أمة كاملة من بني إسرائيل، وكان معه أخوه ووزيره هارون، فقال القوم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، وأين يقين القوم من يقين موسى؟ وكان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، يقيه بنفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بالك يا أبا بكر! تارة تمشي أمامي، وتارة تمشي من ورائي؟!) ، وذلك لما خرجا من البيت في طريقهما إلى الغار، فقال: (يا رسول الله! أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون من ورائك، فقال: أتود لو كان شيئاً أن يكون فيك أنت؟ فقال: نعم، إن أهلك أنا أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) ، فـ أبو بكر كان يهتم بالرسالة، فكان جديراً بأن يشارك مع رسول الله في قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) . وخرج صلى الله عليه وسلم من الغار ومشى في الطريق، وأدركهم سراقة في الصحراء، وهم مكشوفون للعيان، فماذا كان من أمره؟ ساخت قوائم فرسه تسيخ، وسقط عنها عدة مرات، وإذا به يطلب الأمان لنفسه، ويكتب له أبو بكر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا سراقة! إذا أنت لبست سواري كسرى) ، أي: أنت جئت تطاردنا بعد أن رأيتنا خارجين من مكة، فأخبرني حينما ينصر الله دينه، ويعلي كلمته، وينتشر الإسلام، وتقطع رءوس أولئك الظلمة، (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى؟!) ، وكسرى كان اسمه يرعب العرب، وكانوا يخشونه أشد ما يكون، فـ سراقة يلبس سواري كسرى، وكسرى يقضى عليه، يقول بعض العلماء: كان يقينه صلى الله عليه وسلم بربه من أعظم اليقين، وهو شخص خارج في الصحراء على تلك الحالة، واثق بوعد ربه، حتى بلغ به اليقين أن يعد سراقة بسواري كسرى، وقد حقق الله ذلك، ففي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه فتحت المدائن، وجيء بلباس كسرى، فنظروا أي الرجال أطول ليروا عليه حلة كسرى؟ فنظروا في جميع الحاضرين فلم يجدوا أطول من سراقة، فجاء سراقة ولبس الحلة والسوارين، فقال له عمر: انزعها؟ فقال: لا انزع هذا اللباس! قال: لماذا؟ قال: أعطانيها رسول الله عليه الصلاة والسلام حينما خرج مهاجراً ولحقت به، فقال لي: (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى؟!) ، فضحك عمر وقال: هل قال لك: امتلكت، أو قال: (لبست) ؟ قال: (لبست) ، قال: ها أنت لبستها، فانزعها، وهذا من فقه عمر.

معنى قوله: (واعلم أن النصر مع الصبر)

معنى قوله: (واعلم أن النصر مع الصبر) هذا الحديث الجليل الذي يقول فيه بعض العلماء: لو قيل: إنه نصف الدين أو الدين كله، لكان حقاً؛ لأنه يربط العبد بربه بدون واسطة. ثم قال بعد ذلك: (واعلم أن النصر مع الصبر) ، يعلم الجميع أن الصبر هو أغلى خصلة يمنحها الله للعبد، ويقولون في الإحصائيات: الصبر ذكر في القرآن حوالي سبعين مرة، وجاء في السنة: (الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد) ، وفي الحديث: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) ، يقول علماء المنطق: نور مع نور آخر النسبة بينهما التشكيك، كما لو أشعلت عود كبريت في صحراء، وجئت بلمبة ألف شمعة، فهذا نور، وهذا نور، ولكن إذا نظرت وجدت أحدهما ضعيفاً، والآخر قوياً، فالنسبة بينهما التشكيك. قال: (الصلاة نور) وقال: (الصبر ضياء) ، الله سبحانه وتعالى لما ذكر الشمس والقمر قال: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5] ، فأيهما أقوى؟ الشمس أقوى، فالحديث جعل الصبر ضياء، وجعل الصلاة نوراً، والصلاة هي عماد الدين، فكيف يكون الصبر أكثر إشعاعاً، وأكثر إضاءة، وأكثر فعالية في قلب المؤمن؟! لأنك لو تأملت في التشريع كله من الأوامر والنواهي، لوجدت قوام ذلك كله على الصبر، قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ، فقدم الصبر {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، لولا الصبر لما توضأ أحد بالماء البارد في الشتاء وخرج من بيته إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحد على الحر في القائلة وخرج في الظهيرة إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحد على المال والنفس شحيحة، فأخرج جزءًا من المال وهو صنو النفس، ولولا الصبر لما حمل أحد سيفه في يد، والروح في اليد الأخرى، وقاتل الأعداء، ولولا الصبر لما صبر أحد على فعل طاعة، ولا صبر على ترك معصية، (فالصبر من الإيمان كالرأس من الجسد) كما في الحديث، وإذا فصلنا الرأس عن الجسد صار جثة نواريها. إذاً: النصر مع الصبر، وقيل لبعض شيوخ العرب: بما غلبتم كذا؟ قال: غلبناهم بالصبر، يقاتلوننا ونقاتلهم، ونفوز عليهم ونتميز بالصبر، وقالوا: (الشجاعة صبر ساعة) ، قال الله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] ، الصبر معه النصر، ويقول ابن القيم في بعض ما كتبه على هذا الحديث: الصبر على قتال العدو يجلب النصر، والصبر على النفس، يكون بالصبر على هواها، والصبر على مطالبها، والعوام عندهم مثل عجيب يقولون فيه: صبري على نفسي، ولا صبر الناس عليّ، فإذا كنت في فاقة تصبر على نفسك خير من أن تقول: يا فلان! اعمل معروفاً، وأقرضني واصبر عليّ؟ لا، ما دمت تستطيع الصبر فاصبر.

معنى قوله: (وأن الفرج مع الكرب)

معنى قوله: (وأن الفرج مع الكرب) ثم قال هنا صلى الله عليه وسلم: (وأن الفرج مع الكرب) ، الكرب هو: شدة الإيلام، وشدة الضيق في حياة الإنسان، لكن كلما اشتد الكرب كلما قرب الفرج، فما السر في هذا؟ لو تأملنا بعض القضايا لكشف لنا النقاب، فالمولى سبحانه قريب كما قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ، وقرب الله من عباده قرب خير وعطاء ونصر وعناية، ولكن (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) لو تساءلنا -وكل إنسان جرب في حياته- هل اتجاهك إلى الله في وقت سعتك وغناك وعافيتك كاتجاهك إلى الله في وقت الضيق والحرج والمرض أو هما سواء؟ لا، والله! حينما يكون الإنسان محتاجاً شديد الاحتياج، فليس عنده إعراض عن الله ولا حتى بمقدار شعرة، ولكن حينما يكون في غنى وفي سعة فيمكن أن يطغى كما قال الله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] . فتعرفك إلى الله في الرخاء -وأنت لست في ضيق ولا كرب- سبب لأن يعرفك الله في شدتك، وأنت لا تغيب عنه في كلتا الحالتين، ولكن يتعرف إليك بالإجابة. إذاً: عند شدة الكرب تكون قوة الإيمان، والإخلاص، وصدق التوجه إلى الله، وربك يحب منك هذا، وهو لا يريد منك شيئاً، فخزائنه ملأى، وعطاؤه كلام، لكن يريد من عبده صدق التوجه إليه، وثق بأنك إذا توجهت إلى الله بصدق فمهما كانت حاجتك فإنه يقضيها، فهو لا يخيب ظن عبده أبداً، وفي الحديث: (إن الله ليستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم يردهما صفراً) لكن لابد أن يكون مطعمه حلالاً، ومشربه حلالاً.

حسن ظن هاجر عليها السلام بربها عز وجل

حسن ظن هاجر عليها السلام بربها عز وجل أُمنا هاجر عليها السلام جاء بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومعها إسماعيل فوضعهما في وادي مكة كما قال تعالى عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] أي: ولا ماء، وإذا لم يكن عنده زرع ولا ماء، فلا أنيس عنده ولا ونيس، وكان معها سقاء من ماء، وقال: في أمان الله ومشى، فنادته: يا إبراهيم! لمن تدعنا هاهنا؟ قال: لله، قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فاذهب فلن يضيعنا الله! الله أكبر! نريد بهذا بيان اليقين الذي عندها من أول لحظة، فذهب إبراهيم، وانتهى الماء، وبكى ولدها، وهي امرأة ضعيفة في فلاة، ليس عندها طعام ولا شراب، وبكاء ولدها يحز في قلبها، فماذا تفعل؟ هل تقعد أمامه تبكي؟ لا، بل تقوم وتطلب وتسعى، فذهبت فلم تجد شيئاً، فنظرت إلى مكان مرتفع يكشف ما وراءه، فكان أقرب مرتفع عندها الصفا فصعدت عليه، ونظرت في الجهات الأربع فلم تجد شيئاً، فنظرت إلى مرتفع آخر، فكان من المروة أقرب مرتفع إليها، ومكة تحيط بها الجبال من كل جانب، وهي على جبل أبي قبيس، لكن كيف تترك ولدها وهو في بطن الوادي، فتريد أن تجمع بين الأمرين: رعاية ولدها، وطلب الماء له، فذهبت إلى المروة فتلفتت فلم تجد ماءً، وكانت إذا انصبت قدماها في بطن الوادي أسرعت لترتفع وترى ولدها، والمولى سيغيثها، وهي قد أعلنت قوة التوكل عليه: بقولها: (لن يضيعنا الله) ، فتركها المولى تسعى يميناً ويساراً، تصعد الصفا تارة وتصعد المروة تارة؛ وهي في كل مرة عندها أمل في الخلق، فكانت ترجو أن ترى إنساناً يمشي، لكن بعد سبع مرات من السعي، وبعد أن انقطعت آمالها من الخلق؛ وتوجهت بصدق إلى الخالق، فما كان إلا أن جاء جبريل وشق الصخرة، فنبع الماء، ولماذا لم ينزل جبريل من أول مرة؟ لأنه كان في قلبها تعلق بأسباب من الخلق، فتركها الله لتنظر ما يفعله بها الخلق، فجربت فلم تجد شيئاً، فلما يئست من الخلق، وأيقنت فعلاً بأنه لا مغيث لها إلا الخالق، كان توجهها إليه توجهاً صادقاً دون منازعة، ودون مشاحة، ودون مشاركة مع الخلق، فكانت إغاثة الله ليست لها وحدها، بل ولنا إلى اليوم، وإلى ما شاء الله، فهي عين نابعة يشرب منها الحجيج والعالم كله، وماؤها يصل إلى أنحاء المعمورة، ففي كل مكان يوجد ماء زمزم. وهكذا النفر الثلاثة الذين من بني إسرائيل، الذين آواهم المبيت إلى الغار، هل كان عندهم رجاء في الخلق؟ نزلت صخرة فسدت عليهم الغار، فهل كانوا يطمعون في أحد من الناس يأتيهم؟ هل كان يعلم بهم أحد؟ لا، أبداً، فهم يئسوا من الخلق من أول لحظة، فماذا قالوا؟ قالوا: ارجعوا إلى ربكم، ولينظر كل منكم ما كان بينه وبين الله من خبيئة سر، فيتوسل إلى الله بها، فحينما قام قائم منهم وقال: كان لي أجير. إلخ، وقام الثاني وقال: كان لي أبوان. إلخ، وقام الثالث وقال: كانت لي ابنة عم أحبها، إلى آخر الحديث، فهل كان قيام أحدهم يشوبه شائبة رياء مع أحد من الخلق؟ لا، والله! لأنهم أيقنوا بالموت، وعلموا يقيناً دون شك أنه لا ينجيهم مما هم فيه سوى الله، فلما حصل هذا اليقين منهم تحركت الصخرة شيئاً فشيئاً، ومن يقدر أن يزحزح الصخرة إلا بأمر الله. ودائماً نقول لمن جاء للعمرة أو الحج: في كل نسك من أنساك العمرة والحج آية وعبرة ومنهج، فسعيك بين الصفا والمروة تجديد اليقين مع الله، فإذا ناب العبد شيء، توجه إلى الله خالصاً مخلصاً قلبه لله، والله أقرب إليه من حبل الوريد، فلا شيء أقرب من فَرَج الله؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون.

معنى قوله: (وأن مع العسر يسرا)

معنى قوله: (وأن مع العسر يسراً) وقوله: (وأن مع العسر يسرا) ، هو كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين) ، يقول علماء البيان: النكرة إذا تكررت فهي متعددة، والمعرفة إذا تكررت فليست متعددة، قال الله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6] فاليسر هنا متكرر، وهو نكرة، والعسر معرف بأل، فيكون تكراره لا يستوجب تعدده، ولكن اليسر لما كان منكراً كان تكراره يقتضي تعدده، وبهذا يظهر لنا عظمة هذا الحديث، ومدى دلالته وآثاره، نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يملأ قلوبنا يقيناً بالله سبحانه وتعالى.

اليقين بما عند الله سبب لسعادة العبد في الدنيا

اليقين بما عند الله سبب لسعادة العبد في الدنيا وجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والله! لا يكمل ولا يتم يقين العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أقوى مما في يده، ويرد عند العوام مثل يقول: تضرب يدك، وتقسم لغيرك! فلعلها تكون في يدك وتستعصي عليك أو تأخذها في حلقك وتكون غصة وترجع، ولكن ما كان عند الله سوف يأتيك، وعائشة تقول ذلك عن تجربة، وعن عمل، إيمان ويقين، كانت صائمة، وعندها قرص شعير فقط، فجاء مسكين يقول: يا آل بيت محمد! مسكين بالباب، فقالت عائشة لـ بريرة: أعطي المسكين، فقالت: ليس عندي ما أعطيه، قالت: أليس عندك شعير؟ قالت: هو قرص واحد لك لتفطري عليه، قالت: أعطي المسكين، وعند الفطور سيرزق الله، فراحت بريرة تمشي خطوة، وترجع خطوة، كيف عند الفطور يرزق الله؟ ما أعجبها هذا الكلام، وفرق بين بريرة وبين عائشة، فأعطت المسكين وهي كارهة، وجاء المغرب ولم يأت رزق الله، فقامت عائشة تصلي، وقبل أن تفرغ من صلاتها، إذا بقارع يقرع الباب، وفتحت بريرة وأخذت ما أعطيت، ولما سلمت أم المؤمنين، فإذا بشاة بقرامها مشوية، والقرام هو الذي تلف فيه الشاة من العجين، وكل بقايا أجزاء الشاة كاملة، قالت: ما هذا يا بريرة؟! قالت: رجل أهداه إلينا، والله! ما رأيته يهدي إلينا قبلها قط، تعني: ما هي بحسب العادة، لكن حالة حادثة نادرة، لو كان ممن يهدي كل مرة، لقلنا: على حسب العادة، لكن هذا لم يأت من قبل أبداً، فأيقنت بريرة بما قالت أم المؤمنين، وقالت لها: يا بريرة! كلي فهذا خير قرصك، والله! لا يكمل يقين العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أقوى مما في يده، فأم المؤمنين كان يقينها فيما عند الله أكثر من قرص الشعير الذي عندها، وهذا الواجب على كل مسلم؛ لأن الذي عند الله محفوظ، والذي في يدك غسؤ محفوظ، والله سبحانه أعلم. أسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الإيمان واليقين، وأن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا وإياكم حسن التوكل عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) ، ما عندها زراعة، ولا مستودع، ولا تجارة، ولا شيء، ولكن تتوكل على الله سبحانه وتعالى. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحديث العشرون

شرح الأربعين النووية - الحديث العشرون

شرح حديث: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى.

شرح حديث: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ... ) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري -قيل: البدري: لأنه سكن بدراً- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري.

إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق

إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناسُ) بالرفع، ورواية أخرى بالنصب: (إن مما أدرك الناسَ) وفاعل (أدرك) في الأولى: الناسُ، وفي الثانية: ما حُكي من كلام النبوة الأولى. ومهما يكن فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن من كلام النبوة الأولى ما أدرك الناس أو أدركه الناس -أي: في زمنه صلى الله عليه وسلم- ومن هذا الكلام هذه العبارة: (إذا لم تستح) قيل: بحذف الياء وبإثباتها؛ لأنها إما من الحياء، وإما من الاستحياء. الحيا: ضد الموت، والحياء: هو الخلق والغريزة، فمن أثبت ياءً يكون حذف الياء الأخرى: استحييتُ، ومن أثبت الياء يكون حذف الياء الأولى لحرف الجزم (لم) ، ومن حذف الياءين ولم يثبت شيئاً (من الحياء) . وقوله صلى الله عليه وسلم هنا يشعر بارتباط النبوات كلها، وأن مما وصلنا وأدركناه من ذاك الكلام مما لم يُغير أو يُحرف أو يُبدل هذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم. ومن جانب آخر: الحديث في جملته حثٌ على الحياء، وهو عند العلماء من أعلى الأخلاق ومكارمها وذروتها، مما يُعطي لنا دلالةً واضحة أن مكارم الأخلاق قدر مشترك بين النبوات وبين جميع الرسالات، ويؤيد هذا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) هناك مكارم أخلاق في الرسالات الأولى، وهناك مكارم أخلاق جاء بها الأنبياء المتقدمون، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء يتمم ما جاء به من قبله. وإذا نظرنا إلى هذا الحث الشديد منه صلى الله عليه وسلم على لزوم الحياء وهو قمة الأخلاق نجد أن أهم ما في سلوك المسلم وأهم ما في تعاليمه هو مكارم الأخلاق، ولذا المولى سبحانه مع تكريمه لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم بكل أنواع التكريم حينما وصفه سبحانه في ذاته، وصفه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . وهكذا يقول العلماء: من كرمت أخلاقه، وحسن سلوكه، ربما ترك المعاصي حياءً من الله. ومن الناس من لم يعص الله مروءةً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) يعني: يترك عصيان الله حياءً من الله، وقد يترك المعصية مروءةً وإباءً، كما جاء عن هند عند بيعة النسوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزنين) ، قالت: (يا رسول الله! أوتزني الحرة؟!) تستبعد وتستنكر، ولا يخطر في بالها أن الحرة الأبية ترضى أن يعلوها رجل غير بعلها!. إذاً مكارم الأخلاق هي حفاظ الأمم والأفراد. إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ودريد بن الصمة في أول ظهور النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ولده من الطائف، وقال له: انزل إلى مكة واسمع من هذا الرجل الذي يذكرونه، واعقل لي ما يقول، فذهب ورجع وقال: يا أبت! إنه يأمر بالصدق في الكلام، وبصلة الأرحام، وبإطعام الطعام، وأداء الأمانة، وكذا وكذا، فقال: يا بني! إن لم يكن ديناً فهو من مكارم الأخلاق. إن لم يكن ما يقوله ديناً بعث به من الله ووجب اتباعه عليه طاعة لله فهو مكارم أخلاق لا يعيبها العقلاء، وجميع الأديان مما وصل إلينا تدعو إلى تلك الأخلاق الفاضلة، كما اتفقت جميع الديانات على الحفاظ على الضروريات (الكليات) الخمس: الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال.

الحياء شعبة من شعب الإيمان

الحياء شعبة من شعب الإيمان وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) يقول العلماء على سبيل الإجمال: هذا الحديث يدل على أحد أمرين: الأمر الأول: إذا أردت أن تعمل شيئاً فانظر هل هذا العمل يستحى منه عند الناس أم لا؟ فإن كان لا يستحى منه عند الناس فاصنعه، أي: أنه حسن وليس قبيحاً، وهذا الوجه ضعيف. الأمر الثاني: (إذا لم تستح) أي: إذا فقدت الحياء، وإذا لم يكن عندك هذه الخصلة وهذه الغريزة وهذا الخلق الفاضل، فحينئذ لا عليك، كأنه يقول: إذا لم يستح فحينئذ كل شيء لا يستنكر منه. وجاء في حديث -وإن كان ضعيفاً-: (إن الله إذا أراد هلاك عبد نزع منه الحياء فلا تلقاه إلا مقيتاً ممقتاً أو بغيضاً مبغضاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً نزع منه الأمانة، وإذا نزع منه الأمانة فلا تلقاه إلا خائناً مخوناً، وإذا أصبح خائناً مخوناً نزع منه الرحمة، فإذا نزع منه الرحمة أصبح غليظاً مغلظاً، وإذا أصبح غليظاً مغلظاً نزع من رقبته ربقة الإيمان فلا تراه إلا شيطاناً ملعنا) وإن كان الحديث ضعيفاً إلا أنهم يذكرونه في بيان نتائج عدم الحياء. إذاً الحياء هو رداء الكمال في الإنسان، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان) ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ينصح أخاه في الحياء يقول: أنت كثير الحياء وتترك العمل، كثير الحياء ويترتب عليه كذا، فقال له صلى الله عليه وسلم: (دعه! إن الحياء لا يأتي إلا بخير) وفي رواية: (الحياء خير كله) . نعلم الحديث العام: (الحياء بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) والحياء شعبة من بضع وسبعين شعبة، إذا نظرنا إلى آثاره في العبد فما هي؟ ويقال في علاقة الحياء بالإيمان: إن حقيقة الحياء في العبد أول ما يجب عليه أن يكون أشد حياءً من الله، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله! إننا لنستحيي، قال: ليس ذاك، لكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن يذكر الموت والبلى) فإذا حفظ الرأس وما حوى، فماذا يحفظ في الرأس؟ يحفظ العين من أن تنظر إلى محرم، ويحفظ الأذن من أن تسمع إلى محرم، ويحفظ اللسان من أن يغتاب أو يكذب أو يتكلم بمحرم، أو يتناول طعاماً محرماً أو شراباً محرماً، فإذا حفظ الرأس بما فيه من أعضاء، وحفظ البطن وما حوى، وهذا كناية عما يتبع البطن مما فيه من اتصال غير مشروع، وهكذا، ويذكر الموت والبلى، وإذا تذكر الموت والبلى، وحفظ جوارحه من المعاصي فإنه حقاً يعيش على حذر مما بين يديه، وإذا تذكر الموت وما وراء الموت عمل لليوم الآخر. ومن هنا كان الحياء شعبة من الإيمان، ولذا جاء في الحديث المتقدم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وجاء في الحديث عند الترمذي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم الوصية فقال: (استحي من الله أشد مما تستحي من ذي المروءة من قومك) وقالوا: معنى ذلك: حقيقة الحياء من الله أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفتقدك حيث أمرك، أمرك بالصوم فلا يفتقدك في الصيام، وتكون متفلتاً مع المفطرين، أمرك بالصلاة فلا يفتقدك عندما يقول المؤذن: قد قامت الصلاة، نهاك عن السرقة، نهاك عن أكل مال الناس بالباطل فلا يراك تهتك الستر وتسرق المال، فلا يراك تغش وتدلس، وغريمك جاهل ومسكين لا يدري عن طرقك، أمرك بوفاء الكيل ونهاك عن تطفيفه، فإذا جاءك رجل لا يعرف شيئاً إذا بك تستغل غشامته وجهالته، وتطفف الكيل وتبخس الوزن، ونسيت أن عليك رقابة من الله.

حقيقة الحياء من الله تعالى

حقيقة الحياء من الله تعالى حقيقة الحياء من الله: مراقبة الله، وكما قالوا: أشد ما يكون الحياء لكي تشعر بذلك -كما ذكروا عن الجنيد رحمه الله- أن تتذكر نعم الله عليك، وتنظر شكرك لنعم الله، فإذا تذكر العبد ما أنعم الله به عليه أولاً في ذاته، نعمة بصره، ونعمة سمعه، ونعمة ذوقه، ونعمة نطقه، ونعمة شمه، ونعمة بطشه وحركته، وكل ما أنعم عليه بذلك، فلينظر هل أدى شكر تلك النعم أم أنه قصّر في شكرها؟ بل إنه تجاوز التقصير واستعمل نعمة الله في معصية الله. أول ما يكون الحياء أن تعترف بنعم الله عليك، وتقدرها في نفسك، وتعظم عطاء الله عندك، ثم بعد ذلك تفكر فيم صرفت هذه النعم، هل هي في طاعة الله، أم في معصية الله؟ وكما جاء الحديث: (أنا والملأ في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد) . إذاً: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) إذا أردت أن تفعل شيئاً هل هذا الفعل قبيح يستقبحه الناس، وصاحب المروءة والإباء يستحي من الناس أن يفعل ما ينكرونه عليه؟ إذاً الحياء يرد الشخص، فإذا نزع منه قناع الحياء لم يبق فيه خير، فربما الحيوانات تكون أشد امتناعاً منه. وعلى هذا يكون هذا الحديث كما قيل: يشمل جميع تعاليم الإسلام؛ لأن تعاليم الإسلام إما أمر بفعل واجب أو مندوب، أو نهي عن أمر محرم أو مكروه، وإذا كنت تفعل شيئاً محرماً أو مكروهاً هذا فعل يستحى منه، فإذا كنت لا تستحي فإنك ستفعل كل ما حرم الله وتقصر في كل ما أوجب الله عليك.

قوله: (فاصنع ما شئت) للتهديد

قوله: (فاصنع ما شئت) للتهديد قوله صلى الله عليه وسلم: (فاصنع ما شئت) هل هو للإباحة في أن يصنع كل شيء؟ لا، إنما هو على سبيل الوعيد والتهديد كما في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] باختياركم! الذي يريد أن يؤمن فلنفسه، والذي يريد أن يكفر فعلى نفسه ومآله إلى النار، هل هذا تخيير أو تهديد؟ يكون تهديداً.

الحياء فضل من الله وهبة

الحياء فضل من الله وهبة وهنا مبحث يبحثه علماء الأخلاق والشريعة، فعلماء الأخلاق يقولون: ما هو الحياء؟ وهل هو مكتسب أو موهوب؟ ومعنى (مكتسب) : يتخلق به الإنسان حتى يصبح خلقاً له، أو موهوب هبة من الله، والتحقيق في ذلك أن أصله هبة من الله، ولكن العبد يزكيه وينميه باكتسابه، أي: بالحفاظ عليه وبالتأدب والتعلم. وأكثر خصال الأخلاق هبة من الله، وفي الحديث: (عودوا أبناءكم البر فإن البر عادة) إذا لم يكن خُلقاً للإنسان وأخذ يتعود عليه انطبع فيه، كأن يكون إنساناً بخيلاً فإذا جاء وعاشر كرماء وتعود منهم البذل قد يجاريهم مجاملةً وحياءً، ثم مع طول الزمن يصبح كريماً مثلهم، وهكذا الشخص قليل الحياء إذا خالط من هو أشد حياءً منه وعاشر من هو أحسن منه، فقد يجامل ويكتسب الخلق مع طول الزمن فيصبح الحياء خلقاً له. وهكذا لما جاء وفد عبد القيس إلى المدينة بادروا بالإسراع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا رواحلهم وأوعيتهم وأمتعتهم، وكان أميرهم أشج عبد قيس وكان رجلاً عاقلاً كيساً، تأنّى وقام على رواحل القوم وعقلها، وقام على أمتعتهم وجمعها وحفظها، وجاء إلى عيبته وأخرج ثياباً نظيفة وغيّر ثياب السفر، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب حسنة يمشي بتؤدة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أفسح له بجواره، وقال: (هاهنا يا أشج!) وهم معذورن؛ لأنهم يمشون مسيرة شهرين على أمل أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا المدينة ما طاقوا صبراً حتى أسرعوا للقاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعقله وحلمه وصل والحمد لله، فأفسح له صلى الله عليه وسلم بجواره وقال: (ها هنا، ثم قال: إنك رجل فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله! خلق تخلقت به أم جبلة جبلني الله عليهما؟) سؤال لطيف، هل هذا خُلق اكتسبته بالتخلق والتعود وأدب قومي إليّ أو جبلة جبلني الله عليها؟ قال: (بل جبلة جبلك الله عليها، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله) . ولذا أيها الإخوة! مما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن أعطيات الله لخلقه جميعاً على قدر المساواة) الله سبحانه وتعالى ما أعطى مخلوقاً أكثر من مخلوق، كيف وفيهم الغني والفقير؟ قال: لا. إن الأخلاق أرزاق، فإذا منح إنساناً غنىً بمال ولم يمنح الآخر قد يعوض ذاك قليل المال وافر الأخلاق، ولذا في الحديث هناك في Q (مرني بأمر يا رسول الله! يدخلني الجنة، أو بعمل يدخلني الجنة، أو يحبني الله ورسوله، قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس، واستغن عمن شئت تكن أميراً، واحتج لمن شئت تكن أسيراً) الشخص إذا كان مولعاً بشيء لا يستطيع أن يستغني عنه، وإذا افتقد ذلك الشيء كان أسيراً له، قل أو كثر مهما كان، وإذا استغنى عن كنوز العالم واستغنى عن الملوك كان ملكاً بينهم. إذاً: الغنى بالمال أمر نسبي، ولذا يقول علي رضي الله تعالى عنه: لو نظرت في أعطيات الله لعباده لوجدتهم متساوين، إن نقص على هذا في ماله زاد في صحته، وإن نقص في صحته زاد في عياله، وإن نقص في عياله زاد في هدوء باله وعقله وحلمه وطمأنينته، وإن نقص من هذا أو ذاك زاد في توفيقه لعمل الخير، ولو جمعت كل ما أعطى الله العبد بجميع معانيه وجمعت غير ذلك في غيره لوجدتها متقاربة. إذاً: الأخلاق أرزاق، فكما يرزق الله العبد مالاً وفيراً، كذلك يرزق العبد خلقاً واسعاً، وكما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم) قد تسع الدنيا كلها بمكارم أخلاقك، تلقى كل واحد بوجه طلق، وتخاطبه بأسلوب حسن، وتعده خيراً، فيتقي منك بذلك، ولو أردت أن تُعطي جميع الناس وترضيهم من مالك لعجزت عن هذا. يذكرون عن معاوية رضي الله تعالى عنه: (أنه جاءه أعرابي وقال: يا أمير المؤمنين! صل الرحم الذي بيني وبينك، قال: أنت لك رحم معي؟ قال: نعم، قال: وأي رحم هذه؟ قال: من آدم وحواء -رحم آدم وحواء يجمع بيني وبينك ألسنا كلنا من حواء وآدم- قال: نعم، والله إنه لرحم كريم وحق له الصلة أبشر، وأخذ وكتب لخازنه كتاباً ودفعه إليه وقال: اذهب إلى بيت المال يعطيك صلة الرحم، فذهب ومعه خطاب من أمير المؤمنين، فلما فتح الخازن الكتاب قال: مرحباً، وجاء وأعطاه درهماً واحداً، قال: عجيب! أمير المؤمنين يصل رحمه بدرهم! قال: هذا خطاب أمير المؤمنين، قال: أعطني الكتاب، أخذ الكتاب ورجع إلى معاوية، قال: يا أمير المؤمنين! تصل رحمك بدرهم واحد! وقال: يا أخا العرب! والله لو وصلت هذه الرحم التي بيني وبينك لجميع الناس ما بقي في بيت المال درهم) فهل معاوية يستطيع أن يصل الناس بالمال؟ لا يستطيع، ولكن بكلمة طيبة قد يسعهم، وكما قال: (لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انفصلت، إن شدوا أرخيت، وإن أرخوا شددت) ، الملاينة في المعاملة، والمجاملة في المعاملة، وليس من باب النفاق ولكنه المجاملة والمسايرة وفرق بينهما بعيد.

الحياء كله خير إلا ما استثني

الحياء كله خير إلا ما استثني علماء الشريعة يقولون: الحياء خير كله إلا في مسائل، وهي: إن هناك من الأمور ما ينبغي ألا يتركه الإنسان ولا يقول: أستحي أن أفعله، فإذا رأى منكراً من شخص وله مقومات تغيير المنكر، وعلى ما بيّن صلى الله عليه وسلم باللسان لمن يقدر على ذلك، وبالقلب لمن لا يستطيع هذا ولا ذاك، فإذا رأى منكراً ورأى إنساناً ذا هيئة يقول: أستحي أن أكلمه، ليس هذا محل الحياء ولكنه الضعف، وكذلك قالوا في طلب العلم كما جاء في الأثر: إن ديننا هذا -يعني العلم- لا ينفع فيه أمران: الحياء والكبر، ولذا قالوا: اثنان لا يتعلمان أبداً: مستحٍ ومتكبر، يتكبر أن يسأل فلا يحصل على علم أبداً. ولذا روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (نِعمَ النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن في أمور دينهن) . وهكذا كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، له صاحب قال له ابن عباس: هلمّ نجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كثر بالمدينة، قال: أترى أن الناس يأتي عليهم وقت ويحتاجون إليك يا ابن عباس؟! يقول ابن عباس: فترك ومضيت) . وجاء عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يجمع بين الأمرين، الحياء بتوقير العلماء، والحياء في ترك السؤال فيما يحتاجه، وذلك في موقفين: الموقف الأول: يقول: (إنه رأى رجلاً سمع عنده حديثاً لرسول الله، وخرج الرجل من المسجد بعد صلاة الظهر، يقول ابن عباس: فتبعته واستحييت أن أوقفه في الطريق، ومضيت خلفه لعله إن وصل بيته يلتفت وراءه فيراني، قال: فولج البيت ولم يلتفت ورد الباب، فجلست عند الباب أنتظر خروجه أو خروج صبية له، فلم يخرج أحد، وأخذ التراب يسفي عليه فتغطى بردائه، إلى أن خرج الرجل لصلاة العصر، فوجده فقال: ابن عباس ابن عم رسول الله على باب بيتي! هلاّ آذنتني فأتيتك، قال: العلم يؤتى إليه ولا يأتي، ما حاجتك يا ابن عم رسول الله؟! قال: حديث سمعته عنك هو كذا وكذا، قال: نعم) . الموقف الثاني: يروي الذهبي في ترجمة زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: (أنه ركب ذات يوم وجاء ابن عباس رضي الله تعالى عنه فأخذ بركاب زيد، فقال زيد: تنح يا ابن عم رسول الله! عن الركاب، قال: هكذا أُمرنا أن نعمل مع علمائنا، فقال زيد: أخرج يدك يا ابن عباس! فأخرج يده فأخذها زيد وقبلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل مع آل بيت رسول الله) . يهمنا في هذا توقير ابن عباس للعلماء، وهكذا طالب العلم وجب ألا يستحي في طلب العلم، ولكن مع توقير العلماء وليس مع تجهيلهم، أو قصد إظهار عجزهم، ولا الإتيان بالمعضلات والألغاز، لا، إنما يريد العلم والاستفادة ويحصل على ما حصل عليه هذا الشيخ أو ذاك. وهكذا أيها الإخوة! يتبين لنا من هذا الحديث على إيجازه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعطي من جوامع الكلم، وما أعطي من مكارم الأخلاق في هذا الحديث الموجز: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) وقالوا في حقه صلى الله عليه وسلم: لقد كان في الحياء الغريزي أشد حياءً من البكر في خدرها، وفي الحياء المكتسب -أي: مع الناس ومعاملات الناس- ما سئل شيئاً إلا وأعطاه حياء من أن يمنع، أما إذا رأى انتهاك حرمات الله غضب لذلك، ولا يقبل لأحد كلاماً في هذا، وهذا هو المقياس في هذا الحديث وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الخجل والحياء

الفرق بين الخجل والحياء Q ما الفرق بين الخجل والحياء؟ A أقول: يا إخوان! وخاصة طلبة العلم من أراد أن يعرف حقائق مفردات الأخلاق فليرجع إلى ابن مسكويه في كتابه: فلسفة الأخلاق. الخجل والوجل متضادان؛ الوجل الخوف، والخجل الحياء من كل شيء، والأكثر ما يكون للنساء، ولذا الخجل للرجال ليس ممدوحاً، بخلاف الحياء، فإنه من الغرائز والأخلاق الفاضلة. فالحياء يمكن أن يراعي فيه الإنسان الإقدام والإحجام، ولكن الخجل لا يتملك المرء فيه، والحياء قابل للمقياس العقلي، أما الخجل فلا يقبل ذلك، فالشخص الخجول -كما يقولون- هو أشد ضعفاً من الشخص الذي يقال فيه حيي؛ لأن الذي يستحي يأتي في أوقات وهو أشد ما يكون قوة وجرأة، بخلاف الذي يخجل، الخجل ضعف شخصي ولكنه في النساء كمال. إذاً: هناك فرق بين الخجل والحياء فيكون دقيقاً جداً وهو: أن الخجول لا يملك من نفسه تصرفاً، ولكن الحياء صاحبه قد يستحي ويقف عند حيائه، وقد يتخطى حواجز هذا الحياء فيما هو واجب عليه، والله تعالى أعلم. فالذي أشرنا إليه أن الحياء قسمان: قسم مذموم وقسم ممدوح، وأشرنا إلى أن المذموم هو الذي يمنعك من فعل واجب عليك. فبعض الناس يخرج عن بلده ويأتي إلى بلد غير مسلم ويرى الساعة في يده، ويعلم أنه قد حان وقت الصلاة، وهو عنده زملاؤه في منتزه أو في بيت أو في مكان وعنده الآخرين يستحي أن يؤذن ويقيم ويصلي، لماذا؟ سمعنا بمن يفعل هذا، وأي شيء هذا! يقول: أستحي، يا سبحان الله! تستحي أن تؤدي حق الله؟ قد تكون صلاتك هذه أقوى فعالية مما لو وقفت محاضراً أسبوعاً كاملاً. وكذلك يدخل المطاعم نحو ذلك، وتقدم له الأطعمة والأشربة ويستحي أن يمتنع مما حرم الله، يخشى أن يُقال: متخلف! رجعي! يا سبحان الله! إذا تمسك الإنسان بدينه يقال: متخلف ورجعي! نعم رجعي عن هذا التيار الفاسد. ومن عجب أيها الإخوة! أن أولئك القوم إذا وجدوا مسلماً متمسكاً بدينه وامتنع عن تلك المحرمات تديناً كان أعظم ما يكون في نفوسهم. وبالمناسبة كنا مرة في رحلة على طائرة فرنسية في إفريقيا مع الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، وكان مدة الرحلة ثلاث ساعات، فأقلعت قبل الفجر بربع ساعة، والمدة ثلاث ساعات، معنى ذلك ستنزل بعد طلوع الشمس، وكنا متوضئين، فقلت للشيخ: ماذا نفعل؟ أنتم المالكية تقولون: لا تصح الصلاة إلا على شيء متصل بالأرض، أتترك الصلاة في الطائرة؛ لأنها غير متصلة بالأرض أو تصلي الآن على خلاف المالكية؟ قال: لا، أصلي وأنا على مذهب المالكية، قلت: كيف؟! قال: إن الطائرة متصلة بالأرض بواسطة الهواء؛ لأن الفراغ الذي بينها وبين الأرض مملوء بالهواء والهواء هو الذي يرفعها، فقلت: الحمد لله! هل نؤذن؟ قال: يكفي أن نقيم الصلاة، فقمنا نصلي عند الباب، ولما رأونا وهم فرنسيون عند باب الطائرة وهي كبيرة جاءوا حالاً بالفراش الذي يتغطى به الركاب وفرشوه لنا، وصلينا الصبح جماعة، ثم جاء وقت الإفطار فإذا بما قدموه شكل غريب، وليس فينا من يحسن الإنجليزية إلا بعض الكلمات، فسألنا أحدهم، فإذا هو لحم الخنزير فقلنا له: خذه، فقال: مسلم! فقلنا: نعم، فأصبح خجلاً من نفسه، وفي أقرب وقت جمع كل الأطعمة التي أمامنا كلها وذهب بها، وجاء بفطور جديد ليس فيه ميتة، فهل نستحي ونأكل لحم خنزير أمامهم؟ هل نستحي ونترك الصلاة؟ لقد كان أداء صلاتنا تلك، وامتناعنا عن ذاك الطعام خيراً عظيماً، يقول الشيخ رحمه الله: هذا الموقف مكننا من العمل بآية من كتاب الله بين السماء والأرض: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] فهل نقول: استحينا ونقول: مسلمين ونأكل؟ يعني: إذا وقع لبعض الأشخاص ظرف ما أمام زملاء أو أمام أصدقاء أو أمام غرباء، فإنه يأكل ويشرب ويستحي منهم، تستحي من الناس ولا تستحي من الله! سبحان الله العظيم! وهناك أشياء عديدة من هذا القبيل لا ينبغي للإنسان أن يقول: استحيت، لا والله ليس حياء ولكنه خور وضعف. إذاً: الحياء منه المذموم ومنه الممدوح، الحياء الممدوح أنك تستحي أن تأكل وأنت تمشي في الطريق، ما الذي منعك؟ الحياء، ويذكر بعض العلماء أن شخصاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب ماء يشرب، فستره النبي صلى الله عليه وسلم حتى يشرب، قالوا: (ما هذا يا رسول الله؟! قال: هؤلاء قوم يستحون) إلى هذا الحد، وكان يوجد جماعة في موريتانيا أو في أفريقيا لا يأكلون أمام الناس، ويقولون: الذي يأكل أمام الناس هذا (دهنيس) ، الذئب هو الذي يأكل أمام الناس، أما الآدمي الذي يأكل أمام الناس ويرونه فهذا ليس من المروءة، قد يكون هذا الأمر زائداً عن العادة، لكن العلماء رأوا بأن الشخص إذا كان لا يبالي بصغار الأمور قد يتدرج إلى كبارها، وإذا كان يستحي من صغارها ما يمكن أن يعمل الأشياء الكبار، الآن لو في جيبك تفاحة تقدر تخرجها وتأكلها أمام الناس! هل هو حرام، سواء كانت حارة أو مرة أو مالحة؟ لا، ما الذي يمنعك أن تأكلها أمامنا الآن؟ الحياء، فهذا هو الحياء الممدوح، ويكفي هذا القدر في بيان الحياء الممدوح والحياء المذموم، والله أعلم.

الفرق بين المجاملة والنفاق

الفرق بين المجاملة والنفاق Q ما هو الفرق بين المجاملة والنفاق؟ A هناك كتيب لـ ابن رجب يتحدث عن هذا الموضوع، والمجاملة والنفاق قضية كانت أثيرت في عام (71م) في النادي في الرياض، والحقيقة أن بين المجاملة والنفاق شعرة، فالمجاملة هي: أن تفعل شيئاً قد لا يكون في مرادك، والنفاق: هو أن تظهر خلاف ما تبطن، ولكن النفاق لؤم وخسة وضعف في المنافق؛ لأنه عجز أن يظهر ما في باطنه، ولكن المجاملة قد تكون مع القدرة ومع السعة، وتكرم من لا تريد أن تكرمه، لكن تكرمه كرماً منك أنت، تنظر إلى مكارم أخلاقك أنت لا إلى ما يستحقه هو. إذاً: المجاملة تكون في موقف القوة والقدرة، وتجامل من هو أضعف منك، أما النفاق فيكون مع الضعف واللؤم، ومع إرادة المضرة، وفرق بينهما -كما قلت- كالشعرة، فالمؤمن يجامل لكن لا ينافق، والله تعالى أعلم.

عدم صحة مراجعة المختلعة أثناء العدة

عدم صحة مراجعة المختلعة أثناء العدة Q امرأة خالعت زوجها، وأعطته المال، هل يصح له أن يراجعها أثناء العدة؟ A امرأة خالعت زوجها، بمعنى: خلعت نفسها منه، كان يلبس ثوباً: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] فطلبت منه أن ينزع هذا اللباس فامتنع، فأعطته المال لينزع هذا اللباس وانتزعت منه لباسها على عوض، وحصلت المفارقة بالمخالعة مقابل عوض، فعليها أن تعتد، حتى إذا خرجت من عدتها كان لها حق أن تتزوج غيره، وهو لا يحق له أن يراجعها، أي: لا يحق أن يقول: راجعتك لعصمتي؛ لأنها دفعت مالاً فلم يبق له حق الإرجاع طواعية، ولكنه يعتبر خاطباً من الخطاب بعد انتهاء العدة، فمن حقه أن يرجعها إليه إذا رضيت بعقد جديد. ثم نقول: كم عدة المختلعة؟ هناك من يقول: حيضة، والجمهور على أنها ثلاث حيضات، وبعد أن تحيض حيضة إذا أراد أن يرجع إليها يخطبها كما خطبها زيد وعمرو وينكحها إذا رضيت على صداق جديد، وهل يعقد عليها العقد الجديد وهي لم تكمل عدتها ثلاث حيضات أو لا يعقد؟ ماذا تقولون؟ سبحان الله! هذه من البدهيات، المرأة لأي شيء تعتد من زوجها؟ لنعلم هل هي حامل فيكون الحمل منه أو ليست بحامل فتتزوج غيره أليس كذلك؟ فإذا كان هو صاحب الماء الأول وسيكون صاحب الماء الثاني، إذاً لا حاجة إلى عدة، له أن يعقد عليها بعد أن طلقها ولو بيوم أو يومين أو بأسبوع أو بشهر أو بأكثر أو بأقل، فليس هناك وجوب إكمال العدة؛ لأنها تعتد منه إليه، ليس هناك حاجة إلى العدة.

الدعوة إلى وحدة الأمة وإزالة الفوارق الدنيوية

الدعوة إلى وحدة الأمة وإزالة الفوارق الدنيوية Q متى تزال الحواجز وتمنع وترفع الفوارق بين العالم الإسلامي كله ونرجع إخواناً أمة واحدة على كتاب الله وسنة رسوله؟ A هذا السؤال يجيب عنه واحد أو العالم الإسلامي كله مسئول عن هذا الجواب؟ العالم الإسلامي كله مسئول عن هذا، وليست المسألة نظرية، نرجع إلى كتاب الله! كل إنسان يقدر يقول هذا الكلام، ولكن الحلول الإجمالية لا توصل إلى نتيجة أبداً، هناك عوائق شديدة هل يمكن أن تزال أم لا؟ وأنا أقول: أقترح -وأستغفر الله من كلمة أنا- لو صدق العالم الإسلامي في العودة إلى الوحدة لوصلوا، وهناك سُلم لو تدرج العالم عليه لوصلوا، ولنأت الآن إلى وزارات التربية والتعليم فنوحد مناهج التعليم الإسلامي في العالم الإسلامي، العالم العربي والإسلامي يدرس اللغة العربية أو لا؟ نوحد المناهج، الفقه نوحد المناهج، الحديث نوحد المناهج، التفسير! كل الدروس الإسلامية التي تدرس في المعاهد والجامعات نجعلها موحدة، أظن هذه ما فيها خسارة على الناس بشيء. ثم ننتقل خطوة ثانية نحو التعرفة البريدية، فنجعل بريد العالم الإسلامي كله بريداً واحداً، كذلك الجمارك ووزارات الصحة يكون فيها تبادل العلاجات، وتبادل المرضى والدكاترة والخبرات، وكل ما يمكن توحيده فيما بين الأمم يوحد، ثم توحيد للجيوش، وهذه آخر خطوة تكون. فممكن أن تكون هناك خطوات، ولكن أقول: إذا لم يكن هذا وبقي كلٌ على ما تحت يده فليكن توحيد الوزارات الخارجية، السياسة الخارجية تكون موحدة، إذا كانت هناك قضية لدولة مسلمة يتبناها الجميع، ويكافح دونها الجميع، إذا عرضت القضايا في مجمع دولي يكون التصويت للجميع، إذا تقاربوا في وجهات نظرهم في الأمور العملية أعتقد أنهم على سُلّم التقارب سيلتقون عند نقطة نهائية فيما يرضاه الجميع، وهذا المجلس الذي أنشئ في دول التعاون الخليجي، أليست هذه تجربة بين مجموعة دول وأصبحت كأنها بلد واحد؟ هذه التجربة موجودة أو لا؟ الآن هناك تجربة جديدة، وهي في طريق خطواتها الأولى أظنكم تعرفونها وتسمعون عنها، ونحن ننتظر حتى تبرز إلى الوجود إن شاء الله.

حكم تقبيل أيدي الوالدين والعلماء

حكم تقبيل أيدي الوالدين والعلماء Q ما حكم تقبيل اليدين للوالدين والعلماء؟ A اتفق الجميع على جواز تقبيل الوالدين والعالم الذي تستفيد منه وما عدا ذلك لا، وزيد بن ثابت لما قبّل يد ابن عباس؛ لأنه حبر الأمة، ولصلته برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُقبّل زيد كل شخص قريب لرسول الله، وإنما قبّل ابن عباس؛ لأنه جمع الفضيلتين العلم والنسب الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحديث الحادي والعشرون

شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والعشرون

شرح حديث: (قل آمنت بالله ثم استقم)

شرح حديث: (قل آمنت بالله ثم استقم)

حرص الصحابي على طلب النصيحة من النبي عليه الصلاة والسلام

حرص الصحابي على طلب النصيحة من النبي عليه الصلاة والسلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. [عن أبي عمرو وقيل: أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم] . إن هذا الحديث المبارك الذي فيه الجواب عن هذا السؤال الحكيم يعتبره العلماء جامعاً شاملاً لمهام الإسلام، وإنه لتظهر فيه حكمة وحصافة ولب السائل رضوان الله تعالى عليه، وهو أبو عمرة سفيان الثقفي، وهو من ثقيف من سكان الطائف، يسأل هذا السؤال ليتعلم، ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: السؤال نصف العلم، أو هو العلم، ويقال: تعلم كيف تسأل كما تتعلم كيف تستمع، والسؤال ينبئ عن عقل صاحبه. فهذا الصحابي الجليل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله!) يستحضر في نفسه أن المسئول أمامه هو رسول من عند الله لا ينطق عن الهوى، ويستحضر في نفسه أن المسئول أمامه قد أوتي جوامع الكلم، ويستحضر في نفسه أن المسئول أمامه مبلغ رسالة الله لخلق الله، فهو النبراس، وهو القدوة، وهو السراج المنير الذي يضيء للخلق سبيلهم، يستحضر كل تلك المعاني حينما قال: (يا رسول الله! قل لي) ، وهذا السؤال له ولغيره ممن يبلغه. قال: (قل لي في الإسلام) لا في الدنيا ومتاعها وزخرفها، ولا في السلطة وعزتها، ولا في منصب وجاهه، لا، بل في الإسلام، كان الإسلام ممتزجاً بدمائهم، وأصبح يسري في عروقهم، وأصبح هو ديدنهم ومقصدهم، وهذا مما ينبئ عن قوة إخلاصه، وحسن مقصده، وشدة تيقظه لما يسأل عنه، فالإسلام به عزة الخلق، وفيه سعادة الدنيا والآخرة. والسائل يعلم يقيناً أن الرسول جاء برسالة الإسلام، وقد نفض الدنيا عن يديه، وقال: (أنتم أعلم بدنياكم مني) ، فليسوا في حاجة إلى توجيه فيها، أمر الدنيا يستوي فيه المسلم والكافر، وقد يكون الكافر أشد حذقاً في أمور الدنيا من المسلم، وقد توصل الكافر في أمور دنياه إلى مخترعات، وإلى مستحدثات، وإلى مستجدات لم يصل إليها المسلم حتى اليوم، والدنيا مبناها على التجارب، فطالما يوجد فكر وتجربة توجد نتائج تقدمية، ولكن السائل يهتم بالإسلام، والسؤال عن الإسلام، ولا يمكن أن يجاب عليه إلا من طريق الوحي، ولذا قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام) ، والإسلام إذا انفرد يشمل الإيمان، فمراده: الرسالة التي حملتها وبلغتنا إياها. قوله: (قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك) ومن بعد رسول الله يسأل؟ ومن بعد رسول الله يستطيع أن يجيب؟ ومن بعد رسول الله يملك أن يزيد على جواب رسول الله؟ لا أحد. قال: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك أحداً غيرك) ، علم أنه لا يوجد غير رسول الله أعلم بدين الله، فهو يطلب الإيضاح، ويطلب التفصيل، ويطلب البيان، بلا إشكال ولا لبس ولا غموض ولا خفاء، ومن بعد رسول الله أوتي جوامع الكلم؟ فهو أفصح العرب صلى الله عليه وسلم. عرف السائل كيف يكيف سؤاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم قدر للرجل سؤاله، وعرف حقيقة حاله، وأجابه الجواب الذي لا يوجد مثله أبداً، ولو اجتمع الخلائق كلهم ما استطاعوا أن يضيفوا إلى هذا الجواب حرفاً واحداً، وكان الجواب على مقتضى سؤال السائل من الإيضاح والشمول والبيان والمعرفة والتوجيه، فقال: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) ، كلمتان: (آمنت بالله) وحرف العطف (واستقم) ، وفي بعض الروايات: (قل: الله ربي، ثم استقم) ، ذكر بعض العلماء زيادة: أنه سأل أيضاً: (ما أشد ما تخافه عليّ يا رسول الله؟! فأخرج صلى الله عليه وسلم لسان نفسه وأمسكه بيده وقال: أمسك عليك هذا) .

حسن جواب الرسول عليه الصلاة والسلام وبلاغته وحكمته

حسن جواب الرسول عليه الصلاة والسلام وبلاغته وحكمته نرجع إلى هذا الحديث على إيجازه، ونتكلم فيه من جهتين: جهة منهجية، وجهة موضوعية. أما الجهة المنهجية فهي تطابق الجواب مع السؤال، ليشبع رغبة السائل ويكفي حاجته، بكل وضوح وبيان، وبكل شمول واستغراق، وليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الناحية الموضوعية فنجد هذا الترتيب: (قل: آمنت بالله) فالقول يقتضي مقول، وكأنه صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينطق قائلاً قولاً مسموعاً (آمنت بالله) ، ولم يقل له: آمن بالله ثم استقم؛ لأنه لو قال: آمِن بالله، فالإيمان بالله داخل القلب؛ لأن الإيمان التصديق، ولكن عمل القلب وحده لا يكفي، فلابد معه من نطق اللسان المعبر عن إيمان القلب، ولذا قال له: (قل: آمنت بالله) ، وقال الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ، وما قال: وكان من المسلمين، بل قال: ((وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) ليشهد العالم عليه، وليشترك اللسان في الإيمان. وهنا وقفة: هل السائل غير مؤمن؟ هو يقول: يا رسول الله! ويقول: قل لي في الإسلام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه جواباً مكتمل الجوانب، لم يحل فيه على متقدم ولا غائب، بل أعطاه الجواب مكتملاً لا يحتاج إلى إضافة، ولا إلى إلحاق، ولا إلى إتباع، ولا إلى إحالة، كأنه يرسم له منهجاً من جديد، ليكون جواباً له ولغيره، ولو وصل هذا الحديث إلى أي إنسان يعقل فهو موجه له، وإن كان مؤمناً جدد إيمانه، لقد كان صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة، يجدد ذكر الله.

معنى قوله: قل: (آمنت بالله)

معنى قوله: قل: (آمنت بالله) قال: (قل: آمنت بالله) ، الإيمان لغة هو: التصديق، أي: أن يصدق القلب بمقتضى الخبر، ولكن الإيمان في اصطلاح الشرع: تصديق القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح، فقوله: (قل: آمنت بالله) ، الإيمان بالله هو: التصديق بالله، وبوجوده، وبما يستحقه في ذاته، وبما جاء عن الله، ومن الإيمان بالله الإيمان برسول الله؛ لأنه جاء برسالة من عند الله، ومن الإيمان بالله الإيمان بيوم القيامة؛ لأن الله أخبر به، والإيمان بيوم القيامة إيمان بالجنة والنار، والإيمان بالجنة والنار إيمان بالجزاء والحساب، فمن الإيمان الإيمان بالمجازاة على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة عقوبة، فالإيمان بالله يقتضي الإيمان بكل ما جاءنا به رسول الله من عند الله. فهذه الجملة الأولى تتضمن كل ما يتعلق بالعقائد، وتتضمن الالتزام بأركان الإسلام، وتتضمن الالتزام بالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج؛ لأن الله هو الذي فرضها، فإذا آمنت بالله قمت بكل ما أمرك به الله، وهذه أركان الإسلام، وإذا آمنت بالله آمنت بكل ما أخبر به الله، وأركان الإيمان: الإيمان بالله، ورسله، وملائكته، وكتبه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، إذا آمنت بالله كنت حقاً مسلماً أمرك لله، وهنا قدم صلى الله عليه وسلم أولاً الإيمان بالله، ثم أتى بحرف العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب والتعقيب، ما قال: قل: آمنت بالله واستقم، وما قال: قل: آمنت بالله فاستقم، بل جاء بثم، والبعض يقول: إن ثم للترتيب والتراخي، وهنا ليس المراد التراخي، وتظهر قوة أسلوب هذا الحديث في قوله: (قل: آمنت بالله) ، فإذا استغرقت كل جوانب الإيمان بالله فاستقم، فكأن عملية الإيمان بالله تحتاج إلى فترة تروٍ وتريث واستجماع وتجميع وإدراك لكل ما يقتضي الإيمان بالله.

معنى قوله: (ثم استقم)

معنى قوله: (ثم استقم) قال عليه الصلاة والسلام: (قل آمنت بالله ثم استقم) ، فإذا تأمل المسلم هذه الجملة فقط لوجد كل العقائد في هذه الكلمة، فكأنه وضع القاعدة الأساسية التي يقوم عليها البناء، ثم منها الانطلاق، كما يجعلون قاعدة انطلاق قوية إذا كان المنطلق منها قوياً ثقيلاً يحتاج إلى قاعدة راسخة قوية لتتحمل رد الفعل، وتتحمل انعكاس الانطلاق كما يقولون في علم الحركة، فالانطلاق بعد الإيمان بالله إلى الاستقامة أمر عظيم. وما هي الاستقامة؟ يتفق العلماء على أن الاستقامة وسط بين طرفين، فهي الاعتدال بلا اعوجاج كما قال الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:1-2] أي: ليس فيه عوج، لا في يمين ولا في يسار، وليس فيه هبوط ولا صعود، بل اعتدال واستقامة، وهكذا يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، فمثلاً: الشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين التبذير والتقتير، وكذلك الاستقامة. الاستقامة إذا طبقناها على الإسلام كله، وجدناها تدخل في كل شيء منه، وهي الميزان الذي يزن العبد به أعماله. جاء عن السلف رضي الله تعالى عنهم بيان معنى الاستقامة، فعن أبي بكر الصديق أنه لما قرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] فقال: آمنوا بالله واستقاموا على ذلك حتى ماتوا، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: آمنوا بالله ثم استقاموا ولم يروغوا روغان الثعالب، فالاستقامة على الإيمان بالله هي: الدوام عليه حتى يلقى الله، وهو على استقامته. ومن جانب آخر يكون تحقيق الاستقامة في الإيمان بالله بلزوم وترك البدع المحدثة، فنحن نقرأ في كتب العقائد عن الطوائف المتعددة التي ضلت في أسماء الله وصفاته، فنجد مثلاً المشبهة والمعطلة، فالاستقامة تكون بلا تشبيه ولا تعطيل، تكون بإثبات صفات الله بلا تشبيه، وتنزيه الله بلا تعطيل، كما قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فالاستقامة هنا طريق وسط بين طرف المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه، وبين طرف المعطلة الذين عطلوا الله من صفاته التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله، فالاستقامة وسط بين هذا وذاك، إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، هذه استقامة في حق أسماء الله وصفاته، وإذا جئنا إلى الاستقامة في الإسلام -كما سأل السائل- نجد أن الشريعة كلها بل الرسالة بأكملها إنما جاءت لتقرر الاستقامة والاعتدال في الطريق من الدنيا إلى الآخرة، وهو طريق العبد إلى ربه.

الحث على الاستقامة في سورة الفاتحة

الحث على الاستقامة في سورة الفاتحة جاء ذكر الاستقامة في كتاب الله في مواضع كثيرة، وهذا الباب واسع، لو تفرغ إنسان لجمعه لجاء على القرآن الكريم كله بجميع تعاليمه، ولنبدأ أولاً بفاتحة الكتاب: قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] ، في هذه المقدمة: قل: آمنت بالله، إذا حمدت الله أثبت لله صفات الكمال والجلال، وإذا قلت: (رب العالمين) ، أقررت واعترفت لله بالربوبية العامة للعالمين جميعاً، عالم الإنس والجن والملائكة، عالم الحيوان والطير، عالم البحار والجبال، عالم النبات والأشجار، هو رب العالمين يربي العالم كله، فالذي يدبر هذا العالم، والذي أوجده هو الله رب العالمين. (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ربوبية رحمة، لا سلطة وقهر وجبروت، مع أنه سبحانه له السلطة وله القوة وله الجبروت، لكنه يربي العالمين بالرحمة، وقد بين صلى الله عليه وسلم أنه أرحم بالخلق من الأم على رضيعها، وله مائة رحمة أنزل واحدة في الدنيا، وأمسك تسعاً وتسعين إلى يوم القيامة، فبهذه الرحمة الواحدة يتراحم الخلق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها خشية أن تصيب ولدها، هذه رحمة الله رب العالمين الرحمن الرحيم في الدنيا، وعند المعاد يرحم العباد بتسعة وتسعين رحمة. (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ليس معه ملك، وليس معه مالك، {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ، وأنت -أيها العبد- أين تذهب؟ دنياك ربنا يدبرها، وآخرتك إليه وحده، إذاً: ليس لك مجال، وليس لك مآل، وليس لك مفر، ولا مهرب، إلا أن تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، وحقاً تقولها، وحقاً هي لله، (قل: آمنت بالله) ومن الإيمان بالله إفراد الله بالعبادة، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والعبادة كلها لله، وتقديم المعمول -كما يقولون- من أدوات التخصيص والحصر، فاحصر العبادة لربك، وكذلك الاستعانة احصرها بربك، فلا يعينك على أمورك في الدين والدنيا والآخرة إلا الله، وفي الحديث المتقدم: (ولو أن الإنس والجن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) فمن الذي يعينك على دينك؟ ومن الذي يوفقك للعمل؟ ومن الذي يهديك للصواب؟ ومن الذي يعطيك القدرة للقيام والعمل؟ هو الله وحده لا شريك له، نستعين بك على كل شيء، ومن ذلك العبادة، وإذا كان الأمر كذلك فبأي طريق تسلك العبادة؟ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] الطريق الذي نستمر عليه ونستقيم عليه في عبادتك، وفي أداء حقك علينا، فيما أوجبت علينا يا الله! وما هذا الصراط؟ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] . ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟ قال الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، ما قال: قدوة، ولا امتثالاً، بل قال: (رَفِيقًا) على هذا الصراط المستقيم، كأنك تسلك صراطاً سلكه من هو خير منك، من نبيين وصديقين وشهداء وصالحين، وأنت تسير معهم، أي صراط تريد أفضل من هذا؟ أي وجهة تولي وجهك سوى هذه الوجهة؟ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] المغضوب عليهم هم: الذين علموا وتركوا العمل والضالون هم: الذين عملوا بغير علم، والأولون هم اليهود؛ لأنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، والآخرون هم النصارى؛ لأنهم ابتدعوا رهبانية ما كتبها الله عليهم، فتطلب من الله في هذه السورة الكريمة الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي هو صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتسأله أن يجنبك السبل والطرق الأخرى، بأن يجنبك طريق العلم مع ترك العمل، ويجنبك طريق العمل بلا علم، والاستقامة بين هذين الطرفين، فإذا انتهيت من سورة الفاتحة يباشرك في كتاب الله، أول ما يأتيك في المصحف الشريف سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، سألت الله الهداية إلى الصراط المستقيم، فهذا الكتاب الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ريب فيه هدىً للمتقين، تسأل الله الهداية؟ فهي في هذا الكتاب، تسأل الله الصراط المستقيم؟ فهذا هو الصراط المستقيم، ومن هم المتقون؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3-5] . أيها الإخوة: نجد أول المصحف الكريم في سورة الفاتحة يتعبدنا الله في كل يوم على عدد ركعات الفريضة سبع عشرة ركعة نقرأ فيها (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، ونجد المقدمة إيماناً بالله وتمجيداً لله، ولهذا جاء في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: مجدني عبدي) إلى قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل) . وإذا قرأنا سورة البقرة وجدنا فيها أكثر من أربعين قضية تشريعية اجتماعية وأخلاقية ومعاملات سواءً كانت في القضاء أو في الحقوق أو في الدماء أو في غير ذلك.

الحث على الاستقامة في سورة الأنعام

الحث على الاستقامة في سورة الأنعام وفي سورة الأنعام نجد موقفاً آخر مع الاستقامة، قال الله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] لا ما حرمتم على أنفسكم، وما سيبتم من السوائب، وما اعتبرتم من البحيرة والوصيلة، لا كهذه التحريمات التي هي عن هوىً وجهالة، وبين بطلان ذلك بالتذكير بأنه خلق ثمانية أزواج من الضأن والماعز ومن البقر والإبل ولم يحرمها فقال: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] وبعد ذلك أمره الله أن يقول لهم: تعالوا أبين لكم حقيقة ما حرم ربكم عليكم، فبدأ بقوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] ، وهذا يوافق الحديث: (قل: آمنت بالله ثم استقم) ، فالتوحيد بداية كل شيء، ثم قال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] إلى آخر الآية، ذكر حق اليتيم وإيفاء الكيل والوفاء بالعهد، ثم قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] ، (وأن هذا صراطي مستقيماً) أي: هذا التشريع وهذا البيان وما يتلوه عليهم رسول الله مما حرم الله عليهم، ومما فرض عليهم. ثم في آخر السورة تجد قوله سبحانه، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:161-163] . انظر إلى هذه الآية: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لو أخذنا قوله في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهنا قال: (هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، ما هو؟ قال: (دِينًا قِيَمًا) والدين القيم هو الإسلام، وقال الله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) ، وفي آخر سورة النحل قال الله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] ، فيبين هذا الصراط بقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، فإياك نعبد وحدك، وصلاتي ونسكي لك وحدك، بل إن محياي أي: حياتي كلها بكل ما فيها، وما أتصرف فيها من حركاتي وسكناتي وقولي وصمتي وقيامي ونومي وكل تركاتي هي لك يا الله! لأنه لا يتحرك لنفسه، ولا لمنصب، ولا لدنيا يجمعها، إنما يتحرك لأمر الله، إما تنفيذاً لأمر من أوامره، وإما كفاً عن نهيٍ من نواهيه، فيعلن صلى الله عليه وسلم أن حياته كلها ومماته لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، وبالفعل هو أول من آمن بالإسلام والرسالة التي جاء بها من عند الله، وذلك بشهادة الله في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] إذاً: قوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) ، أولية زمنية؛ لأن صاحب الدعوة إذا لم يكن مؤمناً بها كيف يدعو الناس أن يؤمنوا بها؟ كيف تدعو إلى شيء لم تقتنع به، ولم تؤمن به، وتريد غيرك أن يؤمن به؟! ولهذا فإن الدعوات الزائفة يعلم أصحابها بأنها زائفة، ولا يؤمنون بها، ولا يكون لها استمرار، ولا يدوم لها بقاء؛ لأنها ليس لها جذر تقوم عليه، وليست لها قاعدة تنطلق منها، بل الداعي إليها والآتي بها لا يؤمن بها، فعلى أي شيء يرتكز.

الحث على الاستقامة في سورة الشورى

الحث على الاستقامة في سورة الشورى وفي سورة الشورى نجد قوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى:13-15] ، قال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى) وذكر الأنبياء، فكلهم على الإيمان، قال الله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:2-4] وهنا قال أيضاً (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ، ثم قال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15] ، إذاً: اتباع الأهواء مغاير للاستقامة؛ لأن الاستقامة اعتدال وسير معتدل، واتباع الهوى سير معوج يميناً ويساراً. أيها الإخوة الكرام: إن موضوع الاستقامة الذي جاء في هذا الحديث لواسع، فنذكر النتائج المترتبة على هذه الاستقامة:

الرزق العاجل في الدنيا من ثمرات الاستقامة

الرزق العاجل في الدنيا من ثمرات الاستقامة قال الله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16] ، إذاً: نتيجة الاستقامة الرزق العاجل في الدنيا. وقال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] يقول الشافعي وغيره: إن هذا الحديث: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) ، منتزع من هذه الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) ماذا تكون النتيجة؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] تتنزل ولم يقل: تنزل، كأن فيه تجدد النزول سواءً كان بالنسبة للأفراد فكل شخص تنزل عليه ملائكة خاصة، أو للشخص فيتكرر عليه نزول الملائكة بالبشرى، تتنزل عليهم الملائكة من أجل ماذا؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ، أي بشرى أعظم من هذه يا إخوان؟! انظر إلى هذه المقدمة قبل دخولهم الجنة {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] ، فنفي الخوف والحزن معاً في وقت واحد، ويقولون: الخوف من المستقبل، والحزن على الماضي. ومتى يكون تنزل الملائكة؟ الجمهور على أنه في لحظة النزع، عند إدباره من الدنيا، وإقباله على الآخرة، وهذا أشد ما يكون خوفاً مما أمامه، وأشد ما يكون حزناً على ما ترك وراءه، فيقال لهم: ألا تخافوا من المستقبل، لماذا؟ لأنكم كنتم على استقامة، ولا تحزنوا على الماضي، وما من إنسان يخرج من الدنيا إلا وهو آسف، إن كان محسناً أسف أن لم يكن قد ازداد، وإن كان مسيئاً يأسف أن لم يكن قد أحسن، فساعة النزع ساعة حزن قطعاً، والملائكة تأتي لترفع عنه هذا العبء والخوف من طريق لم يسلكه من قبل، وما يدري ماذا أمامه، فهو طريق مجهول، لو كنت تمشي في فلاة من الأرض، وما سبق لك أن مشيتها من قبل، وكنت في ظلام دامس، ولا دليل معك، ولا تدري أتطأ شوكاً أو حجراً أو حية أو تقع في حفرة، ولا تدري ماذا يكون أمامك، فكيف يكون سيرك؟ لا شك يكون بخوف، فالميت ترك أطفالاً وصاروا يتامى، وترك أموالاً ولا يدري ما يصير فيها، وترك زوجات، وغير ذلك، فكل ذلك يكون موضع حزن، ولو لم يترك شيئاً بالكلية فإنه ترك الدنيا التي كان يعمل فيها الخير، ولحظة من لحظات الدنيا يذكر الله فيها خير من الدنيا وما فيها، كما جاء أخوين مات أحدهما، وعاش الآخر بعده أياماً، ثم ذكر الأول بخير، ثم ذكر الثاني بخير أكثر منه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألم يكن صلى وصام بعده؟ قالوا: بلى، قال: ذلك زيادة خير) . وهكذا الدنيا هي سوق الإنسان، وعمره هو رأس المال، ففيها يعمل رأس المال في سوقه ليصل إلى الربح، فإن ربح فالحمد لله، وإن خسر -عياذاً بالله- فليس هناك سوق آخر، فتتنزل الملائكة على المؤمنين في تلك اللحظات، ويقولون لهم: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] ، ومع ذلك يزيدونهم على هذه الطمأنينة بقولهم: {وَأَبْشِرُوا} [فصلت:30] ، والبشرى هي: الخبر السار الذي تتغير له بشرة الوجه بالبشرى والاستبشار والتهلل والسرور، وهذه أعظم بشرى يتلقاها الإنسان، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ، الذي أخبركم بها الرسول، وقرأتم عنها في القرآن، ووصفت لكم بأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ثم ربط بين ملائكة الرحمة وبين الإنسان المستقيم، فهم أخوة، فقال الله عن الملائكة: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] ، ولاية الملائكة للإنسان متى كانت؟ لقد كانت ولاية مرافقة، وولاية نصرة، وولاية تأييد، ولقد نزلت الملائكة تقاتل مع المسلمين في الغزوات، فكانوا فعلاً أولياء المؤمنين في الحياة الدنيا، وكذلك امتدت الولاية إلى الآخرة، قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7] أي: استقاموا على طريقك، {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9] ، فهذه هي الولاية الحقيقية، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) ، وقال الله عنهم: {والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:23-24] ، ويقولون: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31-32] ، والنزل هو: الذي يقدم للضيف على عجل حتى تؤدى له الوليمة الكبرى، فالملائكة تقدم أول مجيئهم الهدايا والتحية، في أول نزولهم إلى الجنة. ثم ذكر الله الدرجة العليا للدعاة إلى الله، وهم كل من استقام على دين الله، ولم تشغله نفسه عن إخوانه، بل تفرغ لهذا الصراط، يدعو من حاد عنه يميناً أو يساراً، فقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ، لا أحد أحسن قولاً منه، ثم بين سبحانه عظيم مهمة هذا الداعي، وعظيم قدر تلك الاستقامة، فقال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] ، الداعي يتعرض إلى إساءة الناس، فأمره الله أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ، أي: ادفع إساءة المسيئين بالحسنة، وهل يستطيع كل إنسان ذلك؟ لا، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، تنتقل العداوة إلى صداقة وولاية؛ لأنك استقمت على سبيل الدعاة إلى الله، قال الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ، فمن كان كذلك داعياً إلى الله، فلا أحد أحسن قولاً منه، ولكن {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] ، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم. أيها الإخوة: قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا، وقاربوا، ولن تحصوا) أي: ولن تستطيعوا أن تأتوا بكل ما أمرتكم به، ولكن سددوا، والتسديد هو: التصويب، حينما تجعل هدفاً أمامك وترميه بالسهم فتصيبه، فالتسديد هو: أن تصوب السهم إلى غرضه، فسدد في العمل، واقصد الغاية المرجوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ولن تطيقوا) أي: لن تطيقوا كل الاستقامة، ولكن سددوا وقاربوا. قال بعض السلف: المستقيم على الصراط المستقيم كالجبل لا تحرقه النار، ولا يتأثر بالبرد، ولا تزعزعه الأهواء، بل هو ثابت مستقر في مكانه، وهكذا المسلم المستقيم؛ لا تغره الدنيا بزخرفها، ولا يلين مع الهوى ولا إلى المال، ولو راودته نفسه فهو مستقيم لا يتزعزع، مستقر على الطريق السوي من دنياه إلى آخرته. والله أسأل أن يوفقني وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا الاستقامة على دينه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم! اهدنا صراطك المستقيم، اللهم! أعنا على سلوكه، اللهم! اجعل لنا الرفيق الأمين الذي نقتدي به، اللهم! اجعلنا من أتباع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ووفقنا لنتبع ما جاء به من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم! أوردنا حوضه، واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! إنا نسألك -يا الله- أن تأخذ بنواصي المسلمين إلى الخير، حكومات وشعوباً، حاكمين ومحكومين، واهدهم إلى العودة إلى كتاب الله والاستقامة على دين الله، ونسألك أن توفقنا جميعاً إلى ما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير، والقادر على ذلك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! واجزه عنا أحسن ما جازيت نبياً عن أمته.

الحديث الثاني والعشرون

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني والعشرون

الاقتصار على الفرائض يدخل الجنة

الاقتصار على الفرائض يدخل الجنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: [عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيتَ إذا صليتُ المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: نعم) رواه مسلم] . هذا الحديث يأتي به النووي رحمه الله بعد حديث الاستقامة: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) . وتقدم في معنى الاستقامة أنها أداء جميع الواجبات، واجتناب جميع المنهيات، وأنها أمر عظيم لا يطيقها إلا عظماء الرجال. وهنا كأن النووي رحمه الله قصد بإيراد هذا الحديث: (أرأيتَ إن صليتُ المكتوبات، وصمت رمضان ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: نعم) ، كأنه رحمه الله يريد أن يقول: إذا كانت الاستقامة هي مهمة الشريعة الإسلامية كلها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، فإن أقل ما ينبغي على المسلم إنما هو ما جاء في هذا الحديث: أداء الواجبات، وترك المحرمات.

ترجمة لجابر بن عبد الله الأنصاري راوي الحديث

ترجمة لجابر بن عبد الله الأنصاري راوي الحديث الحديث يرويه أبو عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي. وجابر رضي الله تعالى عنه من آخر من توفي بالمدينة، وكان له حلقة علم في هذا المسجد النبوي الشريف. ويقول عن نفسه: (ما تخلفت عن غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استشهد أبي في غزوة أحد) . وله مع أبيه، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداث جسام. مما جاء عنه: أن أباه لما استشهد في أحد قال: (جئت وأبي مسجّى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأردت أن أكشف وجهه لأراه، فنهاني الصحابة وسكت عني رسول الله، قال: نهوني مخافةً عليَّ مما أرى بأبي من المُثْلة. ثم بعد ذلك يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في ذلك الوقت يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت لا زالت تحفه بأجنحتها حتى رُفع) . ثم بعد ذلك لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جابراً فقال له: (هلم يا بنيَّ! أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ لقد أحياه، وما كلّم الله أحداً كفاحاً سوى أبيك، قال: تمنَّ يا عبدي! قال: أتمنى -يا رب- أن تعيدني إلى الدنيا أقاتل في سبيلك وأستشهد مرةً أخرى. قال: سبقت كلمتنا أنهم إليها لا يُرجعون -أي: انتهى الأمر-، تمنَّ. قال: أخبر من وراءنا بما وجدنا) . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي جابراً بعد أيام كئيباً، فقال: (ما بالك -يا بني- كئيباً؟ قال: يا رسول الله! استشهد أبي وعليه دين، فجئت إلى أصحاب الدين -وهم من اليهود- فأعطيتهم كل ما عندي -وكان عنده بستان من أبيه- ليأخذوه في دين أبي فلم يقبلوا، طلبت منهم التأجيل فلم يؤجلوا، وطلبت منهم أن يضعوا من دين أبي فلم يضعوا. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أردت الجَداد فآذِنِّي. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه ومر بالبستان، وقال له: جُدَّ كل نوع على حدة، ثم اكْتَل لهم دينهم. قال: فوفيت جميع الدين، وبقي لي من ثمرة البستان مثل ما كنت أجُدُّ كل عام) . يقول جابر رضي الله تعالى عنه: وبعد ستة أشهر ذهبت لأنقل أبي -أي: من أرض المعركة، وقد كانوا أرادوا نقلهم في أول يوم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن شهيد المعركة يُدفن في مكانه- وبعد ستة أشهر يقول: جئت لأنقل أبي فما وجدت الأرض غيَّرت منه شيئاً إلا شعرات في لحيته، ولكأنه دُفن بالأمس. ويروي مالك رحمه الله: (أن السيل مر بمحل المعركة فاحتفر قبر عمرو بن الجموح وآخر، فجاء أهلهما يحملانها من الوادي وينقلانهما إلى المدينة، وكان بين ذلك السنوات الطوال -قال ابن كثير:- ما غيرت الأرض منهما شيئاً، وكان عمرو واضعاً يده على صدغه -أي: على جرح- فرفعنا يده، فلما تركناها عادت حيث كانت) . هؤلاء هم الشهداء أحياء عند الله. وبهذه المناسبة: سمعت من بعض الإخوان أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في منطقة سيد الشهداء، في أواخر الستينات الهجرية، يقول بلسانه -وأسمع منه بأذني-: توفي لنا طفل صغير، فاستكثرنا أن ننقله إلى البقيع، وقلنا: ندفنه في مقبرة الشهداء بأحد، قال: فذهبت أنا ورجل معي، نحفر القبر، فإذا بالدم يفاجئني في وجهي، ونظرنا فإذا فخذ إنسان، قال: فأخذنا قطعة من الثياب وعصبنا الدم، وأعدنا التراب، وجئنا بالطفل إلى البقيع. تلك آيات نشاهدها وعلامات نحضرها يقيمها الله لكل مسلم آيةً محسوسةً ودليلاً وشاهداً على ما جاء في كتاب الله، وإن كان كتاب الله دليلاً قائماً، ولا يتوقف الإيمان به على مشاهدات ولا محسوسات، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ، وصدق الله العظيم القائل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] .

حرص الصحابة على السؤال عما يدخلهم الجنة

حرص الصحابة على السؤال عما يدخلهم الجنة جابر بن عبد الله يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعدة رجال تتنوع أسماؤهم، لكن تتفق أسئلتهم، يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا الرجل يقول: (أرأيت يا رسول الله) : بمعنى: أعلمني أو أخبرني. (إن صليت المكتوبات) المكتوبات: الصلوات الخمس، والمكتوبات أي: المفروضات الواجبات، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] . (وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام) : وفسر النووي (أحللت الحلال) : فعلته معتقداً حِلَّه، (وحرمت الحرام) : اجتنبته معتقداً حُرْمَته. (أأدخل الجنة؟ قال: نعم) . هذا الحديث -مع أمثاله، وما يشبهه في موضوعه- اقتصر على فرضين: الصلاة. والصيام. وجاءت أحاديث أخرى فيها الزكاة وفيها الحج. كما جاء أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس وقال: (يا رسول الله! أعلمني ماذا فرض الله عليَّ؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل افترض عليَّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوَّع. قال: ثم ماذا؟ قال: صوم شهر رمضان. قال: هل افترض عليَّ غيره؟ قال: لا. إلا أن تطوَّع. قال: ثم ماذا؟ قال: زكاة مالك -وعلَّمه الزكاة-. قال: هل فرض عليك غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع. قال: ثم ماذا؟ قال: تحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلاً. قال: هل فرض علي غيره؟ قال: لا. إلا أن تطوَّع. فقال: والذي بعثك بالحق نبياً! لا أزيد على ذلك ولا أنقص. فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح -وأبيه- إن صدق. وفي رواية: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) . هذا الحديث يبحثه العلماء من عدة جوانب: أولاً: كون الرجل يسأل -وفي بعض الروايات أو بعض الطرق- أو بعض الرجال الذين جاءوا. جاء رجل -وهو طفيل - وقال: (يا رسول الله! جاءنا رسولك، وأخبرنا أنك رسول الله، فهل هذا حق؟ قال: نعم. قال: والذي رفع السماء! آلله أرسلك؟ قال: نعم، والذي رفع السماء! إنه أرسلني. قال: إن رسولك أخبرنا أنه كُتب علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم. الله أمرني بذلك. وذكر صوم رمضان، وذكر الزكاة، وذكر الحج، كل ذلك يقول: رسولك أخبرنا بذلك، والذي رفع السماء! آلله أمرك بهذا؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم. فيقول -كما قال هذا وذاك-: والذي بعثك بالحق! لا أزيد على ذلك ولا أنقص) . في هذا الحديث الاقتصار على الصلاة المكتوبة، وهي خمس صلوات، يستدل العلماء على أنه لا فرض بعد الصلوات الخمس، وأن ما عدا الصلوات الخمس: إما من باب فرض الكفاية، وإما من باب السنة. والسنن تتفاوت. ويجيبون على قول مَن يرى أن الوتر فرض؛ ولكن لم يقل بفرضية الوتر أحد من الأئمة الأربعة، إلا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول بوجوبه. وليعلم الجميع أن الوجوب والفرض اصطلاح. فاصطلاح الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن الواجب دون الفرض. وأن اصطلاحه: أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي من كتاب أو سنة متواترة. والواجب: ما ثبت بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقابل اصطلاح (السنة المؤكدة) لدى الأئمة الثلاثة. والأئمة الثلاثة رحمهم الله عندهم السنة المؤكدة الوتر، وركعتا الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتركهما لا في حضر ولا في سفر، وقال في ركعتي الفجر: (صلوهما ولو طاردتكم الخيل) .

الفرض والنافلة فيما يتعلق بالتوحيد

الفرض والنافلة فيما يتعلق بالتوحيد إن لكل ركن من الأركان الخمسة -التي بُني عليها الإسلام- نوافل: فأول أركان الإسلام: الشهادتان (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) : وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول ويحث على قول: (لا إله إلا الله) دبر كل صلاة مائة مرة. أو في كل يوم مائة مرة. وكان يحث على التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ثلاثاً وثلاثين ثلاثاً وثلاثين، وأن يختم المائة بـ (لا إله إلا الله) . وكذلك الصلاة والسلام على رسوله صلوات الله وسلامه عليه. قالوا: إن الصلاة على النبي فرضٌ في العمر مرة بدليل قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه. فقالوا: بمقتضى هذه الآية صارت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرضاً ولو في العمر مرة؛ ولكن لها نوافل، كما جاء في الحديث: (حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر وكان من ثلاث درجات، وكلما صعد درجة قال: آمين آمين آمين، فلما خطب ونزل، قالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمِّن ولا ندري علام أمَّنت! قال: أتاني جبريل، وقال لي: رغم أنف امرئ أدرك أبويه -أو أحدهما- على الكبر ولم يغفر له، أبعده الله يا محمد! قل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك رمضان ثم خرج ولم يغفر له، أبعده الله يا محمد! قل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ ذُكرت عنده ولم يصلِّ عليك أبعده الله يا محمد! قل: آمين. فقلت: آمين) . من هنا قال العلماء: من الواجب على كل مسلم إذا سمع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده أن يصلي عليه صلوات الله وسلامه عليه. وقد جعل الله لتلك الصلاة أجراً عظيماً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) .

الفرض والنافلة في الصلاة

الفرض والنافلة في الصلاة وإذا جئنا إلى أركان الإسلام الأخرى: فأولها: الصلاة. وقد أوجب الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس، ونعلم جميعاً أنها أول ما فرضت خمسين صلاة، ثم ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين ربه وبين موسى عليه السلام ويطلب التخفيف ويُسقط عنه خمساً خمساً حتى استقرت خمساً في العمل وهي في الأجر خمسون. وجعل الله سبحانه مما شرع نبيه صلى الله عليه وسلم -وهو لا ينطق عن الهوى- صلوات أخرى نوافل: منها الرواتب مع الفريضة. ومنها النوافل المقيدة بزمن أو بعمل. ومنها النافلة المطلقة. فمن الرواتب: كما جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات في اليوم والليلة -أي: نوافل- وذكر ركعتي الفجر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبله، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء) ، وجاءت أحاديث أخرى: (أن مع الظهر أربعاً قبلها وأربعاً بعدها، ومع العصر أربعاً قبلها) . وبين المغرب والعشاء صلاة الأوابين: ست ركعات، ركعتين ركعتين ركعتين. ثم قيام الليل بلا حد ولا عد. تلك هي الرواتب مع الصلوات الخمس. وهناك النوافل المقيدة بزمن: كركعتي الضحى، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم ما يترتب عليها من عظيم الأجر كما سيأتي أنها تعدل ثلاثمائة وستين صدقة، وكذلك تعلم القرآن في بيوت الله تعالى، ومن فضل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن يذهب إلى بطحان ويأتي بناقتين كوماوين من غير إثم ولا قطيعة رحم، قالوا: كلنا يريد ذلك يا رسول الله! قال: من غدا إلى المسجد فتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع) . والمقيدة بعمل: ذكر صلى الله عليه وسلم: (كلُّ سلامى من ابن آدم كلَّ يوم تطلع فيه الشمس عليه فيها صدقة) ، والسلامى: المفصل في الجسم، وقالوا: في جسم الإنسان ثلاثمائة وستين سلامى، أي: في أصابعه وفي ظهره وفي ضلوعه وفي يديه ورجليه إلى غير ذلك، تلك السلامات صيانتها، وحفظها إنما هي كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليه صدقة) ، ثم مَن في جميع الصحابة يستطيع أن يتصدق كل يوم ثلاثمائة وستين صدقة، قالوا: (ومن يستطيع ذلك يا رسول الله؟! فقال: كل تحميدة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وأن تعين أخاك على دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه بشوش صدقة، ويُجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى) . هناك أيضاً الصلوات الأخرى التي تدخل في باب فرض الكفاية: كصلاة الجنائز. وكذلك الكسوف. والاستسقاء. وغير ذلك. جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن لهذه النوافل مهمتان: المهمة الأولى: الصيانة والضمان والأمن على الفريضة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه أول ما يسأل العبد يوم القيامة عن الصلاة، فإن كانت مجزئة ووافية فبها ونعمت وصلح سائر عمله وأُلحقت بها جميع الأعمال، وإن كانت قد نقصت، وفرط وضيع، وأراد الله بالعبد خيراً يقول للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: بلى يا رب! فيقول: اجبروا فريضته من نافلته) ، وهكذا سائر الأعمال. تلك النوافل يتكرم المولى سبحانه ويجبر منها الفريضة، فريضة الصلاة التي هي أول ما يُسأل عنها العبد، فإن قُبلت قبل معها سائر عمله، وإذا رُدت رُد معها سائر عمله؛ لأنها العهد الذي بيننا وبينهم، والذي جاء في خصوصها وحدها: (من ترك الصلاة فقد كفر) . والمهمة الثانية في جميع النوافل: أن الله سبحانه قال في الحديث القدسي: (إن أقرب أو أحب أو أشد ما تقرب إلي به عبدي بما افترضته عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها ... ) ، وبين العلماء أن هذا العبد يصبح عبداً ربانياً لا يسمع إلا في الله، ولا يبصر إلا في الله، ولا تتحرك يده أخذاً وعطاءً إلا فيما يرضي الله، ولا تسعى قدمه إلا إلى رضاء الله. وأشرنا في السابق في شرح معنى: (الصراط المستقيم) في قوله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً. } [الأنعام:161] إلى قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] . وهكذا تكون النوافل هي السلم الذي يعرج عليه العبد إلى ربه، وهو مرتقى المنازل العليا لكل مسلم. إذاً: النوافل لها أهميتها هي تابعة لكل فريضة كما أشرنا.

الفرض والنافلة في الصوم

الفرض والنافلة في الصوم كذلك الصوم: فرضُه رمضان؛ ولكن جاءت بالإضافة إليه نوافل أخرى: جاء صوم الإثنين والخميس، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: (يوم الإثنين يوم فيه ولدت، وعلي فيه أنزل) ، وفي يوم الخميس قال: (يوم تعرض فيه الأعمال على الله -أو على ربي-، وأحب أن يعرض عملي على ربي وأنا صائم) . وذكر صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقال في ذلك: (من صام من كل شهر ثلاثة أيام فكأنما صام الدهر) أي: أن الحسنة بعشرة أمثالها. وجاء في موضع آخر: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) . وهكذا يبين صلى الله عليه وسلم في نوافل محددة كصوم يوم عاشوراء، أنه: (يكفر سنة ماضية) . وفي صوم يوم عرفات يقول: (يكفر السنة الماضية والباقية) .

الفرض والنافلة في الزكاة

الفرض والنافلة في الزكاة أما الزكاة: فبيَّن سبحانه وجوبها في قوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] أي: معدود محسوب، سواءً كان في الحبوب العُشر أو نصف العُشر، أو كان في النقدين ربع العشر أو كما يقولون: (2. 5%) ، وبين صلى الله عليه وسلم زكاة بهيمة الأنعام فيما يتعلق بالإبل والبقر والغنم. ولكن (إن في المال حقاً سوى الزكاة) وقد بين صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم يمينُه ما تنفق شمالُه) ، لا تقل: (شمالُه ما تنفق يمينُه) . ويقول بعض العلماء: إن الحديث فيه قلب، والأصل: (لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) . والصواب: لا. كما جاء في الحديث: (لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وليس هناك قلب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يبين مدى إخفاء المتصدق صدقته، والناظر دائماً إنما يراعي اليمنى؛ لأنها صاحبة الحركة، وصاحبة العطاء، وصاحبة الأخذ، أما اليسار فلا دخل لها في ذلك، وهو من شدة إخفائه الصدقة يوقف حركة اليمين ويحرك اليسار؛ لأن الأعين لا ترقبها. فالحديث فيه: (حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله) ، هذا الذي يتصدق بهذا المال على هذه الصفة إنما يتعامل مع مَن؟ مع الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] . وقد جاءت النماذج والأمثلة في سلف الأمة، فهاهو الصديق رضي الله تعالى عنه يَخرُج من ماله كلِّه، فيسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله) . وهاهو عمر الفاروق رضي الله عنه يقسم ماله نصفين أيها الإخوة! إن الإنفاق أو الصدقة النافلة باب مفتوح ومجال واسع ومهمتها أشياء عديدة: في الفريضة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، نعم. تطهر قلوب الأغنياء من الشح والبخل، وقلوب الفقراء من الحقد والحسد؛ لأن الفقير إذا رأى النعمة عند الغني يستأثر بها دونه فلا يناله منها شيء تحرك الحقد في قلبه والحسد والغيظ، أما إذا وجد نعمة الغني تفيض عليه فإنه يكون حارساً لهذه النعمة ويدعو الله له أن يبارك في ماله وأن يديمه عليه وأن يزيده لتزيد حصته فيه. ورغم ما في هذه الأبواب من الخير إلا أننا نغفل عنها، وفيما يتعلق بالحث على الصدقة يأتي الشرع الحكيم بقصتين عجيبتين: يأتي بقصة أصحاب الجنة: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:17-20] . لماذا؟ لأنهم تنادوا {مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم:21-26] . لماذا؟ أبوهم كان يتصدق؟! أبوهم كان يخرج من ثمارها؟! ولكنهم هم ضنوا وبخلوا بهذا القدر وعزموا على ألَّا يعطوا أحداً، وأن يصرموها ليلاً قبل أن يصحو المساكين ويأخذوا منها شيئاً، فعاملهم الله بنقيض قصدهم. ويذكر لنا صلى الله عليه وسلم في المقابل: (بينما رجل يمشي في فلاة فإذا به يسمع صوتاً في السحاب: اذهبي فأمطري فاسقي مزرعة فلان) وانظروا أسلوب الحديث! (في فلاة) ليس في وسط قرية أو مدينة فنقول: هذا تشويش أو شيء يختلط أو شيء يُتوهَّم، بل فلاة من الأرض، ليس هناك تشويش ولا وهم. ويسمع الصوت صريحاً في السحاب؛ من الذي يسخر السحاب؟ من الذي يأتي به؟ من الذي يسوقه فيحيي الأرض الميتة؟ إنه الله، لا شمس تبخِّر، ولا محطيات تتبخَّر، ورطوبة تتكاثف ثم يعود إلى الأرض، لا؛ والله! إنه صنع الله سبحانه وتعالى، من تبخير أو من بحار أو من شمس. أو غير ذلك، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ، ويسوقها إلى ما يريد، {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر:9] سياق من الله، فهذه السحابة تؤمر وتذهب حيثما أمرت، قال: (فيمشي الرجل في ظلها، فإذا بها تأتي إلى حرة، وتستجمع، وتمطر، ويتجمع الماء ويسيل في شرجة، فيتبع الماء، فإذا برجل قائم بمسحاته يحول الماء في مزرعته، فيسلم عليه باسمه الذي سمع في السحاب. فينظر إليه فإذا به رجل غريب. فقال: كيف عرفت اسمي وأنت غريب. فقال الآخر: أخبرني! ماذا تفعل في مزرعتك؟ قال: وما الذي حملك على السؤال؟ فأخبره. فقال: نعم. إن يكن كذلك فإني حينما أحصدها أقسم ثمرتها إلى ثلاثة أقسام: قسم: أدخره لنفسي وعيالي. وقسم: أدخره أعيده بذراً فيها. وقسم: أتصدق به على المساكين) . أي قسمة هذه؟! أولئك ضنوا بالصدقة فأصبحت جنتهم كالصريم، وهذا حافظ على الصدقة فسخر الله له السحابة في مزرعته. ليس هناك ماكينة ولا دولاب ولا ساقية ولا شيء، بل من الله؛ لأنه يتعامل مع الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] ، إذا أعطيت الثلث، فسيعطيك ثلاثة أثلاث، وهذا فضل الله. إذاً: النوافل بابها واسع.

الفرض والنافلة في الحج

الفرض والنافلة في الحج إذا جئنا إلى الحج: بين صلى الله عليه وسلم أنه يجب في العمر مرة، وجاء الحديث: (ما من حق امرئ مسلم عافيته في بدنه وأغنيته في ماله أن يهجر البيت فوق خمس) . وأما العمرة فقال عليه الصلاة والسلام -فيها وفي الحج-: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) . وهكذا -أيها الإخوة- جميع الفرائض لها نوافل، وتلك النوافل بمثابة الضمان لإكمال ما عساه أن يكون من نقص الفرائض.

العمل سبب في دخول الجنة

العمل سبب في دخول الجنة نرجع إلى الحديث: (أرأيتَ إن صليتُ المكتوبات، وصمت رمضان ... ) والأحاديث الأخرى ذكرت الزكاة والحج، فاستكمل بذلك أركان الإسلام. هنا يقول الرجل: (أأدخل الجنة؟ قال: نعم) . هنا يبحث العلماء مسألة مهمة وهي: هل بهذه الأعمال يدخل العبد الجنة؟ وحديث: (لن يَدخُل أحدُكم الجنة بعمله أو لن يُدخِل أحدَكم الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ينص على خلافه فظاهر الحديثين التعارض. هناك أيضاً قوله سبحانه: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] . فهنا: (أرأيت إن صليت المكتوبات وو أأدخل الجنة؟ قال: نعم) . وقوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] ؛ ولكن الحديث: (لن يُدخِل أحدَكم الجنة عملُه) . قال العلماء في ذلك: قوله: (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) هل قال: التي دخلتموها؛ أم قال: (أُورِثْتُمُوهَا) ؟! قال: (أُورِثْتُمُوهَا) ، فقالوا: فرق بين الدخول وبين التوريث، أما الدخول فهو فضل من الله؛ لأن العمل مهما كانت رتبة العامل ومهما كانت جسامة العمل؛ فإنه يتوقف على فضل الله في قبوله، ثم إن هذا العمل بأي جهد وبأية قوة وبأية إرادة أداه؟ إنها منحة من الله أن هداه لهذا العمل وأعانه عليه، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] . فالفضل من الله. فقالوا: دخول الجنة بفضل من الله، فإذا ما دخل أهل الجنة الجنة هناك يأتي دور التوريث، وأي شيء يتوارثونه؟ قالوا: جاء في حديث القبر: (إن العبد إذا وضع في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- إن كان مؤمناً فأول ما يُفتح له باب إلى النار ويقال له: ذاك مقعدك لو لم تؤمن، ثم يغلق عنه حالاً، ويُفتح له باب إلى الجنة ويقال: ذاك مقعدك يوم القيامة، فيقول: يا رب! أقم الساعة، أقم الساعة، وإذا كان كافراً -عياذاً بالله- فأول ما يُفتح له باب إلى الجنة، ويقال: ذاك كان مقعدك من الجنة لو آمنت، ثم يغلق عنه ويُفتح له باب إلى النار ويقال: ذاك مقعدك من النار يوم القيامة، فيقول: يا رب! لا تقم الساعة، يا رب! لا تقم الساعة) . إذاً: كل إنسان له منزلان: منزل في الجنة. ومنزل في النار. فإذا كان يوم القيامة ودخل أهل الجنة في منازلهم ودخل أهل النار في منازلهم، خلت منازل أهل النار في الجنة، تلك المنازل التي خلت من أهلها يرثها المؤمنون، وبأي صفة؟ الربع والثمن والسدس كالفرائض؟ لا. بقدر أعمالهم، وبقدر درجاتهم وعلو منازلهم عند الله، يرثون تلك المنازل. إذاً: لا تعارض بين قوله سبحانه: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] ولا بين الحديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) . وعلى هذا يكون هذا الحديث مبيناً لعلة دخول الجنة، وعد من الله، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، والعَشَم في وجه الله عظيم، وكل مؤمن عند النزع يقدم الرجاء على الخوف.

قبول الأعمال المؤدية لدخول الجنة

قبول الأعمال المؤدية لدخول الجنة يذكر العلماء مسألة: هل مطلق هذه الأعمال يدخل الجنة أو أن هناك شروطاً لها؟ فبعضهم يقول: ما اجتنبت الكبائر. وبعضهم يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، فاجتناب الكبائر مكفر للصغائر؛ ولكن الكبائر بنفسها. جاءت الأحاديث: (الجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهما) . وفي بعض الروايات: (ما اجتنبت الكبائر) وجاء في العمرة (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) . وجاء أيضاً: (من قال (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه دخل الجنة) ، فقالوا: هذه مطلقة بدون عمل. قالوا: لا. تلك الأحاديث العامة المطلقة تقيد بالأحاديث الأخرى، فقد جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم امتنع بعض العرب عن أداء الزكاة، وارتد البعض منهم، فقام الصديق في جمع الزكاة ومقاتلة مانعيها، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: (أتقاتل قوماً شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! فيقول الصديق: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. قال عمر: أتقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! فقال له الصديق: ألم يقل رسول الله: (إلا بحقها) ؟ والزكاة والصلاة من حق (لا إله إلا الله) . وقدمنا مراراً أن لوازم (لا إله إلا الله) : ألَّا يعبد غير الله، ولا يصرف شيء من العبادة لغير الله؛ لأنه اعترف بأنه لا مألوه بحق ولا يستحق الألوهية والعبادة إلا الله. ومقتضى (محمد رسول الله) : أن يطيع الله بما أرسل به رسوله. إذاً: كل ما أمر الله به وكل ما نهى الله عنه داخل ضمن (لا إله إلا الله) . ثم قالوا: لم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل اجتناب المحرمات، وقلتم: إن فعل الطاعات وأداء المفروضات يدخل الجنة، فأين ترك المحرمات؟ قالوا: إن من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لما رأى هذا الرجل ووجد إقباله على الله وإخلاصه فيما سأل، عرف من حاله أنه ليس من أهل المعاصي، كما جاء في قصة الطفيل أنه لما ذكر: (. وتترك المحرمات، قال: أما هذه فلا شأن لي فيها) أي: لست من أهلها. فقالوا: إنه إن حافظ على الصلوات المكتوبة، وحافظ على صوم رمضان، فإن صلاته ستنهاه عن تلك المحرمات، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] . وهكذا -أيها الإخوة- في هذا الحديث المبارك بيان لأقل ما يقتصر عليه العبد؛ ولكن لا ينبغي أن يفوت على نفسه الفضائل المتحصلة من تلك النوافل مخافة أن يقع في تقصير، أو يقع منه الخطأ، فيكون لديه الأمان والضمان.

تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله في الحكم سواء

تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله في الحكم سواء أما قوله رضي الله تعالى عنه: (وأحللت الحلال وحرمت الحرام) هذه المسألة تحتاج إلى وقفة طويلة! فإحلال الحلال وتحريم الحرام ينبغي أن يُعلم أنه ليس للعبد وليس للسائل، إنما هو لله، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] ، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحله الحلال وهو الذي يحرم الحرام، ومن نصب نفسه محللاً أو محرِّماً فقد نصب نفسه نداً لله، ومن أطاع مخلوقاً في تحريم ما لم يحرمه الله، وفي تحليل ما لم يحلله الله، فقد اتخذ شريكاً مع الله، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] . فقال عدي بن حاتم: (يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً من دون الله. قال: ألم يكونوا يحرمون عليكم الحلال فتحرمونه، ويحلون لكم الحرام فتحلونه؟! قال: بلى. قال: فتلك عبادتكم إياهم) . لما جاء الشيطان إلى أهل مكة وقال: (سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة -بعدما حرم الله الميتة- قال: سلوه: الشاة تصبح ميتة مَن الذي أماتها؟ من الذي ذبحها -أو كما قيل- فإن قال لكم: الله، فقولوا له: ما ذبحتموه أنتم بأيديكم يكون حلالاً، وما ذبحه الله بشمروخ من ذهب يكون حراماً؟ فجاءوا وسألوا رسول الله، فأنزل الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] ) . أي: شرك طاعة. وهكذا يضع لنا هذا السائل الكريم تلك القاعدة: (أحللت الحلال) ولا ينبغي لمسلم أن يأتي بما أحله الله، فيقول: هذا حرام، فيقول: أحرمه على نفسي. (لقد جاء ثلاثة نفر إلى بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن أعماله في بيته، فأخبرتهم أم المؤمنين عائشة عن قيامه ونومه، وعن صيامه وفطره، وعن إتيانه زوجاته، فكأنهم تقالوا هذا العمل، فتناجوا من وراء الحجاب وهي تسمع، فقال أحدهم: أما أنا -والله- أقوم الليل ولا أنام -حرم النوم على نفسه-، وقال الثاني: لأصومن الدهر ولا أفطر -حرم الفطر على نفسه-، وقال الثالث: لأعتزلن النساء ولا آتي النساء أبداً -حرم النساء على نفسه- فلما ذهبوا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أم المؤمنين بما سمعت، فبادر صلى الله عليه وسلم إلى المنبر وخطب وقال: ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا، أما أنا فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . ولهذا فإن أكبر خطأٍ على المسلم أن يأتي إلى شيء أحله الله فيحرمه، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] إذا كنت تزهد فيه فاتركه، وإذا كنت تعافه فاتركه، أما أن تجعله حراماً، أو تحرمه على نفسك فلن تملك تحريم الحلال. ولعل قائلاً يقول: إن من تجرأ فحرم الحلال يكون كمن تجرأ فأحل الحرام؛ لأن كلاً منهما تعدٍّ على حكم الله، وكل منهما نصب نفسه مشرعاً من دون الله سبحانه وتعالى. وعلى هذا فإن (إحلال الحلال) أي: فعله معتقداً حله، و (تحريم الحرام) أي: تركه معتقداً حرمته. لأن الشخص إذا ترك الحرام وهو لا يعلم أنه حرام وتركه عفواً وتركه قلةً وعجزاً أله أجر في هذا الترك؟ لا. أما إذا عرف أنه حرام ومنع نفسه منه وجاهد نفسه في ذلك، فإنه لا يقدر قدره إلا الله. وفي قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار فسقطت عليهم صخرة وسدت عليهم باب الغار، وتوسلوا بصالح أعمالهم، وتوسل أحدهم ببر الأبوين، وتوسل الآخر بحفظ حق الأجير، ويتوسل الثالث بالعفة عن الحرام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الثالث أنه قال: (إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها أشد ما يحب الرجال النساء، وراودتها فامتنعت، فأخذتها السنون والجدب وجاءت تطلب مالاً، فراودتها -فرضخت تحت الحاجة- فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها حياءً، وقالت: يا هذا! اتقِ الله! ولا تفضنَّ الخاتم إلا بحقه. فقمت عنها وتركت لها المال، اللهم! إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانجابت الصخرة، وخرجوا يمشون في الخلاء) . هذا ترك شيئاً حراماً يعلم أنه حرام وتركه لوجه الله. وهكذا فإن من اقتصر على المكتوبات، وأحل الحلال أي: اعتقد حله، وحرم الحرام أي: اعتقد حرْمَتَه وتجَنَّبَه فإن هذا أقل درجات الاستقامة. وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وأسأل الله لي ولكم أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا وإياكم على الهداية والاستقامة حتى نلقاه وهو راضٍ عنا. رحم الله والدينا ومشايخنا والمسلمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الامتناع عن لبس ثياب الإحرام أو لبس ثياب معها خوف البرد

حكم الامتناع عن لبس ثياب الإحرام أو لبس ثياب معها خوف البرد Q بعض المحرمين لحج أو عمرة يخاف البرد إن لبس الإحرام، فهل يجوز له ألا يلبس ثوب الإحرام أو يلبس معه ثياباً أخرى؟ A الذي يريد الإحرام ويخشى البرد نقول: هذا جبان، والمسلم يجب أن يكون شجاعاً، كلمة: (أخاف البرد) نقول لصاحبها: اترك الخوف وتعلم الشجاعة، لستَ ذاهباً إلى الميدان أمام القنابل والصواريخ، وإن كنت مريضاً فكلمة (أخشى) اتركها عنك، إلا إذا قال لك طبيب عالم بحالتك: إن تجردت مرضت، ويكون هذا عن علم، أما مجرد تخوّف فنقول لك: لا. الذي يخاف من عفريت فإنه يظهر له، وأنت حين تخاف من مرض فسيأتيك ولو لم تكن مريضاً؛ لكن اترك عنك الخوف وتجرد وأنت في ضيافة الله. فإذا أخبرك طبيب أو مع التجربة السابقة في حياتك تعلم أنك إن تجردت مرضت فخذ من اللباس بقدر حاجتك، وتجرد من الباقي وعليك الفدية لِمَا لبست. والله أعلم.

الحديث الثالث والعشرون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1]

شرح حديث: (الطهور شطر الإيمان)

شرح حديث: (الطهور شطر الإيمان) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول الإمام النووي رحمه الله: [عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأان أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه مسلم] . هذا الحديث اشتمل على عدة معانٍ، وعلى عديد من الجوانب، وأكثر العلماء رحمهم الله من ذكره في عدة مواضع. وقوله صلى الله عليه وسلم: (الطُهور) هو بضم الطاء، ويقال بفتح الطاء (الطَهور) ، ومثلها: الوُضوء والوَضوء، والسُحور والسَحور، قالوا: كلها بالضم تكون بمعنى: المصدر، وبالفتح بمعنى: الفعل، فالطُهور هو التطهر، والطَهور هو الماء الذي يتطهر به الإنسان، وكذلك السُحور والسَحور.

معنى الطهور

معنى الطهور الشطر هو النصف، والطهور يراد به هنا معنياه: أ- التطهر عن كل ما لا يليق: فقالوا: الطهور المبالغة في التطهير، أي: الطهارة من الحدث والخبث. والطهور في اللغة: هو التنزه عن كل قبيح. قال تعالى: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] ، وقال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرب النجاسة ولا يخالطها، لكن هذا كناية عن التطهر عن كل ما لا يليق بمقامه صلى الله عليه وسلم، وما يورده العلماء في المعنى العام للطهور يشمل كل ما ينبغي أن يتجنبه الإنسان، ولذا قالوا: إن المراد بالحديث هنا: المعنى اللغوي العام وليس المعنى الشرعي الخاص؛ لأن المعنى اللغوي العام، هو: التنزه عن كل ما لا يليق بالمسلم أن يتلبس به، أما الطهارة الشرعية فهي إما وضوء، وإما غُسل: غسل النجاسة، وغُسل الجنابة، فغسل النجاسة لا يمكن أن يكون شطر الإيمان. ولكنه بالمعنى الأعم: طاعة الله، واجتناب نواهيه، وبهذا يتأتى أن الطهور فعلاً شطر الإيمان. وقالوا: الإيمان: أقوال، وأفعال، واعتقاد. اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح. ونطق اللسان وعمل الجوارح ينقسم إلى قسمين: الأول: امتثال أوامر: من ذكر، وصلاة، وصيام. والثاني: اجتناب نواهٍ: اجتناب الكذب، والغيبة، والسرقة، والزنا، وكل ما فيه معصية لله. قالوا: فالطهور الذي هو بمعنى التنزه وترك ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى هو نصف الإيمان؛ لأن الإيمان أوامر يجب أن يفعلها الإنسان، ونواهٍ يجب أن يتقيها ويتركها، فالطهور: ترك المعاصي، وترك ما لا يليق، والتنزه عن معصية الله. ومن هنا قال: (إن الطهور شطر الإيمان) . ب) - تطهير الأعضاء ورفع الحدث: والبعض يقول: المراد بالطهور هنا: تطهير الأعضاء، ورفع الحدث؛ لأن الطهارة شرط في صحة الصلاة، والصلاة عماد الدين، فلا تصح الصلاة إلا بطهارة، وجاء في الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) ، والصلاة تسمى إيمان كما قال الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، قالوا: بإجماع المفسرين أنها صلاتكم، أي: لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس، ومات أشخاص في تلك الفترة، ثم تحولوا بالصلاة إلى الكعبة، فتساءل الناس وقالوا: ما بال الذين لم يصلوا إلى الكعبة وماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟! فجاء قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، فقالوا: الإيمان من أسماء الصلاة.

المعنى الأعم لقوله: (الطهور شطر الإيمان)

المعنى الأعم لقوله: (الطهور شطر الإيمان) قيل: الطهور شطر الإيمان بمعنى: (الصلاة) ، وهذا المعنى الأخص، وإذا نظرنا إلى المعنى الأعم، وإلى ترتيب ما جاء في الحديث، حيث ذكر الصلاة والصدقة، والصوم داخل في الصبر، فذكر أركان الإسلام الثلاثة، وبقي من الأركان الحج والشهادة، والحج داخل في أعمال البدن وأعمال المال، وبقي الركن الأول وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي تحصل به طهارة القلب من دنس الشرك. فإذا أخذنا قوله: (الطهور شطر الإيمان) ، وقلنا: إن الطهور في الإسلام بحسبه، فطهارة الثوب من الخبث، وطهارة البدن من الحدث، وطهارة القلب من أمراضه كالحقد، والحسد؛ لأن الإيمان لا يقارن الحسد ولا الحقد، فهذا صواب. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج رجل معلق نعليه، فسلم ومضى، فلما كان من الغد جلسنا في ذلك المجلس، وقال صلى الله عليه وسلم: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج ذاك الرجل الذي خرج بالأمس، قال: فتبعته حتى عرفت بيته، فلما جاء المساء، جئته وطرقت عليه الباب، وقلت: إن بيني وبين أبي ما يكون بين الولد ووالده -وما كان بينه وبين والده شيء- وأردت أن أكون ضيفك الليلة، فقال: مرحباً، قال: فتعشى بعد أن صلى العشاء، ثم نام، وقبل أن يؤذن للصبح قام وتوضأ وذهب إلى المسجد وصلى الصبح، ولم أر شيئاً جديداً، فقلت: لعله ترك عبادته من أجلي، أو أنه متعب من عمله، فذهبت في الصباح ورجعت إليه في الليل لأنظر ماذا سيكون منه، فلم أجد شيئاً جديداً، ثم الليلة الثالثة -أي: مدة الضيافة-، فقلت: يا عبد الله! أخبرني عما تعمل سراً فيما بينك وبين الله، قال: ليس لي عمل إلا ما رأيت، أصلي العشاء وأنام، وأقوم الفجر، وأذهب إلى عملي، وأرجع إلى فراشي! قال: أليس هناك شيء آخر؟ قال: لا، أبداً، فمضى ثم دعاه فقال: ما سبب سؤالك؟ فأخبره، فقال: إن يكن شيء فإننا نبيت وليس في قلوبنا حقدٌ لأحد) ، ولذا يقول الصديق رضي الله تعالى عنه: (ما سبق السابقون بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بما وقر في القلب) ، أي: من طهارة القلب، وتعظيم حرمات الله، ومخافة الله سبحانه وتعالى. إذاً: الطهور هنا المراد به: طهارة القلب من كل أدرانه، كما في قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103] تطهرهم من أي شيء؟ هل تطهرهم من نجاسة أو خبث؟ لا، بل تطهر تلك النفوس، قال تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] أي: في أنفسهم وأموالهم، فالزكاة بمعنى: النماء والزيادة، يقول العلماء: (الزكاة تطهر وتزكي) ، فالغني والفقير يستفيد من الزكاة، فالغني يطهر قلبه من درن الشح، والفقير تزكو نفسه من الحقد والحسد. وإذا سلم الغني من الشح، وسلم الفقير من الحقد، أصبح الجميع إخواناً، ومن هنا يمكن أن يقال: إن الحديث عني أول ما عني بالقلب؛ لأن القلب إذا طهر نبع وفاض بكل خير، ولذا أعقب طهارة القلب بذكر اللسان، والذكر لا يأتي بمجرد نطق اللسان بل لابد أن يكون نابعاً من قلب طاهر، وكأن الحديث يقول: أولاً طهر قلبك، ثم بعد ذلك اذكر ربك، فيكون الذكر نابعاً من قلب طاهر مع الله، ومثال ذلك في المحسوس: المزارع إذا أراد أن يزرع أرضه، وجاء ببذور جيدة غالية، فقبل أن يضع البذور في الأرض ينقي التربة، فإن كانت سبخة حذاها، وإن كان فيها نجل نقاها، إن كانت فيها حجارة أبعدها، حتى تصبح التربة طيبة منبتة نقية، فحينئذٍ يطمئن إلى الزرع، فإذا زرع فيها كان النبات حسناً، أما أن تكون أرض سبخة، أو أرض ملغمة، أو أرض اختلطت حجارتها بترابها، فكيف تنبت هذه؟! ومن هنا أيها الإخوة! جاءت لا إله إلا الله، بمعنى أنها تنفي كل مألوف، وبعد أن يزيل الاعتقاد من كل مألوف، وينبذ كل المعبودات، يتجه إلى إله واحد، دون مزاحمة. وإذا جئنا إلى الاجتماعيات والمشاركة في الفكر: إذا كنت تريد أن تضع فكرة نقية في قلب إنسان، فقبل أن تضع الفكرة، وقبل أن تدعوه إلى الفكرة يجب أن تزيل العوائق، فإذا كان إنسان يعتقد اعتقاداً خاطئاً، وتريد أن تلقنه القعيدة السليمة، فقبل أن تلقنه العقيدة السليمة يجب أن تبين له بطلان ما في ذهنه، لماذا؟ لأنك إذا جئت بالصالح مع الطالح أفسد الطالح الصالح. مثلاً: إذا كان عندك عسل مصفى، وعندك إناء فيه زيت أو شيء آخر، فلا تدخل العسل على الزيت أو على شيء قذر، ويجب أن تنقي الإناء وتنظفه أولاً، ثم تصب العسل فيه، وكما يقولون: الغزو الفكري، يكون بمجيء فكرة تزاحم فكرة، ودعوة تزاحم دعوة، وحينما تختلط اللغات بعضها ببعض، تجد فيها احتكاكاً، وتجد كلاً من اللغتين تأخذ من الأخرى، ويحصل حينئذٍ اللحن، ومن هنا ندرك أهمية وصية النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) ، وقال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ، لماذا؟ كان اليهود موجودين، والمشركون موجودين، فإذا استمر دين بجانب الدين الإسلامي، فلا بد أن يحصل احتكاك، ولا بد أن تأخذ كل طائفة من الأخرى؛ ولهذا يجب ألا يكون في جزيرة العرب دينان؛ وجزيرة العرب قاعدة الإسلام، ومنطلق الإسلام، فيجب ألا يشارك الإسلام فيها دين آخر؛ لأنه إن وجد فيها دين آخر فسيحصل امتزاج واحتكاك، أولئك يأخذون من هؤلاء، وتزحف العادات السيئة إلى صميم وقلب الأمة الإسلامية. إذاً: (الطهور شطر الإيمان) أولاً وقبل كل شيء: طهارة القلب من كل ما يدنس المعتقد الإسلامي، سواء كان فيما يتعلق بالعقيدة في ذات الله سبحانه، في وحدانيته، في أسمائه وصفاته وأفعاله، في ربوبيته لكل العالمين، في ألوهيته وإفراده بالعبادة، فإذا طهر القلب، وصار نقياً مع الله، أصبح هذا القلب خصباً نقياً، صالحاً لأن تضع فيه كل خير، فينطق بحمد الله وتسبيحه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله) .

معنى قوله: (الحمد لله تملأ الميزان)

معنى قوله: (الحمد لله تملأ الميزان) إذا طهر القلب، يأتي دور اللسان: (الحمد لله تملأ الميزان) ، ويقولون: إن الحمد والثناء والشكر كلها مدح لمن تتجه إليه، ولكنهم يفرقون بينها، فيقولون: الحمد ثناء على المحمود سواءً كان بالإفضال أو بالتفضل، أي: سواءً كان فاضلاً في ذاته، أو متفضلاً بنعمه على غيره، وحقيقة الحمد هو الثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا يوجد هذا إلا لله سبحانه، ولذا قالوا: (ال) في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] للاستغراق، تستغرق جميع المحامد وتضيفها إلى الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان) أتى بعدها بسبحان الله، وإذا نظرنا إلى اللفظين: الحمد لله، وسبحان الله، فهما قسيمان، (فالحمد لله) تثبت للمولى سبحانه جميع صفات الجلال والكمال، وهذا غاية التوحيد، والقسم الثاني (سبحان الله) تنزيه لله عن جميع النقائض، فحينما تأتي إلى اللغة تجد هذه المادة (سبحان) على وزن (فعلان) فالألف والنون زائدتان، وأصل المادة (سبح) ، كما في قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ} [الحديد:1] ، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} [الجمعة:1] فالسبحان بمعنى الغفران، وأصل (سبح) من السباحة في الماء، وجميع مفردات اللغة العربية يسبق وضعها للماديات، ثم تنتقل إلى المعنويات، فالسباحة في الماء حركة، والغرض منها والمقصود بها النجاة من الغرق، فأنت إذا نزلت في الماء ولم تسبح غرقت وهلكت، فكذلك الذي يقول: (سبحان الله) يعني: أنزه الله سبحانه، وأبعده عن كل ما لا يليق بجلاله، وأبعد نفسي عن موارد الهلاك، فالعبد حينما يسبح الله ينجو؛ لأنه نزه ربه عما لا يليق بجلاله وإلا لهلك، فإذا جمع العبد بين (الحمد لله) -وهو إثبات صفات الكمال لله- وبين (سبحان الله) -وهو نفي كل النقائص عن الله- يكون قد استكمل جوانب التوحيد، وهو إثبات بلا تكييف، وتنزيه بلا تعطيل، وبهذا يجتمع التوحيد في هاتين الكلمتين، ومن هنا جاء في الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) بدأ هذا الحديث بطهارة القلب، ثم جاء بذكر اللسان بأجمع الكلمات، وكما قالوا: إن الله اصطفى من الكلام أربع: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ، وفي الحديث: (لا حول ولا قوة إلا بالله من كنز تحت العرش) . وقوله: (الحمد لله تملأ الميزان) ما هو الميزان؟ الميزان عند أهل السنة جميعاً: ميزان بكفتين، ينصبه الله للعباد يوم القيامة: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] ، والمعتزلة يقولون: ليس هناك ميزان، وإنما هناك عدالة في الفصل بين الخلائق يوم القيامة، وأهل السنة والجماعة يثبتون الميزان لوزن أعمال العباد، وجاءت السنة تبين أن هذا الميزان لو وضعت السموات السبع والأرضون السبع في كفة لوسعتهم تلك الكفة، وذلك في حديث البطاقة: (يؤتى بالعبد وله سجلات مد البصر، ويظن أنه هالك، فيقال له: لك عندنا حسنة، فتخرج بطاقة فيها: (لا إله إلا الله) ، فيقول: وماذا تفعل لا إله إلا الله بهذه الموازين؟ فيؤتى بلا إله إلا الله في بطاقة فتوضع في الكفة الأخرى، فترجح بكل تلك السجلات) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن السموات السبع، والأراضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله) . وقوله: (سبحان الله، والحمد الله تملأان، أو تملأ، أو يملأان) ، جاء بهذه الروايات الثلاث، (تملأ) بالإفراد أو (يملأان) بالتثنية. قالوا: على التثنية الحمد والتسبيح، وعلى الإفراد الجملة بكاملها كأنها جملة واحدة، والكلمتان معاً كالجملة الواحدة.

عظم ثواب الحمد لله وسبحان الله

عظم ثواب الحمد لله وسبحان الله أيهما أعظم ثواباً: قولك: الحمد لله أو الحمد لله وسبحان الله؟ بعضهم يقول: سبحان الله، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، والجمهور يقولون: إذا كانت كفة الميزان تسع السموات والأرض، فأيهما أكبر جرماً وأوسع وأكثر؟ لا شك أن كفة الميزان أو الميزان أوسع؛ لأنه يسع السموات السبع والأراضين. إذاً: الحمد لله ثوابها أعظم، وقالوا: إن الحمد هو نصف توحيد حق الله، والتسبيح هو النصف الثاني، فثواب الحمد وإثبات الكمال والجلال لله لا أحد يقدر قدر هذا الثواب؛ لأنه متعلق بحق الله، وبحق مدحه سبحانه، فثوابه لا يسعه ولا يقدر قدره إلا الله، قالوا: الحمد لله تملأ الميزان، ثم تأتي (سبحان الله) مع (الحمد لله) فتملأ ما بين السماء والأرض، مع بقاء الميزان مملوءاً بثواب الحمد لله. انظروا أي عظمة هذه؟! لأنها تتعلق بذات الله، تحمد المولى، وتنزه المولى، والباقي كلها فروع.

معنى قوله: (الصلاة نور)

معنى قوله: (الصلاة نور) بعد نطق اللسان، الذي جاء عقب تطهير القلب، تأتي أعمال الجوارح، (والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) قال: (الصلاة نور) بينما يأتي قوله: (والصبر ضياء) ، ويتفق علماء اللغة أن الضياء أقوى وأشد من مجرد النور، لكنهم يقولون: النور إضاءة بلا حرارة، والضياء نور مع شدة حرارة، (والصدقة برهان) ، قالوا: البرهان هو الشعاع الذي يكون أمام ضوء الشمس. إذاً: هذه الثلاثة الألفاظ (نور- ضياء- برهان) ترتبط بخط الإضاءة، إلا أن النور فيه ضياء مع هدوء، وليس فيه حرارة، والبرهان قريب من أشعة الشمس، والضياء نور مع شدة حرارة. وما فائدة هذا التقسيم؟ قالوا: إن دين الإسلام نور وهداية، والقرآن الكريم وصف بأنه نور، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52] ، وقال تعالى: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1] ، وأما الضياء فمعه الشدة؛ ولهذا غاير في وصف الصلاة بأنها نور، والصبر بأنه ضياء، وقالوا: النور يصدق على مطلق الإضاءة، والضياء لا يكون إلا للشيء الشديد القوي كما قال سبحانه: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5] فوصف القمر بأنه نور، والشمس بأنها ضياء؛ لأن نور الشمس أشد من نور القمر، ولكن قد يستطيع الإنسان مواصلة السير في نور القمر ما لا يستطيعه في ضوء الشمس، وأيضاً الصبر أعم من كل التكاليف، فبالصبر تصلي، وبالصبر تصوم، وبالصبر تزكي، وبالصبر تجاهد في سبيل الله، إلى غير ذلك. ووصف الصلاة بأنها (نور) ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه وصف الصلاة بقوله: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كانت له نوراً يوم القيامة، لم يحافظ عليها لم يكن له نور يوم القيامة) ، وجاء فيما يتعلق بالوضوء: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) ، وجاء في حق الصلاة أنها نور على الصراط، وجاء في القرآن الكريم: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] ، والآية الأخرى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، وسمعنا الشيخ الأمين رحمة الله عليه في هذا المقام يقول: هذه قضية خطيرة جداً بين المنافقين وبين المؤمنين، وفي ذلك اليوم يكشف الله حقيقة خداع المنافقين: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] ، ويقول: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، وكيف يخادعون المؤمنين؟ قال الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14-15] . فهم خدعوا المؤمنين بقولهم: نحن معكم، ويحضرون معهم الجماعات، وإذا توفى أحدهم توارثوا معه، ويتزاوجون من المسلمين، ويتوارثون معهم، ويجاهدون معهم، ويأخذون من الغنائم معهم، وحقنت دماؤهم وأموالهم، هذا ظاهر الأمر، ولكنهم يخفون الكفر، فالله سبحانه تركهم على ما هم عليه، وظنوا أنهم بذلك خدعوا الله وخدعوا المؤمنين. وفي يوم القيامة -نسأل الله السلامة والعافية- يتولى الله أمر الجميع، ويقوم الناس من قبورهم لأول وهلة غراً محجلين من أثر الوضوء، المؤمن والمنافق سواء، ثم يطرد المنافقون من الحوض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا فرطكم على الحوض، ثم إن الملائكة تذوذ أقواماً عن الحوض فأقول: أمتي أمتي! فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي) . وفي ذلك اليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، ويبعث المنافقون بآثار نور الوضوء مع عامة المؤمنين، ويفرحون بذلك، لأنهم تساووا مع المؤمنين، حتى إذا جاءوا ليردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم طردوا!! والنبي عليه الصلاة والسلام فرط الأمة على الحوض كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا فرطكم على الحوض، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً غراً محجلة، أكان يعرفها؟ قالوا: نعم) والدهم التي لونها واحد، البهم السوداء التي ليس فيها لون آخر، وغراً أي: جبينها مضيء، والحجل موضع القيد، والفرس إذا كانت دهماء بلون واحد، وجبينها أبيض، وأقدامها بيضاء، لا تخفى على صاحبها أبداً: (أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً، أكان يعرفها؟ قالوا: نعم، قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) فبين صلى الله عليه وسلم أنه ينتظرهم عند الحوض، فإذا جاءوا فرزت الملائكة النفاق عن الإيمان، وعزلت المنافقين عن المؤمنين، ومضى المؤمنون إلى الحوض ليشربوا منه، وحين يرد المنافقون يقولون كما قال الله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد:13] ، انظرونا: بمعنى انتظرونا، أي: حتى نمشي في أنواركم أو انظرونا: التفتوا إلينا، وانظروا إلينا ليجيء إلينا أنوار وجوهكم، انظرونا، أو انتظرونا: {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] . قال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] تبقى على بياضها، {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] أي: يطفأ نورها، وهؤلاء هم المنافقون، وحين ينادون المؤمنين يجيبهم المؤمنون: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:13-14] ، فيبقى النور مع المؤمنين، ولكن المؤمنين حينما يرون هذا الموقف، يخافون من موقف آخر، ومن اختبار ثانٍ، فيقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8] أي: أبقِ لنا هذا النور، وأتمه لنا حتى ندخل الجنة. نسأل الله سبحانه أن يرزقنا وإياكم النور الكامل، وأن يحفظنا وإياكم من الفتن، وأن يبلغنا وإياكم رضاه والجنة. قوله: (والصلاة نور) قالوا: هي نور في الدنيا؛ لأن المؤمن إذا طهر قلبه؛ وأدى الصلاة، كانت الصلاة له شحنة نور في قلبه، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) من أين يأتيه النور؟ من عبادته، ومن صلاته: (ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) ، فينير الله له بصيرته. ولهذا يقول الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] إذا همه أمر فزع إلى الصلاة، فأنار الله قلبه وبصيرته، وشرح صدره، ويسر أمره. والصلاة نور للمؤمن في الدنيا، بتوجهه إلى الخير، واطمئنان النفس والقلب، وبحفظه عن المعاصي كما قال الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] إذاً: الصلاة نور في الدنيا، وكما قال بعض السلف: (من صلى بالليل، حسن وجهه بالنهار) أي: يضيء وجهه، قال الله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] ، وهكذا في عرصات القيامة، فالصلاة نور للعبد يوم القيامة. إذاً: (والصلاة نور) حقيقة يوم القيامة، ودلالة وهداية في الدنيا، ويدرك ذلك من ذاق طعم الصلاة، حينما يؤديها بخشوعها ويتمها بركوعها وسجودها، ويوفيها حقها من في الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، واستحضار القلب، وبذلك يشعر بحقيقة نور الصلاة وحلاوتها.

من أحوال السلف في الصلاة

من أحوال السلف في الصلاة كان بعض السلف إذا قام في الصلاة لا يدري بمن حوله، وإذا قرأ الآية ربما رددها الليل كله، كما جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قام ليلة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وابن عباس قام ليلة بقوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ، وعن عكرمة أنه قام بهذه الآية في سفر يرددها ويبكي حتى طلع الفجر، فهؤلاء ذاقوا حلاوة المناجاة مع الله. وهاهو علي بن الحسين كان يصلي وانصدع ركن المسجد، ولم يشعر بشيء، ومضى في صلاته حتى سلم منها، فقال: ما هذه الغبرة؟! قالوا: أما سمعت المسجد قد سقط؟! قال: لم أشعر بذلك! كنت في شغل عنها، وكان إذا أراد أن يتوضأ اصفر وجهه، وتغير لونه، فقيل له في ذلك، فقال: ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟! وعروة بن الزبير أصيب في ساقه، وقرر الأطباء قطعها، فقطعوها وهو في الصلاة! وذكر البخاري رحمه الله تعليقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، فأصاب في النهار حياً من أحياء العرب، فجاء رجل منهم كان غائباً فعلم أن زوجته مع المسلمين، فتبعهم بالليل، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم شعباً، فقال: (من يكلؤنا الليلة؟ فقام رجلان: رجل من ثقيف، والآخر من الأنصار، فأمرهما أن يحرسا المسلمين) ، فذهبا إلى فم الشعب، فقال أحدهما للآخر: اكفني نصف الليل الأول وأكفيك نصفه الثاني، فقام صاحب النوبة، يحرس فم الوادي، ورفيقه نائم ينتظر نوبته، فجاء الرجل الذي يطلب ثأر زوجه، فسمع القارئ يقرأ، ولم يره لظلام الليل، وكان رامياً، فأخرج سهمه، ووضعه في قوسه، ورماه صوب الصوت فأصابه، ولكن القارئ نزع السهم وألقاه، واستمر في قراءته، فظن المشرك أن سهمه أخطأ، فأخذ السهم الثاني وصوبه وأصابه، ولكن القارئ نزع السهم ومضى في صلاته، فظن الرامي أنه أخطأ، فأخذ الثالث ورمى وأصابه، وإذا بالدم يقطر على وجه النائم، فاستيقظ وقد فرغ من صلاته، فقال: ما هذا؟ قال: رماني الرجل، فقال: هلا أيقظتني أول ما رمى، قال: كنت أقرأ سورة فكرهت أن أقطعها! عجب والله! السهم يقطع في لحمه، ويتقاطر دمه، وهو يكره أن يقطع قراءة السورة، بأي مقياس تقيسونه أنتم؟! لو لم يكن هذا الأثر في صحيح البخاري، لقلتم: سنده وسنده، رجاله ورجاله؛ لأنه فوق مستوى إدراكنا، فكيف يتحمل ثلاثة أسهم؟! بل هي أشد من ستة؛ لأن نزع السهم وله أسنان معاكسة أشد فتكاً من رميه ونفوذه، كما قال القائل: سيان إن هي أقبلت أو أدبرت نزع السهام ووقعهن أليم فهذا يرُمى بثلاثة أسهم، وتخترق جسمه، وينتزعها ويستمر في صلاته؛ لأنه كان يقرأ سورة ويكره أن يقطعها! أتظنون أن هذه السورة من قصار المفصل كالضحى، وألم نشرح، والتين، لا والله! قالوا: إنها سورة الكهف، فيستمر في قراءته وصلاته بالليل حتى يختم سورة الكهف! غذاؤهم الروحي هو سر قوتهم وليست القوة بالمطعومات والمشروبات. ويقولون: من خصائص خالد بن الوليد: أنه ما انهزم في معركة أبداً، حتى وهو مشرك، وفي أحد كان مع المشركين، وكان هو سبب عملية التفاف المشركين من وراء الرماة. قيل له في آخر حياته: يا خالد! لقد حزت المناصب، ونلت الانتصارات، فما هي أمنيتك في الحياة بعد ذلك كله؟ انظروا! حروب وانتصارات، غنائم ومناصب، ويسأل: ما تريد بعد ذلك؟ ماذا كان جوابه؟! أطلب الخلافة؟! لا والله، إنما تمنى أن يحرس المسلمين مصلياً، فـ خالد رضي الله عنه ما كان يعمل لمنصب، ولا لدنيا، وخير شاهد على ذلك: ما وقع في وقعة اليرموك، حينما كان رضي الله عنه قائداً للمعركة، وعاملاً لـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فتوفي أبو بكر وتولى عمر، وسمع عمر بانتصاراته، وسمع برعب الناس، فعزله أثناء المعركة، وجاء البريد بوفاة أبي بكر، وأمر عمر بعزل خالد وتولية أبي عبيدة، فماذا فعل خالد؟ حينما اجتمع القادة جميعاً قالوا: دعونا نتناوب القيادة؛ لأن عدد العدو أكثر من عدد المسلمين خمس مرات، فقالوا: نتناوب القيادة، واتركوا لـ خالد هذا اليوم، فأخذ ينظم الجيش، وأخذ يرسل بعض السرايا ليلاً لتأتي نهاراً توهم العدو بمجئ مدد، وفي أثناء المعركة بدت بشائر النصر، وجاء البريد، فأوقفه خالد ما عندك في هذا البريد؟ فأخبره، فقال: أعلم برسالتك أحد؟ قال: لا. فحبسه عنده وأمسك خطاب عزله، واستمر في قيادة المعركة؛ حتى أتم الله النصر على يده، ثم ذهب إلى أبي عبيدة فقال: السلام عليك يا أميرنا! وعظم الله أجرك في أبي بكر، وليهنك خلافة عمر، قال: وأنت؟! قال: أنا جندي من جنودك، وقدم إليه خطاب التولية والعزل! فهل كان هذا البطل يسعى لمنصب؟! يأتيه العزل من القيادة وهو في أثناء المعركة، فلم يتخل ويقول: لست مسئولاً، ولا حاجة لي فيها، إنما كان يقاتل في سبيل الله، ولهذا كل مسلم يشارك في معركة، يحس بأنه مسئول عنها بكاملها. وهذا الحباب بن المنذر لما كان في غزوة بدر، ونزل رسول الله في أول الأمر منزلاً، فقال: (يا رسول الله! أمنزل أنزلكه الله فلا قول لأحد أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: بل الحرب والمكيدة، قال: ليس هذا بمنزل، الرأي عندي أن نتقدم إلى آخر بئر جهة المشركين، ونبني لنا حوضاً ونمنع عنهم الماء، ونجلس على الماء ولا ماء للمشركين) ، وكان جبريل مع رسول الله وهو ينظم الجيش، فنزل ملك وقال: (يا محمد! الرأي ما قال الحباب، فالتفت الرسول إلى جبريل، وقال: أتعرف هذا يا جبريل؟! قال: لا؛ لأنه ما كل ملائكة السماء يعرفوهم جبريل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ، ولكنه قال: هو ملك وليس بشيطان) فـ الحباب وهو فرد من الجيش يشعر بأنه مسئول عن مهمة المعركة بأكملها. وفي بعض الغزوات حاصر المسلمون مدينةً، واشتد أمر الحصار على المسلمين، واهتدى رجل في الليل إلى ثغرة في الحصن، فدخل حصن العدو، وفتح الأبواب، وكبر ودخل المسلمون وانتصروا، وهم لا يدرون من الذي فتح الأبواب؟ فقام الأمير يريد أن يعرف من هو، فقال: ليقوم صاحب الثغر فمكث ثلاث ليال ولم يأته أحد، ثم قال: عزمت عليك -يا صاحب الثغر- بحق السمع والطاعة إلا أتيتني، وفي منتصف الليل ذهب صاحب الثغر إلى خيمة الأمير، فوجد حارسه عند الباب وكان متلثماً، فقال للحارس: أخبر الأمير بأن طلبه على الباب، وقل له: إنه يجيبك بشرط: إن كنت تعرفه فلا تخبر به، وإن لم تكن تعرفه فلا تسأله عن اسمه، ولا تحاول أن تقدم له هدية ولا جزاء، فإن قبل دخلت عليه، وإلا انصرفت، فقال: أدخله، فدخل، فما كان منه إلا أن سلم وقال: أي هذا! ألا تتقي الله فينا، ما لك ولنا؟ ما الذي تريده مني؟ إن الذي أقاتل في سبيله يعرفني، ويعرف من أنا، وابن من، فهل جئنا من أجلك؟ عزمت عليك بالله ألا تطلبني بعد ذلك، وخرج من عنده حالاً! فـ خالد رضي الله عنه حينما سئل: لقد خضت المعارك وانتصرت، ونلت من الغنائم ما غنمت، ونصبت من المناصب ما نصبت، فما هي أمنيتك بعد ذلك؟ فيقول: ليلة مطيرة شديدة البرد، عاصفة الرياح، أقوم حارساً للجند تالياً لكتاب الله! إذا كان هؤلاء هم القادة فلماذا العجب من جندي ينزع السهام ويستمر في الصلاة؟! من الذي أعطاه هذه الطاقة؟! أهو البنج أم المنوم، أم المخدر؟! لا والله! إنه الإيمان فوق كل شيء، وهكذا إذا ذاق العبد حلاوة الصلاة، ومناجاة ربه، فأي نور بعد هذا؟! الصلاة نور في الدنيا، ونور في الآخرة، ويكفي أنها مما يعين العبد في دنياه، ويسعده في آخرته، لقد كان صلى الله عليه وسلم: (إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) . وابن عباس كان يمشي في سفر، فجاءه نعي صديق عليه، فنزل وصلى ركعتين، فقيل له في ذلك، فقال: أستعين بهما على ما بلغني من الخبر. وما من مسلم تنزل به نازلة، فيتوضأ ويستقبل القبلة، ويصلي ركعتين إلا شرح الله صدره، وفرج عنه ما به، ولذا جاء في الأثر: (من أراد أن يدخل على ربه بلا استئذان، ويخاطبه بلا ترجمان، فليسبغ وضوءه، وليستقبل القبلة، وليكبر في الصلاة) ، حينما ندخل المسجد، وحينما نقف للصلاة، لم نستأذن أحد، ويقف العباد جميعاً كل يدعو الله بلغته، والله لا يستأذنون أحداً، في موسم الحج يقف بجانبك إفريقي، وآسوي، وأوروبي، وأمريكي، ألسنة مختلفة، والكل في صف واحد، والكل يعبد رباً واحداً، بدون ترجمان، ويسأل كل إنسان مسألته بينه وبين الله، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد. فالصلاة صلة بين العبد وربه، يلجأ إليها العبد في النوازل والملمات، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ، وقد وصى صلى الله عليه وسلم بتربية النشء في البداية وقبل البلوغ عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) ، فيعود الصبي على الصلاة من السابعة إلى العاشرة ثلاث سنوات، بالترغيب وبالترهيب، وبإعطاء الحلوى والهدايا، وصحبته إلى المسجد، ثلاث سنوات، فإذا بلغ العاشرة، فإن كان خيّراً طيباً نقياً كان ذلك كافياً له في أن يرتاد المسجد وحده، وإلا ضرب ضرب تأديب لا ضرب تشفي، فإذا روّض من السابعة إلى العاشرة، ثم ألزم وضرب من العاشرة إلى الخامسة عشرة، فلا يجري القلم عليه إلا وقد أصبحت الصلاة جزءاً من دمه ولحمه، وما جنى إنسان على ولده أكثر من ترك تعليمه الصلاة، فعلى العبد أن يفعل ما في وسعه، والتوفيق والهداية من الله سبحانه وتعالى. والصلاة عني بها صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كما جاء: (آخر ما تتركون من أمر دينكم الصلاة، وأول ما يسأل عنه العبد

الحديث الثالث والعشرون [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [2]

الصدقة برهان

الصدقة برهان بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فنواصل شرح حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشجعي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأان أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) وقد تحدثنا عن بعض ألفاظه وفقراته، ووصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (والصدقة برهان) ، ذكر الصدقة بعد الصلاة، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (الزكاة قرينة الصلاة، الصلاة حق البدن، والزكاة حق المال، والله! لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة) . وجمهور العلماء على أن المراد بالصدقة فريضة الزكاة في المال، سواء في بهيمة الأنعام، أو في الحبوب والثمار، أو في النقدين أو غيرهما؛ لأن الله سماها صدقة في قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، والذي يأخذه صلى الله عليه وسلم جبراً عليهم إنما هي الفريضة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن لم يؤدها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) . يقوم بتحصيلها ولا يأخذ شيئاً منها، لماذا؟ لأمرين: الأمر الأول: أنها أوساخ الناس {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] . الأمر الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي يجمعها ويقاتل عليها، ويعاقب من منعها بأن يأخذ نصف ماله عقوبة له، فلو أخذ منها درهماً واحداً، لوجد المنافقون مطعناً يطعنون به، وقالوا: قام في شأنها من أجل مصلحته، ولكن الله سبحانه وتعالى أغناه عنها، وطهره منها، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا آل محمد منها شيء. والصدقة بعمومها -كما في هذا الحديث- تشمل الفريضة والنافلة، وكلمة صدقة وبرهان مرتبطان، والبرهان: هو الشعاع الذي يقابل ضوء الشمس، فهو مرتبط بالنور في الصلاة، ومرتبط بالضياء في الصبر، وسمي هذا الشعاع برهاناً، وكذلك الحجة القاطعة تسمى برهاناً؛ لأنها دليل يبين الحق ويثبته. فما علاقة الصدقة بالبرهان؟ وما هو ارتباط الصدقة بإقامة الحجة؟ نرجع إلى الصدقة وإلى الصدق، الصدق ضد الكذب، والصدقة تتفق في المادة الأساسية مع الصدق، فأصل المادة: (صاد ودال وقاف) ، والتاء في الصدقة (للتأنيث) . إذاً: الصدقة والصدق من مادة واحدة، والصدق ضد الكذب، والصدقة دليل على صدق من يقول: أنا مسلم، ودليل على إيمان المتصدق بالله وبوعد الله؛ لأن الله سبحانه قال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] . فالمتصدق حقيقة يتعامل منه مع الله، ومن هنا تأتي آداب الصدقة، وآداب الزكاة، وكيف تكون الصدقة برهان صدق على إيمانه، وقد أشرنا فيما مضى أن قانون الحياة، وتعامل الإنسان مع الآخرين، مبناه على المعاوضة، أو كما يقال: المقايضة، وكان التعامل قبل النقد بالمقايضة، تدفع براً لإنسان وتأخذ منه تمراً، تستأجر أجيراً ليعمل وتعطيه خبزاً أو شعيراً، كان لا يوجد نقد، تعطي عشرين شاة وتأخذ ناقة، مقايضة السلعة بالسلعة؛ لأن قانون الحياة معاوضة في المعاملة، فالأجير يأخذ أجراً بقدر عمله وإنتاجه، والأجراء يتفاوتون، هناك عامل وفني، و. إلخ. وكذلك البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والآن تدفع نقداً وتأخذ سلعة، فتدفع النقد وأنت ممنون، وتأخذ السلعة وأنت ربحان، وكذلك البائع المقابل يأخذ الثمن وهو فرحان، ويدفع السلعة إليك وهو ربحان، وكل يقايض الآخر ويتعاوض معه، وينتظم دولاب الحياة، بل إن قانون المقايضة والمعاوضة -كما يذكر علماء الاجتماع- سائر حتى مع الحيوان، فالحيوانات تتعامل أيضاً بالمقابلة، لو أن عندك شاة حلوباً، فإن أكثرت لها العلف زادت في الحليب، وإن أنقصت من العلف نقص الحليب، وكذا لو عندك راحلة تريد السفر عليها، فإن علفتها واصلت بك السير، وإن أجعتها انقطعت بك في الطريق، وهكذا. وكما جاء في قصة بعير الرجل، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ندّ علي بعيري؟ أي: هاج البعير، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين، والحيوانات عوالم وليست بعالم واحد، وقد حث صلى الله عليه وسلم على الرفق بالهرة، وبالكلب، إلى آخره، وقال: (في كل كبد رطبة أجر) ، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا بنا إلى بعيره) ، وحينما وصلوا البستان، إذا بالبعير هائج في وسط البستان، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الحائط، فقال الصديق رضي الله تعالى عنه، (يا رسول الله! على رسلك البعير هائج! قال: على رسلك أنت يا أبا بكر) ، وتقدم صلى الله عليه وسلم ودخل الحائط واستقبل البعير الهائج وحده، فلما رآه البعير أقبل إليه، وجاء ووضع رأسه على كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أذنه، وأخذ صلى الله عليه وسلم يصغي إليه، وبعد الحديث الذي لا ندري عنه شيئاً ترجمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي منك كثرة الكلف، وقلة العلف) فالكلف كثير، والعلف قليل، فهل من حقه أنه يتمرد على صاحبه أم لا؟ يجب أن تكون هناك مساواة ومعادلة، وقبل أن تأخذ لابد أن تعطي، فيجب على العبد أن يعطي بقدر ما يأخذ، وقانون الحياة في المعاوضة بقدر الخدمة، ويقول علماء الحيوان أيضاً: يوجد تعاون ومقايضة ومبادلة بين التمساح وبين بعض الطيور، التمساح من طبيعة خلقته يأكل اللحوم ويأكل النبات، فأسنانه لها شعاب، وليست ملساء كبقية الحيوانات، فإذا أكل اللحوم لا يستطيع أن ينظف أسنانه من بقايا لحم الفريسة التي يفترسها؛ لأن أسنانه لها شعب، فإذا افترس حيواناً برياً أو بحرياً فبعدما ينتهي من أكله يخرج إلى الشاطئ، ثم يفغر فاه الكبير، فيأتي ذاك الطائر الجائع فيأكل داخل فم التمساح آمناً مطمئناً؛ لأن التمساح له حاجة عنده، فيأخذ الطائر ينقر ما بين أسنان التمساح وينظفها تماماً، وفي الوقت نفسه يكون قد شبع، فالتمساح استفاد نظافة أسنانه، والطائر استفاد شبعه، ثم يذهب الطائر في حاله، ويرجع التمساح إلى البحر، وهذه معاوضة، وكان يقدر التمساح أن يطبق فمه عليه ويأكله، لكنه يفوت على نفسه المصلحة، وهي نظافة أسنانه.

الحث على الصدقة

الحث على الصدقة قانون الحياة على المعاوضة، وأنت لو رأيت إنساناً يخرج ريالاً واحداً ويمزقه، فماذا تقول عليه؟ سنقول: إنه مجنون، لكن لو رأيته يدفع مليون ريالاً لبيت يسكنه، فستقول: إنه رجل عاقل، ومدبر، ويعرف مصلحة نفسه، ويعرف أين يضع المال. إذاً: تقديم ريال واحد بدون عوض جنون، وليهنأ المدخنون بهذا الجنون! فكل إنسان ينفق مالاً في غير ما عوض فهو من هذا الباب. وإذا كان قانون الحياة المعاوضة، ولا تدفع درهماً إلا لمقابل، فإذا دفعت الصدقة لمسكين فأين المقابل؟ العوض عند الله، فالمتصدق يتعامل مع الله، ويقرض الله قرضاً حسناً: (إن أحدكم ليتصدق بالصدقة، فتقع أول ما تقع في كف الرحمان، فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه حتى تصير كجبل أحد) ، والفلو: ولد الفرس الصغير؛ وذكره لأن محبب حتى عند غير صاحبه، فكما يعتني صاحب الفلو بفلوه وينميه حتى يصير فرساً، كذلك المولى سبحانه ينمي الصدقة حتى تصير كجبل أحد، والمؤمن حقاً هو الذي يتصدق، بل إن من كمال الإيمان أن يخفي صدقته حتى على المتصدق عليه؛ لأنه ليس له غرض من المتصدق عليه، ولا ينتظر منه شيئاً، فلا يريد منه أن يرد عليه إحسانه؛ لأنه يتصدق ويعتقد أن المولى سبحانه هو الذي يتقبلها منه، إذاً: ليس له حاجة في العوض من الخلق، ومن هنا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظله إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) ، وأشرنا بأن الحديث ليس فيه قلب؛ لأن الذي يريد أن يخفي الصدقة حقاً يخرجها بشماله؛ لأن الناس ينظرون إلى يمنيه، لأنها أداة الحركة والأخذ والعطاء، والشمال ملغاة في هذا الباب، فبما أن الناس ينظرون إلى اليمين، ويتوقعون منها الحركة والعطاء، فهو يفرغها ويشغل الأخرى، إمعاناً في إخفاء الصدقة، لماذا؟ لأنه يؤمن بأنها عند الله. إذاً: المتصدق أخرج شيئاً من ماله، والنفس شحيحة على المال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ، وفي الحديث: (لا يتصدق عبد بدرهم واحد حتى يفك لحى سبعين بعيراً) ، انظر التشبيه! كأن الدرهم يعض عليه سبعون بعيراً، ويفك لحاها واحداً بعد واحد، يعني: يجاهد نفسه، المرة تلو الأخرى، كلما هم أن يتصدق، النفس تقول: لا، أنت في حاجة، أولادك في حاجة، لا تدري ما المستقبل، وهكذا تأتيه عوامل ونوازع لترد الدرهم، وهو يريد أن يدفعه، عوامل وعقبات شديدة حتى يجتازها فيخرج الدرهم من يده، ومن هنا كانت قيمة الصدقة معنوية بحسب العامل النفسي لا بميزان الكثرة والقلة؛ لأن الكثرة والقلة عند الله سواء، خزائنه ملأى؛ ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (درهم سبق مائة ألف درهم) كيف هذا؟! عجيب والله! هل يعني ذلك: أن هذا الدرهم من الذهب، وتلك الدراهم من الخشب، لا، الدراهم واحدة، قالوا: (وكيف -يا رسول الله- واحد يسبق مائة ألف؟) لأن النوع يتساوى، رجل ورجل يتساوى، أفريقي، أمريكي، آسيوي، المهم أنه رجل جاء من آدم وحواء، فلا تفاوت في الواحد بالنوع، فالدرهم هو الدرهم، والرجل هو الرجل، لكن رجل عنده درهمان، ورجل عنده مال كثير، فتصدق صاحب الدرهمين بدرهم، وصاحب المال الكثير جاء إلى عرض ماله فأخذ قطعة منه مائة ألف وتصدق بها، فكم بقي لهذا الشخص صاحب المال الكثير؟ إذا كان أخذ من الطرف مائة ألف، فهذا يعني أنه: بقي في ماله ملايين، فالجزء الذي تصدق به لعله بالنسبة المئوية واحد من عشرة في المائة، أي: واحد من ألف، لكن إذا جئنا إلى صاحب الدرهمين، فالنسبة (50%) ، أي: نصف المال، والذي بقي لصاحب مائة الألف آلاف مؤلفة، ولكن صاحب الدرهمين لم يبق له إلا درهماً واحداً، فأيهما أشد إيماناً ويقيناً بالله؟ وأيهما تكون صدقته أعظم عند الله؟ صاحب الدرهم الواحد، ولهذا يقول العلماء في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] يعني: بعد السبعمائة، لمن كان ينفق ويتصدق مع الحاجة، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] ، ونجد بعض المفسرين يرجع الضمير في (حبه) إلى لله، ولكن جمهور المفسرين أنه راجع للطعام؛ لأن علاقة المتصدق بالله جاءت صريحة: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9] إذاً: (على حبه) يكون عائداً على الطعام، وإذا أرجعنا الضمير في على (حبه) إلى الله، فتبقى (نطعمكم لوجه الله) ليس لها محل. إذاً: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] أي: على حب الطعام، وحاجتهم إليه، وهذا هو الوصف الذي سجله الله للأنصار والمهاجرين رضي الله تعالى عنهم، وتأملوا هذا التقسيم وهذا الوصف في ذاك المجتمع: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] ما خرجوا فراراً، ولا خرجوا من قلة، إنما خرجوا من ديارهم وأموالهم، كما قال الله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ، سماهم (الصادقون) ؛ لأنهم تركوا المال، والعيال، والديار، كما في قصة صهيب الرومي رضي الله عنه، ومعلوم أن صهيباً جاء من الروم إلى مكة ولا مال له، فصنع واتجر وأصبح ذا مال، فخرج مهاجراً، فأدركه أهل مكة، فقالوا: يا صهيب! جئتنا لا مال لك، وأصبحت ذا مال، أتريد أن تخرج بنفسك وبمالك عنا؟ لا يكون ذلك أبداً، قال: عجيب! همكم المال، يا معشر قريش! والله! إنكم تعلمون أني لأرمي ولا يخطئ لي سهم أبداً، وإن كنانتي ملأى، فهل إذا دللتكم على مالي ذهبتم وأخذتموه وتركتموني في حال سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: قد دفنته في المكان الفلاني، فاذهبوا فخذوه، قالوا: إنك عندنا لصادق، فلما وصل المدينة بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ربح البيع أبا يحيى!) لأنه اشترى نفسه من قريش بماله، وهاجر في سبيل الله، ما خرج عن فقر ولا عن حاجة، بل ترك المال، وفادى نفسه، وجاء مهاجراً. وهؤلاء لأي شيء هاجروا؟ هاجروا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. ما هو المقابل؟ قال الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .

أثر الصدقة في بناء المجتمع

أثر الصدقة في بناء المجتمع إذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى هذا المجتمع: فريق يأتي وقد باع دنياه وأقبل على آخرته، وفريق يؤثر غيره على نفسه؛ فكيف يكون هذا المجتمع؟! لو وقفنا وقفة تأمل عند هذه العوامل النفسية، ورجعنا إلى الهجرة النبوية الكريمة، لوجدنا عجباً! فالمدينة موارد اقتصادها زراعة، وتجارة، وبعض الصناعات وأكثرها بيد اليهود، والزراعة موزعة بين اليهود وبين الأوس والخزرج -أي: أن عملية الإنتاج والنمو محدودة- ومع ذلك تستقبل آلاف المهاجرين إليها، كيف كان ذلك؟ بسعة صدر أهلها، وفي الوقت الحاضر أرسلوا أناساً من مخلفات الحرب، فردوهم إلى بلادهم، وتجد السفينة تطوف بالفتناميين على الموانئ فلا يقبلهم أحد، وبريطانيا تأبى أن تنزل إلا ألفي رجل فقط، لماذا؟ لأنها ستؤدي ضائقة اقتصادية. لكن المدينة النبوية بحدودها الضيقة واقتصادياتها البسيطة تستقبل آلاف المهاجرين إليها، لا بوفرة اقتصاد، ولا بكثرة نماء، ولكن بسعة صدور أهلها: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] . ولذا كان أول عمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة: المؤاخاة بين المسلمين المهاجرين أنفسهم، والمهاجرين والأنصار، وكان الأنصاري يشاطر أخاه ماله، حتى أن بعضهم يقول: عندي زوجتان، فانظر أيهما تطيب لكم لأنزل لك عنها، وتعتد وتتزوجها، فيقول له: بارك الله لك في مالك وفي زوجاتك! دلني على السوق. وهذا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يؤاجر نفسه لامرأة في نضح الماء من البئر، وكل دلو بتمرة، نفوس عالية، والمال صنو النفس. والمال والولد قرينان في الخير والشر، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15] سبحان الله العظيم! ويقول في باب العطاء: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] فالمال قسمة رزق، وليس بجدك وبكدك ولا منصبك، لا والله! ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائم وكذلك الولد، ليس بقوتك، ولا بإنجاب زوجتك، ولكن هبة من الله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49-50] ، من يدعي غير هذه المشيئة؟! فإذا كان الولد هبة من الله، والمال قسمة من الله، فالمال صنو النفس، والمال صنو الولد، فكونك تخرج من مالك شيئاً، فكأنك أخرجت جزءاً من ولدك، فمن الذين يعاوض على الصدقة؟! الله، إذاً: (الصدقة برهان) ، ومن أي شيء تكون الصدقة؟ المولى سبحانه يبين فيقول: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة:267] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) . ولذا: تجد الكافر لا يتصدق، وقد تسمع بأنه تبرع لمستشفى أو لمدرسة، لكن لا يبغي بها وجه الله، إنما يريدها سياسة في الناس، وتقرباً إليهم، أما المنافق الذي يظهر الإسلام فإذا سئل الصدقة يتوارى، ويحتال، كما بين سبحانه فقال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] ، نفسك لا تطيب أن تأكله، فالمنافق يبحث عن الشيء الرديء، ويقدمه -فقط- ليستر عورة، ولكن المؤمن لا يفعل ذلك، فهو يتعامل مع المولى سبحانه. ولو نظرنا الآن في نظام العالم المادي الذي يفرض الضرائب على الأفراد، وقارنا بينه وبين نظام الإسلام الذي يجعل الزكاة طهراً ونماءً، نجد في العالم صاحب المحل يتحايل مع مفتش الضرائب، فيجعل دفتراً للمفتش، ودفتراً للدكان حقيقة، وكل ذلك لكي لا يدفع للدولة شيئاً، فهو يراها خسارة، مع أن الدولة تنفقها في المصالح العامة: في الطرق والمستشفيات والجيش وغيرها، ولكنه لا يريد أن يدفع، أما الزكاة أو الصدقة فيخرجها دون أن يطلبها منه أحد، وهذا حال المؤمن، وهذا مثل يضربه لنا أعرابي في الصحراء، أتاه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ الزكاة، فيعد أبله، فيقول: أخرج من إبلك بنت مخاض، وبنت المخاض من لها سنة ودخلت في الثانية، يعني: أمها ماخض في أختها، فيقول الرجل: بنت مخاض؟! وفي سبيل الله؟! كيف هذا؟ لا هي ضرع فيحلب، ولا ظهر فيركب، ولكن هذه ناقة كوماء فخذها في سبيل الله، فيقول العامل: ما بهذا أمرت، فنصاب الإبل خمس وفيها شاة، إلى عشرين وفيها أربع شياة، إلى خمس وعشرين وفيها بنت مخاض، ولا أستطيع أن أتعدى ذلك، فإن أخذت أكثر من ذلك ظلمتك، وتعديت حدودي، فالعامل يقول: لا أتعدى ما عندي، وصاحب المال يقول: لا أدفع بنت مخاض، ولكن أدفع ناقة كوماء! هل رأيتم خصومة مثل هذه؟ هذا شيء بعيد عن الحسبان. فالعامل يقول لصاحب المال: لا تجهد نفسك معي، هذا حدي، وإن كنت تريد ذلك فدونك رسول الله بالمدينة فاذهب بها إليه، وكان في الحنكية وهي منطقة تبعد حوالى مائة كيلو عن المدينة، فيأتي الرجل بالناقة الكوماء بدلاً عن بنت المخاض إلى رسول الله، فيعرض العامل على رسول الله قضيته، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: نعم والله يا رسول الله! فيقول للعامل: خذها، ويقول لصاحبها: بارك الله لك في إبلك) ، فيعيش صاحب الإبل إلى خلافة معاوية، وكان يدفع عشرات الرءوس من الإبل في زكاة ماله؛ لأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالبركة لم يذهب هباءً. وهذا ما يفعله الإيمان، والإيمان بالغيب أول قضية في القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-3] ومن الغيب: يوم القيامة، والجزاء والحساب، فإذا آمن حق الإيمان تيقن أن الدنيا كلها لا تساوي شيئاً، فأخرج من ماله، وكم من مسلم أخرج من ماله عدة مرات، وليس الأنصار وحدهم الذين يؤثرون على أنفسهم، بل أيضاً من المهاجرين؛ لأن الإيمان في قلب الجميع سواء، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها صامت ذات يوم، وبعد العصر جاء مسكين يقول: مسكين يا آل بيت محمد! فتقول عائشة لـ بريرة: أعطي المسكين، فتقول: والله! ليس عندي ما أعطيه، فقالت: ولا شيء؟ قالت: عندنا قرص شعير ستفطرين عليه في المغرب، يعني: ما عندنا إلا طعامك وأنت صائمة، فقالت عائشة: أعطي المسكين قرص الشعير! وعند الإفطار يرزق الله! يا سبحان الله! بالله عليكم هل واحد منا يعمل هذا؟! فتمشي بريرة وتقول: أعطي المسكين قرص الشعير، وعند الإفطار يزرق الله، وترددها مستعجبة! فلما جاء المغرب قامت عائشة رضي الله تعالى عنها لتصلي، وفي أثناء الصلاة طرق الباب، فلما فرغت عائشة من صلاتها، التفتت فإذا بشاة مشوية بقرامها! والقرام في اللغة: إما جميع الشاة، يعني مشوية كلها، وما أخرج منها شيء، مع الكبدة، والكرشة، والمقادم، والرأس، وكل شيء، وبعضهم يقول: كان من عادة العرب إذا أرادوا أن يأكلوا اللحم مشوياً، فبعدما يسلخوها يأتون بالدقيق، ويصنعون العجين اللين، ثم يغمسون الشاة في العجين، ويطلونها من خارجها، ثم يضعونها على الجمر، وتنضج الشاة من داخل، وقد عرفوا الوقت المحدد لهذا، فيكشفوا عنها الجمر، وأخرجوها بلباسها، وإذا أرادوا أكلها نزعوا عنها هذا اللباس من العجين، فكأنها موزة وتقشرها، فهذه الشاة جاءت لـ عائشة بقرامها، فقالت عائشة لـ بريرة: ما هذا يا بريرة؟ قالت: يا أم المؤمنين! لقد جاء بها رجل، والله! ما قد أهدى إلينا قط! فضحكت وقالت: كلي، هذا خير من قرص شعيرك، والله! لا يؤمن العبد ويكمل إيمانه بالله، حتى يكون يقينه بما عند الله أقوى مما في يده. تقول: الإنسان لا يكمل إيمانه أبداً حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه مما في كفه، فقد يأتي أحد الناس ويأخذها غصباً عنك، لكن المكتوب لك عند الله -مضمون، فهذه أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها آثرت غيرها على نفسها وفي شدة الخصاصة بقرص الشعير. إذاً: (الصدقة برهان) أي: على صدق الإيمان. وهناك آداب للصدقة مثل: قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة:264] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ، ويقول: (الرياء هو الشرك الأصغر) . والإسلام يأمر بهذه الآداب مع المساكين لحفظ شعورهم، والمحافظة على ماء وجههم: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، لا تقل له على رءوس الأشهاد: خذ اذهب اشترِ كيس بر، خذ اذهب اشترِ رزاً لبيتك، فهذا لا يصح، فأين إخفاء الصدقة؟ يقولون: كان في المدينة خمسون بيتاً تأتيها أرزاقها عند مطلع كل شهر: دقيق، وسمن، وغيرها، ولا يعلمون ممن تأتيهم، في ظلام الليل يطرق الباب، ولا يدرون من الطارق فيفتحون الباب فيجدون السمن والدقيق ولا يعلمون من أتى به، فلما توفي علي بن الحسين رضي الله عنه انقطعت هذه الأشياء، فعلموا أنها كانت منه.

الفرق بين الزكاة وصدقة التطوع

الفرق بين الزكاة وصدقة التطوع نأتي إلى النص الكريم في الفرق بين زكاة الفرض وصدقة التطوع: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271] ، تبدوها أي: تظهروها، {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] . قال العلماء: (تبدون) الفريضة ليتأسى بكم الآخرون؛ لأنها شعار وحق لله، كما ينادى للصلاة على المآذن، ويسعى الناس إلى المساجد، فكذلك الزكاة المفروضة، لكن صلاة قيام الليل في جنح الظلام والناس نيام نافلة، فكذلك الزكاة الفريضة تؤدى علانية، وأما صدقة التطوع فمثل قيام الليل في الصلاة، {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} [البقرة:271] . إذاً: علمنا القرآن الكريم كيفية إعطاء الزكاة والصدقة التي نتصدق بها، ومن هنا فعلى المسلم أن يتحرى الطيب، وبقدر محبته لما يتصدق به يكون أجره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير صدقة المرء أن يتصدق قوياً شحيحاً يخشى الفقر، ويرجو الغنى) ، لكن إذا كان في آخر حياته، وأحس ببرودة الموت، وقال: أعطوا فلاناً، وفلاناً، فنقول له: لماذا لم تتصدق من قبل؟! الآن وقد بخلت من قبل؟! وما أعظم النماذج في الإسلام، فهذا أبو طلحة رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله، إن بيرحاء أحب أموالي إليّ، فضعها حيث شئت في سبيل الله ... ) . وكان صحابي يصلي في بستانه، فرأى طائراً قد أهاجه شخص، فأراد أن يخرج من بين الأغصان فلم يجد فرجة، فأتبعه بنظره، وأعجب ببستانه، ثم انتبه فإذا به شغل بماله عن ذكر ربه، فجاء إلى رسول الله حالاً وقال: (يا رسول الله! شغلت وفتنت في مالي بكذا وكذا، ولا أرى إلا أن أتصدق به في سبيل الله ... ) ، بستان من أحب الأشياء إليه، متشابك الأغصان، والطائر لم يجد فرجة ليخرج، وهو يأتي إلى رسول الله ليتصدق به! فهم كما وصفهم الله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36-37] . وهذا نبي الله سليمان لما استعرض الخيل، قال الله عنه: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32-33] أي: تصدق بها في سبيل الله، لا كما يقول الآخرون: يمسحها بالمنديل ويلطفها، بل تصدق بها في سبيل الله؛ لأنها شغلته عن الصلاة حتى توارت بالحجاب. إذاً: أجر الصدقة بقدر ما تحبها، وكيفية التصدق بمثل ما تحب أن يعاملوك به، فهل ترضى أن يأتي إنسان ويمتن عليك أمام الناس؟ لا والله! والحر يجوع ويربط على بطنه الحجر، ولا يتحمل منةً لمخلوق. والقصد بالصدقة وجه الله، فالناس لا يعوضون أحداً، وإن أثنوا ومدحوا فكله ذاهب، ولكن إن قصدت وجه الله فهذا هو الباقي: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5] . ولو أننا تأملنا هذه الفقرة من هذا الحديث (والصدقة برهان) ، ونظرنا إلى المجتمع الإسلامي في الصدر الأول، لرأينا الدرس والمنهج، فالأغنياء يجودون بمالهم، ويؤثرون على أنفسهم، والفقراء يتعففون. فكيف كان ذاك المجتمع؟! كان مجتمعاً مثالياً؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، ويأتي الرجل يطلب الصدقة، فيقول: (أراك قوياً وهي لا تحل لقوي ذي مرة، فيقول: يا رسول الله! ليس عندي شيء، وأنا وعجوز في البيت، فقال: ولا شيء؟ قال: حلس نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعب نأكل ونشرب فيه) ، -هذا هو أثاث البيت، ما هي غرفة نوم، وغرفة مطبخ، وأواني، ولوازم، وو لا،- قال: (علي بهما، من يشتري؟! فقال شخص: بدرهم، فقال: من يزيد؟! فقال آخر: بدرهمين، فقال: خذ الدرهمين، واذهب واشتر بدرهم طعاماً لأهلك، وبدرهم فأساً وأتني به، فأخذ صلى الله عليه وسلم عوداً ووضعه فيه، وقال: اذهب فاحتطب وبع واكتسب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً) ، وعفا عنه في حضور الجماعة؛ لأن هذا تشغيل لليد العاطلة، والقضاء على البطالة في كلمة، فيذهب الرجل، ويأتي وينمي التنمية الاقتصادية، فالحطب الضائع في الخلا يصبح طاقة تعمل في البلد، عجوز تطبخ به، ورجل يحتطب، وأتى الرجل بعد المدة لابساً ثياباً جديدة، وجيبه مليء بالدراهم والدنانير يسمع صوتها، ويتبسم صلى الله عليه وسلم ويقول: (نعم هكذا، لأن يأخذ أحدكم فأساً وحبلاً فيحتطب فيبيع فيكتسب فيستغني، خير من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) . وهكذا الإسلام يعمل على رفع معنوية الإنسان، ويدفع العاطل ليعمل، ويجعل المجتمع بقسميه الغني والفقير يتساويان في المعنوية وحفظ النفس.

الحديث الثالث والعشرون [3]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [3]

فضل الصدقة وأثرها

فضل الصدقة وأثرها بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فمن الجوانب المهمة في الحديث عن الصدقة: بيان أثرها على العبد في الدنيا والآخرة: أما أثرها في الدنيا فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم الحث على الصدقة، وبيّن أثرها في نفسية العبد، وأنها تقي مصارع السوء، وتقي موت الفجأة، وتحفظ المال، وتزيده كما قال: (ما نقص مال من صدقة) ، والفكرة العامة عند الناس: أن المعروف لا يضيع، كما قال الشاعر: من يصنع الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب الخير عند الله والناس فإذا صنعت معروفاً لمخلوق لا ينساه لك، فالمولى سبحانه لا ينسى لك ذلك من باب أولى، بل جاء في الحديث القدسي: (يا عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول: جاع عبدي فلان، فلو أطعمته لوجدتني عنده، يا عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب! وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: مرض عبدي فلان، ولو عدته لوجدتني عنده) . بل الحيوان إذا أشفقت عليه ورحمته أثابك الله عليه، وقد جاء في الحديث: (أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، وجاء في الحديث: (دخلت امرأة بغي الجنة بسقيا كلب، كانت تمشي في الطريق، فاشتد بها الظمأ، ثم وجدت بئراً فنزلت وشربت، فلما خرجت إذا بكلب يلحس الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! قد بلغ به من الظمأ ما بلغ بي، فرجعت إلى البئر وملأت خفها ماءً وسقته، فشكر الله لها صنيعها، فغفر لها) . ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأصحابه قالوا: (ألنا في الحيوان أجر؟ قال: في كل ذي كبد رطبة أجر) .

صنائع المعروف تقي مصارع السوء

صنائع المعروف تقي مصارع السوء صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وهذه حادثتان مما سمعناها مباشرة، تعطي الإنسان العاقل في هذا صورة واضحة، وتقرب المعنى البعيد: الأولى: قصة إنسان معروف، أنقذ حياته وجماعته، ورد عليه وعلى رفقائه ماله، يقص الشخص بنفسه قصته علي فيقول: كان جالساً في مقهى، وجاء رجل من البادية وجلس، فبادر صاحب المقهى بالماء البارد، وبإبريق من الشاي، فشرب الرجل، وأراد أن يقوم، فأخذ يفتش في جيبه عن نقود فلم يجد، فأخذ صاحب المقهى يشتمه ويقول: إنك تحتال، وإنك كذا، فسمع هذا الرجل، ونظر إلى وجه الرجل فإذا به ليس من تلك الوجوه، فعز عليه ذلك، فنادى صاحب المقهى وقال: كم حسابك؟ فذكر له قرشين، فدفعها إليه، ونظر إليه الرجل، ومضى في سبيله، وبعد سنوات خرج هذا الرجل حاجاً هو ورفقته، وفي أثناء الطريق داهمهم قطاع الطرق، وجردوهم من جميع ما معهم من متاع ومال، وأوثقوهم في حبل، وبينما هم في تلك الحالة، إذا بكبير العصابة يأتي ويتفرّس الوجوه، فإذا به يقف أمام هذا الشخص، ويتأمل في وجهه -يقول الذي حدثني: لقد وقع في ظني أن له ثأراً أو ويريد اختياري للقتل، فما كنت أنتظر إلا الموت- ثم تفرس الوجوه مرة أخرى ونادى جماعته حالاً: أطلقوا هؤلاء الناس، وردوا عليهم متاعهم، وكل ما أخذتموه منهم، ولا أبرح مكاني حتى تفعلوا، وفكوا وثاقهم، وردوا أموالهم، ثم جاء إليه وأمسك بيده، وقال: هل يكفيك هذا بالقرشين؟ فقال: أي قرشين؟! قال: أنسيت سنة كذا في المقهى؟ سبحان الله!! واعذروني -أيها الإخوة- إذا أوردت مثل هذه القصص، لكنها واقعية، وتذكرنا بنعمة الله علينا بالأمن والأمان. فهذا المعروف الذي صنعه هذا الرجل ما كان يتوقع أن يلقاه بعد ذلك، وماذا كانت النتيجة؟ رقبته وماله وجماعته معه فدية لهذين القرشين، فلا تتكاثر معروفاً تصنعه، والعوام يقولون: اصنع المعروف وألقه في البحر، فهو لا يضيع، وأما الجزاء من الله سبحانه وتعالى فهو أكبر وأعظم قدراً. الثانية: قصة رجل ضل في الطريق، ودخل مغارة، وعجز أن يخرج، فطلبه أهله أربعة عشر يوماً فلم يجدوه، وبحثوا عنه في الآبار والمغارات، وفي كل مكان، وأيسوا من حياته، فدخلوا غاراً فوجدوه، وقد أخذوا معهم الإضاءة واللوازم، فأخذوه إلى البيت وسألوه: كيف كنت تعيش لمدة أربعة عشر يوماً؟! فقال: أولاً: أخبروني ماذا فعلتم في منيحة فلان؟ -بيت من جيرانه- مات والدهم وله أيتام، فمنح أيتام جاره حليب بقرة من بقره، فكان كل يوم يرسلها إليهم، فقالوا: كنا نبعث بها إليهم، وما قطعنها إلا بالأمس، قال: قد علمت ذلك، قالوا: وكيف علمت وأنت في ذاك المكان؟! قال: حينما ضعت عرفت أني هالك إلا أن يتداركني الله بلطفه، فجلست مظنة أن يأتيني أحد فيجدني قريباً، فطال الانتظار وطال الوقت، وأنا لا أعرف ليلاً من نهار، ورفعت يدي إلى الله أسأله مع شدة الجوع والعطش، فإذا أنا أجد بين يدي غدارة -إناء عادي يحمل في اليد-، فلشدة عطشي وجوعي أهويت بها على فمي، فإذا بها حليب بقري، وهكذا كانت تأتيني كل يوم، إلا بالأمس انقطعت عني. وهذا مما يبين قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ، كان في وسط المغارة، ولا يدري عنه أحد إلا الله، وهذا من فضل الله. وقد سمعت منذ أسبوع مضى: أن امرأة وقعت في دبل العين -والذي أخبرني حي يرزق- فانخسف بها الدبل، وسقطت في الأرض ولم تستطع أن تخرج، ومكثت خمسة عشر يوماً لا يعلم بها أحد، وقد كان لها غنم تعطي عجائز بجوارها من لبنها في طاسة من النحاس، فمر شخص يمشي على ظهر الدبل فسمع صوتاً، فنادى فأجابته فأخرجوها، فسألوها كيف كنت تعيشين؟ قالت: طاسة الحليب التي كنت أعطيها العجائز اللآتي بجواري، كانت تأتيني كل يوم! أيها الإخوة: إن وعد الله لا يحتاج إلى حكايات، ونقل أحداث، ولكن المؤمن إذا سمع شيئاً من هذا زاد يقينه، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم يرون المعجزات، ويرون خوارق العادات، فيزدادون إيماناً ويقيناً بالله، ولما جاء إعرابي وقال: (يا محمد! أنت نبي؟ قال: نعم. قال: من أرسلك؟ قال: الله. قال: من يشهد لك؟! قال: الطعام الذي تأكل منه، فرفعوا القصعة إليه وأصغى بأذنه فإذا بها تقول: لا إله إلا الله، فقال: والله! إنها لتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال رجل: اسمعنيها يا رسول الله! قال: أسمعه، فسمعها تأتي بالشهادتين، فقال الثالث: أسمعنيها؟ فقال: ضعها في الأرض) أي: يكفي شهادتين. فإذا كان الأمر كذلك، ونحن في القرن الخامس عشر نسمع أحداثاً من تلك ونعاينها ونحسها، فلا شك أن ذلك يعطي المؤمن زيادة إيمان ويقين، والخليل عليه السلام سأل ربه كما: قال الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] . إذاً: الصدقة في الدنيا لا تضيع، ولا يضيع الله على أحد شيئاً، أما البركة في المال، والزيادة، والطهر، والنماء، فهذا أمر مفروغ منه.

أثر الزكاة والصدقة في المجتمع الإسلامي

أثر الزكاة والصدقة في المجتمع الإسلامي نأتي إلى النظام الإسلامي وأثر الزكاة والصدقة فيه، فنجد أنه ما وقع في العالم الإسلامي فتنة ولا غزته فكرة ولا أوتي من الخارج إلا بسبب ترك الصدقة، فلما عطلت الزكاة هدم انتظام المال في الإسلام، وجاءت الفوارق البعيدة، وتقطعت الصلات بين الأغنياء والفقراء، وشح الغني بماله، وحقد الفقير بقلبه، وجاءت الطبقات، وجاءت الدعوات، ومن قبل كان المال عارية في يد صاحبه، ويرى أن الله امتحنه به ليرى: هل يشكر ويحمد ربه ويؤدي حقه أم لا، والفقير أمسك الله عنه المال امتحاناً له لينظر أيصبر أم يجزع، وقد يكون امتحان الغني أشد: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، لأن الفقير سلبي، أما الغني يطيش بيديه إلى كل جهة. فحينما كان المال عارية مستعارة بيد الجميع، فكان يعرف حقه فلا يتعداه، فالغني يؤدي حق الله، والفقير لا يتجاوز حقه في المال، وكل يقف عند حدود الله، فيعيش العالم في أمان وطمأنينة، وكان الكل غنياً بالله. يقول الإمام علي رضي الله تعالى عنه: (إن الله أودع في أموال الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء، وما جهد فقير إلا بتقصير غني، والله محاسبهم على ذلك حساباً شديداً، ومعذبهم عذاباً أليماً) . أي: الفقير لا يشتكي إلا بتقصير الغني، فالله سبحانه قدر مقادير كل شيء، وأعطى من المال ما يكفي لعباده، لكن الغني يمسك حق الفقير، وإذا كان لك شريك في مال وأمسكت حقه، أجعته، فالفقير له حق معلوم في مالك، فريضة من الله، فإذا أعطى الأغنياء حقوق الفقراء فلا شكوى، وإذا أمسك الأغنياء حقوق الفقراء كانت الشكوى؛ ولذا لما تنظمت الزكاة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، ما شكا فقير حاجة، وكان يكتب إليه عامله على إفريقيا: إني قد جمعت الزكاة وأعطيت الفقراء والمساكين، وبقي عندي مال فماذا أفعل به؟ فيقول: انظر أي مدين فسدد دينه، فكتب إليه: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي غريب فبلغه بلده، فكتب إليه وقال: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي أعزب فزوجه، وهكذا انتظمت الحياة عند التزام شرع الله في الزكاة. وفي القرآن الكريم بيان مصارف الزكاة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. } [التوبة:60] ، وعدد ثمانية أصناف تستطيع أن تقول: هي أبواب ميزانية دولة كاملة، فالتضامن الاجتماعي بين الغني والفقير والمسكين، ورجال الوظيفة (العاملون عليها) ، والساعون بالمعروف والإصلاح بين الناس، مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و (المؤلفة قلوبهم) وزارة الخارجية وعلاقة الإسلام بغيره، ووزارة الطرق والمواصلات. والجيش وفك الأسير والعاني (في سبيل الله) ، وكل ذلك مرافق لمصارف الزكاة. إذاً: الزكاة مرفق اجتماعي عظيم في الإسلام، ومن أعظم مصارف الزكاة في سبيل الله وفي الرقاب، مثل: تجهيز الغزاة، وفكاك الأسير. إذاً: الزكاة في الدنيا شأنها عظيم، وأمرها في الآخرة أعظم: (المرء في ظل صدقته) ، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) .

العذاب المترتب على منع الزكاة

العذاب المترتب على منع الزكاة مانع فريضة الزكاة متوعد بالعذاب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها في الدنيا إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه، وجنبه، وظهره، كلما بردت أحمي عليها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الخلائق، ثم يرى سبيله إما إلى جنة، وإما إلى نار! وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، وجيء بها أوفر ما تكون، لا تنقص فصيلاً منها، تطؤه بأظلافها، وتعضه بأنيابها، كلما مرت عليه أخراها أعيد عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار! وما من صاحب بقر ولا غنم، لا يؤدي زكاتها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، وجئ بها أوفر ما تكون، ليس فيها عجفاء، وليس فيها جلحاء، تمر عليه وتنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار! قالوا: والخيل يا رسول الله؟ قال: أما الخيل فهي لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، أما التي هي له أجر: فرجل ارتبطها في سبيل الله، فلا تستن شرفاً، ولا تنزل وادياً، ولا ترعى مرعاً، ولا يوردها ماء يسقيها إلا كان له في ميزانه حسنات، وفي روثها له فيها حسنات، وأما التي له هي ستر فرجل اقتناها تغنياً -أي: نماءً واقتصاداً- يتغنى بها -أي: يستغني بها- وأما التي هي عليه وزر فرجل اقتناها خيلاء وكبراً، قالوا: والحمير يا رسول الله؟! قال: لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ) . وأحاديث الوعيد في ترك الزكاة كثيرة، وما دخل شر على المسلمين إلا بتعطيل الزكاة، فالزكاة تربط بين أفراد المسلمين، فلما عطلت الزكاة تخلخلت هذه الروابط، ووجدت تلك الفجوات، ووجد الفراغ، وجاءت الأفكار المسمومة، هذا ما أردنا التنبيه عليه، والله أسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.

الفرق بين الصدقة والهدية

الفرق بين الصدقة والهدية Q ما هو الفرق بين الصدقة والهدية؟ A افرق كبير جداً، ويظهر ذلك مع قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع سلمان الفارسي لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً ونزل بقباء، سمع به سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد تنقل من فارس إلى الموصل إلى الشام إلى الحجاز، وكل ذلك بحثاً عن الدين الحق، وأخيراً عرف الطريق، وجاء مع قوم، وباعوه، ثم بيع في المدينة لرجل يهودي، فكان يعمل عنده، وينتظر مقدم نبي آخر الزمان من الحرم، وعلم أنه مهاجر إلى بلدة أرضها سبخة ذات نخيل بين حرتين، وكان يظنها خيبر، ثم اتضح له أنها المدينة، فكان يعمل في بستان رجل يهودي، وسمع بمجئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عنده ثلاث علامات، وكان في زمن الصيف، فجاء بقفة من الرطب، وقال: يا محمد! هذه صدقة مني عليك، وعلى أصحابك، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقال: (إني لا آكل الصدقة وقربها إلى الآخرين) ، فقال سلمان: هذه واحدة، ومن الغد جاء بمثلها، وقال: يا محمد! هذه هدية مني إليك ولأصحابك، فأكل منها، فقال سلمان: هذه الثانية، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وكشف له عما بين كتفيه لينظر العلامة الثالثة، فنظر سلمان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهوى على خاتم النبوة يقبله، وأعلن إسلامه حالاً، وقصة سلمان طويلة، ثم اشترى نفسه من صاحبه بكذا أوقية، وأن يغرس له مائة ودية، إلى آخر قصته. ومما يبين الفرق بين الصدقة والهدية ما جاء في قضية بريرة، عندما دخل صلى الله عليه وسلم البيت، فقدموا له إراماً، فقال: (ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟! قالوا: إنه لحم تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال صلى الله عليه وسلم: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) . ويقول الأصوليون: الأعمال بالمقاصد، وفي الحديث (إنما الأعمال بالنيات) ، وهي قطعة لحم واحدة، وهي من يد صاحبها إلى بريرة صدقة، وهي -القطعة بعينها- من يد بريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأكل منها صلى الله عليه وسلم. إذاً: فرق بين الصدقة والهدية، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لذوي الأرحام والأقارب خير من الصدقة للأجانب؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم:: (صدقة وصلة) ، فتصل رحمك وتتصدق، ولكن لا يكون المتصدق عليه من رحمك ممن تلزمك نفقته، لأنه إن كان ممن تلزمك نفقته، فلا يجوز أن تتصدق عليه؛ لأنك تؤدي واجب النفقة من صلة الزكاة، وهذا لا يجوز، والهدية كما قيل: من أكبر ما يكون بين الأفراد في علاج أحنة الصدر، وفي المؤاخاة، وفي غرس المحبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) ، فإذا أهديت إلى إنسان ولو عود أراك، فإنه يذكرك به، وينزل منزلة في نفسه، فيكون مدعاة إلى زيادة المحبة بينك وبينه. إذاً: الهدية عامة، يهدي الإنسان لصديقه، أو لأخيه وجاره، والصدقة يتقرب بها إلى الله، ولها مصارفها الخاصة، مثل الفقراء، المساكين، وغيرها من أبواب البر التي يعلمها الجميع.

العلاقة بين النور والبرهان والضياء في الحديث

العلاقة بين النور والبرهان والضياء في الحديث هذا الحديث النبوي الشريف ذكر قاعدة الإسلام -وهي العقيدة- في طهارة القلب، وأول ما يطهر العبد قلبه من درن الشرك والرياء، ومن الحقد والحسد، ثم ذكر عمل اللسان، بالتسبيح والتحميد للمولى سبحانه، وبالذكر عموماً، ثم ذكر ركنين من أركان الإسلام وهما: الصلاة، والزكاة، وبعد هذا قال: (والصدقة برهان، والصبر ضياء) ، فما الربط بين قوله: (الصلاة نور، الصدقة برهان، الصبر ضياء) مع أن كلها عوامل إضاءة مع اختلاف الماهية؟ أما النور فهو الهادئ، ولا حرارة معه، وأما البرهان فهو الشعاع الذي أمام قرص الشمس، وأما الضياء فهو نور الشمس، وعند المناطقة النسبة بين الثلاثة: التشكيك، فإنك إذا نظرت فيها تجد أنها تتفق في الجنس، وتتفاوت في الرتبة، ولو أشعلت عود ثقاب في صحراء لقلت: نَوّر، ولو جئت بماطور كهرباء في لمبة مليون شمعة لقلت: نَوّرت، ولكن تنظر إلى هذا وتقول: نُور وليس بظلام، وتنظر إلى هذا وتقول: نور وليس بظلام، ولكن الفرق بينهما بعيد، فهما جنسان مختلفان في الإضاءة وبينهما عنصر الإضاءة. ويقولون: التشكيك بينهما نسبة منطقية، والعلماء يقولون: النور إضاءة بدون إحراق، وبدون شدة، وهكذا تكون الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) ، والصلاة صلة بين العبد وربه، أما الصدقة فهي برهان، والبرهان هو الحجة؛ لأنك تحتاج إلى إقامة الدليل على الإيمان باليوم الآخر، والمتصدق يؤمن أنه سيجد ثواب صدقته فيما بعد، ولذا يقدم الصدقة بدون عوض عاجل. أما الصبر الذي هو الضياء فهو النور مع الحرارة، فما من عمل يدخله الصبر إلا وله حرارة في قلب المسلم، وقالوا: الصبر ثلاثة أقسام: صبر على البلايا، وصبر عن المعاصي، وصبر على الطاعة، فالصبر على البلاء يقولون: له ثلاثون درجة، والصبر على الطاعة له ثلاثون درجة، والصبر عن المعاصي له تسعون درجة، فالصبر على البلاء صبر ممدوح، وأشدها الصبر عن المعصية، فالصبر على البلاء فيه شدة، ولا شك أن فيه شدة، والصبر على الطاعة فيه، تتحمل مشاقها، فتمشي إلى المسجد في الرمضاء، وتمس الماء في البرد، وتتحمل مشاق السفر للحج، وتجاهد في سبيل الله بروحك ومالك، وهكذا. فجميع حالات العبادة لا يؤديها إنسان إلا بالصبر، وقد جاء في الحديث: (الصوم نصف الصبر) ، والنصف الثاني مقسم على البقية، وفي الحديث: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلي) . ، فالصبر على أداء العبادات والطاعات شديد، لكن أشد منه الصبر عن المعاصي والشهوات. لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر إذاً: الصبر ضياء؛ لأنه أعم العمومات في التكاليف كلها، فلا تستطيع أن تقيم ركناً من أركان الإسلام إلا بالصبر، ولا تستطيع أن تتجنب معصية إلا بالصبر، فصبر نفسك عن نوازعك وهواك، وقاوم كل المؤثرات بالصبر، وهكذا في مكارم الأخلاق، فلن يبلغ الإنسان مداه، ولا يصل في مكارم الأخلاق إلى درجات عالية إلا بالصبر، يصبر على خصمه، ولا يقابل الإساءة بإساءة، كما في الآية الكريمة: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] . والنصوص الكريمة كثير في الصبر كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] ، أي: من أجل الله، وفي سبيل الله، والمتتبع لمواطن الصبر في القرآن يجدها فوق السبعين مرة، ولك أسوة في صبر أيوب عليه السلام فقد صبر صبراً فوق العادة؛ لأنه نبي كريم، وذكروا في سيرته أنه صبر صبراً لا يكاد يصبره شخص عادي. قال صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء) : وإذا نظرنا من خلاله إلى حالات تقتضي الصبر، فانظر مثلاً حين تثير إنساناً حالات تغضبه، فإذا بادر وسارع إلى استجابة دواعي الغضب وقع في متاهة، وارتكب محظوراً، ولكنه إذا كبح جماح نفسه وصبر نجا، (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب) ، ما معنى يملك نفسه؟ أي: يكبح جماح نفسه بالصبر عن أن يندفع للانتقام، وكل إنسان يمر بحالات نفسية، فإذا صبر الإنسان، وتأنى لحظات، وبرهة من الزمن؛ كان هذا الصبر ضياء يكشف له الحقائق، ويبين له طريق الإحسان، ويوضح له المخرج من ذلك المأزق. ومعاني الصبر أكثر من أن يستوفيها إنسان في كلمات، والرسول صلى الله عليه وسلم وصف الصبر بالضياء القوي ذي الحرارة؛ لأنه لا يوجد عمل يحتاج إلى الصبر إلا ومعه شدة، وتلك الشدة تقابلها شدة الحرارة في ضوء الصبر.

فضل القرآن

فضل القرآن آخر هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك) ، انظر إلى ترتيب هذا الحديث، لو كان قرآناً لقال كل إنسان: ما علاقة كل جملة بالتي قبلها؟ ولكن انظر إنه الوحي أيضاً، فالقرآن جامع لكل ما تقدم، والقرآن هو إمام كل مؤمن، والقرآن شامل وجامع لكل ما في هذا الحديث وغيره؛ ولهذا ختم به صلى الله عليه وسلم تلك التوجيهات الكريمة في هذا الحديث الشريف، والقرآن هو كتاب الله المقروء، يقول صلى الله عليه وسلم: (حجة) ، والحجة: السلطان والبرهان والدليل (لك أو عليك) حجية القرآن قائمة على العباد، وقد أوحى الله به لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد شاهد العالم كله صدق تلك الحجة وقوتها، وإذا أردنا أن نلم بفضله ولو إلمامة خاطفة نجد قوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ، ثم نجد في افتتاحيته: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، ونجد بعدها: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ، حجية القرآن في جميع مجالات الحياة، وتجد القرآن هادياً فيها للتي هي أقوم. والأصوليون وعلماء التشريع يقولون: الحياة بكاملها -سواء عند المسلم والكافر- في أحد أمرين، إما درء مفاسد، وإما جلب مصالح، ولا تجد إنساناً يسعى في هذه الحياة، مسلماً كان أو مشركاً، إلا لأحد أمرين يحققهما لنفسه، إما أن يدرأ عن نفسه شراً، وإما أن يجلب لنفسه خيراً، ولذا يقول الشاعر الجاهلي: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع يضر عدوه، وينفع صديقه، وقالوا: لقد جاء الإسلام لتحقيق هذين الغرضين، وزاد ثالثة لم تأت بها قوانين العالم، ولا مطامع العالم، ألا وهي الحث على مكارم الأخلاق؛ ولذا لا تجد قانوناً شرقياً أو غربياً، أو وضعياً اجتماعياً أو جنائياً، لتنص مادة فيه على مكارم الأخلاق، فهي قوانين إما مدنية، وإما جنائية، والمدنية في الحقوق والأموال بين الناس، والجنائية في ردع المجرمين والظالمين، وما سوى ذلك لا دخل للقوانين الوضعية فيها، أما القرآن الكريم فبدأ بمكارم الأخلاق، ونعت صلى الله عليه وسلم بها في أعلى مراتب الكمال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، ويقول صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، ويقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فالأخلاق موجودة من قبل، وجاء صلى الله عليه وسلم ليتممها، والقرآن يحث على البر بالوالدين: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] مع قوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] ، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] ، وحث على الاهتمام بالأولاد والإحسان إليهم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] ، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] ، أولادك، ذوو رحمك، أقاربك، كلهم يحث القرآن عليهم أيما حث، وحث على حسن الجوار، والأمانة، والصدق، والوفاء، ومكارم الأخلاق واسعة، ومن هنا قال الأصوليون: يتفق جميع العلماء أن درء المفاسد في الشرائع السماوية إنما تعني الكليات الخمس: درء المفاسد عن: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وقالوا: هذه يجب أن تصان في كل مجتمع، فإذا لم تكن مصانة فلا مجتمع ولا ترابط ولا أمن، أما حفظ الدين: فجاء الإسلام ووحد الدين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] ، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، وجاء حفظه بقتل المرتد، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] . وأما حفظ النفس: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:151] ، وحرم القتل وجعل فيه القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179] ، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] . وأما العقل: فحرم على الإنسان كلما يشوش على هذا العقل، أو يخمره ويغطيه، وجعل في ذلك حداً. وأما العرض والنسب: فحرم الله سبحانه فاحشة الزنا، وجعل لكل مفسدة حمى لا يقتحمه الإنسان، فحمى الدين بتحريم البدع والزندقة صيانة للدين من أن يشوش. ومن حفظ النفس: تحريم الاعتداء ولو على سن أو ظفر. وأما النسب: فحرم الزنا، وجعل حماه: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) ، وأمر بغض البصر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] . وأما حفظ المال -وهو عصب الحياة-: فحرم أكل أموال الناس بالباطل، وجعل في السرقة حداً، وهو قطع اليد، وهكذا جعل له حمى، فحرم الغش، وحرم التدليس، وتوعد بالويل لمن طفف بالكيل ولو حفنة قليلة. وهكذا -أيها الأخوة- نجد أن القرآن جاء بحماية الضروريات، ودرء المفاسد، ثم جاء بالحاجيات والمتممات التي تقتضيها الحياة من العقود في المعاوضة: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وكذلك الإجارة، والرهن، والكفالة، والوكالة، والضمان، والمساقاة، والمزارعة، وكل ما يحتاجه العالم من أمور الدنيا. والقرآن حفظ للأمة ضرورياتها، ورسم لها نهجها، ورسم لها طريق مكارم الأخلاق، فالقرآن حجة قائمة، وعليك أن تعرض نفسك على أوامره ونواهيه، وتسأل: أين أنت منها؟ كما أثر عن السلف: (من جعل القرآن أمامه وإمامه، واقتدى به قاده إلى الجنة، ومن جعل القرآن وراء ظهره أخذ بقفاه ودفعه حتى رمى به في النار) . ويأتي القرآن يوم القيامة يجادل عن صاحبه ويقول: يا رب! حملته إياي، فنعم الحامل الأمين، قام بحقي، فيقول المولى سبحانه: شأنك به، فيأخذ بيده ولا يدعه حتى يدخله الجنة، ويأتي إلى غيره، ويقول: يا رب! حملته إياي فلم يحملني، وضيعني، فيقول: شأنك به، فيأخذ بقفاه فيدفعه إلى النار.

القرآن حجة لك أو عليك

القرآن حجة لك أو عليك وقوله عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك) حجة لك في حياتك ومعاملاتك: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وفي حقوق الزوجة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] ، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] ، ماذا فعلت في لباسك؟ هل صنته وأكرمته أم لا؟ هل وفيتم حقوقهن أم لا؟ وهكذا ما يكون بين الراعي والرعية، قال الله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، فهذا حق الراعي على الرعية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، ولم يقل: (وأطيعوا أولي) ؛ لأن طاعة ولي الأمر من طاعة الله ورسوله؛ ولذا كان الخلفاء الراشدون وغيرهم من ولاة الأمر يكتبون إلى الرعية في الأقطار: إني قد وليت عليكم فلاناً -لكل قطر- فمن تحمل ظلامة فإني بريء منها، وإني قد وليتهم ليقيموا كتاب الله، وسنة رسول الله، فمن أخطأ ذلك فلا طاعة له عليكم. وها هو الصديق رضي الله عنه يعلنها ويقول: (وليت عليكم ولست بخيركم، فإن وجدتموني على حق فأعينوني، وإن كان غير ذلك فلا طاعة لي عليكم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) ، هذا هو المنهج الإسلامي، وها هو القرآن حجة لك أو عليك: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وما الحكم إذا حصل نزاع بين ولاة الأمر وبين الرعية؟ {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] . وهكذا في كل مرافق الحياة، في عموم الأمة وخصوص الفرد. وحق الله عليه أن تعبده فقد أوجب عليك صلاة، وصياماً، وزكاةً، وحجاً، بكل وضوح وبيان، فلا تحتاج أن تسأل عالماً، ولا أن تقرأ كتاباً، وكما قال ابن عباس: التفسير على أربعة أقسام: قسم لا يعذر أحد بجهله، وهو ما كلف الله الأمة به، فهل تحتاج إلى كتاب تفسير في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ؟ أو قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] ؟ هل تحتاج إلى تفسير: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ؟ هل تحتاج إلى تفسير: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام:151] ؟ هل هذه النواهي تحتاج منك إلى عالم، أو إلى كتاب تقرأه؟ لا، والله! بل هي من ضروريات التشريع، وهي واضحة بينة، وحجة قائمة لك أو عليك، والحديث عن القرآن متنوع، فالقرآن يتحدث عن نفسه، قال والدنا الشيخ الأمين عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] : لو أراد إنسان أن يؤتيها حقها لتناول القرآن كله، وما خطة سمعت بها أو قرأت عنها إلا والقرآن أقوم منها. ولما جاء عمر رضي الله تعالى عنه بصحيفة من التوراة يستحسنها، وعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، غضب وقال: (يا ابن الخطاب! والله! لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي) . وقال الله في إثبات حقه ووحدانيته: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، (أحد) (لم يلد) نفي وإثبات. وفي توحيد العبادة: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1-3] وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، وفي توحيد الأسماء والصفات: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] كل ما تحتاجه فيما يتعلق بحق الله والأمور الغيبية تجدها واضحة في كتاب الله، وكل ما تحتاجه بينك وبين أخيك، وبينك وبين ولدك، وبينك وبين والديك، وبينك وبين زوجك، وبينك وبين الناس عموماً، وبينك وبين ولاة أمرك تجده واضحاً في القرآن. إذاً: أين يذهب الناس عن كتاب الله؟! لا مصير للأمة ولا سلامة لها ولا أمن ولا طمأنينة لها إلا بالعودة إلى كتاب الله، والأخذ بتعاليمه وتوجيهاته، ففيه نبأ من قبلنا، وخبر من بعدنا، وفيه حكم ما بيننا، فمن حكم به عدل، ومن تمسك به نجا، ومن قال به صدق. والحمد لله رب العالمين.

الحديث الثالث والعشرون [4]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [4]

أركان الإسلام المذكورة في حديث (الطهور شطر الإيمان)

أركان الإسلام المذكورة في حديث (الطهور شطر الإيمان) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: إن هذا الحديث النبوي الشريف بهذا السياق والنسق الجميل، يعطينا منهجاً متكاملاً في توجيه الأمة إلى ما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة، وهو في كماله كحديث جبريل عليه السلام (حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه أحد من الحاضرين، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه -وهذه جلسة المتأدب المتعلم-، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم عن أركانه، ثم قال: أخبرني عن الإيمان؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم عن أركانه، ثم قال: أخبرني عن الإحسان؟ فأخبره به، وكلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صدقت. يقول عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه! ثم سأله عن الساعة، فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا علي الرجل، فلم يجدوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، والدين أعم من الإسلام والإيمان؛ لأنه شمل الإسلام بأعماله الظاهرة: صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، والإيمان بأعماله الخفية، مما ينطوي عليه القلب، ومجمل ذلك كله هو الإحسان. وهذا الحديث الذي معنا عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا آثار تلك الأركان في ذاك الحديث، من الشهادتين، والصلاة، والصيام، والزكاة، وهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم آثار الطهارة وذكر الله: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأان أو تملأ ما بين السماء والأرض) ، وسبحان الله والحمد لله هما مؤدى لا إله إلا الله؛ لأنهما إثبات صفات الجلال والكمال لله، وفيهما نفي وتنزيه المولى سبحانه من صفات النقص، ثم قال بعد ذلك: (والصلاة نور) ، وفي ذاك الحديث ذكر أركان الإسلام، الشهادتين ثم الصلاة، فيبين هذا الحديث آثار ذاك الحديث الأول، وتقدم الكلام عن قوله: (الصلاة نور، والصدقة برهان) ، وهي أعم من الزكاة، وكذا قوله: (والصبر ضياء) ، وهذه هي أركان الإسلام التي جاءت في حديث جبريل، ولم يبق منها إلا الحج، والحج مستقل بذاته: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] ، بل إن الحج يجمع جميع أركان الإسلام في مناسكه، فالشهادتان: لبيك لا شريك لك، والصلاة: يلزم أن تصلي ركعتين بعد الطواف، والزكاة: أنت تنفق المال من أول ما تخرج من بيتك إلى أن ترجع، والصوم: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] . إذاً: الحج هو العمل الإجمالي أو التطبيقي العملي لأركان الإسلام كلها. تقدم معنا الكلام بإيجاز عما جاء في أوائل هذا الحديث، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) .

أقسام الناس

أقسام الناس قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو ... ) ، ولم يقل: كلكم، أو كل مسلم، بل عمم كل الناس، مسلمهم وكافرهم، مؤمنهم ومنافقهم. وكلمة الناس من: ناس ينوس، أي: تحرك، وسمي الناس ناساً لأنهم يتحركون، والنواس الحركة والصوت. (يغدو) . أي: يصبح مبكراً من الغدوة؛ لأن الغدو أول النهار وآخره العشي: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الأعراف:205] ، كل شخص يغدو من الصباح مبكراً. (فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) : إذا جئنا إلى هذه الجملة الختامية من هذا الحديث نجده يجعل الإنسان سلعة في سوق الحياة، وتأتي هذه الجملة بعد حجية القرآن، ولو أردنا أن نقف على معناها، فلنرجع إلى أول المصحف لنرى كم قسم المولى سبحانه الناس، فبعد ذكر المسألة العظيمة في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، والرفقة الكريمة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ، والابتعاد عن طريق الكافرين: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، نجد أن الناس -كما في أوائل سورة البقرة- ثلاثة أقسام، فهو حجة لقسم، وحجة على قسمين، وبيان ذلك على النحو الآتي:

القسم الأول: المتقون

القسم الأول: المتقون بسم الله الرحمن الرحيم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] هذا القسم الأول، من هم المتقون؟ والوصل والفصل أسلوب بلاغي، وعدم العطف يدل على أن الثاني عين الأول، قال تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:2-3] . وهذا يوافق ما في الحديث: (الصلاة نور، والصدقة برهان) {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ، جاءت أركان الإسلام وأركان الإيمان، فالإيمان بالغيب يقتضي الإيمان بكل ما جاء عن الله في كتاب الله أو أخبر به رسول الله في سنته. فهم يؤمنون بالغيب (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وقال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، أما غير المسلم فيقف إيمانه عند مرحلة معينة، فاليهود يقفون عند رسالة موسى عليه السلام ويجحدون عيسى، والنصارى يقفون عند رسالة عيسى ويجحدون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما المسلم فيؤمن بكل رسالات الله: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] . وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ؛ لأن اليقين باليوم الآخر منطلق كل خير، وهو رادع عن كل شر؛ لأنه إذا أيقن بيوم فيه حساب وجزاء وعقاب فإنه يحسب لكل خطوة حسابها، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، فهو يعلم بأن هناك موازين توضع، فيقيس أعماله، ويزن خطواته؛ لأن أعماله موزونة وليست مهملة، فهؤلاء هم القسم الأول، والقرآن هدى لهم، وإذا كان هدىً لهم فيكون شاهداً لهم وحجة لهم. إذاً: القرآن يكون حجة للمتقين: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:2-5] ، جعلنا الله وإياكم منهم.

القسم الثاني: الكفار

القسم الثاني: الكفار أما القسم الثاني ففي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] ما نتيجة عدم إيمانهم وتصديقهم؟ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] ، جاء الختم على القلوب والأسماع، فلم تعد قلوبهم تعي خيراً، ولم تعد أسماعهم تصغي إلى خير: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] . قال: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ، أي: لا يبصرون آيات الله الكونية، ولا يعتبرون بما وقع في الأمم السابقة، ولا يتعظون ولا يتذكرون بما في الكون من آيات الله وقدرته التي تدعو إلى الإيمان. وفي أول الفاتحة يقول الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، والرب هو الموجد المصلح المدبر، وانظر إلى هذا النظام البديع المتقن في الأرض: من نبات، وحيوانات، وفي السماء: من كواكب وأفلاك تجري بحساب دقيق: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ،إذا نظرت إليها تأملت وتفكرت: من الذي يدبرها ويسير أمرها ويحفظ نظامها؟ إنه الله. الحيتان في البحار والأنهار تتواجد وتتكاثر، والطيور تتواجد ويتكاثر، والوحوش في الفلوات تتواجد وتتكاثر، والبشر في القرى والمدن والبوادي يتواجدون وتتكاثرون، ومن الذي يدبر ذلك كله؟! إنه الله سبحانه. ولذا فإن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يلزم ويفحم الجاحدين لربوبيته، ألزمهم بقاعدة منطقية إلزامية، يقول سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] . فالمؤمن يؤقن باليوم الآخر، وهؤلاء لا يوقنون، ونقف مع هؤلاء على سبيل النقاش فنقول لهم: أيها الخلق الذين يجحدون ربوبية الله! أخبرونا عن أنفسكم، وانظروا في ذواتكم وأشخاصكم، أخلقتم من غير شيء؟! و (شيء) هنا يرجع إلى أمرين: إما أنهم خلقوا من غير مادة، أو خلقوا من مادة، فهم يقرون بأنهم خلقوا من مادة المني، فمن الذي خلق المادة التي أنتم جئتم منها؟ وقيل في قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي: من غير خالق. وهذا هو الأرجح، بدليل المقابلة في قوله: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) ، وبالسبر والتقسيم نقول: أنت موجود مخلوق، ووجودك في الدنيا لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: خلقت بلا خالق، خلقت نفسك، خلقك خالق قادر، وأي هذه الأمور الثلاثة صحيح؟ وأيها باطل؟ هل خلقت من غير شيء؟ لا، فالعدم لا يعطي وجوداً، والوجود لا يتأتى من عدم؛ لأن العدم لا شيء: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، وإن قلت: أنا خالق نفسي، فنقول لك: قبل أن توجد كنت في العدم، فمن الذي أوجدك في الوجود لتخلق نفسك؟ فيبطل ادعاؤه أنه خلق نفسه. ولم يبق أمام العقل إلا أن يؤمن بوجود خالق خلقه، وهذا هو -كما يقول علماء الكلام- دليل الإلزام. نرجع إلى أقسام الناس في القرآن، وقد ذكرنا القسم الأول وهم المتقون {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] . وذكرنا القسم الثاني وهم الكفار، وسبب عدم إيمانهم أنهم لا يوقنون، وكانت النتيجة أن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وفي الحديث: (إن العبد ليذنب الذنب فينكت على قلبه نكتة سوداء، ثم يذنب الذنب فينكت على قلبه نكتة سوداء حتى يغلف بالسواد) ، وبهذا يحجب عنه النور الذي بداخله المعبر عنه بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] ، وهو نور الإيمان في قلب المؤمن، فيحجب هذا النور في قلب هذا المسلم حينما يذنب تلك الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يصبح كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً) ، وقد جاء في القرآن الكريم: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، فالكافر بكفره وعدم إيمانه وتصديقه ويقينه باليوم الآخر، يختم على قلبه وعلى سمعه، وزيادة على ذلك: يجعل الله على بصره عشاوة، فلا يرى حقائق الأمور، ولا يبصر آيات الله الدالة على أنه الواحد. وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ولكن {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] ، والقسم الأول فيهم عدة آيات تذكر صفاتهم ومعتقداتهم، بخلاف القسم الثاني قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] ، ثم ذكر النتيجة وهي الختم على قلوبهم، والغشاوة على أبصارهم، وانتهى أمرهم.

القسم الثالث: المنافقون

القسم الثالث: المنافقون والقسم الثالث هم المنافقون، وفيهم الإطالة والبيان والكشف عما يخفون من أمرهم؛ لأن خطرهم عظيم يهدد المجتمع كله. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:8-10] ، وانظروا إلى الإعجاز: قال في حق الكفار: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] ، وقال عن المنافقين: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] فالقلب الذي عليه ختم يرجى صلاحه برفع الختم؛ لأن القلب أصله سليم، وغاية ما فيه أنه ختم عليه، فإذا أراد الله هدايته كشف عنه هذا الختم، ولكن الذي في قلبه مرض، فقد أصبح القلب بنفسه مريضاً، فيحتاج إلى علاج، والقلب المختوم لا يحتاج إلا إلى رفع الختم عنه فيشع النور بداخله، فهو أقرب إلى الخير من ذاك القلب المريض الذي يحتاج إلى معالجة؛ لأن المرض يؤدي إلى الموت، وقد يموت قلب المنافق. ولهذا نجد المشرك في شدة عدوانه للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم، وفي لحظة من اللحظات يؤمن وتشع له الحقائق وتنكشف له الأسرار فيبادر إلى الإسلام، وبقدر ما كان قاسياً شديداً على الإسلام يكون رحيماً كريماً مع المسلمين. وأقرب مثال: إسلام عمر رضي الله تعالى عنه، فقد كان عمر آخذاً بالسيف ويسأل: أين محمد؟ فقيل له: لماذا؟ فقال: أريد أن أقتله، فقد سفه أحلامنا، وفرق جمعنا، وقال، وقال، فقيل له: على مهلك! اذهب وانظر إلى أختك وزوجها في بيتك. قال: وما في بيتي؟! قالوا: أختك وزوجها قد صبئا فرجع من الطريق إلى بيت أخته فسمع همهمة، فلما أحسوا به اختفى المقرئ، فدخل والصحيفة في يد أخته، فقال: أعطني الصحيفة، قالت: إنك رجس، وهذا كتاب الله لا يمسه إلا المطهرون، فلطمها على خدها وفي يده خاتم، فخرج الدم من وجهها، فرقّ للدم، فقال: أريني الصحيفة ولا أريك إلا خيراً، قالت: اذهب فاغتسل أولاً، ثم أعطيك الصحيفة، فذهب واغتسل، ثم قرأ الصحيفة من كتاب الله، فإذا به يتحول من عدو لدود لأصحاب رسول الله إلى مؤمن محب لهم، وقذف الله في قلبه الإيمان، وكشف عن قلبه الغطاء، وكشف الغشاوة عن بصره، وتحرك النور في قلبه، وأبصر بعينيه وبصيرته حقيقة الأمور، فخرج الرجل الذي كان مختفياً، وقال: ماذا تريد يا عمر؟! قال: دلني على محمد، فذهب به، وطرق باب دار الأرقم بن أبي الأرقم، فقالوا: من؟ قال: عمر، ففزع كل من كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له، إن كان جاء لخير يصيبه، وإن جاء لغير ذلك يكفيكم الله) ، فأدخله اثنان والتزماه بعضديه مخافة على رسول الله، حتى جلس بين يدي رسول الله، فأمسكه صلى الله عليه وسلم بردائه وجذبه، وقال: أما آن لك أن تؤمن يا عمر؟! فإذا عمر ينطق بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول عمر رضي الله عنه: لماذا نبقى هنا؟! لماذا لا نخرج إلى الكعبة ونطوف، ونعلن الإسلام؟ فقال المسلمون: نحن ضعفاء. فقال: لا والله! لا نستتر بعد اليوم، وخرجوا إلى الكعبة يلبون ويهللون، ويذكرون الله ويعلنون الشهادتين، قال السلف: ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر. إذاً: يقول الله في حق المشركين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] ، ويقول وفي حق المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] . قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:8-16] ، سياق طويل ينتهي بصفقة خاسرة. هؤلاء المنافقون اشتروا الضلالة بالهدى. اشتروا بمعنى: (استبدلوا) ، قال بعض الرجاز: اشتريت الجمة برأس أزعرا والثنايا البيض بالدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا أي: استبدل بالإسلام النصرانية، فكذلك هؤلاء اشتروا الضلالة بالهدى، والباء تدخل على المتروك، تقول: اشتريت الكتاب بدرهم، فالدرهم هو قيمة الكتاب، اشتريت الكتاب بثوب، كلاهما سلعة، فيكون الباء على الشيء الذي خرج من يدك، فهؤلاء كذلك: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] .

معنى قوله: (كل الناس يغدو.

معنى قوله: (كل الناس يغدو ... ) وقوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) ، يبين لنا أن الناس في ظل هذا القرآن، وفي نور تلك الحجة، إما شخص مقبل عليها مستضيء بها، فهو مع القسم الأول من المهتدين، وإما شخص معرض عنها، أو متلاعب بها، أو غافل عنها، أو قد اتخذ كتاب الله وراءه ظهرياً، فأولئك مع الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم، وهنا يقول: (كل الناس يغدو فبائع نفسه ... ) ، وفي نهاية سياق القرآن لتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام ذكر في نهاية صفقة: اشتروا الضلالة بالهدى، وفي نهاية هذا الحديث صفقة: (كل الناس يغدو فبائع نفسه) ، لأي شيء؟ النتيجة تبين ذلك، فالذي يبيع نفسه لله فقد أعتقها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] ، هذه تجارة، وهذه تجارة، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:11] ، وهذه صفقة القسم الأول: المتقون {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:11-13] ، عندما تذهب إلى السوق بسلعة، فإن وجدت ثمناً يناسب بعتها، وإلا رجعت بها إلى بيتك، ولكن هذا السوق الذي أنت سلعته لا اختيار لك، وكل يوم تشرق فيه الشمس وتغرب، هو جزء من ثمنك في هذا السوق، وكل يوم تعقد فيه صفقة على نفسك، فلمن تبيع؟ ((هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . يقول بعض العلماء: على بيت كل إنسان رايتان: راية في يد ملك من ملائكة الرحمان، وراية في يد شيطان وكل يدعوه إليه، فإن ذهب في ظل راية الملك فهو إلى طاعة الله، وإن ذهب في ظل راية الشيطان فهو إلى معصية، عياذاً بالله! إذاً: الذي يبيع نفسه ويعتقها فإنه يبيعها لله، وكل عمل بر فهو طاعة لله، والصفقة الكبرى مع الله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] . إذاً: الدنيا سوق، والناس هم السلعة، والثمن الجنة. أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في كل الخلائق ثمن بها تشترى الآخرة فإن بعتها بشيء من الدنيا فذاك الغبن إن أنا بعت نفسي بدنيا أصيبها فقد ذهبت نفسي وذهب الثمن فالله هو المشتري، وهو الخالق، والرازق، والنعمة منه، فإذا بعت الصنعة لصانعها، وبعت المخلوق لخالقه، واشترى المولى نفوس عباده، وثامنهم عليها بأن لهم الجنة، فأي صفقة أربح من تلك؟ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ، سبحان الله العظيم! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] ، فصاحب الجنة يكدح إليها، وصاحب النار -عياذاً بالله- يكدح إليها، مع أن الكادح إلى النار أشد شقاء ونصباً من الكادح إلى الجنة، والكادح إلى الجنة يتوضأ، ويأتي متطيباً متطهراً، ويدخل من أبواب المسجد ويجلس فيه أين شاء، ويجالس الإخوان في غاية من الهدوء والسرور والطمأنينة، أما صاحب المعصية فإنه يترقب ويتوجس ويحترس، فإن دخل بيتاً ليسرق توقع كل عوامل الهلاك، وإن ذهب إلى بيت ليقتل أو ليزني فإنه يتحرز ويتعب، بخلاف الذي يسعى إلى صدقة، أو إلى صلاة، أو حج، أو عمرة، مع أن هذا يكدح وهذا يكدح. إذاً: ما دامت الحياة كلها كدحاً فليكن الكدح في طاعة الله، وهذا الذي يؤدي إلى الجنة، فيغدو من الصباح فيبيع نفسه لله، وأعلى صفقة للإنسان هي: الجهاد في سبيل الله؛ لأن الله ساوم الخلق عليها: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة:111] ، القتال فيه يقاتلون ويقتلون، وهذا أمر طبيعي، والجنة هي الغنيمة، وقال الله في سورة الصف: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} [الصف:13] ، فهذا هو نصر في الدنيا، والشهادة والجنة هذا هو المكسب الكبير، وبعض العلماء يقول: لو أن إنساناً أعطاك بيتاً من ذهب، وبيتاً من خزف، وقال لك: بيت الذهب تسكن فيه مؤقتاً على ما تحب، وبيت الخزف إلى الأبد، فالعاقل يبيع الذهب الفاني بالخزف الباقي، ويختار الخزف الدائم بالستر والوقاية على أن يتمتع بالذهب ثم بعدها يطرد إلى الشارع، وقالوا: من باع خزفاً باقياً بذهب فانياً فهو مجنون أحمق، فما بالك بمن يبيع الذهب الباقي بالخزف الفاني؟! الدنيا وإن تزخرفت فهي خزف، ولا قيمة لها في الآخرة، فكيف تبيع الآخرة التي هي ذهب دائم بالدنيا التي هي خزف فانٍ؟! وفي ختام هذا الحديث يبين لنا مآل البشر جميعاً، وأن الدنيا -التي هم فيها- سوق قائمة، وهم فيها سلعة، والبيع فيها إجباري، والمشتري هو الرحمن لمن كان في طاعة الله، بأي طاعة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان جالساً، فمر شابٌ قوي، فقال رجل من الجلساء: لو كان هذا الشباب والقوة في سبيل الله -يعني بذلك الجهاد-، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها أو على أهله ليكفيهم فهو في سبيل الله) أي: إن خرج عاملاً ليعمل في مصنعه، أو خرج زارعاً ليزرع في مزرعته، أو خرج بائعاً ليبيع في متجره، أو خرج يتسبب في طلب الرزق، ويتعفف عن سؤال الناس، فهو في سبيل الله. ولذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى تعالى عنها: (من بات كالاً من عمل يده؛ بات مغفوراً له) . وعلى هذا فمن خرج في غدوة نهاره يسعى في عمل مباح فهو في طاعة الله، وهو بائع نفسه ليعتقها. كان بعض السلف يقول: الإنسان في الدنيا أسير، وعليه أن يعمل في فكاك نفسه، وذكر ابن رجب أن من السلف من اشترى نفسه من الله مرتين أو ثلاثاً، يزن نفسه بالفضة، ويتصدق بها، ويخرج من ماله صدقة في سبيل الله، ليعتق نفسه من النار. إذاً: آخر هذا الحديث يبين لنا مدى حجية القرآن للعبد، ومدى حجيته عليه. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويؤمن بمتشابهه، ويتبع ما جاء فيه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يكون القرآن حجة له، وأن يشفعه فينا، وأن يرزقنا وإياكم شفاعة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الصادق الأمين، والحمد لله رب العالمين.

الحديث الرابع والعشرون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [1]

شرح حديث: (إني حرمت الظلم على نفسي)

شرح حديث: (إني حرمت الظلم على نفسي) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فعن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يُنقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) رواه مسلم.

نبذة عن راوي الحديث أبي ذر رضي الله عنه

نبذة عن راوي الحديث أبي ذر رضي الله عنه أبو ذر رضي الله تعالى عنه كما جاء في حقه: أصدق من أقلَّت الغبراء وأظلّت الخضراء، أي: السماء. وهو من أزهد الناس في الدنيا رضي الله تعالى عنه، وقد ظلمه كثير من الناس فيما يتعلق بأمر الدنيا، واتخذوا زهده ذريعة إلى مبادئ فاسدة. أبو ذر رضي الله تعالى عنه كان زاهداً في الدنيا وليس لديه أولاد، وكان يكتفي بما في يده، وكم من شخص خرج مما في يده إلى الله ورسوله؛ فـ الصديق رضي الله تعالى عنه يأتي بكل ما يملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق شيئاً لهم، فيقول له: (يا أبا بكر! ماذا تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله) ، فلم يُتهم أبو بكر بما اتهم به أبو ذر، ولكن رأى بعض الناس في سيرته ما يوافق منهاجهم فادعوا دعوات عليه، ونعجب لماذا تركوا أصحاب رسول الله جميعاً الذين كانوا يملكون البيوت والضياع والتجارات والمال الطائل ويأتون إلى أبي ذر؟! عثمان رضي الله تعالى عنه وهو الخليفة الراشد يجهز جيش العسرة من ماله الخاص، لماذا لم يتأسوا بـ عثمان ويطلبون الدنيا من حِلها ويصرفونها في سبيل الله؟ ابن عوف عندما جاءت تجارته كان يتصدق بالبعير وما حمل، وعندها يُعطى أرباح مائة في المائة يقول: عندي زيادة عشرة أضعاف، فيقول له التجار: نحن تجار المدينة ولا يوجد أحد غائب يعطي أكثر من الضعف، فيقول: هي في سبيل الله فالحسنة بعشر أمثالها، فلماذا لم يتخذوا من ابن عوف التاجر الكبير ولم يتخذوا عثمان مثالاً؟ لماذا لم يتخذوا الزبير مثالاً وقد كان عنده أربع زوجات، والأربع لهن الثمن، وميراث الواحدة منهن مئات آلاف من الدنانير، وكان له في المدينة ومصر والعراق والشام البيوت والضياع، لماذا لا يتخذون هؤلاء أسوة لهم ويأتون إلى أبي ذر؟ يكفينا بأنه أصدق الناس لهجة كما شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (رحم الله أبا ذر، يعيش وحده، ويموت وحده) ، ولما حصل بينه وبين معاوية رضي الله تعالى عنهم أجمعين في الشام بعض الشيء، اشتكى إلى عثمان رضي الله تعالى عنه؛ فطلبه عثمان، فجاء إلى المدينة بطلب من عثمان رضي الله تعالى عنه، ثم رغب أن يكون بعيداً؛ لأن النبي قال له: (إذا بلغ البناء سلع فاخرج من المدينة) فجاء إلى الربذة وسكنها، وفيها مات رضي الله تعالى عنه.

أقسام الوحي

أقسام الوحي يروي لنا هذا الإمام الجليل والصحابي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (فيما يرويه عن ربه) ، هنا يقف علماء الحديث والمصطلح في هذا التعبير، فإنه يأتي في القسم الذي يسمى: الأحاديث القُدُسية، والأحاديث القدسية هي المضافة إلى الله سبحانه وتعالى، ويتساءل البعض: أليس كل شيء من القرآن ومن الحديث النبوي والأحاديث القدسية والكتب السابقة كلها من الله، فقد جاء في حق السنة النبوية {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] ؟ فقالوا: الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: السنة المطهرة. وهذا وإن كان الأصل فيها وحي من الله إلا أنه أُسند إلى رسول الله أن يعبر عن هذا بمنطقه الخاص، وبأسلوبه النبوي الكريم. القسم الثاني: القرآن الكريم، وهو من عند الله، ولكن ليس لأحد حق التصرف في إيراده، ولا يجوز أن يروى بالمعنى، ويشترط فيه: أن ينزل به جبريل عليه السلام من الله إلى رسوله. القسم الثالث: الحديث القدسي، وهو وسط بين القرآن والسنة النبوية، وقد يأتي به جبريل، وقد يراه النبي صلى الله عليه وسلم مناماً، وقد ينفث في روعه، وقد يلهم به إلهاماً، فكل ذلك من أقسام الحديث القدسي. ما الفرق بين هذه الثلاثة؟ قالوا: أما الأحاديث النبوية والمعروفة بالسنة المطهرة، فهي: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن) ، وقال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه) ، و: (إنما الأعمال بالنيات) كل هذا يقوله صلى الله عليه وسلم مسنداً إليه. أما القرآن: فهو ما نزل به جبريل من الله على رسوله. وأما الحديث القدسي فهو: ما يوحى بمعناه ويسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه، ولكن في إيراده صلى الله عليه وسلم للناس يقول: (عن ربي) ، أو: (بما أمرني ربي) ، أو (أوحى إلي ربي) ، أو (عن رب العزة) ، أو (عن الله تعالى) أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يتكلم بالحديث القدسي يسند الرواية إلى الله، كما أن الصحابي يسند الرواية في السنة إلى رسول الله، فالرسول يقول: قال الله تعالى كذا.

صور مجيء الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم

صور مجيء الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم الفرق بين القرآن والحديث القدسي: أولاً: في المصدر، ففي القرآن: لابد من مجيء جبريل به من الله إلى رسوله، وقالوا: الوحي من حيث هو أعم من أن يأتي به ملك؛ لأن الوحي في اللغة: هو الإعلام بخفية، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟! قال: (أحياناً يأتيني الملك كصلصلة الجرس، فيأخذني الوحي ثم ينفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك في صورة رجل) ، وفي الصورة الأولى قال: (وهو أشقه عليّ) ، وفي الثانية قال: (أحياناً يأتيني الملك في صورة رجل فآخذ عنه) . وذكروا من أحوال الوحي: أن يكون مناماً، وأن ينفث في روعه ويلهم، ولكن اتفقوا على أن القرآن لم يؤخذ مناماً ولا إلهاماً ولا نفثاً في الروع، ولابد أن يتلقاه بواسطة الملك: إما أن يأتيه كصلصلة الجرس، وإما أن يأتيه الملك بصورة رجل ويعلم أنه جبريل، ويُلقي عليه القرآن الكريم. أما بقية أنواع الوحي فيمكن أن تأتي بإلهام ونفث في روعه، والنفث في الروع قد يكون لبعض عباد الله الصالحين ممن يلهمهم الله الحق. وقد جاء في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فجاءوا ليلاً ونزلوا على حي من العرب وطلبوهم القِرى على عادة العرب، قالوا: أنتم جئتم من عند الرجل الصابئ، فليس لكم عندنا شيء، فذهبوا عنهم، ولما نزلوا قريباً منهم سلط الله عقرباً على سيد الحي فلدغته، فجاء واحد منهم، قال: هل فيكم من راق؟ قال: نعم، قال: إن سيد الحي قد لدغ بعقرب، قال: لا رقية لكم حتى تعطونا جُعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فقرأ عليه سورة الفاتحة، فإذا به ينشط وكأنه ما أصيب بشيء، فجاء بالغنم يسوقها، فقال له أصحابه: بم جئت به؟ قال: رقيت لهم سيد الحي، قالوا: وماذا فعلت؟ قال: قرأت سورة الفاتحة، قالوا: وكيف تأخذ أجراً على قراءتك كتاب الله، واختصموا في أخذ الأجر، هل نقتسمها ونأكلها؟ ثم قالوا: لا نأكلها حتى نرجع إلى رسول الله ونسأله، ثم احتفظوا بالغنم وجاءوا إلى المدينة، فأخبروا رسول الله بالخبر، فقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، اقتسموها واضربوا لي معكم بسهم، ثم قال للرجل: ماذا قرأت؟ قال: قرأت الفاتحة، قال: وما أدراك أنها رقية، قال: شيء نفث في روعي) أي: بهذا الإحساس، ووجدت هذه الأريحية واسترحت إليها فقرأت والله سبحانه وتعالى أجابني. فإذا كان شخص من عامة الأمة ينفث في روعه ما يوافق الحق؛ فسيد الخلق صاحب الرسالة من باب أولى، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] .

الفرق بين القرآن والحديث القدسي

الفرق بين القرآن والحديث القدسي يفترق القرآن عن الحديث القدسي في الآتي: - القرآن لابد من أن يأتي به جبريل، والحديث القدسي لا يشترط فيه ذلك. - القرآن لا يجوز روايته بالمعنى، والحديث القدسي يمكن روايته بالمعنى. - القرآن بلفظه من كلام الله، والحديث القدسي لا يجب أن يكون بلفظه من كلام الله. - القرآن لا يمسه إلا المطهرون، والحديث القدسي لا يشترط فيه ذلك. - القرآن ركن في الصلاة من الفاتحة أو غيرها، الحديث القدسي لا تصح به الصلاة، بل ربما لو تعمده لبطلت الصلاة. - القرآن لا يباع عند من لم ير جواز بيعه، والحديث القدسي بخلاف ذلك. - القرآن الحرف في تلاوته بعشر حسنات، والحديث القدسي بخلاف ذلك. - القرآن من جحد منه حرفاً واحداً كفر، والحديث القدسي لو نفى الحديث كله، وقال: لم يصح سنده لم يكفر بذلك. - القرآن لابد أن يكون ثبوته متواتراً من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يصل إلينا، والحديث القدسي ليس بشرط فيه، فقد يكون حديثاً قدسياً وسنده ضعيف. إذاً: تلك هي الفوارق بين الحديث القدسي الذي يُنسب إلى رب العزة سبحانه فيما يرويه عنه نبيه، وبين القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. أما الحديث النبوي فهو الذي يرويه الصحابي بسماعه عن رسول الله، قال لنا رسول الله كذا، وعلى هذا تكون السنة أقوالاً وأفعالاً وإقراراً، وبعضهم يزيد أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. وهنا أبو ذر رضي الله تعالى عنه يقول لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه، إذاً: هذا الحديث من الأحاديث التي تسمى الأحاديث القدسية. وقد جمعها المجمع العلمي في القاهرة، وبعضهم يقول: صح منها مائة حديث، والمجمع جمع أكثر من ثلاثمائة حديث، بحسب ما جاء في كتب السنة، سواء من صحيح البخاري أو مسلم أو أبي داود أو الترمذي أو النسائي أو ابن ماجة، أو موطأ الإمام مالك. كل كتب السنة كما تروي السنة النبوية تروي ضمنها الأحاديث القدسية؛ لأنها وإن كانت قدسية تروى عن رب العزة لكن يرويها عن الرب سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي تجمع مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

حديث تحريم الظلم وتطبيقه في واقع المسلمين

حديث تحريم الظلم وتطبيقه في واقع المسلمين هذا الحديث يرى العلماء أنه جامع شامل، وأنه من أبرز الأحاديث التي تبين سعة فضل الله ورحمته وعطفه بعباده، والحديث ينظر فيه من حيث الأسلوب والمنهج.

اللطائف البلاغية في النداء الإلهي: (يا عبادي!)

اللطائف البلاغية في النداء الإلهي: (يا عبادي!) أما الأسلوب: فهو من أوله مستهل بقوله: (يا عبادي!) إذا أصغينا إلى هذه النداء وتمعنا مدلوله ظهر لنا الآتي: (يا) : حرف نداء، وينادى أيضاً بالهمزة: أزيد! وبالهاء: هزيد! و (يا) إنما تكون للبعيد، والهمزة تكون للقريب، والهاء للوسط، والبعيد إنما تناديه بـ: (يا) حتى يمتد الصوت ويبلغ من كان بعيداً عنك. ويكون البعد: إما بعد مكان، وإما بعد منزلة؛ فإذا كان شخص رفيع المنزلة، فلا تقول له: أأميرنا، أملكنا، بل: يا ملكنا، يا أميرنا، وتمد الصوت تكريماً له لرفعة منزلته، فإذا كان بجوارك وقلت: يا أخي، جعلت بعد المنزلة ورفعتها كالبعد المكاني، واستعملت (يا) في النداء لعلو منزلته عندك. ومن علو المنزلة: العطف والرحمة وحب الخير، ونجد هذا الأسلوب يتكرر في كتاب الله؛ فإبراهيم عليه السلام مع أبيه: (يا أبتِ) ، وكل ذلك في مقام العطف على أبيه والشفقة عليه، وكذلك نوح حينما كان ينادي ولده، ولقمان حينما كان يعظ ابنه في كل ذلك يكرر: (يا بني) ، لا كما يقول بعض الناس تلذذاً بلفظ البنوة أو الأبوة أو العبودية، بل لإظهار العطف والرحمة والشفقة. (يا عبادي!) يتكرر هذا النداء في هذا الحديث عشر مرات، وكل جملة تدل على الرفق والعطف والرحمة من المولى سبحانه وتعالى. فالأولى فيها (يا عبادي) وهو تنبيه؛ كأنه يقول: استمعوا، وأصغوا لما أقول، توجهوا إليّ وادنوا مني فأنتم عبادي. وهو المولى سبحانه، برحمته وبشفقته وبلطفه يعلمنا ويحذرنا من الظلم.

تحريم الله الظلم على نفسه

تحريم الله الظلم على نفسه يقول سبحانه وهو الملك القادر القاهر، وهو رب العزة وبيده نواصي الخلق، ولا يسأل عما يفعل، يقول: (حرمت الظلم على نفسي) ، مع أنه سبحانه لم يتوجه إليه ظلم؛ لأن الظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه، أو تصرف المالك في غير ملكه. فإذا كان الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالمولى سبحانه لا يضع شيئاً إلا في موضعه. وإذا كان الظلم هو تصرف الإنسان في غير ما يملك؛ فالله يملك الكون كله، وكل تصرف من الله فهو في ملكه وخلقه أينما كانوا. إذاً: لا يتوجه إلى الله ظلم، ولا حاجة إلى النقاش في ذلك، لكن هل الظلم ممكن في حق الله أو ليس بممكن؟ إن الله يخبرنا: (إني حرمت) أي: منعت وتنزهت عن أن أظلم، مع أنه لا يسأل عما يفعل.

تحريم التظالم بين العباد

تحريم التظالم بين العباد ) وجعلته بينكم محرماً) لماذا؟ لأنهم عباده، فإذا كان هو لا يظلم، ولو وقع منه ظلم فإنما يقع على عباده؛ لكنه لا يظلم عباده لأنه يرحمهم، فكيف يقبل من غيره أن يظلمهم؟! ثم قال: (فلا تظّالموا) ، بصيغة المبالغة، لأنه قد يقع بعض الظلم دونما علم، والرواية الأخرى: (فلا تظالموا) ، بدون تضعيف، أي: لا يظلم بعضكم بعضاً. وإذا وقفنا عند هذا النداء الأول، وهو: النهي عن الظلم بين الخلق، وكان الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، أو المصطلح عليه عند الناس: أن الظلم هو الاعتداء على حقوق الآخرين، والتصرف في ملك الآخرين بغير إذنهم. يقول علماء التوجيه والتربية والتشريع: ما فنيت أمة إلا تحت سوط الظلم، وما وقعت مصائب في أمة ولا ابتليت بأمراض ولا ببلايا ولا بفناء نهائي إلا بسبب الظلم. ويقولون: إن رفع الظلم عرف في التاريخ من آلاف السنين، والعالم بأسره كان يحذر الظلم ويتجنبه، وبعض الملوك كان يجعل له نافذة ويكتب عليها: نافذة المظالم، وكل من كانت له مظلمة من عامل أو خادم أو أي شخص له سطوة أو سلطة كتب ظلامته وألقاها؛ لأن عماله كانوا لا يبلغونه مظالم الأمة، فكان يتولاها بنفسه.

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الظلم

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الظلم وجاء الإسلام وبيّن لنا صلى الله عليه وسلم، وبيّن لنا القرآن أن: (الظلم ظلمات يوم القيامة) ؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن أولى من يراعي قضية الظلم والعدالة: المسلم؛ لأن الله سبحانه يخبره بأنه تكرم وحرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً ونهاهم أن يرتكبوا ذلك: (فلا تظالموا) . ونحن نعلم ما جاء في التاريخ الإسلامي من العدالة، وأول تمثيل للعدالة كان في عهد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وذلك حينما يستيعذ بالله من أن يظلم أو يُظلم أو يبغي أو يبغى عليه. وفي موقف من أحرج مواقف الإسلام في أرض المعركة في بدر وقوة العدو ضعف قوة المسلمين، والمسلمون إنما خرجوا لأخذ عير لا شوكة لهم، ويصف النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لتتقابل قوة الحق مع قوة الباطل قوة الإسلام بنوره وقوة الكفر والشرك بظلامه وضلاله، ويسوي النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين كما يسوون صفوف الصلاة لتراصهم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] ، فجاء في السيرة بأنه عدّل رجلاً بالقضيب في يده هكذا على بطنه، فقال: (أوجعتني يا رسول الله! فيكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه ويعطيه القضيب، ويقول له: اقتد لنفسك مني) . وكان من حقه صلى الله عليه وسلم أن يعدل الصفوف، ولو كان مكانه أي قائد في معركة كهذه أو أي جندي وقال كلمة مثل هذه ربما صفعه على وجهه، نحن لسنا في وقت المزاح، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي هذا الموقف يكشف عن بطنه ويعطيه القضيب، ويقول له: خذ حقك مني، فيهوي على بطنه صلى الله عليه وسلم فيقبله، فيقول له: هذا هو حدك! قال: نعم يا رسول الله، قال: هذه حيلة! ما الذي حملك عليها، قال: يا رسول الله! الموقف كما ترى بين الحياة والموت، فأحببت أن يكون آخر عهدي من الدنيا بك يا رسول الله. الذي يهمنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدم نفسه لأحد أصحابه في أحد المواقف، ويقول له: (خذ حقك مني) فهل يبقى هناك مثال للعدالة فوق هذا؟ لا والله! النصوص المتضافرة عنه صلى الله عليه وسلم في القضاء والشهادة والتحذير من شهادة الزور إلى غير ذلك كثيرة، ويأتي من بعده الخلفاء الراشدون، ويأتي عمر رضي الله تعالى عنه ويتكلم ويخطب للأمة كلها، ويتولى المظالم بنفسه، إلى حد أن يقول: (لو أن شاة بجذلة كسرت رجلها لكان عمر مسئولاً عنها) ، ويتتبع الناس في الليل، ويسمع العجوز تشتكي ويسألها: (ما سيرة عمر فيكم؟ تقول: عمر لا جزاه الله خيراً، لماذا؟ لأننا جياع وهو غافل عنا! قال: وما يدري عمر عنك، قالت: كيف يكون أميراً على الناس ولا يدري عن بعض الأفراد؟ وبعد أن يذهب ويأتيها بالمال والطعام يقول: بيعي عليّ مظلمتك عند عمر غداً، قالت: ولماذا؟ قال: إني مشفق عليه من النار) .

موقف النجاشي من الظلم للصحابة

موقف النجاشي من الظلم للصحابة كان ملك الحبشة نصرانياً ولم تبلغه الدعوة، ومع ذلك يقرر صلى الله عليه وسلم عدالته ويقول: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره، وأرى أن تذهبوا إليه) ، فيذهب إليه المسلمون، وتتجلى شهادة رسول الله لملك الحبشة. وبعدما نزل المسلمون عليه علمت قريش بمن وصل إليه، ثم أرسلوا إليه عمرو بن العاص وهو من دهاة العرب، وكان صديقاً للنجاشي يأتيه بالهدايا والتحف من مكة، فجاء ودخل على الملك وسجد له على حسب عادته، ثم قال: (ما بك يا عمرو؟ قال: إن أشخاصاً صبئوا لا هم على ديننا ولا دخلوا في دينك، وجاءوا إلى أرضك يفسدون فيها، وقد أرسلنا قومنا بهدايا إليك لتردهم عليهم) . فهل فرح الملك بالهدايا؟ لا. بل قال: (لا والله، قوم لجئوا إليّ ووصلوا إلى أرضي، فلا أسلمهم إليكم قبل أن أسألهم، فانتظر حتى أحضرهم وأسألهم، وأعلم ماذا عندهم؟) . وهذا عين القضاء الذي بينه صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله تعالى عنه حينما أرسله إلى اليمن قاضياً قال: يا رسول الله! إني لا أعرف القضاء، قال: (إذا أدلى إليك خصم فلا تحكم له حتى تسمع من خصمه الثاني) ، قال علي: (والله لقد علمت القضاء من ذلك الوقت) . فهنا الملك جاءه صديقه بهدايا من أجل أن يسلم إليه أقواماً ما دخلوا في دينه وهربوا من دين أقوامهم، يعني أنهم لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، فلما جاءوا واشتد الأمر عليهم قال لهم جعفر رضي الله تعالى عنه: (لا يتكلم أحد، فأنا خطيبكم اليوم) . فلما أرادوا الدخول كان عمرو جالساً بجانب النجاشي، قال: (انظر إليهم لن يسجدوا إليك ولن يحترموك) ؛ لأنه يعرف أن المسلم لا يسجد إلا لله، فلما دخلوا ولم يسجدوا سألهم: (لم لم تسجدوا كما يسجد الناس؟ قال: نهينا أن نسجد لغير الله، قال: وما شأنكم؟ قال: كنا وكنا وأخذ يصف حالة العرب وما كانوا فيه من الظلم والبغي والقحط والجوع وقطيعة الأرحام وأن القوي يأكل الضعيف، حتى قال: ثم بعث فينا رجل منا نعرف نشأته ومولده ونسبه، فأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر وأمرنا بصلة الأرحام وأمرنا بالصلاة إلى آخره) . قال: هل معك شيء مما جاء به، فقرأ عليه شيئاً من سورة طه، فغاظ ذلك عمرو بن العاص، فغمز الملك فقال: سله ما يقولون في عيسى؟ انظر إلى التحريش، وهكذا دائماً أعداء الفطرة، ينظرون إلى نقاط الضعف، فسألهم: (ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقال: يقول: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقرأ عليه شيئاً من سورة مريم. فما كان من هذا الملك العادل إلا أن أهوى إلى الأرض وأخذ قشة صغيرة، وقال: والله! ما زاد صاحبكم على ما جاء به الناموس من عند الله ولا مثل هذه) ، ثم قال كلمته التي هزت التاج فوق رأسه: (لولا ما أنا فيه من الملك، واستطعت أن أصل إليه لغسلت التراب عن قدميه) ! هكذا يعلن الملك في بلاطه: لو استطاع الوصول إلى رسول الله لكان خادماً يغسل عن قدميه التراب، ثم قال: (اذهبوا فلن يصيبكم أحد) ، وأعلن في مملكته أنهم يحلون حيث شاءوا، ولا يعترضهم أحد بشيء، وقال: ردوا الهدايا على عمرو وصاحبه. وهنا تظهر نبوءة الرسول: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره) ، وله قصة طويلة في أخذ الملك منه ورجوعه إليه مرة أخرى.

رد عمر بن عبد العزيز للمظالم

رد عمر بن عبد العزيز للمظالم لما تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الخلافة ما ترك شيئاً اسمه ظلم في بيت المال إلا ورده على أهله، من هذا العمل الخيّر تزدهر الحياة في زمن عمر خلال سنتين أصلح فيها ما أفسد من كان قبله. ويعم الله الأرض بالخير، ويرسل عامله إلى إفريقيا لتفريق الزكاة، فيوزع من الزكاة ما يغني الفقراء، ويقول العامل: بقي عندي مال من الزكاة، ماذا أفعل به؟ فيقول: انظر هل من مدين فاقض دينه؟ فيبعث إليه أنه بقي عندي، فيقول: انظر هل من غريب فأرسله إلى بلده، يقول: بقي عندي، فيقول: انظر هل من أعزب فزوجه! هكذا كان بيت المال وفيراً بالمال إلى حد أن يسد حاجة الأفراد والجماعات بفضل الله، ثم بإقامة العدل ورد المظالم. ثم من بعد عمر بن عبد العزيز وبعد الدولة الأموية وأوائل العصر العباسي وأواخر العصر الأموي كثر الظلم من العمال، فأنشأ ديوان المظالم أو قاضي المظالم؛ لينظر في ظلم العمال للرعية.

نصرة الله للمظلوم ولو كان كافرا

نصرة الله للمظلوم ولو كان كافراً الحديث من أول الأمر ومن أول خطوات التشريع يعلن بأن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً، ويأتي الحديث يبين لنا أن يوم القيامة يقتص الله للمظلوم من الظالم حتى من الشاة القرناء للشاة الجلحاء؛ فإذا انتطح شاتان إحداهما قرناء والأخرى لا قرون لها، فيوم القيامة ينتصف الله للشاة التي لا قرون لها من تلك التي اعتدت عليها بقرونها. وإذا كان شأن الظلم أو مكانته بهذه النسبة، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يبعث عماله كان يحذرهم من ظلم الناس؛ لأن أكثر ما يكون الظلم من صاحب السلطة أو الجاه أو القوة، فحينما بعث معاذاً إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله كتب عليهم خمس صلوات - ثم لما بين له أركان الإسلام قال-: وإياك وكرائم أموالهم) . و (إياك) كلمة تحذير، أي: تجنب كرائم الأموال ولا تأخذها في الزكاة، ولذا لما رأى عمر رضي الله تعالى عنه شاة حافلاً قال: (ما هذه؟ قالوا: من شاة الصدقة، قال: ما أعطى هذه قوم بطيب نفس) لأنها حليبهم؛ ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فإذا كان العاقل ولو كان قوياً ذا جاه أو سلطان. وجاء في الحديث عن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه كان له غلام فضربه، فسمع صوتاً من ورائه يقول: (اعلم أبا مسعود! لله أقدر عليك منك على هذا العبد، قال: فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: هو حر لوجه الله يا رسول الله؛ قال: لو لم تفعل للفتحتك النار) ، ولذا جاء في الحديث أن المولى سبحانه يقول في الحديث القدسي أيضاً: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) ، وجاء في بعض رواياته: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً علم أن له رباً فدعاه) فالكافر حينما يلجأ إلى الله في حالة الشدة يكون مؤمناً بالله، وفي تلك اللحظة يكون لاجئاً إليه. يقال عن بعض السلف: إن شخصاً كان يصيح ويقول: قلبي ضائع عني -من شدة خوفه من الله- وبينما يمشي في الطريق إذا بطفل صغير وامرأة تدفعه من البيت وتصك الباب في وجهه، فأشفقت على هذا الطفل، فإذا به يقول: يا أماه طردتيني وأوصدت الباب دوني؛ فمن يأويني ويفتح لي بابه، فإذا بالأم تسمع هذا القول فتفتح الباب وتحتضن ولدها، فيرجع وهو يقول: وجدت قلبي وجدت قلبي، إذا كانت المرأة تستجيب للطفل الصغير حينما لجأ إليها؛ فالمولى أرحم وأرأف. وهذا كما جاء في الحديث: (إن الله أرحم بعباده من الأم بطفلها) ، لما جاءت امرأة من السبي تمشي وتتلفت، حتى إذا وجدت طفلاً أخذته فضمته إلى صدرها وأرضعته، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار، قالوا: لا، قال: لله أشد رحمة بعباده من هذه بطفلها) ، ويأتي في الحديث: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل ضلت عليه راحلته عليها زاده وهو في فلاة من الأرض حتى يئس منها وأيقن بالموت، فجاء إلى ظل شجرة واستلقى ينتظر الموت، فأغمض عينه، ثم أفاق فإذا براحلته على رأسه، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح) أي: الله سبحانه وتعالى أشد فرحاً بتوبة العبد من صاحب هذه الراحلة، فإذا كان كافراً معانداً لله لكن عند الشدة رجع إلى الله، فإن الله يرحمه ويستجيب له. أنت في شخصك على ما فيك من نقص وضعف لو كان لك خصم معاند ومؤذ فألمّت به نازلة، فجاءك في جنح الليل يطرق الباب، فإذا به خصمك! فتقول: ما شأنك؟ قال: جئتك لاجئاً. فهل تطرده وتقفل الباب أمامه، أم ترحب به؟ لا شك أنك ترحب به، وأنت بشر، وفيك من النقص ما فيك، ولكنك تغتفر لعدوك إذا لجأ إليك عند الشدة، فما بالك بأرحم الراحمين! إذاً: ليتق الظالم ظلمه في الدنيا والآخرة: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) ، ولو أننا جئنا إلى قضية اجتماعية وكل إنسان -لا أقول: كل مسلم- كل رجل أو امرأة مسلم أو كافر تجنب الظلم وألغي الظلم من الوجود وحل محله العدل، كيف نتصور هذا المجتمع؟ عمر رضي الله تعالى عنه حينما جاء أبو بكر وقال له: يا عمر! أريد أن تساعدني وتحمل عني بعض المسئوليات، قال له: ماذا تريد؟ قال: تول عني القضاء، قال: حسناً، فأعلن أبو بكر بأن عمر هو قاضي المسلمين، وبعد سنة جاء عمر وقال: يا أبا بكر! خذ عملك عني، قال: لماذا، هل أتعبناك في القضاء؟ قال: لا، سنة كاملة وما اختصم إليّ اثنان! عرف كلٌ ما له وما عليه فلم يتعد أحد على الآخر.

سلطات نصرة المظلوم في الإسلام

سلطات نصرة المظلوم في الإسلام لو أن كل إنسان تجنب الظلم لاستغنينا عن الداخلية والشرطة وأغلقنا السجون، واستغنينا عن المحاكم والقضاء، واستغنينا عن السلطة التنفيذية. وكل دولة في العالم لها سلطات ثلاث: الأولى: سلطة تشريعية لتشرع الحكم والنظام، السلطة التشريعية في الإسلام لله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:13] ، ولا يوجد أحد له حق في التشريع مع الله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] ، فالسلطة التشريعية لله، يبلغ عنه رسوله، والعلماء ورثة الأنبياء، فهيئة الإفتاء هي النائبة فيما يأتي من نوازل جديدة فتصدر فيها فتوى على ما يوافق كتاب الله وسنة رسوله. إذاً: السلطة التشريعية في الإسلام هي لكتاب الله وسنة رسوله. الثانية: السلطة القضائية، وهي الميزان الذي يزن الأحداث على النظام وعلى التشريع. الثالثة: السلطة التنفيذية: وهي التي تطبق حكم القاضي بالقوة. وقد أجمل سبحانه وتعالى تلك السلطات الثلاث في كتابه في آية تضمنت، نظام الدولة بكاملها في قوله سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25] . هذه مقومات الدولة: السلطة التشريعية: رسل ببينات وكتاب، فالبينات تثبت أنهم رسل، وإذا ثبتت رسالة الرسول وقلنا: نشهد أن محمداً رسول الله والتزمنا برسالته وبما جاء به، فهذا رفض لما نخضع له خلافاً لما جاء به، لأننا التزمنا بها، كما أننا لا نعبد إلا الله؛ لأنه عندما نقول: لا توجد آلهة إلا الله، فنحن ملزمون بأن نأله الله وحده، فمن عبد غير الله فقد ناقض لا إله إلا الله، وكذلك من اتبع غير رسول الله وابتدع من عنده بدعة فهو ناقض لقوله: محمد رسول الله. إذاً: أرسلنا رسلنا بالبينات ومع الرسل الكتاب، والكتاب جاءنا من عند الله، والكتاب حجة لك أو عليك، فمن أخذ به فهو حجة له، ومن أعرض عنه فهو حجة عليه، فالكتاب للتشريع، وكما يقول الشافعي رحمه الله: (سلوني عما شئتم يا أهل مكة أجبكم عنه من كتاب الله، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ، فهم من فهم وأخطأ من أخطأ) ؛ لأن الكتاب يساير الأمة إلى يوم القيامة، وفيه تشريع الدين والدنيا، والحلال والحرام، وما تأخذ وما تترك. هذا هو مصدر التشريع؛ أعني كتاب الله، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو مرجع الناس في حياته، ثم من بعده خلفاؤه الراشدون، ومن بعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. إذاً: السلطة التشريعية في الكتاب والسنة والعلماء أمناء على ذلك. وقوله: {وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] ليس المقصود الميزان ذا الكفتين أو الميزان الإلكتروني، إذ كل ما يفرق بين طرفين فهو ميزان، فالقاضي بيده ميزان العدالة، والأستاذ بيده ميزان الدرجات للطلاب، والأب بيده ميزان الأبوة بين أولاده، والأم بيدها ميزان البيت في رعايته: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، والحكمان اللذان يبعثهما الحاكم للحكم بين الزوجين ميزان، وكل من تدخل بين اثنين فهو ميزان. بالقسط: والقسط منتهى العدالة، وقبضة هذا الميزان بيد القضاء، والعدالة كما قالوا: من العدلة وهي شق الحمل، فإذا كانت العدلتان من حمل البعير متوازيتين فالبعير يمشي معتدلاً، والكفتان متساويتان، وإذا ثقلت إحدى العدلتين مالت الكفة ومال الحمل وعجز البعير عن أن يمشي، فالعدالة هي الميزان في القضاء، فإذا جاء إنسان وأخذ مال إنسان، عرض على المحكمة وعلى الميزان: من أي أنواع المال أخذ هذا؟ وهل هو بحق أو بغير حق؟ وسرقة أم نهب أم سلب أم اغتصاب أم خيانة أمانة؟ ويحكم فيه الميزان ويبين: أنت سارق أو لست بسارق، أنت ظالم أو لست بظالم. والسلطة التنفيذية تأتي بالقوة فتسجن وتضرب وتنفذ الحكم. إذاً: لو أن العالم أخذ بهذا الحديث: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظّالموا) ، ووقفوا عند ذلك لانتهت المشكلة، الكتاب قائم، والميزان لا يحتاج أن يوزن فيه؛ لأنه ليست هناك مظالم وليست هناك اعتداءات، وكلٌ قد وقف عند حده، ولصار حال الناس كما تولى القضاء عمر سنة فلم يتخاصم إليه اثنان. ولذا جاء أعرابي إلى علي رضي الله تعالى عنه فقال: (ما بالك وبال أصحابك من قبلك، اختلف الناس عليك ولم يختلفوا على من كان قبلك؟ قال: لأنهم كانوا يتأمرون على أمثالي وأنا أتأمر على أمثالك) ، كان أبو بكر وعمر يتأمرون على علي وعثمان وطلحة والزبير وفلان وفلان من سادات الناس، ممن لا يخطئون الخطأ الفاحش ولا يعتدون على غيرهم؛ لكن عندما جاء الدور على علي كان هناك كثير من أطراف الناس وأراذلهم ليحكم فيهم. إذاً: حينما يقف كل واحد من الناس عند حده يستقر الأمن وتحصل الطمأنينة، ويتوفر الخير، ويرتفع النزاع في كل جانب من الجوانب، وبهذا تكون هذه الجملة من الحديث القدسي وحدها كافية لإصلاح العالم كله.

الحديث الرابع والعشرون [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [2]

طلب الهداية من الله تعالى

طلب الهداية من الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم) . الحديث القدسي يحصل فيه تقديم وتأخير، لكن على ما روي لنا بهذا السياق، فنأخذ به؛ فإنه بعد ما حذر من الظلم يأتي إلى الهداية والضلالة كأنه يقول: ما الظلم إلا كما يقال: (يا عبادي كلكم ضال) ، فلا تظالموا، إذاً: لا يظلم إلا ضال، وكأن الحديث يشعر بأنه لا يظلم أحد أحداً إلا كان الظالم ضالاً.

معنى الضلال

معنى الضلال يقول أهل اللغة: الضلال: الضياع والذهاب، ولذا يقال: ضل فلان الطريق. أي: ذهب عنها وضاع عنها، وضل الماء في الأرض، أي: تلاشى وذهب. (كلكم ضال) أي: ذاهب عن الطريق السوي، وقد يكون الضلال بمعنى النسيان كما قال الله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] والنسيان فيه تضييع الحق؛ لأنه لو تذكر الذي يريد أن يتكلم به ما ضاع الحق. وهنا يبحث العلماء في سورة الضحى عند قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:6-7] ، قالوا: معنى (ضالاً) أي: عن العلم الذي أوحي إليك كما قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] ، فما كان يعلم بالوحي ولا بالقرآن فعلمه الله، أو كما قالوا: ضلال حسي، حينما كان صغيراً خرج إلى الشعب وضاع فلهم يهتد إلى طريق الرجوع إلى البيت، فأرسل الله سبحانه وتعالى له من يهديه وجاء به إلى عمه. والمراد بالضلال هنا: الانحراف عن الصراط المستقيم. وهنا Q قوله: (كلكم ضال) ، وفي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) ، فهل هناك تعارض بينهما؟ بعض العلماء يقول: هناك تعارض؛ لأننا إذا رجعنا إلى الحديث وجدنا فيه: (فأبواه) ، فهل بقي على الفطرة أم أن أبويه لهما دخل في هذا؟ أبواه لهما دخل في هذا؛ فهو في أصل المولد على الفطرة، ولو بقي على تلك الفطرة لنشأ على الهداية، ولكن جاءت العوامل فغيرت، فإن لم يكن أبواه فالمجتمع، فكل ذلك حصيلته أن ينحرف عن الطريق السوي، ويضل بسبب التيار الجديد، فالضلال طارئ عليه، وحينما يخاطب الإنسان في كبره فإنما يخاطب على وضعه الذي هو عليه وليس له أن يحتج بما كان عليه منذ الصغر، وليس لإنسان سبيل إلى الهداية إلا بأمر الله.

أنواع الهداية

أنواع الهداية يبحث العلماء في الضلال والهداية على أن الهداية قسمان: - هداية بيان وإرشاد. - وهداية توفيق إلى الخير. أما هداية البيان والإرشاد: فهي التي أرسل بها الرسل، وبينتها للأمم كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: أرسلنا لهم الرسل وبيّنا لهم الطريق ولكن: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] . وأما هداية التوفيق ففي قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، أي: هداية توفيق، لأنها خاصة بالله تعالى. وقد جاء في الآية الأخرى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فهناك قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، وهنا يقول: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، فقالوا: الهداية المثبتة هي الدلالة على الصراط المستقيم، وليس كل من دُلَّ على الصراط يسلكه. وكما جاء في الحديث: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) ، وكلاهما قرشي، وكلاهما يفهم العربية، وكلاهما في الفهم سواء، وجاء القرآن وكلاهما يسمع ويرى، لكن التوفيق بيد الله. إذاً: كلكم ضال سواء عن الصراط أو عن الطريق حتى يأتي الهدى والبيان من عند الله، أو: كلكم ضال مختوم عليه بعيد عن الحق حتى يوفقه الله لذلك، فمن وجد نفسه على طريق الهدى فليحمد الله؛ لأن هذا منحة من الله سبحانه وتعالى، ويكفي أن يقال لسيد الخلق صاحب الرسالة: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي: يخلق التوفيق في قلب من شاء هدايته، إذاً: من وجد نفسه على الصراط السوي فليعلم بأن ذلك أكبر نعمة أنعمها الله عليه. ولنعلم أيها الأخوة أن بعض السلف كانوا يقولون: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها: وجوده من العدم نعمة الإسلام والهداية، ودخول الجنة: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) . فمن وجد نفسه على طريق سوي فليحمد الله على تلك النعمة وهي النعمة الكبرى؛ لأن وجوده بدون هداية كان عدمه أولى منه: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، فإذا وجد في هذه الدنيا وجاءته الهداية فإن مآله إلى الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى. والحديث عن الهداية يبين لنا أنه ما جاء بعد موضوع الظلم إلا وهو أعظم موضوع في حياة الإنسان، وأغلى وأعز ما يحصل عليه البشر، وهو نعمة عظمى بعد نعمة الوجود من العدم. فهنا يبين الله سبب الظلم ألا وهو الضلال الشديد عن الحق، والغواية عن الرشد والرشاد، فيقول سبحانه: (يا عبادي!) وما ألطفها من عبارة، وما أرحمها من جملة تفيض بالحنان وباللطف وبالعطف من الخالق على المخلوق. ولو تأملنا أيها الإخوة في هذا النداء لوجدنا أن المولى سبحانه لا يخاطب الخلق (بعبادي) إلا في مواضع الرحمة والتكريم كقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] . ويقول العلماء: لقد سمى الله جميع الرسل بأسمائهم في كتاب الله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيثني عليه بصفة العبودية بعد ذكره، وذكر اسمه إنما جاء في مقام إثبات الرسالة وشهادة المولى له: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ، وأما في مواطن التكريم والتعظيم والتشريف فيقول مثلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1] ، فقد كانت رحلة الإسراء فريدة لم يسبقه إليها أحد صلى الله عليه وسلم ولن يلحقه فيها أحد، فقال: ((سُبْحَانَ)) فقدم المولى تنزيه نفسه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ؛ لأنه ليس أمراً عادياً، فهو يُبين أن القادر على ذلك هو الله. ومن ذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] ، وفي إنزال القرآن الكريم تشريف وتكريم واصطفاء من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم. وهنا كل فقرة من هذا الحديث فيها إنعام وعطف ورحمة وإكرام من الله، فيأتي النداء: (يا عبادي!) . من رحمة الله أن حرم عليهم الظلم ونهاهم عنه، ثم قال: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) إذ لا يملك الهداية للعبد إلا الله، وقد أشرنا بأن الهداية تنقسم إلى قسمين: - هداية بيان وإيضاح ودلالة وإرشاد، وهي التي جاءت بها الرسل. -هداية توفيق وسداد، وهي التي تكون لله سبحانه وحده. وجاء في حقه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، أي: الدلالة والإرشاد والإيضاح، وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] ، أي: بينّا لهم طريق الصلاح وطريق الرشاد لكنهم أعرضوا عن ذلك. وأما الهداية هنا في الحديث فمعناها التوفيق. ولما ألح صلى الله عليه وسلم وأخذته عاطفة القرابة إلى عمه يقول له سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] .

كيفية سؤال الهداية من الله تعالى

كيفية سؤال الهداية من الله تعالى يأتي القرآن الكريم من أوله إلى آخره وينبني على هذا المطلب، وقد أشرنا مراراً بأن الله سبحانه تعبدنا بطلب الهداية منه، ففي سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلوات الخمس وهي سبعة عشر ركعة في كل يوم من غير النوافل، يقرأ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] . ومن إعجاز القرآن كما سمعنا من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وعلى علماء المسلمين جميعاً يقول: المولى علّمنا كيف نسأل عظيم المسألة؛ فنقدم بين يدي المسألة تعظيم الله سبحانه. فتبدأ بحمده وتنزيهه وتمجيده، وإثبات صفات الكمال والجلال لله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، فتعترف وتقر بربوبيته سبحانه للعالمين جميعاً عالم السماء فيما ندرك وما لا ندرك، وعالم الأرض فيما نحصي وما لا نحصي، وما بين ذلك من إنس وجن وملائكة وحيوان ونبات وكل مخلوق، فكل عالم من عوالم الله، فالله هو ربه. وبعد هذا التمجيد والتعظيم يظهر المولى سبحانه بأن ربوبيته للعالمين ربوبية رحمة وليست قهراً وغلبة، مع أن السلطان له وحده: {رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] ، أي: رباهم على الرحمة: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ويقول العلماء: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة؛ لأن رحيم صيغة مبالغة، والرحمة في الآخرة أوسع؛ لأنها دار البقاء والدوام وبها الجنة. وفي الحديث: أن الله قسم الرحمة مائة قسم، وأنزل واحدة إلى الأرض، وادخر تسعاً وتسعين يرحم بها العباد يوم القيامة، ومن تلك الرحمة الواحدة من المائة ترحم الدابة ولدها، تريد أن تضع حافرها عليه فترفعه رحمة به. ثم تأتي من جانب الآخرة والمآل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ففي الدنيا رب العالمين ورحمن رحيم، وفي الآخرة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، فملك العالم في الدنيا قد يهبه لمن يشاء، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ولكن في الآخرة يأتي موقف العظمة والتجلي: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ، فهو مالك يوم الدين، وليس لأحد معه ملك ولا سلطة. ثم تأتي بعد هذا وذاك وقد أيقنت بأنك في الدنيا تحت ربوبيته وفي الآخرة في نطاق ملكه، ولا مفر لك. إذاً: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] على ما يرضيك، وعلى أي نهج تكون العبادة؟ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ويُبين سبحانه رفقة هذا الصراط: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، أين هذا الصراط المستقيم الذي طلبت الهداية إليه؟ أشرنا لذلك سابقاً عند قوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) بأن الله قسّم الناس أمام هذا القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام: - قسم آمن بالله وباليوم الآخر. - وقسم كفر بالله وبرسوله وباليوم الآخر. - وقسم مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ولذا جاء بعد {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، فإذا كنت تسأل الهداية إلى الصراط المستقيم، فخذ هذا الكتاب فإن فيه هدايتك، وكما يقول بعض العلماء: وبالتتبع للقرآن كله فإنه تفصيل وبيان لمجملات الفاتحة، ولذا سميت أم الكتاب، وبالنظر إلى سورة البقرة ترى أن جميع أبواب الفقه الإسلامي وجميع التشريعات لها حصة في سورة البقرة. وعلى سبيل الإجمال أو التفصيل تأتي سورة آل عمران وتأخذ من سورة البقرة، فسورة البقرة بدأت بذكر خلق العالم في بداية خلق آدم واستخلافه في الأرض وكلام الملائكة وموقف إبليس من ذلك، وبعد ذلك ذكرت بني إسرائيل، وتأتي سورة آل عمران فتكمل تلك القصة، وتأتي النساء والمائدة بالتشريع في الحلال والحرام، وهكذا إلى أن تنتهي من القرآن الكريم، فتجد في نهاية المصحف بين يديك سورتي المعوذتين، الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1-5] . وتجد في سورة الناس: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1-6] . وبالنظر مرة أخرى إلى مضمون السورتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، فالمستعاذ به: رب الفلق، والمستعاذ منه: {شَرِّ مَا خَلَقَ} على سبيل العموم، ثم يرجع إلى التفصيل {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب} ، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَد} ، {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد} تلك الشرور الأربعة كلها جاء أمامها {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، صفة الربوبية جاءت قبل ذلك الشرور الأربعة. بينما سورة الناس وهي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} فاشتملت على ثلاث صفات لله سبحانه، والتي تستعيذ بها كلها {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} . انظر إلى هذا الإعجاز! ثلاث صفات لله سبحانه تقف أمام شر واحد ألا وهو: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} ؛ لأن هذا هو الذي أفسد الناس، وهو الذي يُفسد عليهم عقائدهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، ولا يوجد شر بين الخليقة إلا من جهته. وإذا نظرنا إلى سورة الفاتحة وسورة الناس فكأننا نجد حلقة التقى طرفاها، وأصبح القرآن حلقة لا انفصام فيها؛ وتلك هي صفات العظمة في سورة الناس {رَبِّ النَّاسِ} {مَلِكِ النَّاسِ} {إِلَهِ النَّاسِ} . فـ (إله الناس) هي معنى (الله) وهي الألوهية، و (رب العالمين) هي معنى (رب الناس) وفيها الربوبية، و (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) هي معنى (ملك الناس) وفيها المُلك، فكأنك حينما تنتهي من المصحف ترتبط بأوله مرة أخرى. وهكذا أيها الإخوة! يتبين لك أن القرآن بعد أن أعطانا صراطاً مستقيماً يوقفنا في نهاية الطريق ويقول: قف واعرف عدوك، واحذر من الشيطان، واحذر من (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ، فإذا وقع شيء للخلق فإن منشأه من هذا العدو (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) ، فهو الذي يحرف الناس عن الصراط السوي، كما بين صلى الله عليه وسلم حينما خط خطاً مستقيماً، ثم خط على جوانبه خطوطاً وقال: (هذا صراط الله المستقيم -وأشار إلى ذلك الخط- وتلك خطوط على جوانبه، على رأس كل طريق منها شيطان يدعو إليه) .

ضلال العرب قبل الإسلام

ضلال العرب قبل الإسلام (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) . لو جئنا إلى تحقيق تلك الضلالة في الخلق ابتداءً قبل أن يصطفي الله سبحانه رسوله بإنزال الوحي عليه، وقد اصطفاه قبل أن يولد، لكن أعني قبل أن تنزل الرسالة، وقبل أن يأتي الوحي، وقبل أن يقوم داعياً إلى الله، فكيف كانت حالة العرب؟ لقد بيّن ذلك جعفر رضي الله تعالى عنه بين يدي النجاشي: كنا أمة يأكل قوينا ضعيفنا، وذكر صفات العرب التي نعرفها، إلى قتل أولادهم) ، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] . عمر رضي الله تعالى عنه فيما يحكى عنه يقول: (كنت أصنع لي إلهاً من تمر يحرسني إلى الصباح، فإذا أصبحت معافى أخذته وأكلته) عمر هذا يأتي فيما بعد بعقلية الإسلام ويقف أمام الحجر ويقول: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . لو تتبعنا ما كانوا عليه في الجاهلية في عادات الزواج والبيع والشراء من الربا وميراث المرأة وهضمها حقها إلى غير ذلك، لعرفنا أين كانت العقول، فإنهم كانوا في ضلال، فأراد الله بالبشر خيراً، وأرسل نبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم، فمن أراد له السعادة هداه وتقبل تلك الدعوة، وقد أشرنا إلى إسلام عمر رضي الله تعالى عنه. والفرق بين {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] ، وبين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] . وهنا: (كلكم ضال إلا من هديته) ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، ويعلم الحسن بن علي أن يقول في دعاء القنوت: (اللهم اهدنا في من هديت) ؛ لأن الهداية إنما هي من الله سبحانه وتعالى، وإذا كانت القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن سبحانه يقلبها كيف شاء، فالهداية والتوفيق من عند الله، يوفق من شاء إليها، ويمنح من شاء الهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه. وإذا نظرنا إلى ما حولنا من عقول البشر اليوم، وكلنا يعلم تطور الحياة والفكر الغربي بالذات وما وصلوا إليه من تفتيت الذرة وغزو الفضاء، وما توصلوا إليه مما يسمى بالتكنولوجيا في العلوم الحديثة، فأين تلك العقول عن عبادة الله وحده؟ ألم ينظروا في ملكوت السماء والأرض؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [يوسف:109] سبحان الله! إذاً: هداية الخلق منحة من الخالق سبحانه وتعالى، وعلى هذا ينبغي للمسلم في كل صباح ومساء أن يلجأ إلى الله ويسأله الهداية والتوفيق والثبات على تلك الهداية، كما جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه عند قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ، قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (آمنوا واستقاموا على الإيمان، واستمروا على ذلك حتى ماتوا عليه) ، ويقول الصديق أيضاً: (والله لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله) . نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يمنحنا من فضله وكرمه الهداية والتوفيق لسلوك الصراط المستقيم الذي أمر به.

طلب الإطعام من الله تعالى

طلب الإطعام من الله تعالى ثم قال: (يا عبادي!) وكلما تكرر هذا النداء فإنه يشعر بتجدد الرحمة والعاطفة من الله. قال: (كلكم جائع إلا من أطعمته) . يمكن أن تقول: أنا شبعان، والخزائن والمستودعات مليئة، فيقال لك: والله إنك جئت إلى الدنيا جائعاً عرياناً، فمن الذي أطعمك؟ الله، من الذي كساك؟ الله, أول ما تأتي إلى الدنيا؛ لو وضعت فوق جبل من الخبز أو في نهر من العسل ما استطعت أن تتناول منه ذرة، ولكنه سبحانه يدر لك من ثدي أمك الحليب، ويستخلص لك من بين الدم واللحم هذا الطعام الذي يشبعك، والذي فيه كل عناصر حياتك، أجمع الجميع أنه لا غنى للطفل عن حليب أمه، لأن كل ما يحتاجه الطفل من جوانب الغذاء يجعلها الله سبحانه وتعالى في هذا الثدي، فمن الذي در هذا الدر لك؟ ثم بعد ذلك إذا نما الجسم ولم يعد اللبن بخفته يكفي لنموه وكان لابد من قضم الطعام؛ أنبت لك الأسنان وتناولت الطعام حتى أشبعك، ثم كل ما في مستودعاتك ومخازن العالم من أين جئت بها؟ {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24] ينظر المصدر والمبدأ {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:25-32] . وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: انظر إلى هذا السياق: {شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} ، لو جئت بأصبعك لتغرسه في الأرض ما استطعت، ولكن الله يشق الأرض عن ذاك النبت اللين الضعيف الرهيف. هل كنت تشقق الأرض عن كل النباتات التي تزرعها؟ لا والله، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة:63-64] (أأنتم) : استفهام تعجب، أي: أما تستحون من أنفسكم! {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] . هب أن النبات نبت، فمن أين لك القدرة على أن تخرج الثمرة من هذا الزرع؟ عود القمح نبت، أين القدرة بغير الله سبحانه أن يحمل هذا العود تلك السنبلة وتخرج من خلاله، وتأتي بتلك الأبراج في داخلها، وكل حبة لها برج مستقل؟ طلعت السنبلة، من الذي أجرى فيها الماء ثم عقد الحبة؟ من الذي لقحها؟ ولذا قال الله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:65-67] . ولذا يقول الوالد رحمة الله تعالى علينا وعليه: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس:24-26] ، من الذي يصب الماء من علو؟ أعندك خزانات هناك في يدك محبسها؟ لا والله، ومن الذي يسوقه إلى بلد ميت فيحييه، وانظر إلى قوله: {صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} يعني: برفق، ولو تدفق مرة واحدة لهلك العالم، لكنه ينزل قطرات بسيطة على رأسك، وبعد ذلك تلتقطه الأرض. ثم انشقت الأرض عن الحب: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} سبحان الله! تربة واحدة وماء واحد والنبات مختلف يسقى بماء واحد، ولكن هل يستوي في الأكل؟ لا، فمنه متشابه وغير متشابه، العنبة بجانب الليمونة، والبرتقالة بجانب النخلة، الحنظلة تنبت على شاطئ الوادي، فمن الذي يُغذي هذا وذاك؟ ولو أخذت ورقة العنب ما وجدت فيها من الحلاوة شيئاً، تأتي إلى عود الفلفل وبجانبه الباذنجان؛ هذا أحمر مجوف وفيه النار، وهذا أسود بارد لا شيء فيه، وبجانبه الطماطم فيها خزان من الماء الأحمر، وكله في تربة واحدة. إذاً: كلكم كما قال سبحانه: (كلكم جائع إلا من أطعمته) ، حينما يمسك الله الماء ماذا كانت نتائج بعض الدول التي تشتكي القحط أو الجدب؟ تهلك الأموال والأنفس. وقد جاء أعرابي والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال: (يا رسول الله! سل الله أن يسقينا، هلكت البهائم وتقطعت الطرق وجف الشجر. إلى آخره، فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ويستسقي ربه وهو على المنبر، فيقول راوي الحديث: فتنشأ سحابة كالترس -الترس التي في يد الفارس حينما يقاتل- وليس بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، حتى إذا توسطت كبد السماء انتشرت ثم أمطرت إلى يوم الجمعة الثانية، ثم يدخل رجل من ذاك الباب هو ذاك الرجل أو غيره، فيقول: يا رسول الله! ادع الله أن يمسكها عنا، هلكت البهائم وتقطعت الطرق، فيرفع صلى الله عليه وسلم يديه ويسأل ربه ويقول: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام وعلى منابت الشجر وبطون الأودية) الآكام: جمع أكمة، يريد: على الجبال التي هنا وهناك، وعلى الوديان ومنابت الشجر. فيقول الراوي: فخرجنا نمشي في الشمس؛ هذا لمن حدث؟! أولئك أصحاب الذرة ما رأوا هذا الشيء، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله، ما داموا قد ختم الله على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة كيف ينظرون إلى آيات الله؟ إذاً: الهداية من الله، ولذا أيها الإخوة! فالواجب على العبد إذا رأى إنساناً هذا حاله أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! انحرف عن الجادة وانزلقت به قدمه، ولا يقف موقف الشامت؛ وليعلم أن الهداية بيد الله، وما الفرق بينك وبينه عند الله؟ فليس لك سابقة نسب عند ربك، وليس هو بعيداً عن مخلوقات ربه، والله يبتلي هذا ويمتحن ذاك، ويمن على هذا ويمنع ذاك. ويروون عن ابن مسعود قوله: (والله إني لأخشى إن سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً) ؛ فإذا وجد العاقل إنساناً مبتلى ببلاء، فأولاً وقبل كل شيء يحمد الله أن عافاه من هذا الابتلاء؛ لأنه قادر أن يعافيه ويبتليك، فإذا حمد الله على العافية فليسأل الله السلامة لهذا المبتلى. وفي نظري: أن مثل المستقيم والمنحرف كشخص معافى مبصر يمشي على الطريق، فوجد حفرة على جانب الطريق وشخصاً قد سقط فيها، هل يا ترى من العقل ومن الإخوة الإنسانية -لا أقول الإسلام والإيمان- أن تراه متردياً في الحفرة وتأتي بالتراب تهيله عليه، أم تمد له يدك وتحاول أن تنقذه من تلك الورطة؟ من حقه عليك أن تنقذه، وتعمل ما في وسعك لذلك. إذاً: على الداعية إلى الله والمسلم العادي أن يحمد الله سبحانه وتعالى أن عافاه مما ابتلى به غيره، وأن يسأل لغيره المعافاة مما ابتلي به. (كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم) ولذا فالعبد يحمد الله وحده على فضل الهداية، وأيضاً: من حقه علينا صلى الله عليه وسلم عرفاناً بالجميل، ومقابلةً بالإحسان: أنه كلما جاء ذكر اسمه أن نصلي ونسلم عليه، اللهم صل وسلم وبارك عليه. لو جئنا بخطوة أمامية أيضاً: صب الماء، ونبت النبات، وجاءت الثمرة، وأودعت في المستودع، ثم جاءت إلى المخبز، ثم إلى الطهي، وقدمت بين يديك، من الذي يطعمك هذا الطعام الذي على السفرة أمامك؟ من الذي يُقدرك على أن تبتلعها إلى معدتك؟ فكم من غني لا يستطيع أن يأكل عشر ما يأكل أحد الخدم عنده! أعتقد أن البعض الذين يقرءون الدوريات السارية عن ملك الحديد فورد، الذي كان يعيش بربع المعدة، وكان يرى العمال، فمنهم الذي يأكل قرصين وثلاثة أقراص، فكتب للعالم كله: أي طبيب يجعلني أستطيع أن آكل نصف قرص في وقت واحد فله نصف مالي. وذلك بسبب قرحة في المعدة، وقصة معدته أنه ما بقي له منها إلا شيء بسيط، فيأخذ أشياء على فترات، ماله بين يديه ولكن لم يطعمه ربه، (كل جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم) .

طلب الكساء من الله تعالى

طلب الكساء من الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته) . وسبق أن أشرنا إلى أن الإنسان يأتي إلى الدنيا عرياناً، والمولى سبحانه هو الذي يهيئ له الكساء قبل أن يأتي، عاطفة الأمومة تجعل الأم في أواخر الحمل تذهب وتأتي بالأقمشة، وتخيط الثياب، وتجعلها صالحة للبنت وللولد، وللمولود الذي سيأتي، والمولى سبحانه هو الذي عطف قلب الأم على أن تهيئ لك هذا اللباس، ثم بعد ذلك كبرت ونشأت تطلب الكساء، ووالله لن تجد من الكساء إلا ما أعطاك الله إياه وكساك، ولا حاجة أن نميل إلى الكساء المعنوي في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] ؛ لأن هذا داخل في باب الهداية. وأشرنا سابقاً بأن العلماء يقولون: ثلاثة نعم لا كسب للعبد فيها: النعمة الأولى: إيجادك من العدم. هل أنت عملت شيئاً حتى جئت إلى الدنيا؟ لا والله، حتى الأبوان ما عملا شيئاً، وإنما قضيا وطراً لهما، وما وراء ذلك فليس في استطاعتهما؛ لأن المولى يتمدح ويقول: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49-50] فالولد هبة من الله، فجئت بفضل من الله. النعمة الثانية: نعمة الإسلام؛ قالوا: حينما يأتي الولد من أبوين، هل كان له اختيار في نفسه أن يأتي من أب اسمه علي أو حسن أو أحمد، وأم اسمها فاطمة أو عائشة أو زينب أو سعاد؟ هل اخترت الأبوين اللذين تأتي منهما؟ ليس له اختيار، لكن الله منحه أبوة أبوين مسلمين فنشأ على الإسلام، وولد على الفطرة وبقي عليها. النعمة الثالثة: دخول الجنة؛ فإذا أنعم الله على العبد بالهداية، كما جاء في أول نداء بعد تحريم الظلم، ثم رزقك وكساك، وأعطاك مقومات الحياة الدنيا وقال لك: إنها من الله، تلك النعم العظمى ماذا تستوجب عليك؟ تستوجب شكر المُنعم وأوائل شكر المنعم، طاعته وعبادته وإفراده بالعبودية أو بالألوهية، فلا تصرف شيئاً من العبادة لغيره؛ لأنه الذي أوجدك من العدم، والذي أطعمك وأنت جائع، وكساك وأنت عار، وهداك وأنت ضال، ليس لمخلوق حق في هذه الأمور الثلاثة.

طلب المغفرة من الله تعالى

طلب المغفرة من الله تعالى من المنطق السليم أنه ما دام الله هو ربك وخالقك ورازقك ومحييك ومميتك وهاديك، فلا ينبغي أن تصرف شيئاً من العبادات لغيره لأنه أحق بها، ولكن قد يقصر العبد في شكر النعمة ولذلك جاء في الحديث:: (إنكم تخطئون بالليل والنهار) ، أي: فلا أحد معصوم، ثم يقول: (وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) ، هل هناك تودد أكثر من هذا؟! وهل هناك تقرب أكثر من هذا يتقرب به المولى لعبيده؟ والخالق لخلقه؟ وخطأ البشر بالليل والنهار أمر طبيعي؛ لأن الإنسان من طبيعته الخطأ وليس من طبيعته العصمة، فالملائكة وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أما الإنسان فقد ركبت فيه عوامل طاعة والمعصية {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، فالطريقان ميسران لك. فإذا كان الأمر كذلك والخطأ واقع، فقد فتح لك ربك باب الاستغفار وقبله منك ودعاك إليه، وقد جاء في الحديث: (لولا أنكم تذنبون وتستغفرون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم) ، وجاء في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الأخير ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) ويبسط الله يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل؛ فأي رحمة أعظم من هذا أيها الإخوة؟! وأي رحمة أوسع من رحمة الله لخلقه؟! في وقت المعصية، وفي حالة العصيان يدعوهم للتوبة وللاستغفار، اللهم لا حول ولا قوة إلا بك. بعد تعداد النعم عليهم من الهداية والإطعام والكساء، ينبههم سبحانه على أنهم سيقصرون، وسيقع منهم الخطأ وا لذنب، فيندبهم للاستغفار واللجوء إليه فيقول لهم: (فاستغفروني) . استغفر كاستفعل، أي: طلب المغفرة، وسيد الاستغفار كما جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ... ) إلى آخر الدعاء، فيستغفر الإنسان ربه. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، فالرسول كان يستغفر ربه، لكن لا عن ذنب، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعصم من المعصية، ولكن رفعاً للدرجات وتعليماً للخلق، فإذا كان مع غفران الذنوب يتوب ويستغفر في اليوم مائة مرة، فمن يكون منغمساً في الذنوب فمن باب أولى أن يستغفر ويتوب في اليوم مئات المرات.

لا يبلغ العبد نفع الله تعالى ولا ضره بصلاحه أو فساده

لا يبلغ العبد نفع الله تعالى ولا ضره بصلاحه أو فساده يأتي بعد هذا (يا عبادي!) . بعد أن يندبهم للاستغفار هل دعاهم لمصلحة تعود عليه؟ هو المنعم عليهم بالهداية، ومن الهداية أن يستغفروا، فالاستغفار هو من هداية الله، وهو الذي أطعمهم من الجوع، وهو الذي كساهم في العري، ثم يدعوهم للاستغفار، وبعد أن يدعوهم للاستغفار يبين لهم أن ذلك ليس فيه مصلحة تعود عليه، فيقول: (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) أي: بعصيانكم وعدم استغفاركم (ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) أي: إن استجبتم واستغفرتم، وكذلك هدايتكم لن تنفعني، وعدم هدايتكم لن تضرني! إذاً: تلك التكاليف كلها لمصلحة الإنسان، وهنا يمكن أن يقف الإنسان وقفة طويلة ويناقش المعتزلة في أن العبادات والأحكام غير معللة، وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، وأن له أن يكلف الخلق بما شاء، وأرجو من طلبة العلم أن يبحثوا ويتقصوا ذلك، مع أنه ما من أمر أو نهي موجه للخلق إلا وفيه لهم جلب نفع أو دفع ضر، فإنه لا يوجد أمر واحد في كتاب الله أو نهي واحد لا يعود على المكلف بخير. أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، كتب عليكم الصيام، مثلاً: الصلاة: نحن كلنا نقول إنها عبادة بدنية وحق لله تعالى، ولكن هل خلا العبد من مصلحة في الصلاة؟ الصلاة محض حق لله، ومع هذا فإن لها مردوداً كبيراً على العبد، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] وأي فائدة أعظم من تطهير المجتمع الإسلامي من الفحشاء والمنكر؟! بل قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] فهي عون على نوائب الدنيا، فتبين أن الصلاة حق لله وأن مردودها للعبد. وكذلك الصلاة نور في الدنيا تنير البصائر، ونور في الآخرة على الصراط؛ إذاً: الصلاة وهي محض عبادة بدنية مردودها على العبد حالاً، وهل تبلغ نفعه سبحانه؟ لا والله، هي راجعة لكم أنتم. كذلك الصيام: تجوع وتعطش، وجاء في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه من أجلي) ، فالصيام في أول تشريعه ينص على الحكمة والثمرة العاجلة، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ، وإذا حصلت التقوى للعبد، أليس كل خير جاء مع هذه التقوى؟ بلى. أيضاً: الزكاة، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، فهي حق للمسكين والفقير في مال الغني، فلو لم تأت آيات الزكاة وتُرك الأمر لضمير الإنسان، فإنه يرى أخاه من أمه وأبيه وقد نشأ معه في بطن واحد، ولكنه عجز عن الكسب وأخوه كسب شيئاً كثيراً، فالأخوة من حيث هي لا تتركك تبيت الليلة متخماً وتوأمك خامداً جائعاً، ولا ترضى أنت بهذا، بل الحيوان لا يرضاه، فإنه إذا وجد ما يشبعه ترك الطعام لغيره، فإذاً: جاء الإسلام وجعل فيها الأجر والتطهير والتزكية والنماء. وإذا جئت إلى الحج تؤم بيت الله، وتطوف بالكعبة، وتقف بعرفات، وترمي الجمرات، وفي هذه المناسك حكم غالية، منها: {ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] . إذاً: (يا عبادي! أنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) ، وإنما جزاء أعمالكم عائد لكم أو عليكم.

الحديث الرابع والعشرون [3]

شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3]

سعة ملك الله وجزيل عطائه

سعة ملك الله وجزيل عطائه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين. أما بعد: فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نسه) . هذا آخر الحديث، يبين لكم أن المسألة راجعة لكم أنتم. فهنا قال أخرى: (يا عبادي!) يناديهم شفقة بهم ورحمة، لا لمصلحة يُحصلها منهم، وأي مصلحة عندهم؟! فالعبد صنعه وخلقه، طعامه من عنده، وكسوته من عنده، وهدايته ورزقه من عنده، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58] خزائنه ملأى على ما سيأتي إن شاء الله. ينبه القاضي عياض وغيره من علماء التربية والتوجيه هنا إلى شيء مهم، وهو من نفائس الكلمات، لماذا قال: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم) ، قالوا: لأن وحدة القلب في التقى أشمل وأجمع وأعم. وبعض العلماء يقول: من هو هذا الرجل الذي يكونون على أتقى ما يكون على قلبه وحده؟ بعضهم يقول: النبي صلى الله عليه وسلم. وفي المقابل: (على أفجر قلب رجل) قالوا: هو الشيطان، وأنه فرد من الجن؛ لأنه قال: (وإنسكم وجنكم) ومن باب المجانسة فرد من الجن يعتبر كرجل، والله تعالى أعلم بذلك. إذاً: الطاعة لا تزيد في ملكه سبحانه، والمعصية لا تُنقص من ملكه. ثم قال سبحانه وتعالى: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني) كلٌ بأمانيه: (فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المحيط إذا أُدخل البحر) ، هذه الصورة يقول فيها القاضي عياض: لماذا هذه الصورة التي تجمع الخلائق كلها؟ لماذا لم يُعط كل واحد مسألته على حده وانفراده؛ بل قال: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) ؟ الصعيد: الأرض المنبسطة، أي: لو أن الخلائق كلها من الإنس والجن فعلوا ذلك ما ضرني فعلهم.

إثبات وجود الجن

إثبات وجود الجن والجن موجودون، ومن ينكر ذلك ينظر في الدليل، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجن وبايعهم وصرفهم الله إليه {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] ، {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:1-3] يا سبحان الله! كما قال صلى الله عليه وسلم ليلة التقى بهم: (للجن أحسن جواباً منكم، وكلما قلت: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب) ، فكأنه يقول لهم: أنتم ما أجبتم، فكأن الجن كانوا أفقه وأحسن جواباً منكم. ولما جاء مال البحرين وجاء الجني في صورة إنسان يسرق قبض عليه أبو هريرة، ولما اعترض الجني لرسول الله وهو يصلي بالليل، همّ أن يمسكه، ثم تذكر قول نبي الله سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] ، يقول صلى الله عليه وسلم: (لولا دعوة أخي سليمان لأمسكت به إلى الصباح حتى ترونه ويلعب به صبيانكم) >فإنكار الجن إنكار للواقع ومكابرة له، ولا أريد أن أخرج بكم عن الموضوع، ولكن كان شخص يسكن معنا هنا في المدينة اسمه محمود جاوي كان إذا قرأ القرآن تحتاج أن تصغي إليه لتسمع منه، وكان لا يرفع صوته، ولكن لو قرأ شهراً كاملاً لم تنصرف عنه، فقد كانت قراءته هبة من الله سبحانه، فجاءني يوماً مذعوراً، فقلت: ماذا دهاك يا محمود؟ قال: لا أستطيع أن أخبرك، قلت: لماذا تأتيني إذاً؟ قال: وقع أمس أمر عجيب، وقبل أمس، وقبل أمس، منذ أسبوع إلى الآن وأنا نائم، فإذا بي أسمع باب الغرفة يفتح، فنهضت إلى الباب قال: يا محمود خليك، قال: نهضت إلى السراج طبعاً ولم يكن هناك كهرباء، أخذت الكبريت لكي أشعل الفانوس، فقال: لا تشعل النور. قلت له: من أنت؟ قال: واحد من جيرانك هنا. قلت: ماذا تريد؟ قال: قم واقرأ القرآن. قال: قمت من الخوف وقرأت وأنا أرتجف، قال: أنت خائف، لا عليك يكفي قراءة هذه الليلة فنم، ومن الغد آتيك في الموعد. ولما جاء كنت أقل خوفاً، فقرأت حوالي نصف ساعة، وفي الليلة الثالثة جاء على الموعد فقرأت نحواً من ساعة، وفي الليلة الرابعة كأني استأنست به، ثم جاء فقلت: إني متعب أريد النوم، فقال: قم واقرأ، ثلاث مرات، ثم قال لي: أما تستحي! إنما آتيك وأطلب منك قراءة القرآن، ولم أطلب منك عشاء وكسوة ومالاً، وإنما أطلب منك أن تقرأ القرآن، ثم تقول: أريد أن أنام، غداً ستنام في القبر طويلاً. يقول: فانتقلت. وذكر لي المحل الذي انتقل منه، وكان يسمى (سقيفة الرصاص سابقاً) . قال: فمن الغد جاءني وأيقظني قال: عجباً يا محمود! نحن كلانا مهاجر في المدينة، أتريد أن تخرج منها؟ أم تريد أن أتركك؟ قلت: اتركني. وأنا لا أقول هذا استشهاداً على وجود الجن، ولكن تأكيداً للذين يستبعدون أن يكون هناك جن، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (بأنهم يهاجرون إلى المدينة كما تهاجرون أنتم) ، ونهى عن قتل الحية البيضاء قبل أن تآذنها لما وقع في غزوة الخندق، حيث كانوا يحفرون الخندق، وكان رجل حديث عهد بعرس فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته، فقال: (خذ سلاحك معك إني أخاف عليك يهود ولا تحدث شيئاً) ، فجاء الرجل وعندما أقبل على باب البيت فإذا عروسه الجديد واقفة على الباب، فأخذ سيفه غيرة من أن تقف على الباب هكذا، فقالت: لا تعجل، ادخل بيتك وانظر فراشك، فدخل البيت فإذا بحية على طول الفراش، فأهوى عليها بالسيف فضربها، تقول الزوجة: والله لا أدري أيهما كان أسبق موتاً، فذكر الخبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنه من مهاجر الجن إلى المدينة انتقم له إخوانه، إنهم يهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم، فإذا رأيتم شيئاً من هذه الحيات في بيوتكم فلا تقتلوها حتى تآذنوها ثلاثاً) .

الإعجاز في قوله: (في صعيد واحد)

الإعجاز في قوله: (في صعيد واحد) قوله: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) هنا يأتي السؤال السابق: تجمعهم في صعيد واحد يسألون في وقت واحد فيُعطي الجميع عطاؤه في وقت واحد، ما الفرق بينه وبين أن يُعطي كل إنسان مسألته على حدة؟ من يوم ما نزل آدم إلى الأرض وهو يعطي عباده مسألتهم، إلى أن جاء هذا الحديث بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم؛ لكن على انفراد. هذه الصورة لو مثّلنا بمثال بسيط بطلاب فصل، العدد النظامي للفصل ما بين الثلاثين إلى العشرين، فمثلاً: دخل الأستاذ فبدأ الطالب الأول وسأل سؤالاً وأجابه، والثاني وهكذا على الترتيب حتى انتهوا، هل هناك مشقة على الأستاذ؟ لا، ويمكن نقول إن الأستاذ متمكن من المادة فأجاب على الجميع. لكن إذا قام كل من في الفصل وكل واحد يسأل عن مسألته، فهل يستطيع أن يجيب الجميع في تلك اللحظة؟ وهل يستطيع أن يفهم كلامهم؟ هل يستطيع أن يسعهم بصدره؟ فهنا إذا كثر السؤال اختلطت الأصوات واختلطت الأحوال، لكن المولى سبحانه لا تشتبه عليه الأصوات، ولا تختلف عنده اللغات، ولا يتكاثر عليه السؤال، فيجتمع الأولون والآخرون من إنس وجن في صعيد واحد وكلٌ يطلب مسألته فيعطيه في الحال، أي قدرة هذه؟! تأمل هذا بعقلك وتصوره، ألم نشهد جزئية صغيرة من هذه كل سنة في الحج، ألم يجتمع الحجاج في عرفات، وكلٌ يرفع يديه إلى الله، ويدعوه بلغته، فأنت بجانب شخص لا تفهم لغته، والآخر بجانبك لا يفهم لغتك، لكن هل اختلفت على الله؟ ندخل في الصف عربي وعجمي وهندي وطويل وقصير، كل إنسان يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، ثم يسجد ويدعو بلغته، وكل واحد له حاجته ومسألته. فكما يقولون: كثرة الناس تُدهش، وكذلك كثرة المسألة، فلو جاء ألف شخص لأكبر إنسان عنده خزائن الدنيا وطلبوا أن يسعفهم في يوم واحد -لا نقول في لحظة- فإنه لن يقدر أن يصرفهم، مجاعة مصر لما كانت في زمن العزيز ويوسف على خزائن الأرض، كان كل واحد له كيل بعير بتالعداد والنظام. إذاً: هذه الصورة من الإعجاز، أن يقوموا في صعيد واحد من إنس وجن، السابق واللاحق، ويسألون حاجاتهم المختلفة كل على حدة وفي لحظة واحدة، ويعطي الجميع مسألته، كم يكفيهم هذا لو كان كل إنسان يطلب درهماً واحداً فقط، ماذا يكفي هذا العالم كله؟ معاوية لما جاءه أعرابي وقال: يا أمير المؤمنين! أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا وصلتني، قال: من أين أنت؟ قال: من كذا، وما الذي يجمعني معك في الرحم؟ قال: يجمعني أنا وأنت آدم وحواء، قال: صدقت، والله إنها لرحم أصيلة وثابتة ولها حق، وأخذ ورقة وكتب إلى وزير بيت المال. ففرح الأعرابي بصلة رحم أمير المؤمنين، الرحم القوية الكبيرة آدم وحواء، ولما جاء الأعرابي بيت المال فإذا به يعطيه درهماً واحداً، قال: هل تهزأ بي، أهذه صلة أمير المؤمنين لرحم آدم وحواء؟ قال: هذا الذي كتب لك، قال: دعها عندك، ثم رجع إلى معاوية: ما هذا يا معاوية! هذه صلة رحمك بآدم وحواء بدرهم؟! قال: اصبر يا أخا العرب! والله لو أني وصلت هذه الرحم ما بقي في بيت المسلمين ولا درهم.

البلاغة في قوله: (ما نقص ذلك من ملكي شيئا)

البلاغة في قوله: (ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) رب العزة يقول: (لو أن أولكم وآخركم) يعني: حيكم وميتكم، (وإنسكم وجنكم) بل ولو قامت حتى حيواناتكم ولها مطالب، (وأعطيت كل سائل مسألته) ، ما الذي سوف يحصل؟ (ما نقص مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر) . انظروا الأساليب! أين الأدباء والبلغاء والكتاب؟ لو قال: ما نقص شيء، لكانت الكلمة تمر هكذا على الأذن بلا تأثير، ولكن هذا الأسلوب يعطي في ذهنك صورة عملية وأنت الذي تحكم، يقول لك: أنا أُعطي، لكن ما الذي سيحصل؟ خذ إبرة واغمسها في البحر وارفعها، وانظر قدر ما نقص من البحر، فذلك هو الذي سينقص عندي، أنت بنفسك تقول؟ ليس بناقص شيئاً، وذلك وذلك كما في الآية الكريمة: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] ، لو قال لك: ليس ببالغه شيء، لما انطبعت الصورة، لكنه يصور لك صورة (كاريكاتورية) كما يقولون عنها، إنسان عطشان ويأتي على حافة بئر أو نهر ويفتح فمه ويمد كفه مبسوطة والماء بعيد في قعر البئر فهل يصله الماء؟ {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] : ومتى يسكن الإنسان بيت العنكبوت، كأنك تقول: لا شيء. وهنا وقفة مع قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، لما جاء العصفور وشرب، وقال له: ما ينقص علمي وعلمك إلا كما ينقص البحر من هذا العصفور. في كلمة: (إذا أدخل البحر) أي البحار يريد؟ أظن أهل الجغرافيا يقولون: البحار هي المحيطات: الهندي والهادي والأطلسي والبحر الأبيض، وأظن أن البحر الميت لا يسمى بحراً ولكن بحيرة لوط، والحديث يقول: (إذا أدخلت في البحر) ، فهل في نظر القرآن تلك البحار بحار متعددة أو هي بحر واحد؟ {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف:109] . إذاً: تسمية الجغرافيين البحار إنما هي بتسمية أماكنها التي تمر بها، وجميع بحار العالم بحر واحد، ونحن نعرف هذا، فكلها متصلة لا يوجد حاجز بينها، وكما يقولون: ربع الأرض يابس وثلاثة الأرباع مياه، إذاً: في البحر يعني في بحار الدنيا التي تسمونها كذا وكذا. والجواب أنه لم ينقص شيء، وهنا يقول العلماء: إن المولى سبحانه خزائنه ملأى، وفي بعض العطاء كلام {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .

إثبات صفة الكلام لله تعالى

إثبات صفة الكلام لله تعالى أحب أن أنبه على بعض المواقف لبعض الشراح لهذا الحديث، يقول: إنه ليس هناك قول يقال: كن، ولكن تقدير ما يمكن في زمن كن، ويكون المراد: إذا تعلقت الإرادة بالمراد حصل. وهذه زلة اعتزالية، يريدون بها أن ينفوا عن المولى سبحانه قوله: (كُنْ) ، بل المولى سبحانه له صفة الكلام وهي صفة قديمة أزلية، أزلية الصفة متجددة الحدوث، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ؛ لأنه بكلماته يأمر هذا فيتسلط على هذا، وينهى ذاك فيكف عن إيذاء ذاك، وكذلك في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الأخير ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيقول) ، هل يقول بالإرادة أو يقول كما قال سبحانه؟ نقول: كما قال الله، كيف يقول؟ كيف يتكلم؟ هذا ليس لك ولا يحق لك أن تتساءل عن ذلك؛ لأنك تصف الله بما وصف به نفسه على مراده وعلى حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .

سرد لمعاني الحديث العامة

سرد لمعاني الحديث العامة (حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) ، أي: فتخلقوا بأخلاق الله، وبصفات الله، ثم جاء بعد ذلك: إفاضته نعمه على العبد، وتحريم الظلم نعمة كبرى، لو أن الله ترك ذلك لعباده لكان القوي يأكل الضعيف، وكانت أكبر نقمة على المجتمع، لكن الله يحجبهم ويمنعهم عن الظلم، فهي نعمة كبرى، الأمم التي لا تدين بأديان، والعرب عندما كانت في الجاهلية كانت تقول: من عز بز ومن غلب اغتنم. الآن في الوقت الحاضر، الأمم المتسلطة هي القوية، الدولة الضعيفة الآن لا حول ولا قوة لها إلا بالله، اللغة التي تفهمها الأمم هي لغة القوة، لأنه ليس المقياس دينياً بخلاف الإسلام دين الله، ففيه العدالة، والرحمة، والرأفة، والصلة، والمساعدة، فأول نعمة من نعم الله على الأمة في هذا الحديث أنه حرم الظلم، وإذا ارتفع الظلم جاءت العدالة, وإذا وضع ميزان العدل في الحياة استقرت ووجد الأمان والطمأنينة وسعد الناس في ظلها. حرم الظلم، ثم هدى من ضلال، ثم أطعم من جوع، ثم كسى من عري، ثم غفر ما كان من ذنب، فماذا تريدون فوق هذا؟! من الذي سيأتي بشيء آخر؟ ماذا بقي من مطالب الخلق؟ بقيت الجنة، إن شاء الله إذا جاءوا إلى الجنة وجدوا أبوابها مفتوحة. ثم يبين غناه المطلق، وأن عطاءه فضل محض منه سبحانه، ويقول للعباد: أنتم لا تقدرون على ضري، ولن تستطيعوا نفعي، وأنا مستغن عنكم، ثم يأتي يبين غناه وسعة فضله، فكأنه يقول: التجئوا إليه واطلبوه. ثم ختاماً لهذا العرض الكامل: دعاكم للاستغفار وأنتم مخطئون ومحتاجون للاستغفار، فالخطأ من لوازم البشر؛ لأن الإنسان ليس معصوماً، وأفراد البشر المعصومون هم الرسل لأدائهم الرسالة، ليكونوا نموذجاً كاملاً في البشر لما يمكن أن يصل إلى درجة الكمال في الإنسان، وما عدا ذلك فهم يخطئون.

إحصاء الأعمال واستيفاؤها يوم القيامة

إحصاء الأعمال واستيفاؤها يوم القيامة أخيراً قال: بينت لكم ودعوتكم وعرضت عليكم ولم يبق إلا أن تتدبروا: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) الإحصاء والإحصائية مأخوذة من الحصى، الحصى تجمع من أجل أن تعد، فالإحصاء العد عن طريق الحصى، وهو العد المنضبط بحيث لا تزيد حصاة ولا تنقص حصاة. فقال هنا: (أحصيها لكم) ، فعل (أحصى) يتعدى باللام ويتعدى بعلى، يقول: أحصيت لك ما لك عندي، أحصيت عليك ما لي عندك، وهنا الحديث يقول:: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) وهذا من فضل الله وكرمه. لفتة كريمة في الحديث تنبه شعور المسلم إلى سعة فضل الله الكبير المتقدم: لو اجتمع أولكم آخركم، إنسكم جنكم فأعطيتكم كل شيء ما تغير عندي شيء، إذاً: من كرمه أن يحصي لنا الخير ولا يحصي لنا الشر، ولو كان يعاملنا بالشر كما يعاملنا بالخير لقال: (أحصيها لكم وعليكم) ؛ لكنه لم يقل: (عليكم) ولم يقل: (لكم وعليكم) مع أن أعمالنا قسمان: عمل خير وعمل شر، وهي تحسب بالذرة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] لكن الكلام هنا في معرض المنة، ففي معرض العطاء والرحمة وإفاضة الخير قدم جانب الخير، وكأنه غطى وألغى جانب الشر. الحديث له ذوق وإحساس، وليس مجرد قوالب وألفاظ، لكن نأخذ من غضون الكلمات والتعبير -ويكفي أنه حديث قدسي-: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله) ، فمقابل الخير الشر، ولكنه لم يقل: (ومن وجد شراً) ، وكأنه استمرار في إخفاء جانب الشر. نرجع مرة أخرى: (إنما هي) ، هي: ضمير فصل مؤنث، فهل هو مفسر لمجمل قبله، أو هو كما يقولون: ضمير القصة وضمير الشأن، فقوله: (إنما هي) أي: القصة والحالة، أو أن هناك مسبوقاً ظاهراً يرجع إليه هذا الضمير؟ الراجح أنه ضمير راجع إلى مذكور. لما قال سبحانه: (إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني) يبقى هنا خطأ استغفار، وكل من الخطأ والاستغفار من عمل الإنسان، إذاً: (إنما هي أعمالكم) إن أخطأتم وإن استغفرتم، فإن استغفرتم فلكم المغفرة، وإذا كان الاستغفار مطلوباً كالتوبة من باب أولى. إذاً: (إنما هي) يرجع إلى الأعمال المعروفة المطوية في قوله: (تخطئون في الليل والنهار، فاستغفروني أغفر لكم) . إذاً: (إنما هي) أي: أعمالكم، وقد صرح بها في قوله: أحصيها لكم. (أحصيها لكم) : أحصيها: أضبطها، هناك في سورة الكهف {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] أي: عدداً وضبطاً ونوعاً، وقال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] هي أعمالكم فربك لا يظلم، وكذلك ما تقدم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران:30] ، فلا يغيب عنه شيء. إذاً: أعمالكم، لا نريد أن نقف مع المعتزلة في إسناد العمل إلى العبد، وادعائهم أن العبد يخلق عمله، ومعارضة القضاء والقدر، بل نقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق له القدرة، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، وجعل له اختياراً فيما يذهب إليه، وكل ما كان في الكون فلا يخرج عن إرادة الله وعلمه، وهذا موقف زلت فيه أقدام لا حاجة لنا به؛ لكن تنبيهاً لطلبة العلم عند المرور على هذه النقطة في شرح الحديث، فإن الله أضافها للعبد على سبيل الكسب.

بيان فضل الله على عباده في الجزاء

بيان فضل الله على عباده في الجزاء (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) وهذا الإحصاء يشمل الصغير والكبير: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، إلا أن فضل الله سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث: أن العبد إذا اكتسب حسنة بادر ملك الحسنات فسجلها حالاً، وإذا ارتكب سيئة يريد ملك السيئات أن يبادر بكتابتها فيمنعه ملك الحسنات؛ فلعله يستغفر، أو يتوب، ولعله يرجع، فإذا مضت المدة الكافية ولم يستغفر ولم يتب ولم يرجع إلى الله وما بقي إلا أن تُكتب؛ فإن صاحب الحسنات يكتب الحسنة عشرة، وصاحب السيئات يكتبها واحدة. فإذا ما استغفر وتاب بعد ذلك، فإن الله يبدل سيئاتهم حسنات، فانظروا إلى فضل الله: الحسنة تضاعف إلى عشرة أضعاف بل إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء، والسيئة واحدة. وإن استغفر استبدلت، ومن همّ بسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة، كما جاء في الحديث: (الناس أمام أمور الدنيا أربعة أقسام: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً يعرف حق الله فيه فهو في أعلى عليين) فاجتمع له الدين والدنيا، (ورجل أعطاه الله علماً ولم يعطه مالاً، فقال: لو كان لي من المال لعملت فيه مثل ما يعمل فلان -أي: في طريق الخير- فهو معه في الأجر سواء، ورجل لم يعطه الله علماً وأعطاه مالاًَ فلا يعرف حق الله فيه فهو في أسفل الدركات، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً قال: لو أن عندي مالاً لعملت فيه مثل ما يفعل فلان، فهو معه) ، فاثنان جوزيا بالفعل واثنان بالنية، فصاحب نية الخير لحق صاحب الخير بنيته، وصاحب نية الشر لحق صاحب نية الشر بقصده وإرادته ورغبته.

قضاء الله بين عباده بالبينة

قضاء الله بين عباده بالبينة قوله: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها) : هذه التوفية والوفاء بغير نقصان، كما قال الله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ولماذا الإحصاء؟ فالمولى سبحانه إذا حاسب العبد من عنده بدون إحصاء ولا كتابة فلا أحد يملك الاعتراض عليه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] وهو لا ينسى عمل أحد ولا يحتاج إلى إقامة الأدلة على أحد ولكن يكتبها لإقامة العدل ونفي الظلم الذي بدأ في الحديث أولاً: (حرمت الظلم) ، وعند الحساب يأتي بالبينة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] . يوم تشهد عليهم الأيدي والألسن والأرجل، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، أتنكر يا عبدي؟! ألم تفعل كذا وكذا؟ فيقول: ما فعلت، فتقول اليد: ضربت وقتلت وسرقت، وتقول اللسان: اغتبت وكذبت وقلت، وكل الأعضاء تشهد بما عملت. وإذا كان رب العزة يقضي بالبينة، فكيف تقضي أنت يا أيها العبد بغير بينة؟ ولذلك أجمع الأئمة الأربعة وغيرهم على أن القاضي في منصة الحكم لا يقضي بعلمه، فلو مشى في الطريق ورأى زيداً يسرق بيت عمرو ومن الغد جيء بالسارق بين يديه، وجاء عمرو يقول: هذا سرق بيتي، فعليه أن يقول: أنا الآن في منصة القضاء ولابد من البينة؛ فإن جاء بشهوده قضى بمقتضى الشهود، وإن لم يأت لم يجز له أن يقضي بما علمه هو. ولذا جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً اشتكى إليه في قضية حصلت أمام عمر، ثم بعد ذلك حصلت فيها منازعة، فجاء المدعي وقال: يا أمير المؤمنين! القضية كذا وكذا، قال: بينتك، قال: أنت تعلم، قال: إن أردتني قاضياً فائتني بشهود، وإن أردتني شاهداً فاحتكم عند غيري واستشهد بي) .

صورة من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم

صورة من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث درست معالمها ولا بينة عندهما) ، أي: ميراث قديم؛ كان جدهم قد ترك بستاناً أو بيتاً، لكن أين معالمها؟ اندثرت، أين البينات؟ لا توجد، فهي قضية مغلقة ليس لها رأس ولا أرجل. فقال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو الذي يبلغ من الله بأقل شيء في الصلاة، كان في نعليه أذى فجاء إليه جبريل فأخبره، فخلعه في أثناء الصلاة، ولم ينتظر حتى يكمل، وحفصة {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم:3] {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] ، فيقول لهما. : (إنكم تختصمون إليّ وأنا بشر -أي: من حيث القضاء، وجانب البشرية لا النبوة والرسالة؛ لأن القضاء عمل بشري وأنا بشر- ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن استقطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار) إلى آخر الحديث. فكان كل منهم يقول: نزلت عن حقي لأخي ولا أريد شيئاً، فكانوا متخاصمين ثم صاروا متصالحين. لكن هنا تنبيه للحكام والقضاة: الإنسان حينما يقع تحت تأثير العاطفة أو يقظة الضمير يكون ذا حساسية وشفافية وزهادة، فانظر إلى هؤلاء بعد أن كانوا متشاحين ومتخاصمين لما سمعوا (قطعة من النار) تنبه الضمير، وكل كأنه يرى سعير النار ولهبها يلفح وجهه فتنحى وتباعد، لكن بعد هذا المجلس قد يرجع إلى طبيعته وتهدأ عواطفه ويبرد إحساسه ويرجع يتأسف، ولذا لا ينبغي للحاكم ولا للقاضي أن يأخذ الشخص عند تأثير العاطفة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما وقد قلتما ذلك؛ فارجعا واقتسما وتحريا في القسمة واستهما، وليبح كل منكما صاحبه) . انظروا إلى النقاط: (ارجعوا فاعملوا قسمة، وتحروا في القسمة، وذلك حتى لا تعود بعد أيام وشهور وسنين وتقول: يا ليتني فعلت، ضحك عليّ، فمن الآن تحريا، وبعد التحري استهما واعملا قرعة، وبعد القرعة كل واحد يقول للثاني: سامحني. يهمنا أنه يقول: (لعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع) مع أنه لو ترك الأمر إليه واجتهد ولم يصب الحق لأتاه الوحي حالاً لأنه لا يقر على خطأ. وهذه والله رحمة للمسلمين، فإذا كان النبي يأتيه الوحي في كل قضية، فالقضاة من بعده من أين يأتون بالوحي، فوضع منهج البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. وهنا: (أحصيها لكم) ، وبمقتضى هذا الإحصاء أنتم تشهدون عليه، فكل إنسان يقرأ كتابه وكفى بنفسه على نفسه حسيباً، فكل إنسان يقر على نفسه، وكما يقولون: الإقرار سيد الأدلة، وانظر في آية الدين: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] بعد ذلك: {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] ، ثم: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282] ، لم يقل: الذي له الحق، بل الذي يملل على الكاتب هو الذي عليه الحق؛ لأن كونه يملي على الكاتب فهو إقرار منه، فإن كان الذي عليه الحق ضعيفاً أو سفيهاً أو لا يستطيع أن يملي الكاتب فيملي وليه. فهذا إقرار من الولي عن موليه في هذا الدين، فالإقرار سيد الأدلة. وهنا أنت تقرأ كتابك وترى عملك بنفسك، إقامة للعدل ومقتضى تحريم الله الظلم على نفسه. (ثم أوفيكم إياها) : التوفية: الجزاء الوافي بدون نقص.

توفية الله لحقوق كلا الفريقين بالجنة والنار

توفية الله لحقوق كلا الفريقين بالجنة والنار وهنا: (فمن وجد خيراً -مما عمل- فليحمد الله) يحمد الله على ماذا؟ نرد على المعتزلة بسرعة، هنا: وجد خيراً فيما عمل وأحصاه الله له: هذا الخير الذي وجده العبد من عمله يوم القيامة، من جانب الله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74] ، فالحمد لله. إذاً: الفضل كله راجع لله، وفي نهاية المطاف نحمد الله، هنا يقول بعض العلماء: سبعة من لازم عليها عاش سعيداً ومات حميداً، يقول: إذا بدأ عملاً قال: باسم الله، وإذا ختم عملاً قال: الحمد لله، وإذا رأى ما يكره قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا رأى ما يعظمه قال: لا إله إلا الله، وإذا أصيب بمصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا أذنب قال: أستغفر الله، وإذا أراد أن يفعل شيئاً قال: إن شاء الله. ولهذا كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول عند قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة:186] يقول: إني لا أهتم بالإجابة فقد وعد بها الله، بقدر ما أهتم أن يوفقني للدعاء، فإذا وفقني للدعاء فقد استجاب. إذاً: فمن وجد خيراً فليحمد الله؛ لأن الله الذي وفقه وهداه، وهذه نتيجة الهداية، إذاً: الحمد هنا راجع لله، لأنه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فالعبد هو وعمله من الله سبحانه وتعالى. (ومن وجد غير ذلك) ، كان في المقابل: ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه، ولكن قال: (ومن وجد غير ذلك) ، ومعنى (غير ذلك) : الشر، ولكن كما يقول العلماء: المولى سبحانه نزه الحديث أن يصرح فيه بالشر، فكيف بك أنت تقع فيه إذا كان مجرد ذكره لا ينبغي: فمن السمو في الأدب ألا تصرح بشيء مكروه، فكيف بك أن تفعله وتنغمس فيه. ولماذا خص النفس؟ لأن نفسه هي التي أغوته وطلبته وراودته وهواه هو الذي غلب عليه، فكما أنه أطاع نفسه في ذاك الذنب في الليل والنهار ولم يستغفر، فليرجع على تلك النفس باللوم، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية:23] . إذاً: فلا يلومن إلا نفسه، وكما جاء في الحديث: (والشر ليس إليك) ، أي: لا ننسبه إلى الله سبحانه وتعالى تنزيهاً، ولا نحتج بالقدر على وقوعه، فإن لك الاختيار ولك كل إمكانيات الفعل وعندك الطريقان، وكما تقدم: (كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) قالوا: إذا أصبح العبد في الصباح وغدا في النهار من بيته، وجد رايتين على باب بيته، إحدى الرايتين هي لملك من ملائكة الرحمن، والأخرى بيد شيطان، فإن خرج في ظل راية الملك فهو في طاعة الله، وقد باعها إلى الله، والعكس بالعكس. يقول بعض العلماء: إن يحيى عليه السلام خرج يوماً فلقيه إبليس قال: أخبرني عن أصناف الناس؟ قال: أنت وإخوانك الرسل عصمهم الله منا، فاستراحوا منا واسترحنا منهم، وقسم هم في أيدينا كالكرة في يدي الصبي نلعب بهم كيف شئنا، وقد أراحونا من أنفسهم، وقسم لم نيأس منهم ولم نتركهم قال: من؟ قال: قوم نجلب عليهم ونوقعهم في المعاصي ونحملهم عليها، فإذا بالواحد ينتبه في لحظة فيستغفر الله فيغفر له، فكل الذي بنيناه يهدمه، فنرجع مرة أخرى؛ فلم نيأس منهم، ولم نطمع فيهم، ولم نسترح منهم) . إذاً: (ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) ؛ لأنها هي التي حملته على تلك الطريقة وأبعدته عن منهج الله الذي يدعوه ليل نهار ليستغفر فيغفر له. وهكذا أيها الإخوة! في هذا الحديث بدأ سبحانه وتعالى بالتحذير عن أعظم ذنب أو أخطر مسلك وهو الظلم، وانتهى بالتحذير والتهديد بأن كل ما عملته يحصى وتلقى الله سبحانه وتعالى على ما قدمت، إلا أن هناك جوانب يذكرها العلماء: بأن هذا الإحصاء أكثر ما يكون للخير، ولذلك قال: (أحصيها لكم) لأن ما كان عليكم قد يمحى فلا يكون موجوداً يوم القيامة، بخلاف الخير فإنه باق محفوظ كله. وهناك تكون المقاصة بالأعمال والحسنات والسيئات على ما يأتي بالحديث الذي بعد هذا، وحديث البطاقة الذي بيّن صلى الله عليه وسلم فيه سعة فضل الله تبارك وتعالى على العبد، وهو حديث الرجل الذي جيء به وله سجلات من السيئات قد رجحت بكفة ميزانه وأيقن في نفسه أنه هالك، فقال الله سبحانه: (أنظروا عبدي، فإن لك عندنا أمانة، فيؤتى ببطاقة، يقول: هذه أمانتك عندنا، فيقول: رب وما تفعل تلك البطاقة بتلك السجلات) . وماذا في تلك البطاقة؟ فإذا فيها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فتوضع في كفة الحسنات فتثقل بها وتطيش كفة السيئات، فهذه مما أحصاه الله للعبد، وقد لا يدركه، ولكن كما يقول العلماء: في حديث: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ، والأحاديث التي تقيد هذا: (إلا بحقها) وحقها: العمل بأركان الإسلام، أو امتثال الأوامر واجتناب النواهي. والله أسأل أن يعاملنا بلطفه وإحسانه وفضله، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبالله تعالى التوفيق.

الحديث الخامس والعشرون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والعشرون [1]

شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور.

شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي ذر رضي الله عنه: (أن ناساًَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحه صدقة، وكل تكبيره صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم] . هذا الحديث النبوي الشريف عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وتقدمت إشارة إلى ترجمة أبي ذر في ذاته وشخصه ومنهجه في حياته، وهنا يقول أبو ذر رضي الله تعالى عنه: (إن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، قال: وكيف ذاك؟ قال: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، ولا مال لنا) إلى آخر الحديث. في مستهل هذا الحديث: (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي بعض الروايات: (من فقراء المهاجرين أو الأنصار) ؛ قوم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبةً في الخير وغبطةً لإخوانهم، رءوا بعض المسلمين يتساوون معهم في العبادات البدنية من صلاة وصيام، وهذا الكل فيه سواء، ولكن الله امتن على بعضٍ آخر بسعة في الرزق ووفرة في المال يفيض عن نفقاتهم، (ولهم فضل أموال يتصدقون بها) ، وهؤلاء ليس لهم أموال.

الفرق بين الغبطة والحسد

الفرق بين الغبطة والحسد يبحث العلماء في الفرق بين الغبطة والحسد، فالغبطة محمودة، وهي مجال للمنافسة في الخير، وهي: أن تتمنى لك مثل ما لغيرك مع بقاء نعمة الغير عليه، أما الحسد: فهو تمني زوال نعمة الغير ولو لم تأت إليك، ولذا يقولون: الحاسد يحارب ربه؛ لأنه لم يرض بقسمة الله في خلقه، والله تعالى يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] ، والحسد يحمل العبد على أن يحتقر أخاه؛ لأنه ما تمني زوال تلك النعمة عنه إلا لأنه احتقره واستصغره مع تلك النعمة واستكثرها عليه، ويقولون: أول معصية وقعت إنما هي الحسد الذي جر إلى الازدراء، والازدراء من الناحية الأخرى أنتج كبراً، والكبر أدى إلى المعصية، والمعصية طردت من رحمة الله، وذلك في خلق آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: فعندما أراد الله سبحانه وتعالى خلق آدم قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:31] ، فقالوا على سبيل الاستفسار والاستيضاح: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] ، وفي النهاية: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة:34] ، ثم بيّن موجب الاستكبار فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، ادعى لنفسه الأفضلية والخيرية على آدم. إذاً: حسد آدم على ما أنعم الله عليه: أن خلقه بيده سبحانه، ثم كرمه ونفخ فيه من روحه، ثم أمر الملائكة أن تسجد له، فكل تلك نعمٌ متضافرة على آدم، وإبليس استكثر هذا عليه، فهو يراه وهو يعجن في الطين، ثم يراه يسوى من صلصال، ثم يراه ينفخ فيه، وبين يديه تمت خلقه آدم، فاستصغر آدم واستعظم نفسه، فتكبر وجره الكبر إلى الامتناع عن السجود لأمر الله، وإن كان السجود تحيةً لآدم إلا أنه بأمر من الله، فهو طاعة لله وإن توجه لآدم أو لغيره، والله لا يأمر أحداً أن يسجد لأحد عبادة، وقد كان السجود في بعض الأمم تحية كما سجد أبوا يوسف وإخوته له تكريماً وتحيةً. يهمنا أن إبليس حسد آدم، ولما حسده ازدراه، ولما ازدراه تكبر عليه، ولما تكبر عليه امتنع من امتثال أمر الله، فوقعت المعصية، فكانت النتيجة البعد والطرد -عياذاً بالله! ولكن الغبطة ليست احتقاراً للمنعم عليه، ولا استكثاراً للنعمة على من هي عنده، ولكن طمع في فضل الله أن يعطيه مثلما أعطى الآخرين، ولا حرج على أحد في فضل الله، ولا يمنع أي إنسان من أن يرجو فضل الله، فالذي أعطى زيداً يعطي عمراً، ولكن حينما يكون القلب سليماً.

أنواع العبادات

أنواع العبادات هؤلاء الفقراء رءوا أن إخوانهم من المهاجرين والأنصار قد تساووا معهم في العبادات، فإذا نودي: حي على الصلاة حي على الفلاح كانوا معهم سواء، بل لعل الفقراء يسبقونهم إلى الصف الأول؛ لأنه ليس عندهم ما يشغلهم، والصوم كذلك، لكن العبادة -كما يقول الفقهاء- تنقسم إلى قسمين: عبادة بدنية، وعبادة مالية، وعبادة تجمع الأمرين وهي الحج؛ فالعبادة المالية مترتبة على وجود المال، فغبطوا أصحاب الأموال، وقالوا: (ذهب أهل الدثور) والدثور: جمع دثر، أي: أهل الأموال، ذهبوا بالأجر كله. (قال: وكيف ذلك؟) قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يتصدقون بها) ، وإذا تصدقوا بفضل أموالهم حازوا على الدرجات العلى في الجنة، ونحن ما حصلنا معهم على شيء.

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول هذا الحديث يعطينا صورة لما كان عليه السلف الصالح من المسارعة والمسابقة إلى الخير، وما عجزوا عنه يطلبون بدله، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله!) لاحظوا جاءوا إلى من؟ إلى النبي، فقالوا: يا رسول! ولم يقولوا: يا نبي الله! ونجد أن العلماء يقفون طويلاً عند الفرق بين النبي والرسول. بعض العلماء اختصر وقال: النبي والرسول سواء، إلا أن النبي أعم والرسول أخص، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فكم من الأنبياء لم يرسلوا، ولا نعلم عنهم شيئاً؟ ولكن لم يرسل رسول إلى أمة إلا وقد نبئ! ويقال: النبي والنبيء كما يقرؤها ورش، فالنبيُ بالتسهيل، والنبيء بالهمز، وقالوا: النبيُ بالتسهيل من النبوة والارتفاع، تقول: نبا المكان ينبو نبواً إذا ارتفع، والنبيء من النبأ، وكلاهما صحيح، فالنبي مأخوذ من النبوة والارتفاع فهو في القمة والرفعة على الأمة كلها، ومن النبأ فهو قد جاء بالنبأ العظيم من الله رب العالمين، فكلا المعنيين صحيح. أما الرسول فيقول بعض العلماء في مصطلح الحديث: النبي من نبئ ولم يؤمر بتبليغ غيره، يعني: إرساله في نفسه، والرسول من أمر بدعوة غيره؛ لأن رسول تقتضي رسالة من مرسِل إلى مرسَل إليه، فيكون الرسول عمله متعدٍ لمن أرسل إليهم، فهناك مرسل وهو الله سبحانه، وهناك رسول وهو الذي كان نبياً، وهناك رسالة وهي الكتاب الذي جاء به، وهناك من أرسل إليهم وهم الأمة، والرسالة قد تكون خاصة وقد تكون عامة، كما جاء في الحديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي -وذكر منها- وكان النبي يبعث لقومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) . وبعضهم يقول: النبي من جاء بتجديد دعوة نبي أو رسول قبله ولم يأت بجديد من التشريعات، وإنما جاء يجدد دعوة رسول قبله.

ذكر النبوة والرسالة في سورة الحجرات

ذكر النبوة والرسالة في سورة الحجرات في أول سورة الحجرات نجد قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:1] ، وفي الآية التي بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ} [الحجرات:2] ، (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ؛ فالسورة جمعت بين الوصفين، وقدمت وصف الرسالة وجاءت بوصف النبوة، ولكن مع الرسالة: (لا تقدموا) ، أي: لا تتقدموا بالتشريع والابتداع والاختراع، ولكن كونوا وراء رسول الله، إذاً: هو رسول في التشريع وفيما جاء به عن الله؛ فلا تتقدموا عليه في رسالته. إذاً: الرسول جاء برسالة وكونوا تبعاً له، ولا تتقدموا عليه واتقوا الله، وجعلها مع حق الله: (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ؛ لأن الرسول مبلغ عن الله، والمتقدم على السنة متقدم على الله، كأنه ابتدع من نفسه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] . ثم جاء في شخصية محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه في تكريمه في ذاته فقال: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ، وهنا أدب شخصي وتكريم ذاتي، أما هناك فكان احترام رسالة وتبليغ عن الله، إذاً: الرسالة عن الله، والنبوة في ذاته، فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] . ثم رجع مرة أخرى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الحجرات:3] ، فيبين أن التكريم والأدب لأي شيء؟ لأن هذا النبي هو رسول الله إليهم. وأحسن ما قيل في ذلك: إن النبي من جاء على سَنَن نبي قبله، والرسول من جاء برسالة جديدة لقوم جدد. ونجد علماء التفسير يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نبئ بسورة اقرأ، وأرسل بسورة المدثر: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، فقالوا: هذه ليس فيها تبليغ لغيره، ولكن يبدو -والله تعالى أعلم- أنه أرسل من أول وهلة بسورة اقرأ، لماذا؟ لأنه قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ، فهو سيقرأ قرآناً، لكن لمن؟! ولذا جاء بعده مباشرة في ترتيب المصحف بعد سورة اقرأ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ، أنزلنا ماذا؟ {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:1] ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] (أنزلناه) يعني: أنزلنا القرآن، (اقرأ) يعني: اقرأ القرآن، والقرآن إنما هو للناس كافة. إذاً: فقد نبىء وأرسل بأول الوحي. والذي يهمنا في هذا الحديث تلك المغايرة في الألفاظ، وإن كان من كلام الراوي وليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (جاء رجال إلى النبي فقالوا: يا رسول الله) .

حكم رواية الحديث بالمعنى

حكم رواية الحديث بالمعنى جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما تمسك به بعض العلماء من ضرورة ذكر الحديث بلفظه دون معناه، والجمهور على جواز رواية الحديث بالمعنى لمن يعلم المعنى ولا يغيره، بخلاف القرآن؛ ففي حديث الرجل الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء النوم، وفيه: (قل: وبنبيك الذي أرسلت، فقال: وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا، قل: بنبيك الذي أرسلت) ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم ليلتزم باللفظ: (وبنبيك الذي أرسلت) . ومما ينبه عليه العلماء: أنه إذا ورد اللفظ في الحديث فالأولى المحافظة عليه، وإلا فكلاهما يؤدي المعنى، وهذا مبحث أصولي عند علماء مصطلح الحديث، وذكرنا منه ما يلفت النظر، والحمد لله.

دقة التوجيهات النبوية للفوز بالأجر من الله

دقة التوجيهات النبوية للفوز بالأجر من الله (قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، قال: وما ذاك؟ قال: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون) ، المراد بالصدقة هنا: صدقة التطوع، وتشمل الزكاة ضمناً، ولكنهم غبطوهم على صدقة التطوع، فلما سمع ذلك منهم صلى الله عليه وسلم، وعرف أن هذا يثير الهمة عند المسلم، ويجعله يتطلع إلى مثل ذلك، وهذا من حقه، وفضل الله عظيم، فأرشدهم لا إلى طريقة لوفرة وكثرة العمل ليحصل على المال ليتصدق، ولكن أرشدهم إلى طريق آخر؛ لأن كسب المال ليس بالجهد ولا بوفرة العمل؛ لأن المولى سبحانه قال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * ولِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:33-35] ، فزخارف الدنيا ليست مقياساً، فسيد الخلق صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ودرعه مرهون في صاع شعير عند يهودي! وكأنه يقول لكم: إن الدنيا بما فيها ليست هي المقياس؛ ولهذا يقول العلماء: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب (ما لا يتم الواجب) ، أي: الذي وجب بالفعل، وما لا يتم الوجوب، أي: الذي لم يجب حتى الآن، ويحتاج في وجوبه إلى شيء آخر؛ فالصلاة وجبت، لكن لا تتم الصلاة، ولا يؤدى هذا الواجب الثابت إلا بالطهارة، فهل تصح صلاة بدون طهارة؟ لا، فلا يمكن لإنسان أن يؤدي الصلاة حتى يحصل على الطهارة، فالصلاة متوقفة على حصول الطهارة، والصلاة واجبة، فتكون الطهارة واجبة؛ لأن الواجب لا يتم إلا به؛ شخص فقير ولا تجب الزكاة عليه إلا بكسب المال، فإذا اكتسب المال وجبت عليه الزكاة، وشخص لم يمتلك زكاة فلا وجوب عليه، فهل نقول: عليك أن تعمل لتكتسب المال لتجب عليك الزكاة؟ لا، فما لا يتم الواجب المستقر إلا به فهو واجب؛ لأن الوجوب مستقر، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. فهؤلاء لم يجدوا مالاً؛ ولم تجب عليهم زكاة، ولم يطالبوا بالصدقة، فليس بواجب عليهم أن يسعوا ويعملوا ويكتسبوا ليتوافر عندهم نصاب لتجب عليهم الزكاة؛ ولذا لم يوجههم للعمل والكسب، مع أن الإسلام يحث على العمل والكسب وعلى التصدق؛ فوجههم إلى عملة أخرى سهلة غير صعبة، تمشي في جميع الأسواق الدنيوية والأخروية، العملة التي تتداول في جميع الدول العالمية ثلاثة أقسام: عملة محلية إذا خرجت من حدودها لا قيمة لها، وعملة عالمية لها رصيد مائتين في المائة في البنك الدولي، والعملة المحلية هي التي لا رصيد لها، الدولة أنزلتها في الأسواق من أجل أن تسكت الناس وتمشي معهم، والعملة التي لها رصيد مائة في المائة فقط أو أقل من مائة في المائة تمشي، ولكن بعض الدول التي لها تعاهد وصلة مع تلك الدولة التي أصدرتها تتأثر عملتها زيادة ونقصاناً بحسب ضمانها عند البنك الدولي؛ فهذه هي العملة الجديدة التي وجههم إليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعوضهم عما فاتهم. ثم قال لهم: (ألا أدلكم على شيء تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من وراءكم، إلا من عمل بمثل عملكم؟) ، عندما يقول لهم: أدلكم على شيء تلحقون به من سبقكم، ماذا يريدون أكثر من هذا؟! قالوا: نعم، قال: (تسبحون دبر كل صلاة) ، وصلاة هنا نكرة تعم جميع الصلوات المفروضة، ولكن ما دام في أعقاب الصلاة فتكون لصلاة معينة لا على الإطلاق، فبعد الصلوات الخمس المكتوبة: (تسبحون ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، وتسبحون تحمدون تهللون، يقول العلماء: هذا من باب النحت، سبّح بمعنى قال: سبحان الله، حمّد قال: الحمد لله، كبّر قال: الله أكبر، حوقل قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، استرجع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذه ألفاظ منحوتة، تدل بلفظ على جملة. فرح هؤلاء بما وجدوا من عملة جديدة ورصيد كبير جداً، ورجعوا فرحين بذلك، وحينما سمع الأغنياء بعطاء رسول الله لإخوانهم هل قالوا: هذا خاص بالفقراء، أم دخلوا معهم واقتحموا عليهم؟ وسمع الأغنياء بما أعطى رسول الله لإخوانهم ففعلوا مثلهم، فعاد أولئك الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] ، هذا فضل الله، إن كان الذكر فهو عم الجميع، ولا راجع للمال؟ لأنهم الآن تساووا أيضاً في العبادة: بدنية، فعلية، قولية، والمال هو المتفاضل بينهم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

علاقة الذكر بالتوحيد

علاقة الذكر بالتوحيد نرجع إلى هذا الحديث من جهتين: الجهة الأولى: تلك الألفاظ الخاصة بمعانيها. الجهة الثانية: هذا المنهج، وهذه الطريقة التي وجه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة من الناس، ودخلت معها غيرها. أما قوله صلى الله عليه وسلم: تسبحون، أي: تقولون: سبحان الله، وجمع بين سبحان الله والحمد لله والله أكبر، وتقدم قريباً حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان، وسبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) . إذاً: تسبحون وتحمدون، وهناك بيّن لنا النووي: أن سبحان الله ثوابها وحدها يملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، وفي الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) . يقول العلماء في هذين اللفظين: (سبحان الله والحمد لله) : هما جماع تنزيه المولى سبحانه وتوحيده، وجمعا غاية خلق البشر؛ لأن الغاية من خلق البشر هي كما قال الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وسر العبادة في تنزيه المولى سبحانه، وتوحيده في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات. وتوحيد الربوبية: الإقرار لله بالربوبية للعالم، وهذا هو الذي تقر به في كل ركعة عندما تقرأ: (رب العالمين) . وتوحيد الألوهية: هو إفراد المولى بالعبادة؛ لأنه ما دام أنه رب العالمين، وأنت فرد من العالمين مخلوق لله، مرزوق منه تحت رعايته، فهو الذي يستحق العبادة، ولا يحق لك أن تصرفها لغيره؛ ولذا تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] . وتوحيد الأسماء والصفات في: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3-4] . فالتسبيح تنزيه المولى عن كل نقص، والتحميد إثبات صفات الجلال والكمال لله؛ ولذا يقولون: مادة اللغة العربية أول ما توضع توضع للمحسوس ثم تنتقل للمعنوي، مثلاً: لو سمعنا الأذان والإذن والمأذون والآذن كلها راجعة لحاسة الأذن؛ لأن المؤذن يلقي الكلمات في أذنك، والآذن يعلمك بإذن الآذن، والمأذون ألقيت في أذنه أنه أذن له وكل هذا راجع لهذه المادة، والمعاني كثيرة في هذا. فقوله: سبحان، يقول علماء الصرف: سبحان على وزن فعلان، وأصل الميزان الصرفي: فعل، ويزاد في الميزان بقدر ما يزاد في الموزون: فسبحان على وزن فعلان، إذاً: سبحان من سبح، وزيد الألف والنون فكانت على وزن فعلان، إذاً: المبدأ الأساسي في مادة سبحان هي: السين، والباء، والحاء، سبح، مثل: غفر، تقول: غفران. قالوا: وهذا يظهر قوة اللغة وترابطها وتكوينها من أسر وجماعات. فإذا وجدت المادة تتفرع وتتعدد في مسميات، فاعلم أن كل مشتقات تلك الكلمة بينها صلة رحم، فمثلاً: سبح، ما معنى السباحة؟ أن يعوم في الماء، ومتى يعوم في الماء؟ إذا كان الماء غزيراً، ولماذا يسبح في الغزير؟ لينجو من الغرق، فكذلك الذي يسبح الله إما لينجو من مهلكة عدم تنزيه الله أو من ورطة تشبيه أو نقص لله، أو يسبّح الله كأنه يبعد الله ويجنبه من كل ما لا يليق بجلاله عز وجل. والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.

الحديث الخامس والعشرون [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والعشرون [2]

الذكر أنواعه وأقسامه

الذكر أنواعه وأقسامه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه محمد الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد ورد في دبر الصلوات أذكار عديدة لا يتعارض بعضها مع بعض، كما أن بعض الصلوات خصت بأذكار مختصة بها، فمما جاء في دبر كل صلاة: (من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من الجنة إلا الموت) . وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! إني أحبك، فقال معاذ: والذي بعثك بالحق يا رسول الله! إني لأحبك، فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيك أن تقول دبر كل صلاة: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) . وجاء في خصوص المغرب والصبح: (اللهم أجرني من النار سبع مرات) ، وجاء في خصوص التسبيح والتحميد والتكبير المذكور هنا: (من قالها غفرت له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر) .

فضل الذكر وبم يكون؟

فضل الذكر وبم يكون؟ وباب الأذكار -كما يقول النووي وغيره- باب واسع، والذي يهمنا في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الفقراء إلى ما يدركوا به الأغنياء من ذكر الله، وفي هذا تنبيه لفضل الذكر والدعاء، وخاصة عقب الصلوات، وبعض العلماء قال: الذكر أعم العمومات في العبادة، بل إن الذكر عبادة جميع الكائنات من إنس وجن وملك وجماد ونبات وحيوان وطير: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ، وهو عبادة غير مؤقتة، وجميع العبادات تكاد تكون مؤقتة: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] ، والصيام: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، والحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، والزكاة عند رأس الحول، أما الذكر فقد بيّن سبحانه صفة عباده المؤمنين: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] ، وقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] ، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] . وذكر الله سبحانه تارة يكون باللسان، وتارة يكون بالقلب، وهو التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وإذا نظرنا إلى علاقة ذكر الله بآياته سبحانه نجد ما يلفت النظر في تلك الآية الكريمة: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ) ، يقول علماء الأصول: إن خطاب الله للعباد ينقسم إلى قسمين: خطاب تكليف، وخطاب وضع، فخطاب التكليف هو الذي فيه أمر بفعل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] {لا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] {لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الإسراء:33] كل هذه من باب خطاب التكليف أمراً أو نهياً. أما خطاب الوضع: فهو بيان إما لشرط أو لسبب أو لزمن، لإيقاع ذلك الواجب الذي كلف به العباد، فمثلاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] متى نصوم؟ {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185] ، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ} [آل عمران:97] متى نحج؟ {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:110] متى نقيمها؟ ((لدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)) [الإسراء:78] ، وقوله تعالى: {َأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، فكأن الصلاة ما أقيمت إلا لذكر الله، وكذلك قال في الحج بعد قضاء المناسك: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] .

التفكر في الكون من ذكر لله

التفكر في الكون من ذكر لله العبادات كلها إنما وجدت لذكر الله، فنجد خطاب الوضع في تحديد أوقات الصلوات يربطنا بالقدرة الإلهية، ويربط العبد بربه في حياته، ورزقه، ومماته، وكل شئونه، وإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة التي تثير النظر والتفكير والتذكر بآيات القدرة الباهرة، وعند كل آية تستخلص منك ذكراً لله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ، والحال أن الصلاة تقام لذكر الله، ودلوك الشمس على التحقيق هو زوالها عن كبد السماء، (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) الغسق الظلام، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) الفجر: انفجار نور النهار من ظلام الليل، فهذه الحركة الكونية آية، تبدأ الشمس من مشرقها والظل في مغربها، فإذا استوت في كبد السماء زالت إلى المغرب، وهي تسير بسير لطيف لا يدركه البصر، وهذه آية من المولى سبحانه، فيتحول الظل من غرب إلى شرق، ولا تزال تأخذ في الدنو إلى مغيبها حتى تتضيف إلى الغروب فيعتريها الاصفرار والاحمرار، ثم تغيب جارّة معها ضوء النهار عن الكون ويعقبها غسق الليل، فتتغير حركة الكون من سعي وحياة إلى سكون وهدوء: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:10-11] ، ويتغير حال الكون من ضوء ساطع إلى ليل غاسق، من الذي أذهب الشمس؟ ومن الذي حركها؟ ومن الذي كسا هذا العالم كله بهذا الظلام؟ ومن الذي يعيدها مرة أخرى من المشرق؟ ومن الذي يجعل الضوء ينفجر من ظلام الليل، ويبدأ الضوء شيئاً فشيئاً حتى تشرق الشمس وينتشر الضوء فيعم العالم كله؟ هذا المسجد كم فيه من مئات اللمبات! وهل تغني عن الشمس؟! انظر إلى ضحى النهار في هذا المكان الذي أنت فيه، مع أن الشمس خارج المسجد، كم فيه من قوة الإضاءة! والعالم كله بجباله وبحاره وصحاريه ووديانه كلها يغمرها هذا الضوء، فإذا غربت الشمس انحسر هذا الضوء، وجاء مكانه الظلام، آيات، فهذا ذكر بالقلب وهذا ذكر باللسان، فإذا كنت في فلاة من الأرض، وكنت في وضح النهار ورأيت الشمس قد بدأت، ثم إذا بها تصل إلى منتصف السماء وأنت لا ترى حركتها، كعقرب الساعة في يدك يتحرك ويدور وأنت لا ترى حركته؛ لأنها حركة لطيفة تدق عن إدراك البصر، وهكذا الشمس فإذا بها في برهة ولحظة تتحول إلى جهة الغرب، ويتحول وضع النهار كله، فإذا رأيت هذه الآية استعجبت وأكبرت خالق هذا الكون! فإذا تأملتها وتابعت النظر معها، حتى إذا تضيفت للمغيب واختفى ذاك الضوء الأبيض الساطع، وتلون بقريب من الصفرة، ثم إذا بقرص الشمس يميل إلى الاحمرار، ثم إذا بها تغيب في الأفق، أنت بفكرك تسبح وتتساءل: من وراء هذه الحركة؟ وإذا كنت في استغراق الفكر في هذه الحالة تستيقظ على نداء المؤذن: الله أكبر. يقول لي بعض الدعاة إلى الله: إنه كان يعرف شخصاً من كبار الشخصيات المسيحية، وكان متعصباً للمسيحية، وكان كاتباً وشاعراً أديباً، وفي ذات ليلة جلس في الشرفة يتابع النجوم، وينظر إليها نظرة أديب أو شاعر ذا خيال مجنح، فإذا به يستغرق في تلك النظرة ويسبح بفكره في هذا الكون، وبينما هو في عمق تفكيره انبثق ضوء الفجر، وإذا به يصحو ويفيق على كلمة المؤذن: الله أكبر، فينطقها مع المؤذن: الله أكبر الله أكبر، حتى أتى إلى الشهادتين فنطق: أشهد أن محمداً رسول الله، فظل يومه مبهوتاً ومدهوشاً، ثم جاء المساء وجلس في مكانه، ورأى الشمس تتضيف إلى المغيب، فأخذ يسبح ويتفكر في ماضٍ عجيب ومستقبل غريب، وبينما هو في هذا التفكير العميق يستيقظ على صوت المؤذن للمغرب: الله أكبر الله أكبر، فيتابعه في الأذان، وينزل حالاً إلى المسجد، ويعلن إسلامه!

الذكر غذاء للروح

الذكر غذاء للروح قال الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، حقاً إن ذكر الله هو غذاء العبد، وخاصة لطالب العلم، ويذكرون عن الإمام ابن تيمية رحمه الله: أنه كان يصلي الصبح ويجلس في مكانه يذكر الله حتى تشرق الشمس ويصلي ركعتين وينصرف، فقالوا له في ذلك مع علمه وبحثه واشتغاله فيقول: هذه الجلسة هي غذائي طول يومي! وكان أحمد رحمه الله يقول: عجبت لطالب علم لا ورد له في الليل! ويكفي قوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:5-7] . ثم إننا نجد أن الإسلام بتعاليمه ومنهجه ينظم ذكر الله عند المؤمن في كل حركاته، ويجعل حياته فعلاً تحت هذا المنهج الإلهي الكريم. إذا نظرنا إلى ما كانت عليه الأمم الماضية؛ نجد أن اليهود قد غلبت عليهم المادة، وغفلوا عن ذكر الله حتى كانوا كما قال الله: {قسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] ، ونجد النصارى قد اخترعوا رهبانية ابتدعوها، لكن لم يستطيعوا أن يحافظوا عليها، ولا أن يؤدوا واجبها؛ لأنها زادت عن حد طاقة الإنسان، فكل منهما فشل في طريقه، ثم جاء الإسلام فراعى ظروف الإنسان من مادة وروح، فتأتي في سورة الجمعة في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، والسعي إلى ذكر الله هو غذاء الروح، والبيع هو مادة الحياة في الكسب المادي، فأنت تعمل، فحينما ينادى للصلاة أجبت داعي الله، وجئت لذكر الله، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] ، يبتغي من فضل الله، ولا يجلس بمسبحته في مكانه، ولا يجلس في وادٍ يذكر الله فقط، بل ينتشر في الأرض ليطلب ويبتغي من فضل الله بأسباب الرزق والمعيشة، ومع ذلك فهو يذكر الله بلسانه، وبقلبه، وبمعاملته، فإذا انتشروا في الأرض، ورجع الزارع إلى مزرعته، فحرث الأرض ووضع البذر، وقال: باسم الله اللهم! أنبتها وارزقني ثمرتها، وإذا رجع التاجر إلى متجره، وجاء يتعامل مع الناس، وأخذ الكيل والوزن تذكر قوله سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:1-2] ، وهكذا إذا جاء بسلعة تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ، وإذا رجع إلى مصنعه تذكر كيف يتقن الصنعة ويتجنب الغش، وهكذا يكون ذاكراً لله بأقواله وأفعاله، ولا يمنعه الذكر أن يسعى في الأرض ويأكل من رزق الله.

الذكر وظيفة الكون

الذكر وظيفة الكون أيها الإخوة! ذكر الله وظيفة الكون كله، وقد ذكروا، عن سعيد بن المسيب: أنه كان يقوم الليل، وكثيراً ما يقرأ سورة ص، فقيل له في ذلك، فقال: روي (أن رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل، وقرأ سورة ص وسجد، وعنده شجرة فرآها تسجد بسجوده، وتقول: اللهم اجعلها لي عندك ذخراً، وأعطني بها أجراً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأقره على ذلك) ، والله يقول: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] . إذاً: الكون كله مسخر لذكر الله سبحانه وتعالى، وقد أشرنا إلى عموم الآية الكريمة: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، وأشرنا إلى قضية الهدهد، وكيف أنه ذكر عن بلقيس وقومها أنهم {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:24] ، والحيوانات تؤمن بالبعث، كما ذكر مالك حديثاً في الموطأ في فضل يوم الجمعة: (فيها خلق آدم، وفيها سكن الجنة، وفيها أسجد الله له الملائكة، وفيها أهبط إلى الأرض، وفيها تاب الله عليه، وفيها ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يسأل الله حاجته إلا أعطاه إياها، وفيها تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها من فجر يوم الجمعة حتى مشرق الشمس فرقاً من الساعة) ، الدواب تؤمن بالله، وتدرك الحساب، وتؤمن بالبعث، وتعلم أن القيامة ستقوم يوم الجمعة، وتميّز بين الجمعة وبين الخميس والسبت، و (تصيخ بسمعها فرقاً من الساعة) أي: من النفخ في الصور لقيام الساعة. والآيات والأحاديث في هذا الباب واسعة جداً، وأوصي كل طالب علم وكل مسلم أن يعتني بذكر الله؛ لأن ذكر الله سبحانه هو الذي يحيي موت القلوب: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، وأي سعادة للإنسان إلا بطمأنينة قلبه؟! والله! لو جمع له ملك العالم كله، وجمع له أضعاف ما كان لقارون من مال، وما كان لملوك الأرض من عز، وقلبه مضطرب وهو قلق، والله! لا قيمة له في هذا كله، وإذا كان يجد القوت الضروري والكساء العادي والمأوى في أي مأوى، وهو قرير العين، مطمئن النفس؛ لكان أسعد خلق الله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، ويكفي في الصلاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أنها غذاء فقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) .

شمول الذكر لكل العبادات

شمول الذكر لكل العبادات إن الباب هذا باب واسع، وأوصي بالعناية بكتب الأذكار الواردة، التي هي مأمونة من الوضع أو مأمونة من الغلو، وأحسن ما وضع في ذلك كتاب الأذكار للإمام النووي؛ فقد رتبه ونظمه، وجاء بالأذكار الواردة المؤقتة في الصباح والمساء وبعد الصلاة وعند لباس الثوب والنوم واليقظة وتناول الطعام وخلع الثياب وكل حركات الإنسان وردت السنة فيه بذكر الله والدعاء. وهذا يشرح لنا معنى قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:161-162] ، محياي ومماتي لله، صحيح كل لله، وموقن على وفق منهج الله الذي يريده ويرتضيه، ولذا جاء في الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) ، إذا كان العبد مع الله، وإذا كان العبد حقاً أخلص نفسه لله، لم لا يجعله كذلك؟ وكم من عبد كان مستجاب الدعوة! الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي عمر بن الخطاب فيقول: (إذا رأيت أويساً القرني فاطلب منه أن يدعو لك، ويستغفر لك) ، من أويس؟ رجل من اليمن، فكان عمر يتتبع الوفود اليمنية: أفيكم أويس؟ أفيكم أويس؟ حتى قيل له: نعم هو فينا، قال: ائتوني به، فجاء وكان قد أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته، وبأن له أماً كان باراً بها، فلما سأله عن أمه أخبره بها، وأن في رجله علامة كذا، فقال: استغفر الله لي، ادع لي! قال: كيف وأنت أمير المؤمنين؟! قال: لقد أخبرني رسول الله بكذا وكذا. فلما سمع أويس هذا لم يغتر به، ولم يأته شيء في نفسه، بل قال: أستأذنك -يا أمير المؤمنين- أن أخرج إلى العراق، أي: ما دام قد عرف أمري، فيريد أن يبعد عنه هذا الجو الذي عُرف فيه، وكان شخصاً من عامة الناس، فقال: إذا أردت الذهاب فمرني أعطيك خطاباً لعامل العراق، قال: لا، فإني أحب أن أكون في عامة الناس! فذهب إلى العراق وأخذ عمر يسأل عن حاله في العراق، وكلما جاءه وفد من العراق يسأل عنه، فإذا به كان خادماً عاملاً عند رجل من عامة الناس في الحجارة والطين، فإذا بالرجل يقول لـ عمر: إني أعرفه، فقال: إذا استطعت أن يستغفر ويدعو الله لك فافعل، فذهب الرجل إلى أويس فطلب منه الدعاء، فقال: ألقيت عمر؟! قال: نعم لقيته، فإذا به من الغد يخرج من العراق. أيها الإخوة! إن ذكر الله يعلي منزلة العبد بما لا يعلم قدر ذلك إلا الله، ويكفي أن الإنسان في حالة ذكره لله جليس وقرين، وما ذكرنا يكفي لهذا الباب، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لذكره كما قال الله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130] .

سعة فضل الله على عباده

سعة فضل الله على عباده قال صلى الله عليه وسلم: (إن في كل تسبيحة صدقة، وتحميدة صدقة، وتكبيرة صدقة، وتهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) . هذا الجزء من الحديث يدلنا على سعة فضل الله على عباده تحمد الله وكأنك تصدقت، تصدقت على من؟ على نفسك؛ لأنك في حاجة إلى الصدقة. بل يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث: إن الله سبحانه يتصدق على عباده، يتصدق عليهم بماذا؟ بكل نعمة أنعمها عليهم، وأعظم نعمه تصدق بها على خلقه: أن هداهم إلى الإسلام، ثم وفقهم لعمل الخير، ثم قبل ذلك منهم، ثم آجرهم على ذلك، أليس ذلك كله من فضل الله؟ بلى. التسبيحة صدقة على نفسك، والتحميدة صدقة على نفسك، والتهليلة صدقة على نفسك، وقد جاء مبيناً ذلك في الحديث: (في كل يوم تطلع فيه الشمس على كل سلامى من الناس صدقة) والسلامى: هو المفصل الصغير في الجسم، وكم في الجسم من السلاميات؟ إن كل جزء يتحرك في الجسم سلامى، فعندك عشرة أصابع في اليدين، وفي كل أصبع ثلاثة. فهذه ثلاثون، وفي القدم مثلها ثلاثون فتكون ستين، ثم في القدم وكف اليد والساعد وفقار الظهر وضلوع الإنسان وكل جزء يتحرك في الإنسان، قال بعض العلماء: ثلاثمائة وستون عضواً في جسم الإنسان يتحرك. قال صلى الله عليه وسلم: (على كل سلامى من الناس كل يوم صدقة) ، وهذه الصدقة لماذا؟ هذا الهيكل الإنساني جهاز يعمل ويتحرك ويستهلك وقوداً في الحركة، مثلاً: عندك سيارة تعمل كل يوم، فتحتاج إلى تغيير الزيت والبترول والعجلات تحتاج وتحتاج لأن كل أجزائها تستهلك في الحركة. الأسنان تطحن كيلو ونصف -ومع التوابع اثنين كيلو- في اليوم، كم في السنة؟ اثنان كيلو في ثلاثمائة بستمائة كيلو تطحنها الأضراس في السنة! وكم سنة تعيش! ففي عشر سنوات ستة آلاف كيلو، سبحان الله العظيم! كل هذا وهي على ما هي عليه! الرحا الذي يطحن الحب يتآكل ويتغير كل ستة أشهر، وهو من الحجر الأصم. ويقولون في علم الكثافة: جرام من العظم يحمل عشرة أضعاف جرام من الحديد، قدرة الله وآية من آياته. هذا الجسم الذي يعمل بهذه الحالة، لو نظرت داخله وفي أعماله لرأيت أموراً تعجز عن تصورها، يقول بعض علماء الكيمياء: لو أردنا إيجاد مصنع يفرز لنا مادة مما تفرزه الكبد بمقدار ما تنتجه خلية واحدة لاحتجنا إلى مصنع يسع في الأرض كيلو طولاً وكيلو عرضاً؛ من أجل إيجاد آلات نستطيع أن نوجد من ورائها إفراز خلية واحدة من خلايا الكبد! وأنتم ترون في المستشفيات -عافانا الله وإياكم- جهاز الكلية الصناعية، كم حجمه؟! وأنت تحمل اثنتين في جنبك، ونصف الكلى يعمل للإنسان والنصف يستريح، كلى تعمل في شهر وتستريح الأخرى في شهر، آيات! وهذا الجهاز الذي يعمل وأنت لا تدري عن عمله يحتاج إلى صيانة، وأنت لا توجد عندك ورشة صيانة لك، ولكن المولى سبحانه قد دبر صيانته، تتحرك آلاف المرات دونما تزييت أو تشحيم، وهكذا كل المفاصل تتحرك، وإذا رأيت الشاة المذبوحة تجد ماء أبيض لزجاً ينزل من المفصل، هذا الماء به ليونة الحركة، والله هو الذي يدبر هذا، وعليك صدقة تقدمها لله شكراً على سلامة هذا الجسم. قالوا: (يا رسول الله! ومن منا يستطيع أن يتصدق كل يوم بعدد السلامى؟!) ، كيف نستطيع أن نتصدق كل يوم ثلاثمائة وستين صدقة؟! قال: (بكل تحميدة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة) ، أحالهم على ذكر الله وتسبيحه وتحميده، ثم قال: (ويجزئ عن ذلك ركعتي الضحى) تصلي ركعتين ضحى فكأنك قمت بصيانة مجملة، سعة فضل من الله، وبكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة واستغفار وذكر لله وصلاة على رسول الله وكل أعمال البر صدقة، والصدقة بعشر أمثالها: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: (وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) ، هنا قسمان متقابلان: أمر بمعروف، نهي عن منكر، الأمر بالمعروف يكون بالمعروف، لا بالشدة، والنهي عن المنكر يكون بالحسنى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] .

شمول أجر الصدقة للآمر بالمعروف والمأمور

شمول أجر الصدقة للآمر بالمعروف والمأمور الأمر بالمعروف صدقة على الطرفين: الآمر له صدقة على نفسه بالأجر، والمأمور صدقة عليه بأنك هيأته وأرشدته إلى المعروف، إنسان مقصر في عمل، فجئت وأمرته به، وعمل هذا العمل، واكتسب أجراً؛ فأنت تصدقت عليه بهذا الأجر الذي تسببت له فيه، وكذلك النهي عن المنكر صدقة عليك لأجرك في ذلك، وصدقة على المنهي بأن تكفه عن هذا المنكر الذي هو عليه، (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: مظلوم ننصره، فكيف الظالم؟! قال: تكفه عن الظلم فهو نصرة له) . وإذا جئنا إلى هذه الفقرة وحدها، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الواجب على الأمة جميعاً أفراداً وجماعات، حاكمين ومحكومين، كلٌ في مجاله، يقول صلى الله عليه وسلم محملاً الأمة مسئولية، صيانتها منها وفيها، لكي يتحمل المجتمع مسئولية صيانته، والحفاظ على كيانه، فقال: (من رأى منكم) (من) من صيغ العموم، (منكم) خطاب للجميع، يشمل الرجال والنساء، والصغار والكبار، وكل من يدخل تحت خطاب: (من) (ومنكم) . (من رأى منكم منكراً) ، والمنكر المقياس فيه مقياس الشرع في الحسن والقبح، والمعروف والمنكر يعرفان بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما وافق الكتاب والسنة فهو معروف، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو منكر، وليس الأمر للهوى والتشهي.

أسلوب تغيير المنكر

أسلوب تغيير المنكر (من رأى منكم منكراً فليغيره) تغيير المنكر يكون بأحد أمرين: إما بإزالته، وإما باستبداله بمعروف، وكما يقولون: ما أحييت بدعة إلا على أعقاب سنة، فلا تظهر بدعة إلا بإماتة سنة؛ لأن السنة تشغل فراغك وتملأ حياتك، فإذا عطلت السنة جاءت البدعة محلها، وكما كانوا يقولون: في الشرق الأوسط فراغ يجب أن نملؤه، وكذلك حياة المسلم ليس فيها فراغ أبداً، وإذا تأملت السنة تجدها تصاحبك في كل حياتك: عند اضطجاعك في فراشك تقول كذا، وعند إتيانك أهلك، وعند قيامك في الصباح، وفي أكلك وشربك ولباسك وخلع ثيابك، وكل شيء، قال الله: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162] ، فإذا عطلت السنة في مرفق من تلك المرافق، فإما أن تبقى عاطلة وإما أن تأتي البدعة، وهكذا المنكر. ثم بيّن صلى الله عليه وسلم درجات تغيير المنكر بحسب إمكانات المغيِّر، فبدأ من القمة فقال: (بيده) ، والتغيير باليد لمن له سلطة. مثل سلطة الحاكم على المحكومين، وسلطة الوالد على الأولاد ما لم يكبروا، وسلطة كل راع في رعيته: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، فالمدير في إدارته، والناظر في مدرسته، والأستاذ في فصله، كل إنسان مسئول عمن استرعاه الله أمره. إذاً: يغيّر الإنسان المنكر بيده في حدود سلطته وسلطانه، أما إذا لم يكن في سلطانه فلا يتعطل الأمر بل ينتقل: (فإن لم يستطع -بأن كان خارجاً عن سلطانه، أو لم يخول إليه- فبلسانه) ، وكذلك أيضاً تغيير المنكر باللسان يتفاوت، ولذا جعل صلى الله عليه وسلم (أعظم الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر) ، ومتى تكون كلمة الحق عند سلطان جائر؟ إذا ظهر المنكر، وقام صاحب الحق وقال كلمة الحق عند هذا السلطان، ولكن ليس كل إنسان يستطيع ذلك، فإذا كنت تعلم من نفسك القدرة والصبر وعدم التعرض للإيذاء أو الإهانة أو تعطيل قيامك بالأمر في موطن آخر، وتعلم أنه يسمع منك فقل كلمة الحق، ولتعلم أن الحكام والمسئولين لا شك أنهم مسلمون ويقبلون الحق، ولكن لهذا السلطان سلطان وهيبة، فلا ينبغي أن تأتيه في مجلسه أمام العامة وتقول: أيها الحاكم! أنت أخطأت في كذا وكذا، سبحان الله! أما وجدت وسيلة غير هذه؟!! لو كان إنساناً عادياً في هذا الجمع وقلت: يا فلان! أعلم عنك أنك فعلت كذا وكذا، فلا ينبغي لك هذا، هل هذا من باب الأمر والنصيحة أم هو من باب التشنيع والفضيحة؟ من باب الفضيحة.

لا إنكار في مختلف فيه

لا إنكار في مختلف فيه ليكن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر متحلياً بالرفق متخذاً أسلوب الحكمة، ولهذا يقول العلماء: حينما يقوم الإنسان بهذه المهمة يجب أن يكون حكيماً بما يفعل، عالماً بما سينكر فيه، فيعلم أن ذلك محرم، ويكون التحريم بالإجماع، ولا يكون موضع خلاف عند الناس، مثلاً: أنت طالب علم في المسجد النبوي، وبعد صلاة العصر دخل رجل المسجد وصلى، وأنت ترى أنه لا صلاة بعد العصر، فإذا كنت فعلاً تريد أن تغيّر فيجب أن تعلم حكم هذه المسألة عند الجميع، فإذا كنت تعلم أن الشافعي رحمه الله يرى جواز هذه الصلاة، فلا يحق لك أن تنكر على من صلاها؛ لأنه من حقه أن يقول لك: لم لا أصلي؟ فتقول: الأئمة الثلاثة يقولون: لا صلاة، فيقول لك: مذهبي مذهب الشافعي وهو يقول: تصلي، وليست مذاهبك بأولى من مذهبي، فتقول: الحديث فيه، فيقول لك: والحديث الآخر فيه: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي) ، وتتدخل في نزاع وخلاف لا ينبغي أن تتعرض له، فإن جاء وسألك بيّنت له الواقع، ولا تكتم الحق، وبيّن له بكل وضوح؛ لأنه جاء يستفسر عن الصحيح والراجح. وهكذا لما سئل أحمد رحمه الله: أتصلي خلف الشافعي وقد أكل لحم الجزور؟! وأحمد يرى أن لحم الجزور ينقض الوضوء، قال: وكيف لا أصلي خلف الشافعي وخلف مالك بن أنس وخلف فلان وفلان؟! فهذه مسألة خلافية، وهم يرون رأياً وهو يرى رأياً. قال عمر رضي الله تعالى عنه لرجل مر عليه: من أين جئت؟ قال: جئت من عند فلان، قال: في أي شيء؟ قال: احتكمنا إليه أنا وفلان في كذا وكذا، قال: بم حكم؟ قال: حكم بكذا، قال: لو كنتم احتكمتم إلي لحكمت بغير ذلك، قال: وما يمنعك وأنت أمير المؤمنين أن تمضي حكمك؟ قال: لا، لو كنت أردكم إلى نص قاطع فاصل لفعلت، ولكن أردكم إلى رأيي، وليس رأيي بأولى من رأيه، فـ عمر وهو خليفة راشد له حق التشريع: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) ، ومع ذلك يقول في مسالة اجتهادية خلافية: لو كنت أردكم إلى نص لفعلت، ولكن إلى رأيي، وليس رأيي أولى من رأيه، فكيف بك مع الغير؟!!

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا الباب -أيها الإخوة- تجب العناية به، وقد حمّل النبي صلى الله عليه وسلم كل فرد مسئوليته، فذو السلطان في سلطانه، وذو الرعية في رعيته. وفي آخر المطاف: (فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ، وفي رواية: (وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان) ، ولا يتساءل الإنسان: أغيّر المنكر بقلبي؟ وماذا سيؤثر على صاحب المنكر بتغييره في قلبه؟ المعنى: أن تنكر ذلك وتستنكر فعله، لا أن ترضى به وتركن إليه، ويقول العلماء: أثر ونتيجة تغيير المنكر بالقلب، أن استنكاره وعدم الرضا به، يجعلك في نفسك لا تأتي به وقد استنكرته من غيرك. ويقولون: سأل رجل عيسى عليه السلام: من أين لك هذا الأدب الرفيع، وأنت لا أب لك يؤدبك؟ قال: أرى الحسن فأستحسنه وأفعل مثله، وأرى القبيح فأستقبحه وأتركه ولا آتيه، فالعاقل يرتاح. إذاً: أول درجات التحصيل في إنكار المنكر بالقلب: هو الصيانة والبعد عن فعله. ثانياً: حينما تستنكر الفعل بقلبك يظل إنكار المنكر قائماً، لكنه دفين كامن ولعلك تنقل هذا الإحساس إلى من يقدر أن يغيره بلسانه أو بيده، أو تظل أنت على علم حامل لهذا الأمر، ولعلك أن تتمكن في وقت من الأوقات فتغير هذا المنكر بالدرجات الأخرى: باللسان، أو باليد. إذاً: إنكار المنكر بالقلب إبقاء لهذا المنهج حتى لا يضيع ولا يندثر عند الناس. قال: (أمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) ، ومن المعروف ما يتعلق بالأمور المادية مثل إطعام الطعام، والنفقة على الأولاد، والنفقة على الزوجة، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ سعد: (واللقمة تضعها في فِي امرأتك صدقة) .

العادة تكون عبادة بالنيبة الصالحة

العادة تكون عبادة بالنيبة الصالحة في نهاية هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة) ، وفي الحديث الآخر: (وتعين الرجل على متاعه صدقة) ، إنسان عنده متاع غير قادر أن يأخذه، فساعدته على حمله على ظهره، أو عنده دابته، وحمله موجود، فتحمل معه المتاع على الدابة فلك صدقة، تعين صناعاً في صنعته صدقة، أو نجاراً يريد ينشر خشبة وهو غير قادر أن يمسكها فمسكتها حتى نشرها، أو يريد أن يحزمها بحبل وساعدته في حزمها، (ومر صلى الله عليه وسلم برجل ذبح شاة، ويريد سلخها ولم يحسن، فحسر عن كمه صلى الله عليه وسلم وأدخل يده بين الجلد واللحم وأدارها وقال: هكذا تفعل) ، سبحان الله العظيم! لا يستنكف عن أن يساعد، وكونك ترشد الضال فتهديه حساً أو معنى سواء، شخص كفيف لا يعرف أين بيته، وسألك: أين بيت فلان؟ فتهديه إلى هذا البيت، فهي صدقة منك عليه وعلى نفسك، إنسان جاهل تعلمه صدقة، فأبواب الخير والصدقة كثيرة جداً، وقد جاء في الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) . ثم قال: (وفي بضع أحدكم صدقة) ، البضع هو عضو الإتيان بين الرجل والمرأة، فهنا استغرب الصحابة: في بضع أحدنا صدقة؟! صدقة على من؟ صدقة عليكما الاثنين، صدقة عليك أولاً؛ لأنها تعفك وتغض بصرك، وصدقة على الزوجة التي هي أمانة في يدك، فتؤدي حقها، فاستعجبوا: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم -انظروا الأسلوب النبوي للتعليم بالمحسوس، واستنتاج الحكم من السائل- لو وضعتها في حرام أكان عليك وزر؟ قالوا: نعم، قال: أتحتسبون بالوزر ولا تحتسبون بالأجر؟!) ، تعدون الشرع على أنفسكم وتتركون الخير ولا تحتسبونه؟! وقول السائل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟) ، ويقيس صلى الله عليه وسلم في الجواب بقياس العكس. هنا، وإن حسن النية يقلب العادة فيصيرها عبادة، لو أكلت لقمه وأنت جائع، ولكنك تنوي بأكلها التقوي على طاعة الله، فتشبع وتتمتع بالأكل ولك أجر، لو نمت القيلولة ونويت بذلك الاستعانة على أداء واجبك في النهار أو قيام الليل كان لك في ذلك أجر، إذا لبست ثيابك ونويت شكر النعمة وستر العورة وأداء الواجب كان لك بذلك أجر، لكن لو كنت تلبس لتتفاخر وتتطاول على الناس، أو تنام لتتقوى على سهرة في لعبة أو كذا، كان ذلك بالعكس، كما قال ابن مسعود: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا كلمة، قال صلى الله عليه وسلم: من مات يشرك بالله دخل النار، وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله دخل الجنة) ، يعني: قياس العكس، وهذا من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، وهذا يدلنا أن النية الصالحة تقلب العادة عبادة. ولعلنا بهذا نكون قد أوفينا هذا الحديث بما تيسر. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

الحديث السادس والعشرون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث السادس والعشرون [1]

شرح حديث: (كل سلامى من الناس عليه صدقة)

شرح حديث: (كل سلامى من الناس عليه صدقة) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري ومسلم] . هذا الحديث يمكن أن يجعل له عنوان: شكر النعمة، أو صدقة البدن، ويمكن الربط بينه وبين الحديث الذي قبله: (ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم) فيأتي النووي رحمه الله بعد هذا ليبين أن كل الصلوات وكل الصيام وكل الصدقات وما زاد عليه من الأعمال لا يؤدي شكر نعم الله على العبد. وفي هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى) لفظة: (كل) يسميها علماء المنطق والبيان سور كلي، يشمل كل سلامى في بدن الإنسان، ويختلف العلماء في تفسير السلامى، والمفصل والعضو والعظم كل ذلك جاء في الحديث النبوي، تارة (بمفصل) ، وتارة (بسلامى) ، وعلماء الطب القدامى كـ ابن سيناء في القانون يقسم العظام إلى ثلاثة أقسام: منها ما عليه بناء الجسم كالخشبة المعترضة في بناء السفينة يقام عليها بناؤها، وهو العمود الفقري وعظام الظهر، وهناك عظام جانبية قد تكون مساعدة وقد تكون مستقلة، وعقد ثلاثاً وثلاثين باباً في شرح العظام في جسم الإنسان، وقسمها أيضاً إلى السلاميات والسمسميات وهي عظام دقيقة بين المفصل والمفصل، أو بين العظم والعظم. والمتأمل في خِلقة الإنسان يجد الآيات الباهرات لا سيما من العظام التي تستخلص من كل عاقل الاعتراف بقدرة الخالق سبحانه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7] وفي بعض القراءات: (فعدَّلك) {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] . إذاً: خلق الإنسان من أعظم آيات القدرة الإلهية. ومن أعظمها دلالة على القدرة الإلهية، والعلم الأزلي المحيط بكل شيء، اختلاف صورة هذا الإنسان، تجد آلاف الملايين من البشر لكل شخص طابع في وجهه خاص، مع أن القالب واحد، عينان وأنف وفم، وكل في موضعه، ولا تجد صورتين متحدتين تماماً تماماً، فلابد من المغايرة، فتلك الأشكال وتلك الصور آلاف الملايين، وعدم اختلاط بعضها ببعض؛ يدل على القدرة حقاً. قوله هنا: (كل سلامى) معناه باتفاق العلماء: عظماً أو مفصلاً، وجاءت الأحاديث: (ثلاثمائة وستون مفصلاً) ، وجاءت: (ست وثلاثون سلامى) على أنها السمسميات كما يقول علماء العظام. وقوله: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) يذكرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بواجب حفظها وصيانتها، وبأي شيء تكون تلك الصيانة؟ هل يكون بإدخالها الورش والمستشفيات والمعامل؟ لا. ولكن بالصدقات شكراً لله على تلك النعمة، ومهما يكن من شيء في هذا الموضوع فلا ولن يستطيع إنسان أن يؤدي شكر هذه النعمة، كما جاء في بعض الآثار، وقد جمع منها ابن رجب في شرح الأربعين نصوصاً كثيرة عديدة جداً، منها: (يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول المولى سبحانه للملائكة: زنوا عبدي بعمله وبنعمي عليه، فتقوم نعمة واحدة، نعمة البصر أو السمع تطالب بحقها من حسناته، فتستغرق جميع أعماله، فلم يبق له شيء) وعن وهب بن منبه: قال: كان رجل ممن كان قبلكم عبد الله في جزيرة في البحر خمسين سنة، فإذا كان يوم القيامة قال الله:) أدخلوه الجنة برحمتي فقد غفرت له، فيقول: يا رب! بل بعملي، وأي ذنب لي؟ فيقول: زنوا نعمي عليه بعمله، فتقوم نعمة السمع وتطالب بحقها فلم يبق له شيء، فيؤمر به إلى النار، فيقول: يا رب! أدخلني برحمتك، ثلاث مرات، فيدخله الله تعالى الجنة برحمته) وهذا الأثر في سنده كلام. ويذكرون أن رجلاً أوتي مالا ًكثيراً ثم أخذه الله عنه، فحمد الله وشكره، فجاء شخص آخر وقال: تحمد الله على أي شيء وقد أخذ جميع ما عندك؟ قال: أحمده على نعم له عندي، لو أعطاني ملوك الأرض عوضاً عنه لا يجزئ فيه، قال: وما هو؟ قال: سمعي وبصري وحمدي لله. ويذكرون أن رجلاً بات ليلة نائماً هادئاً، فإذا بعرق ينبض عليه بالألم فمنعه النوم، فقيل له: كم يوازي نعمة سكون هذا العرق عليك؟ فقال: بكل ما أوتيت من مال، كأن يثور عليه ضرس أو تضرب عينه، أو أي وضع من هذه الأوضاع فيتمنى أن يسكن هذا الألم بكل ما أوتي من مال. ولذا أول شكر النعمة: حفظ الجوارح من معصية الله، ثم زيادة على ذلك أن يصرفها في طاعة الله، في أداء الواجبات، ثم مرتبة ثالثة وهي: أن يصرفها في نوافل العبادات، سواء كانت في شخصه أو متعدية إلى غيره على ما سيأتي توضيحه من النبي صلى الله عليه وسلم. على كل إنسان كل يوم أن يتصدق بعدد أعضاء جسمه، وتلك الصدقة هي صدقة شكر، وأي نعم أعظم على الإنسان من ذاته وشخصه؟!! وإذا اعترف الإنسان بنعم الله عليه كانت معرفته شكراً لها، كما جاء عن نبي الله موسى عليه السلام أنه قال: (يا رب! إن صليت فمن قبلك صليت، وإن صمت فمن قِبَلك صمت، وإن بلغت رسالتك فمن قِبَلك بلغت، فكيف أشكرك على نعمك؟ فأوحى الله إليه: الآن -يا موسى- شكرتني) يعني: عرفت أن صلاتك من قِبَلي، وأنا الذي أعنتك ووفقتك إليها، وعرفت أن صيامك من قِبَلي، وأن قيامك وتبليغك من قِبَلي، فإذا عرفت أن تلك النعم من الله فقد شكرت: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] ، ولذا جاء في الأثر: (من قال إذا أصبح: اللهم! ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر النعم) . (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم) (كل يوم) اليوم هو الزمن المحدد بأربع وعشرين ساعة في هذا العرض، أو ليلة معها نهار. قوله صلى الله عليه وسلم: (كل يوم تطلع فيه الشمس) ، معروف أن اليوم هو من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس، وهو اليوم الحقيقي الفلكي ولكنه قال: (تطلع فيه الشمس) لرفع توهم اليوم اللغوي، كما تقول العرب: يوم ذي قار، وهو يوم حرب في الجاهلية، نبت فيه أجيال، أو تقول: يوم اليرموك، أي: وقعة اليرموك، وهي لم تكن في يوم واحد من مطلع شمس إلى مطلع شمس. إذاً: يحدد النبي صلى الله عليه وسلم اليوم هنا بطلوع الشمس ليرفع توهم اليوم اللغوي، ولعل التنصيص على طلوع الشمس بتحديد الوقت الفلكي الحقيقي، يبرز لنا نعمة عامة: وهي طلوع الشمس من مشرقها على عادتها، وإلا لو حجبت عن الطلوع، وجاءت من مغربها قامت الساعة، فمجيء الشمس وطلوعها كل يوم فيه إنعام على الكون كله، نباته وحيواناته وإنسه؛ لأن في طلوعها حركة وحيوية وانتشار، فيذكر بأن هذه من النعم العظمى. ولعله يبين لنا: أننا لا نستطيع أن نأتي بالشمس فتشرق، كما قال الله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، ليس هناك طائر يطير إلا بجناحين، ولكن هذان الجناحان لو تركا للطائر ما طار، ما يمسكهن إلا الله سبحانه وتعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] ، من الذي يمسك الطائر وهو صاف هكذا؟ المولى سبحانه، فيبين أن القدرة الإلهية وراء الأسباب المادية، وقد يكون لبيان عظم الفعل كقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، لا يوجد كلمة إلا وتخرج من الفم، ولكن إكباراً واستنكاراً؛ لأنهم تجرءوا عن مجرد تفكير في الخاطر حتى تكلموا به، وخرجت من أفواههم مع عظمها فقالوا: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} [مريم:88] . سبحان الله! فقوله: (كل يوم تطلع في الشمس) بيان لنعمة الله على الخلق في هاتين الآيتين الكونيتين الليل والنهار. قال صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) ، وبين أن في الجسم ثلاثمائة وستين مفصلاً، أي: في كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة، لو تصدق بثلاثمائة وستين تمرة لصارت كذا كيلو، وكذا صاع، وليس كل الناس يجد تمرات يأكلها في النهار، فضلاً عن التصدق بهذا. وهنا صلى الله عليه وسلم وجه الأمة إلى أفعال من الخير والبر عوضاً عن تلك الصدقات المادية، كما في حديث أهل الدثور، وهنا يشترك هذا الحديث مع ذاك في بيان نوعية عمل الخير، فبين صلى الله عليه وسلم أن الصدقة ليست قاصرة على المادة، بل هناك من الصدقات المعنوية ما تفوق المادة في عظمها وفي أجرها قال الله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، فليس كل نفقة في المال قد تنفع صاحبها.

شرح قوله: (تعدل بين اثنين صدقة)

شرح قوله: (تعدل بين اثنين صدقة) بين النبي صلى الله عليه وسلم الصدقات المعنوية التي تنوب عن الماديات فقال: (تعدل بين اثنين صدقة) ، وقوله: (بين اثنين) يشمل كل الناس سواء القاضي في المحكمة بين المدعي والمدعى عليه، والحكمان بين الزوجين، وكل من تحاكم إليك، وفيه بيان مسئولية العدالة، وفي الحديث العام الذي يحمل كل إنسان تلك المسئولية: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ، كالحاكم راع مسئول عن رعيته، وقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه يعس في الليل يتفقد أحوال رعيته. والمسئولية واقعة على صاحب الإدارة والمدرس في الفصل، والوالد مع أولاده. إذاً: كل إنسان مسئول في جانب ما، فيعدل بين من هو مسئول عنهم، فهذا العدل صدقة. وفي الحديث الآخر: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: علمنا كيف ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: كفه عن ظلمه نصرة له) ؛ لأنك تنصره على نفسه، وإذا لم تفعل بات ظالماً، والظالم لا يكون على خير، (الظلم ظلمات يوم القيامة) ، فأنت بنصرتك إياه، وكفك إياه عن الظلم أخرجته من ظلمات الظلم إلى نور العدالة. وفي الأثر: (إن الملائكة نظرت إلى أعمال العباد التي تصعد من الأرض إلى السماء فاستعظمت عملين، وتمنت لو تنزل إلى الأرض وتعمل بهما: العدل بين الناس وسقي الماء) ، فهذان العملان لا يعادلهما عمل؛ ولذا جاء في الأثر: (عدل ساعة خير من عبادة ستين عاماً) ؛ لأن عدل الساعة الواحدة تحقيق للحق في الأرض. قال: (تعدل بين اثنين) ، والعدل بين الاثنين ليس مجرد إعطاء كل ذي حق حقه، بل تشمل العدل في الخطاب، والعدل في السماع، والعدل في التعامل، حتى في بشاشة الوجه، ذكر العلماء هذا في آداب القضاء، وذكروا: أنه يجب عليه حتى العدل في قسمات الوجه بين الخصمين، فيجب أن يساوي القاضي بينهما، فلا يبتسم لهذا، ويكشر لذاك: (تعدل بين اثنين صدقة) .

شرح قوله: (تعين الرجل في دابته فتحمله عليها صدقة)

شرح قوله: (تعين الرجل في دابته فتحمله عليها صدقة) وقوله: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة) ، إنسان عنده حمل ويريد أن يضعه على الدابة، وحمل الدابة من شقين، فيحتاج إلى من يسانده، أو أن الحمل ثقيل فترفع معه، ومثل الدابة الآن السيارة، فتساعده على حمل متاعه على سيارته، ويأتي في هذا الباب حديث: (وأن تفرغ من دلوك في دلو أخيك) ، أن تمده بفضل الحبل للدابة أو الحمل، إذا كان الحبل الذي معه قصيراً وعندك فضلة حبل فتعطيها إياه، وكل ما يمكن أن يوصل معونة للآخر، فلو أنك في السيارة تمشي في طريقك، فإذا سيارة معطلة تحتاج إلى اشتراك، فوقفت وأعطيته الاشتراك، فهذا صدقة، أو تجد سيارة مبنشرة تحتاج إلى الرافعة أو صامولة أو مسمار، أو أي شيء آخر، فكل ما يمكن أن تمده به ضمن قوله: (أن تفرغ من دلوك في دلو أخيك) ولو أن سيارة انتهى منها البنزين، وأعطيت صاحبها جالوناً بنزين، ولو بالثمن فهو صدقة؛ لأنه منقطع في الطريق، ويتمنى أن يشتريه ولو بأضعاف قيمته. وباب الصدقة المعنوية باب واسع جداً: تحمل الرجل على دابته، تعينه عليها، تساعده على رفع الحمل عليها؛ كل ذلك من باب الصدقة، وجاء في الأثر: (تهدي الرجل الطريق، تساعد العيي في القول، تسمع الأصم، ترشد الضال، تهدي الزقاق -أي: الطريق-، وتهدي الورق؛ (كل ذلك صدقة) ، وقالوا: القرض إلى زمن الأجل كل يوم للدائن فيه حسنة، وإذا جاء الأجل وأنظرته كأنك تتصدق عليه كل يوم بقدر دينك الذي عليه، فتكون الصدقة حسنة واحدة، والقرض حسنتان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بمعروف صدقة، نهي عن منكر صدقة، تميط الأذى عن الطريق صدقة. إلخ) ، وإن لم يستطع فأبواب الخير كثيرة، وفي الحديث: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) ، وفي حديث آخر: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) ، وكل ذلك من باب الصدقة على نفسك وعلى أخيك، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هنا أمهات أبواب الخير، فالعدل يشمل عدل الراعي إلى عامة الرعية، وتعاون الناس حتى على الدابة، جاء في الماعون: (لا تمنع ماعونك عن غيرك) وكما جاء في الحديث: (إذا لم أجد؟ قال: تعمل بقوتك فتتصدق) أي: تحمل بقوة زنديك متاع غيرك، وتسعى بعظمي ساقيك في إغاثة ملهوف استغاث بك، وكل ذلك ذكره صلى الله عليه وسلم.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أمر بمعروف ونهي عن منكر صدقة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر به قوام الأمم، والحفاظ على المجتمعات، وبه يحمل المجتمع مسئولية نفسه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس خاصاً بهيئة معينة، ولكن الهيئة لها اختصاصات، ولها محيط، ولها صلاحيات، أما بقية الناس فكل بحسب استطاعته: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) هذه للهيئة التي لها الأمر، (فإن لم تستطع فبلسانك) ، وهذا كما في الآية الكريمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ، هذا مع مرتكبي المنكر، فكيف إذا كان مع شخص غير ذلك؟! والمجتمع إذا اختفى فيه المنكر، وتفشى فيه المعروف، كان مجتمعاً مثالياً؛ لأن النهي عن المنكر درء للمفاسد، والأمر بالمعروف جلب للمصالح، وإذا كان المجتمع متعاوناً على ذلك كان كالأسرة الواحدة، وأعتقد أن كبار السن الموجودين كان الواحد منهم إذا وجد ولد جاره على خطأ نهاه وضربه، فإذا ذهب الولد يبكي إلى أبيه ضربه أبوه وقال: هذا مثل أبيك، فتعاون المجتمع كله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو أن جاراً رأى امرأة جاره تخرج في الطريق لردها، وشكره جاره على ذلك، أما الآن إذا كلمت ابن جارك: قال لك أبوه: ليس لك دخل، ولو أنك تكلمت مع زوجة جارك في نهي عن منكر لاتهمت بكل ما لا يرضي. وإليك مقارنة قرآنية بين أمتين في هذا الباب، يقول المولى سبحانه في أمم ماضية: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] ، لماذا؟ {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] ، كانوا لا يتناهون ولا يتناصحون أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، حتى ظهرت المنكرات. وانظر في المقابل في هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، ما هي مسوغات هذه الخيرية؟! وهل هي منحة بدون مقابل؟ وهل هي هبة من الله بدون شيء؟ لا، بل لها سبب، وكما يقول القضاة: حيثيات الحكم، فاستحقت الأمة الحكم لها بالخيرية بأمرها بالمعروف، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] سبحان الله! ما قال: أخرجت في الوجود، لا، بل قال: (أخرجت للناس) يعني: أخرجتم لغيركم، في أي شيء؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ، فبسبب عدم تناهي بني إسرائيل كانت تلك النتيجة، وبسبب قيام هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت هذه الشهادة. إذاً: خيرية الأمم وقوام المجتمعات والحفاظ عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومهما كان المعروف الذي أمرت به أو كان المنكر الذي نهيت عنه قليلاً ففضل الأمر والنهي موجود ولك الأجر، والدال على الخير له كأجر فاعله، فلو أمرت إنساناً بمعروف كان يجهله وعمل به وأخذه غيره عنه؛ فلك أجر ذلك إلى يوم القيامة، وإذا نهيت إنساناً عن منكر يفعله، وكف عنه؛ فلك أجر ذلك إلى يوم القيامة، وفضل الله كبير، ونعمه على العباد عظيمة، يجزل العطاء في أقل شيء. (وأمر بمعروف صدقة) أي: مطلق المعروف.

شرح قوله: (الكلمة الطيبة صدقة)

شرح قوله: (الكلمة الطيبة صدقة) قال عليه الصلاة والسلام: (والكلمة الطيبة صدقة) (الكلمة الطيبة) مطلقة، مثل كلمة: السلام عليكم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فهي صدقة، جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً مع أصحابه، فجاء رجل فقال: (السلام عليكم، فردوا عليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عشر، وجاء آخر وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردوا عليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عشرون، فجاء ثالث وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: ثلاثون، فقالوا: يا رسول الله! ما عشرة وعشرون وثلاثون؟ قال: حسنة بعشر أمثالها) ، أي: الأول قال: السلام عليكم فهذه كلمة واحدة، والثاني زاد: ورحمة الله، والثالث زاد: وبركاته، وكل كلمة بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، فالكلمة الطيبة مهما كانت فهي صدقة. وليعلم الإخوة أن تعود اللسان على الكلمة الطيبة منحة من الله؛ ولهذا ينبغي على المسلم أن يعود لسانه اللفظ الطيب، ويتجنب اللفظ القبيح ولو كان حقاً؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوا الشيطان، واستعيذوا بالله من شره) ، لماذا لا نلعنه وقد لعنه الله في كتابه؟ قالوا: لئلا يتعود اللسان على اللعن، فإذا كنت في كل وقت تلعن إبليس وتلعن الشيطان، فبعدها وقد تلعن والدك، وبعدها تلعن الناس وصار لسانك متعوداً على اللعن، فينبغي على العبد أن يعود لسانه على الكلمة الطيبة، وتجد بعض الناس عود نفسه على الكلمة الطيبة، فلا يقول كلمة تحتاج إلى اعتذار، والله سبحانه وتعالى ضرب المثل لكلمتين إحداهما طيبة والأخرى خبيثة، فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم:24-25] ليس من السنة إلى السنة، أو موسم وموسم، {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25] ، والخبيثة لا حول ولا قوة إلا بالله! نعوذ بالله منها! : {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] . يقول العوام: الكلمة الطيبة تبقى ويبقى أثرها، والكلمة السيئة يذهب بها الغضب، ويبقى أثرها في النفس. إذاً: (الكلمة الطيبة صدقة) ، والله سبحانه وتعالى بين لنا ذلك في الآية التي أشرنا إليها: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يدلنا عليها في معاملته مع الذين يأتون ويسألونه. وتنبغي الكلمة الطيبة في تعامل الإنسان مع الآخرين، إن كان في مرتبة المسئولية أو المساواة والزمالة أو الأخوة أو بأي حالة من الحالات، فتعامل الناس بالكلمة الطيبة خير، يقول الناس: لو كان لإنسان عندك حاجة ولم تقضها له، وقابلته بكلمة طيبة رجع من عندك، وقد طيبت خاطره بالكلمة الطيبة، ولذا يقول الإمام علي رضي الله عنه: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن سعوهم بأخلاقكم) . إنسان جاء يطلب منك قرضة حسنة، فلم تعطه مخافة أن تعطيه فلا يردها عليك، وهذا -والله- هو شح النفس، وقد جاء عن ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد أنه قال: (جاء علينا زمان ما كان أحدنا يرى له فضلاً في درهمه على أخيه -يعني: كانوا يؤثرون غيرهم على أنفسهم- ونحن في زمان -هذا كلام ابن عمر، في الصدر الأول، في خير القرون- الدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه) . فيا سبحان الله! ولا حول ولا قوة إلا بالله! إذا كان هذا في ذاك الزمن، فكيف حالنا الآن?! لو جاءك إنسان يطلب منك قرضاً أو عارية وأنت في حاجة إليها، كأن يطلب منه آنية أو ماعوناً، أو جاء ليطلب منك دابتك أو سيارتك وأنت في حاجة إليها، فتقول: والله -يا فلان- أحب أن أعطيك إياه، ولكن أنا الآن بحاجته، أو أنا الآن أريد أذهب مشواراً، لكن بعد أن أرجع، فأنت منعته ولكن قابلته بكلمة طيبة. وكما أشرنا: الصدقة بحسنة واحدة، والقرض بحسنتين؛ لأن الذي يتصدق يتصدق بغلبة ظنه على من يراه محتاجاً، وقد يتصدق عليه غيره، ولكن المقترض يأتي بدافع الحاجة المحققة، فأنت تسد حاجته، فإن أعطيته فالحمد لله، وإلا اعتذرت إليه بمعروف. الكلمة الطيبة تكون بينك وبين ولدك، وزوجك، وجارك، وزميلك، وصديقك، وأي شخص لك معه علاقة فكلمه بكلمة طيبة، فتكون صدقة لك؛ لأنك طيبت خاطره بهذه الكلمة.

الخطى إلى الصلاة صدقة

الخطى إلى الصلاة صدقة قال عليه الصلاة والسلام: (وبكل خطوة) في اللغة خَطوة بالفتح، وخُطوة بالضم، الخَطوة -بالفتح- حركة القدم، والخُطوة -بالضم- كالمسافة التي خطوتها، فتقول: من هنا إلى الباب عشرون خطوة، وتقول: خطوت خطوتين، يعني: بالقدم، ولو كان شبراً واحداً، فبكل خطوة تخطوها أي: بكل حركة؛ ولذا جاء في الحديث: (إذا توضأ العبد في بيته، ثم خرج إلى المسجد كان له بكل خطوة يخطوها حسنة، في رفع قدمه حسنة، وفي وضعه حسنة) ، وفي بعض الروايات: (برفع قدمه يرفع له درجة، وبحط قدمه تحط عنه سيئة) يعني: يعطى حسنة، وتكفر عنه سيئة، وخَطوة وخُطوة معناها هنا واحد. إذاً: الخُطوة أو الخَطوة إلى المسجد فيها صدقة، وجاء في بعض الروايات: (فإذا أتى إلى المسجد، وصلى الفريضة كانت له نافلة، أو قام إلى الصلاة ولا ذنب له) . أيهما أفضل: البيت الذي يبعد عن المسجد، وتكثر الخطى في الإتيان إليه للبعد أو القريب من المسجد وتقل الخطى إليه؟ في كل خير، ومن العلماء من يقول: البعيد؛ لأن الأجر على قدر المشقة، ولكن هذه القاعدة يجب أن يتنبه إليها، فالأجر على قدر المشقة لا أن تحمل نفسك مشقة لتحصل على أجر. بل الأجر على قدر المشقة في التكليف الذي كلفت به من الشارع لا منك أنت، كما قالوا: الفضيلة الذاتية خير من الفضيلة الإضافية، ففي الطواف بالبيت إن كنت تطوف محاذياً للبيت في محيط الدائرة فقد تكون الطوفة خمسمائة خطوة، وإن ابتعدت عن محاذاة البيت حوالى عشرة أمتار عن محيط الدائرة فستكون المسألة ضعف هذه الخطوات، فما هو الأفضل: أن تدنو من البيت مع قلة الخطى أو تبعد من البيت لكثرة الخطى؟ يقول النووي رحمه الله: الفضيلة الذاتية خير من الفضيلة الإضافية، فالطواف من خصائص البيت، فأيهما يكون ألصق من الطواف بالبيت: إذا اقتربت أم إذا ابتعدت؟ إذا اقتربت. فذاتية الطواف ألصق بجدار الكعبة من كثرة الخطى. إذاً: الاقتراب من الكعبة أفضل مع قلة الخطى، وكذلك صلاة الجماعة بالنسبة للفريضة، إن صليت في أي مسجد من مساجد البلد في جماعة حصل لك سبع وعشرون درجة، وإن كنت في المدينة، وجئت إلى المسجد النبوي، وفاتتك الجماعة وتصلي فرداً، (فصلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة فيما سواه) فإذا خرجت من بيتك من الحرة أو زقاق الطيار وقد أصبح الآن على حافة المسجد النبوي، فإذا جاء إنسان من أطراف المدينة يريد الصلاة في المسجد النبوي، ولكنه تعطل في الطريق، وكانت الجماعة في المسجد النبوي انتهت، ولكنه مر في طريقه بمسجد فيه جماعة: فهل يدخل ويصلي ويدرك الجماعة معهم أم يمشى إلى أن يأتي إلى المسجد النبوي؟ أيهما أحق وأولى: أن يؤديها جماعة ولو في مسجد في طرف البلد أم يترك الجماعة ويأتي ليحصل على فضيلة ألف صلاة في المسجد النبوي؟ هذه المسألة قامت فيها مشكلة وخصومة عند باب المسجد في الثمانينات، أشخاص يريدون الصلاة في المسجد النبوي ولو فاتتهم الجماعة، وآخرون يريدون الجماعة، وهم طلبة علم. المهم: يؤكد النووي رحمه الله أن صلاتك الفريضة في مسجد مع الجماعة أفضل من أن تترك الجماعة وتأتي تصليها فرداً في المسجد النبوي، لماذا؟ يقول: كونك توقع الفريضة في جماعة أفضل؛ لأن الجماعة من اختصاص الصلاة، فهي فضيلة ذاتية، ولكن إذا جئت إلى المسجد النبوي فهل حصلت على (ألف صلاة) من أجل الصلاة أم من أجل المسجد؟ A من أجل المسجد، وفضيلة المسجد بالنسبة للصلاة ليست ذاتية ولكنها تبع (إضافية) . إذاً: قرب البيت من المسجد أو بعد فبكل خطوة لك حسنة: فهل ندنو ونقترب من المسجد أو نبعد من أجل أن تكثر الخطى؟ يتفقون على أن قرب البيت من المسجد من الفضائل؛ لأنه يعين الإنسان على أداء الجماعة، فإذا كان بطبيعة الوضع جاء من بعيد، وتحمل المجيء، فهذا أمر لم يتكلفه هو، وفي الصدر الأول أراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى جوار المسجد، وقد كانوا يسكنون عند مسجد القبلتين، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (دياركم تكتب آثاركم) ، أي: (الزموا) اسم فعل الأمر (الزموا دياركم تكتب آثاركم) أي: مجيئكم، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبقى هؤلاء في أماكنهم حماية للمدينة؛ لأنه إذا أراد قوم أن يغيروا عليها وما وجدوا أحداً، فاجئوا الناس في المسجد، لكن حينما تكون كل قبيلة في منازلها حول المدينة فلا يمكن أن يفاجأ أهل المسجد بإغارة، فأمرهم أن يبقوا في أماكنهم لما لهم في ذلك من أجر لهم بكثرة الخطى، ولما في وجودهم من مصلحة. إذاً: إذا أكرم الله العبد بدار قريبة من المسجد فهذه نعمة من الله، وأقرب بيت للمسجد كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خوخة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وقد كانت موجودة في الأمام، فردوها إلى الوراء حينما توسع المسجد إلى الغرب،، وكنا نتمنى لو وضعت في محلها الأساسي إشارة لها، ولكنهم كلما وسعوا المسجد إلى الغرب نقلوا خوخة أبي بكر. وكانت أبواب الخلفاء قريبة من المسجد، فـ عمر كان في بيت حفصة وهو في قبلة المسجد، واشتري منها عند توسعة المسجد، وهكذا بيت عثمان كان في الجهة الشرقية، إذاً: القرب من المسجد فضيلة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع، وجاء إلى منى، ونزل في مسجد الخيف، خط للمهاجرين بالجهة الشرقية أو الغربية بجوار المسجد، وخط للأنصار من الجهة الثانية بجوار المسجد، وأمر كل القبائل أن تنزل من ورائهم. يأتي مبحث آخر: صلاة المرء في بيته ليس فيها خطى تحسب له، فهناك حديث: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) . فهل قوله: (لا صلاة) بمعنى لا صحة أم لا فضيلة؟ الكلام في هذا كثير، وهل الجماعة شرط في صحة الصلاة أو شرط مستقل في كمالها؟ قال بعض العلماء: لو كان بيته قريباً من المسجد فليمش بخطى صغيرة صغيرة حتى يكثر الخطى! وهذا تكلف ليس له محل. إذاً: (وبكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة) ، وجاء في بعض الروايات: (تخطوها في ظلام الليل) ؛ لأن المشي في الظلام ليس كالمشي في النور؛ ولذا صلاة العتمة وصلاة الفجر بين صلى الله عليه وسلم أنه لا يتخلف عنهما إلا منافق؛ لأنه لا يرى في مجيئه إلى المسجد، أما الظهر والعصر فإنه يشاهد، لكن العشاء والفجر إنما يأتي من يصلي لله.

إماطة الأذى عن الطريق صدقة

إماطة الأذى عن الطريق صدقة وقوله صلى الله عليه وسلم: (تميط الأذى عن الطريق صدقة) ، نحن نقول لأمناء البلديات والذين ينادون بالحضارة والمدنية وبالنظافة، والذين يتغنون بسويسرا أنه لا تجد في الطريق ورقة، ولا تجد قشرة فاكهة، فنقول: تعالوا إلى سنة رسول الله، فهو من قبل أربعة عشر قرناً يحث على إماطة الأذى عن الطريق، وكيف تميط الأذى عن الطريق؟ ترفعه، فمثلاً: إذا وجدت قشرة موز في الأرض أخذتها، كي لا ينزلق بها البعير أو الإنسان الغافل، فهي مثل الصابون، فإذا كان رفعك لها عن الطريق صدقة، فكيف بك في عدم إلقائك إياها في الطريق؟!! إذاً: نتمدح بالحضارة الغربية، وعندنا هذا الأصل من السنة النبوية، ونقول لأولئك الذين يلقون بفضلات بيوتهم في قارعة الطريق، ونقول لأولئك الذين يبنون العمارات ويرمون النفايات في قارعة الطريق، نقول لأولئك الذين يحفرون الحفر من بيارات وغيرها ولا يضعون حواجز ولا علامات عليها، نقول لكل من يلقي قذارة في طريق المسلمين: إنك خالفت سنة رسول الله، فخذ السنة. ينبغي أن تكون البلدية أحرص ما تكون على تطبيق هذه السنة، والمناداة بتطبيقها لا بنظام كذا، ولا بقانون كذا، ولا بعرف كذا، بل نقول: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلمة (الأذى) لا حد لها، جاء في الحديث: (ترفع العظم عن الطريق) ، وفي بعض الآثار أن الأذى حينما ترفعه يشكرك ويقول: حفظت الناس من أذاي، أو ترفع حجراً عن طريق المسلمين يشكر لك أنك جنبت الناس شره، وإذا جئت إلى كلام الفقهاء تجدهم يقولون: من ألقى أذى في الطريق وتسبب بذلك في جناية على إنسان أو حيوان فهو مسئول ويضمن، ويمثل الحنابلة، لذلك فيقولون: لو أنك سكبت الماء مع الصابون في الطريق فجاء بعير وانزلق فكسرت رجله فأنت ضامن، فالطريق ليس حقك وملكك لوحدك، بل الطريق لجميع المسلمين؛ ولذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على قارعة الطريق، وليس للنجاسة كما يظن البعض، ولكن لأنك تغتصب حق المسلمين، وتمنع من يريد أن يمشي، فالطريق جعلت للمشي لا للصلاة، فلا تحتكر شيئاً لعامة الناس لمصلحتك أنت، فلا يجوز لك أن تصلي على قارعة الطريق، واتفق العلماء على أن من حفر حفرة بيارة أو غيرها، ولم يجعل عندها نوراً أو شبكاً يمنع الإنسان من السقوط في ظلام الليل، ويمنع الأطفال من السقوط فيها، فسقط أحد الناس فتلف فصاحبها ضامن. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بضعاً وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى، ويستحب بعض العلماء حينما تميط الأذى عن الطريق أن تتلفظ بقولك: لا إله إلا الله؛ لتجمع بين طرفي شعب الإيمان، فأمطت الأذى وهو أدناه، وذكرت أعلاها: لا إله إلا الله، فتكون بذلك قد جمعت بين طرفي شعب الإيمان. هذا الحديث جزئياته لا تنتهي، وطرق الخير كثير، وحينما قال الرجل: إذا لم أستطع ذلك، قال: (تكف شرك عن الناس فإنها صدقة) ، صدقة عليك وصدقة عليهم، تريحهم من الأذى، وتريح ملائكتك من التسجيل عليك، فكف شرك عن الناس صدقة. وبالله التوفيق.

الحديث السادس والعشرون [2]

الأربعين النووية - الحديث السادس والعشرون [2]

فضل صلاة الضحى

فضل صلاة الضحى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: روى مسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم: (ويجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى) ، وفي بعض النسخ: (ركعتي الضحى) يعني: صلاة ركعتي الضحى. والبحث هنا في جانبين: كون النبي صلى الله عليه وسلم جعل مكان تلك الأنواع من الصدقات ركعتي الضحى، والمطلوب ثلاثمائة وستون صدقة، فكأن الحديث يقول: صلاة ركعتي الضحى تعادل ثلاثمائة وستون صدقة. وكون النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الصلاة من حيث هي عوضاً عن فقد النقد والمادة، بينما القرآن يجعل العوض الصوم؛ لأن المولى سبحانه جعل في كفارة الظهار عتق رقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92] أي: ستين يوماً، وفي كفارة اليمن عتق رقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] ، وفي كفارة القتل خطأً: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، وفي كفارة الظهار عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً بالترتيب. فالقرآن اعتبر الصوم محل المادة في العجز بل إنه يجبر العجز في الحج: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [البقرة:196] ، ما قال: طواف ستين أو سبعين شوطاً، بل قال: {فَصِيَامُ} [البقرة:196] ، فجعل الصوم مكان هدي التمتع. إذاً: في نصوص القرآن نجد الصوم نيابة عن المادة في تصحيح الحج بالصوم عن دم الهدي. حتى أيضاً في فدية الأذى، في حلق الشعر، وهو من محظورات الإحرام، حمل كعب بن عجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة هوام رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى أن بلغ بك الأذى ما أرى) ، ومما ذكر له: (صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين) ، وكل ذلك فيما يتعلق بالدماء إن عجز عنها. وإن أتينا إلى أمور الأسرة، وإلى الظهار، وإلى كفارة الظهار: وجدناها صوم شهرين، وإذا جئنا إلى كفارة اليمين وجدنا صوم ثلاثة أيام، وإذا جئنا إلى كفارة القتل خطئاً عوضاً عن عتق رقبة وجدنا صيام شهرين، فباب المادة والمال نجد أن العوض عنها الصوم، وهنا المطلوب صدقة، فإذا عجزوا عن الصدقة لم يرشدهم إلى الصوم كما جاء في القرآن. فالسؤال الأول: ما الفرق بين الصوم في البدل ونيابة المادة في كتاب الله وبين الصلاة من حيث هي؟ أرجو من الإخوة طلبة العلم أن يبحثوا فيه، فإني لم أجد في ذلك إلا ما يوحي به بعض كلمات الشراح من أن الصدقة عن الأعضاء تعوز المتصدق إلى المال، والصدقة مطلوبة هنا عن جسم الإنسان، فقيل: إن الصلاة هنا بدل من الصوم أو غيره؛ لأننا نريد زكاة هذا البدن شكراً لله على ما فيه من نعم، فإذا قمت وصليت لم يبق عضو في الجسم إلا تحرك شكراً لله. فإذا مشيت من البيت إلى المسجد خطوت إلى المسجد، وإذا وقفت في المحراب أو استقبلت القبلة وحركت يديك وقلت: (الله أكبر) ، نطق لسانك، وتحركت يديك، وانثنى صلبك، وارتفعت، وسجدت، وقامت جميع أعضاء الجسم، فتلك السلامى كلها تحركت في شكر الله تعالى. إذاً: هذا الحديث مغاير لأسلوب القرآن في استبدال الصوم عن المادة في موقعه؛ لأن الصدقة هنا مطلوبة لذات البدن بخلاف الصوم في الظهار، وكفارة اليمين، فهو خارج عن موضوعها، وذلك من فضل الله على الأمة، فلم يقفل أمامها طريقاً إلا أوجد لها ما تعوض به عنها. السؤال الثاني: إذا كانت الصلاة هي التي تؤدي به هذا الواجب، والجسم يؤدي واجبه بنفسه فيشكر الله على ما فيه من نعم، حتى العين والأذن تشكر لله، فالعين تنظر إلى القبلة أو تبصر إليها أو تنظر إلى كتاب الله لتقرأ في الصلاة، والأذن تسمع التسبيح والتحميد، والقلب مع هذا كله قد عقد النية شكراً لله، فلماذا اختصت بهذا صلاة الضحى؟ إن كان ولابد من صلاة فكم من نافلة يصليها الإنسان! وكم من وقت صالح لأداء الصلاة، كما في قوله سبحانه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] ، وهذه جاءت في وضح النهار في الضحى، ولم تأت في جوف الليل، فلماذا؟ A بعض العلماء يختصر الطريق ويقول: لعل في صلاة الضحى سر لا يعلمه إلا الله، فنكف ألسنتنا؛ لأن جميع العبادات فيها أسرار، وإن علمنا بالبعض منها فلا يستطيع إنسان أن يدعي الإحاطة: لماذا الصبح ركعتين بعد نوم طويل وراحة، والظهر أربع ركعات في وقت عناء النهار، وكذلك العصر والمغرب، والعشاء عند النوم وفيه الراحة أربع ركعات؟ لا تستطيع أن تعلل شيئاً، وإن قلنا: أوقات الصلاة ربطت بآيات كونية {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، آيات كونية تتغير وتوجب الشكر، وتوجب النظر في ملكوت الله، وتستظهر القدرة الإلهية في حركة هذا العالم، فتأتي الصلاة مع القدرة متوازيان، ولكن لماذا كانت هذه اثنتين، وتلك ثلاث، وتلك أربع؟! حكم لا يعلمها إلا الله. وبعض الفقهاء حاول الكلام في هذا، ولكن حقيقة الأمر عند الله، وإذا استقر الأمر على الضحى، فبقي سؤالان: حكم صلاة الضحى، واختلاف الصحابة فيه، واختصاص الضحى عن بقية الصلوات.

حكم صلاة الضحى

حكم صلاة الضحى هذا الحديث من أقوى الأدلة في مشروعيتها، وأنصح إخواني الطلبة أن يرجعوا إلى التمهيد في الجزء الثامن، فإن ابن عبد البر استوفى هذا البحث إلى أقصى حد، في الحديث الذي رواه مالك عن أم المؤمنين عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى قط) . انظروا إلى هذا التصريح: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح -يعني تنفل- سبحة الضحى قط) يعني: نافلة الضحى، أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة تقول هذا! بينما جاء عن أم هانئ في الصحيحين قالت: (عام فتح مكة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به يغتسل وفاطمة تستره، فسلمت، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ، وقالت: إن علياً يزعم أنه قاتل فلاناً وقد أجرته، فقال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ! فلما قضى غسله التحف بملحفة وصلى ثمان ركعات) وعند بعض رواة الحديث من أهل السنن: (سألته: ما هذه الصلاة يا رسول الله؟! قال: الضحى) . بعض العلماء يقول: إنها صلاة شكر على الفتح، وخالد بن الوليد أحياناً كان يصليها إذا فتح الله عليه مدينة من المدن. وقد تنازع العلماء في مشروعية الضحى؛ لأن أم المؤمنين وهي أقرب الناس إليه، وأعرف بصلاته في الداخل تقول: (ما رأيت) . وقيل لـ عبد الله بن عمر: أعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى؟ قال: لا، ولا أبا بكر ولا عمر! ولكن مالك رحمه الله يتمم حديث عائشة وأنها قالت: (وإني لأسبحها) ، وفي رواية: (وإني لأحبها) ، وفي رواية: (ولو بعث لي أبواي ما تركتهن) . فكيف الجمع بين قولها هذا وقولها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط) ؟ ورد في بعض الروايات: (كان صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحبه كراهية أن يفرض على الناس) . وأحسن من تكلم على هذه المسألة صاحب كتاب: (طرح التثريب) ، فقد ذكر حوالى عشرة أوجه في الإجابة عن قول عائشة، والجمع بين قولها: (ما رأيته قط) ، وقولها: (وإني لا أتركها ولو بعث لي أبواي) . قالوا: لم تره، وإنما بلغها. وقال بعض الناس: عائشة كانت تاسعة تسع من زوجات رسول الله، فليس بلازم في كل نوبتها أن يصلي، ولعله كان يصليها عند غيرها، ولكن ابن عبد البر يضعف هذا الوجه. إذاً: كان يخفي أمرها مخافة أن تشتهر عند الناس، وتفرض عليهم، وبعد أن أنتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أمن جانب الفرضية، كما وقع في قيام رمضان، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى العشاء ودخل بيته، ثم قام من الليل إلى المسجد فصلى في رمضان في الليل، وكان بعض الناس في المسجد فصلوا خلفه، فلما كان من الغد صلى العشاء ودخل، فتسامع بعض الناس، فانتظروا بعد الصلاة ولم ينصرفوا، وخرج صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل في رمضان فصلوا خلفه، وفي الليلة الثالثة تسامع أهل المدينة جميعاً أن رسول الله صلى في الليل، وصلى وراءه أقوام، فلما صلوا العشاء ودخل صلى الله عليه وسلم بيته، ما قام إنسان من مكانه، ومكثوا ينتظرون خروج رسول الله، فلما جاء وقت خروجه قال لـ عائشة: ما بال الناس مجتمعين؟ ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى. قال: وماذا ينتظرون؟! قالت: ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى أقوام بالأمس وقبله، فلم يخرج، فأخذوا الحصباء ورموا باب الحجرة، فما خرج إلى صلاة الصبح وقال لهم: ما خفي عليّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً، ولكني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم فلا تستطيعون) . فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وهو يعلم أنهم منتظرون مخافة أن تفرض عليهم فيعجزون عنها. ثم في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه نظّم التراويح على إمامين، أحدهما أبي بن كعب، وأمره أن يصلي بالناس أولاً ثمان ركعات، ولكن كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وربما انصرفوا قبل أن ينادي المؤذن للفجر، فجمع القراء، وكلف سريع القراءة أن يقرأ بثلاثين آية في الركعة، وبطيء القراءة أن يقرأ خمساً وعشرين آية في الركعة، وخفف من القراءة، وزاد في عدد الركعات، وجعلها عشرين ركعة، واستمر الأمر على ذلك من عهد عمر إلى اليوم. ويهمنا أن عمر لما أمن الفرضية -لأنه لا فرضية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- نظّمها، كما أن بعض السلف قال: الصلوات خمس، أي: لا سادسة، وهي الضحى، فقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم ربما كان يخفيها لئلا يتتابع عليها الناس؛ مخافة أن تفرض عليهم، فلما كان الأمر كذلك، وعلمت صلاته صلى الله عليه وسلم لها في مكة، قالوا: هذه سنة، وشكر للفتح. ويروون عن الطبري أنه قال: أنه جاءت فيها أحاديث تعادل التواتر، ولكن لم نقف على ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فعلى طالب العلم أن يبحث هذا، إلا أنه جاء في الصحيحين عن أبي هريرة تارة، وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنهما تارة، أبو ذر يقول: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى) ، وكذلك أبو هريرة قال: (أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن ما حييت: صيام ثلاث أيام من كل شهر، ولا أنام إلا على وتر، وأن أصلي ركعتي الضحى، فأنا أصليهن في الحضر وفي السفر) .

عدد ركعات الضحى

عدد ركعات الضحى أما عدد الركعات فقد ذكر ابن عبد البر في الجزء الثالث عشر من التمهيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعي إلى الطعام في بيت أم سليم فقال: (أين تريدون أن أصلي لكم؟ يقول أنس: فقمت إلى حصير قد درس من طول اللِبث أو اللُبث فنضحته بالماء، فصلى، وصففت خلفه أنا وفلان، والعجوز من ورائنا) ، وبعضهم يقول: صلى ثمان ركعات، وفي روايات أم هانئ: (يسلم من كل ركعتين) ، وفي حديث ابن عمر (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) . وعلى كلٍ فالروايات ثابتة في صلاة الضحى، مثل هذا الحديث عند مسلم: (ويجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى) ، وكم تكون صلاة الضحى؟ يتفق العلماء على أن أكملها ثمان، وأوسطها أربع، وأقلها ركعتان. ويذكر البيهقي: أن أقصاها اثنتي عشرة ركعة، ولكن الحديث فيه ضعف ولم يأخذ الجمهور به. إذاً: أقل صلاة الضحى ركعتان، وأوسطها أربع، ونهايتها ثمان كما عند الجمهور، وعلى هذا ثبتت مشروعية الضحى من حيث هي. لماذا اختصت صلاة الضحى بهذا دون غيرها من النوافل؟ وما هي النوافل؟ لكل فريضة في الإسلام نافلتها: فالشهادة التي هي مفتاح الإسلام تجب في العمر مرة، ولكنها تتعدد في كل صباح ومساء نافلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في العمر مرة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فبمقتضى هذه الآية أصبح فرضاً على كل مسلم أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب يتأتى بمرة ما لم يأت ما يدل على التكرار، وقد جاء في هذا ما يدل عليه: (حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: آمين آمين آمين، فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن، علامَ أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: شهر رمضان من أدركه ولم يدخله الجنة باعده الله فقل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة باعده الله في النار فقل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل: آمين، فقلت: آمين) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ويأتي الحديث الآخر: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) إلى آخره. نأتي إلى أركان الإسلام الأخرى: الصلاة وهي عماد الدين، لكل فريضة نافلتها، يتفقون على القبلية ويختلفون في البعدية، فالصبح قبله ركعتان، والظهر قبله ركعتان وبعده ركعتان، والرواية الأخرى: أربع وأربع، والعصر قبله أربع ركعات، والمغرب بعده ركعتان أو ست ركعات، والعشاء بعدها ركعتان. ثم تأتي بعد ذلك النوافل غير المرتبة مع فريضة: فتأتي صلاة الليل بلا عدد ولا حد، كما بيّن سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:1-4] ، ولا حد في ذلك على التحقيق، وكان السلف بعضهم يقوم الليل بكتاب الله كاملاً، وبعضهم يقوم الليلة بسورة الفاتحة. يأتي بعد ذلك إقامة القائلة -أي: الصلاة بين الظهر والعصر- وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يحيي القيلولة، فقيل له في ذلك، فقال: الناس نيام وأحب أن أعبد ربي، مع أن وقت القيلولة يستعان بها على قيام الليل، وابن عمر هو الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (نعم العبد عبد الله بن عمر لو كان يقوم الليل) كما روت ذلك حفصة رضي الله عنها، يقول عبد الله: ما نمت ليلاً بعد أن سمعت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يقوم القيلولة بين الظهر والعصر. وكما جاء عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً قال له: إن بني فلان يقيمون الهاجرة، يذهبون إلى المسجد في الظهر ويقيمون هناك إلى صلاة العصر يتعبدون، فهل تستطيع أن تفعل مثلهم؟ قال: يا ابن أخي! ليست هذه بالعبادة، العبادة تأمل في كتاب الله وأحكامه، وبيان أمره ونهيه إلى آخره. ومنها: الصلوات ذوات الأسباب من كسوف، وخسوف، واستسقاء، وجنازة إلى غير ذلك. قالوا: لقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى بالذات؛ لأنها ليست مرتبطة بفريضة تتممها. إذاً: الضحى ليست مرتبطة بغيرها، فركعتا الفجر مرتبطة بالفجر، أما الضحى فلا، وحينما كنت أبيّض تتمة أضواء البيان في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1-2] ، {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] ، يلفت النظر هنا أن الله يقسم سبحانه فيقول: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] ، تقول: سجى الليل: إذا غطى بظلامه، فلان مسجّى، يعني: نائم مغطى، إذاً: الليل الساجي: هو الليل الذي غطى الكون بظلامه، وهذا أقوى أوقات الليل في الظلام، ويقابل هذا في النهار الضحى، وكأن وقت الضحى هو ألطف أوقات النهار كله بالنسبة إلى أشعة الشمس؛ لأن قبل الضحى لم يكتمل نورها، وبعد الضحى يشتد حرها، ثم تأتي إلى الزوال، ومن الزوال إلى الغروب تبدأ في النقصان. إذاً: أكمل أوقات النهار هو وقت الضحى. ويقسم المولى سبحانه بأوثق الزمنين وأقواهما في موضوعهما: الليل الساجي والضحى في إشراقه مع هدوء الشمس، وإذا جئنا إلى السورة الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1-2] ، وأكمل الليالي وأفضلها هي التي فيها القمر يكتمل، وهي الأيام البيض: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر؛ لأن لياليها مضيئة بضوء القمر، فهي بيضاء ونهارها أبيض بأشعة الشمس. إذاً: الضحى أفضل أوقات النهار، ويكون العبد في إشراقة نفسه، وفي وضوح ووضاءة وإشراقة قلبه ونور ربه معه، يأتي في هذا الوقت اللطيف ويركع لله ركعتين، فتكون شكراً محضاً لله لا على مقابل شيء، ولهذا فللضحى خصائصها، ويكون لهذا الوقت شرفه واختصاصه دون بقية الأوقات، ولهذا تجد أقوى ما تكون النفس إشراقاً وأقوى ما يكون البدن نشاطاً في ذلك الوقت، فإذا زاد بعد ذلك واجهه حر الشمس، وواجهه عناء النهار إلى غير ذلك من العوامل الأخرى، وإذا نظرنا إلى ما يوحيه قول ابن عباس في قوله سبحانه في خصلة داود: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18] والعشي: ما بعد الزوال إلى المغيب، والإشراق: هو إشراق الشمس، يقول: كانت العصر والضحى واجبتان على داود، فبقيت العصر عندنا، ورفعت الضحى عنا، أي: من باب الفريضة. وقوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] يختلف العلماء في الصلاة الوسطى ما هي؟ فـ مالك رحمه الله يقول: الفجر؛ لتوسطها بين العشاء وبين الظهر، وهما أبعد الوقتين، ولثقلها على المنافق. والجمهور يقولون: هي العصر. لو جئت إلى صلوات خمس في دائرة، فأي نقطة على دائرة المحيط تكون منتصف الدائرة، فما الذي خص نقطة العصر في ذلك؟ لو تأملنا إلى الوسطية من حيث الزمن وأوقات الصلاة وإقامتها؛ نجد طرفي النهار: الفجر في أوله والعشاء في آخره، فإذا جئنا ما بين طلوع الفجر إلى زوال الشمس، ففيه صلاة الفجر وصلاة الظهر بعد الزوال، وهذا الزمن طوله ست ساعات تقريباً، وإذا جئنا من زوال الشمس إلى غروبها وجدنا ست ساعات أيضاً فنجد الظهر في منتصف النهار ونجد المغرب في نهاية النهار، وبين الفجر والظهر كما بين الظهر والمغرب، وفي الوسطين نجد صلاة العصر في ربع المسافة بين الزوال والغروب، ونجد الضحى في ربع المسافة بين الإشراقة والزوال، فالضحى متعادل مع العصر سواء بسواء. إذاً: الضحى تعادلة الصلاة الوسطى التي نص القرآن عليها. قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ} [النور:36-37] . الغدو: الغدوة وليس ذلك الفجر إنما بعد طلوع الشمس، والآصال: بعد العصر وقبل المغرب. إذاً: قبل كل شيء: لصلاة الضحى سر يعلمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن لو ذهبنا نلتمس أسباب أو مسببات هذا التخصيص والتفضيل ربما وجدناه على النحو الذي مر، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقت صلاة الضحى

وقت صلاة الضحى ما هو الوقت الصحيح لصلاة الضحى؟ يتفق العلماء: أن الصلاة النافلة لا تصح عند طلوع الشمس، ويقولون: حتى ترتفع الشمس قدر رمح، وعلي رضي الله تعالى عنه لما رأى بعض الناس يصلي الصبح ويجلس فإذا أشرقت الشمس صلى وذهب، قال: ما بالهم ينحرونها؟ لماذا لا ينتظرون حتى تكون في الجبهة؟ أي: تكون الشمس في جبهة القائم، وارتفاع الشمس قدر رمح، ويدرك ذلك من كان في خلاء وفضاء، أو كان على ساحل بحر؛ فإنه يرى الشمس كأنها تنبت من الأرض في نهاية الأفق -كما يقولون- الميل، والميل حينما تنظر إلى الأمام -كلٌ بحسب نظره قوة وضعفاً- في منتهى الإبصار ترى أن السماء قد مالت على الأرض، والتقت في زاوية حادة عند نقطة الصفر، فحينما تخرج الشمس من تلك النقطة -نقطة الميل- وترتفع عن نقطة صفر في الأرض صاعدة إلى السماء تأخذ تدريجياً حافة القرص أولاً، ثم ينتصب، ثم يكمل ظهوره، ثم يأخذ الانفصال والارتفاع عن سطح الأرض، وإذا بلغ ارتفاع قرص الشمس عن سطح الأرض مقدار رمح حلت الصلاة، والرمح هو الآلة التي كان يستخدمها الناس في القتال، وغالباً ما تكون بقامة إنسان أو دون ذلك، وحينئذٍ جاز أن تصلي النافلة. ولكن جاء في الحديث: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) والفصال جمع فصيل، وهو ولد الناقة، يمشي في بكرة النهار مستريحاً، ولكن إذا اشتدت الشمس وارتفعت أكثر من رمحين قبل أن تصل إلى الزوال، أي: في ربع السماء، ومعنى ربع السماء: أي: نصف الدائرة من نقطة الشروق إلى نقطة الغروب، فنصفها هو وقت الزوال، ومن نقطة الزوال إلى الشروق منتصف المسافة الربع الشرقي، ومن نقطة الزوال إلى نقطة الغروب منتصف المسافة الربع الغربي، فإلى أن تأتي الشمس في ربع السماء الشرقي هناك ترمض الفصال، تحتر الأرض الرملة -وهي الرمضاء مثل الرماد الحار- فالفصيل الصغير لا يقوى على المشي؛ لأن الرمل يحرقة تحت خفه فلا يقوى عليها فيربض في الأرض، قالوا ذلك الوقت هو: صلاة الأوابين، وأحسن أوقاتها ذلك الوقت. إذاً: أول وقت الضحى: إذا ارتفعت الشمس قدر رمح، وآخر وقتها: حينما ترمض الفصال، وعدد ركعاتها -كما أشرنا- أقلها ركعتان، وأكملها ثمان، وأوسطها أربع، والله سبحانه وتعالى أعلم. لو جئت إلى قوله: (ويجزئ عن ذلك: ركعتا الضحى) حينما تفكر في الركعتين إن جئت إلى الحسنات التي يمكن أن تتميز فيها في الركعتين، كيف تفعل؟ يعني: لو جئنا على سبيل العرض والإيراد من باب لفت النظر أول عمل في الصلاة: تكبيرة الإحرام، ثم تقرأ الفاتحة، ثم تكبر، ثم تركع، وتسبح ثلاث مرات، ثم ترفع وتقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد إلى آخر الذكر، ثم تكبر وتسجد، ثم تسبح ثلاث مرات، ثم تكبر وتجلس، ثم تدعو، ثم تكبر وتسجد، ثم تسبح ثلاث مرات، ثم تقوم للركعة الثانية، فلو أحصيت هذه الحركات وتلك الأذكار بالإضافة إلى سورة الفاتحة فقط، والفاتحة تشتمل على مائة وثلاثة حروف كما يقول النيسابوري في عده للحروف، فلو جمعت جميع ما يكون من تلك الحركات، والتكبير والتسبيح تصير حوالى ستين حسنة مستقلة، فلو ضربت الستين في اثنين صارت مائة وعشرين، ولو ضربت مائة وثلاثة في اثنين صارت مائتين وستة، واجمع إليها مائة وعشرين تصير ثلاث مائة وستة وعشرين، ولعل الباقي يأتي في الدعاء أو في خطواتك إلى المسجد، ولو أراد إنسان أن يستخرج بعض الشيء: كيف تعادل الركعتان ثلاث مائة وستين، ربما يجد في الركعتين ما يعادل ذلك إذا اعتبرناها على انفرادها. وكل هذا من باب تفتيح الذهن، وربط حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضوعه، لماذا خص ركعتين؟ ولماذا لم يقل: أربع؟ ولماذا لم يحيل على الصوم؟ ولماذا لم يجعلها في الليل؟ وكل ذلك موضع لأسئلة العلماء. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يشرح صدورنا لما يحبه ويرضاه، وأسأله أن يرضى عنا. اللهم علمنا ما جهلنا، وذكرنا ما نسينا، وتقبل منا إنك على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

مواطن استحباب قراءة سورة الضحى

مواطن استحباب قراءة سورة الضحى Q ما هي المواطن التي يستحب فيها قراءة سورة الضحى؟ A يقول بعض العلماء: من الأحسن في صلاة الضحى أن تقرأ سورة الضحى في الأولى وألم نشرح في الثانية، ولهم في ذلك أسرار، كما أن السنة في ركعتي الصبح وفي سنة الطواف أن تقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فتبدأ صباحك قبل الفريضة بقراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وتبرأ من عبادة الكفار وتلجأ إلى عبادة الله وحده، ثم تقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وفيها إقرار بالوحدانية لله سبحانه وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته، وكذلك بعد ركعتي الطواف وهي آكد، والسر في ذلك عظيم؛ لأن العرب كانوا يعبدون الأصنام، فجاء الإسلام وحطم الأصنام وطهر الكعبة، وفي الوقت الذي يكسر الأصنام الحجرية يقبّل الحجر الأسود، فهنا الشيطان يجد مجالاً للوسوسة، ويقول: كيف تكسرون تلك الأحجار التي صنعها آباؤكم وتقبلون هذا الحجر؟ فيكون الجواب على ذلك: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] . وعمر رضي الله تعالى الذي كان في الجاهلية يصنع لنفسه إلهاً من تمر، يحرسه عند رأسه، فإذا أصبح معافى أكله، أتى إلى الحجر الأسود وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، وكان علي رضي الله تعالى عنه وراءه، فقال: لا يا أمير المؤمنين! إنه ينفع ويضر قال: بأي شيء؟ قال: إذا كان يوم القيامة جاء وله لسان يشهد لكل من قبّله. وكل من كتب في تاريخ مكة وبناء الكعبة يورد آثاراً عديدة جداً، ولا تصل في الصحة إلى درجة الصحيحين، لكنها في مجموعها يعضد بعضها بعضاً، وفيها أن الحجر الأسود نزل من الجنة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة ما مررت عليه إلا وسلم عليّ) ، فإذا كان حجر من حجار مكة يسلم على رسول الله، فما الذي يستبعد أن ينزل حجر من الجنة؟ والله سبحانه وتعالى أعلم. وقت صلاة الضحى بخلاف الأوقات الخمسة، فهي تأتي في وقت شبه هدوء للإنسان، بخلاف الظهر فإنه يكون منهمكاً في عمله فيترك عمله ليصلي، ومثلها العصر؛ لأن العصر تكون وقت انشغال الناس، وما كل الناس يقيل من الظهر حتى العصر. إذاً: من خصائص صلاة الضحى: أنها وقت انشغال الناس، ولذا فهي صلاة الأوابين، والأواب: شديد الأوب، أي: الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.

وضع اليد على الصدر في الصلاة

وضع اليد على الصدر في الصلاة Q ماذا على المصلي إذا لم يضع يديه على صدره؟ متى يضعها؟ وهو ساجد، أو جالس، أو راكع، أو ارتفع من الركوع، أو في القراءة؟ لأنا نظرنا إلى بعض الناس يضعون أيديهم في محلات لا ندري عنها. المهم: إذا كان عند القيام قبل أن يركع، فهذه هي السنة، وقد ذكرها الإمام مالك رحمه الله في موطئه، وهو حجة على المالكية الذين يسدلون، وكما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: لا نترك ما أورده مالك بخطه في موطئه لما كتبه خليل وغيره. والعجيب! أن البخاري ومسلم وجميع علماء السنة لم يرووا حديث وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة إلا من طريق مالك، وسندهم الوحيد هو من طريق مالك، كل علماء الحديث يروون حديث القبض أو وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة من طريق مالك، فهذه سنة، ولكن لنعلم أنها من كمال الهيئة، والصلاة لها هيئة في قيامك للقراءة؛ فهذه هيئتها، وعند ركوعك يدك مفرجة الأصابع على ركبتيك هذه هيئتها، وفي رفعك ترفع يديك حذو منكبيك وترسلهما بجانبيك، فإذا قبضتهما كما يفعل بعض الناس فهي هيئة بعد الرفع مثل الهيئة عند القراءة، وكل ركن في الصلاة له هيئته، فإذا سجدت بسطت كفيك وسجدت بين كفيك في سجودك، وإذا جلست بين السجدتين وضعت كفيك على فخذيك، وهل تضع اليمنى على اليسرى وأنت جالس بين السجدتين؟ لا؛ لأنها خاصة بالقيام، فإذا سجدت تبسط كفيك أمامك، وإذا جلست للتشهد لا تضع اليمنى على اليسرى وأنت جالس للتشهد، بل تضعهما على فخذيك، لكل ركن في الصلاة هيئته. إذاً: وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حال القيام للقراءة هو السنة، ولكن لنعلم أن الصلاة تصح بوضعهما وبدون وضعهما، ولكن السنة وضع اليمنى على اليسرى، وأحب أن أقول ذلك حتى لا يكون وضع اليدين وإرسالهما موضع خلاف ونزاع بين الناس، فالسنة هي أن تفعل ذلك، فإذا رأيت إنساناً لا يفعلها، وتعلم أنه متأثر بقول في مذهبه، فاعذره، ولا ينبغي أن تبالغ بالإنكار عليه، وخاصة إذا كان طالب علم يفهم، وهذه المسألة لا ينبغي أن ندخلها في الخلاف حتى توجد نزاعاً بيننا، بل من وضع يديه فقد عمل بالسنة وهو الأكمل والواجب على كل إنسان، ومن تركها لقول عنده أو تأوّل عنده فلا ينبغي لنا أن نجعل ذلك محل خصام ونزاع وتفريق بين إخواننا، والله تعالى أعلم.

هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم مسدلا؟

هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم مسدلاً؟ Q قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مسدلاً؟ A هذا يقولونه حينما صلى جالساً، فحينما سقط عن الفرس وألم في فخذه وفي حوضه، وكذلك في مرضه صلى جالساً وأسدل يديه، وقلنا: هيئة صلاة الجالس نفس المالكية وغيرهم يذكرون فيها خلاف، هل تجلس كجلستك للتشهد أو تجلس متربعاً؟ فإن جلست جلستك للتشهد قبضت، وإن جلست متربعاً وضعت يديك؛ لأن هيئة المتربع تكفي بأن يعلم بأنه في قراءة، أما إذا جلست جلسة المتشهد فيظن الرائي أنك تتشهد، فتضع يديك على صدرك؛ لأن وضع اليدين علامة على القراءة؛ ولهذا يختلفون في هيئة الصلاة للجالس، فإن صلى متربعاً وضع يديه على كفيه، وهذا هو السدل، أي: في صلاة الجالس، لا في صلاة القائم.

القاعدون

القاعدون Q من هم القاعدون؟ A القاعدون الذين لم يجدوا ما يسافرون عليه: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92] ، هؤلاء بذلوا وسعهم وبكوا أسفاً على أنهم لم يجدوا، وأولئك وجدوا وتخلفوا، والذين وجدوا وجاهدوا مفضلون على هؤلاء، وهؤلاء لهم فضل النية والقصد والحرص.

كفارة اليمين

كفارة اليمين Q هل كفارة اليمين بالتخيير؟ A كفارة الظهار جاءت بالترتيب، ولكن كفارة اليمين جاءت بالتخيير، وهو المعروف عن الأصوليين الواجب المخيّر، ونازع فيه المعتزلة وقالوا: كيف يكون واجباً؟ وكيف يكون على التخيير؟ لأن التخيير يتنافى مع الوجوب، لكن الوجوب في الإلزام، والتخيير في اختيار النوع، إن شئت كفرت بعتق، وإن شئت أطعمت عشرة مساكين، وإن شئت كسوتهم، هذا على باب التخيير.

مواطن رفع اليدين في الصلاة

مواطن رفع اليدين في الصلاة Q ما هي مواطن رفع اليدين في الصلاة؟ A في عدة مواطن: حينما يركع، وعندما يرفع من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، وكذلك إذا قام من الركعة الثانية إلى الثالثة، أما بين السجدتين أو حينما يريد أن يسجد فلا يرفع يديه، وبعضهم يكره ذلك وبعض العلماء يكره رفع الإصبع في التشهد، ويقول: إن قدرت على كسرها فافعل، ولا أدري لماذا قال هذا؟! وقد جاء في الحديث الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في التشهد عقد ثلاثاً وخمسين) . وكان للعرب عقود إشارات بالعدد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وقبض إصبعه في الثالثة) ، أي: مرة ثلاثين، ومرة تسعة وعشرين، وكانت للعرب عقود في الحساب، وأعتقد أنه علم قد اندرس، وعقد الوسطى مع البنصر للثلاثة والخمسين عطف الإبهام على أصلها. وبعضهم يزيد في الحركة بالإصبع ويقولون: توقظ الوسنان، وتطرد الشيطان، وبعضهم يقول: تنبه القلب، لكن نقول: القلب على اليسار وليس على اليمين! على كلٍ، جاء الحديث بالحركة وبالسكون، فيظل رافعاً إصبعه إلى أن يختم الشهادتين أو يختم التشهد أو يسلم، كل ذلك وارد في هذا، فتحريك الإصبع وارد عند بعض العلماء، وتسكين الإصبع وارد عند البعض الآخر، والله تعالى أعلم.

الحديث السابع والعشرون

شرح الأربعين النووية - الحديث السابع والعشرون

شرح حديث: (البر حسن الخلق)

شرح حديث: (البر حسن الخلق) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) رواه مسلم. وعن وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتيت تسأل عن البر؟ قلت: نعم، قال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) حديث حسن، رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن] . يسوق الإمام النووي رحمه الله هذين الحديثين في موضع واحد كحديث واحد لاتحاد موضوعهما، وإن اختلفت الألفاظ والرواة والتخريج، فالأول عن النواس بن سمعان رواه مسلم، والثاني عن وابصة بن معبد رواه أحمد والدارمي، وكلا الحديثين صحيح. الحديث الأول: عن النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك) . والحديث الثاني: عن وابصة، وفي بعض الروايات أنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من قومي، وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة عام الوفود، قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، وحوله أصحابه، فأخذت أتخطى الرقاب لأدنو منه، فقالوا: دونك يا وابصة! هذا رسول الله! فقلت: دعوني أصل إليه، فقال: دعوه، فدنوت منه حتى لمست ركبتاي ركبتيه، فقال: يا وابصة! أخبرك بما جئت تسأل عنه أم تسأل وأخبرك؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! بل أخبرني، فقال: جئت تسأل عن البر والإثم، فقلت: والذي بعثك بالحق! عن هذا جئت أسأل!) ، وهذه الرواية لها نظير في باب الحج حينما (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في مسجد الخيف فأتاه رجلان: أحدهما من ثقيف، والآخر من الأنصار، فقال الحاضرون: قدّموا هذين فإنهما على سفر، فقال الثقفي للأنصاري: سل، وقال الأنصاري للثقفي: سل، فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئتما سألتما، وإن شئتما أخبرتكما عما جئتما تسألان عنه! فقال الأنصاري: بل أخبرنا أنت يا رسول الله! قال: جئت تسأل عن حجك وما لك فيه، وعن خروجك من بيتك تؤم البيت وما لك فيه، وعن طوافك بالبيت، وطوافك بين الصفا والمروة، وعن وقوفك يوم عرفة، وعن حلقك الشعر، وعن رميك الجمرات، وعن نحرك الهدي، قال: والذي بعثك بالحق! عن هذا جئنا نسألك يا رسول الله!) ، فذكر لهما النبي صلى الله عليه وسلم أجر المناسك كلها حتى نهاية الحج، والطواف بالبيت، فقال في آخره: (تطوف بالبيت، ويأتي ملك يربض بكفه بين كتفيك، ويقول لك: استقبل عملاً جديداً، فصحيفتك بيضاء نقية) .

فوائد دلائل النبوة

فوائد دلائل النبوة والأحاديث بهذه الطريقة قد تصدر من النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقوية ليقين السائل، وإظهاراً للمعجزة لأحد الحاضرين ممن تكون عنده بعض الشبه، أو عنده بعض الترددات، فيأتي مثل هذا الأسلوب فيذهب ما في نفسه، ويقوى يقينه، ويجعل عند الناظر أو السامع زيادة إيمان ويقين بالله. وقد روي: (أن أعرابياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو وأصحابه يأكلون، فقال: أنت محمد بن عبد الله؟ قال: نعم، قال: أنت رسول الله؟ قال: نعم، قال: من يشهد لك أنك رسول الله؟ قال: القصعة التي تأكل منها، فرفع القصعة إلى أذنه فسمعها تسبح الله، وتشهد الشهادتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله! فقال: والله! إنها لتسبح، وإنها لتقول: كذا وكذا! فقال رجل آخر: أسمعنيها يا رسول الله! فقال: سمّعه، فأخذها وسمعها، فقال ثالث: أسمعنيها؛ فقال: لا، يكفي شاهدان، حطها) . فـ وابصة أتى وافداً مع قومه، فصار يزاحم حتى يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أن آداب المجلس تمنع من المزاحمة، ولكن للعاطفة وللشعور أحكام فوق الآداب كما يقولون، وقد ثبت أنه جاء نفر ثلاثة إلى مجلس رسول الله صلى عليه وسلم، فرجل وجد فرجة فجلس، ورجل استحى أن يزاحم الناس فجلس من ورائهم، ورجل لم يجد مكاناً فمشى، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى من الله فاستحى الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه) . ونذكر قصة وفد عبد القيس، وهم من الخليج من نهاية الجزيرة من الشرق أو الشمال الشرقي، يسافرون الشهر والشهرين، فلما وصلوا المدينة، إذا بالوفد سرعان ما نزلوا عن رواحلهم، وتركوها وأسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما أميرهم أشج عبد القيس يتريث، ويجمع الإبل ويعقلها، ويجمع المتاع ويسفطه، ثم يعمد إلى عيبته فيخرج أحسن ثيابه، ثم يغتسل ويلبس الثياب الطيبة، ثم يمشي على تؤدة بعد أن وصل أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوقت طويل، فيأتي على طمأنينة، فيجد القوم قد اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً أفسح له بجواره، وقال: (إنك امرؤ فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم، والأناة -فانتهزها فرصة- وقال: يا رسول الله! خلق تخلّقت به أم جبلة جبلني الله عليها؟ قال: بل جبلة جبلك الله عليها، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يرضي الله ويرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فكان الوفد واحداً، ولكن جلهم ما استطاعوا الصبر؛ لأن قلوبهم جياشة بالعاطفة لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد سفر شهرين، وأحدهم استطاع أن يضبط أعصابه، وأن يتحكم في عاطفته، فأتى بتأنٍ. فهذا وابصة يتخطى الناس، وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه قال: (جئت يا رسول الله! وأنا أريد ألا أدع براً ولا إثماً إلا سألت عنه، فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بادره رسول الله فقال: تخبر أم أخبرك أنا؟) ، وهذا من المعجزات التي كانت تتجدد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض روايات وابصة أنه قال: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع أصابعه الثلاث -ولم يذكر لنا أحد كيفية جمعها- ودفع بها في صدري وقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس) إلى آخر الحديث، ودفعه في الصدر تنبيه للقلب. وهذا الحديث برواياته يدل على مدى شفافية قلب المؤمن، ومدى إشعاع نور الإيمان والبصيرة في قلبه، وهو يرد الإنسان المؤمن حقاً إلى فطرته التي فطره الله عليها، ولذا جاء في الأثر: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله) .

معنى البر

معنى البر في هذين الحديثين يبين لنا صلى الله عليه وسلم بكلمتين: (البر حسن الخلق) ، (الإثم ما حاك في النفس) ، ويقابل صلى الله عليه وسلم بين معنيين متضادين، وكلاهما جمع باباً بجميع فروعه. يقولون: البر من أسماء الجنة كما قال الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، وقد يكون اسماً جامعاً لجميع أعمال الخير كما قال الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} [المائدة:2] ، وانظر المقابلة! قالوا: البر ما كان للخلق في التعامل: من اللطف، والمسايرة، والمجاملة، وطلاقة الوجه، واصطناع المعروف، وغير ذلك، والتقوى: ما كان بينك وبين الله، فتجمع بين الأمرين: حسن المعاملة بينك وبين الخلق، وبينك وبين الخالق، أو أن البر أمر إيجابي في فعل المعروف، والتقوى أمر سلبي في اجتناب المحرمات، أي: تعاونوا على فعل المأمورات، وتعاونوا على ترك المنهيات، فبفعل المأمورات تأتون على البر، وبترك المنكرات تأتون على التقوى؛ لأن التقوى اتخاذ الوقاية بترك المعاصي، ويقابلها قوله: {ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ} [المائدة:2] أي: من الذنوب التي بين الإنسان وبين ربه، {والْعُدْوَان} [المائدة:2] أي: من الذنوب التي تتعلق بحقوق الآخرين. وقال بعض العلماء: البر فضائل الأعمال، وقيل: البر كل ما كان فيه قربة لله من الفرائض والمندوبات والنوافل. قال الشاعر ويروى عن عمر: أبني إن البر شيء هين وجه طليق وقول لين وفي رواية للبيت أخرى: أبني إن البر شيء هين فعل جميل وقول لين فكلاهما علامة على حسن الخلق. قوله: (البر حسن الخلق) يقول علماء النحو: مبتدأ وخبر، ويقول علماء البيان: جملة اسمية إسنادية من باب القصر؛ لأن كلاً منهما معرّف، فالبر معرّف بأل، وحسن الخلق معرّف بالإضافة، وعلماء الكلام يقولون: محمول وموضوع، ويقول علماء البيان: قصر البر في حسن الخلق، وعندهم القصر: حقيقي ومجازي، فمن أي النوعين هذا الحديث؟ هل هو قصر حقيقي أو هو من باب المجاز أو أن المعنى أكثر البر حسن الخلق؟

حسن الخلق

حسن الخلق يقول بعض العلماء: الشريعة الإسلامية كلها حسن الخلق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، وهو الوصف الكاشف الذي تميز به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء في كتاب الله كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، (فهذا الوصف) عنوان كلي على كمال النبي صلى الله عليه وسلم. سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت للسائل: أتقرأ القرآن؟! قال: نعم، قالت: كان خلقه القرآن) يعني: كان متأدباً بآداب الكتاب الكريم، فيأخذ أوامره، ويترك نواهيه، ويعمل بآدابه وإرشاداته ونصائحه، والقرآن الكريم يحث على هذا الباب كقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ، وقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] ، فكان خلقه القرآن، فكل ما في القرآن: من تعاليم، وآداب، وتوجيهات؛ كانت خلقه صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق) ، وقال: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، فحسن الخلق هو الرسالة المحمدية، قال الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة:177]-الذي هو: حسن الخلق- {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] ، شهادة من الله بأنهم صدقوا في إيمانهم، وصدقوا في أعمالهم، وصدقوا في أقوالهم، فقال: {آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] ، فأركان الإيمان كلها في هذا البر، ثم ذكر فروع وأركان الإسلام، ثم ذكر مكارم الأخلاق من الصبر في البأساء والضراء وحين البأس، ثم تأتي شهادة الله لهم بالصدق، فهذه الآية: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:177] إلى آخر تلك الصفات هي البر، فإذاً: البر حسن الخلق، ولو أخذت كلمة: (حسن الخلق) ، وجئت بهذه الآية: (ولكن البر) في الحديث، لحلت محل حسن الخلق، فالبر حسن الخلق، والآية ذكرت الإيمان والعقائد والأعمال الصالحة والأقوال الطيبة ومكارم الأخلاق، فكل هذه الصفات تدخل في الآية، فيكون حسن الخلق عنواناً لكل ما جاءت به الشريعة الإسلامية، ومصداق هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) . وإذا نظر الإنسان فإنه صلته بربه في طاعته وامتثال أوامره، وصلته بالناس في معاملاتهم، وكيف يعامل الناس؟ قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسن الخلق يذيب الذنوب كما تذيب الشمس الجليد، وسوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) . ومن حسن الخلق قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، فلا ينفعك أن تنفق مثل جبل أحد ذهباً مع المن والإيذاء، قال الله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، ولكن قل كلمة طيبة: الله يوسع علينا وعليك، الله يفتح علينا وما ننساك، الله يكرمنا وإياك، فضل الله واسع، دون مؤاخذة لم يبق في يدي شيء الآن، كلمة طيبة يسمعها منك السائل أو المسكين، وإذا لم يكن في المال سعة فأقل شيء الكلمة الطيبة، والابتسامة، وطلاقة الوجه.

الخلق الكريم وسط بين رذيلتين

الخلق الكريم وسط بين رذيلتين وكلمة حسن الخلق لا يستطيع الإنسان أن يوفيها حقها، ويقول علماء الأخلاق: كل فضيلة تجدها وسطاً بين طرفي الإفراط والتفريط، فمكارم الأخلاق هي الفضيلة الوسطى، وهي الصراط المستقيم بين طرفين مذمومين، فمثلاً: كرم المال تجده وسطاً بين التقتير والتبذير، فالشخص الذي ينفق ماله بغير وجه حق يقال: هذا سفيه مضيع ماله، والذي يمسك ماله عن كل وجه حق يقال: هذا بخيل مقتر حتى على نفسه، ولكن الشخص الوسط في نفقاته، هو شخص كريمٌ في محله. والشجاعة وسط بين رذيلتين: بين الجبن والإحجام وبين التهور وعدم التبصر في العواقب، لكن من أقدم حينما يكون للإقدام محل، ويفر ويرجع حينما يكون للفرار محل، فهو الشجاع. وكذلك الحلم له موضع، وللسيف موضع، وللتأنيب موضع، فكل مكارم الأخلاق وفضائلها وسط بين طرفين مذمومين، إما إفراط أو تفريط. وهذا الحديث في بلاغته مع إيجازه من كبريات الإعجاز في التعبير النبوي، فإنه يجمع التشريع كله في كلمتين متقابلتين: برٌ وإثمٌ.

طمأنينة النفس

طمأنينة النفس وقال في حديث وابصة: (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، فذكر هذا الميزان، وهذا المقياس، فاطمئنان النفس يدل على حل الشيء، وعدم الطمأنينة بالشيء يدل على الإثم، وجاء في بعض الآثار: (إياك وحزَّاز القلوب، أو حوّاز القلوب) ، وحزاز القلوب هو: الشيء الذي يحز في النفس ولا تتحمله، ويورث قلقاً واضطراباً، وحوّاز: من الحوز، أي: الذي يشتمل على القلب ويغلب عليه. وقد يشكل هذا الحديث على بعض الناس فيقول: هل نرجع في بيان الحلال والحرام والبر والإثم إلى النفوس؟ وأي تلك النفوس؟ وأي مقياس لها؟ قال العلماء: لا، لا تنس الحديث الذي تقدم: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور متشابهات) ، إذاً: طلب طمأنينة القلب والنفس عند عدم الركون إلى أحد الجانبين، وفيما هو وسط بين الطرفين الواضحين، فالحلال بيّن ليس فيه تردد، والحرام بيّن ليس فيه تردد، ولكن بينهما أمور شفافة دقيقة رقيقة لا تتضح لكل إنسان، فهي مشتبهات متموجة، (لا يعلمهن كثير من الناس) ، فإذا كان الإنسان أمام أمر فلينظر -بإجماع المسلمين- هل فيه نص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً} [النساء:65]-أي: ضيقاً- {مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ؛ ولهذا كم من موقف كان الحق ثقيلاً على المؤمنين، ولم تطمئن إليه نفوسهم كقوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] ، فهم لم يكونوا يريدون القتال في بدر، بل يريدون الغنيمة، ولكن الله أراد شيئاً آخر، ولذا قال سعد بن معاذ: (يا رسول الله! امض لما أمرك الله، فلعلك خرجت تريد أمراً، والله يريد أمراً غيره، فامض إلى ما أراد الله يا رسول الله!) . وكانوا في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) فهل بادروا بالتحلل؟ لا، بل وقفوا وقالوا: (يا رسول الله! أي الحل؟! قال: الحل كله، قالوا: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟) ، كانوا مستنكرين هذا، وأخيراً شرح الله صدورهم وأطاعوا. وفي صلح الحديبية ذهب عثمان رضي الله تعالى عنه ليفاوض قريشاً، ويخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء معتمراً، وما جاء مقاتلاً، فتأخر عليهم، وأشيع أنهم قتلوه، فماذا فعل الرسول؟ بايع أصحابه على الموت أو على ألا يفروا، فبايعوا جميعاً، وهي بيعة الرضوان التي كانت تحت الشجرة، وقد ذكرها الله في كتابه، ثم انكشف أن عثمان لم يقتل، وحينما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بايعوني، أخذ بيده الأخرى، وقال: وهذه عن عثمان) ، وهل يبايع عن عثمان وهو ميت، أو فعل ذلك إشعاراً بأن عثمان لم يمت؟ الله أعلم، ولكن يسر الله سبحانه وتعالى تلك البيعة، وسجل لهم ذلك الفخر والفضل في القرآن. وبعد هذا جاء سهيل بن عمرو للمفاوضة، وقبل صلى الله عليه وسلم ما شرطوا عليه، وماذا كان موقف عمر؟ جاء إلى أبي بكر وقال: (ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! لماذا لا نقاتلهم؟!) فهل كان عمر راضياً بهذه البيعة؟ وهل اطمأنت نفسه لها؟ لا، فهو كان يتطلع لشيء آخر، لكن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: (يا عمر! إنه رسول الله) ، يعني: هو يمشي بوحي من الله، فلا تعترض يا عمر! ؛ لأنه من عند الله، لكن عمر يأخذه الحماس، ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعيد الكرة عليه، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! أنا عبد الله ولن يضيعني الله) ، قال عمر: (والله! لم أزل أصوم وأتصدق وأعتق تكفيراً لتلك الكلمة) ، ثم أنزل الله سورة الفتح وفيها: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح:27] ، وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:1] ، أي: لا تقدموا الآراء والاقتراحات، فهذا رسول الله، وقد سمى الله هذا الصلح فتحاً مبيناً.

متى يرجع إلى طمأنينة القلب؟

متى يرجع إلى طمأنينة القلب؟ إذاً: حينما يكون الأمر فيه نص من كتاب أو سنة رسول الله، فليس لاستفتاء القلب محل، ولا لاستفتاء عالم من العلماء مدخل؛ لأن النص في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي على ذلك، ولكن إذا لم يكن في الأمر نص، من الحوادث التي تتجدد، أو أن النص مجمل، أو يوجد نص آخر يعارضه في الظاهر، ولا تستطيع الجمع بين النصوص، ولا معرفة الراجح، ولا يعرف ذلك إلا النقاد الحذاق من العلماء الذين جعل الله في قلوبهم شفافية، فهنا إذا كنت في أمر خفي لم يطلع عليه أحد، (استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، مثلاً: يتخاصم اثنان إلى القاضي، والله يعلم المحق من المبطل، والقاضي بشر قد يخطئ، وقد قال سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: (إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر أقضي لكم على نحو ما أسمع، فلعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر، فأقضي له على نحو ما سمعت، فمن حكمت له أو قطعت له شيئاً من حق أخيه إنما أقتطع له قطعة من النار!) ، فقد يدخل خصمان على الحاكم، وهو لا يعلم الغيب، فيأتي أحدهما بشهود زور، أو بينة مزورة، ويقضي القاضي بظاهر الأمر، والقاضي لا يحكم حتى بعلمه، فيحكم القاضي، والخصمان هما اللذان يعلمان حقيقة الأمر، وهل الحكم حق أم لا، والقاضي معذور في حكمه بالظاهر، فإن: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، فإذا خرج الخصمان بحكم صدر من القاضي، والمحكوم له يعلم يقيناً في قرارة نفسه أنه مبطل، فهل يحق له أن يأخذ ما حكم به القاضي؟ لا، وحينها يستفتي نفسه، فهل تطمئن نفسه إلى ما حكم به القاضي؟ لا والله! فهو يذهب إلى البيت ولا يستقر قراره؛ لأنه أولاً كان ظالماً، والآن هو ظلوم وظلام، أول الأمر كان يظلم نفسه، ويظلم خصمه، والآن ظلم القاضي وظلم الشهود، ولذا يقول العلماء جميعاً ما عدا الأحناف: حكم الحاكم لا يحل حراماً، وعند الأحناف أنه إذا قضى الحاكم فالمحكوم له الظاهر، لكن إذا كان يعلم في حقيقة الأمر أن المال ليس حقه، فكيف نقول حكم الحاكم يحله له؟! والله! لا تهضمها النفس أبداً. إذاً: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) . ورجوع الإنسان إلى قلبه، على أي ميزان يكون؟ لا يوجد مقياس مليمتري، ولا ميزان بالدرهم والشعرة والذرة، لا، إنما يرجع في ذلك إلى نور الإيمان في قلب المؤمن، وإلى الفطرة التي فطره الله عليها، والفطرة إن تركت على ما كانت عليه، فهي تهدي إلى الخير، أما إذا اعترتها العوارض، واجتالتها الشياطين، فلا يرجع إليها، وقد جاء في الحديث: (إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم) ، فعند ذلك تأتي الشبهات، ويأتي أكل الحرام، ويغلف هذا القلب، ويطمس هذا النور. حينما قال سعد بن أبي وقاص: (يا رسول الله! سل الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال: أطب مطعمك تستجب دعوتك) ؛ لأن الجسم ينبت على الطعام، فإذا كان الطعام حلالاً نبت الجسم شفافاً، ليس كالزجاج، ولكن لا يكون كثيفاً بالظلمات، فيكون القلب على فطرته ونوره كما جاء في الحديث.

مثل نور الإيمان في القلب

مثل نور الإيمان في القلب الإيمان في القلب كنور السراج داخل السراج، وكلما أديت العبادة لله كلما ازداد نور السراج، كما ضرب الله مثلاً للنور في قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: زيتها صافٍ معتدل، لا شرقية تسطع فيها الشمس من الصباح، ولا غربية من الزوال إلى الغروب، ولكن بين بين، تأخذ من ضوء الشمس ما يكفيها، ولا تتأثر بحرارتها، فتكون أطيب زيتاً، {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: نور الفطرة، ونور العمل الصالح يذكيان هذا السراج، فإذا أذنب ذنباً نكت فيه نكتة سوداء، فإذا أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى، وهكذا حتى يتغلف القلب، كما قال الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، ولا يزيل هذا الران، وينقي تلك النكت السوداء إلا حرارة الندم، والتوبة، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى. والقلب حينما يكون على الفطرة وعلى الحالة الأولى، إذا عرض له شيء تكون حساسيته شديدة، وقد يسميها بعض الناس: الحاسة السادسة، ونحن نسميها: حاسة الإيمان، وحاسة اليقين، فنور البصيرة تضيء للعبد طريقه. ومن أمثلة الحاسات المعنوية التي لا ندرك كنهها، قصة الصديق رضي الله تعالى عنه عندما جاءه غلامه بطعام، فاستنكر الطعام، طعام يأتيه غلامه به فيستنكر هذا الطعام! ليس فيه مرارة ولا ملوحة ولا حرارة ولا حريف ولا شيء؛ لكن أحس أن فيه شبهة، عنده حساسية حلال وحرام، ليس حساسية حلو ومر وحامض ومالح، بل حساسية حلال وحرام، وجسم الإنسان ليس فيه خلايا الحلال والحرام، لكن فيه خلايا الذوق في طرف اللسان، فيميز الحلو والمر والمالح والحامض وكل شيء بطرف اللسان فقط، لكن الجسم ليس فيه خلايا حلال وحرام، لكن نور الإيمان هو الذي يبصرها، فقال للخادم: من أين هذا الطعام الذي جئتني به؟! انظروا! (الإثم ما حاك في الصدر) ، فقال: كنت في الجاهلية تكهنت لرجل ووعدني بكهانتي، ووالله! ما كنت أعرف الكهانة، ولكني نصبت عليه، فلقيني فأعطاني، فاشتريت به هذا الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ، (ونهى عن حلوان الكاهن) ، فكيف ينهى عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم يشتري به لـ أبي بكر؟ فاستقاءه أبو بكر، وأخرجه من بطنه! وكذلك عمر لما جاءه غلامه بحليب، فاستنكر طعم هذا الحليب، وقال: من أين هذا؟ فقال: أرسلتني لآتيك بحليب من إبلك، فذهبت فإذا الراعي قد أبعد، فوجدت في طريقي إبل الصدقة، فقلت: احلبوا لي، فحلبوا لي، فهذا حليب من إبل الصدقة، وعمر لا تحل له الصدقة، فوضع أصبعه في جوفه فتقيأ! نرجع إلى الحديث، قوله: (البر ما اطمأنت إليه النفس) الطمأنينة متى يرجع إليها؟ يرجع إليها حينما لا يكون نص في المسألة، أما عند النص فلا. وما هي النفوس التي ينظر في طمأنينتها؟ هي النفوس المؤمنة؛ ولهذا قال في المقابل: (والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، وبعض الأشخاص يرتكبون الأعمال السيئة، ولا يستترون من الناس أو فيما بينهم، ولو فعل أحدهم شيئاً من المنكر، وكان معه بعض زملائه الذين على شاكلته، لا يكره أن يطلعوا عليه، حتى أن بعضهم لم يطلع عليه أحد ثم يأتي ويتفاخر بالمعصية عند زملائه عياذاً بالله! فيحكي بعضهم لبعض ماذا كان من أمرهم، يسافر أحدهم إلى بلد ما للمعصية، ويستر الله عليه، ثم يأتي لزملائه وأمثاله فيخبرهم بما صنع، ولا يستحي منهم، وفي الحديث: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فالمسلم يستحي مِن أهل الحياء، ومن أهل المروءة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استح من الله كما تستحي من رجلين من ذوي المروءة من قومك) . فقوله: (البر ما اطمأنت إليه النفس) أي: إذا لم يكن في المسألة نص، وترددت المسألة بين الحلال والحرام، فلينظر هل تطمئن النفس بفعل ذلك أم لا؟

معرفة طمأنينة القلب

معرفة طمأنينة القلب في الرواية الأخيرة أن وابصة قال: وكيف ذلك؟ أي: كيف أعرف أن قلبي قد اطمأن؟ فقال: (ضع يدك على قلبك، فإن القلب يطمئن للحلال، ولا يطمئن للحرام) ، والآن عند التحقيق مع المجرم يضع المحقق يده في قلب المتهم مثل الطبيب الذي يكشف عليه، فإذا وجه إليه سؤالاً في صميم الموضوع نبض قلبه بسرعة، وإذا كان السؤال بعيداً عن الموضوع وليس فيه ريبة، فإن النبض معتدل، فيستدل بتغير نبضات القلب مع تغير الأسئلة على حالته النفسية وعلاقته بالجرم، وهذا مذكور في علم الجنايات. وهنا نأتي إلى لفتة صغيرة لإخواننا طلبة العلم الذين يجدون في أنفسهم الكفاءة للاجتهاد، ويعرضون عن فهم السلف رحمهم الله، ويستبدون بآرائهم في الفقه والفتوى حينما تكون المسألة لا نص فيها، أو فيها خلاف كثير، فنقول لهم: لا ينبغي لكم هذا، لا سيما في معرض الاستفتاء، فلو قدر أنه اجتمع الأئمة الأربعة وأصحابهم وأنت معهم، وعرضت قضية لا نص فيها، وتردد فيها النظر، فرجعت الفتوى إلى القلب، فأي القلوب أولى أن نأخذ بطمأنينتها؟ قلوب السلف بلا ريب، فلو مرت مسألة ليس فيها نص على سلف الأمة، واجتهدوا فيها وأفتوا، وكانت الفتوى صادرة بما اطمأنت إليه قلوبهم، فإذا عرضت عليك اليوم هذه المسألة، واستفتيت قلبك، وكان لك رأي فيها، ولسلف الأمة ذوي القلوب الحية والقلوب المستنيرة رأي فيها، وخالف رأيك رأيهم فيها، فما هو الحكم؟ وما الذي ترجح؟ وما الذي تعمل؟ هل تأخذ بفتوى قلبك وطمأنينته أو بفتوى أولئك الأخيار الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير؟ تأخذ بفتوى السلف، فكلنا يعلم بمدى تقواهم، ومدى ورعهم، ومدى علمهم، ومدى فتح الله عليهم، ولو قيس علمنا بأولئك ما وصلنا إلى عشر علمهم وتقواهم، فماذا نفعل؟ هل نضرب بأقوال سلف الأمة عرض الحائط، ويقول القائل: أنا نفسي مطمئنة لهذا؟ لا، فيجب عليك أن تحتقر نفسك، ولا تتبع هواك؛ لأنه إذا كانت المسألة متوقفة على طمأنينة القلوب، فأولى المقاييس هي: قلوب الصالحين من سلف هذه الأمة، فإذا كان لهم رأي، وأنت لك رأي مغاير لآرائهم، فهل تتهم رأيك أو تتهمهم؟ فعلى طالب العلم قبل أن يستبد بحكم مسألة أو رأي أن يستنير بأقوال السلف، وينظر ماذا قالوا فيها، وما هي وجهة نظرهم. يقول بعض العوام: الحيوان يعرف البر من الإثم! وذلك بالطمأنينة والقلق، فسمعت من بعض كبار السن يقول: الغنمة تعرف الحلال والحرام، فقلت: كيف هذا؟! قال: هل عندكم غنم؟ قلت: عندنا، قال: وهل الجيران عندهم غنم؟ قلت: عندهم، قال: ارم البرسيم في الشارع، فيجتمع غنم الشارع كله ويأكل منه، وتجد الغنم حق الناس تجري، وغنمكم واقفة، لماذا؟ لأن غنمك تعرف أنه برسيمك، وغنم الجيران تعرف أنها معتدية وليس لها حق فيه، وهذا كلام صحيح. قال: حتى القطة إذا كنت تأكل، وجاءت إليك فأعطيتها، فإنها تأكل بجانبك، لكن لو خطفت منك شيئاً، فهي تعرف أنه ليس لها حق فيه، فتشرد بها، لتأكلها بعيداً عنك!! إذاً: الحيوان يدرك الحلال من الحرام، والحلال البين ليس فيه استفتاء، والحرام البين ليس فيه استفتاء، ولكن الاستفتاء فيما كان بينهما، وهذه المنزلة والمرتبة -كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه-: شفافة جداً،ومقياسها التحرج، قال عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ، فإذا حصل في النفس حزازة، وحصل في النفس احتكاك، والصدر ليس بقادر أن يستريح بها، فاتركها، وإذا تركتها استرحت. وقوله عليه الصلاة والسلام: (وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، هذه مسألة نسبية، ولكن الإنسان من جبلته ألا يمتنع أن يرى الناس منه العمل الحسن، ويكره أن يرى الناس منه العمل السيئ، فهذا الحديث يعتبر مقياساً لشفافية القلوب فيما بينها وبين الله. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا ونواصيكم إلى الحق، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تنبيه

تنبيه روي في بعض الكتب عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه سئل عن السند، وعن الرواية، عن النص، وعن والاجتهاد والتقليد، فقال رحمه الله: إن جاءنا عن الله فنعم، وإن جاءنا عن رسول الله فنعم، وإن جاءنا عن صحابي من أصحاب رسول الله فنعم، لكن إن جاء عن تابعي فهم رجال ونحن رجال، فنقول: كلام حق وصحيح بالنسبة له، فهو توفي سنة مئة وخمسين هجرية، ويوم وفاته هو مولد الشافعي، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ، فـ أبو حنيفة كان في وسط القرون الخيرة، فإذا كان الأمر كذلك فله حق أن يقول: الكتاب والسنة والصحابة على العين والرأس، وأما التابعون فهم رجال ونحن رجال، فهو من طبقة أتباع التابعين، وبعض الأحناف يدعي أنه تابعي، وأنه رأى بعض الصحابة، والآخرون يخالفونهم في ذلك، فليكن ما يكون، فإذا قال: هم رجال ونحن رجال، فهو من عصر أولئك الرجال، لكن نحن الآن لا نقول: نحن رجال وهم رجال، قال الشاعر: وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس كيف تقول الآن: نحن رجال وهم رجال؟! والله! ما أدري أي رجل هذا؟ أنا أعجب لمن يقول هذا في هذا الوقت الحاضر! أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كانوا يبيتون ليلهم في عبادة يعلمها الله، قيل عن الشافعي: إنه صلى الفجر بوضوء العشاء عند مالك فكيف نقول: هم رجال ونحن رجال؟ والله! هم رجال ونحن عيال! ولو قبلوا أن نكون عيالاً معهم لكانت نعمة كبرى. وهذا الموضوع يثير شعور الإنسان؛ لأني أسمع عن أشخاص كثيرين أنهم يتجرءون في هذا الباب، وأنصح كل طالب علم أن يحتاط، وأن يوقر السلف، وأن يعرف قدر نفسه، وما عنده من علم، وأن يستنير بنور السابقين، والله تعالى أعلم.

الحديث الثامن والعشرون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن والعشرون [1]

شرح حديث: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب)

شرح حديث: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين. وبعد: عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. إن لهذا الحديث شأن عظيم، وهو حديث جامع، ويعطي صورة مشرقة لذلك الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والوقت الذي قيل فيه كان بعد عودته صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، وجاء في بعض آثار وطرق هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد، وخطب الناس، قال أنس وغيره: (كأنه يودع الأموات والأحياء) .

من صفات المؤمنين لين قلوبهم لذكر الله

من صفات المؤمنين لين قلوبهم لذكر الله جاء في بعض الآثار: أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الصبح صعد المنبر وخطب الناس بهذه الموعظة البليغة، وأثر ذلك فيهم الحسن: بلاغة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولحسن استماع أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وكانت النتيجة كما قال العرباض: (وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) . هذا الوصف -أيها الإخوة- يقف الناس منه اليوم على طرفي نقيض، ومن صفات المؤمنين ما ذكره العرباض: وجل القلوب عند ذكر الله، وذرف الدموع مخافة من الله، وقد قال في بيان صفة المؤمنين: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] . وجاء في بيان قسوة القلب، وضرب ذلك المثل بالحجارة، فقال الله سبحانه وتعالى مبيناً حال قلوب القساة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] ، وجاء في وصف كتاب الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [الحشر:21] ، وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، حقاً: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] . وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في بيان السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ، وجاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يَعِسُّ بالمدينة ليلاً، فسمع قارئاً يقرأ داخل البيت، فتأثر عمر حتى حمل إلى بيته، وصار الناس يزورونه في بيته وما به مرض! ومن قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما طلب من بعض أصحابه أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ حتى جاء إلى الآية الكريمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] ، فقال: (حسبك، قال: فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم تذرف دموعه) . وهكذا -أيها الإخوة- يكون حال المؤمن إذا ذُكر الله عنده، وإذا ذَكر الله في نفسه، وإذا سمع القرآن الكريم، المؤمن حقاً يكون صافي القلب، ويقشعر جلده ويلين لذكر الله. أما من ران قلبه بالمعاصي، وحجب عن نور الإيمان فإنه لا يتأثر، ولا يكون لآيات الله ولا لذكر الله عنده تأثير، وكما أشرت فالناس في هذا الباب على طرفي نقيض: رجل قاسي القلب، وآخر يتصنع الخشوع والبكاء، والأمر يبقى على حقيقته عندما يكون العبد ملتزماً بكتاب الله وسنة رسوله حقاً، فإنه بلا شك يتأثر إذا سمع كتاب الله، وإذا كان مدعياً ذلك بغير حق فإنه كما يقال: لابس ثوب عارية، وثوب العارية شفاف لا يقي ولا يستر. وطريق الخشوع ما بينه العلماء أن الإنسان إذا قرأ كتاب الله، وتلا آياته، أمعن فيها، وبذلك يصل إلى قلبه، ويعي ما يقول، وبهذا يتأثر بما يقرأ، وكان بعض السلف يقوم الليل يقرأ، فتوقفه آية يظل يرددها حتى يطلع الفجر! وهكذا هنا قال الراوي: (موعظة بليغة) ، ومن أبلغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ موعظة يسمعها أصحاب رسول الله، ومن خير من أصحاب رسول الله؟ أولئك الذين أشربت قلوبهم الإيمان بالله وبرسوله، وأولئك الذي زادت شفافية قلوبهم وأرواحهم، وتأثروا فعلاً بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. يأتي حنظلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (نافق حنظلة يا رسول الله! قال: وما ذاك؟! قال: نكون عندك فتذكرنا وتعظنا، فتذرف الدموع، وتخشع القلوب، فإذا انقلبنا إلى بيوتنا وعافسنا الأهل، نسينا ذلك كله، فقال صلى الله عليه وسلم: ساعة وساعة يا حنظلة! والله! لو دمتم على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرق، ولزارتكم في البيوت) ، نعم ساعة فساعة! وأي ساعة أجلّ وأعظم وأعلى من ساعة يقضونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! يقول ابن مسعود: (والله! لقد أنكرنا قلوبنا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولما ندفنه بعد) . هكذا يبيّن لنا العرباض رضي الله تعالى عنه أثر الموعظة البليغة من النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، والواجب على المسلم حقاً أن يجعل لنفسه ساعة يخلو فيها بربه، ويخلو مع نفسه، كما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لبعض أصحابه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) ، أليسوا مؤمنين؟! بلى، ولكن ليزدادوا من الإيمان، ويجددوا اليقين بما يتذاكرون من آيات الله، فحبذا لو يجعل الفرد لنفسه ساعة من الليل حينما تنام العيون، ويغفل الناس، فيتآنس مع ربه في ذكره لآياته، وشكره لآلائه، فوالله! ثم والله! إنها لأسعد لحظات في حياة الإنسان، وحينما يجد اللذة والحلاوة في تلك المناجاة الكريمة ينسى الدنيا بما فيها، ويكفي بياناً لذلك أن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه! إنها حلاوة المناجاة بينه وبين الله، ولذة القيام في تلك اللحظات؛ ولذا يقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!!) شكراً لله على نعمائه يقوم بذلك، وقد قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) .

أهمية الوصية في الإسلام

أهمية الوصية في الإسلام نرجع إلى الماضي البعيد وإلى التاريخ التليد إلى تلك الحالة التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تنبهت قلوبهم، وعلموا بحقيقة الموقف، وأدركوا ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كأنها موعظة مودع -يا رسول الله- فأوصنا! هذا هو المطلب الحقيقي، وهذا هو الفقه والإيمان الحقيقي، أدركوا حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم المغايرة للحالات السابقة معهم، فأجابهم فقال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة) ، وقد أشرنا إلى أهمية الوصية ومنزلتها في الإسلام ,وأنها لا تنطلق إلا عن شفقة ورأفة من الموصي إلى الموصى إليه، والصلة القوية بين (وصى) و (وصى له) ، كلاهما فيه صلة معنوية أو حسية، والإسلام بكامله يأتي بالوصايا، بل أفرد الله تعالى سورة في بيان أهمية الوصية فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] ، حتى إن الشافعي رحمه الله يقول: لو لم ينزل على الناس إلا سورة العصر -أي: في التوجيه والإرشاد والنصح- لكفتهم هذه السورة. والمولى سبحانه يوصي عباده، كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] ، وكذلك جبريل عليه السلام يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال بعض الأنصار: (جئت مع قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدناه قائماً ومعه رجل يحادثه، فأطال القيام معه حتى أشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول قيامه، فلما انصرف عنه الرجل قلت: يا رسول الله! من هذا الرجل الذي أطال القيام معك؟! لقد أشفقت عليك من طول القيام! قال: هل رأيته؟! قلت: نعم، قال: هذا جبريل، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، فجبريل يوصي رسول الله في حق الجار. وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أوصاني جبريل بالسواك) ، وقال: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) ، وكذلك حديث: (إن ربي أوصاني بخمس) ثم ذكر صلة الرحم، وأشياء عديدة، ولقد ألممنا بكثير من الوصايا فيما جمعناه في كتاب (من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم) ، مثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بقوله: (أوصاني خليلي بثلاث: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام) وجاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال له: (إنك رجل ضعيف فلا تطلب الإمارة) ، فأوصاه أيضاً بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والنوم على وتر، وقال له: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) ، والأحاديث كثيرة في باب الوصية، ومن تتبعها وجد حقاً أن الإسلام قد جاءت فيه الوصايا من جميع النواحي.

تفسير سورة العصر

تفسير سورة العصر سورة العصر يوصي الله فيها عباده المؤمنين، فيقول: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1] ، وهل هو وقت صلاة العصر؟ لا، بل المراد به الزمن كله، وهذا أعم وأشمل؛ لأن العصر بمعنى الزمن الذي تقع فيه الأحداث، وفيه الدورة الكونية المتجددة التي ما انتهت إلا وبدأت دورة أخرى، وفيها تعاقب الليل والنهار، وتكرار الجديدين، وأمم تمضي وأمم تأتي ونبات ينبت وثمرة تثمر وإنسان يولد وآخر يموت وعالم البحار والأشجار والأنهار والعالم كله مدروج في ظرف الزمان والمكان، فقوله: {وَالْعَصْرِ} يبين ما في الزمن من آيات تبين قدرة الله سبحانه وتعالى. قال: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] ، وقد أشرنا -أيها الإخوة- أن مبحث القسم في كتاب الله معجزة، وليت من يتصدى لها ويتتبعها، فما من قسم في كتاب الله ومقسم عليه إلا وبينهما ارتباط ومناسبة قوية جداً، وهنا: العصر من حيث هو زمن، سواء كان زمناً كلياً مطلقاً أو زمناً جزئياً محدوداً، فيقسم سبحانه بهذا الزمن الذي هو محل العمل والكسب، والشخص إذا عمل لا يخلو عمله من أحد أمرين: إما أن يكسب في عمله وإما أن يخسر، وإن أعظم خسران للعبد هو في عمره، فهو رأس ماله في حياته، إن اكتسب فيه خيراً فهو رابح، وإن اكتسب فيه شراً فهو خاسر، وتقدم الحديث الذي فيه: (كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) . إذاً: أعظم خسران على الإنسان أن يضيع جزءاً من عمره، ولا يسلم من هذا الخسران أحد قط ولو كان تاجراً رابحاً: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ، فالتاجر إن ربح مال الدنيا فلن يصل إلى غنى قارون، وإن ملك وتسلط فلن يصل إلى ملك فرعون، ولا إلى ملك النمرود الذي كان في عهد إبراهيم عليه السلام، وكما يقال: (ما ملك الدنيا إلا رجلان: أحدهما مسلم، وهو النبي سليمان، والآخر كافر، وهو النمرود) ، وهذا ذو القرنين مكن الله له في الأرض، وأعطاه من كل شيء سبباً، وكل ذلك مضى وانتهى، ولكن الكسب الحقيقي هو ما بين سبحانه: (الإيمان وعمل الصَّالِحَاتِ) ؛ لأن الكسب المادي مدته مدة حياته، فإذا انقضت الحياة انتهى ذلك الكسب والملك، والحياة الحقيقية هي الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] . إذاً: الكسب الحقيقي والسلامة من الخسران حقاً هو بالإيمان والعمل الصالح: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ومن الصالحات ما أفرد وخص في هذه السورة الكريمة: (وَتَوَاصَوْا) أي: يوصي بعضهم بعضاً، وفي هذا أهمية إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن كلاً من المؤمنين يوصي الآخر، وبأي شيء يتواصون؟ (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) ، وفيه كل الخير في الدنيا والآخرة، وفيه كتاب الله وسنة رسوله، وما بعد الحق إلا الضلال، فإذا تواصوا بالحق وتناهوا عن المنكر: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ، وفيها إشارة إلى أن كل من تمسك بالحق، وقام يدعو إليه، ويوصي الناس به، فلابد أن يصيبه ما يحتاج إلى الصبر معه، ويقول الله سبحانه في الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:33-34] ، فالحسنة تكون من جهة الداعي إلى الله، ومن أين تكون السيئات التي تأتي إلى الداعي إلى الله؟ تأتي ممن يدعوهم إلى الخير ولا يهتدي في بادئ الأمر. ثم يقول الله في آخر السياق: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:34-35] ، وهنا يقول: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] . إن هذا الحديث بما فيه من ذكر الوصية بالذات، يجمع كل خير في الدنيا، وكل تشريع إسلامي يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا بلاغة البلغاء، وكما يقول الراوي: (كأنها موعظة مودع) ، والمودع يختصر القول؛ لأنه مقبل على سفر؛ فلذا جمع صلى الله عليه وسلم ما يريد أن يلقيه إلى الأمة في تلك اللحظات الحرجة، وبين ما طلبوه في هذه الكلمة (أوصيكم) أي: استجابة لطلبكم أوصيكم، وحينئذ تنفع الوصية، وتقع وتستقر في القلوب؛ لأنهم هم الذين طلبوها منه.

الوصية بتقوى الله والسمع والطاعة

الوصية بتقوى الله والسمع والطاعة ينبغي للداعية ولطالب العلم أن يتحين المواعظ عند مناسبتها، حتى يجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، فلما طلبوا الوصية بادرهم بها، وجمع لهم كل الخير: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة) ، فجمع بين الأمرين: التقوى في كل حقوق الله سبحانه وتعالى، وإقامة حدوده، والسمع والطاعة في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، ولقد علم أصحاب رسول الله بحقيقة السمع والطاعة، وقد كان من شرط الإسلام والإيمان أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، حتى لو حكم رسول الله في ذوات أنفسهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] ، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] . هكذا مبدأ الإسلام في حفظ نظام الأمة، وحقن دمائها، وصيانة أموالها، والحفاظ على أعراضها؛ لأن الخلاف وعدم السمع والطاعة سيؤدي إلى شقاق ونزاع ثم إلى قتال يفسد العالم؛ ولذا كان يأمر صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لكل أمير يرسله، ينصحه هو بتقوى الله، ويوصي أصحابه بالسمع والطاعة، وهكذا كان المسلمون على هذا المبدأ. ثم بين صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لهذا المبدأ: (ولو تأمر عليكم عبد) ، يا ترى هل للعبد إمارة؟ وهل يكون العبد ولي أمر للمسلمين؟ أجمع المسلمون بأن الخلافة على المسلمين لا تكون إلا للأحرار، ويأتي نص آخر: (الأئمة من قريش) ، ولكن قد يتغلب العبد فيأخذ الولاية، كما حصل في دولة المماليك، والأصل أن الولاية لا تكون إلا في قريش: (الخلفاء من قريش) كما جاء في أثر علي رضي الله تعالى عنه، ولكن قد تصير الخلافة في غير قريش، ففي الحياة تطور، وفي الحياة تغير، فإن تأمر عليكم عبد، وأخذ الإمارة، فالزموا الطاعة! وهذا يكون على سبيل المبالغة، كما جاء في الحديث (من بنى لله بيتاً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) ، وهل مكان القطاة التي تبيت فيه يصلح أن يكون بيتاً لله؟! لا، لكن قالوا: هذا على سبيل المبالغة، ومهما يكن من شيء فإن السمع والطاعة من سيم المسلمين مع أمرائهم، وقد أشرنا أن الله سبحانه وضع المبدأ الذي يتعلق بين الحكام والمحكومين في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ، وهذا واجب الأمراء والحكام. والجانب الثاني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، فهذا مبدأ ارتباط الوالي بالرعية، والرعية بالوالي.

الالتزام بسنة الرسول وخلفائه عند الاختلاف

الالتزام بسنة الرسول وخلفائه عند الاختلاف ثم يحذر صلى الله عليه وسلم من الاختلاف فيقول: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ، فهنا محط الرحل، وموضع الإعجاز، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أن من يعيش ويطول عمره فسيرى الاختلاف بين الناس.

اتخاذ عثمان للأذان الأول يوم الجمعة

اتخاذ عثمان للأذان الأول يوم الجمعة ثم قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، وسنة الخلفاء مثل ما فعله عثمان عندما اتسع العمران في المدينة، فسن عثمان الأذان الأول يوم الجمعة قبل الوقت، وجعل هذا الأذان على الزوراء، وكانت تبعد عن المسجد نحواً من مائتين متراً تقريباً؛ وذلك لأجل أن يرجع الناس من أسواقهم إلى البيوت، ليتهيئوا لأداء الجمعة؛ ولذا يمكن لقائل أن يقول: لعل عثمان رضي الله عنه أخذ ذلك من المصلحة التي تقتضيها. ويمكن أن يستند لهذا الفعل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقد أجمع الفقهاء أن من كان بعيد الدار، ولو مكث في مكانه حتى يسمع النداء لم يدرك الخطبة أو يفوته شيء من الصلاة، فإنه يتعين في حق هذا بالذات أن يسعى إلى ذكر الله قبل النداء إليها، كما في القاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ، فرأى عثمان رضي الله تعالى عنه أن أهل السوق لو بقوا في أسواقهم حتى ينادى للجمعة عند دخول الوقت، فإنه لا يسعهم أن يأتوا إلى صلاة الجمعة من دكاكينهم وأسواقهم، ويحتاجون إلى الرجوع إلى البيوت للاغتسال أو الوضوء، فلم يبق عندهم وقت، فرأى أن يجعل أذاناً قبل الوقت لهذه المصلحة. ومن هنا أخذ الفقهاء أنه إذا اتسعت البلدة فيشرع أن يجعل أكثر من مؤذن، كما قال مالك: إذا اتسع المعسكر فإن على القائد أن يجعل عدة مؤذنين لتنبيه الناس، إلا أذان صلاة المغرب لضيق الوقت. ولذلك شرع الأذان الأول لصلاة الصبح، وهذا من أصل السنة، ويمكن أن يقال: إن عثمان قاس أذان الجمعة على أذان الصبح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سن أذانين للفجر سوى الإقامة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم،) فكان بلال ينادي قبل الفجر، ويجوز بعد ندائه الأكل والشرب للصائم، حتى إذا نادى ابن أم مكتوم أمسك من يريد الصوم عن الأكل والشرب، وقال: (الفجر فجران: فجر يحل فيه الطعام، وتحرم فيه الصلاة، وفجر تحل فيه الصلاة، ويحرم فيه الطعام) ، وهكذا كان الخلفاء الراشدون لهم من السنن ما يستند إليه العلماء فيما بعد.

حكم صلاة ركعتين بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة

حكم صلاة ركعتين بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة وبهذه المناسبة ننبه على كثيراً ما يتساءل الناس عنها ويخلطون فيها وهي: حينما يؤذن المؤذن على المنارة، وقبل أن يصعد الإمام على المنبر، في تلك البرهة لم يعد هناك زمن بين الأذانين، مع أنه في السابق كان هناك زمن يسع لفعل ما، ,نجد الناس جلوساً في المسجد فإذا سمعوا الأذان الأول قاموا فصلوا ركعتين؛ لأن أذان عثمان الذي شرعه في الأسواق نقله بنو أمية إلى باب المسجد، ثم نقله من بعدهم إلى عند المنبر، وأصبح الأذان الأول الذي كان للتنبيه قبل دخول الوقت على باب المسجد بدلاً من السوق، ثم انتقل من باب المسجد إلى عند المنبر، فأصبح أذان الوقت مع الأذان الأول ليس بينهما إلا برهة وجيزة، ومعلوم أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يوجد هذا الأذان، وإنما أذان الوقت والإقامة فقط، ولم يكن هناك متسع لصلاة ركعتين، أما الآن فإذا أذن المؤذن على المنارة قام الناس يركعون ركعتين، فإذا انتهوا من هاتين الركعتين صعد الإمام على المنبر ثم سلم، وقام المؤذن يؤذن أذان الوقت الذي تصح بعده الصلاة، فيتساءل الناس عن هاتين الركعتين اللتين هما بين الأذان على المنارة وبين الأذان الذي بين يدي الخطيب: أهما سنة جمعة؟ نجد ابن القيم يقول عبارة شديدة: من ظن أنها سنة فهو أجهل من حمار أهله! ولكن نجد شيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله يقول: إن هاتين الركعتين ليعلم كل إنسان أنها لم تكن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن إلا أذان واحد، يؤذن المؤذن على سطح المسجد، ويبدأ صلى الله عليه وسلم في الخطبة، فليس هناك مجال للصلاة، والناس يستمعون إلى الخطبة، ولا يقوم أحد للصلاة، ولكن حيث أن عثمان قد أنشأه فهو سنة خليفة راشد، فطالب العلم في حد ذاته لا يفعلها؛ لأنه يعلم يقيناً أنها ليست سنة، أما بقية عوام الناس فهل ينكر عليهم أو يتركهم على ذلك؟ ينظر: إن كان أولئك العوام يرونه موضع ثقة، ويقبلون منه، فإنه يبين لهم، وإن كان لو نهاهم عنها ظنوا أنه ينكر السنة، وسينفرون عنه، ولا يستطيع أن يبين لهم ما هو أهم من ذلك؛ فليتركهم وليلتمس لهم عذراً من عموم قوله صلى الله عليه وسلم (بين كل أذانين صلاة) ، وإن كان الحديث يعني الأذان والإقامة، إلا أن هذا فعل عثمان، وهو فعل خليفة راشد، فنعتبره ونلتمس العذر لعوام الناس. انظر إلى حكمة الدعوة عند ابن تيمية! وانظر إلى شدة القول عند تلميذه! وعلى هذا اعتبر ابن تيمية رحمه الله ما فعله عثمان سنة خليفة راشد، وبهذا تلتمس الأعذار لعوام الناس. ومن سنة الخلفاء الراشدين المهديين أن عمر رضي الله تعالى عنه نهى عن بيع أم الولد، وكان قبله مباحاً، لكنه سمع جلبة وأصوات، فقال: ما هذه الجلبة؟ قالوا: رجل باع أم ولده، وفرق بينها وبين أولادها، فبكى الأولاد لأمهم، فمنع عمر من بيع أم الولد، وجعلها تعتق من رأس ماله، ولو لم يكن عنده سواها، وانعقد إجماع المسلمين أنه لا تباع أم الولد بعد موت مولاها، بل تعتق بعد موت مولاها حالاً، ولو لم يوص بعتقها، ولو لم يكن في تركته سواها. وهكذا رأى عمر رضي الله تعالى عنه عام الرمادة رفع قطع اليد في السرقة، والتمس عذراً للناس، إلى غير ذلك من الأحكام التي انفرد بها الخلفاء الراشدون من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التحذير من البدع والضلالات

التحذير من البدع والضلالات ثم قال عليه الصلاة والسالم: (وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة) ، وهذا التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم يقف عنده العلماء طويلاً، ويبحثون فيه بحثاً وافياً واسعاً، وأوسع من كتب في هذا الباب هو الإمام الشاطبي رحمه الله في كتاب الإعتصام، وكذلك القرافي في الفروق بين السنة والبدعة، فعلى طالب العلم ومريد المعرفة حقاً أن يرجع إلى هذين الكتابين ليعرف حقيقة السنة من البدعة. ومجمل ما يقال في ذلك: إن البدعة، والإبداع، والابتداع، مأخوذة من البِدْع، والبِدْع والبِدْء في اللغة بينهما تقارب، تقول: هذا بدء الشيء، وفلان ابتدأ العمل الفلاني، وتقول: هذا بدع، وفلان ابتدع الأمر الفلاني، وليس بين البدء والبدع إلا العين والهمز، ويقول علماء فقه اللغة: إذا توافقت المادتان في أكثر الحروف واختلفت في حرف واحد، كان بينهما صلة وقرابة في المعنى والدلالة، وبقدر اقتراب الحرفين المختلفين من مخرجهما كان قرب هاتين الكلمتين في المعنى، وإذا نظرنا إلى بدأ وبدع، وجدنا الهمزة والعين من حروف الحلق، تقول: (أء) ، وتقول (أع) ، إلا أن العين أقرب، فكل بدع له ابتداء، وتميز البدع ببدء شيء لا نظير له، أي: وجود شيء على غير مثال سابق، ومنه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ؛ لأن الله بدأ خلقهما على غير مثال سابق، فخلق السماوات والأرض يجتمع فيه البدء والبدع؛ لأن البدء هو بدء خلقهما، والبدع لأنهما على غير مثال سابق. وكذلك قوله سبحانه في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: قد تقدمه رسل متعددون، ولم يكن هو في بداية مجيئه بدعاً على غير مثال، بل سبقه رسل في أمم. وهكذا قالوا: البدعة هي إيجاد شيء ليس له نظير في الشرع، ولم يعرفه الصدر الأول عمن له حق التشريع من كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الخلفاء الراشدين.

تحذير السلف من الابتداع في الدين

تحذير السلف من الابتداع في الدين مدح السلف السنة، وذموا البدعة، والسنة هي الطريقة، كما قال القائل: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها أي: طريقة يلتمسونها. والبدعة لم تكن سنة سابقة، ولكنها أمر جديد لا عهد له من قبل، ولذا قال مالك رحمه الله: من سن سنة وزعم أنها حسنة -يعني: ابتدع شيئاً لم يكن موجوداً وظن أنه حسنة- فقد اتهم محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ الرسالة. وقد ورد عن ابن المبارك أنه قال: من ابتدع بدعة في الإسلام فقد خون رسول الله في الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فبعد الإكمال والإتمام من الذي يدعي النقصان؟! فـ مالك رحمه الله يرى أن من ابتدع في الدين شيئاً وقال: هذا حسن اعملوا به، أو خذوه عني، ولم يكن لهذا الأمر سلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه، فإنه يكون ابتداعاً جديداً في دين الله، والآتي به يلزمه أنه خون رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ؛ لأن الله قال: (أَكْمَلْتُ لَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ، وليس بعد الكمال إكمال، ولا بعد الإتمام إتمام، فالدين قد كمل، فإذا جاء إنسان وقال: خذوا بهذا، فمعنى ذلك: أنه بقي في الدين ثلمة، وهذه تتمتها! فيتعارض مع (أَكْمَلْتُ) و (أَتْمَمْتُ) . قال الإمام مالك قاعدة مشهورة وهي: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم التشديد في البدع حيث قال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: مردود على صاحبه، والعلماء يتكلمون عن المبتدعات في مراتبها وأحكامها، وقد تغلظ البدعة بحسب الزمان أو المكان، فشدد صلى الله عليه وسلم البدعة في خصوص المدينة، ولعن من أحدث فيها بدعة فقال: (لعن الله من أحدث فيها، أو آوى محدثا) ، لماذا؟ لأن المدينة عاصمة الإسلام، وموئل الإيمان، وهو يأرز إليها كما تأرز الحية إلى جحرها، ويأتي إليها المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فلابد أن تبقى المدينة على السنة المطهرة، نيرة واضحة لا تخالطها بدعة؛ لأن من رأى البدعة فيها ظن البدعة سنة. وأشد الناس في التحذير من البدع مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى، ففي ترجمته أن ابن مهدي -وهو من العلماء المشهورين- جاء وصلى في المسجد النبوي في الصف الأول، وألقى رداءه بين يديه، فلما أنهوا الصلاة، أخذ الناس ينظرون إلى الرداء وينظرون إلى مالك فقال: من هنا من الحراس؟ فجاء اثنان، فقال: خذاه إلى الحبس، فذهبا به إلى الحبس، وفي رواية أخرى: جاءه الحراس فقال: إلى أين؟! قالوا: إلى الحبس، قال: لماذا؟! قالوا: بأمر أبي عبد الله، قال: اذهبوا بي إلى أبي عبد الله، فذهب الحراس به إلى أبي عبد الله مالك بن أنس، فقال: تحدث في مسجد رسول الله ما لم يحدثه أحداً قبلك؟! قال: يا أبا عبد الله! إن الجو حار كما ترى، وثقل عليّ ردائي فطرحته بين يدي، قال: آلله ما أردت مخالفة من قبلك؟ قال: والله! ما أردت مخالفة من قبلي! قال: لا تعد لذلك، ولا تحدثن في مسجدنا ما ليس فيه! هكذا يعتبر مالك طرح الرداء بين يديه وهو يصلي حدثاً، ويأمر بفاعله إلى الحبس! ويقول ابن سرحون: في القرن السابع الهجري كان هناك خدام في المسجد النبوي، فإذا أقيمت الصلاة نظروا: فمن صف وحده خلف الصف، ولم ينضم إلى الصفوف الأولى انتظروا حتى يسلم، فيأخذون به إلى الحبس؛ لأنه أحدث في مسجد رسول الله ما ليس منه، ولماذا لا يقف مع الصفوف الأولى؟ وكان من يطرح السجاجيد في الصف الأول ثم يذهب، يأخذونها إلى بيت مال المسلمين، لماذا يحجز في المسجد ما ليس له حق فيه؟ وجاء رجل إلى مالك رحمه الله وقال: أريد أن أحرم من المسجد النبوي، قال: لا تفعل، أحرم من حيث أحرم رسول الله من ذي الحليفة، قال: يا مالك! وما الذي يمنعني أن أحرم من مسجد رسول الله من عند القبر الشريف؟! قال: أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنة في أميال أزيدها؟ قال: هذه هي الفتنة التي أخافها عليك، أن تظن بنفسك أنك سبقت إلى عمل لم يسبقك إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: تظن في نفسك أنك في إحرامك زدت أميالاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى هذه الدقة! ولهذا صدر منه هذا التشديد: (من سن سنة وزعم أنها حسنة، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة) . ولـ مالك في هذا مواقف عديدة، وهو من أوسع الأئمة في سد الذرائع. فمثلاً: كره أن يتبع الصائم ستاً من شوال برمضان، مع أن الحديث فيه: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) ؛ لذا يقول المالكية: لا تجعل صيام الست من شوال عقب رمضان مباشرة، بل وزعها خلال الشهر بعيداً عن رمضان؛ لأن هذا الأصل موجود في السنة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه، أي: مخافة أن يتخذه الناس سنة، ويلازمون عليه فيلحقونه برمضان، فصانت السنة رمضان من أن يزاد في أوله أو يلحق في آخره، فالعيد في آخره يحرم صومه، ويوم الشك في أوله يحرم صومه، ليبقى رمضان على عدته لا يزاد ولا ينقص منه. والله سبحانه يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ، فالذين من قبلنا فرض عليهم صيام رمضان ولكنهم ضيعوه، كما فرضت عليهم الجمعة فضيعوها، وبأي شيء ضيعوا رمضان؟ جاء في بعض الروايات أنهم كانوا يصومون يوماً قبله احتياطاً، ويوماً بعده احتياطاً، ولما طال الزمن أدخلوا الاحتياط في صلب الفرض، وهكذا عدة مرات حتى زادوا فيه خمس مرات، أي: عشرة أيام، وأصبح رمضان عندهم أربعين يوماً، وإذا جاء رمضان في شدة الحر وعجزوا عن صومه، نقلوا الصوم إلى الربيع! وهذا هو صوم النصارى كما نعلم. فرأى مالك رحمه الله مع وجود الحديث كراهية أن يلصق ستاً من شوال برمضان، ويقول الشاطبي: وما خافه مالك قد وقع بالأندلس؛ لأن الأمراء هناك كانوا يلزمون الذين يوقظون الناس للسحور بالبقاء على مراسم الصوم في رمضان ستة أيام من شوال، فإذا انقضت قاموا بشعائر العيد، ولقد أدركنا أشخاصاً يصومون رمضان إلى يوم العيد، ويبدءون الصوم حتى اليوم السابع من شوال، ثم يجعلون اليوم الثامن عيداً! فما خاف منه مالك وقع فيه بعض الناس.

معنى قول عمر: (نعمت البدعة هذه)

معنى قول عمر: (نعمت البدعة هذه) والسنة الحسنة والسنة السيئة هي مجرد تسمية، فهذا عمر رضي الله تعالى عنه جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يصلي التراويح جماعة في رمضان، وعمر جعلها جماعة على إمام واحد، ثم جاء يوماً والناس يصلون خلف إمام واحد فقال: (نعمت البدعة هذه) ، و (نعمت) و (بدعة) كيف يجتمعان، والبدعة ضلالة؟ ويجيب عن ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله: بأن البدعة من حيث اللغة هي: الإيجاد على غير مثال سابق، وعمر هنا وافق أصلاً شرعيا، ً ومن هنا وضع المقياس والميزان، فكل ما وجد بعد زمن رسول الله والخلفاء الراشدين نقيسه على ميزان الشريعة، فإن وافق أصلاً فيها فهو حسن، وهو إحياء لسنة مماتة، وإن خالف فيها الشرع المعلوم بالكتاب والسنة رددناها على صاحبها. أما فعل عمر رضي الله تعالى عنه فقالوا فيه: مجرد الصلاة في ليل رمضان هو قيام الليل، وقيام الليل يشرح طول السنة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1-4] وقيام الليل من حيث هو مشروع، وخصوصاً رمضان، وجاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، ولم يعزم علينا) ، ثم بعد ذلك بين فقال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ، (ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ، ولكن كان الناس في المسجد النبوي يصلون فرادى، ويتتبعون حسن الصوت فيقتدون به، فتجد الرجل الذي يحفظ القرآن يصلي وراءه الخمسة والستة، والآخر يصلي وراءه العشرة والعشرون، كل بحسب صوته وقراءته، فرأى عمر هذه التفرقة فقال: لو جمعتهم على إمام واحد لكان أولى، فجمعهم على أبي بن كعب. فأصل قيام الليل كان مشروعاً، ثم قيام رمضان كان مسنوناً، وأما جمعهم على إمام واحد فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العشاء في العشر الأواخر، ثم قام فصلى في المسجد، وكان يوجد بعض الناس فصلوا بصلاة رسول الله، وفي الليلة التي تليها قام ويوجد بعض الناس في المسجد فصلوا بصلاة رسول الله، فلما كان بعد الليلة الآخرة أشيع في المدينة أن أناساً صلوا بصلاة رسول الله في المسجد، فاجتمع الناس، وبعد أن صلوا العشاء مكثوا في أماكنهم ولم يغادروا، فرأى صلى الله عليه وسلم اجتماع الناس فقال: (يا عائشة! ما شأن الناس مجتمعين؟ أليس قد صلوا العشاء؟! قالت: بلى، ولكن ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون معك كما صلى أقوام معك بالأمس وقبله، قال: أو فعلوها؟! فما خرج عليهم بعد، ومكث في بيته، فانتظروه واستبطئوه حتى أخذوا الحصباء فحصبوا الباب، فلم يخرج إليهم إلا في الفجر، فقال: أيها الناس! ما خفي عليَّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً، ولكني خشيت أن أخرج إليكم وأصلي بكم، فتفرض عليكم فتعجزون عنها) . نعم بالمؤمنين رءوف رحيم! كما راجع ربه في الصلاة ليلة الإسراء من خمسين صلاة إلى خمس صلوات. فلما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى جمعهم عمر رضي الله تعالى عنه، وكما يقول الفقهاء: (الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً) فلما أمنت الفرضية سن عمر أن يقوم الناس على إمام واحد. إذاً: عمر لم يبتدع شيئاً في الدين، ولكن أوجد شيئاً يطابق السنة الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم، والفرق بين ما فعله صلى الله عليه وسلم وما فعله عمر أن في الفعل الأول خشيت الفرضية والعجز، وفي الفعل الثاني لم تخش هناك فرضية، وصارت التراويح على السنة، وصلاة الناس بإمام واحد، وفي جماعة واحدة، مقصد من مقاصد الشرع، وهو توحيد الناس وعدم تفريقهم، وهكذا صارت سنة متبعة إلى اليوم ولله الحمد.

أقسام البدعة

أقسام البدعة وقوله: (إياكم ومحدثات الأمور، فكل محدثة بدعة) ، يختلف العلماء في حد البدعة والقرافي يقسم البدعة إلى الأقسام الخمسة: واجبة ومحرمة ومكروهة ومندوبة ومباحة، ورد الشاطبي هذا التقسيم كله، وقال: لا توجد بدعة إلا ضلالة، أما قول عمر: نعمت البدعة، فإنه أراد بذلك الصورة والهيئة التي لم تكن موجودة من قبل، ولكنه بذلك التشريع موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أن عمر أمر في رمضان أن تسرج المساجد، فجاء علي ووقف وقال: (نور الله عليك قبرك -يا ابن الخطاب - كما نورت مساجدنا) ، وهذا من المصالح العامة، ويقول الشاطبي: لا بدعة حسنة أبداً؛ لأن البدعة في الدين شيء غير موجود من سابق، ولكن يندرج كل جديد فيه مصلحة للأمة تحت باب: المصالح المرسلة، فما لم يكن يخدم باباً من أبواب ضروريات الأمة فليس مشروعاً، وقد يقسم العلماء البدعة من حيث الوجود والظهور إلى قسمين: قسم في عادات الناس أي: في أمور الدنيا، ولا دخل له في العبادة. وقسم في العبادات، والعادات أمور دنيوية، لكن صورتها يجب أن تكون موافقة للشرع مثل كيفية الأكل، لكن أن تأكل خبزاً أو تأكل بسكويتاً، كل ذلك مباح في الدين، ولكن بعض الناس يدخل في البدعة استعمال منخل الدقيق؛ لأنه ترف في الحياة، لكن يقول أحمد رحمه الله: عجبت لمن يترك لين العيش ويذهب إلى خشنه والله يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] ، ولا يوجد أحد حرمها على الناس، فلا شيء في ذلك أبداً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه عندما قدم المدينة، وجدهم يؤبرون النخل فقال: (لم تؤبرونه؟! قالوا: لأجل أن يثمر، قال: لا عليكم إن كتب الله لأحدكم رزقاً جاءه، وإلا فلا، فتركوا التأبير، فجاء النخل كله شيصاً في تلك السنة، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور دنياكم) . ولهذا لا يقول إنسان: إن ركوب السيارة بدعة؛ لأنها لم تكن موجودة، ولا السفر في الطائرات بدعة؛ لأنه لم يكن موجوداً، هذه أمور دنيوية لا يتوقف عليها ثواب ولا عقاب. وكذلك اللباس فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يلبس الجبة أو البردة، ورأى عمر حلة تباع في السوق فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اشتر هذه تلبسها للوفود والأعياد والجمع، فنظر إليها رسول الله وقال: إنما هذا لباس من لا خلاق له) ؛ لأن قماشها حرير، ولكن الجبة من حيث هي جائز لبسها في المناسبات وغيرها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كانت له بردة يصلي بها العيد، وكان يقابل بها الوفود، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (ماذا على أحدكم لو اتخذ ثوباً لجمعته، سوى ثوب مهنته؟) أي: ماذا على أحدكم إذا كان الله قد وسع عليه أن يتخذ ثوباً خاصاً ليوم الجمعة، إظهاراً لنعمة الله عليه في ذلك. إذاً: لا مانع أن يلبس الإنسان ما شاء من أنواع اللباس، ولكن لا يلبس لباساً على هيئة لباس النصارى واليهود، مثل أن يشد زناراً في الوسط، ويشبه بغير المسلمين، وقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن مشابهة اليهود، ونهى الرجال عن التشبه بالنساء، والنساء عن التشبه بالرجال، بل نهى عن مخالطة اليهود والنصارى كما في حديث أبي ثعلبة الخشني: (إنا نكون بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا) ، فبعض العلماء شرح هذا وقال: لأننا إذا جاروناهم وتعاونا معهم، وأخذنا وأعطينا، كانت الألفة والمودة بيننا، ووقع الركون إلى عادتهم، فتسري عاداتهم إلى بيوتنا، وبعضهم يقول: في الحديث تتمة وهي: (أنأكل في آنيتهم وهم يطبخون الخنزير ويشربون الخمر) ، يعني: في تلك الأواني فقال: (لا، إلا ألا تجدوا غيرها، واغسلوها) يعني: اغسلوها غسلاً جيداً ثم كلوا فيها، وفي بعض الروايات: (ولا نجد غيرها) أي: عند الحاجة مع غسلها لا مانع من ذلك. إذاً: التشبه بغير المسلمين لا يجوز، لماذا؟ سداً للذريعة، وهكذا الزيادة في الدين بدعة، هناك نوع من اللباس يضيق فيه الكم يسمى (الكبك) ، لا ينبغي لأحد أن يقول: إنها بدعة؛ لأنها لم تكن في زمن رسول الله، فقد جاء عن المغيرة بن شعبة في غزوة تبوك أنه لما ذهب صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته، وأراد أن يتوضأ قال: (أراد أن يخرج يده من كمه فضاق الكم على يده، فأخرجه من تحت إبطه) إذاً: الجبة التي كان يلبسها صلى الله عليه وسلم ضيقة الكم؛ ولهذا يرى بعض العلماء أن توسيع الكم إلى ذراع أو نصف ذراع بدعة؛ لأنه لم يكن على عهد رسول الله، ولكن يقال: اللباس يخضع لعادة الناس وعرفهم، فيترك ذلك للناس على حسب مصالحهم، وبالله التوفيق.

الحديث الثامن والعشرون [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن والعشرون [2]

التواجد والصراخ عند سماع ذكر الله سبحانه وتعالى

التواجد والصراخ عند سماع ذكر الله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الصادق الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: إذا كنا قد ألممنا بمعنى الحديث إجمالاً، فإن في الحديث مواطن تثير السؤال، وتستوجب الإجابة، ونستعين بالله سبحانه وتعالى على أن نورد ما يسر الله من ذلك: من تلك المواطن: قوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة) ، إلى أي حدود تكون الطاعة؟! ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ، ما نوع هذا الاختلاف؟ وما الفرق بين الاختلاف والمخالفة؟ وما هو موقف كل مسلم من الخلافات الموجودة بين الأئمة الأربعة؟ النقطة الثالثة: ما يوجد من بعض الإخوان من تتبع بعض الشواذ من الأحاديث غير المعمول بها، وإثارة مواضيعها؛ مما يسبب اختلافاً كثيراً بين الناس. وفي حديث العرباض رضي الله تعالى عنه أن تأثير الموعظة البليغة من النبي صلى الله عليه وسلم، هو: أن وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، ويوجد في هذه الآونة بعض الناس إذا سمع موعظة ضعف أمام عاطفته، وأخذ يصرخ ويتواجد، وتأتيه حالات غير عادية، فما حقيقة هذا الموقف؟ هذه النقاط كلها ذات أهمية كبرى، ويتساءل عنها الإخوة من أول يوم تناولنا فيه هذا الحديث بالبيان، وبعد أن انتهى الكلام على مجمل الحديث، نعود إلى تلك النقاط، ونستلهم الله تعالى الرشد، ونستعينه ونستهديه. أما النقطة الأولى حسب الترتيب الإيرادي في الحديث، فهي نقطة أثر الموعظة في قلب المؤمن. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن التواجد عند سماع الذكر أو الموعظة أمر جبلي، وإذا رق قلب المؤمن عند سماع الموعظة أو ذكر الله فقد تعتريه تلك الحالة، ولكن كان الصحابة يسمعون ما هو أعظم مما يسمعه أهل زماننا -أي: في زمنه في القرن السابع والثامن-، ولم يكن لهم تواجد ولا صراخ، فيقول: كانوا أقوى شخصية، وأثبت قدماً، عندما يسمعوا موعظة أو ذكراً، فهم ضبطوا أنفسهم، واستطاعوا السيطرة على عواطفهم وشعورهم، وكان ما يظهر منهم فوق طاقتهم هو ما وصفه العرباض رضي الله تعالى عنه: (وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) . وهكذا يذكر كثير من العلماء -وخاصة المشتغلين بالتربية- أن الشخص الذي يتواجد ضعيف الشخصية، وضعيف التحكم في عواطفه، بحيث تستهويه بعض المواعظ أو بعض الذكر إذا تعرض إلى شيء من هذا القبيل، فالأكمل في الرجال هو القدرة على التحكم في عواطفهم في مثل هذه المواقف، وقد جاء أن من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله: (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ، وقال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، وقال في الآية العظيمة: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .

حكم طاعة ولي الأمر الذي لم يحكم بشرع الله

حكم طاعة ولي الأمر الذي لم يحكم بشرع الله النقطة الثانية في إيراد الحديث، هي قوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد) ، ويذكر العلماء أن من شروط ولي الأمر: حسن السلوك، والاستقامة، والمعرفة، والاجتهاد في دين الله لمصلحة عباد الله، فإذا كان عند التولية مستوفياً لشروطها، ثم طرأ عليه بعد ذلك ما ينقص هذه الشروط بأن ظهرت معصيته أو فسقه، أو عطل شيئاًَ مما يجب أن ينفذ، فماذا يكون موقف الأمة منه؟ وما مدى الإلزام في وجوب طاعة من لم يحكم بكتاب الله؟ وهذا السؤال وارد من قديم، ولما أنزل الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] ، {الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] تساءل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكلم السلف في هذا المعنى، أتلك الآيات في اليهود والنصارى؛ لأنها جاءت عقب ذكر التوراة، وجاء بعدها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، فهل هي في أهل الكتاب خاصة أم في هذه الأمة؟ من أراد الوقوف على النصوص في ذلك، فليرجع إلى أمهات التفسير مثل القرطبي وابن كثير، وهما أوثق التفاسير، وابن جرير كما قال ابن تيمية: أولى التفاسير في الرواية تفسير ابن جرير، حيث يفسر بالسند وبالرواية عن سلف هذه الأمة، والحقيقة أن والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه ناقش القضية، وقال كما قال مجاهد: نزلت في أهل الكتاب، (وإنكم لتتبعون سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم. ولكن: ما حكم ولي أمر الأمة إذا لم يحكم بما أنزل الله؟ أنصح طالب العلم أن يرجع إلى كتب التفسير، وإلى كتب العقائد كالطحاوية، وهي من أسلم وأصح ما كتب في عقيدة السلف. يتفق الجميع أن من لم يحكم بما أنزل الله من هذه الأمة له حالات: الحالة الأولى: إن ترك الحكم بما أنزل الله معتقداً بأنه غير ملزم بذلك، وهو مخير إن شاء حكم به وإن شاء تركه، أو أنه لا يرى فيه المصلحة، ويرى أن ما تعارف عليه الناس أولى وأصلح، أو تركه استخفافاً به؛ فكل ذلك ردة عن الإسلام، وكفر مخرج من الملة. إذاً: من ترك الحكم بكتاب الله، ويرى أنه مخير وليس ملزماً به، فهو رد لما أمر الله به، وإن ترك الحكم بما أنزل الله ويرى عدم صلاحيته، فهذا استخفاف بكتاب الله، وبأوامر الله؛ فهو كفر مخرج من الملة، وإن كان مستهيناً به لا يبالي به، فالحال كذلك. الحالة الثانية: إذا ترك الحكم بكتاب الله، وهو يعلم أنه حكم الله، وأنه من عند الله، وأنه يجب العمل به في خلق الله، ولكنه إما عجز عن تنفيذه أو غلبته نفسه وهواه وأعرض عن الحكم بكتاب الله، وهو يعلم أنه آثم في إعراضه، وهو يعلم أن حكم الله هو الأحق وواجب التنفيذ، ولكن حال دون ذلك حائل، فتركه الحكم بكتاب الله -وهو يعلم أن الواجب تحكيم كتاب الله- كبيرة من الكبائر، أو كفر دون كفر، أو كفر بالنعمة، أو كفر بالتشريع، لكن لا يخرج من الملة، ويتفق أهل السنة أن مثل هذا الذنب داخل تحت المشيئة، لقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] . ويقول بعض العلماء: الشخص العادي الذي يعلم أن في كتاب الله الأمر بالقطع والجلد: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] ومع ذلك يقدم على السرقة أو يقدم على الزنا فهل عمل بما حكم الله؟ إنه ارتكب معصية، وهو يعلم النهي عنها في كتاب الله، فيقول أهل السنة: لا نكفر أحداً بكبيرة، ولكن نترك أمره إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى. إذاً: ولي الأمر إذا ظهرت منه المعصية، وظهر منه ما يوجب فسقه، فماذا نفعل؟ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن من صفات ولاة الجور تأخير الصلاة، وقال: (تعرفون منهم وتنكرون) ، وقال: (فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع) ، أي: رضي ما هم عليه، ووافقهم عليه، فهذا متابع ومشارك لهم، أما إذا لم يرض بذلك، وغاية ما في وسعه إنكاره بقلبه؛ لأنه لا يستطيع أكثر من ذلك فهو معذور، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمراء قالوا: (أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا الصلاة) . وهذه الناحية خطيرة! ولا تنقضي في لحظات ولا في مجلس، ولكن الذي يهمنا التنبيه عليه: أنه لا يحق لأحد من الأمة أن يخرج على ولي أمرها لمجرد ظهور معصية أو فسق منه، وليس بأعظم من كبيرة في العقيدة دعا إليها الداعي في أوائل الدولة العباسية، حينما قالوا: بخلق القرآن، وامتحنوا العلماء، وسفكت الدماء، وامتحن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، وثبت على ما أصابه فيها، وبقي على ما يعتقده السلف بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومع ذلك فأهل الخير والصلاح ما قاموا على أولئك أصحاب تلك الدعوة، ولا نقضوا عهدهم، ولكن صبروا وصابروا حتى كشف الله تلك الغمة. إذاً: الطاعة لولاة الأمر واجبة، ما لم يأمروا بما يعارض الإسلام ويعطل أركانه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلهم السمع والطاعة وعدم الخروج عليهم، ما لم تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.

الخلاف والمخالفة وموقف السلف منهما

الخلاف والمخالفة وموقف السلف منهما النقطة الثالثة هي قوله: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ، لنعلم -أيها الإخوة- أن الاختلاف والمخالفة شيئان متغايران. أما المخالفة فهي عن قصد وعمد، وأما الاختلاف فهو عن وجهة نظر بين اثنين فأكثر، واختلاف وجهات النظر لم تخل منها الأمة، بل ولا الأمم السابقة، وقد أورد علينا القرآن الكريم ما وقع من اختلاف في قضية واحدة، والله سبحانه وتعالى أعطى كلاً حقه، ولم يعتب ولم يؤاخذ أحد الطرفين، وذلك في القضية المشهورة بين نبي الله داود وابنه سليمان عليهما السلام في قضية الغنم التي نفشت في الحرث، وجاءوا إلى نبي الله داود فحكم بأن يعطى أصحاب الحرث من الغنم ما يعادل تلف حرثهم، وهذا إذا جئنا إلى قانون القضاء وجدناه حكماً عادلاً؛ لأن من أتلف شيئاً عليه تعويضه، وهؤلاء غنمهم أتلفت حرث القوم، فقال داود عليه السلام: يؤخذ من أغنامهم بقدر ما أتلفوا، ولما مروا على سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، سأل: ماذا قضي لكم؟ قالوا: قضي بكذا قال: لو كنت أنا الذي أقضي ما قضيت بذلك، وأقضي بأن تسلم الغنم بكاملها إلى أصحاب الحرث، لينتفعوا بألبانها وأصوافها، ويسلم الحرث لأصحاب الغنم ليصلحوه حتى يعود كما كان، فتعود الغنم إلى أصحابها، ويتسلم أهل الحرث حرثهم، وقد أمر الله سبحانه وتعالى كلا الحكمين: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] ، يعني: أقر داود أنه قضى بحكم وعلم، وليس عن جهل، وكذلك سليمان شرك داود في الحكم والعلم، ولكن فهمناها سليمان، والقضاء يحتاج إلى الفهم أكثر منه إلى الحفظ؛ لأن فهم ظروف القضية هو صلب القضاء، وكما قالوا: معرفة المدعي من المدعى عليه صلب القضاء، وعلي رضي الله تعالى عنه لما ولاه رسول الله قضاء اليمن، قال: أتبعثني قاضياً وأنا لا أعرف القضاء؟ فقال: (إذا أتاك الخصم فلا تقضي له حتى تسمع من خصمه) إلى آخره، وعمر رضي الله تعالى عنه لما كتب إلى أبي موسى الأشعري كتابه في القضاء الذي يعتبر إلى الآن منهج القضاء في العالم كله، حتى إن أوروبا تأخذ بمنهج عمر في هذا القضاء، ويهمنا أنه كتب إليه: (إذا أدلي إليك فالفهم الفهم) أي: إن فهم القضية قبل كل شيء، والقاضي إذا لم يفهم القضية بتوجيهاتها كالسمك في الماء، أما إذا فهمها ورسم الخطة التي يسير الخصوم عليها فإنه يصل إلى نتيجة حتمية، وهكذا ما عاب الله على داود، ولكن أثنى عليهما معاً، ورجح جانب سليمان، وهو حكم في قضية واحدة. وقد وقع الخلاف في صدر هذه الأمة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع الخلاف في غيبته وآل الأمر إليه فأفتى فيه، ووقع من بعده في عهد خلفائه الراشدين، ومن بعد الخلفاء وقع الخلاف بين أئمة الأمة رحمهم الله تعالى.

نماذج من الخلاف الذي وقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم وموقفه منه

نماذج من الخلاف الذي وقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم وموقفه منه وقع من الخلاف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور عديدة، ومن أهمها وأعظمها عند العلماء: نقض اليهود للعهد حال وقعة الخندق، ثم رجع المشركون إلى ديارهم: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25] ، وقد نقض اليهود عهدهم، وكانوا من قبل في عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كتب صحيفة عهد بين المسلمين وبين اليهود، وكان مما اشترط على اليهود: أن يعاونوا المسلمين إذا دوهموا، وألا يعينوا عليهم عدواً إذا حاربهم، ولما قدر الله سبحانه وتعالى أمره في الأحزاب، وكفى الله المؤمنين القتال بجنده، وأرسل عليهم الريح لتطفئ نارهم، وتكفئ قدورهم، وتقتلع خيامهم، قال أبو سفيان: لا مقام لكم، فانصرفوا، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها، فإذا بالباب يطرق، ورجل يسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم مسرعاً، فنظرت فإذا دحية الكلبي يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع صلى الله عليه وسلم ونادى في الناس: (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) ، فجبريل جاء في صورة دحية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذهاب إلى بني قريظة الذين نقضوا العهد ساعة العسرة، وكان ذلك قبل أن يؤذن العصر، فخرج الناس، وفي طريقهم إلى بني قريظة، وجب وقت العصر، فانقسموا إلى قسمين: قال قوم منهم: لا صلاة إلا في بني قريظة، انتقل وقتها، وتعين صلاتها حيث أمر رسول الله في بني قريظة. وقال آخرون: لا، ليست المسألة على حرفيتها، بل على روحها ومعناها، وروحها ومعناها: أن نبادر بالذهاب إلى بني قريظة، وهذا وقت الفريضة، نصلي ونبادر بالمسير. فقسم صلى العصر في وقتها في مكانه، وقسم أخر صلاة العصر حتى جاء إلى بني قريظة، وكانت قد غربت الشمس، فصلوا العصر بعد غروب الشمس في بني قريظة، وهنا وقع الخلاف بينهم، فمن الذين نال موافقة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرضوا عليه الأمر، فما عاتب أحد الفريقين، ولا أنكر عليه، وهنا يقول العلماء: إذا جاء النص واختلف فيه السامعون، وعمل كل بما أداه إليه اجتهاده بقصد الوصول إلى تحقيق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؛ فحينئذ قد أدى كل منهم ما عليه، فهؤلاء إن كانت الصلاة قد انتقل وقتها ومكانها إلى بني قريظة فالذين صلوا في الطريق صلاتهم في غير وقتها، وإن كانت الصلاة على وقتها كان الذين أخروها قد أخروها حتى خرج وقتها، فيلزم أحد الفريقين الإعادة. ولكن: لما أقر الفريقين، ولم يعاتب المبادرين بالصلاة، ولم يعاتب المؤخرين، عرفنا أن كلا الفريقين محق ومعذور فيما ذهب إليه؛ ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) . هذا خلاف بين يدي رسول الله. وخلاف آخر وقع قبل ذلك في أسارى بدر، لما جيء بهم وهم سبعون أسيراً، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (ماذا نفعل بالأسارى؟) . فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! بنو عمنا وإخواننا نقبل منهم الفداء، ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، فيكونون عوناً للمسلمين، ونستعين بالفداء الذي نأخذه منهم، فسكت، فقال عمر: يا رسول الله! أرى أن تمكن من كل إنسان منا قريبه فيضرب عنقه، حتى يعلم الكفار ألا هوادة بيننا وبينهم، فسكت، وقال آخر: يا رسول الله! أرى أن تجمعهم في وادٍ كثير الحطب، وتؤجج ناراً فتحرقهم، فسكت، ثم دخل بيته صلى الله عليه وسلم ثم خرج، وهم يقولون: لا ندري برأي من يأخذ! ومن الغد يقول عمر رضي الله تعالى عنه: جئت فإذا رسول الله وأبو بكر والمسلمون يبكون، فقلت يا رسول الله! أخبروني على ماذا تبكون، فإن وجدت بكاءً بكيت معكم، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (لو نزل عذاب ما نجا إلا ابن الخطاب) ، ثم قال: (مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام حينما قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] ، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] ) ، ثم نزلت الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ. } [الأنفال:67] إلى آخره، فعاتب الله رسوله في أمر الفداء، ولكن أباحه لهم فاختلف أبو بكر مع عمر في بادئ الأمر، ولم يكن هذا الخلاف مؤدياً إلى شقاق بينهم، وقضي الأمر من الله سبحانه وتعالى. ومن الخلاف ما وقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيداً عنه، وانتهى الأمر إليه، وذلك أن رجلين كانا في سفر، فلما لم يجدا ماءاً تيمما وصليا في الوقت، ثم وجدا الماء قبل انتهاء الوقت، فتوضأ أحدهما وأعاد الصلاة، ولم يتوضأ الآخر، عملان مختلفان! وهذا اختلاف وليس مخالفة، فلما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضا عليه الأمر، فقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين) ، وقال للذي اكتفى بالتيمم ولم يتوضأ ولم يعد: (أصبت السنة) . ولسنا بحاجة بعد ذلك أن نقيم النقاش والخلاف في أي الطرفين أولى، هل الذي أصاب السنة أو صاحب الأجرين؟ وهل الذي أخذ الأجر مرتين خالف السنة؟ لو خالفها ما حصل على شيء، المهم أقر النبي صلى الله عليه وسلم كلا الرجلين فيما عمل، وكل منهما خالف الآخر في عمله.

نماذج من الخلاف الجائز الذي وقع في عهد الخلفاء الراشدين

نماذج من الخلاف الجائز الذي وقع في عهد الخلفاء الراشدين ومن الخلاف الذي وقع في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، ما قدمنا من قضية أبي بكر رضي الله تعالى عنه في جمع القرآن في صحف، وكذلك ما كان في زمن أبي بكر مع عمر في قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، لما قال أبو بكر: (والله! لو منعوني عناقاً أو عِقالاً -أو عَقالاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ، فيقف عمر أمامه: يا أبا بكر! أتقاتل قوماً يشهدون أن لا إله الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟!) فقال أبو بكر: (يا عمر! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها؟) إن الزكاة من حقها، والله! لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، فشرح الله صدر عمر إلى ما ذهب إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنهما) . فهذه وجهة نظر خلاف وليست مخالفة. وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه صعد عمر أمير المؤمنين على المنبر، وأراد أن يحدد مهوراً للنساء، على قدر مهور زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته، فقامت امرأة وقالت: يا عمر! لم تحرمنا من شيء أحله الله لنا؟! قال: وما ذاك، قالت: في قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] ، فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر! ورجع عما كان يريد أن يفعل. وكذلك في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، كانوا في طريقهم إلى الحج، وجاء المقداد بن الأسود إلى علي رضي الله تعالى عنه وقال: يا علي! ألا ترى ما قال عثمان! قال: وما يقول؟ قال: يقول: ليس هناك قران الحج والعمرة، وليس هناك إلا التمتع أو الإفراد، وفي رواية الموطأ: وعلي على يده أثر العجين والخبز، فدخل على عثمان فقال: ما هذا الذي سمعت منك؟! قال: شيء رأيته، فقال: ألم نفعل ذلك مع رسول الله؟! فلم يحر جواباً! قال: شيء رأيته ليكثر الوافدون إلى بيت الله، فقال علي: لبيك -اللهم- حجة وعمرة معاً، فـ علي كان مفردا، ً فأضاف العمرة إلى الحج في ذلك الموقف ليبين بأن السنة التي كانت زمن رسول الله يعمل بها ولا تعطل، فهل عارض عثمان علياً؟ هل تخاصم عثمان مع علي؟ لا، بل بقيا على ما هما عليه من الخير والمودة. ولما جاء عثمان إلى منى وعرفات أتم الصلاة، فتحدث معه عبد الرحمن بن عوف، فبين له وجهة نظره، فقال: إني اتخذت أهلاً بمكة، ولي مال بالطائف، وإن الأعراب لما قدموا للحج قالوا: إن الرباعية في مكة صارت ركعتين، وأخشى أن يأخذ الأعراب مني ذلك، فأردت أن أتم الصلاة ليعلموا أن الرباعية على ما هي عليه، فقال له ابن عوف: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام يقصر، والأعراب يأتون من كل مكان، وكان أبو بكر كذلك، وكان عمر كذلك، وكنت أنت في أول خلافتك تصلي الركعتين، فلماذا؟ فما أجابه بشيء، ورجع ابن عوف من عنده، ولقي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فقال له ابن مسعود: إذا صليت مع قومك فصل ما شئت، وإذا صليت معه فوافقه، وإني لأوافقه في الأربع، فقال ابن عوف: أما أنا فقد كنت أصلي مع قومي ركعتين، والآن أصلي أربعاً، مجانبة للخلاف. وهكذا في زمن علي رضي الله تعالى عنه، والخلاف في زمنه أكثر من أن يحصى!

خلاف الأئمة رحمهم الله تعالى

خلاف الأئمة رحمهم الله تعالى كان الأئمة الأربعة رضوان الله تعالى عليهم لا يريدون إلا الحق، ولا يقصدون إلا تطبيق كتاب الله وسنة رسوله، وقد تكلم الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا الباب، ومن أجود ما كتبه في ذلك كتابه: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، وذكر فيه عشرة أسباب تؤدي إلى الخلاف بينهم، وكل معذور فيما ذهب إليه، وبين أنه ليس لأحد من الأئمة المعتبرين أن يخالف قصداً وعمداً نصاً من كتاب الله أو من سنة رسول الله، حاشا وكلا، ولكن: قد يبلغه الحديث بسند لا يثق بصحته، أو يأتي الحديث له عدة معان، أو يظن أن فيه نسخاً أو غير ذلك، فيعمل بحسب ما يغلب على ظنه. والأئمة الأربعة رحمهم الله متقاربين في الزمن فيما بينهم، فكان أبو حنيفة رحمه الله قبل مالك، ومالك أدرك عهد أبي حنيفة، ثم جاء الشافعي فأدرك مالكاً، وأخذ عنه الموطأ، وقدم محمد بن الحسن صاحب أبي حنفية إلى المدينة فأخذ الموطأ عن مالك، وله موطأ خاص باسمه: موطأ محمد وقد مكث في المدينة ثلاث سنوات، وأحمد رحمه الله لقي الشافعي، وتداولوا وكانوا في الزمن متقاربين، ولكل واحد منهم مبادئ التزمها، وبنى عليها مذهبه، وأصبح لكل بعض الاختلافات التي أدى إليها اجتهاد كل منهم. ومع ما كان بينهم من خلاف، فما كان يوقع بينهم عداوة ولا شحناء، بل كل يكن للآخر التقدير والتبجيل، ونعلم أن أحمد رحمه الله كان يرى الوضوء من أكل لحم الجزور، فيسئل: لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور -وهو لا يرى الوضوء منه- أكنت تصلي خلفه؟ قال: وكيف لا أصلي خلف سفيان الثوري وأمثاله؟ فالخلاف في وجهة النظر في حكم فرعي لا تؤدي إلى المخالفة بين المسلمين. وهكذا -أيها الإخوة- كان أحمد يصلي مع الشافعي، وكان الشافعي كان يصلي مع أحمد، والشافعي يصلي مع مالك مع أنه يرى أن مجرد لمس المرأة ينقض الوضوء، ومالك وأحمد لا يريان النقض باللمس، والشافعي يقول: مجرد اللمس ينقض، ومع ذلك ما كان الشافعي يمتنع من الصلاة خلف مالك، ولا كان يختلف مع أحمد. وأصحاب الأئمة رحمهم الله فيما بينهم قد يختلفون إذا كانت المسألة موضع بحث أو موضع اجتهاد لا نص صريح فيها، ولقد وجدنا أحمد ينفرد بمسائل، وألفت المؤلفات كـ (مفردات مذهب أحمد) ، وكذلك الشافعي انفرد بمسائل، ووجدنا ابن كثير ألف كتاباً (فيما انفرد به الشافعي عن الأئمة الثلاثة) ، بل وجدنا الخلاف داخل المذهب الواحد، فهذا الدبوسي من علماء الأحناف يؤلف كتابه: (تأسيس النظر) جمع فيه مسائل خالف فيها أبو حنيفة أصحابه أبا يوسف ومحمد وزفر، ثم مسائل أخرى خالف فيها أبو يوسف أصحابه: أبا حنفية ومحمد وزفر، ومسائل أخرى خالف فيها محمد أصحابه: أبا حنفية وأبا يوسف، وهكذا كل يخالف أصحابه في عدة مسائل، ولم يقع نزاع ولا خلاف في المذهب. ورأينا رسالة لا زالت مخطوطة لـ ابن عبد البر بعنوان: (ما خالف فيه أصحاب مالك مالكاً) ، يعني: أصحابه يخالفونه في بعض المسائل، ولم يقع النزاع ولا الخصومة بين المالكية أنفسهم. وهكذا يوجد الخلاف فيما يقتضيه النظر، بلا نزاع ولا شقاق، ومما سبق يتبين لنا أنهم كانوا يختلفون لا ليخالف بعضهم بعضاً، ولكن ليصلوا إلى الحقيقة المرجوة، وإذا تحقق النص أو ظهرت الحقيقة فسرعان ما يتناولونها ويقفون عندها، وهذه قصة أبي يوسف رحمه الله صاحب أبي حنيفة الأول، يأتي مع الرشيد إلى المدينة، ويجالس مالكاً، ويأتي البحث في مقدار الصاع، فقيل لـ مالك: كم مقدار الصاع؟ فقال مالك: الصاع عندنا خمسة أرطال وثلث، فيقول أبو يوسف: لكنه عندنا ثمانية أرطال، كما قال بذلك إمامنا أبو حنيفة، فقال مالك رحمه الله للجلساء عنده: من كان عنده صاع -تخرج فيه زكاة الفطر- من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتنا به غداً، ومن الغد يأتي الرجل ويخرج من تحت ردائه الصاع ويقول: حدثتني أمي عن جدتي أنهم كانوا يخرجون به زكاة الفطر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر يقول: حدثني أبي عن جدي، والآخر: عمي عن جدي، والآخر: خالي عن كذا واجتمع عند مالك نحواً من خمسين صاعاً، يقول أبو يوسف: ونظرت فيها فإذا هي متقاربة، فأخذت واحداً منها وذهبت إلى السوق، وعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث، يقول أبو يوسف: فرجعت إلى العراق، وقلت لهم: جئتكم بعلم جديد، قالوا: وما ذاك؟ قال: الصاع خمسة أرطال وثلث في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: خالفت شيخ القوم! يعني: أبا حنفية، فقال: وجدت أمراً لم أستطع له مدفعاً، وإلى الآن عند الأحناف أن مذهب أبي يوسف أن الصاع خمسة أرطال وثلث، والصاع عند محمد وعند أبي حنفية وزفر ثمانية أرطال، فهل اختلف أبو يوسف مع أصحابه وتنازعوا وانشقوا؟ لا والله! ونذكر موقف مالك رحمه الله من الخلاف الذي لا يمكن أن يرفع، حينما جاء إلى دار الإمارة فطلب منه الرشيد أن يأته بالموطأ، ليقرأه على الأمين والمأمون، فاعتذر مالك وقال: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فقال: اجعل لنا موعداً، فجعل له موعداً، فجاء الخليفة إلى بيت مالك! فأبطأ عليه مالك في الخروج، فقال: يا مالك! طلبناك فامتنعت علينا، وجئنا فحبستنا على دارك، لماذا؟! قال: أما طلبك إياي فقد علمت أنك ما طلبتي لمال ولا لرياسة وإنما للعلم، والعلم يؤتى إليه ولا يأتي، وإن موقف الخلفاء والأمراء على أبواب العلماء ليزيدهم شرفاً، بخلاف موقف العلماء على أبواب الملوك والأمراء، قال: أريد أن تقرأ عليّ كتابك، قال: يا أمير المؤمنين! إن هذا العلم لا ينفع سراً، قال: ما تريد؟ قال: في حلقة الدرس في المسجد مع عامة الناس، فامتثل لذلك، وعلم الخدم فهيئوا كرسياً للخليفة، فجاء مالك وجلس مجلسه وبدأ بحديث: (من تواضع لله رفعه الله) فقال: يعنيني، أخروا هذا الكرسي، وجلس فسمع، وبعد أن سمع من الموطأ قال: إني عزمت على أمر، قال: ما هو؟ قال: أن أعلق الموطأ على الكعبة، وأبعث نسخاً منه إلى الأمصار، وأمنع أي مذهب سواه، وأحمل عامة المسلمين على ما فيه توحيداً لهم. انظروا إلى هذا العرض أيها الإخوة! ماذا كان موقف مالك؟! قال: لا يا أمير المؤمنين! لا تفعل، قال: لماذا؟ قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار، وحدث كل بما سمع من رسول الله، واستقر عمل كل مصر على ما بلغهم عن رسول الله، فلا تغير على الناس ما هم عليه. انظروا -أيها الإخوة- بعد هذا النظر! مع وجود الخلاف وإرادة حمل الناس على كتابه ما فرح بذلك، قال: لا، دع الناس على ما هم عليه.

التحذير من تتبع الشواذ

التحذير من تتبع الشواذ النقطة الأخيرة: تتبع الشواذ من الأحاديث، بعض الناس يرى حديثاً في بطون الكتب لا يعمل به، فيأتي به ويثيره ويعرضه على الناس، فيقع في أذهان الناس اضطراب، نقل ابن عبد البر في مقدمة التمهيد عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، أنه ضرب رجلاً لأنه كان يتتبع شواذ الكلمات، ويتتبع مواطن الغموض في كتاب الله، فضربه عمر لتساؤلاته المثيرة التي توقع الشبه عند الناس، ثلاث مرات وهو يضربه فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلة شريفة، وإن كنت تريد شفائي من دائي فقد -والله- شفيتني! فكتب بإخراجه إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد، حتى طال الزمن عليه، وحسنت سيرته، فسمح له بمخالطة الناس. وقال عمر رضي الله تعالى عنه -كما ينقل عنه ابن عبد البر -: (أحرج على كل مسلم -انظر إلى هذه العبارة، أحرج يعني: أجعل كل إنسان في حرج، وفي ضيق- أحرج على كل مسلم يحدث بحديث ليس العمل عليه) . هذا أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، يحرج على كل مسلم أن يحدث بحديث عن رسول الله، وهذا الحديث متروك العمل به، فإذا كان متروك العمل به، ويأتي إنسان يثيره عند الناس، فمعناه أنهم عطلوا حديث رسول الله، والسلف ما تركوه رغبة عنه، ولا استخفافاً به، ولكن ثبت عندهم ما هو أولى وأقوى منه. فالحذر -أيها الإخوة- من تتبع الشواذ، ويقول ابن الحاج في مدخله في تتبعه للبدع، وكذلك الشاطبي: إني لأخشى على أولئك الذين يتتبعون شواذ المسائل أن يدخلوا في آية أوائل سورة آل عمران {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، والوقف على لفظ الجلاله ثم: (والراسخون في العلم) ، وهذا له مبحث آخر، والمهم قولهما: نخشى على أولئك الذين يتتبعون شواذ الحديث أن يكونوا من الذين في قلوبهم زيغ. ولهذا -أيها الإخوة- ينبغي للمسلم إذا سمع شيئاً أو رأى شيئاً أن ينظر ما عليه سلف الأمة، ولا ينبغي أن يخرج عما هم عليه،؛ لأنهم -بلا شك- أوسع إحاطة منا بسنة رسول الله، وأقوى جهداً وورعاً، وأمكن في علم الاستنباط والاستدلال، ومجموع النصوص بأطرافها هم أعلم بها منا، لكن العقل ينظر ما هو الأرجح ومما يرتضيه ديناً وعلماً. وجزا الله سلف هذه الأمة عن خلفها أحسن الجزاء. وبالله تعالى التوفيق، والله أسال أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الحديث التاسع والعشرون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [1]

تربويات متعلقة بحديث معاذ رضي الله عنه

تربويات متعلقة بحديث معاذ رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله ونفعنا بعلمه آمين: [عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] ، حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:19] ، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا، قلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح] .

نبذة مختصر عن راوي الحديث

نبذة مختصر عن راوي الحديث هذا الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، هذا الصحابي الجليل الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل) . ومعاذ رضي الله تعالى عنه كما يقال في الاصطلاح الحاضر تولى عدة مناصب، قد كان معلِّماً لأهل مكة، وذلك إثر فتح مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك بُعث إلى اليمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما وجهه قال: (بم تقضي يا معاذ؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله) . وهذا الحديث عمدة في باب القضاء، وإن كان بعض المتأخرين يتكلم على سنده، ولكن جميع علماء الحديث تلقوه بالقبول وسطروه ولم يضعفوه. وبعد أن توفي النبي عليه الصلاة والسلام، عاد في خلافة عمر إلى المدينة، فبعثه عمر بن الخطاب إلى الشام لحاجة أهل الشام إلى من يفقههم في الدين. وعند مالك في الموطأ من رواية الليثي: 1711 - وحدثني عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: (دخلت مسجد دمشق فإذا فتى شاب براق الثنايا، وإذا الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن قوله، فسألت عنه فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك لله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، قال: فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في) .

التخصص العلمي أسلوب نبوي

التخصص العلمي أسلوب نبوي وأحب أن أشير لكم بأن منهج التخصص العلمي المادي كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا معاذ تخصص في معرفة الحلال والحرام، وهذا زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (أفرضكم زيد) ، يعني: أعرفكم بالفرائض. وكذلك قال في علي رضي الله تعالى عنه: (أقضى أمتي علي) ، وقال في أبي عبيدة: (أمين هذه الأمة أبو عبيدة) ، وقال في ابن عباس -حبر هذه الأمة-: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل،) . فكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذا اختلفوا في مسألة من تلك المسائل رجعوا إلى صاحبها إذا أشكلت عليهم آية في كتاب الله رجعوا إلى ابن عباس، وإذا أشكلت عليهم مسألة في الميراث رجعوا إلى زيد بن ثابت، وإذا أشكل عليهم شيء في الحلال والحرام رجعوا إلى معاذ بن جبل. ومن تلك النماذج ما جاء عن ابن عباس في مجلس عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد كان يدني ابن عباس وهو شاب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو غلام، قد ناهز الاحتلام، كما جاء في حديثه في مِنى في حجة الوداع قال: جئت على أتانٍ والناس يصلون بمنى فمررت بين الصفوف حتى وجدت فرجة، فتركت الأتان ترتع ونزلت وصليت، وقد ناهزت الاحتلام حينئذٍ. وحجة الوداع في أخريات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان شاباً ناهز -قارب- الاحتلام، ومع ذلك كان عمر يدنيه ويدخله في مجلسه، وفيه شيوخ قريش، فقال بعضهم: علام يدخل عمر علينا هذا الغلام، ولنا أولاد مثله، فعلم بذلك عمر، فأراد أن يعلمهم قدر ابن عباس، وأنه لا يدخل ابن عباس معهم لمجرد قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب -وإن كانت هذه لها قيمتها، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] ، فله حق القربى- ولكن لشيءٍ آخر اختص به. يقول ابن عباس عن نفسه: فدعا عمر ذات يوم الناس ودعاني، فعلمت أنه ما دعاني إلا لأمر، وهذا من الفقه والذكاء، فلما اجتمعوا سأل عمر رضي الله تعالى عنه: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ، فقالوا: بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح وانتشار الإسلام، وابن عباس ساكت، قال له عمر: ما تقول أنت يا ابن عباس، قال: لقد نَعَت إلينا رسول الله وهو بين أظهرنا قال: وكيف فهمت ذلك؟ قال: لأن الله يقول: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1-2] ، والله قد أرسل رسوله ليبلغ الرسالة، فإذا كان الأمر كذلك فقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وجاهد في سبيل الله حتى علت كلمة الله، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فكأنه أتم رسالته وأدى مهمته، ولم يبق إلا أن يتوجه ويلقى ربه لينال جزاءه. فقال عمر: وأنا أرى فيها ذلك. وسألهم عن ليلة القدر فتكلموا فيها بنصوص كثيرة حتى سأل ابن عباس فقال: لسبع بقين أو لسبع خلون من العشر الأواخر. يعني إما في ليلة ثلاث وعشرين وذلك من قوله: لسبع بقين من الشهر، أو ليلة سبع وعشرين لقوله: لسبع مضت من العشر الأواخر، قالوا: وكيف هذا؟ فذكر لهم ابن عباس توجيه ذلك.

أساليب التعليم عند النبي عليه الصلاة والسلام

أساليب التعليم عند النبي عليه الصلاة والسلام يهمنا أن معاذاً رضي الله تعالى عنه راوي هذا الحديث أعرف الأمة بالحلال والحرام، ويظهر فقهه في سؤاله، وقد جاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: على طالب العلم أن يتعلم السؤال قبل أن يتعلم الإجابة؛ لأن سؤال الشخص ينبئ عن عقله وعن فهمه. وكم وجدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، إذا سأل طالب سؤالاً علمياً في محله يقول: جزاك الله خيراً إنك طالب علم، وإذا سأل إنسان سؤالاً لا يدري يميناً أو يساراً، يقول: أنت في حاجة أن تذهب إلى الطبيب يعطيك إبرة، لأن تفكيرك يحتاج إلى علاج، وذلك من باب المزح مع الطالب، ومن باب التفريق بين سؤال وسؤال. وإذا جئنا إلى منهج السؤال في العلم، نجد الباب واسعاً، ونجد القرآن الكريم قد أورد أسئلة وأجاب عليها، كما قال ابن عباس: أقل الأمم سؤالاً هذه الأمة، سألت عن اثنتي عشرة مسألة، وورد الجواب عنها في القرآن، سألوا عن الأهلة، وسألوا عن المحيض، وسألوا عن الأشهر الحرم، وسألوا عن الصيد، وسألوا، وسألوا، والقرآن يجيبهم عليه. وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يورد السؤال، ومعاذ ممن ورد عليه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنت يوماً رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. الحديث. ويستفيد طالب العلم والمعلم أساليب التربية والتعليم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يسأل معاذاً يعلم أن معاذاً لا يعلم الإجابة، ومع ذلك يورد عليه هذا الأسلوب أتدري؟ ولذا قال: الله ورسوله أعلم. إذاً لماذا يقدم السؤال؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن ينبه حسه ويجمع شعوره؛ ليجتهد في طلب معرفة ما لا يعرفه، ونحن لو تمكنا من الكشف عن نفسية معاذ وعن فكره وعقله، لوجدنا كل قواه تركزت لتلقي الجواب عن هذا الموضوع الذي سئل عنه، وهو يجهله، قال: الله ورسوله أعلم، ماذا ينتظر معاذ؟ إنه ينتظر معاذ سماع الجواب من الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن يدخل من لا يشرك به شيئاً الجنة) . ومعاذ هنا يسأل رسول الله في شيءٍ جال ودار في نفسه، يقول: يا رسول الله! دلني أرشدني بين لي عملاً، وهو من أوائل المسلمين ومعلم الناس في مكة، ومعلم الناس في اليمن، ولكن لعله انتهز فرصة خلوته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ينتهز الطالب شيخه إذا اختلى به، وله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف آخر، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معاذ! والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) . فلما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن رسول الله عليه الصلاة والسلام قيمة هذا السؤال، فقال: (لقد سألت عن عظيم) . إذاً: طالب العلم حينما يستطيع أن يصيغ السؤال يكون حقاً له استعداد وقدرة على استيعاب الجواب، وهنا كما كانوا يقولون عن الإمام أبي حنيفة، جاء شخص وجلس في المجلس وله هيئة وهيبة، وكان الإمام أبو حنيفة يتكلم عن مسألة فطر الصائم عند غروب الشمس، فقال ذلك الرجل: يا شيخ: إذا تأخر غروب الشمس إلى نصف الليل ماذا نفعل؟ وقد كان أبو حنيفة يأنف مد رجليه احتراماً لهذا الرجل ذي الهيبة، فلما سمع منه هذا الكلام الذي ينبئ عن شخصية هذا الرجل، قال: آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه. والرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله معاذ عن هذا السؤال المهم جداً، نبه ونوه صلى الله عليه وسلم، وقال: (لقد سألت عن عظيم) . ومثل هذا فيه تشجيع من رسول الله عليه الصلاة والسلام لطالب العلم. نظير هذا سؤال أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: (لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد قبلك) .

الجمع بين: (عمل يدخلني الجنة) وبين: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)

الجمع بين: (عمل يدخلني الجنة) وبين: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) وقد ورد في رواية أخرى لهذا الحديث: يقربني من الجنة ويباعدني من النار. وهنا مسألة: فرواية (يدخلني الجنة) فيها تعارض مع حديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) فإن قيل: فبماذا يدخل المؤمنون الجنة؟ قلنا: بفضل الله، لأن مدار عمل العامل العابد الزاهد الورع القائم الصائم مهما كان، فهو يعمل بفضل الله عليه، إذاً: عمله فضل من الله عليه، كما قال موسى عليه السلام: يا رب إن قمت صليت فبك قمت، وإن صمت فبك صمت، وإن بلغت الدعوة فبك بلغت، فكيف أشكرك، قال: الآن الآن يا موسى شكرتني عرفت أن كل شيءٍ من عندي فشكرتني. وكذلك مهما صلى المصلي الطاقة التي قام وتحرك بها هي من الله، والتوجه إلى العبادة دون المعصية، والهداية والتوفيق بأن يأتي إلى المسجد بدل أن يذهب إلى المقهى، فالذي وجهه ومنحه هذه الهداية والتوفيق هو المولى سبحانه، وكل ذلك فضل من الله عليه، إذاً:" عملك الذي تريد أن تعتد به ليس من عندك، إنما هو من عند الله فضلاً عليك. وهنا مسألة: هل يوجد تعارض بين قوله عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) ، وبين قوله تعالى: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] ؟ قال العلماء: الآية الكريمة تقول: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} ولم تقل: التي دخلتموها، لأنه فرق بين دخول الجنة، وبين التوارث في الجنة، فدخول الجنة محض فضل من الله، أما التنعم فيها والدرجات، فهذا كله بسبب العمل، وكمثال: لو أن إنساناً وجه لشخص بطاقة دعوة في وليمة، ولم يكتب له في الدعوة أن لا تأكل إلا كذا، قد يعين له رقم كرسي، ولكن لا حجر عليه فيما يأكل، ففضل الوليمة من صاحبها، وتنوع الأشياء الداخلية أنت وذوقك. فقالوا: التوارث في الجنة المولى سبحانه جعل لكل إنسان سيأتي من ذرية آدم إلى آخر الدنيا منزلتين، منزلة في النار ومنزلة في الجنة، فإن وفقه الله لاتباع رسله، وكان من أهل الجنة، تعطلت منزلته في النار، وإن خذله الله -عياذاً بالله- وخالف رسل الله، وكان من أهل النار، خلت منزلته في الجنة. إذاً: بعد دخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار، يبقى نصف الجنة خالياً أو أكثر أو أقل، فيها منازل خالية، بقدر ما في النار من أشخاص، وتلك المنازل لا تترك خالية، بل يورثها الله من دخل الجنة، ويورثها بأي شيء؟ ليس هناك {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فالذكر والأنثى في الجنة سواء، ولكن يبقى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] ، تتساوى هناك الدرجات وتتفاضل بحسب الأعمال، زوجة فرعون قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ} [التحريم:11] ، فاختارت الجار قبل الدار، {ابْنِ لِي عِنْدَكَ} ثم {بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} ، يعني إرادتها جوار ربها أكثر من رغبتها في دار في الجنة. ويقول العلماء: ذلك التوارث بحسب درجات عمل المؤمن، فمنهم من يعطى منزلة، ومنهم من يعطى منزلتين وثلاثاً أو أكثر أو أقل، بحسب التفاوت في الأعمال. إذاً: معاذ حينما يقول: (دلني على عمل يقربني من الجنة) ، فإنه لا يتعارض مع (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) ، وحديث: دلني على عمل يدخلني الجنة، معناه: أي يكون سبباً في رضا الله عني وتقبله مني، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها، ما أمنت مكر الله. قوله: يدخلني أو يقربني فيها إيجاز وحصر، لأن دخول الجنة هو كل خير يسعى إليه المسلم، والابتعاد عن النار هو كل شر يفر منه المسلم، وكما قالوا في الدنيا، مطامع العقلاء في هذه الدنيا لأحد أمرين: إما لجلب نفع وإما لدفع ضر ولذا يقولون: إذا أنت لا تنفع فضر فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع أي: يضر العدو وينفع الصديق، وهنا معاذ سأل عما يقربه من أعظم خير يسعى إليه وهو الجنة، وعما يباعده عن أعظم شر يفر منه وهو النار، وكما جاء في حديث الأعرابي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! علمني دعاءً ولا تكثر، لعلي أحفظ فإني لا أحفظ دندنتكم هذه، قال: وأنت بماذا تدعو؟ قال: أنا أقول اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: (حولهما ندندن) .

علو همة الصحابة في السؤال

علو همة الصحابة في السؤال ولا يخفاكم قصة كعب بن ربيعة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال له عليه الصلاة والسلام: سلني، قال: أمهلني إلى غد، فذهب ومن الغد جاء -يقولون: حاور زوجته، قالت: أو يفعل ما تقول، قال: نعم، قالت: سله مرافقتك إياه في الجنة -كلام ينم عما وراءه من عقله وفطنة-. فأين أمثال هذه المرأة في نساء اليوم التي تنظر إلى أعظم الغايات الجنة!! ولعلها فقهت معنى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ، وفقهت قول حملة العرش في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر:7-8] ، الملائكة حملة العرش يدعون الله للمؤمنين بدخول الجنة وأن يلحق بهم زوجاتهم حتى يتم سرورهم، فهي إذا ضمنت أن زوجها سيرافق النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة، فستكون هي ملحقة به. فهنا جاء الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله!! وعدتني كذا؟ قال: نعم، قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال له: (إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود) .

سهولة ويسر أحكام الدين لكل الناس

سهولة ويسر أحكام الدين لكل الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (لقد سألت عن عظيم) ، وهو كذلك؛ لأنه أعظم ما تتعلق به آمال البشر، (وإنه ليسير على من يسره الله عليه) ، سهل لمن سهله الله عليه. ويأتي الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، وتأتي الآية الكريمة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، لأن الإسلام طريق الرحمة واليسر، ولا توجد مسألة في الدنيا إلا وأتى لها بأسهل وأوفق الحلول، ولم يسد الطريق على أحد أبداً، ففي الصلاة من لم يستطع الصلاة قائماً صلى جالساً أو مضطجعاً، ومن لم يستطع الصوم لمرض فعدة من أيامٍ أخر، والزكاة لا تجب إلا على غني عنده نصاب وحال عليه الحول، والحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلاً، والجهاد ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج، كل ذلك من باب التيسير. وتقدم معنا في الأحاديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، فيرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يعوضهم عن غنى المال، تسبحون تحمدون تكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتختمون المائة بلا إله إلا اله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) . وجاء: (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) .

ما يدخل الجنة من الأعمال

ما يدخل الجنة من الأعمال ثم أخذ يبين صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الميسر، فقال: (تعبد الله لا تشرك به شيئاً) ، ولكن بأي شيء تعبد الله؟ العنوان العام: تعبد الله. ومعاذ كان يعلم الناس الإسلام، ويعرف بما يعبد الناس الله وكما يقول الإمام ابن تيمية وغيره: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، والعبادة من العبودية، وهي من التعبيد أو التعبد، وهو التذلل والخضوع، تقول: طريق معبد أي: مذلل مسهَّل. فكذلك المسلم في عبادته منقاد لله مسهل له. ثم قال: (تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، تصوم رمضان ... ) هل هذا تكرار أو تفصيل للإجمال؟ الواقع أن هذا ليس تكراراً ولا تفصيلاً، وإنما المراد من قوله: (تعبد الله) أي: في حالة كونك تعبده لا تشرك به شيئاً، أي: أوقع العبادة خالصة لوجه الله تعالى أياً كانت: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] . {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] إذاً: المراد بالفقرة الأولى وضع قاعدة الأساس التي يكون منها المنطلق، أن تعبد الله وفي عبادتك لله لا تشرك بالله شيئاً.

لماذا يستحق الله أن نعبده وحده لا شريك له؟

لماذا يستحق الله أن نعبده وحده لا شريك له؟ ومن باب التحاكم العقلي، هل يجوز للإنسان أن يشرك مع الله في عبادته شيئاً آخر، كما فعل قوم نوح أو كفار قريش في الجاهلية؟ إذا نظرنا إلى القرآن الكريم في مواطن متعددة، نجد حق العبادة مربوط بحق الربوبية للمولى سبحانه، فمن الذي خلقك وسواك وعدلك، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] ، ثم أخرجك إلى الوجود، ثم أنزل من السماء ماءً، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:25-32] . من الذي أنزل الماء من السماء، وشق الأرض للنبات، فيخرج ضعيفاً ثم يشتد عوده، وتخرج السنبلة وتأتي الثمرة بكل أنواع النبات والفاكهة لك، من يقدر على ذلك، من الذي بيده هذا غير الله عز وجل. إذاً: إذا قمت تؤدي العبادة فأدها لصاحب هذا الخلق المبدع، ولذا نجد الله عز وجل يلزم قريشاً بعبادته؛ لأنه هو الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، كما في قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:2-4] ، والإطعام من جوع والأمن من خوف أعظم نعمتين في الوجود، فكبريات الدول إذا توفرت فيها نعمة العيش وفقدت نعمة الأمن، كانت حياتها في قلق واضطراب، واقرءوا كيف يعيش الغرب عندما فقدوا نعمة الأمن التي نحن لا نحمد كثيراً عليها، حتى إن الواحد منهم إن خرج من بيته يخرج ومعه بعض المال ليعطي من يتعرض له من قطاع الطريق، ليخرج من أذيتهم، وإلا ضربوه وأهانوه، بل قد يقتلوه عياذاً بالله، فكيف تكون عيشة هؤلاء؟! والحديث يقول: يأتي على الناس زمان تسير الضعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله والذئب على الغنم. ونحن والحمد لله في نعمة تستوجب الشكر، وشكر الشكر على هذه النعمة. نسأل الله أن يديمها علينا وعلى عامة المسلمين، فإنها ليست نعمة قاصرة على أهل البلاد، ولكن ينعم فيها الوافدون إلى بيت الله الحرام، هذا من باب التنبيه على {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ} [قريش:3-4] . كذلك أول نداء في المصحف (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، لم يقل: (يا أيها الذين آمنوا) ؛ لأنه نداء عام يلزم جميع الخلق، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، ثم جاء بالتعريف للرب سبحانه ونعمه على المربوب {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:21-22] ، يعني خيمة كبيرة أرضها مفروشة، وهي مسقوفة، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} وداخل هذا البيت الكبير {وأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ} [البقرة:22] من تلك الأرض {مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] خلقكم وآواكم ورزقكم {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، لأنه لا ند لله في ذلك، لا في خلقكم ولا في خلق من قبلكم، ولا في جعل الأرض فراشاً، ولا في جعل السماء بناءً، ولا في إنزال الماء، ولا في إنبات الثمرات رزقاً لكم، إذا {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، وهذا كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: هو مضمون لا إله إلا الله. يأتي بعدها مضمون: (محمد رسول الله) {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] ، أي: إن كنتم في ريب من القرآن ورسالة رسولنا إليكم، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] ، أي: ادعوا جميع من تستشهدون وتستظهرون، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] ، انظر إلى التحدي، فإنه تحد مركب {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} على باب الحكاية، وأيضاً (وَلَنْ تَفْعَلُوا) وفعلاً لم يفعلوا {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:24-25] . إذاً بادئ الأمر أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً؛ لأنه ليس من حق أحدٍ أن يُشرك مع الله، لأنه لا يوجد موجود هو ند لله، ولا شريك مع الله في ملكه، ولكن كما قال صلى الله عليه وسلم عن ربه: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم) . يأتي الحديث القدسي: (إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري) ، وبهذه المناسبة فإن العبادة ليست مجرد صلاة في القبلة، وصيام في رمضان، وزكاة للفقير، وحج إلى بيت الله بل كل أوامر الله عبادة، فأنت حينما تأكل الطعام تعرف أنه من عند الله، حينما تأتي إلى الشاة لتذكيها لو أنها ماتت دون أن تذكيها، أو جاء مشرك وقال باسم اللات والعزى، وأراق دمها فإنها تحرُم عليك، وإذا جئت وقلت باسم الله، حلت لك لماذا؟ فالسكين واحدة في يد المسلم أو يد المشرك، قطع العروق واحد، إراقة الدم والتخلص من فاسده سواء، ولكن تلك يد مشرك ذبح لصنمه، وهذه يد مسلم سمى وذبح لربه، والفرق بينهما أن المشرك معتد ظالم، والمسلم عابد ملتزم طائع لله، عرف بأن الذي كونها وخلقها ورعاها في بطن أمها هو الله، والذي أخرجها إلى الوجود هو الله، والذي أنبت لها المرعى هو الله، والذي أنبت لحمها وشحمها هو الله، فالخالق لها هو الله، فحينما تريد أن تأكلها تستأذن الله أي: رب أنت أحللتها لي باسمك، باسم الله الله أكبر تقول: باسم الله الله أكبر، لا تقل: بسم الله الرحمن الرحيم، تقول باسم الله الله أكبر؛ لأن الذي أقدرك عليها هو أكبر منك، فتتذكر عظمة الله، تأتي للبعير وأنت لا تساوي قدر رجل من رجليه، وتنيخه أو تطعنه وقد عقلت إحدى يديه، فالله سخر لك هذا المخلوق الكبير تنحره وتسلخه وتأكل لحمه، فهو أكبر سبحانه وتعالى. (تعبد الله لا تشرك به شيئاً) : هذه الفقرة كما يقول العلماء هي التي من أجلها أرسل الله الرسل، وقامت بين الرسل وأممهم تلك المعارك، وهي التي قاتل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، لما قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] ؛ لأنه يقول: اعبدوا الله وحده ولا تجعلوا معه شركاء، مع أن العرب كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك فهم معترفون بأن آلهتهم تحت سلطة الله سبحانه، وكانوا يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، لكن اتخذوهم شركاء مع الله، فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقولوا: لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث لـ معاذ ويقصد به الأمة جمعاء، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمري لواحد منكم كأمري لكم جميعاً) . وهكذا يضع صلى الله عليه وسلم القاعدة، وهي أن تكون العبادة لله وحده لا شريك له، ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال أحدهم: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً، قل: ما شاء الله وحده) ، فلا نبي مرسل ولا ملك مقرب، وكل ما يخطر على بالك فليس له حق شعرة ولا جزء من مليون من شعرة في هذا الكون، يستحق لأجله شيئاً من العبادة مع الله. وإذا تقرر هذا المبدأ لدى المسلم وأصبح خالص العبودية لله، فهل يستوي هو ومن يجعل مع الله إلهاً آخر، هل تستوي شخصية ونفسية الذي يعبد الله مع شخصية ونفسية الذي يعبد غير الله؟! بل وتجد الشخص الذي يعبد الحجر عنده شيء من الوهم، وعنده شيء من الوهن والضعف، لكن الذي يعبد الله وحده، كأن الدنيا كلها ملك له؛ إذاً: بعد تثبيت هذه القاعدة وإقرارها تأتي التفصيلات.

إقامة الصلاة

إقامة الصلاة (تقيم الصلاة) . أما كان معاذ يقيم الصلاة؟ معاذ الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة يعلم الناس ألم يكن يقيم الصلاة؟ فهذا مما يؤكد أن المقصود بهذا الأمة كلها، ومعاذ فرد منها. وهنا أيضاً لفظة (تقيم) ، فلم يقل: تؤدي، أو تصلي، فلفظة تقيم مأخوذة من الإقامة، تقول: قامت الحرب على ساقها، بمعنى أنها كانت في أوج قوتها وقدرتها، وكذلك العوام يقولون: السوق نائمة، يعني ليس فيها حركة، وكذلك إقامة الأمر أي: أداؤه على أكمل وجه، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي معاذاً لا بمجرد أداء الصلاة بشكلها أو بطقوسها فحسب، بل يوصيه بأن يؤدي الصلاة على أكمل وجه تقام عليه. أما الكلام عن إقامة الصلاة فأعتقد أن جميع كتب المسلمين مليئة بالكلام عنها، وقد اهتم الدعاة والوعاظ قديماً وحديثاً بالصلاة، ولكن يهمنا التنبيه على شيء وهو ما سبق الكلام عنه في حديث أبي مالك الأشعري: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور) ، ليعلم الإنسان أن أداء الصلاة ليس مجرد أداء حق لله لا يعود عليه منه شيء، بل الصلاة أعظم من هذا، فإنها منهج حياة. وكل أركان الإسلام كذلك، والكل يكمل بعضه بعضاً حتى يكون المسلم متكامل الشخصية، فالصلاة جاء فيها قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ، فإذا كانت الصلاة معك فأنت في حصن يقيك من الوقوع في الفحشاء والمنكر، ومعنى ذلك أن المجتمع الذي تؤدى فيه الصلوات مجتمع طاهر نقي مثالي، بعيد عن مواقع الفحشاء والمنكر، وأقل ما يكون أنها لا تظهر فيه. وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (والصلاة نور) ، بل وهناك ما هو أعظم مردوداً عليك، كما في قوله سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ، فالصلاة عونٌ للإنسان، وليس عوناً مادياً، بل أعظم من ذلك، فهي عونٌ على النوائب التي تنتاب الإنسان، وعون على ملازمة طاعة الله، وعون على الوصول إلى الله، لأنك تقف بين يدي الله وتناجيه بلا ترجمان، وتحمد الله وتشكره وتثبت له صفات الجلال والكمال إلى آخر ما في سورة الفاتحة التي قال فيها المولى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) وتلك الطمأنينة التي تكتسبها حينما تستقبل القبلة وتكبر. والرسول صلى الله عليه وسلم صدّر بذكر الصلاة في هذا الحديث، بعد قاعدة توحيد الله وإفراده سبحانه بالعبادة وحده، ومن المعلوم أن الصلوات خمس، وحينما ينادي المنادي حي على الصلاة حي على الفلاح، يجب على المسلم حينما يسمع ذلك أن يبادر، فمهما كان في يده من عمل هام كبير، فالله أكبر من ذلك، ولا فلاح لمن لم يجب داعي الله، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] .

إيتاء الزكاة

إيتاء الزكاة ويعقب ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وتؤتي الزكاة) ، كما يقول الصديق رضي الله تعالى عنه: الزكاة أخت الصلاة أو قرينة الصلاة. والصلاة والزكاة والصيام والحج كلها كانت في شرائع الأمم المتقدمة، ففي شريعة عيسى عليه السلام يقول الله على لسانه: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31] ، وكذلك إبراهيم عليه السلام: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] . إذاً: إيتاء الزكاة كما يقول بعض العلماء: لو لم يؤكد عليها الإسلام لكانت واجباً اجتماعياً. المولى سبحانه يمتحن الغني بغناه والفقير بفقره، لينظر هل يشكر الغني نعمة الغنى، وهل يصبر الفقير على بلاء الفقر، والكل من عند الله ابتلاءً لخلقه، كما قالوا: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل متى يعيل يعني: متى يفتقر. وما تدري وإن زمرت ثقبا يكون لك أو لغيرك الفصيل أي: لو ولدت ناقتك وأنت جئت وزمرت أي: أنت أخذت منها تلك المادة، ونظفت واعتنيت به، فلا تدري هل يكون لك أو لورثتك، إذاً: الغنى والفقر ابتلاء في الدنيا وليس بكدك ولا بحجاك وعقلك. لو كانت الأرزاق تأتي على قدر الحجا لماتت من جهلهن البهائم إذاً: سعة الرزق من عند الله سبحانه وتعالى، لكن الله جعل في أموال الأغنياء حقاً للفقراء، وكما يقول علي رضي الله تعالى عنه: لقد جعل الله في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء، فما اشتكى فقير إلا بتقصير غني، فيوجد تكافل اجتماعي إلزامي، لكن بعض الناس قد يشح، وبعض الناس قد يجود، ومن السلف من خرج من ماله عدة مرات لوجه الله. إذاً: (تؤتي الزكاة) ، هل يقصد الزكاة المفروضة أم أن معها الصدقة النافلة؟ الحديث هنا يتكلم عن الفرائض، وقد تقدم التنبيه على أن النوافل تكمل الفرائض، وأحب ما يتقرب به العبد إلى الله أداء ما افترض عليه، ثم لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه الله سبحانه. والكلام على الزكاة أيضاً في نصابها وفي أنواعها وفي مخارجها وفي آدابها، كل ذلك تقدم التنبيه عليه.

صوم رمضان

صوم رمضان ثم قال: (وتصوم رمضان) ، إذاً: الأول: تعبد الله لا تشرك به يعني لا إله إلا الله، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: صوم رمضان. وكلنا يعلم فريضة الصوم ولكن ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، لكن كما قال جابر رضي الله تعالى عنه: لا يكون صوم العبد صوماً حقيقة حتى تصوم جوارحه، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ، وقال: (والصوم جنة ما لم يخرقها، قالوا بأي شيء يخرقها يا رسول الله!! قال: بكذب أو بسباب أو بفسوق) أو غير ذلك. صوم رمضان يعني الصوم الحقيقي، وكما أشرنا بأن جميع العبادات كانت في الأمم الذين قبلنا، فالصوم قال الله عنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فإذا علم المسلم أنه كتب على من قبلنا فقاموا به ولم يقصروا، فيجب أن نكون أعظم قياماً منهم؛ لأنا خير أمة أخرجت للناس.

حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا

حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً يأتي الركن الخامس: (وتحج البيت) ، وحج البيت منهج إسلامي متكامل، إن كان من جهة العبادة وإفرادها لله، فهي في شعارك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وإن كان في إقامتك للصلاة فأنت تصلي في سفرك للحج، وتلزم بركعتي سنة الطواف، وإن كان في الصوم {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} [البقرة:196] ، فيأتي الصيام أيضاً في الحج. وكذلك الزكاة؛ لأن الحج يستلزم نفقة في سبيل الله، وهكذا جميع العبادات تأتي ضمن أعمال الحج. ومن قال إن الحج مجسم مصغر للإسلام فليس قوله بعيداً، بل أعمال الدين والدنيا ماثلة في الحج؛ من حل وارتحال، وأعمال مالية وبدنية وتعاون الجميع؛ كل ذلك ماثل في الحج. ولعل بهذه الأركان على سبيل الإجمال نكون قد مررنا على تعداد ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. وبالله التوفيق.

الحديث التاسع والعشرون [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [2]

أبواب الخير

أبواب الخير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فلا زلنا في حديث معاذ، وقد وصلنا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على أبواب الخير) ، فبعد أن بين صلوات الله وسلامه عليه أركان الإسلام كلها، كأنه فيما سيأتي سيبين آثار تلك الأعمال على الفرد والجماعة. أما الأبواب فهي جمع باب، وهو في الأمور المعنوية كالأمور الحسية، إذا دخلت البيت وفي البيت غرف ومجالس، لكل غرفة باب، فإذا فتح هذا الباب اجتزت إلى الغرفة، ثم وجدت في الغرفة جزئيات، إن كانت للجلوس وجدت مقاعد، وإن كانت للنوم وجدت الفراش وما يتعلق به، وإن كانت للطعام وجدت أنواع الطعام، وهكذا، فداخل هذا الباب جزئيات. وكذلك أبواب كتب الفقه، تقول (باب الوضوء) ، إذا فتحت هذا الباب وجدت كيفية الوضوء من بداية غسل الكفين إلى غسل الرجلين، كل ذلك داخل باب الوضوء، وكذلك باب الصلاة وباب الصيام، أو كتاب الصلاة، ويأتي تحت هذا الكتاب أبواب، باب وجوب الصلاة، باب حكم الجماعة، باب أوقات الصلاة، باب القراءة خلف الإمام، كل هذه أبواب داخل الكتاب، فالكتاب كله كالبيت والقصر الكبير، وداخل هذا القصر غرف، ولكل غرفة بابها، وداخل الغرف جزئيات، فداخل الباب فصول ومسائل ومباحث. وهنا بوجه صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى عناوين كلية، أو إلى أبواب إذا فُتح الباب منها وجدت فيه جزئيات عديدة، كأنه يقول: أعطيك رءوس أقلام. (ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: بلى يا رسول الله، فقال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل) . فذكر الصيام والزكاة والصلاة، وقد ذكرت من قبل في قوله: (تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان) ، فعاد إليها مرة أخرى ولكن بوجه غير الوجه الأول، فالوجه الأول بيّن فيه أركان الإسلام، وهنا بين فيه النوافل التي هي من أبواب الخير الواسعة، فبدأ بالصوم وآدابه وأحكامه وعوامل حفظه وصيانته، وكأنه قال: أولاً تصوم رمضان ثم قال: أنت طلبت ما يدخلك الجنة، والصوم جزءٌ منها، ولكن كيف تصومه؟ كأنه يقول: إن الصوم الذي يؤتي ثماره ويظهر مفعوله، هذا هو الذي يكون لصاحبه جنَّة.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة) قوله عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة) الجُنَّة: يقول علماء فقه اللغة: إذا اجتمعت الجيم والنون المضعَّفة جُنَّ، جَنَّة، جنين، جِنٌّ، كل هذه الألفاظ ترتبط في صلة قرابة في الدلالة بصفة عامة على شيءٍ مختفٍ مستتر، أو تدل على الخفاء والاستتار، فتقول: الجنين، هو موجود في بطن أمه مستتر عنا، تقول: الجن، نحن لا نراهم، والجُنَّة: هي ما تجِن الإنسان، أي: تقيه وتستره عن الضربات، والمِجَن: هو ما يتقي به الفارس ضربات عدوه. فكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كنتُ أتَّقي ثلاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ ومُعْصِرُ يعني: وقايتي من أعين الناس، وعلى هذا يتفق العلماء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبَّه الصوم بالجُنَّة، ولو جئنا بدل النون باء، وضعنا النقطة من تحت صارت جبَّة، فإذا لبست الجبة كانت ساترة لك عن أعين الناس، وإذا تلبَّست بالصوم كان جنة لك عن الشيطان، وجُنَّة لك عن المعاصي، ولهذا جاء الحديث: (والصوم جنة ما لم يخرقها، قالوا: بم يخرقها يا رسول الله، قال: بكذب أو غيبة أو سباب) أو نحو ذلك. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

المعنى الحقيقي للصوم

المعنى الحقيقي للصوم ولذا العلماء يقولون: الغيبة والكذب تخرق والاستغفار يرقع، فتخرق الجنة بكذب أو غش أو غيبة، فإذا استغفر رقعت خرقته، والثوب المرقع على كلٍ أحسن من الممزق. إذاً: تصوير الصوم بأنه جنة كيف يتحقق؟ إذا جئنا إلى النصوص الواردة في الصوم وجدنا أن الإنسان يصوم عن شهوتي الفرج والبطن، حتى حال غيبته عن الناس عندما تثور عنده شهوة المأكل والطعام أمامه فإنه لا يتناوله، وإذا ثارت عنده شهوة الفرج وزوجته الحسناء على فراشه فلا يقربها، وهذا كله امتثالاً لأمر الله عز وجل، كما جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ، ومن هنا كان الصوم مربي الضمائر، وثمرته التقوى، كما قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ، أي: لعلكم أن تكونوا على جانب عظيم من التقوى، وتكون لكم الوقاية من عذاب الله. ومن هنا أيضاً جاء الحديث: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) ، فالصوم يجعلك في جُنَّة، فلا ترد على من سابك أو شاتمك، فهل يمكن أن تبدأ أنت بالاعتداء؟! لا؛ لأنك بصومك تستجن وتتقي، ولا ترد على من يعتدي عليك، بل من سابك أو شاتمك تقول له: (إني امرؤ صائم) ، أي: لا أستطيع أن أجيبك لأني صائم، صائم عن ماذا؟ صائم عن الحلال الطعام والشراب، فكيف أفطر على هذا المحرم؟ ولهذا جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه: لا يتم صوم العبد حتى تصوم جوارحه. فالعين تصوم فلا تنظر إلى ما حرم الله، واليد تصوم فلا تمتد إلى ما حرم الله، لا بأخذ مال الناس، ولا بالبطش بالضعفاء، والأذن تصوم فلا تصغي إلى حديث محرم، والرجل تصوم فلا تسعى إلى مكان محرم، والنفس تصوم فلا تتمنى وتحلم أحلام اليقظة في شيءٍ محرم، لأن أحلام اليقظة يمكن أن تجر إلى العمل الفعلي، فيدخل الإنسان في المعصية والإثم ظاهراً وباطناً، وتتعود وتتمرن تلك الجوارح شهراً كاملاً على الصوم، حتى تعتاد هذه الجوارح الطاعة، ولا تنتكس في حمأة المعاصي بسهولة، ولضمان استمرارية هذه الآثار ندبنا الله إلى الإكثار من صيام النافلة. والنافلة قد تكون مقيدة ومطلقة، فمن المقيد بالزمان نجد صيام ست من شوال، يوم عاشوراء، يوم عرفة، الإثنين والخميس، ثلاثة أيام من كل شهر، ومن الصوم المطلق قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) ، أي يوم كان بدون تحديد. إذاً: (فالصوم جنة) ، لكن قد تخرق هذه الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً ذلك: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ، وكلمة (قول الزور) ، ليست مجرد شهادة زور في المحكمة بين اثنين، بل كل كذب فهو زور، لأنهم يقولون في اللغة: الزور ما كان جانبياً، تقول: فلان جاء زائراً، أي: من جانب البيت، وزور الإنسان مع الفم في مؤخر الحلق، فالقول الزور هو القول المنحني عن طريق الحق والاستقامة، فكل قول ليس مستقيماً مع الحق فهو زور، سواء كان غشاً في مبايعات، أو كان تدليساً، أو كان كذباً أو كان إيهاماً، أو كان سباباً، كل هذا من الزور.

الحكمة من جعل قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم.

الحكمة من جعل قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم ... ) بين آية الصوم وآية الأهلة ولذا في قوله سبحانه في {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] ، جمع باباً واسعاً من الآداب، وهنا كذلك: (الصوم جنة) ، وإذا استمر الإنسان في جُنَّة الصوم إلى أن جاء العيد وخرج رمضان، هل يمزق هذه الجُنَّة أو يحافظ عليها؟ يحافظ عليها، لكن ليس الحفاظ عليها من الطعام والشراب؟ لأن ذلك أصبح مباحاً له، بل يحافظ عليها مما حرم الله. ولذا نجد أن الله لما ذكر فريضة الصيام في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ذكر بعدها مباشرة {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] وجعلها قبل آية الأهلة التي هي من لوازم الصوم، وبها يتحدد ويدخل الشهر، ولماذا هذا؟ أما كان يستطيع أن يجعل قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} قبل آية الصوم، أو بعد آية الأهلة، أو في سورة أخرى؟ والمقصد من ذلك -والله أعلم-: كأن المولى سبحانه يوقف الصائم عن الحلال، يقول الآن انتهيت من صومك، ويأتي الهلال وتفطر لشوال؛ لكن اعلم إن كنت صمت فعلاً شهراً كاملاً عن الحلال، فلا تفطر من الغد على الحرام، وتأكل أموال الناس بالباطل وتدلي بها إلى الحكام لتأكل فريقاً من أموال الناس بالإثم. فتنعم بالاستتار في جبة غير ممزقة مرة من الزمان، فإن عرض لها شيء من الخرق جاء رمضان آخر ليجدد لك جبتك من جديد. ولا أعتقد أن إنساناً فاتته لذة الاتقاء بجنة الصوم، حينما يكون في رمضان ويأتيه من يسول له بالمعاصي -يدفعه الشيطان دفعاً- فإذا به يتمالك نفسه ويصبر ويترك هذا ويقول ونفسه مرتاحة ومطمئنة: إني صائم، كل إنسان يشعر بهذا، وبالتأكيد من يسول بالمعاصي عندما يجد هذا الموقف من هذا الصائم سيستحي، ولذا يقول العلماء: هل يقول هذه الكلمة -إني صائم- في سره ليمنع نفسه، أو يقولها علانية يُسمع خصمه ليكف أذاه عنه؟ والأولى هنا -والله أعلم- أن يظهرها ويسمع خصمه مقالته.

سبب إعادة ذكر الصوم والصلاة والصدقة في الحديث

سبب إعادة ذكر الصوم والصلاة والصدقة في الحديث إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف ذكر لـ معاذ (تعبد الله لا تشرك به شيئاً) ، وحقيقة ذلك تحقيق لا إله إلا الله، بأن تنفي جميع الآلهة، ولا تعبد إلهاً قط إلا الله، بخلاف المشركين الذين يقولون: أجعل الآلهة كلها إلهاً واحداً، لأنه كان لهم ثلاثمائة وستون صنماً في الكعبة، وهو يريد أن يلغي هذا كله إلى إله واحد. فحقيقته توحيد الله هو أن تعبد الله وحده، ويتحقق هذا في قولك (لا إله إلا الله) ، فلا مألوه ولا معبود بحق إلا الله، ثم جاء بعد ذلك بالصلاة والصيام وغيرها. وهنا يقول له: (ألا أدلك على أبواب الخير) ، أليست الصلاة والصيام التي ذكرها أولاً من أبواب الخير؟ نعم هي منها، بل هي الخير كله، ولكن لماذا يعيدها هنا في أبواب الخير؟ للحديث النبوي مثلما يقولون ذوق وحلاوة، وله نور وطلاوة، ذكر صلى الله عليه وسلم أصول الإسلام التي تدخل الجنة؛ لكن أبواب الخير هي محل المنافسة، وهي محل الزيادة، فالصلوات الخمس وصوم رمضان وزكاة الفريضة وحج البيت، الكل في ذلك سواء، أهناك شخص عليه ستة فروض وآخر عليه أربعة؟ أهناك شخص عليه صيام شهر والآخر نصف شهر أو شهرين؟ الناس متساوون في هذا، نصاب الزكاة على الجميع سواء، عشرون دينار في الذهب، ومائتا درهم في الفضة، وأربعون شاة في الغنم، وخمس من الإبل، كل هذه معروفة عند الجميع وهم متساوون فيها، ولكن أبواب الخير تزيد وتتسع، وتضيق وتقل، فهي قابلة للزيادة، ولكن أركان الإسلام لا تقبل زيادة ولا نقصاً، فهي خمس صلوات، وكل صلاة لها عدد مخصوص. يدلنا على هذا المعنى الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) ، والفرض ليس فيه زيادة ولا نقص ثم قال: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ، لماذا قال (يتقرب) ولم يقل (يقرب) ؟ سبحان الله العظيم، لو قلت (يقرب) لتحقق بخطوة واحدة، لكن يتقرب، تدل على أنها خطوات، قد تزيد وقد تنقص نافلة بعد نافلة. وذكر الصوم مرة أخرى ليس من باب التكرار بلا فائدة، فحديث البلغاء يتنزه عن ذلك، والمصطفى صلى الله عليه وسلم هو سيد البلغاء، إذاً: إعادة الصوم هنا تحت عنوان أبواب الخير لا يتنافى ولا يتعارض، ولا يكون مكرراً مع الصلاة والصيام التي ذكرت في أول الحديث، لأنها ذكرت هناك على سبيل الفرض والتحديد والإلزام، وذكرت هنا على أنها من أبواب النافلة وأبواب الخير التي تترك لجهد العامل. وقد جاء عند مسلم: (أن أعرابياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! جاءنا رسولك يخبر أنك رسول الله، أحقاً ما يقول؟ قال: بلى، قال: فبالذي رفع السماء ونصب الجبال، وبسط الأرض وجعل فيها ما جعل، آلله أرسلك؟ قال: بلى. قال: وأخبرنا رسولك أن الله افترض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، فبالذي رفع السماء، ونصب الجبال، وسط الأرض وجعل فيها ما جعل، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم) الحديث، وذكر فيه الزكاة والصوم والحج. والرجل الذي جاء للرسول في المسجد فقال: أخبرني ماذا كتب الله علي من الصلاة؟ قال: (خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع) ، ثم ذكر الصيام والزكاة والحج، ثم قال: (والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال: أفلح إن صدق) . وهنا الرسول يقول لـ معاذ: (ألا أدلك على أبواب الخير) ، لماذا لم يقل كن مثل ذلك الأعرابي؟ الأعرابي جاء بنفسه وأخذ نفسه بحد السيف، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد ولا أنقص، فهو التزم وألزم نفسه بشيءٍ كبير، ما هو بهين، الذي لا ينقص مما فرض الله عليه، هذا التزام بأقصى ما يكون، فالرسول أخبر بأنه إذا نفذ هذا أفلح، ولكن معاذاً يسأل عن العمل الذي يقربه إلى الجنة، ومعاذ راغب في الخير، فكان هذا بياناً للأمة في شخصية معاذ.

الصوم باب من أبواب الخير في كل وقت وحين

الصوم باب من أبواب الخير في كل وقت وحين ومن هنا نجد بعض الناس إذا جاء رمضان قال: يا الله أعنا عليه، وإذا ذهب رمضان قال: الحمد لله الذي جعله يذهب بالسلامة، ونحن والله نقولها، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أقبل رمضان قال: اللهم أعنا على رمضان، ونقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم سلمنا لرمضان وسلم رمضان لنا، فإذا انتهى رمضان قلنا: ربي لك الحمد والشكر، ثم نعيد ونفرح؛ لأننا أدينا ما افترض علينا، فهذه فرحة كبيرة. ولكن يأتي الحديث ويعطي طعماً وهدية، ويدعو الناس للمواصلة، (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ، لكأن الحديث يقول إذا انتهى رمضان فلا تقفل باب الخير، ودعه مفتوحاً، فصم ستاً من شوال، وإذا صمت ستاً من شوال بعد رمضان فكأنك صمت الدهر كله، وبعد شوال في غيره من الشهور استُحب لك صيام الإثنين والخميس، أو ثلاثة أيام من كل شهر، وإذا جاءت العشر الأيام الأول من ذي الحجة ندب لك صيام التسعة الأول منها، ثم يأتي شهر الله المحرم الذي يكون فيه الصوم حبيباً إلى الله، وفيه يوم عاشوراء، وهكذا فيستمر باب الخير مفتوحاً ولا يغلق حتى الممات. ولذا جاء في الحديث: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون) ، هذا باب من أبواب الخير وهو (الصوم جنة) ، وبقدر صومك، وبقدر حفظك لصومك تعظم تلك الجنة. أظن أنك لو ذهبت للسوق، ورأيت الملابس الجاهزة أو الأقمشة الصوفية والقطنية، فلن تشتري إلا بقدر ما عندك من مال، فشخص يلبس جبة خفيفة على قدر ماله، وآخر من أحسن ما يكون من الأقمشة، ومن أحسن ما يكون من الخياطة والتفصيل، وكذلك بقدر الحفاظ على صومك بقدر نفاسة وغلاء جبتك، وبقدر ما هي غالية ونفيسة وقوية، بقدر ما تقيك الحر والبرد. إذاً: هذا الباب واسع، لذا نجد أن هناك من كان يصوم الدهر، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الدهر كله، ويتعين عند الجمهور تحريم صوم يومي العيدين وصوم يوم الشك، وأيام التشريق في منى فيها الخلاف فيمن لم يجد هدياً ويتعين عليه صوم ثلاثة أيام في الحج.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صوم النفل

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صوم النفل نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر، وقالت أم المؤمنين عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان) . وجاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة، ثم رجع إلى قومه، وبعد سنة جاء ووقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وألقى عليه السلام فرد، ولم يعرفه، فقال: يا رسول الله! أما عرفتني؟! قال: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي وقفت عليك في العام الماضي، قال: ما الذي غيرك؟ قال: منذ فارقتك لم أفطر يوماً، قال: (لا صام من صام الدهر، صم ثلاثة أيام من كل شهر، فذاك صوم الدهر كله، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (صم الإثنين والخميس) ، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (صم يوماً وافطر يوماً) ، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) . وبعض الصحابة في المدينة، حينما شدد على نفسه في الصوم مع قوله الرسول صلى الله عليه وسلم له: (أحب الصيام إلى الله صيام داود) ، وقوله: (صم يوماً وأفطر يوماً) ، فلما كبر وشق عليه ما اعتاده من الصوم قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقصد أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فحسب. إذاً: المولى سبحانه وتعالى جعل رسول الله عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، ومما أنزله قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، ومن رحمته ورأفته صلى الله عليه وسلم بالأمة، بل من صميم الرسالة؛ ألا يكلف أحداً ما لا يطيق من العبادات. والنفر الثلاثة الذين تذاكروا عباداتهم، وقالوا: نذهب لبيت أمهات المؤمنين ونسأل عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فسألوا أم المؤمنين عائشة، فقالت: ينام ويقوم، ويصوم ويفطر، قالوا: هذا عبد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد، وقال الثاني: وأنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء. وأم المؤمنين تسمع كلامهم من وراء الحجاب، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرت له مقالة النفر الثلاثة؛ سبحان الله! عباد الأصنام صاروا يتسابقون في الطاعة! ولكن هل سرّه ذلك ورضي به، وقال: الحمد لله الذي جعل أصحابي هكذا؟ لا والله، جاء إلى المسجد وجمع الناس وخطب وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما إني لأتقاكم لله وأعلمكم بالله، وإني لأنام وأقوم وأفطر وأصوم وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . وهل هم راغبون عن سنته عليه الصلاة والسلام والله يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ، وهذا باب من أبواب الخير؟! A لا. ولكن هذا باب فتنة عظيم، بل إن الشيطان ما جاء للبشر وأوقعهم في عبادة الأصنام والحجارة إلا من هذا الباب، باب الغلو في العبادات؛ لأن الإنسان له طاقة محدودة لا يطيق ما فوقها، كفرس حملته فوق طاقته فإنه تخور قواه ويسقط تحتك. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) ، وكذلك الجسم هو الفرس للإنسان، يواصل عليه السير إلى نهاية المرحلة التي كتبها الله له، مع تخلل فترات راحة بين الفينة والأخرى، كما في الحديث: (ساعة وساعة) حتى نصل إلى المراد دون أن تخور القوى وتضعف. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) ، تريد أن تسابق الإسلام أقوى منك إذاً: خاف صلى الله عليه وسلم على الناس الغلو، لأن الغالي يغلو ثم يعجز فإذا عجز هدم ما فات.

الغلو في الدين وسبب الانحراف

الغلو في الدين وسبب الانحراف والشيطان أوصل الناس إلى عبادة ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر من هذا الباب، وهو الغلو، فقد كان هؤلاء رجالاً صالحين قبل زمن نوح عليه السلام، ولما ذهب هؤلاء الناس جاء الشيطان لأولادهم، فقال: ما هذه العبادة التي لا تساوي شيئاً، آباؤكم وأجدادكم كانوا يقومون الليل ويصومون النهار، ويفعلون ويفعلون، اجتهدوا بالعبادة مثلهم سبحان الله، فهذا الشيطان يحث الناس على الاجتهاد في العبادة؟! وخالف النفس والشيطان فاعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم إذا كان بينك إنسان عداوة، وجاءك يوماً مبتسماً ويضحك، ونصحك فقال: اذهب من هذا الطريق فهو قريب؛ فاعرف أن في هذا الطريق مهلكة لك، لأن النصح لا يأتي من عدو، فالشيطان يأتي لهؤلاء ويحثهم على الزيادة في العبادة مع أنه يحترق من كثرة العبادة؛ لكن يرسم للخطوات نحو الكفر والوثنية بصبر وجلد. فقاموا واجتهدوا ثم قال لهم: أنتم ما فعلتم شيئاً. قالوا: ماذا نفعل أكثر من هذا. قال: صوروا تماثيل للآباء في معابدهم، حتى كلما رأيتموهم نشطتم في العبادة! ، فأخذوا بالنصحية. ونام الشيطان على أعصابه، حتى ذهب هذا الجيل ولا يدري عن الأجداد شيئاً. ثم جاء للأبناء فقال: أين أنتم ضائعون? قالوا: ماذا؟ قال: لماذا لم تأتوا عند هذه الصور، ولم تلتفتوا إليها، وتلتفوا حولها ولو مرة واحدة في السنة. قالوا: بماذا؟ قال: واحدة من العبادات اجعلوها لها. قالوا: نعبد الله وحده. قال: لا مانع، لكن واحدة فقط لهؤلاء الآباء والأجداد. قالوا: واحدة لا بأس! وهكذا قليلاً قليلاً، وبدلوا الصور بالأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل. ثم قال لهم: لا حاجة لأن تأتوا هنا، كل واحد يأخذ تمثاله أو معبوده، فيضعه في بيته يعبده. وانتقلت العبادة من الله إلى الأصنام، ومن المعابد إلى البيوت، وعندئذٍ استراح وبلع ريقه عن كل المدة التي حرقت أعصابه فيها. والسبب في هذا الغلو والمبالغات، ولذا فالرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الأمة من الغلو، فنهى عن صيام الدهر، لأنه يأتي وقت ويعجز عنه، وربما كره هذه العبادة. إذاً: الصوم في النوافل له أقسام، فمنه ما يكون في أزمنة معينة، ومنه ما يكون مطلقاً، وكل إنسان يأخذ على قدر طاقته وهمته واجتهاده.

الصدقة برهان على صدق الإيمان

الصدقة برهان على صدق الإيمان ثم نأتي إلى المال، هناك قال: (تؤتي الزكاة) ، وهنا قال: (والصدقة) ، لاحظ المغايرة في التعبير بين: الزكاة الصدقة، وكلاهما لفظ يستعمل مكان الآخر، بقول الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ،والتي يأخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من المال هي زكاة فريضة؛ لأن الصديق يقول: (والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ، وإنما يقاتلهم على الفريضة لا على النافلة. ففي أول الحديث وضع أصول وقواعد ما يقرب إلى الله ويدخل الجنة من الفرائض وسماه زكاة، وهنا عند أبواب الخير فذكر الصدقة؛ ليؤكد أنها من النوافل وليست من الفرائض. فقال: (والصدقة تطفئ الخطيئة) ، وإذا بحثنا عن العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي نجد أن بينهما ارتباطاً، فكلمة (صدقة) وكلمة (صدق) بينهما ارتباط في الصاد والدال والقاف، وهي الحروف الأصلية للكلمتين، أما التاء المربوطة فهي للتأنيث، إذاً: المادة الأساسية مشتركة بين صدقة المال وبين صدق القول، وحينما يقول القائل: أنا آمنت بالله وباليوم الآخر، يقول علماء البلاغة: هذه جملة خبرية، والجملة الخبرية هي ما تحتمل الصدق أو الكذب، فكل جملة تحتمل الصدق أو الكذب فهي جملة خبرية، وما لا تحتمل الصدق أو الكذب فهي جملة إنشائية كقول القائل: (قم يا زيد) فلا تحتمل صدقاً ولا كذباً، لأنها عبارة عن طلب قيام لم يكن موجوداً قبل الكلام، لكن (زيد قائم) يمكن يقول لك: لا، بل هو قاعد. فالذي يقول: آمنت بالله واليوم الآخر. هذا القول منه يحتاج إلى دليل على صدقه. وقد جاء من قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان) ، والبرهان كما يقول علماء اللغة: الإشعاع الذي يكون أمام قرص الشمس، فكأنه نور يدل على حقيقة خفية، فالصدقة برهان على إيمان العبد بالله واليوم الآخر، لأن الأصل في تعامل الأفراد أن يكون على سبيل المعاوضة، تقدم له خدمة فيقدم لك مثلها، كأن تدفع له دراهم وتأخذ منه سلعة، فالبيع والشراء والإجارات كل هذا معاوضة. لكن في الصدقة تدفع مالاً لفقير فأين العوض؟ هل أنت أخذت عوضاً في دفعك الصدقة للمسكين؟ لا، لكن يقينك يقول لك: إن العوض لن يكون هنا في هذه الدار، إنما سيكون في الدار الأخرى، فلا يدفع المسلم صدقة إلا ليبرهن على الاعتقاد الذي وقر في قلبه، بل ويعتقد ويوقن بأنه سيلقى أكثر مما قدم؛ لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] ، وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ} [البقرة:261] .

لفتة في بلاغة القرآن

لفتة في بلاغة القرآن وأريد أن ألفت النظر إلى أسلوب القرآن الكريم في هذه الأمثلة التي يخرج فيها المعنوي في صورة المحسوس، ففي هذه الآية قال: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ} فيجعلك تسرح بخيالك عند وضع الحبة وانفلاقها، وارتفاعها وسقيها، وظهور الأوراق الخضراء، ثم تفرعها إلى سنابل، وكل سنبلة فيها مائة حبة، وهكذا يمر على ذهنك شريط إيحاءات وتأملات تستوقف كل مؤمن أمام عظمة صاحب هذا الكتاب سبحانه وتعالى. فالقرآن الكريم يوقف الشخص عند تلك التعبيرات، ويجسد له الصورة، مثلاً: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد:14] ، يضرب الله مثلاً للذي يدعو غيره فلا يستجيبون له، كمثل من وقف على حافة بئر، وفتح فاه ليبلغه الماء، فهل سيبلغه شيء؟! لن يصله شيء ولو انتظر عمره كله. ومثال آخر قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] ، فليست هذه الصورة مثل قوله لو قال: (لا تنفعهم عبادة أصنامهم بشيء) ، فهنا جسد وجعل المعنوي في صورة المحسوس،. والخضر مع موسى عليهما السلام، بعد نهاية الرحلة ومعرفة الجواب على الأسئلة، لم يقل لموسى: علمي بالنسبة لعلم الله لا يساوي قطرة من بحر، إنما أرسل الله عصفوراً، ووقف على حافة السفينة، ومد منقاره وشرب من البحر، فقال الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر. الخلاصة: أن المؤمن بالله حقاً إذا تصدق كانت صدقته برهاناً على صدق إيمانه بالله، وأن العوض ينتظره يوم القيامة، ومن هنا كان المؤمن كلما قوي إيمانه ويقينه وتصديقه، كلما كان أشد إخفاءً لصدقته عن الناس، لأنه ليس له معهم غرض، ولا ينتظر منهم شيئاً، بل يخفيها على من تصدق بها عليه، وهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) .

الصدقة ليست حصرا على المال فحسب

الصدقة ليست حصراً على المال فحسب (قوله: والصدقة تطفئ الخطيئة) . والصدقة أوسع الأبواب؛ لأن الصدقة لا تتوقف على المال والغنى، بل الفقير له حظ في ذلك، وقد جاء أن فقراء المهاجرين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكوا له فقالوا: (ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أوليس الله قد جعل لكم ما تصدقون: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليله صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة ... ) إلى آخره. والحديث الآخر: (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) . إذاً: باب الصدقة واسع ولو بالشيء الحقير، قال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) . أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تأكل عنباً، ويأتي سائل، فتأخذ حبة وتعطيه، فيأخذها المسكين ويقلبها يميناً وشمالاً، فهذه حبة عنب، لكن لا تستقلها، فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] ، انظر كم في الحبة من مثاقيل الذر! وفي يوم من الأيام كانت عائشة صائمة، وأتاها مسكين، فقالت: لـ بريرة: أعطيه، قالت: ما عندي شيئاً، قالت فتشي، قالت: لا يوجد إلا قرص شعير تفطرين عليه في المغرب -وكان الوقت بعد العصر- قالت: أعطي المسكين وعند المغرب يرزق الله. تمشي بريرة متثاقلة فدفعت القرص للمسكين، وجاء المغرب وقامت أم المؤمنين عائشة تصلي، وقبل أن تختم صلاتها إذا بطارق يطرق الباب، وتنتهي أم المؤمنين من صلاتها وتلتفت فإذا شاة بقرامها، أي: شاة ناضجة بلوازمها، قالت: ما هذا يا بريرة؟ قالت: رجل -والله ما قد رأيته أبداً- أهدى إلينا. قالت: كلي، فهذا خير من قرصك. ثم تقول بهذه القاعدة: لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أقوى مما في قبضة يده. وكما يقول بعض العلماء، إذا كان الأجل محدوداً والرزق مضموناً، فهم تخاف؟ ولماذا تتعب نفسك؟ ما عليك إلا أن تأخذ بالأسباب وتتوكل على الله سبحانه وتعالى. إذاً: الصدقة تكون بأي شيء ولو بكلمة طيبة.

الحديث التاسع والعشرون [3]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [3]

الصدقة باب عظيم من أبواب الخير

الصدقة باب عظيم من أبواب الخير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلا زلنا عند حديث معاذ، ووصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ، تلك عادة الحياة. أن الضد يقضي على الضد، فالماء ضد النار، والماء أقوى من النار. ومن عجب أن يأتي حديث: (أن الملائكة لما وجدت خلق الجبال عظيم، قالت: يا رب هل خلقت خلقاً أعظم وأقوى من الجبال؟ قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: الحديد، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الحديد؟! قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: النار -النار تذيب الحديد-، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من النار؟ قال: بلى، الماء، وقالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الماء؟ قال: بلى، المؤمن يخفي صدقته فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) ، هذه قوة نفسية ومعنوية عجيبة. فالضد يقضي على الضد، فالماء يطفئ النار، وهذا على سنن الحياة، ولكن قدرة المولى فوق هذا كله، فهو الذي أعطى النار خاصية الإحراق، ويقدر على أن يسلبها تلك الخاصية فتكون ناراً بلا إحراق. وهذه نار النمرود، مكثوا سنين يوقدون النار ويجمعون لها، وبالمنجنيق ألقوا إبراهيم، فقال الله لها: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ، فسلبت خاصية الإحراق. الماء سائل شفاف يضربه موسى بعصا صغيرة، قال الله: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18] ، هي عصا عادية، فيضرب بها البحر فينفلق: {كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] ، فالذي سلب الماء سيولته هو الذي سلب النار إحراقها. وكذلك الحال في ناقة صالح عندما خرجت من جبل أصم، وعصى موسى يلقيها في الأرض فتصير حية تسعى، ويمسكها فترجع إلى سيرتها الأولى. فمظاهر القدرة الإلهية في هذا الكون تبين لنا أن الله فاعل مختار، يفعل ما يشاء سبحانه، وذلك حتى ينتزع من الإنسان الجحود العنيد، وليوجد عنده الإقرار بقدرة المولى سبحانه وتعالى التي لا يجحدها إلا معاند: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] . فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بوقائع قانون الحياة: بأن الماء يطفئ النار، وهذا شيء مشاهد ملموس، وكما أشرنا سابقاً، فإن السنة والكتاب يصوران المعنويات في صورة محسوسة، فالصدقة هي شيء من الطعام أو من المال تخرجه، فيكون لهذه الصدقة تأثير على الخطيئة، وهذا الأثر أمر لا ندركه بالحس ولا بالعقل؛ لأنه ليس عندنا إمكانيات لنتصور هذا الأمر، فيحيلنا صلى الله عليه وسلم على محسوس ملموس ندركه. لكن ما هي العلاقة بين الصدقة والخطيئة والماء والنار؟ الماء سائل شفاف بارد، والنار مادة ملتهبة محرقة ليس لها جرم. فكذلك الخطيئة معصية، والصدقة طاعة، وكلاهما ضد الآخر، والخطيئة لها تأثير في النفس، والصدقة لها تأثير على النفس، هذه بالطمأنينة والارتياح، والخطيئة بالقلق والانزعاج، ولا تجد إنساناً يخطئ خطيئة ويطمئن أبداً. والذي يهمنا: أن الصدقة في مقابل الخطيئة تلغيها، كما أن الماء في مقابل النار يطفئها، بأي كيفية؟ الله تعالى أعلم. ويذكر بعض العلماء لهذا الحديث رواية عند أحمد: (الصدقة تطفئ غضب الرب) ، وليس بينهما مناكرة، لأن حرارة الخطيئة من أثر غضب الرب، ولولا غضب الله سبحانه وتعالى على الخطيئة ما كان لها أثر يؤثر على الإنسان بالقلق والاضطراب، ولو كان المولى يرضاها ويحبها ما أثرت على الإنسان بشيء. إذاً: لكونها داخلة تحت ما يغضب الله كان لها هذا التأثير، و (تطفئ غضب الرب) ، أي: أثر الخطيئة التي أغضبت المولى سبحانه؛ إذاً لا منازعة ولا معارضة بين الروايتين. وقد جاء في الترغيب في الصدقات: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ، (كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس) ، ومن السبعة الذين يظلهم الله: الرجل الذي تصدق وأخفى الصدقة.

قيام الليل من أبواب الخير

قيام الليل من أبواب الخير ثم ذكر صلى الله عليه وسلم من أبواب الخير نافلة أخرى، فقال: (وصلاة الرجل في جوف الليل) ، وسُئِل صلى الله عليه وسلم: (أي الليل خير؟ قال: جوفه) ، وفي الرواية الأخرى: (ثلثه الأوسط) ، فصلاة الرجل في جوف الليل أول ما يتبادر أنها قيام الليل. والأحاديث الواردة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، ويهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث وأضاف إليه الآية القرآنية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يستدل بكتاب الله على سنة رسوله، والسنة والكتاب متلازمان، وعند الشافعي قاعدة عجيبة يقول: كل حديث لرسول الله عليه الصلاة والسلام له شاهد من كتاب الله، لكن لا يدرك ذلك كل إنسان، فهنا قرأ صلى الله عليه وسلم الآية مستدلاً بها على صلاة الرجل في جوف الليل. وقد يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية في موقف لا يشابه ما نزلت بسببه، ويستدل بعموم اللفظ بصرف النظر عن خصوص السبب، ولذا قال الأصوليون: العبرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن ذلك حينما جاء صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة يوقظهما لصلاة الليل، فقال علي رضي الله تعالى عنه: (إنما أنفسنا بيد الله متى ما شاء أن يبعثها بعثها، فيخرج من عنده صلى الله عليه وسلم وهو ينفض ثوبه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] ) ، وهي إنما نزلت في سبب آخر، لكن أخذها صلى الله عليه وسلم بعموم لفظها واستشهد بها على قضية علي، إذاً: الآية تشمل كل جدال وقع من إنسان في أي موقع.

أفضلية العبادة في الليل على النهار

أفضلية العبادة في الليل على النهار قوله في الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة:16] ، هي من صميم الموضوع الذي يتحدث عنه عليه الصلاة والسلام، فقول الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] إنما يكون ذلك في الليل. إذاً: الموضوع متحد، واستدلاله صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع السنة تقوية للدليل. ويتفق العلماء على أن أفضل وقت لأداء النوافل ما كان ليلاً، سواء كانت ذكراً عاماً أو خاصاً، أو صلاة أو تلاوة لكتاب الله، أو تفكراً في خلق السماوات والأرض امتثالاً لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] ، وتفكرهم في ملكوت الله جعلهم يذكرون البعث والجزاء، ويخافون من النار، ويطلبون الله أن يقيهم عذاب النار نسأل الله أن يقينا وإياكم والمسلمين النار.

قيام الليل عون للداعية على دعوته

قيام الليل عون للداعية على دعوته ومعلوم أن قيام الليل كان فرضاً في حق النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، عسى: للترجي، وقوله: {يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} مبني على التهجد من الليل. وقد أرشد الله رسوله إلى الاستعانة بقيام الليل على أداء الرسالة التي كلف بها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] ، ولم يكلفه قيام الليل كله حتى لا يكون في ذلك مشقة عليه، ولذا قال: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:2-4] ، فالزيادة مردها إلى الطاقة والاستطاعة بدون تحديد، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4] ، هنا يجمع المولى سبحانه في هذا التشريع بين قيام الليل بالصلاة وترتيل القرآن.

المفاضلة بين إطالة القيام والإكثار من الركعات

المفاضلة بين إطالة القيام والإكثار من الركعات وهنا مسألة سئل عنها ابن عباس: إذا كان في رمضان فأيهما أفضل: تقليل الركعات وإطالة القراءة، أم العكس؟ كل واحدة فيها مزايا؛ فكثرة الركعات فيها تكبير وركوع وسجود، وكل ركعة لها أجر، وأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، وطول القراءة فيها إمعان وتدبر لكلام المولى سبحانه، وقد أجاب ابن عباس فقال: أنت مرتاد لنفسك، فاختر لنفسك. والمرتاد: الراعي حينما يكون له غنم يرتاد لها مواطن الرعي، فحيثما يجد الخصب والمرعى الصالح يرتع، فكذلك المسلم هو يرعى ويسوم نفسه في مرعى وحدائق ورياض العبادة، فالعمل الذي يحبه ولا يراه شاقاً عليه فليفعله فأحياناً يرغب في القراءة، ويكون ذهنه حاضراً فيها، والله سبحانه وتعالى يشرح صدره، ولعله لو قرأ آية وأمعن فيها أن يفتح الله عليه بسببها ما لا يعلمه إلا الله، وأحياناً يكون ذهنه مشغولاً، أو فكره مشوشاً، وربما أن الحركة تكون أنسب له، في إذهاب ما يشغله، فأي الحالتين قدر عليها وسهلت عليه فهي الأولى بالفعل. وهنا الله سبحانه وتعالى يجمع لرسوله {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:2-4] ، يهمنا في قيام الليل ترتيل القرآن قليلاً كان أو كثيراً. وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يقرأ القرآن في ليلة، وقد ذكرنا بعض حالات من السلف، كان الواحد يقرأ القرآن في ليلة، فبدأ يتأمل حتى آل أمره إلى أن يقوم الليل كله بسورة الفاتحة، يتدبرها ويتأملها ويراجعها. وقال الله عن جوف الليل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6] ، ناشئة الليل المقصود بها، صلاة الليل، كما عليه الجمهور، ويكفي ما أشارت إليه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ولما سئل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) .

معنى قوله تعالى: (يدعون ربهم خوفا وطمعا)

معنى قوله تعالى: (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) وهنا في قوله سبحانه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة:16] ، لعل {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} عامة، و {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أخص العبادات لأنه كما جاء في الحديث: (الدعاء هو العبادة) ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] . وهل الإشارة في قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يقصد منها الدعاء بذاته، أم الصلاة التي فيها الدعاء؟ ذكر ابن كثير عند هذه الآية الكريمة أن معاذاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت مع النبي في سفر فدنوت منه فسألته وذكر هذا الحديث، ثم روى ابن كثير حديث: (عجب ربنا لرجلين، رجل نهض من فراشه ومن تحت لحافه ومن بين أحبته وقام يصلي لربه) فالحديثان يدلان على أن القيام المقصود منه الصلاة، وهكذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق عبد الله بن عمر: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) ، فيقول سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: فما ترك قيام الليل بعدها. وبعض العلماء يفسح المجال مع الصلاة للذكر ومدارسة العلم. وقد قيل لـ سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه: انظر إلى بني فلان، يذهبون في وقت القيلولة إلى المسجد يصلون الظهر ويحيونه إلى صلاة العصر، يذكرون الله، قال: يا ابن أخي ليست هذه بالعبادة، العبادة التأمل في كتاب الله والتدبر في معانيه واستنتاج المسائل والفقه إلى آخره، وأشرنا إلى الشافعي الذي كان يبيت ليله مستلقياً يتأمل في حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى الصبح بوضوء العشاء. إذاً: يدعون ربهم هنا عامة، فقد يجلس إنسان يدعو ربه، أو يتأمل في ملكوت الله في سكون الليل وليس هناك ما يشوش عليه، فيستجمع حسه كله، ويوجه فكره كله إلى هذا العالم، وما يجري فيه، ويستدل بهذا المحسوس على ما غاب عنه.

أمن يجيب المضطر إذا دعاه

أمّن يجيب المضطر إذا دعاه {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الدعاء عند الاضطرار مستجاب، ولو كان الداعي كافراً، لأنه يتوجه إلى الله في تلك الحالة ويدعوه وحده، ففي تلك اللحظة يكون مؤمناً بقدرة من توجه إليه ودعاه، ويعلم بأنه قادر على إجابة مطلوبة، كما جاء في الحديث: (لأنصرن المظلوم ولو كان كافراً، علم أن له رباً فدعا) ، أي: لجأ للدنيا كلها فما أنصفه أحد، فتوجه إلى الله، فهل يتركه الله؟ لا. يقولون في بعض السير أن الله سبحانه عتب على موسى عليه السلام في حق قارون، فعندما أمر الله الأرض أن تأخذه، فكان يغوص فيها أمام مرأى ومسمع من موسى عليه السلام، وكان ينادي موسى عليه السلام، فلم يجبه، فقال الله لموسى: يا موسى يناديك قارون في حالة الشدة فلم تجبه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته. سبحان الله، ماذا كان يريد المولى منه إلا أن يرجع إليه، هل المولى كان يريد من قارون أن يظل في طغيانه، أو يريده أن يرجع له ويتراجع طغيانه وكبره؟ كان يريده أن يرجع إلى العبودية، فلو آمن قارون بما جاء به موسى عليه السلام لقبله الله؟ {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ، سبحان الله، موسى كليم الله يوحي إليه الله أن يذهب إلى فرعون الطاغية ليقول له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وليقول له: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18-19] ، ما جاء له وقال له: يا كافر يا بعيد يا خسيس كما يفعل بعض الناس مع إنسان يقع في هفوة، فيقوم بالسب واللعن، لماذا يا أخي؟ ما الفرق بينك وبينه؟ الذي ابتلاه قادر على أن يتبليك أنت بأخس من هذا؟ فإذا رأيت أن الله هداك ووفقك وجنبك هذا الخطأ، ورأيت أخا لك في الله، زلت به قدمه وتورط في خطيئة، فلا تزده ورطة إلى ورطته، بل مد له يدك لتنقذه. الرسول صلى الله عليه وسلم لما جيء برجل قد شرب الخمر جلده، فتكلم رجل عليه بكلمة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (لا تعن الشيطان على أخيك عليه) أي: أنك أنت إذا سببته فر منك، وإذا فر منك ذهب إلى الشيطان، كرد فعل عكسي!

اللين والحكمة في الدعوة إلى الله

اللين والحكمة في الدعوة إلى الله فهنا تعليم وتوجيه وإرشاد للدعاة إلى الله بالرفق: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} لا بالعصا، بل {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] . وأذكر قصة هنا: رئيس المحاكم الشيخ عبد الله بن مزاحم الله يغفر له، في عام (63هـ) جاء إلى المدينة مع الشيخ ابن صالح والشيخ الخيال، وكان في منطقة بدر شجرة يعظمها الناس -مثل ذات أنواط- فأرسل رجلاً من الهيئة إلى أمير بدر ليأتي إلى تلك الشجرة ويقطعها. عمر رضي الله تعالى عنه قطع الشجرة التي وقع تحتها بيعة الرضوان؛ لأنه لما حج ونزل هناك، وجد الناس، يصلون ثم يذهبون فسأل: أين تذهبون؟ فقيل له: يذهبون ليصلوا تحت الشجرة التي بايع عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعها مخافة أن يفتتن الناس بها-. الخلاصة: ذهب مندوب الهيئة ليقطع الشجرة، فذهب ليصلي المغرب، ومن الغد سينفذ مهمته، جاء إلى المسجد لصلاة المغرب ينتظر الأذان، فيأتي رجل فلاح فصادف أن جلس بجوار هذا الشخص الذي من الهيئة، وعند الجلوس قال: يا رسول الله، فالتفت إليه مندوب الهيئة وقال له: هل أنت مشرك؟ لا تقل هذا، بل قل: يا ألله! ولا تناد غير الله، فالتفت إليه الرجل وقال: أنا مشرك، بل المشرك أنت وأبوك وجدك. وحصل نزاع بينهما، وفضَّه الناس. ومن الغد ذهب مع رجال الأمير إلى الشجرة وقطعوها وانتهت قصتها. وعلى رأس السنة ذهب الشيخ عبد الله في جولة إلى منطقة بدر، وبقدر الله الفعال لما يريد يدخل ذلك المسجد وينتظر الصلاة ويأتي ذاك الرجل نفسه ويجلس بجواره ويقول: يا رسول الله، فيلتفت إليه هذا العالم الجليل، ويقول: اللهم صل وسلم وبارك عليه، صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله. وقال للرجل: أرى أنك تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إي والله أحبه بأمي وأبي. قال: ولكن أرأيت ما تقوله أنت عند قيامك وقعودك أحب إليك أم الذي كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا قام أو قعد. قال: لا والله الذي كان يقوله عليه الصلاة والسلام أحب إلي ولو كنت أعلمه ما تركته. قال: كان يقول: يا ألله، إذا جلس وإذا قام قال: يا ألله، وفي كل شئونه يقول: يا ألله. فالتفت إليه الرجل وقال: يعلم الله إن وجهك وجه خير، في العام الماضي جاءنا واحد وجهه وجه شر، وذكر له قصته. ثم قام هذا الرجل من عنده، وقال له: أين أنت نازل؟ قال له: عند الأمير. ذهب هذا الرجل لأمير قبيلته، وعرض عليه أن يستضيف هذا الرجل، فأضافه عنده، ودار بينهما هذا الحوار. قال الشيخ لهذا الرجل: أتحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: عجباً والله! هل من مسلم في الدنيا لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل الإيمان إلا بعد محبة رسول الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) ، وأخذ الرجل يبكي. قال له: علام تبكي. قال: أبكي على ما سفك من دماء منا ومنكم. قال له: لماذا؟ قال: جاءنا أشخاص جهال يكفروننا لأننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمونا حقيقة التوحيد، فلو جاء مثلك، وقابلنا أول الأمر أمثالك، والله ما اختلفنا معكم في شيء. أقول أيها الإخوة: إن من صلب الدعوة إلى الله -لكل من يتصدى لهذا الأمر- أن يلتزم الداعية الحكمة والرفق بالمسلمين. هذان شخصان مع شخص واحد وفي موضوع واحد، وفي لفظ واحد، كيف كانت نتيجة كل منهما؟ الأول خصومة ومشاجرة، والثاني محبة وقبول للحق ودعوة إليه، المولى عز وجل يقول: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ، أي: لا تسبوا أصنامهم فيسبوا الله، بل اتركوهم وخذوهم بالحكمة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف يدعو ثقيفاً، وكان موقفهم في غاية من الإساءة، حتى سلطوا عليه السفهاء، فرموه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، ويقف ذلك الموقف العظيم فيقول: (إلى من تكلني، إلى قريب يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن رحمتك أوسع لي، أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) وينزل ملك الجبال يقول له: تريد أن أطبق عليهم الأخشبين يقول: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) . ويدخل مكة في جوار رجل مشرك، والأصنام معلقة مثبتة في جدران الكعبة بالحديد والرصاص، ويبقيها على ما هي عليه، ويأتي وقت الهجرة، ويخرج تحت ظلال السيوف، {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، ويأخذ التراب ويضعه على رءوسهم ثقة بالله، الذي ملأ قلب رسوله يقيناً عندما أُسري إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السماوات. وجاء في فتح مكة، فماذا فعل؟ يدخل في رحاب الكعبة، وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81] ، وبالقضيب يشير إلى الأصنام فتتهاوى وتتساقط. مع العلم أن الأصنام كانت موجودة من أول بعثته صلى الله عليه وسلم، وربما استند إلى بعضها، ولم يلتفت إليها؛ لأن الوقت ما حان ليكسرها، ولو كسر صنماً واحداً لكسروا شوكة المسلمين، ولن يقاومهم أحد. ولما جاء الأوان كان يهدمها بإشارة -قبل أشعة ليزر- قضيب يشير به، يقول ابن كثير: ما أشار لوجه صنم إلا خر لقفاه، ولا أشار في قفا صنم إلا انكب على وجهه. فعندما دخل مكة في جوار رجل مشرك، قد كان يستطيع أن يأمر ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، لكن حكمة الدعوة وسياستها اقتضت غير ذلك. وقبل الهجرة بفترة يأتي جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعه البراق، ويركب إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات السبع، وإلى سدرة المنتهى، ثم كان قاب قوسين أو أدنى إلى آخره، ويرجع إلى مكانه. ولما أُمِر بالهجرة، هيأ أبو بكر الرواحل، وجهِّز الزاد، وبحث عن الدليل، وكان رجلاً مشركاً - ابن أريقط - ليمشي بهم في طريق غير مسلوك، ويخرجون في الليل ويدخلون الغار. سبحان الله أما كان بإمكان البراق أن يوصلهم في نصف الليل؟! لا. لأن رحلة الإسراء والمعراج رحلة تكريم وتشريف وإيناس، فقد كانت مواساة لما لاقاه النبي عليه الصلاة والسلام من أهل الطائف وأهل قريش، فالأنبياء يستقبلونه في بيت المقدس، ويقدمونه فيصلي بهم، فهذا تعويض كبير جداً، بل عرج به إلى سدرة المنتهى، بل يتجاوز السدرة ويقف جبريل ويقول هذه نهايتي تقدم أنت يا محمد. ماذا يقدر الإنسان إذا كان موقف {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:8-18] . {دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} من يستطيع أن يحدد الدنو المكاني أو المكانة، أين الذات وأين المكان وأين الزمان وأين وأين، فهذه أمور لا يقدر العقل على تصورها، وتترك إلى قدرة المولى سبحانه. وفي الغار وأبو بكر خائف يأتي المشركون بعددهم وبسيوفهم فيقفون على فم الغار، أعينهم تقول لهم: الأثر ينتهي هنا، وعقولهم تقول لهم: لم يدخل الغار أحد، وإلا لكان قد مزق نسج العنكبوت، وكسر بيض الحمام ولم يعلموا أن العنكبوت والحمام من جند الله، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ، فأرسل لهم جنوده، بل أرسل أضعف جنوده احتقاراً لهم، كأنه يقول: كيدكم وجمعكم وعددكم وعدتكم لا تساوي نسج العنكبوت عند الله. يقول الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله، لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا. وبكل طمأنينة، وبكل ارتياح، وبكل يقين يرد عليه: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ، يقول الله حاكياً عن ذلك: {إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ماذا؟ ما قال اثنين، قال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] ، حتى لا يقال: يمكن العدد ليس له مفهوم، فيمكن أن يكونوا ثلاثة أو أكثر. {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] ، والغار لا منفذ له إلا من جهة من يطلبونهما، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وهذا هو برد اليقين الذي أخذه من رحلة الإسراء والمعراج؛ لأنه رأى ملكوت الله، ورأى آيات الكون، ورأى ثمار أعمال أمته، ورأى الجنة ودخلها، ورأى قصور بعض أصحابه، رأى قصراً لـ عمر بن الخطاب وفيه الجواري فأراد أن يدخل فرجع، يقول: تذكرت شدة غيرتك يا عمر، فيبكي عمر ويقول: أو منك أغار يا رسول الله؟ فالغيب عنده أصبح حاضراً مشاهد! نرجع إلى الحديث: الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ، وذكر الصلاة في جوف الليل، واستطرد الحديث إلى الرفق في الدعوة، وإلى ما كان منه صلى الله عليه وسلم في صبره على قومه، وترك الأمور لأوقاتها ومناسباتها، وترك الأصنام معلقة، وجاء يوم الفتح ويشير إليها بقضيب، وانتهى الأمر وقضي على دولة الشرك في النهاية، نزل {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ، ونزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] .

لطائف في الدعاء

لطائف في الدعاء ويبين صلى الله عليه وسلم من نوافل العبادات اليقظة أو الانتباه أو المجافاة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} . وبيَّن (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ، انظر كلمة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ، لماذا لم يقل: يدعون الله، مع أن الدعاء يتناسب مع الله، لأن الدعاء مخ العبادة، والعبادة إفراد الله بالعبادة. الجواب -والله أعلم- أن لفظ الربوبية أقرب إلى العطاء، وإلى جلب الخير ودفع الشر، كما في أول الفاتحة: {رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] ، فالربوبية أقرب إلى العطاء، والألوهية أحق بالعبادة والإفراد لله وحده. قال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} لأن ربهم عودهم العطاء، إذاً: عطاء من الرب لعباده، والألوهية استحقاق للإله على عباده، فالربوبية إعطاء العباد ما يربهم، أي: يصلحهم، والألوهية: تستوجب على العباد إفراد الله بالعبادة، ولذا يقول علماء العقائد: الربوبية فيض من الله على العبد، والألوهية عمل العباد إلى الله، فهي إفرادك الله بالعبادة، فلا تعبد غيره، وهو لا إله إلا الله. الربوبية تفيض بفضلها وخيرها على العباد، والألوهية تطلب إفراد الله بالعبادة.

الدعاء إما لرغبة في شيء أو رهبة من شيء

الدعاء إما لرغبة في شيء أو رهبة من شيء فهنا {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وصورة الدعاء فيها مقابلة عجيبة، {خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:56] ، فيجتمع الخوف والطمع، فالعادة أنك لا تخاف من إنسان مع كونك تطمع فيه، ولكن المولى سبحانه هو القادر على هذا وهو محله، أنت في حياتك دائر بين الخوف والطمع، وكما قالوا: مطالب العقلاء في أحد أمرين: جلب نفع أو دفع ضر. هل عندك طلب في حياتك أكثر من أن تجلب لنفسك نفعاً أو تدفع عن نفسك ضراً؟ لا يوجد. الذي يهمنا في هذا أن الشخص عندما يقوم في جوف الليل ويسأل ربه، فإنه إما أن يقول: أعطني أو اكفني: أعطني دنيا أعطني ديناً أعطني ولداً أعطني صحة أعطني رضاك أعطني الجنة أو: اكفني شر نفسي شر الشيطان شر المعصية شر خلقك شر كل ما تعلم أنه شر يا ألله. ولذا من الآثار: أسألك من خير ما سألك منه نبيك صلى الله عليه وسلم وما علمت منه وما لم أعلم وأستعيذك من شر ما استعاذك منه نبيك صلى الله عليه وسلم، ما علمت منه وما لم أعلم. إذاً {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} بأن يكفيهم ما يخافونه، وأشد ما يخافه الإنسان هو النار. {وَطَمَعًا} أعظم ما يطمع فيه العبد هو الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم. ولذلك لما أنشد النابغة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً قال: إلى اين يا أبا فلان، قال: إلى الجنة، قال: إن شاء الله، وقصة ربيعة بن كعب مع الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا ربيعة سلني. قال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال له عليه الصلاة والسلام: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود) .

متى يغلب جانب الخوف على الرجاء والعكس؟

متى يغلب جانب الخوف على الرجاء والعكس؟ وهنا يذكر بعض العلماء: أن الإنسان عند أول عمره وشبابه الأفضل له أن يغلب جانب الخوف على جانب الرجاء؛ لأن جانب الخوف يجعله يبتعد عن المعاصي، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ، وإذا كان في منتهى العمر وحالة الضعف فليغلب جانب الرجاء، لأنه كما في الحديث: (أنا عند ظن عبدي بي) ، (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) . وجاء عن الحجاج لما حضرته الوفاة، فعاده بعض من يتشفى به، فلما خلا بنفسه قال: يا ألله، كل الناس يسيئون الظن بي، وأنا أحسن الظن بك يا ألله. إذاً: يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، أي: منهم من يدعو ربه خوفاً، ومنهم من يدعو ربه طمعاً، بل إن الإنسان في ذاته يكون ساعة في خوف وضيق وحرج، فيسأل الله الفرج، كالثلاثة الذين انطبق عليهم الغار فدعوا ربهم لينجيهم. وكذلك إذا كان في سعة من العيش، وإذا كان بعيداً عن الضيق، فإنه يسأل الله ربه العافية، ويسأل ربه طمعاً في الخيرات. إذاً: (خَوْفًا وَطَمَعًا) تدور عليها مطامع العقلاء، وتتوزع عليهما أحوال الداعين، سواءً كانوا في مقتبل العمر أو في منتهاه، أو كانوا في ضيق أو في سعة، والآية جمعت بهذين اللفظين اللذين عليهما مدار السؤال كله أينما كان، وكيفما يكون. وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحديث التاسع والعشرون [4]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [4]

تيسير الخير لمن وفقه الله

تيسير الخير لمن وفقه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلا زلنا عند حديث معاذ، ولنا وقفة عند قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله) ، قوله صلى الله عليه وسلم: (على من يسره الله) ، فيها وقفة ضراعة وإنابة، ووقفة عودة العبد إلى ربه، وقفة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] . لنعلم أيها الإخوة أن حقيقة التوفيق بيد الله، فكم من قوي في بدنه يشق عليه أن يركع وينحني لله، وكم من غني في ماله تشح نفسه أن تجود بدرهم في سبيل الله، وصدق الله العظيم: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، والخشوع عمل القلب، و (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء) . قوله: (وإنه ليسير على من يسره الله) : فمن وجد نفسه على طريق مستقيم وتيسرت له عبادة ربه فليحمد الله، ولا تغرنه نفسه، وليعلم أن هذا تيسير من الله له، وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه يقول: والله إني لا أهتم لإجابة الدعاء فقد وعد الله بها، ولكني أهتم للدعاء نفسه، فإذا وفقت للدعاء فقد استجاب الله لي. حتى الدعاء فإنك ترفع أكف الضراعة إلى المولى تسأله من خيري الدنيا والآخرة، فتلك نعمة من الله عليك.

فتح أبواب الخير لمن أراد الزيادة

فتح أبواب الخير لمن أراد الزيادة ووصلنا في هذا الحديث أيها الإخوة إلى أبواب الخير، وذكرنا منها: (الصوم جنة) ، والصوم له باب في الجنة يقال له الريان يدعى منه الصائمون. وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باباً لمن يقوم الليل، وباباً لمن يتصدق في السر، وباباً لمن يجاهد، وكما هو معلوم أن أبواب الجنة ثمانية، يدعى كل جنس وطائفة من باب خاص بهم، قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! ما على من يدعى من تلك الأبواب ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم) وإن لم يكن أبو بكر منهم فمن يكون؟ الصديق الذي يقول صلى الله عليه وسلم في حقه: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم) ، فلا يستبعد أن يدعى منها كلها. قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} لماذا؟ {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] ، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] . فهو أمة وهو إمام، وذلك لأنه ابتلي فوفى، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] ، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:104-107] . فقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ} كان هذا البلاء بالتكاليف التي كلِّف بها، وقد ابتلاه الله ولم يبتلِ أحداً كما ابتلى إبراهيم عليه السلام. وقد توقفنا عند قوله عليه الصلاة والسلام: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل) ، والمقصود بالصلاة في جوف الليل: صلاة النافلة، كما كان الكلام على الصوم وعلى الصدقة فكذلك الصلاة، أي أن أبواب الخير هنا هي للنوافل، وما ذكِر في أول الحديث عند قوله: (تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت) ، يخص الفرائض، وأما الشهادتان فداخلة في قوله: (تعبد الله لا تشرك به شيئا) . وأبواب الخير هنا هي التزود من النوافل، وأشرنا إلى أن الفريضة محدودة، وأن النافلة مجالها واسع، ونجد أن الإسلام جعلها من درجات التفاضل بين العباد، فعلى حسب همة العبد ويقينه يكون أخذه منها.

حكمة الله في تكليف عباده بما يطيقون وجوبا وبما زاد تطوعا

حكمة الله في تكليف عباده بما يطيقون وجوباً وبما زاد تطوعاً وهنا نقطة أود أن تظهر وتنكشف لنا جلياً، وهي أن الإسلام يضع حداً أدنى يستوي فيه الجميع، ثم يترك المجال مفتوحاً، ويجعل سلَّم العروج إلى الملأ الأعلى مفتوحاً، وكل بحسب استطاعته وقدرته، كما جاء في قارئ القرآن أنه إذا جاء يوم القيامة يقال له: (اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) ، فكل آية يقرؤها يصعد درجة، ويقف عند آخر آية يقرؤها، فكذلك أعمال الخير، يكون لها حد أدنى يستوي فيه التكليف للجميع، وأما الحد الأعلى فكل بحسبه، والتسابق والمنافسة في فضائل الأعمال باب مفتوح. نأتي أولاً إلى نص القرآن في الصوم، نعلم جميعاً بأن الله افترض الصوم بالتدريج، وكان فيه التخيير، ثم قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:183-184] ، كلمة (يطيقونه) ربما يجد طالب العلم في بعض التفاسير زيادة لفظة (لا) فيكون المعنى: (لا يطيقونه) ، وقراءة علي رضي الله تعالى عنه تفسر المعنى: (يَطَّوَّقُونَه) بين قولهم: والشخص يَطَّوَّق الفعل، ويُطِيْق الفعل، فرق بعيد، فالذي يطيقه أي أنه في طاقته وحدود قدرته، لكن (يَطَّوَّقه) بوزن يتفعَّلهن، والمعنى: يستطيع أن يأتي به ولكن في أقصى درجات الطاقة، والمقصود من الآية: والذين يجهدهم الصوم مع القدرة عليه فعليهم فدية -هذا كان أولاً- {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] ، فهذا حد أدنى للجميع، {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] ، أي: أطعم أكثر من مسكين بأن أطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر، على قدر جهده وطاقته، فذلك خير له. ثم رجع إلى الصوم، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] ، فهذا في التطوع، لأن الصوم يرجع على النفس. نأتي في المعاملات {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] ، ثم قال بعدها: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ} [النحل:126-127] ، فيعطيك حد المساواة الأدنى: من اعتدى عليك فلك الحق أن ترد بمثل ما اعتدي عليك، ولكن إن صبرت ولم ترد، ولم تجاز السيئة بسيئة مثلها فقد دخلت باب التسابق في الخيرات {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ، ويأتي {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] . {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} [النحل:126] ، أي إن عاقبتم فعاقبوا بالمثلية، ولكن إن صبرتم عن العقوبة لهو خير للصابرين، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل:127] ، إذاً: هناك تدرج. وإذا جئنا في هذا المجال عند الأدباء أو عند علماء الاجتماع في المعاملة بالمعروف أو بالإحسان أو بالمقاصة في المعاملة، نجد الشاعر يقول: إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب تارة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه يقول لك: سامح واعف حتى لا تصير منعزلاً وتعيش وحيداً، يعني اشتر صديقك بأن تصفح عنه، ولكن القرآن يقول: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:126-127] ، فيدعوك أن تصبر لوجه الله لا للمكافأة، ومن خير ما قيل في هذا عند الأدباء: وكنت إذا الصديق أراد غيظي وأشرقني على حنق بريقي غفرت ذنوبه وعفوت عنه مخافة أن أعيش بلا صديق وهنا يقول تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126] ، أي: هو خير لهم عند الله، فكأن المؤمن يتدرج في الكمال بالعفو والمسامحة لوجه الله لا لعوض يرجوه في المجتمع. وإذا جئنا إلى العبادات نجد جميع نوافل العبادات بابها مفتوح، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) ، والمرأة التي جعلت لها حبلاً في السقف، حتى إذا غلبها النوم كانت تمسك الحبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (مه! ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) ، وقال أيضاً: (خذوا من الأعمال ما تطيقون) .

صلاة النافلة من أبواب الخير

صلاة النافلة من أبواب الخير قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة:16] نص في قيام الليل، وهذا باب جديد من أبواب الخير بعنوان الصلاة، الأول كان بعنوان: الصوم، والثاني كان بعنوان: الصدقة، والثالث هنا بعنوان: الصلاة.

هل المرأة داخلة في قوله: (وصلاة الرجل في جوف بيته)

هل المرأة داخلة في قوله: (وصلاة الرجل في جوف بيته) وقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلاة الرجل ... ) هل يؤخذ هنا بمفهوم المخالفة، فلا تدخل المرأة في هذا الحديث، أم أنها داخلة؟ A من المعلوم أن الرجال مقدمون على النساء، وإذا ذكر الرجال في القرآن فالنسوة تبع، إلا إذا جاء نص يدل على خروجهن، ويدل على هذا الدخول أيضا ما جاء في الحديث: (رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) .

فضل قيام الليل

فضل قيام الليل من المعلوم أن أحاديث صلاة الليل مستفيضة وكثيرة جداً، ويكفي في ذلك سورة المزمل، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ، أي: في ظلمة الليل. {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} ثم قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] ، أي: أنهم جمعوا بين الصلاة والزكاة. {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، فلا تعلم أي نفس عملت خيراً ما ستجازى عليه مقابل ذلك الخير، ولا يعلم أي إنسان جزاء أداء فرائض الصلاة والصيام والجهاد في سبيل الله، لكن هنا {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} فلماذا خص قيام الليل بهذا الحكم مع أنه عام لكل عمل؟ A لما كانت عبادتهم خفية على الخلق والناس نيام، كان الأجر كذلك كأنه يقول: أنت عملت لي في خفاء عن العالم، وأنا أخبئ لك أجرك فلا يعلمه أحد والجزاء من جنس العمل. وإذا كنت تعلم أن أجر هذا العمل خفي، لم يطلع عليه أحد إلا الله، فستكون نفسك مشتاقة إليه، بخلاف الشيء المكشوف الذي يعرفه الكل، ولذا كلما كان الأجر خفياً كلما كانت النفس تتطلع إليه أكثر.

صلاة النافلة تجبر نقص الفريضة

صلاة النافلة تجبر نقص الفريضة ومما يجدر التنبيه إليه أن لكل ركن من أركان الإسلام نوافل، وهذه النوافل بمثابة الضمان لما عسى أن يكون في الفريضة من نقص، وذلك مثلما تسافر بسيارة فتأخذ العجلة الاحتياطية معك، فأنت لا تمشي على تلك العجلة الزائدة، لكن من باب الاحتياط، حتى إذا حصل على عجلة من عجلاتها أو إطار من إطاراتها خلل، بدلته بالعجلة الاحتياط الجاهزة عندك، وكذلك نوافل العبادات، كما جاء في الحديث عن الصلاة: انظروا هل لعبدي من تطوع، قالوا: بلى، قال: اجبروا نقص فريضته من نافلة صلاته. يقول ابن عباس: وهكذا جميع الأعمال.

أقسام صلاة النافلة

أقسام صلاة النافلة ونافلة الصلاة تنقسم إلى قسمين: راتبة مع كل فريضة، وقسم مطلق، والمطلق منه ما هو مقيد بزمن، ومنه مطلق لا يقيد بزمن. وأهم النوافل رواتب الفريضة، ورواتب الفريضة أيضاً تتفاضل، فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات كان يصليها بالليل والنهار) ، وجاء حديث آخر: (من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة) . والعلماء يختلفون في عددها تارة ويتفقون تارة، فيجمعون على ركعتين قبل الفجر، وعلى ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، فهذه عشر ركعات، ثم تأتي الزيادات في الظهر فبعضهم يجعلها أربعاً قبلهاً وأربعاً بعدها، ويأتون بأربع قبل العصر لحديث (رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً) ، وكانوا يصلون قبل المغرب بين الأذان والإقامة ركعتين، وحديث: (بين كل أذانين صلاة) عام لكل الصلوات. وهناك من يضيف إلى العشر ركعتين قبل العشاء، ثم يأتون بزيادات على ذلك بين المغرب والعشاء، وهي: ست ركعات، وبعضهم يقول إنها صلاة الأوابين، ثم صلاة الوتر تكون بعد العشاء؛ فتلك هي النوافل الراتبة للصلوات الخمس، ولكن آكد هذه النوافل ركعتا الفجر وصلاة الوتر، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يتركهما حضراً ولا سفراً. وجاء في قضية وقعة نخلة أنهم لما رجعوا من الغزوة قال صلى الله عليه وسلم: من يكلؤنا الليلة لا نرقد عن صلاة الفجر؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله. فناموا ونام بلال، وما استيقظوا إلا على حر الشمس، فقام عمر فكبر، وكان جهوري الصوت، ولم يكونوا يجرءون على أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعله في برحاء وحي، فلما سمع أصواتهم استيقظ، فرأى الشمس، فقال: يا بلال! ألم تقل إنك ستكلأ لنا الفجر. وبعض الروايات تقول: إن أبا بكر كان بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ على حر الشمس قال: يا أبا بكر! كأني بالشيطان قد جاء إلى بلال وهو مستيقظ أو ينتظر الفجر يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى أخذه النوم. فقال بلال: والله يا رسول الله! لقد أنخت راحلتي وأسندت ظهري إليها، ووجهت وجهي إلى الشرق فإذا بالشيطان يأتي إلي ويهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت. فقال أبو بكر: أشهد إنك لرسول الله. هنا قال رسول الله: تحولوا عن هذا الوادي فإن فيه شيطاناً، وخرج من الوادي، وأمر بلالاً أن يؤذن، وصلوا ركعتي الفجر أولاً، ثم أقام بلال وصلوا الفجر. والروايات مستفيضة بأنه صلى الله عليه وسلم كان في السفر يوتر على راحلته حيثما توجهت به، يذكر ذلك العلماء في باب استقبال القبلة والتسامح فيها في صلاة السفر، ويذكرونه أيضاً في باب صلاة النوافل. فركعتا الفجر والوتر من أهم النوافل، بل إن الأحناف أوجبوا الوتر، لكن الواجب عند الأحناف ليس كالواجب عند الأئمة الثلاثة، فما ثبت بدليل قطعي، أي: بسنة متواترة أو بقرآن فهو فرض، وما ثبت بسنة آحاد فهو واجب. والواجب عند الأحناف يساوي السنة المؤكدة عند غيرهم. إذاً: ركعتا الفجر والوتر من أهم نوافل الصلوات.

الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها

الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها وهنا مسألة: هل يصح أن تؤدى هذه السنن في جميع الأوقات، وإذا فاتت هل نقضيها أم لا؟ الأَولى قضاؤها ما لم يكن بعد العصر، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عملاً أحب المداومة عليه، والنوافل تؤدى في جميع الأوقات ما عدا الأوقات المنهي عنها، والأوقات المنهي عنها سبعة: الأول: ما بين أذان الفجر وصلاة الصبح، فلا يجوز لإنسان أن يتنفل سوى ركعتي الفجر فقط لأنه وقتها، ومن نام عن الوتر فله أن يوتر في ذلك الوقت قبل أن يصلي ركعتي الفجر، فإذا جاء إلى المسجد ووجد الناس يصلون فليدخل حالاً مع الإمام، ثم بعد أن يفرغ من صلاة الفريضة؛ إن شاء صلى ركعتي الفجر، وإن شاء أخرها حتى تطلع الشمس. إذاً: الوقت الأول من أوقات النهي ما بين أذان الفجر وصلاة الصبح، فلا تجوز فيه النوافل إلا ركعتي الفجر لمن فاتته قبل الفريضة، وهو بالخيار. الثاني: عند بداية بزوغ قرص الشمس بالطلوع حتى ترتفع قدر رمح، أي عن وجه الأرض في نظر الرائي، فأول ما تطلع الشمس كأنها تشق الأرض وتخرج منها، فإذا ارتفع قرص الشمس عن سطح الأرض في نظرك قدر رمح، أي طول قامة الإنسان جاز لك أن تصلي بعد ذلك. الوقت الثالث: حينما تكون الشمس في كبد السماء، أي: إذا انتهت من نصف الدورة الشرقي، ولم تبدأ في نصف الدورة الغربي حين تكون في كبد السماء فلا تصح الصلاة. الوقت الرابع: بعد صلاة العصر حتى تتهيأ للمغيب. الخامس: عند بداية نزول القرص في المغيب حتى يتلاشى. السادس: إذا صعد الإمام المنبر يوم الجمعة وبدأ الخطبة، فإنه يمتنع التنفل على الجالس، بخلاف القادم من الخارج فله أن يصلي ركعتين ويتجوز فيهما. هذه الأوقات لا ينبغي لإنسان أن يتنفل فيها، وللشافعية كلام في ذوات الأسباب، والأسباب عندهم مقارنة أو سابقة أو لاحقة. فالسبب المقارن: كصلاة الكسوف، وذلك لوجود الحدث في وقت الصلاة مقارناً لها. والسبب السابق على الصلاة: كمن دخل المسجد، فإنه يؤدي تحية المسجد عند الجمهور ما لم يكن في أوقات الكراهة، وعند الشافعية لا كراهة على ذات سبب سابق. والسبب اللاحق: كمن أحرم، فإنه يندب له أن يصلي ركعتين عقب إحرامه، لكن في غير أوقات الكراهة، حتى عند الشافعية.

كيفية صلاة الوتر

كيفية صلاة الوتر والوتر كما يقولون أقله ركعة، وأكثره ثلاث عشرة ركعة، وقد عاب بعض العلماء أن تصلى ركعة واحدة منفردة، واستحبوا أن تصلى قبلها ركعتين. وإذا صلاها ثلاثاً قال الأحناف: يصليها كصورة صلاة المغرب، والحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام يخالف ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب) ، والجمهور يقولون: إذا أراد أن يوتر بثلاث فإن شاء جاء بالركعات الثلاث دون أن يتشهد التشهد الأوسط، وإن شاء أوتر بثلاث ولكن يسلم من ركعتين، ويأتي بالثالثة مفردة، أو يأتي بخمس وهو في الخمس أيضاً بالخيار، إن شاء تشهد بعد كل ركعتين، ويأتي بالخامسة مفردة، وإن شاء صلى أربعاً متصلة لا يجلس إلا في الرابعة، ثم يأتي بالخامسة مفردة، وإن شاء جعلها خمساً متصلة لا يجلس إلا في الركعة الخامسة ويتشهد. وكذلك الوتر بسبع يفعل كما يفعل في الخمس إلى تسع إلى إحدى عشرة إلى ثلاث عشرة، هذه كيفية الوتر. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من لم يوتر فليس منا) ، (أوتروا يا أهل القرآن) ، إلى غير ذلك من النصوص التي جعلت الأحناف تقول إنه واجب. وهناك نوافل أخرى لا علاقة لها بفريضة، منها قيام رمضان، فهو مستقل بذاته، وقيام رمضان له بحث طويل، وأقل ما يقال فيه: إنه سنه ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وكان عمر أول من جمع الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح، واستقر الأمر من عمر إلى اليوم عشرين ركعة. وبعد صلاة التراويح يأتي أيضاً الضحى يومياً، وهو نافلة مستقلة، وما عدا ذلك لا حد فيه ولا توقيت. وبعض العلماء كان يتحرى ما بين الظهر والعصر يجعله إحياءً لوقت قيلولة الناس حينما ينامون. ويأتي بعد هذا قيام الليل، قيام الليل ليس فيه حد وليس فيه تقدير، وكما أشرنا أنه كان بعض العلماء والسلف ربما قرأ القرآن كله في ليلة، ثم انتهى به الأمر إلى أنه ربما يقوم الليل كله بسورة الفاتحة. ويذكر أحمد رحمه الله في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقرأ القرآن في ليلة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بلغني عنك كذا، قال: بلى، قال: (اقرأه في شهر) ، قال دعني أستمتع بقوتي فإني أطيق أكثر من ذلك، قال اقرأه في عشرين في خمسة عشر في عشرة مسند أحمد لا يذكر شيء غير هذا، وغير مسند أحمد يقول انتهى به الأمر إلى ثلاث أو إلى عشر. إذاً قيام الليل ليس فيه حد.

حكم صلاة النافلة في السفر

حكم صلاة النافلة في السفر بقي سؤال، وهو: إذا كان الإنسان مسافراً هل يصلي تلك النوافل أم لا؟ كثر السؤال في هذه المسألة، وبعض الأخوة يأخذ بحديث ابن عمر لو كنت متنفلاً في السفر لأتممت الفريضة، ويقول: ليس هناك نافلة في سفر. قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) ، وقد ذكر الشوكاني ما استدل به المانعون كـ ابن عمر ومن وافقه، وذكر عن جملة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم كانوا يصلون الرواتب في السفر، وذكر عن علي وعن عمر وعن أنس وعن ابن عباس وعن أبي ذر ونسيت اثنين آخرين، ذكر عن سبعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم عمر وعلي من الخلفاء الراشدين، ومنهم أنس وابن عباس حبر هذه الأمة، وأبي ذر كل هؤلاء منقول عنهم بأنهم كانوا يصلون نافلة الرواتب في حالة السفر. ويناقش العلماء مقالة ابن عمر، يقولون: إذا كانت الفريضة قد قصرت، فهذا تخفيف من الله على العبد، والنافلة متروكة لجهد الشخص، وإن كان يستطيع أن يصليها فأهلاً وسهلا، وإن لم يستطع فهذا أمر عائد له، وليس مكلفاً بها ولا يعاتب على تركها، بل إن كان عاجزاً فإن الله يأمر الملائكة أن تكتب له ما كان يفعل في حال قدرته واستطاعته. والخلاصة: أن صلاة راتبة الفريضة في السفر أمرها متروك للشخص نفسه، فإن شاء صلاها، وإن شاء تركها، والجمهور مع الأول. هذا هو الباب الأخير في أبواب الخير التي ذكرها صلى الله عليه وسلم.

الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام: (رأس الأمر الإسلام.

الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام: (رأس الأمر الإسلام ... ) ولكن أليس هناك أبواب خير أخرى؟ يذكرون الجهاد، ويذكرون الإصلاح بين الناس، ويذكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الحديث اقتصر على تلك الأبواب لأنها في استطاعة كل إنسان. ثم يأتي بعد هذا ويقول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه) ، ما هذه التشبيهات؟

المقصود بالأمر

المقصود بالأمر رأس كل شيء أعلاه، هذا في المحسوس، مثل: رأس الجبل رأس الإنسان وفي المعنويات: أقوم شيءٍ فيه وعماده وأساسه، كما قالوا: الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فإيمان بلا صبر كجسد بلا رأس. رأس الأمر: الأمر مفرد أوامر، ويأتي مفرد أمور، تقول هذا أمر ثقيل أو عصيب، وتقول هذا أمر شائع ويتبين هذا من ذاك بصيغة الجمع. فرأس الأمر: أي الأمور، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: ليس عليه تعليمي وتوجيهي وسنتي، فهنا قالوا: المراد بالأمر هنا: الشيء الجامع الذي فيه الكلام، والكلام هنا في أي شيء؟ فيما يدخلنا الجنة ويباعدنا عن النار، أي: في أعمال الإسلام التي ذكرها صلوات الله وسلامه عليه من أركان الإسلام وأبواب الخير، فرأس الأمر كما تقول: رأس المال الذي تتحرك به في السوق هو الإسلام. وأما ما تقدم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فكلها أركان الإسلام التي لا تقبل أصلاً إلا بعد الدخول في الإسلام، كأن المشرك مهما كان عنده من عمل، ومهما قدم من خير، ومهما فعل يكون جوابه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، لأنه ليس عنده رأس الأمر. إذاً: رأس الأمر في بدايته الإسلام، فإذا أسلم ودخل في جماعة المسلمين، فكل شيء بعد ذلك يتدارك، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، مادام دخل في حيز الإسلام، هذا هو رأس الأمر. فإذا حصل على رأس مال الإسلام، فله تشغيل رأس المال بالربح في نوع من أنواع الخير وأبوابه، هذه تتمة وتكملة. ولا ننسى بأن الإسلام أو الإيمان قول وعمل، وليس معنى ذلك أن يدخل في الإسلام ويترك العمل.

التشبيه النبوي للصلاة بالعمود الذي يقوم عليه البناء

التشبيه النبوي للصلاة بالعمود الذي يقوم عليه البناء ثم قال: (وعموده) ، كأن الأول رأس الأمر، وهنا يقول: (وعموده) ، أي عمود الإسلام، وهو الصلاة، وإذا انتقلنا إلى كلمة عمود، ففيها كما يقول البلاغيون: استعارة مكنية؛ وهي تشبيه شيء بشيء مع حذف المشبه به ويأتي بلازم من لوازمه، كقول الشاعر: وإذا المنية أنشبت أظفارها ألقيت كل تميمة لا تنفع هل المنية -انقضاء الأجل- لها أظفار؟ أو أن هناك تشبيهاً حُذِف أحد طرفيه، فقد شبه المنية بالأسد، وحذف المشبه به -الأسد- وأتى بلازم من لوازمه -الأظفار-. وهنا كأنه يقول: الإسلام كالبيت والبيت له عمُد وطنُب، وأهم ما في البيت ليقوم بناؤه، عموده وهو الصلاة، إذاً: كأنه يقول: الإسلام كالبيت، والعمود الذي يرفع هذا البناء إنما هي الصلاة، وقد جاء صحيحاً (بني الإسلام على خمس) . إذاً: كأن الإسلام بناء، وذلك لأن كل إنسان في هذه الدنيا يحتاج إلى بيت، حتى الحيوانات تحفر لها جُحراً يقيها الحر والبرد والأعداء وكل شيء، فكذلك الإسلام. بل قد جعل الشرك بيتاً ولكن كبيت العنكبوت، وأي قوام لبيت العنكبوت، والمسلم يعيش في بيت يقوم على عمد وركائز وطنُب، إذاً: هنا تشبيه واستعارة مكنية، فالإسلام كالبيت، والبيت له عمُد، وعمود هذا البيت الذي يقوم عليه إنما هو الصلاة. إذاً رجعنا للصلاة مرة ثالثة، نجد أنه بدون الصلاة فلا بيت، وإذا كان المرء بلا بيت فإنه يكون في العراء، والصلاة عماد الدين، أي: العمود الذي يقام عليه البيت، ولولا هذا العمود في هذا البناء لما وجدنا أين يوضع السقف، لأنه لا يقيم بيتاً بلا عمُد إلا المولى، {رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] ، والقدرة الإلهية شيء آخر، جعلت السماء بيتاً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:21-22] ، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] ، الأيد: القوة، تلك قدرة المولى سبحانه.

مقصد النبي عليه الصلاة والسلام من تكرار الصلاة في الحديث ثلاث مرات

مقصد النبي عليه الصلاة والسلام من تكرار الصلاة في الحديث ثلاث مرات إذاً: عمود هذا البيت الذي أوى إليه المسلم وابتناه وسكن فيه يقيه حر الحيرة، ويقيه برد الشك، وهو بيت الإسلام، ولا يقوم هذا البناء إلا على الصلاة، ولهذا جاء في الحديث: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) . إذاً: يؤكد صلى الله عليه وسلم على أمر الصلاة ثلاث مرات، الأولى عند قوله: (تقيم الصلاة) ، والثانية عند قوله: (وصلاة الرجل في جوف الليل) أي: من النوافل. والثالثة:) وعموده الصلاة) . ولذا جاء في الحديث أنه أول ما يُسأل عنه العبد الصلاة، فإن قبلت قبل معها سائر العمل. وليس هنا تعارض بين هذا الحديث وحديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) ، فأول ما يسأل عنه العبد من حقوق الله عليه الصلاة، وأول ما يسأل عنه من حقوق الخلق الدماء، وهذا إن لم يقض فيها في الدنيا. ولذا يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: إن هناك قضايا، لن يقضى فيها إلا يوم القيامة، ربما تكون -كما يقولون- قيدت ضد مجهول، أي: أننا ما عرفنا الجاني، أو أنه تكون هناك ملابسات تجرم البريء وتعفي الجاني. وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى في باب الجنايات قصة نوردها هنا، قال: كان عند رجل جزار شاتان، وعند الفجر قام ليذبحهما، فذبح واحدة وشردت الأخرى فتبعها، فدخلت خربة، فدخل وراءها فأمسك بها، فإذا برجل يتشحط في دمه في تلك الخربة، ودخل الحرس فوجدوا الجزار والسكين في يده ملطخة بالدم، والرجل القتيل يتشحط في دمه، قالوا: أنت قتلت هذا؟ قال: نعم. فأخذوه وذهبوا به إلى الوالي، كان في زمن علي رضي الله تعالى عنه، قالوا: هذا ذبح هذا، والسكين في يده، قال: قتلته؟ قال: نعم، وحكم عليه بأن يقتل قصاصاً، وحدد اليوم والساعة لتنفيذ القصاص، وعندما حانت الساعة سيق إلى الميدان ليعدم، وجيء به، والناس مجتمعون، فإذا برجل من وسط الجموع يخرج ويقول: لا تقتلوه، أنا القاتل. وأُوقف القصاص وذهبوا به إلى الإمام علي، فقال للجزار:: أنت القاتل؟ قال: لا، والله ما قتلته، القاتل جاءكم بنفسه، قال له: فلماذا قلت في المرة السابقة أنك القاتل؟ فقال الجزار: وجدت نفسي في موقف لا ينفع فيه الإنكار مهما أنكرت ومهما أقسمت، فهذا قتيل يتشحط في دمه، وهذه سكين في يدي بدمها، لو قلت دم الشاة أو دم غيرها من يصدقني، فأردت أن أختصر الطريق وأهون على نفسي التعذيب. قالوا للآخر: وأنت ما الذي جاء بك؟ قال: والله تذكرت، وقلت: الذي قتلته عدو وخصم لي، وهذا المسكين البريء كيف أتسبب في قتله ولا ذنب له، فعظم علي في نفسي أن أتحمل نفسين في وقت واحد -فكأن بذرة الإيمان لا تزال فيه- فقال علي رضي الله تعالى عنه: لئن كنت قتلت نفساً فقد أحييت نفساً، وطلب من أولياء الدم العفو ودفع الدية من عنده. فالحديثان، (أول ما يحاسب به العبد الصلاة) ، هذا في حق الله، و (أول ما يقضى فيه بين الناس في الدماء) ، هذا في حقوق العباد، وهي الدماء والأعراض والأموال، لكن الدماء قبل كل شيء. وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحديث التاسع والعشرون [5]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [5]

ذروة سنام الإسلام

ذروة سنام الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلا زلنا عند قوله عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: (رأس الإسلام. وذروة سنامه الجهاد) . وإذا تأملنا في هذا الحديث النبوي الشريف وجدنا أنواع التشبيهات والاستعارات، أولها: الإسلام كالرأس للإنسان، والثاني: الصلاة كالعمود للبيت الذي يقوم عليه، والثالث: الجهاد كسنام البعير (وذروة سنامه الجهاد) ، وبتأمل هذه التشبيهات الثلاثة نجد كل مثال في موضعه يعطي حكم موضوعه.

روعة البلاغة في كلام النبي عليه الصلاة والسلام

روعة البلاغة في كلام النبي عليه الصلاة والسلام رأس الأمر الإسلام لأن الجسم بلا رأس لا قيمة له، فهو جثة هامدة، وكذلك كل الأعمال بدون الإسلام وإعلان الشهادتين لا قيمة لها. والبيت بعموده، فكذلك الصلاة هي عماد الدين، وقد جاء في الحديث أنه بني الإسلام على خمس، وذكر صلى الله عليه وسلم الصلاة، وبيّن في أحاديث أخرى بأن ذاك البناء لا يقوم إلا بالصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) ، واعتنى بها صلى الله عليه وسلم في تنشئة الصبيان والأطفال والناشئة فقال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع) ، إلى آخر ما يتعلق بهذين المثالين. وإذا جئنا إلى سنام البعير نجد أحوال المسلمين وموضوع الجهاد أشبه ما يكون بسنام البعير، لأن السنام هو ذروة البعير وأعلاه، وسِمَن السنام عنوان على صحة البعير وقوته وخصب مرعاه، وضعف السنام واضمحلاله يدل على ضعف البعير وقلة مرعاه وهكذا الأمة الإسلامية كلما قويت شوكتها سمنت ذروة سنامها، وكانت في أقوى ما تكون وأكمله. وإذا ما تضعضعت، ذاب السنام ولصق الجلد بالعظام، وهكذا ذروة السنام. ومن ناحية أخرى نجد أن الأعمال بدون الإسلام لا قوام لها، وكذلك البيت بلا عمد لا ظل ولا إيواء، بل هو طنب مطوية أو لائطة بالأرض، أما السنام فقد يسمن ويكبر، وقد يهزل ويصغر والبعير قائم على حاله، كذلك الجهاد بالنسبة إلى الإسلام تارة فتارة، تارة يكون واجباً فرض عين، وتارة يكون مندوباً إليه، وتارة يكون فرض كفاية، فتتغير أحوال الجهاد في الأمة كما يتغير حال السنام في البعير. والجهاد كما يقول العلماء: بذل الجهد، وهو أقصى ما يستطيعه الإنسان، تقول: فلان يجتهد في حمل الصخرة، ولا تقول يجتهد في حمل النواة، لأن النواة لا تحتاج إلى بذل جهد، تقول: أخذ الكتاب بيده، وتقول: حمل الكيس الكبير أو حمل الصخرة الثقيلة بعد جهد جهيد. ومن هنا أخذ الاجتهاد في مسائل العلم، وهو: بذل الطاقة والجهد في البحث والتنقيب، فكذلك جهاد العدو، لأن المجاهد يبذل غاية جهده وطاقته ليتغلب على عدوه، وليس بعد الدفاع عن نفسه والظفر بعدوه من جهد، ومن هنا كان الجهاد شاقاً وثقيلاً على النفس؛ لأنه يكلفها أقصى جهدها وطاقتها.

ميادين الجهاد في سبيل الله

ميادين الجهاد في سبيل الله أما ميادين الجهاد فأعلاها وأقواها ميادين الكر والفر وقتال العدو الكافر، وبعضهم يقول: طلب العلم ومعرفة الحلال والحرام، ولذا يقولون: يوم القيامة يكون مداد العلماء ودماء الشهداء سواءً بسواء. والواقع أن القضية نسبية، والقرآن سوى بين الأمرين، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] ، أي: لا يمكن أن ينفروا جميعاً لأنهم يتركون الذراري، ويتركون العجائز ويتركون الأعمال والزراعة والإنتاج، {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] ، فندب القرآن لطائفة أن تنفر في سبيل الله، وطائفة أن تنفر في طلب العلم. واستدل القائلون بأن طلب العلم أهم من الجهاد بأنه -أصلاً- لن يجاهد إنسان إلا بعد العلم والمعرفة، ولن يرسم طريق الجهاد الصحيح إلا العلماء، وعليه طلب العلم أولاً ثم الجهاد، وليس كل واحد منهما يعطل الآخر. ثم أيضاً الجهاد يكون بالسنان وباللسان وبالمال وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10-11] ، فقدم الأموال، والعادة أن التقديم له تأثير، فكيف يقدم المال على النفس، والجندي المجاهد هو الشهيد؟ وA لأن الجهاد بالمال أعم وأشمل، وهو جهاد الصغير والكبير والمرأة والرجل، وكل من يملك المال يمكن أن يتبرع، وماذا يفعل الرجل بنفسه إذا لم يجد ذخيرة أو زاداً يتزود به؟ وخاصة في مثل أيامنا، حيث صارت الحرب حرب اقتصاد والغلبة غلبة إنتاج، وليست كثرة رجال وصليل سيوف، أصبحت الآن المعدات الحربية والتكتيك العسكري له تأثير عظيم، وقد كان الاعتماد سابقاً على قوة الرجال، أما اليوم فبقوة الآليات، والآليات تحتاج إلى مال لكي تشتريها. وهكذا تقديم المال يعطي الصورة الحية لسعة مجال الجهاد الحقيقي، ثم يأتي الرجال بعد ذلك. وميادين الجهاد عديدة، منها: قتال العدو، طلب العلم، حرب المنكرات، جهاد النفس، جهاد الهوى، كل ذلك من ميادين الجهاد، كما أن الجهاد يبحث أيضاً في آلته: الجهاد بالكلمة، الجهاد بالإنتاج، قائد القوات البريطانية في الحرب العالمية الأخيرة كان يأتي بشخصيات غير بريطانيين للجيش فعِيب عليه، فقال: الجندي الذي يعمل في الميدان يحتاج إلى سبعة جنود وراءه لتمويله، من يخبز له، ومن يطبخ له، ومن يخيط لباسه؟ ومن يقدم له عتاده؟ ومن يشغل المصانع التي تمونه بالذخيرة؟ ومن يمهد له الطريق؟ ومن يوصل له حاجاته؟ وكل أولئك جنود يعملون. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة) ، السهم الواحد يُرمى في سبيل الله يدخل فيه ثلاثة الجنة (صانعه، والممد به، والرامي به في سبيل الله عز وجل) . فهذا الجندي في الميدان وراءه عدة جنود، إلا أن موضوع التموين كان في صدر الإسلام كل جندي يمون نفسه، وكل جندي مدرب قبل أن يأتي الإسلام، فقد كانوا كل يوم في غارة وكل يوم في قتال، فهم مدربون بفطرهم، لحماية أنفسهم أو للبغي والغارة على غيرهم، كما قال الشاعر: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

دروس الجهاد من غزوة الأحزاب

دروس الجهاد من غزوة الأحزاب إذاً: أنواع الجهاد متعددة، وقد ظهر جهاد الكلمة في غزوة الأحزاب بمظهر عجيب، كلمة فعلت أكثر مما تفعل الجيوش، فإنه لما جاء الأحزاب -قريش وأحلافها مع غطفان- وعلم صلى الله عليه وسلم تحرك المشركين، وحفر الخندق بعد مشورة سلمان رضي الله تعالى عنه، وبهذه المناسبة كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: خطة الخندق خطة فارسية، حينما أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه بما عزمت عليه قريش وأحلافها ومجيئهم يستأصلون المدينة كلها، فقال: (أشيروا علي) ، قال سلمان: كنا إذا حوربنا خندقنا، يعني اتخذنا الخندق حولنا، فأعجبته الفكرة وأخذ بها. وحبذا لو دُرِست غزوة الخندق، من ناحية الأسباب والنتائج ومواقف الناس فيها، لتكون منهجاً في حالة السلم والحرب؛ لأن فيها من المبادئ العسكرية الشيء الكثير، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجيش تحت لواءين، لواء للمهاجرين ولواء للأنصار، وقسم الجميع عشرات، في تسلسل هرمي ينم عن عقلية عسكرية فذة. واختلفوا في سلمان هل يكون تحت لواء المهاجرين أم تحت لواء الأنصار، المهاجرون يقولون: هو منا لأنه جاء مهاجراً من بلاد فارس، والأنصار يقولون: بل هو منا لأنه كان موجوداً حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية النزاع، ويقول: (سلمان منا أهل البيت) ، فبأي صلة وبأي رابطة ارتفع نسب سلمان الفارسي، وليس في دمه قطرة دم عربية حتى يصل إلى بيت النبوة!! إلى بني هاشم ذروة النسب والحسب في العرب بأي شيء وصل ذلك؟ هو عبَّر عن هذا فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم أبوك من يا سلمان؟ لم يقل فلان ابن فلان، مع أن أبوه كان من سدنة بيت النار، لكن كل ذلك أُلغي، فقال: أبي الإسلام. فحفروا الخندق بإشارة سلمان، وحينما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واجه تيارات فكرية مختلفة، وأزمات اقتصادية، فالمدينة محصورة بين لابتين، والإنتاج لا يكفي كل من يأتيها، وليس هناك ميادين عمل، علي رضي الله تعالى عنه يؤاجر نفسه على أن ينزع كل دلو ماء بتمرة، لكن القضية ليست قضية إنتاج واقتصاد، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبين المهاجرين أنفسهم، ووجد المهاجرون قوماً يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فآثروهم بأموالهم واتسعت صدورهم لهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] ، والمهاجرون يتعففون عن أموالهم. عبد الرحمن بن عوف يقول له أخوه من الأنصار: هلم أقاسمك مالي، ولي زوجتان، فانظر إلى من شئت منهما أطلقها وتعتد وأزوجك إياها. فيقول: بارك الله لك في مالك وفي زوجاتك، دلني على السوق. {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ، يقابلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] . يأتي القسم الثالث: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] . ومن هنا يقول الإمام مالك رحمه الله لما سأله المهدي هل للخوارج حق في الفيء؟ قال: لا، كل من يبغض سلف الأمة وأصحاب رسول الله ليس له شيء من الفيء؛ لأن الله قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:7-8] ، يقابلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا} [الحشر:8-9] . فمن لم يقل في سلفه {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ولم يقل {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ، فليس له في الفيء نصيب، وكل من كان في قلبه غل لصحابي واحد فليس له في الفيء نصيب. كان هذا هو المجتمع الأول، ماذا يفعل مع اليهود وهم أصحاب وطن وأصحاب إقامة؟ كتب وثيقة عهد المسلمين وبين اليهود، واليهود ثلاث قبائل، وكل قبيلة لها حلف مع الأوس أو الخزرج. فعالجها صلى الله عليه وسلم بتلك الوثيقة، وأصبح مرد النزاع في المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء في تلك الوثيقة أن على اليهود ألا يعينوا عدواً على المسلمين، وأن يدافع الجميع عن المدينة إذا داهمها عدو من الخارج، لأنها بلد الجميع. فلما جاء الأحزاب نقضوا العهد وعزموا على قتال المسلمين مع المشركين، وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رجلين فقال: اذهبا وتحسسا، فإن رأيتما حقاً فارمزا لي رمزاً، وإن كان غير ذلك فاجهرا وصرحا، والعلة في عدم تصريحهم بنقض اليهود حتى لا يقع الروع في قلوب المسلمين، فذهبا وجاءا فقالا: عظل والقارة. وفهِمها صلى الله عليه وسلم.

نعيم بن مسعود والأحزاب

نعيم بن مسعود والأحزاب في تلك الأثناء جاء نعيم بن مسعود، قال: يا رسول الله إني أسلمت ولم يعلم بإسلامي قومي، فمرني بما تريد؟ قال صلى الله عليه وسلم: أنت رجل فرد، يعني لو حملت السلاح ماذا تفعل، كواحد من الجماعة، ولكن ثبط عنا -الحرب الباردة- فذهب إلى يهود وكان حليفاً لهم، قال: يا معشر يهود لقد تورطتم مع أبي سفيان، ونقضتم العهد الذي بينكم وبين محمد، وأبو سفيان جاء بقريش، وجاء بالعرب من مكة ليس له هنا عشيرة ولا أموال ولا رباع، إن وجدها له استمر، وإن وجدها عليه رجع وترككم مع الرجل ولا طاقة لكم به قالوا: فماذا نفعل؟ وأنت صديقنا فماذا تنصحنا؟ قال: أنصحكم أن تتثبتوا من أبي سفيان، قالوا: بأي شيء؟ قال: اطلبوا منهم أربعين رجلاً يكونون عندكم كرهائن حتى لا يفر ويرجع ويترككم. قالوا: صدقتنا. وذهب إلى أبي سفيان فقال: يا أبا سفيان! إن اليهود ندموا على نقض العهد مع محمد، ولن يقاتلوه معك، وقد فكروا في مكيدة وسيطلبون منك أربعين رجلاً رهائن، ليقدموهم لمحمد ليضرب أعناقهم تكفيراً عن خطئهم في نقض العهد، قال: وما الرأي؟ قال الرأي إذا طلبوا منكم فلا تعطوهم. قال: صدقتنا. ومن الغد -وكان ذلك يوم جمعة- أرسل أبو سفيان لليهود طال الحصار، ونريد أن نناجز الرجل، فقالوا: لا يا أبا سفيان، تعلم أن يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً، وتعلم ما وقع لأسلافنا في يوم السبت. معلوم أن الله سبحانه وتعالى مسخهم قردة وخنازير كما في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] . فقالوا: يوم السبت لا عمل، ومع ذلك أيضاً لن نقاتل محمداً معك حتى تقدم لنا رهائن، لئلا تتركنا وتذهب عنا ونبقى مع الرجل وحدنا، فقال أبو سفيان: صدقنا نعيم. فقال أبو سفيان: والله ما نعطيكم رجلاً واحداً، فقالوا: صدق نعيم. ومن الغد وقع النزاع بين الفريقين، وحصلت الفرقة بينهما. فكلمات قليلة عملت أعظم مما قد يعمله جيش بأكمله، وكانت النهاية أن الله سبحانه وتعالى رد المشركين بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأرسل عليهم الرياح تطفئ نارهم وتكفأ قدورهم وتهدم خيامهم إلى آخره. إذاً: (ذروة سنامه الجهاد) ، الجهاد يكون بالمال، وبالنفس، وبالكلمة. وقد يكون بأكثر من هذا، ولكن كل ما يمكن أن يخطر في بالك يدخل في باب المال، تقدم المستشفيات، تقدم العلاج، تقدم السلاح، تقدم اللباس، تقدم أي شيء للغزاة في سبيل الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا) .

من أحكام الجهاد

من أحكام الجهاد

جهاد النفس

جهاد النفس وهناك كلام في جهاد النفس لبعض العلماء، ويستدلون بحديث يتفق العلماء على تضعيفه (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) ، وهو جهاد النفس. والمعنى صحيح ولكن ليس على هذا الأساس، حقيقة الجهاد الأكبر جهاد النفس، من حيث إنك تجاهدها في العبادات على الإخلاص في العمل، وتجاهدها على أداء الواجب من إقام الصلاة التي قال الله عنها: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] فتحتاج إلى جهاد. الصدقة يقول صلى الله عليه وسلم: (ما تصدق إنسان بدرهم حتى يفك عنه سبعين لحي جمل) . فالشح كأنه بمثابة سبعين جملاً، يمسكون على المنفق ليردوه عن نفقته، ولا يتصدق التصدق إلا بعد انفكاك منها، ولن يكون ذلك إلا إذا كان عنده يقين وإيمان وتصديق بما سيعوضه الله من الأجر عن صدقته يوم القيامة. ولهذا قالوا: جهاد النفس مقدم على غيره من أنواع الجهاد، وقال بعض العلماء بتقديم جهاد العلماء؛ لأن الأصل أن الشخص لن يحمل السيف بيده ويذهب إلى المعركة إلا بعد جهاد داخلي يقتنع عن طريقه بحقيقة الجهاد الخارجي، أما أن نترك الجهاد للعدو، ونعتكف ونجلس لنهذب أنفسنا ونروضها ونترك قتال العدو، فهذا لا يقوله عاقل. والقرآن أشار إلى أمر عجيب، يرجع إلى هذه القضية ويبين أن جهاد النفس وإصلاحها هو المرتبة الأولى، لكنه لا يكون مقدماً عملياً على جهاد العدو. أعتقد أن أكبر غزوة في الإسلام هي بدر الكبرى، مع أن صلح الحديبية كان فتحاً، لكن بدراً كانت غزوة غير متوقعة، بل كما قيل: كانت بدر بقيادة السماء. ومن المعلوم أن كل غزوة لا بد لها من مقدمات، ولا بد لها من تهيئة، ولا بد لها من سوابق، إما أن تفرضها أنت أو تفرض عليك، وفي كلتا الحالتين تكون عالماً بظروف العدو عدداً وعدة وزماناً ومكاناً ودوافع، وبدر بخلاف هذا كله، فإنهم خرجوا لعير يأخذونها، وليس فيها إلا أربعين رجلاً، فخرجوا خفافاً: (من كان ظهره حاضراً فليركب) ، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فيندبهم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ليستردوا بعضاً من أموالهم التي تركوها في مكة وأخذها كفار قريش، إذاً: أخذ المسلمين للعير ليس قطع طريق كما يقول المغرضون في ذلك، بل إعادة للحق إلى أهله. خرجوا ولكن ذهبت العير وأتى النفير، ويخبر الله عما كان يجيش في صدور الصحابة فقال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال:7] ، فيأتي النفير، ويشاور النبي أصحابه، فيتفقون على النفير، ثم يأتي أرض المعركة، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] ، {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَان مَفْعُولاً} [الأنفال:44] ، حتى الحِس يختلف، ترونهم قليلين، ويقللكم أيضاً في أعينهم، فكما تنظرون إليهم قلة هم ينظرون إليكم قلة، ليطمع الكل في الثاني، سبحان الله! ويصف الموقف:: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] ، منزل المسلمين يكون في العدوة الدنيا، هي أرض رملة تغوص فيها الأقدام، ومنزل المشركين أرض سبخة صلبة قوية، وحينما يتراءى الجمعان ينزل الله المطر من السماء، فتتماسك الرملة وتثبت عليها الأقدام، والأرض السبخة حينما يسقط عليها المطر تصير أرضاً زلقة، فالمطر ينزل فيكون لأقوام نصراً ولأقوام هزيمة، وهذا كله {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42] . إذاً: ميادين القتال عديدة، ووسائل الجهاد أيضاً متعددة، وجهاد النفس مقدم، وما انتهت معركة بدر إلا والمسلمون أسروا سبعين وقتلوا سبعين، ورجعوا بالغنائم، وقد نزلت الملائكة تقاتل معهم يقودهم جبريل. وبعد المعركة اختلفوا في أمرين: في الأسارى والغنائم، وقد جاء فيها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] ، وأول حديث عن غزوة بدر لا يتكلم عن الانتصارات ولا عن الصبر ولا عن الثبات، إنما تكلم عن الأنفال أنها لله وللرسول، وأنتم اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم سبحان الله، أي: قبل أن تنتصروا على العدو لا بد أن تنتصروا على ذات بينكم، لأن الجماعة إذا لم تكن مصلحة ذات بينها ومتلاحمة كالجسد الواحد وكالبنيان، فلن تستطيع أن تنتصر على عدوها فمن لم ينتصر على داخليته، ويحسن الارتباط بينه وبين أخيه، لن يستطيع أن ينتصر على عدوه الخارجي ولا أن يصلح غيره من بعده. إذاً: لا شك أن جهاد النفس هو المبدأ، حيث ينطلق بعد إصلاح نفسه إلى قتال العدو، ولا أقول بترك قتال الأعداء، والجلوس لترويض وتهذيب أنفسنا في المساجد أو في المعتكفات، ونترك العدو يحتل الديار، لا يقول هذا عاقل أبداً.

منزلة الجهاد في سبيل الله بين الأعمال

منزلة الجهاد في سبيل الله بين الأعمال بقي حكم الجهاد في سبيل الله، قلنا: إن أنواع الجهاد كثيرة، منها جهاد في طلب العلم، جهاد في العبادة، جهاد للعدو، وكلٌ بحسبه، وقد ثبت في الحديث: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله) . وجاء إليه آخر فقال: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: إيمان بالله، قال ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) . وجاء آخر فقال: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: إيمان بالله، قال ثم ماذا: الصلاة على وقتها) . سبحان الله سؤال واحد والإجابة مختلفة جهاد، بر والدين، صلاة؛ لأن كل شخص له ما يلائمه، أو أن كل زمن له جهاده، فإذا كانت المعركة مقبلة، فالأفضل أن تحمل السلاح، وإذا كان سلماً ورأيت شخصاً عاقاً أو مقصراً في حق والديه فالأفضل أن تأمره ببر والديه، وإن جدت شخصاً مقصراً عن أداء الصلوات في أوقاتها أمرته بالمحافظة على الصلاة في أول وقتها. إذاً: المفتي طبيب يصف الدواء على حسب الحاجة، فمن كان أهلاً لحمل السلاح وجهناه للسلاح، ومن كان ذا أبوين يحتاجانه وهو مقصر في حقهما وجهناه إلى والديه، وهكذا في أمر الصلاة، بل ونقول في جميع الأمور، كل بحسب صلاحيته. وأشرنا سابقاً إلى الشاب الذي خرج على المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم في مجلسه مع أصحابه، وكله نشاط وحيوية، فقال أحد الجلساء: لو كان هذا في سبيل الله -أي: لو كان هذا النشاط وهذه الطاقة توجه إلى سبيل الله- فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على ولده فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخراً فهو في سبيل الشيطان) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يجعل الساعي ليعف نفسه أو ليكفها عن الحرام ويعول أسرته -أبويه أو زوجه أو أولاده- في سبيل الله. إذاً: الجهاد ميادينه واسعة وكل بحسبه. نأتي إلى الجهاد في الميدان وهو الذي يكثر فيه الكلام وينصرف إليه المعنى عند الإطلاق.

حكم الجهاد في سبيل الله طلبا ودفعا

حكم الجهاد في سبيل الله طلباً ودفعاً يتفق العلماء على أن الجهاد قسمان، ما يسمى الآن بالهجوم، وما يسمى بالدفاع، ويصطلح عليه الفقهاء الجهاد ابتداءً وطلباً، والجهاد دفاعاً وصداً. فالجهاد الذي هو دفاع عن النفس لا ينبغي لاثنين أن يختلفا في حكمه، لأن في شرعة كل كائن حي أن من هوجم يدافع، أرأيت لو جئت إلى دجاجة معها فراخها وهاجمتها ماذا تفعل معك، أتستسلم لك أم تدافع عن نفسها؟ تدافع. فالدفاع عن النفس فرض عين حتى عند الدجاج إذاً: هذا القسم لا ينبغي لأحد أن يتكلم فيه. ولهذا أجمع المسلمون على أن الجهاد قد يكون فرض عين على كل شخص، رجل، امرأة، صغير، كبير، بإذن، بدون إذن، وذلك حينما يداهم العدو بلدة وجب مدافعته على كل مستطيع من أهل تلك البلدة. بل كما يقولون: حتى لو لم تجد المرأة سلاحاً، فلها أن تدافع ولو بغطاء القِدْر. الدفاع عن النفس لا ينبغي لأحد أن يتكلم فيه ولا يثير فيه خلافاً، إنما الخلاف والكلام في القتال ابتداءً وطلباً، حينما يذهب المسلمون إلى الكفار في ديارهم ويقولون: الإسلام أو الجزية أو القتال. فهذا قتال طلبي وهذا الذي شُرِع على المسلمين لكن بتدرج، يقول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... ) الحديث، إذا القتال ابتداءً مفروض في الإسلام، ولكن حينما تكتمل لهم القوة، ويقدرون على ذلك، وقد أخذ هذا النوع في الإسلام باب التدرج، ففي مكة كان المسلمون يصبرون على التعزير، ويصبرون على العذاب، وربما يموت الشخص تحت التعذيب، ومع ذلك لم ينتصر واحد لنفسه، ولما جاء الأنصار وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة قالوا: يا رسول الله! ائذن لنا أن نميل على أهل الموسم بأسيافنا. فيقول: إنا لم نؤمر بقتال بعد. لماذا لم يدعهم وتكون هذه مقدمة تخوِّف العرب؟ لأنه لم يؤمر؛ ولأن الوقت لم يحن، فإذا كان المسلمون في حالة تجمع وحالة وحدة وحالة قوة، فرض عليهم أن يذهبوا إلى الكفار ويدعوهم إلى الإسلام، فإن لم يسلموا فالجزية، فإن لم يدفعوها استعانوا بالله وقاتلوهم. ولكن اليوم كل دولة بحدودها وسيادتها، وكل دولة لا تستطيع أن تتدخل في شئون الأخرى، ولا توجد دولة من الدول تستطيع أن تفعل ذلك وحدها، أخبروني من هي الدولة التي تستطيع أن تذهب إلى روسيا أو إلى بريطانيا أو إيطاليا أو أمريكا وتقول: أسلموا أو الجزية أو القتال؟ إذاً: القتال ابتداءً فرض على مجموعة المسلمين، وفي الوقت الحاضر إذا استطاعوا القيام بالنوع الثاني -الدفاع عن النفس ومجاهدة العدو والاحتفاظ بما بأيديهم- فذلك ظفر كبير. أما إذا دوهمت دولة من الدول -عربية كانت أو إسلامية- واستنفر إمام تلك الدولة الشعب على قتال عدوه، وجب على الجميع أن ينفر معه، وإذا عيَّن، وقال: عندنا قتال في الجهة الفلانية ويصلح له فلان وفلان وفلان، لخبرتهم أو لمعرفتهم، فيتعين على هؤلاء أن يجيبوا، وكذلك الشخص المتطوع في الحراسة في الثغور، إذا نشبت الحرب وجب عليه أن يشارك، ولا يحق له أن يرجع.

لمن يكون الإعلان للنفير العام؟

لمن يكون الإعلان للنفير العام؟ أما ما عدا ذلك فهو فرض كفائي، إذا قام به البعض سقط عن الباقين. وقضية إعلان الجهاد وإعلان الهدنة باب واسع، يقول الماوردي: على الأمة أن تجيب ولي أمرها في أربع حالات: إعلان الجهاد على العدو، وقبول الهدنة معه، ونوع المكيال والميزان، ونوع العملة التي يتعاملون بها. فإذا أعلن ولي أمر المسلمين حرباً وجب على الأمة أن تساعده، وإذا أعلن قبول الهدنة وجب على الأمة أن تساعده، وإن كان في نظرهم غير مصيب؛ لأن النظر في هذه الأمور لا يكون إلا لولي الأمر، كما وقع في صلح الحديبية، حيث قبل صلى الله عليه وسلم شروط المشركين على مضض، ولم يقبلها عمر، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) ، أي: أسير على نور الله من الله، وبتوجيه من الله، فلا ينبغي للأفراد أن يختلفوا على ولي أمرهم إذا أعلن حرباً أو قبل هدنة، أو أنزل عملة ما، أو مكيالاً وميزاناً ما؛ لأن هذا من المصالح العامة التي هي من حق الإمام.

ملاك الأمر كله

ملاك الأمر كله ثم بعد ذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله. الحديث) ، ملاك الأمر: هو جماع الأمر، وما يملك أطرافه وصلبه وحواشيه، كأنه يقول: ما تمتلك به كل ما تقدم. فأخرج صلى الله عليه وسلم لسانه وقال: (أمسك عليك هذا) ، ولم يقل: أمسك عليك لسانك، بل أخرج لسانه صلى الله عليه وسلم وأشار إليه بإصبعه، ليجعله في صورة حية أمام معاذ، مع أن معاذاً يعرف اللسان ويفهم الكلام، لكن ليبرز الموضوع عملياً، فقال معاذ: (أوإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟) ، أي: بالصغير والكبير!! قال: (ثكلتك أمك) ، الثكل هو: إذهاب الأولاد حتى لم يبق إلا واحد. ثم قال: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم -شك من الراوي- إلا حصائد ألسنتهم) ، وهذا تشبيه ثان، الإنسان في الحياة يزرع والحياة مزرعة، والحصاد يكون يوم القيامة، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (الدنيا سوق) ، وقوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه) ، فتارة تكون الدنيا سوق وأنت السلعة، وتارة تكون مزرعة وأنت الزارع، ما تزرع هنا تحصده هناك. (حصائد ألسنتهم) ، لم يقل: حصاد، بل: حصائد، كأن اللسان يزرع أنواعاً، ومن زرع الشوك يجني شوكاً، ومن زرع الورد يجني ورداً وفلاً. ومن زرع الخير يجده، ومن زرع غير ذلك يجد ما زرع؛ لا ظلم اليوم. إذاً: الكلمة هي من أخطر ما يكون، ولا يمكن أن يوفي إنسان حصاد اللسان في لحظات، ولكن لنعلم أن أخطر حصاد اللسان الصدق والكذب، (وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) ، والكذاب مآله إلى النار. يقول الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: إبليس استحيا من أن يكون كذاباً حينما قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] ، ثم قال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] . لو لم يستثن هذه لكان كذاباً لأن هناك أشخاصاً لا يغويهم، فاحترس لذلك لئلا يكون كذاباً. وأبو سفيان وهو أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، عندما مُثل بين يدي هرقل، وقال له هرقل: إني سائلك عن هذا الرجل، ويقول لمن معه: كونوا من ورائه، فإن صدق صدقوه، وإن كذب كذبوه. ثم سأله، فلما خرج من عنده قال: ما منعني أن أكذب وأحقر من أمر محمد عنده إلا أنني خشيت أن يؤثر عني الكذب!! إلى هذا الحد. إذاً هذا الموضوع مهم جداً، ويكفينا دلالة على ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم في التحذير من آفات اللسان -ومصداقاً لذلك فقد قال الشافعي: كل حديث له دليل من كتاب الله- قوله سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] . وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، ويجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويجعلنا وإياكم من الصادقين، وأن يجنبنا وإياكم الكذب والغيبة والنميمة، وكل ما لا يرضى سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الحديث التاسع والعشرون [6]

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [6]

الترهيب من آفات اللسان

الترهيب من آفات اللسان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فلا زلنا في حديث معاذ الذي جاء فيه: (قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] ، حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:19] ، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا، قلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم) . هذا الحديث الطويل الذي بيّن أصول الإسلام، وبيّن الأركان والنوافل وأبواب الخير المتعددة، وشبه فيه الإسلام بالرأس للجسد، والصلاة بالعمود للبيت، والجهاد بالسنام. ثم بعد ذلك يقول صلوات الله وسلامه عليه: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) ، ملاك ذلك وامتلاك ذلك: هو الشيء الذي يجمع أطراف الشيء، تقول: امتلكت البيت بأي شيءٍ امتلكته؟ بزمامه، بصكه، بمفتاحه. فملاك الأمر: قوامه الذي به تجتمع أطرافه كلها، وهنا يقول معاذ: (بلى يا رسول الله) ، فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى اللسان ويشير إلى لسان نفسه، ويقول: (كف عليك هذا) ، وكما يقول البلاغيون وعلماء النحو: اسم الإشارة يعين مسماه، أي: للتعيين والتحديد، وكما يقول علماء الوضع: أسماء الإشارة موضوعة لموضوع خاص، فكلمة (هذا) صالحة لكل ما تشير إليه. ولكن لا يستعمل إلا لفرد واحد معيَّن عند الاستعمال، تقول: هذا الرجل هذا الكتاب هذا العمود فتعيَّن هذا العمود دون عمد المسجد كلها، مع أنها صالحة أن تستعمل مع كل عمود على حدة، ولذا كان التعيين بلسانه صلى الله عليه وسلم لأهمية الأمر.

فوات بعض الأحكام عن بعض الصحابة لا بنقص من مكانتهم

فوات بعض الأحكام عن بعض الصحابة لا بنقص من مكانتهم فيقول معاذ: (وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟!) ، كأن معاذاً لم يكن يعرف إجابة هذا السؤال وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) ؛ لكن فات عليه أنه يؤاخذ بما يتكلم به. إذاً: لا غرابة أن تفوت بعض الأحكام على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرفها الآخرون، أو لا يعرفونها ويسألون عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت نماذج عديدة من ذلك، ويستدل ابن رجب وابن القيم وغيرهما بهذا الحديث على أن كثيراً من آحاد الأحكام قد تخفى على بعض الصحابة ثم تتبين لهم بعد ذلك بأن لم يكونوا سمعوا فيها خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يجتهدون في المسألة ويوفقون إلى طبق ما جاء فيه النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنا نشير إلى نماذج من تلك النماذج ما وقع بين عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب، كل هؤلاء في المسجد النبوي الشريف اختلف رجلان في هذا المسجد إذا وطئ الرجل زوجته ولم ينزل هل عليه غسل أم لا؟ فقال عثمان: لا غسل عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) وقال الآخر: عليه غسل، فقال عمر لـ علي: ما تقول أنت يا علي في هذه؟ مسألة في كل البيوت وتخفى عليهم، فيقول علي: علام تسألني وتسأل غيري، وبجوارك أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن، إرسل إليهن فسلهن. فيرسل عمر رضي الله تعالى عنه إلى أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فتقول سلوا عائشة فإنها أعلم بذلك مني. ويسألونها فتقول: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويغتسل، وقالت: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها ثم جهدها فقد وجب الغسل) ، وقالت: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل) . وجاء الخبر إلى عمر فقال: لا أسمح أحداً يقول: لا غسل، إلا جعلته مثلاً لغيره، فقال ابن كعب على رسلك يا أمير المؤمنين! كنا في بادئ الأمر لا نغتسل إلا من الماء -نزول المني-، ثم عُزِم علينا فيما بعد، يعني أن الذي قال: لا غسل عليه، أخذ بما كان في أول الأمر، والذي قال: عليه الغسل، أخذ بما كان في آخر الأمر، وصاحب المقالة الأولى لم يبلغه الحديث الثاني. وأيضاً: فقد جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال: يا ابن عباس ما لي أرى الناس اختلفوا في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يحج إلا مرة واحدة، قال: وفيم ذلك يا بن أخي؟ قال: بعضهم يقول: أهلّ في مصلاه قبل أن ينصرف، وهناك من يقول: أهلّ حينما ركب راحلته، وهناك من يقول: أهلّ حينما صعد البيداء، ولا أدري من أين أهلّ، قال: يا ابن أخي! أنا أخبرك. أما الذي قال إنه أهل في مصلاه فقد سمع هو ذلك ولم يسمعه غيره، وأما الذي قال إنه أهل حينما استقلت به راحلته فقد سمع ذلك ولم يسمع ما قبله، وأما الذي قال إنه أهلّ حينما استوى على البيداء فقد سمع ذلك ولم يسمع ما قبله، وكلٌ أخبر بما سمع، والكل صادق. فهذه مسائل قد تخفى، ومما وقع لـ عمر رضي الله تعالى عنه حينما ذهب إلى الشام، وفي طريقه بلغه أن الطاعون وقع بالشام في عمواس، فوقف هل يدخل على الطاعون ومعه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو يرجع عما كان يريد، فاستشار الناس فاختلفوا عليه، يقول ابن عباس: قال لي عمر: ادع من كان هنا من المهاجرين، فجاءوا فسألهم فاختلفوا عليه، فبعضهم يقول: لا تدخل، وبعضهم قال: توكل على الله وادخل، فقال: انفضوا عني، ادع لي من كان هنا من الأنصار، واختلفوا عليه أيضاً، وأخيراً قال: ادع لي مشيخة قريش، فجاءوا فلم يختلف عليه واحد منهم، وقالوا: يا أمير المؤمنين جئت بوجوه القوم وخيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معك، فلا نرى أن تدخل بهم على الطاعون ونرى أن ترجع، فنادى في القوم: إني مصبح على ظهر. فلما سمع القوم المنادي ينادي، سمع عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً تلك المشاورات، قال: ما الأمر؟ فأخبروه بما كان، فقال: عندي في ذلك علم عن رسول الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) ، فكبر عمر رضي الله تعالى عنه وحمد الله أنه وافق رأيه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذاً جاءنا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءنا خبر عن صحابي من أصحاب رسول الله يخالف هذا الحديث، فلا يكون ذلك طعناً في الصحابي، ولا يكون طعناً في الحديث يضعفه، ولكن نقول: هذا الحديث رواه صحابي آخر سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الصحابي الجليل الذي لم يوافق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع بهذا الحديث، ولو سمع لكان أسبق الناس إليه. وعلى هذا يحترم العلماء آراء الصحابة والتابعين، ويلتمسون الأعذار لمن لم تبلغه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونخطو خطوة أخرى إلى الأئمة الأربعة، ونقول لطلبة العلم، ونؤكد عليهم أن يرجعوا ويقرءوا كتاب الإمام ابن تيمية رحمه الله: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، حيث ذكر فيه أسباب الخلاف وجعلها عشرة، ومنها ألا يبلغه الحديث فيكون معذوراً، أو يبلغه ولكن لم يصح سنده عنده، وقد يصح عند غيره، وقد يبلغه ويصح سنده لكن يتعارض مع ما هو أقوى منه عنده، وقد يبلغه ويصح سنده ولا يتعارض عنده ولكن يختلف في فهمه مع الآخرين. إذاً: كل هذا من الأعذار التي تكون سبباً في اختلاف الأئمة رحمهم الله في بعض المسائل، وليس ذلك عيباً، وليس ذلك نقصاً، وليس ذلك من باب الفرقة فيما بينهم. وهذا معاذ رضي الله تعالى عنه وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعرف الأمة بالحلال وبالحرام، ومع ذلك لا يعلم بأن الإنسان مؤاخذ بكل ما تكلم به، مع أن في هذه القضية قرآناً يتلى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، الرقيب العتيد يحصي عليه ما يقول ليحاسب بمقتضاه، لا أنه يكتب ولا محاسبة! فالشخص العادي لا يفعل هذا صاحب الدكان يأخذ دفتراً ويقيد كل صغيرة وكبيرة حتى يعمل حسابه إذاً: رقيب وعتيد هذا كله يدل على أن كل ما يتلفظ به الإنسان أنه يكتب، ولا يكتب إلا للازم الفائدة وهو المحاسبة عليها.

معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ثكلتك أمك!) نحوه

معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ثكلتك أمك!) نحوه ثم نأتي إلى جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك) : الثكل هو فقد الولد، كما جاء عن بعض الأعراب (ثكل أرأمها ولداً) ، وهي امرأة كان لها ولدان أحدهما فارس شجاع جيد، والآخر عادي مُهمَل، فكان تعنى الأم بالولد النجيب الفارس وتهمل الثاني، فقُتِل الولد النجيب -والمثل موجود في كتب الأدب- فلما قتل النجيب لم يبق إلا ذاك المسكين الضعيف، صارت الأم تحنو على هذا، فقالوا: هنيئاً لك أمك تحنو عليك، قال: ثكل أرأمها ولداً. أي: ثكلها بولدها الذي ذهب هو الذي جعلها تعطف علي، وقبل هذا ما كانت تسأل عني. وهنا مسألة: من المعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن سباباً ولا لعاناً ولا فاحشاً، فكيف يصدر منه في حق معاذ قوله: (ثكلتك أمك) وهو الذي قال له: (والله إني لأحبك؟!) . يقول العلماء: تلك ألفاظ تقال ولا يراد معناها، وإنما هي عبارات تجري على اللسان كضرب المثل، تعبر عن عدم الرضا، وقد جاء أبعد من هذا، فلما كان صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وبعد أن طاف بالبيت سأل عن صفية -وكانت نوبتها- فقالت له عائشة: إنها حائض. فقال (عقرى حلقى -لغة قريش- أحابستنا هي؟ ثم قال: أكنت أفضت -طفت- يوم النحر. قالت: نعم قال: فانفري إذاً) . فهنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى) ، العقر: إصابة بمصيبة، يقولون: عقر الدابة إذا ضرب عرقوبها، والعاقر التي لا ولد لها. وهل يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجة من زوجاته أن تكون عاقراً لا تلد! هذا أكبر عيب في النساء. حلقى: يعني حالقة شعر رأسها، والمرأة لا تحلق الشعر إلا في أكبر المصائب، إذاً: هل الرسول يدعو على زوجة من زوجاته بهذه الألفاظ؟ قال العلماء: إنما هي كلمات تجري على الألسنة دون إرادة معناها. كالوالد أو الوالدة عندما يجري على لسانه بالدعاء على ولده إذا غضب عليه ولا يقصد ذلك. فهذه أشياء تجري على اللسان غير مرادة، وما هنا كذلك، لكنه يبين عظيم خطر الموقف، لأن هناك لو لم تكن طافت طواف الإفاضة فإنها ستحبسهم أسبوعاً حتى تطهر، والناس كلهم متجمعون ولن ينفر أحد قبل أن ينفر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحصل مشقة على الناس. وهنا يستعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهمل حصائد الألسنة فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ) . وهل يكب: إذا سقط الشخص على ظهره يقال له: استلقى على قفاه، وإذا سقط على وجهه يقال: انكب على وجهه، وهنا: (وهل يكب) استفهام، لكن من باب الاستنكار، ولذلك قال: (وهل يكب الناس على وجوههم في النار) ، ما قال يلقيهم، بل قال: يكبهم على وجوههم، لأنه أشد من الإلقاء، أو قال: (على مناخرهم) ، وليس هناك تعارض، لأن المناخر من الوجوه، ولكن ذكر المناخر لأنها موضع الأنفة والكبر، ولذلك قال الله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] فجعل موضع الأنفة والاستكبار أول ما يلامس الأرض ليعبر عن مدى مهانة صاحبه.

دخول اللسان في أغلب المعاصي

دخول اللسان في أغلب المعاصي قوله: (إلا حصائد ألسنتهم) فيه تشبيه كلمات اللسان بالزرع الذي ينبت، فليتأمل كل واحد ماذا زرع؟ لأنه لابد غداً أنه سيحصده، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. يقول العلماء: أخطر حديث فيما يتعلق بنطق اللسان حديث معاذ هذا، ثم أخذوا يفصلون بعض العلماء يقول: لا يوجد ذنب ولا توجد معصية إلا ومعها اللسان يتكلم، لكن قد توجد بعض المعاصي بدون اللسان. وقالوا: أعظم حصائد اللسان المحرمة الكذب والنميمة والغيبة، وأعظمها عند الله الشرك بالله، كمن دعا غير الله، {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19-20] . {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم:23] ، والذي سماها هو اللسان، فاتخاذ الند لله ومع الله من حصائد الألسن، ومعها اعتقاد القلب، لكن اللسان هو الذي يعبر عنه إذاً: كل ما في القلب يعبر عنه اللسان. إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً وإن كان هذا يقوله علماء الكلام لقضية أخرى، لكن اللسان ترجمان الإنسان. ويقول آخر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فالإنسان نصفان: نصف مع القلب يريد ويرغب، والنصف الثاني مع اللسان الذي يعبر عما يريد القلب ويرغب فيه. ولذا الأخبار في هذا الباب طويلة جداً وأجمعها ما جاء في الأحاديث أن كل يوم يصبح الإنسان، تأتي الجوارح وتقول للسان: اتق الله فينا، لأن بك الصلاح وبك الفساد.

استثناء إبليس لئلا يكون كذابا

استثناء إبليس لئلا يكون كذاباً اللسان يتكلم والجوارح كلها تتحمل التبعة، ولذا جاء: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه) . فاللسان والقلب مرتبطان، وإذا جئنا إلى قضية الكذب والصدق، نجد بأن كل مخلوقات الله إلا الإنسان بل وذوو المروءة من بني الإنسان أيضاً يتحاشون الكذب، فمن ذلك ما كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه أنه كان يقول: إبليس يتحاشى الكذب حتى لا تؤخذ عليه غلطة، وذلك حينما قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39-40] ، فقالوا: حينما أقسم بعزة الله ليغوينهم أجمعين، أدرك بأن بعض عباد الله سيفلت منه، فاستثنى وقال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] . قدمنا سابقاً أن يحيى أو زكريا لقي الشيطان، فقال: أخبرني عن أقسام الناس وتصنيفهم عندك؟ قال: ثلاثة أقسام: قسم أنت وإخوانك الرسل، يئسنا منهم، وعجزنا عنهم. وقسم استرحنا منهم، لأنهم رهن الإشارة حيثما نشير إليهم يأتوننا، وهم الجهال وصفاتهم كذا وكذا. وقسم لم نيأس منهم ولم نطمع فيهم. قال: من هؤلاء؟ قال: بقية الناس الذين نحتال عليهم ويقعون في الذنوب ويرتكبون المعاصي، ونكدسها عليهم، ففي لحظة ينتبه الواحد منهم ويستغفر الله فيغفر الله له؛ فلم نيأس منهم لأننا نقدر عليهم، ولم نطمع فيهم لأنهم يستغفرون! إذاً: الشيطان مع جهده احترز عن الكذب بالاستثناء بين يدي الله سبحانه.

نظرة الجاهلية إلى الكذب

نظرة الجاهلية إلى الكذب بل من المعلوم أن أصحاب المروءات لا يرون الكذب من شيم الرجال، بل نجد ذلك -أيضاً- حتى عند أهل الجاهلية الذين كانوا على عبادة الأوثان، وخير شاهد على ذلك قصة أبي سفيان حينما كان بين يدي هرقل. الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أرسل بكتب إلى الملوك، وممن أرسل إليهم قيصر الروم، فلما جاءه الخطاب وقرأه وفيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] إلى آخره، فقال لوزرائه: إذا جاء وفد من العرب فأخبروني، مع أنه كان عالماً بالنجوم، وقد رأى نجم نبي الختان قد ظهر، فقال: أي الأمم تختتن، قالوا: العرب، قال: إذا جاء وفد من العرب فأخبروني، فلما جاء وفد أبي سفيان وجماعة معه، قال: أنتم من العرب؟ قالوا: بلى. جئتم من الحجاز؟ قالوا: بلى أظهر فيكم من يقول إنه نبي؟ قالوا: بلى. قال: من أقرب الناس إليه نسباً فيكم؟ قالوا: أبو سفيان. قال: ادن، واجلسوا أنتم من ورائه، إني سائله أسئلة، فإن صدق فصدقوه وإن كذب فكذبوه. فقال: إني سائلك عن هذا الذي ظهر عندكم، أكان أبوه ملكاً؟ قال: لا، قال: أكان في قومه من يدعي النبوة؟ قال: لا. قال: أجربتم عليه كذباً؟ قال: لا. قال: أقاتلتموه؟ قال: بلى. قال: كيف كان القتال بينكم؟ قال: سجالاً؛ تارة لنا وتارة علينا. قال: أخبرني عمن يدخل في هذا الدين، أيخرج منه أحد بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: أيكذب عليكم؟ قال: لا. ثم قال: سألتك: أكان في آبائه ملك فقلت لا، فلو كان أبوه ملكاً لقلت يطلب ملك أبيه الضائع. ثم سألتك: أكان في قومه من يدعي النبوة فقلتَ لا، ولو كان فيهم لقلت: يدعي ما ادعاه غيره. وسألتك: أحاربتموه، قلت: بلى والحرب سجال، وهكذا شأن الأنبياء مع الأمم. وسألتك: أيخرج أحد ممن دخل في دينه بعد أن دخل فيه فقلتَ لا، وهكذا بشاشة الإيمان إذا خالطت القلوب. وسألتك: أيغدر، قلت لا. وسألتك: أيكذب، قلت: لا يكذب. فإذا كان لا يكذب على الناس فلن يكذب على الله. ثم قال أبو سفيان: ألا أخبرك بما تعلم أنه يكذب؟ قال: وما هي؟ قال: ويزعم لنا أنه أتى مسجدكم هذا، ورجع إلينا في ليلة واحدة، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً في المجيء وشهراً في العودة. هذه التي وجدها أبو سفيان. ثم قال أبو سفيان بعد أن خرج من قصر الملك: والله ما منعني الكذب عليه بين يدي هرقل إلا أن يؤخذ عني الكذب. حينما قال: ألا أخبرك بما تعلم أنه كذَب، وقال: لقد أخبرنا أنه أتى إلى مسجدكم هذا وصلى فيه ورجع من ليلته، هذه أكبر دليل عند أبي سفيان على الكذب، وكان دهقان من دهاقنة بيت المسجد على رأس الملك، قال: نعم وقد علمت تلك الليلة، قال: وما علمك بهذه الليلة. أبو سفيان يأتي بالقصة من أجل أن يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب، والله يأتي بالدهقان ليصدق على ما قال أبو سفيان بأنه جاء وصلى ورجع في ليلة. فقال له الملك: وما علمك بذلك؟ قال: كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، وفي تلك الليلة غلقت الأبواب إلا باباً واحداً، فعالجته، فدعوت الخدم واجتمعنا عليه فلم نستطع فدعوت النجاجرة، -هكذا يقول ابن كثير في القصة- فدعوت النجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إن الجدار أو السجاف قد نزل على الباب، والليل مظلم ولا نستطيع أن نفعل شيئاً، فدعه إلى الصباح لنرى من أين أُتِي ونصلحه، فتركته على ما هو عليه، ومن الغد في الصباح بادرت إلى الباب فإذا به كالعادة يقفل ويفتح، ونظرت إلى صخرة عند الباب فإذا بها مخروقة وبها أثر دابة، فعلمت أن هذا لا يكون إلا لنبي! والذي يهمنا أن أبا سفيان وهو لا زال على الشرك عدواً للإسلام، يقول: ما كذبت -يعني أحب ما يكون إليه أن يكذب رسول الله عند هرقل يقول: ما منعني أن أكذب على رسول الله إلا خشية أن تؤخذ علي كذبة، فلا يصدقني في خبر بعد ذلك. فكيف به بعد إسلامه، وهكذا يُسأل صلى الله عليه وسلم: أيسرق المسلم؟ فيقول: نعم أيفعل أيفعل حتى إذا سئل: أيكذب؟ فقال: لا. سبحان الله، والحديث الآخر: (وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) .

بشاعة تصوير الكتاب والسنة للغيبة

بشاعة تصوير الكتاب والسنة للغيبة وتأتي قضية الغيبة والنميمة، والآثار الكبيرة فيها، يقول تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:12] . يشبه القرآن الكريم المغتاب بشخص ذهب إلى المقبرة ونبش القبر وأخرج الميت وانهال عليه يأكل من لحمه، وهذه صورة فظيعة، ويا لفظاعتها! وصورة قريبة من تلك الصورة حكاها النبي صلى الله عليه وسلم عندما (كان يمشي مع جماعة من الصحابة، فتكلم شخص بكلمة عن شخص غائب، ثم مر صلى الله عليه وسلم بجيفة حمار شائل، فقال: أين المتكلم بكلمة كذا؟ قالوا: هذا هو، قال: انزل فكل من هذه الجيفة، قال: يغفر الله لي ولك، ومن يأكل من هذه؟ قال: للكلمة التي قلتها أشد جيفة من هذه) . انظر التشبيه العملي، نلاحظ أنه لما سمع عليه الصلاة والسلام كلام ذلك الرجل سكت عنه، لكن لما رأى تلك الجيفة تكلم تصديقاً لكتاب الله {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات:12] فجعله كمن يأكل من لحم أخيه ميتاً؛ لأن الأخوة تقتضي الحفاظ عليه، والأخوة تمنع من أن تعضه بالفم وهو حي، أو أن تناله بأبسط مكروه، فكيف بأكله ميتاً؟ بل لو كان حياً وبينك وبينه عداوة وقد مات، فلن يبقى للعداوة أثر بعد الموت. وأما النميمة -عياذاً بالله- فتوقع بين القوم فتناً، والفتنة أكبر من القتل، فقد تقع بين القبائل حروب تأتي على الأخضر واليابس بسببها، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) .

صور ونماذج من مزح الصحابة

صور ونماذج من مزح الصحابة وفي المزح قد يبحث الشخص عن كلمة سواء كانت حقاً أم باطلاً ليضحك القوم، أما لو كانت طرفة أدبية، أو نكتة لطيفة، أو كان فيها توجيه، فلا مانع منها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه ولا يقول إلا حقاً. والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أيضاً يمزحون، ومما يروى أن أعرابياً جاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأناخ راحلته عند باب المسجد، وجاء بعض الصحابة وقالوا: يا نعيمان!! نحن منذ فترة من الزمن ما أكلنا اللحم، قال: فماذا تريدون أن أفعل؟ قالوا: انحر لرجل ضيف عند رسول الله، وسيعطيه الرسول بدلاً عنها من إبل الصدقة، وتكاثروا عليه حتى نحرها، وتقاسموا لحمها، وخرج الرجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد ناقته، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فسأل النبي أصحابه عنها، فأخبروه بأن نعيمان ذبحها وفرق لحمها، فدعاه وقال له: ما الذي حملك على هذا؟ قال: الذين دلوك علي هم الذين حرضوني، فضحك صلى الله عليه وسلم وأعطى الأعرابي ثمن ناقته من عنده. لا نقول إن هذا من باب إجازة التسلط على أموال الناس، لا، فالصحابة لم يفعلوا ذلك إلا بمقصد حسن، وبحسن ظن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما إذا كان عن تعد، كما فعل غلمان عندما أخذوا ناقة لرجل من الأعراب، فذبحوها وأكلوها، فلما خرج، قال: من فعل هذا؟ قالوا غلمان حاطب، فلما سئلوا عن علة ذلك، قالوا: كنا جائعين، فغُرم سيدهم قيمة الناقة مثلين، وألزم بالنفقة التي تكفي لغلمانه فلا يجوعون فيعتدوا على أموال الناس. ففرق بين هذا الذي جاء عن تقصير، وذاك الذي عن حسن قصد أو عن رغبة فيما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ظاهر من زوجاته شهراً، وكان عمر في العالية وجاء زميله الذي كان يقاسمه الأيام، فقد عمر بن الخطاب وجاره لهما بستان في العالية، ولا يستطيعان أن ينزلا معاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع الأحاديث، ولا يستطيعان أن يجلسا معاً ويتركا المسجد، فتناوبا، فيجلس هذا في البستان وينزل هذا يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين يأتي في الليل يسمِّعه ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغداً ينزل الآخر، وهكذا يتناوبان. فيوم جلس عمر ونزل صاحبه، فلما عاد إليه قال: يا ويح عمر! قال: ماذا حصل، هل داهم الأعراب المدينة؟ قال: لا، ولكن طلق رسول الله زوجاته. فنزل عمر وبدأ بـ حفصة بنته، فقال لها: ما بالك طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لم يطلقني، فقال لها: فأين هو؟ قالت: هو في العلية. قال: فماذا حصل؟ قالت: نساؤه طلبنه النفقة. فطعنها عمر في خاصرتها، وقال لها: أغرك أن جارتك أوضأ منك وجهاً، وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قال: والله لأصعدن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأضحكنه. فلما صعد قال: السلام عليك يا رسول الله! فرد عليه السلام. فسأله: هل طلقت أزواجك يا رسول الله؟! قال: لا. ولكنهن يطلبنني النفقة. قال: والله يا رسول الله! لو رأيت بنت فلان -يعني: زوجة عمر - وهي تقول وتقول إلى أن ذكر أشياء ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما جئت هنا إلا من طلباتهن كذا وكذا. فـ عمر رضي الله تعالى عنه تعمد أن يأتي بالأخبار التي تضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أنه غضبان من زوجاته. وقد جاء عن عمر أنه لقي رجلاً فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! أريد أن أطلق زوجتي. قال: ولم، قال: لا أحبها، فزجره وقال: ثكلتك أمك، وهل كل البيوت تبنى على المحبة، أين الوفاء وأين المروءة وأين مكارم الأخلاق، وأين وأين حتى رجع الرجل. ومرة أخرى يأتي إنسان إلى بيت عمر، ثم يرجع من بابه، فيعرف خبره عمر، فيسأله عن سبب عودته من بابه، فيقول: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت أشتكي زوجتي إليك، وكثرة نزاعها معي، فلما وصلت إلى باب بيتك فإذا بي أسمع زوجك ترفع صوتها عليك، فقلت: إذا كان هذا أمير المؤمنين يصبر على زوجه، فلماذا لا أصبر أنا كذلك. فقال له عمر: وكيف لا أصبر عليها وهي أم ولدي، وفراشي، وحافظة مالي، وطاهية طعامي، ومنظفة ثيابي. فهذا هو عمر رضي الله عنه الذي جاء يقول إن زوجتي تقول وتقول، حتى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: الكلمة التي يقولها الإنسان لا يريد إلا أن يضحك القوم دونما غاية وراء ذلك، هذا هو العبث، أما إذا كان لإصلاح ذات البين أو لتفريج هم إنسان، كأن تجد إنساناً يخنقه الغضب، وتحتبس العبرة في عينه، ومع كلمات هادئة أو كلمات لطيفة، تسرِّي عنه كل الذي يعانيه، فتكون هذه أعظم صدقة منك عليه؛ فهذا لا بأس به. وأعظم ما يكون من ذلك: عندما يتكلم الإنسان في العلماء، ولا يلقي لذلك بالاً، بل قد يكون عن قصد وتدبير. وكم جاءت الأحاديث أن شر الناس رجل خبب زوجة على زوجها، أو عبداً على سيده، وما ذلك إلا باللسان أو بالكلام. ويذكرون أن عمر رضي الله تعالى عنه دخل على أبي بكر فإذا به ممسك طرف لسانه -جاذباً له- وهو يقول: تب إلى الله أوردتني المهالك! قال: مه يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لولاه استرحت. فإذا كان الصديق رضي الله تعالى عنه يحاسب لسانه عملياً كما يقولون، فكيف يكون بالآخرين؟ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال:- على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ، جعل صلى الله عليه وسلم فيه أعمال اللسان زرعاً، والزرع لا بد له من حصاد، فمن يزرع الشوك لا يحصد إلا الشوك، وعلى هذا يكون التشبيه من حيث العمل ومن حيث النتيجة، وكما ذكر صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج مما رآه عند قوم يحرثون ويبذرون فيطلع ويحصدون في يومهم ثم يعود النبات مرة أخرى، وكلما حصدوا طلع النبات، وذكر أن هذا هو الجهاد في سبيل الله، وأنه ثمرة أو حصاد زرعهم. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا وإياكم زلات اللسان، وما الغمز ولا اللمز ولا الهمز ولا الاستهزاء ولا السخرية ولا الكذب ولا الغيبة ولا النميمة ولا الفتنة إلا من حصائد اللسان. وبعض العلماء يقول: واعجبا! اللسان محبوس وراء أربعة جدران، ومع هذا ينفذ منها، أنت تطبق عليه الفكان بأسنانهما، والشفتان بطرفيهما، ومع ذلك يفلت منهما ويأتي بالكلمات التي لا تليق. ويقولون: كل سهام يمكن تداركها إلا سهم اللسان، فإذا نفذت الكلمة من الشفتين لم تستطع أن تستردها. نسأل الله تعالى أن يقينا وإياكم شر ألسنتنا، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه. وخير ما نختم به هذا الموضوع قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، يا لسان! قل خيراً فتغنم أو اصمت فتسلم لأنك بين أحد أمرين إن كنت متكلماً فلا تتلكم إلا لتغنم، وإلا فاصمت لتسلم والله تعالى أعلم.

الحديث الثلاثون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [1]

شرح حديث: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها)

شرح حديث: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: [عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره] . هذا الحديث يعتبره علماء الحديث من أجمع الأحاديث لأحكام الشريعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم أحكام الشريعة كلها إلى: · فرائض. · وحدود. · ونواهٍ. · ومباحات. ولا يوجد حكم في الشرع إلا وهو داخل تحت قسم من هذه الأقسام، ولذا يقولون: هو أجمع حديث لأحكام الشريعة الإسلامية.

تعريف الفرض لغة

تعريف الفرض لغة قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض) : الفرض في اللغة: القطع، ولو جئت إلى فقه اللغة لوجدت التقارب بين القرض بالقاف، والفرض بالفاء، فالفرض: القطع، والقرض تقول: قرض الفأر الثوب بمعنى: أكله وقطعه، وقرض الحبل الحجر: إذا حزَّ فيه من طول اللُبث أو طول الحركة، ومنه: الفرائض (المواريث) فلكل شخص حصة من التركة مقطوعة من رأس المال، وهكذا قالوا: الفرض هو الحد والقطع والتحديد. ويقول الفقهاء فيما اصطلحوا عليه في أصول الفقه: الفرض والواجب مترادفان إلا في الحج. والواجب لغة الثابت، فكل ما فرضه الله فهو ثابت، فبينهما ارتباط، ولذا قالوا: هما مترادفان، ومن استدلالهم على أن الواجب: الثابت قول الشاعر: أطاعت بنو بكر أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب واجب، بمعنى: ساقط وثابت. وقال في الآية الكريمة عن البُدن: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] ؛ لأن الإبل والبدن تنحر قائمة، فإذا نحرت سقطت على جنبها، وثبتت في مكانها فلا تبرحه.

تعريف الفرض عند الفقهاء

تعريف الفرض عند الفقهاء يقول الفقهاء: الفرض والواجب مترادفان في جميع العبادات إلا في الحج؛ لأن الفرض والواجب سواء، فهما ركنان في العبادة ولا تصح إلا بهما. والحج فيه الفرض والواجب والركن والواجب. والركن: جزء الماهية، وليس شرطاً في صحتها؛ ولكن جزء منها. وفرق بين الركن والشرط، والصلاة فيها ركوع وسجود وقراءة، وهذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة وباستقبال القبلة؛ ولكن الطهارة عمل خارج عن عملية الصلاة، تتطهر في بيتك وتصلي في المسجد، وكذلك استقبال القبلة؛ فاستقبال الجهة خارج عن ماهية الصلاة، ثم تكبير وقراءة وركوع وسجود وسلام. فالركن جزء الماهية، فيقولون: الركن والفرض والواجب كله سواء إلا في الحج، فالركن في الحج: ما لا يتم الحج إلا به، وإذا فات فلا حج، والواجب في الحج يُجبر بدم. ومثلوا لهذا بالوقوف بعرفة فهو ركن في الحج، وكذا الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة واجب، ورمي الجمار واجب لو تركه يُجبر بدم، والحج صحيح، وطواف الوداع يُجبر بدم والحج صحيح؛ لأنه واجب، خلافاً لـ مالك. إذاً: الحج فيه أعمال يفوت إن تركت، سواء كانت خطأً أو نسياناً أو عمداً، من فاته الوقوف بعرفات فلا حج له؛ لحديث: (الحج عرفة) ، ويبقى بإحرامه، ويأتي الكعبة ويطوف ويتحلل بعمرة، وعليه الحج من عامٍ قابل، وإذا أخر طواف الإفاضة لم يتم حجه إلى أن يطوف بالبيت؛ لذا قالوا: الفرض والواجب في جميع العبادات سواء ما عدا الحج.

الفرض والواجب عند أبي حنيفة

الفرض والواجب عند أبي حنيفة عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله اصطلاح في الفرض والواجب، فالفرض: ما ثبت بدليل قطعي من كتاب الله، والواجب: ما ثبت بطريق الآحاد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: عنده زكاة المال: فرض، بينما زكاة الفطر واجب؛ لأن زكاة المال جاءت بكتاب الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، و {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55] ، والمقصود هنا زكاة المال، سواءً كانت من الحبوب والثمار أو من الذهب والفضة أو عروض التجارة أو بهيمة الأنعام؛ لكن صدقة الفطر إنما جاءت بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك الصلوات الخمس فروض، أما الوتر فهو عنده واجب؛ لأنه ثبت بسنة الآحاد، والجمهور يقولون: الوتر سنة؛ لكن لما كثرت فيه الأحاديث ارتقى عند أبي حنيفة إلى الوجوب، لكن ليس كالفرض، وهو يعادل السنة المؤكدة عند الجمهور. قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى فرض فرائض) ، الجمهور على أن هذه الفروض هي: أركان الإسلام، وما أوجب الله العمل به، فلا شك أن الصلاة واجبة، والطهارة لها واجبة، إذ هي فرض لا تصح الصلاة إلا بها، والزكاة واجبة في جميع أصناف الأموال الزكوية، والصوم واجب، والحج والجهاد واجب بشروط، وهكذا كل ما أمر الله أن يُفعل، ورتب على تركه عقوبة، فهو فرض أو واجب، وكلاهما بمعنى واحد عند الجمهور.

معنى قوله: (فلا تضيعوها)

معنى قوله: (فلا تضيعوها) قال عليه الصلاة والسلام: (فلا تضيعوها) كأنه يقول: لا تضيعوا الصلاة؛ ولكن بم تضيَّع؟ بأحد أمرين: · إما بتركها حتى يخرج الوقت، وهذا تضييع لها. · وإما بإتيانه إياها بغير خشوع ولا خضوع ولا تأمل فيها ولا ولا إلى آخره، كما جاء في الحديث: (إن العبد إذا صلى الصلاة بخشوع وخضوع وتلاوة صعدت إلى السماء، ولها رائحة زكية، كلما مرت بسماء قالت ملائكتها: ما هذا؟ قالوا: صلاة فلان، فأخذت تصلي عليه وتدعو له إلى أن تصل إلى عرش الرحمن، وإذا صلى الصلاة وضيعها؛ تأتي فتطرق السماء فلا تُفتح لها أبواب السماء، وتُلف كما يُلف الثوب الخَلِق، ويرمى بها إلى وجهه، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني) ، والتضييع: التفويت، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه حينما حمل رجلاً على فرس له في سبيل الله، ونعلم أن عمر لن يقتني فرساً إلا فرساً يتجاوب مع شجاعة عمر ومع قتاله، فلما حمل على هذا الفرس الجيد الأصيل الرحل الذي حمله عليه، وأخذه هبةً من عمر لم يستطع أن يؤدي واجب هذا الفرس؛ لأن الفرس قد يكلف أكثر من الولد: في طعامه ونظافته وترويضه وأداء واجبه إلى آخره، قال عمر: (فرأيت الذي أخذه قد ضيعه) ، بأي شيء؟ بعدم أداء واجبه، وإهمال حقه. إذاً: الإهمال تضييع، والصلاة تضيَّع إما بتركها حتى يخرج وقتها، أو بأدائها في آخر الوقت كما جاء في بعض الروايات: (ينظر إلى الشمس حتى إذا ما اصفرَّت قام ونقرها نقر الغراب) ، وإما أن يصليها فرادى في أول وقتها، ويترك الجماعة وهو يستطيع أن يحضرها، أو يصلي جماعة وقلبه مشغول، ولذا قال في الآية الكريمة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] ، يقول بعض السلف: الحمد لله الذي قال: {عَنْ صَلاتِهِمْ} ولم يقل: في صلاتهم؛ لأنه قلَّ أن يسلم مسلم من أن يسهو في صلاته بنوع ما؛ ولذا شرع الله سجود السهو تداركاً لما عسى أن يقع من نقص، والإنسان لا يسلم وليس معصوماً من السهو، ولكن فرق بين أن يدخل في الصلاة ويكبر، ثم يذهب يحسب حساب البيع والشراء، ومكسب وربح، ورواح ومجيء، إلى آخره!

وجوب حفظ الفرائض وعدم تضييعها

وجوب حفظ الفرائض وعدم تضييعها الفرائض يجب أن تحفظ، جاء في الحديث: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن حفظها وحافظ عليها ... ) ، (حفظها) : أي: بواجباتها، و (حافظ عليها) أي: أداها في وقتها. وجاء في الحديث: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الصلاة في أول وقتها) . وجاء سائل آخر فقال له: (. إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله) . وجاء ثالث فقال له: (إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) . وقد أشرنا سابقاً بأن المفتي يجب عليه أن ينظر إلى شخصية المستفتي، وما الذي يصلح له؟ وهل كانت هذه الأسئلة في أوقات مختلفة؟ فحينما كانوا في حالة جهاد قال: (جهاد في سبيل الله) ، وحينما لم يكن هناك جهاد بل سلم قال: (الصلاة في أول وقتها) ، ولم يكن لهؤلاء أحد من الأبوين، وعندما جاء السائل وله أبوان، وعلم أنه مقصر في حقهما قال: (بر الوالدين) ، فأعطى كل سائل ما يناسبه. مثلما يأتيك إنسان ويسأل: أي العمل أفضل؟ فتتأمل فيه وتقول له: الجندية؛ لأنك تجد فيه نشاطاً وطموحاً، وهناك إنسان تجد فيه الهدوء فتقول له: البيع والشراء خير لك، وتجد إنساناً آخر فتقول له: العمل في الدائرة الفلانية يناسبك. وكثير من الجامعات لها برامج، ولها اختيار لبعض الأشخاص، وقد كان الشيخ محمد بن إبراهيم -يغفر الله له- يصنف الفوج الذي سيتخرج من كلية الشريعة أو كلية اللغة قبل أن يتخرجوا؛ على أساس ما يرى فيه من ملامح، وما يصلح له إما لتدريس أو لقضاء أو لتفتيش أو لعمل إداري. ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الأفضلية حديث: (أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله) ثم جعل قرين الإيمان بالله الصلاة على أول وقتها، بل إن الله سمى الصلاة إيماناً، فلما تحولت القبلة وأسف بعض الناس عمن مات ولم يصلِّ إلى الكعبة، وقالوا: ما يكون حال هؤلاء؟ أنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، الإيمان موجود؛ لكن سمى الصلاة إيماناً. حديث -: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة) ، فإذا ضيع العمود أو كان هزيلاً لا يحمل البيت، وإن ضيعته ولو كان قوياً ما بنيت بيتاً، وإن جئت بعود هزيل كان لا قيمة له، وجاء في الحديث: (كم من مصلِّ ليس له من صلاته إلا التعب، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) . وروي حديث أن امرأتين استأذنتا في الحر أن تفطِرا في غير رمضان، فقال: (تعالَيا، ويأتي بقدح للأولى، فإذا بها تقيء دماً ولحماً عبيطاً إلى نصف القدح، ثم الثانية تكمله، فقال: تصومان عن الحلال والحرام وتفطران على لحوم الناس؟!) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) .

علاج الوساوس في الصلاة

علاج الوساوس في الصلاة حظ الإنسان من صلاته ما عقل، وكثير من الناس يشتكي مما يعتريه من الوسوسة في الصلاة وشرود الذهن، فما علاجه؟ نحن وأنتم سواء، هذه أمور تغلب على الإنسان؛ ولكن كما ذكر العلماء: أكبر ما يعينك على نفسك في صلاتك: أن تتمعن وتستحضر معاني ما تقرأ، وتُسمع نفسك، لا أن تمرر القراءة على ذهنك كالتذكار أو كأحلام اليقظة، وتجهر بالقراءة بقدر ما تسمع نفسك فقط، لكي تشغل ذهنك بما تسمع. قالوا: اتخاذ السترة في الصلاة من أسبابه، فتحجز النظر من أن يطيش أمامك، فإذا كنت قائماً فنظرك في حدود السترة، إذا ركعت كان نظرك في منتصف المسافة ما بين السترة وأطراف أصابع القدمين، فإذا سجدت كان نظرك في أرنبة أنفك من الجانبين، فإذا جلست للتشهد كان نظرك في حدود السترة، وهكذا حاسة النظر تكون محصورة. أما من حيث حركات الصلاة والهيئات فإنك إذا بدأت بـ (الله أكبر) ورفعت يديك كأنك تركت كل شاغل دنيوي وراء ظهرك، واستدرت بقلبك ووجهك إلى القبلة، ثم قرأت واستمعت، فإذا انتهيت من ركن القراءة وتريد أن تنتقل إلى ركن الركوع ينبِّه الفقهاء بأن التكبيرة التي تأتي عند الانتقال لا تأتِ بها قطعاً إنما ائت بها مداً لتشغل فراغ انتقالك، فأنت قائم لا تقل: الله أكبر وتركع، لا. بل قل: الله أكبر تبدأ في لفظ الجلالة وتنتهي بالتكبير عند استوائك راكعاً، فتكون في حركة الانحاء إلى الركوع مشتغلاً بلفظة (الله أكبر) ، فإذا استقر الظهر راكعاً اشتغلت بالتسبيح ثلاثاً، فإذا أردت الرفع من الركوع قلتَ: سمع الله لمن حمده، وتستغرق حركة الاعتدال في هذا الذكر، فلا يبقى حينها وقت للوسوسة، وهكذا إذا هويت إلى السجود شغلت حركة الهُوِيِّ بقولك: الله أكبر. أهم الفروض التي افترضها الله على المسلم خمس صلوات في اليوم والليلة، قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تضيعوها) ، بأي شيء؟ · إما بتأخيرها عن وقتها. · وإما بالتشاغل عن أدائها وعدم إعطائها حقها. ولكي يساعد الإنسان نفسه بنفسه انظروا إلى سماحة الشرع وإلى التنبيهات اللطيفة: فعندما تكون في مزرعتك، في مصنعك أو مكتبك أو أي عمل كان، فبغتةً تسمع المنادي: الله أكبر، ومهما كنت في أي عمل ستُصغي إلى قوله: (الله أكبر) ، وقد قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن -فلا تتركوه وتهملوه وتصكوا آذاناكم- فقولوا مثل ما يقول) ، فإذا كان هو ينادي الناس من أجل حضور الصلاة، فلماذا نحن نردد خلفه؟! من أجل أن نتفاعل، فهو في الأعلى فوق المنارة وبأعلى صوته، والآن وضعوا مايكروفونات، حتى يبلغ أبعد ما يكون. وحينما تقول مثل ما يقول المؤذن تكون في شبه فترة انتقال، انتقال من عملك وأنت مفرغ جهدك كله، وشعورك وإحساسك كله، مستغرق فيما كنت فيه، فإذا بدأت تقول وأنت في عملك: (الله أكبر، الله أكبر) ، انشغل الذهن بتكبير الله، وتجاوب القلب مع المنادي، فلما يصل إلى (حي على الصلاة) تقول: نعم، الآن يجب أن أترك العمل، و (حي على الفلاح) تقول: إي والله! الصلاة هي الفلاح، وليس في العمل، و (الله أكبر، الله أكبر) تقول: نعم، الله أكبر من كل عمل، و (لا إله إلا الله) تقول: هي التي من أجلها خلقنا، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . فيدُك تترك ما فيها، إن كنت كاتباً تركت القلم، وإن كنت مزارعاً تركت آلة الزراعة، وإن كنت صانعاً تركت آلة الصناعة، وأجبت المنادي، فذهبت تتوضأ، واستعملت الماء، لأي شيء؟ هل أنت حرَّان تريد أن تتبرد؟ هل أنت متسخ تريد أن تتنظّف؟! لا، إنما تجيب (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) وأنت على أحسن حالة، فهي نظافة في الظاهر، وتنبيه للنظافة في الداخل، وأنت في تلك اللحظات سمعت النداء واستجبت إليه وجمعت شعورك وتوضأت وخطوت خطاك إلى المسجد. جاء في الحديث: (إذا توضأ الإنسان فغسل يديه، تناثرت ذنوب كفيه مع آخر قطر الماء، وإذا تمضمض تناثرت ذنوب فيه، وإذا غسل وجهه تناثرت ذنوبه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل قدميه تناثرت ذنوب القدمين، وكان له بممشاه إلى الصلاة بكل خطوة حسنة، ويُمحى عنه بكل خطوة سيئة أو خطيئة، ويرفع له بها درجة، وكانت صلاته له نافلةً) يعني: صلاتك زيادة خير لك عن هذه الحسنات. فاستحضر من أول لحظة أن قوله: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) إنما هو عملية تحضير للذهن وللقلب، وجمع للشعور، فإذا جئت ووقفت في الصف وقلت: (الله أكبر) ، فحينها فعلاً دخلت على ربك، يقول الحسن رضي الله تعالى عنه: (إذا أردت أن تدخل على الله بلا استئذان وتكلمه بلا ترجمان؛ فأسبغ الوضوء، ثم ائت المسجد واستقبل القبلة وكبر للصلاة) . مَن استأذنت وأنت داخل من الباب؟ ما استأذنتَ أحداً، فالباب مفتوح، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] ، ثم تدعو بأي لغة كانت، ونحن نرى هذا خاصةً في الحرمين، جميع الألسنة واللغات تقف في صف واحد، وكل يسأل ربه بلغته دون أن يحتاج إلى ترجمان بينه وبين الله، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] . من ناحية أخرى: انظروا إلى النوافل، فقبل كل فريضة سنة، ربما وفقك الله واستيقظت من النوم مبكراً قليلاً، وسمعت الأذان وأجبت وتوضأت وجئت وفيك نوع من الكسل، فصليت سنة الصبح، ثم أقيمت الصلاة وصليت الفجر. فحينما أتيت على تلك التهيئة أو التعبئة التي عبأتك إياها كلمات الأذان، ثم جئت وصليت ركعتين كمقدمة أو تهيئة؛ فكأنك قمت بين يدي الله بركعتين زيادة في التهيئة، وليسمح لي الجماعة الرياضيون الذين يقولون: قبل أن يدخل الرياضي الملعب يسخن؛ لأن أعضاءه وعضلاته جامدة، فيأتي ببعض الحركات الآلية العضلية حتى لا يصاب بشد عضلي، ثم يدخل إلى الميدان أو الملعب وهو متهيئ. فنقول: المسلم يؤدي النافلة قبل الفريضة تهيئةً لقيامه بين يدي الله وهو في أكمل ما يكون استحضاراً، وهذه زيادة تحضير، وسمِّها ما شئت؛ لأنها تعطيك زيادة تنبُّه ويقظة ورغبة فيما عند الله. فإذا دخلت في الفريضة عفوياً ربما تحتاج إلى شيء من التحضير؛ لكن إذا صليت السنة كان التهيؤ أكمل، وكل فريضة -كما أشرنا- قبلها نافلة، فهذا الفجر له ركعتان قبلية، وتلك الظهر لها ركعتان أو أربع قبلية، وتلك العصر قبلها أربع، والمغرب كانوا يصلون قبلها ركعتين، يقول الراوي: (حتى إن الغريب إذا دخل المسجد رأى الناس قد بادروا إلى السواري فيظن أن الناس قد صلوا المغرب) ، وجاء في الحديث: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، وقال في الثالثة: لمن شاء) ؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة لازمة، وقال: (بين كل أذانين صلاة) ، والمغرب كغيره له أذانان، وهما: الأذان والإقامة. وهكذا قبل صلاة العشاء نافلة، وبعدها نافلة.

حرص الشيطان على إفساد صلاة المسلم

حرص الشيطان على إفساد صلاة المسلم أن تلك التقدمات من الأذان والوضوء وتجاوبك مع المؤذن في كلمات الأذان تهيئة للدخول في الصلاة؛ ثم يأتيك الشيطان، ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا لشيء قد نسيته، وأظنكم تعلمون قصة الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقد كان جالساً في المسجد فإذا برجل يقول: يا إمام! لقد دفنت مالاً لي ونسيته، فكيف أحصل عليه؟ قال: إذا انتصف الليل فقم وتوضأ وأسبغ الوضوء وصلِّ ركعتين لله ولا تحدِّثَنْ نفسك فيها بشيء، فإذا فرغت من الصلاة فستعرف أين المال؟ فمن الغد جاء وقال: جزاك الله خيراً! لقد وجدت المال. فقال أصحاب أبي حنيفة: ما علاقة صلاته في الليل بالمال الذي كان قد دفنه؟! {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف:63] فالشيطان هو الذي أنساه، فإذا جاء ليصلي تلك الصلاة بخشوع وخضوع وعدم محادثة نفسه فيها بشيء خالصةً لوجه الله، فهذه تحرق الشيطان، ولا يستطيع أن يصبر عليها، فيشغله فيها بأن يذكره موضع المال. وقالوا للرجل: كيف عرفت مكان المال؟ قال: فعلتُ كما قال لي الإمام، وحرصت ألَّا أحدث نفسي فيها بشيء، فإذا بي حينما جلست للتشهد أسمع من يقول لي: المال كان في المحل الفلاني، فعجَّلت بالتشهد، وذهبت إلى المال فوجدته. ونقول: ستجيئكم صلاة العشاء، وحينما تسمعون المقيم يقول: قد قامت الصلاة، فانظر في ساعتك، وحينما يقول: السلام عليكم ورحمة الله، انظر في الساعة، فالأربع ركعات كم أخذت؟ ست أو خمس دقائق، ولا يمكن أن تصل إلى عشر أبداً، اجعلها تصل إلى ثمان دقائق بحيث تأخذ كل ركعة دقيقتان ثمان دقائق ولا يقدر الإنسان أن يضبط نفسه فيها!! لكن الشيطان عدو مبين، ومهما يكن من شيء فلا ينبغي للإنسان أن يسترسل معه، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ، فيرجع حالاً، فربما يأخذك الشيطان ويذهب بك إلى مكة، ويضحك عليك، ويقول لك: ستذهب إلى عمرة وتطوف وتسعى، ثم لا تشعر بنفسك إلا وأنت على الصفا، لكن إذا انتبهت وأنت في رابغ فارجع، ولا تذهب معه إلى مكة. وقد يأتي للتاجر: البضاعة وصلت إلى المحل الفلاني، والباخرة في المحل الفلاني، وفيها كذا، وفيها الآن كذا وكذا. فيحاول أن يذهب بك حتى تشتغل به وتتجاوب معه. وطالب العلم قد تأتيه المسألة التي كانت شاغلة لباله: تجدها في محل كذا، اطلبها في كتاب كذا كل إنسان يأتيه من الباب الذي يستجيب إليه. وليس هناك إنسان يستطيع أن يمتنع نهائياً من الوسوسة، وليس معصوماً من ذلك؛ لأن الشيطان يجند كل قواه عند الصلاة، وكما يقول بعض العلماء: هل السارق يدخل بيتاً خرباً؟ لا، لكن يختبئ فيه فقط؛ لكن ليسرق منه فلا. لكن أين يذهب السارق ليسرق؟ إلى البنوك أو الخزائن الكبيرة أو البيوت العامرة، والمؤمن حينما يكون بين يدي الله فإن الخزينة ملأى، فهو يريده في تلك اللحظة. إذاً: (فرض فروضاً فلا تضيعوها) ، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً للحفاظ على فروضه سبحانه وتعالى.

فروض ضيعها العباد

فروض ضيعها العباد

تضييع الصلاة

تضييع الصلاة باب الصلاة -يا إخواني- كبير، ولذا يقولون: من الحفاظ على الصلاة: المحافظة على النوافل الراتبة، حتى قال بعض العلماء: من تعمد ترك النوافل تسقط شهادته. وإذا كان كذلك؛ فما القول في الرجل الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص) ، ويقسم صلى الله عليه وسلم على فلاحه إن صدق، قالوا: ذلك رجل أخذ نفسه بحد السيف، وبالعزم القاطع، فهو لا له ولا عليه، وحافظ على فروضه؛ ولذا جاء في الحديث: (أفضل ما تقرب إلي عبدي بما افترضته عليه، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل -فنوافل العبادات هي مرتقى الصالحين في وصولهم إلى الغاية القصوى- حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها) . فهذا بالنوافل، أما الفرائض فهي الحد الأدنى؛ لأنك إذا التزمت بالفرائض فقط فوقع تقصير فسيقع في الفرائض؛ لكن إذا التزمت النوافل مع الفرائض فوقع تقصير فسيقع في النوافل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن لكل ملك حمى، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ؛ لكن إذا جعل بينه وبين الحمى قدر ميل، فعندما تشذ منه غنمة هل تنزل في الحمى أم في المسافة التي بينها وبين الحمى؟ في المنطقة المحايدة -كما يقولون-، لكن إذا اقترب بغنمه على حدود الحمى فلو أن شاة شذت عنه متراً واحداً فستدخل في الحمى، أرأيت لو كان هذا الحمى ناراً مؤججة هل ستدنو منه؟ أرأيت لو كان بحيرة أو بئراً عميقاً هل ستدنو منه؟ ستبتعد مخافة أن تسقط فيه. وهكذا النوافل هي حمى وحفاظ لتلك الفرائض كما جاء في الحديث: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ -أي: حينما يُنظر في صلاته- فتقول الملائكة: نعم -يا رب- له نوافل، فيقول: اجبروا فريضته من نافلته) ، يعني: احتياطاً، يقول ابن عباس: وهكذا بقية العبادات.

تضييع الصوم

تضييع الصوم نأتي إلى الصوم، كيف يضيع الصوم؟ · إما بالتساهل في أمره، وعدم الصبر على الجوع والعطش -عياذاً بالله- ويفطر. · وإما أن يمسك شكلياً عما أحل الله، ويفطر على المحرمات، وتقدم لنا: (والصوم جنة -أي: يحفظه ويقيه- ما لم يخرقها، قالوا: بم يخرقها يا رسول الله؟! قال: بكذب أو بسباب أو بغيبة أو نميمة) وما هي قيمة هذه الجنة المخرَّقة؟ ما تحمي بشيء، السيارة المصفحة إذا كان فيها خرق بقدر خمسة سنتيمترات فستنفُذ منها الرصاصة؛ لكن كما قال جابر رضي الله تعالى عنه: (لا يصوم العبد حقاً حتى تصوم جوارحه) ، والحديث أعم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) . إذاً: تضييع الصيام: إما بتركه بالكلية، وإما بإهمال مراعاة حقوقه. وكذلك للصوم نوافل، فقد جعل الله سبحانه وتعالى لرمضان ستاً من شوال، وجعل في أول السنة وفي آخرها عشراً من ذي الحجة ويوم عاشوراء، ويوم عرفة، والاثنين، والخميس، ومن كل شهر ثلاثة أيام، كما في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة وأبي ذر كلاهما قال: (أوصاني خليلي بثلاث: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وألَّا أنام حتى أوتر، وركعتي الضحى) . وصوم ثلاثة أيام -كما يقول مالك - ليس فيه تحديد، إن شاء جعلها في هذا الشهر من أوله، والشهر الثاني من آخره حتى لا يهجر الأيام كلها عن الصوم، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم ترتيب ذلك فقال: (لا تختصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام) إن كان يقوم فيقوم ليالي الأسبوع كلها، ولا يفرد ليلة الجمعة بالقيام خاصة، وإن كان يصوم فيصوم من الأيام ما شاء، ولا يفرد يوم الجمعة بصوم، وجاء في الحديث: (من صام يوم الجمعة فليصم يوماً قبله أو يوماً بعده) ، حتى لا يُفرد هذا اليوم بصيام، وجميع الأيام صالحة لصوم التطوع ما عدا يومي العيدين ويوم الشك، وفي صوم ثلاثة أيام منى لغير من لم يجد الهدي خلاف. إذاً: الصوم مما فرض الله سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ؛ فلا تضيعوه. ومن عجيب ما يذكر! أن عثمان رضي الله تعالى عنه مر على شاب في رمضان وهو سكران، فقال: ويحك! أطفالنا صيام وأنت مفطر!. وبعض قضاة المدينة مر على شاب وهو مفطر في رمضان فأخذه وجلده، فقال: ألا تستحِي! الأطفال في البيوت صائمون، وأنت في رمضان مفطر! فتكلم عليه، فقال: تكون هذه الأولى والأخيرة، ولم يُرَ بعد ذلك مفطراً! والصحابة رضي الله تعالى عنهم ائتمروا بما في حديث: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) ، وكذلك كانوا يفعلون في الصوم، فقد كانوا يروضون الأطفال على الصوم والجوع، فإذا بكى الطفل أعطوه اللعب يتلهى بها، فطفلٌ يُجَوَّع ساعةً أو ساعتين، وطفل يُجَوَّع أربع أو خمس ساعات، وطفل يُجَوَّع نصف النهار، وهكذا كان أمهاتنا يصنعن بالأطفال الصغار، فحينما يبكي يقلن له: فيما بعد، فيما بعد، أجيء لك بالطعام، وأصلحه لك، إلى أن تمر بعض الساعات وهو يشعر بشيء من الجوع، فكانوا يعودون الأطفال على الصيام كما يعودونهم على الصلاة.

تضييع الزكاة وخطره

تضييع الزكاة وخطره أما الزكاة فمجالها واسع، وتضييعها يكون بما يلي: إما أن يتركها بالكلية. وإما أن يتغاضى عن بعض ماله، فلا يخرج الزكاة عن بعضه. وإما أن يدقق في الحساب، وإذا أراد أن يعطي النصاب المفروض فتَّش، هل يخرج هذه؟ لا، هل يخرج هذه؟ لا، هذه كذا، وينظر في الأصلح له، فهذا تضييع، بخلاف المؤمن الذي يتعامل بصدقته مع الله. ولعلكم تذكرون قصة الصحابي مع عامل الزكاة الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملاً إلى جهة الحنكية والنخيل وهذه النواحي الشرقية، فمر على صاحب إبل عند الماء، فكانت الإبل خمساً وعشرين، فقال: عليك بنت مخاض؛ لأن زكاة الإبل كل خمس فيها شاة إلى عشرين، فخمس وعشرون فيها بنت مخاض، وست وثلاثون فيها بنت لبون، إلى آخره، وبنت المخاض التي ولدت العام الماضي وأمها حامل هذه السنة، فهي بنت سنة وبدأت في الثانية، فقال له: زكاة إبلي بنت مخاض؟! قال: نعم، قال: ليست ظهراً فيُركب، ولا ضرعاً فيُحلب، لكن هذه ناقة كوماء خذها في سبيل الله، فقال العامل: لا أستطيع أن آخذها، فما فرض الله عليك إلا هذه الصغيرة، يعني: وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) ، والمفروض عليك في إبلك بنت المخاض الصغيرة هذه، (فاختصم العامل مع صاحب المال، فهو يقول: فريضتك بنت المخاض، فيقول الآخر: لا، خذ ناقة كوماء) . هل رأيتم خصومة مثل هذه؟! هل سمعتم بمثلها؟! العامل يقول: ائت بالصغيرة هذه، وصاحبها يقول: لا، خذ هذه الكبيرة. لماذا؟ لأنه يتعامل مع الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] . فحينما اشتدت الخصومة قال العامل: لا تتعب نفسك، ولا تتعبني، إن كنت مصراً عليها فدونك رسول الله بالمدينة، اذهب بها إليه، أنا لا أقدر أن آخذها، لاحظوا أمانة العمال إلى أي حد وصلت؛ فجاء مع العامل بناقته، فقال العامل للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هذا الرجل جئت إلى إبله، وقص عليه القضية، فقال صلى الله عليه وسلم لصاحبها: (أطيبةً بها نفسك؟ قال: نعم والله يا رسول الله! كيف أدفع بنت مخاض في سبيل الله، وهي ليست ظهراً يُركب، ولا ضرعاً يُحلب؟! لكن أحب أن تأخذ مني هذه الناقة، فقال للعامل: خذها، وقال لصاحبها: بارك الله لك في إبلك) . ثم عاش الرجل إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنهما، وكان يعطي العشرات من الإبل في زكاة إبله؛ ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: (بارك الله لك في إبلك) ، فهذه الدعوة لا تذهب سدى. وهكذا -أيها الإخوة- فحفظ الزكاة وعدم تضييعها يكون: بضبط نصابها، وبوفاء حقها. ولذا قال الفقهاء: إخراج زكاة الحبوب والحيوان والثمار من أوسط النوع، لا من جيده فيكون إرهاقاً على المالك، ولا من رديئه فيكون تضييقاً على المسكين. ولذا عمر رضي الله تعالى عنه لما مرت عليه أنعام الصدقة وجد شاة حافل ضرعُها فقال: والله ما أعطى هذه أهلُها بطيب نفس. والرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (وإياك وكرائم أموالهم! واتقِ دعوة المظلوم -لأنك إذا أخذت كرائم الأموال ظلمتهم فيدعون عليك- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) . من أخطر أنواع تضييع الفرائض تضييع الزكاة، فقد يجتهد في حسابها، ويتخير نوعها، ويقدمها بأكمل ما تكون؛ ولكن يحبطها ويبطلها، كمن يصنع بركة عسل ويضع فيها قطرات من الصَبِر والثوم، والله تعالى يقول: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] . إذاً: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263] . تضييع الزكاة أخطر من تضييع الصوم والصلاة؛ لأنه قد تكون بشيء ما من الرياء أو الإيذاء، ويجب أن يحفظ شعور المسكين الذي يدفع له، ولا يتمنن عليه بما يعطيه؛ فهو حق واجب، {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] . كلف الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحمل مسئولية جمع الزكاة وليس له شيء منها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعطاها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، فهو يقوم بجمعها وتوزيعها وليس له منها شيء. ومنذ أن عُطِّلت الزكاة وقُطعت الصلة بين الغني والفقير ووُجدت الفجوة، جاءت المبادئ التي تهدم وتنتزع البركة، وجاءت مبادئ يُنادَى بأن يحل محلها غيرها! والله لا يؤدي واجب الزكاة إلا الزكاة؛ لأنها كما قال تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة:103] ، تطهر الغني من دنس الشح، وتزكي الفقير من درن الحقد، فالزكاة عامل ربط وتعاطف ومؤاخاة، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

الحديث الثلاثون [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [2]

أسرار الحج

أسرار الحج بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي الصالحين، والصلاة والسلام على نبي رب العالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فمما فرض الله على المسلمين وضيعوه الحج.

من عبادات

من عبادات والحج خاتمة أركان الإسلام، وبعضهم يتورع عن هذه الكلمة ويقول: خامس أركان الإسلام، ومهما يكن من شيء فالحج يجمع جميع أركان الإسلام فروعاً وأصولاً. ففي العقيدة فيه توحيد الله سبحانه بادئ ذي بدء: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ، فقد جمعت هذه التلبية التوحيد بأقسامه الثلاثة: توحيد الربوبية: (النعمة لك والملك) . توحيد الألوهية: (لا شريك لك) . توحيد الأسماء والصفات: فيما يوصف الله من صفات الجلال والكمال. ثم تأتي بعد ذلك بقية الأركان: ففيه الصلاة: تصلي ركعتي الطواف. وفيه الصوم: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] . وفيه إنفاق المال: (ما الاستطاعة يا رسول الله؟! قال: الزاد والراحلة) . ولما كان أعظم الأركان، ويشمل الكثير من العبادات، وفيه مشقة الرحلة والسفر؛ جعله الله سبحانه وتعالى على المستطيع.

سبل المحافظة على الحج حسيا

سبل المحافظة على الحج حسياً كيف يؤدَّى هذا الركن العظيم، وكيف يحافَظ عليه ولا يضيَّع؟ يلفت النظرَ إلى ذلك قولُ عمر رضي الله تعالى عنه: (الوفد كثير، والحج قليل) ، فيحتاج الحج إلى حفاظ عليه، وقيام بواجباته، حتى يكون حجاً حقيقياً. أول خطوة في الحج ليست التجرد ولبس الإزار والرداء وقولك: (لبيك) في الميقات، لا، فالحج يبدأ عند جمع المال للحج، يبدأ الحج مع كل إنسان من موطن كسبه لرزقه؛ فيبدأ مع العامل في عمله، والزارع في مزرعته، والصانع في مصنعه والموظف في مكتبه. لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع لنا القاعدة الأساسية العامة فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، وقال: (من حج بمال حلال وزاد حلال وراحلته حلال، فوضع رجله في الغرز فقال: لبيك اللهم لبيك، قيل له: لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور. وإن حج بمال حرام، وزاد حرام، وراحلته حرام، فقال: لبيك، قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً) . ولو جئنا إلى البديهة العقلية والنظام الاجتماعي: فأنت وافد على الله في بيته، أتفد عليه بما حرم عليك؟ أتسرق وتقول: يا رب! أنا جئتك؟! لا يا أخي! رد المال لصاحبه، وابق في محلك وقل: لبيك، ولا تأت بمال حرام! وهذا يشبه لو أنك سرقت ثوب جارك، ثم دعاك لوليمة العرس عنده، فهل تلبس الثوب الذي سرقته منه لتحضر وليمته؟! وبم تفسر هذا الفعل يا أخي؟! نعم الله على الإنسان كثيرة، ويدعوك إلى بيته: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] ، فبأي صفة تأتي؟ يجب أن تأتي بما يناسب مجيئك، ومن جئت إليه. ولهذا تأتي محظورات الإحرام لتهذب الإنسان، وتحوره في شخصيته، وتجعله خلاف الشخصية الأولى، قال صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ، قالوا: وبر الحج بأن يرجع صاحبه وقد صار خيراً مما كان، أنت ذهبت والاستقامة عندك (50 %) أو (60 %) أفترجع وأنت (90 %) ؛ لكن إذا ذهبت وأنت (70 %) ثم ترجع وأنت (50 %) ، فستكون هذه انتكاسة، كإنسان دخل المستشفى وهو مريض (50 %) ، والمفروض ما دام أنه في مستشفى طيب، وعنده تجاوُب للعلاج، وعناية فإنه سيخرج متعافٍ بالكلية، أو حتى في النقاهة (90 %) ، وكذلك الحج يعتبر مصحة نفسية بل وبدنية؛ فعلى الإنسان أن يراعي هذا العمل.

سبل المحافظة على الحج معنويا

سبل المحافظة على الحج معنوياً الحج له مقدمات وآداب ونتائج، فإذا تهيأت لك النفقة والزاد الحلال وجئت إلى الميقات، يقال لك: قف! إنك ستدخل منقطة جديدة فيها تُحَوَّر الشخصية، ستدخل في بوتقة، وتخرج من باب آخر بغير الشخصية الأولى، فتتجرد من ثيابك، وهل نزع الثياب ولبس الإزار والرداء مجرد شكليات أم أن وراءه شيء؟ لا والله! بل وراءه أشياء. دخلنا إلى الميقات، وفيه مصري وشامي ومغربي وهندي وعربي وأعجمي، وغني وفقير، وو إلى آخره، وخرجنا من الباب الثاني سواسيةً، إزار ورداء، المصري ترك ثوبه أو جبته، وهذا ترك برنسه، وهذا ترك عباءته، والكل خرج بشكل واحد، الغني الذي كان يلبس ثياباً فاخرة رجع للإزار والرداء، والفقير الذي كان ثوبه مهلهلاً خرج بإزار ورداء، لا فرق لغني على فقير، ولا لكبير على صغير، ولا لمأمور على أمير، الكل سواسية. إذاً: حصل تحوير أم لا؟ حصل مبدئياً. وحينما تنزع ثيابك العادية تغتسل، وهل ثَمَّة نجاسة أو وسخ تريد أن تزيله؟ لا، لكن حينما تغتسل للإحرام تشعر بأنك تزيد في النقاء والتطهر، ويجب أن تنظر إلى الداخل، وتطهر صدرك، فلعله كان هناك تطاول على خلق الله، أو كان هناك غمز ولمز، أو كانت هناك سخريات، أو تفاخر، فيجب أن يغسَّل هذا كله: (الطهور شطر الإيمان) ، وألزم ما يكون من الطهارة أن تطهر داخليتك، فهل تنظف الظاهر والداخل تتركه على ما هو عليه؟! فتخرج من الميقات وأنت فعلاً تقول: لبيك اللهم لبيك، أقبلت عليك -يا رب- بكليتي قلباً وقالباً. ومن تلك اللحظة تسير على مثال ملاك في شخصية إنسان، وتعلن التلبية، سِلْم لكل خلق الله، شعرك لا تنتف منه أي شعرة، وظفرك لا تأخذ منه أي وصلة، والصيد لا تمد يدك إليه، {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] لماذا؟ {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] سبحان الله! محرم يقول: لبيك يا رب! والصيد أحل الحلال ويقول له: لا تأكله! والجمَّال أو السائق أو التاجر معك في سيارة واحدة يقتل الصيد ويأكل! مَن أولى بأكل الصيد؟ المحرم؛ ولكن لا. زوجتك التي معك أحلها الله لك بكلمة الله، وقبل أن تقول: لبيك، أنت معها في الفراش، وحينما قلت: لبيك، قال: قف! لا تمسها. ما السبب؟ أنت لما دخلت منطقة الميقات، دخلت من أجل تحوير شخصية، حتى تتعود العفة، وكف اليد عن الإيذاء والتعدي، وضبط النفس عن محارم الله؛ لأن الشخص الذي يكف يده عن الصيد لا يمدها إلى المال الحرام، والشخص الذي يتعفف عن زوجته لا يعتدي على محارم الآخرين، وهكذا تمشي وأنت سِلْم للطير في الهواء، وللوحش في الفلاة، وللزوجة التي معك حتى تقضي نسكك، فأنت في هذه الفترة في محل التمرين والتدريب والترويض، فإذا نجحت في هذه المرحلة نجحت في غيرها، فإذا وقع منك اعتداء أخذت جزاءه، فإن قتلت صيداً {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] ؛ وإن قربت زوجتك فعليك أن تمضي في هذا الحج على فساده، وعليك حج من عام قادم.

آداب الحج

آداب الحج قال الله في ذكر الآداب: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] ، حتى المجادلة والمناقشة لا تجوز في الحج ولو كانت في حق، اللهم إلا مناقشة في مسألة علمية، بما يصحح إحرامك وحجك وصلاتك في سفرك، وفيما يتعلق بأمر دينك دونما جدال، بل على سبيل المفاهمة، وليس على سبيل المجادلة. ما الفرق بين المفاهمة والمجادلة؟ المفاهمة: طلب الفهم، وكل واحد من المتفاهمَين يحاول أن يفهم من غيره ويفهِّمه. ولكن الجدل: هو أن تفتل الحبل بقوة حتى يصير صلداً، والجديلة: هي القوية؛ من برم الحبال وظفرها بعضها مع بعض. فالجدال فيه نقاش بشدة وحدة، أما المفاهمة فعلى سبيل المعروف والأخذ والعطاء، والقصد الوصول إلى الحق. كل من الجدال والفسق والرفث ممنوع في كل وقت؛ لكنه في الحج ألزم. لماذا؟ إذا كان كل اثنين سيتجادلان، ويأتي عربي وأعجمي، ويأتي واسع الصدر وضيق الصدر أحمق، فإذا حصلت مجادلة مع كل اثنين تخاصما فسيصير الحج فوضى. لكن لا، فالذين يأتون من كل فج عميق هم في حاجة إلى التآلف والتعارف. ومن هنا وجب أن يكون عمل المسلم في الموسم كله لأداء مناسكه، أما أن نشغل وقت الموسم لغير ذلك فهذا هو العبث، وخروج بالحج عن مجاله، فضلاً عن إفساده أو تضييعه. فالحج ملتقى للمسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، والحرم مأمن لكل من يفد إليه، حتى الطير والوحش، وكانوا في الجاهلية يحترمون ذلك، فقد كان الرجل يرى قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع إليه نظره، ويتركه. لماذا؟ حرمةً للبيت، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] . فإذا خرج من الحرم قلنا: شأنك به. إذاً: آداب الحج تبدأ منذ أن تحرم، وتلتزم بتلك الآداب: والرفث هو: حديث النساء بحضرة النساء، أنتم جئتم لتحجوا أم جئتم لتتغزلوا؟! هذا لا ينبغي. والفسوق هو: الخروج عن الطاعة، ومنه: قولهم: فسقت النواة من الرطبة، وفسقت الحبة من الرحى: خرجت عن طحنها، وخرجت النواة من رطبتها، والفسق: الخروج عن طاعة الله، والفويسقة: الفأرة تخرج ليلاً للإفساد. فلا فسوق في اللسان: بسباب أو جدال أو قذف. ولا فسوق في اليد: بالاعتداء وإيذاء الآمنين. ولا فسوق في العين: بالنظر والتتطلع إلى ما لا يجوز لها. ولا فسوق في الأذن: بالاستماع إلى ما لا يحل لها. ولا فسوق للقدم والرجل: بالسعي إلى ما لا يجوز لها. ((وَلا فُسُوقَ)) : عامة في كل ما هو خروج عن جادة الإسلام، فمن أدى مناسك الحج على تلك الآداب كيف تكون عاقبته؟!

هيئة قدوم الحاج إلى مكة ودخوله إليها

هيئة قدوم الحاج إلى مكة ودخوله إليها كل ما يتقدم عرفة تهيئةً لذلك اليوم العظيم. فتمشي على تلك الحالة ملتزماً آداب الحج، ملبياً لله سبحانه، مؤمِّناً كل مخلوق من شرِّك، اللهم إلا المعتدي، كما يقال: سلم لمن سالمنا، وحرب لمن عادانا، ولا نقول مثلما يقول النصارى: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن، لا والله! فإن اعتدوا علينا اعتدينا عليهم؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والعقرب والحدأة والغراب والكلب العقور) ، إذا جاءت الحدأة وخطفت منا الأكل أنتركها؟ أو جاءت الفأرة أو العقرب، أو الحية أنستسلم لها؟ لا؛ لأن هذه مفسدات. إذاً: المحرم سِلْم لمن سالمه، وحرب لمن عاداه، فإذا سار في طريقه حتى وصل مكة شرفها الله، يدخلها متذكراً دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فإنه دخل متواضعاً خافضاً رأسه حتى يكاد جبينه الشريف أن يمس رحل الراحلة تواضعاً لله أن فتح عليه مكة، وأنت شكراً لله أن منَّ عليك بهذا المجيء، وتأكد أنه ليس لوفرة مالك؛ فكم تركتَ أغنى منك في بلدك! ولا بقوة بدنك؛ فكم تركت من هو أقوى منك. جئت بدعوة من الله، ولذا تقول: لبيك، وفي اللغة: حينما يناديك إنسان تلبي أي: تجيب الداعي، وأي نداء تلبيه أنت؟ يقول العلماء باتفاق: إن الله سبحانه لما كلف خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام برفع القواعد من البيت قال: يا إبراهيم! نادِ في الناس: إن الله ابتنى لكم بيتاً فحجوه، وهو قوله سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] . {رِجَالاً} يعني: على أرجلهم، وليس المعنى رجالاً دون النساء، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} : ذكر هذا في مقابل الرجال، والآن يأتون بسيارات، أو طائرة أو باخرة أو غواصة، {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] : هل يمكن أن تتحقق المنافع مع الجدال والخصومة واتخاذ المناسك شعارات خاصة؟ لا والله! لا تتم المنافع للناس إلا بالتآلف والتآخي واعتبار ذلك نعمة من الله؛ لأنه أعظم مؤتمر إسلامي ينظر فيه المسلمون مصالحهم. فإذا وصلت إلى البيت، حمدت الله سبحانه، واستشعرت نعمته عليك، وأول ما تبدأ: الطواف بالبيت، كشخص ملهوف، وشخص له وجدان، وله إحساس ينتظر تلك اللحظة من زمن بعيد، فيأتي كالعاشق الولهان يطوف حول البيت تعبيراً عن اشتياقه لله، وأداءً للنسك الذي أوجبه الله عليه. لما بنى إبراهيم البيت قال الله له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} : نادِ في الناس: إن الله ابتنى لكم بيتاً فحجوه. قال: وأين يبلغ ندائي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ. فصعد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس ونادى: أيها الناس! -وأين الناس الذين عنده؟ هو بوادٍ غير ذي زرع؛ ولكنه أمر الله- إن الله ابتنى لكم بيتاً فحجوه. فلبى كل من أراد الله له الحج، حتى الذراري في الأصلاب، من لبى مرة حج مرة، ومن لبى أكثر حج أكثر. أنت الآن تجلس بمذياع صغير قَدر الكف تضعه في جيبك وتحرك إبرةً صغيرةً، فيدور بك العالم من شرق إلى غرب ويأتيك بالأصوات، إذاعات على حسب موجات الأثير، تعطس في المذياع فيسمعك من كان في آخر الدنيا، إذا كان هذا صنعُ البشر، فكيف بالخالق سبحانه وتعالى؟! فهو قادر أن يُبلغ الأصوات للخلق جميعاً حتى الذراري في أصلاب آبائهم. وكما جاء في حديث خطبة الوداع في منى، يقول راوي الحديث: (ففتح الله أسماع الحجيج حتى سمعوا خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في خيامهم) ، الرسول عليه الصلاة والسلام يخطب في منى في مسجد الخيف، والله يفتح الأسماع ويبلغ الأصوات، فسمع كل من كان في منى، أكانت هناك مكبرات صوت؟! لا، لكن الله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء؛ فكل من كان في منى سمع خطبة رسول الله، (بلغوا عني ولو آية) ، (رب مبلغ أوعى من سامع) ، وخطبهم وبين لهم أحكام الإسلام بمجملها في ذلك اليوم في تلك الخطبة. إذاً: حينما تقول: لبيك، فهو إجابة لذلك النداء: إن الله بنى لكم بيتاً فحجوه، وقلت: لبيك، وأنت في صلب أبيك.

الحفاظ على أعمال الحج

الحفاظ على أعمال الحج نقول أيضاً: كيف تحافظ على طوافك، وهو أول أركان العمل؟ قد يكون طواف قدوم، أو طواف حج، أو طواف عمرة! فإذا طاف الطائف حول البيت والحِجر تم طوافه، أما إذا فعل مثل أولئك الذين يختصرون الطواف من داخل الحجر، فيدخل ويخرج من الباب الثاني، ويترك الحجر عن يمينه، فما طاف بالبيت، وضيع حجه. إذا جاء وحافظ على طوافه، ثم جاء إلى السعي بين الصفا والمروة، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} [البقرة:158] إلى آخر السياق، فيؤدي هذا النسك كما أمر الله سبحانه وتعالى. وهكذا وتجردك وتهذيب نفسك وكفها عما أحل الله فضلاً عما حرم، وطوافك بالبيت، والتزامك الملتزَم، وتقبيلك الحجر، وصلاة ركعتي الطواف خلف المقام. وتذكر: أيُّ مقام هذا؟ ولمن؟ كان إبراهيم عليه السلام يقوم ببناء البيت ومعه إسماعيل، وهذا الحجر كان يرتفع به إبراهيم عند البناء وينزل به، ما كان هناك (مصعد) ، ولا كانت هناك آلات رافعة، وتتذكر مع كل ذلك نعم الله وقدرته. فإذا جئت إلى الصفا والمروة تذكرت الآية الكبرى، وأخذت الدرس الأكبر في حياتك من قصة أمنا هاجر، وفي الأثر: (اسعوا كما سعت أمكم هاجر) . وأنت تطوف وتهرول ثلاثة أشواط، لماذا تهرول؟ تذكر حينما كانوا في صلح الحديبية، وكتبوا الصحيفة وأبرموا الاتفاقية على أن يرجعوا ويأتوا من عامهم القادم معتمرون ثلاثة أيام ويرجعون، فجاءوا لقضاء العمرة. فلما جاءوا إلى البيت وأرادوا أن يطوفوا لعمرتهم في السنة التي تلي عمرة الحديبية، وهم على مقتضى الشرط عزل، إلا السيوف في قرابها، فلما أصبحوا في بطن مكة بين يدي العدو، وأهل مكة قد أخلوا لهم الطرقات، وخرجوا على رءوس الجبال لينظروا ماذا يفعل محمد ومن جاء معه? فيأتيهم أستاذهم الأكبر إبليس، ويقول لهم: أين أنتم؟ هؤلاء قد جاءوا من يثرب، وقد أنهكتهم حمى يثرب، وأنهكهم السفر، لو ملتم عليهم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم واسترحتم، انظروا إلى هذه المكيدة! فبيننا وبينهم عهد، وهذا العهد كما يقال: حبر على ورق، ليس له قيمة، ومن سيحاسبهم بعد هذا؟! يحرضهم على أن ينقضوا العهد وأن يقتلوا المسلمين داخل المطاف! أسألكم بالله لو نفذوا هذه الفكرة ماذا يفعل المسلمون؟ هل عندهم مدد يأتيهم من المدينة؟ ومتى يجيئهم؟ هل عندهم مدد من القبائل المجاورة؟ ولا يستطيعون أن يعاونوا هؤلاء على قريش؛ ولكن كما يقول علماء التربية: لا يفل الحديد إلا الحديد. فيأتي جبريل عليه السلام ويخبر رسول الله بما أتى به إبليس. إذاً: تلك فكرة متوجهة للمسلمين، ويجب أن نبطلها بفكرة مناقضة، لا تكن كالشخص المريض البردان الذي لا يقدر أن يحرك نفسه، لا، بل شَمِّر وهروِل، فنزلوا الطواف مهرولين مشمرين، والمشركون ينظرون إلى هؤلاء يقفزون مثل الغزلان، فقال بعضهم لبعض: يقولون: أنهكتهم حمى يثرب وأضعفهم السفر، والله! إنهم ليطوفون وكأنهم الغزلان، ما لنا طاقة بمثل هؤلاء، وأبطلت الخدعة أو الفكرة في محلها. تأتي أنت اليوم يقول لك المطوف: اضطبع وهرول، فنقول: أولئك لما طافوا كانوا خائفين، ونحن اليوم آمنون ولسنا خائفين! فلماذا نهرول؟ فنقول لك: من حكم العقل في الشرع أبطل السنة. جاء رجل إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! لقد هرولنا مع رسول الله حينما كنا خائفين، والآن نحن آمنون فعلام نهرول؟ قال: يا ابن أخي! لقد هرولنا ونحن خائفون، وهرول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ونحن آمنون وهرولنا معه، فتلك سنة رسول الله. أنت الآن آمن والحمد لله، أدامها الله علينا وعلى المسلمين جميعاً، وحينما تهرول وتسأل عن الحكمة، يقال لك: أصحاب رسول الله وقع عليهم كذا وكذا، فتتذكر فضل الله عليك، وتعرف مدى حقهم علينا؛ لأننا نعيش في ظل كفاحهم وجهادهم، وننظر كم ضحوا من أجل الإسلام والمسلمين من بعدهم.

عبرة وعظة من السعي بين الصفا والمروة

عبرة وعظة من السعي بين الصفا والمروة تأتي إلى الصفا والمروة، فيقال: اجرِ بين العلَمين، أيضاً ستسأل: لماذا أجري؟ ومن العجب! أني سمعت شخصاً يقول له صبيٌّ صغيرٌ: اجرِ هنا، قال: لماذا؟ قال: لأن سيدتنا هاجر كانت تجري هنا لما كانت تطلب الماء لولدها. فكان جوابه: هي تطلب الماء لولدها، وأنا ما علاقتي؟! هذا من قلة الفهم! الرسول صلى الله عليه وسلم كم بينه وبين هاجر؟ ومع هذا كان يجري ويسرع بين العلَمين؛ لأنك عندما تمشي تلك الخطوات تأخذ هذا الدرس في هذا المكان، وثق أن كل خطوة وكل شبر تخطوه في مناسك الحج هو درس وعبرة! نعلم جميعاً أن أرض الشام تسمى أرض النبوات؛ لأن جميع أنبياء بني إسرائيل كانوا في الشام، فلما صار بنو إسرائيل غير صالحين لحمل الرسالة للبشر نقلها الله إلى البيت الحرام، وإلى ذرية إسماعيل، ونقلها إلى تلك البقعة في شخصية إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال الله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] ، ومن الابتلاء أنه حرم الولد، وما رزقه إلا بعدما بلغ الثمانين من عمره، ومن الابتلاء ما وقع له في بادئ أمره مع أبيه، ومع النمرود ومع قومه حتى تحداهم في الأصنام وكسَّرها، فأوقدوا له النار، وصبر عليها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، ثم هاجرَ، وكل ذلك ابتلاء من الله، وإبراهيم يتم ويوفي: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] . {فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124] ، ومن الابتلاء: أنه لما رُزِق الولد، لم يقر عنده، وتطيب نفسه به لله، ثم بأمر من الله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، كأن قوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} يريد به: عوضاً عن الزرع والمياه ونحوها. ثم تأتي الدعوة: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً} [إبراهيم:37] ما قال: أرجلاً أو عيوناً أو أشخاصاً، لا. بل {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] ، تكون في أقصى الشرق أو أقصى الغرب وقلبك يهوي إلى بيت الله الحرام، وربما ترسل الهدايا إلى البيت، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل هديه من المدينة إلى مكة وهو جالس في بيته. فترك إبراهيم هاجر وطفلها الرضع، وتأتي هنا المعجزة والدرس لكل من يسعى بين الصفا والمروة، امرأة مع طفل رضيع، ومعها سقاءٌ من ماء بواد غير ذي زرع، يضعها إبراهيم ويعود راجعاً. فتسأله: إلى أين أنت ذاهب؟ - راجع إلى الشام. - لمن تدَعْنا هاهنا؟ - لله. - آلله أمرك بهذا؟ لأنه شيء غير معقول! - نعم. - اذهب فلن يضيعنا الله. لاحظوا إيمان امرأة معها طفل تخاف عليه، ما دام أن هذا أمر الله فاذهب فلن يضيعنا. أي إنسان عنده هذا اليقين بالله؟ {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} ، ولا ماء ولا أنيس ولا جليس ولا شيء، وهي وحدها ومعها طفلها، فقالت: ما دام أن هذا من أمر الله فاذهب؛ فنحن في رعاية الله ولن يضيعنا. أيوجد اتكال على الله أكثر من هذا؟! ثم الماء الذي في السقاء انتهى، فأخذت تبحث عن الماء، وتريد أن تستطلع الوادي؛ لأن مكانها عند البيت منخفض، وإلى الآن تجدون محل الكعبة منخفضاً، حتى إن السيول كانت تدخل الحرم. فنظرت إلى أقرب مرتفع إليها لتصعده وتستطلع ما وراءه لعلها تجد غادياً أو رائحاً يسعفها بماء، فكان الصفا، فصعدت عليه ولم تجد شيئاً. فنظرت إلى أقرب مرتفع آخر تستطلع ما وراءه فإذا به المروة، وحينما تنزل من الصفا إلى بطن الوادي ينخفض مستوى النظر ويغيب عنها طفلها، فتسرع حتى تأتي إلى الجانب الثاني لترى ولدها، فتمشي مشياً عادياً، وهكذا بقيت ذاهبة آتية سبع مرات، فإذا بالمولى الكريم سبحانه وتعالى يغيثها بجبريل، فيأتي ويشق زمزم. ولِم لَم يكن هذا من أول مرة؟ A لما كانت آمالها مرتبطة بأسباب الأرض والخلق تُركت حتى تخلصت من تلك العلائق البشرية، ولم يكن أمامها مطمع في مخلوق، واتجهت إلى الخالق بكل إخلاص، فكان الفرج من عند الله. وهكذا المولى سبحانه يريد أن تخلص اتجاهك إليه، وإذا رفعت أكفك وقلت: يا ألله. لا يكون في القلب سواه، فإذا توجهت حقيقة بقولك: يا ألله، كان لله، وليس لأحد سواه، فثق عندها بالإجابة. وبعضهم يقول: هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب. لكن أقول: لا، عند الاضطرار والتوجه بصدق، فإن أي اسم من أسماء الله يجري على لسانك يجيبك به؛ لأن المولى يريد أن تخلص له بالدعاء، كما جاء في حديث نصرة المظلوم: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) ، لماذا؟ لأنه علم أن له رباً فدعاه، فالكافر المشرك الذي يعبد الصنم أو يقول: الله ثالث ثلاثة، أو يقول: عزير ابن الله، هذا يفعله في حالة الرخاء والسعة، وعند الشدة يترك كل شيء، ويتجه إلى الله الواحد الأحد؛ لينصره من مظلمته، وهنالك يستجيب الله له؛ لأنه رفض كل الآلهة، واتجه إليه وحده. حصين لما جاء وسأله رسول الله: (كم لك من إله؟ قال: سبعة. ستة في الأرض، وواحد في السماء. قال: من الذي لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) . يعني: عند الرغبة أطلب منه، وعند الرهبة أخاف منه، والبقية لست خائفاً منهم، ولا أطلبهم، فإذا كان الذي لرغبتك ورهبتك هو الذي في السماء، وهو الله سبحانه، فإذاً أنت مؤمن بالله في حالة الطلب. وهكذا أمنا هاجر حينما سعت وترددت كان ترددها بمثابة صقل لهذا القلب، ونزع لكل خيوط الأمل من الأرض والبشر، حين تتوجه التوجه الخالص إلى الله، فجاء جبريل يشق الصخرة، وتنبع عين زمزم على وجه الأرض، حتى ترى الماء عند ولدها، وتأتي وتقول: زمِّي زمِّي، ويقول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله هاجر! لولا أنها زمَّتها لكانت زمزم نهراً يجري) . إذاً: كيف تحافظ على السعي؟ وكيف تستفيد منه؟ الشخص الذي هذب نفسه، وجدد يقينه بالله، وتوكل عليه حق اتكاله؛ ينقلب إلى بلده وهو لا يرجو ولا يخشى ولا يعبأ بأحد إلا بالله.

دروس من منى وعرفات

دروس من منى وعرفات ثم تأتي إلى عرفات، وقد هيئت تهيئةً كاملةً في العفة وفي الأمانة وفي التوكل، فتأتي إلى عرصة عرفات وأنت عبد رباني حقاً، وهناك يتجلى المولى سبحانه لأهل الموقف، كما جاء في الحديث: (إذا كان عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا يباهي بأهل الموقف ملائكةَ السماء) ، أهل الموقف يخطئون ويصيبون، وملائكة السماء {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ، لكن يباهي الله بأهل الموقف الملائكةَ ويقول: انظروا (انظروا إلى عبادي! جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فيقولون: يا رب! يرجون رحمتك، ويخشون عذابك. فيقول سبحانه: أُشهدكم -يا ملائكتي- أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم، ولمن شفعتم فيه) . بعد هذا تنزل إلى منى، وتبدأ برمي جمرة العقبة، والقضية ليست حصيات ترميها أو تتمرن على هدف؛ فقد كنت قبل الحج مثقلاً بذنوب، ومكبلاً بقيود أوثقك بها عدوك إبليس، وحمَّلك إياها، وأنت قد جئت إلى بيت الله، وها أنت تفيض من عرفات لا قيد عندك ولا وزر عليك، فهل تكون نشيطاً أم كسلاناً، قوياً أم ضعيفاً؟ لا شك أنك قوي، فتأتي إلى عدوك وتأتي إلى الجمرات وهي رمزٌ للشيطان، كان يبدؤك بالعداوة وبالنكال وبالحرب وينتصر عليك، وأنت الآن في موقف القوي المنتصر، فتعلن عليه الحرب: باسم الله، الله أكبر، رجماً للشيطان، وإرضاءً للرحمن. والذي يبدأ بالحرب على عدوه، ويعلنها عليه، أينام له ويسكت؟ لا، بل يكون في يقظة دائمة.

وقفة مع نحر الهدي ورمي الجمرات

وقفة مع نحر الهدي ورمي الجمرات ثم تذهب وتنحر الهدي وتتذكر فداء إسماعيل، وتتذكر بر الوالدين، وتذكر قول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] ، لو جاء أبوك الآن وقال: أريد أن أذبحك، أريد أن أقطع إصبعك، ماذا ستقول؟ ستقول: يا أبي! ماذا بك؟! ما الذي صار في عقلك؟! بل لو قال: أريد نصف مالك لامتنعت. وهذا إبراهيم يقول لولده: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات:102] ولاحظ قوله: (إن شاء الله) ، فهي أكبر عون للعبد {مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] ، ويتم الأمر: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:103-105] هنا انتهت المهمة. ومن هذا تأخذ درسك: إن كنت ولداً فإلى أي حد تبر أبويك؟! وإن كنت والداً فإلى أي مدى تطيع الله فيما أمرك؟! وكذلك الأم. جاء الشيطان إلى إسماعيل وقال له: أين تذهب مع أبيك؟ قال: لينفذ أمر الله. قال: مره فلينتظر حتى يأتي الوحي عياناً؛ فيأخذ الحصاة ويرميه. فيذهب للشيخ: أين تذهب بولدك؟ قال: لأنفذ أمر الله. قال: انتظر حتى يأتيك الوحي عياناً؛ فيأخذ الحصاة ويرميه. فيذهب للأم هناك: تركتِ ولدك مع هذا الشيخ! أتدرين ماذا يفعل به؟ فتقول: إلى أمر الله، إنه أبوه. قال: سيذهب الآن ليذبحه. قالت: إنه أمر الله، وتأخذ الحصاة وترميه. ويقولون: هذا سبب رمي الجمرات الثلاث، والله تعالى أعلم. قال إبراهيم: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة:128] ، والله أراه المناسك، ولا زالت من زمن إبراهيم حتى اليوم مناسك المسلمين. وهكذا يجب عليك أن تكون محافِظاً على حجك دونما ضياع ولا إهمال، حتى تقضي حجك. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فضل الحج من مجيئك وخطو راحلتك، وطوافك وسعيك ووقوفك بعرفة إلى طوافك بالبيت وفيه: (تطوف بالبيت ويأتي ملك يربد بكفه بين كتفيك ويقول: استقبل عملاً جديداً، فصحيفتك بيضاء نقية) . وهكذا نكون قد حافظنا على الحج بما أوجب الله سبحانه وتعالى. والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.

الحديث الثلاثون [3]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [3]

فريضة الجهاد

فريضة الجهاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: من الواجبات التي ضيعها الناس الجهاد. وقد يكون الجهاد واجباً عينياً، وقد يكون واجباً كفائياً؛ ولكن يهمنا أن الله سبحانه وتعالى أوجبه في الجملة، والحفاظ عليه مسئولية على الأمة الإسلامية، لا مسئولية فرد من الأفراد، ولا جماعة من الجماعات، ولا دولة من الدول، بل مسئولية العالم الإسلامي كله. وتضييع الجهاد يكون بأحد أمرين: 1- تركه بالكلية. 2- أو ترك إعداد العدة له.

من إعداد العدة: الاهتمام بالصناعات العسكرية

من إعداد العدة: الاهتمام بالصناعات العسكرية إن الله سبحانه وتعالى أمر الأمة أن تعد العدة للقتال ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ. } [الأنفال:60] إلى آخره. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اتبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) . فاتباع أذناب البقر دليل على الاشتغال بالزراعة، والتبايع بالعينة دليل على الاشتغال بنوع من أنواع البيوع المختلف في حكمها، والجمهور على تحريمه، ومعنى هذا: ترك الجهاد والاشتغال بأمور الدنيا. وقد بين المولى سبحانه ذلك فقال: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، وفسرها الصحابي الجليل أبا أيوب الأنصاري بأن ذلك بترك الجهاد في سبيل الله، وذلك حينما اصطف المسلمون مع أعدائهم في بعض المعارك، فقام فارس من المسلمين واخترق صف العدو حتى نفذ من الجهة الأخرى، ثم كر راجعاً، فقال بعض القوم: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال: لا والله! أنتم تفسرون هذه الآية على غير ما نزلت، كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نجاهد مع رسول الله، فقلنا ذات يوم: لقد فتح الله على رسوله، وانتشر الإسلام، وعلت راية المسلمين، لو رجعنا إلى مزارعنا فأصلحناها، وإلى تجاراتنا فأدرناها؛ فنزلت الآية الكريمة: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] أي: بترك الجهاد، والاشتغال بأمور الدنيا. ومدار الأمر كله في هذا الباب على إعداد العدة، وكل شيء يعد، والآية الكريمة لم تحدد نوعاً من العدة، وتركت ذلك لتقدير المسلمين بحسب ظروف الحياة، فالعدة في سابق الزمن كانت بالخيل والسيف والرمح، واليوم بكل ما وُجد. ويقول الخبراء العسكريون: السلاح اليوم هو الإنتاج. ويقول النووي من قبل: إن تعلم الصناعات واجب كفائي، وعلى الأمة أن تتعلم كل صناعة حتى الإبرة -يقول ذلك في مقدمة المجموع -وهو موسوعة فقهية- حينما تكلم على أقسام العلوم، وما يجب على الأمة أن تتعلمه، وأنه يجب تخصص طوائف للفنون المختلفة- ويقول: لو قصرت الأمة الإسلامية في صناعة الإبرة لاحتاجت إلى عدوها في جلب الإبرة وتحكم العدو فيها في تلك الإبرة، فتجلس عرياناً لا تستطيع أن تخيط ثوباً، هكذا يقول النووي رحمه الله. ونحن اليوم شاهدنا جانبين في الحرب والسلم، وإن كنا لا نتتبع الإذاعات والأخبار فقد استفاضت الأخبار في مد روسيا أنابيب لصربيا، فأمريكا ماذا فعلت؟ أعلنت عليها حرباً، بأي شيء؟ لا بالقذائف ولا بالنوويات ولا بالصواريخ، بل منعت عنها القمح، امتنعت من تصدير القمح لها، فقامت روسيا تفرج عن رصيد ذهبي من رصيدها لتشتري القمح من كندا. وفي أثناء معركة رمضان -حرب العبور- وقفت روسيا قطع الغيار عن الجيش المصري حتى يدفعوا الثمن نقداً، ويقوم الملك فيصل -الله يغفر له ويرحمه- ويقدم شيكاً مفتوحاً، ويدفع قيمة قطع الغيار فوراً. وأي نكاية أكثر من هذه؟! في أثناء المعركة تمنع القطع وتقول: أعطونا الثمن فوراً، بلد في حرب، واقتصادها متحمل الشيء الكثير، وفي تلك اللحظة تقول: أعطونا؟! فمعنى ذلك أنكم ضدنا في هذه الحرب! إذاً: المنتج للسلاح هو المتحكم في العالم. قال الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] : القوة تكون في السلاح والإنتاج والاقتصاد والتعليم، وأصبحت الأسلحة الآن كيماوية وغيرها. الأمة اليوم ضيعت الجهاد في سبيل الله بتضييع إعداد العدة التي تقابل سلاح العدو، وكما يقولون: لا يفل الحديد إلا الحديد، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] ، بأي شيء يدفعون؟ كلما تعادلت القوتان أمن الناس من الحرب، أما إذا غلبت كفة إحدى الجانبين فما الذي ينتظر؟ أن ينقض القوي على عدوه؛ لكن إذا عرف أن هناك ما يقابل سلاحه تعادلت الكفتان فتوقفتا. فالأمة اليوم ضيعت الجهاد، وكان السلف رضي الله تعالى عنهم يقاتلون قدر الطاقة، وكان هارون الرشيد رحمه الله يغزو سنة، ويحج أخرى.

من إعداد العدة: التدريب والتعليم

من إعداد العدة: التدريب والتعليم الجهاد في سبيل الله مما أوجبه الله، فكيف نحافظ عليه كما نحافظ على أركان الإسلام؟ نعد له العدة، والعدة هذه هل ستعمل بذاتها تلقائياً أم أنها تحتاج إلى أيدٍ تُعْمِلها؟! تحتاج إلى أيدٍ عاملة. إذاً: يجب إعداد الرجال والشباب، وتدريبهم وتعليمهم وتمرينهم حتى تكون هناك قوة. وليس الجندي مجرد الذي يحمل السلاح في الميدان، بل كذلك من يخدم هذا الجندي في مصانع الأسلحة والأنسجة، فهناك من يصنع له الفراش، وهناك من يصنع له الثياب، فكل من يؤمِّن طلبات الجندي فهو في الجندية، وهو في سبيل الله. من عظيم أجر الفارس أن فرسه ما ترتع في مرعى، ولا تشرب من ماء ولا تصعد شرفاً، ولا تهبط وادياً، ولا تروث روثاً، إلا كان ذلك كله في حسناته، أما المجاهد بنفسه فيكفي تلك الصفقة التي بينه وبين الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] . {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10-11] . إذاً: مما يجب على الأمة الإسلامية مجتمعة: أن تعيد النظر في أمر الجهاد في سبيل الله، وقد أشرنا أنه قبل أن نرفع السلاح ونقاتل العدو؛ يجب أن نصلح ذات بيننا، كما جاء في مطلع سورة الأنفال، وهي في ذكر أعظم انتصار للمسلمين في غزوة بدر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] ، فقبل أن يتكلم عن المعركة ونتائجها قال: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} ، وهذا باب واسع، ويهمنا التنبيه عليه فقط. ننتقل إلى القسم الثاني من الحديث، وقد انتهينا من جعل القسم الأول: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها) أي: بالحفاظ عليها وإقامتها.

الحدود في الإسلام

الحدود في الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها) : هذا القسم الثاني من الحديث، ويستوجب من طالب العلم أن يقف عنده طويلاً أكثر من قوله: (فَرَض فرائض) ؛ لأن: (حدَّ حدوداً) أعم من تلك الفرائض.

تعريف الحد لغة

تعريف الحد لغة الحد في اللغة: المنع، تقول: هذا حد البيت، أو: هذا حد الملك، وكل عين من العقارات لها حدود أربعة: شرق وغرب وشمال وجنوب، وفائدة هذا الحد: أن تمنع المحدود أن يخرج عن حده، وتمنع غير المحدود أن يدخل داخل تلك الحدود، فهو مانع، وكما قالوا: إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند يعني: امنعها. وقالوا: سميت العقوبات لبعض الجرائم حدوداً؛ لأنها تمنع الناس من الوقوع فيها، وسماها صلى الله عليه وسلم حداً في قضية المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، ثم سرقت ورُفع أمرها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدر الأمر بقطع يدها، فأرسلوا إليه حب رسول الله وابن حبه أسامة يشفع فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) قالوا: قطع اليد حد في السرقة، والجلد حد في الشرب أو القذف أو الزنا للبكر، والرجم حد في زنا الثيب. وهذه الحدود موانع وزواجر عن وقوع الإنسان في هذه المعاصي التي جُعلت لها هذه الحدود. ويقال عن المتوفَّى عنها زوجُها: هي في حداد؛ لأنها مُنعت من الزينة، سمي الحديد حديداً لقوة مناعته. إذاً: الحد في اللغة: المنع.

تعريف الحد شرعا

تعريف الحد شرعاً الفقهاء يقولون: الحد: هو ما شرعه الله عقوبةً على المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم: (إقامة حد خير من مطر أربعين يوماً) ، وهذا من بركة تحكيم كتاب الله. ويطلق الحد على المعنى الأصلي: التعريف والتمييز. ويقول المناطقة: الحد هو ذكر الجنس مع الفصل، فحد الإنسان عند المناطقة: أنه حيوان: وهذا الجنس، ناطق: وهذا الفصل؛ لكي يميزوه عن الصاهل والناهق. إلى آخره، فالكل حيوان؛ لكن يأتي الفصل الذي يختص بهذا النوع فيميزه ويحدده. وتقول: حد الشفعة كذا، وحد الواجب كذا، أي: تعريفه وتمييزه عن غيره. فقالوا: الحد: كل ما نهى الله عنه وبينه وميزه عن غيره، فأصبح محدوداً بتعريف الشرع إياه. وبعضهم يقول: الحد هو الشرط.

ذكر الحد في سورة البقرة

ذكر الحد في سورة البقرة لو تتبعنا كتاب الله في لفظة الحد بكل تأنٍّ نجدها جاءت في سورة البقرة عدة مرات، وفي النساء، والتوبة، والمجادلة، والطلاق، فلننظر في هذه الألفاظ التي جاء فيها لفظ الحد: أول ما يصادفنا لفظ الحد في سورة البقرة، في آية الصيام وحكم الاعتكاف: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] . وإذا تأملت المصحف من أول {الم} [البقرة:1] تجد تقسيم الناس الثلاثي: مؤمنين وكافرين ومنافقين، ثم تجد سياقاً طويلاً مع بني إسرائيل: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى. } [البقرة:60] {أَفَتَطْمَعُونَ. } [البقرة:75] {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة:92] ، إلى أن يأتي قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} . إذا وقفنا عند حدود الله تلك نجد بعض المفسرين يقول: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] ، يعني: لا تقربوا النساء وأنتم عاكفون. ويجيب البعض الآخر ك أبي حيان ويقول: لا، هذا مفرد، {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} [البقرة:187] هذا شيء واحد؛ ولكن (تِلْكَ) : اسم إشارة ترجع إلى آيات الصيام بكل ما فيها من أحكام، وآيات الصيام نجد في أولها: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة:184] ، ثم: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى} [البقرة:187] ، ثم: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] . إذاً: آيات الصيام فيها حدود من المحرمات، وفي النهاية قال: {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] . ولكن قبل آية الصيام تجد آية الوصية عند الموت: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] ، وتجد قبل الوصية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] ، وقبلها: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] ، وقبلها: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة:176] . وقبلها: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ} [البقرة:173] . ثم ذكر المحيض، ثم الإيلاء والحلف على الزوجة، ثم الطلاق: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227] . وسياق عشرة الزوجة طويل، من آية نكاح المشركات والمشركين، وكل ذلك موضوعه يتعلق بعشرة الزوجة ابتداءً وعشرةً وفراقاً. إذاً قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:229] يعني: محارمه التي حرَّمها وحدَّها وميَّزها وجعلها بين الحلال والحرام، {فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] .

ذكر الحد في سورة التوبة

ذكر الحد في سورة التوبة ننتقل إلى سورة التوبة قال الله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97] ، هذه الحدود عامة، سواء كانت في العقوبات أو في الحلال والحرام. ثم في نفس السورة بعد الأولى بعدة آيات نجد قوله تعالى:: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:112] ، وهذه شاملة، وفيها مدح للذين يحفظون حدود الله ومحارمه مطلقاً.

ذكر الحد في سورة المجادلة

ذكر الحد في سورة المجادلة ننتقل إلى سورة المجادلة قال الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:1-2] ، بعد منكرٍ وزور عفوٌّ عفور، لاحظوا فضلَ الله! {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً. } ، قد تحتاج: (والله شديد العقاب) ؛ لكن (والله عفو غفور) ، والله! إنها لسعةُ فضل من الله؛ لأنها قضايا قد تقع بين الزوجين، وكأن الله يرشد الزوجين إلى المغفرة والرحمة فيما يقع بينهما، لا أن يقفا بسوط وبعصا، ويعاقب كل منهما صاحبه، مع أن الظهار لا يأتي إلا في حالة الغضب، فلو قال: (والله شديد العقاب) ، إذاً: فدَعْه يأخذ حقه منها؛ لكن (عفو غفور) فبدلاً من أن تقول لها: أنت علي كظهر أمي، قل لها: أنت كأختي عاطفةً ورحمةً ومودة، أنت تقول منكراً من القول وزوراً، والله يقول لك: أنا عفو غفور! ثم بعد هذا المنكر من القول والزور من العبد يأتي الحل وفض المشكلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3] : ليس معنى (يَعُودُونَ) أي: إلى قوله: أنتِ عليَّ كظهر أمي، لا، بل يعود إلى التي قال لها: أنت علي كظهر أمي، يعود إليها كزوجة، ولكن قبل ذلك: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] ، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [المجادلة:4] ، وما قال: (فمن لم يجد) ؛ لأن هذا راجع إلى الاستطاعة، والصيام موجود. {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [المجادلة:4] : هم مؤمنون من السابق؛ ولكن لتؤمنوا بفرائضه وتشريعاته، والإيمان بالله يستلزم السمع والطاعة، وكأنه يقول: إيمان عمل، إيمان تنفيذ. {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ. } [المجادلة:4] : لأنه قال: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة:4] ، فمن لم يؤمن بتشريع الله، ولم يعمل بهذه الحدود ويقيمها كما أمر الله يكون كافراً، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:4] . إذاً قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة:4] لقضية الظهار بكاملها، والإيمان بالله يكون اعتقادياً، وعملياً.

أقسام خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن

أقسام خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن ويقول الله في سورة الطلاق: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1] ، وهذا نداء خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا ويقول العلماء: إذا جاء الخطاب بخصوص النبي صلى الله عليه وسلم فله عدة حالات: - تارة لا يدخل هو في الخطاب أبداً، وليس هو معنياً به، والأمة معنية به في شخصيته. - وتارةً يكون خاصاً به فلا يشركه أحد غيره. · وتارةً يكون الخطاب خاصاً به، والأمة تشترك معه فيه.

قسم لا يتناوله ولا يمكن أن يدخل تحت نطاقه

قسم لا يتناوله ولا يمكن أن يدخل تحت نطاقه مثل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23] : (الكاف) هذه متوجهة إلى المخاطَب بها، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23-24] : أين أبَوَا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف} سبحان الله! أبوه توفي وهو حملٌ في بطن أمه، وأمه توفيت وعمره خمس سنوات، والقرآن نزل عليه بعد أن جاوز الأربعين من عمره. فكيف يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء:23] ، وهما غير موجودين الآن؟ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] ، هو ليس بقائل لهما. {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] : هما ليسا موجودَين حتى ينهرهما؛ فالخطاب -إذاً- خاص بشخصه صلى الله عليه وسلم، والحكم لغيره. ولماذا جاء الخطاب بخصوصه مع أنه ليس داخلاً فيه؟ إعظاماً لحق الأبوين، أي: لو كان أبواه على قيد الحياة لكان هذا حكمهما، حتى ولو ماتا على الكفر، قال سبحانه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] . تحسسوا رحمة الله يا إخوان! تحسسوا سعة فضل الله، الأبوان كافران يجاهدان الابن على أن يشرك بالله، والمولى سبحانه الذي يأمران بالإشراك به يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] : يحرضاني على الشرك وتقول لي: صاحبهما بالمعروف! أبواك هما سبب وجودك، حقي أنا متساهل فيه؛ لكن حقهم عليك لا تضيعه، ما دمت مسلماً لي وعبداً من عبادي؛ فإني أريدك على المثالية العليا، لا أريد عبداً من عبادي يضيع حقاً واجباً عليه.

قسم يختص به وحده

قسم يختص به وحده مثل قضية المرأة الواهبة نفسها، قال الله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] : أبداً، ما أحدٌ له دخل في هذه الآية، ولذا لا يحق لمسلم أن يستبيح بضع امرأة بوهبها نفسها إليه، فهل تقول: وهبتُ نفسي إليك، فيقول: قبلت، وتباح له؟ لا. بل هذه خالصة للنبي، لماذا؟ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] فهو ولي من لا ولي له، كما لو كانت لك أمة وتعتقها وتتزوجها، لا تحتاج إلى إنسان يعقد لك عليها؛ لأنك أنت وليها. ولذا حينما صعَّد النظر فيها وصوَّب وتركها، قام رجل وقال: (زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، قال: ماذا عندك لتدفع لها صداقاً؟ ثم قال: زوجتكها بما معك من القرآن) ، وهل قال لها: ائت بأبيك أو أخيك أو عمك أم أنه هو الذي تولى زواجها؟ هو الذي زوَّجها لا غيره، وكانت تريد أن تزوج نفسها به، وهذا معناه: أنها بعيدة عنه، وتحل له، وليس هو من محارمها، ومع ذلك يقول: (زوجتكها) . لماذا؟ لأن له حق الولاية على كل مسلم، فتصح الهبة إليه، أما أنت فلا ولاية لك على غيرك.

قسم خاص به وتشترك معه الأمة

قسم خاص به وتشترك معه الأمة مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [التحريم:1] ، ولا أخص من هذا: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ، وهذا خطاب خاص بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم:1] ، أي: أنت. {مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1-2] ، كان يقول والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه-: الخطاب ابتداءً للنبي؛ ولكن الأمة معه بدليل: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ، ولو كان خاصاً به لقال: (قد فرض الله لك تحلة يمينك) ؛ ولكن لما جاء إلى الحكم وإلى إصلاح هذا الأمر شمل الأمة. إذاً: الأمة داخلة في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، فيشملها الحكم؛ لكن سبب الحكم كان خاصاً برسول الله. يقول الله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1] ، هذا خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ومعه غيره. {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} : أولاً. {لِعِدَّتِهِنَّ} : ثانياً. {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} : ثالثاً. {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] أي: لا تخرجوهن أنتم اعتداءً وغضباً، وكذلك هن لا يخرجن؛ لأن لها الحق أن تبقى إلى العدة ما دامت رجعية. {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق:1] : خمسة أحكام، فقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق:1] ، راجعة لجميع ما تقدم من آداب وأحكام الطلاق من إحصاء العدة وإبقاء الزوجة في بيت الزوجية ولا تُخْرَج ولا تَخْرُج {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .

الفرق بين (تعتدوها، وتقربوها) في الحدود

الفرق بين (تعتدوها، وتقربوها) في الحدود في هذا الحديث قال: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) ، وفي الآية: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] ) . ولو رجعنا إلى المواضع في كتاب الله التي ذُكرت فيها الحدود، وعمل لها أحد فهرساً سيجدها قد شملت جميع أبواب الحرام في كتاب الله، فمنها: · ما يتعلق بالعبادات في الصيام. · وما يتعلق بالدماء. · وما يتعلق بالأحكام عند الموت في الوصية. · ثم يأتي إلى الاعتكاف تتمةً للعبادات. · ثم يأتي إلى موضوع الطلاق. · وما يتعلق أيضاً بنوعية الزواج من المشركات والمشركين. · وما يتعلق بالإيلاء. وكل ذلك من أحكام الأسرة والأحوال الشخصية كما يقولون. إذاً: يستطيع الإنسان أن يقول: فرق بين (تَقْرَبُوهَا) و (تَعْتَدُوهَا) ، ولو جئنا إلى ما يتعلق بالطلاق والخُلع والأخذ من الزوجة، {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] ، كلها أمور مالية، ومعالِم لا يجوز أن تُتَخَطَّى. ولكن إذا جئنا إلى {فَلا تَقْرَبُوهَا} أي: كونوا بعيدين عنها قليلاً، نجدها ليست في الماليات، وليست في الحقوق الشخصية الذاتية؛ ولكن {بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ} [البقرة:187] إذاً: هذا في حِلِّيَّة الوطء في ليل رمضان. {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] ، فلو قال هنا (فلا تعتدوها) ، فمعناه: أننا جئنا إلى نقطة الصفر مع الفجر؛ لكن {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] أي: أمسكوا عن الأكل والشرب والنساء قبل الفجر، ولا تقربوا الفجر بهذه الأمور. فقوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] : إذا حملنا المباشرة على الوطء فقوله: {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فيه تحريم اللمس والقبلة ونحو ذلك. إذاً: قضية {فَلا تَقْرَبُوهَا} تستلزم الابتعاد، وتجعل هناك منطقة محرمة، ولذا ناسب معها {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] ، أما بقية الحدود الأخرى أو الأحكام الأخرى فهي أمور عادية ليس فيها حظ للنفس والشهوة؛ لأن ما يتعلق بالغريزة يجب أن يبتعد عنه. لعل في هذا القدر من شرح هذا الحديث يكفي لبيان ما جاء في هذا الحديث. وقد شرحنا قوله: (فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها) . وبقي معنا قوله: (ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم ... ) ، وستأتي تتمة للكلام عن باقي الحديث فيما بعد إن شاء الله. وبالله تعالى التوفيق. وأسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يقيم حدود كتاب الله، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحديث الثلاثون [4]

شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [4]

الحدود ولزوم الوقوف عندها

الحدود ولزوم الوقوف عندها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فما زلنا في شرح الحديث الثلاثين من الأربعين التي جمعها الإمام أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى، وهو حديث أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) ، حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره. أيها الإخوة! إن هذا الحديث النبوي الشريف -كما قال العلماء-: أجمع حديث اشتمل على جوانب التشريع الإسلامي، ولا يوجد حكم يخرج عن نطاقه؛ لأنه جمع الفرائض والحدود والمنهي عنه والمباح، وهذه هي أقسام التشريع. (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها) ، أي: حافظوا عليها، والفرائض ما أُمر بفعله، وتقدم الكلام عليها، ثم قال: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) ، ثم قال: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) : وتقدمت الإشارة إلى نوع من الاشتراك في: (وحد حدوداً) و: (حرم أشياء) ، واختلف العلماء في المراد بالحدود، فقيل: هي العقوبات والزواجر، مثل: حد السرقة قطع، وحد الزنا رجم أو جلد، والقذف. إلى آخره. وقيل: المراد بـ (حد حدوداً) أي: ميَّز أحكاماً وبينها (فلا تعتدوها) . وتقدم الكلام على ما جاء في كتاب الله من قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فيما يتعلق بالصيام والاعتكاف. وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] ، فيما يتعلق بأمر الطلاق والنساء. وما يتعلق بالمواريث والأنصباء في سورة النساء. وما جاء في سورة التوبة بحفظ حدود الله. وما جاء في سورة المجادلة في الظهار بين الرجل وزوجه. وما جاء في سورة الطلاق في أمر العدة. ويرى بعض العلماء أننا لو حملنا حدود الله على تلك المسميات لكان تكراراً للمعاني، (نهى عن أشياء) ، (حرم أشياء) ، والواقع أنه بالتأمل يظهر أن هناك فرقاً بين حدود الله وبين ما حرم الله، والكل فيه التحريم والمنع. فمثلاً قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] ، وقد ذكرنا قول أبي حيان رحمه الله: (تلك) اسم إشارة للجمع، و (حدود) مجموعة، و (تلك) إشارة لمؤنث، وقد يُشار بها إلى البعيد، فتشمل أحكام الصيام كلها. ولو رجعنا إلى الآيات قبلها بقليل لوجدنا الوصية والقصاص. فنقول: إن في مسمى الحدود هنا معالم محددة معدودة: فالاعتكاف أيام معينة. والصيام كذلك أيام معدودات. والوصية في شيء محدود. والقصاص في نفس. إلى آخره. وهكذا آية البقرة: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ. } [البقرة:229] فهو أيضاً معدود، {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا. } [البقرة:229] إلى آخره. وكذلك آية النساء في المواريث أنصباء محددة معدودة. وفي الظهار كفارة معينة معدودة. وفي سورة الطلاق بيان للعدة: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] . فيكون شيء معين محدد؛ فلا تعتدوا تلك الحدود التي حدها الله.

أثر انتهاك المحرمات

أثر انتهاك المحرمات نأتي إلى القسم الثالث في الحديث، وهو: (وحرم أشياء) ، وإذا جئنا إلى النصوص القرآنية نجد أن التحريم الوارد في كتاب الله للأشياء إنما يتعلق بصفات المحرمات، وكما يقول الأصوليون: (الحكم لا يتوجه إلى العين؛ ولكن إلى صفة فيها) . وكلمة: (وحرم أشياء) نقف عندها وقفة خفيفة، وهي: إن الحق في فرض الفرائض وتحديد الحدود وتحريم الأشياء إنما هو لله وحده، ولا يحق لمخلوق أياً كان أن يقتحم هذا الباب ويقول: هذا حلال وهذا حرام، بل عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم حينما حرم على نفسه مباحاً فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ، بل قال سبحانه محذراً: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] ، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] . إذاً: حق التشريع بالفرض والتحديد والتحريم إنما هو لله سبحانه، وكذلك الإباحة والحلية كما قال الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] ، فلا أحد يملك ذلك. ويقول علماء اللغة والمنطق: أعم العمومات كلمة: (شيء) ؛ إذ لا يخرج منها موجود في هذا الوجود، فكل موجود يصدق عليه أنه شيء من الأشياء، و (شيء) هنا لفظ مجمل، ولو جئنا إلى نصوص القرآن نجد -بنوع من التأمل- أن النصوص تنقسم إلى قسمين: قسم يكون عقوبة وابتلاءً. وقسم يكون إرشاداً وتوجيهاً لمصلحة المكلف في ذاته. فمن القسم الأول -وهو التحريم- قول الله سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] أي: بسبب ظلمهم واعتدائهم. وقد يكون امتحاناً كما كان لليهود في قضية طالوت مع الجنود: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. } [البقرة:246] ، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] ، وهذه مقاييس مادية في تولية الرئاسة. والله يرد عليهم بمقومات الرئاسة والقيادة الفعلية الصحيحة: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] أولاً اختاره الله واصطفاه، واختيار الله لا يكون إلا للأصلح، وهنا {وَزَادَهُ} عليكم {بَسْطَةً فِي} مقومات القيادة و {الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} ؛ فالعلم يعرف به كيف يدير الجيش، وكيف يدير المعارك، وكيف يسوس الأمة، وملك جاهل لا يستطيع أن يسوس أمة، بلقيس لما كانت عاقلة وجاءها خبر سليمان، فكرت واستشارت {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34] ، فكرت بعقلها، ولم تقل كما قال جندها: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} [النمل:33] ، الجندي يعرف السلاح والقوة؛ ولكن الملك يعرف السياسة وبُعد النظر والتدبير، ولهذا إذا دخل العسكري في السياسة أفسدها؛ لأن عمله في الميدان. إذاً: من مقومات القيادة السليمة: العلم والجسم؛ فالعلم يخطط ويدبر، والجسم بقوته ينفذ. وحينما فصل طالوت بالجنود ماذا قال لهم؟ قال: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} [البقرة:249] ، ما قال لهم: (معطيكم نهراً) ، بل {مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] . وهنا يأتي Q لماذا يبتليهم بهذا النهر؟ ليعلم حقيقة الطاعة؛ لأنه رغم أنفهم صار ملكاً عليهم، فهو بدون اختيارهم، ومن هنا تظهر نتيجة العلم، وهل يقابل عدواً بقوم لم يرتضوه ملكاً؟ وهل يثق فيهم؟ وهل الثقة متبادلة بينهم أم منفية؟ منفية من جهتهم؛ لأنهم {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة:247] ، استبعدوا أن يكون ملكاً عليهم، فهو مفروض عليهم، فهل سيخلصون معه في قتال العدو؟ وليس الأمر كما يقول بعض المفسرين: إنهم كانوا في الصيف الحار، وإذا شربوا امتلأت بطونهم، وإذا قابلوا العدو لا يستطيعون القتال، وهذا كلامٌ لا يُقال؛ فهم ليسوا أمام العدو حتى لا تكون هناك فرصة لأن يشربوا، فما زالوا بعيدين، وما وصلوا إلى العدو إلا بعد حين. والذي يهمنا: أن في هذا امتحاناً لهؤلاء القوم؛ ليعلم حقيقة الطاعة والامتثال. فقال الله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:249] أي: أنهم بفعلهم قالوا: نحن لن نطيعه؛ وعليه فإنهم سوف يعتزلون القتال. علي رضي الله تعالى عنه قبل محاربة الخوارج أرسل إليهم ابن عباس وناقشهم، ورجع منهم عشرة آلاف مقاتل، فقال لهم: (أما أنتم فاجتنبوا، لا تقاتلون معنا ولا مع عدونا) ، فهو لم يطمئن إليهم؛ لأنهم لتوهم رجعوا إليه، ودخلوا في صفه، فإذا جاءوا معه وقابلوا إخوانهم الذين كانوا معهم، فمن يضمن أن العاطفة تغلب عليهم، وينقلبون عليه؟ بل لا لنا، ولا علينا. وهنا طالوت امتحنهم. نأتي إلى هذه الأمة، ونجد أيضاً موضوع الامتحان في قول الله سبحانه: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] ابتلاء (ليبلونكم) ، وقال: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] . إذاً: هنا ابتلاء، {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] . فهم خافوا الله، والله يعلم منهم ذلك، فإن الله لا يخفى عليه شيء من قبل أن يوجد العالم؛ لكن ظهرت فضيلة هذه الأمة، وعلم الناس حقيقة مكانة الأمة المحمدية، لماذا؟ لأن هناك أمة قد ابتُليت بمثل هذا، وامتُحنت فرسبت، قال الله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، فماذا فعلوا؟ ما صبروا، وألقوا الشِباك يوم الجمعة، وجاءت الحيتان يوم السبت، وأخذوا الشباك يوم الأحد مليئة بالحيتان. فتلك أمة احتالت على ما حرم الله في الصيد، وهذه أمة حافظت على حدود الله ومحارمه؛ فلما خرجوا في عمرة الحديبية ما امتدت يد صحابي واحد إلى صيد من طير أو من غزال أو من حيوان في الأرض، ويأتي الصيد يتحداهم، كما وصفه الله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] ، يأتي الصيد فيقف على سن الرمح الذي هو أداة صيده، أَمِنَ ويتحدى ويقف على سن الرمح، وتناله اليد! فيقال له: اذهب لا تمتحني فيك. أبعد من هذا: يمر صلى الله عليه وسلم بظبي يستظل في ظل شجرة، يريد أن يستريح، فيوقِف عنده رجلاً لئلا يهيجه أحد، ليس فقط نكف عن صيده، بل نحافظ عليه وعلى أمانه وراحته لئلا يأتي واحد فيروعه ويفر. إذاً: هذا (ابتلاء) ليعلم حقيقة هذه الأمة التي وصفها الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] .

مقارنة بين ابتلاء بني إسرائيل وأمة محمد عليه الصلاة والسلام

مقارنة بين ابتلاء بني إسرائيل وأمة محمد عليه الصلاة والسلام الشيء بالشيء يُذكر، امتُحن بنو إسرائيل في مادةٍ امتُحنت فيها هذه الأمة، ورسب بنو إسرائيل، ونجحت هذه الأمة. حينما خرج بنو إسرائيل من البحر وقال لهم الله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] ، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ. } [المائدة:22] {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ، قالوا كلمة تستحي منها العجائز! الله يقول: {الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] ، أي: وعدهم الله أنهم سوف يأخذونها، وقال رجلان منهم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23] . ومع هذا كله يقولون: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] ، وأما هذه الأمة في غزوة بدر، يخرجون وهم نفر قليل (314) شخصاً، معهم (70) بعيراً فقط، وفرسان، ويذهبون لأخذ قافلة لقريش بلغهم خبرها، وليس هذا من قطع الطريق، بل هو جزءٌ من المعاملةٍ بالمثل؛ لأن من هاجروا من مكة تركوا ديارهم وأموالهم، واستولى عليها المشركون هناك. صهيب رضي الله عنه لما خرج مهاجراً، لحق به أهل مكة، وقالوا له: والله! لا تذهب، جئتنا صعلوكاً لا مال لك، فصرت غنياً، ثم تريد أن تخرج بنفسك وبمالك! هذا لا يكون، قال: أرأيتم إن وصفت لكم مكان مالي، أتذهبون تأخذونه وتتركونني؟ وتعلمون أني رامٍ، والله! لا يطيش لي سهم أبداً، وكنانتي مليئة، فترك لهم المال، وأخذوا ماله عنوةً، بيعٌ رابح وصفقة رابحة، كما قال له صلى الله عليه وسلم: (ربحت الصفقة) . ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح قيل له: (أين تنزل غداً يا رسول الله؟! يعني: في أي البيوت؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو عقار؟!) فهم أخذوها وباعوها. إذاً: المشركون سبقوا بالتعدي على أموال المهاجرين، وهذه قافلة خرج إليها صلى الله عليه وسلم؛ ولكن يريد الله أمراً كان مفعولاً. العير نجت، والنفير أقبلت، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] ، توقيت من الله سبحانه وتعالى. ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن العير التي هي الغاية فاتت، ومعه وعد من الله، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7] لا بعينها، ولكن واحدةً منهما، وهذا نوعٌ من الترغيب؛ ولكن أيُّهما يا رب؟ {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] هذه رغبتكم؛ ولكن الله يريد {أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال:7] . فلما علم بأن العير قد نجت، والنفير قد أقبلت، استشار أصحابه، وتكلم المهاجرون وأحسنوا، وقال قائلهم: (والله يا رسول الله! لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ؛ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله! لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ويقول سعد: يا رسول الله! لعلك تعنينا معشر الأنصار! قال: نعم. فيتكلم رضي الله تعالى عنه ويقول: والله إنا لصبر عند اللقاء، والله! لو خضت بنا إلى برك الغماد لجالدناهم عليه) . هؤلاء يقولون: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ، وهؤلاء يقولون: نخوض البحر معك! إذاً: كان الحكم على هذه الأمة بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، حكم بحيثياته وموجباته، وهذا فضل من الله سبحانه. إذاً: التحريم ابتلاء وامتحان لتظهر حقيقة المكلف. وكل التكاليف ابتلاءات تعبدية، والواقع أنها -وإن كانت تعبدية- فهي لعلل موجودة ترجع إلى المكلف.

أنواع المحرمات

أنواع المحرمات هذه الجملة في هذا الحديث: (وحرم أشياء) ، تأتي على كلِّ ما حرمه الله، وما حرمه الله بالتصوير الكلي في أمر الإسلام ينقسم إلى أقوال وأفعال.

المعتقدات المحرمة

المعتقدات المحرمة من المعتقدات المحرمة: الشرك بالله، وتكذيب الرسل، قال الله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] ؛ لأنه قبلها قال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136] ، وحرموا بعض بهيمة الأنعام مثل البحيرة والسائبة وغيرهما، والله هنا ناقشهم في ذلك: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ، الإبل والبقر والضأن والماعز، كأنه قال لهم: الذكور والإناث ما العلة في التحريم لأحدهما: الذكورة أم الأنوثة؟ {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي} [الأنعام:143] ؛ لأنها لا تخرج عن ذلك؛ إما لعلة الذكورة أو الأنوثة أو اشتمال الرحم عليه، فلا موجب للتخصيص. ثم قال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ. } [الأنعام:145] . ثم هناك فيما بعد في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] فإذا جئنا إلى هذا التقسيم فيما يتعلق باعتقادات وأقوال وأفعال نجد من أول المعتقدات: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] ، فمن أول ما يكون محرماً في الاعتقاد: الشرك بالله، وما يتعلق بتصديق الرسل، وبأخبار الأنبياء والمرسلين والأمم الماضية، وكل ما جاءك عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعتقد صدق ذلك أو وجوب العمل به إذا صح لك سنده. إذا جئنا إلى الأقوال المحرمة، فهي: كل ما كان مغايراً للحق من كذب أو غيبة أو نميمة، أو كل ما يتكلم به اللسان، ويتفاوت بعضه عن بعض، ومنه الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) . إذاً: من الأشياء التي حرمها الله ما يتعلق بالمنطق أو باللسان. نأتي إلى غير العقائد وغير الأقوال: الأفعال: نجد محرمات في المطعومات والنكاح وفي الأزمنة والأمكنة.

المطعومات المحرمة

المطعومات المحرمة قال الله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ} [الأنعام:145] ، وقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ. } [المائدة:3] ، وكل هذه المسميات في هذه الآية حرام. وتأتي السنة في هذا الباب وتزيد: كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، وتأتي السنة أيضاً بتحريم الحمر الأهلية؛ فسواء كان التحريم في نص كتاب الله، أو في سنة رسول الله فهي داخلة ضمن: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) . ومما يدل على عموم استحقاق السنة وتأهيلها للتشريع استقلالاً ما جاء في هذه المسميات: كل ذي ناب، وكل ذي مخلب، والحمر الأهلية، وتكلم العلماء في جزئيات من المحرمات تدخل تحت قاعدةٍ عامة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وهي صفة مكتوبة في التوراة والإنجيل {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، فالخبائث: جمع خبيثة، وما هي تلك الخبائث التي اندرجت تحت هذا العنوان؟ نعلم جميعاً أن كل ما نص عليه الشارع بالتحريم فهو خبيث شرعاً، بقي العرف والعادة، فهناك أشياء لم يأتِ النص عليها بأعيانها، وقد بحث هذه المسألة والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في أضواء البيان عند قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ. } [الأنعام:145] إلى آخر الآية، وذكر في هذا البحث ما فيه خلاف أو وفاق، على مبدأ: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، فذكر من الطيور بعض ما لم يأتِ مسماه كالبوم والغراب والحشرات والحيوانات، وذكر الخلاف في الخيل والبغال والحمير وبقية السباع والضبع، وذكر حكم الزواحف، ومن كره الضب، ومن أباح الحيات والعقارب، وعند المالكية خلاف في الحيات هل تؤكل أو لا تؤكل؟ وكل ما يتعلق بحشرات الأرض، وذكر كل موضع وفاق أو خلاف. وإذا كان الإسلام يحرم الخبائث فهو دين النزاهة، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4] . إذاً: الخبائث محرمة. وما حد الاستخباث؟ وهل كل ما استقذره الإنسان فهو خبيث؟ يقولون: المقياس في ذلك هم ذوو المروءات من أوساط الناس في المجتمع، لا في شدة الجوع، ولا في زيادة الترف، بل في الحالات العادية.

الأنكحة المحرمة

الأنكحة المحرمة إذا جئنا إلى ما يتعلق بالأسرة وبالنكاح نجد قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ. } [النساء:23] ، وذكر التحريم بالنسب وبالسبب وبالمصاهرة. فالتحريم بالنسب: الأصول والفروع مثل: الأمهات وجداتها، والبنات وبناتها، والأخوات والخالات والعمات، وبنات الأخ. ثم جاء إلى المصاهرة: ما كان من زوجة الأب أو زوجة الابن. ثم جاء إلى السبب: وهو الرضاع، الأخت من الرضاع والأم من الرضاع. وجاء القرآن بنوع: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] والسنة جاءت بزيادة: (لا تجمعوا بين المرأة وخالتها أو المرأة وعمتها) .

الأزمنة المحرمة

الأزمنة المحرمة ثم نأتي إلى الأزمنة: إذا نظرنا إلى التشريع في الإسلام من الزمان: فالله سبحانه وتعالى فاضَلَ في الأزمنة كما فاضَلَ في الأمكنة وكما فاضَلَ في الخلائق كلها. فمن الأزمنة الفاضلة من أيام الأسبوع: يوم الجمعة، ومن أيام السنة: يوم عرفة، ومن ليالي السنة: ليلة القدر. إذاً: هذه أزمنة فاضلة. ولكن التفاضل في جانب، والذي يهمنا في باب التحريم قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] ، تلك الأربعة الحرم حرم الله سبحانه الاعتداء فيها، بل وجعل النسيئة زيادة في الكفر، وكان العرب حينما يمر عليهم ثلاثة أشهر: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم يستطيلون تحريم ثلاثة أشهر لا يقاتلون فيها ولا يسلبون ولا ينهبون. وقد أشرنا سابقاًَ إلى الحكمة الإلهية الجليلة في تحريم تلك الأشهر الحرم؛ لأن العرب كانوا يعيشون نظاماً قبلياً: (من عَزَّ بَزَّ، ومن غلب سلب) ، وكانوا يحجون إلى البيت وهم على شركهم، فمنهم من يأتي من أقصى الجزيرة من الخليج، ومنهم من يأتي من أقصى الجنوب من اليمن، وإذا أراد أن يحج فالقبائل أمامه تعترضه، فالله جعل أشهر الحج ضمن الأشهر الحرم التي يحرم الاعتداء فيها، قال الله سبحانه: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] ، فكانوا يحترمون الهدي إذا سيق إلى البيت، والقلائد، وآمين البيت الحرام، فإذا عرفوا أنهم عمَّار أو حجاج كفوا عنهم. فجعل الله الحج متزامناً مع الأشهر الحرم ليأمن الحاج من أقصى الجزيرة إلى البيت ذهاباً وإياباً فكان يأتي في ذي القعدة وجزء من ذي الحجة، ويرجع في جزء من ذي الحجة وكامل المحرم، وهكذا يتم حجه في الأشهر الحرم آمناً على نفسه وهديه، ورجب الفرد محرم أيضاً. إذاً: هذه أشهر حرَّمها الله فلا تعتدوا فيها على أحد.

الأمكنة المحرمة

الأمكنة المحرمة المكان المحرم: الحرم بكامله والمدينة: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وإنما أبيحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً من نهار) . فإذا قتل المحرمُ صيداً ماذا عليه؟ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] ، فيُعاقَب.

الأموال المحرمة

الأموال المحرمة إذا جئنا إلى الأموال بصفة عامة؛ فإن الله يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} [البقرة:188] {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:1-2] . فحرم الأموال، وجاءت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم تقرر هذا في الحج: (أي يوم هذا؟! أي شهر هذا؟! أي بلد هذه؟! -أسئلة عجيبة! وأسلوب فيه تنبيه وإيقاف لم يعرفه العرب! سؤال عن المعلوم، ليستجمعوا قواهم ويسمعوا- فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، أليس هو اليوم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام؟! قالوا: بلى -يعني: تحريم ثلاث مرات- ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، فحرُمت تلك المقومات الثلاث: الأموال، والأعراض، والدماء. وهي مقومات كل مجتمع، وكما يقول الأصوليون: الجواهر الست هي: الأديان. والعقول. والأبدان. والأموال. والأنساب. والأعراض. وهذه إذا لم تحفظ في أي مجتمع فلا قوام له، وإذا اضطرب الأمن لا يأمن الإنسان على نفسه أو ماله أو عرضه، فلا استقرار ولا حياة. إذاً: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) : يجب أن نحافظ على ما حرم الله، وكما قال الشافعي: لو أن الأمة أخذت بسورة {وَالْعَصْرِ} [العصر:1] لكفتها، ونقول: لو أن الأمة أخذت بهذا الحديث لكفاها. لكن هل بيَّن تفصيل المحرمات ما هي؟ لا، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم. فلو أن الأمة جماعات وأفراد وقفوا عند ما حرم الله، ولم ينتهكوا حرمات الله؛ لكانت السعادة. وقد ذكر صلى الله عليه وسلم بأن المدينة حرام ما بين لابتيها، وما بين عَير إلى ثور يحرم فيها الصيد؛ ويكاد يتفق العلماء بأن الصيد في المدينة فيه تعزير، وليس فيه جزاء، وبعضهم يقول: يؤخذ سلب الصائد، إلى غير ذلك من أحكام أخرى. ويهمنا أن الله حرم من الأزمنة أوقات، ومن الأمكنة أماكن، ومن المطعوم مطعومات، ومن الزواج زوجات، وكل ما يتعلق بحياة الإنسان الاجتماعية بيَّن الله سبحانه وتعالى ما يحل له وما يحرم.

فضل الله في الترخيص في بعض المحرمات للضرورة

فضل الله في الترخيص في بعض المحرمات للضرورة ومن فضل الله سبحانه الترخيص للضرورة فيما هو حرام من المطعوم فقط فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] ، وقال: {فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] . فتلك المطعومات بعمومها محرمة، وعند الضرورة تباح، ويتفق الجميع على ذلك بالنص القرآني: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ. } [المائدة:3] ، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] ، قالوا: الباغي: الذي كان في سفره باغياً. والعادي: الذي يتعدى حاجته في الأكل، أي: يجوز أن يأكل قدر حاجته ولا يتزود منها. والآخرون يقولون: إذا كان في فلاة وليس أمامه إلا هذه الميتة، ولا يعلم أنه سيجد ميْتةً ثانية أو لا، فإن له أن يتزود منها إلى أن يجد الطعام الحلال، وهذا تيسير واسع، ومن فضل الله سبحانه أنه لم يجعل على المسلم طريقاً مسدوداً أبداً. فهذا المطعوم الحرام عند الاضطرار يحل وليحيي نفسه، من باب ارتكاب أخف الضررين، ولو تأملت جميع ما جاء النص فيه بالتحريم لوجدت الحكمة من وراء ذلك ترجع إلى المكلفين، فإن الله غني عن أن يشرِّع لنفسه أو لحكمة ترجع إليه، وتقدم لنا: (لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً) . لو تأملتم جميع أنواع المحرمات لوجدتم الحكمة ترجع إلى المكلفين، حتى في الابتلاء؛ لكي يتأدبوا، وقضية الابتلاء ظهر فيها المخالف من الموافق، وقضية الصيد فترة تمرين وتدريب؛ لأنه ليس الصيد وحده المنهي عنه، بل زوجته معه، وتكون معه في فراشه وسفره، فلا تمتد يده إليها، لماذا؟ لأنه في فترة يقول فيها: (لبيك اللهم لبيك) ، والذي يقول هذا لا يلبي داعي الغريزة في ذلك الوقت، فإذا استطاع أن يرفض دواعي الغريزة وينصرف إلى تلبية الله وحده، واستطاع أن يكف يده عن الصيد المباح؛ فلَأَن يكف نفسه ويعفها وهي محرمة عن مال الغير، وحيوان الغير فمن باب أولى. وكذلك إذا جئنا إلى الميتة والدم ولحم الخنزير حتى ما أهل لغير الله به، تجد الحكمة راجعة إلى المكلفين؛ لِمَا فيها من أضرار بالغة، وهذا باب واسع في بيان حكمة التشريع. ولو جئنا إلى الربا: فيه الفساد الأخلاقي، والفساد الاقتصادي، بعض الدول الآن بدأت تقلل من نسبة الربويات أو الفوائد الربوية؛ لِمَا وقعوا فيه، وكارثة الدولار والأسهم في أوروبا التي ضج لها العالم كان سببها ارتفاع نسبة الربا. يهمنا: أنك لن تجد شيئاً حرمه الله لغير حكمة، حتى في النكاح، فإن الأمهات والبنات والأخوات ما حرمها الله إلَّا لحكم متعددة، وليس لحكمة واحدة. إذاً: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) ، وهناك في الحدود: (فلا تعتدوها) ، وهنا لماذا لم يقل: (فلا تقربوها) ؟ لأن التحريم كحجاب قائم بين العبد المكلف وبين ما حرم الله، فاجعل هذا الحجاب قائماً وحافظ عليه، واجعل لك وقاية من عذاب الله بعدم ارتكاب المحرم، والذي يرتكب المحرم فكأنه انتهك الحجاب الذي أقامه الله؛ لأنه يقتحم الحمى، (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) .

المباح وموقعه من التشريع

المباح وموقعه من التشريع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان) . ما حكم هذه الأشياء التي سكت عنها؟ وهل هناك أشياء ليست داخلة في الفرائض ولا الحدود ولا المحرمات؟ نعم؛ لأن الأشياء إما فرائض مأمور بها، وإما حدود محدودة ومنهي عنها، والباقي مباحات، والإباحة حكم، وإذا سكت عنها فلماذا تدخلوا فيها؟ قالوا: تركها لحياة الناس، فلا هي من ضمن المحرمات التي لا ينبغي تناولها، ولا هي من ضمن الفروض التي يتعين الالتزام بها، وهذه شئون الحياة التي بين الناس، ما لم يكن فيها نص من الله، فقد تكون الأمور دنيوية فيما تأكل وتلبس، وتعاملك مع الناس مما ليس فيه ضرر ولا ضرار وأكل لأموال الناس بالباطل، فإذا سلم من المنهيات ولم يأتِ تحت نطاق اللوازم، فهو من المباح المسكوت عنه. فإذا جدَّ جديد ولم يكن له نص في كتاب الله بماذا نلحقه؟ هل بالفرائض أم بالحدود أم بالمنهي عنه أم بالمسكوت عنه؟ قالوا: بالمسكوت عنه، والأصل في المسكوت عنه الإباحة، ويتفق على ذلك الأصوليون ما عدا المعتزلة. فالأصل في الأشياء قبل ورود الشرع فيها أنها مباحة. فإذا سكت الشرع، وجاءت أشياء مستجدة، فنقول: الأصل فيها إن كانت ضمن ما حرم الله، أو ضمن العلة التي من أجلها حرم الله، كما حرم الخمر لعله الإسكار، قال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر) ، فربط الحكم بالوصف، أي: بالعلة المسكرة، فلو جاءنا عسل من نوع من النحل مسكر لقلنا: هو حرام؛ فقد حرَّم ما يضر بالجسم، ولو وجدنا حيتاناً في البحر سامة قلنا: هي حرام، لأنه داخل تحت عموم تشريع نهي وتحريم. لكن لو وجدنا أصنافاً ليست فيها مضرة، لا تضر بالعقائد، ولا تتعلق بالعقول فتفسدها، ولا بالأبدان، ولا بالأنسال فهي حلال، ولا يجوز للإنسان أن يتناول طعاماً يضر بالنسل، أي: يضيع منه الرجولة، ويعدمها، ويفقدها، ولا يفسد التخصيب الذي جعله الله فيه، وكذلك المرأة لا يحق لها أن تتناول طعاماً أو عقاراً جديداً يفسد عليها جهازها، ويمنعها من الحمل؛ لأن هذا مضر بالجسم، ويتعارض مع حقيقة مقصوده شرعاً: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم) ، إلى غير ذلك، وهذا على سبيل المثال. فقوله: (سكت عن أشياء) ، من هنا كان التحذير من التعمق في السؤال في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:101] . وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعظم الناس ذنباً رجل يسأل عن شيء لم يكن محرماً فيأتي تحريمه بسبب سؤاله) ، ولذا كانوا يكرهون السؤال، بل ويخافون من الأسئلة، ويفرحون حينما يأتي الأعرابي الآفاقي ليسأل ويسمعون. وهكذا ينبغي على الإنسان عدم التعنُّت والتنطُّع في الأسئلة، ويروى -والله أعلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال عودته من مكة مر على حوض ماء، فقام رجل وقال: (أخبرنا يا صاحب الحوض! هل ترد السباع والكلاب على حوضك أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، إنه فيه تنطُّع، نرد على السباع، وترد السباع علينا، لها ما أخذت في أجوافها شراباً، ولنا ما أبقت شراباً وطهوراً) . المهم هنا: (يا صاحب الحوض! لا تخبرنا) ؛ لأن هذا الرجل فيه تنطُّع. وكذلك روي في أثر: (تأتينا الأجبان من الشام، وعندهم الميتة وعندهم المجوس، فهل نأكلها؟ قال: سموا الله وكلوها) . سئل علي: (إن أهل اليمن يصبغون الثوب بالبول -لما فيه من الحموضة، فكانوا يضيفونه في الألوان ليثبتها- فقال: إن علمت أن فيه بولاً فلا تصلِّ فيه -أي: في شخصك أنت-، وإذا كنت لم تتأكد ولم تتيقن فأنت مع الناس) . ومن هنا نقول للذين يتساءلون عن الذبائح أو اللحوم المستوردة: إن علم في حد ذاته طريقة ذبحها أو تحضيرها، وأنها محرمة في نظر الشرع فيكف عنها، أو أخبره من يثق به فلا مانع، أما أن يحكم بتحريمها على الناس فلا. وعلى كلٍّ فإنهم كانوا يكرهون التنطُّع في الأسئلة مخافة أن يأتي الشرع بتحريم المسئول عنه. جاء عن ابن عمر أنه قال: ما وجدتَه في سوق المسلمين فخذه، يعني: على سبيل العموم، وعلى هذا لا ينبغي للإنسان أن يتعمق في الأسئلة حتى يحرم على العامة ما ليس محرماً عليهم، أو يشدد عليهم فيما ليس فيه تشديد. (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وفي بعض الروايات: (وما كان ربك نسياً) . والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية التمييز بين الذبائح

كيفية التمييز بين الذبائح Q كيف نستطيع أن نميز بين الذبائح الحلال والمحرمة؟ A هناك قرائن، فهناك ذبائح تأتي من بلاد وثنية لا يعرفون أي دين سماوي، لا يهودية ولا نصرانية، ونعلم قطعاً أن تجهيزها ثم على أيدي أولئك اللادينيين، فإذا كان الأمر كذلك فأعتقد أن هذه واضحة، وما تحتاج إلى توقف في أنها محرمة؛ لكن التي تأتينا من دول أهل الكتاب كبريطانيا أو إيطاليا أو غيرها من الدول التي تدين بدين سماوي، فالله سبحانه وتعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] فـ {أُوتُوا الْكِتَابَ} يشمل اليهود والنصارى، وبإجماع المسلمين أن المراد بطعامهم الذبائح وليس اللبن ولا الفاكهة؛ لأنها ليست من أطعمتهم، فهي من نبات الأرض أو الحيوان. فطعامهم الذي لهم دخل في إيجاده هو الذبيحة، ويتفق الفقهاء على أننا إذا جهلنا ماذا يصنع فيها فلا حرج علينا فيها، وإذا علمنا أن طريقته موافقةً لطريقة المسلمين فلا شبهة فيها؛ ولكن مَن علم رأي العين أو عن طريق إخبار الثقة، وتأكد بأنه فعل فيها ما لو فعله مسلم لا يجوز أكلها، بأن خنقها، أو غمسها في الماء، أو صعقها بالتيار الكهربائي، فكل ذلك لو فعله مسلم لا تحل به الذبيحة. الجمهور على عدم جواز أكلها، ما عدا ابن العربي من المالكية فإنه يقول: لو رأيت الكتابي يسلُّ عنق الدجاجة لأكلتها، على عموم: (وطعامهم) . ولكن هذا وإن كان عاماً فإنه يخصص بقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] ، وكذلك ذبائح المجوس فإنها ميتة، ولا يحل للمسلم أن يأكلها. وعلى كلٍّ فالمراد بهذه الخاتمة للحديث: عدم التعمق فيما لا شبهة فيه، أما لو ظهرت التهمة وقامت الشبهة: ف (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) . والله تعالى أعلم.

حكم الجمع بين الأختين في النكاح

حكم الجمع بين الأختين في النكاح Q الله سبحانه وتعالى ذكر المحرمات في النكاح، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، وهناك: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5-6] ؛ فأطلق عموم الزوجات، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن جمع المرأة مع خالتها، أو مع عمتها، فهل هذا يكون ناسخاً لقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ؟ A الجمهور على أن السنة الآحاد لا تنسخ الكتاب، والخلاف مشهور عند الأصوليين: هل هذا جائز شرعاً وواقع فعلاً أم لا؟ ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: هو جائز عقلاً، ومُخْتَلَف في وقوعه فعلاً. أما هذا الحديث مع تلك الآية فليس من باب النسخ؛ ولكنه من باب التخصيص، {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} من جميع الصور في الزوجات ما عدا المسمى، ويُخَصُّ من وراء ذلك خصوصُ الجمع بين المرأة وخالتها والمرأة وعمتها. والشافعي رحمه الله يقول: ما من حديث عن رسول الله إلا وله أصل في كتاب الله. ولعل هذا الحديث مأخوذ ومنطلَق من قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23] ، ولما قيل لرسول الله: (تزوَّج بنت فلان، قال: لا تعرضوا علي نساءكم، فقالت: إن خير من يشاركني في خير أختي) ، فكانوا يرون أن الأخت تشارك الأخت في الخير، وعرضت بعض زوجات النبي أختها على رسول الله، فقال: (إنها لا تحل لي) . إذاً: نقول: تحريم جمع المرأة مع خالتها، والمرأة مع عمتها، قريب من تحريم الجمع بين الأختين؛ لما فيه من قطيعة الرحم. لماذا نهى الله أن نجمع بين الأختين؟ لأن هناك منافسة، ولئلا يكون هناك طلاق: (لا تطلب إحداكن طلاق أختها لتكفئ إناءها) يعني: لا تطلب طلاق أختها ليتزوج بها. إذاً: يكون هناك منافسة وقطيعة، فكذلك المرأة مع بنت أختها والمرأة مع بنت أخيها. والحنابلة يقولون: جمع المرأة مع بنت عمها يكون جائزاً؛ لأن العم أبعد قليلاً، وابن العم يتزوج ببنت العم، فكونه يجمع بين ابنتي العم فلا مانع، أو ابنتي الخالة فلا مانع، أما الخالة وابنت أختها فلا؛ لأن بنت الأخت مثل البنت، والخالة مثل الأم، فكأن الحديث له علاقة بما جاء في نص القرآن الكريم، وليس هذا من باب النسخ؛ ولكنه من باب التخصيص، وأجمع الأصوليون على جواز تخصيص الكتاب وتقييده بالسنة الآحاد كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان) ، فيكون هذا تخصيص لعموم قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] وكذلك الأمر هنا: تخصيص لعموم (ما وراء ذلك) . والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الحديث الحادي والثلاثون

شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والثلاثون

شرح حديث: (ازهد في الدنيا يحبك الله)

شرح حديث: (ازهد في الدنيا يحبك الله) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله سلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملتُه أحبني الله وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) . حديث حسن، رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة] . أيها الإخوة! نجد في ألفاظ هذا الحديث تصويراً لاتجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبُعد غايتهم، فهذا رجل جاء يسأل رسول الله عن عمل، لا لمال يحصل عليه، ولا لرئاسة يتولاها، ولا لمفخرة في الدنيا؛ ولكن جعل نصب عينيه أن يكون في الدنيا محبوباً عند الناس، وفي الآخرة محبوباً عند الله، فمحبة الله سبحانه غايته، وهكذا حال الصحابة يسعون بكل أعمالهم للحصول على شرف محبة الله سبحانه، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وإن تبادل المحبة بين العبد وربه أمر عجيب! يصعب على إنسان أن يصوِّر كنهه، وهو -كما يقولون-: أمرٌ ذوقيٌّ، يتذوقه الإنسان ولا يستطيع أن يعبر عنه. هذا الرجل أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الاتجاه؛ لأن غايته سليمة، ومطلبه كريم، ويوجهه إلى العمل الذي يحصل به على هذه المحبة من الله ومن الناس: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) . إذاً: الزهد طريق المحبة، فإن كان لله فزهدك في الدنيا، وإن كان للناس ففي ترك ما في أيديهم. ولو فتشنا تفتيشاً أدق قليلاً: فهل الذي بأيدي الناس كله والذي يزهد فيه الإنسان إنما هو جزء من الدنيا؟! ولكن عملياً: الزهد في عموم الدنيا هو الزهد في خصوص ما بأيدي الناس.

تعريف الزهد في الدنيا

تعريف الزهد في الدنيا كثر كلام العلماء في تعريف الزهد، فترك الكسب ليس بمناسب، ويقول بعض العلماء: الزهد في السلطة أشد على النفس من الزهد في الدينار والدرهم، أو أشد على النفس من الزهد في الذهب والفضة، وفي التاريخ أن بعض خلفاء بني أمية جاءه رأس بعض الناس فنكت بالقضيب في وجهه وهو يقول: والله! إنك كنت لي صديقاً حميماً؛ ولكن هذا الملك عقيم، كان صديقاً ولكن خرج عليه، فقتله حفاظاً على الرئاسة والملك! وبعض الناس يتكلف ويقول: الزهد من ثلاثة حروف: زاي وهاء ودال، فالزاي: من الزينة، والهاء: من الهوى، والدال: من الدنيا، وكلها ترجع إلى مدلول واحد؛ لأن الزينة والدنيا شيء واحد. وبعضهم يقول: حقيقة الزهد هو: القناعة بقضاء الله، والرضا بعطائه الذي أعطاكه. ويقول أحمد بن حنبل: الزهد في الدنيا قصر الأمل فيها. ويبحثون مسألة: أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ فيرجح كثير من العلماء أنه الغني الشاكر؛ لأن غناه مع شكره سينتفع به غيره.

من زهد السلف

من زهد السلف أويس القرني، أويس رجل من أهل اليمن أوصى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب به، فقال له: (إن استطعت أن يدعو لك فافعل) وذكر له صفته. عمر وفود اليمن: أفيكم أويس القرني؟ إلى أن وجده فقال: ادعُ الله لي. قال: كيف أدعو لك وأنت أمير المؤمنين؟! قال: ادعُ الله لي أولاً، فدعا له، ثم قال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصاني بك. قال: أما وقد علمت بذلك فأنا أريد أن أخرج من المدينة. قال: إلى أين ستذهب؟ قال: إلى العراق. قال: سوف أعطيك خطاباً لعامل العراق. قال: أريد أن أكون في عامة الناس، لا يعلم بي أحد. ثم ذهب يعمل أجيراً عند رجل، فكان عمر يوصي وفود أهل العراق أن يسلموا عليه. فكان الحُجاج يسألون عن أويس القرني: أين هو؟ وأين محله؟ وعند مَن؟ حتى استدل عليه رجل وقال: أوصاني عمر أن أبلغك السلام، فقال: ألقيت عمر؟ قال: نعم، فخرج من الكوفة، ولم يعلم به أحد فيما بعد! فهذا يريد أن يكون في عامة الناس، على ما هو عليه من منزلة عند الله، ولا يرغب في الدنيا، حتى عمر يقول له: أعطيك كتاباً كوصية، فرفض، والشخص منا عندما يكون له حاجة عند إنسان، ينظر! صديقه ليكون الواسطة، فيقول له: اعمل معروفاً وأعطني خطاباً له، ووصِّه عليَّ، وهذا أمير المؤمنين يريد أن يكتب لعامله ليكرمه، فيقول: لا أريد أحداً يعلم بي، أريد أن أكون في عامة الناس! وعمر بن عبد العزيز كان من أعظم الشباب تمتعاً، وفي أبهه. يقول بعض المؤرخين: كان إذا لبس حلة وخلعها لا يرجع إليها، وإذا أرسل حلة للغسال ليغسلها فإن الناس يرسلون ثيابهم لتغسل عند هذا الغسال لتُغسل عقب ثياب عمر وتصيب من طيبها! وحينما تولى الخلافة خرج من هذا كله، وزوجته كان أبوها خليفة، وأخوها خليفة، فقال لها: يا فاطمة! أنا تركت الدنيا وخرجت منها واشتغلت بهؤلاء الناس، فإن كنت تريدين البقاء معي على ما أنا عليه فابقي أو فاذهبي إلى أهلك! فقالت: بل أكون معك. وعندما أراد أن يُصْلِح بيته كانت تصنع الطين وتناوله إياه، فهذا هو الذي خرج من الدنيا فعلاً بعد أن امتلكها. وكذلك مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرئ أهل المدينة، ويعلمهم الإسلام، فبعد بيعة العقبة الثانية ذهب إلى الأوس والخزرج على مياههم ليدعوهم إلى الإسلام. يقول الذهبي في ترجمته: مَرَّ ذات يوم على أصحاب رسول الله فخفضوا رءوسهم حياءً لأنهم لا يجدون ما يكسوه، وكان عليه إزار مرقع بقطع من الأدم أي: الجلد!! وكانت أمه ذات ثراء، وكانت تكسوه اللين من الثياب، وتطعمه الناعم من العيش، فترك ذلك كله لله ولرسوله، وترك أمه وكل نعيمها وأموالها مسخرة لخدمته وترفيهه، فأسلم فخرج من هذا كله، وهاجر وصار رداؤه وإزاره مخرقاً ومرقعاً بجلد، وربما كان جلد قربة قديمة أو جلدَ فروة أو شيئاً من هذا يُرقَّع ثوبه به! ومع هذا كان هو الداعية الأول، والمعلم الأول في المدينة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها.

حقيقة الزهد

حقيقة الزهد نريد أن نبين موطنين في كتاب الله يكشفان لنا حقيقة الزهد. فليس الزهد ترك العمل بالكلية، والعزوف عن الدنيا، والهروب منها، بل هو تسخيرها وتذليلها وجمعها وإنفاقها في سبيل الله وفي أوجه الخير. الموطن الأول في سورة آل عمران: يصور لنا متاع الدنيا بمختلف مجالاتها، ويبين لنا أن من شُغل بتلك المفاتن وكانت غايته، فهي نهايته، ومن أعرض عنها ولم يقف عندها، وكانت وسيلة في يده وليست غاية، فهو حقيقة الزاهد وما له عند الله سبحانه أعظم.

أهل الدنيا

أهل الدنيا قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14] ، وهذا أمر جِبِلِّي، وغريزة في الإنسان، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول: (حبب إلي من دنياكم ثلاثاً: الطيب والنساء -وهذان متلازمان- وجُعِلت قرة عيني في الصلاة) ، يعني: النساء والطيب ما شغلاني عن الصلاة، بل كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، فما شغله الفراش ولا الزوجات ولا الطيب عن أداء واجبه والتقرب إلى ربه. قال تعالى: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} ، مكدس بعضُها فوق بعض، {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} ، ليست خيلاً عاديةً هاملة، بل خيلاً عربية أصيلة، {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ} ، من البقر والإبل والغنم، {وَالْحَرْثِ} : كل المزروعات، {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، من المسمَّيات التي هي ألذ ملاذِّ الدنيا، وهل هناك مال آخر؟ الآن أصبح هناك العمارات، وهي داخلةً في هذا، فهي تقابل الحرث في السابق، عمائر فاخرة، ومبانٍ شاهقة، ولكن كل ذلك متاع، والمتاع شيء مؤقت. قال تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وهل وصفُ الحياة بـ (الدنيا) من الدنو والقرب أو الدناءة؟ من الدنو والقرب في مقابل الآخرة. {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] أي: المرجع، وهو جنة الخلد. إذا نظرنا في هذا: فإن تلك المسميات هي متاع الحياة الدنيا، وعلى الإنسان ألا يكون معها لمجرد المتعة، والنتيجة ذاهبة، لكن إذا كانت وسائل وليست غايات فلا بأس، فالمرأة هي سبيل الولد، والنكاح مقصد من مقاصد الحياة لبقاء النسل وعفة الإنسان، وإذا تزوج الرجل فإنه يعف نفسه، ويعف المرأة أيضاً، ويولد له من يذكر الله معه ومن بعده. إذاً: ينبغي أن المرأة وسيلة للإعفاف، ولبقاء النسل، ولعمارة الكون، ولتكثير هذه الأمة، ولتحقيق رغبته صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) . وينبغي أن يطلب الولد ليكون صالحاً يدعو له، أو يكون وديعة عند الله وشهيداً في سبيل الله، أو يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر عالماً بكتاب الله، وعمله في صحائف والده. أما الخيل فقد أشرنا أنها على ثلاثة أقسام: أجر، وستر، ووزر. وهكذا الأنعام إذا اقتناها، وأدى حق الله فيها وفي رقابها وظهورها؛ كان له بذلك الأجر العظيم. عثمان رضي الله تعالى عنه جهَّز جيش العسرة، وإذا لم يكن عنده مال فكيف يجهز جيشاً؟! ولهذا يقول بعض الناس: كثير من الوعاظ يذم الدنيا ويقبحها وكأنها مصيبة وجريمة وقعت على الناس، هذه الدنيا إن لم تكن موجودة فكيف نكتسب الآخرة؟ فنحن لا نحصل على ثواب الآخرة إلا من الدنيا، فالدنيا مزرعة الآخرة. وفي بعض الآثار: (من الناس من يسب الدنيا، فتقول له: قبح الله أعصانا لله! أنا الذي أعصي الله أم أنت؟!) ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فطلع لنا جبل أحد، فقال: (يا أبا هريرة! وددت لو أن لي مثل جبل أحد ذهباً، أقول به هكذا وهكذا -وأشار يميناً وشمالاً- فلا يمضي ثلاثاً وعندي منه شيء، إلا شيء رصدته لدَينٍ) ، فالرسول تمنى أن يكون عنده مثل أحد ذهباً؛ لكي ينفقه في سبيل الله. إذاً: الأموال والقناطير المقنطرة يجب أن تكون: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) . {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]

فضل الزهد في الدنيا

فضل الزهد في الدنيا هذه الأشياء محبَّبة ومزيَّنة عند الناس وكأنها كل شيء، لكن قال الله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران:15] ، من شهوة النساء والبنين والقناطير المقنطرة والخيل المسومة والأنعام والحرث، {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} اتقوا محارم الله ومعصيته ونواهيه سبحانه وتعالى، وامتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي. {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران:15] . إذاً: هؤلاء عندهم الحرث، والحرث جنات وحدائق وبساتين؛ ولكن ليس مثل هذه الجنات؛ لأن جنات الآخرة تجري من تحتها الأنهار، وجنات الدنيا كما قال الله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} [الكهف:32-33] ، لكن جنات الآخرة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، وليس هو نهراً واحداً، بل المتنوعة الأصناف كما قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] . وقوله تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] ؛ لا تظن أنه متاع الحياة الدنيا من أول آدم إلى يوم القيامة! لا، بل يقصد به مدة حياة الإنسان، والله سبحانه جعل لنوح عليه السلام عمراً طويلاً: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] ؛ وكما جاء في الأثر: (إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل من أهل النار فيُغمس غمسة في النار، ثم يقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله! يا رب! ثم يؤتى برجل من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة ثم يقال له: هل مر بك بؤس في الدنيا قط؟ فيقول: لا والله! ما رأيت شيئاً) ، إذاً: نعيم الدنيا كله للكافر لا يساوي غمسة في النار! وفي الحديث: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع!) ، كم يأخذ هذا؟ هذا مثل الدنيا في الآخرة! وفي الحديث (لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، فالنعيم الحقيقي الذي لا يعادله شيء في الوجود، هو الدوام والخلود في الجنة، وأيُّ شخص في الدنيا سواء أكان عاقلاًَ أو نصف عاقل إذا قيل له: نبني لك مدينة خيالية؛ من أثاث ونعيم ومتاع وجوارٍ مدة حياتك، وبعد ذلك إلى النار -عياذاً بالله-، أو تعيش نصف حياتك في هذا النعيم والنصف الثاني في الصحراء، أو نبني لك عشةً وعندك من الماء ما تيسر، ومن الخبز ما يكفيك بالكفاف، وعندك الهواء الصافي، والظل، وتستمر فيها على استمرار، فأيهما تختار؟ سيختار الحياة العادية بصفة دائمة، ولن يختار المدينة الخيالية التي يعيش فيها نصف عمره، ثم النصف الآخر يُرمى به في الصحراء؟ فما الفائدة من النعيم ثم الجحيم؟ ولذا يقولون: لو أن إنساناً خير بين بيت من خشب دائم، وبيت من ذهب مؤقتٍ؛ لكان العاقل يختار البيت الدائم، فكيف ببيت من ذهب دائم تستبدله ببيت من خشب؟! حينما تتذكر الجنة -نسأل الله من فضله- تشعر بأن نعيمها هو النعيم المقيم {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران:15] ، فهو عطاء دائم، وأنت مخلد فيه، وأعتقد أنه لو نقص نصف هذا النعيم مع الخلود فيه فلن يضرك شيء. إذاً: بقاء الجنة وخلود الإنسان فيها أكبر نعيم، وهو أكبر من نعيم الجنة نفسها، وهذا النعيم الدائم هو السعادة بكاملها، ومع هذا أيضاً: {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [آل عمران:15] . {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] ، عندما تنظر للمرأة في الدنيا ترى أن ثلاثة أرباع عمرها في حالة الله أعلم بها، وربع العمر ضائع في الدورة الشهرية؛ لكن نساء الجنة مطهرات من هذا كله، فالمرأة في الدنيا إذا ولدت فشهران يذهبان في النفاس، وشهر قبل النفاس في الوحم، وجِبِلَّة الإنسان يأكل ويفرِّغ؛ لكن أزواج الجنة مطهرات من ذلك كله، بل كما في الآية الكريمة: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] ، وأيضاً إذا عاد إليها وجدها بكراً. إذاً: هناك فرق كبير، بل ليس هناك موضع مقارنة، قال تعالى: {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران:15] ، قال الله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ، قال الله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران:15] ، ونضرب أمثلة لذلك -ولله المثل الأعلى-: إذا جئت ضيفاً على صديق، وشعرت بأن زيارتك لهذا الصديق تفرحه، ألا يكون ذلك إكمالاً لسرورك بوجودك في ضيافته؟! بخلاف إذا جئت ضيفاً عند شخص وشعرت أنه يستثقل وجودك. فإذا شعر الإنسان أنه مخلد في جنة نعيمها كما بين سبحانه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، وهو مخلد فيها، {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} ، ثم بعد هذا كله قال الله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} . {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15] بصير بأعمالهم، وسيجازيهم على قدر ما عملوا، وبحسب موقفهم فيما زُيِّن لهم من تلك المسميات.

من صفات الزاهدين في الدنيا

من صفات الزاهدين في الدنيا انظر إلى وصف أولئك الذين وعدهم الله بالجنة التي هي خيرٌ من زينة الدنيا ومتاعها، فمن هؤلاء أصحاب النعيم؟ قال الله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16] ، ليس الإنسان معصوماً من الذنب، ولو لم يكن هناك ذنب، وطلبوا المغفرة فإن ذلك علو في درجاتهم، كما هو حال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ويقول: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، ويحث على الاستغفار فيقول: (إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة) وفي رواية: (مائة مرة) . ولذا قالوا: استغفاره صلى الله عليه وسلم علو في درجاته، وبعضهم يقول: يستغفر للمؤمنين؛ لكن هذا جانب وذاك جانب آخر، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] . {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16] ، وهذه هي صفات الزُّهَّاد حقاً، فمَن اتصف بهذه الصفات فهو الزاهد حقاً، وما هي صفاتهم؟ قال الله: {الصَّابِرِينَ} [آل عمران:17] : الصابرين على ماذا؟ على تلك الشهوات التي زُيِّنت لهم، فإذا لم يجدها إنسان من هؤلاء {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} ، فماذا يكون موقفه؟ كما قال الله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] ، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ، والصوم هو عين الصبر. {الصَّابِرِينَ} : عن معصية الله، وعلى قضاء الله، وعلى أداء طاعة الله، وكل ما يمكن أن تأتي به من أفعال الخير والقربات والمكرمات والمروءة والإنسانية، فإنه يدخل تحت عنوان: {الصَّابِرِينَ} وأقوال العلماء في وصف الزاهدين تدخل تحت هذه الصفات الآتية. إذاً: أول صفات الزاهدين حقاً أو المؤمنين حقاً الذين لم تغرهم زينة الحياة الدنيا: الإيمان واللجوء إلى الله وطلب المغفرة: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، ثم: {الصَّابِرِينَ} . ثانياً: {وَالصَّادِقِينَ} [آل عمران:17] ، الصادقين في كل شيء، وليس في الحديث فقط، فالله يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] ، الصدق في التعامل مع الله، الصدق في التعامل مع الناس، الصدق في التعامل مع النفس، الصدق في التعامل مع كتاب الله وسنة رسوله، فالصادقين عنوان عام في كل ما أتوه. ثالثاً: {وَالْقَانِتِينَ} [آل عمران:17] : سبحان الله! (صابرين) و (صادقين) ! ولعل مجيء (صابرين) أولاً يوحي بأن الصدق يحتاج إلى صبر، فقد يحدث لإنسان موقف، والصدق قد يؤذيه أو يحمِّله مشقةً؛ لكن لم يضيع مبدأ الصبر، وانطلاقاً من الصبر تصدُق وتقول الحق وتتعامل بالصدق، فإذا كان صابراً صادقاً يأتي القنوت مع الله، والقنوت: الطاعة والخشية والخشوع والخضوع. رابعاً: {وَالْمُنْفِقِينَ} [آل عمران:17] ، هؤلاء الصابرون الصادقون القانتون لهم في الدنيا الأموال والقناطير المقنطرة التي زُينت لهم وامتلكوها، فماذا فعلوا بها؟ أنفقوها، وفي حديث أبي هريرة: (لو كان لي مثل جبل أحد، ولقلت به هكذا وهكذا، ولا يبقى عندي منه شيء) ، ثم هو إنفاق إجمالي في كل أوجه الإنفاق، كما سيأتي في نظيرها في سورة الحديد {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد:18] ، فينفقون في كل أوجه الإنفاق وسبل الخير، مساعدة ضعيف، إعطاء فقير، تجهيز غازٍ، علاج مريض، كل أنواع الإنفاق التي جاءت أيضاً في سورة البقرة: {سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] ، {فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران:134] ، في كل أوجه الخير، وعلى جميع الحالات. خامساً: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل يصلي ويستغفر في السحر. وفي الحديث الصحيح: (إذا كان ثلث الليل الآخر، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟) . إذاً: هذه هي صفات المؤمنين حقاً، وهي صفات الذين سلموا مما زُيِّن للناس من حب الشهوات، ولم يقفوا عندها. ثم قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:18-19] فهم التزموا به، وأقاموا حدوده وتعاليمه، هذا هو الموطن الأول في هذه السورة.

قسوة القلوب وعلاجها

قسوة القلوب وعلاجها ننتقل إلى الموطن الثاني، وهو في سورة الحديد، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] . في هذه السورة أمر عجيب! ففيها عرض حالة المؤمنين والمنافقين في القيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ. } [الحديد:12] إلى آخره، ثم جاء محل الشاهد فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:16-18] ، يقول ابن عباس في هذه الآية الكريمة: (عاتبنا الله بعد بدء الوحي بثلاثة عشر عاماً، ويقول مجاهد: بعد أربع سنوات، لاختلاف إسلام بعضهم البعض. قال الله: {أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد:16] آن يئون، الأوان هو: الزمن، أي: ألم يحضر الوقت. {لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد:16] أي: من هذه الأمة. {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] ، قالوا في التفسير: إن أصحاب رسول الله ملوا ملةً أو غفلوا غفلة فعاتبهم الله. وقوله: {لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي: من الوحي. وخشوع القلب يكون بما ذكر الله في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، هذه حقيقة المؤمن حقاً، يتأثر بكتاب الله عند سماعه وتدبره. {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ، فأولئك الذين يقولون: نزهد في الدنيا، وننقطع إلى العبادة، إلى أي مدى يصلون؟! {تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} . ثم يذكِّرهم بقوله: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} ، أي: من اليهود والنصارى. {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} ، ومع طول الأمد جاء النسيان. {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} إذاً: النسيان وطول الأمل في الدنيا يقسِّي القلب، ويُنْسِي الإنسان ذكر الله، ولذا لما قيل لـ أحمد رحمه الله: ما الزهد؟ قال: عدم طول الأمل. فمن لم يطل أمله في الدنيا فهو زاهدٌ فيها، فهي عنده سواء جاءت أو راحت. {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، فما دام النسيان جاء، جاءت قسوة القلب، وكان الفساد كما في الحديث: (إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله ... ) إلى آخر الحديث. ثم يأتي التنبيه وإيقاظ الفكرة: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، ولماذا ذكر الأرض هنا مع قسوة القلب؟ أي: كما أنه سبحانه القادر المقتدر على إحياء الأرض وهي جماد بعد موتها، فهو قادر على أن يحيي القلوب بعد موتها، فيحييها بالتذكرة بعد الغفلة، وبالإيمان بعد الكفر، وبالذكر بعد النسيان، وكأن هنا تنبيه! لا تيئسوا من رحمة الله، إن مضى عليكم شيء، ووقع على القلوب قسوة، فجدِّدوا ذكر الله، وجدِّدوا العلاقة مع الله؛ فإن الله قادر على أن يعيد لتلك القلوب حياتها، وتحيا بذكر الله، وما نزل من الحق، كما تحيا الأرض بعد موتها وأنتم تشاهدون. قال: {اعْلَمُوا} ، وكأننا جهلنا أو نسينا أو غفلنا فلم نتأمل؛ فيعلِّمنا، ويقول: انظروا وتأملوا واعلموا من واقع الحياة عندكم، فكذلك القلوب القاسية. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} ، ارجعوا إلى عقولكم، وانظروا إلى ما بين أيديكم، وقايسوا بعقولكم، فاعتبروا يا أولي الأبصار! وكل ذلك من آيات الله الكونية لنرجع إلى أنفسنا. ما الذي يرجع القلوب إلى ما هي عليه؟ ما الذي يجدِّد الإيمان بالله؟ ما الذي يُذهب الغفلة؟ ما الذي يليِّن تلك القلوب القاسية؟ ترى الفقير وتعرض عنه، وتسمع أنين المريض أو المعتل أو المحتاج وتصك أذنك عنه، وترى ذا الحاجة والفاقة وتغمض عينيك عنه، ما هذه القسوة؟! متى تكون ليِّن القلب رحيماً؟ A إذا أحسنت إلى الفقراء، قال الله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد:18] ، وكأنه سبحانه يقول: قسوة قلوبكم موت لها، والمولى قادر على إحيائها كإحياء الأرض الميتة، فالأرض الميتة ينزل فيها المطر فيحييها، وقلوبكم ينزل لها الوحي فيحييها، واستجيبوا لهذا الوحي عملياً بأن تزهدوا في الدنيا بألَّا تكون غاية لكم، وبألَّا تعضوا عليها بالنواجذ، وبأن تحرصوا على فك العاني والتخفف عن المسكين وإعطاء المحتاجين. وكأن سائلاً يسأل فيقول: يا رب! ما الذي يعيد لقلوبنا حياتها؟ وما الذي يذهب عنها قسوتها؟ فيقول: انظروا إلى ذوي الحاجات بعين العطف والرأفة والشفقة، ومدوا إليهم أيديكم بالعطاء، وفي الحديث: أن رجلاً شكا قسوة قلبه لرسول الله فقال: (امسح رأس اليتيم) ، وهل المراد مجرد مسح رأسه؟ وهل هذا المسكين حالقٌ شعرَه أو لا؟ وليس المراد مجرد إمرار اليد على رأسه، بل الغرض من هذا: التلطف والرأفة والرفق به، ومؤانسته وإذهاب البؤس عنه، وأن تشعره بأنه منك وأنت له. إذاً: المراد بمسح رأس اليتيم هو الإشفاق والرأفة به، وإشعاره بالحفاظ على حسه وشعوره، وتشعره بأنه فرد من أفراد المجتمع، إن فقد أبويه فأنت له أب، وهذا من باب العطف على الناس والرحمة بهم. قال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد:18] ، والنساء شقيقات الرجال.

كيفية استقراض الله من عباده

كيفية استقراض الله من عباده قال تعالى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} [الحديد:18] ، المسكين مصرفٌ للصدقة فقط؛ ولكن التعامل مع الله، فأنت تقرض الله، فهو أعطاك واستقرضك. بعض الآباء يدلل بعض الأبناء فيعطيه ويعطيه ويعطيه ثم قد يقول له: يا فلان! أعطني خمسة ريالات، ثم أعطيك إياها في البيت. فالولد يفرح، ويقول: أبي الذي أعطاني الآن يطلبني! تفضل! لأنه يعلم أن الذي طلب منه الخمسة الآن سيعطيه خمسيناً أو أكثر فيما بعد، لكن إذا قلتَ له: ما عندي شيء، وهو قد أعطاك في الصباح كذا وكذا، فسيقول: أعطيه ويبخل عليَّ؟! لكن رب العزة سبحانه يعطي ويتفضل، ثم يستقرض من عباده ليرحموا عباده، ويشفقوا عليهم، وليُشعر العبد بأن المال إنما هو من الله، وهو الذي سيجازيك؛ لأن من تتصدق عليه لا يستطيع أن يكافئك، فهو في حاجة إلى مساعدتك، فكيف يرد جميلك؟! لا يستطيع. إذاً: حقيقة التصدق إنما هي إقراض لله سبحانه، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} والذي يقرض الله تكون نتيجته: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يضاعف له القرض، ومع هذا له أجر كريم، والله سبحانه يضاعف لمن يشاء بعد السبعمائة.

شهادة الله للأمة بإيمانها بالرسل

شهادة الله للأمة بإيمانها بالرسل قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:19] ، وفي سورة آل عمران قال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16] ، ولم يقل هنا: ورسوله، بل ورسله؛ لأن مؤمني هذه الأمة يؤمنون بجميع الرسل؛ ولأن من كفر برسول واحد فكأنما كفر بجميع الرسل، وقد شهد الله لهذه الأمة بالإيمان بالرسل جميعاً فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ؛ لأن الذي أرسل أولهم هو الذي أرسل آخرهم، والناموس واحد. {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ} [الحديد:19] ، يقولون: (الصِّدِّيقون) أعلى درجة بعد النبوة. ثم قال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] ، أي: الذين آمنوا والذين تصدقوا، وبعض القراء يجعل {وَالشُّهَدَاءُ} ابتداء كلام جديد، وبعضهم يجعل (الشهداء) ثالث الثلاثة الأوصاف المتقدمة، (المصَّدِّقين) و (الصِّدِّقين) و (الشهداء) فالأصناف الثلاثة {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} .

حقيقة الدنيا

حقيقة الدنيا ثم قال تعالى بعد هذا العرض: {اعْلَمُوا} [الحديد:20] : مرة أخرى، هناك {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [الحديد:17] ، لما ندبهم إلى الصدقة وإلى الإقراض والإيمان قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الحديد:20] . هناك: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ} [آل عمران:14] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاِ} [آل عمران:14] . وهنا قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} مثل قوله: (زُيِّنَ) {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] وليس الكفر هنا بمعنى الكفر الذي هو ضد الإسلام، إنما معناه: الزُّرَّاع، كما في الآية الأخرى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] ، وهو المثل الذي ضربه الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح:29] . وهنا قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} يعني: الزُّرَّاع، والزارع يسمى كافراً؛ لأن الكفر في اللغة: الستر، والكافر سمي كافراً لأنه يستر آيات الوحدانية لله، وسمي ظلام الليل كافراً، ويقال: أدخلت يدها في كافر، أي: في ظلام الليل. {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، انظر مَثَل الدنيا! انظر المراحل والتصوير البليغ! {كَمَثَلِ غَيْثٍ} ، نزل وتقبلته الأرض فأنبتت الزرع، وأعجب زارعه، ثم يهيج إلى أقصى حدود بهجته، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) . بعد هذا (فتراه) ، والفاء هنا للتعقيب القريب، بعدما يصل إلى زهرته وإلى أوج نضرته يرجع فيصفَرُّ، وبعد الاصفرار يبقى فترة قليلة، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] ، كيف ينطبق هذا المثال على الدنيا؟ مثال في بني آدم: أول ما يخرج من الرحم مثل الحشيش والنبات الذي نبت لتوِّه، ثم بعد ذلك يأخذ في النمو إلى أن يكتمل شبابه، ويبلغ أوج قوته، ثم يبدأ فيرجع إلى أن ينحني ظهره، ويتحطم ويصير {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج:5] ، ويصير أقل من الطفل، وهكذا الدنيا: تبدأ تزدهر وتصل إلى كمالها، ثم تبدأ في العودة والرجوع حتى تصير حطاماً. ثم قال تعالى في سورة الحديد: {وَفِي الآخِرَةِ. } ، وهناك في سورة آل عمران: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] ، {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} للكفار الذين تقدم ذكرهم {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:20] للذين آمنوا، والذين أقرضوا الله، والذين أنفقوا،. إلى آخر صفاتهم. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ، وفي آل عمران: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] ، وقطعاً الحياة الدنيا متاع الغرور، فمن اغتر بها خسر، كما في قوله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] ، إذاً: الدنيا متاع الغرور، فاحذر أن تغرك الدنيا. وأيُّ عاقل يغتر بهذه الدنيا؟! إن كنت تمتلك مالاً، فهل هو أكثر من مال قارون؟! وإن كان لك ملك وسلطان، فهل هو أكثر من ملك سليمان؟! أنت ضعيف، وكم من الحيوانات أقوى منك. قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، ثم ماذا كان؟ {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] . هل جُمِعت لك النساء؟! سليمان كانت له أكثر من مائة امرأة! هل جُمِعت لك الخيل؟! ومهما كانت كثرتها، وبأي حالة من الحالات فأنت فقير، فلم تغتر بالدنيا؟! ومن هنا من سلم من غرور الدنيا فهو زاهد، فالزاهد من سلم من آفاتها في ذاتها، كما قال بعض السلف: المدر والحجر سواء، وسيأتي التنبيه عليه.

المخرج من فتنة الدنيا

المخرج من فتنة الدنيا قال الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ، وأنت بالخيار، إن وقفت عند متاعها غرَّتك وأهلكتك فيها، وهذا نصيبك، وإن أعرضت عنها -كما أعرض غيرك- سلِمت منها كما سلِم غيرك، يقول بعض العبَّاد: إن لله عباداً فُطَنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيٍّ وطنا جعلوها لجةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا لله عبادٌ فُطناء، فالفَطِن الحقيقي هو الذي لا يغتر بالدنيا، ويضعها في موضعها، والغبي هو الذي تضحك عليه، فليس الزهد أن تعرض عن الدنيا بكل ما فيها؛ ولكن اجمعها بقدر ما تستطيع، وأنفقها في سبيل الخير بقدر ما تستطيع. إذا كانت الدنيا متاع الغرور، وهذا تصويرها ومآلها، فما العمل؟ قال الله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] ، أعرضوا عن هذه الدنيا، والمسابقة إلى المغفرة تكون في الآخرة أم في الدنيا؟ في الدنيا، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] ، بأي شيء؟ بكل أنواع الخير، بدنية أو مالية، {سَابِقُوا} ولم يقل: (بادروا) ، بل {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا. } [الحديد:21] مثل آية آل عمران: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} [آل عمران:16] ، {. لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد:21] ، فالمسابقة إلى الخير ليست بعقلك ولا بجِدِّك؛ ولكنه فضل من الله سبحانه، فالمؤمن إذا وجد نفسه تسعى على طريق الخير فليعلم أنه فضل من الله، ولا يغرنك ذلك، ولا تقولن: هذا بجِدي وفَهمي وعلمي، لا والله! إنه {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142] و: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد:27] ، واعلم أنها نعمة وفضل من الله لك، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] . انظر إلى حقيقة الدنيا! وسبق أن بعضهم قال: الزهد الرضا بالقدر، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} [الحديد:22] ، تلك زينة الحياة الدنيا، وذلك العطاء المتفاضل، المنع والعطاء، كل ذلك {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:22-24] . يقولون: مصيبة الأرض: الجدب وعدم المطر وغيره، وفي أنفسكم: المرض والعافية والفقر والغنى، وكل هذه الأشياء. ما أصاب إنسان من مصيبة كونية أو بدنية أو مالية أيَّاً كانت إلا كانت هذه المصيبة مكتوبة عليه في كتاب من قبل أن يخلق، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] : والبرء هو: الخلق، ومن أسماء الله البارئ المصور. وتقدَّم حديث: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) فإذا كنت تؤمن بالقدر حقاً رضيت عن الله سبحانه وتعالى، وإذا أقبلت عليك الدنيا لم تفرح بها، وإن ذهبت لم تحزن عليها، وأيُّ رفعة للعبد في هذا؟ وكما قيل: الحجر والمدر يستويان. والعاقل لو تأمل! شيء فاتك أتحزن عليه؟! وما يدريك بنتيجة لو جاء؟ في غزوة أحد رجع رئيس المنافقين بثلث الجيش، وفات على المسلمين حضورهم القتال، وحزن المسلمون، ولكن لما انكشف الحجاب ماذا كان الأمر؟ قال سبحانه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] . إذاً: رجوعهم وعدم حضورهم المعركة كان خيراً، وهكذا أنت قد تتمنى مالاً، أو تتمنى ولداً، أو تتمنى وظيفةً، وتتمنى وتتمنى ولكن ما تدري ماذا في تلك الأمنية إن حُقِّقت لك؟ والمجال ليس مجال ذكر القصص في هذا؛ ولكن العاقل لا يحزن على ما فاته بقدر الله. ثم لا تكن شديد الفرح بما جاءك، ولذا يقول بعض الناس: (اجعل ما فاتك صبراً، واجعل ما أتاك شكراً) ، لا تحزن على شيء فاتك؛ لأنه بقضاء الله، ولا تفرح كل الفرح بما جاءك وتفخر به وتتمادى به. {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] : جاءت هذه الآية بعد {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا} [الحديد:23] . صحيحٌ أن الإنسان يفرح بأي نعمة كانت، لو امتلك ثوباً جديداً سيفرح به؛ ولكن فرح شكر للنعمة لا فرح بطر، ولذا أعقبها بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] ، المختال الفخور هو الذي يختال بما جاءه. إذاً: اجعل ما جاءك من الدنيا شكراً لله، واصرفه في مرضاة الله، ولا تجعله خيلاء وفخراً على عباد الله. والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد.

الحديث الثالث والثلاثون

شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والثلاثون

شرح حديث: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)

شرح حديث: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين] . هذا الحديث يعتبر أساساً وأصلاً في علم القضاء، والحديث مع إيجازه يبين واقع العدالة والإنصاف في الإسلام، وأن كل دعوى ليس عليها بينة فهي مرفوضة. وقوله: (لو يعطى) يقولون في علم العربية: (لو) حرف امتناع لوجود (لو يعطى الناس بدعواهم) الدعوى بألف مقصورة، والدعوة بالتاء، والفرق بينهما: أن الدعوى المقصورة هي الادعاء والتقاضي، والدعوة بالتاء: هي الدعوة إلى الوليمة ونحوها. الدعوى تجمع على دعاوى، والدعوة للطعام تجمع على دعوات. يبين صلى الله عليه وسلم أنه لولا البينة ولولا العدالة، وأنه لا يعطى كل إنسان ما ادعاه؛ لتقدم أناس بالدعوى في أموال أشخاص ودمائهم أي: كل يدعي ما يشاء، وليس الأمر كذلك، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر. يقول علماء العربية: (لكن) للاستدراك، ودائماً تأتي بين نفي وإثبات، تقول: ما جاء زيد لكن جاء عمر، ما جاء زيد صباحاً ولكن جاء مساءً، وهنا كذلك واقعة موقعها؛ لأن المعنى لا يعطى الناس كل ما ادعوه، وإنما يعطون بمقتضى البينة، فوقعت (لكن) بين النفي والإثبات في المعنى. أما ألفاظه فقوله: (لو يعطى الناس بدعواهم) أي: فيما يدعون به، (لادعى رجال) ، وهل الحديث خاص بالرجال فقط دون النساء أو أن النساء كذلك؟ A النساء داخلة فيه كذلك، ولكن ذكر الرجال هنا للتغليظ؛؛لأن أكثر ما تكون الدعاوى بين الرجال. (لادعى رجال أموال قوم ودماءهم) ، هنا جاء لفظ القوم بعد لفظ الرجال، فهل القوم هم الرجال أم أن كلمة القوم تعم الرجال والنساء معاً؟ يقولون في العربية: لفظ القوم خاص بالرجال ولا يدخل فيه النساء، واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ، قالوا: لو أن كلمة (قوم) تشمل الجنسين لكانت تكفي عن إعادة ذكر النساء، واستدلوا بقول الشاعر: وما أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء فقابل بين النساء وبين القوم. واستدل الآخرون بألفاظ وردت تدل على أن القوم يشمل الرجال والنساء معاً، ولكن قالوا: يشمله بقرينة التكليف في الشرع. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي- جاء لفظ الحديث باسم الفاعل- واليمين على من أنكر) كان مقتضى السياق واليمين على المنكر، لكن قال في الأول: (البينة على المدعي) ، واليمين على من يقابل المدعي بالإنكار.

القرائن ودورها في إثبات الحقوق

القرائن ودورها في إثبات الحقوق نرجع إلى قوله: (ولكن البينة) ما هي البينة؟ ابن القيم رحمه الله له كتاب نفيس جداً في هذا الباب وهو: الطرق الحكمية، وينبغي لطالب العلم أن يقرأ هذا الكتاب ولو لم يكن قاضياً، ولكن من باب العلم. البينة مأخوذة من البيان، والبينة كل ما يبين الحق ويفصله عن الباطل، وليست قاصرةً على الشهود أو الإقرار فقط، فقد تكون قرينة من القرائن أقوى من مائة شاهد، وقد يتواطأ الشهود على شهادة الزور، وقد يقر الإنسان إقراراً غير واقع، ومن هنا ندعو جميعاً للقضاة: أن ينور الله بصائرهم، ويريهم الحق حقاً، ويرزقهم اتباعه؛ لأن الأمر دقيق جداً، وفي القرآن الكريم والسنة اعتبار القرائن، ومن ذلك ما يلي:

قصة يوسف وما وقع فيها من قرائن معتبرة

قصة يوسف وما وقع فيها من قرائن معتبرة في كتاب الله قصة نبي الله يوسف، ونحن نعلم القضية بكاملها، ولما حصل له الاتهام والسجن برأه الله بما أيده به من القرائن، ومنها: أن شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت، فمجرد شق القميص قرينة على الذي بدأ بالمراودة. وقبل هذا كانت هناك قرينة كاذبة قابلتها قرينة أقوى منها، وذلك أن إخوة يوسف ألقوه في غيابت الجب، {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:16-17] سبحان الله العظيم! بكاء وجاءوا على قميصه بدم كذب ليخبروا أباهم بأن الدم قرينة على أن الذئب أكله، لكن أباهم كان أفقه منهم، فأخذ القميص ونظر فيه فرأى فيه الدم، ولكن فات عليهم أن يمزقوا القميص وقال: يا سبحان الله! متى كان هذا الذئب حليماً كيساً يأكل يوسف ولا يشق قميصه؟! {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18] ، فهم وضعوا في القميص دماً كذباً، وما كان عندهم مختبرات في ذاك الوقت لتحلل هذا الدم، ليروا هل هو دم شاة أم دم إنسان؟ لأنه بإجماع الطب أن دم الإنسان لا يتفق مع أي حيوان من الحيوانات الأخرى، ولا دم حيوان مع أي حيوان آخر، وهذه من حكمة المولى سبحانه، بل دماء البشر مختلفة فيما بينهم، وفيها فصائل مختلفة، وما كل إنسان دمه يتفق مع دم الآخر.

قصة المرأتين اللتين ذهب الذئب بابن أحدهما

قصة المرأتين اللتين ذهب الذئب بابن أحدهما من تاريخ الأمم والأنبياء ما يرويه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين ولد لكل واحدة منهما ولد، فغفلتا عن ولديهما، فجاء الذئب وخطف واحداً من الولدين، فاختلفتا في الولد الموجود، وكل واحدة منهما تدعيه لنفسها، فجاءتا إلى نبي الله داود، وسمع منهما، فحكم به للكبرى، فمرتا على سليمان، فسألهما عن خبرهما، فقالت: هذا ولدي حكم به داود لهذه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: لا تفعل، هو لها، ولا تشق الولد، فانتزعه من الكبرى ودفعه إلى الصغرى) ؛ فالكبرى لم تمنع من شقه؛ لأنها وترت في ولدها وتريد أن توتر الأخرى مثلها، ولما رأى شفقة الصغرى من أن يشق الولد نصفين واختيارها أن يبقى حياً في يد الغير أولى من أن يكون ميتاً، فعرف من قرينة عاطفة الأم أن الولد لها، وعرف من تساهل الأخرى أنها لا تبالي، فانتزعه من الكبرى، ودفعه للصغرى.

عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالقرائن مع حيي بن أخطب وغيره

عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالقرائن مع حُيي بن أخطب وغيره أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير إلى خيبر، وبعد سنة أو سنتين حاصر النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، وجاء حُيي بن أخطب وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل إليه ليكلمه، وفاوضه على الصلح بأن يخرجوا، وليس معهم إلا الثياب التي يلبسونها، ويتركون السلاح والمال والحيوان وكل شيء بشرط ألا يخونوا المسلمين، وإذا خانوا برئت منهم ذمة الله ورسوله، فوافقوا على هذا الشرط، فلما خرجوا سأل رسول الله حُيي بن أخطب عن الذهب، وكان قد خرج من المدينة عند الإجلاء بجلد ثور مليء بالذهب والحلي، فقال: الذهب فني، وأكلته الحروب، فقال صلى الله عليه وسلم: (العهد قريب، والمال كثير) ، يعني: المال كثير، وهذا الوقت القصير لا يأكل هذا المال الكثير، فمعنى هذا أنهم أخفوا المال، فأنكر فدفعه إلى الزبير فمسه بعذاب، وقيل: جاءت امرأة إلى الزبير وقالت: كنت أرى حُيياً يحوم حول تلك الخربة، فذهبوا إلى تلك الخربة، وفتشوا فيها، فوجدوا الذهب مدفوناً هناك، ويقولون في نظام التحقيق والمباحث: المجرم يحوم حول مكان الجريمة، فيراقبون مكانها، ولابد أن يدفعه أمر بدون شعور إلى أن يذهب إلى محل الجريمة ليرى فيها، فجيء به وضربت عنقه. يهمنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (العهد قريب، والمال كثير) فهذه قرينة على أن المال لم يصرف، بل هو باق، وهم قد جحدوا المال، ثم تبين أنه موجود.

من أخبار القضاة

من أخبار القضاة يذكر وكيع -صاحب أخبار القضاة- من فراسة القضاة ما يحار فيه العقل، ومما ذكر عن بعض القضاة أنه جاءه اثنان، فقال أحدهما: كنا في سفر، ونزلنا المنزل الفلاني، وأودعته مالاً، فلما جئنا أنكر المال، فراجعته فيما أودعته إياه ليحمله معه فإذا به ينكر، فسأله القاضي: هل لك بينة؟ قال: ليس عندي بينة، فقال له القاضي: لعلك نسيته في المكان الذي أودعته إياه، وذهب ولم يأخذه! قال: لا أنا متأكد أنه أخذه، وذهبنا والمال معه، فقال القاضي للمدعى عليه: اجلس، وقال للمدعي: اذهب إلى ذاك المكان، وفتش تحت الشجرة التي نمت عندها، وانظر لعلك تجد المال هناك، فذهب بناءً على أمر القاضي، واشتغل القاضي بقضايا الناس عنده، وبعد فترة فاجأ المدعى عليه وقال: صاحبك تأخر، ألم يكن قد وصل حتى الآن؟ فقال: لا، المحل بعيد، فقال: إذاً: أنت تعرف المكان! وحصل بينكما ما حصل، فسلمه للشرطة، وحكم عليه بدفع المال. ويقولون: الإنسان إذا شاور اكتسب عقلاً إلى عقله، وإذا قرأ اكتسب عقلاً إلى عقله.

ما وقع للشيخ من قضايا وعمل فيها بالقرائن

ما وقع للشيخ من قضايا وعمل فيها بالقرائن وللمناسبة، رفعت إليَّ قضية أربعة غير سعوديين، ادعى أحدهم على شخص منهم بخمسة وثمانين ألف ريال -والقضية طويلة، وانظروا -يا إخواني- ما يعانيه القاضي-، وفيها اعتراف وتوقيع فلان، وكتابته: تكلفت بدفع مبلغ كذا لفلان، هو موقع، ويشهد عليه اثنان، والشهود كانوا غير موجودين، فالمدعى عليه أنكر وقال: هذا أنا لا أعرفه، وهذا ليس اسمي، وأخرج إقامة له فيها اسم غير الاسم المكتوب في السند، لو كنتم كلكم قضاة ماذا تقولون؟ ادعى على إنسان، واسم الإنسان ليس موجوداً، وهذا الشخص يحمل إقامة رسمية باسم غير الاسم الموجود في السند، ويقول: هذا الشخص عمري ما رأيته ولا أعرفه، فهل بقي للقاضي شيء بعد هذا يا جماعة؟! ما بقي له شيء، إلا أن الله يحق الحق، فقلت: أخبرني -يا فلان- كيف كتب هذا السند؟ وكيف كتب باسم غيره؟ فضحك شخص، فقلت: لماذا تضحك؟! وراء هذا شيء! فقال: اسمه الحقيقي هو الذي في السند، وسُفر سابقاً وجاء إلى المحل الفلاني، ودخل بهذا الاسم الجديد الذي في الإقامة، وهذه جريمة ثانية! قلت: وهل تعرفه؟ قال: أعرفه من كذا سنة، ونحن بالمملكة يعرف بعضنا بعضاً، قلت: يا فلان! ماذا تقول؟ قال: أبداً. لا أعرفه. وبعد أن تركت القضية وجلسنا جلسة ثانية، والشهود لم يأتوا، وهذا الرجل في السجن، وتجري -قدراً من الله- مناقشة فيما بينهم في كتب السند، فإذا بهم يسكتون، فسألت المنكر- سؤالاً مباغتاً: أين كتب هذا السند في الرياض أو في المدينة؟ فالذي كان يقول: لا أعرف، وليس هذا اسمي قال: كتب هذا السند في المدينة. إذاً: السند صحيح، فأراد أن يتراجع، ولكن قد أنطقه الله بالحق، ثم اعترف وقال: نحن أربعة التزمنا بالمال، فلماذا يدعي عليّ وحدي ويترك البقية؟ فهذا القاضي لما اختصم إليه اثنان، وليس عند المدعي بينة، هل قال: ليس لك عنده شيء، واحلف أنت أيها المنكر؟! لأنه إذا كان عنده استعداد أن يأكل مال الناس فما الذي يمنعه من أن يحلف؟ ولذا ابن القيم يقول: من حصر البينة على شاهدي عدل ربما أضاع حقوق الناس. وكذلك من اعتمد على مجرد الفراسة ربما ظلم الناس، والفراسة تخطئ وتصيب، وإقامة البينة على الدعوى ليس مبدأً في كتاب الله وسنة رسوله فحسب، ولكن رب العزة سبحانه يعامل عباده بالبينة والإقرار قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، وقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] ، فرب العزة لا يخفى عليه شيء، وإذا حكم لا معقب لحكمه، ولكن يأتي العبد يوم القيامة فيقول: ربي! لم أفعل هذا! قال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] ؛ لأن الكافر ينكر، فإذا أنكر وكذّّب الملائكة ينطق الله جوارحه، كما قال الله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] . إذاً: كان رب العزة وهو سبحانه هو القائل عن نفسه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ، ولا تخفى عليه خافية، وهو مع ذلك يعامل الناس بالبينة، فيجب على القضاة أن يحكموا بالبينة.

قصة الجارية التي رض يهودي رأسها بين حجرين

قصة الجارية التي رض يهودي رأسها بين حجرين الرسول صلى الله عليه وسلم جاءته قضية وهي مشهورة عند العلماء في باب الجنايات، وهي أن جارية وجدت وقد رُضّ رأسها بين حجرين، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لها: (من فعل بك هذا؟ وهي لا تتكلم؛ لأنها في حالة لا تسمح لها بالنطق، فأخذوا يعرضون عليها: فلان! فلان! فلان! حتى نطقوا باسم شخص يهودي، فأومأت برأسها: أي نعم) ، فهذه قرينة على حصر الدعوى في فلان. يقول مالك: التدمية لوثٌ، فإذا وجد إنسان يتشحط في دمه، وسئل: من فعل بك هذا؟ وقال: فلان، فـ مالك يعتبر هذا لوثاً، ويبني عليه القسامة، والآخرون يقولون: كيف نأخذ قول إنسان على خصمه؟ فنقول: هذا شخص في آخر لحظات من الدنيا، وأول قدومه على الآخرة، فالأصل أن يرجو فضل الله، ويتجنب الكذب والظلم، فمظنة الصدق منه موجودة. ويهمنا في هذه القضية أن اليهودي وجد جارية عليها ذهب وحلي، فأخذها إلى خربة وأخذ الحلي ورضَّ رأسها بين حجرين. ونقف وقفة ونقول: يا أصحاب الذهب والفضة والأموال! لا تقتلوا صبيانكم بأن تضعوا عليهم من الذهب ما يزيد عن الحاجة. فالطفلة الصغيرة يكفيها شيء يسير جداً تفرح به؛ لأن الذهب أغرى ذاك اليهودي على قتلها، فأهلها شاركوا في قتلها، ومثل هذا تجد ولداً عمره اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، يشتري له أبوه سيارة، ويذهب الولد بدون رخصة فرحاً بالسيارة يلعب بها، ثم يرتكب حادثاً، فمن الذي تسبب في هذا الحادث؟ الذي تسبب هو أبوه، ولو مات الولد في الحادث فأبوه هو الذي ساعد على قتله؛ لأنه أعطاه شيئاً ليس كفؤاً له. وتلك الجارية عرض عليها أسماء أشخاص من أصحاب السوابق، ولم يعرضوا عليها أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، بل عرضوا عليها من هم مظنة لهذا العمل. إذاً: السوابق لها أثر، وصحيفة السوابق عند الشرطة لها أثر في التحقيق الجنائي، ولما قالت: فلان، هل بمجرد ادعائها أُخذ بذلك مع أنه يهودي؟ لا، وإنما جيء به فاعترف، فرضَّ رأسه بين حجرين، أي: عومل بمثل ما فعل بالجارية، ولو قتلها بسلاح لقتل به. ويهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ اليهودي بادعاء الجارية، وإن كان يهودياً فله حق الدفاع عن النفس، فلما أقرَّ أخذ بإقراره، وكان من الممكن أن ينزل وحي على رسول الله بذلك، ولكن لو جاء وحي إلى رسول الله فسيكون الحكم بمقتضى علم رسول الله، والقاضي لا يحكم بعلمه أبداً. فرب العزة لا يخفى عليه شيء، وهو لا يحكم على العبد بعلمه حتى يقيم البينة عليه، مع أنه لا تخفى عليه خافية. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لو جاءه الوحي وأخبره فمن للقضاة بعد ذلك، وهم لا يأتيهم وحي؟ ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة: (إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر! أقضي نحو ما أسمع، فلعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر، فمن أقطعت له شيئاً من حق أخيه فإنما أقتطع له قطعةً من النار) سبحان الله العظيم! أقضي لكم على نحو ما أسمع. فإذا جاء رجل يدعي على شخص آخر، والقاضي يعلم القضية، فينبغي على القاضي أن يقول للمدعي: لا تحتكم إليَّ، وتحاكم عند غيري، وادعني للشهادة، أما أن أكون شاهداً وقاضياً فلا يمكن؛ لأن القاضي لا يحكم بعلمه، ولو حكم بعلمه فسيقول المدعى عليه: القاضي والخصم عليَّ، لكن يذهب إلى القاضي، ويبحث عن شهود آخرين غير القاضي. وفي هذا الباب جُعلت البينة على المدعي؛ لأن القاضي لا يحكم بعلمه، ولابد من تقديم البينة وإقامة ما يبين الحق، وهل البينة مجرد الشهود أو كل ما يبين الحق؟ يجوز للقاضي أن يحكم بالقرائن إذا اطمأن للقرائن، يقول ابن القيم: قد تكون القرينة أقوى من عدة شهود. وقد وجدنا في كتاب الله أن القرينة قد تبطل بقرينة أقوى منها، فقرينة الدم في قميص يوسف بطلت بقرينة سلامة القميص. إذاً: المسألة مسألة إقامة أدلة على صدق الدعوى، وإعمال القرائن لها منزلة كبيرة في الشرع، حتى لا تضيع حقوق الناس.

الإقرار ليس حجة مطلقا

الإقرار ليس حجة مطلقاً يقولون: الإقرار ليس كل شيء، فقد يقر إنسان بما ليس واقعاً لمصلحة يرجوها من الإقرار، ويدرك ذلك من زاول القضاء، وما كل إنسان يدركه. يذكرون عن بعض القضاة أنه دخل عليه شيخ وشاب وادعى الشيخ على الشاب ألف دينار، فقال له القاضي: ما تقول في دعوى المدعي؟ قال: نعم، هي في ذمتي، فقال: اذهبوا وائتوني غداً. وكان القضاة يحضرهم العلماء والفقهاء للمشاورة، فلما قال القاضي: ائتوني غداً، قال جلساؤه: ما هذا التسويف؟! هما مدعٍ ومدعى عليه، والمدعى عليه معترف، فلماذا تؤخرهم إلى الغد؟ لماذا لا تحكم بمقتضى إقراره؟ فقال القاضي: ألم تروا سهولة إقراره؟! يعني: ما هي على العادة المعروفة، وكأنهما جاءا متفقين على هذا. ومن الغد في الصباح الباكر جاء والد ذاك الشاب يشكو إلى القاضي ولده، قال: ماذا به؟ قال: أتلف مالي، وأفسد حالي، إذا أعطيته المال يضيعه، وإذا لم أعطه قامت أمه وفعلت وفعلت، والآن عجز أن يأخذ مني شيئاً، فذهب وتواطأ مع فلان ليدعي عليه بالألف، ويعترف وليس عنده شيء، فتحكم عليه بالسجن، وتصر علي أمه لأخلصه، وأدفع الألف، ويتقاسمانه بينهما! ويهمنا -يا إخوان- معرفة عدالة الإسلام في إقامة البينة على من يدعى عليه، وباب البينة باب واسع.

الفرق بين المدعي والمدعى عليه

الفرق بين المدعي والمدعى عليه من هو المدعي؟ ومن هو المدعى عليه؟ لو التبس الأمر على القاضي، ولم يميز بين مدعٍ ومدعى عليه، فربما قال للمدعي: تحلف؛ ولهذا يتفق العلماء على أن التفريق بين المدعي والمدعى عليه هو أساس القضاء؛ حتى يستطيع القاضي أن يميز بين من يطالب بالبينة، ومن يوجه إليه اليمين. والتفريق بين المدعي والمدعى عليه أن المدعي هو من إذا ترك ترك مع السلامة، والمدعى عليه لا يترك، بل يطالب ويطارد، والتعريف العلمي للمدعي هو: من ادعى شيئاً على خلاف الأصل، والمدعى عليه هو: من كان معه البراءة الأصلية. مثلاً: لو ادعى رجل على آخر ألف ريال، فذمة هذا الشخص غير مرتبطة بشيء، ومعها البراءة من هذه الدعوى. وهذا الذي يدعي الألف يدعي خلاف الأصل؛ لأن الأصل عدم شغل الذمة بحق الآخرين، فحينئذ لو أن القاضي قال لهذا: هات البينة! وقال: ما عندي، ثم قال له: احلف! فسيحلف؛ لأنه ما جاء يدعي إلا وهو مستعد لأن يأكل، فجانب المدعي دائماً أضعف من جانب المدعى عليه، كما يقولون: المدعى عليه بريء حتى تثبت إدانته. قد يقول المدعي: ما عندي بينة، جاءني منتصف الليل، وقال: أنا ظروفي الآن قاسية، أعطني ألف ريال فقال: نكتب سنداً، فقال له: ليل وما عندنا كاتب، فقال له: الله وكيلنا، خذ الألف واذهب، ومن الغد جاء وقال له: ليس بيننا شهود ولا كتابة، فاذهب اشتكي بي أينما تريد! فحينما يعجز هذا عن البينة، نقول لهذا المدعى عليه: يمين الله.

ليس كل دعوى يسمع لها

ليس كل دعوى يسمع لها يقول المالكية: ما كل دعوى تسمع على كل من ادعي عليه، مثال ذلك: لو كان في وقت الموسم شخص مقيم في المدينة، فإذا رجل من خارج المملكة قال له: تعال! لي عندك عشرة آلاف ريال، وهذا المدعي حاج، وعمره ما جاء إلى المدينة من قبل، ولا سافر إلى الهند أو إلى مصر أو إلى أي بلد، فالقاضي إذا عرضت عليه هذه القضية قال للمدعي: بينتك، قال: ما عندي بينة، هل حالاً يقول للمدعى عليه: احلف أنه ليس له عندك عشرة آلاف ريال؟ لا، بل يفكر أولاً: ما هي الرابطة والمناسبة التي ربطت بينهما في عشرة آلاف؟ وليس مجرد ما ادعى نسمع منه. لو أن إنساناً يريد أن يؤذي رجلاً مستقيماً في خلقه وفي أمانته، مستغن في ماله، ما عرف عنه الحِيَل ولا النصب، ولا يقترض من الناس، ومعروف للجميع أنه من علية القوم استقامةً وديانةً ودنيا، فلو جاء إنسان وقال: أنا أدعي على فلان الشيخ الكبير الفلاني أو الأمير الفلاني عشرة آلاف ريال، فنقول له: لماذا أعطيته؟ قال: قرضة حسنة أحتاجها وأعطيته إياها، فنقول له: خذها منه، قال: هو أنكرني، فهل بمجرد هذه الدعوى نأتي بالشيخ الفاضل ونقول له: احلف يا فلان؟! ربما هو يريد أن يحرجه ليعرض عليه اليمين فيفتدي عن يمينه بشيء، وهذا الذي يريده المدعي. ليس كل من ادعى دعوى تسمع منه، ولكن إن وقع للقاضي ما يدل على ذلك فلا مانع أن يحلف كبير القوم، وقد اختصم أُبي بن كعب مع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في جذاذ نخل، كل يدعيها له، فقال أُبي: إنك أمير المؤمنين، قال: لا، ولكن اختر من نحتكم إليه، قال: زيد بن ثابت، فذهبا إلى زيد بن ثابت، فسلما عليه، فرد عليهما السلام، وقال: ها هنا يا أمير المؤمنين؟! فقال: لا ما جئتك أميراً للمؤمنين، إنما جئتك متحاكماً مع خصمي، قال: إذاً: اجلس مع خصمك، ما دعواك يا أُبي؟ قال: جذاذ نخيل لي عنده، قال: ألك بينة عليه؟ قال: لا، ولكن أطلب يمينه، أُبي يطلب اليمين من عمر، فـ زيد تأخذه العاطفة -وهذا ضعف في القضاء- فقال: أو تعفي أمير المؤمنين من اليمين؟ فصاح به عمر: ويحك -يا زيد - أكل الناس تعفيهم من اليمين أم قلت: عمر أمير المؤمنين، وتطلب أن نعفيه؟ لماذا لا يحلف عمر إذا كان صادقاً؟ قال: أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف أن النخل له، وليس لـ أُبي، فصرف القاضي دعوى أُبي لعدم إثباته دعواه، وعدم إقامة البينة، وليمين المدعى عليه، فخرج عمر مع أُبي، وعند باب البيت استوقفه عمر وقال: هل انتهت القضية؟ قال: نعم، قال: ألك عندي شيء؟ قال: لا، ليس لي عندك شيء، قال: النخل لك هديةً مني، فقيل لـ عمر: ولماذا لم تفعل ذلك قبل اليمين؟ قال: مخافة أن يتخذها الناس سنة، ويقولون: عمر لا يحلف، ولكن إن كان محقاً فليحلف وليستحق، وإن كان غير محق ونكل فليحكم عليه. بينما عثمان رضي الله تعالى عنه اُدعي عليه مبلغ تسعة آلاف، ادعاها المقداد، فقال عثمان: هي سبعة آلاف، قال: أتحلف أنها سبعة، وأترك الألفين؟ قال: لا، احلف أنت أنها تسعة، وأعطيك التسعة، وهذا يسمى في نظام القضاء: (رد اليمين على المدعي) ، فإذا رد المدعى عليه اليمين على المدعي، وحلف بمقتضى طلب المدعى عليه، أخذ بذلك القاضي، وإن كان بعض العلماء ردوا ذلك، فحلف المدعي أنها تسعة، فأعطاه تسعة آلاف، فقيل لـ عثمان: عرض عليك اليمين وأنت متأكد أنها سبعة، فلماذا ترد عليه اليمين وتعطيه المال؟ قال: نعم خشيت أن أحلف، فيأتي قدر من الله في أمر ما، فيقول عوام الناس: هذا لأنه حلف كاذباً فجاءه ذلك، يعني: افتدي يمينه بأن ردها على المدعي. وكذلك عبد الله بن عمر باع غلاماً، فجاء المشتري وادعى بأن فيه عيباً كتمه عنه ابن عمر، فقال ابن عمر: ما علمت أن فيه عيباً، ولا كتمت عنك، وكان القاضي عثمان فقال: لك بينة على أن العيب كان موجوداً عند البيع وأخفاه عليك؟ قال: ما عندي بينة، لكن يحلف، فقال ابن عمر: قل له: يقبل العبد على ما هو عليه وإلا رده عليَّ وأخذ ماله، فرده عليه ورد عليه ماله، وبعد سنة باعه بزيادة قدر نصف القيمة زيادة على ما كان عليه. إذاً: بعض الناس قد يحلف، وبعض الناس قد يترك، لكن المبدأ الأساسي أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر.

المسائل المستثناة من قاعدة (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)

المسائل المستثناة من قاعدة (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) هناك مسألتان جاءتا على خلاف الأصل، وهما، اللعان، والقسامة في القتل. واللعان هو: أن الرجل يقذف زوجته -عياذاً بالله- بشخص أجنبي، فالحكم أنه إن أنكرت المرأة يتلاعنا، فيقسم هو أربع مرات أنها زنت، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وهو المدعي عليها، ويدرأ عنها العذاب أن تقسم أربع مرات. إلخ. إذاً: في قضية اللعان بدأ المدعي بالأيمان، فلماذا لا يأتي بالبينة؟ من باب الستر جعل الله سبحانه وتعالى إثبات حد الزنا بأربعة شهود، ولكن كما قال سعد: أتركه، وأذهب آتي بأربعة شهود، ويكون قد قضى حاجته منها؟! لئن رأيته والله! لأضربنه بالسيف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني) . وكما يقال: لا يوجد في الإسلام طريق مسدود، فلولا اللعان لكان كل امرأة أدخلت بيت زوجها من شاءت وقالت: ما عنده بينة، فجعل الله مخرجاً للزوج بالأيمان. إذا جئنا إلى الزوجين، رجل يجاهر ويصرخ بأنه وجد زوجه على كذا، من يستطيع أن يخبر بهذا الخبر دون أن يكون واقعاً؟ إذاً: ضخامة الجريمة أنطقته أمام الناس، وجعلته يفضح نفسه وأهله، فكان لوثاً قوي جانبه في ادعائه، ويحتمل أن يكون صادقاً، فالأيمان دائماً في جانب الأقوى من الطرفين، وهي يدرأ عنها العذاب بالأيمان. وكذلك القسامة، فإنها تثبت مع اللوث، فإذا كان هناك قبيلتان متعاديتان، فوجدت أحد القبيلتين بين بيوت القبيلة الثانية قتيلاً منهم، فجاء أولياء القتيل وقالوا: تلك القبيلة التي تعادينا هم الذين قتلوه، فكلامهم فيه رائحة القوة بسبب العداوة التي بينهم، لكن إذا لم تكن هناك عداوة ولا خصومة ولا شيء، فما الذي يأتي بالتهمة على هؤلاء؟ فيمكن أن يكون هناك جماعة قتلوه ووضعوه عند هؤلاء الناس، وأنتم تعلمون قضية قتيل بني إسرائيل، وكانت المدينة مقسومة قسمين، وكان رجل له بنت، فطلب ابن أخيه من عمه أن يزوجه ابنته فامتنع؛ لأن له مالاً، والخاطب فقير، فماذا فعل الولد؟ قتل عمه ليأخذ ماله، ويتزوج ابنته، ثم حمله إلى جانب القرية من الجهة الثانية، ثم أصبح من الغد يشتكي إلى نبي الله موسى: هؤلاء قتلوا عمي! اخرج لي قاتل عمي، واقتص لي منه! فقالوا: والله! ما قتلناه ولا علمنا بقتله، فقال الله لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] ثم ذبحوا البقرة وقال: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] ، (كذلك) فيه إشارة إلى أمر مطوي في القصة (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) ، فضربوه فأحياه الله، وأخبرهم من قتله، وقال: قتلني ولد أخي! فمثل هذا الإحياء الذي شاهدتم وعاينتم كذلك يحي الله الموتى. إذا كان هناك لوث فمدعي الدم له حق أن يبدأ بالقسامة كما جاء في قضية حويصة ومحيصة في خيبر. إذاً: اليمين في جانب من هو أقوى في الدعوى، وتفاصيل ذلك في كتب الفقه في باب القضاء. ولكن يهمنا في هذا الباب اليمين، واليمين شهادة، وحينما جاء المدعي وادعى بأنه أعطى فلاناً ألفاً مثلاً، وأنكر المدعى عليه أن يكون أخذ شيئاً، وجاء المدعي بشاهدين، وقالا: نشهد أنه أعطاه، ماذا يفعل القاضي؟ يتحتم عليه أن يحكم عليه بمقتضى الشهادة، فيحكم القاضي بشهادة رجلين، مع أنه يمكن أن يكونوا كاذبين، فإذا أعوز المدعي حضور الشهود فهل يضيع الحق؟ لا، بل يأتي باليمين، وما معنى اليمين؟ يقول للقاضي: أنا يعوزني الشهود، ما كان عندنا أحد، ولكن رب العزة شاهد، ويقال للمدعى عليه: أتشهد الله بمعنى: تحلف بالله بأن دعوى خصمك كاذبة، وأنك لم تأخذ منه شيئاً؟ فحينما يقوم المدعى عليه ويقول: أحلف بالله! إنه لكاذب في دعواه، فمن الذي يكون حقاً حاكماً وشاهداً في تلك القضية؟ إنه الله؛ لأن معنى اليمين، أن المدعى عليه يقول: أشهد الله الذي لا تخفى عليه خافية، والذي يعلم صدق المدعي أو كذبه، ويعلم صدقي أو كذبي، فإنه عالم مطلع أنه ليس له عندي شيء، فالذي يصير خصماً للمدعى عليه بعد هذا اليمين هو الله، ومن هنا نعلم معنى الحديث الصحيح: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وما علاقة الشرك بالحلف بالله؟ لأنك عندما تحلف بغير الله كأنك تعطي غير الله بعض صفات الله، إذا حلفت بنبي بملك بصالح بأي شخص، فكأنك أعطيت المحلوف به صفة العلم والاطلاع والقدرة على الانتقام، وهذه لا تكون إلا لله، ولهذا يقول ابن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغير الله صادقاً) لأن الكاذب يعلم بأنه كاذب، وربما يرجع فيستغفر، لا أن يصل إلى حد الشرك، وربما يأتي يستسمح من المدعي، وربما يأتي ويقر ويعترف، وربما خاف من القضاء والسجن وذهب في الخفاء إلى صاحبه وأعطاه الحق، كل ذلك ممكن. إذاً: اليمين معناها: إقامة الله سبحانه شاهداً على رد الدعوى، فإن كان صادقاً فالحمد لله، وإن كان كاذباً فالله هو خصيمه. ولهذا لو تتقصى أحوال الناس، وتتتبع الذين يقسمون بالله كذباً -وهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار- تجد أن الله يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولعل الكثيرين يسمعون أخباراً في ذلك، ولا يقتصر الأمر على يوم القيامة. ومن قضايا اليمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المنبر هنا في المسجد النبوي بعد العصر إذا كانت قضيةً كبيرة، مثلاً في مبالغ كثيرة أو دعوى لها خطرها، فيشرع أن يقسم المدعى عليه بالله بعد العصر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيماً لليمين، وتنبيهاً للمدعى عليه.

صيغة اليمين التي يحلفها المنكر

صيغة اليمين التي يحلفها المنكر صيغة اليمين كما جاء في الأثر: (أن يقسم: والله! الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) . ويروى عن الحسن أنه ادعى على شخص دعوى، وتوجه اليمين إلى الخصم، فقال: الحسن: أنا أحلفه، فقال: قل: والله! ليس له شيء، فقيل: لماذا لم تحلفه بالصيغة: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة؟ قال: لا، أنا لا أريد هذا كله، بل قل: والله! لم آخذ شيئاً، فحلف، فأصيب بما أصيب، فقالوا للحسن: ما السر أنك لم تقبل صيغة اليمين الطويلة العريضة؟ قال: خشيت أن يرحمه الله لأنه عظمه -يعني في قوله: الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة-، فيمهله، وفعلاً كان ما كان. هذا الحديث أظن أنه من اختصاص القضاة، وفي هذا الباب نعلم مدى عدل الإسلام وسماحته، وليخش أولئك الذين يقتحمون أبواب الأيمان الكاذبة أن يعاقبهم الله، وليعلموا أن اليمين تكون على نية المستحلف لا على نية الحالف. والله أسأل: أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحديث الخامس والثلاثون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والثلاثون [1]

رعاية الشريعة لوشائج الأخوة من ناحيتي العدم والوجود

رعاية الشريعة لوشائج الأخوة من ناحيتي العدم والوجود

النهي عن الحسد

النهي عن الحسد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وسيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) رواه مسلم. هذا الحديث الجليل جمع عدة خصال يبين فيها صلى الله عليه وسلم كثيراً من حقوق المسلمين لبعضهم على بعض، ويعالج شخصية المسلم في نفسه وفي تصرفه. ويبدأ صلى الله عليه وسلم بأولى خطايا الخليقة، ألا وهي الحسد، فيقول: (لا تحاسدوا) . ويقول العلماء: الحسد قسمان: حسد مذموم، وحسد ممدوح ويسمى الغبطة، والحسد المذموم: هو تمني زوال نعمة الله عن عبده، والغبطة: أن يتمنى الإنسان من نعمة الله مثل ما أنعم على فلان دون أن يتمنى زوال تلك النعمة، وهو الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) . وكون الإنسان يعطى الحكمة ليقضي بها بين الناس، أو المال ينفقه في سبيل الله ليس فيه مضرة على أحد، ولكن الحسد المذموم -الذي هو أول خطيئة وقعت- هو أن تستكثر النعمة على العبد وتزدريه أمامها، وتستصغره بالنسبة إليها، وتستكثرها عليه، وتتمنى زوالها عنه. ومن هنا قالوا لما خلق الله سبحانه وتعالى أبانا آدم بيديه كرمه وأسجد له الملائكة، وكان إبليس في صف الملائكة، ولا نقول: كان من الملائكة. وكان من عمّار الأرض في عالم الجن أو الحن أو البن -عالم قبل الإنس-، وقاتل في سبيل الله، ويقولون: لم يبق شبر في الأرض إلا وله فيه سجدة، فرفعه الله إلى مصاف الملائكة، ولكنه -ولا حول ولا قوة إلا بالله- أعجِب بنفسه، فلما رأى خلق آدم، وأن أصله من طين، ونظر فإذا المولى سبحانه لم يقل له كبقية الكائنات (كن) فكان، ولكن خلقه بيده، وصوّر حلقته بيده، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر: ثلاثة خلقها الله بيده، خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وخط الألواح لموسى بيده. فلما رأى إبليس تلك النعم العظمى استعظمها على هذا الذي خلِق من حمأ مسنون، ولذا لما أُمر بالسجود امتنع، وقال كما حكى الله تعالى عنه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، يقول علماء الأصول: هذا أول قياس فاسد ويسمونه فساد الاعتبار، والقياس الفاسد الاعتبار هو القياس في مقابل النص، فالمولى يقول له: اسجد. فيذهب إلى القياس فيرى أن أصله من نار، وأصل آدم من طين، ويخطئ في النتيجة، فجعل النار خيراً من الطين، وامتنع اعتزازاً بأصله واحتقاراً لأصل غيره، فما لك وللأصل، وما لك وللمقايسة، إن قال: (اسجد) ، فاسجد ولكن -كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه- أخطأ في المقدمة وفي النتيجة. فمَن الذي قال: إن النار خير من الطين؟ فالنار محرِقة مدمِّرة، والطين مثمر منيبت، فعندما تأتي بالنواة وتلقيها في النار فإنها تضيع وتحترق، وعندما تأتي بالنواة وتلقيها في الطين تصير نخلة ولها طلع هضيم، فأيهما أفضل وأخير؟ لكن الضلال -عياذاً بالله- والكبر والازدراء يعمي البصيرة، فلما استعظم النعمة على آدم احتقر آدم، فتكبر فكان جزاؤه -عياذاً بالله- الطرد المؤبد، وهكذا المعصية تجر إلى معصية أخرى، كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله، وكما يقول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (إذا رأيت الحسنة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيت السيئة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات) أي: أنهن عناوين، والشيء يدل على غيره. وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا) ، وإذا جئنا نحتكم إلى العقل فإنه إذا أعطى الله شخصاً مائة والثاني تسعين فليس للثاني أن يعترض، فهل الذي أعطى صاحبك مائة أنقص من حقك -يا صاحب التسعين- شيئاً؟ وهل أخذ من حقك وأعطاه، أم أنه أعطاه من واسع فضله؟ فإن كان هناك شيء من حقك فخذه، وإذا كان تفضلاً من الله فأعطى وزاد فلا يقال: لِم لَم يكن الحد الأدنى للجميع عشرة؟ فهذا تحكم على الله. فالحاسد يحارب الله، والحاسد معترض على قسمة الله، والله يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:32] ، وانظر في الفرائض، فالبنت لها النصف، والأخت الشقيقة لها النصف فهل لك أن تقول: يا رب! لماذا أعطيت هذا؟ ولماذا أعطيت هذا؟ وإن كان هناك وراء ذلك كله حكم باهرة، لكنه عطاء الله، وليس لك أن تتحكم في عطاء غيرك. فلو قدم عشرة أشخاص أضيافاً على إنسان، فأعطى أحدهم طاقية، وأعطى الثاني عمامة، وأعطى الثالث غير ذلك، فهل لأحدهم أن يقول: لماذا لم تعطني مثل فلان؟ فالله تعالى أعلم بما يصلح العبد، وفي الحديث: (وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك) ، فهو بصير بعباده، والعطاء كله من الله، والإمام علي رضي الله تعالى عنه يقول: (لو نظر الناس في أعطياتهم، ونظروا بعقل وتدبر لوجدوها متساوية متعادلة) ، فربما أعطي شخص ألف الدنانير، وأعطي غيره عشرة دنانير فقط، وفي باب الصحة أعطى صاحب الألف دينار عشرة في المائة من الصحة، وأعطى صاحب العشرة تسعين في المائة، فأعطى، وساوى في مجموع المال والصحة. والعقل والذكاء والعلم والتوفيق كلها أعطيات، فلو جمعت ما أعطاك الله في صحة البدن، وفي عقلك، وفي ذكائك وفي ارتياحك النفسي وطمأنينتك في حياتك خرجت بنتيجة متعادلة، فينقص هذا ويزيد ذاك والناس كلهم عند الله سواء، وكلهم عباد الله، وهو أدرى بأعطياتهم. وليس لك حق في أن تعترض على عطاء الله لغيرك، والواجب عليك أن ترضى بما أعطاك، فإذا رضيت بما أعطاك لا تتطلع إلى ما أعطى غيرك، ولعله لو زادك كانت الزيادة تطغيك وتهلكك، فإنسان حُرم الولد، فعاش حَجِلاً من الناس لا يدري لو جاء له ولد ماذا يفعل معه؟ فيمكن أن يتمنى على الله أنه لم يأت هذا الولد، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] . فالخضر عليه السلام قتل الغلام مخافة على أبويه، قال تعالى عنه: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] ، فقتله ليَسْلَم الأبوان من شره. وكذلك قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] . فاحمد ربك أنه جنب عنك الطغيان، ومهما أوتي العبد فما عساه يكون حاله ومآله، وتأمل مصير فرعون وهامان وقارون، بل وأهل الدنيا كلهم، فماذا أخذوا منها؟ وأين ذهبوا؟! فإذا تحاسد الناس تقاطعوا وتخاصموا، وانقطعت الصلات بينهم، ولكن إذا تحابوا وتقاربوا وتراضوا وتعاطفوا كانت المجتمعات كلها أمة واحدة، فالداء الذي قتل الأمم هو الحسد. ولذا بعض الناس يقول: الحاسد عينه تتقلب في نعم الله، وقلبه يتوقد ناراً. وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان مع أصحابه فقال: (يخرج عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة) ، فإذا رجل يخرج حاملاً نعليه في يديه تقطر لحيته ماءً من وضوئه، وفي اليوم الثاني في نفس المجلس قال صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) ، فإذا الرجل الذي جاء بالأمس هو الذي جاء. فقال عبد الله بن عمرو: إن هذا ليس من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الملازمين له، وليس له شأن يميزه عن غيره، فيجب أن أرى السر الذي جعله من أهل الجنة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، فتبعه حتى عرف بيته، فجاءه بعد العشاء وطرق الباب، وقال له: بيني وبين أبي ما قد يكون بين الولد وأبيه، ولا أريد أن أبيت عنده، وأريد أن أكون ضيفك الليلة. وأراد أن ينظر إلى ما يكون من عمله في الليل، فكان أن تعشى الرجل وتعشى معه ضيفه، وناما إلى أذان الفجر، فقام وتوضأ فأوتر وصلى ركعتي الفجر، وذهب وصلى الفجر. فقال: ما هناك شيء جديد، ولعله في تعب، أو لعله يستحيي مني، إلا أنه فعل في الليلة الثانية والثالثة ما فعل في الأولى، فقال عبد الله: يا فلان! أصدقك الحديث، أنه ليس بيني وبين أبي شيء، ولكن وقع كذا وكذا، فأخبرني ما هي خبيئة السر التي لك عند الله؟ قال: يا ابن أخي! ليس عندي إلا ما رأيت، وليس لي شيءٌ خاص أخفيته عنك، فهذه حياتي. فذهب ولم يظفر بشيء، وبعدما ذهب ناداه فقال: إن يكن من شيء -أي: إن كان هناك شيء يميزني- فإنا نبيت وليس في قلوبنا غلٌ لأحد. فمن يقدر على هذ!؟ فهذه صفة أهل الجنة، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر:47] ، فوجود الغل يتنافى مع الأخوة، فالأخوة رقيقة شفافة لطيفة هادئة، لا تناسب ولا تجانس الغل ولا الحقد ولا الحسد. فهي مثل المسك الطيب لا يتجانس مع الروائح الكريهة أبداً، فهذا الرجل في الدنيا يعيش بقلب رجل من أهل الجنة، ولذا يبشره صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو حي يمشي على قدميه. فإذا رجعتم إلى بيوتكم، وأخذتم مضاجعكم، وأغمضتم الأعين فمن كان سليم الصدر فليحمد الله، ومن حدثته نفسه بشيء فليجلس وليتساءل: ماذا سأصنع؟ وما الذي سيعود علي؟ ولينتهر نفسه وليقل لها: أرقتيني وأتعبتيني فدعيني أنام. لأن صاحب الحسد والحقد على الناس إنما يتعب نفسه، فخصمك وعدوك وقرينك في محله لا يدري عنك، وقد يكون هادئ البال في أحسن نوم، وأنت تحرق نفسك في فراشك، وهذا لا يجدي شيئاً. ولكن قد يكون الحسد من ج

تحريم التناجش في البيع والشراء

تحريم التناجش في البيع والشراء يعقب النهي عن الحسد قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تناجشوا) ، والتناجش أو النجش نتيجة للحسد، والناجش: السائم في السلعة بدون رغبة في شرائها. كما إذا جاء إنسان إلى سلعة في السوق تباع بالمزاد العلني، فعرضت بخمسة، ثم صارت بستة، ثم بسبعة، فيأتي إنسان صديق للبائع أو خصم للمشتري -ومن هنا ينشأ النجش-، فيأتي وقد وقفت البيعة على سبعة فيقول: أشتريها بثمانية. وإذا كانت بتسعة يقول: بأحد عشر. فيدخل ويزيد، وغرضه بهذه الزيادة أحد أمرين: إما زيادة الثمن منفعة للبائع، وإما ارتفاع السعر تغريراً للمشتري، ولا تخرج عن هذين الأمرين، فعنصر الحسد موجود، والرغبة في المضرة موجودة، ومحاولة زيادة الثمن على المشتري موجودة، ولماذا تغرر به وتزيد عليه؟ إنه الحسد، حيث يحسده على شرائها. وهنا يقول العلماء: لو وقع النجش في سلعة واشترى المشتري على اعتبار أن المتزايدين كلهم يرغبون في شراء السلعة وأن المزاد صحيح، ثم علم أن هناك من كان ينجش معه، فالجمهور على أنه بالخيار كل، فإن شاء أمضى البيع على ما رست عليه السلعة، وإن شاء ردها، وإن شاء أخذ فرق النجش من السعر الأصلي. وهذا في باب المعاملات وباب البيوع، فليحذر أولئك الذين يريدون أن ينفعوا أشخاصاً على حساب الآخرين، فإن كان لك رغبة في الشراء مثل غيرك فاشتر، وإلا فارتك المساومة.

النهي عن التباغض والتدابر

النهي عن التباغض والتدابر قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تباغضوا) . فبدأ بالحسد، والحسد جر إلى تكليف المحسود بغرامة، وليس الحسد في النفس فقط، ولكنه تعدى إلى الضرر، فهو يجر إلى التلف وإلى الغرامة، وعندما تغرِّم إنساناً شيئاً في غير محله أيحبك أم يبغضك؟ فالحسد هو أصل الخطأ في التباغض، فكم أدى إلى أن يبغض الناس بعضهم، وإذا كان الناس يعيشون متحاسدين متباغضين يبغض بعضهم بعضاً، فأية حياة هذه؟ فقوله: (ولا تباغضوا) أي: لا يبغض بعضكم بعضاً. وإذا ما تباغض الناس فهل يتصافحون ويتعانقون أم يتدابرون؟ ولهذا قال: (ولا تدابروا) ، والتدابر: أن يعطي كل واحد ظهره للآخر، فبدلاً من أن يقبل عليه بوجهه يوليه ظهره، ويدبر عنه، والتدابر هذا نتيجة البغض، والبغض جاء من الغرامة التي كانت في النجش، والنجش وسببه الحسد؛ فرجعت هذه الخطايا كلها إلى الحسد. وقوله هنا: (ولا تباغضوا) لكون هذا العمل كأنه يهدم كل ما جاءت به الشريعة الإسلامية؛ لأن الإسلام جاء ليؤلف بين الناس، فأذهب الحواجز التي تفرق بين غني وفقير، وأمير ومأمور، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيما سيأتي: (وكونوا عباد الله إخواناً) ، فحقيقة الإسلام، وحقيقة الرسالات في الأمم كلها المؤاخاة بين بني الإنسان؛ لأنهم في الأصل إخوة أبوهم واحد وأمهم واحدة. ولكن الحسد الذي يتعدى إلى الضرر يأتي بالتباغض والتدابر، وإذا وقع التدابر وقع التباغض. وهل قوله: (ولا تباغضوا) ، يتضمن النهي عن النجش وعن هذه الأمور؟ وA أن كل ما فيه إيجاد التباغض بين أفراد الأمة يجب على الإنسان أن يتجنبه، إن لم يكن تديناً فمن باب المروءة. فعلامَ تبغض إنساناً مثلك فإن أخذ لك حقاً فإما أن تعفو وتصفح وتغفر، وإما أن تأخذ حقك بالمساواة، وبلا تباغض.

النهي عن أن يبيع المسلم على بيع أخيه

النهي عن أن يبيع المسلم على بيع أخيه قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم بعضكم على بيع بعض) ، وكأنا رجعنا إلى السوق مرة أخرى، فهناك نهي عن النجش، وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وهنا نهي لعامة التجار إذ قال: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) ، وجاءت منهيات أخرى تضم إلى قوله: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) حيث ورد: (ولا يسم المسلم على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبته) ، فلا ينبغي لإنسان أن يبيع على بيع أخيه، ولا يساوم على سومه ليشتري على شراء أخيه ولا يخطب امرأة على خطبة أخيه؛ حفاظاً على التآخي، ومنعاً للتشاحن والتباغض. وبيعك على بيع أخيك يصوره العلماء بعدة صور: منها: تاجران متجاوران، أو شخصان متقاربان علم أحدهما أن صاحبه باع سلعة لفلان، وفلان المشتري ذهب ليشاور، أو ليأتي بالنقد، أو كان بينهما موعد بعد يومين أو ثلاثة، فيذهب التاجر الآخر إلى المشتري فيقول له: كيف فعلت؟ فيقول: اشتريت من فلان سلعة، فيقول: بكم؟ فيقول: بعشرين. فيقول: هي عندي بثمانية عشر. أو يقول: باعك سلعة مغشوشة، وأنا عندي سلعة جيدة أبيعكها بعشرين ولا أزيد عليك. فما الذي يحمله على هذا البيع المتذرع به؟ هل رغبة في نفع نفسه فقط، أم لإيقاع المضرة بغيره؟ فإن كان فيه نفع لك فإنك أوقعت المضرة بغيرك إذا علم صاحبك بهذا، ومن هنا يأتي التباغض والتدابر، وتقطع الأرحام، وتتباغض النفوس. ويقولون: يكون هذا ممنوعاً إذا اتفق المتساومان، أما لو كانت السلعة في السوق، وإنسان يسوم بخمسة، وآخر بستة فلا نقول له: لا تساوم على سومه، ولا تتقدم عليه؛ لأنها معروضة في المزاد للجميع، وليس هناك اتفاق من البائع مع أحد، فهي في سلم السوم، وما دام أنه ليس هناك نجش فلا مانع أن تساوم، لكن إذا انقطع السوم، أو كانت في محل بدون مزايدة، واشترى شخص السلعة واتفق معه، فلا يجوز لك أن تأتي من الخلف لتفسد البيع عليه، فتقول له: أنا آتيك بأحسن منها. وسواءٌ أكانت عنده سلعة أم كان دلالاً في السوق، فلا يفسد على الناس البيع الذي وقع. ومن صور السوم على سوم المسلم: أن المشتري يذهب بعد الاتفاق على السلعة للاستشارة، أو ليحضر المال، وهناك شخص واقف عند المكان يسمع، فيسأل صاحب السلعة: لماذا لم يأخذ المبتاع السلعة؟ فيقول له: اتفقنا وذهب ليأتي بالمال، فيقول له: الفلوس حاضرة، فخذها وأعطني السلعة. فإذا كان مالك حاضراً فسمت على سوم أخيك الذي ذهب، وأغريت البائع بأن يدفع إليك السلعة لكون الذي ذهب لا يعرف هل يأتي أم لا، أو إذا كانا اتفقا على عشرين بعشر، فتقول له: خذ واحداً وعشرين وأعطني فهذا سوم على سومه.

النهي عن أن يخطب المسلم على خطبة أخيه

النهي عن أن يخطب المسلم على خطبة أخيه قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخطب على خطبته) . إذا تقدم شخص إلى أسرة وخطب امرأة، وأصبحوا يتفاوضون ويتفاهمون في كيفية الزواج ومقدار الصداق، وكانوا قد اطمأنوا إليه فإنه يكون قد ركن بعضهم إلى بعض. وقد يأتي شخص يرى نفسه فوق ذاك الخاطب الأول، ويعلم من نفسه أنهم يطمعون فيه، فيأتي ويخطبها، وحينئذٍ فأقل شيء يقولونه أن يقولوا: لو تقدمت قبله، ليتك تقدمت من زمان، فبنتنا ضاع نصيبها مع هذا. فيفسد عليهم رضاهم بالخاطب الأول، فإذا ضعُفَت نفوسهم وقالوا: قبلناك يأتي الأول فيقولون له: لقد تأخرت، فيقول: نحن متفقون، فدعونا نتفاهم. فيقولون: لا. وحقيقة أمرهم أن المال جاء من جهة، والطمع والفساد جاءا من جهة أخرى. وهنا يقول الحنابلة: إن كانوا قد ركنوا إليه، وجاء خاطب وخطب فقبلوه فُسِخ العقد؛ لأنه معتدٍ، ولا يحق له أن يدخل عليها، ولو دخل عليها يفسخ هذا النكاح عند الحنابلة. وهذا من المزاحمة المذمومة وشح النفس. فإذا حسنت المعاملات، انقضى خطر الحسد، ومنع التناجش، وإذا لم يكن هناك بيع الآخرين، ولا تدابر فإنه سيصبح المجتمع بغير حسد، ولا بغض، ولا تدابر، ولن تجد إنساناً يتمنى مضرة لأخيه، وسيصبحون عباداً لله إخواناً. ومن عمل شيئاً من تلك المسميات فبعيد أن يكون من عباد الله المتآخين، وإنما يكون منتهكاً حرمة الأخوة بين الناس التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا) . لو نظرنا وتأملنا فما أطيب كلمة (إخوان) ، فأنت أخي، وأنا أخ لك، والله تعالى يقول: (إنما المؤمنون إخوة) ، أما الأحساب والأنساب والمراكز والمواقف والعطاءات والأشكال فكلها نسبية، فإذا كان إنسان في أعلى نسب في الأمة، فهل كان له كسب وعمل حتى صار نسيباً؟ فالله سبحانه وتعالى أراد لك أن تأتي من أبوين شريفين نسيبين نسباً عالياً، وأنت حينما حُملت في البطن ونزلت إلى الدنيا ليس لك فضل في كونك حسيباً. وفرق بين النسب والحسب، فالنسب: هو صفة الأبوين، وما ينتميان إليه من هذه القبيلة أو تلك والحسب: هو ما يوجد لأسلافه من أمجاد مكتسبة يحسبها ويقول: كان أبي كذا. وكان جدي كذا. وخالي عالم، وابن عمي صفته كذا. وأمي من كذا. ويحسب أشياء مما يتفاخر بها الناس من المكتسبات. فكونك نسيباً لا فضل لك فيه، إنما هو شرف حصلت عليه فضلاً من الله، وكذلك كونك حسيباً، فماذا فعلت أنت حتى تشرف بفعلك؟ أتتشرف بفعل غيرك؟ فغيرك قد حسبوا، وأصبحوا من أهل الحسب الرفيع والفخار الكبير. كبعض الناس الآن، حيث يتشدق قائلاً: كانت لنا الدنيا وكنا قادة. فهؤلاء يقال لهم: وماذا فعلتم أنتم؟ هدمتم ذاك الحسب، وضيعتم ذاك الحسب، فاعملوا كما عمل أولئك. وتجد صاحب المال الكثير يتعالى على الفقير المسكين، فهو مال وعرض، وظل زائل يأتي ويذهب، كما قيل: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وقيل: وما تدري إذا يممت أرضاً بأي الأرض يدركك المبيت وكم من غني يصبح لا شيء عنده، وكم من فقير تفتح له الدنيا زهرتها؛ لأنه ليس لها قيمة، فهل هذا يطغيه أو يلهيه أو يشغله؟ فكل هذه الأشياء لا ينبغي أن تفرق بين بني الإنسان.

الأمر بالتآخي

الأمر بالتآخي قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخواناً) . قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا) يوجه فيه إلى الناس الكينونة، كأنهم باستطاعتهم أن يصبحوا إخواناً، وهل هذا على ظاهره في هذا المقام؟ إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أن أخوة المسلمين فيما بينهم لها أصلان: أصلٌ منحة وهبة من الله تعالى، وأصل أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه. أما الأصل هو الذي هو هبة من الله فإنه سبحانه يذَّكر عباده ويمتن عليهم به فيقول: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] . وهي نعمة الإسلام، فلقد رأينا في مطلع فجر الإسلام الأجناس المختلفة من الأقطار المتباعدة تتآخي تحت ظل دوحة الإسلام، فها هو صلى الله عليه وسلم في مكة يأتيه صهيب الرومي، ويأتيه بلال الحبشي، وفي المدينة يأتيه سلمان الفارسي، وكل أولئك إخوة في الله الذي جمع العرب مع العجم. يقول الشاعر: أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم فحينما اختلف سلمان المهاجرون والأنصار في غزوة الخندق كان المهاجرون يقولون: سلمان منا، جاء مهاجراً من بلاد فارس. والأنصار يقولون: سلمان منا كان موجوداً حين قدم علينا رسول الله، فهو فارسي يتنافس فيه المهاجرون والأنصار، ويقضي فيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلمان منا أهل البيت) ، ولم يكن هاشمياً أو قرشياً فكان من آل البيت أعلى قمة نسب في العالم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فأنا خيار من خيار) ، وذلك بالإيمان، قال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] . تلك الأخوة كانت أقوى وأعز من أخوة النسب والدم، حتى إنهم كانوا يتوارثون بها، وظهرت آثارها عملياً في ثلاثة مواطن يعجز خطيب أو كاتب أو شاعر أو أديب أو معبر بأي أسلوب أن يصور حقيقة المعنى. ففي غزوة أحد سنة ثلاث من الهجرة يأتي المشركون وكان فيهم ابن أبي بكر الصديق، ولم يكن أسلم بعد، ونظام القتال أوله المبارزة، فيخرج الابن ويقول: من يبارز؟ فينهض أبو بكر ليبارز ولده، فيمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أبق على نفسك يا أبا بكر، فهذا أب يبارز ابنه، فهو قاتل أو مقتول، فإن قَتل قَتل مَن؟ وإن قُتل قُتل بيد من؟ فهما مصيبتان. فـ أبو بكر إذا قتل قتل بيد ولده، فذلك أشد على نفسه من أن يقتل على يد أبي جهل أو غيره. وفي غزوة المريسيع حدث أن غلاماً لـ عمر وغلاماً لأنصاري ازدحما عند الماء فضرب غلام عمر غلام عبد الله بن أُبي أو الأنصاري، فصاح أحدهما: ياللمهاجرين، وصاح الآخر: ياللأنصار؟ ودبت فيهم نحوه سابقة، فبلغت تلك المقالة عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين فقال: أو قالوها؟! ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغت المقالة رسول الله فشغل الناس بالسير في القيلولة حتى وصل باب المدينة، وهناك أنكر مقالته التي قالها واعتذر وكذب الخبر، وجاء الوحي وكذبه، قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] ، فأتى عبد الله بن أبي إلى أبيه عند أبواب المدينة واستل سيفه وأمسك زمام ناقة أبيه، وقال: والله لن تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله. ويقولون: كان من أبر الشباب بأبيه. فأين ذهبت الرابطة النسبية؟ وأين ذهبت الأبوة والبنوة والبر؟ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، وقال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، فتلك الأخوة التي هي نعمة من الله أقوى تلاحماً وترابطاً من البنوة والأبوة في النسب. فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر عبد الله مع أبيه أرسل إليه أن: دعه يدخل. فدخل بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد فترة تنافل الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أبي، فيأتي ولده ويقول: يا رسول الله! سمعت أنك تريد قتل فلان -وما قال أبي، فإن كنت فاعلاً لا محالة فمرني آتيك برأسه؛ إني لأخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا أستطيع أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتله فأهلك؛ لأني قتلت مسلماً بكافر. فانظر إلى أي حد بلغ هذا، فهو مستعد أن يتولى قتل أبيه حرصاً على المسلمين؛ لأنه -من باب الحمية- لا يقوى على أن يرى قاتل أبيه، ولو كان أبوه كافراً وقاتله مسلماً، فيندفع وراء تلك الغريزة فيقتل قاتل أبيه، وبما أن قاتل أبيه مسلم، فحينئذٍ يكون قد قتل مسلماً بكافر، وهذه مصيبة لا يرضاها، بل هي الهلاك فقوله تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، هو العنصر العملي الذي كلفنا به من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الحجرات قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] ، وقال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] ، وإذا أخذت من أول السورة بعد آدابها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد الإصلاح بين الطوائف المسلمين في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائفَتَان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9-10] . والآية تزيل عوامل البغضاء والقتل، بداية من سوء الظن بأخيك، ثم الانتقال إلى عدم التجسس وراءه، ثم الانتقال إلى ألاَّ تتبع التجسس بالغيبة، إلى آخر ما أتى في السورة. ومما يهمنا هنا فعله صلى الله عليه وسلم في غرس المحبة، حيث يقول: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا) ، فالجنة لا يدخل فيها إلا المتحابون، أما المتباغضون فليس لهم محل؛ لأن الجنة لا تصلح للتباغض، وهي أطهر من أن تسع متباغضين، والمولى سبحانه -كما جاء في الأحاديث- في بعض ليالي السنة المفضلة يطلع على أهل الأرض فيغفر لهم جميعاً إلا المتخاصمَين، فيقول: (أرجئوهما حتى يصطلحا) ، فكيف نتباغض؟ وكيف نكون متباغضين في الجنة؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ -فهي وسيلة المحبة التي يمكن أن تكتسبوها أنتم- أفشوا السلام بينكم) ، وجاء الحديث الآخر: (تهادوا تحابوا) ، والهدية تسل الضغينة من الصدر، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى أن تتعاطف مع أخيك أن تبدأه بالسلام، وأن تبادله الهدايا، وجاء الحديث الصحيح: (حق المسلم على المسلم ست) ، فإذا أديت حق أخيك وأدى حقك، عندها تكونان متحابين، وهذه الخصال الست هي قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) . فإذا لقيته سلم عليه وقل: (السلام عليكم) ، وإن دعاك لوليمة فأجبه، وإذا طلب منك النصح فانصح له، وإن غاب عنك أو مرض فعده، وإذا قضى نحبه ومات فشيعه. فإذا وفى كل إنسان حق أخيه عليه كان الناس عباد الله إخواناً. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا) ، قد يقول قائل: على أي شيء هذه الأخوة؟ فيقال: مبدأ الإسلام المؤاخاة، فالمسلم -حقيقة- أخو المسلم، ولا يقال: كيف يكونان أخوين وأحدهما عربي والآخر عجمي، وهذا من الشرق وهذا من الغرب، فمن أين جاءت الأخوة؟ فأخوة النسب لا كسب لك فيها، فأخوك شقيقك لا تستطيع أن تلغي أخوته، وهي مفروضة عليك شئت أم أبيت، ولكن الأخوة التي لك هي أن تتخذ كل من قال: (لا إله إلا الله) أخاً، وهذه الكلمة هي النسب الأعلى، فالمسلم أخو المسلم، سواءٌ أكان إخباراً بالواقع أم أمراً في صورة الإخبار، كما قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:233] ، فهو إخبار بالإرضاع، أو تكليف بأن يرضعن. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم) ، ومقتضى تلك الأخوة ليس ادعاءً، وليس -كما يقول بعض الناس- إشارة في إثبات الهوية أو في جواز السفر، فليس الإسلام بالبطاقة كما يعبر بعض الناس، وإنما هو عمل، وما دام المسلم أخا المسلم فمقتضى الأخوة وثمنها ألا يظلمه، فظلمك أخاك عجب، وإذا ظلمت أخاك فمن ستنصف؟ ولذلك قال: (لا يظلمه) ، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخذله) وفرق بين الظلم والخذلان، فالظلم: أن يصدر منك ما يؤذيه، والخذلان: أن تترك غيرك يظلمه وأنت تنظر، وهذا ليس من صفة المسلم، ولا من مقتضيات الإخاء، فالأخ حقيقة هو الذي يناصر أخاه، وقد جاء في الأثر: (ما من امرئ مسلم يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من حقه وينتهك فيه عرضه إلا خذله الله في موطن يجب فيه نصرته ... ) فيأتيك وقت تحتاج فيه إلى النصرة فلا تجد؛ لأنك فرطت في نصرة أخيك. وجاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقال رجل: يا رسول! الله أنصره إذا كان مظلو

النهي عن غش المسلم واحتقاره

النهي عن غش المسلم واحتقاره قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يكذبه) . يقولون: يكفي الإنسان دناءة أن يحدث إنساناً بحديث يظنه صادقاً فيه والمتحدث يعلم كذبه، وأعتقد أن هذا منتهى ما يمكن أن ينزل إليه الإنسان، فشخص يأتمنك ويأخذ كلامك مأخذ الصدق كيف يسوغ لك أن تكذب عليه؟ وإذا أخذنا بهذه فقط -أي: (لا يكذبه) - وعملنا بها صلح المجتمع كله. فعند الحسد لا تحسده، والناجش يقال له: إذا كنت تسوم سوماً صحيحاً فافعل، وإلا فلا تناجش، ولا تبغض أخاك. ففي المعاملات، وفي المواعيد، وفي العهود، وفي كل ما يمكن في حياة الإنسان إذا استمسك الجميع بقوله (لا يكذبه) كان الجميع على صفاء وعلى صراط مستقيم. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره) ، وهذا عود على بدء، وهذا من أساليب القرآن الكريم والسنة النبوية، فإنه إذا طال المقام يعاد للتذكير بما تقدم. ففي سورة البقرة يقول تعالى في أولها: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:2-3] ، وفي آخر سورة البقرة يقول تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ،فبدأت السورة بالإيمان، وانتهت ورجعت إلى الإيمان. فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يكذبه) ، سلم الجميع. (ولا يحقره) ، يرجع إلى أول شيء وهو الحسد، وسبب الحسد أنك احتقرت الإنسان على ما أعطاه الله من نعم، فاستكثرتها عليه، ولو أنك لم تحتقره لما استكثرت النعمة عليه. ولو كان شخصاً كبيراً وعظيماً ذا شأن لاستقللت النعمة عليه، ولقلت: هو يحتاج إلى زيادة، لكن احتقرته بالنسبة لما أعطاه الله؛ لأن منشأ الحسد أن تحقر المحسود، ثم تتكبر وتتعاظم عليه. ومن هنا كانت نتائج تلك الأخوة بين المتآخيين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه) ، فالإنسان لا يظلم نفسه، فكذلك لا يظلم أخاه. ومن فضائل تلك الأخوة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنها من دواعي ومن أسباب إكرام الله للمتآخين يوم القيامة بأن يظلهم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله) وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) . ومن العجيب أيضاً أن تلك الأخوة في الله تصحب هؤلاء المتآخين إلى الجنة بكل رحابة صدر وسلامة، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] ، والأخوة في الله لا يستطيع إنسان أن يعطيه حقها، ويترتب على ذلك -كما أشرنا- ألا يظلمه، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) . فقال: (يا عبادي!) ولم يقل (يا مسلمون) أو: (يا مؤمنون) . فالله سبحانه وتعالى حرم الظلم على العباد ولو كانوا كافرين، ولا ينبغي للإنسان أن يظلم غيره، بل يقول العلماء: لا تظلم أحداً ولو حيواناً، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن المرأة البغي التي سقت الكلب لما اشتد به العطش، فشكر الله لها فغفر الله لها ذنوبها. ولما سأل الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) ، ولا يجوز أن تحمل الدابة فوق طاقتها. فالظلم ممنوع، وكما جاء في الحديث: (الظلم ظلمات يوم القيامة) ، ولو كان المظلوم كافراً فأنت مخطئ، فقد جاء في الحديث: (واتق ودعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) . والمشركون كانوا إذا جاءتهم الشدائد والعواصف في البحر وغيره يدعون الله وحده، كما جاء في قصة عكرمة لما هرب عام الفتح وركب في السفينة وهاج بهم البحر، فقال ربان السفينة: أيها الناس! سلوا الله وحده أن ينجيكم، والله لا ينجي من هذه إلا الله فقال عكرمة: إذا كان لا ينجي في البحر إلا الله فلا ينجي في البر إلا الله، لئن أنجيتني -يا رب- من هذه لآتين محمداً فأضع يدي في يده. فهو هارب من الإسلام، وهارب من قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] ، والمشركون يقولون -كما حكى الله تعالى عنهم-: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، فلمّا علم أنه ليس هناك عند الشدة إلا الله، قال: نرجع إليه وحده. وحصين لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) ، ومع هذا الكفر يحرم الله تعالى ظلمهم. فإذا كان هذا مع الحيوان ومع الكافر فكيف بالإنسان المسلم، وله عليك أخوة الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه ولا يخذله) ، وخذلانه أن تراه في موقف يذل فيه، وتستطيع أن ترفع عنه الذلة وتتركه. ولذلك يقولون: زكاة الجاه كزكاة المال، فزكاة الجاه والمنصب أن تتدخل لنصرة أخيك المسلم إذا استطعت أن تنصره، فلا تسلمه لعدوه، ولا تخذله حينما يستنصر بك وأنت قادر على نصرته؛ لأنه من حق الأخوة، وإذا تركته يُخذل وأنت ترى بعينك فإنه أيضاً سيتركك إذا أوذيت، فتقف معه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

الحديث الخامس والثلاثون [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والثلاثون [2]

تحريم الكذب على المسلم

تحريم الكذب على المسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يلظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره ... ) فنهى عن الكذب عليه بقوله: (ولا يكذبه) ، فمن أعظم الخيانة أن تحدث الرجل بالحديث يظنك صادقاً وأنت كاذب. فليس هناك خسيسة أردأ من الكذب؛ لأن الإنسان ما عنده حبل يقاد ويربط به إلا الكلمة التي يقولها، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء:34] ، فالوفاء يكون بالعهد وبالعقود، فتقول الكلمة وتلتزم بها، وقد جاء في قصة أبي سفيان حينما قدم الشام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل الكتب للملوك، فسأله هرقل أسئلة كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان ما استطاع أن يكذب، فكان يحاول أن ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل، ولكن بغير كذب، فلم يجد إلا شيئاً واحد أراد أن يغمز به، وحين سأله: أيغدر بكم إذا عاهد؟ قال: لا. وبيننا وبينه عهد ولنا منه فترة لا نعلم ما حدث فيها. أي: لا نعلم في الفترة هذه ما الذي حصل. وأراد أن يدخل شيئاً آخر فقال: ألا أخبرك بما يدل على أنه كاذب؟ قال: ما هو؟ قال: أخبرنا أنه في ليلة جاء من المسجد الحرام إلى مسجدكم هذا وصلى فيه ورجع في ليلته، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراً عودة. فهذه التي أراد أن يدخل منها، فإذا ببطريق على رأسه يقول: نعم لقد علمت بتلك الليلة. فالتفت إليه هرقل فقال: وما أعلمك بها؟ قال: كنت لا أنام حتى أغلق أبواب المسجد، وفي ذات يوم جئت إلى باب عجز البوابون عن إغلاقه، فدعوني فجئت، فدعوت أهل النجارة فنظروا فإذا السجاف قد نزل على الباب، فقالوا: لا نستطيع أن نحرك فيه شيئاً، فدعه إلى الغد حتى يطلع النهار، فتركناه مفتوحاً، ولما جئت في الصبح وجدت الباب يفتح ويقفل، ووجدت الصخرة التي عند الباب مخروقة وفيها أثر ربط دابة، فقلت والله ما أمسك بابنا هذه الليلة إلا لنبي، وقد جاءه وصلى فيه. فلما خرجوا من عند هرقل -وكانت جماعته معه- قالوا: يا أبا سفيان! أنت بين يدي هرقل، وما منعك أن تكذب على محمد كذبة تنزل من شأنه عنده؟ قال: خشيت أن يأخذ علي كذبة فلا يصدقني بعد ذلك. فهو رجل مشرك يحتاط لنفسه أن يكذب كذبة فتسقط كلمته. فإذا كان أبو سفيان وهو مشرك، مع هرقل وهو مسيحي، ومروءة أبي سفيان وهو على شركه تأبى عليه أن يكذب فكيف بالمسلم.

الاحتقار ناتج عن الحسد

الاحتقار ناتج عن الحسد قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره) . هنا -كما يقولون- محط الرحل، وعود على بدء، فأول الحديث (لا تحاسدوا) ، وأشرنا إلى أن سبب الحسد بين الناس هو الكبر من جهة والاحتقار من جهة أخرى، أي: احتقار صاحب النعمة واستكثارها عليه، كأنه ما يستحقها. فالله أنعم عليه بالعافية، أو بالأخلاق، أو بمال، وأكثر ما يكون الحسد بين الناس على المال الزائد، أما الأدب والأخلاق والديانة فما يُحسد عليها، ويحسدون على الشيء الفاني العاجل. فمنشأ حسد الشخص للآخر أن يحتقره أمام تلك النعمة عليه، وأول خطيئة في الخليقة حسد إبليس لآدم، والحسد يجر إلى الكبر، والكبر يجر إلى العصيان، والعصيان -عياذاً بالله- يطرد من رحمة الله. وهناك مسألة أسميها فلسفة المعصية؛ فإننا وجدنا آدم قد عصى ربه ونسي، وإبليس عصى ربه وامتنع، فكلاهما وقعت منه المعصية، ولكن معصية آدم كانت أن الله سبحانه وتعالى نهى آدم أن يأكل من الشجرة فأكل، وإبليس أمره الله أن يسجد لآدم مع الملائكة فامتنع، فكلاهما وقع في معصية. ولكن بالنظر إلى تحليل -ولا نقول: فلسفة- المعصية والدافع لها نجد أن آدم عليه السلام حينما أكل من الشجرة ما جاء بطواعية وإصرار، فقال: ما علي من هذا النهي، فأنا آكل على ما أريد، وإنما أتاه الشيطان وما زال يغريه، كما قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:21-22] ، وكذلك قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] ، وهما لا يريدان شيئاً غير الخلود في الجنة، فجاءهما من الطريق الذي يرغبان فيه، (وَقَاسَمَهُمَا) أي: حلف وأقسم لهما أنه ناصح، وهو كاذب، فزلت بهما القدم. لكن لما عرف آدم أنه أخطأ تاب إلى الله، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] ، فتلقى الكلمات ورجع وأناب إلى ربه لأن معصيته لم تكن عن سبق إصرار، بل كانت عن جهالة ونسيان وخطأ. ولكن إبليس أول ما رأى خلقة آدم جعل يطوف حوله ويضحك، وأخيراً قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، فمعصية إبليس كانت عن سبق إصرار وتكبر واحتقار لآدم، فهناك فرق بين المعصيتين، فكانت نتيجة معصية إبليس اللعن والطرد عياذاً بالله، ونتيجة معصية آدم أنه أناب إلى ربه فتاب إليه فاجتباه وهدى، وتلقى كلمات من ربه وتاب عليه. وعوداً على بدء، ففي أول الحديث (لا تحاسدوا) ، فإذا سلم الإنسان من أن يحقر أخاه لن يحسده، وكل ما يراه من نعمة الله على أخيه يقول: (يستحق) و: (زاده الله) ؛ لأنه في نظره كبير، وليس في نظره حقيراً، فلا يقارن بين النعمة وبين هذه الشخصية إلا بالمعادلة الكريمة، فكلما أعطاه الله نعمة عظُم في عينه، لا أن يحقره على ذلك. وفي مسألة الكذب يقول بعض العلماء: هناك مواطن قد يحسن فيها الكذب -ولكن لا نريد أن نتوسع فيها- ومن ذلك إذا كان الإنسان يسعى بالصلح بين متخاصمين لإصلاح ذات البين، ولكنه كذب ممدوح، بمعنى أنه علم أن اثنين متخاصمان، فيأتي إلى الأول ويعاتبه على خصومته لأخيه، ويخبره أن صاحبه نادم على ما يقول، وأنه يتمنى لقاءه، مع أنه ما سمع منه شيئاً، فهذا يبدي أيضاً رغبة في اللقاء، فيذهب إلى الآخر. ويقول نفس الشيء، فيبدي رغبة في اللقاء، فيأخذ وعداً من كل منهما ويتلاقيان على المصافحة، وعلى الصفح، وعلى التلاقي والأخوة، فهذا لا بأس به.

كرامة العبد بالتقوى

كرامة العبد بالتقوى هناك نقطة جوهرية في الحديث، وهي موضع افتراق الطرق بين الناس، في قوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى ها هنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا) ، ويشير إلى صدره الكريم ثلاث مرات. وبهدوء وبرفق نقف عند هذه الإشارة إلى التقوى في الصدر، والصدر فيه القلب، فإذا نظرت إلى سياق الحديث (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا) ، وجئنا إلى تصحيح ذاك الخطأ في التعامل، فالمسلم أخو المسلم، ولا يحق له أن يحسده، ولا أن ينجش عليه، ولا أن يبغضه، ولا أن يلقاه مدبراً عنه؛ لأنه أخوه، والمسلم لا يظلم أخاه، والمسلم لا يكذب على أخيه، والمسلم لا يحقر أخاه. ويحقر الإنسان الإنسان لأنه صغر في عينه، فإما أن يكون فقير المال، وإما أن يكون نحيل الجسم، وإما أن يكون دنيء المنزلة، وغيرها من عوامل الدنيا التي يقيس بها الناس، فإذا كان فقيراً أو كان ضعيفاً أو لا منزلة له ولا حسب ولا نسب سقط من أعين بعض الناس. فالرسول صلى الله عليه وسلم يضع لنا قاعدة، بل قضية منطقية، فلماذا يحقر بعضكم بعضاً؟ أللفقر، أم لضعف الجسم، أم لعدم فصاحة القول؟ فهذه مقاييس فاسدة، وهذا مقياس باطل، لقد جاء القرآن الكريم وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، فمقياس الكرم، ومقياس الرفعة، ومقياس المنزلة العالية عند الله التقوى. فمقاييس الناس عند الله بالتقوى، وكرم الناس عند الله بالتقوى، وهذا تصحيح للمفاهيم الخاطئة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يعدون أكرمهم أرفعهم حسباً، وأغناهم، وأقواهم، وتصحيح الشريعة للمفاهيم الخاطئة في قضايا عدة، ومنها حديث: (ليس الشديد بالصرعة) ، فنحن نعرف الشخص القوي فينا أنه الذي يصرع الآخرين، فهذا هو المقياس عندنا. فجاء الإسلام وصحح هذه الناحية، وقال: تلك قوة حيوانية، فهذا الشخص الذي يصرع اثنين الثور أقوى منه، وأقوى من أربعة من مثله، وكذا الحمار يحمل أكثر منه، فهي قوة بهيمية، ثم بين الشدة فقال: (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ، وليس في الحيوانات من يقدر على ذلك، وهذا خاص بالإنسان. فصحح وعدل مقياس القوة في البشر بأنها قوة نفس، وقوة أخلاق، وقوة ضبط لأعصاب عند الغضب. وفي تصحيح مقياس آخر يقول: (أتدرون من المفلس؟) ، أي من هو في نظركم ومقاييسكم المفلس؟ قالوا: المفلس فينا -يا رسول الله- من ليس له درهم ولا دينار ولا متاع. أي ليس لديه فلس، وهذا مقياس عند كل الناس. قال: (المفلس من أمتي يوم القيامة من يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه، ثم طرح في النار) . فمن كان يخطر على باله هذا الإفلاس. كالحال في الدنيا، كرجل عنده الملايين، ولكن أخذ من هذا وضيَّع، وأخذ من هذا وضيَّع، وأخذ من ذا ومن ذا، فجاء أصحاب الحقوق يطالبون بحقوقهم، حينها الحاكم يحجر عليه، ويبيع أملاكه ويوزعها على الغرماء، فكان ذا مال ورصيد في البنك ومن الغد أصبح صفر اليدين، لكن في الدنيا يمكن أن يعمل ويبدأ من جديد، فيقترض أو يعطف عليه الناس ويتصدقون عليه، لكن يوم القيامة لا يستطيع، فهذا من تصحيح المقاييس. وهنا في الدنيا تحقر أخاك؛ لأنه لا مال له، وتعظم غيره؛ لأنه صاحب مال! فتحقر هذا؛ لأنه ضعيف نحيل، وتكرم ذاك؛ لأنه ذو جسد وجسم مهيب! وتحقر هذا؛ لأنه عيي لا يتكلم، وتعظم ذاك؛ لأنه فصيح خطيب بليغ! وتلك المقاييس المادية خاطئة وباطلة، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، وبالتقوى تكون الكرامة، والتقوى في الصدر، فلا تعلم حقيقة الشخص أمامك، ولا يمكن أن تحكم عليه بمظهره؛ لأن حقيقة الحكم عليه بالتقوى، والتقوى ليست أمراً ظاهراً، ولذا جاء في الأمثلة العملية منه صلى الله عليه وسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم جالساً، فمر رجل ذو هيئة، فقال صلى الله عليه وسلم لرجل عنده جالس: (ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا -والله- حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا) . فأنت قد تمتدح شخصاً لمنظر العين والأمر المادي المحسوس، وغيره إن خطب من عندك فلن تزوجه، وإن شفع عندك لا تقبل شفاعته، وإذا تكلم لا تسمع لكلامه، وتتركه، لكن هذا عند الله خير من ملء الأرض من ذاك، فهل المفاضلة بالشكل أم بما وقر في القلب؟

حقيقة التقوى

حقيقة التقوى علماء الحديث والسلف على المعنى المتقدم في معنى قوله: (التقوى هاهنا) ، وبعض الناس ذهب إلى فهم خاطئ، وقال: (التقوى هاهنا) ، معناه أنه إذا كان القلب تقياً فلا عليك من أي شيء بعد ذلك، ولو أنك ما صليت ولا صمت ولا حججت ولا زكيت ولا فعلت شيئاً، كما يقولون: طهِّر قلبك. فهذه خدعة، ومتى يكون القلب طاهراً نقياً مليئاً بالتقوى وهو يترك الصلاة والصيام والزكاة والحج؟ فهل هذا تقي؟ بل شقي، فهذا فهم خاطئ فهمه بعض الناس. وهذا مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] ، فيقول الصديق رضي الله تعالى عنه: من الهدى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فليس المعنى أن عليكم أنفسكم، ولا يضركم من ضل! فمن الاهتداء أن تأمروا وتنهوا، فإذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وقمتم بواجبكم فبعد هذا يتحقق قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] . فالحديث بين أيدينا يصحح مفاهيم الناس، ويمنعهم أن يحتقر بعضهم بعضاً لأمور مادية، بل يقول: إن مقياس الكرامة ومنع الاحتقار إنما هو في التقوى، والتقوى ليست لها معالم ظاهرة، ولكنها تقر في القلب. وقد جاء في الحديث الصحيح: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ، فكيف يدعي أناس أن القلب إذا ملئ بالتقوى اكتفى؟ فالحقيقة أنه إذا ملئ بالتقوى فاض على الجسم والجوارح كلها بالتقوى. وجاء حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على شخص يصلي ويعبث في الأرض أمامه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) . فالقلب يسيطر على الجسم، فإن ملئ بالتقوى فكل الأعضاء تبع له، وكما يقولون: القلب هو الملك وسلطان الجسم، فكيفما يكون القلب يكون الجسم تبعاً له، فإذا كان تقياً طاهراً فالجسم كله تبع له. فلتصحح المفاهيم في قوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا) ، رداً على من يحتقر غيره لأمر مادي.

احتقار المسلم خطيئة موبقة

احتقار المسلم خطيئة موبقة قال صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) . (بحسب) أي: بكفيه، نقول: حسبي كذا. بمعنى: يكفيني. وامرؤ: مذكر امرأة. لأن الأصل في الوضع في اللغة للمذكر، ويؤتى للمؤنث بالعلامة الفارقة، وهي الزائدة؛ لأن الزيادة تدل على الفوارق، فامرؤ مؤنثه امرأة. وإذا كان التعبير هنا بلفظ المذكر فدائماً وأبداً يقولون: إن المذكر يغلب، فلو وجد مائة امرأة ومعهم طفل ذكر لرجع الضمير على المذكر. فالمعنى: بحسب امرئ وامرأة كذلك من الشر أن يحقر أخاه المسلم. والآية الكريمة تفصل، حيث يقول تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] ، والسخرية قد تكون بالغمز واللمز، وقد تكون بالإشارة، وفي بعض الآثار أن بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت وخرجت، فواحدة قالت: حسبك منها أنها -أي: غير طويلة- وأشارت بيدها، فقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ، ما قال: بماء العين؛ لأن مياه العيون عذبة، والماء العذب أقل شيء يغيره، لكن ماء البحر مالح، وملوحته وكثافة الملح فيه تجعله يحتمل الكثير، ولا يتغير إلا بالشيء الكثير جداً يزيد عن الملوحة وكثافته. فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وهنا يقول العلماء: في هذا اللفظ أيضاً مقارنة، فالشخص الذي يحقر الثاني لأي شيء يحقره؟ فإذا كان يرى نفسه مثله، فهل يحقره؟ وهل هناك إنسان يحقر إنساناً مثله؟ فلو أن طالبين كلاهما راسب في الفصل، أيحقر أحدهما الآخر؟ ولو كانا ناجحين أيتفاخر أحدهما على الآخر؟ إلا في حال كون درجات أحدهما أكثر، لكن لو كانت درجات كليهما متساوية فهل من حق أحدهما أن يفخر على الآخر؟ فلا يحقر الإنسان إنساناً وهو يرى نفسه مساوياً له، بل إن وجد نفسه على قمة الجبل ووجد الثاني ينحدر في الوادي فحينئذ يحقره، أو كان يسكن في قصر عالٍ جداً وهذا في كوخ، أو كان يركب فرساً جواداً، وذلك يمتطي سلحفاة. فلا يحقر إنسان إنساناً إلا إذا رأى لنفسه عليه فضل زيادة، وفضل الزيادة المقابل للاحتقار التكبر، ولذا يأتي الحديث: (العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعنى في شيء منهما عذبته) ، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) . ولذا كان جزاء الاحتقار قوله: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه) ؛ لأن من لوازم احتقاره لأخيه المسلم أن يتعاظم في نفسه، وإبليس ما حسد آدم واحتقره إلا حين رأى نفسه أنه من عنصر ناري فوق الخلق، فكانت الطامة عليه، عياذاً بالله.

كل المسلم على المسلم حرام

كل المسلم على المسلم حرام وعوداً على بدء مرة أخرى ينتقل الحديث إلى الخاتمة، فلا تظلم أخاك المسلم، ولا تنجش عليه فتزيد في الثمن ليؤكل ماله بالباطل، ولا تحقره، واحفظ عرضه، ولا تسخر منه. وفي قوله: (كل المسلم على المسلم حرام) إشارة إلى أن المراد كل المسلم، فما قال: كل المسلمين؛ لأن السور الكلي يحيط بالفرد، وإنما المراد المسلم بمجموعه، ومجموع المسلم هيكله وجسمه وماله وعرضه وسمعته، أي: بهيكله حساً ومعنى، فالمسلم كله بمجموعه حرام على المسلم الآخر. ونص صلى الله عليه وسلم على أمور أساسية، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعد الإجمال بالتفصيل، وبدأ بدمه ثم ماله ثم عرضه، وأهم ما في الإنسان دمه، أي: نفسه، وماله الذي يكتسبه، والمال صنو النفس، وعرضه الذي إذا مات في سبيل الدفاع عنه مات شهيداً. فالإنسان قد يخاطر بنفسه في سبيل حماية عرضه، وقد يخاطر بنفسه في سبيل حماية ماله، فالثلاثة متساوية، النفس والمال والعرض. وإذا كان دم المسلم على المسلم حرام، فلا يجوز له أن يسفك قطرة منه، فهي حرام، وهذا الأمر بالذات يعلنه صلى الله عليه وسلم في أعظم المواقف وأشدها حرمة، وهو يوم الحج الأكبر، فبعد أن حج الناس، وطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، وجاؤوا إلى عرفات، وفي عشية عرفة يتجلى المولى سبحانه يباهي بهم الملائكة، ورموا الجمرات، ونحروا الهدي، وجعلوا الشعر، فإنهم يتطهرون من ذنوبهم، ويخرجون منها كيوم ولدتهم أمهاتهم. فأصبحوا في طهارة ونقاء، فليلزم كل إنسان تلك الصفة، وليحافظ عليها، ولا يدنسها ولا يكدرها بشيء، ففي يوم الحج الأكبر قال صلى الله عليه وسلم: (أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟، أي بلد هذا) ، فكلما سأل صلى الله عليه وسلم كانوا يسكتون، قال الرواي: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فلعله يأتي الوحي ويغير الأسماء، وأخيراً قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا) . فأروني صيغة تحذير مثل هذه! فيحرم الرسول صلى الله عليه وسلم دماء الناس وأموالهم وأعراضهم فيما بينهم حرمة مكررة مضاعفة ثلاث مرات كحرمة اليوم والشهر والمكان، فهل بعد هذا يستبيح مسلم دم مسلم؟ لا والله. والأصوليون يقولون: إن شرائع الإسلام كلها، والشرائع السماوية ما جاءت إلا لتحمي تلك الأمور الخمسة التي هي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب ومعه العرض. فتلك الخمس إذا صينت في أي مجتمع كان مترابطاً، وكان مجتمعاً سعيداً، وإذا ما ضاعت تلك الأمور في أي مجتمع فلا قوام له، فمجتمع بلا دين لا يوجد، ولذا يقول علماء الاجتماع: لا يمكن أن تجد أمة بلا دين، سواء أكان صحيحاً أم باطلاً، فمن الممكن أن ترى مدينة بلا ملعب ولا مسبح، أما بدون معبد فلا يمكن أبداً، فلا بد من الدين، فالدين أمر فطري، وقد يخطئ الناس فيه وقد يصيبون. وكذلك حفظ النفس، فالحيوان يدافع عن نفسه، وهل وقعت خصومة بين اثنين إلا من إحدى الطرق الثلاث، إما اعتداء على الدم، أو على المال، أو على العرض، فإذا حفظت النفس وحفظت الأموال وصينت الأعراض فلا خصومة في المجتمع بعد ذلك. فكل المسلم على المسلم حرام، ويتبع حفظ الدم حفظ الجوارح أيضاً، حتى جاء أنه كان الصحابة مجتمعين، فقام رجل وبيده حبل يجره، فقام رجل وأمسك بالحبل فأفزعه، فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفزع المسلم أخاه، ونهى المسلم أن يأخذ عصا أخيه جاداً أو هازلاً، فتأخذها تمزح معه وتروعه فيها، فيبحث عنها وأنت لا تريد سرقتها، ولكن تريده أن يبحث عنها قليلاً، فلا يجوز لك أن تخيفه بهذا الأمر، أو أنك تحزنه، أو أنك تفزعه في هذه الأمور. والمال قل أو كثر لا يجوز لإنسان أن يأخذه من أخيه إلا بطيب نفس، ولو كان أقل ما يمكن أن يسمى مالاً، وكذلك عرضه لا يعتدي عليه، والعرض ليس معناه النسب فحسب، بل شخصه وذاته كذلك، ولذا حرم صلى الله عليه وسلم وحرم القرآن الكريم أن تغتاب أخاك المسلم، وجاء في الحديث أن ابن عمر نظر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) . والله تعالى يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12] ، ولما سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) ، والبهتان أن ترمي الشخص بما ليس فيه، والاغتياب: أن تذكره بما فيه. فإذا كان لك عنده حق فما لك وله، ولماذا تذكره بما يكره؟ فنجد هذا الحديث النبوي الشريف في أعلى مراتب الكمال في الإسلام، ولذا يذكره الإمام مسلم -كما ذكر هنا النووي - في باب البر والصلة. ويضاف إلى هذا الحديث الحديث الآخر: (حق المسلم على المسلم ست) ، فهنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه ولايخذله، ولا يكذبه ولا يحقره) ، فأضف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) . ولو أن المجتمع الإسلامي وقف عند هذا الحديث، وأعطى كل إنسان حق أخيه عليه، فهل سيوجد في العالم مجتمع فوق هذا؟ فـ أفلاطون يتكلم عن المدينة الفاضلة، ويتخيل مدينة مثالية خيالية في أهلها وأصحابها، لكن هل هناك مجتمع أفضل من هذا المجتمع المسلم في هذه الآداب؟ لا والله! وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخطب على خطبته) ، فإذا كان الخاطب الأول عنده زوجتان أو ثلاث ويريد أن يتزوج الرابعة، والآخر ما تزوج بعد، أو كان الخاطب الأول على النصف في الاستقامة، وهو يرى في نفسه كثرة استقامة فليس له أن يذهب ويخطبها ويبعدها عن ذاك الشخص ما داموا قد ركنوا إليه، والغالب أن أهل المرأة لا يركنون إلا بعد البحث، اللهم إلا إن كنت تعلم من أمر الخاطب ما لا يرتضيه الله في دينه أو دنياه، أما لو كان عنده ثلاث أو اثنتان أو عشرون جارية وزوجتان، فليس لك شغل في هذا، وأما أمر الدين في الأمور الظاهرة فإنهم إن جاءوا يستشيرونك فلك أن تبين بقدر الحاجة في بابها، وما عدا ذلك لا حق لك فيه، وما يدريك لعلها تسعد مع ذاك أكثر من سعادتها معك! فلا ينبغي للإنسان أن يرى في نفسه الخير على غيره، ويتقدم إلى خطبة المرأة نظراً لأنه أحق بذلك، فإذا ركنوا إليه فلا تتقدم بعده. والله تعالى أعلم. والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الإخوة المتحابين في الله، العاملين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

الحديث السادس والثلاثون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث السادس والثلاثون [1]

تفريج الكرب عن المؤمن وجزاؤه

تفريج الكرب عن المؤمن وجزاؤه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وسيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم بهذا اللفظ. إن هذا الحديث المبارك الطويل يشتمل على عدة أمور، وكلها توجيه إلى الخير، من تعاون بين المسلم وأخيه، وسلوك الطريق القويم، وطلب العلم وذكر الله سبحانه وتعالى. ويبدأ الحديث بهذه الجملة النبوية الكريمة: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) . و (نفَّسَ) على وزن (فعَّلَ) من النَّفَس، والنفَس هو الذي به قوام الحياة، وإذا منع النفس عن الإنسان فقد حياته، وهكذا جميع الحيوانات لابد لها من التنفس، فإذا ما ضيق الخناق على إنسان، وضيقت عليه مجاري التنفس قرب من الموت، واشتدت كربته، إلا إذا جاء إنسان وفك هذا الخناق ونفَّس عنه، أي سمح للنفَس أن يجري. وما من كربة أشد على الإنسان من أن يُخنق خنقاً ويمنع النفس حتى يوافيه أجله، وما من نعمة على الإنسان أعظم من أن يسمح له أن يتنفس نسيم الحياة. فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يشبه كل كربة تقع بأي إنسان يضيق بها صدراً ويضعف عندها بالشخص الذي خُنق وضُيق عليه الخناق، ولا يدري ماذا يفعل، فيأتي إنسان فاعل خير ينفس عنه تلك الكربة أياً كان نوعها، سواء أكانت في بدنه، أم في ماله، أم في عياله، أم في عرضه، أم في أية مهمة من مهام حياته. كالحال في إنسان مريض ضاق صدراً بمرضه، وجاء طبيب وأعطاه الدواء، ووافق فضلاً من الله وتعافى، كان ضيق النفس فأصبح مستريحاً، فلو أن شخصاً رأى آخر قد أخذه (الربو) حتى ضاق صدره، فجاء وأعطاه ما ينفس عنه فقد نفس كربته. أو كان إنسان مديناً، وضاق ذرعاً بدينه، وأصبح لا يستطيع أن يواجه الغرماء، فجاء إنسان وكلّم غرماءه ليمهلوه ويصبروا عليه، أو يضعوا من ديونهم فإنه يكون قد نَفَّسَ عنه، أو جمع له من أهل الخير ودفع الدين عنه فإنه يكون قد نفس عنه كربة من كرب الدنيا. وكذلك لو سُجِن في أمر مادي، فذهب وشفع وجمع المال وخفف من سجنه فإنه يكون قد نفس عنه. وهكذا في جميع أموره، كما لو كان ولده سجيناً، أو مريضاً، أو كان مكروباً بأية حالة من الحالات، فسعى في رفع كربته بأية حال يكون قد نفس عن مؤمن كربة. وكل ما يشق على الإنسان في حياته فهو كربة، وكل من يخفف عنه تلك المشقة فهو منفِّس عنه. وتقدمت الإشارة إلى أن الحياة معاوضة، وأن مطالب الناس فيها إما جلب النفع، وإما دفع الضر، فكل من جلب لك نفعاً كان لك فيه نظرة، وكانت لك به علاقة عاطفة ومودة بقدر ما جلب لك من نفع، وكذلك دفع الضر. وقد وصف القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الوصفين وزيادة، قال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، فكل ما فيه عنت على الإنسان يشق عليه صلى الله عليه وسلم أياً كان ذلك. ومن أمثلة ذلك: ما كان منه صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج لما كلِّف بخمسين صلاة، وقال له كليم الله موسى عليه السلام: هذا أمر كثير! بلوت بني إسرائيل قبلك بأقل من ذلك فلم يطيقوا، فارجع إلى ربك فسله التخفيف فرجع، ونفَّس عن الأمة، فبعد أن كانت خمسين أصبحت خمساً. وفي رمضان صلى في المسجد وصلى جماعة بصلاته، ثم صلى الليلة التالية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: (قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم) . وكذلك قوله وقد أخر صلاة العشاء (إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) . (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء مع كل صلاة) . ويقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف؛ شفقة على أمه) . ، فالأم حين تكون في الصلاة وتسمع ولدها يبكي تكرب لأجله وتنشغل فنفَّسَ عنها. فكل إنسان يسعى بشفاعة أو بمال أو بأية وسيلة من الوسائل ينفِّس عن المؤمن كربة، فالجزاء من جنس العمل، ففي يوم القيامة ينفس الله عنه كربة مقابل تلك، وكرب القيامة ليست مثل كرب الدنيا، فكرب الدنيا مهما كانت ستمضي، وآخرها الموت، بخلاف كرب القيامة. ولو تتبعنا حياة الآخرة كما جاء في النصوص -وهي عندنا يقين أكثر من يقيننا بأنفسنا- فإننا سنجد أنه من أول خروج الروح يضيق الإنسان، فإذا ما حشرجت الروح وبلغت الحلقوم فكيف يكون حال الإنسان؟ وحينئذ ينفِّس الله عنه كربة. فإن خرجت الروح جاء إلى القبر وسئل، وكم من كربة هناك، فينفس الله عنه من كرب القبر. فإذا جاء المحشر يوم القيامة، وجاء الموقف، وجُمع الناس يلجمهم العرق، فمنهم من يصل العرق إلى قدميه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يصل إلى فمه، وكل ذلك من كربات يوم القيامة، فينفس الله عنه. كذلك عند تطاير الصحف لا يدري الإنسان من أين يأتيه كتابه، فيُكرب عندها، ويفرج الله عنه. وكذلك حينما يرد الناس على حوضه صلى الله عليه وسلم ويذاد أقوام كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] . وفي ذلك اليوم يقول تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] . هناك يناديهم المنافقون فيقولون -كما حكى الله تعالى عنهم-: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] ، وأيّ كربة أشد من ذلك؟ وهكذا عند الميزان، وكل مواقف القيامة كرب، ويفرج الله سبحانه على عبده مقابل ما فرج عن أخيه في الدنيا. وأيهما أحب إليك؟ أن تسعى لتفرج كربة أخيك المسلم في الدنيا مقابل تفريج كربة عنك يوم القيامة، أم أن تضيق عليه فيُضيق عليك؟! وإنك إن استشعرت ذلك فوالله لتدفعن المال، ولتعملنَّ جاهداً بقدر استطاعتك، ما دام أن المسألة فيها معاوضة إلى هذا الحد، فكل إنسان يخشى كرب يوم القيامة. وانظر إلى عطاء المولى سبحانه، وهذا لأنك حينما تسعى لتفرج كربة المؤمن فإن هذا المؤمن عبد الله. وإذا كان جار لك مسافراً، وأولاده في بيتك أو في بلدك، وأصاب أحدهم مكروه، وقضي عليه ما قضي، فذهبت في غيبة والده إلى المستشفى، وقمت باللازم وكأن والده موجوداً، وأنهيت المشكلة، فإذا جاء أبوه فماذا سيفعل لك؟ وكيف يقدر لك هذا الجميل؟ فإذا كان في حق العبد مع العبد في نطاق محدود فرب العزة سبحانه -ولله المثل الأعلى- أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. فكيف حالنا مع بعضنا؟ هل نأتي بالمشاكل على بعضنا، ونضيق الخناق، ونسعى في الإيذاء، أو أننا ننفس عن كرب إخواننا؟ أعتقد أن الطريق السوي واضح، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) .

فضل التيسير على المسلمين في الدين

فضل التيسير على المسلمين في الدين قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) . التيسير: الرخاء، والتعسير: الصعوبة، فإذا كان الإنسان مع أخيه المؤمن فلييسر في معاملته، فإذا جاء وطلب منك أمراً يسرت عليه، سواء أكان في أمر دين أم أمر دنيا، يقول العلماء في هذه: إن جاء إنسان واستعار منك شيئاً فتلفت تلك العارية، فقل: لا عليك، أنت في سعة حتى يتيسر لك ردها. أو اقترض منك وجاء الأجل ولم يستطع السداد، فلا تعسِّر عليه وتكرب أمره، بل يسِّر له وافسح له في المدة، واجعل له من أمره فرجاً، فإن يسَّرت عليه وهو معسر لا يستطيع السداد فاسمع ما قاله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً فله بكل يوم مِثْله صدقة) ، فإن تصدقت فلك بالصدقة حسنة، وإن أقرضت وأنظرت المعسر كان لك بكل يوم مِثْله صدقة. وقد تتصدق على إنسان في غنى، أو ليس في شدة حاجة، أو أن من عادته أن يسأل، فإن لم تعطه أنت أعطاه غيرك، ولكن المقترض لا يأتيك إلا عند الشدة وعند الحاجة، وقد لا يجد من يعطيه، فإذا حل الأجل وأنظرته كان لك في كل يوم كأنك تصدقت عليه بهذا الدين. ومن التيسير ما قاله العلماء: لو أن إنساناً جاء واستفتى طالب علم، وعنده في فقه المسألة طريقان: طريق وعر شديد صعب، وطريق هين ميسر، فأيهما الأولى: أن يسلك به طريق الصعوبة والعسر، أم يسلك به طريق السهولة واليسر؟ قالوا: الأولى أن يسلك به طريق اليسر لا طريق العسر، مادام موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله. يحكى أن ملكاً بالأندلس في ذات مرة في رمضان واقع أهله، فأحضر المفتي وسأله: ما كفارة الوطء في نهار رمضان؟ قال: صوم شهرين متتابعين. فلما اجتمع به العلماء قالوا له: لماذا لم تذكر له العتق؟ قال: خشيت أن أقول له: العتق والعبيد عنده بكثرة، فيتساهل ويعتق ويواقع أهله، فجئته بصيام شهرين لأنه يعجز عن ذلك. فمع من الحق؟ هل مع هذا الذي سلك طريق الصعوبة، أم مع الثاني الذي معه النص، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي يضرب صدره، وينتف شعره، ويقول: هلكت وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا والله قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام. -يعني عجزت عن شهر رمضان، فهل صوم شهرين؟ - قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: والله ما عندنا شيء. ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فقال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذ هذا فتصدق به. فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: أطعمه أهلك) . فأي يسر بعد هذا، وقد جاء في سياق الحديث أنه لما وقع منه هذا الشيء ذهب إلى جماعته فقال: قوموا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أجد عنده حلاً لهذه المشكلة. قالو: اذهب وحدك، نخشى أن ينزل علينا عذاب. فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته بوعاء فيه تمر، جاءهم، فقال: جئتكم فلم أجد عندكم إلا الشدة والقسوة، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده الرحمة. فطالب العلم ليس صاحب سلطة وعصا وقسوة يهلك العباد، فإذا وجدت طريقاً ميسراً يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله فاسلكه، فهذا الواجب عليك. ثم إن هذا المفتي الذي أفتى الملك بالأندلس قال له العلماء: أخطأت في ذلك؛ لأن الشرع حكيم والرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بالعتق أولاً، ثم انتقل من العتق إلى الصوم، ومن الصوم إلى الإطعام، ألا ترى أن الملك لو صام عشرين شهراً بدلاً عن شهرين فلن ينفع الناس بصيامه شيئاً، بل يمكن أن يعجز عن أداء مهمة ملكه، ولكن إذا أعتق رقبة واحدة ألا تتحرر تلك الرقبة، وكل من يأتي من نسلها يكون محرراً إلى يوم القيامة؟! فأيهما أولى -كما يقول الأصوليون-: النفع المتعدي أم النفع القاصر؟ المتعدي بلا شك. وفي الحديث أن تاجراً ممن كان قبلنا كان يوصي عامله: خذ ما تيسر واترك ما تعسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا. فقال الله سبحانه وتعالى: (قد تجاوزت عنك) . إذاً: فالمولى سبحانه وتعالى يعامل الإنسان بمثل معاملته لخلقه، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يرفق بالناس في كل حال، وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (: ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ، ولماذا تجد طريقاً سهلاً معبداً فتتركه وتذهب إلى الوعر في قمم الجبال؟ ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا) . وإذا نظرنا في العبادات فالأمر كذلك، فقد جاء أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ورجع إلى أهله، وبعد سنة جاء وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامه، وكأنه لم يحتف به، فقال: ألم تعرفني يا رسول الله؟ قال: (من أنت؟ قال: أنا الذي جئتك العام الماضي في كذا وكذا. قال: فإنك أتيتني وجسمك ولونك وهيئتك حسنة، فما بلغ بك ما أرى؟ قال: مذ فارقتك ما أفطرت يوماً. قال: صم يوماً من الشهر. فقال: زدني قال: فصم يومين. حتى قال: فصم ثلاثة أيام من الشهر) . وعبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم بالقرآن كاملاً في الليلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتقرؤه في ليلة؟ قال: نعم. قال: اقرأه في عشرين. قال: دعني استمتع بقوتي. قال: اقرأه في خمس عشرة، إلى سبع ليالٍ) وهذا في مسند أحمد رحمه الله، وبعضهم يقول: نزل معه إلى ثلاثة ليال. وذكر الآخرون أنه كان يصوم ولا يفطر، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبُر قال: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه) . فحينما يسلك الإنسان طريق اليسر يستطيع أن يواصل إلى ما شاء الله. مثلاً: أنت تريد أن تأتي إلى مكة تمشي على قدميك على افتراض أنه ليس هناك سيارة ولا طائرة، ومشيت على سعة، فحينما تتعب من المشي تجلس في ظل شجرة ثم تواصل السير، وإذا جاءك النوم نمت، فإنك لو أردت أن تتجاوز البحر إلى السودان وأفريقيا والمغرب إلى ما شاء الله فإنك تستطيع أن تواصل، وعقلاً يمكن ذلك. لكن إذا ذهبت جرياً إلى أقصى ما تستطيع من الجري، أتستطيع أن تصل إلى منطقة قريبة؟ وهكذا إذا أخذ الإنسان طريق اليسر فإنه يستطيع أن يواصل إلى ما شاء الله. ولهذا -كما يقول العوام- الدين يسر، بل جاء الحديث: (عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا) ، وقال صلى الله عليه وسلم:. (ولن يشادّ هذا الدين أحد إلا غلبه) ، فتعمل بقدر استطاعتك، ولما دخل صلى الله عليه وسلم فرأى حبلاً معلقاً في السقف سأل: لمن هذا؟! فقيل: لـ زينب، إذا غلبها النوم أمسكت بالحبل. فقال: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) . وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم النوم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب نومه؛ إن أحدكم لعله أن يذهب يستغفر الله فيسب نفسه) . وقال: (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) . فمبدأ الإسلام التيسير، والله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6] . فسمة الإسلام التيسير، وليست التعسير، فمن يسر على مسلم في أي شيء من أمور الدنيا كالمعاملات أو في أمور الدين كالعبادات، أو في أي شيء ما دام في نطاق الحق ولم يخرج عنه يسر الله تعالى عليه. ويكفي في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأقدرهم على طاعة الله ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.

فضيلة ستر المسلم

فضيلة ستر المسلم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) . بعض العلماء يقف وقفة تنبيه عند الألفاظ، فالحديث في أوله (من نفس عن مؤمن) ثم: (من يسر على معسر) ، وهناك قال: (من ستر مسلماً) . ففي تنفيس الكرب جاء بالمؤمن، وستر العورة جاء فيه بالمسلم، مع أن في بعض ألفاظ الحديث أيضاً ذكر المؤمن، كما في: (الرحلة في طلب العلم) . يقول العلماء: الكربة قد تكون ظاهرة أو خفية، والإيمان من أعمال القلب خفي. فأركان الإيمان كلها اعتقادية، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وكلها خفية، لكن الإسلام صلاة وصيام وزكاة وحج، وكلها أمور ظاهرة. فكذلك ستر العورة، فأكثر ما تكون تكون ظاهرة، وأما في أي شيء يكون ستر العورة، فبعضهم يقول: في العورة الشرعية الحسية التي تبطل الصلاة بانكشافها. فإذا وجدته فقيراً ما عنده ثوب أعطيته ثوباً وسترته، أو وجدت إنساناً بلغ ويريد الزواج، ويخشى على نفسه العنت، ويريد أن يستر عورته ساعدته على الزواج، فهذه عورة أيضاً تتصل بالعورة الأولى، وساعدت على ستر عورته حساً. ولكن معنى الحديث أعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما جيء بـ ماعز قال لـ خالد: (هلا سترته بردائك بدل أن تأتيني به) . فالستر على المسلم في عورته في كل ما يخشى أن يفتضح فيه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) ، فإذا ما كان إنسان مستقيماً وزلت به قدمه في أية ردية كانت، فقال باللسان وأخطأ في غيبة إنسان، أو يد امتدت إلى شيء مما لا يليق، أو زلت به قدمه إلى حد من حدود الله ولم يرفع إلى ولي الأمر فإنك تستره. جاء رجل إلى ابن مسعود وقال أنا ذاهب إلى الشرط أستدعيهم، قال: لماذا؟ قال: جارنا فلان يشرب الخمرة. قال: ارجع، هل نصحته؟ قال: لا. قال: اذهب إليه فانصحه أولاً. والذي يهمنا أن ستر العورة يكون للعورة الإنسانية البشرية، ويكون لمعنى أعم من ذلك، سواءٌ أكان في النكاح وستر الإنسان أم في ارتكاب خطيئة. ولـ أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قصة يذكرنا بها هذا الحديث، فإنه رضي الله عنه سمع أن الحديث في مدينة الفسطاط بمصر، فشد رحاله راحلاً في طلب هذا الحديث إلى مصر، فلما قدم الفسطاط أمر من يستأذن له على الأمير، وقال: فلان عندك؟ قال: مرحباً أبا أيوب الأنصاري، ما حاجتك؟ قال: لي حاجة عند فلان، فابعث معي من يدلني على منزله. فذهب معه من يدله على منزله، فقال: قل له: أبو أيوب في الباب، فأخبره، فجاء الرجل وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب إلى مصر؟ انزل. قال: لا. سمعت حديثاً لم يبقَ أحد سمعه إلا أنا وأنت فجئت أتوثق منه، سمعنا حديثاً في ستر عورة المسلم. قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر عورة مسلم في الدنيا ستر الله عورته في الدنيا والآخرة) ، فلوى عنان بعيره وقفل راجعاً، فقال له: انزل. قال: لا. وهنا نعلم أن العلماء رضي الله تعالى عنهم وأصحاب رسول الله وأهل الحديث ما كانوا يرحلون لزينة ولا لزخرف، ولا لأي شيء إلا لطلب العلم، وإذا حصل طلبته عاد حالاً. وفي هذه القصة يقولون: ما أدركت جائزة الأمير أبا أيوب إلا بعد أن وصل العريش، فالأمير أرسل بجائزة وهدية إلى أبي أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاحب الهدية أسرع وراءه فما أدركه إلا في العريش، وما كان هناك قناة السويس؛ إذ كانت الصحراء متصلة عائد إلى المدينة. ومن المناسبة التنبيه إلى ما يتخصص فيه طالب العلم ويتفرغ لعلمه الذي جاء إليه أو لمهمته في مادته التي ابتعث من أجلها. يقولون في ترجمة ابن القاسم صاحب مالك لما جاء إلى المدينة: جاء الفيل في يوم من الأيام فهرع الناس كلهم ينظرون إلى الفيل، وبقي ابن القاسم عند مالك، فقال له: لم لم تقم تنظر إلى الفيل وليس بأرض قومك؟ قال: إنما جئت أطلب العلم من مالك، ولم آت لأرى الفيل. فهذا جاء لطلب العلم، وما أغراه شيءٌ من الغرائب. وكذلك أبو أيوب، ونحن نعلم طبيعة الصحراء وطبيعة الجزيرة وطبيعة المدينة، ونعرف طبيعة مصر بنيلها وبأشجارها وبهواءها وبكل ما فيها، فلم يغره شيءٌ من ذلك كله ليجلس أو يستريح من السفر يوماً أو يومين، بل جاء في طلب علم وحصّله ورجع. فرحل أبو أيوب من أجل هذا الحديث من المدينة إلى فسطاط عمرو بمصر من أجل أن يتثبت في هذا الحديث. يقول العلماء: الستر على المسلم ما لم يفضح نفسه هو، بمعنى أن يجاهر ولا يبالي. فهذا الشخص الذي لا يبالي بشعور الناس ولا بإحساسهم قد هتك ستر نفسه، أما الشخص الذي يستتره والذي يستحيي، والذي يقع منه الخطأ على غير قصد فهو الذي يستره والعصمة في البشر للرسل فقط. فليس في البشر معصوم إلا الرسل، فلا ينبغي لإنسان أن يبادر حالاً، ولا ينبغي لإنسان أن يتتبع عورات المسلمين، وفي بعض الآثار: (من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) ، فدل أن تستره تتبعه حتى تكشف أمره! فهذا لا ينبغي. وإذا جئنا من ناحية المروءة والإنسانية فإن الوقوع في زلة مرض وخطأ، فإذا وجدت إنساناً مريضاً أتزيده مرضاً على مرضه، أم تحاول أن تداويه ليتشفى من هذا المرض؟! وإذا كنت تمشي في الطريق وفيه حفره، ووجدت إنساناً في غفلة منه سقط في تلك الحفرة، أتأتي وتهيل عليه التراب، أم تقول: لا بأس عليك. وتمد يدك إليه، وتنبهه إلى أن يحذر في المرة القادمة، فأيهما ينبغي للإنسان وتقتضيه مروءته؟ فهذه الفقرة من هذا الحديث لو وقف عندها إنسان وكررها مراراً فإنها تنفعه، فليحذر المسلم أن يتتبع عورات الناس، وإذا وقف على شيءٍ قدراً لا ينبغي أن يشيعه، ولا ينبغي أن يفضح إنساناً وهو قادر على أن يستره، ولو شفع في أمره قبل أن يصل إلى السلطان فلا مانع، ولكن إذا وصل إلى الحاكم فهناك لا شفعة، ولا تدخل لأحد. قال صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) . الله رب العزة مالك الملك بيده ملكوت السموات والأرض يكون في عون العبد مادام العبد في عون أخيه. وما سعة عونك أنت، وأنت تحتاج إلى من يعينك، ولكن -تفضلاً من الله- مادمت في عون عبد من عباد الله يكون الله في عونك. فإنسان له عدة أولاد، فقدم إنسان معروفاً لأحد أولاده، فهو بالجبلة يشفق عليه، أو يكرمه، أو يحفظ له جميله، ورب العزة سبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء وإذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون؛ يكون في عونك مقابل أن تكون في عون أخيك. فتنفيس الكربة عن المكروب عمل في عونه، وستر عورة إنسان عمل في عونه، والتيسير على معسر عمل في عونه، فكأن هذه الجملة تذييل على كل ما تقدم، فما دمت في عون أخيك في كشف كربته، أو ستر عورته، أو تيسير أمره فالمولى سبحانه في عونك، وهل أتريد أن تتخلى عن عون الله؟ فهو طريق يُسِّر لك وفُتِح أمامك لتستجلب عون الله، وفي الحديث: (يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟!) . والنصوص في هذا كثيرة يبين سبحانه وتعالى فيها أن من يحسن إلى عبد من عباد الله كأنه أسدى الجميل إلى لله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ، والله في غنى، والله هو الذي أعطاك، لكن عليك أن تعطي عبده حتى لا يعاتبك: مرض عبدي جاع عبدي عري عبدي، كما في الحديث: (يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدتني ذلك عندي؟) ، أي: أكافئك وأجازيك. فالذي يفعل الخير مع عباد الله متعامل مع الله، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] . وبهذا الوعد الصادق: (والله في عون العبد) ، تأتي آحاد الجزئيات، فمن اقترض وهو ينوي السداد فالله في عونه حتى يسدد، من تزوج بنية العفاف فالله في عونه. وكانت أم المؤمنين ميمونة تقترض. وهي في غنى عن القرض، فقيل: كيف تستدينين وليس عندك وفاء؟ قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عز وجل) . فقوله:: (والله في عون العبد) ، فيه مقابلة عجيبة؛ فرب العزة سبحانه يكون في عونك مقابل أنك في عون أخيك، مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث:: (من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً) ، فاللهم صل وسلم وبارك عليه. فهل هناك أسمى وأكمل وأطيب من هذه التوجيهات النبوية الكريمة، فبعد هذا التوجيه ينبغي أن يكون بعضنا عوناً لبعض، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، ولا يكن بعضنا على العكس للآخر يكيد له ويضايقه وصدق صلى الله عليه وسلم في قوله:: (والله في عون العبد) ، حتى قالوا: إن كلمة العبد أعم من مؤمن ومسلم، فلو جاءك ذمي أو معاهد أو مشرك، وطلب منك العون على أمر دنيوي وعاونته فإن الله يعينك. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل كبد رطبة أجر) ؟ فإذا كان الأجر في الحيوان فكيف ببني الإنسان؟! لما سقت المرأة البغي الكلب لشدة عطشه رحمها الله. والمرأة لما حبست الهرة فلم تطعمها ولم تتركها عذبها الله في النار. إذاً: فالإنسان كيفما كان مشركاً أو كافراً أعنه في أمر الدنيا. وأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه مر في المدينة فإذا برجل

العلم وفضله

العلم وفضله

فضل العلم والعلماء

فضل العلم والعلماء يأتي ختاماً لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ، ما معنى سلك؟ السلك: هو الخيط الصغير تسلكه في عين الإبرة. (طريقاً) الطريق: فعيل من الطَّرْق. والطَّرْق: الدق. فالطريق تطرقه بقدميك. فقال:. (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة) . فإذا جئنا إلى جانب من العرض النبوي الكريم نقول: تلك الأبواب المتقدمة لا يستطيع إنسان أن يلجها كلها إلا عن طريق العلم. وإن جئنا من جانب آخر قلنا: كلها طرق خير مفتحة، ولكن طلب العلم خير من ذلك كله؛ لأن طلب العلم أوسع أفقاً، ويستطيع طالب العلم أن ينتفع وينفع أكثر من أولئك جميعاً، ولذا جاء الحث على طلب العلم، وهذا باب واسع جداً، أوسع من تلك الأبواب المتقدمة. وأُلِّفت التآليف في ذلك، وأحسن ما ألف في هذا لـ ابن عبد البر: (جامع العلم وفضله) ، وما من كتاب إلا وفيه بيان فضل العلم. وأعلى قمة لشرف طلب العلم والعلماء هذا السياق الكريم، وهو قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] . فمن الذي شهد؟ الله الذي شهد أنه لا إله إلا هو، فالشاهد الله، والمشهود عليه (أنه لا إله إلا هو) . وَالْمَلائِكَةُ عطف على شهادة الله، والثالث أُوْلُوا الْعِلْمِ فيكفي شرفاً لأهل العلم أنهم ثالث ثلاثة في الشهادة على أعظم شيءً في الوجود، وهو وحدانية المولى سبحانه؛ لأن غير أهل العلم لا يعرفون ذلك، فلا يعلمون ولا يشهدون. ويأتي قوله تعالى من باب المقارنة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] . فهل تستوي الظلمات والنور، أو الظل والحرور؟ فشرف العلم وطلبه باب واسع جداً لا يستطيع إنسان أن يوفيه في حديث أو حديثين. ولكن نأتي بدعابة علمية، أو ببيان لطالب العلم في آثار تفضيل العلم، وهو أن الله سبحانه وتعالى كرّم كل فرد عالم في جنسه على عموم الجنس. فالمولى سبحانه وتعالى حينما أخبر الملائكة أنه يستخلف آدم، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ، فالملائكة قالت: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} فلم يقل: أقدر. ولم يقل: قادر. وقال: أصنع ما أشاء بل قال:. {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ، فاحتج عليهم بالعلم. وبعد ذلك قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31-33] فالقضية كلها ماشية في فلك العلم. وبعد هذا كله أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لآدم، فالله سبحانه أراد أن يبين شرف آدم المخلوق الجديد الذي كانوا يرونه من طين وصلصال وفخار، ولكن المولى نفخ فيه من روحه. فبم ظهر فضل وشرف آدم على غيره، أو بم استحق أن تحييه الملائكة، أو يؤمر الملائكة أن تسجد إليه؟ بالعلم. ثم نزل آدم إلى الدنيا فقال الله تعالى له: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] . وقال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] . فسلك طريق الهدى وطريق العلم. ثم نأتي إلى نبي الله سليمان وما أعطاه الله من الملك، فقد كان تحت يده من الجنود من الجن والإنس والطير ما لم يؤته أحد، فيأتي في موقف من المواقف ويستعرض هذه فقال لما حكى الله عنه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:20-22] ، فحالاً جاء، فلم يعتذر عن غيابه، ولم يسأل ماذا قال عني؟ وكما -كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه- صاحب علم دنيوي جغرافي وحده قدراً يأتي ويتطاول به على نبي الله {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22] . فذاك الهدهد الصغير يأتي ويقول لنبي الله سليمان: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ) ، فما قال: علمت ما لم تعلم. بل قال: (أَحَطتُ) من الإحاطة، بعد أن كان الحكم عليه بالعذاب أو الذبح، لكنه جاء بسلطان العلم. {قَالَ سَنَنظُرُ} [النمل:27] ، أي: أؤجل الحكم حتى نتأمل، ونتروى {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] ، فقدّم الصدق كأنه توجس من أنه غير صادق، ولا يتأتى للهدهد أن يتطاول على ملك وعلى نبي الله سليمان إلا وعنده بعض الشيء، فقال له: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا} [النمل:28] ، فكان محكومنا عليه بالإعدام، وإذا بالحكم يوقف تنفيذه ويصبح سفيراً مفوضاً، {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28] ، وكانت السفارة موفقة، فبعد المفاوضة والمراسلات والمشاورات جاءت، وأسلمت لله رب العالمين. فهذا الهدهد ذهب وأتى وقص عليه قائلاً -كما حكى الله تعالى عنه- {جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:22-24] ، فالهدهد يميز بين السجود لله وحده، وبين السجود للشمس والقمر من دون الله، ثم قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:25] ، والمفسرون يقولون: هذا من كلام الهدهد اعترض عليهم أنهم لا يسجدون لله سبحانه، ويسجدون للشمس والقمر. فالهدهد يدرك، وبفضل العلم الجغرافي الذي اكتسبه سلِم من القتل ومن التعذيب، وأصبح سفيراً مفوضاً بين سليمان وبلقيس. وفي أول سورة المائدة يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ * وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:3-4] . فالكلب إذا علمته الصيد فعند أن تزجره ينزجر -أي: يسمع الأوامر- إذا أمسك عليك أكلت مما صاد لك، والأسد وهو سلطان الوحوش لا يجوز أكل ما ترك من فريسة؛ لقوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة:3] ، وكلها محرمة معطوفة على الميتة، فإذا أكل السبع -وهو سلطان الوحوش- ولم ندرك الصيد ونذكه فهو ميتة، وأما ما صاده الكلب المعلم فيجوز لنا أن نأكل، والفرق بينهما -مع فوارق الجنسين-: العلم. فما سلك إنسان طريقاً يلتمس فيه علماً إلا سهل الله له طريقاً إلى الجنة. وهذا الحديث يشعر بالرحلة في طلب العلم، وقد ألفت في ذلك الكتب. وأبو الدرداء كان في البصرة، فجاءه شخص وسلم عليه، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: جئت لحديث عندك. قال: آلله! ما جاءت بك حاجة ولا تجارة؟ قال: لا -والله-، ما جاء بي إلا حرصي على أن أسمع حديثاً عندك. قال: أبشر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) . ونحن نعلم أن المولى سبحانه جعل سلوك طريق لطلب العلم قرين الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] ، فطائفة تذهب تقاتل، وطائفة تذهب تتفقه في الدين لترجع وتنذر قومها بما عملت. إذاً فالنفر في طلب العلم كالنفر في الجهاد سواءً، وجاء الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (من أتى إلى مسجدي هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) . وسلوك الطريق يحصل بأية وسيلة كانت، وسواء أكان سلوك الطريق للرحلة والسفر، أم كان سلوك الطريق إلى الأستاذ أو المدرسة أو الجامعة.

العلم علمان: غاية ووسيلة

العلم علمان: غاية ووسيلة والعلم هنا هو علم كتاب الله وسنة رسوله، وما يساعد عليه، وأمور الدنيا خاضعة لذلك، أي: من سلك طريقاً لعلم الهندسة ليبني لنا بيوتاً تؤينا، أو سلك طريق علم الزراعة لينبت لنا طعاماً يقيتنا، أو سلك طريق الدفاع والسلاح لينتج سلاحاً يقينا العدو، أو أي مجال سلكه لله ولرسوله ولأمة المسلمين، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60] ما دام يبتغي بذلك وجه الله. ولكن العلماء ينبهون على أن المراد في هذا الذي عليه الحث هو علم الكتاب والسنة، وما يساعد على فهمه، والعلماء الحاضرون، أو علماء المناهج يقسمون المواد إلى قسمين: قسم أساسي، وقسم تكميلي، أو قسم غاية، وقسم وسيلة، فمثلاً تفسير القرآن ومعرفة معاني كتاب الله غاية، ولكن لا يمكن أن تفهم كتاب الله إلا بمعرفة اللغة العربية التي أنزل بها، فلابد أن تعرف الفاعل من المفعول، ولابد أن تعرف المسند من المسند إليه، ولابد أن تعرف المبتدأ من الخبر، ولابد أن تعرف الحال من الصفة، وتعرف كل ما يتعلق بعلم العربية، وتعرف من شواهد العرب في أشعارها وأقوالها ما يفسر لك كلمات القرآن التي بها أنزل هذا الكتاب وذاك الحديث، حتى علم المنطق المتأخر، وليس المتقدم الذي فيه الفلسفة، إذا كان للدفاع عن شبه العقيدة على من يُدخل على الناس الشبه فيها، وعلم الحساب من أجل أن تعرف الفرائض وتقسم التركات، فإذا لم تعرف الحساب والجمع والضرب والطرح والقسمة لا تستطيع أن تقسم الفرائض ولا تعرفها. فكل علم كان وسيلة لغاية فهو شريف، فالوسيلة تأخذ حكم الغاية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن هنا ينبه العلماء على ضرورة معرفة أصول الفقه لكل من يشتغل بالكتاب والسنة، وكان دائماً والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: جهلة الأصول عوام العلماء. فلا يستطيع أن يتفقه في حديث، ولا في آية، ولا أن يستنتج حكماً لواقعة حدثت ليس فيها نص إلا إذا كان عالماً في الأصول يرجع للقواعد، ويستطيع أن يدخل النازلة تحت قاعدة من القواعد العامة. وقوله: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً) ، يدخل فيه أي طريق طويلاً أو قصيراً، وفي الحكمة التي على لسان الناس: اطلبوا العلم ولو في الصين. وفي الحديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ، أي فيما يتعلق بالأمور الشخصية، وحق الله على العباد. ويهمنا التنويه على بعض المسائل لنعلم جميعاً أن طلب العلم -كما أشرنا- فريضة على كل مسلم فيما يتعلق بحق الله عليه، وفرض كفائي فيما عدا ذلك من عموم علم الكتاب والسنة، وما يتطلبه من مكملات أو من أسباب توصل إلى الغايات. فمن الأسباب التي توصل إلى الغايات في علم كتاب الله علم العربية التي بها يفهم كتاب الله، وعلم الأصول -كما قالوا- فيما يتعلق بدلالة العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وغير ذلك. وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ما يتعلق بطرق معرفة صحة الحديث ومصطلح الحديث عند العلماء، ومعنى (مصطلح) : أي: ما اصطلح عليه العلماء في أسماء الأحاديث باعتبار المتن أو السند، كتسميتهم الحديث مرفوعاً، أو موقوفاً، أو متصلاً، أو منقطعاً، أو معلاً، أو شاذاً، أو غير ذلك. وكل ذلك حق وواجب على طلبة العلم.

الحديث السادس والثلاثون [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث السادس والثلاثون [2]

فضل العلم في الحياة وبعد الممات

فضل العلم في الحياة وبعد الممات بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فعلى كل أمة أن توفر طلبة للعلم ينقطعون لذلك أداءً للواجب على الأمة، ومن نفع العلم لصاحبه ما جاء في الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، والعلم الذي ينتفع به ما حصل به النفع ولو مسألة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله) ، وكقوله: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم) . وسبب ورود حديث: (الدال على الخير كفاعله) أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يطلبه أن يعينه ويساعده، فدله على آخر، فلما ذهب إليه فساعده قال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله) . ومن هنا أجمع العلماء على أنه ما من مسلم في الإسلام إلى يوم القيامة يكتب له في صحيفة حسناته حسنة إلا وللرسول صلى الله عليه وسلم مثلها في صحيفته؛ لأنه الدال عليها، وهكذا طالب العلم، وما دل عالمٌ جاهلاً على مسألة له فيها أجر إلا وكان لهذا العالم مثل أجر العامل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة من غير أن ينقص من أجورهم شيء) . ويذكر الذهبي في ترجمة عروة بن الزبير أنه اجتمع هو ومصعب وعبد الله وكلهم أبناء حواري رسول الله الزبير بن العوام، ومعهم عبد الله بن عمر، فاجتمعوا في الحجر في ظل الكعبة، فقالوا فيما بينهم: تمنوا، فقال عبد الله: أتمنى الخلافة، وقال مصعب: أتمنى إمارة العراق، وقال عروة بن الزبير: أتمنى أن يأخذ الناس العلم عني، وتمنى ابن عمر فقال: أتمنى المغفرة. يقول الذهبي عن راوي هذا الخبر: وقد نال كل واحد منهم أمنيته، فنال عبد الله الخلافة، ونال مصعب الولاية على العراق، ونال عروة جمع العلم والحديث ونرجو لـ عبد الله بن عمر أن يكون قد نال أمنيته أيضاً. عبد الله بن الزبير بويع بالخلافة على الحجاز ونالها، ومصعب بن الزبير نال ولاية العراق، وكان شجاعاً كريماً معطاءً، وقُتل عبد الله في مكة في خلافته، وقُتل مصعب بالعراق في ولايته، وبقيت أمنية عروة بن الزبير وأمنية عبد الله بن عمر، أو لسنا الآن ننعم ونعيش ونجد العلم مما رواه عروة رضي الله تعالى عنه؟ فأي الأماني والأمنيات بقيت لأصحابها؟ فالخلافة قتلت صاحبها، والإمارة قُتل في ظلها صاحبها، ولكن أخذ الناس عن عروة العلم هو الذي بقي، وما زلنا كلما ذكرنا اسمه نترضى عنه. فلو تأملنا نتائج الأفراد وأعمالهم فلن نجد مثل العلم أمنية ولا طريقاً يسلكه الإنسان، وقالوا: ولو كان مسألة واحدة. فتعلم مسألة واحدة خير من عبادة ستين سنة عُمل بها أو لم يُعمل. ونأتي إلى ما بعد ذلك في التاريخ فنجد قضيتين أيضاًَ في شخصيتين عظيمتين هما مالك بن أنس رحمه الله وأبو جعفر المنصور وهو في الخلافة، فيأتي أبو جعفر إلى مالك ويقول: يا مالك! لم يبق في الناس أعلم مني ولا منك، أما أنا فقد شغلتني الخلافة، وأما أنت فوطئ للناس كتاباً يسيرون عليه، وإياك وعزائم وشدائد ابن عمر ورخص ابن عباس يقول مالك: علمني التأليف آنذاك فلا هو في الشدة النهائية، ولا في التراخي والتسيب، بل وسط بين هذا وذاك. ولما وضع مالك كتابه وتوفي أبو جعفر جاء هارون الرشيد إلى المدينة ومعه ابناه الأمين والمأمون صاحبا ولاية العهد، ونزل هارون في بيت الإمارة، وطلب من مالك أن يأتي بموطئه إليه ليقرأه على ولديه، فأجابه مالك: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي. فعلم هارون أنه ينبغي أن يذهب إليه، فجاء هارون إلى بيت مالك، فوجد جارية تستأذن له على مالك، فأوقفته عند الباب واستبطأ عليه في الإذن ثم أذن له، فقال هارون: ما هذا يا مالك؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا على بابك! قال: نعم. طلبتني وأجبتك أن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، وجئتني فعلمت أنك لم ترد دنيا ولا جاهاً ولا منصباً إنما تريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أتهيأ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلت وأخذت أحسن ثيابي وأذنت لك. قال: هلم بكتابك فاقرأه علينا، قال: إن هذا العلم لا ينفع سراً، قال: وماذا تريد؟ قال: في المسجد مع طلبة العلم. فعلم خدام هارون ونصبوا كرسياً في المسجد للخليفة، فجاء مالك إلى المسجد للدرس فوجد الخليفة على كرسي والناس من حوله، فبدأ حديثه بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم قال: من تواضع لله رفعه، فعلم هارون أنه المعني، فأمر بتنحية الكرسي وجلس مع الناس. فأين وقف الخليفة أبو جعفر؟ وأين وقف هارون؟ لقد وقفا على باب مالك؟ وأما الموطأ فهو الكتاب الأول أو الثاني بعد كتاب الله آنذاك، وأول ما دوِّن من سنة رسول الله، كما قال الشافعي: ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك، وإن كان بعض الناس يقول: جاء بعده صحيح البخاري، ولكن هذا مبحث ندعه في جانب. فلا زال الموطأ -بحمد الله- يتربع في قلوب العباد، ويستنير طلبة العلم بما حواه.

الرحلة في طلب العلم

الرحلة في طلب العلم طلب العلم لا يساويه شيء، وفضل العلم لا يوازيه فضل، وشرف العالم بعلمه والعامل بمقتضاه ليس بعده شيء، وهذا فيما يتعلق بمن سلك طريقاً يطلب فيه علماً. ونجد السلف في رحلتهم لطلب العلم قد ضربوا أروع الصور، فـ أبو أيوب الأنصاري يرحل إلى الفسطاط في مصر لطلب حديث، وجابر بن عبد الله يرحل إلى دمشق في طلب حديث، حتى ألف العلماء: الرحلة في طلب العلم. ونبي الله موسى سأله الناس: هل يوجد من هو أعلم منك؟ فقال: لا. فقال الله له: إن عبداً من عبادي أعلم منك. قال: وأين مكانه؟ فأخبره، فقال: كيف أعرفه؟ قال: خذ معك حوتاً مطبوخاً، وذلك ليتغذى به، فمشى على جانب البحر حتى إذا جاوز المكان قال لغلامه -كما حكى الله عنه-: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:62-65] . وهناك فرق بين قوله: (عجباً) و (سرباً) ، فالتعجب من إحياء الحوت الذي كان للغداء، ولكن حينما كان رفيق موسى معه واستراح عند الصخرة، إذا بالحوت يتحرك في مكتله، ويأتي إلى الماء وينزل، فقال تعالى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61] ، أي: جاعلاً سراباً وراءه؛ ليعلم القارئ والناظر أن الحوت حينما وصل إلى الماء لم يختفِ فيه ويذهب؛ لأن هذا يعني أنه قد يكون ميتاً على ما كان عليه، ولكن بعد أن أحياه الله ومشى في الماء ترك السراب وراءه، أي: جعل الماء منشقاً ليتأكد الرائي بأن الحوت قد عادت إليه حياته، ولم يكن مجرد سقوط في الماء ليرسب في قاعه أو يكون في وسط الماء. فشق طريقاً سرباً ليرى الرائي وليسمع القارئ ويعلم أن الحوت عادت إليه حياته. والذي يهمنا أن موسى عليه السلام سعى إلى الخضر ليتعلم ما لم يكن يعلمه، ويذكر العلماء في قصة موسى مع الخضر آداب العالم والمتعلم، فقد نبهه الخضر فقال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:67-69] . فقد يكون طالب العلم في بداية أمره يسمع من شيخه حديثاً أو حكماً أو مسألة لا يدرك أو لا يحيط بها فكراً، أو لا يقوى على فهمها وإدراكها، فلا يكن ذلك سبباً في انتقاده لشيخه، او اعتراضه عليه، أو انصرافه عنه وعدم ملازمته والأخذ عنه. ونعلم جميعاً أن الله سبحانه أعطى الخضر ما لم يعط موسى، وأعطى موسى ما لم يعطِ الخضر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى لو صبر لرأينا علماً واسعاً) . وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الرجل أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجد عالما أعلم من عالم أهل المدينة) ، ويرى كثير من السلف أن المعني به مالك بن أنس، وينازع في ذلك ابن حزم ويقول: مالك كان في عصره كثير من زملائه وأقرانه، ومالك كان من قبله علماء ومن بعده علماء. ولكن يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلن أنه يأتي على الناس وقت يضربون فيه أكباد الإبل لطلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم بالمدينة. وإذا أخذنا ذلك مع حديث (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) علمنا أن الإيمان لا يكون إلا عن علم، وبوب البخاري رحمه الله: (باب العلم قبل العمل) ؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] ، فاعلم أولاً، وإذا لم يكن العلم وكان الجهل اتخذوا آلهة متعددة، ولما جاءهم الوحي وأمروا أن يقولوا: (لا إله إلا الله) قالوا لجهلهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] ، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الحديث: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) عرفنا من باب اللزوم أن من لازم إرز الإيمان إلى المدينة أن يسبقه العلم ويلتقيان بها. فتظل المدينة -بحمد الله- دار العلم وعاصمة العلم ومقره، وإن كان قد جاء عليها زمن تعطل فيها بعض الشيء، ولكن لم ينقطع؛ لأنه حينما انتقلت الخلافة إلى الشام كان العلماء هناك، ولما انتقلت إلى العراق كان العلماء هناك، وما خلت المدينة في عصر من عصورها من العلماء، لكن يقلون أو يكثرون. وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من راح إلى مسجدي لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) . ويذكر البخاري في كتابه الأدب المفرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي أقوام من أقطار الدنيا -أو سيأتيكم أقوام من أقطار الدنيا- يطلبون العلم فأقووهم وعلموهم) . ومعنى (أقووهم) ساعدوهم، أو: آووهم، فكان ابن مسعود كلما جاءه طالب علم يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المسجد النبوي منارة العلم الأولى

المسجد النبوي منارة العلم الأولى نحن نعلم بأن العلم في أقطار الدنيا، والجامعات الإسلامية وغيرها في المدينة وغيرها من أقطار العالم الإسلامي، ولكن حينما يأتي الطالب إلى الجامعة، ويسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي مرة أخرى إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى جامعات العالم الإسلامي يجد للحديث تلاوة جديدة لا يجدها في غير ذلك المكان؛ إذ كان أول مدرس ومعلم في تلك المدرسة جبريل عليه السلام، فكان يلقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمع المسلمون منه، كما جاء في حديث عمر رضي الله تعالى عنه: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) . وهكذا كان المسجد النبوي أولى الجامعات الإسلامية بالمسمى الحديث، وكان أول معلم فيه جبريل عليه السلام، فيأتي إلى رسول الله ابتداءً بالوحي، ويأتي إلى جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام فيعلمهم أمر دينهم، ومن ثم ما وجد كتاب كتب في العالم، ولا أقيمت صلاة في العالم، ولا نادى مناد على منارة في العالم، ولا صيم رمضان في العالم، ولا أديت زكاة في العالم، ولا جاء حاج من العالم إلا من آثار تعليم هذه الجامعة المحمدية. فإذا جاء إنسان إلى أكبر جامعات العالم، وسمع كتاب الله، وسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء هو بنفسه وسمع تلك الآية وسمع ذاك الحديث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ثم والله ليجدن لتلك الآية ولهذا الحديث من الأثر في قلبه ما لم يجده هناك؛ لأن الإنسان يتأثر، ومقوماته تتأثر بالزمان وبالمكان. فإذا ذهبنا إلى المدرسة أو إلى المعهد، وسمعنا المدرس يشرح حديثاً، أو يشرح آية، ثم جئنا إلى صلاة الجمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعنا الإمام على المنبر يتلو تلك الآية، أو يتلو ذلك الحديث وجدنا لهذه التلاوة الجديدة ولهذا الحديث -لانطلاقها من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- أثراً أعظم في نفوسنا. وبهذه المناسبة أنبه طلبة العلم بالمدينة أنهم مكلفون من جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمّلهم الوصية والأمانة بأن كل من قدم من الخارج من أقطار الدنيا يطلب علماً فإنه يجب عليهم أن يعلموهم، ويجب عليهم أن يستقبلوهم، ولئن كانت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فتحت أبوابها واستقبلت طلابها، فإن الأحق بذلك والأسبق إليه هو المسجد النبوي الشريف، وأسأل الله تعالى لي ولكم جميعاً التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم من طلبة العلم العاملين به، وبالله تعالى التوفيق.

طلب العلم حصن واق من الشيطان وشركه

طلب العلم حصن واقٍ من الشيطان وشَرَكِهِ كل ما ذكر في الحديث من تنفيس عن مكروب، وتيسير على معسر، أو ستر على إنسان أعمال فردية، أو أعمال شخصية، ولكن طلب العلم -كما قالوا- أعم؛ لأن خيره ومردوده للآخرين، ولذا قالوا: عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. وجاء في بعض الآثار أن الشيطان جاء إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني العالم الجليل، والعابد الفاضل، فجاءه في محرابه في الليل وهو يتهجده وأضاء له نوراً شديداً في المحراب، ونادى: يا عبد القادر! أنا اليقين قد أتيتك فأسقطت عنك التكاليف، كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ، وها أنا اليقين. فقال: إخسأ يا لعين! لو أن التكاليف تسقط عن أحد لكان أحق المكلفين بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فانقلب النور إلى دخان، وقال: والله لقد نجوت مني بعلمك، ولقد أضللت مائة عابد بذلك

فتوى العالم سبيل نجاة

فتوى العالم سبيل نجاة ذكر في الحديث أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعاً وتسعين نفساً، فجاء إلى عابد راهب في صومعته فقال: أرايت لو تبت أيتوب الله علي؟ قال: أعوذ بالله، فبعد تسعة وتسعين لا توبة لك. فأكمل به المائة، ثم جاء إلى عالم فقال: هل لي من توبة؟ قال: سبحان الله! ومن يحول بين العبد وربه، تب يتب الله عليك، ولكن إذا كنت عشت في هذه البلدة، وقتلت مائة نفس فلا تبق فيها، فاخرج منها إلى تلك القرية الفلانية، فإن فيها أقواماً صالحين يعبدون الله فكن معهم، وهنا نعرف خطر الجليس السيء، وبركة وخير الجليس الطيب. كما جاء في الحديث: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء ... ) ، فالجليس الخبيث كنافخ الكير إن لم يأتك شرر ناره يؤذك بريحه، أما الجليس الصالح فكبائع المسك إن لم تشتر منه فإنه سيحذيك، فبعض الناس يمر على صاحب العطر، ويسأله: أعندك عود طيب؟ فيقول: نعم. ويفتح القارورة ويطيبه، فهذا أقل شيء. فأقل شيء أنك ستشم الريح الطيب من بائع المسك. فخرج قاتل المائة، وفي أثناء الطريق أدركته المنية فمات، فتأتي ملائكة الرحمة وتأتي ملائكة العذاب ويختصمون فيه، فملائكة العذاب تقول: هذا ما عمل حسنة واحدة، وملائكة الرحمة تقول: هذا رجل مقبل علينا، تاب إلى الله توبة نصوحاً، والتوبة تجب ما قبلها، فاحتكموا فيما بينهم أيهم يتولى أمره، فأرسل الله سبحانه إليهم ملكاً على صورة رجل، فقال: قيسوا ما بين البلدين، فأيهما كان أقرب إليها ألحقوه بأهلها. فقاسوا فإذا المسافة بينه وبين البلدة التي خرج إليها أقل بذراع واحد فقط. وفي بعض الروايات أن الله أوحى إلى هذه أن تباعدي وإلى تلك أن تقاربي، وزوى الله الأرض، وفي بعض الروايات: فأومأ -وهو ميت- بصدره إلى جهة القرية التي خرج إليها، فتولته ملائكة الرحمة. والذي يهمنا أن ذاك العابد الجاهل جهله قتله، وهذا العالم أفتى بعلم فنجا، ونجى هذا الرجل من الموت والهلاك والأمثلة في هذا عديدة، ونرجو المولى سبحانه أن يوفق الجميع لسلوك طريق العلم مهما كان، وبأية وسيلة.

صبر طالب العلم وزهده في الدنيا

صبر طالب العلم وزهده في الدنيا وأحب أن أذكر إخواني طلبة العلم بأن الله تعالى يسر وجود الجامعة، فهي تأتي بكل إمكانات مساعدة الطالب، من إسكان، ونقليات، ومكافأة، ومستشفيات، وجزى الله المحسنين خيراً. ولكن في المسجد النبوي شاهدنا ورافقنا وجالسنا في حلقة العلم أشخاصاً كانوا في الصباح تجدهم في الأسواق يحملون للناس على مناكبهم، وفي الصباح يحملون الماء إلى البيوت، وفي الصباح في الأسواق يتسببون، وإذا جاؤوا إلى صلاة المغرب تجدهم كالنجوم اللامعة في نظافتهم، وفي إنارة وجوههم بتقوى الله، ويجلسون بكتب الحديث يتلقون العلم على المشايخ في هذا المسجد، فهم في النهار خدام، وهم في المغرب أعلام. فطلب العلم ليس له طريق يمنعه، وليس هناك في علم الإسلام سن يحدده، وليس هناك شيءٌ يحول دونه، بل قوله صلى الله عليه وسلم: (سهّل الله له طريقاً إلى الجنة) -وهي أعلى منزلة وأعظم عطاء- يفيد أنه من باب أولى أن يسهل له طريقاً في الدنيا، فهل يُسهل له طريق الجنة ويعسَّر عليه طريق الدنيا؟! لا والله. وطالب العلم قنوع يكتفي بما يكفيه، ولو وقفنا عند هذه الجملة من هذا الحديث لطال بنا الكلام عليها، وأعتقد أنه يكفي العلم شرفاً وفضلاً كونه علماًً، فهو يتحدث عن نفسه كما يقولون.

فضيلة حلق الذكر في المساجد

فضيلة حلق الذكر في المساجد قال صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) . ذكر في الحديث (في بيت من بيوت الله) ، وبيوت الله العرف خص بها المساجد، وهذه إضافة تشريف وتكريم، وإلا فالعالم كله لله، وكما جاء في القرآن الكريم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] ، وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] ، فهذه البيوت المضافة إلى الله إنما هي المساجد، وهي إضافة تكريم وتشريف، كما في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13] ، وكل الإبل والنوق في العالم لله، وهو الذي خلقها، ولكن هذه بالذات أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى لتميزها بآية خاصة، وكذلك المساجد تميزت عن بقية البيوت، بيوت الملوك والأمراء والفقراء والأغنياء، وفي حديث الأعرابي حينما ترك ناقته خارجاً ودخل، ثم أخذ جانباً في المسجد، وجلس يريق بوله فزجره الصحابة الكرام قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه) ، فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعا الأعرابي وقال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) ؛ لأنه وجد الرحمة، ووجد التيسير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد الشدة من الآخرين. والأصوليون يقولون: إذا وقع الخطأ يُنظر فيه ويرتكب أخف الضررين، وهذا ما حصل في حديث الأعرابي، وذكر الله هو كل ما يعرف الإنسان بربه ويصله به. فقوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله) ، جاء في بعض الروايات بلفظ: (في المسجد) ، وفي بعضها الآخر: (في مجلس يذكرون الله) ، فالعبرة هنا بعموم الذكر، وأشرنا إلى أن ذكر الله أعم عمومات العبادات، فهو ليس في حق الإنسان، ولا في حق الحيوان، بل ولا في حق الشجر والمدر، فالذكر عبادة جميع الكائنات، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] . فالحصى في كفه صلى الله عليه وسلم سبح، والجذع الذي كان يتكئ عليه للخطبة حينما تحول إلى المنبر حن لفراقه وبكى، ونزل إليه صلى الله عليه وسلم وخاطبه قائلاً: (إن شئت غرست في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت غرستك في الجنة) ، فاختار أن يغرس في الجنة، فهو جذع خشب يؤمن بأن هناك جنة. وفي الموطأ في يوم الجمعة وفضله ورد: (وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة) . فالدواب تعلم أن هناك ساعة، وتعرف أنها ستكون يوم الجمعة، وتعرف أنها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، ونحن ما كنا نعرف هذا. فأهم ما يكون على العبد ذكر الله، وقد قالوا: هو غذاء القلب، وهو للإنسان كالماء للسمك، فالشخص الذي يغفل عن ذكر الله كالسمك إذا أخرجته من الماء، ولذا جاء الذكر في جميع التكاليف. فحينما تأوي إلى فراشك للنوم فإن السنة تأتيك، وتقول لك: اضطجع على شقك الأيمن وقل: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت روحي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها) . وإذا استيقظت من نومك في الليل ذكرت الله. وإذا استيقظت في الصباح تقول: (اللهم بك أصبحنا وبك نمسي) . فإذا جئت إلى الصلاة، ذكرت الله في سجودك، وذكرت الله قبل سلامك، وذكرت الله بعد الصلاة. وإذا رجعت إلى بيتك وتناولت طعامك تقول: باسم الله. شبعت من طعامك تقول: الحمد لله. فذكر الله في كل صغيرة وكبيرة. وفي الصيام يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن (للصائم فرحتين، فرحة عند فطره، وفرحة وعند لقاء ربه) ، وله دعاء مستجاب، وكذلك إخراج الزكاة، وكذلك في الحج، فالحج كله ذكر لله. وكذلك إذا لبست ثيابك، أو خلعت نعلك، وفي كل أحوالك. ولذا يمتدح الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] ، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] ، ويأتي أيضاً بخواص الذكر فيقول تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] . فالذكر من حيث هو عام، وأخص ما يكون إذا ذكر منفرداً خالياً بقلب خاشع. فالسبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله يبدأون بإمام عدل، وينتهون بقوله: (ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) ، فاضت عيناه رغبة أو رهبة.

المقصود بالذكر في الحديث، وحكم القراءة الجماعية

المقصود بالذكر في الحديث، وحكم القراءة الجماعية وللذكر آداب عديدة، ويهمنا موضع الحديث (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله) ، يقول ابن رجب في هذا الحديث: الحديث نص على اجتماع قوم يذكرون الله في المساجد. وهنا يأتي خلاف العلماء في نوع الذكر المقصود، فالحديث فيه: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه) ، فيقول: إن حملنا الذكر على خصوص التلاوة والمدارسة، بمعنى الفقه والعلم بكتاب الله، فهذا لا إشكال عليه، ولذا كان بعض السلف إذا صلوا الصبح اجتمعوا وقرأوا كتاب الله، وتدارسوه فيما بينهم، وتعلموا الفرائض، والفرائض من كتاب الله. وإن كان المراد عموم التلاوة فقط فعلى أية صفة؟ ويذكر أن أهل دمشق وحمص ومكة كانوا إذا صلوا الصبح اجتمعوا لقراءة القرآن، إلا أن أهل دمشق وحمص يجتمع النفر منهم ويقرأون جميعاً في وقت واحد من سورة واحدة، ولكن أهل مكة كانوا يجتمعون فالشخص الواحد يقرأ العشر الآيات والبقية يسمعون، ثم يقرأ الآخر عشر آيات والبقية يسمعون، وقال: وهذا لا بأس به. واستدل بعمومات، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن من ابن مسعود، وكذلك عمر كان ربما يأمر الرجل يقرأ، ويسمع هو وأصحابه، واستمعوا إلى أبي موسى الأشعري، وكان عمر يقول له: اقرأ ونحن نسمع. وقد يستدل لذلك بعموم قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ، وبعض العلماء يقول: هذه خاصة في الصلاة، وبعضهم يقول: هي أعم من ذلك كله. والذي يهمنا أن قراءة قارئ وسماع المستمعين لا غبار عليه، ولكن كونهم يجتمعون ويقرأون جميعاً فإن ابن رجب قال في شرح هذا الكتاب المبارك: بلغ ذلك مالك بن أنس، وتكلم مع رجل من أهل الشام فقال: أنتم تجتمعون لكذا وكذا! فقال: نعم. قال: أما نحن فكان عندنا المهاجرون والأنصار، وما كانوا يفعلون ذلك، وكان الواحد منهم إذا صلى الغداة جلس يذكر الله ويسبحه، ولا يكلم بعضهم بعضاً اشتغالاً بالذكر. ومن هنا اختلفوا في جواز اجتماع القوم ليقرأوا القرآن بصوت واحد في موضع واحد، أي: أن نأخذ المصحف ونقرأ مثلاً قوله تعالى: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] في نفس واحد، أو أن الكل يصغي ويستمع وينصت ورجل واحد يقرأ ونحن نتأمل القراءة ونستمع إليه. يقول ابن رجب في هذه الصورة: لا بأس بها للعمومات الواردة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وعمر كان يأمر غيره فيقرأ وهم يستمعون. أما أن يقرأوا جميعاً، فيحصل اللغط من بعضهم على بعض فهذه هي الصورة التي يقول عنها مالك: إن اجتماعهم لذلك في المسجد بدعة. وعلى كلٍ فالحديث معنا فيه: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه) ، وهل التلاوة التي كان يفعلها أهل مكة وحمص والشام كانت تلاوة فقط، أم تلاوة مع مدارسة؟ فإن كان مع التلاوة مدارسة وفهم القرآن، وعلم التفسير وما يتعلق بذلك فالحمد لله، وبها ونعمت، وإن كانت تلاوة فقط فكما قال ابن رجب: الصورة الجماعية هذه هي المكروهة، وصورة كون شخص واحد يقرأ والبقية يسمعون داخل في عموم الذكر، وفي سماع النبي صلى الله عليه وسلم من غيره. فهذا الحديث متعلق بالقرآن تلاوة ومدارسة، وأما إذا جلس يستغفر الله، أو جلس يسبح الله، أو جلس يحمد الله، أو جلس يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جلس لأي نوع من أنواع الذكر فيما بينه وبين الله فلا مانع من ذلك، وقد جاء الحديث: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة) . وجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا صلى الغداة ينتظر إلى طلوع الشمس، فإن عرض له عارض كتجديد الوضوء يترك رداءه، ويقوم ويقول: انتظروا مجيئي فسمعه بعض الناس فقالوا: من تكلم؟ فليس عندك أحد؟ قال: أكلم جلسائي فالملائكة تحف ذاكري الله. وجاء في الحديث الآخر: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى بغيتكم فيجيئون فيحفون بهم إلى سماء الدنيا) . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر) ، وليس معنى (حلق الذكر) الصور المعهودة عند بعض الناس التي استحدثت، إنما هي الواردة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاجتماع الملائكة أو بحثهم عن رياض الجنة -وهي مجالس الذكر- وارد في السنة، وقد ألّف العلماء الكتب في ترتيب وآداب ونصوص الذكر الوارد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

آداب الذكر وأحكامه

آداب الذكر وأحكامه يقول العلماء: إن أهم آداب الذكر إخلاص النية لله وحضور القلب؛ لأن العبرة بذلك، كما في الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) ، فينظر إليها على أساس الإخلاص لله. ويقول بعض العلماء: إذا كان جالساً في مجلسه يذكر الله فالأولى له استقبال القبلة، وبهذه المناسبة ننبه بعض الأشخاص الذين يصلون في المسجد، ويجلسون ينتظرون الصلاة في الصف الأول، فيستدبرون القبلة ويستقبلون الناس، ويتلون كتاب الله، فقد جاء في بعض الآثار أن السلف كانوا يمنعونهم، ويقولون: لا تحولوا دون الملائكة والقبلة. لأن هناك ملائكة تصلي، فلا ينبغي أن يحول الجالس دون القبلة، فإذا استقبل القبلة كان هو وغيره سواءً، أما أن يجلس مستدبراً الكعبة مستقبلاً الناس فهذا جاء عن السلف أنهم كانوا يكرهون ذلك، فمن الآداب استقبال القبلة في الذكر. وكذلك نقول للذي يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره، ويريد الدعاء بعد أن يفرغ من السلام أن عليه أن يتحول عن ذاك المكان ويستقبل القبلة ويدعو الله سبحانه وتعالى؛ لأن الكعبة هي قبلة الذكر وقبلة الدعاء، ومن هنا يقول الإمام أبو حنيفة: إذا أردت أن تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تأتِ مواجهاً؛ لأنك تستدبر القبلة، وإنما تأتي من الروضة، وتجعل الحجرة الشريفة عن جانبك وأنت مستقبل القبلة؛ لأنك حينما تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت في أقرب القربات إلى الله. ولكن وجدنا في مسند أبي حنيفة نفسه ما يوافق رأي الجمهور، وهو مطبوع مع مسند الشافعي. ومن الآداب أن يكون على طهارة، فإن لم يكن على طهارة فلا مانع ما لم يكن جنباً، وله أن يذكر بجميع أنواع الذكر إلا القرآن إذا كان جنباً، فإذا كان جنباً فلا ولا حرف. كما جاء في حديث علي رضي الله تعالى عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً) . ولهذا كره العلماء كراهة تحريم للجنب وللحائض أن يقرأا القرآن، وللحائض مباحث في ذلك عند مالك خاصة، ذكرها ابن رشد في بداية المجتهد، وهو أن المرأة إن كان لها ورد من حفظها فإن تركت القرآن مدة حيضتها ضاع عليها حفظها تيممت وقرأت وردها فقط؛ لئلا تنسى ما حفظت. ومن باب آداب الذكر توخي الأوقات الفاضلة، كما بين الأذان والإقامة، وكذلك الدعاء وأنت ساجد، وغير ذلك من الآداب التي تذكر في كتب الأذكار الواردة يومياً. والله تعالى أعلم.

الجائزة الإلهية للمجتمعين للذكر في المساجد

الجائزة الإلهية للمجتمعين للذكر في المساجد ويختم صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بتلك العبارة الخاتمة: (إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة) ، فكل ذلك للذاكرين الله سبحانه. والسكينة تجد كثيراً من الناس يتكلمون في معناها. وجاء في بعض روايات الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شخص ببصره إلى السماء، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون الله تعالى. فنزلت عليهم السكينة يحملها الملائكة كالقبة، ولما دنت منهم تكلم رجل منهم بباطل فرفعت عنهم) . فالسكينة أمر معنوي، فتأتيهم الملائكة كالقبة لتغطيهم، ومعنى (وغشيتهم الرحمة) أي: غطتهم. ويمكن أن يقال: إن السكينة من السكون والطمأنينة، والقرآن الكريم يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، فالسكينة التي ينزلها الله على الذاكرين هي ما يشعرون به من طمأنينة القلب، وارتياح النفس، وسعادة لا يعادلها شيء، فلو جئت إلى إنسان يملك الدنيا وهو قلق النفس مضطرب، فما قيمة هذه الدنيا عنده؟ ولو جئت إلى إنسان عنده قوت يومه وليله، وهو معافى في بدنه وقرير العين مطمئن القلب، فماذا ينقصه؟ لا شيء. فهذه هي السكينة. ومن هذا المعنى ننطلق إلى الروضة الوارد ذكرها في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ، وكل المعاني التي يوردها العلماء عليها وارد، وعليها اعتراض، ولكن لو قلنا: إن قوله: (روضة من رياض الجنة) معناه: أن من لوازم تلك الروضة أن يكون المتعبد فيها يشعر بالطمأنينة والسكينة إلى حد لا يشعر به خارج المسجد، كبيته والسوق فلا مانع من ذلك. قوله: (وغشيتهم الرحمة) . الغشاء: هو الغطاء، كأن الرحمة رداء ينتشر عليهم. قال: (وحفتهم الملائكة) ، فالملائكة تحفهم بأجنحتها إما رأفة بهم، وإما إعجاباً بهم، وإما تطييباً لخواطرهم. كما قال تعالى في ليلة القدر: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] ، قالوا: من علامات القبول في تلك الليلة، أو من علاماتها أن يشعر الإنسان بروحانية في تلك الليلة. قال: إذاً: (وذكرهم الله فيمن عنده) ، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) ، ويقولون: هذه الخصائص والفضائل لمن يذكرون الله سبحانه، سواءٌ أكانوا جماعة أم كان الذكر فرداً. وفي الخاتمة قال: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) . فالمطلوب هو العمل بما جاء في الحديث من الفرص وأعمال الخير، من تنفيس الكرب عن المكروبين، ومن تيسير العسر على المعسرين، ومن ستر العورات، ومن ذكر الله سبحانه، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولذا جاء في الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن أوليائي إلا المتقون) ، ووقف صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً) . فالنسب فيما يتعلق بالدنيا ليعرف الإنسان نفسه والآخرين ليتعامل معهم، أما في الآخرة فلا.

الحديث السابع والثلاثون

شرح الأربعين النووية - الحديث السابع والثلاثون

كتابة الحسنات والسيئات

كتابة الحسنات والسيئات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذا الحديث السابع والثلاثون في فضل الله ورحمته. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف. في هذا الحديث النبوي الشريف يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه أنه كتب الحسنات والسيئات، و (كتب) هنا بمعنى: أعلم الملائكة كيف تكتب الحسنات والسيئات على بني آدم، وما يكون موقفهم عند عمل العبد فعلاً أو عزمه على العمل، وبين لهم الهم بالفعل والتنفيذ العملي، وعلمهم ماذا تكتب الملائكة على الإنسان في هذا كله. فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) بمعنى: بين منهجاً للملائكة كيف تكتب إذا عمل العبد فعلاً أو عزيمةً. وقيل: المعنى يرجع إلى القضاء والقدر، أي: أن الله قدر الحسنات والسيئات، ولكن تتمة الحديث تؤيد المعنى الأول؛ لأن الحديث يبين ماذا للعبد في عمله وماذا للعبد في عزمه على العمل فهو بيان الإحصاء، وكيفية تسجيل الملائكة على العباد أعمالهم. فبين النبي صلى الله عليه وسلم الأقسام الأربعة وهي: الهم بالحسنة، وفعل الحسنة، والهم بالسيئة، وفعل السيئة، ويلحق بذلك ترك فعل السيئة، فهي أربعة أقسام يلحقها قسم خامس، وبدأ صلى الله عليه وسلم ببيان أمر الحسنة فقال: (من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات، ويضاعف الله لمن يشاء إلى سبعين ضعفاً، إلى سبعمائة ضعف، إلى إضعاف كثيرة) هذا مبدئياً، ويقابل هذا قوله: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة) ؛ لأنه ترك السيئة، ولو فعلها كانت سيئة واحدة. متى يكون العزم أو الهم مؤاخذاً عليه أو غير مؤاخذ عليه؟ وهل المضاعفة قاعدة عامة مطردة أم أن لها أحوال استثنائية فتتضاعف السيئات وتتضاعف الحسنات؟

أجر الهم بالحسنة

أجر الهم بالحسنة قوله عليه الصلاة والسلام: (من هم بالحسنة) ، الحسنة هي: كل ما جاء في الشرع الحث على فعله من الواجبات أو من المستحبات، من الفروض ومن النوافل، سواء كانت قولاً أو فعلاً، فلو أراد أن يصلي ركعتين، فجاء إنسان وجلس إليه وشغله عنها، فله حسنة، أو أراد أن يصوم يوماً فجاء ضيف وشغله عن الصوم، فله حسنة، وأراد أن يتصدق بجزء من المال فعرضت له حاجة ملحة فأنفق فيها هذا المال، فله حسنة، فكل هذه الأعمال من هم بها، ولكن عرض له عارض أوقف إتمام العمل بها، فحكم هذه النية الحسنة والهم بتلك الحسنة الطيبة، أن يكتب الله له في ذلك أجر، ويكتبها الله عنده حسنة كاملة. وجاء التأكيد بكلمة: (كاملة) حتى لا يظن ظان بأنه يكتبها حسنة دون الحسنات المعتادة، بل هي حسنة بكمالها. ويستدل العلماء على اعتبار النية والقصد، -خاصة في فعل الخير- بما جاء في الحديث: (إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً فهو يعرف حق الله فيه، فيؤدي حق الله، فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً، فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه من الخير والحسنات كما يعمل فلان، فهما في الأجر سواء) ، فهذا شخص لم يعط مالاً ولم ينفق، ولكن لما كان حريصاً على الخير، ولم يمنعه منه إلا قلته أو عدم وجوده، كان بحسن نيته وبعزمه على الفعل مع الفاعل بالفعل متساويين في الأجر. وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات: (إن بالمدينة أقواماً ما هبطتم وادياً ولا صعدتم مرتفعاً، إلا شركوكم في الأجر، أقعدهم العذر) . إذاً: حسن القصد وحسن النية يلحق العبد -إذا لم يتم له الخير لعجز أو تقصير أو مانع- بمن فعل ونفذ الفعل مباشرة، ومن هنا ينبه العلماء على أنه ينبغي للعبد أن يحرص على نية الخير، وعلى تجديد العزم، وعلى فعل الخير دائماً، يقول ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: جاء رجل يطوف في المسجد الحرام، ويقول: من يدلني على عمل أداوم عليه ويرضي ربي؟ فقالوا له: جدد العزم دائماً على أن تفعل الخير، فإن لك أجر الخير ما دمت ناوياً فعله.

مضاعفة ثواب الحسنات

مضاعفة ثواب الحسنات يكون للمؤمن بحسن النية أجر على ما لم يفعله، فإن عمل الحسنة بالفعل كتبت له عشر حسنات، وهذا هو الحد الأدنى في محاسبة المولى سبحانه لعباده، كما قال الله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] وهذا هو الحد الأدنى لجميع الناس في جميع الحسنات، ولكن في الحديث يقول: (إلى أضعاف كثيرة) أي: يضاعف لمن يشاء إلى أكثر من سبعمائة ضعف، وجاء في القرآن الكريم إلى سبعمائة كما جاء في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] والسبعة في مائة تساوي سبعمائة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] يعني: فوق السبعمائة، فيضاعف الحبة فوق ذلك لمن يشاء. فأي الحسنات التي تتضاعف، وأي الحسنات التي تقف عند العشر؟ يقول العلماء: المضاعفة ليس مردها للفعل من حيث هو، ولكن للفاعل ولظروف الفعل، فإذا كان الإنسان مقبلاً على العمل بنية خالصة وإقبال على الله، وراغباً في الخير، ومؤمناً بوعد الله، فهو ليس كشخص يساق إلى العمل سوقاً، فإذا وجبت الزكاة على رجل، فتلكأ فيها حتى أخذها منه الإمام، فليس كالشخص الذي يبادر، وينتقي خير ماله، ويدفع الزكاة طيبة بها نفسه، وهو يرجو فضل الله! أيضاً: لا يستوي الشخص الذي يؤمن بجزائه على عمله، ويعلم أنه يتعامل مع الله على حد قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ؛ والشخص الذي يخشى من الإمام، ويخاف عقابه لعدم إخراج في الزكاة، فيحاول أن يخرج الواجب فقط، فذاك شخص يريد الكمال في الأداء؛ وهذا شخص يريد أن يقف عند أدنى حد الإجزاء فهل هما سواء؟! ليسوا سواءً، فالشخص الذي يحاول أن يقف عند أدنى حد فيما يجزئه؛ ليس كالشخص الذي يصل إلى القمة فيما يجب عليه، فالمولى سبحانه ينظر إلى قلب هذا المؤمن، وقلب هذا المؤمن، فيضاعف لمن يشاء بقدر قوة إيمان كل منهما: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) فبقدر الإخلاص في القلب، وبقدر الإيمان تكون زيادة الأجر عند الله سبحانه وتعالى. فمثلاً: في الصلاة يكون الناس في صف واحد، يركعون ركوعاً واحداً، ويرفعون رفعاً واحداً، ويسجدون سجوداً واحداً، ويكون ما بين صلاة هذا وذاك كما بين المشرق والمغرب! فهل هما سواء، ليسوا سواءً. وبعض العلماء يقول: المضاعفة تكون خاصة للصدقة في سبيل الله، وما كان من الأمور الأخرى كصدقة لفقير أو مسكين أو لقضاء حاجة فهي تضاعف إلى حد العشرة، والذي في سبيل الله هو الذي يتضاعف إلى سبعمائة، ولكن قد تضاعف صدقة المسكين في حاجة، من الحاجات أشد خطراً، وأعظم بالاً، وأشد احتياجاً عند هذا المسكين من تلك الأموال التي تذهب في سبيل الله، فالمضاعفة تكون بحسب الواقعة وبحسب الشخص. وقالوا أيضاً: الحسنات تزداد وتتضاعف بحسب قلب صاحبها ويقينه وإيمانه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالحلق والتقصير للتحلل من الحج أو العمرة أنه دعا للمحلقين ثلاث مرات فقال: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، وفي الثالثة قال: والمقصرين) فحينما دعا صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، قالوا: يا رسول الله! ما بال المقصرين؟ أي: لماذا لم تترحم عليهم؟ وما بال المحلقين تخصهم بهذا الدعاء؟ قال العلماء: المحلقون ما كانوا في أي شك، وما شكوا في الأمر بالتحليق، فحلقوا شعورهم وهم موقنون كل اليقين بأن هذا هو الحق، وأن هذا هو الحكم، وأن هذا هو امتثال أمر الله ورسوله؛ لأنه أمرهم أن يحلقوا رءوسهم، ولكن المقصرين لم يطمئنوا لذلك، فكأن المقصر يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، والمقصر مقصر في حد ذاته كما يقولون. إذاً: ليسوا سواء، وفرق بين الذي يقبل على العلم إيماناً ويقيناً وبين الذي يدفع إليه دفعاً. إذاً: تتضاعف الحسنة بحسب ميزان الإيمان في قلب المؤمن.

مضاعفة الحسنات في الأوقات والأماكن الفاضلة

مضاعفة الحسنات في الأوقات والأماكن الفاضلة وتتضاعف الحسنات أيضاً بحسب المكان والزمان، ومضاعفة الحسنات في الزمان والمكان جاءت فيه النصوص الكثيرة، فمن حيث الزمان نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم فضل بعض أوقات الزمن من ساعة ومن يوم ومن ليلة ومن شهر على بعض، وكل ذلك جاءت فيه النصوص. فمن المفاضلة في ساعة من الأربع والعشرين الساعة ساعة يوم الجمعة، قال عليه الصلاة والسلام: (فيه ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي، يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه) ، وهذه ساعة في يوم الجمعة، ويوم الجمعة بكامله أيضاً أفضل أيام الأسبوع، وقد حثنا صلى الله عليه وسلم على كثرة الصلاة والسلام عليه في ذلك اليوم، ووهو يوم خلق فيه آدم عليه السلام، وفيه أسكن الجنة، وفيه سرت الملائكة إليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه. وكذلك عرفة، قال عليه الصلاة والسلام: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة) ، وصوم يوم عرفة يكفر سنتين، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة، فتلك الأيام لها فضائلها، وتتضاعف فيها الأعمال ما لا تتضاعف في غيرها. وشهر رجب جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً جاءه وسلم عليه، فرد عليه السلام وكأنه لم يبال به، فسأله: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: من أنت؟! قال: أنا الرجل الذي جئتك العام الماضي وأسلمت ورجعت، قال: قد تغير حالك، وكانت صفتك كذا وكذا، فقال: منذ فارقتك ما أفطرت يوماً أي: كان مداوماً على الصيام قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام، أو صم الإثنين والخميس، أو صم يوماً وأفطر يوماً، وصم من الأشهر الحرم وأفطر) ، فالأشهر الحرم يستحب الصوم فيها، والصوم فيها أفضل من غيرها. وكذلك العشر الأول من ذي الحجة، بين صلى الله عليه وسلم: (أنه ما عبد الله في أيام خيراً منها) ، وأقسم الله بها في قوله: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:1] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] . وكذلك ليلة القدر هي خير من ألف شهر، أي: من ثلاث وثمانين سنة، فهذه من الأوقات الفاضلة التي فضلها الله على غيرها، والتي تتفاضل فيها الأعمال. ونأتي إلى الأمكنة: فهذا المسجد النبوي (صلاة فيه تعدل ألف صلاة) ، وهذا لا يتعلق بالمصلي، إنما أوقعت الصلاة في مكان منحه الله فضل مضاعفة الصلاة، وجاء في حديث ضعيف مذكور في أعذب الموارد: (رمضان بالمدينة يعدل سبعين رمضان في غيرها) ، لكن هذا حديث سنده ضعيف، لكن حديث (ألف صلاة) صحيح ثابت. وإذا جئنا إلى مكة: (فصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة) ، فالأمكنة تتضاعف فيها الحسنات.

مضاعفة السيئات

مضاعفة السيئات وهل السيئات تتضاعف أيضاً؟ الحديث فيه: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) ، إن قيل: كيف يهم بالسيئة وإذا لم يفعلها تكتب له حسنة، فكل الناس يهمون بالسيئات؟! A إذا هم بالسيئة وترك فعلها، فإنا نسأل: ما موجب الترك؟ هل تركها رغبة عنها من أجل خوفه من الله، أو تركها لعارض منعه قهراً؟ يختلف العلماء في هذه النقطة فقط، فبعضهم يقول: إن هم بالسيئة ولكنه لم يفعلها لمانع قاهر له، فإنه يأثم على هذا الهم، يقولون: لأنه يوجد خاطرة وفكرة، وهمٌّ وعزيمة. فالفكرة والخاطرة: شيء يخطر بالبال ويمر، ولا يبقى عندك، ولا تتردد الخاطرة في فكرك، فإن استقرت في قلبك فهي هَمٌ وتصميم، فإن أردت التنفيذ فهو العزم، فالعزم هو: الهم الأكيد، والهم والهمة: أخذ الأهبة للعمل. فإذا هم الرجل بسيئة فننظر: هل أخذ في أسباب تحقيقها أم هو مجرد خواطر تجول في ذهنه؟ فإذا كان مجرد تفكير بلا عزم، والهم بالتنفيذ لم يأت بعد، فيتفق العلماء على أن مجرد الخواطر ومجرد التفكير قبل الأخذ في أسباب التنفيذ لا يؤاخذ عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس خواطر لا يؤاخذ بها. لكن إذا جالت الفكرة في فكره وذهنه ثم رسخت وأصبحت عزماً، وهم بالفعل، ولكن عرض له عارض خارج عن إرادته منعه من التنفيذ مع وجود التصميم منه، فهل يقال: تكتب له حسنة، أو تكتب عليه سيئة؟ بعض العلماء يقول: هذه لا يسلم منها؛ لأنه ما منعه من السيئة إلا شيء خارج عن إرادته، وعزمه لا زال موجوداً، فهذا العزم المؤكد على فعلها الذي لم يتراجع عنه يؤاخذ عليه، واستدلوا بحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، وهذا الذي كان حريصاً على قتل صاحبه هل موقفه مجرد الحرص ومجرد العزم أم أنه باشر أسباب القتل؟ باشرها، والتقى بخصمه، وجعلا يتضاربان ولكنه عجز، فوجد مع الهم: العزم والتصميم والأخذ في الأسباب ومباشرة السبب، ولكنه عجز، فهذا يأثم على همه هذا، ومثله كمثل شخص أراد أن يسرق، وجلس في بيته، وقال: والله! فلان بيته خالٍ، فلو كسرت القفل، ودخلت لآخذ الفلوس، ثم أشتري سيارة وأذهب إلى مكان كذا، وأخذ يبني قصوراً على الرمال في الخيال وهو في محله! وقال: ليس هذه الليلة، لكن غداً، حتى ما قال: إن شاء الله غداً أذهب وأنفذ، وبات على هذا، وجاء بالمقص الذي يقص القفل، وتركه عنده إلى يوم الغد، ولكن في الغد لم يذهب، وقال: ربما تأتي الشرطة، وربما يأتي صاحبه، وربما المسألة تصل إلى قطع اليد، فترك السرقة، ماذا تقولون في مثل هذا؟ إنه ترك السرقة مع عدم الأخذ بالأسباب، ولم يأت إلى خطوة التنفيذ، فتكتب له حسنة؛ لأنه رجع من قبل نفسه، لكن إذا ذهب بالمقص، ووضع المقص على القفل، وصار يحاول كسره، فسمع نحنحة الحارس آتياً فرمى بالمقص وهرب، فهل هذا هم بسيئة فلم يفعلها، فتكتب له حسنة؟ بل تكتب عليه سيئة واحدة فقط، وهذا من رحمة الله الواسعة، فإنه لم يكتبها سيئتين، وهذه الصورة لا يسلم منها، ولا تكتب له حسنة، والحديث يقول: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) ، فهل ندخل بينه وبين رحمة الله الواسعة؟! لا، ولكن لا نترك الناس يعبثون. إذاً: اختلف العلماء فيمن هم بالسيئة، وأعد لها كل العدة، ولم يمنعه منها إلا مانع قهري، فقيل: كيف تكون له حسنة في ذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم وإن أطلق لكن مقتضيات الأحكام العامة أو مقتضيات النصوص كلها تدل على أنه يأثم، كحديث: (إنما الدنيا لأربعة ... ) وذكر أن أحدهم قال: لو أن لي مالاً لعملت من الخير مثلما يعمل فلان، فهما سواء في الأجر، (ورجلاً لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً) ، فلم يعرف حق الله فيه، فهو في أسفل السافلين؛ لأنه صرف ماله في معصية الله، وعمل المعاصي بالفعل، والرجل الثالث: لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً، فقال: لو أن لي مثل مال فلان لعملت من الخير ومن المتعة والشهوة مثل ما يفعل فلان، فهو مثله في الإثم، فهذا ليس لديه المال، ولكن تمنى أنه لو تمكن لفعل كما فعل فلان، فلحق به في الدرك الأسفل، فهو همّ وتمنى أن يكون ولكن أعجزه قلة المال. فإذاً: العزم المصمم الذي يجعل الشخص حريصاً على المعصية، ولم يكف عن المعصية إلا لعارض منعه قهراً؛ فهذا يأثم.

أنواع الهم

أنواع الهم خلاصة كلام العلماء في قوله: (هم بحسنة، وهم بسيئة) : الهم همان: 1- هم مؤكد ومصمم على الفعل بعزم، ولم يمنع منه إلا العجز، كحديث: اللذين التقيا بسيفيهما، فالقاتل موجود همه وعزمه، والمقتول لا ينقص عنه في الهم والعزيمة، ولكن القاتل ظفر بالقتل، والمقتول عجز، فقبل وقوع القتل هما لا يتفاوتان في الهم والعزيمة بل هما سواء، فكل منهما حريص على قتل الآخر، فوجد الحرص والهم المؤكد من كل منهما. 2- هم بمجرد الخطرات، مثل رجل أراد أن يسرق وفكر وعمل كل التخطيط، ولكن لم يرد التنفيذ، وما عنده عزم، بل هو مجرد خاطرة في البال، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نقنع بالقليل، ونترك الذنب، فتأتي الفكرة تراوده مرة أخرى في أن يسرق دكان فلان، ثم يقول: لا، هذا مال زائل، وسيأتي ثم يذهب في طريقه، وما أتى بالحرام سيذهب في الحرام، وسأقنع بما أعطاني الله، فهذا الذي يفكر في مجرد السرقة، ولم يكن عنده التصميم والعزم الأكيد، ولم يذهب بالفعل إلى المحل الذي يريد سرقته، فله حسنة. إذاً: الهم الذي يصحبه العزم المؤكد شيء، والهم الذي هو مجرد خاطرة في البال شيء آخر، ومن هنا يبحث العلماء في تفسير قوله تعالى في قصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع زوجة الملك: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ، هل كان الهم من الجانبين متساوياً؟ لا والله! قالوا: إن همها كان مع سبق الإصرار والعزم المؤكد؛ لأنها كما قال الله: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] أي: هلم، أو تهيئت لك، فعندها عزم مؤكد وتصميم سابق على ما تريد، ولكن هم يوسف هو أمر خاطر، وهمه بها ليس هو الهم الذي يؤدي إلى الفعل، فرأى برهان ربه، فهمه هو: الخاطر والغريزة الجبلية في الإنسان، لكنه قاومها ودافعها، ولم يسترسل مع خواطر نفسه مثل زوجة العزيز، فإنها لم يمنعها من تنفيذ ما كانت تريده إلا ما قاله الله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] ، فهمها وهم يوسف مختلفان، ولذا قال الشاهد من أهلها: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. يهمنا قوله في الحديث: (من هم بسيئة فلم يعملها ... ) ، لماذا لم يعملها؟ جاء في بعض الروايات: (إنما تركها من جرائي) ، أي: تركها مخافة الله، فهذا الخوف من الله هو سبب الحسنة التي تكتب له، فكأنها توبة من جديد. إذا قدر أنه عمل سيئة بالفعل: سرق أو زنا أو كذب فتكتب له سيئة واحدة، ولم يقل: كاملة كما نبه عليه المؤلف رحمه الله، فالحديث أكد الحسنة بأنها كاملة، حتى لا يظن أنها الحسنة رقم اثنين أو رقم ثلاثة، بل هي حسنة كاملة رقم واحد، وجاء هنا بسيئة، وما قال: سيئة كاملة؛ لأن سيئة الفعل ليست كحسنة الفعل، بل قال: (كتبها سيئة واحدة) ، وكأن في كلمة (واحدة) نوع من التقليل، نعم هو لم يقل: ناقصة، لكن الفرق في اللفظ واضح، وهو يعطينا نوع تخفيف، ويشعرنا بذلك أنه جاء في بعض الآثار أن العبد إذا أذنب يقول ملك الحسنات لملك السيئات: انتظر لعله يستغفر، انتظر لعله يتوب، إذاً: هي سيئة واحدة، لكنها قابلة للمحو، وقابلة للإزالة، فقد تزول بأي مكفر من مكفرات الذنوب. يقول العلماء: الحسنة والسيئة تتضاعف -كما أشرنا- بالزمان، وتتضاعف بالمكان، وتتضاعف بالأشخاص، فالصلاة تتضاعف في هذا المسجد النبوي الشريف، والحسنة أيضاً تتضاعف في مكة، وجاء في حديث مضاعفة السيئة في مكة، ولم يأت ذلك في المدينة، بل في مكة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] ، فقال: (ومن يرد) ، وقد سئل أحمد رحمه الله: هل يحاسب العبد على همه بالمعصية؟ قال: لا، إلا بمكة، ولو كان في عدن ونوى قتل إنسان عند البيت لكتب عليه الوزر، ولو كان خارج مكة ونوى ارتكاب الإثم في مكة فإنه يضاعف له الإثم على ذلك. ولذلك يقول العلماء: من عصى الملك في بلاطه أو على بساطه ليس كمن يعصي الملك وهو في آخر مملكته وفي آخر بلاده، ولله المثل الأعلى، فحرمة البيت عظيمة عند الله؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فلا تحل لأحد، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها إلى يوم القيامة) ، ومن هنا كان لها أحكام خاصة، وقال الله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] ، يأمن فيه الإنسان والحيوان والطير، بل حتى الشجر يأمن أن تقلعه أو تعتدي عليه؛ لأنه في حرم الله، فهو مأوى كل مسلم من مشارق الأرض ومغاربها، فإذا لم يكن الإنسان آمناً على نفسه، آمناً على ماله فكيف يؤدي حق الله؟!

الأشهر الحرم

الأشهر الحرم وجعل المولى سبحانه في السنة أزمنة محرمة، وكان العرب في الجاهلية يعظمونها، وكانوا يكفون عن القتال والأذى فيها، وهي الأشهر الحرم. قال الله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة:36] أي: تعظيم حرمات تلك الأشهر {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] ، والأشهر الحرم هي: شهر رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثلاثة أشهر متواليات، ورجب الفرد. وقال الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، وما هي الأشهر المعلومات؟ هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فشوال انفرد بأشهر الحج، والمحرم انفرد بالأشهر الحرم، وذو القعدة وذو الحجة اشتركا في أشهر الحج والأشهر الحرم، فإذا كان شوال وذو القعدة وذو الحجة هي أشهر الحج، والمحرم من الأشهر الحرم، فالمولى سبحانه يقول: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] ، فيحرم على الناس في منازلهم، وعلى القبائل في أماكنهم، أن يحلوا شعائر الله، ولا آمين البيت الحرام الذين يبتغون فضلاً من الله. أي: فلا تحلوا الأشهر الحرم، ولا تحلوا الشعائر، ولا القلائد، ولا آمين البيت، وهم قاصدو البيت الحرام من الحجاج والمعتمرين، فقد كان الحاج من قبل يأتي من أقصى الجزيرة أو من البحرين أو من دول الخليج متجهاً إلى مكة، ويحتاج في مجيئه إلى نحو شهر ونصف، فلو خرج من نصف شوال، وجاء إلى مكة، وأدرك عرفة، فيقضي شهراً ونصفاً في سفره وحجه، ثم إذا أراد أن يرجع فمعه بقية ذي الحجة وشهر المحرم، فيذهب الحاج الذي من أقصى الجزيرة ويرجع إلى أهله في الأشهر الحرم، وهو معصوم الدم، آمناً من تلك القبائل، فوقت الحج يتزامن مع الأشهر الحرم لتحفظ حرمة الحاج. وفي الوقت الحاضر يأتي الحجاج من الصين، ومن موسكو، ومن واشنطن، ومن أقصى العالم، فقد يصل في عشر ساعات بالطيران، فيأتي ويرجع في الأشهر الحرم، وإذا وصل إلى مكة فهو في الأشهر الحرم، وفي البلد الحرام، فحينئذٍ يؤدي حجه آمناً مطمئناً، قد أمنه المولى، ومن اعترض الحاج، ومن أزعج الحاج أو أزعجه أو أقلقه أو أخافه؛ فهو محارب لله؛ لأن الله أمنه، فيأتي هذا ويخفر ذمة الله. الله يقول: يا عبادي! هلم إلى بيتي آمنين، بيتي أعددته لكم ومن دخله كان آمناً، ثم يأتي هذا ويتعدى على من أمنهم الله! وهم في غفلة عن هذا، فكل من أهاج حاجاً، وكل من آذى مسلماً جاء للحج، وكل من أخاف إنساناً في حرم الله، فقد توعده الله بالعذاب الأليم. لو أن إنساناً دخل بيتك، ثم جاء إنسان وفتح الباب واعتدى عليه، فقد اعتدى على صاحب البيت أيضاً، فالمولى سبحانه جعل الحرم آمناً، وجعله عتيقاً من الجبابرة، وأمن هواءه وأرضه وسماءه، ثم يأتي إنسان فيستهين بتلك الحرمة، ويعتدي على حرم المولى لعباده الذي جعله آمناً فوالله إنه لإجرام كبير، ولا يؤمن على هذا المعتدي مكر الله.

حرمة المسجد الحرام

حرمة المسجد الحرام إذاً: الحسنة تتضاعف، والسيئة تتضاعف بعظم حرمة المكان؛ ولهذا قالوا: من قتل في الحرم نفساً خطأً فالدية تغلظ، ونحن نعلم بأن القتل نوعان: عمد وخطأ، والعمد فيه القصاص إلا أن يعفو أهل الدم، والخطأ فيه الدية مائة من الإبل، لكن إذا وقع القتل خطأً في الأشهر الحرم أو في حرم مكة، فينص الحنابلة على أن الدية تتضاعف، أي: تغلظ، والدية قد تكون مغلظة وقد تكون عادية، فالدية العادية مائة من الإبل أياً كانت، ولكن المغلظة منها أربعون ناقة حاملاً، وأين يجد أربعين ناقة حاملاً؟ فهذا من باب التغليظ بسبب حرمة المكان والزمان. قالوا: من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، إلا إذا كان في مكة، فإنه يؤاخذ على هذا الهم، فإن عملها ضوعفت عليه السيئة، قال مجاهد وهو ممن أخذ عن ابن عباس: الحسنة تتضاعف في مكة والسيئة كذلك، ومن هنا لما أمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ابن عباس أن يقيم للناس الحج، أي: يكون مفتياً للحجاج، قال: لا أستطيع أن أسكن بلداً تتضاعف فيه السيئة كما تتضاعف فيه الحسنة، ولكن أسكن الطائف، وإذا جاء وقت الحج نزلت إلى مكة مدة الحج، فسمح له بذلك، ثم توفي ابن عباس في الطائف لهذا السبب.

فضل الله تعالى في مضاعفة الحسنات

فضل الله تعالى في مضاعفة الحسنات فهذا الحديث يبين كيفية تعامل العبد مع ربه، وكيفية تعامل الملائكة مع العبد، وقد روي عن ابن مسعود وعن أحمد قالا: ما أهلكه من غلبت عشراته آحادُه، أي: الحسنة بعشر، والسيئة بواحدة، ومع هذا فمن الناس من يأتي يوم القيامة وسيئاته أكثر عدداً من حسناته! فالمولى يضاعف لك الحسنة بعشر، ولا يحاسبك على السيئة إلا بواحدة ما لم تتب وتستغفر، ومع هذا كله تكون حصيلة السيئات عندك يوم القيامة أكثر من الحسنات! فلا يهلك على الله إلا هالك. روى النسائي وأبو داود وأحمد رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان لا يحافظ عليهما مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسيرتان، وقليل من يفعلهما! إذا قال بعد كل صلاة: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، عشراً عشراً، فتلك خمسون ومائة) أي: لأن كل واحدة عشر مرات، فهي ثلاثون، يقول ذلك عقب كل صلاة، فثلاثون في خمس صلوات بمائة وخمسين، قال: (وإذا أوى إلى فراشه سبح الله وحمد الله وكبره مائة مرة، فتلك خمسمائة وألفا حسنة) أي: لأن مائتان وخمسون في عشرة بـ (2500) ، قال: (وهو لن يفعل سيئات بهذا العدد) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وهذا الحديث والتوجيه النبوي الكريم معادلة، لتعرف كم حسناتك في اليوم وكم سيئاتك، فإذا حرصت على سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، عقب كل صلاة عشراً عشراً، كان مجموع ذلك مائة وخمسين؛ فمائة وخمسون في اللسان، ولكن في الميزان تكتب ألفاً وخمسمائة؛ لأن مائة وخمسين في عشرة بألف وخمسمائة، وعند النوم تقولها مائة مرة، فهي بألف، فيكون لديك ألف وخمسمائة عقب الصلوات ولديك ألف عند الإيواء إلى الفراش، فمجموع الحسنات عند الله ألفان وخمسمائة حسنة، ولن يعمل العبد إن شاء الله سيئات بقدر ذلك. فلو عملنا هذا، فحصيلة الحسنات أكثر بلا شك، فما عمل من خير بعد ذلك فهو فضل له، وهو سيعمل خيراً غير هذا؛ فسيلقي السلام، وسيلقى أخاه بوجه طلق، وسيعاون هذا، وسيتصدق، وسيقول كلمة الحق، وكل ذلك حسنات له، ومع هذا كله يأتي إنسان يوم القيامة وسيئاته أكثر من حسناته!! نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

مضاعفة أجر الصدقة بحسب حاجة المسكين

مضاعفة أجر الصدقة بحسب حاجة المسكين Q هل الصدقة تتضاعف بحسب شدة حاجة المسكين؟ A أليست الحسنات في ذاتها أيضاً تتفاضل؟ قال الله سبحانه: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] يقول أبو حيان: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) فيها احتمالان: الأول: الحسنة من حيث هي من باب الحسن، والسيئة من حيث هي من باب الإساءة لا يستويان، فهذه حسنة معروفة، وهذه سيئة قبيحة، فهما متباعدان ونقيضان. الثاني: ولا تستوي الحسنة في ذاتها، بل يوجد حسنة رقم واحد، وحسنة رقم اثنين، وحسنة رقم عشرة، وكذلك السيئة تتفاوت، وقد أشرنا إلى تفاوت الحسنات بحسب عمل العبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (سبق درهم مائة ألف درهم!) ، والدرهم واحد، لكنه يقول لهم: (سبق درهم مائة ألف درهم!!) فميزان العقل والمنطق والحساب والرياضيات يتساءل: كيف هذا والجنس واحد؟! فالدرهم هو الدرهم، وهذه مئات الآلاف من الدراهم، فكيف هذا العدد كله يتأخر ويسبقه درهم واحد؟! فبين صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (رجل معه درهمان، فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها) . فانظروا هذه المقارنة، فشخص عنده درهمان فقط، فتصدق بواحد، فنسبة الصدقة من رأس المال (50%) ، والباقي معه بعد الصدقة (50%) ؛ لأن الباقي واحد فقط، وهذا الذي عنده مال كثير، مثلاً مليون، وجاءه مشروع من المشاريع، فمرة يبيع بيته أو يبيع أرضه فربح عشرات الملايين، وقال: هذه مائة ألف، أو مائتا ألف ريال صدقة، فلو تصدق صاحب عشرة ملايين بمائتي ألف، فالمائتا الألف من العشرة الملايين، نسبتها واحد من مائتين، فأين واحد من مائتين من خمسين في المائة؟! فهي نسبة مئوية بعيدة جداً. ولو أن صاحب العشرة الملايين تصدق بمليون، فهي عشرة بالمائة وسيبقى له بعد ذلك تسعة ملايين، ولا يشعر بشيء خسره. إذاً: هناك فرق كبير بين القلب الذي يسخو بنصف رأس ماله ولم يبق بيده إلا درهم واحد، والشخص الذي تصدق بشيء لم يشعر به، ويبقى عنده ما يغطي ما تصدق به عشرات المرات، فالدرهم الواحد إذا خرج من قلب نقي، وصاحبه يكثر من ذكر الله، فهو أفضل من صاحب المئات التي خرجت من قلب لا يحس بأثرها كإحساس قلب صاحب الدرهمين، ومن هنا تتفاضل الحسنات فيما بينها. وأنت لو تصدقت لإنسان محتاج، وعنده (70%) من قدر حاجته، فأعطيته (30%) لسد حاجته، وأتيت لإنسان محتاج لـ (100%) ، وأعطيته (20%) من حاجته، فهل صدقة (20%) التي أعطيتها لهذا تعادل (30%) التي كملت بها لصاحب السبعين؟ وأيهما أشد سداداً لصاحبها؟ فصاحب (70%) لا بأس بحاله، حتى لو كان صاحب (50%) ، لكن هذا الذي ليس عنده شيء، فهو مسكين لاصق في الأرض كما قال الله: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] ، وليس لديه شيء يحركه، فأنت حركته وأنعشته بصدقتك، فهي أفضل. إذاً: الحسنة في ذاتها تتفاوت بحسب حاجة المحتاج، كما أنها تتفاوت بتفاوت الزمان والمكان، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه.

الحديث الثامن والثلاثون

شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن والثلاثون

شرح حديث: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب.

شرح حديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... ) الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري] .

الزيادات التي لم تثبت

الزيادات التي لم تثبت هذا الحديث النبوي الشريف يعتبر عند العلماء من أشرف وأخص ما جاء في فضل أولياء الله سبحانه. وهذا الحديث بهذه الألفاظ قال النووي هنا: رواه البخاري، وظن بعض الناس أن البخاري انفرد به، ولا يوجد الحديث في كتب السنن سوى البخاري، ولكن يوجد هذا الحديث أيضاً في حلية الأولياء، وذكره السيوطي في رسالة مختصرة، وكتب فيه الشوكاني كتاباً مستقلاً سماه: قطر الولي بشرح حديث الولي، وقد طبع كتابه هذا، وذكر أن أحمد رحمه الله ذكره في كتاب الزهد، وكذلك البيهقي؛ ولكن لضيق الوقت لم أتمكن من الاطلاع عليه في كتابي أحمد والبيهقي، وهو موجود بنصه في الجزء الثامن من حلية الأولياء، وأنصح طالب العلم ألا يكتفي بكتاب البغية الذي فهرس أحاديث الحلية؛ لأن هذا الحديث بالذات سقط من الفهرس، وهو يوجد في الجزء الثامن في ترجمة الحسن بن يحيى بن الحسنين. وقد تكلم عليه ابن حجر فيما لا يقل عن خمس أو ست صفحات في الجزء الحادي عشر من فتح الباري في كتاب التواضع. واستشكل بعض العلماء فقال: ما علاقة هذا الحديث باب التواضع؟ وإذا رجع طالب العلم إلى مرجعه فسيجد الجواب على ذلك مفصلاً، ويقول الشوكاني في كتابه على هذا الحديث: لم يكن عندي أثناء شرح هذا الحديث سوى فتح الباري لـ ابن حجر. إذاً: هذا الحديث له أهميته، وعني به شراح الأربعين النووية، وفعلاً عني به أيضاً ابن حجر، وشرحه على ما جاء بألفاظه التي سمعنا. ونحب أن ننبه أنه سبق وأن ذكرنا هذا الحديث عرضاً في بعض الليالي، وذكرنا في آخره زيادة كنا نحفظها أثناء الطلب، وسمعناها من مشايخنا، وفسروها لنا بما يتفق مع معنى الحديث، والزيادة هي: (وجعلته عبداً ربانياً يقول للشيء: كن، فيكون) ، وتساءلنا: ما معنى (عبداً ربانياً يقول) إلى آخره؟ فقالوا: يجعله مجاب الدعوة، ولكن بما أن الأمر نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بحثنا عن تلك الزيادة في المراجع فلم نجدها، وبلغني أن بعض الإخوة يجتمعون عند فضيلة الشيخ حماد الأنصاري -وكلنا يعرف سعة مكتبته وعلمه- ويبحثون عن تلك الزيادة، وأعتقد أن تلك المراجع كلها لم تذكرها؛ ولذا أحببت التنبيه على ذلك؛ ليعرف طالب العلم أنها لا توجد في كتب السنن، والأولى التحفظ من ذكرها، وما جاء في الحديث في صحيح البخاري فيه الكفاية؛ لأن الله سبحانه قال: (لئن سألني لأعطينه، ولئن استنصرني -وبعض الروايات- استنصر بي لأنصرنه) وسيأتي تفصيل ذلك. وفي هذا المسجد النبوي الشريف دروس وعبر لطالب العلم، وأذكر هذا لا اعتذاراً في الموقف، ولكن بياناً للمنهج، وقد اجتهد عمر رضي الله تعالى عنه، وأراد أن يحدد المهور اجتهاداً منه، فتقوم امرأة وتقول: ليس لك ذاك يا عمر! والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] فكيف تحدد شيئاً لم يحدده الله في كتابه؟! فقال عمر وبملء فيه، وعلى رءوس الأشهاد، وعلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخطأ عمر، وأصابت امرأة. ولقد رفع ذلك عمر عند أصحابه. وفي هذا المكان بالذات، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في دروس رمضان في التفسير، وعند الآية الكريمة: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة:36] إلى آخر الآية، قال: أيها الإخوة! كنا قلنا سابقاً أن تلك الأشهر قد نسخت، ونسختها آية السيف -كما يقول بعض المفسرين-، ولكن بعد التأمل والبحث ظهر لنا أنها لم تنسخ، وأنها باقية على حرمتها، فأحببنا أن ننبه الإخوان على ما سبق أن قلناه. وهكذا أيها الإخوة! يبلغ الحاضر منكم الغائب أن تلك العبارة بحثتها شخصياً في تلك المراجع، فلم أجد لها ذكراً في تلك المراجع؛ ولذا نقف على ما جاء في صحيح البخاري، وما جاء في الحلية بزيادة بعض الألفاظ فنعرض لها عند شرح الحديث إن شاء الله، وأحمد الله مرة أخرى، وأشكر الإخوة الذين نبهوا على ذلك، والحمد لله.

من هو الولي؟

من هو الولي؟ يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه أنه قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ، هنا يقف العلماء عند: (من عادى لي ولياً) من هو الولي؟ وكيف يعاديه؟ وكيف يؤاذنه الله بالحرب؟ وهل كل عداوة تدخل في هذا؟ يقول العلماء: الولي من نص القرآن الكريم عليه بقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] ومن قانون اللغة العربية في البلاغة -في مبحث الوصل والفصل في البيان- أن الجملة إذا كانت جديدة تعطف بالواو، وإذا كانت مفسرة أو مرتبطة بما قبلها كأن تكون جزءاً من كل، أو بياناً لمجمل، فإنها لا تعطف بالواو ولكن تأتي تابعة لها، وأشرنا إلى ذلك مراراً، وهذه القضية البلاغية تحل إشكالات كثيرة عند طلبة العلم في مآزق المواقف، وخاصة في مواقف العقائد. بيان لذلك: تجد في مستهل المصحف الشريف قوله سبحانه: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] (هُدًى) لمن؟ (لِلْمُتَّقِينَ) ثم جاء بعد ذلك بأوصاف لأشخاص، وهل الأوصاف جاءت معطوفة بالواو أو جاءت متصلة بدون عطف؟ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:2-3] ولم يقل: (هدى للمتقين والذين يؤمنون بالغيب) لا، يقول البلاغيون: لو قيل: ومن المتقون الذين يهتدون بالكتاب؟ قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] ، ولو جاء بالواو لكانت مفرقة، وكان عندنا قسمان: لو قيل: (هدى للمتقين، والذين يؤمنون بالغيب) يبقى عندنا متقون، وعندنا مؤمنون بالغيب. إذاً: الوصل والفصل في البيان هو سر البلاغة، ومن هنا: أجاب أحمد بن حنبل رحمه الله على من استشكل أمر المعية، وهي إثبات ما جاء في كتاب الله بدون تأويل ولا صرف للمعنى، وذلك في قضية نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، عندما قال المولى سبحانه لما أرسله وأخاه إلى فرعون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7] وبمجموع هاتين الآيتين قال أحمد رحمه الله: إن معية الله لموسى وأخيه تفسر بما بعد المعية {إِنَّنِي مَعَكُمَا} ولم يقل: (وأسمع وأرى) ، وإلا كانت معية سمع ورؤية، ولكن قال: (أسمع وأرى) ، وهي عين المعية التي بينها سبحانه وتعالى، فهي معية تأييد ونصرة، وهي عين المعية في غار حراء مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الهجرة عندما خرج صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، قالها صلى الله عليه وسلم حينما قال أبو بكر: والله! يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى تحت قدمه لأبصرنا، قال: (ما بالك باثنين الله ثالثهما؟) ، المولى سبحانه وتعالى بين لموسى بقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، ومعية الله العامة هي لجميع الخلق بالعلم والاطلاع: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] ، وأحمد قال: اقرأ ما قبلها واقرأ ما بعدها {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا} [المجادلة:7] وآخرها: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] قال: بدأها بالعلم وختمها بالعلم فهي معية علم، ومعية العلم لجميع الكائنات مستوية، ولكن معية التأييد والنصرة خاصة لرسله ولأوليائه. إذاً: الولي من الموالاة، والموالاة القرب، والعداوة من العدوة، والعدوة البعد يقال: عدوة الوادي أي: كل واحدة في جانب، وهنا قوله: (من عادى لي) يقول ابن حجر: واستشكل العلماء كلمة (عادى لي) ، فالمفاعلة هنا معاداة مع أن ولي الله لا يعادي أحداً؛ لأنه متصف بالحلم ومكارم الأخلاق وسعة الصدر، فكيف تكون المعاداة بين ولي الله وبين شخص آخر؟ وأجيب عن ذلك: بأن المعاداة هنا: إنما هي من جانب واحد، كما تقول المعاناة حين تعاني الأمر، وكذا يقال: المسافر وليس مفاعلاً مع شخص آخر، والمقاتل والمزاحم معه شريك، والمناقش والمجادل معه شريك، ولكن المسافر ليس معه إنسان مفاعل معه، إذاً: المعاداة هنا تكون من جانب واحد.

المعاداة التي تستوجب محاربة الله

المعاداة التي تستوجب محاربة الله هل كل معاداة لولي تستوجب حرباً لله؟ A لا، ولقد وقع النقاش والخلاف في أمور دنيوية بين خيرة الأمة وأكرمها عند الله، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل كانت معاداة؟ قالوا: لا، والخصومة في أمر الدنيا من طبيعة البشر، فـ عمر رضي الله عنه اختصم مع أبي بن كعب في نخيل، وقال أبي: ألأنك أمير المؤمنين؟! وهذه خصومة، فقال: لا والله! اختر من شئت نحتكم إليه، قال أبي: نحتكم إلى زيد بن ثابت، ويذهب أمير المؤمنين مع خصمه إلى دار زيد، ويدخلان معاً، فيقول زيد: هلم يا أمير المؤمنين! فيقول عمر: لا، ما جئتك أميراً للمؤمنين، إنما جئتك مختصماً مع خصمي، فقال: اجلس مع خصمك، فيجلس مع خصمه، فقال زيد: ما دعواك يا أبي؟! قال: نخل لي في كذا وكذا، قال زيد: ألك بينة عليها؟ قال: لا، وأطلب يمينه، فتساهل زيد وقال: أوَتعفي أمير المؤمنين من اليمين؟ فصاح عليه عمر: ويحك! جرت في الحكم، أكل الناس تشفع فيه في الحكم؟! لماذا لا توجه إليّ اليمين؟! قال: أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف عمر، وبمقتضى عدم البينة، وحلف المدعى عليه، برئت ذمته، وحكم بالنخيل لـ عمر، وصرف النظر عن دعوى المدعي، وهذه خصومة في القضاء، لكن هل هي معاداة لولي الله؟ لا والله! إنما هي أمور جبلية في أمور الدنيا، ومن هنا يقول العلماء: (من عادى لي ولياً) ، ليس منه المطالبة بحق شرعي، ولنأت إلى سر الحديث وإلى البلاغة التي تُشم ولا تُلمس في هذا اللفظ النبوي الكريم، تحسسوا معي يا إخوان! (من عادى لي ولياً) ، ولم يقل: من عادى ولياً لي، بل (من عادى لي ولياً) ، فهل تجدون فيها فرقاً أم لا؟ الذوق البلاغي هنا: بتقديم (لي) على (ولياً) ، فإن تقديم الجار والمجرور هنا، وإضافته إلى المولى سبحانه يُشعر بأن المحاربة تكون لمن عادى الولي لكونه ولياً لله، أما لو قال: (من عادى ولياً لي) ، فقد يكون هذا الولي عنده ما يوجب المعاداة، لكن (من عادى لي) ، يعني: من أجلي وبسببي وباسمي، فمن عاداه وهو ينتمي إليّ فقد آذنته بالحرب، والحديث في بلاغته يُشعر بأن العداوة المنهي عنها والمحذر منها هي أن يعاديه لكونه ولياً لله، ومن الذي يعادي ولي الله لولايته لله؟ نعلم جميعاً أن ولاية الله لا تحصل بالمعصية والفسوق والخروج على كتاب الله وسنة رسوله، ولا بمخالفة الإجماع وشق عصا المسلمين، فهذا الحديث -كما يتفق العلماء- يعتبر فاصلاً بين الحق والباطل. ولي الله فعلاً كما جاء في الكتاب الكريم: {الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس:63] ، ومقتضى الإيمان: الإيمان بالله وبكتابه وبرسوله، والإيمان يستلزم العمل بالحق والتمسك به، فقولك: آمنت بالله، تؤمن بكل صفات الله، وتؤمن بكل ما جاء عن الله، ومما جاء عن الله كتابه سبحانه ورسوله الذي ارسله إلينا، فمن مقتضى الإيمان الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فتلتزم كل ما جاءك به. عندما تقول: (لا إله) نفيت الآلهة كلها بكلمة (لا) ، فإذا جئت تقول: (إلا الله) ، (إلا) أداة استثناء، وما بعدها يغاير ما قبلها، فنفيت عموم الآلهة كلها، وأثبت إلهاً واحداً وهو الله، فإذا اتخذت شريكاً مع الله، وقربت قرباناً لغير الله، ناقضت ذلك، ولم تكن ملتزماً بها، فلا يصح قولك: (لا إله إلا الله) إلا بنبذ جميع الآلهة سوى الله، وقد فهم ذلك المشركون تماماً وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، فلا يكون مع الله أحد.

أول نداء في القرآن

أول نداء في القرآن بمقتضى إيمانك برسول الله، تؤمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسله الله رسولاً، وأعطاه مقومات البعثة، وهي شواهد الصدق والإرسال، كما اء في أول سورة البقرة، يقول والدنا الشيخ الأمين: هو أول نداء في المصحف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21-22] هلموا! اعبدوا ربكم! الرب الموجد المربي المدبر كما روي في الحديث: (أدبر عبادي بما أعلم في قلوبهم) ، فرب العالمين هو خالق الكون والعوالم كلها، ومربيها على نعمه وعلى أرزاقه، وتدبيره لخلقه بما يصلحهم، هو خلقك، والذي خلقك هل يتركك؟ لا, هل خلقك وحدك؟ لا، {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ثم بعد خلقك أقام لك بيتاً كبيراً جداً، فجعل الأرض فراشاً مستوية مهداً، تنبت لك تحفر فيها تشقها مسخرة لك، ليست من الحديد الصلب فتعجز عن زراعتها، وليست من الصخور التي تعجز أن تشقها، والأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، فهي ممهدة مثل البيت الممهد بفراشه، لو فرشها لنا حريراً لكنَّا نعجز؛ لأن الحرير ما ينبت، والتربة التي عليها هي اختيار المولى تفعل فيها ما شئت، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} مثل القبة، وفي هذا البناء بمهاده وقبة بنائه ينزل الماء من السماء، فتقبله الأرض المهاد الفراش فتنبت، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24-32] . من الذي أنزل الماء من السماء صباً؟ من الذي شق الأرض للنبات الرطب الناعم؟ من الذي جعله مثمراً حباً وعنباً وقضباً وزينوناً ونخلاً؟ من الذي ينبت هذه ويثمرها؟ إنه الله. إذاً: يا ابن آدم! كن عاقلاً، واشكر النعمة وقابلها بأداء حق صاحبها، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22] والند المماثل المعاند، يقال: فلان شريك لفلان، الشريك قد يكون له العشر، وقد يكون ضعيفاً، وقد يكون غشيماً، شريك بتجارة وعمره ما باع بدرهم، شريك في مصنع وعمره ما صنع بآلة، ويطلق عليه شريك، لكن الند المماثل وقد يكون أحسن منك، أنت تاجر وأنا أتجر منك، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} معانداً مضاداً لله في خلقه، ثم تصرفون العبادة له، ((وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة:22] ، يقول والدنا رحمه الله: هذه دلالة صدق على لا إله إلا الله {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، لا والله! ما خلقنا من غير شيء، ولا خلقنا أنفسنا، إذاً: الله خلقكم غصباً عنكم، ثم يأتي دليل على أن محمداً رسول الله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] ، عبدنا الذي اصطفيناه وأرسلناه برسالة، ثم أنتم تكذبون بالرسالة، أنتم ما كذبتم بعبدنا، فأنتم تعرفون محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وتعرفون مولده ونشأته: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] هم ما أنكروا محمد بن عبد الله، ولا أنكروا صدقه ولكن أنكروا الذي جاءهم به {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] يا سبحان الله! {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32] أهم يقسمونها؟ لا. هذه رحمة الله يجعلها حيث شاء، إن كنتم في ريب من هذا الكتاب الذي أنزلنا على عبدنا وهو محل الرسالة، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23] هاتوا شهداءكم، احضروا وتجمعوا وتعاونوا: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] انظروا هذه العظمة يا إخوان! ((فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا)) وأعلم أنكم لن تفعلوا، وهل فعلوا؟ لا والله، ما فعلوا وصدق الله في قوله فيهم: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) . ، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَة} [البقرة:24] سبحان الله العظيم! إذاً: تصديق الرسالة أن تؤمن بهذا الكتاب، فإذا قلت: محمد رسول الله، صدقت بالرسالة التي جاء بها، ومقتضى تصديقك بالرسالة أن تعمل بمقتضاها، ونضرب مثلاً في العصر الحاضر بما يسمونه السلك الدبلوماسي، أي دولة في العالم مستقلة بذاتها، ولكن كما يقولون: الناس للناس من بدوٍ وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم لا يوجد دولة في العالم تعيش لوحدها أبداً، ولا يوجد فرد يعيش في العالم وحده، كل دولة محتاجة للأخرى، تترابط معها في تجارة في سياسية في علم، كيف تفعل؟ هل رئيس كل دولة يذهب إلى كل رئيس؟ لا أبداً، كل دولة تجعل لها سفيراً، فالدولة عندما ترسل سفيراً لها، السفير هذا ليس مرسلاً من أفراد الشعب، بل من رئيس الدولة، فحينما يذهب السفير نسمع أنه يقدم أوراقاً لرئيس الدولة التي جاء إليها، فيأخذها وزير الخارجية، ويعرض الأوراق على رئيس الدولة، وتعمل له مراسيم رسمية، ويُعلن بأن سفير الدولة الفلانية عندنا هو فلان. فإذا جاءهم بقصاصة ورق جاءهم بتلغراف جاءهم بهاتف هل هو من عند شخصيته أم من عند الدولة التي أرسلته؟ من عند الدولة التي أرسلته؛ لأننا حينما قبلنا أوراق اعتماده فهو يعبر عمن أرسله فيما بعد، فإن كانت العلاقة دبلوماسية وسياسية ماشية طيبة فأهلاً وسهلاً، وكل شيء على العين والرأس، وإذا اختلت السياسية والعلاقة نبدأ نسوف له، والأجوبة تكون سياسية، فيقال: عفواً ما عندنا إمكانيات وطالما كانت العلاقة حسنة كانت الاستجابة سريعة، وعندما تسوء العلاقة يحصل التواء في المعاملة، فإذا وصلت إلى القمة في الإساءة قالوا: خذوا سفيركم من عندنا. وهكذا عياذاً بالله حينما تسوء علاقة العبد بربه! يرفض معنى الرسالة! ويرفض معنى رسول!

من لوازم الولاية اتباع السنة

من لوازم الولاية اتباع السنة قولك (محمد رسول الله) التزام منك برسالة محمد بكل ما جاء به، فتتبع كتاب الله وسنة رسوله، والسنة مع الكتاب سواء، كما قال السيوطي: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته وتعبدنا بتلاوته، وهو القرآن، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة، وقرأ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . وفي الآية الكريمة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] إلى آخره. إذاً: الولي هو الذي يقوم بكتاب الله، وسنة رسوله، ويؤمن باليوم الآخر وغيرها من أركان الإيمان الستة، ولا يكفي التصديق بمجرد يوم سيأتي، بل يلزم أن يؤمن بكل مواقفه، وما جاء من أخبار اليوم الآخر من البعث والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وحوض لكل رسول، وللرسول صلى الله عليه وسلم حوض، فكل ما جاء به الخبر عن يوم البعث فهو داخل تحت عنوان: (والإيمان باليوم الآخر) . فولي الله حقاً هو الذي التزم بحقيقة الإيمان بالله، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] . إذاً: معاداة ولي الله، لا تكون بأذيته في البيت والجوار أو بحد الأرض، لا والله، إنما تكون فيما كان به ولي لله بإيمانه وتقواه، فمن عادى ولياً مؤمناً تقياً في إيمانه وتقواه فهو المحارب لله، يأتي جاهل ويحارب العلماء! يأتي حاقد ويحارب ويكره ويبغض أصحاب رسول الله! يأتي حاقد ويكره إنساناً مسكيناً متبعاً ملتزماً مصلياً صائماً تقياً! يكون معادياً له لضعفه وتجنبه إيذاء الناس، فهذا عاداه في أمر دنيوي أو فيما هو به ولي لله؟! وهكذا من عادى مؤمناً لإيمانه، أو عادى تقياً لتقواه، أو عادى عالماً لعلمه، أو عادى داعياً لله لدعوته، فهؤلاء هم المحاربون لله، وفعلاً هؤلاء هم الذين يحاربهم الله؛ لأنهم يعادون من؟ من ينضمون إليه، وتحت لوائه، وينتسبون إليه: (من عادى لي ولياً) . وهنا يبحث العلماء عن لوازم مقتضيات الولاية، فلوازم الولاية هي التمسك بالكتاب والسنة، والمبادرة إليها، وتقوى الله والورع والزهد، وتاريخ المسلمين مليء بذلك، فإذا ادعى الولاية لله مع تركه كتاب الله وسنة رسوله، ومع وجود المعاصي، نعم، ليس معصوماً، ولكنه يجاهر بالمعصية، ويستمر عليها، فهو كاذب، أما المتقون فقال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ، الولي لا يقول: إنه لا يخطئ، لا، ليس معصوماً، ولكن هل يستمر في الخطأ؟ هل يأتيه عمداً؟ قد تزل به قدم، قد قد. فهو ليس معصوماً، ولكن سرعان ما يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.

الكرامات والفرق بينهما وبين المعجزات

الكرامات والفرق بينهما وبين المعجزات قالوا: من علامات الولاية الكرامة، وليس صحيحاً، كم من ولي لله لم تجر على يده كرامة، وكم من شخص عادي قد تجري على يده الكرامة. والكرامة: أمر خارق للعادة، يجريها الله على يد من شاء من خلقه، ولكن إن كانت على يد رسول فهي معجزة، فالمعجزة للرسول، والكرامة للولي، والفرق بينهما: أن المعجزة تجري على يد النبي والرسول في موقف التحدي. أما الكرامة فتأتي من باب الإكرام، فلا يقف ولي ويتحدى ويقول: سأفعل كذا لا، ولكن الرسول هو الذي يقول ذلك عندما يتحداه قومه، ولكن الولي تأتيه عفواً، وغالباً ما تكون الكرامة له في مقام الدعوة إلى الله، يؤيد الله بها دعاة الحق؛ ولذا يقول العلماء: كرامات الأولياء معجزات للأنبياء؛ لأنه ما جرت على يده تلك الكرامة إلا لاتباعه لذاك الرسول صلى الله عليه وسلم.

هل خوارق العادات من الكرامات؟

هل خوارق العادات من الكرامات؟ ويذكر العلماء أيضاً: إذا جرى خرق العادة على أيدي بعض الناس، ننظر أهو على وصف القرآن له أم لا؟ فقد تجري خوارق العادات على أشخاص غير مرضيين، كما يذكرون عن بعض الأشخاص في الهند، يستدرجه الشيطان، ويجري على يده شيئاً من خوارق العادات، كل ذلك لا عبرة له، ننظر لهذا الشخص الذي جرت الكرامة على يده هل هو من أولياء الله حقا، أو هو من أولياء الشيطان عياذاً بالله؟! وذكروا كرامات جرت على يد الصحابة والتابعين وتابعيهم، والله سبحانه وتعالى فضله واسع على عباده ولا مانع من أن تجري الكرامة على يد عبد صالح في أي وقت، وفي أي زمان ومكان، ما دام أنه على ما وصف الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] .

قصة عمر بن الخطاب في ندائه لسارية

قصة عمر بن الخطاب في ندائه لسارية ذكر الشوكاني وابن كثير قصة سارية، وللأسف أن بعض الناس قد يتكلم فيها، ولكن وجدناها ذكرها الشوكاني، وهو رجل محدث ومتحرٍ، ويحارب التقليد، ويلزم بالاجتهاد، وهي قصة عمر رضي الله تعالى عنه في هذا المسجد على هذا المنبر وهو يخطب، وكان جيشه في أفغانستان أو ما وراء النهر، فعندما تقدموا انكشفوا، وأراد العدو أن يلتف عليهم، فسمعوا من يقول: يا سارية! الجبل، فيرجع سارية إلى الجبل ويعتصم به، ويقابل العدو ويقاتل فينتصر، ويأتي البشير بالفتح، ويسأله ماذا كان أمركم؟ فقال: كدنا أن نهلك لولا أننا سمعنا صوتاً ولا ندري من أين يكون، يا سارية! الجبل فرجعنا إلى الجبل وانتصرنا! وقد طعن في هذه القصة بعض الناس، والشوكاني من أعلام القرن الثالث عشر يثبتها في كتابه في شرح هذا الحديث.

سماع سعيد بن المسيب الأذان من حجرة النبي صلى الله عليه وسلم

سماع سعيد بن المسيب الأذان من حجرة النبي صلى الله عليه وسلم سعيد بن المسيب من أجل التابعين وكبار الفقهاء السبعة في المدينة، في وقعة الحرة تعطل الأذان والصلاة في هذا المسجد ثلاثة أيام، لم يستطع إنسان أن يأتي إليه، وكان هو وحده الذي يأتي إلى المسجد، ويقول: أربعون سنة ما أذن المؤذن إلا وأنا في المسجد، وما رأيت قفا رجل في الصلاة. أي: كان مداوماً على الصف الأول، فقيل له: ألا تخشى الفتنة؟ فيقول: لا، ويأتي إلى المسجد، وتذكر كتب المؤرخين بأنه في تلك الأيام الثلاثة كان يأتي إلى المسجد، وليس هناك مؤذن، فكان يسمع الأذان من داخل الحجرة النبوية، فينهض ويقيم الصلاة ويصلي، من كان يؤذن له؟! أمور خصه الله بها، لا تقل: كيف يأتي ذلك؟ كيف يكون؟ ليس للعقل حكم فيها ولو كان للعقل حكم فيها، ما كانت خارقة للعادة.

قصة العلاء بن الحضرمي في نزول المطر وركوبه البحر

قصة العلاء بن الحضرمي في نزول المطر وركوبه البحر يذكرون روايتين عن العلاء بن الحضرمي أنه حينما ذهب إلى البحرين: رواية ابن كثير تقول: عندما اشتد عليهم العطش وكادوا يموتون، صلى ركعتين، وسأل ربه أن يغيثهم، فجاءت سحابة تقبل من بعيد، حتى أظلت عليهم، وأمطرت، فشربوا وسقوا دوابهم، وملئوا أوعيتهم، ثم انصرفوا. والشوكاني ذكر رواية أخرى ذكرها صاحب الحلية، وذكرها السيوطي عنه، يقول: اشتد عليهم العطش، فدعا ربه، فمشى قليلاً فإذا نهر يجري من السماء، يعني: من ماء المطر يجري، فشربوا وملئوا أوعيتهم، وسقوا دوابهم ومشوا. فرجع شخص من القوم إلى ذلك المكان فلم يرَ له أثراً. يقول ابن كثير في قصته: ولما وصلوا إلى البحر -وهذا كان في الدهماء في الربع الخالي حينما وصلوا إلى البحرين- وجدوا العدو قد علم بهم، ولم يجدوا السفن ليركبوها إلى الجزيرة، ووقفوا أمام البحر، فقالوا: ماذا نفعل؟ جئنا مسيرة شهر، فهل نرجع؟ لا، فقال العلاء: أيها القوم! إن الله قد أراكم في البر آية، وهو قادر على أن يريكم في البحر آية، وإني عازم عزماً، قالوا: وما هو؟ قال: أخوض هذا البحر! قالوا: على بركة الله، فوقف وقال: أيها البحر! أنت تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر إلى عدو الله، فجمد الماء وعبر المسلمون، يقول ابن كثير: فلم يترجل الفارس ولم يحتفِ المتنعل، ومشوا على الماء، وقاتلوا العدو وانتصروا.

قصة رجل مات فرسه فبعثه الله له

قصة رجل مات فرسه فبعثه الله له ذكر الشوكاني أيضاً وغيره: أنه في بعض الغزوات مات فرس شخص، فقالوا له: هلم متاعك نحمله معنا! قال: أمهلوني ساعة، فذهب وتوضأ وصلى وقال: يا رب! لا تجعل لأحدهم عليّ منة، أعرني فرسي إلى البيت، فتحرك الفرس وقام، فركب إلى أن وصل إلى البيت، جاء ولده يستقبله وقال: يا ولدي! لا تُدخل الفرس، خذ المتاع، ودع الفرس فإنه عارية! فلما أخذ المتاع عن ظهره سقط ميتاً!

الكرامات وأثرها في الناس

الكرامات وأثرها في الناس لا نطيل الكلام في ذلك، وهذا أمر ثابت لا ينبغي لأحد أن ينكره، ولا ينبغي لأحد أن يسترسل فيه ويثبت ما يتخيله، ولكن ما كان واقعاً بالفعل صدقناه، كما ذكر عن بعض السلف حينما جاء الأسد وكلمه، وكان تائهاً في الطريق، فيأتي الأسد فيدله على الطريق حتى يعرف مكانه إلى غير ذلك من الأمور التي أثبتها العلماء، وهذا أمر لا دخل للعقل فيه، والمرجع فيه للسند والإثبات، وكل ما أثبته الثقات من العلماء مما وقع من مثل ذلك صدقناه، ووقوع مثل هذا ليس مجرد كرامة لصاحبه، ولكنه تجديد إيمان من يسمع بذلك، ألم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يرون المعجزة من المعجزات يزدادون إيماناً؟ في غزوة الخندق استعصت عليهم الكدية، وتكسرت معاول القوم، فجاء إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعوله، وفي رواية أنه توضأ ونضح الماء عليها، ثم نزل إليها وضرب الضربة الأولى، فأبرقت فرأى قصور عدن، ثم ضرب الضربة الثانية فأبرقت ورأى قصور صنعاء، وتكسرت أكثر، ثم الثالثة وكل مرة يكبر صلى الله عليه وسلم، ويقول: (فتحت كذا وفتحت كذا) أبو هريرة إنه أسلم عام خيبر، لكن يروي عمن حضر، أنه كلما خرجت سرية أو جيش ليقاتل، يقول: اذهبوا حيث شئتم، فلا تفتحوا بلداً إلا وقد أخبرنا رسول الله عنها علماً. الصحابة لما كانوا يحفرون الخندق، يقول جابر أو غيره: والله! لقد كان أحدنا يخاف عندما يذهب يقضي حاجته، اليهود حولهم من كل جهة، والأحزاب يأتون من هنا واليهود من هنا فكان الموقف حرجاً، قال تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] ، فلما جاءت الكدية وكبر رسول الله وقال: (فتحت كذا وفتحت كذا) أليس ذلك من باب الطمأنينة عندهم؟! وكذلك تكثير الطعام! وكلما رأى الصحابة معجزة لرسول الله ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، وكذلك المؤمن عندما يرى خارق العادة على يد مؤمن متقٍ داع إلى الله، يكون هذا أدعى إلى تصديقه. إذاً: المؤمن التقي الذي يدعو إلى الله، ويقوم بحق الله سبحانه! يجب التعاون معه، وتجب نصرته، لا أن نعاديه، فإن عاداه أحد فهل عاداه لشخصه أو عادى ربه؟ إذاً: يصدق عليه قوله: (فقد آذنته بالحرب) .

المواطن التي أعلن الله فيها الحرب على من عصاه

المواطن التي أعلن الله فيها الحرب على من عصاه في حد علمي لم يعلن الله المحاربة إلا في ثلاثة مواطن، هذا الموطن الأول: (من عادى لي ولياً) . الموطن الثاني: الربا قال الله فيه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:279] الموطن الثالث: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33] الذين يخيفون الناس ويقطعون الطرق، فالله هو الذي يحاربهم، لماذا؟ لعظم جريمتهم. إذاً: الجريمة تعظم وتصغر، وكذلك الحسنة تعظم وتصغر، وقد يكون بالنسبة للشخص بعينه تعظم سيئته أو حسنته. فآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل هم كسائر الناس؟ لا، قال تعالى في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب:28] أي: فلكنّ الذي تردنَ {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29] ، يعني: نساء النبي صلى الله عليه وسلم {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] يعني: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32] وهناك يقابل بقوله: {يُضَاعَفْ لَهَا} {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:31] انظروا الجزاء! عندما يأتي بعد هذا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] يعني: المسلمين والمسلمات، لكل من اتصف بتلك الصفات مغفرة وأجر عظيم، ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من يقنت منهن وتعمل صالحاً لها الأجر مرتين، ولها رزق كريم، المقام يختلف! والشخصية تختلف! وهنا المعصية لما كانت محاربة لولي الله، ولما كان المحارب يحارب الله ورسوله والمؤمنين جميعاً، كان الجزاء ناجزاً والعقوبة مضاعفة، القتل الصلب القطع من خلاف، النفي من الأرض. كذلك الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279] وهذه الجملة الأخيرة (فقد آذنته بالحرب) أحب إليّ أن تترك، كما يقول العلماء في أحاديث الوعيد: تمرر كما جاءت، فإن التفصيل يهونها، (آذنته بالحرب) لو كررتها دونما شرح كانت أشد إرهاباً، وأوقع في النفس من أن يقال: يأخذه بذنبه يفعل به يسوي به لا، اتركه لأنه معلن عليه الحرب من الله، وأي إجرام أكثر من هذا؟! وأي إخافة أشد من ذلك؟! أي دولة أعلنت الحرب على دولة تستمر الثانية في طوارئ ليلاً ونهاراً، وتعمل خنادق وتؤدي وتعمل، وتظل عاجزة، لأنهم بشر، ويمكن أن تستعين بأمة أخرى، ولكن هذا بمن يستعين على الله؟ إذاً: نترك تفسير هذه العبارة على ما هي عليه، ومن أراد الزيادة في ذلك فليرجع إلى ابن حجر في فتح الباري، فسيجد أقوالاً موجودة، وسيرجع بعد التفصيل إلى الإجمال مرة أخرى.

شرح قوله: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)

شرح قوله: (وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) ثم يأتي البيان، وكأنه قيل: يا رب! ومن أولياؤك الذين لا نحاربهم؟! من أولياؤك الذين لا نعاديهم؟! ومن أولياؤك الذين تحارب أعداءهم؟! الولاية قربة أو لا؟ الولاية قربة، الولي متقرب إلى الله، يقول: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل) كأن الحديث يقول: حقيقة أولياء الله الذين أدوا الفرائض المفروضة عليهم، وزادوا في اجتهادهم بالنوافل، إذاً: الذين يدعون الولاية ولا يؤدون الفرائض، يبقون أولياء من؟! الذين يدعون الولاية وهم كعامة الناس لا أزيد عن الخمس ولا أنقص، وغيره يجتهد في النوافل هل يكونون سواء؟ ليسوا سواء. إذاً: هذا الحديث كما يقول العلماء: فاصل بين الحق والباطل، فاصل بين الدعوة والدعاية، فاصل بين الحقيقة والادعاء، فلو رأينا خارق عادة على إنسان هل نحكم بأنه ولي؟ لا، فمجرد رؤية خارق العادة قد تكون بخدعة لا ندركها، بعض الناس قد يأتي بأمور عجيبة لخفة يدٍ أو سحر فتظن أنها كرامة! سحرة فرعون سحروا أعين الناس، فنحن ننظر أولاً -قبل أن ننظر إلى خارق العادة- إلى من جرت على يده، وما موقفه من الدين؟ يقول أئمة وعلماء التصوف الحقيقيون الذين ينقل عنهم ابن تيمية؟: كل دعوى بدون بينة فهي باطلة، والبينة على الدعاوى شاهد عدل، وكل من ادعى دعوة في الإسلام بدون شاهدي عدل فدعواه مرفوضة، وشاهدا العدل عندنا كتاب الله وسنة رسوله، فإن كان يقيم البينة على أنه من أولياء الله، {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] ، فإيمانه كرامة، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: ليس بلازم أن نراه يطير في الهواء أو يمشي على الماء، لا، قد يكون مجرد توفيقه في عمله ودعوته إلى الله، وإصلاح الناس على يده من أكبر الكرامات، نحن قد نجد كثيراً من الناس لهم مجهودهم الكبير في الدعوة إلى الله، وما خلفوا للمسلمين من تراث علمي نافع، ولا نستطيع أن نقول: هؤلاء أولياء الله، والله والاهم. إذاً: ليس مجرد وجود خرق العادة يكون لازماً أنه من ولي، إنما لازم الاتباع، الحكم السليم على شخصيته أولاً. والله تعالى أعلم.

الحديث التاسع والثلاثون

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والثلاثون

شرح حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي.

شرح حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) حديث حسن، رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما] . هذا الحديث يتكلمون على سنده، ويكثر العلماء من القول فيه، وأكثرهم على ضعف سنده، ولكن تحسين المؤلف له لا عن طريق السند، ولكن عن طريق الشواهد، وما يتقوى به من غيره، والقاعدة عند علماء الحديث: أن الحديث إذا كان ضعيف السند، -أي: أن في رجاله من يتكلم فيه- ولكن المعنى صحيح، ويتقوى بنصوص أخرى هي صحيحة؛ فإنهم يحسنونه، وهو المعروف بالحسن لغيره، وهذا الحديث مما صح معناه، وشهدت له نصوص أخرى سواء من القرآن الكريم أو من السنة النبوية، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي) التجاوز: التعدي، تقول: جاوزني فلان، أي: تعداني، وتقول: تجاوزت عن حقي الذي عند فلان أي: تعديته وأسقطته، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي) بمعنى: أسقط لي عن أمتي. وقوله: (الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) ، هذه مسائل يخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الله أكرم الأمة برسوله في ذلك، ومفهوم المخالفة: أن الله لم يتجاوز لنبي غيره لأمةٍ من الأمم عن تلك الثلاث، وهذا المنصوص عليه، لأن الأمم الماضية كانت تؤاخذ بما أخطأت، وبما نسيت، وبما أكرهت عليه، أما الخطأ والنسيان والإكراه، فكما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: أنها عندما نزلت قرأها صلى الله عليه وسلم، فكان كلما قرأ واحدة منها يقول الله تعالى: (قد فعلت، قد فعلت) . إذاً: هذه الأمور الثلاث كانت الأمم من قبل مؤاخذة بها، وهي الإصر والأغلال التي كانت عليهم، ومما أكرم الله أيضاً هذه الأمة مع تلك الثلاث التوبة، فقد كانت توبة بني إسرائيل -كما بيّن سبحانه وتعالى- أن يقتلوا أنفسهم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:54] ، كانت توبتهم في تلك الواقعة أن يقتل بعضهم بعضاً، وهذه الأمة جعل الله لها التوبة: الندم على ما فات، والعزم على عدم العودة، وكراهية الذنب كما يكره أن يقذف في النار. فمن توافرت فيه تلك الشروط الثلاثة صحت توبته، ولو عاد بعد ذلك بدون إصرار فإن الله سبحانه وتعالى أيضاً يتوب عليه ما دام صادق النية، والتوبة تكون فيما بينه وبين الله، وقد أتى الرجل الذي اقترف ما اقترفه مع امرأة أجنبية إلا أنه لم يجامعها، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أصبت حداً فطهرني، قال: وما ذاك؟ قال: وجدت امرأة في أقصى المدينة، ما تركت شيئاً يفعله الرجل مع المرأة إلا فعلته، غير أني لم أجامعها، فنزل قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله؟! قال: بل لك ولأمتي جميعاً) . إذاً: كانت الأمم الماضية توبتها غير توبة هذه الأمة في الكيفية، وكانوا يؤاخذون بالخطأ والإكراه. أما قضية الإكراه فجاء في الحديث: (مر رجلان مسلمان في طريقهم على قوم لهم صنم نصبوه على قارعة الطريق، لا يسمحون لأحد أن يمر من هذا الطريق إلا إذا قرب إلى صنمهم قرباناً، فقالوا لهذين الرجلين: قربا قرباناً واجتازا، فقالا: ما كنا لنقرب لغير الله شيئاً، فقالوا: قربا ولو ذباباً، فقال: أحد الرجلين: أما الذباب فأمر هين، فقرب ذبابة فخلو سبيله فدخل النار، وأما الثاني فقال ما كنت لأقرب لغير الله ولو ذبابة، فضربوا عنقه فدخل الجنة) فهذا امتنع في مقام الإكراه على تقريب ذبابة، فقتل فدخل الجنة، وجاء في حق مؤمني هذه الأمة: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] . فهذا بيان من الله سبحانه بأن من تكلم بكلمة الكفر مكرهاً معفو عنه، وقد نزلت تلك الآية الكريمة وما بعدها في عمار بن ياسر، أخذه المشركون وأخذوا أبويه ياسراً وأم عمار سمية وعذبوهم، وقتلت سمية، وتكلم عمار بما يريدون فتركوه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلكت يا رسول الله! قال: وما ذاك؟ قال: الأمر كذا وكذا قال: كيف تجدك الآن؟ قال: قلبي مطمئن بالإيمان بالله وبرسوله، قال: أنت على ما أنت عليه الآن، وإن عادوا فعد) . وهكذا الإسلام ما كان الشخص في موقف شدة إلا وجاءت الرخصة، ولا في موقف ضيق إلا وجاء الفرج. وهنا يتكلم العلماء في حكم الخطأ والنسيان، وحكم الإكراه، فقوله: تجاوز لي، أي: تسامح الله عما يقع من المسلم عن طريق الخطأ أو طريق النسيان أو طريق الإكراه، وكيف يكون هذا؟ يقسم العلماء ما يقع فيه الخطأ والنسيان والإكراه إلى أمور قولية وفعلية، ثم يأتون من جانب آخر فيقولون: المخطئ والناسي هل هما في وقت الخطأ والنسيان مكلفان أو مرفوع عنهما التكليف؟ جاء في الحديث الآخر: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق) أي: أن العقل مات، وهو أداة الإدراك ومناط التكليف، وإذا عمل الرجل عملاً مخطئاً فيه أو ناسياً إياه أو مكرهاً عليه، ففي الحديث الذي هو القاعدة العامة يقول: (إنما الأعمال بالنيات) ، وهذا يفعل الفعل ناسياً إياه، إذا كان قد أقسم ألا يدخل بيت فلان، فنسي ودخل فهل له قصد في الدخول؟! لا، وإذا أخطأ في دار فلان عن دار فلان، أو بثوب فلان عن ثوب فلان فهل قصد؟ لا. يقول العلماء: الخطأ قسمان: خطأ ضد الصواب، وخطأ ضد الطاعة، فالخطأ الذي فيه الكلام هنا هو الخطأ ضد الصواب، فإذا أراد إنسان شيئاً وأخطأ ففعل غيره فمعفوا عنه، مثل القتل، فالقتل يكون عمداً وخطأ، والآخرون يقولون: عمد وشبه العمد، وخطأ وشبه الخطأ، فالقتل العمد: هو ما كان عن قصد، وقد سبق إصرار لشخص بعينه، وأما الخطأ فهو: أن يقوم الشخص ليفعل شيئاً مأذوناً له فيه، فإذا به يصيب غير المأذون فيه، ومثلوا له: لو أنه أخذ سهماً ورمى صيداً، وكان وراء الصيد شخص نائم، وهو لا يدري عنه، فنفذ السهم من الصيد وأصاب النائم، هل هذا يكون عامداً لقتله؟ ليس عامداً لقتله، وإنما قتله خطأ، لأنه كان قصد الصيد، وإصابة الإنسان المعصوم ليس في ذهنه، ولم يخطر له ولم يرد ذلك أبداً، فهذا خطأ ضد الصواب، ومن هنا جاء الحديث يشهد لذلك: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ -أي: الخطأ ضد الصواب- فله أجر) أي: أجر على اجتهاده وإن لم يصب الحق، وقد امتدح الله سبحانه نبيه سليمان وداود في قضية واحدة، وقال في حقهما: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] . أما الخطأ الذي هو ضد الطاعة، فهذا معصية، تقول: فلان أخطأ، وفلان أطاع. ولذا يقال في الأول: مخطئ، وهو الذي جانب الصواب، ويقال في مقابل الطاعة: خاطئ، فالخاطئ الذي يفعل المعصية عمداً، ويترك الطاعة قصداً، والمخطئ هو الذي يقع فيما لا يريد أن يقع فيه، فلهذا قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ) ولكن هل كل خطأ متجاوز عنه؟ يقولون: الفعل إما حق لله، أو حق للآدمي أو مشترك بينهما، فما كان حقاً لله فإنه يتجاوز الله عنه، وما كان فيه حقاً لآدمي فإنه لا يعفى من حق الآدمي نتيجة خطئه. ولذا يقول الأصوليون: هناك ما يسمى بخطاب التكليف، وخطاب الوضع، فخطاب التكليف فيه الأمر بالفعل أو بالنهي، وخطاب الوضع فيه العلامات والشروط والضمان وغير ذلك، فإذا جاء إنسان يمشي وبدون قصد كسر إناء لشخص، فإن كسر الإناء بدون قصد منه فيه أمران: إتلاف مال المسلم، والتعدي على حق الغير، فإثم التعدي مرفوع عنه؛ لأنه لم يتعمد التعدي على حق الغير، ولكن تعويض هذا المال الذي أتلفه لا يسقط عنه، فعليه أن يدفع القيمة، ويرفع عنه الإثم والخطأ، لأن ضمان المتلف لا يسقط عن الصغير، بل لا يسقط عن الدابة والبهيمة، فإذا كان هناك طفل صغير دخل بيت إنسان مع أبيه، ثم أخذ يعبث وأتلف شيئاً لصاحب البيت، فإن والد الصغير ملزم بضمان ما أتلفه الصغير، وإن كان الصغير غير مكلف.

الخطأ في تعيين القبلة وقت الغيم

الخطأ في تعيين القبلة وقت الغيم يبحث العلماء فيما يترتب على الخطأ، والنسيان، فيقولون فيما يتعلق بالخطأ: لو أن جماعة في صحراء وحان وقت الصلاة، وأرادوا أن يستقبلوا القبلة في صلاتهم، فاجتهدوا في ذلك، ثم تبين لهم بعد أن خرج الوقت أنهم أخطئوا في تعيين جهة القبلة، فما حكم صلاتهم التي أخطئوا فيها في استقبال القبلة؟ إذا كانوا يعلمون أن القبلة في جهة معينة، ثم خالفوا واستقبلوا جهة أخرى عمداً فإن صلاتهم باطلة؛ لأنها تفتقد شرط الصحة، أما إذا كانوا لا يعلمون، واجتهدوا بكل ما في وسعهم، واقتضى رأيهم أنها في الجهة الفلانية وصلوا إليها، ثم بعد ذلك تبين لهم أنهم لم يصيبوا القبلة، فإن أدركوا ذلك في الوقت، كأن جاء إنسان من أهل البلدة وأخبرهم بالقبلة فعليهم أن يعيدوها؛ لأن الوقت باقٍ، وأما إذا لم يعلموا بذلك إلا بعد خروج الوقت فالصلاة قد مضت، ولذا جاءت الآية الكريمة: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ، وقد وقع هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه، صلوا ثم طلعت الشمس، فتبين لهم أنهم قد صلوا لغير القبلة، وعظم عليهم ذلك، فعفا الله عنهم، وقبلت صلاتهم، هذا فيما يتعلق بالقبلة للنص الوارد فيها؛ وقد جاءت نصوص أخرى تبين أن الله سبحانه يقبل صلاة المسافر في نوافله إذا استدبر القبلة قصداً، وكان صلى الله عليه وسلم في عودته من مكة يصلي النافلة وهو مستقبل المدينة، والكعبة من ورائه، ويقول سبحانه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] . هذا إذا وقع الخطأ ولم يتبين إلا بعد خروج الصلاة، أما إذا أخطأ في شيء غير ذلك هل يمكن تداركه أم لا؟ إن كان في صلب الصلاة، فيوجد تفصيلات عديدة طويلة محلها كتب الفقه والفروع.

حكم من نسي ركنا من أركان الصلاة

حكم من نسي ركناً من أركان الصلاة من نسي ركناً من أركان الصلاة هل يعيد الصلاة؟ الركن هو: جزء الماهية، فإنه حينئذٍ عليه أن يتدارك ما نسيه؛ لأن الركن لا يمكن أن يجزئ عنه غيره، وننبه على خطأ من يقول: إن سجود السهو يجبر كل سهو في الصلاة، لا، وقد أجمع العلماء على أن سجود السهو لا يجزئ عن ركن الصلاة، لا عن ركوع، ولا عن سجود، ولا عن سجدة كاملة، إنما يجزئ عما يسمى بالواجبات، كما سجد صلى الله عليه وسلم للسهو عندما قام في الثانية ولم يجلس للتشهد الأول، ومرة صلى الرباعية وفي الركعة الثانية، فقال له ذو اليدين: (أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: كل ذلك لم يكن) ، وهذا يسمى عند المناطقة بـ (كلية السلب) ، فقال: (بل كان ذلك يا رسول الله! وفي القوم أبو بكر وعمر فقال صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم -يا رسول الله! - فرجع واستقبل القبلة، وجاء بركعتين ثم سجد سجود السهو، ثم سلم بعد ذلك) . إذاً: من سها عن شيء في الصلاة فإن كان ركناً من أركانها فعليه أن يأتي بما نسي، ولا تجبر سجدتا السهو ما كان ركناً؛ لأن الركن جزء الماهية.

حكم من أكل أو شرب ناسيا في نهار رمضان

حكم من أكل أو شرب ناسياً في نهار رمضان كذلك إذا نسي الصائم فأكل أو شرب، الجمهور يقولون: جاء النص في خصوص الصوم: (من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) ، قالوا: هذا امتنان من الله على العبد بأنه أطعمه وسقاه، فقال: الأئمة -ما عدا مالك رحمه الله: لا قضاء عليه ولا إثم، ويقول مالك رحمه الله: أما الإثم فلا إثم عليه، ولكن عليه قضاء يوم مكان اليوم، واستدل على ذلك بقوله سبحانه: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، قال: هذا الذي أكل أثناء النهار ما أتم، قالوا: إنه ناسٍ قال: لا إثم عليه، ولكن عليه أن يأتي بيوم مكان اليوم. والصحيح -والله تعالى أعلم- ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه لو كان يلزمه قضاء يوم مكانه لبينه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز في حقه صلوات الله وسلامه عليه تأخير البيان عن وقت الحاجة.

حكم من جامع امرأته محرما أو في نهار رمضان ناسيا

حكم من جامع امرأته محرماً أو في نهار رمضان ناسياً كذلك لو نسي في نهار رمضان فوطئ زوجته، أو كان محرماً بالحج فنسي ووطئ، هل هذا النسيان يعفيه من نتائج الوطء في الصوم أو في الإحرام؟! الجمهور يقولون: نعم، وكيف ينسى الوطء؟! الوطء ليس كالأكل والشرب، وبعضهم يفرد القضية في الأكل وفي الوطء بأن العبرة بالقصد في فعله، فإذا تحقق أنه كان ناسياً فلا شيء عليه، وكذلك في الحج قالوا: حجه صحيح ويمضي فيه، والذين لا يعتبرون نسيانه في مثل هذه الصورة، قالوا: قد فسد حجه، وعليه وزوجه حج من عام قادم. وهكذا يتكلمون في سائر العبادات، كما لو حلف يميناً طلاقاً أو يميناً بالله ألا يدخل بيت فلان، فنسي ودخل، فهل يؤاخذ بدخوله ويكون حانثاً في يمينه، وعليه كفارة أو تطلق الزوجة أو أنه لم يحنث في يمينه؟ إذا لم يكن يحنث بنسيانه فلا طلاق ولا كفارة. بعض العلماء: يمكن أن يقال: إن هذا الحديث وإن كان ضعيف السند، فيعتبر نصف الشريعة؛ لأن الإنسان المكلف يعمل العمل على أحد أمرين: قد يفعله ذاكراً قاصداً متعمداً لذلك بإرادة واختيار، وقد يفعله نسياناً أو خطأً أو مكرهاً. إذاً: هذا الحديث يتناول حالة النسيان، والإكراه، وحالة الخطأ، فاعتبروا أن هذا الحديث يعادل نصف التشريع تماماً.

خلاف العلماء في اعتبار الإكراه

خلاف العلماء في اعتبار الإكراه أما مسألة الإكراه فأكثر العلماء يقولون: الإكراه في الأقوال لا شيء فيها، ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: كل من أكره على قول شيء، وقاله مكرهاً فإنه مؤاخذ بذلك، حتى ولو أكره على قول الكفر، فمن تكلم بكلمة الكفر عومل معاملة المرتد ظاهراً، أما بينه وبين الله فعلى ما في نيته مع الله. وقال الجمهور: المولى سبحانه يقول في ذلك: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، فقال أبو حنيفة: هذا في أول الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بمكة في الحجر، فقالوا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ أي: تسأل الله النصر لنا، وذلك عندما كانوا يعذبون، فكان المشركون يعذبون ضعفة المسلمين، فقالوا: (يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن من كان قبلكم كان يؤتى بالرجل من قبلكم، وتحفر له الحفرة، ويؤتى بالمنشار، فيوضع على مفرق رأسه فينشر حتى يشق نصفين ولا يرجع عن دينه) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: هذا يورده رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المدح؛ فلا يجوز للإنسان أن يترخص بكلمة الكفر؛ لأن من كان قبلنا كانوا ينشرون بالمناشير فلا يرتدون عن دينهم، وجاء في حديث أبي ذر من ذكر وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الطويلة قال: (ولا تشرك بالله وإن قطعت أو أحرقت) ، قال أبو حنيفة رحمه الله: هذا نهي من رسول الله، وتحذير له من أن يتكلم بكلمة الكفر، ولا يترخص. وأجاب الجمهور: أنه في بدء الأمر في مكة كان واجباً عليهم أن يصبروا ويتحملوا، أما بعد ذلك فإذا نطق بكلمة الكفر فإنها لا تضر الإسلام ولا المسلمين، وقد أباح الله سبحانه وتعالى ذلك بنص الآية الكريمة، فالآية مقدمة على ذلك الحديث، ولا سيما إذا كان الحديث متقدماً، ونزلت الآية بعده، والآية أثبت وأقوى دلالة، وعلى هذا الجمهور يقولون: من أكره على كلمة الكفر، فقالها وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا شيء عليه، وهو ما يشهد له كتاب الله، فإنه قد بيّن {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] ، فإذا كان يقولها وهو منشرح الصدر فهذا كافر حقاً بلا إشكال، أما إذا قالها مكرهاً فلا إثم عليه، وجاء عن ابن مسعود أنه قال: لو أن كلمة تنجيني من سوطين لقلتها، فقالوا: هذا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: لو أن كلمة يكون فيها تعريض بديني وتنجيني من السوطين لقلتها، اعتماداً على ما جاء في القرآن الكريم في أصل العقيدة: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل:106] . وهكذا في اليمين: لو أن إنساناً أكره أن يحلف يميناً بالله، أو يميناً بطلاق، فما حكم هذه اليمين؟ وما حكم المحلوف عليه؟ جاء عن بعض السلف أن رجلاً كان عنده متخف من سلطان ظالم، فجاء أعوان السلطان وسألوه عنه، فقال: ما رأيته، قالوا: أتحلف بالله، فحلف بالله أنه لا يعلم عنه، وقال: لأن أحلف بالله كاذباً وأنجي مسلماً خير من أن أسلم مسلماً للقتل ظلماً. وكان بعض الأمراء له من يتتبعون الأخبار، فجاءه شخص وقال: إن بمجلس فلان -وهو من سلف الأمة من تابعي التابعين- أناس يتكلمون عنك في مجلسه، فأرسل إليه، فقال: ما حصل هذا، قال: أتحلف بالله؟ فحلف بالله، فرجع السلطان على من أخبره وجلده سبعين سوطاً، فجاء ذاك المخبر إلى ذاك الشخص وعاتبه؛ لأن الوالي ضربه سبعين سوطاً، فقال له: لأن تضرب سبعين سوطاً خير من أن تسلم مسلماً للقتل ظلماً.

حكم من أكره على الطلاق

حكم من أكره على الطلاق لو أن إنساناً أكره على الطلاق، ماذا يكون الحكم؟، يروي الإمام مالك في الموطأ أن رجلاً تزوج أم ولد لـ عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، فأحضره عبد الرحمن مقيداً، وأتى بالعصا ثم قال له: طلق وإلا ضربناك، فطلق ثم ذهب إلى عبد الله بن عمر واستفتاه، فقال: ما طلقت عليك، فذهب إلى ابن الزبير وأخبره بفتوى ابن عمر، فكتب إلى عامله بالمدينة أن رد الزوجة لزوجها، وعاقب فلاناً، وهذه رواية الموطأ لا إشكال فيها. ويذكر ابن قدامة في المغني أن رجلاً كانت زوجته تطلبه الطلاق فيمتنع، فذهب مرة معها يجني عسلاً، وكان العسل على صفحة جبل، ولا يمكن أن يصل إليه من أسفل، ولا أن ينزل إليه من أعلى، فماذا يفعل؟ تدلى إليه بحبل، وربط الحبل في صخرة، ثم نزل على الحبل إلى أن وصل إلى موضع العسل، وبينما هو يجني العسل، جاءت زوجته من أعلى، وأخذت الفأس وقالت: طلق وإلا قطعت الحبل ومت، فأخذ يعتذر إليها ويترجاها قالت: أبداً الآن أن طلقني وإلا قطعت الحبل؟ قال: أنت طالق ثلاثاً، فجاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه وأخبره، فقال: لم تطلق عليك، وأدبها، فهنا عمر رضي الله تعالى عنه لما وجد الرجل مكرهاً على الطلاق لم يعتبرها مطلقة عليه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إغلاق في طلاق ولا إعتاق) ، أي: لا يغلق على الإنسان بأن يضيق عليه حتى يطلق، ولا إعتاق، ولا يغلق الرهن على صاحبه، فإذا أغلق على الإنسان مسالكه، وضيق عليه وأكره لعتق عبده، أو ليطلق زوجاته، فإن هذا لا ينفذ؛ لأنه تحت الإكراه، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) .

حد الإكراه

حد الإكراه ما هو حد الإكراه الذي يرفع عن الإنسان حكم ما فعل عند العلماء؟ بعضهم يقول: حد الإكراه في البدن بالضرب، أو بالجرح، أو بالقتل. وبعضهم يقول: حد الإكراه بالبدن أو بالمال، والإمام مالك رحمه الله يروون عنه أنه ما كان يرى الإكراه في المال، لأن المال يفادي به دينه، والجمهور على أن من أكره في ماله، أو أكره في نفسه أو ولده وأهله، فإن ذلك الإكراه يجعله في حل مما أكره عليه، وبعضهم يقول: الإكراه بالسجن والقيد يعتبر إكراهاً، والواقع أن الناس ليسوا سواء، فهناك من يضرب ويجلد ولا يؤثر فيه، وهناك من توجه إليه العبارة فتكون أثقل عليه، فالناس يتفاوتون في الإكراه. ويذكر عن أحمد بن حنبل رحمه الله عندما كان يضرب في محنته وهو في السجن، ففي يوم من الأيام جاء سجين إلى أحمد وقال: يا أحمد! أتعرفني؟ قال: لا، فقال عن نفسه: إنه سارق مال فلان، وهو عندي، وقد دفنته في المكان الفلاني، وهأنذا أقر لك، وأنت تراني كل يوم أضرب فلم أقر أمامهم أبداً، أما أنت -يا أحمد - فانظر إلى ما وراء الأسوار من أقلام ومحابر تنتظر ماذا ستقول في قضية القرآن، يقول أحمد: والله! لقد شجعني، فهذا شخص يضرب كل يوم على مال، ويتحمل الضرب ولا يبالي به، فهل مثل هذا لو ضرب سوطاً وسوطين وعشرة، يقال: قد أكره على الطلاق؟ لا. بعد هذا البحث في نوعية ما يقع فيه الإكراه، قالوا: يقع الإكراه على المال، وعلى الطلاق، وعلى شرب الخمر، وعلى السرقة، لكن لكن هل ممكن أن يكره على الزنا؟ وهل يمكن أن يكره على قتل شخص آخر؟ أما الشافعي رحمه الله وغيره فيقولون: الإكراه في كل شيء إلا القتل، ويمكن أن يكره على الزنا، وقال الآخرون: لا، كيف يكره على الزنا، والزنا لا يتأتى إلا باختيار من الرجل، وبإرادة منه، وبانتشار يتأتى به الفعل؟ ويجيب عن ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله بأنه يصح ابتداءً أن يكون مكرهاً، أما عندما يتعرض للفعل وتتهيأ الأسباب، فإن الجبلة الإنسانية لا تعرف بعد ذلك إكراهاً أو غير إكراه، فإذا تهيأت الأسباب، وجئ بالفتاة وخلي بينه وبينها، وأخذت تراوده على ذلك، فإنه حيوان يتفاعل وينفعل، فهو ابتداء أكره على ذلك، وحين يقع الفعل خرج عن طور إكراهه وإرادته. إذاً: يتأتى الإكراه على الزنا، والعلماء مختلفون في إكراه الرجل على الزنا، فماذا يقولون في المرأة إذا أخذت بالقوة وكتفت، فهل يتأتى الإكراه لها أم لا؟ وهل يشترط في المرأة ما يشترط في الرجل؟ أجمع المسلمون أن المرأة إذا أكرهت على الزنا فلا حد عليها، ولا ذنب عليها، ويأتي النص القرآني الكريم ليبين ذلك: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] . وهذا نص صحيح من كتاب الله صريح في موضوع إكراه المرأة، وما الذي يخرج الرجل؟ هل كونه لا يتأتى إلا باختيار؟ قد تكون الغريزة فيه بدون اختيار، وعلى هذا يطرد الباب فيما يتعلق بالزنا، وبالخمر، وبالسرقة إلى غير ذلك. أما الإكراه على القتل، فلو أكره إنسان على أن يقتل آخر وإلا أخذ ماله، فقتله، فبإجماع المسلمين أنه لا يعذر، وإذا كان الإكراه بالضرب فقتل فبإجماع المسلمين أنه لا يعذر، وإذا كان الإكراه بتهديده بالقتل: اقتل وإلا قتلت، وكان المهدد قادراً على أن ينفذ ما هدد به فقتل فما حكمه حينئذٍ؟ هنا تأتي المعادلة، ما قتل المكره إلا مفاداة لنفسه، فكأنه فادى نفسه بغيره، إذاً: هو آثم ومؤاخذ، ولكن هل يقتل هو لأنه مباشر للقتل؟ المكره له اتخذه آلة للقتل، كمن جاء إلى صبي صغير وأعطاه السلاح وقال: اذهب فاقتل ذاك، فالجمهور يقولون: الصبي غير مكلف، ولكن الذي دفعه وأعطاه السلاح هو الذي يقتل، والصغير جزء من آلة القتل، لكن الصغير لا تكليف عليه ولا حساب، يقولون: ليست عليه مسئولية السؤال والحساب، فهو فاقد أهلية المسئولية كالمجنون، ولكن العاقل يتحمل المسئولية، وله أهلية السؤال والمسألة، فكيف يقدم قصداً على قتل إنسان ليسلم هو، إذاً فادى نفسه بغيره، فيقتل باتفاق، وهناك من يقول: المُكْرِهُ والمُكْرَه كلاهما يقتل لأنهما اشتركا في القتل، ويهمنا أن قضية الإكراه على القتل خارجة عن هذا الموضوع، لنص خاص، ولعصمة النفس، وللمقابلة في مفاداة نفس بنفس. أيها الإخوة الكرام! إن هذا الحديث يبين فضل الله على هذه الأمة، ويبين تجاوز المولى ومسامحته لها، وما يوجد في الإسلام طريق مسدود قط. وهذا الحديث وإن كانوا قد تكلموا في سنده من جهة الرجال، فإن كل جزئية فيه لها شواهدها، ولهذا حكم عليه النووي بأنه حسن، أي: حسن لغيره، وعليه العمل، وتلقته الأمة بالقبول. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والسلام عليكم ورحمة والله وبركاته.

الحديث الأربعون

شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون

شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب)

شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري] . هذا الحديث ترتيبه في هذه المجموعة المباركة خاتمة الأربعين حديثاً، ولعل المؤلف رحمه الله جاء به في هذا الموضع لعظيم أثره، وواسع مدلوله، فمعناه أكبر عون للإنسان على حياته. يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما مبيناً تلك الصورة المؤنسة، الدالة على الشفقة والرحمة والملاطفة من سيد الخلق وأكرمهم صلوات الله وسلامه عليه. (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي) . والمنكب هو أعلى الكتف، وهو -كما يقال- أعلى شيء وأقواه في جسم الإنسان، ومنه يقول بعض العلماء في التوجيه الاجتماعي في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] ، أي: في جميع أجزائها، قمم جبالها، وسفوحها، وكل شيء منها؛ لتستخرجوا ما أودعه الله سبحانه وتعالى فيها من كنوز، فالمنكب هو أعلى الكتف، وهو أقوى موضع في جسم الإنسان، ويمكن أن يحمل عليه الأشياء الثقيلة.

ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يحدثه

ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يحدثه في هذه الصورة ملاطفة ومؤانسة منه صلى الله عليه وسلم لمن يريد أن يحدثه، ومثل ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي في كفه) ، أخذ كف ابن مسعود وجعلها في كفه وهو يعلمه. وهذا الحديث الذي جاء عن ابن عمر وجاء أيضاً عن ابن عباس فعن مجاهد رحمه الله أنه رُؤي حزيناً، فقيل له: مالك حزين؟! قال: تذكرت قول عبد الله، -يعني ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بكفي بين كفيه وقال: يا عبد الله! كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) ، ومجاهد وعطاء بن أبي رباح من كبار أصحاب ابن عباس الذين أخذوا عنه العلم والتفسير، وقامت بهم مدرسة مكة. إذاً: رواية مجاهد عن ابن عباس توازي رواية ابن مسعود رضي الله تعالى عن الجميع في كيفية معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومن قبل هذا معاملة المعلم الأكبر الرسول الكريم جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر بن الخطاب: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه) . يقول العلماء: (على فخذيه) الضمير راجع لجبريل عليه السلام وهو في صورة رجل، أو للنبي صلى الله عليه وسلم، ومهما يكن فإنهم يقولون: إن هذه الصورة من دواعي تثبيت العلم عند السامع، ويقول علماء التربية: إن ربط المعاني بالمحسوس يثبتها، مثلاً: الطلاب أيام الامتحانات لهم مذكرات شخصية، وصور تمر بهم، إذا جاء -مثلاً- إلى المسجد النبوي ومعه كتاب الحديث، أو ذهب إلى النزهة ومعه كتاب الأدب، أو ذهب إلى مكان كذا ومعه كتاب الفقه، فإذا جاء وقت الاختبار تذكر أنه حينما كان في المسجد كان يقرأ في الحديث، وتذكر الصورة المحسوسة حيث كان يجلس، وكان معه فلان وفلان، فالصورة تعيد له الذاكرة، وتجمع له حسه فيما كان يذاكره، وهناك جماعة كانوا يسمون (المشائين) ؛ لأنهم كانوا يدرسون العلم وهم يمشون، فيتذكرون أنهم في المكان الفلاني قرءوا كذا، وعند الشجرة الفلانية تذاكروا كذا، فتكون المعالم المحسوسة كالضوابط أو كالمنبهات أو كالعلامات مناراً في طريق الإنسان في علمه. وهنا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه حينما يتذكر وضع يده بين كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لن ينسى ما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، وكذلك ابن عمر حينما يتذكر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبه لن ينسى أبداً ما قيل له في تلك الحالة، وهكذا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وبعد هذه التهيئة، أو بعد هذا التنبيه، أو بعد إيقاظ الشعور والتطلع إلى ما سيقال بعد هذه اللمسة، يقول صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله) ، وكلاهما اسمه عبد الله: عبد الله بن عمر، عبد الله بن عباس: (كن في الدنيا) ، والدنيا تأنيث الأدنى، وهي الحياة، والأخرى: هي الآخرة، ومعنى هذه الموعظة، وهذا التنبيه والإرشاد: وجودك في الدنيا ليس حالة المقيم الجالس المستوطن الذي لن يرحل، بل حالك حال الغريب وعابر سبيل: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) يقول بعض العلماء: (أو) بمعنى (بل) وكأنها إضرابٌ عما تقدم، أي: بل كن كعابر السبيل، وتحتمل أن (أو) هنا للتنويع، وهو الظاهر عندي.

الدنيا مزرعة للآخرة

الدنيا مزرعة للآخرة قوله: (كأنك غريب) جميعنا يعلم أن الغربة تقتضي وطناً، وأن الغريب موجود وقت الغربة في غير وطنه، فإذا كنا غرباء في هذه الدنيا فأين موطننا الأول؟ وإذا كنا غرباء فإن كل غريب يحن إلى موطنه الأصلي، ويقطع أمله في مجتمع هو فيه غريب، فلا يعزم منه على تشييد القصور، ولا على غرس الأشجار، وكل غريب في بلد يسلك طريق السلامة، وقلّ أن يأنس إلى الناس، وكل غريب في بلد يلزم الأدب والاحتياط في غربته. والعوام يقولون: (يا غريب كن أديب) ، فالغريب عابر سبيل في رحلته، ولابد له من غاية يقصدها، ويحب أن يصل إليها. إذاً: الغريب وعابر السبيل متلازمان، فكل غريب عابر سبيل، وكل عابر سبيل غريب، إلا أن عابر السبيل أخف، فلو تأملنا في الإنسان من بداية أمر هذا العالم: فما هي بدايته؟ نحن لا ننسى أن أبانا وأمنا آدم وحواء كان مسكنهما الأول الجنة كما قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] . إذاً: مسكن الإنسان الأول هو الجنة، ومنذ أن خرج منها فهو في غربة، ولذا يقول العلماء: فترة الحياة مرحلة عابر السبيل، وسبقتها مراحل: المرحلة الأولى: تناقل الإنسان في أصلاب آبائه حتى جاء إلى الرحم، وفي الآية الكريمة: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] ؛ فالذرية كلها من الأصلاب بالتسلسل إلى يوم القيامة: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] . إذاً: عالم الذر والنطف تتناقل في الأصلاب في مراحل خفية، لا نحكم عليها ولا نتحكم فيها، ولا دخل لنا فيها. المرحلة الثانية: مرحلة التكوين المادي، وهي فترة الحمل في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، ظلمة المشيمة، ظلمة الرحم، والمولى سبحانه يودعه في: {قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:21-23] ، ثم يخرج إلى الدنيا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، وبعد تلك المرحلة يخرج من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، وهي رحلة التزود بما أمره الله، وهي مرحلة الابتلاء: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] ، فكيفما تزودت في هذه المرحلة فهو زادك في طريقك، وهو مآلك، ومن يزرع الشوك لا يحصد إلا شوكاً، ومن يزرع الورد يجني الورد، فما تزرعه في الدنيا هو زادك إلى الآخرة. وقد ذكرنا رحلة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى الفسطاط في مصر؛ لطلب سماع حديث، فلما وصل سأل عن الصحابي الذي عنده الحديث، فقال: دلوني على بيته، فذهب إلى البيت، وطرق الباب، وكلم الخادم فأخبر سيده، وجاء الصحابي فوجد أبا أيوب صاحب رسول الله على الباب، فقال: أبو أيوب! ما الذي جاء بك؟ قال: جئت أسمع منك حديثاً سمعته أنا وأنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق أحد سمعه إلا أنا وأنت فخشيت أن أنساه، فذكر له الحديث، فإذا به يركب راحلته، ويلوي عنانه، ويرجع إلى الحجاز، وأمامه مغريات الحياة، وقد وصف الله الحجاز بوادي غير ذي زرع، رجل أبو أيوب إلى أرض تجري أنهارها، وتتنوع ثمارها، فلم يغره شيء من ذلك؛ لأنه كان غريباً عابر سبيل، جاء لمهمة وغاية يقصدها. وأنت -أيها الإنسان- في هذه الدنيا غريب وعابر سبيل لغاية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، ولمهمة: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] ، فلينظر الإنسان ماذا فعل في رحلته وغربته، فهو لا يدري متى يرحل؟ ولا يدري متى يناديه داعي الموت؟ ولا يدري متى تنتهي المهمة؟ ولكن الخطر كل الخطر في الأمل، وورد أن بعض العلماء قال لأحد العارفين بالله: ما هو أملك؟ فقال: وأي أمل لمن نَفَسُهُ في يد غيره؟! فهل تملك أنت أن توقف هذا التنفس الذي تتنفسه؟ وإذا أوقفه الله هل تستطيع أن تجريه؟ لا. {َ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] . ولهذا ابن عمر لما سمع هذا التوجيه وتصور حقيقة المعنى قال: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) ، وأعتقد أننا لا نستطيع أن نوفي هذا الحديث قدره، إلا إذا تذوقنا حلاوة الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يتحقق لإنسان زهد في دنياه إلا إذا تحقق عنده الرغبة في آخرته؛ لأن الدنيا والآخرة ضرتان، ولا يمكن أن تصلح بينهما أبداً، إذا أرضيت إحدى الضرتين فعلى حساب الأخرى، فاختر من ترضي ومن تسترضي، وكن في الدنيا كأنك غريب، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما بنى المسجد قال: (عريش كعريش أخي موسى، والأمر أقرب من ذلك) . يا سبحان الله! رسول الله جاء لدعوة، وتكوين أمة، ودولة ورسالة تعم العالم، ويقول: (والأمر أقرب من ذلك) أي: أعجل. ولو نظرنا إلى تاريخه صلى الله عليه وسلم من أول البعثة، ثم من أول الهجرة، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى. كيف كانت حياته صلى الله عليه وسلم؟ حقاً لقد كان كالغريب أو عابر سبيل، فما ركن إليها يوماً، ولا أنس بها يوماً، وكان في كثير من الأوقات، في غزوات، والمولى سبحانه وتعالى يهيئ له أموراً عجيبة، خرج من مكة، ثم دارت المعارك، وجاءت الحديبية، ويأتي الصلح بوضع الحرب، وبالهدنة عشر سنوات، لكن لم يبق من عمره صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، فيجعل الله سبحانه سبباً نقض قريش للمعاهدة من أجل فتح مكة بعد سنتين!! فنقضوا عهدهم، وفتحت مكة، وجاء عام الوفود، وبعدها حجة الوداع، فكان صلى الله عليه وسلم عابر سبيل، وكانت حياته لغاية يحققها ومهمة يقصدها. ولما نزلت السورة الكريمة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] بكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وابن عباس رضي الله عنه قال: لقد نعى ربنا إلينا رسول الله وهو حي بين أظهرنا، فقال له عمر: وكيف أخذت ذلك؟ فقال: لقد أرسله الله برسالة يبلغها للناس، فإذا أتم الرسالة وقام بالبلاغ، وأدى الأمانة، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فما الذي بقي من مهمته؟ وكما يقول بعض العلماء: إذا كان لك عبد أرسلته إلى بلدة ليقضي لك حاجة، فيجب أن يسرع في طريقه ويقضي الحاجة ويسرع في العودة، أما إذا مكث فيها وركن إليها فلك أن تعاقبه. وابن مسعود يقول: (بيّن لنا صلى الله عليه وسلم حياة الإنسان وأمله، فخط لنا خطاً دائراً) . وبعض العلماء يرسمه مربعاً، وخط خطاً داخل هذه الدائرة، والخط الذي ينصف الدائرة هو قطب الدائرة، والقطب ينتهي عند محيط الدائرة، وكل جزء من النقطة يسمى وتر، فمحيط الدائرة الخط الذي يصل طرفي المحيط أو يتصل بنقطتين من المحيط، وخط صلى الله عليه وسلم خطاً زائداً عن الدائرة. إذاً: هي دائرة فيها قطر، وأحد طرفي القطر خارج عن حد الدائرة، وخط خطوطاً جانبية، وقال صلى الله عليه وسلم عن محيط الدائرة: (هذا أجل الإنسان، وتلك الخطوط الجانبية ما ينتابه في حياته، وهذا الجزء الزائد عن الدائرة هو الأمل، فينقضي الأجل قبل أن ينتهي أمله) . يقولون: من سائل الإيضاح في علم التربية أن يأتي المدرس بالصورة ويشرح عليها الدرس، وها هو صلى الله عليه وسلم يبين لنا ذلك بأجلى معاني الإيضاح، فأجلك محدود في دائرة تدور فيها يميناً ويساراً، وأملك يسبقك عن دائرة الأجل، أنت تريد أن تبلغ الأمل، ولكن يأتي دونه الأجل.

الزهد في الدنيا

الزهد في الدنيا إذاً: جاء في الأثر (الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا وطول الأمل يحزن القلب ويشقي الجسم، وليس معنى الزهد في الدنيا تركها، ولكن أن تجمعها من حلها، وأن تضعها في حلها، لا كما يقولون: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد والجوانب والمعاني في هذا الحديث فوق أن يحصيها إنسان: (كن في الدنيا كأنك غريب) ، وأنت فعلاً غريب، وكما قالوا: الإنسان في الدنيا ساعته تهدم يومه، ويومه يهدم أسبوعه، وأسبوعه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان بل أقل من الثواني. والعجيب! أن الإنسان يستطيع أن يقف عند الغنى والفقر، وعند القوة والضعف، وعند العزة والذلة، وعند كل معاني الحياة، لكنه لا يستطيع أن يقف عند الحياة والموت، قال سبحانه: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] . ارجعوها وأوقفوها عن الخروج! أمدوه بلحظة واحدة! لا والله! لو اجتمع العالم كله، إنسه وجنه وملائكته على أن يمحنوا الإنسان في اللحظات الأخيرة ثوانٍ لا يستطيعون، وانظر الإعجاز القرآني: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعة} [الأعراف:34] ما قال: (يستقدمون) ، قال: (لايستأخرون ساعة) ، وما هي ساعة زمنية ستون دقيقة، لا، بل ساعة لغوية، وقدم (لا يستأخرون) ؛ لأن كل إنسان يود أن يتأخر: {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، ولو أراد أن يعجل موته لحظة لا يستطيع؛ لأن هذا ليس له. والغريب في حياته يعمل لما ينجيه أو يسلمه من أهل المدينة التي حل فيها. وعابر السبيل ماذا يحمل معه؟ هل يجمع الحطب والحجر، والخشب والحديد ويحملها معه؟! لا يحمل معه إلا الزاد الذي يوصله. عابر السبيل قبل كل شيء يطلب الراحلة التي توصله، ويكتفي في زاده بما يكفي في سفره، فلو رأى أمامه مئات الأطنان من الفاكهة والعسل واللبن وجميع أصناف الطعام ما أخذ منها إلا ما يوصله. ولذا السلف كانوا كما قال الشاعر: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا وهكذا حال المسلم، وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج الإنسان من الدنيا تبعه ثلاثة: ورجع منها اثنان، وبقي معه واحد، تبعه أهله وماله وعمله) فأهله يشيعونه، يكون منه ما يتبعه، فيرجع المال والأهل ويبقى معه العمل. وجاء في الأثر: (ما من إنسان يخرج من الدنيا إلا وهو آسف حزين، إن كان محسناً يقول: يا ليتني استزدت، وإن كان مسيئاً يقول: ليتني أقلعت) ، وما هي الغاية من جمع الدنيا والتكالب عليها؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (من أصبح معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) ، ولا يدرك هذا إلا العقلاء، وكل إنسان مهما كان رصيده وماله، وممتلكاته، فلن يأكل الورق ولا الذهب ولا الفضة، وكم ستأكل من الطيبات؟ ما عندك خزان أكبر من بطنك، ومستودعات الطعام قبل أن تأكله لا تدري من سيأكل المستودع، لكن أنت ستأكل على قدر نفسك، (ابن آدم يقول: مالي مالي، وليس له من ماله إلا ما لبس فأبلى، أو أكل فأفنى، أو تصدق فأبقى) . إذا تصدق الإنسان أبقى كما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه ذبح عندها شاة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! انتهت الشاة وقسمناها ولم يبق إلا رجلها، فقال: لقد بقيت كلها إلا رجلها) هي تقول: نفدت كلها ولم يبق منها إلا رجلها، فيقول صلى الله عليه وسلم: (بل بقيت كلها إلا الرجل هذه) ؛ لأن الذي وزع قرض حسن عند الله، وهي وديعة، وأمانة ينميها المولى سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] .

حال السلف في الزهد

حال السلف في الزهد حقيقة حالنا أننا غرباء، ولا يوجد إنسان في العالم إلا وهو غريب، فالغربة مفروضة. يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يتلو قوله سبحانه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1-2] فقال: قف! بعثوا ورب الكعبة! قال: ما أدراك أنهم بعثوا؟ قال: من قوله: {زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] ، فالزائر لا بد أن يرحل، ولا يوجد ضيف يستقر في محل الزيارة. ودخل شخص على أبي الدرداء، فنظر في البيت فلم يجد شيئاً، فقال: يا أبا الدرداء! لم أر لك متاعاً في البيت، فقال: صاحب البيت لا يتركنا نجعل متاعاً. وسالم بن عبد الله دخلوا بيته فلم يجدوا في بيته ما يساوي كذا، فقيل له في ذلك: فقال: الأمر أعجل من هذا. هذا الكلام في الزهد وترك الدنيا بالنسبة لنا الآن بعيد، وكأنه خيال! فكيف نترك المفروشات والثلاجات، والغسالات والسيارات، فهو شيء بعيد؛ لأن أذواقنا بعدت جداً، ولأن قلوبنا أصبح بينها وبين هذا الكلام حجاب، فلا يمكن أن نتذوق هذا الكلام، ولكن لنرجع رويداً ونقول: ماذا سنأخذ من هذا كله؟ ولا أقول لك: تترك هذا كله، ولكن الخطر كل الخطر أن يمتلئ قلبك بكل ما تملك، ولذا فإن بعض العلماء يقول: يا رب! لا تجعل الدنيا في قلوبنا، واجعلها في أكفنا. كنت أسمع بعض مشايخنا رحمه الله يقول: ما عقدت عقد بيع قط أطلب ربحه، ولا أقرضت قرضاً أنتظر رده. لو استطاع الإنسان أن يرد نفسه عن التعلق بزخرف الدنيا وزينتها، يسهل على نفسه الخروج منها، أما إذا كان متعلقاً بها كل التعلق، فإنه يأسف عند الخروج منها، كأناس سافروا إلى بلاد غربة، فواحد منهم اشترى له أرضاً وبنى له قصراً، فجاءوا ليرجعون ويرحلون، فيقول صاحب الأرض: لا أرجع، وإذا رحل يمشي قليلاً وهو ينظر إلى البستان والقصر غصباً عنه. وقوله في هذه الوصية النبوية الكريمة: (كن في الدنيا كأنك غريب) ، معنى الغربة: التزام الأدب، والسلوك الحسن، ولا تعقد الأمل. ويبلور لنا هذه المعاني الجليلة ابن عمر فيقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) ، لو قدر أن سرية أو مجموعة نزلوا مساءً وخيموا في مكان، فإنهم لا يدرون متى يكون المسير، (وإذا أصبحت لا تنتظر المساء) ، يمكن يأتي الأمر بالسفر في الظهر، أو في الضحى، أو في العصر، ومراد ابن عمر هنا: إذا أمسيت فلا تؤخرن عملاً يجب أن تؤديه في المساء إلى الصباح، وهو راوي حديث الوصية: (ما حق امرئشٍ مسلم عنده شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) .

اغتنم حياتك قبل موتك

اغتنم حياتك قبل موتك يقول بعض شراح هذا الحديث: قدم (إذا أمسيت) على (إذا أصحبت) ؛ لأن المساء محل الغفلة والنوم، والصباح محل الحركة، فأحرى بك في المساء ألا تتحرى الصباح، فإذا أصبحت ولديك شيء من العمل فلا تنتظر المساء، فلو كان عندك واجب في النهار فلا تؤخره إلى الليل، وانتهز فرصة النهار قبل أن يأتي الليل، لأنك لا تدري أتدركه أم لا؟ وجاء في بعض الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) . الإنسان يجب أن ينتهز ويغتنم فرصة الشباب؛ لأن أمامه هرم، والهرم هو الكبر في السن، فإذا كنت في شبابك لا تعمل، فماذا ستفعل في هرمك؟ إذاً: من لم يغتنم شبابه، ويدخر فيه لوقت الهرم ضيع نفسه. ولذا يقول العلماء في موضوع الحج في باب الاستطاعة: من ليس عنده مال، ولكن عنده صنعة، ويستطيع أن يرافق القافلة، ويعمل ويكتسب ويأكل حتى يصل إلى مكة بكسب يده مع القافلة، فإنه مستطيع مادياً. يقول النووي: ويشترط الشافعي أن يكون أجر عمل يومٍ يكفي لنفقة يومين، أما إذا كان عمله في اليوم لنفقة يوم واحد، فليس بمستطيع، فلعله يمرض، واليوم الذي يمرض فيه يموت من الجوع، لكن إذا كان أجر يوم واحد يكفي لنفقة يومين، فيمكن أن يمرض يوماً أو يومين في الشهر أو في الأسبوع، ويبقى عنده مال مدخر، وهكذا أنت في شبابك، إذا لم تدخر في شبابك ما ينفعك في هرمك، فماذا تفعل؟ والدول تتعامل (بالتقاعد) ؛ لأنها استغلت العامل والموظف مدة شبابه وقوته، فلما جاءه الكبر أحالته على التقاعد، ولم تتركه. وهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه رأى عجوزاً ذمياً يتكفف السؤال، فقال: ما شأنك يا رجل؟! قال: أنا من أهل الذمة وكلفت بالجزية، قال: ما أنصفناك، كلفناك شاباً، وتركناك شايباً، لا، وأسقط عنه الجزية، وفرض له من بيت مال المسلمين ما يكفيه. إذاً: اغتنم شبابك قبل هرمك، وهذه قضية منطقية عقلية، لكننا لسنا في باب المادة، فالله سبحانه قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] ، ولكن نحن نعمل للآخرة، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص: (بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ القرآن كله في ليلة، فدعاه فقال: اقرأه في شهر؟ قال: إني أستطيع أكثر من ذلك قال: اقرأه في عشرين ليلة، فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، وهكذا حتى نزل معه إلى ثلاثة أيام) وهو يقول: إني أستطيع أكثر من ذلك، أي: غداً يأتيني الكبر ولا أقدر أن أقرأ، فكان يغتنم شبابه لهرمه، وكان يستطيع أن يصلي شيئاً من الليل، ويستطيع أن يصوم بعض الأيام، ويستطيع أن يكتسب ويتصدق، فلما جاءه الهرم عجز. (وصحتك قبل مرضك) والصحة والمرض شيء بيد الله، ولكن يفوت على الإنسان شيء كثير مع المرض، ومن فضل الله على المسلم أنه إذا كان يعمل في صحته من أبواب الخير ويداوم عليه فمرض أو سافر وعجز عن ورده، أمر الله الملائكة أن تكتب له مدة مرضه وسفره ما كان يعمل في الصحة والإقامة حتى يعافى أو يرجع إلى بلده. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فهل يقبل الله منك وأنت معافى، ثم أنت مريض يتخلى عنك؟ لا والله! فهو أكرم الأكرمين. وكذلك (غناك قبل فقرك) ، إذا كان المال معك، فانتهز أبواب الخير، أنت لا تدري ماذا يصير؟ سبحان الله! وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل كم من إنسان بات في القمة، وأصبح في الهاوية، أي: فما دام بيدك المال، وعندك الغنى، ووفرة المال، فافعل الخير، ولعل الخير الذي تفعله يحفظ لك مالك. من يصنع الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب الخير بين الله والناس وقوله: (وفراغك قبل شغلك) ، هذه نصيحة نقدمها لطلبة العلم قبل كل شيء، عليه أن ينتهز فراغه للتحصيل قبل أن يخرج من الدراسة إلى الحياة، ويواجه المشاكل العملية، فهو في فترة الدراسة متفرغ لها، وبعد ما يتخرج ويأخذ الشهادة ويخرج إلى ميدان الحياة يشغل، وأول شاغل يلقاه الزوجة والأولاد، ولذا كان بعض السلف يقول: (ذبح العلم بين أفخاذ النساء) ، وقد تكون الزوجة تعين طالب العلم على دراسته، لكن مشاكل الأولاد ضريبة لابد أن تؤديها في طريق الحياة، ويفرض عليك أن تشغل بما ليس من طلب العلم، وقد يكون عملك لطلب العلم، ولكن ليس كوقت التفرغ، ولهذا يروى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يقول: لا ينبغي لإنسان أن يتولى القضاء أكثر من سنتين قالوا: لماذا؟ قال: مخافة أن ينسى العلم، لأن مشاكل الناس تنسي العلم، ولكن الآخرون يقولون: كلما زاول القضاء كلما تمكن فيه وتمرس، وعرف طرق الخصوم. وقوله (وحياتك قبل موتك) ، الحياة أمامك، ولكن الموت ليس عندك وليس بيدك، فالمولى سبحانه وتعالى قدر لكل أجل كتاب {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] . إذاً: على العاقل أن يغتنم هذه الأمور الخمس، وقد جاء في الحديث الصحيح: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل به) . والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، وأن يوفقنا وإياكم للعمل بما علمنا، وأن يتقبل منا، وأن يعاملنا سبحانه بلطفه وكرمه، وإحسانه، فما أضعف الإنسان وما أطول الأمل! وما أوسع فضل الله سبحانه وتعالى! وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحديث الحادي والأربعون [1]

شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والأربعون [1]

شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)

شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) . حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح] . الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: وبعد تلك الرحلة الطويلة مع هذا المجموع المبارك من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي المؤلف رحمه الله تعالى -وقبيل الأخير بحديث واحد- بهذا الحديث الذي هو بمثابة المقياس والميزان للمؤمن حقاً في إيمانه اعتقاداً وقولاً وعملاً.

ترجمة موجزة لراوي الحديث

ترجمة موجزة لراوي الحديث يقول النووي رحمه الله: (عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص) وهو رضي الله تعالى عنه من خيرة أصحاب رسول الله، وكلهم أخيار. كان صلى الله عليه وسلم يقدمه على أبيه؛ لأنه سبق أباه إلى الإسلام، ولم يكن بينه وبين أبيه سوى ثلاث عشرة سنة، وقيل: إحدى عشرة سنة، أي: أن أباه تزوج صغيراً وأنجب، وكان من أكثر أصحاب رسول الله حديثاً، كما قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (ما كان أحد أكثر مني حديثاً إلا عبد الله بن عمرو بن العاص حيث كان يكتب ولا أكتب) . وهكذا يظهر أثر كتابة العلم وتدوينه، وقد قال عبد الله: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فِيه، فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) ، وهذا كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .

رتبة حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)

رتبة حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ذكر النووي رحمه الله هذا الحديث، وإن كان لم يُخرَّج في الست، ولكن خُرِّج في كتاب: الحجة على من لم يسلك الطريق والمحجة للمقدسي. ويقول العلماء: إنه كان رجلاً شديداً في الله، متحرياً في السنة، محارباً للبدعة، فأحسنوا الظن به فيما يرويه. ولكن كما أشرنا سابقاً، أن من قواعد مصطلح الحديث والأصول عند الأصوليين والمحدثين: أن الحديث إن ضعف سنده من حيث الرجال، وشهدت له نصوص أخرى من الكتاب والسنة؛ فإنها تقويه ويصير حسناً لغيره. ويكفينا أن النووي وهو هو في الحديث وفي الفقه وفي العلم والفضل يستحسنه، ولهذا الحديث شواهد من الكتاب ومن السنة.

الفرق بين متعلقات الإيمان ومتعلقات الإسلام

الفرق بين متعلقات الإيمان ومتعلقات الإسلام الحديث يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، هذه كلمات معدودات تضع الميزان الحق في ادعاء الإيمان اعتقاداً وقولاً وفعلاً. فالإيمان: تصديق بالقلب واعتقاد بالغيب، بخلاف الإسلام الذي هو امتثال الجوارح ظاهراً، كما في حديث جبريل عليه السلام: عندما سأله عن الإسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) والشهادة نطق، (وتقيم الصلاة) والصلاة حركة، (وتؤتي الزكاة) وهي: إخراج جزء من المال، (وتصوم رمضان) والصيام: إمساك، (وتحج البيت) رحلة وعودة. كل هذه أعمال ظاهرة بمعنى الاستسلام والانقياد لأوامر الله، ثم جاء في الحديث: (أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) ، كل هذه أمور غيبية ليس عندنا منها شيء محسوس، حتى الكتب التي أنزلها الله ليس عندنا حقائقها؛ لأن اليهود والنصارى غيّروا ما أنزل الله، ولم يبق إلا القرآن الكريم بين أيدينا، وهو داخل في عموم كتبه، وما عدا ذلك: فرب العزة سبحانه غيبه عنا، لكن آياته وقدرته ودلائل وجوده سبحانه مستقرة في أنفسنا وفي الكون كله من حولنا. والملائكة أخبرنا الله عز وجل عنهم، وقد رآهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً. وكذلك الرسل كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه، وبلغ عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. والبعث هو إحياء الناس بعد الموت. والآيات عليه في كتاب الله من الناحية الكونية ومن الناحية العقلية، بل ومن الناحية العملية متوفرة. أما من حيث الكون فيقول سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] . وأيضاً قصة بني إسرائيل وقتيلهم، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْييِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] أي: فأحياه الله ونطق وقال: قتلني فلان، ثم مات، فكهذا الإحياء يحيي الله الموتى. وإبراهيم عليه السلام قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ، لأن العلم عن إبلاغ لا يساوي العلم عن مشاهدة، ولذا ذكر الله سبحانه في سورة التكاثر: (علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين) . فقال الله له: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} [البقرة:260] ، فقطعها، ووزعها، ثم ادعها تأتك سعياً. وقصة أصحاب الكهف إذ لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنوات -ثلاثمائة ميلادية، وهي ثلاثمائة وتسع هجرية قمرية- ثم يُبعثون ويذهبون ليبحثوا عن طعام ليأكلوه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف:21] . وهكذا الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] . وكذلك قصة عزير العزير مع حماره وفاكهته، فقد شاهد عياناً كيف يُنشز الله العظام بعد موتها وكيف يكسوها اللحم! وكذلك موسى كان معه حوت مقلي ومملَّح فاتخذ سبيله في البحر سرباً! طيور حيوانات حيتان بشر، كل ذلك آيات عملية، ونموذج مصغر للبعث، وإحياء نفس واحدة كإحياء الناس جميعاً. فالإيمان يتعلق بالمغيبات، ولذا من لم يؤمن بمطلق الوعد أو الخبر وجاء عند المعاينة وأعلن إيمانه فلا قيمة لهذا الإيمان؛ لأنه لم يؤمن عن مجرد الخبر، وكما حصل لفرعون حيث آمن عند المشاهدة، فقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس:91] وكذلك الحال مع عامة الناس، كل من تاب قبل أن يغرغر، وقبل أن يرى الحقائق، وينكشف له الغيب فإن الله يقبل توبته، أما إذا أصر وسوَّف حتى يعاين حقائق البعث والجزاء والآخرة، ثم يقول: تبتُ، فإن التوبة لا تقبل منه.

سبب اشتراط تبعية هوى المؤمن للشرع

سبب اشتراط تبعية هوى المؤمن للشرع يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن) أي: لا يصدق أحد حقيقة ويطبق الإيمان عملياً حتى يكون إيمانه الذي يدعيه وينتسب إليه ويتلبس به، يحمله على أن يكون الهوى والميل والرغبة فيه تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ وما هي علاقة الإيمان بهذا؟ لأنك مبدئياً تؤمن بالله، فتشهد أن لا إله إلا الله، وتقول: الله ربي ورب العالمين، تعلنها سبع عشرة مرة في يومك وليلتك في الصلوات الخمس: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أي: خالقهم ورازقهم، محييهم ومميتهم، مدبر أمورهم بالربوبية، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لأنه المستحق للألوهية والعبادة منا له. وتشهد أن محمداً رسول الله أي: تشهد أن الرب سبحانه وجل جلاله أرسله إليك وإلى الناس كافة برسالة وبلَّغها. إذاً: إن كنت تؤمن حقاً بهذه المبادئ، وأنه فعلاً لا معبود بحق سواه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله، جاء بالرسالة من عنده؛ فلا يتم هذا الإيمان ولا يكون عملياً إلا إذا كان هواك تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وهنا كلمة (هواه) يقولون في اللغة -واللغة العربية فلسفتها عجيبة- هوى وهواء، وثنى وثناء، وغنى وغناء، والثرى والثراء، كل هذه بينها فوارق. الثرى والثراء، المقصور معناه: التراب، والممدود معناه: الغنى ووفرة المال. الغنى والغناء، الغنى: ضد الفقر، والغناء: اللهو واللعب. والهوى هو: الميل والرغبة، والهواء: هو هذا الذي نتنسمه والذي يملأ الفراغ بين السماء والأرض. إذاً: (حتى يكون هواه) ، أي: ميله ورغباته، تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا يقول العلماء: في هذا الحديث لفت نظر؛ لأن كلمة (الهوى) غالباً ما تستعمل في الأشياء التي هي ضد الحق يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] يعني: ميوله ورغباته. {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] فالحق يقابله الهوى، والهوى في مقابلة الحق يكون باطلاً. فقالوا: كيف يكون هذا الهوى -الذي هو غالباً يستعمل في الجوانب التي هي ضد الحق أو في الشر- موضِع تحقيق الإيمان ويجعله تابعاً لرسول الله؟ ويُجاب عن ذلك والله تعالى أعلم: بأن البلاغة النبوية تضع الإنسان في رغباته كلها من بدايتها إلى أقصاها وهو الميل الفطري والرغبة الإنسانية في الغرائز وفي الميول وفيما تهواه النفس وتميل إليه من الجانب البشري، وكل ما ينزع بالإنسان إلى جانب آخر، ولكن تلك الرغبات التي تشذ بالإنسان أو تجنح به إلى اليسار لا يمكن أن يكون صاحبها مؤمناً إلا إذا كانت نزعات الأهواء والميولات النفسية خاضعة وتابعة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: حب الآخرة، والميل إلى العمل الصالح هي الفطرة، (كل مولود يولد على الفطرة) أي: الفطرة الإسلامية الحنيفية السمحة، وهي من باب أولى تابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا أصبح هواه وميوله الذي يشبع رغباته وشهواته، ويدعوه إلى تحقيق مطالبه البشرية ورغباته الحيوانية متبلوراً ومتمرناً وتابعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، فمن باب أولى أن جانب الخير فيه سيكون تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم. ولذا يقولون: الإنسان فيه شبه بالسبُع في الافتراس وقوة الغضب، وفيه شبه بالملائكة في اللين والتواضع، والإنسان مكون من روح وجسد، فالروح -دائماً- تسمو إلى مكارم الأخلاق وعلو الهمة، وطاعة المولى، والاستئناس بالعبادة وبذكر الله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] . والجسم يخلد إلى الأرض في شهواته ورغباته، فالجسم يميل إلى طبيعته الحيوانية، والروح تميل إلى الجوانب الروحية العلوية الإلهية. ولذا يقولون: إذا غلبت طبائع جسمه روحَه كان حيواناً: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] ، وإذا غلب الجانب الروحي كان ربانياً، ممن يعلمون ويتعلمون ويطيعون الله سبحانه، ولذا انقسمت الأمم الماضية إلى قسمين: قسم: غلَّبوا جانب البدن، وهم اليهود، وأصبحوا ماديين يحتالون على ما حرم الله ليأكلوه. والقسم الآخر: النصارى الذين أرادوا أن يكبحوا جماح المادة في اليهود، فابتدعوا الرهبانية، فما استطاعوا أن يواصلوا بها. وجاء الإسلام وطابق ووازن بين مركبات الإنسان مادة وروحاً، فأذن له أن يأكل ويشرب ويتحرى الحلال، وأن يصلي ويصوم، ويجمع بين الأمرين بكفتين متعادلتين ويطير بجناحين سليمين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10] . ولذا يقول علماء الاجتماع: الإسلام دين ودنيا، وعلى هذا يخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحدنا، حتى تكون طبائعه وغرائزه وهواه وميوله كلها تابعة لما جاء به صلى الله عليه وسلم.

تقديم محبة الرسول وما جاء به على النفس والولد والوالد

تقديم محبة الرسول وما جاء به على النفس والولد والوالد هذا الحديث بهذا اللفظ وإن قال فيه النووي: رواه صاحب الحجة؛ فإننا نجد له الشواهد من الصحيحين منها: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) . وقال عمر: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر!) ، أي: الآن كملت المحبة.

الأمور الغريزية الدافعة للمحبة

الأمور الغريزية الدافعة للمحبة لو أردنا أن نوازن ونقارن -قبل أن نعرف حقيقة تلك المحبة- بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءك عنه، وبين ولدك ووالديك ومالك والناس أجمعين؛ سنجد فرقاً عظيماً. يقول القاضي عياض: إن دواعي الأمور الفطرية الغريزية واحدة من أربع، حيثما وجدت واحدة من تلك الأربع فإنها تستدعي المحبة، قال: جلب النفع، ودفع الضر، فأيما إنسان جلب لك نفعاً وجدت في نفسك الميل إلى حبه بشكل طبيعي، وأيما إنسان دفع عنك ضراً وجدت في نفسك الميل إلى محبته. قال: وجمال الخلقة والخلق؛ فالإنسان من حيث هو قد ينظر إلى لوحة رسم زيتية فيها شجر ونبات ونهر ومنظر طبيعي، فلا يمل النظر إليه جِبلَّة، وترى الطائر الجميل كالطاوس مثلاً فتحب هذا الشكل أمامك. وأما جمال الخلُق، فإنك تجد الإنسان دمث الأخلاق الذي يعامل الناس بالإحسان وبمكارم الأخلاق وحسن السيرة، فتجد في نفسك أنك تحبه لمكارم أخلاقه، ولو لم تتعامل معه.

اجتماع مقتضيات المحبة في رسول الله صلى الله عليه وسلم

اجتماع مقتضيات المحبة في رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول القاضي عياض: وقد اجتمعت تلك الأمور الأربعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يوجد نفع أعظم مما جاءنا به صلى الله عليه وسلم فإنه عرّفنا بربنا عز وجل. ومعرفة العبد بربه لا يوازيها شيء، فأنت عرفت ربك وخالقك الذي خلق السماوات والأرض، وعرفت رب العالمين، فمثلاً لو أن شخصاً اكتشف جهازاً ما أو اكتشف أي شيء مجهول، أو جاء للعالم بأي اكتشاف جديد، وعرف ما لم يعرفه الناس؛ تطاول إلى السماء، وأنت تعرف خيراً مما عرف؛ لأنك تعرف رب العالمين عز وجل. ومن النفع الذي جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءنا بما يدخلنا الجنة فعرّفنا طريق الجنة، فأيُ شيء يوازي الجنة؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، وعرّفنا بالإسلام، وعرفنا بالعبودية لله، وكيف نعبد ربنا ونتقرب إليه، وعرّفنا بالملكوت الأعلى كله. ودرأ عنا كل شر في حياتنا، فصان وعصم دماءنا، وأموالنا، وصان فروجنا وأعراضنا، وكفَّ بعضنا عن بعض، كل شر في الدنيا سد طريقه عنا، وسد عنا أبواب النار، وبيّن لنا الطريق الذي به نسده. ولذا لما خطب القوم قال: (ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد بينته لكم) ، فماذا نريد أكثر من هذا؟ والترجمة القرآنية لرسول الله تقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة:128] ، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: يشق عليه ما يلحقكم من عنت ومشقة، وحريص على جلب الخير لكم، ثم يتوج ذلك بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ؛ عليه الصلاة والسلام! القسم الثالث: جمال الخِلقة، يقول بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله ما ملأت عيني من محمد في جاهلية ولا إسلام، أما في الجاهلية فكراهية أن أنظر إليه، وأما في الإسلام فحياءً من أن أنظر إليه) ، سبحان الله! فهذا كما قال القائل: أهابك إجلالاً وما بك سلطة علي ولكن ملء عين حبيبها يهابها وهي ضعيفة ليس لها سلطة عليه، ولكن من شدة وفرط المحبة، وهنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: والله لو طُلب من أحدنا أن ينعت رسول الله لما استطاع، يقولون: ما كنا نستطيع أن نملأ أعيننا منه حياءً وإجلالاً. وأما جمال الخُلُق فلو اجتمع العالم كله من أوله إلى آخره فلن يستطيعوا أن يصفوا أخلاق رسول الله بما وصفها الله وجعلها قرآنا يتلى ونتعبد به: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، تقول أم المؤمنين عائشة لما سُئلت كيف كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: (أتقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن) ، يعني: يأتمر بأوامره، وينتهي بنواهيه، ويعمل بمكارمه ومحاسنه وآدابه. إذاً: لو قارنا الولد والوالدين مع دوافع المحبة التي ذكرنا فسنجد الفرق العظيم، صحيح أن الوالدين لهما الحق الثاني بعد الله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] حتى في حالة الكفر: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا} [لقمان:15] سبحان الله! لم يقل وعاشرهما، بل قال: وصاحبهما، أي: اجعلهما كصديق، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] وذلك لأنهما تسببا فيما يتسبب فيه أي زوجين من الحيوانات، ورزقهما الله من عنده هذا الولد. وأما الولد فقد قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] . وأما المال فقد قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] ، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] . إذاً: الناس أجمعون لن ينفعوا شيئاً (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) .

المحبة الحقيقية التي يطالب بها العبد

المحبة الحقيقية التي يطالب بها العبد إذاً: العالم كله مع الله سبحانه وتعالى لا شيء، والعالم كله في موازنة ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء، فإن من حقه علينا وفاءً بحقه إعطاؤه تلك المحبة، وليست محبة ذات، ولا محبة هوى، ولكنها محبة جميل مقابلة عرفان إيمان تصديق تكريم، كل المعاني السامية تنطوي تحت محبته صلى الله عليه وسلم. كانوا في الحرب أو في الجهاد أو في المعاملات، وفي كل شيء يقدمونه على أنفسهم، نحن نعرف في الوقت الحاضر أنه في أي مجموعة عسكرية جميع الفرق تفدِّي قائدها وهي أمور ارتباط دنيوية، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟

محبة العمل والاتباع

محبة العمل والاتباع (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه) ، ما هي تلك المحبة؟ هل هي لوحة أكتب فيها: أنا أحب رسول الله؟ A لا، بل يجب أن تُترجَم تلك المحبة عملياً، واعتقاداً في القلب وإيناساً وإشعاراً وطمأنينة وارتياحاً وميولاً، وأن تترجم في القول، إذا جئت لتعمل أي شيء فتنظر هل هذا العمل يحبه رسول الله أو يكرهه؟ فإذا كان يحبه وفعلته محبة لرسول الله فقد ترجمت حبك لرسول الله اتباعاً وفعلاً لما يحبه، وإذا كان عملاً يكرهه رسول الله وتأتيه جهاراً وإسراراً فهل هذا يتناسب مع دعوى محبة رسول الله؟ لا والله! لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع يضرب لنا صحابي جليل مثلاً رائعاً لم يأت التاريخ بمثله، عندما أخذه المشركون إلى مكة وباعوه ممن كان قد قتل واحداً منهم في بدر، وأعلموه يوم قتله، وقبل أن يقتل أراد أن يلقى ربه نظيفاً حساً ومعنىً، أراد أن يستحد من شعره، فطلب من امرأة في البيت أن تعطيه الموسى، فأخذ الموسى في يده، وأتى إليه طفل صغير يحبو فرأت أم الطفل هذا الأسير في يده الموسى والطفل عنده فصاحت تخشى أن يقتله؛ لأنهم سيقتلونه، فضحك وقال: أتظنين أني أقتل الطفل البريء لا والله! وسلّمه إليها. وحينما أخذوه وأخرجوه من الحرم إلى الحل وأرادوا قتله، وكان أسيراً عند من اشتروه، وحينما قُدِّم قال: أنظروني أصلي ركعتين؛ فصلى بخشوع وبدون جزع، وقال: والله! لولا أني أخشى أن تقولوا فزع من الموت لأطلت. ثم قالوا له كلمة -وهي محل الشاهد- حينما صلبوه: أتود أن محمداً مكانك الآن وتُضرب عنقه وتسلم أنت؟ انظروا هذا العرض! السيف على عنقه، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعيد عنهم في المدينة، فيعظم عليه أن يخطر بباله هذا الخاطر، ويقول: لا والله، ولا أن يشاك بشوكة وهو في مكانه بالمدينة! لماذا لا يقول ذلك ليفكوا أسره ويدَعوه يذهب لحاله؟ لم يحتمل ولم يقو، إحساسه وإيمانه ورقة عاطفته مع رسول الله تأبى أن تقبل ورود خاطرة أن يشاك صلى الله عليه وسلم بشوكة وهو في المدينة! يريد أن تُضرب عنقه مراراً ولا أن يتصور شوكة يشاك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أترون هذا يعصي رسول الله؟ أترون هذا يخالف ما يحبه رسول الله؟ لا والله! والأمثلة في هذا الباب عديدة. بل أتت بعض الأحاديث في بيان من يأتي بعد رسول الله، ومدى تعلق قلوبهم به ومنها: (إخواني يأتون من بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله) .

محبة ضبط الهوى

محبة ضبط الهوى قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، يقول العلماء: ما ارتكب إنسان معصية إلا وخالف هواه سنة رسول الله؛ لأنه عند الإقدام على تلك المعصية عنده وازعان، وصوتان في أذنيه: أحدهما صوت السنة تقول: أقلع فهذا حرام. والآخر صوت الهوى يدعوه: هذه لذة فمَن يجيب؟ إن غلب داعي الهوى مال معه، وإن غلب داعي السنة عُصِم ونجا. ولذا يقول العلماء: اتباع السنة تدريب، ونحن إذا نظرنا إلى جزئيات بسيطة يقولها بعض العلماء، إنما هي من باب التعويد وترويض النفس. فمثلاً: نأتي في الأكل والشرب واللبس والنوم والأمور الفطرية العادية: أنت تريد أن تأكل الطعام وأول طريق الطعام الفم، لو حملت الطعام باليمنى أو باليسرى إلى فمك ووصل إلى الفم ذهب في طريقه، ولكن إذا أخذت الطعام باليسرى جاءت السنة وقالت: لا، السنة أن تترك اليسرى، وتأخذ باليمنى. وإذا أردت أن تشرب كذلك وإذا أردت أن تلبس قدمت الكم الأيمن فتلبس الثوب، ولكن إذا امتدت اليسرى قالت السنة: لا، البدء باليمنى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طعامه وشرابه ومنامه، وفي كل شيء. إذا جئت إلى فراشك وأردت أن تضطجع استلقيت على ظهرك، أو نمت على بطنك أو على يسارك أو على يمينك، ولكن عندما تستلقي على يسارك تقول لك السنة: لا، انقلب على اليمين، وعندما تنبطح على بطنك تقول لك السنة: لا، النوم على البطن مكروه؛ لماذا هذا كله؟ لأنك إذا أصبحت وأمسيت تأخذ بالسنة في الصغيرة والكبيرة صرت سنياً بالاتباع، ولهذا عندما يُقدم الإنسان على عمل، أو يُدعى إلى تركٍ فلينظر وليأت بالميزان، داعي الهوى يدعوه إلى المخالفة، وداعي الاتباع يدعوه إلى الموافقة والاتباع، فيوازن بين الكفتين، وقد قدمنا أن هذا الحديث هو ميزان لرغبات الإنسان مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا يقول بعض العلماء: إذا كانت كفة الهوى ثقيلة جداً ومائلة ومعها الشيطان والنفس، وداعي السنة في الضمير، بعيد وخافت، فكيف أفعل؟ يقول العلماء: توقف لحظة بسيطة جداً، وانظر إلى ما بعد رجحان كفة الهوى، أين ستؤدي بك؟ وماذا سيتم؟ لنفرض أنها من الرغبات النفسية أو الشهوة، فإن لذتها لحظة، ثم ماذا بعدها؟ فالمؤمن يرجع على نفسه باللوم والندامة، وسيأتي الحديث عن موقف الإنسان إذا أذنب واستغفر. إذا كان مثلاً أخذ مالاً سرقة، أو اغتصاباً، أو جحد عارية، أو أي شيء من هذا الذي تدعو إليه النفس، فما آخر هذا؟ المال سيذهب، وستحل مكانه خطيئة. وفي الجملة ضع الجنة في كفة اتباع السنة، وضع النار مع ميل الهوى، وبناء عليه فانظر إلى أين تميل؟ ما زلنا في هذا الميزان النفس تدعو إلى الشهوات وإلى المخالفة ومعها النار، والسنة تدعو إلى الاتباع والطاعة، فإذا كان الإنسان في إحدى الكفتين فسيسقُط في إحدى الجانبين، إن كنت في جانب الشهوة والهوى فستميل بك الكفة، وتسقط في النار عياذاً بالله، وإن كنت في كفة السنة والطاعة ومخالفة الهوى إيماناً برسول الله، فستسقط بك الكفة في الجنة. الله أكبر والله إن الحق لواضح، لكن غلبة الهوى على الإنسان تجعله يميل إلى المخالفة. وهنا وقفة بسيطة يا إخوان! لماذا يرغب الإنسان في تلبية رغبات نفسه؟ لعل بعض الناس يقول: هذه مصلحة ظاهرة أو منفعة عاجلة. نقول: ألا تعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يأمرك بشيءٍ أو ينهاك عن شيء، فهو أعلم بما فيه مصلحتك، فلو جئت مكتباً استشارياً واستشرته في مسألة ما، كأن تبني بيتاً في مكان ما، ولك رغبة في ذهنك، وقال لك المكتب الاستشاري: لا، هذا المحل لا يصلح لهذا الشيء، فإنك لن تقدم على إقامة العمارة في محل لا يصلح للبناء؛ لأنك استشرت من هو أعرف منك فاقتنعت بفكرته ومشورته، وإن كانت مخالفة لرغبتك. وكذلك إذا جئت إلى طبيب وعندك شيء ما، ونصحك الطبيب ألا تتناول العمل الفلاني أو الطعام الفلاني، فإذا رجعت إلى نفسك، فأنت ترى الطعام وتشتهيه، وتسمع نداء الطبيب من ورائك: احذره لا يتناسب مع صحتك، فأيهما أولى بأن تسمعه؟ والعقل ماذا يقول لك؟ أتأكل وتشرب ولا تدري ماذا بعد ذلك؟ أو تسمع نصح الطبيب؟ لا شك أنك تسمع نصح الطبيب لأنه أعرف منك. فإذا كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه، وطبيب الأبدان وطبيب الأرواح والسراج المنير الذي جاءنا بالصراط السوي من عند الله يقول: اسلك هذا الطريق وتجنب كذا وكذا، فهو أولى بأن تسمع كلامه صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى يقول في الآية: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] ، ثم يقول بعدها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:153] .

قصة صلح الحديبية ومواقف بعض الصحابة منه

قصة صلح الحديبية ومواقف بعض الصحابة منه ونأتي إلى مثال قريب، قد يكون اجتهاداً في الدين، وقد يكون لك رغبة في شيء، ولكن السنة على خلافه. في صلح الحديبية، حينما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح بينه وبين المشركين على شروط الصلح، وكانت عجيبة جداً، لو عرضناها على العقل وميل الهوى فإنه يرفضها؛ لأنها كانت كما يقولون في العرف السياسي أو العسكري: إملاء القوي على الضعيف؛ لأن الصلح عقد على رجوع المسلمين من مكانهم ولا يصلون إلى مكة. والمسلمون قدموا من المدينة وعندهم البشرى من رؤيا رسول الله بأنه سيأتي البيت، وقد مرت عليهم ست سنوات وهم مهاجرون لم يروا مكة، وكانوا قد فرحوا بالبشرى، ثم يمنعون من ذلك! ولو منعوا قبل ذلك لكان هيناً، ولكن عندما يأتون إلى النهر ويمدون أيديهم للشرب، فيقال لهم: ارفعوا أيديكم، فهذا صعب جداً. وصلوا إلى حدود الحرم، ونزلوا على الحد بين الحل والحرم. فكان من الشروط التي اشترطتها قريش على المسلمين: - ترجعون هذا العام وتعتمرون من العام المقبل. - وهدنة بيننا وبينكم عشر سنوات. - وأن الذي يأتيكم منا مسلماً بدون رغبتنا تردونه علينا، والذي يأتينا منكم لا نرده عليكم. كيف هذا؟! الذي يأتينا منكم مسلماً لله نرده إلى الكفر، والذي يأتيكم منا مرتداً عن الإسلام تأخذونه ولا تردونه؟! لم لا تجعلونها واحدة بواحدة؟ إما أن يُرد الجميع، أو يُترك الجميع. فيقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. يأتي عمر رضي الله تعالى عنه يقيس المسألة عسكرياً مع إيمانه بالله، ليس لهوى أبداً، فيذهب إلى أبي بكر ويقول: يا أبا بكر! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ أي: لماذا نقبل هذه الشروط؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا عمر! إنه رسول الله فالزم غرزه، أي: هذا رسول الله، فكن تحت ركابه، وامش في ظل بعيره، ولا تتطاول ولا تعارض ولا تقل شيئاً، فما هو بالشخص الذي سنعرض آراءنا عليه ونوجهه، بل ربه هو الذي يوجهه. ثم ذهب إلى رسول الله وقال نفس المقال، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم نفس A (يا ابن الخطاب! إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً) . وفعلاً قبِلوا فحلقوا شعورهم ونحروا هديهم وتحللوا ولم يتحرك أحد هم جاءوا للعمرة! ولكن يحدث شيءٌ عجيب، وتحدث أمور هي مقاييس في الإسلام ونحن بعيدون عنها عند المفاوضة للصلح ينتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ليبلغ قريشاً بأنا جئنا عُمَّاراً ولم نأت مقاتلين، فائذنوا لنا أن نعتمر ونخرج. فقال لـ عمر: (اذهب يا عمر) فيقول: أنت تعرف عداوتي لهم يا رسول الله، وليس هناك من يحميني، لكن عليك بـ عثمان فهناك من أهله من يحميه. وينتدب عثمان، فيذهب ويفاوضهم فيقولون: أما أنت يا عثمان فدونك البيت فطف به واقض عمرتك أيّ سبق وأيّ شرف هذا، لكن عثمان في ارتباطه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محبته لرسول الله يقول: والله لا أطوف بالبيت ورسول الله ممنوع عنه. سبحان الله! يطوف ولو واحد منهم فقط، ليصدق الرؤيا. فيرجع ولم يطف، أين المقاييس التي تحدد هذا الحب؟! بأي مقياس إلكتروني أو ذري يقاس هذا الحب؟ إن مقياس الإيمان هو الذي يحدد هذا فعلاً، وقد كافأه رسول الله على ذلك في غيبته حينما تأخر عثمان وبلغه أنه قد قتل فبايع الصحابة جميعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وعدم الفرار، ولما بايعوا رسول الله بأيديهم وصافحوه على البيعة فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول باليد الأخرى: (وهذه يد عثمان) يد رسول الله بدلاً عن يد عثمان! أظن أن هذا فيه إشارة خفية بأن عثمان لم يقتل؛ لأن البيعة لا تكون عن ميت، وفيه إشعار بأنه حي، وفيه شرف وتكريم لـ عثمان. ويكتب الله الرضا فيقول: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] أي سكينة لجماعة ذاهبين يعتمرون ويبايعون على مداهمة أهل مكة في عقر دارهم بعددهم وعدتهم؟! فهذا لا يكون أمراً عادياً أبداً، لكنها سكينة من عند الله، وجعل الله هذا الصلح الذي تم فتح قريباً. يهمنا أن عمر رغب في أمر وردَّه أبو بكر، وأبو بكر لا شك أنه كان يرغب فيما يرغب فيه عمر، ولكن هواه وميوله ورغباته تبعاً لما جاء به رسول الله، لذا كان عمر يقول: (فعملت لذلك أعمالاً) أي: كنت أعتق وأصوم تكفيراً لتلك الكلمة. وقد ذكر الله في القرآن الكريم في نهاية سورة الفتح قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح:27] إلى آخرها، وبعد سورة الفتح مباشرة تأتي سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] . من هنا منطلق جديد، وهو أنه لا يصح إيمان العبد إلا إذا كان هواه تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم مبينا للأمة: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . إذاً: أنت -مهما كنت- إن غلَّبت الهوى ومِلت عن الاتباع فأنت إلى الهوان، وإن عملت عملاً ليس عليه أمر رسول الله، ولست متبعاً فيه لرسول الله؛ فهذا العمل مردود، فكيف يضيع الإنسان بين الهوان ورد العمل؟ ولذا كان على المسلم أن يحمل نفسه أولاً بالاجتهاد في الدعاء أن يوفقه الله لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أسأل أن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين أحسن ما جازى نبياً عن أمته، ونسأله تعالى أن يرزقنا وإياكم محبته ومحبة سنته. وهذا فضل من الله عندما يحبب الله للإنسان الإيمان: {وَلكنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7-8] ، وبالله تعالى التوفيق والله أعلم.

الحديث الحادي والأربعون [2]

شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والأربعون [2]

وقفة مع قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)

وقفة مع قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) فإنه يتعلق بهذا الحديث العديد من القضايا الكبرى في علاقة الأمة بأكملها بالرسول صلى الله عليه وسلم. وجميع شراح الحديث يوردون في شرحه الآية الكريمة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] . وبهذه المناسبة ننبه على ما سبق أن نبهنا عليه مراراً، بأن الاستدلال في كتاب الله، وفهم معنى كتاب الله ودلالاته لا تؤخذ جزئية، ولا موضعية، ولكن تؤخذ وحدة موضوع متكاملة، وهذه الآية الكريمة سيقت في سورة النساء، فنأخذ ما قبلها من أول نصف الحزب قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] . ثم يأتي بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] . يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: معرفة سبب النزول تعين على فهم النص، الأصوليون يقولون: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) . فنأتي إلى هاتين القاعدتين سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، لما فتح الله مكة على المسلمين -ونحن نعلم أن أعظم وأشرف مكان في الأرض هو الكعبة، ومفتاح الكعبة هو أغلى وأثمن ما يحرص عليه كل إنسان- أراد صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة، فطلب المفتاح من آل شيبة، من عثمان بن طلحة، وكان هو سادن الكعبة، ففتح صلى الله عليه وسلم الكعبة، ودخل فصلى وخرج، فقال علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطنيه يا رسول الله! قال له: خذ، فجاء عثمان يطلب المفتاح ويقول: الأمانة التي أعطيتك، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، وهنا علي بعد أن أخذ المفتاح، هل يتمسك به أو يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله من عند الله ويسلم المفتاح طائعاً مختاراً؟ الذي فعل أنه سلم المفتاح. ثم نأتي إلى عموم اللفظ (يَأْمُرُكُمْ) ، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على جميع الأمة أن تؤدي الأمانات إلى أهلها، وأعظم أمانة عند الفرد هي ما ائتمنه الله عليه من دينه، حتى يقول العلماء: إن الوضوء أمانة، ويقول مالك: إن الصلاة أمانة. الغسل للجنابة أمانة، من منا يعلم عن الثاني أمتوضئ أم غير متوضئ؟ فهو أمر ائتمنك الله عليه. وفي قوله تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] قالوا: الأمانات التي ائتمن الله العباد عليها. {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ، وفي آية أخرى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] ؛ لأن العدل من تعادل كفتي حمل البعير إذا كان الحمل متعادلاً متوازياً، أما إذا كانت كفة ثقيلة، والأخرى خفيفة، فإنها تطيش الخفيفة وتنزل الثقيلة ويجنح البعير ولا يستطيع المشي. الخطاب هنا: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، هل هو خطاب لعموم الرعية أم للحكام؟ المخاطب بهذا هم الحكام، فالله فوق الجميع، والحاكم الذي ليست فوقه سلطة إلا لله يأمره الله أن يحكم بالعدل، ولم يقل: إذا حكمتم بين المؤمنين، لكن قال: إذا حكمتم بين الناس. أي: ولو كانوا كفاراً.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ... ) وبعد ما رتب الأمر مع الحكام، ورسم المنهج للعدالة، جاء للرعية فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ) أولاً، ثم قال تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فوقع عطْف وتكرار في الفعل: أطيعوا وأطيعوا وعندما ذكر (أُوْلِي الأَمْرِ) لم يأت بفعل الطاعة؛ لأن طاعة الله طاعة مستقلة، وطاعة رسول الله طاعة مستقلة، ولذا قد ينفرد صلى الله عليه وسلم بتشريع حلال أو حرام في السنة النبوية. فمثلاً: الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، وجاء الرسول بالسنة وقال: (لا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ، فهذا تشريع مستقل من السنة، فأولو الأمر يطاعون ولكن ضمن طاعة الله وطاعة رسوله. وهنا فريقان: حكام أُمروا أن يحكموا بالعدل، ومحكومون أُمروا أن يطيعوا، وقد يقع النزاع بين الطرفين، وحينئذٍ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] . (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه) ، هذا الفصل وهذا الموقف يرتبط بالإيمان بالله، سواء كانوا حاكمين أو محكومين، لأن الحاكم إذا لم يؤمن بالله ويصدق بكتاب الله ويعمل به فما هو برادٍ إليه، وكذلك الرعية إذا لم تؤمن بالله وبكتاب الله فلن ترجع إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله. (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) أي: تجازون على أعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: الرد إلى الله وإلى رسوله خير من الذهاب يميناً ويساراً. وهنا كما يقول العلماء: الرد إلى الله معناه الرد إلى كتاب الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخاطب كل واحد منا، ولا أحد منا عنده أهلية وصلاحية ليخاطب الله، فالرد إلى الله أي: إلى كتاب الله، والرد إلى رسوله في حياته صلى الله عليه وسلم بأن نأتيه شخصياً ونعرض عليه قضيتنا ونحكمه فيها، ومن بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى نرد الأمر إلى سنته. فبإجماع المسلمين أن الرد إلى الله أي: إلى كتابه، والرد إلى رسوله أي: إلى سنته.

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا.

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا ... ) وسبب نزولها يأتي في المقابل بعد هذه الآية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] . في الآية الأولى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا) ، وهنا يُعجِّب رسوله من قوم فيقول: (أَلَمْ تَرَ) أي: تأمل هؤلاء! (الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) . الآية الأولى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يثبت الإيمان قطعاً، وهنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من كتب ومن وحي إلى غير ذلك، ما موقفهم؟ {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} وهذه النزغة من أين أتت؟ {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] .

سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك)

سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) من هم أولئك الذين يزعمون؟ وما علاقة هذا الزعم والتحاكم إلى الطاغوت حتى يأتي في مقابل المؤمنين الذين يتحاكمون إلى كتاب الله وسنة رسوله؟ أغلب المفسرين على أنها نزلت في القضية المشهورة، وهي: أن رجلاً يسمى بشراً من المنافقين، كانت بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: تعال بنا إلى محمد نحتكم إليه، قال المنافق: لا، بل إلى كعب بن الأشرف وهو من سادات اليهود. اليهودي يقول: نذهب إلى محمد الذي تعلن إيمانك به، فإذا به يقول: بل نذهب إلى كعب بن الأشرف سيد اليهود. فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت} [النساء:60] ، والطاغوت كما يقول علماء اللغة: على وزن (فاعول) ، من الطغيان وهو: تجاوز الحد. وكعب بن الأشرف من أشد الطواغيت في ذلك الوقت، وكان يظهر العداوة لرسول الله ولأصحابه ويهجوهم. فاليهودي غلب المنافق وجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم رسول الله على مقتضى قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] فحكم لليهودي، ولم يحكم لليهودي لشخصه بل أقام العدالة، بصرف النظر عن المحكوم له أو المحكوم عليه. ولما خرجوا قال المنافق: أنا لا أرضى بهذا، ولكن تعال نذهب إلى أبي بكر، فالرسول مشغول وما عنده وقت وما يفهم منا، وأبو بكر يعطينا سعة أكثر، فجاءوا إلى أبي بكر، وقصوا عليه القضية فحكم لليهودي، فقال المنافق: لا، لنذهب إلى عمر، فـ أبو بكر مثل محمد مشغول، فلما أتيا عمر لقياه عند الباب، فبدره المنافق ليقص قصته فقاطعه اليهودي وقال: يا عمر! لا تتعب نفسك، لقد جئنا قبلك إلى محمد فحكم لي ولم يقبل، وجئنا إلى أبي بكر فحكم لي ولم يقبل، فقال عمر للمنافق: أهكذا كما يقول اليهودي؟ قال: بلى، احكم أنت. فقال عمر: انتظرا، ودخل بيته وخرج بسيفه وضرب عنق المنافق وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم الله ورسوله. فجاء أهل المقتول يطلبون الدية، وجاء جبريل عليه السلام، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فرق عمر بين الحق والباطل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أنت الفاروق) ، ومن ذاك الوقت سمي عمر بـ الفاروق. هنا نأخذ حقيقة اتباع رسول الله، وهو أن يكون هوى الإنسان تبعاً لما جاء به رسول الله. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: أولئك المنافقين {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61] هذا يهودي يدعوك لرسولك وأنت تصد وتقول: بل نذهب لـ كعب بن الأشرف. {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:62] المصيبة هي ما وقع على الرجل من عمر. (جَاءُوكَ) أي: أولياؤه يطلبون الدية ويقولون: والله! ما نريد إلا الإحسان والإصلاح. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] كشف الله سبحانه وتعالى حقيقة ما تخفي قلوبهم، من الإعراض عن كتاب الله، والصد عنه؛ فهؤلاء يعلم الله ما في قلوبهم فاتركهم.

لماذا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين؟

لماذا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين؟ ولذا كانوا يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أمر المنافقين ولكن لم يقتلهم، وقد سئل عن ذلك، فقال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) أي: إن هؤلاء يدعون أنهم أصحابي أفأقتلهم؟ (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) بعضهم يقول: الموعظة تكون عامة كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام) ، (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ) أي: بينك وبينهم، لكن الصواب الوجه الثاني وهو أن الموعظة: التخويف والزجر. وقوله: (فِي أَنفُسِهِمْ) : حتى يرحموا أنفسهم بأنفسهم، قل: أنتم على ضلال أنتم ضائعون، نبههم على الخطر الذي يحدق بهم، وكأن: (عِظْهُمْ) تعني كلاماً عاماً، لكن (فِي أَنفُسِهِمْ) أي: في خواص أشخاصهم؛ لأنهم أولى من يكون أن ينقذ نفسه. (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) القول البليغ هو: الذي يبلغ الإنسان غايته، كما تقول: بلغت الغاية، والبلغة: الغاية المقصودة، والشيء الذي يبلغك إلى غايتك، والكلام البليغ بخلاف الكلام العيي؛ فالكلام البليغ: هو الذي ينقل المعنى من مكان إلى مكان آخر، فإن كان بليغاً فصيحاً واضحاً حمل المعنى ونقله، وإن كان مفككاً -مثل حالتنا- فإن المعنى يتعثر. إذاً: (قَوْلًا بَلِيغًا) يعني: ينفذ من عندك إليهم، وكما قالوا: ما خرج من القلب وصل إلى القلب، وليس بعد بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيراده الخبر بلاغة، فقد أُعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] ، (بإذن الله) هل يعني: بما أمر الله أم بتوفيقه، والويل لمن لم يوفقه الله؟ نحملها على المعنى الأول، وإن كان المعنى الثاني أيضاً متلازماً مع المعنى الأول.

قبول توبة المنافقين واستغفار رسول الله لهم إن تابوا

قبول توبة المنافقين واستغفار رسول الله لهم إن تابوا ثم يخفف الله عنهم ويبين علاج الموقف فيقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [النساء:64] أي: بالتحاكم إلى الطاغوت والصدود عنك وعما أنزل الله {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء:64] على ما كان منهم من صدود، وعلى ما كان منهم من خطأ وإعراض عنك. وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] ؛ هل كل مذنب لا يُقبل منه استغفار ولا رجوع، أو لا تقبل له توبة حتى يأتي إلى رسول الله يستغفر له؟ الآية تقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أي: بالمعصية، سواء كانت عامة أو خاصة في هذه القضية (جَاءُوكَ) يا محمد {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] ، هنا الشرط: لو أنهم جاءوا واستغفروا واستغفرت لهم لوجدوا المغفرة، هل المغفرة لا تقع لمذنب إلا إذا جاء واستغفر له رسول الله، أم أن التوبة بينك وبين الله وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؟ يقول تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] . ويقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] ، فلا واسطة، لكن لماذا كانت الواسطة هنا؟ ف A أننا ننظر في قضية المنافق هنا هل هو أعرض عن كتاب الله وحكمه فقط، أم أنه صد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً؟ الجواب: أنه صد عن رسول الله أيضاً، إذاً: الرسول له حق في هذه القضية، فكأن مجيء المنافق إلى رسول الله ليستغفر الله بين يديه، إعلان لرجوعه وتوبته، وإذا استغفر له رسول الله فمعنى ذلك أنه أسقط حقه على ذلك المنافق، فيكون أهلاً لأن يغفر الله له. فمجيء المسيء في ذلك الوقت إلى رسول الله كان لحق رسول الله؛ لأن إعراضه عن حكم رسول الله فيه تعدٍ عليه وانتقاص له صلى الله عليه وسلم. وهذا مثال بسيط: لو جئنا إلى دائرة من الدوائر وفيها المدير، واثنان من الموظفين تنازعوا فيما بينهم، والدائرة كبيرة وفيها أقسام وكل قسم فيه رئيس، هؤلاء العمال في هذا القسم لديهم رئيسهم، فلما حصل النزاع فيما بينهم تركوا رئيسهم وذهبوا إلى رئيس قسم آخر، ثم بعد مدة سمع رئيسهم بهذا؛ فما الذي سيكون في نفسه؟ سيقول: ذهبتم إلى غيري! معناه: أني لست كفؤاً لكم، وأنكم غير محسني الظن بي وهذا فكأن فيه هضماً لحق رسول الله فيما هو حق له في أن يحكم بين الناس بالعدل فتخطي هذا المنافق لرسول الله وإعراضه عن حكمه فيه هضم وتعدٍ على حقوق رسول الله؛ فكان من الواجب لرد هذا الاعتبار والحق أن يأتي إلى رسول الله لا أن يستغفر رسول الله، بل لكي يستغفر له رسول الله. وهل رسول الله سيستغفر له وهو ساخط عليه أم بعد أن يسامحه؟ إذاً: استغفار رسول الله لهذا الجائي إليه دليل على أنه سامحه، فإذا سامحه رسول الله فإنه سيجد الله تواباً رحيماً. وأمرهم بإتيان النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقروا بذنبهم؛ لأن الذنب هنا مشترك: جانب في حق الله، وجانب في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فمَن في المشرق ومَن في المغرب ومن تحت الثرى، ومن في أعماق المحيط ومن في مركبة فضائية في الهواء، وسأل الله ودعاه؛ يجد الله أقرب إليه من حبل الوريد.

وقفة مع قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم؟

وقفة مع قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم؟ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] . فقوله: {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:65] ، ما الذي أحوجه إلى هذا القسم؟ وبماذا أقسم؟ ما قال: فورب السماء والأرض إنهم ولا قال: ورب الشعرى ولا قال: ورب السماوات والأرض ولا قال: ورب النفوس ولا قال: ورب الملائكة ولا قال: ورب جبريل بل قال: {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:65] ، لماذا؟ لأن المنافق حينما أعرض عن حكم رسول الله نزَّل من حقه صلى الله عليه وسلم، فيرفع المولى مكانة رسوله بأن يقسم بربه، لكن هنا ربط القسم {فَلا وَرَبِّكَ} ، يعني: فلا تأخذ في خاطرك منهم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا قيمة لهم ولا إيمان ولا تصديق ولا اعتبار لهم أبداً في مجال الإيمان {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} ، وليس هذا المنافق فقط بل الكل. {فِيمَا شَجَرَ} شَجَر: الشجار أصله مأخوذ من الشجر، والشجر إذا كانت أغصانه متقاربة فإنها تتداخل فيقال: متشابك متشاجر ولذا يقولون في اللغة العبرية: (مُوشَى) ماء وشجر، يعني: الذي وجد والتقط ما بين الماء والشجر، وغير العربية يقدمون المضاف إليه على المضاف، (موشى) يعني: شجر الماء. فهنا: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ} يعني: تداخل والتبس عليهم. وهنا نقف وقفة ونقول: قد يحتكم الإنسان إلى من لا يرضى حكمه، فالمنافق لما جاء مع اليهودي إلى رسول الله هل احتكم معه عن رضا؟ لا. فحقيقة إيمان الأمة أن تأتي في الحكم إليه طائعة راضية إلى أقصى حد، ولا تجد في النفس حرجاً أبداً مما يصدر من قضائه صلى الله عليه وسلم {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} والحرج: الضيق. {ثُم لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: تسليماً مطلقاً عن رضا بهذا القضاء. وأعتقد أنه لا يوجد في العالم قاض يستحق هذا الحكم من الناس أبداً. يقولون: في بعض أسباب نزول الآية أيضاً شيءٌ آخر وهو: قضية سقي الزبير وجاره بالماء، ولا نريد أن نطيل المقام هنا. ننتقل إلى مثال آخر: لو كان هناك شخص مريض وجاء إلى طبيب كافر، فقال له الطبيب: أنت تحتاج إلى شق البطن وإلى خياط كذا، وإخراج كذا، وعملية جراحية كبيرة. إذا كان المريض ذا ثقة بهذا الطبيب الذي يملي عليه شروطه، تفعل كذا ولا تفعل كذا ويأتي يبنجه ويسلب إرادته بعد أن يوقع بالموافقة على العملية، فإذا وافق على العملية ومات فليس له دية ما دام الطبيب مشهوراً مجرباً، لا شخصاً متطبباً يتعلم الطب في أجسام الناس، فإنا نجد المريض في أمر بدنه -الذي نهايته الموت بهذا أو بذاك- يسلم كل التسليم، ويُسلب الإرادة والإحساس، ويقطع ويمزق ويخيط ويرقع فيه الطبيب الكافر كما شاء. وبعد أن ينتهي يقال له: يا دكتور! ما رأيك؟ إن شاء الله العملية تنجح! إذا كان هذا التسليم في أمر بدنك، فكيف برب العالمين يُعطي رسوله صلى الله عليه وسلم حق الحكم فيما شجر بينكم؟!. انظر الصورة العملية! انظر التشريع! من أول آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، ومن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، ومن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] . أي: فلماذا لا يحكمونك؟ ولماذا لا يرضون بحكمك وأنت تأخذهم بالرفق والحكمة، وأنت بالمؤمنين رءوف رحيم؟

قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم.

قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ... ) {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء:66] أي: لا أن يتحاكموا إليك، بل: {أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:66] وهذا من حقه أن يكتب علينا ما شاء، وقد كتبه على بني إسرائيل. فماذا سيكون موقفهم؟ {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} . إذاً: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] أي: في قولهم آمنا. جاء يهودي إلى عمر رضي الله تعالى عنه قال: لستم مثلنا، إن الله قد حكم علينا أن نقتل بعضنا بعضاً، وأنتم لم تؤمروا بذلك، فقال عمر: والله لو أمرنا ربنا أن يقتل بعضنا بعضاً لفعلنا، ولكن الحمد لله الذي لم يكلفنا ذلك. فهنا يبين المولى سبحانه بأنه لو أمرهم بهذا الحكم القاسي الشديد على النفس؛ ما كانوا يمتثلون إلا قليل منهم. إذاً: احمدوا ربكم الذي لم يكلفكم بهذا، وإنما كلفكم أن تتحاكموا فيما شجر بينكم إلى الحاكم العادل صلى الله عليه وسلم، ولو أنكم فعلتم هذا لكان خيراً لكم، وكان أكثر تثبيتاً على الإسلام والإيمان. {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:67] ، إذاً: {لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} مطلقاً من أدنى التكليف إلى أقصاه، لوجدوا خيراً وآتاهم الله من لدنه أجراً عظيماً.

قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول.

قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول ... ) {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:68] بسبب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ما هو الصراط المستقيم؟ هو هذا: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُول} [النساء:69] . لنأخذ من أول آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] . ثم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا} [النساء:64] . و {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] . و {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء:69] . انظر الآيات الأولى في المنافقين والوعيد الذي توجه إليهم، وهنا ذكر حق الذين يطيعون الله ورسوله! {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] . سبحان الله! مع هؤلاء الذين بلغوا القمة {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، فإذا دعيت إلى اتباع رسول الله فأطعت، فأنت مع أولئك المذكورين، {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] . ارجع إلى سورة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6-7] . في الآية السابقة: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] . ولذا جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سمعته صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير يقول: (في الرفيق الأعلى! في الرفيق الأعلى!) {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:69-70] . فإذا وجد إنسان نفسه في ميوله وفي اختياره وفي رغباته تبعاً لما جاء به رسول الله، فليعلم بأنه على فضل عظيم من الله.

ترك الخيار في أمر الله ورسوله

ترك الخيار في أمر الله ورسوله ولننتقل إلى سورة الأحزاب، فسنجد أن المولى سبحانه يعطل اختيار الفرد مع رسول الله، ولم يجعل للمؤمن حق الاختيار في أمره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية (36) من الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ، أي: ليس لهم حق في ذلك. وهذه القضية تأتي في صميم حياة المسلمين، وفي أقرب من يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في زينب ابنة عمته، فقد جاء صلى الله عليه وسلم وخطبها، فظنوا أنها لرسول الله ففرحوا، فتبين أنه يخطبها لـ زيد، وكان زيد مولى وكان الرسول قد تبناه، فأنزل الله القرآن وألغى التبني، فغضبوا وكرهوا خطبتها لـ زيد، كيف وهي في القمة من النسب من قريش؟! فهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيزوجونها لهذا؟ لكنه أمر الله، فلما كرهت وكره أخوها؛ نزلت الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ، فجاء أخوها حالاً فقال: يا رسول! ماذا تأمرني؟ وحالاً تم العقد. في الواقع يبدأ الإنسان يقول: في بادئ الأمر هم معذورون، ولكن لا يعلمون ماذا عند الله؟ فإن الله يريد أن يشرِّع، وسبحان الله يا جماعة! فإن معضلات المشاكل العربية القبلية تُهدم في بيت رسول الله! كان العرب في الجاهلية يرون أن زوجة الابن بالتبني لا يمكن أن يتزوجها الأب، فيأمر المولى سبحانه رسوله أن يزوج زينب من زيد، وكان زيد ابناً بالتبني، ثم بعد ذلك يحصل النزاع بينهما، فيقول لها: اصبري! ويقول له: اصبر! لكن بعد ذلك: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37] {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب:37] أي: أمن أجلهم كلهم يتحملها هو؟ قد كان بالإمكان أن يتزوجها قبل أن يمسها أحد. ولذا نرد على المستشرقين وعلى أولئك الذين يفتحون أبواقهم، وكذلك من يصيخ لهم السمع في تلك القضايا. ونقول: ابنة عمته كانت عنده قبل أن يتزوجها زيد، ولو كانت له رغبة فيها أو تطلع إليها لتزوجها قبل ذلك وهي أكمل ما تكون، فلما طلقها زيد (زَوَّجْنَاكَهَا) بالأمر لا بالاختيار. وبعد أن تزوجها زيد قد يمكن أن تكون نفسه لا تريدها أو أنه في غنى عنها، وعنده زوجات، لكن يُلزمه الله سبحانه وتعالى أن يتزوجها، ليقضي على تلك العادات، ويرفع ما كان عند المؤمنين من حرج في شخصية رسول الله. إذاً: لم يكن للمؤمن مع أمر الله ومع أمر رسوله أي اختيار، فهو مسلوب الإرادة، مسلوب الاختيار، بمعنى أن يلغِي اختياره وهواه، ويلغي ما يرغب فيه، وهكذا كان سلف الأمة.

الأنصار وطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم

الأنصار وطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم جاء في الموطأ عن جابر أنه جاء إلى أهل قباء وقال لهم: (لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير، ولكن طاعة رسول الله أولى لنا، نهى أن تؤجر أو تكرى الأراضي على الماذيانات ورءوس الجداول) . كان الرجل يعطي أرضه لمن يزرعها على أن لصاحب الأرض ما يكون على القناطر وعلى رءوس الحياض؛ لأنه يكون نامياً وقوياً، والتي في أوساط الحوض التي تكون ضعيفة تكون للزارع، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر أن يكون الأجر نسبة معينة: العشر الربع الثلث الخمس فلا مانع لأنه يعم الصالح والطالح. فقوله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير أي: تكسبون منه، لكن طاعة رسول الله خير لكم، ونفذوا طاعة رسول الله، وكانوا يحكِّمون رسول الله في أخص ما يكون لديهم. لما قدم صلى الله عليه وسلم مهاجراً ونزل بقباء، وكلنا يعلم أن المدينة كانت موطن الأوس والخزرج، وكانوا في قتال مرير قبل الإسلام بخمس سنوات، وكانت القبيلتان كفرسي رهان كما يقولون، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البيعة الثانية التي حصلت عند العقبة من الأوس والخزرج معاً، فأول ما نزل في قباء، والمشهور أنه وصل يوم الإثنين، فسأل عن أسعد بن زرارة، وكان سيد قومه، فقالوا: يا رسول الله! الأوس لا يذهبون إلى ديار الخزرج، والخزرج لا يأتون إلى ديار الأوس، لأن بينهم الحروب والقتال، فلما كان ليلة الأربعاء، أي بعد مجيئه صلى الله عليه وسلم بليلة وجاءت الثانية، جاء أسعد متلثماً بالليل بين المغرب والعشاء، يعني: جاء خفية عن هؤلاء الناس خائفاً على نفسه، فسأله صلى الله عليه وسلم: كيف جئت ديار القوم على ما بينك وبينهم؟، قال: يا رسول الله! ما كنت لأسمع بمجيئك في مكان إلا أتيتك. فالتفت إلى بني عمرو بن عوف وهم الذين كان نازلاً عندهم وقال: (أجيروا أسعد) ، ونحن نعلم بأن الشخص إذا قال: فلان في جواري؛ فلا يمكن لإنسان أن يمسه بشيء إلا إذا خفرت الذمام وقامت الحرب. فماذا قالوا؟ قالوا: أجره أنت يا رسول الله فإن جوارنا من جوارك. وهذا يعني أنه أصبح محكماً فيهم، قال: (يجره رجل منكم) . ونظام الجوار أن الضيف لا يجير، إنما يجير الأصيل في القبيلة، حتى الشخص الذي بالجوار أو بالانتماء لا يجير، والتابع لا يجير على المتبوع الأصيل فقام فلان وقال: هو في جواري، فبات عندهم تلك الليلة، ومن الغد ذهب إليه مجيره هذا إلى بيته متأبطاً يده ظهراً ونادى وقال: فلان في جواري، فقال بنو عمرو بن عوف كلهم: كلنا جوار لـ أسعد. يهمنا قولهم: (أجره أنت يا رسول الله) . كذلك في قضية سعد في غزوة الأحزاب عندما جاء المشركون ومعهم غطفان وهوازن فقال صلى الله عليه وسلم: نعرض عليهم الصلح، فشاور سعد هذا وسعد بن عبادة في أن يصالح الأحزاب على جزء من الثمرة، فقالوا: يا رسول الله! أشيء تحب أن نفعله لك فعلناه، قال: (قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة) . قالوا: لا والله يا رسول الله! كنا وإياهم على الشرك فما طعموها إلا قرى أو شراء، والآن أكرمنا الله بالإيمان والله ما يطعمون منها شيئاً، وليس بيننا وبينهم إلا السيف. الشاهد قولهم: (أشيء تحبه يا رسول الله نفعله لك؟) ومن هنا أيضاً كانوا رضي الله تعالى عنهم في المواقف وفي الشدة يفدُّونه بأنفسهم، فهذا أبو طلحة يترِّس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحد حتى يوجد في جسمه حوالي سبعين ما بين طعنة برمح ورمية بسهم، كان كلما مر عليه إنسان يقول: هات ما عندك من سهام، ثم ينظر صلى الله عليه وسلم فيقول له: يا رسول الله! فداك أبي وأمي لا تنظر حتى لا يصيبك سهم من سهامهم. ويصاب بسبعين طعنة ورمية، لماذا؟ يفديه بنفسه؛ فمن باب أولى أن يكون هواه وميوله تابعاً له صلى الله عليه وسلم.

التزام سنته صلى الله عليه وسلم من طاعته

التزام سنته صلى الله عليه وسلم من طاعته وجاء في حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله! لكأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور!) إلى آخر الحديث. نرجع إلى الحديث مرة أخرى من جهة الأحكام لا إيمان لعبد إلا بأمرين معاً: أن يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله، وأن يكون رسول الله أحب إليه من نفسه وولده ووالديه والناس أجمعين. وتبعاً لهذا فقد وردت أقوال للسلف في هذا الباب، منها: ما جاء عن مالك رحمه الله أنه قال: (لا يَصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صلُح به أولها) ، وهو الاتباع والمسير على سنة رسول الله. (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ) وهي الأنياب، كناية عن الحرص عليها لئلا تفرطوا. وأيضاً ورد عن مالك أنه قال: (من سن سنة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة) . وذلك لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فالمسألة منتهية، (من سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء) . وجاء عند ابن ماجة: (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من الناس لا ينقص من أجور الناس شيء) . فما يهمنا هو اتباع السنة، وهذا الباب واسع، ولعل ما سبق فيه الكفاية بالتنبيه لهذا الحديث، والله تعالى أعلم. نسأل الله أن يرزقنا اتباعه وحسن محبته، وأن يرزقنا شفاعته صلى الله عليه وسلم، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحديث الثاني والأربعون

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني والأربعون

شرح حديث: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك.

شرح حديث: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ... ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح] . هذا الحديث هو خاتمة الأربعين حديثاً التي جمعها الإمام الجليل النووي رحمه الله، وذلك عملاً بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً) . وهذا نوع من أنواع جمع الحديث، فقد يجمع العالم أربعين حديثاً عامة، وقد يجمع أربعين حديثاً خاصة؛ كأربعين حديثاً في فضل المدينة، أو أربعين حديثاً في فضل الاستغفار، أو أربعين حديثاً فيما يتعلق بالحج، فقد يفرد بعض العلماء أربعين حديثاً في موضوع واحد. والإمام النووي رحمه الله جمع لنا هذه الأربعين المتنوعة، التي اشتملت على التوجيهات النبوية الكريمة بما فيها من أخلاق ومواعظ وتوجيه، وهذا هو الحديث الختامي. لقد أشار علماء الحديث الذين تعرضوا لهذا المجموع في الحديث الحادي والأربعين في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، إلى أن هذا الحديث ينبه كل مسلم بأنه يجب عليه أن يروض نفسه على أن تكون ميوله ورغباته واتجاهاته كلها تابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أشرنا إلى ذلك، وذكرنا ما يتعلق بالحديث من الأحكام من محاربة البدع ولزوم اتباع الكتاب والسنة، وأن ميزان إيمان المؤمن هو في رضاه بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك نفي الإيمان عمن لم يرض بحكم رسول الله وقضائه، ومن لم يسلم له تسليماً. وفي الختام كأن النووي رحمه الله يختم هذه المجموعة بهذا الحديث، ليعظم في نفس كل مسلم رجاء رحمة الله. وليعلم بسعة فضل الله. وهذا الحديث من أرجى أحاديث السنة النبوية، فهو يربط العبد بربه، ويجعله فسيح الأمل والرجاء في واسع فضل الله سبحانه وتعالى. نأتي إلى شرح ألفاظ الحديث وجمله، ثم يأتي التعليق عليه بما تيسر، والله أسأل أن يعيننا وأن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه. هذا حديث أنس، وأنس هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه: إن الله سبحانه وتعالى يقول: (يا ابن آدم!) ، وأول ما يلفت الانتباه هنا تعميم هذا النداء، فلم يقل: أيها المسلمون! ولا أيها المؤمنون! إنما نص على بني آدم، فقال: (يا ابن آدم!) ، من أبينا الأكبر آدم عليه السلام إلى نهاية ذريته، وفيهم المسلم والكافر، والبر والفاجر، والعاصي والتقي، كل بني آدم داخل في هذا النداء الذي يدعوهم به المولى سبحانه. و (آدم) : هل هو من أديم الأرض أو من الأُدمة وهي السمرة؟ قالوا: لقد أُعطي آدم جمالاً عظيماً، وأُعطي يوسف ثلاثة أعشار جمال آدم عليه السلام، ولم يكن آدم أسمر أو فيه أُدمة، ولكن اشتق اسمه من أدمة الأرض، أي: من وجه الأرض، والأرض طبقات متنوعة، فجمع الله طينة آدم من مختلف أنواع طينة الأرض، وخلقه ونفخ فيه من روحه، ومن هنا جاءت ذرية آدم على اختلاف طبائع الأرض منهم الصعب القاسي، ومنهم الهين اللين، ومنهم الأبيض، والأحمر، والأسود، كما في قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27] . وقوله: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني) ، يقولون: (ما) هنا مصدرية ظرفية، أي: مدة دعائك إياي ورجائك فيما عندي. (إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي) ، وهنا يطرح Q هل هذا الشرط وجزاؤه يفيد أنه مهما دعوتني غفرت لك على ما كان منك أم أن المقصود الدعاء مع مراعاة آدابه التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم؟ الثاني

من آداب الدعاء

من آداب الدعاء ننظر إلى ما قيل في آداب الدعاء على سبيل الإجمال: أولاً وقبل كل شيء: الإخلاص، فحينما تتوجه إلى الله بالدعاء يجب أن تكون مخلصاً في دعائك. وكذلك لا تدع بقطيعة رحم ولا بإثم، أي: لا تدع أن يسهل الله لك طريق معصية، ولا تدع بأن تقطع رحماً قريباً لك، ولا تدع على قريب لك بالسوء. فإذا دعوت الله بما ينفعك في دينك ودنياك كان الدعاء في محله متوجهاً توجهاً صحيحاً، وعليك بعد ذلك أن تنظر: أي المسألة تقدم؟ وفي أي الأوقات تدعو؟ وأي الأمكنة تتخير؟ وكل ذلك يذكره العلماء في آداب الدعاء.

أوقات إجابة الدعاء

أوقات إجابة الدعاء الأوقات التي يُتحرى فيها الدعاء رجاء أن يستجاب فيها كثيرة، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم بعض أوقات الإجابة. ومن ذلك ساعة في يوم الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم في بيان فضيلة يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة، وما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا ابن آدم، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله فيها حاجته إلا أعطاه إياها) ، ومتى تلك الساعة؟ فيها خلاف بين العلماء. قيل: بعد الأذان، أي: وقت الصلاة، وقيل: حينما يصعد الإمام على المنبر، وهناك من يقول: بعد أن يفرغ من الخطبة وقبل الصلاة، وهناك من يقول: إنها بعد العصر، وهذا اختيار مالك رحمه الله. واستشكلوا: كيف يصلي ويسأل وبعد العصر لا توجد صلاة؟ قالوا: جاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه) فمن جلس في المسجد ينتظر الصلاة فلا يزال في صلاة حتى يصلي، فهو إذا صلى العصر وجلس ودعا الله فقد يصادف تلك الساعة. ومهما يكن من شيء، ففي يوم الجمعة ساعة إجابة أخفيت ليجتهد الإنسان في جميع ساعات يوم الجمعة. وأيضاًَ: ليلة القدر الدعوة مجابة فيها، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنها في الوتر من العشر الأواخر، وقد ثبت أن النبي أراد أن يعينها ولكن تلاحى رجلان في ذلك المجلس فأخفيت ليجتهد الناس في ليالي العشر الأواخر كلها. وأيضاً: يوم عرفة، وفي الحديث: (يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي! شعثاً غبراً ضاحين جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة) . أيضاً: في السجود في الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) . فهذه أوقات حري بمن دعا الله فيها أن يستجاب له.

أماكن إجابة الدعاء

أماكن إجابة الدعاء أما بالنسبة للأماكن التي يستجاب فيها الدعاء فمنها الأماكن المقدسة: ما بين الركن والمقام، وفي حجر إسماعيل، وفي المناسك كلها تشرع الأدعية، وجاء الحث عليها فهي حرية بالقبول. كل هذه من مباحث زمان ومكان إجابة الدعاء.

استكانة العبد وتضرعه عند الدعاء من أهم أسباب الإجابة

استكانة العبد وتضرعه عند الدعاء من أهم أسباب الإجابة وقوله في هذا الحديث: (ما دعوتني ورجوتني) ، فيه أن أهم ما يكون في وقت الدعاء حالة الداعي، فحينما يدعو الإنسان في غير حاجة يكون دعاؤه عادياً، وحينما تلم به ملمة ويتوجه إلى الله بالدعاء يكون تعلقه بالله، وقلبه مع الله، ورجاؤه في عظيم فضل الله؛ أكبر وأعظم مما إذا دعا في أمر عادي. ولذا فإن أحرى أوقات الإجابة حينما يتوجه العبد إلى الله بصادق النية، وبعظيم الرجاء، وهو يشعر بضعفه وحاجته إلى سعة فضل الله عليه. ففي تلك اللحظة لا تسل: بم تسأل ربك أو بم تدعوه؟ ما جرى على لسانك من أسمائه الحسنى ودعوته به يكون توفيقاً من الله إليك بما يستجيب لك به. ومن المشاهد أن كل إنسان حين يمر بمواقف أو بأزمات، ويتوجه إلى الله؛ فإنه في تلك الحالة يحس من نفسه بأنها ليست كالأوقات العادية. ونتصور هذا في موقف يتكرر كثيراً وهو السعي بين الصفا والمروة، فسببه سعي هاجر عليها السلام، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسعوا فإن أمكم قد سعت قبلكم) . وهاجر عليها السلام هي التي جاء بها إبراهيم عليه السلام ومعها طفلها إسماعيل، وتركهما في مكان قال تعالى فيه: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، فلما أراد أن يرجع إلى الشام تبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. لقد أعلنت إيمانها ويقينها وتوكلها على الله بأنه لن يضيعها. ذهب إبراهيم، وبقيت هناك وعندها سقاء فيه ماء، وعندما انتهى الماء الذي في السقاء، وبدأ يبكي الطفل عطشاً؛ قررت أنه لابد أن تأخذ بالأسباب مع إعلان توكلها على الله، (لا يضيعنا) ، فلم تجلس وتنتظر السماء أن تنزل عليها الماء، بل أخذت بالأسباب. وهنا درس عملي يفيد بأن قوة التوكل على الله لا تمنع الأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب لا يمنع التوكل على الله. فسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ظاهر بين درعين، أي: لبس درعين، والفارس لا يمكنه أن يلبس درعين أبداً؛ وذلك بسبب الوزن الذي يتوجب عليه حمله، فلا يمكنه من التحرك بيسر في المعركة. فبالرغم من توكله على الله، وبالرغم من قول الله سبحانه وتعالى له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ، مع كل ذلك يأخذ بالأسباب، ويأتي ويصف المسلمين، ويتدرع بالجبل من ورائه، ويضع الرماة على جبل الرماة حتى لا يأتيهم العدو من ورائهم خطط حربية مرسومة كاملة. فكذلك هاجر، ما هي الأسباب التي أخذت بها؟ هي في بطن الوادي لا تستطيع أن ترى شيئاً، وإذا أراد الإنسان أن يستكشف مكاناً إلى أبعد مسافة ممكنة فإنه يبحث عن محل مرتفع ويشرف منه، فكان أقرب مرتَفَع لها في ذلك المكان هو جبل الصفا، فصعدت إلى الصفا ونظرت حولها فلم تجد شيئاً، ثم بحثت عن مرتفع آخر فلم تجد أقرب من المروة، فنزلت من الصفا إلى المروة، فلما انصبت قدماها في بطن الوادي اختفى عنها طفلها فأسرعت حتى جاءت إلى جانب الوادي الآخر، وحين رأت طفلها مشت مشياً عادياً، ثم صعدت على المروة وتلفتت حولها فلم تجد شيئاً، ثم لشدة تلهفها رجعت إلى الصفا، وهكذا. وبتأمل هذا الموقف نجد أنها ما طلبت دون يقين بالله، ولا قطعت رجاءها في الله؛ لأنها متوكلة على الله، وكان الواجب عليها أن تأخذ بالأسباب، فأخذت بأسباب تقدر عليها، والتمست الفرج من الأرض على يد مخلوق من خلق الله فلم تجد، وتُركت تسعى إلى أن أكملت سبعة أشواط، وكلنا يدرك أنها في المرة الأولى لعلها كانت على أمل خمسين في المائة أو سبعين في المائة، ترجو أن تجد من يغيثها، فلما جاءت إلى المروة ولم تجد نزل هذا الأمل إلى ثلاثين في المائة، فلما جاءت إلى الصفا نزل هذا الأمل إلى خمسة وعشرين في المائة، ولما أعادت الكرة إلى المروة نزل إلى عشرة في المائة، وما أكملت سبعة أشواط إلا وقد انقطع رجاؤها من الخلق، وانقطعت آمالها في المخلوق وفي الأرض، وتوجهت بكل صدق إلى الله، فكانت الإغاثة حقاً، فجاء جبريل عليه السلام لا بسقاء ولا بقراب ولكن يشق الأرض فينبع الماء بزمزم. لماذا لم يأتها جبريل من أول مرة؟ هي لم يكن عندها أحد، لكن كان يوجد في القلب نوع ميل ورجاء وأمل في مخلوق، فتُركت لما وجد في قلبها من ذلك النوع من الأمل في المخلوق، فسعت سبعاً، وكل مرة يقل رجاؤها في المخلوق، وكلما قلّ رجاؤها في المخلوق عظُم في الخالق، فالأمران متقابلان؛ كلما ضعف رجاؤها في المخلوق ابتعدت عنه واقتربت من جانب الله حتى انقطع الأمل تماماً في المخلوقين، وتوجهت بكليتها إلى الله، فكان الفرج الكبير، وهكذا يجب أن يكون المسلم. (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني) ، إذا كنت مع الدعاء قوي الرجاء وعظيم الرجاء في الله، فهناك يحصل المطلوب، أما أن تدعو بقلب لاه فقد جاء في الحديث: (لا يستجيب الله دعاءً من قلب غافل لاه) . أي: تدعو ربك وأنت مشغول بغيره أو تدعو ربك وأنت تفكر بغيره. وفيما وقفت عليه في ترجمة عطاء -أو بعض العلماء- في مكة، أن عبد الملك بن مروان -وهو خليفة- دخل الكعبة فوجده فيها، فقال: ألك حاجة يا فلان؟! قال: (إني لأستحي أن أسأل مخلوقاً وأنا في بيت الله) . فمثلاً: إنسان ضيف عندك، وجاء ضيف ثانٍ، وله حاجة، فحينما يتوجه إليك بطلب حاجته يكون أقرب إليك وأحسن من أن يتوجه إلى هذا الضيف. فلما خرجا إلى الخارج قال: الآن نحن خارج الكعبة، فسلني حاجتك. قال: والله ما سألت الدنيا ممن يملكها، فلا أسألها ممن لا يملكها. حينما كان داخل الكعبة كان قلبه مع الله، واستشعر أنه من قلة الحياء أن يكون في جوف الكعبة ويسأل مخلوقاً: أعطني كذا، كيف ورب البيت أقرب؟! وهكذا الإنسان حينما يكون رجاؤه عظيماً بالله، وقلبه متعلقاً بالله، وفي وقت الشدة يكون أقرب إلى الله، تكون الطاقة في التوجه قوية جداً.

قصص أخلص أصحابها الدعاء فاستجاب الله لهم

قصص أخلص أصحابها الدعاء فاستجاب الله لهم قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، فأتت الصخرة وسدت عليهم الغار. فجعلوا يحاولون تحريكها فلم يقدروا عليها، فرجعوا إلى الله، وقالوا: تعلمون أنه لا يعلم أحد بكم، ولا ينجيكم من هذا إلا الله، فكل واحد منا ينظر ماذا له عند الله من خبيئة سر؟ وأيّ عمل أرجى له عند الله؟ فليسأل الله به. فقام الأول يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى ببر والديه، وقام الثاني يتوسل إلى الله بحفظ حق الأجير وأداء الأمانة، وقام الثالث يتوسل إلى الله بالكبرى والعظمى وهي العفة عن الحرام، وكلما قام واحد منهم وتوسل إلى الله بما له عند الله تتزحزح الصخرة قليلاً، حتى إذا استكمل الثلاثة دعاءهم تنحت الصخرة، وخرجوا يمشون. ولو تساءلنا: الأول منهم حينما توسل إلى الله وبقدرة الله تزحزحت الصخرة، فالله الذي زحزحها سنتيمتراً واحداً يستطيع أن يزحزحها كيف شاء، فكان من الممكن أن تنزاح الصخرة عند أول توسل، ولكن من فضل الله علينا أنه أنظرهم حتى يخرج الثلاثة ما عندهم، ونعرف كيف يكون أثر الأعمال الخالصة لوجه الله. إذاً: العمل الصالح، والإخلاص، والرجاء فيما عند الله؛ إن توجه إلى الجبل أزاحه، وإن توجه إلى الماء جمد، وتتسخر كل القوى الطبيعية للعبد الذي يتوجه إلى الله بإخلاص. هذا العلاء بن الحضرمي حينما أتى إلى البحر والعدو ينحاز بالسفن، فماذا قال؟ أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر. ماء يمشي ويجري، فيجمد لهم ليعبروا، ويقاتلون وينتصرون! بأي شيء؟ بقوة الرجاء في الله، وبالإخلاص لله. وهذا سفينة مولى رسول الله، حينما رأى الأسد معترضاً للناس، أتى إليه وقال له: ابتعد، أنا سفينة صاحب رسول الله. وذات مرة ضاع في الصحراء، ولم يدر أين يذهب، فإذا بالأسد يأتيه ويحوم حوله ويمشي معه حتى يدله على الطريق! ماذا نقول؟! إن الحيوانات والوحوش تذل عند عظيم الرجاء في الله، وإن الماء يجمد والصخرة تنزاح عند التوجه إلى الله بصادق النية.

هل تستجاب دعوة الكافر؟

هل تستجاب دعوة الكافر؟ قد يستجاب الدعاء مع شدة الرجاء فيما عند الله ولو كان من كافر، فلا تستعظموا ذلك! فإن الله لا يتعاظم عليه شيء. إذا قام الكافر وهو في شدة وكربة وتوجه إلى الله، وصار يستصرخ ويصيح ويسأل ربه أن يفرجها عنه، فالله سبحانه لا يرد سائلاً، ولا نقول: هذا كافر، أليس ربه هو الذي خلقه، وهو الذي رزقه، وأعطاه ما أعطاه؟ وفي الحديث: (إياكم ودعوة المظلوم وإن كان كافراً فإنه ليس لها حجاب دون الله تعالى) . حينما يتوجه الكافر إلى الله بالمسألة فيما يخصه ليفرج الكرب عنه، فهو في تلك اللحظة مؤمن بمن يدعوه ويلجأ إليه ويرجوه. ولذا قال حصين حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد إلهاً؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء. قال: فأيهم تعد لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء) . لأنه لم يخش ولم يرج إلا الذي في السماء سبحانه وتعالى، والبقية تلك كما يقولون: على الهامش، لا قيمة لها عند الشدة وعند الحاجة. وأيضاً: الكافر حينما يتوجه إلى الله، ويقول: يا رب! الآن أنا مسلم، فهل يرده عن هذا، ويقول له: لا، أنت كنت كافراً؟ لا، فإن (الإسلام يجب ما كان قبله) . ويذكرون في كتب التفسير أن فرعون حينما جاءه الغرق صار ينادي: يا موسى! يا موسى! عدة مرات، وموسى لم يلتفت إليه، فالله سبحانه وتعالى عاتب موسى فيه، وقال: يا موسى! يناديك عبد من عبادي لتغيثه فلم تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته! وفضل الله أكبر من هذا. ولذا يا إخوان! يجب على كل مسلم أن يُعلِّم الخلق سعة فضل الله، وأن يُعظِم رجاءهم في الله، ثم بعد ذلك يأخذهم إلى كتاب الله وسنة رسوله. ومما جاء في الآثار عن موسى أنه سأل ربه عن أحب شيء إليه؟ قال: أن تحببني عند خلقي. فلا تُيئس الناس من رحمة الله، وسع لهم المجال، ثم خذهم بالكتاب والسنة، وعلمهم ما يجب من حق الله عليهم، وحق العباد على بعضهم البعض. (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني) ، يقول العلماء: الرجاء وقت الدعاء من شرط الإجابة، أما إذا كان يدعو من دون رجاء فكأنه غير مهتم وغير مبال، وفي الحديث: (أنا عند ظن عبدي بي) ، فإذا دعا وهو يحسن الظن بالله تعالى يجيب دعاءه أجاب الله دعاءه. وكثير من العلماء يقولون: من دواعي استجابة الدعاء أن يكون المطعم حلالاً، لا أن يكون حراماً. كيف تتغذى بالحرام معاندة ومخالفة لله، ثم تتقدم وتسأل الله بجسم غذي بالحرام؟! أما إذا دعوت بجسم غذي بالحلال، وتوجهت إلى الله، كان ذلك حري بالاستجابة، وهذا من المراتب العليا للمؤمنين كما روي عنه صلى الله عليه وسلم حينما سأله الرجل وقال: (يا رسول الله! ادع الله لي أن أكون مجاب الدعوة، فقال: أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة) ، إذا كان طعامك من حلال فإن دعوتك مجابة. وهكذا في جميع العبادات كما جاء في الحج: (إذا خرج الرجل حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور) ؛ لأن كل مقوماته بالحلال. إذاً: هذا الجزء من هذا الحديث من أعظم ما يُرجِي العبد.

هل يقدم الإنسان الرجاء أم الخوف؟

هل يقدم الإنسان الرجاء أم الخوف؟ جاء في سيرة الحجاج -الذي سفك الدماء، وسعى في الأرض فساداً- أنه عند النزع في آخر أمره توجه إلى الله وقال: (يا رب! كل الناس يسيئون الظن بي، وأنا أحسن الظن بك) يا الله! مع سيرته الظالمة وأخلاقه السيئة وما سفك من دماء بريئة يقول هذا! والعلماء يأتون بمبحث لطيف ويقولون: هل الواجب على الإنسان والأولى له أن يغلِّب جانب الرجاء، أو يقدم جانب الخوف لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] أو يجمع بينهما لقوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] ؟ قالوا: المسلم كالطائر يطير بجناحين: جناح الرغبة وجناح الرهبة، فجناح الرغبة يدفعه إلى فعل الخير، وجناح الرهبة يمنعه من فعل الشر، فهو بين رغبة ورهبة، ولكن يقولون: إذا كان في نهاية عمره، أو عند عجزه فيقدم جانب الرجاء كما جاء في الحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) ، أما إذا كان في شبابه وفي قوته وفي نوازع الهوى وفي مخاوف الفتنة فيقدم جانب الخوف. إذاً: في حالة القدرة على العمل ومخافة الفتنة والوقوع في الشبهات وغيرها يكون جانب الخوف أسلم له، وإذا كان في الطرف الثاني فليقدم جانب الرجاء. وهكذا يقولون في سلوك العبد مع الله سبحانه وتعالى وإعظام الرجاء في فضل الله، ويصور هذا بعض الشعراء بقوله: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو المجرم ما لي إليك وسيلة إلا الرجاء وجميل عفوك ثم إني مسلم وهذا تصوير الواقع -يا إخوان- فإن عظمت ذنوب الإنسان فليعلم بأن عفو الله أوسع. الرسول صلوات الله وسلامه عليه في عودته من الطائف سلطوا عليه السفهاء وجاءه ما جاءه منهم، فوقف يدعو ربه: (اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أو إلى قريب ملكته أمري! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي) ، فعفوا الله أوسع، فالإنسان قد يبتلى وقد يصبر وقد يتحمل، ولكن عفو الله أوسع، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] . (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء) ، وسيأتي بيان نوعية هذه الذنوب، ويهمنا قوله: (عنان السماء) ويقولون: العنان هو السحاب، ويقولون: إن هذا على سبيل التقريب، ولو بلغت إلى السماء الدنيا، مهما كثرت ذنوبك ثم استغفرت ربك يغفرها لك. وقوله: (على ما كان منك) ، يقول بعض العلماء: ولو تكررت ذنوبك ثم استغفرت وبعد استغفارك عدت للذنب ثم استغفرت غفر لك، ولكن لا على سبيل التلاعب والتهكم والاستهتار، بل تصدُق عند استغفارك، يقول بعض السلف: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار) ، يعني: استغفارنا ليس أكيداً، ولم يكن نابعاً عن قلب صحيح نادم راجع. ولذا يقولون: الاستغفار هو عين التوبة، والتوبة إقلاع عن الذنب، وندم على ما مضى، وعزم على عدم العودة، فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة كانت توبة نصوحاً. وإن قُدِّر بعد ذلك أن وقع في الذنب بدون إصرار سابق فإنه يستغفر، وقد جاء في الحديث: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) . إذاً: مهما كان الذنب فلا يتعاظم إنسان ذنباً على الله، وشاهد ذلك قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أتى إلى شخص عابد وسأله: هل لي من توبة؟ قال له: بعد قتل تسعة وتسعين نفساً! ليست لك توبة، فقتله فأكمل به المائة. ثم بقيت نفسه تنازعه فأتى عالماً عارفاً فسأله، فأجابه العالم وقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟، تب إلى الله يقبل توبتك، ثم نصحه قائلاً: اخرج من هذه البلدة التي قتلت فيها مائة نفس، واذهب إلى القرية الفلانية ففيها رجال صالحون فاعبد الله معهم، فلما خرج أدركته المنية في الطريق، واختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ثم أرسل الله لهم ملكاً في صورة رجل وقال: قيسوا ما بين الأرضين، ثم أمر الله هذه بأن تمتد، وتلك بأن تنزوي، فصار أقرب إلى أهل الخير بذراع، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي الحديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة) . إذاً: عمل بعمل أهل النار وأصبح يستحق النار، ولكن بلطف الله سبق عليه الكتاب، وتحوّل وعمل بعمل أهل الجنة، وكانت الخاتمة خيراً، والأعمال بالخواتيم. وهكذا أيها الإخوة! يبين المولى سبحانه في هذا الحديث أنه لا يتعاظم الإنسان ذنباً على الله أبداً، ومهما كان عظم هذا الذنب فرحمة الله أوسع، ولكن يجب عليه في ذات الوقت التأدب مع الله، فلا تكون توبته ولا يكون استغفاره من باب التلاعب أو من باب التساهل. ويذكر ابن رجب أثراً يعزوه إلى الترمذي (وفيه: (لا يتخذ الرجل امرأة حليلة وكلما قضى حاجته منها يستغفر الله، ثم يرجع إليها، فيقول الله له: لا، اتركها أغفر لك) . أما كونك كل ساعة تعود للذنب، ثم ترجع وتقول: أستغفر الله، وأنت مصر على هذا؛ فلا. وفي الأثر: (إن الله لا يغفر لثلاثة: -وذكر منهم- رجل يزني بامرأة وكلما قضى حاجته منها استغفر ثم رجع، ورجل يأكل مال غيره، وكلما أكل شيئاً قال: أستغفر الله، فيقول الله له: لا، اترك ماله أغفر لك) . إذاً: الإصرار على الذنب ذنب.

فضل الاستغفار

فضل الاستغفار الاستغفار يجبّ ما قبله، والاستغفار هو سيد العبادات، وقد بيّن سبحانه وتعالى أن هذا النوع من عبادة الله ينفع في الدنيا والآخرة، فقال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10-12] . وبعض العلماء يقول: هناك صيغ وألفاظ واردة قد يكون بعضها أولى من بعض، ولكن حينما تستغفر فأنت تتوجه إلى الله وتطلب منه المغفرة، فاستغفر على وزن (استفعل) كما تقول: استقدم: أي طلب القدوم، واستقرض: أي طلب القرض، واستغفر: طلب المغفرة، تقول: اللهم! اغفر لي، دعاء بالمغفرة، وتقول: أستغفر الله: أي: أطلب من الله المغفرة. وسيد الإستغفار: (اللهم! أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ، فهذا سيد الاستغفار، فمن داوم عليه أصاب خيراً. ويحث العلماء كل إنسان على أن يكثر من الاستغفار ولو بدون ذنب؛ لأنه رفع لدرجاته، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) . فهذا سيد الخلق الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كانوا يعدون عليه في المجلس الواحد يستغفر الله مائة مرة! وغيره كيف يكون حاله؟ فينبغي للعبد أن يكثر من الاستغفار سواءً كان من ذنب معين أو مطلقاً، والله تعالى أعلم.

الشرك بالله تعالى من الذنوب التي لا تغفر

الشرك بالله تعالى من الذنوب التي لا تغفر وقوله سبحانه في هذا الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) ، (قُراب الأرض) : يقول بعض العلماء في اللغة: هذا الشيء قريب من هذا، أو هذا قريب من هذا في الطول، أو هذا المكان قريب من هذا في السعة، يعني ليس عين السعة وليس عين الطول ولكن مقارب، فقالوا: (قُراب) بمعنى مُقارِب، يعني: لو أتيتني بما يقارب ملء الأرض، وقالوا: قراب الأرض، أي: قِرابها أو ملؤها، وهو كناية عن امتلائها بالكلية. (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) ، يقول (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً) ، إذاً: هناك فرق بين المغفرة والاستغفار وبين الدعاء وعظيم الرجاء. قلنا: في قوله: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني) ، شملت كل عبد لله من بني آدم، ولكن هنا يقول سبحانه: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً) ، إذاً: قراب الأرض من الخطايا التي ليس فيها الذنب الأكبر وهو الشرك، كما بين ذلك سبحانه في قضية لقمان مع ابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] . فمهما كان على الإنسان من خطايا، ولقي الله موحداً لا يشرك بالله شيئاً لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في صفاته، كان هذا القراب الكثير من الخطايا موضع المغفرة. وفي القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] ، أي ما دون الشرك من الخطايا. إذاً: ((دُونَ ذَلِكَ)) فيه نص على أن الخطايا تتفاوت، فهناك الشرك وهو الظلم الأعظم، وهناك قتل النفس، وهناك الزنا، وهناك السُّكْر، وهناك السرقة، وهناك السَّب، وهناك نظرة العين، فهي تتفاوت، ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ)) ، فالحديث مطابق للآية الكريمة. قال: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا) ، والخطايا: جمع خطيئة، وهي: ما يفعله الإنسان من الذنوب عامداً، وهي بخلاف الخطأ الذي يقع من المرء بدون قصد منه، وتقدم في الحديث: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، فالخطأ ليس عمداً وليس معصية، ولكنه ينتج عندما يفعل المرء شيئاً جائزاً فيخطئ فيه إلى ما ليس بجائز، أي: بدون إصرار ولا قصد للخطأ والمعصية.

الإيمان بصفات الله تعالى دون تكييف

الإيمان بصفات الله تعالى دون تكييف هذا الحديث يسوق عنده العلماء الحديث الآخر: (وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) ، والأحاديث التي تدخل في باب الصفات ليس لإنسان أن يحكِّم العقل فيها، ولا أن يورد عليها تكييفاً من عنده؛ لأن الكيف لا ينبغي من الإنسان في حق المولى سبحانه، وقد نهانا عن ذلك وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ومذهب السلف الصالح كما قال مالك عندما سئل عن الاستواء، فأطرق وأخذه العرق واشتد به الأمر، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب) . وكذلك قال ربيعة الرأي شيخ مالك، وكذلك قالت أم سلمة، فكلهم حينما سُئلوا عن الاستواء كان جوابهم واحداً. ويقول الشافعي رحمه الله في هذا الباب: (نؤمن بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، ونؤمن برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله) . ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (نحن كلفنا بإيمان تصديق لا بإيمان تكييف) . ولهذا سلف الأمة يثبتون صفات المولى سبحانه على مراده، ويقولون: إثبات بلا تكييف ونفي بلا تعطيل، إثبات الصفات بلا تكييف لها: فلا يقال: كيف كذا وكيف كذا، ونفي لما لا يليق بجلال الله دون تعطيل المولى عن صفاته الحقة. وهكذا قوله في هذا الحديث: (إن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً) ، نحن ندرك الشبر والذراع، ولكن المولى من يدركه من خلقه؟ (وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) ، فهذه الصفات لا ندرك حقائقها كما نتصور إلا في المخلوق، وأما في ذات المولى فلا. وكما جاء في الحديث (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) ، وأين السماء من عظمة الله؟ (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة) . فكيف نتصور بالعقل المحدود أن المولى ينزل إلى السماء الدنيا، وهل هو كنزولنا؟ لا والله! وهل السماء تسعه؟ لا نستطيع أن نكيف فالعقل محدود، ويعجز أن يكيف صفة من صفات الله. فيجب أن نثبت صفات الله كما جاء عن الله وعن رسول الله، ولا أعلم بوصف الله من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وختاماً أيها الإخوة! نحمد المولى سبحانه أن امتن علينا بهذه النعمة، ونشكره سبحانه أن وفقنا وإياكم إلى نهاية هذا المجموع المبارك، ونسأل المولى أن ينفعنا وإياكم وكل مسلم بما علَّمنا، وأن يوفقنا للعمل بما علّمنا، وأن يرزقنا حسن الإخلاص وحسن التوجه إليه، وأن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يرزقنا وإياكم شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين أفضل ما جازى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم العمرة عن الوالدين إذا لم يوصيا بها

حكم العمرة عن الوالدين إذا لم يوصيا بها Q هل يجوز للإنسان أن يعتمر عن والديه ولو لم يوصياه بذلك؟ A الأئمة الثلاثة يجيزون أن يعتمر الإنسان عن أبويه ولو بدون وصية، ومالك رحمه الله يقول: إن أوصيا عملت بالوصية، وإن لم يوصيا فلا عليك. ولكن جاء في السنة ما يؤيد رأي الجمهور، فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن امرأة أتته وقالت: (إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟) ، فما سألها: هل أوصت أم لم توص؟ بل (قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فالله أحق بالوفاء) . فلو مات إنسان وعليه دين لإنسان، ولم يوص بسداد الدين، فجاء متبرع وسدد الدين عنه فقطعاً تبرأ ذمته، وقد كان في بادئ الأمر يأتون بالجنائز ليصلي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسأل: هل عليه دين أم لا؟ فإن قالوا: نعم، قال: (صلوا على صاحبكم) . لأن المدين يحبس في قبره بدينه، وإن قالوا: ليس عليه دين، صلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه. فجيئ برجل فقيل: إنه مدين بدينارين، فقال: (صلوا على صاحبكم) ، والميت ما أوصى بسدادها، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: (يا رسول الله! دينه عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حق الغريم وبرئ منها الميت؟ قال: نعم، فتقدم صلى الله عليه وسلم وصلى عليه) . فهل هذا الرجل كان أوصى أن يسدد عنه؟ لم يوصِ. إذاً: إذا تبرع الولد لأبويه بعمرة فلا مانع من ذلك، ولا يحتاج أن يتوقف على الوصية، والله تعالى أعلم.

متى تبدأ أحكام السفر؟

متى تبدأ أحكام السفر؟ Q متى تبدأ أحكام السفر؟ A هناك قضية يخطئ فيها الكثير من الناس، وهي أنه حينما يريد السفر ويعزم عليه، ويأتي وقت الفريضة كالظهر مثلاً، فيجمع الظهر والعصر في مسجد بلده الذي يصلي فيه عادة، ويقول: أنا عازم على السفر، فيجمع العصر مع الظهر وهو لا زال في بلده أو عند بيته أو في مسجد حيه، فهذا لا يجوز ولا يصح، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما عزم على الحج في حجة الوداع، اغتسل ولبس إزاره ورداءه، وتهيأ للسفر، وحضرت صلاة الظهر، فصلى الظهر أربعاً، ولم يجمع معها العصر، بل أخرها حتى جاء إلى ذي الحليفة، ولما دخل وقتها صلاها ركعتين. إذاً: الترخص بأحكام السفر لا يحل حتى يتحقق السفر فعلياً بأن يخرج من أطراف القرية. وقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان خارجاً من الكوفة فصلى الظهر أربعاً، قالوا: لماذا لا تقصر ونحن قد خرجنا للسفر؟ قال: لولا هذا الخصيص - خص تابع للقرية- لصلينا ركعتين، فـ علي رضي الله تعالى عنه يرى أنه مادام يوجد طرف من أطراف البيوت ولو خُصيصاً فإنه لا زال في حيز البلد، ولا زال في حدودها، ولم يخرج عنها، فلا يحق له أن يقصر الصلاة. إذاً: لا يحق الجمع لإنسان مر بسيارته بالمسجد النبوي وهو من أهل المدينة، فلا يحق له أن يجمع العصر مع الظهر؛ لأنه لم يخرج بعد، ويمكن أن يأتيه أمر يرجعه عن السفر. فلا ينبغي لإنسان أن يبدأ القصر وكذلك الفطر في رمضان قبل أن يخرج من بلده.

من شروط التوبة رد الحقوق إلى أهلها

من شروط التوبة رد الحقوق إلى أهلها Q هل من شروط التوبة رد الحقوق إلى أهلها؟ A روي في حديث: (ثلاثة لا يغفر الله لهم: رجل زنى بامرأة، كلما قضى حاجته منها استغفر ثم رجع، ورجل يأكل مال الغير ويقول: أستغفر الله، فيقول الله: لا، حتى ترد ماله، ... ) إلخ. إذاً: يشترط لصحة التوبة أن ترد الحقوق إلى أهلها. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

§1/1